
بسم الله الرحمن
الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب
العالمين والصلوة والسّلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على
اعدائهم اعداء الدين إما بعذ فهذا هو إلجزء السادس من شرحنا على المطول المسمى
بالمدرس الافضل فيما يرمز ويشار اليه في المطول.
(الفن الثاني علم البيان)
انما (قدمه على
البديع لشدة الاحتياج اليه لكونه) اي علم البيان (جزء من علم البلاغة) لان علم
البلاغة كما صرح في الديباجة عبارة عن كلا العلمين اذ يجب في تحصيل البلاغة رعاية
مراتب الدلالة في الوضوح والخفاء ويجب ايضا قبل ذلك رعاية المطابقة لمقتضى الحال (و)
لكونه اي علم البيان (محتاجا اليه في تحصيل بلاغة الكلام).
لما تقدم في
المقدمة من ان ما يحترز به عن التعقبد المعنوي علم البيان فظهر ان علم البلاغة
منحصر في علمي المعاني والبيان وان كانت البلاغة كما تقدم هناك ترجع الى غيرهما من
العلوم ايضا (بخلاف البديع فانه) كما صرح هناك (من التوابع) لانه كما ياتي علم
يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة اي الخلو عن التعقيد
المعنوي فلا تعلق له بالبلاغة وانما يفيد حسنا عرضيا للكلام البليغ.
(وهو علم يعرف
به ايراد المعنى الواحد بطرق) اي بتراكيب (مختلفة في وضوح الدلالة عليه) اي على
ذلك المعنى الواحد وذلك لما تقدم في المقدمة في بحث لتعقيد من ان لكل معنى لوازم
بعضها بلا واسطة فقريب وبعضها مع الواسطة فبعيد فيمكن ايراده بعبارات مختلفة سواء
كان تلك العبارات من قبيل الكناية او المجاز او التشبيه وسيأتي مثال كل واحد منها
بعيد هذا والحاصل انه علم يعرف به كيفية احتراز المتكلم عن الخطأ في تأدية الكلام
بحيث لا يورد من الكلام ما يدل على مقصوده دلالة خفية عند اقتضاء المقام دلالة
واضحة او واضحة عند اقتضائه دلالة خفية او اوضح عند اقتضائه دلالة متوسطه في الوضوح
والخفاء او متوسطة عند اقتضائه اوضح او اخفى.
فمثال ايراد
المعنى الواحد بطرق مختلفة من الكناية ان يقال في وصف زيد مثلا بالجود زيد مهزول
الفصيل وزيد جبان الكلب وزيد كثير الرماد فكل واحد من هذه التراكيب يفيد وصفه
بالجود بطريق الكناية لان هزال الفصيل انما يكون باعطاء لبنه للاضياف وجبن الكلب
لالفه الانسان الأجنبي بكثرة الواردين من الاضياف فلا يعادي احدا ولا يتجاسر عليه
وهو معنى جبنه وكنرة الرماد من كثرة الاحراق للطبائخ وكثرة الطبخ من كثرة الاضياف
وهي مختلفة وضوحا وكثرة الرماد اوضحها فيخاطب به عند المناسبة كأن يكون المخاطب لا
يفهم بغير ذلك.
ومثال ايراده
بطرق مختلفة من باب الاستعارة ان يقال في وصفه مثلا به رأيت بحرا في الدار في
الاستعارة التحقيقية وطم زيد بالانعام جميع الانام في الاستعارة بالكناية لأن
الطموم وهو الغمر بالماء وصف البحر فدل
على ان المتكلم اضمر تشبيهه بالبحر في النفس وهو الاستعارة بالكناية على ما
يأتي بيانه ولجة زيد تتلاطم امواجها لان اللجة والتلاطم للامواج من لوازم البحر
وذلك مما يدل على اضمار التشبيه في النفس ايضا واوضح هذه الطرق الاول واخفاها
الوسط.
ومثال ايراده
من باب التشبيه ان يقال زيد كالبحر في السخاء وزيد كالبحر وزيد بحر واظهرها ما صرح
فيه بالوجه واخفاها وهو اوكدها ما حذف فيه الوجه والاداة معا فيخاطب بكل من هذه
الاوجه في هذه الابواب بما يناسب المقام من الوضوح والخفاء ويعرف ذلك بهذا الفن
على على ما يأتي بيان كل واحد في محله انشاء الله تعالى.
(اراد بالعلم
الملكة التي يقتدر بها على ادراكات جزئية) ويقال لها كما تقدم في اول الفن الاول
الصناعة ايضا بيان ذلك ان واضع هذا الفن مثلا وضع عدة اصول مستنبطة من تراكيب
البلغاء يحصل من ادراكها وممارستها قوة بها يتمكن من استحضارها والالتفات اليها
وتفصيلها متى اريد وهي اي تلك القوة العلم (او نفس الاصول والقواعد المعلومة) لانه
كما تقدم هناك كثيرا ما يطلق عليها (على ما حققناه في تعريف علم المعاني) وقد
نقلنا ما حققه هناك ههنا كما انا قد بينا هتاك امورا تفيدك معرفتها ههنا فراجع
البة.
(فليس التقدير
علم بالقواعد اي ادراكها والاعتقاد بها على ما توهموا) لانه يحتاج الى تقدير
المتعلق اي بالقواعد بلا ضرورة داعية الى التقدير (واراد بالمعنى الواحد على ما
ذكره القوم ما يدل عليه الكلام الذي روعي فيه المطابقة لمقتضى الحال) كجود زيد في
الامثلة المتقدمة وانما نسب ذلك الى القوم لانه غير مرضي عنده وسيصرح بذلك قبيل
قول الخطيب ثم اللفظ
المراد به لازم ما وضع ذلك له (واللام فيه اي في المعنى الواحد للاستغراق
العرفي) لا الحقيقي لان القوى البشرية لا تقدر على استحضار جميع المعاني لانها لا
تتناهى ولا يصح جعلها للعهد اذ لا عهد ولا للجنس للزوم كون من له ملكه الاقتدار
على معرفة ايراد معنى واحد في تراكيب مختلفة في وضوح الدلالة عالما بالبيان هذا
ولكن الظاهر مما تقدم في تعريف علم المعاني جواز كون اللام فيه للاستغراق الحقيقي
وذلك حيث قال هناك ان معنى قول الخطيب يعرف به احوال اللفظ العربي ان اي فرد يوجد
منها امكننا ان نعرفه بذلك العلم لا انها تحصل جملة بالفعل لان وجود ما لا نهاية
له محال الى آخر ما ذكر هناك فلا استحالة في الاحاطة بما لا يتناهى اجمالا كما في
سائر العلوم وقد حققنا ذلك هناك فراجع ان شئت.
(واراد بالطرق
التراكيب وبالدلالة العقلية لما سيأتي) بيانه عند قول الخطيب والايراد المذكور لا
يتأتى بالوضعية (والمعنى) اي معنى قول الخطيب هو علم الخ (ان علم البيان ملكه او
اصول) وقواعد مستنبطة من تراكيب البلغاء (يقتدر بها) اي بتلك الملكة او بممارسة
تلك الاصول والقواعد كما تقدم في تعريف علم المعاني (على ايراد كل معنى واحد يدخل
في قصد المتكلم وارادته بتراكيب يكون بعضها اوضح دلالة عليه) اي على ذلك المعنى
الواحد (من بعض) تلك التراكيب.
(فلو عرف من
ليس له هذه الملكة ايراد معنى قولنا زيد جواد في طرق مختلفة) في الوضوح كما مثلنا
آنفا (لم يكن عالما بعلم البيان) بل لابد له اي للعالم بعلم البيان من معرفة ايراد
كل معنى دخل تحت قصده وارادته لان ذلك قضية قولنا ان اللام في المعنى الواحد
للاستغراق العرفي.
(وتقييد المعنى
بالواحد للدلالة على انه لو اورد معاني متعددة)
ككرم زيد وشجاعة عمرو وبخل بكر (بطرق بعضها اوضح دلالة على معناه من البعض
الآخر على معناه لم يكن ذلك من البيان في شيء) ضرورة ان اختلاف الطرق في ايراد
المعاني المتعددة امر قهري لا يحتاج المتكلم فيه الى علم البيان اذ قلما يوجد
معاني متعددة يوردها المتكلم ولم يختلف طرقها في الوضوح.
(وتقييد
الاختلاف بان يكون في وضوح الدلالة للاشعار بانه لو اورد المعنى الواحد في طرق
مختلفة في اللفظ والعبارة دون الوضوح والخفاء مثل ان يورده بالفاظ مترادفة) كايراد
كرم زيد بقولنا زيد سخي وزيد كريم وزيد جواد وكايراد الحيوان المفترس بقولنا اسد
وهزبر وغضنفر (مثلا لا يكون ذلك من علم البيان) ايضا.
(و) ليعلم انه (لا
حاجة الى ان يقال في وضوح الدلالة وخفائها) حاصله انه لا حاجة الى عطف خفائها على
وضوح الدلالة (لان كل واضح هو خفى بالنسبة الى ما هو اوضح منه) فتحصل من هذا
التحقيق ان الخفاء ليس بمراد اصلا لان المراد طرق واضحة بعضها اوضح من بعض وذلك
لان ما ليس بواضح اصلا ليس طريقا بليغا فلا يكون طريقا بيانيا ولا فصيحا والى ذلك
اشار بقوله (ومعنى اختلافها في الوضوح ان بعضها واضح الدلالة وبعضها اوضح فلا حاجة
الى ذكر الخفاء) لانه مستفاد من قوله مختلفة في وضوح الدلالة حسبما حققناه وقال
بعضهم بعكس ذلك اي قال كلما كان الكلام خفيا في الدلالة كان ابلغ ثم قال لو قيل في
خفاء الدلالة كان اقرب الى الاشارة الى اعتبارات الا بلغ واعترض على هذا بالمنع
وبان ذكر الوضوح يستلزم ذكر الخفاء لان كل واضح خفي بالنسبة الى غيره وبالعكس وهذا
القول قوي فتدبر.
(وبالتفسير
المذكور للمعنى الواحد) اي بقوله آنفا واراد بالمعنى الواحد على ما ذكره القوم ما
يدل عليه الكلام الخ (يخرج ملكة الاقتدار على التعبير عن معنى الاسد بعبارات)
والفاظ (مختلفة كالاسد والغضنفر والليث والحارث) والهزبر فان ذلك ليس من المعنى
الواحد بالتفسير المذكور لان ذلك ليس ما يدل عليه الكلام بل هو مما يدل عليه جزء
الكلام هذا ولكن قد تقدم منا انه غير مرضي عنده ولهذا قال (على ان الاختلاف في
الوضوح مما يأباه القوم في الدلالات الوضعية كما سيأتي) بيان ذلك في قوله والايراد
المذكور لا يتأتى بالوضعية.
(ثم لا يخفى)
عليك (ان تعريف علم البيان بما ذكر ههنا اولى من تعريفه بمعرفة ايراد المعنى
الواحد) بطرق مختلفة في الوضوح (كما) عرفه السكاكي (في المفتاح) وذلك لان علم
البيان ليس نفس معرفة ايراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بل به بعرف الايراد المذكور
ووجه صحة تعريف المفتاح ان يحمل على ذكر المسبب وارادة السبب اعني الملكة او
الاصول والقواعد واما التعريف ههنا فلا يحتاج الى الحمل على هذا التجوز فلذا حكم
عليه بالاولوية.
(دلالة اللفظ
يعني لما اشتمل التعريف على ذكر الدلالة ولم يكن كل دلالة تحتمل الوضوح والخفاء
وجب تقسيم الدلالة والتنبيه على ما هو المقصود منها) اي من الدلالة والدلالة هي
كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر) وليس المراد بالعلم ههنا ما قابل
الظن وهو الجزم بل مطلق الادراك والحصول في الذهن كما انه ليس المراد من الشيء
خصوص الموجود كما هو اصطلاح المتكلمين بل مطلق الامر الاعم (و) الشيء (الاول الدال
و) الشيء (الثاني المدلول والدال إن كان لفظا فالدلالة
لفظية والا فغير لفظية كدلالة الخطوط) المراد بالخطوط الكتابة او الاشكال
الهندسية كالمثلث والمربع ونحوهما فتأمل (والعقود) قد بيناها في المكررات في باب
شرح الكلام فراجع ان شئت (و) اما (النصب) فهي جمع نصبة كغرف جمع غرفة وهي العلامة
المنصوبة على الشيء كالعلامة المنصوبة في الطريق للدلالة على مقدار المسافة ونحوها
(و) اما (الاشارات) فهي ما يفعله الانسان بالاصابع والحواجب ونحوها (ودلالة الاثر
على المؤثر كالدخان) اي كدلالة الدخان (على النار) (فاضاف الدلالة) جواب لما (الى
اللفظ) اي قال دلالة اللفظ (احتراز عن الدلالة إلغير اللفظية وكان عليه) اي على
الخطيب (ان يقيدها بما يكون للوضع مدخل) اي دخول (فيها) سواء كان العلم بالوضع
كافيا فيها لكونه سببا تاما في الدلالة كما في المطابقية او لا بد معه من انتقال
عقلي كما في التضمنية والالتزامية (احترازا عن الدلالة الطبعية والعقلية لان دلالة
إللفظ إما ان يكون للوضع مدخل فيها او لا فالاولى) اي الدلالة التي يكون للوضع
مدخل فيها (هي التي سماها القوم وضعية وهي التي تنقسم الى المطابقة والتضمن
والالتزام والثانية) اي الدلالة التي لا يكون للوضع مدخل فيها (اما ان تكون بحسب
مقتضى الطبع) الحيواني او الانساني (وهي الطبيعية كدلالة اح اح على الوجع) اي على
وجع الصدر او غيره من الاعضاء هذا ان كان بضم الهمزة واما اذا كان بفتحها فيدل على
التحسر كذا قيل وكيفكان (فان طبع اللافظ يقتضي التلفظ بذلك عند عروض الوجع) او
التحسر (له) كما نجده من انفسنا.
(أو لا يكون)
بحسب مقتضى الطبع (وهي الدلالة العقلية الصرفة) بحيث لا يمكن تغيرها (كدلالة اللفظ
المسموع من وراء الجدار على وجود
اللافظ) وانما خصصها بالمسموع من وراء الجدار ليظهر دلالة اللفظ فان وجود
اللافظ المشاهد يعلم بالحس فتحصل من مجموع ما ذكرنا ان الدلالة على قسمين الاول
الدلالة الغير اللفظية وهي ثلاثة اقسام لانها اما عقلية صرفة بحيث لا يمكن تغيرها
كدلالة الاثر على المؤثر وكدلالة التغير على الحدوث وكدلالة الدخان على النار واما
طبعية بان يكون الربط بين الذال والمدلول بمقتضى الطبع كدلالة الحمرة على الخجل
والصفرة على الوجل وكدلالة الاشارة المخصوصة بالرأس على معنى نعم او على معنى لا
وكدلالة الخطوط والعقد والنصب.
والثاني
الدلالة اللفظية وهي ثلاثة اقسام ايضا لانها اما عقلية صرفة بان لا يمكن تغيرها
كدلالة اللفظ المسموع من وراء الجدار مهملا كان او مستعملا على وجود لافظة او
حياته واما طبيعية بان يكون الربط بين اللفظ الدال ومدلوله يقتضيه الطبع كدلالة اح
اح على الوجع او إلتحسر وفي ضبط هذه اللفظة اقوال وكذا في مدلولها لا يهمنا نقلها
واما وضعية بان يكون الربط بين اللفظ الدال ومدلوله بالوضع كدلالة لفظ الاسد على
الحيوان المفترس (والمقصود بالنظر) والبحث (ههنا هي) الدلالة اللفظية الوضعية اي (التي
يكون للوضع مدخل فيها) دون الطبيعية والعقلية (لعدم انضباط الطبعية والعقلية
لاختلاف الطبايع) فرب ذي طبع يصدر منه اح اح من دون وجع ولا تحسر (و) كذلك (الافهام)
فرب ذي فهم لا يدرك من اللفظ وجود اللافظ او حياته لذهوله او ابتلائه بالاوهام.
فان قلت اذا
كان المقصود بالنظر والبحث ههنا ما يكون للوضع مدخل فيها فلم لم يقيد المصنف قوله
دلالة اللفظ بذلك اي بالوضع قلت (وانما ترك المصنف التقييد بالوضع لوضوحه ركون سوق
كلامه) فيما يأتي (في
بيان التقسيم مشعرا بذلك) التقييد (ثم) اعلم انهم (عرفوا الدلالة اللفظية
الوضعية بانها فهم المعنى من اللفظ عند اطلاقه) اي عند استعمال اللفظ او عند اطلاق
اللفظ عن القرائن وتجرده عنها (بالنسبة الى من هو عالم بالوضع) هذا الجار اي الباء
في قوله بالنسبة متعلق بفهم المعنى والى ذلك اشار بقوله (واحترزوا بالقيد الاخير)
وهو قولهم بالنسبة الى من هو عالم بالوضع (عن) الدلالة (الطبعية والعقلية لعدم
توقفهما على العلم بالوضع) فانهما يحصلان للعالم بالوضع ولغيره.
فان قلت ان
توقفهما بالوضع وان كان منتفيا الا انهما لا ينافيانه اذ كل منهما كما ذكرت متحققة
سواء وجد العلم بالوضع او لم يوجد وحينئذ فكيف يصح الا الاحتراز عنهما بهذا القيد.
قلت المتبادر
من هذا القيد اي من قوله بالنسبة الى من هو عالم بالوضع الحصر ومن المسلم عندهم ان
القيود التي تذكر في التعاريف يجب ان تحمل على المتبادر منها مهما امكن فلهذا صح
الاحتراز عن الدلالة اللفظية الطبعية والعقلية بهذا القيد فتدبر جيدا.
(وارادوا
بالوضع وضع ذلك اللفظ في الجملة) اي كان للوضع مدخل في فهم المعنى سواء كان العلم
بالوضع كافيا في فهم المعنى لكونه سببا تاما كما في الدلالة المطابقية او لا بد مع
العلم بالوضع من عقل وشعور تام كما في التضمنية والالتزامية (لا وضعة لذلك المعنى)
ومن هنا وقع الاختلاف بين اهل الميزان والبيانيين فجعل البيانيون الدلالة الوضعية
مختصة بالمطابقة فقط وجعلوا التضمنية والالتزامية. يأتي عن قريب عقلية وجعل اهل
الميزان الدلالات الثلاث كلها وضعيات والى بعض ما بينا اشار بقوله (لئلا يخرج منه)
اى من تعريفهم (التضمّن والالتزام) فلا يرد ان الدلالة
اللفظية الوضعية مختصه بالمطابقة في اصطلاح البيانيين فيلزم ان يكون
التقسيم الآتي تقسيما للشيء الى نفسه والى غيره لكون المقسم اخص في اصطلاح
البيانيين فتأمل.
(واعترض) على
تعريف الدلالة (بأن الدلالة صفة اللفظ والفهم ان كان بمعنى المصدر من المبنى
للفاعل اعني الفاهمية فهو صفة) الانسان (السامع) فلا يكون صفة للفظ (وان كان)
بمعنى المصدر (من المبني للمفعول اعني المفهومية فهو صفة المعنى) فايضا لا يكون
صفة للفظ (وايا ما كان فلا يصح حمله على الدلالة) لانه من قبيل تفسير للشيء
بمباينه.
حاصل الاعتراض
ان الفهم على التقديرين لا يكون صفة لدلالة اللفظ فلا يشتق لها منه وصف يحمل عليها
والتعريف اي تعريف دلالة اللفظ به يقتضي كونه بحيث يشتق منه لها ما يحمل عليها
بناء على ما هو المسلم عندهم من قاعدة من قام به المبدء اي المصدر يحمل عليه
بالاشتقاق.
(فالاولى ان
يقال) في التعريف (الدلالة كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى عند الاطلاق) اي عند
تجرد اللفظ عن القرائن (للعلم بوصفه) للمعنى المفهوم منه وجه الاولوية كون الحيثية
بهذا المعنى وصفا للفظ فيصح التعريف بهذا من دون ان يرد عليه شيء.
(وجوابه) اي
جواب الاعتراض (انا لا نسلم انه) اي إلفهم (ليس صفة للفظ فان معنى فهم) الانسان (السامع
المعنى من اللفظ) على التقدير الاول اي على تقدير ان يكون الفهم بمعنى المصدر من
المبني للفاعل (او انفهام المعنى من اللفظ) على التقدير الثاني اي على تقدير ان
يكون الفهم بمعنى المصدر من المبني للمفعول (هو) اي كل واحد من المعنيين (معنى كون
اللفظ بحيث يفهم منه المعنى) فبهذه الحيثية يصير الفهم كما ذكرت وصفا للفظ (غاية
ما في باب ان الدلالة مفرد يصح ان يشتق منها صفة تحمل على اللفظ كالدال) فيقال
اللفظ دال (و) اما (فهم المعنى من اللفظ او انفهامه منه) فهو (مركب) من الجار اعني
لفظة من ومجروره والمتعلق اي الفهم على التقدير الاول والانفهام على التقدير
الثاني (لا يمكن اشتقاقها) اي صفة تحمل على اللفظ (منه) اي من الجار ومجروره
والمتعلق (الا برابظة) اي الا بحرف جر وضمير يعود الى اللفظ (مثل ان يقال اللفظ
منفهم منه المعنى) وبعبارة اخرى ان عدم امكان اشتقاق صفة من الفهم تحمل على اللفظ
انما هو حيث لم يعتبر تعلقه بالمجرور فان اعتبر من حيث تعلقه بالمجرور صار وصفا
للفظ فالفهم من اللفظ وصف له (الا ترى الى صحة قولنا اللفظ متصف بانفهام المعنى
منه كما انه متصف بالدلالة) فيصح التعريف لانه قد عرفت الدلالة التي هي وصف اللفظ
بما هو وصف له بهذا الاعتبار وذلك واضح لا غبار عليه.
(وهذا مثل
قولهم) في تعريف العلم العلم حصول صورة الشيء في العقل) فانه اورد عليه بان الحصول
يكون صفة للصوره والعلم صفة للعالم فلا يصح تعريف العلم بالحصول وذلك لما تقدم
آنفا من قاعدة ان من قام به المبدء يحمل عليه بالاشتقلق والمبدء اي الحصول قائم
كما قلنا بالصورة لا بالعلم فكيف يحمل عليه.
واجيب ان
الحصول بمفرده وان كان صفة للصورة لكن بعد اعتباره مركبا مع الجار والمجرور
المتعلق به اي اعتبر مجموع حصول الصورة في العقل فيكون صفة للعالم فيصح التعريف
بهذا الاعتبار.
(إذا عرفت ذلك)
اي اذا عرفت ان الدلالة لفظية وغير لفظية واللفظية اما
ان يكون للوضع مدخل فيها ام لا (فنقول دلالة اللفظ التي يكون للوضع مدخل
فيها) على ثلاثة اقسام لانها (اما على تمام ما وضع له كدلالة) لفظ (الانسان على
الحيوان الناطق او على جزئه كدلالة) لفظ الانسان على الحيوان) فقط او على الناطق
فقط (او على خارج عنه كدلالة) لفظ (الانسان على الضاحك) وكدلالة لفظ الشمس على
الضوء.
(ويسمي الاولى
يعني الدلالة على تمام ما وضع له وضعية لان الواضع انما وضع اللفظ للدلالة على
تمام الموضوع له) لا لجزئه ولا للازمه (فهي الدلالة المنسوبة الى الواضع ويسمى كل
من الاخيرين اي الدلالة على الجزء والخارج عقلية لان دلالته) اي دلالة اللفظ (عليهما)
اي الجزء والخارج (انما هي من جهة ان العقل يحكم بان حصول الكل في الذهن يستلزم
حصول الجزء فيه) اي في الذهن وذلك لتوقف فهم الكل على الجزء (و) كذلك (حصول
الملزوم) في الذهن (يستلزم حصول اللازم) فيه وذلك لامتناع انفكاك فهم الملزوم عن
اللازم هذا كله اصطلاح البيانيين (و) اما (المنطقيون) فهم (يسمون) كل واحد من (الثلاثة
وضعية بمعنى ان للوضع مدعلا فيها) سواء كان العلم بالوضع كافيا فيها لكونه سببا
تاما كما في الاولى اعني المطابقية او كأن متوقفا معه من انتقال عقلي كما في
الاخريين اعني التضمنية والالتزامية وبعبارة اخرى سواء كان دخوله اي الوضع سببا
قريبا كما في المطابقية لانه سبب تام اذ لا سبب لها سوى العلم بالوضع او كان بعيدا
كما في الاخيرتين لانه اي الوضع جزء سبب فيهما وذلك لان كل واحدة منهما متوقفة على
امرين فالتضمنية متوقفة على وضع اللفظ للكل وعلى انتقال العقل من الكل الى الجزء
والالتزامية متوقفة على وضع اللفظ للملزوم وعلى انتقل العقل
من الملزوم للازم فقد اعتبروا في تسميتهما وضعيتين السبب البعيد وهو مدخلية
الوضع ومن هنا جعلوا هؤلاء الدلالات الثلاث كلها وضعيات (ويخصون) اي المنطقيون (العقلية
بما يقابل الوضعية والطبعة) كدلالة اللفظ من وراء الجدار على وجود اللافظ وكدلأله
الدخان على وجود النار (كما ذكرنا) فتكون الدلالة عندهم ثلاثة اقسام عقلية كدلالة
الدخان على النار ووضعية كالدلالات الثلاث وطبيعة كدلالة الحمرة على الخجل والصفرة
على الوجل بخلاف البيانيين فان العقلية عندهم لا تقابل الوضعية فان الوضعية قد
تكون عقلية.
(ويخص) الدلالة
(الاولى بالمطابقة لتطابق اللفظ والمعنى) اي توافقهما فلم يزد اللفظ بالدلالة على
غير المعنى ولا زاد المعنى بالمدلولية لغير اللفظ وقيل لتطابق الفهم والوضع بمعنى
ان ما فهم هو ما وضع له اللفظ فتدبر.
(و) يخص
الدلالة (الثانية بالتضمن) وانما سميت بذلك (لكون الجزء في ضمن المعنى الموضوع له
اللفظ) (و) يخص الدلالة (الثالثة بالالتزام) وانما سميت بذلك (لكون الخارج لازما
للموضوع له) اللفظ فتحصل من ذلك كله ان دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة
وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج اللازم له التزام.
(فان قيل) ان
كل واحد من هذه التعاريف الثلاثة يبطل طرده بالاخر لدخول بعض افراد كل واحد منها
في الاخر بيان ذلك انه (إذا كان إللفظ مشتركا) لفظيا (بين الجزء والكل) كلفظ الشمس
الموضوع لمجموع القرص والضوء وللقرص الذي هو احد الجزئين وللضوء الذي هو أحد
الجزئين ايضا (واريد به) اي بذلك اللفظ المشترك (الكل) يعني مجموع
القرص والضوء مثلا بالمطابقة (واعتبر دلالته) اي دلالة ذلك اللفظ المشترك (على
الجزء) يعني القرص وحده او الضوء وحده (بالتضمن) فحينئذ (يصدق عليها) اي على
الدلالة على الجزء (انها دلالة اللفظ على) تمام (ما وضع له) وان كان ذلك الصدق
بالنظر لوضع آخر وهو الوضع لكل واحد من الجزئين على حدته (مع انها ليست بمطابقة بل
تضمن) واذا صدق عليها انها دلالة اللفظ على تمام ما وضع له صار تعريف المطابقة
منتقضا طردا اي منعا لدحول فرد من افراد التضمن فيه.
(واذا اريد به)
اي باللفظ المشترك (الجزء) يعني القرص وحده او الضوء وحده بالمطابقة (لانه) بالوضع
الآخر اعني الوضع لكل واحد من الجزئين (موضوع له) فحينئذ (يصدق عليها) اي على
الدلالة على احد الجزئين (انها دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له) وان كان
ذلك الصدق بالنظر لوضع آخر وهو الوضع لمجموع القرص والضوء معا (مع انها ليست
بمطابقة بل تضمن) واذا صدق عليها انها دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له صار
تعريف التضمن منتقضا طردا اي منعا لدخول فرد من افراد المطابقة فيه.
(وكذا اللفظ
المشترك بين الملزوم واللازم) وذلك كلفظ الشمس ايضا ولكن بناء على انه موضوع للقرص
فقط والضوء لازم له وموضوع للضوء فقط بوضع آخر فحينئذ (اريد به) اي باللفظ المشترك
بين الملزوم واللازم (الملزوم) اي القرص (واعتبر دلالته) اي دلالة ذلك اللفظ
المشترك (على اللازم) اي الضوء مثلا (بالالتزام يصدق عليها) اي على الدلالة
بالالتزام (انها دلالة على تمام ما وضع له) وان كان ذلك الصدق بالنظر لوضع آخر وهو
الوضع للقرص فقط (مع انها
التزام لا مطابقة) واذا صدق انها دلالة على تمام ما وضع له صار تعريف
الالتزام منتقضا طردا اي منعا لدخول فرد من افراد المطابقة فيه.
(واذا اريد به)
اي بذلك اللفظ المشترك (اللازم) أي الضوء مثلا بالمطابقة وذلك (من حيث انه) اي
الضوء (موضوعه) بوضع آخر وهو الوضع للضوء فقط (يصدق عليها) اي على الدلالة على
اللازم (انها دلالة على الخارج اللازم مع انها مطابقة لا التزام) واذا صدق عليها
انها التزام صار تعريف المطابقة ايضا منتقضا طردا اي منعا لدخول فرد من افراد
الالتزام فيه (وحينئذ ينتقض تعريف الدلالات بعضها ببعض) حسبما اوضحناه لك وليعلم
ان صور الانتقاض ست وقد بين ههنا اربع منها وقد بقي اثنتان منها وهما انتقاض كل
واحد من التضمن والالتزام بالاخر وانما لم يتعرض التفتازاني لهما لانه كما قال بعض
المحققين لم يطلع على مثالهما مع انه يمكن تصويره فيما اذا كان اللفظ موضوعا لكل
واحد من الملزوم واللازم والمجموع معا فتدبر واستخرج المثال وان كان ذلك من غير
لغة العرب.
(فالجواب انه
لم يقصد تعريف الدلالات حتى يبالغ في رعاية القيود) اي الفصول التي يمنع عن دخول
اغيار وهذا الحوات نظير ما اجاب به الجامي في بحث العدل عما يرد على تعريفه بان
العدل خروج الاسم عن صيغته الاصلية فانه اجاب بما هذا نصه وقال بعض الشارحين قد
جوز بعضهم تعريف الشيء بما هو اعم منه اذا كان المقصود منه تمييزه عن بعض ما عداه
فيمكن ان يقال المقصود ههنا تمييز العدل عن سائر العلل لا عن كل ما عداه فحيث حصل
بتعريفه هذا التمييز لا بأس بكونه اعم منه فحينئذ لا حاجة في تصحيح هذا التعريف
الى ارتكاب تلك التكلفات انتهى.
والى بعض ذلك
اشار بقوله (وانما قصد التقسيم) اي تقسيم الدلالات (على وجه يشعر بالتعريف فلا بأس
ان يترك بعض القيود اعتمادا على وضوحه) اي وضوح بعض القيود وهو قيد الحيثية (وشهرته
فيما بين القوم وهو) اي القيد الواضح المشهور (ان المطابقة دلالة اللفظ على تمام
الموضوع له من حيث انه تمام الموضوع له والتضمن دلالته على جزء الموضوع له من حيث
انه جزء) ما وضع له (والالتزام دلالته على الخارج اللازم من حيث انه خارج لازم)
للموضوع له.
فتحصل من ذلك
ان قيد الحيثية معتبر في تعريف الامور المتباينة بالاضافة والأعتبار لا لذاتها
كالدلالات فانها متباينة بالإضافة والأعتبأر فتعريف الدلالة المطابقية بالدلالة
على تمام ما وضع له من حيث انه تمام الموضوع له اي لا من حيث انه جزء الموضوع له
او لازمه فلا تدخل التضمنية والالتزامية فيها بسبب اعتبار قيد الحيثية وتعريف
التضمنية بالدلالة على جزء ما وضع له من حيث انه جزء ما وضع له اي لا من حيث انه
تمام الموضوع له او لازمه فلا تدخل المطابقية والالتزامية فيها بسبب اعتبار قيد
الحيثية وتعريف الالتزامية بالدلالة على لازم الموضوع له من حيث انه لازم للموضوع
له اي لا من حيث انه تمام الموضوع له او جزئه فلا تدخل المطابقية والتضمنية فيها
بستب اعتبار قيد الحيثية.
وانما قلنا ان
قيد الحيثية معتبرة في الامور المتباينة بالاضافة والاعتبار لا لذاتها فان الامور
المتباينة لذاتها لا تجتمع كالأنسان مع الفرس فانهما لا يتصادقان لاختصاص الاول
بالناطقية المباينة لذاتها للصاهلية المختصة بالثاني فلا يحتاج الى قيد الحيثية في
تعريفهما وانما يحتاج في تعاريف الأمور المتصادقة المختلفة بالاضافة والاعتبار
فالحيثية معتبرة في التعريف لهذه الامور
كالدلالات فيما نحن فيه وكثيرا ما يترك قيد الحيثية فيها لوضوحه وشهرته فقد
انفصل كل تعريف عن الاحر بمراعاة الحيثية المستغنى عن ذكرها فصار كل تعريف مطردا
اي مانعا عن دخول الاغيار.
(وقد يجاب بانه
لا حاجة الى هذا القيد) اي قيد الحيثية (لان دلالة اللفظ لما كانت وضعية كانت
متعلقة بارادة اللافظ ارادة جارية على قانون الوضع فاللفظ ان اطلق واريد به معنى
وفهم منه ذلك المعنى فهو دال عليه والا) اي وان لم يرد معنى (فلا) اي فلا يدل على
معنى وقد اوضحنا ذلك في المكررات في باب شرح الكلام بما لا مزيد عليه فراجع ان
شئت.
(فالمشترك اذا
اريد به أحد المعنيين لا يراد به المعنى الآخر ولر يزاد) المعنى الآخر (ايضا لم
تكن تلك الارادة على قانون الوضع لان قانون الوضع ان لا يراد بالمشترك الا أحد
المعنيين) ومن هنا قال الجامي في بحث تعريف الاسم نعم يقدح في ارادة المعين ارادة
ما سواه واين إلدلالة من إلارادة إنتهى ولكن يجب عليك مراجعة الموضع المذكور من
المكررات لتعرف المراد من الارادة والدلالة فانها تصورية وتصديقية والنزاع انما
نشأ من عدم الفرق بينهما نظير ما اشار اليه السيوطي في بحث الحال فراجع حتى يتضح
لك الحال والتفيق من الله المتعال (فاللفظ ابدا لا بدل الا على معنى واحد) وهو
المعنى الذي اراده اللافظ (فذلك المعنى) الذي إرادة إللافظ (أن كان تمام الموضوع
له فمطابقة وان كان جزء) الموضوع له (فتضمن والا) اي وان لم يكن تمام الموضوع له
ولا جزئه وذلك بان يكون خارجا لازما للموضوع له فالتزاء) فصح بذلك طرد كل واحد من
التعاريف الثلاثة من دون حاجة الى قيد الحيثية.
(و) لكن (فيه
نظر) ظاهر (لان كون الدلالة وضعية لا تقتضي ان
تكون تابعة للارادة) وان كان يظهر ذلك من كلام ابن سيناء كما بيناه في
المكررات في الموضع المذكور انفا (بل) تابعة (للوضع) وان لم يرد اللافظ (فانا
قاطعون بانا اذا سمعنا اللفظ) الموضوع (وكنا عالمين بالوضع نتعقل معناه) الموضوع
له (سواء اراده اللافظ ام لا ولا نعنى بالدلالة سوى هدا) التعقل (فالقول بكون
الدلالة موقوفة على الارادة باطل) لان تعقل المعنى من اللفظ كاف في تحقق الدلالة
اراده اللافظ ام لا (لا سيما في التضمن والالتزام) فانه اذا اريد من اللفظ الكل أو
الملزوم كان الجزء واللازم مفهومين قهرا وبالضرورة وان لم يردهما اللافظ (حتى ذهب
كثير من الناس الى ان التضمن فهم الجزء في ضمن الكل) اي لا مستقلا بالقصد
والارادة.
(و) الى ان (الالتزام
فهم اللازم في ضمن الملزوم) كذلك اي لا مستقلا بالقصد والارادة وسياتي الاشارة الى
ذلك عند شرح قول الخطيب ويتأتى بالعقلية فأين توقف الدلالة على الارادة (و) من هنا
ذهب كثير من الناس (انه اذا قصد باللفظ الجزء) مستقلا بالارادة (او) قصد (اللازم)
كذلك اي مستقلا بالارادة (كما في المجازات) فانه يقصد من لفظ الاسد في قولنا رأيت
اسدا في الحمام الرجل الشجاع (صارت الدلالة عليها) أي على المجازات اي على المعاني
المجازية (مطابقة لا تضمنا او إلتزاما) وان كان تلك المعاني جزء للمعاني الحقيقية
او لازما لها (وعلى ما ذكره هذا القائل) من توقف الدلالة على الأرادة (يلزم امتناع
اجتماع الدلألأت) بعضها مع بعض (لامتناع ان يراد بلفظ واحد اكثر من معنى واحد) سواء
في ذلك المعاني الحقيقية والمجازية كما بين ذلك في الأصول مستقصى (و) الحال انهم
اي اهل الميزان (قد صرحوا كما في التهذيب (بان كلا
من التضمن والالتزام يستلزم المطابقة) من دون عكس فيكون اللفظ دالا على
معنيين من دون ان يكون هناك ارادتان لانه لم يشترط احد منهم في الاستلزام بينهما
والمطابقة الارادتين.
(سلمنا جميع
ذلك) اي سلمنا كون الدلالة الوضعية متعلقة بارادة اللافظ ارادة جارية على قانون
الوضع الى آخر ما ذكر في تقريبه (لكنه مما لا يفيد في هذا المقام) اي في مقام دفع
ما يرد على تعريف كل من الدلالات الثلاث من انتقاض تعريف بعضها ببعض حسبما بيناه
في اللفظ المشترك (لان اللفظ المشترك بين الجزء والكل اذا طلق واريد به الجزء)
ارادة جارية على قانون الوضع (لا يظهر انها مطابقة ام تضمن) اذ لا يعلم احد كيفية
ارادة اللافظ الجزء غير علام الغيوب وبعبارة اخرى لا يعلم انه جزئه (وايهما اخذت
يصدق عليه تعريف الاخر وكذا) اللفظ (المشترك بين اللازم والملزوم) اذا اطلق واريد
به اللازم ارادة جارية على قانون الوضع لا يظهر ايضا انها مطابقة ام التزام
والبيان البيان (فظهر ان التقييد بالحيثية مما لا بد منه) في دفع ايراد الانتقاض
عن التعريف حسبما بيناه.
(وشرطه اي شرط
الالتزام اللزوم الذهني بين الموضوع له والخارج عنه اي كون الامر الخارجي بحيث
يلزم من حصول الموضوع له في الذهن حصوله فيه) اي في الذهن فقط لا لزومه خارجا ايضا
فانه لا يشترط وذلك ككون حقيقة الانسان كلية وكالعمى والبصر ففهم البصر من العمى الذي
هو عدم البصر عما من شأنه ان يكون بصيرا دلالة الالتزام مع انه انما يلازم في
الذهن فقط لا في الخارج لانهما لا يجتمعان في الخارج وكذلك حقيقة الانسان والكلية
وقد يكون اللزوم خارجا فقط كالسواد
والغراب وكالاحراق والنار وقد يكون اللزوم ذهنا وخارجا كما في الزوجية
والاربعة والمعتبر في دلالة الالتزام باتفاق البيانيين والمنطقيين اللزوم الذهني
سواء كان هناك لزوم خارجي كما في الزوجية والاربعة ام لا كما في العمى والبصر ولذا
قال الخطيب وشرطه اللزوم الذهني يعني واما الخارجي فليس بشرط لكن ليس المراد شرط
انتفائه بل المراد عدم شرطه فقط سواء وجد او لا فوجوده غير مضر.
قال محشي
التهذيب اللازم ينقسم بقسمين احدهما انه اي لازم الشيء اما لازم له بالنظر الى نفس
ماهيته مع قطع النظر عن خصوص وجوده في الخارج او في الذهن وذلك بان يكون هذا الشيء
بحيث كلما تحقق في الذهن او في الخارج كان هذا اللازم ثابتا له واما لازم له
بالنظر الى وجوده اي الى خصوص وجوده الخارجي او الذهني فهذا القسم بالحقيقة قسمان
فأقسام اللازم بهذا التقسيم ثلاثة لازم الماهية كزوجية الاربعة ولازم الوجود
الخارجي كاحراق النار ولازم الوجود الذهني ككون حقيقة الانسان كلية وهذا انقسم
يسمى معقولا ثانيا ايضا انتهى.
واذا عرفت ذلك
فاعلم ان حصول اللازم في الذهن عند حصول الموضوع له فيه قسمان لانه اي حصول اللازم
(اما على الفور) اي فور حصول الموضوع له في الذهن كما في اللزوم البين بقسميه اي
البين بالمعنى الاخص والبين بالمعنى الاعم (او بعد التأمل في القرائن) أي الوسائط
وذلك في اللزوم الغير البين ايضا بقسميه كلزوم كثرة الرماد للجود وكلزوم الحدوث
للعالم لانك إذا تصورت العالم لا يحصل في ذهنك حدوثه الا بعد التأمل في القرائن اي
الادلة الدالة على حدوثه.
قال محشي
التهذيب ان اللازم اما بين او غير بين والبين له
معنيان احدهما اللازم الذي يلزم تصوره من تصور الملزم كما يلزم تصور البصر
من تصور العمى وهذا يقال له البين بالمعنى الاخص وحينئذ فغير البين هو اللازم الذي
لا يلزم تصوره من تصور الملزوم كالكاتب بالقوة للانسان.
والثاني من
معنى لبين هو اللازم الذي يلزم من تصوره مع تصور الملزوم وتصور النسبة بينهما
الجزم باللزوم كزوجية الاربعة فان العقل بعد تصور الاربعة والزوجية ونسبة الزوجية
اليها يحكم جزما بان الزوجية لازمة لها وذلك يقال له البين بالمعنى الاعم وحينئذ
فغير البين هو اللارم الذي لا يلزم من تصوره مع تصور الملزوم والنسبة بينهما لجزم
باللزوم كالحدوث للعالم انتهى.
(والا) اي وان
لم يكن شرط الالتزام اللزوم الذهني بين الموضوع له والخارج عنه (لكانت نسبة الخارج)
اللازم (الى الموضوع له كنسبة سائر الخارجيات) الغير اللازمة (اليه) اي الى
الموضوع له (فدلالة اللفظ عليه) اي على الخارج اللازم (دون غيره) من سائر
الخارجيات الغير اللازمة (يكون ترجيحا بلا مرجح) وذلك قبيح بل محال على وجه بين في
محله.
(ولو لاعتقاد
المخاطب بعرف) عام (او غيره اي ولو كان ذلك اللزوم الذهني ما يثبته اعتقاد المخاطب
بسبب عرف عام) وانما فسرناه بالعرف العام ولم نجعله العرف الخاص (لانه) اي العرف
العام هو (المفهوم من اطلاق العرف) وسيأتي ان المراد بالعرف العام ما لا يتعين
واضعه اي لم يكن ممن يذكر في العرف الخاص وهو المراد بقوله (او غيره كا) هل (الشرع
واصطلاحات ارباب الصناعات) كالنحاة والمتكلمين والاصوليين (وغير ذلك) المذكور (ما
يجري مجرى عرف خاص) كارباب المهن الخاصة كالخياطة والنجارة والتجارة ونحوها فالعرف
العام مثاله لفظ الاسد فان العوام والخواص قاطبة يفهمون من معناه
لازما هو الجرئة والشجاعة وان كان لا لزوم عقلا بين تلك الجئة والجرئة فاذا
قلنا زيد اسد فهم كل احد انه جريئي وشجاع وكذلك كثرة الرماد والكرم فإذا قلنا زيد
كثير الرماد فهم منه كل أحد انه كريم وأنت إذا تتأمل فيما مثلنا وفيما تقدم من
الكلام تعرف انه لا يجب في اللزوم ان يكون عقليا بأن كان لا يمكن إنفكاكه بل ولو
كان ذلك اللزوم لأعتقاد المخاطب بعرف او غيره وإلى ذلك أشار الخطيب بإتيان لو
الوصلية فتدبر جيدا.
واما العرف
الخاص الشرعي فمثاله اللزوم الذي بين بلوغ الماء قدر كر وعدم الأنفعال فان هذا
اللزوم عند اهل الشرع فاذا قلنا هذا الماء بالغ قدر كر فهم منه المخاطب إذا كان من
أهل الشرع عدم الانفعال وكاللزوم الذي بين التسلسل والبطلان وكذلك الدور فانه اذا
قلنا هذا الأمر يلزم منه الدور او التسلسل فهم المخاطب اذا كان من اهل الكلام انه
باطل وكاللزوم الذي بين الرفع والفاعل فانه اذا قلنا هذا الاسم فاعل فهم النحوي
انه مرقووع وكذلك سائر الصناعات كالقدوم والنجار ونحو ذلك.
فقد تحصل مما
بينا ان اللزوم الذهني لا بد منه في الدلالة الالتزامية (و) لكن (كلام ابن الحاجب
في) كتاب (أصوله مشعر بالخلاف في إشتراط الذهني) حيث قال فيه ودلالته الوضعية على
كمال معناه مطابقية وعلى جزئه تضمنية وغير الوضعية التزام ثم قال بعد ذلك وقيل ان
كان اللازم ذهنيا انتهى وجه الأشعار إنه أتى بلفظة قيل الدالة على الضعف والتمريض
فيفهم من ذلك انه لا يشترط في الالتزام اللزوم الذهني.
(ووجهه العلامة
في شرحه بأن بعضهم يعني ابن الحاجب لم يشترط ذلك) اللزوم الذهني (بل جعل دلالة
الالتزام ان يفهم من اللفظ معنى خارج عن المسمى سواء كان الفهم بسبب اللزوم بينهما
ذهنا او بغيره
من قرائن الأحوال) كما إذا كان المقام مقام ذم إنسان بالبخل فإن من لوازم
استحضار بخله الحكم عليه بالكرم فاذا قلت انه كريم فهم المخاطب إذا كان فطنا إنه
بخيل وكذلك إذا كان المقام مقام تعريض بإنسان يعرفه المخاطب فتقول أما أنا فلست
بزان وتريد ان ذلك الانسان زان فيفهم المخاطب المتفطن من كلامك ذلك.
(و) لكن (الأظهر
ان مراده) اي ابن الحاجب (باللزوم الذهني) الذي لا يشترطه في دلالة الألتزام (ان
لا ينفك تعقل المدلول الألتزامي عن تعقل المسمى لأن معنى اللزوم عدم الانفكاك)
وبعبارة أخرى مراده باللزوم الذهني الذي لا يشترطه إنما هو اللزوم البين بالمعنى
الأخص لا مطلق اللزوم (وظاهر إنه لو اشترط مثل هذا اللزوم) أي اللزوم البين
بالمعنى الأخص (لخرج كثير من معاني المجازات والكنايات) كالمثالين المتقدمين (عن
ان يكون مدلولا إلتزاميا) إذ لا ملازمة بينا في أغلب المجازات والكنايات بين
المعنى المراد والمعنى الموضوع له اللفظ وسيأتي بيان ذلك عند بيان أمثلة المجاز
المرسل في قوله فان قلت قد ذكر في مقدمة هذا الفن الخ (بل لم يكن دلالة الألتزام
أيضا) كدلالة المطابقية (مما يتأتى فيه الوضوح والخفاء) إذ البين بالمعنى الأخص
لأخفاء فيه أصلا فتلخص من جميع ما ذكرنا ان ليس المراد باللزوم امتناع الأنفكاك في
الذهن أو الخارج بل اتصال في الجملة ينتقل الذهن بسبب من أحد المتلازمين إلى الآخر
وهذا متحقق في جميع أنواع المجازات والكنايات.
(والايراد
المذكور أي إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح لا يتأتى) اي لا يقبل
الأتيان أي لا يجيئ أي لا يمكن (بالوضعية اي بالدلالات المطابقية) وإنما جمع
الدلالات لأن الأختلاف في الوضوح إنما
يتأتى في المتعدد لا في الواحد وإنما فسر الوضعية بالمطابقية لئلا يتوهم ان
المراد بالوضعية المعنى الذي جعله فيما سبق مقسما للدلالات الثلث اعنى ما للوضع
فيها مدخل حسبما بيناه فتدخل العقلية الآتية بعيد هذا فيتناقض المتن.
(لأن السامع)
مخاطبا كان ام لا (اذا كان عالما بوضع الالفاظ) التي وضع لمعنى واحد كالمترادفات
كلفظ الأسد والغضنفر ونحوهما للحيوان المفترس لذلك المعنى) أي إذا كان عارفا
باللغة (لم يكن بعضها) أي بعض تلك الألفاظ المترادفة (أوضح دلالة عليه) أي على ذلك
المعنى ضرورة تساوي تلك الألفاظ المترادفة في العلم بالوضع المقتضى لفهم المعنى
عند سماع اللفظ الموضوع وإذا تساوت فلا يتأتى الأختلاف في دلالتها وضوحا وخفاء.
(وإلا أي وان
لم يكن) السامع (عالما بوضع الالفاظ) أي بوضع جميعها وذلك كما يأتي عن قريب على
وجهين احدهما ان لا يعلم شيئا منها اصلا والثاني ان يعلم بعضها دون بعض (لذلك
المعنى لم يكن كل واحد منها أي من الالفاظ دالا عليه) أي ما انتفت دلالته منها على
ذلك المعنى لا يوصف بخفاء الدلالة ولا بوضوحها وذلك لأنتفاء الدلالة فيه رأسا كما
لا يوصف بهما ما ثبتت دلالته مع العلم بالوضع.
وإنما قلنا أن
لم يكن عالما بالوضع لم يدل على ذلك المعنى بالنسبة لذلك السامع (لتوقف الفهم على
العلم بالوضع مثلا إذا قلنا) في مقام مدح زيد (خده يشبه الورد فالسامع ان كان
عالما بوضع المفردات والهيئة التركيبية) أي كان عالما بوضع الهيئة التركيبية أي
كان عالما بأن مدلول اسناد يشبه الى الخد هو ثبوت شبه الخد للورد) هذا بناء على ان
للهيئة
التركيبية وضع مستقل وفيه كلام قد ذكرناه في المكررات في الموضع المشار
اليه آنفا.
(امتنع ان يكون
كلام) آخر مركب من غير هذه المفردات المذكورة في هذا الكلام (يؤدي هذا المعنى) أي
ثبوت شبه الحذر للورد (بدلالة المطابقة دلالة اوضح دلالة من دلالة) هذا الكلام أي (قولنا
خده يشبه الورد او اخفى منه لأنه اذا اقمنا مقام كل كلمة منها ما يرادفها) من
المفردات الأخر كان يقال وجنته تماثل الورد ونحو ذلك (فالسامع ان كان عالما بوضعها)
اي وضع ما يرادفها (لتلك المفهومات) اي مفهومات مفردات خده يشبه الورد بأن يعلم ان
الوجنة مفهومه مفهوم الخد ويماثل مفهومه مفهوم يشبه (كان فهمه) أي فهم السامع (اياها)
أي المفهومات (كفهمه) اي كفهم السامع (اياها) اي المفهومات (من تلك الكلمات) اي من
حذه يشبه الورد (من غير تفاوت) بين ما يفهمه من الكلامين (وان لم يكن) السامع (عالما
بوضعها) اي بوضع المرادفات (لها) اي لتلك المفهومات (لم يفهم من المرادفات ذلك
المعنى اصلا). وكذلك اذا قلنا فلان يشبه البحر في السخاء وبدلنا كل مفرد من مفردات
هذا الكلام بمرادفه فان كان مساويا له في العلم بالوضع لم يختلف الفهم وان كان غير
مساو لم يتحقق الفهم بخلاف ما اذا دللنا على معنى الكرم بمستلزمه بان نقول فلان
مهزول الفصيل او جبان الكلب او كثير الرماد فان هذه التراكيب تختلف وضوحا وخفاء في
تأدية المعنى اي كون فلان كريما لان استلزام بعض هذه المعاني لمعنى الكرم اوضح من
بعض لانه كما يأتي في بحث الكناية بحسب قلة الوسائط وكثرتها تختلف الدلالة على
المقصود وضوحا وخفاء.
(وانما قال
والا لم يكن كل واحد منها دالا دون ان يقول لم يكن واحد
منها دالا) والفرق بينهما ان الأول سلب جزئي لوفوع كل في حيز النفي وقد
تقدم في الباب الثاني ان ذلك يفيد السلب الجزئي وقد ثبت في محله كما تقدم في
الموضع المذكور ان السالبة الجزئية اعم فهو صادق مع السلب الكلي بأن لا يكون
السامع عالما بوضع شيء منها فلا يكون شيء منها دالا ومع السلب الجزئي بأن يكون
عالما بوضع بعض منها دون بعض فيكون يعضها دالا والثاني سلب كلي لان واحد نكرة
واقعة في سياق النفي وقد تقدم هناك ايضا ان ذلك يفيد السلب الكلي وذلك لا يصدق الا
اذا لم يكن عالما بشيء منها والى بعض ما ذكرنا اشار بقوله (لان المفهوم والمقصود
من قولنا هو عالم بوضع الالفاظ انه عالم بوضع كل واحد منها) فهو موجبة كلية (فنقيضه
المشار اليه بقوله) أي بقول الخطيب (والا) هو (ان لا يكون عالما بوضع كل واحد منها)
وذلك لما ثبت في محله من ان النقيض للموجبة الكلية السالبة الجزئية (وهذا) اي
قولنا ان لا يكون عالما بوضع كل واحد منها (اعم من ان لا يكون عالما بوضع شيء منها
فلا يكون شيء منها دالا) وهذا سالبة كلية (او يكون عالما بوضع بعض دون بعض فيكون
بعضها دالا دون بعض وعلى التقديرين) اي على تقدير ان لا يكون عالما بوضع شيء منها
الخ وتقدير ان يكون عالما بوضع بعض منها دون بعض الخ (لا يكون كل واحد منها دالا)
اما على التقدير الاول فلانتفاء اصل الدلالة واما على التقدير الثاني فلعدم بوضع
البعض المستلزم لعدم الدلالة في ذلك البعض وإن كانت الدلالة حاصلة بالنسبة الى
البعض الآخر الذي حصل للسامع العلم به واليه اشار بقوله (ويحتمل ان يكون بعض منها
دالا فليتأمل) فانه دقيق او لانه كما قال بعض المحققين انما يتم على مذهب من يقول
ان المسند اليه المسور بكل إذا أخر يفيد سلب العموم واما على مذهب
الشيخ عبد القاهر. من انه إذا أخر عن اداة النفي وما في معناها يفيد النفي
عن الكل مع بقاء اصل الفعل فلا يصح وقد تقدم ذلك في بحث تقديم المسند اليه فراجع
ان شئت (وايا ما كان) من التقديرين لا يجري فيها) اي في الدلالة الوضعية (الوضوح)
والخفاء ضرورة ان كل لفظ انتفت دلالته انتفى عنه الوضوح والخفاء وكل لفظ ثبتت
دلالته انتفى عنه الوضوح والخفاء ايضا حسبما بيناه آنفا فتحصل من مطاوي ما ذكرنا
ان فهم المعنى متوقف على العلم بالوضع.
(فان قلت لو
توقف فهم المعنى على العلم بالوضع لزم الدور لان العلم بالوضع موقوف على فهم
المعنى لان الوضع نسبة بين اللفظ والمعنى) حاصلة بتعيين الواضع أو بكثرة الأستعمال
فيقال للأول الوضع التعييني وللثاني التعيني وسيأتي تفصيل ذلك في أول بحث المجاز
انشاء الله تعالى (والعلم بالنسبة يتوقف على فهم المنتسبين) فالعلم بالوضع يتوقف
على فهم المعنى الذي هو أحد المنتسبين فيلزم منه توقف العلم بالعلم وهذا هو الدور (قلت)
الفهم (الموقوف على العلم بالوضع هو فهم المعنى من اللفظ) بعد وضع اللفظ للمعنى أي
مقيدا باللفظ (والعلم بالوضع إنما يتوقف على فهم المعنى) في نفسه (في الجملة) أي
مطلقا قبل وضع اللفظ للمعنى (لا على فهمه من اللفظ) فالفهمان متغايران بالتقييد
والاطلاق وبتغايرهما يتغاير العلمان فلا يلزم توقف الشيء على نفسه فلا دور.
(وقريب منه ما
يقال ان فهم المعنى في الحال) الحاضر أي في زمان المحاورة والتكلم الذي هو بعد
الوضع (موقوف على العلم السابق) على المحاورة والتكلم (بالوضع وهو) أي العلم السابق
بالوضع (لا يتوقف على فهم المعنى في الحال) الحاضر أي في زمان المحاورة والتكلم (بل)
يتوقف على
فهم المعنى (في ذلك الزمان السابق) والفرق بين الجوابين أن المعتبر في
الاول التغاير كما أشرنا اليه بحسب التقييد والاطلاق وفي الثاني بحسب الزمان فتدبر
جيدا.
(فإن قيل لا
نسلم انه) أي السامع (إذا كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح من بعض لجواز
ان يكون بعض الألفاظ المخزونة في الخيال يحضر معانيها في العقل بأدنى التفات لكثرة
الممارسة) أي ممارسة استعمالها (والمؤانسة وقرب العهد بها) أي بالالفاظ أي
بأستعمالها في معنا وذلك كلفظ الأسد والسبع فإن فهم المعنى منهما أقرب من فهمه من
لفظ الليث والحارث مع العلم بوضع هذه الالفاظ الأربعة وذلك لكثرة استعمال الأولين
وقلة استعمال الآخيرين وكلفظ الكتاب فإن فهم المعنى منه أقرب من فهمه من الصحيفة
أو الديوان للأنس وقرب العهد بالاول دون الآخيرين.
(وبعضها) أي
بعض الألفاظ (بكون بحيث يحتاج إلى التفات اكثر ومراجعات أطول) وذلك كلفظ الليث
والحارث والصحيفة والديوان حسبما بيناه في المثالين (و) لذلك (كثيرا ما نفتقر في
استنباط المعاني المطابقية من بعض الألفاظ مع سبق علمنا بوضعها الى معاودة فكر
ومراجعة تأمل لطول العهد بها وقلة تكرر الالفاظ على الحس) السامعة (و) قلة تكرر (المعاني
على العقل) وحينئذ فقد وجد الوضوح والخفاء في الدلالة الوضعية المطابقية فلا يسلم
ما في المتن من أن السامع إذا كان عالما بوضع الالفاظ لم يكن بعضها أوضح.
(فالجواب ان
المراد بالاختلاف في الوضوح والخفاء ان يكون ذلك بالنظر إلى نفس الدلالة ودلالة
الالتزام) سواء كان تضمنية أو التزامية وسيصرح بذلك بعبد هذا (كذلك) أي الأختلاف
فيها بالنظر الى نفس الدلالة
(لأنها) أي دلالة الالتزام (من حيث انها دلالة الألتزام قد تكون واضحة كما
في اللوازم القريبة) وكذلك الأجزاء (وقد تكون خفية كما في اللوازم البعيدة
المفتقرة الى الوسائط) وكذلك الأجزاء وسيأتي بيان ذلك بعيد هذا (بخلاف) الدلالة (المطابقية
فإن فهم المعنى المطابقي واجب قطعا عند العلم بالوضع وممتنع قطعا عند عدم العلم
بالوضع وسرعة حضور بعض المعاني المطابقية في العقل وبطؤها إنما هو من جهة سرعة
تذكر السامع للوضع وبطوئه) أي بطؤ التذكر (ولهذا يختلف بأختلاف الاشخاص) لأن بعض
الاشخاص يتذكر المعنى بالسرعة وبعضهم يتذكر ببطؤ (و) قد يختلف في شخص واحد بالنسبة
الى معنى واحد بأختلاف (الاوقات) وذلك واضح لا يحتاج الى البيان.
(ويتأتى
بالعقلية أي الأيراد المذكور) يعني إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح (يتأتى
بالدلالات العقلية) أي التضمنية والالتزامية إيما عبر بعيد هذا باللزوم لما قلنا
أي ليشمل التضمن والألتزام معا لأن في كل منهما لزوم الفهم للفهم ولو أراد خصوص دلالة
الالتزام لعبر باللازم فتدبر جيدا (لجواز ان تختلف مراتب اللزوم في الوضوح أي
مراتب لزوم الأجزاء للكل في التضمن ومراتب لزوم اللوازم للملزوم في الالتزام أما
في الالتزام فظاهر لجواز أن يكون لشيء واحد) كالكرم مثلا (لوازم متعددة ككثرة
الضيفان وكثرة احراق الحطب وكثرة الرماد وجبن الكلب وهزال الفصيل (بعضها) أي بعض
اللوازم (أقرب اليه من بعض بسبب قلة الوسائط) أو عدم الوسائط رأسا (فيكون) ذلك
الأقرب (اوضح لزوما له) أي للشيء الواحد (فيمكن تأدية ذلك المعنى الملزوم) كالكرم
مثلا (بالألفاظ الموضوعة لهذه اللوازم المختلفة الدلالة عليه) أي على الشيء الواحد
كالكرم مثلا (وضوحا
وخفاء) بإن يقال زيد كثير الرماد أو كثير احراق الحطب أو كثير الرماد او
جبان الكلب أو مهزول الفصيل ولا شك ان انتقال الذهن من كثرة الضيفان للكرم اسرع من
انتقاله من كثرة احراق الحطب الى الكرم وذلك لعدم الواسطة بينهما في الأول ووجودها
في الثاني وانتقاله من كثرة احراق الحطب الى الكرم أسرع من انتقاله من كثرة الرماد
إلى الكرم لأن بين الكرم وكثرة احراق الحطب كما يأتي في اول بحث الكناية ثلاث
وسائط وبينه وبين كثرة الرماد كما يأتي هناك اربع وسائط.
وليعلم انه قد
يكون الاختلاف في الوضوح والخفاء بسبب كثرة الاستعمال وقلته ككثرة الرماد وهزال
الفصيل وجبن الكلب ولا شك ان هذه اللوازم مختلفة في الدلالة على الكرم من جهة
الوضوح والخفاء اذ ليس الانتقال من هذه اللوازم الى الكرم مستويا فإن الانتقال من
كثرة الرماد اليه أسرعها وذلك لكثرة الاستعمال ولو كثرت وسائطه.
وليعلم أيضا
انه قد أورد ههنا بأن الكلام في دلالة الالتزام وهي كما سبق تأدية اللازم بلفظ
الملزوم لا العكس كما افاده التفتازاني واجيب بانه اراد باللازم هنا التابع
وبالملزوم المتبوع معتبرا في كل منهما اللازمية فوافق ما سبق من ان دلالة الألتزام
دلالة اللفظ على اللازم وقد يجاب ان هذا الكلام منه اشارة الى مذهب السكاكي في
الكناية فإن الانتقال فيها عنده كما يأتي بيان ذلك من اللازم الى الالمزوم بعكس
المجاز فتأمل جيدا.
(وكذا إذا كان
لشيء واحد) كالحرارة مثلا (ملزومات) متعددة كالنار والشمس والحركة الشديدة والخحل
والحمى والعشق يكون (لزومه) أي لزوم ذلك الشيء الواحد (لبعضها) أي بعض الملزومات (اوضح
منه) أي من اللزوم (للبعض الآخر فيمكن تأديته) أي تأدية ذلك اللازم الواحد
بتلك الملزومات المختلفة الدلالة عليه) أي على ذلك اللازم الواحد (في الوضوح)
مثلا يمكن ان يقال ان في جسمي نار كما قال الشاعر الفارسي.
يا رب اين
آتش كه بر جان منست
|
|
سرد كن
زانسان كه كردي بر خليل
|
او يقال في
جسمي شمس او حركة شديدة او خجل كما قال الآخر :
در دوزخم
بيفكن ونام گنه مبر
|
|
كاتش بگرمي
عرق انفعال نيست
|
او يقال زيد
محموم او يقال عاشق فكل واحد من هذه الملزومات يدل على اللازم الواحد اعني الحرارة
ومن هنا قيل :
وعده وصل چون
شود نزديك
|
|
آتش عشق
تيزتر گردد
|
وظاهر ان دلالة
النار على الحرارة اوضح عند العوام ودلالة العشق عند الخواص ومثل الحرارة
الأنسانية فإنها ملزوم واحد ولها لوازم كثيرة كالحيوانية والناطقية والضاحكية
والأكلية ونحوها وظاهر ان بعضها أوضح لزوما له من البعض الآخر.
(وذلك) الذي
بينا في وجه الاختلاف وضوحا وخفاء في دلالة الالتزام (لأن المعتبر في دلالة
الألتزام ههنا هو ان يكون المعنى الخارج بحيث يلزم من حصول المسمى) أي الموضوع له (في
الذهن حصوله) أي الخارج (فيه) أي في الذهن (سواء) كان ذلك الحصول (بلا واسطة)
كحصول الكرم في الذهن بسبب حصول كثرة الضيفان فيه (او بواسطة واحدة) كحصول الكرم
في الذهن بسبب كثرة الاكلة فيه فإن فيه واسطة واحدة فإن من كثرة الاكلة ينتقل السامع
الى كثرة الضيفان ومن كثرة الضيفان الى الكرم وذلك لأن كثرة الاكلة بنفسها لا تدل
على الكرم لجواز ان يكون اكلهم بالاشتراء لا بالضيافة (او بواسائط متعددة) كحصول
الكوم في الذهن بسبب حصول كثرة الرماد فيه فإن فيه وسائط متعددة فانه كما يأتي في
بحث الكناية
ينتقل من كثرة الرماد الى كثرة احراق الحطب تحت القدر ومن كثرة احراق الحطب
الى كثرة الطبائخ ومن كثرة الطبائخ الى كثرة الاكلة ومن كثرة الاكلة الى كثرة
الضيفان ومنها الى الكرم.
(وسواء كان
اللزوم بينهما) اي بين المسمى والخارج عنه او بين الحصولين عقليا) كالبطلان والتسلسل
(او اعتقاديا عرفيا) كالجود وحاتم (او اصطلاحيا) كالرفع والفاعل فنقول في توضيح
اختلاف الدلالة وضوحا وخفاء زائدا على ما سبق منا (مثلا معنى قولنا زيد جواد يلزمه
عدة لوازم مختلفة اللزوم مثل كونه كثير الرماد وجبان الكلب ومهزول الفصيل فيمكن
تأدية هذا المعنى) أي جود زيد (بتلك العبارات) الثلاث (التي بعضها أوضح دلالة عليه)
أي (على جود زيد من بعض) وقد بينا ذلك بما لا مزيد عليه إلى هنا كان الكلام في
بيان الاختلاف وضوحا وخفاء في دلالة الالتزام.
(واما)
الاختلاف (في) دلالة (التضمن فبيانه انه يجوز ان يكون المعنى) كالجسم مثلا أو
كالتراب مثلا (جزء من شيء) اي من الحيوان مثلا أو من الجدار مثلا (و) يكون (جزء
الجزء من شيء آخر) ككون الجسم جزء من الحيوان الذي هو جزء من الانسان وككون التراب
جزء من من الجدار الذي هو جزء من البيت.
(فدلالة الشيء)
يعني الحيوان (الذي ذلك المعنى) أي الجسم (جزء منه) اي من الحيوان (على ذلك المعنى)
أي على الجسم (اوضح من دلالة الانسان عليه ودلالة الجدار على التراب أوضح من دلالة
البيت عليه) وذلك لأن دلالة الحيوان على الجسم ودلالة التراب على الجدار بلا واسطة
لأن الجسم جزء من الحيوان لأن حقيقة الحيوان جسم نامي حساس متحرك
بالارادة ودلالة الأنسان على الجسم بواسطة الحيوان لأن الحيوان جزء من
الأنسان والجسم جزء من الحيوان فالجسم بالنسبة الى الحيوان جزء وإلى الانسان جزء
الجزء وحينئذ فالأنسان يدل على الحيوان ابتداء وعلى الجسم ثانيا بخلاف الحيوان
فإنه يدل ابتداء على الجسم فكانت دلالته عليه أوضح من دلالة الأنسان وقس عليه
المثال الثاني اي التراب والجدار والبيت فتحصل من ذلك ان دلالة اللفظ على المعنى
المطابقي الذي هو الكل اقدم وأسبق من دلالة اللفظ على المعنى التضمني الذي هو
الجزء.
وانما مثل
بمثالين للاشارة الى ان كون دلالة اللفظ على جزء المعنى اوضح من دلالته على جزء
جزئه لا فرق فيه بين ان يكون الجزء معقولا كما في المثال الاول او محسوسا كما في
المثال الثاني (فان قيل) لا نسلم الاسبقية أي استقية الكل على الجزء في مقام دلالة
اللفظ وان كان دلالة الشيء الذي ذلك المعنى جزء منه على ذلك المعنى اوضح من دلالة
الشيء الذي ذلك المعنى جزء من جزئه بل (ينبغي ان يكون الامر بالعكس) اي ينبغي ان
يكو الاسبقية للجزء لا للكل (لان فهم الجزء سابق على فهم الكل وانما كان فهم الجزء
سابقا على فهم الكل لان الشخص اذا طلب فهم مدلول اللفظ الذي سمعه وكان كلا وجب فهم
اجزائه اولا فاذا سمع لفظ الكل كالانسان مثلا وتوجه عقله الى فهم المراد منه فهم
اولا الاجزاء الأصلية ومنها الجسمية ثم ينتقل الى ما يجمع الجسمية مع غيرها وهو ما
تكون الجسمية جزء له كالحيوانية ثم ينتقل الى ما تجمع تلك الحيوانية مع غيرها وهو
الانسانية (فالمفهوم من الانسان اولا هو الجسم ثم الحيوان ثم الإنسان). وقد بين
ذلك في المنطق في باب بيان ترتيب امور معلومة لتحصيل مجهول أي في باب المعرف حيث
صرحوا هناك بان الاعم اظهر من الاخص ومن اجل ذلك يقال هناك ان تقديم
الاعم واجب ويقال ان التعريف بالاخص اخفى.
(قلنا الامر
كذلك) يعني نسلم ان الامر بالعكس يعني كون فهم الجزء سابقا على فهم الكل في مقام
تحصيل المجهول (لكن القوم) بنوا في مقام دلالة اللفظ على خلاف ذلك فانهم (صرحوا
بان التضمن تابع للمطابقة لان المعنى التضمني انما ينتقل اليه الذهن من الموضوع له)
الذي هو الكل (فكانهم بنوا ذلك على ان التضمن هو فهم الجزء وملاحظته بعد فهم الكل)
ومن هنا قالوا ويستلزمهما اي التضمن الالتزام المطابقة وبعبارة اخرى اذا سمع
الانسان لفظ البيت مثلا وكان عارفا بوضعه وبجميع اجزائه فهم اولا مجموع المعنى
جملة واحدة ثم ينتقل منه الى الجزء اعني الجدار والباب وسائر ماله من الاجزاء وبعد
ذلك ينتقل الى التراب ونحوه من اجزاء الاجزاء فصح ما ذكرنا من ان دلالة الجدار على
التراب أوضح من دلألة البيت عليه وكذلك دلالة الحيوان على الجسم بالنسبة الى دلالة
الأنسان عليه فتأمل جيدا.
(و) الدليل على
اسبقية الكل في مقام الدلالة انه (كثيرا ما يفهم الكل) من اللفظ (من غير التفات
الى الاجزاء) (فلا يكون فهم الجزء) من اللفظ (سابقا على فهم الكل) (كما ذكر الشيخ
في الشفا ان الجنس) الذي هو جزء من النوع كالحيوان (ما لم يخطر بالبال) اي الذهن (ومعنى
النوع) الذي هو الكل كالانسان (يخطر بالبال) لكن اجمالا لا تفصيلا اذ خطور النوع
تفصيلا بدون الجنس محال (ولم تراع النسبة بينهما) في هذه الحال) اى من غير ملاحظة
ان النوع كل والجنس جزء (امكن ان يغيب) الجنس الذي هو جزء (من الذهن فيجوز ان يخطر
النوع بالبال ولا يلتفت الذهن الى الجنس هذا كلامه) فثبت ان اسبقية الجزء على الكل
إنما هي في مقام التعريف وتحصيل المجهول واسبقية الكل على الجزء انما هي في
مقام دلالة اللفظ وفهم المعنى من اللفظ وبين المقامين بون شديد بحيث لا ارتباط
لاحدهما بالآخر وان كان ما يقال في المقامين صحيحا وسيأتي بعض الكلام في ذلك في
بحث تقسيم التشبيه باعتبار وجهه عند قول الخطيب وايضا اما قريب مبتذل الخ.
(فان قلت قد
سبق) في شرح تعريف علم البيان (ان المراد بالمعنى الواحد) على ما ذكره القوم (ما)
اي معنى (يؤديه الكلام المطابق لمقبضى الحال وهو لا محالة يكون معنى تركيبيا) ذا
نسبة تامة (وما ذكرت هنا من التأدية بالعبارات المختلفة) ككثير الرماد ومهزول
الفصيل وجبان الكلب ومثالها) انما هو في المعاني الافرادية) التي ليست فيها نسبة
تامة فكيف التوفيق بين ما سبق وما ذكرت هنا.
(قلت تقييد
المعنى الواحد بما ذكرنا) هناك انما كان على سبيل المماشاة مع القوم والا فهو غير
مرضى عندنا فانه اي التقييد المذكور (مما لا يدل عليه اللفظ) اي لفظ المعنى الواحد
(ولا يساعده كلامهم) اي كلام القوم (في مباحث البيان) الاتية (لان المجاز المفرد
وهو من معظم مباحث البيان) الآتية (و) لان (كثيرا من امثلة الكناية) الاتية وقد
ذكرنا بعضها آنفا (انما هي في المعاني الافرادية) التي ليست فيها نسبة تامة (لكنا
لما ساعدنا القوم في هذا التقييد) اي تقييد المعنى الواحد بما ذكرناه هناك (نقول)
في وجه التوفيق بينهما (ان كون الكلام اوضح دلالة على معناه التركيبي يجوز ان يكون
بسبب ان بعض اجزاء ذلك الكلام اوضح دلالة على ما هو جزء من ذلك المعنى التركيبي
فاذا عبرنا عن معنى تركيبي بتراكيب بعض مفرداتها اوضح دلالة على ما هو داخل في ذلك
المعنى)
التركيبي (كان هذا تادية المعنى الواحد التركيبي بطرق مختلفة في الوضوح)
فتحصل من ذلك ان تقييد المعنى الواحد بما ذكر هناك من قبيل الصفة بحال متعلق
الموصوف وما ذكرنا ههنا من قبيل الصفة بحال نفس الموصوف فتبصر (هذا غاية ما تيسر
لي من الكلام في هذا المقام وهو بعد) اي بعد هذه التحقيقات والتوضيحات (موضع نظر)
من وجوه ذكرها المحشى لا طائل في ذكرها.
اعلم ان كلمة (ثم)
في امثال المقام للانتقال من كلام الى كلام آخر فان ما سبق كان في تعريف العلم وما
يتعلق به وهذا في بيان ما يبحث عنه في العلم وفيها شائبه من الترتيب الذكري وحاصل
المقصود من هذا الكلام انه لما كان الطرق المختلفة في الوضوح تتعلق بالدلالات
العقلية وهي لا بد فيها من انتقال من لازم الى ملزوم او عكسه احتاج ذكر تقسيم يعلم
به ما حصل فيه الانتقال وهو المجاز والكناية فقال ان (اللفظ المراد به لازم ما وضع
ذلك اللفظ له يعني) اي يقصد (باللازم ما لا ينفك عنه) أي عما وضع ذلك اللفظ له
وفيه كلام سنشير اليه بعيد هذا (سواء كان) ذلك اللازم (داخلا فيه) أي فيما وضع ذلك
اللفظ له (كما في التضمن او) كان ذلك اللازم (خارجا عنه كما في الالتزام) (ان قامت
قرينة على عدم ارادته أي ارادة ما وضع له فمجاز) أي فهو اي اللفظ مجاز وتسمى هذه
القرينة بالصارفة لصرفها اللفظ عن الموضوع له (والا أي وان لم تقم قرينة على عدم
ارادة ما وضع له) وذلك بان وجدت قرينة على ارادة اللازم لكن لم يكن مانعة من ارادة
اللازم (فكناية) اي فهو اي اللفظ كناية فقد ظهر لك مما ذكرنا انه لا بد في المجاز
والكناية من قرينة لتعيين المراد والفرق بينهما باعتبار كون القرينة مانعة من
ارادة الموضوع له في المجاز دون الكناية كما
سيصرح بذلك بعيد هذا وفي اول بحث الكناية.
(وهذا) اي كون
المراد باللفظ في الكناية ايضا لازم ما وضع له اللفظ (مبني على ما سيجيء في اول
باب الكناية من ان الانتقال في المجاز والكناية كليهما انما هو من الملزوم الى
اللازم وان ما ذكره السكاكي من ان مبنى الكناية على) العكس اي (الانتقال من اللازم
الى الملزوم غير صحيح اذ لا دلالة للازم من حيث انه لأزم على الملزوم) وذلك لجواز
كون اللازم اعم فلا ينتقل منه الى الملزوم اذ لا دلالة كما يأتي في بحث الكناية
للعام على الخاص بخصوصه (و) لان (الإلتزام انما هو الدلالة على لأزم المسمى)
الموضوع له اللفظ (لا على ملزومه) وفي المقام كلام يأتي هناك انشاء الله تعالى.
(ثم ظاهر هذا
الكلام) المذكور في المتن اي قوله ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له الخ (يدل على
ان الواجب في) جميع) المجازات ان يذكر الملزوم ويراد اللازم وهذا لا يصح ظاهرا الا
في قليل من اقسامه) أي من اقسام المجاز (على ما سيجيء) في ذيل امثلة المجاز المرسل
من ان بعض انواع العلاقة بل اكثرها لا يفيد اللزوم ومن هنا قيل ان قوله آنفا يعني
باللازم ما لا ينفك عنه محل تأمل اللهم إلا ان يراد بعدم الأنفكاك عدم الانفكاك في
الجملة ولو بسبب القرائن في بعض الاوقات وهذا متحقق في جميع اقسام المجاز.
(وقدم المجاز
عليها اي على الكناية لان معناه كجزء معناها لان المراد من المجاز هو اللازم فقط
لقيام قرينة على عدم ارادة الملزوم بخلاف الكناية فانه) لضمير للشان (يجوز ان يكون
المراد بها اللازم والملزوم جميعا) كما انه يجوز ان يكون المراد بها اللازم فقط
فارادتهما
معا ليست بدائمي واليه اشار بقوله كجزء معناها حيث لم يقل جزء معناها بدون
الكاف (والجزء مقدم على الكل بالطبع اي يحتاج اليه الكل في الوجود مع انه) أي
الجزء (ليس بعلة تامة للكل فقدم) الجزء اي المجاز (في الوضع ايضا ليوافق الوضع
الطبع).
وليعلم ان قوله
مع انه ليس بعلة تامة للكل اشارة الى الفرق بين المتقدم بالطبع والمتقدم بالعلية
اذ المتقدم يقال على خمسة اشياء احدها المتقدم بالزمان وهو ان يكون السابق قتل
المسبوق قبلية لا يجامع القبل منهما البعد كتقدم موسى (ع) على عيسى (ع) وذلك ظاهر
والثاني المتقدم بالطبع وهو الذي لا يمكن ان يوجد الاخر بكسر الخاء بمعنى المتأخر
الا وهو موجود معه او قبله ولكن يمكن ان يوجد وليس الاخر اي المتأخر بموجود كتقدم
الواحد على الاثنين فانه لا يمكن ان يوجد الأثنان الأ والواحد موجود ولكن يمكن أن
يوجد الواحد وليس الاثنان بموجود قال بعضهم ينبغي ان يزاد في تفسيره قيد كونه غير
مؤثر في المتأخر ليخرج عنه المتقدم بالعلية واليه اشار التفتازاني بقوله المذكور
ولكن فيه كلام مذكور في محله والثالث التقدم بالشرف كتقدم العالم على الجاهل
ويندرج في هذا القسم التقدم في الخسة والدنائة والى ذلك ينظر كلام ميرزا ابو طالب
في باب الاعراب بالنيابة ردا على الشارح حيث يقول ولو قدمه على المقصور كان اولى
الخ فراجع ان شئت.
الرابع المتقدم
بالرتبة وهو ما كان اقرب من مبدء محدود كترتب الصفوف في المسجد منسوبة الى المحراب
وكترتب الاجناس والانواع الأضافية على سبيل التصاعد والتنازل كما اشار اليه في
التهذيب والخامس المتقدم بالعلية وهو المؤثر التام أي المستجمع للشرائط وارتفاع
الموانع فاحفظ ذلك فانه
يفيدك في كثير من المقامات والله الموفق وهو الهادي الى الصواب.
(ثم) قد تقدم
المراد من هذه اللفظة في امثال المقام آنفا فلا نعيده (منه اي من المجاز ما يبتني
على التشبيه وهو الاستعارة التي كان اصلها التشبيه) لأنها كما يأتي ما تضمن تشبيه
معناه بما وضع له والمراد بمعناه ما عني باللفظ واستعمل اللفظ فيه كالرجل الشجاع
في قولنا رأيت اسدا يرمي فان لفظ اسد استعمل في الرجل الشجاع بعد المبالغة في
التشبيه وادخال المشبه اعني الرجل الشجاع في جنس المشبه به اعني الحيوان المفترس
ادعاء والى ذلك اشار بقوله (فذكر المشبه به واريد المشبه) وانما اتى بلفظة من
التبعيضية ليعرفك ان من المجاز ما ليس باستعارة وهو المجاز المرسل الذي اصلها ليس
التشبيه وسيأتي بيان كل واحد منهما مستوفي ان شاء الله تعالى.
(فتعين التعرض
له اي للتشبيه قبل التعرض للمجاز الذي احد اقسامه الاستعارة لأبتنائها) اي
الاستعارة (عليه) اي على التشبيه (فانحصر المقصود من علم البيان في الثلاثة
التشبيه والمجاز والكناية) والمراد من من المقصود ههنا اعم من ان يكون مقصودا
لذاته او بالتبع كما يظهر ذلك من قوله (فان قلت اذا كان ذكر التشبيه في علم البيان
بسبب ابتناء الاستعارة عليه فلم جعل مفصدا برأسه دون ان يجعل مقدمة لبحث الاستعارة)
التي اصلها التشبيه.
(قلت لانه) اي
التشبيه (لكثرة مباحثه وعموم فوائده ارتفع) شأنه عن ان يجعل مقدمة لبحث الاستعارة
واستحق ان يجعل اصلا برأسه هذا) الذي ذكر من اول الباب الى هنا (هو) تمام (الكلام
في شرح مقدمة علم البيان على ما اخترعه السكاكي وانت خبير بما فيه من الاضطراب) من
وجوه منها ما اشار اليه آنفا من ان الكلام بعد موضع نظر ومنها ما بينه
بقوله فإن قيل ينبغي ان يكون الأمر بالعكس الخ ومنها ما بينه بقوله فان قلت سبق ان
المراد الخ ومنها ما بينه بقوله ثم ظاهر هذا الكلام الخ ومنها ما بينه بقوله فان
قلت اذا كان ذكر التشبيه الخ.
(والاقرب ان
يقال علم البيان علم يبحث فيه عن التشبيه والمجاز والكناية ثم يشتغل بتفصيل هذه
المباحث) الآتية (من غير التفات الى الابحاث التي اورد في صدر هذا الفن) وقد اورد
الخطيب حاصل تلك الابحاث بقوله دلالة اللفظ الى قوله فانحصر في الثلاثة.
(التشبيه اي
هذا بحث التشبيه الاصطلاحي الذي يبتني عليه الاستعارة وهو المقصد الاول من المقاصد
الثلاثة) التي انحصر المقصود من علم البيان فيها قال في قوله التشبيه للعهد لانه
اشارة الى ما هو المصطلح عندهم.
(ولما كان هو)
اي التشبيه الاصطلاحي (اخص من مطلق التشبيه اعني التشبيه بالمعنى اللغوي اشار)
الخطيب (اولا الى تفسيره) اي تعريفه (بقوله التشبيه اي مطلق التشبيه) لا الذي هو
المقصد الاول قال فيه للجنس لا للعهد الذكري وبعبارة أخرى المراد من قوله التشبيه
ليس التشبيه الاصطلاحي فقط بل المراد مطلق التشبيه (سواء كان على وجه الاستعارة)
وهو قسم من المجاز كما في قولك رأيت اسدا يرمي وسيأتي بيانه مفصلا (او) كان على
وجه يبتني عليه الاستعارة وهو الذي ذكر فيه المشبه والمشبه به والاداة كما في قولك
زيد كالاسد وكان زيدا اسد ووجه بناء الأستعارة على هذا التشبيه انه اذا حذف المشبه
واداة التشبيه واقيمت قرينة على ان المراد الرجل الشجاع صار لفظ المشبه به استعارة
ومجازا بعد ما كان حقيقة.
(او) كان (غير
ذلك) بان كان التشبيه ضمنيا كما في بعض صور
التجريد نحر لقيت من زيد اسدا فانت في الاصل شبهت زيدا بالاسذ ثم بالغت في
زيد حتى انتزعت منه الاسد وانما كان هنا تشبيه ضمني لذكر الطرفين في هذا الكلام
فيمكن تحويل الطرفين الى هيئة التشبيه الحقيقي بان يقال ان زيدا كالاسد او كان
زيدا اسد (ولهذا) اي ولان المراد من قوله التشبيه مطلق التشبيه لا التشبيه
الأصطلاحي فقط (أعاد اسمه المظهر ولم يأت بالضمير لئلا يعود الى) التشبيه (المذكور)
قبله (المخصوص) بالاصطلاح (فاللام) كما قلنا آنفا (في التشبيه الاول للعهد) الذكري
(وفي) التشبيه (الثاني للجنس) وقد تقدم نظير ذلك في الباب الاول في بحث تقسيم
الاسناد الى الحقيقة العقلية والمجاز العقلي.
ولما كان هنا
مظنة اشكال وهو انه قد صرح ابن هشام في الباب السادس في الامر الرابع عشر ان
النكرة اذا اعيدت نكرة كانت غير الاولى واذا اعيدت معرفة او اعيدت المعرفة معرفة
او نكرة كان الثاني عين الاول والمقام من القسم الثالث لأن التشبيهين كلاهما
معرفتان فأجاب بقوله (وما يقال ان المعرفة اذا اعيدت نهي عين الاول فليس على
اطلاقه) بل هذه القاعدة انما هي مع عدم القرينة على المغايرة واما ان وجدت قرينة
على المغايرة كما في المقام فالتعويل عليها صرح بذلك ابن هشام في الموضع المذكور
فراجع ان شئت.
(يعني) اي يقصد
الخطيب (ان معنى التشبيه في اللغة الدلالة هو مصدر قولك دللت فلانا على كذا اذا
هديته له) المقصود من هذا الكلام ان المراد من الدلالة ما هو فعل المتكلم كما ان
التشبيه كذلك (يعني هو) اي التشبيه (ان يدل) المتكلم (على مشاركة امر لامر آخر في
معنى) اي في وصف من الصفات فخرج بذلك المشاركة في عين من الاعيان نحو شارك
زيد وعمرو في الدار (فالأمر الاول هو المشبه والثاني هو المشبه به والمعنى
هو وجه التشبيه و) ههنا اشكال وهو ان (ظاهر هذا التفسير شامل لنحو قاتل زيد عمرا)
فانه يدل على مشاركة زيد لعمرو في المقاتلة (و) لنحو (جائني زيد وعمرو) فإيه يدل
على مشاركتهما في المجيء (وما اشبه ذلك) مما يلزم منه المشاركة بين شيئين في معنى
نحو زيد اعلم من عمرو فانه يدل على مشاركتهما في اصل العلم مع ان هذا كله ليس
تشبيها لغويا فينبغي كما يأتي ان يزيد في تفسيره بالكاف ونحوه لفظا او تقديرا
ليخرج مثل هذه الامثلة ويدخل نحو زيد كالاسد وزيد اسد.
واجيب عن ذلك
بان ما عرف به المصنف من باب التعريف بالاعم وهو شايع عند اهل العلوم العربية وقد
اجاب الجامي في بحث العدل من اسباب منع الصرف عن هذا الاشكال فهذا جواب على سبيل
التسليم واجاب بعضهم بان مراد الخطيب الدلالة الصريحة فخرج ما ذكر فان الدلالة
فيها على المشاركة غير صريحة وذلك لان مدلول الاول صراحة وجود المقاتلة من زيد
وتعلقها بعمرو ويلزم من ذلك مشاركتهما في المقاتلة ومدلول الثاني صراحة ثبوت
المجيء لزيد وحصوله لعمرو ايضا ويلزم من ذلك ايضا مشاركتهما في المجيء ومدلول
الثالث زيادة علم زيد عن علم عمر ويلزم من ذلك اشتراكهما في اصل العلم ومن البين
ان المتكلم قد يقصد من الكلام المدلول المطابقي غافلا عن مدلوله الالتزامي اعني
المشاركة في الامثلة المذكورة كما في الأخبار عن ان زيدا ابو عمرو غافلا عن ان
زيدا وطيء ام عمرو والا يلزم فسق اكثر المتكلمين لان في دلالة الألتزام في هذا
المثال واشباهه اهانة لعمرو اذا قيل ذلك في مجلس عام مثلا.
والحاصل منشأ
الاشكال في التعريف المذكور عدم الفرق بين ثبوت حكم
لشيئين وبين بيان مشاركة احدهما للآخر في ذلك الحكم ومن البين انهما
مفهومان متغايران متلازمان فليس دلالة الكلام على احدهما عين دلالته على الآخر وان
كان بينهما ملازمة فليس دلالة المتكلم على احدهما مستلزمة لدلالته اي المتكلم على
الآخر اذ ربما لا يكون الآخر مقصودا له اصلا فتأمل.
(والمراد به
ههنا ما لم يكن اي لمراد بالتشبيه المصطلح عليه في علم البيان هو الدلالة على
مشاركة أمر لآخر في معنى بحيث لا يكون على وجه الأستعارة التحقيقية) بان بطوي ذكر
المشبه وذكر لفظ المشبه به مع قرينة دالة على ارادة المشبه (نحو رأيت اسدا في
الحمام) والقرينة فيه هو الحمام فانه يدل على ان المراد بلفظ الاسد هو المشبه اعني
الرجل الشجاع.
(ولا) يكون (على
وجه الأستعارة بالكناية) وهو عند المصنف على ما يأتي ان يضمر التشبيه في النفس فلا
يصرح بشيء من اركانه سوى المشبه ويدل على ذلك التشبيه المضمر بان يثبت للمشبه امر
مختص بالمشبه به (نحو انشبت المنية اظفارها) والامر المختص بالمشته به الدال على
ذلك التشبيه المضمر في النفس هو الاظفار ولا يذهب عليك ان الأستعارة بالكناية انما
هي نفس اضمار التشبيه لا اثبات الاظفار فان اثباتها كما يأتي عن قريب استعارة
تخييلية.
(ولا) يكون (على
وجه التجريد) وهو على ما يأتي في علم البديع ان ينتزع من امر دي صفة امر آخر مثله
فيها مبالغة في كمالها فيه اي لاجل المبالغة لكمال تلك الصفة في ذلك الامر ذي
الصفة حتى كانه بلغ من الأتصاف بتلك الصفة الى حيث يصح ان ينتزع منه موصوف آخر
بتلك الصفة (نحو لقيت بزيد أسدا ولقيني منه أسد على ما سيجيء) توضيح ذلك
في علم البديع انشاء الله تعالى.
(فان في هذه
الثلاثة دلالة على مشاركة امر لآخر في معنى مع ان شيئا منها لا يسمى تشبيها في
الاصطلاح) وان وجد فيها معنى التشبيه يعم هي على ما ذكر تشبيه لغوي لأنه اعم من
الأصطلاحي فكل اصطلاحي لغوي ولا عكس فيجتمعان في نحو زيد اسد وينفرد اللغوي في هذه
الثلاثة (خلافا لصاحب المفتاح في التجريد فإنه صرح بأن نحو رأيت بفلان أسدا ولقيني
منه اسد من قبيل التشبيه فمعنى التشبيه في الاصطلاح عند المصنف هو الدلالة عمى
مشاركة أمر لآخر في معنى لا على وجه الأستعارة التحقيقية والأستعارة بالكناية
والتجريد و) لكن (ينبغي) كما قلنا آنفا (ان يزاد فيه) أي في التعريف قولنا بالكاف
ونحوه لفظا أو تقديرا ليخرج عنه) اي عن التعريف نحو قاتل زيد عمرا وجائني زيد
وعمرو) وزيد افضل من عمرو ونحو ذلك مما يدل على المشاركة التزاما حسبما بيناه.
(وانما قال
الاستعارة التحقيقية والاستعارة بالكناية لأن الاستعارة التخييلية وهي) كما نبهناك
آنفا (اثبات الاظفار للمنية في المثال المذكور) يعني في انشبت المنية اظفارها (ليس
فيه) اي في اثبات الاظفار للمنية (دلالة على مشاركة امر لآخر عند المصنف لان
المراد بالاظفار عنده معناه الحقيقي) الذي لا هو لازم وللمشبه به اعني الحيوان
المفترس فليس فيها الا ذكر لازم المشبه به فالمشاركة بين المشبه والمشبه به لا بين
لازم المشبه به اعني الاظفار وامر آخر نعم ذكر لازم المشبه به ليكون قرينة على
التشبيه المضمر في النفس (على ما سيجيء) بيانه (ان شاء الله تعالى فدخل فيه اي في
تفسير التشبيه الاصطلاحي ما يسمى تشبيها بلاخلاف) من احد (وهو ما ذكر فيه اداة
التشبيه نحو زيد كالاسد او كالاسد بحذف زيد)
الذي هو المشبه ومبتدء والحذف انما يكون (لقيام قرينة) عليه (و) دخل فيه (ما
يسمى تشبيها على القول المختار وهو ما حذف فيه اداة التشبيه وجعل المشبه به خبرا
عن المشبه او في حكم الخبر سواء كان مع ذكر المشبه او مع حذفه) وسيجيء تحقيق ذلك
قبيل بحث الحقيقة والمجاز ان شاء الله تعالى.
(الأول) أي ما
كان مع ذكر المشبه (نحو قولنا زيد اسد والثاني) اي ما كان مع حذف المشبه (نحو قوله
تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) بحذف المبتدء اي هم صم فان المحققين) كما يأتي في
الموضع المذكور (على انه يسمى تشبيها بليغا لا استعارة لان الاستعارة انما تطلق
حيث يطوى ذكر المستعار له) اي الرجل الشجاع مثلا (بالكلية ويجعل الكلام خلوا عنه
صالحا لان يراد به) اي بالكلام اي بلفظ الاسد مثلا (المنقول عنه) اي الحيوان
المفترس (والمنقول اليه) اي الرجل الشجاع (لو لا) القرينة الدالة على ان المراد هو
المنقول اليه وتلك القرينة اما حالية واليها اشار بقوله (دلالة الحال) وذلك كقولنا
رأيت اسدا اذا كان المراد رؤيته في موضع لا يمكن وجود الحيوان المفترس فيه فلو لا
هذه القرينة كان الكلام صالحا لان يراد بلفظ الاسد معناه الحقيقي اعني الحيوان
المفترس وان يراد به معناه المجازي المشبه اعني الرجل الشجاع واما مقالية واليها
اشار بقوله (او فحوى الكلام) نحو رأيت اسدا في يده سيف فلو لا هذه القرينة اللفظية
اعني بيده سيف كان الكلام صالحا للمعنيين حسبما ذكرنا في ذلك المثال هذا ولكن لا
يذهب عليك ان تسميه القرينة اللفظيه بالفحوى خلاف ما عليه الأصوليون لان الفحوى
عندهم عبارة عن المفهوم الموافقة فراجع كلامهم ان شئت.
وكأنه سميت
القرينة اللفظية ههنا بالفحوى لان فحوى الكلام في
اللغة معناه ومذهبه كما في المصباح وهذا نصه فحوى الكلام بالقصر وقد يمد
معناه ولحنه وفهمته من كلامه وفحوائه وفحا فلان بكلامه الى كذا يفحو فحوا من باب
على اذا ذهب اليه انتهى والقرينة في القرائن اللفظية انما هي معنى تلك الالفاظ لا
الالفاظ نفسها وذلك ظاهر فالقرينة في المثال المذكور معنى بيده سيف لا لفظه.
ومما يجب ان
يعلم في هذا المقام هو ان اشتراط عدم القرينة انما هو بالنسبة الى ارادة المنقول
عنه اعني الحيوان المفترس فهو شرط فيه لا المنقول اليه لأن القرينة سواء كانت
حالية أو مقالية مانعة عن إرادة المنقول عنه اعني المعنى الحقيقي لا المنقول اليه
اعني المعنى المجازي فتبصر.
(وسيجيء لهذا)
اي لكون نحو (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) تشبيها لا استعارة (زيادة تحقيق وتفصيل في آخر باب
التشبيه) يعني قبيل بحث الحقيقة والمجاز ان شاء الله تعالى (والنظر هنا في اركانه
اي البحث في هذا المقصد انما هو عن اركان التشبيه المصطلح وهي) اي الاركان (اربعة
طرفاه يعني المشبه والمشبه به ووجهه) اي وجه التشبيه (واداته) وسيذكر وجه تسمية
هذه الأربعة بالاركان (و) النظر هنا ايضا (في الغرض منه وفي اقسامه واطلاق الاركان
على الاربعة المذكورة اما باعتبار انها مأخوذة في تعريفه) التام (لانه) اي تعريفه
التام (هو الدلالة على مشاركة امر) هذا هو المشبه (لامر آخر) هذا هو الثاني اعني
المشبه به (في معنى) هذا هو الثالث اعني وجه التشبيه (بالكاف ونحوه) هذا هو الامر
الرابع اعني الاداة (واما باعتبار ان التشبيه في الاصطلاح كثيرا ما يطلق على) نفس (الكلام
الدال على المشاركة المذكورة نحو قولنا زيد كالاسد في الشجاعة).
والظاهر ان
الفرق بين الوجهين هو الفرق بين المعنيين للعكس على
ما ذكره محشى التهذيب وهذا نصه اعلم ان العكس كما يطلق على المعنى المصدري
المذكور كذلك يطلق على القضية الحاصلة من التبديل وذلك الاطلاق مجازي من قبيل
اطلاق اللفظ على الملفوظ والخلق على المخلوق انتهى فكذلك فيما نحن فيه المراد من
التشبيه في الوجه الاول هو المعنى المصدري وفي الوجه الثاني الكلام الدال على
المشاركة المذكورة فتدبر جيدا.
(طرفاه اما
حسيان) اي منسوبان الى الحسن وانما (قدم والبحث عن طرفيه لاصالتهما) وذلك لقوتهما
في التركيب اما قوتهما على وجه فذلك (لأن وجه التشبيه معنى قائم بالطرفين) فيكون
الوجه عارضا لهما والمعروض اقوى واصل بالنسبة للعارض لانه موصوف والوصف تابع له (و)
اما قوتهما على الاداة فلأن (الاداة الة لبيان التشبيه) وكثيرا ما يستغني عنها
ولان ذكر احد الطرفين) يعني المشبه به كما يصرح بذلك في اول الخاتمة (واجب البة
بخلاف الوجه والاداة) هذا في الكلام الذي اريد به التشبيه فلا يرد انه يقال نعم في
جواب هل زيد شبه الاسد فقد حذف فيه الطرفان.
(فالطرفان اعني
المشبه والمشبه به اما منسوبان الى الحس) بان يدركا باحدى الحواس الخمس الظاهرة
وهي البصر والسمع والشم والذوق واللمس والمراد ان المعلوم لنا من الحواس الظاهرة
خمس لا ان ممكن التحقق في نفس الامر او المتحقق فيها كذلك قال في الميبدى لجواز ان
يتحقق في نفس الامر حاسة اخرى لبعض الحيوانات وان لم نعلمها كما ان الأكمه لا يعلم
قوة الأبصار والعنين لا يعلم لذة الجماع انتهى.
(كالخد والورد)
الجزئيين اذا وقع التشبيه (في المبصرات) وذلك بان يقال خد زيد كهذا الورد في
الحمرة وانما قيدنا هما بالجزئيين اذ الكليان
غير حسيين بل عقليين لان كل كلي عقلي وعلى هذا القياس ما يأتي من الامثلة.
(والصوت الضعيف
والهمس) اذا كان التشبيه (في المسموعات) وذلك بان يقال هذا الصوت الضعيف كالهمس (والمراد
بالصوت الضعيف) ضعيف مخصوص وهو (الذي لا يسمع الا عن قريب لكنه لم يبلغ حد الهمس)
لا مطلق الضعيف الذي يصدق عليه الهمس والا لكان من تشبيه الأعم بالأخص اي بمنزلة
ان يقال الحيوان كالانسان وهو باطل فعليه يصح ان يقال صوت زيد كالهمس (وهو) اي
الهمس (الصوت الذي اخفى حتى كأنه لا يخرج عن فضاء الفم اي من وسطه (والنكهة وهي
ريح الفم والعنبر في المشمومات) وذلك حيث بشبه الاول بالثاني بان يقال نكهة زيد
كالعنبر في ميل النفس (والريق) وهو ماء الفم (والخمر في المذوقات) حيث يشبه الأول
بالثاني بان يقال ريق زيد كالخمر في اللذة والحلاوة لاهله كما اشار اليه الشاعر
الفارسي بقوله :
آن تلخوش كه
صوفي ام الخبائثش خواند
|
|
اشهى لنا
واحلى من قبلة العذارى
|
(والجلد الناعم والحرير في الملموسات)
حيث يشبه الاول بالثاني بان يقال جلد هند كالحرير في النعومة واللين.
(وهذا) المذكور
من الامثلة (كله مما فيه نوع تسامح الا في الصوت الضعيف والهمس والنكهة وذلك)
التسامح (لان المدرك بالبصر مثلا انما هو لون الخد والورد وبالشم رائحة العنبر
وبالذوق طعم الريق والخمر وباللمس ملاسة الجلد الناعم والحرير ولينهما لا نفس هذه
الاشياء لكونها اجساما) فلا بد في دفع هذا التسامح من تقدير مضاف في كلام الخطيب
بان يقال كلون الخد ولون الورد والنكهة وريح العنبر وطعم الريق وطعم الخمر
وملاسة الجلد الناعم وملاسة الحرير وقد يدفع التسامح بغير ذلك وهو قوله (لكنه قد
استمر في العرف ان يقال ابصرت الورد وشممت العنبر وذقت الحمر ولمست الحرير)
والمصنف جرى كلامه على ما جرى عليه العرف فجعل هذه الامور حسية فلا تسامح ولا
تقدير.
هذا كله على
مذهب الحكماء واما على مذهب المتكلمين فالمدرك بالحواس نفس هذه الاشياء وخواصها
معا فلا تسامح رأسا حتى يحتاج الى الدفع قال القوشجي في بحث احكام الاجسام اختلفوا
في ان الاجسام هل هي مرئية بذواتها ام لا فذهب الحكماء الى انها ليست مرئية
بذواتها بل المرئي اولا وبالذات هو الالوان والأضواء القائمة بسطوح الاجسام والا لرأى
الهواء لكنه غير مرئي لخلوه عنهما ثم العقل بمعاونة هذا الاحساس يحكم بان ما بين
تلك السطوح جواهر ممتدة في الجهات اعني الاجسام فهي مرئية ثانيا وبالعرض وذهب
المتكلمون الى انها مرئية بذواتها واختار المصنف هذا المذهب وادعى الضرورة في ذلك
واشار الى الجواب عما قالوا في الهواء من انه غير مرئي لخلوه عن الاضواء والالوان
بان رؤية الاجسام مشروطة بتكيفها بهما واستدلت الأشاعرة بانا نرى الطويل والعريض
والطول لا يجوز ان يكون عرضا لانه ثبت كون الجسم مركبا من الاجزاء التي لا تتجزى
فلو كان الطول عرضا لكان محله الجزء الواحد لاستحالة قيام العرض الواحد باكثر من
محل واحد فالجزء الموصوف بالطول يكون اكثر مقدارا مما ليس موصوفا به فيكون الطويل
قابلا للقسمة وهو محال واذا كان الطول نفس الجوهر والطويل مرئي فالجوهر مرئى وضعفه
ظاهر انتهى.
(او عقليان عطف
على قوله اما حسيان كالعلم والحياة) بان يقال العلم كالحياة (وجه لشبه بينهما
كونهما جهتي ادراك) اي طريقي ادراك (على ما سيجيء تحقيقه) عنقريب عند بيان كون وجه
التشبيه صفة حقيقية عقلية (او مختلفان بان يكون المشبه عقليا والمشبه حسيا او على
العكس فالاول كالمنية والسبع) بان يقال المنية كالسبع في اغتيال النفوس (فان
المنية اعني الموت عقلي لانه عدم الحياة عما من شأنه الحياة) اشارة الى ان بين
الموت والحياة تقابل العدم والملكة.
وذلك لان الموت
كما قال القوشجي زوال الحيوة عما اتصف بها كالعمى الطاريء بعد البصر لا كمطلق
العمى فلا يكون عدم الحيوة من الجنين موتا فعلي هذا يكون الموت عدميا مقابلا
للحيواة مقابلة العدم والملكة.
وقبل كيفية
وجودية تضاد الحيوة وعلى هذا ينبغي ان يحمل ما ذكره المعتزلة من ان الموت فعل الله
او من الملك يقتضي زوال حيوة الجسم من غير جرح واحترز بالقيد الاخير عن القتل وحمل
الفعل على الكيفية المتضادة مبني على ان المراد به الاثر الصادر عن الفاعل اذ لو
اريد به التأثير على ما هو الظاهر لكان ذلك تفسيرا للاماتة لا للموت.
وقد استدل على
كون الموت وجوديا بقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) فان العدم لا يوصف بكونه مخلوقا واجيب بان المراد
بالخلق التقدير (كما دل على ذلك قوله تعالى (نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) وهو اي التقدير يتعلق بالوجودي والعدمي جميعا او (المراد)
احداث اسباب الموت على حذف المضاف والامور العدمية قد يحدث بعد ان لم يكن يعني
يتصف الاشياء بها بعد ما كانت غير متصفة بها كالعمى فان احدا يصير اعمى بعد ان كان
بصيرا
فلا ضير لو اريد من الآية احداث نفس الموت والله العالم بكلامه ومن خوطب
به.
(والسبع حسي)
قال في المصباح ويقع السبع على كل ماله ناب يعدو به ويفترس كالذئب والفهد والنمر
واما الثعلب فليس بسبع وان كان له ناب لانه لا يعدو به ولا يفترس وقال ايضا
والسبعة اللبوة وهي اشد جرئة من السبع وتصغيرها وبها سميت المرئة.
(والثاني) اي
العكس اي ما كان المشبه حسيا والمشبه به عقليا (مثل العطر وخلق رجل كريم فان العطر
وهو الطيب) وهو كل ما له رائحة حسنة يميل النفس الصحيحة اليها كالمسك والعود
الهندي وامثالهما ولا شك ان كل واحد منها (محسوس) بالبصر ان قصد كون ذاته مشبها
وان قصد كون رائحته مشبهة فهي ايضا محسوس لكل بالشم (والخلق وهو كيفية نفسانية) اي
ملكة راسخة (تصدر عنها الافعال بسهولة) من غير روية وفكر (عقلي).
قال في المصباح
الخلق بضمتين السجية وقال نصير الدين ويضاد الخلق القدرة لتضاد احكامهما وقال
القوشجي اي لتضاد احكام القدرة والخلق فان القدرة صالحة لان يفع بها الضدان والخلق
لا يكون صالحا لان يقع به الضدان بل يكون صالحا لاحدهما فقط اذا الخلق ملكة للنفس
يصدر بها عنه فعل بلا روية وفكر وتضاد الاحكام يقضي تضادهما وقال في حاشية القوشجي
الخلق ملكة يصدر بها من النفس فعل من غير تقديم روية فالكيفية النفسانية اذا لم
تكن راسخة وقد صدر بها عن النفس فعل بلا فكر وروية لم يسم خلقا واذا كانت راسخة
فان لم يكن مبدء لصدور فعل عنها كالملكات العلمية الاعتقادية مثلا لم يكن خلقا
ايضا وكذا اذا كانت مبدء للصدور عنها بروية وتأمل واذا اجتمعت فيه الصفات المذكورة
سميت خلقا كما فيمن يكتب
شيئا من غير ان يتفكر في حرف وفيمن يضرب بالطنبور من غير ان يتفكر في نقر
نقرة.
واعلم ان
العلوم المتعلقة بكيفية العمل كالطب مثلا اذا كان مبدء لصدور تلك الاعمال بلا روية
وفكر كانت تلك الملكة خلقا واذا عرفت ما فصلناه ظهر لك بطلان ما قيل من ان التعريف
المذكور يقتضي ان يكون الصناعات علمية كانت او غيرها خلقا وليس كذلك فان علم الطت
والتفسير وغيرهما لا يقال له خلق.
واعلم ان اصول
الفضائل الخلقية ثلاثة الشجاعة والعفة والحكمة ومجموعها العدالة ولكل واحد من هذه
الثلاثة طرفان رذيلتان وانما كانت الاطراف رذائل لما فيها من الافراط والتفريط
والاوساط فضائل لخلوها عنهما ولهذا قيل خير الامور اوسطها واذا عرفت معنى العدالة
فالمقابل لها شيء واحد يستفاد من حاشية السيد وشرح حكمة الانشراق انتهى.
(وقيل ان تشبيه
المحسوس بالمعقول) كتشبيه العطر بخلق رجل كريم (غير جائز لان العلوم العقلية)
كحدوث العالم مثلا (مستفادة من الحواس ومنتهية اليها) فان الحدوث مثلا يدركه العقل
من تعير العالم المدرك بالحس وذلك بعد العلم ببطلان الدور والتسلل (ولذلك قيل من
فقد حسا فقد فقد علما يعني العلم المستفاد من ذلك الحس) مثلا من فقد حس البصر فقد
العلم بالمبصرات وكذلك سائر الحواس الخمس الظاهرة.
(واذا كان
المحسوس) منشأ و (اصلا للمعقول فتشبيهه) اي المحسوس (به) اي المعقول (يكون جعلا
للفرع اصلا والاصل فرعا) وذلك لما قال في حاشية التهذيب في بحث التمثيل وهذا نصه
اعلم ان تسمية هذا المعنى بهذا الاسم انما هو اصطلاح ارباب المعقول واما الفقهاء
فيسمونه قياسا
والجزئي الاول المشبه فرعا والجزئي الثاني المشبه به اصلا والمعنى المشترك
بينهما الموجت لثبوت الحكم في الاصل علة جامعه وعلة الحكم انتهى فبجعل المحسوس
الذي هو منشأ واصل للمعقول مشبها وجعل المعقول الذي هو فرع للمحسوس مشبها به يلزم
ما ذكر (وهو غير جائز) الا في ما يأتي من التشبيه المقلوب (فلذلك لو حال المحاول
المبالغة في وصف الشمس بالظهور والمسك بالطيب فقال الشمس كالحجة في الظهور والمسك
كخلق فلان في الطيب كان سخيفا) اي ناقصا (من القول) قال في المصباح سخف الثوب سخفا
وزان قرب قربا وسخافة بالفتح رق لقلة غزله فهو سخيف ومنه قيل رجل سخيف وفي عقله
سخف اي نقص وقال الخليل السخف في العقل خاصة والسخافة عامة في كل شيء انتهى.
(واما ما جاء
في) بعض (الاشعار من تشبيه المحسوس بالمعقول) وذلك كقول محمد بن وهب الآتي في
التشبيه المقلوب (فوجهه) اي وجه حسنه وعدم سخافته (ان يقدر) اي يفرض (المعقول
محسوسا ويجعل كالاصل لذلك المحسوس على طريق المبالغة فيصح التشبيه) ويحسن حينئذ)
وقد يأتي بيان المبالغة هناك انشاء الله تعالى.
(ثم) قد تقدم
المراد من كلمة ثم في امثال المقام فيما سبق فلا نعيده (لما كان من المشبه والمشبه
به ما هو غير مدرك بالحواس الظاهرة ولا بالقوة العاقلة) وذلك (مثل الخياليات
والوهميات والوجدانيات) وسيأتي المراد من كل واحد منها بعيد هذا (اراد ان يدخلها)
اي هذه الثلاثة أي بعضها وهو الخيالي (في الحسي و) بعضها الآخر اي الوهمي
والوجداني (في العقلي) وذلك (تقليلا للاعتبار وتسهيلا للامر على الطلاب لانه كلما
قل الاعتبار قلت الاقسام واذا قلت الاقسام كان اسهل ضبطا فأشار الى
تعميم تفسير الحسى والعقلي) فانه لو لا التعميم لكان الاقسام خمسة وعشرين
الحاصلة من ضرب الخمسة اعني الحسي والعقلي والخيالي والوهمي والوجداني في الخمسة
نفسها بأن يقال المشبه اذا كان حسيا فالمشبه به اما حسي او عقلي او خيالي او وهمي
او وجداني فهذه خمسة اقسام وهكذا يقال في البواقي.
وبعد التعميم
اي بعد ادخال بعض الثلاثة في الحسي وبعضها الآخر في العقلي حسبما بيناه صارت
الاقسام اربعة حاصلة من ضرب اثنين في اثنين بان يقال المشبه حسي والمشبه به اما
حسي او عقلي هذا اثنين او المشبه عقلي والمشبه به اما عقلي او حسي هذا ايضا اثنين
فصارت الاقسام اربعة.
(بقوله والمراد
بالحسي المدرك هو او مادته باحدى الحواس الخمس الظاهرة وهي البصر والسمع والشم
والذوق واللمس فدخل فيه) اي في الحسي (اي بسبب زيادة قولنا او مادته دخل في الحسى
الخيالي وهو المعدوم الذي) لا يوجد في الخارج اصلا لكن (فرض) وجوده حال كونه (مجتمعا
من) عدة (امور كل واحد منها يدرك بالحس) فهذا المعدوم مصداق قولنا او مادته.
فان قلت تقليل
الاقسام لتسهيل الضبط يحصل على تقدير تفسير الحسي بمعناه المشهور اعني المدرك
باحدى الحواس وتفسير العقلي بما عداه فيدخل فيه الخيالي مع ان هذا اولى من حيث ان
فيه تجوزا في العقلي فقط بخلاف ما ذكر فان فيه تجوزا في تفسير كل منهما ومن
المعلوم ان قلة المجاز اولى.
قلت الحامل له
على ما ذكر ان ادخال الخيالي في الحسي انسب لقريه منه من حيث انه يدرك من حيث
مادته في الحس وقد اورد على ذلك بان ادخاله في الحسي نظرا الى الحيثية المذكورة
ليس باولى من ادخاله في العقلي
من حيث نفسه فان العقلي يدرك نفس الخيالي فالاولى في الجواب ان يقال الحامل
له على جعل الخيالي من قبيل المحسوس اشتراك الحواس والخيال في ادراك الصور وان كان
الحس يدركها بسبب حضور المادة والخيال يدركها بدون ذلك.
(كما اي
كالمشبه به في قوله وكان محمر الشفيق هو من باب جرد قطيفة) اي من باب اضافة السفة
الى موصوفها فالاصل الشقيق المحمر قدمت الصفة على الموصوف واضيفت اليه كما في جرد
قطيفة فان الاصل فيه قطيفة جرداء قال السيد نعمة الله في حاشية الجامي في بحث
الاضافة القطيفة كساء له خمل كثير ومعنى قطيفة جرد قطيفة متعرية عن الخمل اي ذهب
خملها من كثر اخلاقها وقال محش اخر بالفارسية (جرد ريشه رفته از كهنكي وفرسودكي)
وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في بحث تقديم المسند اليه نقلا عن الرضى ولنا في
المكررات في بحث الاضافة كلام يناسب المقام فراجع ان شئت.
(اراد به) اي
بمحمر الشقيق (شقايق النعمان وهو ورد احمر في وسطه سواد) اظن انه يسمى بالفارسية
كل لا لك او كل چهل دختران وهو كثير الانتشار في بلخ في افغانستان ونواحيها (وانما
اضيف) ونسب (الى النعمان) وهو بضم النون احد ملوك العرب في الحيرة (لانه حمى ارضا
كثر فيها ذلك) الورد قال في المصباح حميت المكان من الناس حميا من باب رمى وحمية
بالكسر منعته عنهم والحماية اسم منه واحميته بالالف جعلته حمى لا يقرب ولا يجترئ
عليه قال الشاعر :
وترعى حمى
الاقوام غير محرم
|
|
علينا ولا
يرعى حمانا الذي نحمي
|
واحميته بالألف
ايضا وجدته انتهى محل الحاجة من كلامه والى هذا المعنى اشار في التجريد في بحث
مطاعن عثمان حيث يقول ومنها انه حمى
لنفسه من المؤمنين وذلك خلاف الشرع لأن النبي جعل الناس في الماء والكلاء
شرعا فقال القوشحي واجيب بان اخذ الحمى لم يكن لنفسه بل لنعم الصدقة والجزية
والضوال وكان ذلك في زمن الشيخين ايضا الا انه زاد في عهد عثمان لازدياد شركة
الاسلام انتهى فتأمل.
(اذا تصوب اي
مال الى السفل) مأخوذ (من صاب المطر اذا نزل او تصعد اي مال الى العلو) وميله الى
السفل والعلو بتحريك الريح (اعلام جمع علم وهي الراية ياقوت) اي الحجر النفيس
المعلوم بشرط ان يكون احمر وهو الاغلب في الياقوت (نشرن على رماح من زبرجد) وهو
حجر نفيس اخضر قليل الوجود الشاهد في هذا المصراع (فان الاعلام الياقوتية المنشورة
على الرماح الزبرجدية مما لا يدركه الحس) أصلا (لأن الحس انما يدرك ما هو موجود في
المادة حاضر عند المدرك) بكسر الراء (على هيئات محسوسة مخصوصة) والاعلام المذكورة
بتلك الهيئة التي وقع التشبيه عليها ليست مما يوجد عادة (لكن مادته) اي مادة
المشبه به اي الاعلام المذكورة (التي تركب هو) اي المشبه به (منها) اي من المادة (كالاعلام)
اذا لم تكن ياقوتية (والياقوت) اذا لم يكن علما (والرماح) اذا لم تكن من زبرجد (والزبرجد)
اذا لم يكن رماحا (كل منها محسوس بالبصر) وذلك واضح لا يحتاج الى البيان.
(و) المراد (بالعقلي)
بعد التعميم (ما عدا ذلك اي المراد بالعقلي ما لا يكون هو ولا مادته مدركا باحدى
الحواس الخمس الظاهرة فدخل فيه) اي في العقلي بهذا المعنى الاعم (الوهمي) وهو (الذي
لا يكون للحس مدخل فيه) اي لا في نفسه ولا في مادته (لكونه غير منتزع منه) اي من
الحس اصلا لا مادته ولا نفسه (بخلاف الخيالي فانه منتزع منه) اي من الحس
حسبما بيناه (ولهذا) اي ولكون الوهمي لا يكون للحس مدخل فيه (قال) في
تفسيره (اي ما هو غير مدرك بها اي باحدى الحواس) الخمس (المذكورة ولكنه) اي الوهمي
(بحيث لو ادرك) على سبيل الفرض والتقدير كما يفرض المحالات (لكان مدركا بها) اي
باحدى الحواس لكنه ليس مما يوجد لا هو ولا مادته فالوهمي يتميز عن الخيالي بان لا
وجود للوهمي لا نفسه ولا مادته بخلاف الخيالي فان مادته موجودة حسبما بيناه (وبهذا)
اي بانه لو ادرك لكان مدركا باحدى الحواس (يتميز عن العقلي) بالمعنى الاخص فانه لو
ادرك لم يدرك الا بالعقل.
(كما في قوله
اي كالمشبه به) الوهمي (في قول امرء القيس) :
ايقتلني
والمشرفي مضاجعي
|
|
ومسنونة زرق
كأنياب اغوال
|
(يقول ايقتلني ذلك الرجل الذي
يوعدني في حب سلمى والحال ان مضاجعي وملازمي سيف منسوب الى مشارف اليمن) قال في
المصباح سيف مشرفي قيل منسوب الى مشارف الشام وهي ارض من قرى العرب تدنو من الريف
وقيل هذا خطأ بل هي نسبة الى موضع من اليمن انتهى والريف ارض فيها زرع وخصب (و)
ايضا ملازمي ومضاجعي (سهام محددة النصال) اي الرؤوس (يقال سن السيف اذا حدده ووصف
النصال بالزرقة للدلالة على صفائها و) على (كونها مجلوة) والشاهد في انياب الاغوال
(فان انياب الأغوال مما لا يدركه الحس لعدم تحققها) (وذلك لأن نفس الغول كما في
بعض كتب اللغة حيوان لا وجود له فكيف بأنيابه (مع انها لو ادركت) على سبيل الفرض
والتقدير (لم تدرك الا بحس البصر) لا بالعقل فتأمل.
(ومما يجب التنبيه
له في هذا المقام) اي مقام بيان الخيالي والوهمي
(ان ليس المراد بالخياليات الصور المرتسمة في الخيال المتأدية اليه من طرق
الحواس ولا بالوهميات المعاني الجزئية المدركة بالوهم على ما سبق تحقيقها) مستقصى (في
بحث الفصل والوصل وذلك) اي عوم كون المراد بالخياليات الصور المذكورة وبالوهميات
المعاني المذكورة (لان الاعلام الياقوتية ليست مما تأدت الى الخيال من الحس
المشترك اذ لم يقع بها احساس قط) وكل ما لم يقع بها احساس لم يؤد الى الخيال. (ولان
انياب الاغوال ورؤوس الشياطين) في قوله تعالى (شَجَرَةٌ تَخْرُجُ
فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (ليست من المعاني الجزئية) كصداقة زيد وعداوة عمرو (بل هي صور لانها ليست
مما لا يمكن ان يدرك بالحواس الظاهرة بل اذا وجدت لم تدرك الا بها وليست ايضا مما
له تحقق كصداقة زيد وعداوة عمرو) والحاصل ان المثالين الذين ذكرهما المصنف لا يصدق
عليهما الخيالي والوهمي بالمعنيين المذكورين قال الخطيب فيما سبق فان قلت ان رؤوس
الشياطين قد يقع بها الاحساس للانبياء والاولياء قلت نعم ولكن لا على الوجه الذي
وقع التشبيه عليها وهو كونها على الوجه الاقبح قال في الهداية في بحث الحواس واما
التي في الباطن فهي ايضا خمس بالاستقراء الحس المشترك والخيال والوهم والحافظة
والمتصرفة عد المصنف جميعها من المدركة مع ان القوة المدركة ههنا هي الحس المشترك
والوهم فقط لان الباقي يعين على الادراك اما الحس المشترك ويسمى باليونانية
نبطاسيا اي لوح النفس فهو قوة مرتبة في مقدم تجويف الاول من التجاويف الثلاثة التي
في الدماغ تقبل جميع
الصور المنطبعة في الحواس الظاهرة فهؤلاء كجواسيس لها ولذا سمي حسا مشتركا
وهي غير البصر لأنا نشاهد القطرة النازلة خطا مستقيما والنقطة الدائرة بسرعة خطا
مستديرا وليس ارتسامها في البصر اذ البصر لا يرتسم فيه الا المقابل وهو القطرة
والنقطة فاذن ارتسامهما انما يكون في قوة اخرى غير البصر ترتسم فيها صورة القطرة
والنقطة وتبقى قليلا على وجه تنصل الارتسامات البصرية المتتالية بعضها بالبعض
فيشاهد خط واحد.
واما الخيال
فهو قوة مرتبة في مؤخر التجويف الاول من الدماغ عند الجمهور تحفظ (قوة الخيال)
جميع صور المحسوسات وتمثلها بعد الغيبوبة وهي خزانة الحس المشترك فانا اذا شاهدنا
اولا صورة ثم ذهلنا عنها زمانا ثم شاهدنا مرة اخرى نحكم عليها بأنها هي التي
شاهدناها قبل ذلك فلو لم تكن تلك الصورة محفوظة فينا زمان الذهول لامتنع الحكم
بأنها هي التي شاهدناها قبل ذلك.
واما الوهم فهو
قوة مرتبة في الدماغ كله لكن الاخص بها هو آخر التجويف الاوسط من الدماغ يدرك
المعاني وهي ما لا يدرك بالحواس الظاهرية الجزئية الموجودات في المحسوسات كالقوة
الحاكمة في الشاة بان الذئب مهروب عنه والولد معطوف عليه.
واما الحافظة
فهي قوة مرتبة في اول التجويف الآخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من
المعاني الجزئية الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات وهي خزانة القوة الوهمية.
واما المتصرفة
فهي قوة مرتبة في البطن اي التجويف الاوسط من الدماغ وسلطانها في الجزء الاول من
ذلك التجويف من شأنها تركيب بعض ما في الخيال والحافظة من الصور والمعاني مع بعض
وتفصيله عنه.
وهذه القوة اذا
استعملها العقل في مدركاتها بضم بعضها الى بعض او فصله عنه سميت متفكرة لتصرفها في
المواد الفكرية واذا استعملها الوهم في المحسوسات مطلقا (اي سواء كانت ظاهرة او
باطنة وسواء كانت صورا او معاني وسواء كانت في الخيال او غيره) سميت متخيلة
لتصرفها في القوة الخيالية.
فان قيل كيف
يستعملها الوهم في الصور المحسوسة مع انه ليس مدركا لها اجيب بان القوى الباطنة
كالمرايا المتقابلة فينعكس الى كل منها مأ ارتسم في الاخرى والوهمية هي سلطان تلك
القوى فلها تصرف في مدركاتها بل لها تسلط على مدركات العاقلة فتنازعها وتحكم عليها
بخلاف احكامها.
(مثلا ان
الخائف من الميت قد يرتب عاقلته قياسا وهو ان هذا ميت وكل ميت جماد فهذا جماد وكل
جماذ لا يخاف منه فهذا لا يخاف منه ومع ذلك القوة الوهمية تنازع العاقلة وتحكم
عليها ويخاف ذلك الحي من الميت.
واما القوة
المحركة فينقسم الى باعثة وفاعلة اما الباعثة وتسمى شوقية فهي القوة التي اذا
ارتسمت في الخيال صورة مطلوبة او مهر وباعثها حملت اي تلك القوة الفاعلة على
التحريك اي تحريك الاعضاء وهي اي الباعثة ان حملت الفاعلة على تحريك يطلب به
الاشياء المتخيلة سواء كانت ضارة في نفس الامر او نافعة طلبا لحصول اللذة تسمى قوة
شهوانية لان حملها هذا تابع للشوق الى تحصيل الملائم المسمى شهوة.
وان حملت
الباعثة الفاعلة على تحريك يدفع به الشيء المتخيل سواء كان ضارا في نفس الامر او
مفيدا طلبا للغلبة تسمى قوة غضبية لابتناء هذا الحمل على الشوق الى دفع امر
المنافر المسمى غضبا والنفس باعتبار هاتين
القوتين اعني الشهوانية والغضبية تسمى امارة.
واما الفاعلة
وهي التي تعد العضلات بقبضها وبسطها وتشنجها وارخائها على التحريك انتهى بادنى
اختصار وزيادة للتوضيح فاحفظه فانه يفيدك فيما يأتي من المباحث جدا لا سيما في
قوله (بل التحقيق في هذا المقام) ما تقدم في بحث الفصل والوصل وهو (ان من قوى
الادراك ما) اي قوة واحدة (يسمى) باسمين باعتبارين مختلفين يذكرهما بعبد هذا فباحد
الاعتبارين الآتيين يسمى.
(متخيلة و)
باعتبار الآخر يسمى (مفكرة ومن شأنها) اي شان تلك القوة الواحدة المسماة باسمين
باعتبارين (تركيب الصور) التي في الخيال فتركب بعض تلك الصور مع بعض (و) تركيب (المعاني)
المرتسمة في الحافظة فتركب بعضها مع بعض (و) من شانها ايضا (تفصيلها) اي تحليلها
اي القاء التفرقة بين الصور وكذلك المعاني والفصل بينها (و) الحاصل ان من شأنها (التصرف
فيها) اي في الصور والمعاني (واختراع) اشياء لا حقيقة لها) اما تركيب الصور فهو (كانسان
له جناحان او رأسان) وكتركيب رأس الحمار على جثة انسان واما تفصيلها وتفرقتها فهو
كانسان لا يد له (او لا رأس له) واما تركيب المعاني ولو على وجه لا يصح فهو كتركيب
العداوة مع المحبة او الحلاوة مع المرارة واما تركيب الصور مع المعاني فكتركيب
الحمار مع العداوة والشجر مع الضحك واما تفصيل الصور من المعاني فكنفي النطق عن
الانسان والحركة عن الحيوان.
(وهي) اي تلك
القوة الواحدة المسماة باسمين باعتبارين (دائما لا تسكن نوما ولا يقظة وليس عملها
منتظما بل النفس هي التي تستعملها على اي نظام تريد بواسطة القوة الوهمية وبهذا
الاعتبار تسمى متخيلة او
بواسطة القوة العقلية وبهذا الاعتبار تسمى مفكرة فالمراد بالخيالي) في
المقام ليس الصور الموجودة المرتسمة في الخيال المتأدية اليه من طرق الحواس بل (هو)
كما سبق آنفا (المعدوم الذي) فرض مجتمعا اي (ركبته المتخيلة من الامور التي ادركت
بالحواس الظاهرة) فحاصل الفرق بين الخيالي ههنا والخيالي الذي سبق تحقيقها في بحث
الفصل والوصل ان الخيالي ههنا معدوم كالاعلام الباقوتية على رماح من زبرجد
والخيالي هناك موجود.
(و) كذلك ليس
المراد (بالوهمي) ههنا المعاني الجزئية المدركة بالوهم بل المراد بالوهمي ههنا (ما
اخترعته المتخيلة من عند نفسها) وان لم يكن لها واقع اصلا (كما اذا سمع) الانسان (ان
الغول شيء يهلك الناس كالسبع فاخذت) اي شرعت (المتخيلة في تصويرها بصورة السبع و)
في (اختراع ناب لها كما للسبع) فحينئذ يحكم بانه يجب ان يبتعد من مكان يحتمل ان
يكون فيه غول والحال انه اي الغول لا واقع لها كما اشرنا الى ذلك آنفا.
(و) دخل فيه
ايضا (ما يدرك بالوجدان اي ودخل ايضا في العقلي) بالمعنى الاعم (ما يدرك بالقوة
الباطنة وتسمى) كل واحدة من تلك القوى وجدانا والمدركات بها (وجدانيات) وذلك بسبب
تكيف تلك القوى بها فتدركها النفس بها وانما دخل ما يدرك بها في العقلي لخفائها
وعدم ادراكها بالحواس الظاهرة قال القوشجي في بحث تقسيم العلم واما المشاهدات فهي
قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحواس الظاهرة ويسمى حسيات كالحكم بان الشمس نيرة
والنار حارة او الباطنة ويسمى وجدانيات.
(كاللذة والالم
الحسيين) وانما قيدهما بذلك (فانه المفهوم من اطلاقهما بخلاف اللذة والالم
العقليين فانهما ليسا من الوجدانيات بل من العقليات الصرفة كالعلم والحياة) فانهما
اي العلم والحياة من العقليات الصرفة.
قال القوشجي ما
يوضح ذلك وهذا نصه لما كان كل من اللذة والالم ادراكا والادراك اما حسي او عقلي
كان كل من اللذة والالم أيضا قسمين حسية وعقلية والحسية اما ظاهرة تتعلق بالحواس
الظاهرة واما باطنة تتعلق بالحواس الباطنة واللذة الحسية الباطنة اقوى من الظاهرة
لانها اثر عند العقلاء فان المتمكن من غلبة ما ولو في امر خسيس كالشطرنج والنرد قد
يعرض له منكوح بهي ومطعوم شهي فيرفضه لما يعتاضه من لذة الغلبة الوهمية ومرتبة
اللذة العقلية اقوى منهما جميعا فان اللذة تتفاوت بحسب تفاوت الادراك والمدرك فان
القوة المدركة كل ما كان في نفسها اشرف واقوى يكون لذاتها اتم واقوى كما ان لذة
العين الصحيحة من جمال الحبيب اقوى من لذة العين المريضة وكذلك الادراك ما كان اقوى
يكون اللذة اكثر كما ان العاشق اذا رأى معشوقة من مسافة اقرب يكون اللذة اكثر
وكذلك المدرك ما كان اشرف كان اللذة في نيله اعظم فان المعشوق المنظور ما كان احسن
يكون لذة رؤيته اكثر ولما كان القوة العقلية اشرف من القوى الحسية لانها مجردة وهي
منغمسة في الشوائب المادية وادراكها اقوى لانها عاقلة بذاتها وادراك القوى الحسية
بالآلات ومدركات العقل اشرف لانها مجردات مبرات عن الشوائب المادية ومدركات القوى
ماديات منغمسة في الشوائب لا جرم يكون اللذة العقلية اقوى من سائر اللذات وعلى هذا
القياس حال الالم انتهى.
(وتحقيق ذلك ان
اللذة ادراك ونيل لما هو عند المدرك كمال وخير) وانما قيد بكونه كذلك عند المدرك
لان المعتبر كماليته وخيريته بالقياس الى المدرك لا بالنسبة لنفس الامر لانه قد
يعتقد الكمالية والخيرية في شيء فيلتذ به وان لم يكونا فيه وقد لا يعتقدهما فيما
تحققتا فيه قلا يلتذ به كادراك
الدواء النافع مهلكا فهذا الم لا لذة (من حيث هو كذلك) اي من حيث هو كمال
وخير (وكل منهما حسي وعقلي اما الحسي فكأدراك القوة الغضبية او الشهوية ما هو خير
عندها وكمال كتكيف الذائقة بالحلو واللامسة باللين والباصرة بالملاحة والسامعة
بصوت حسن والشامة برائحة طيبة والمتوهمة بصورة شيء ترجوه وكذلك البواقي فهذه
مستندة الى الحس.
واما العقلي
فلا شك ان للقوة العاقلة كمالا وهو ادراكاتها المجردات اليقينية وانها تدرك هذا
الكمال وتلتذ به وهو اللذة العقلية وقس على هذا الالم.
واللذة العقلية
ليست من الوجدانيات المدركة بالحواس الباطنة وكذا الالم وهذا ظاهر واما اللذة
والالم الحسيان فلما كانا عبارتين عن الادراكين المذكورين) اي الغضبية والشهوية (والادراك
ليس مما يدركه الحواس الظاهرة دخلا) جواب فلما (بالضرورة فيما عدا المدرك باحدى
الحواس الظاهرة وليستا من العقلبات الصرفة لكونهما من الجزئيات المستندة الى
الحواس بل من الوجدانيات المدركة بالقوى الباطنة كالشبع والجوع والفرح والغم
والغضب والخوف وما شاكل ذلك) كالصداقة والعداوة ونحوهما.
قال القوشجي ما
يوضح ذلك وهذا نصه من الكيفيات النفسانية اللذة والالم وتصورهما بديهي كسائر
الوجدانيات وقد يفسر ان قصدا الى تعيين المسمى وتلخيصه فيقال اللذة ادراك الملائم
من حيث هو ملائم والالم ادراك المنافر من حيث هو منافر والملائم هو كمال الشيء
الخاص به كالتكيف بالحلاوة والدسومة للذائقة واستماع النغمات الطيبة للسامعة
والرفعة والغلبة للغضبية وادراك حقائق الاشياء واحوالها على ما هي عليه للقوة
العقلية.
وقولنا من حيث
هو ملائم لان الشيء قد يلائم من وجه دون وجه
كالدواء الكريهة اذا علم ان فيه نجاة من العطب والهلاك فانه ملائم من حيث
اشتماله على النجاة وغير ملائم بل منافر من حيث اشتماله على ما تنفر الطبيعة عنه
فادراكه من حيث انه ملائم يكون لذة دون ادراكه من حيث انه منافر.
وبهذا ايضا
تظهر فائدة قيد الحيثية في تعريف الالم وفيما ذكرنا يظهر ان كلا من اللذة والالم
ادراك مخصوص من حيث انه اضيف الى مدرك مخصوص هو الملائم في اللذة والمنافر في
الالم والى هذا المعنى اشار المصنف يعني خواجه نصير الدين الطوسي بقوله (وهما
نوعان من الادراك تخصيصا باضافة) ثم المعتبر هو الملائمة والمنافرة بالقياس الى
المدرك لا في نفس الامر لأنه قد يعتقد احد الملايمة في شيء ما فيلتذ به وان لم يكن
ملايما له وقد يعتقد المنافرة في شيء فيتألم به وان لم يكن منافرا له والى هذا
المعنى اشار بقوله (ويختلف بالقياس) اي يختلف اللذة والالم بالقياس الى المدرك فان
امرا بعينه يلتذ به احد ويتألم به آخر انتهى.
(ووجهه ما
يشتركان فيه اي وجه التشبيه هو المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه) وذلك الاشتراك
يكون (تحقيقا) بان يكون متقررا في كل واحد من الطرفين على وجه التحقق كما في تشبيه
زيد بالاسد (او) يكون ذلك الاشتراك (تخييلا) اي على وجه التخييل والتوهم بان لا
يكون ثابتا فبهما وفي احدهما حقيقة ولكن يثبته الوهم بتأويل الشيء الغير المحقق
محققا كعادة الوهم في احكامه الغير الواقعة في نفس الامر وهذا المقدار من التحقق
كاف في التشبيه والحاق المشبه بالمشبه به.
(والا) اي وان
لم يكن وجه التشبيه المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه (فزيد والاسد في قولنا زيد
كالاسد يشتركان في) امور كثيرة كا (الوجود والجسمية والحيوانية وغير ذلك من
المعاني مع ان شيئا منها
ليس وجه التشبيه) ولا يذهب عليك ان ظاهر هذا الكلام ينافي ما يأتي عن قريب
من ان وجه التشبيه اما غير خارج عن حقيقتهما كما في تشبيه ثوب بآخر اللهم الا ان
يقال ان ذلك اذا لم يقصد كون احد هذه الاشياء وجه التشبيه والا فلا مانع من كونه
وجه التشبيه فليس المراد انه لا يصلح ان يكون احد هذه الاشياء وجه التشبيه اصلا
قصد جعله وجه التشبيه اولا ولذلك قال.
(فالمراد) مما
يشتركان فيه (المعنى الذي له زيادة اختصاص بهما وقصد بيان اشتراكهما فيه ولهذا) اي
لكون المراد ما ذكر (قال الشيخ عبد القاهر التشبيه الدلالة على اشتراك الشيئين في
وصف هو من اوصاف الشيء في نفسه خاصة) يعني يكون لذلك الوصف زيادة اختصاص به (كالشجاعة
في الاسد) وفي زيد (و) كا (لنور في الشمس) وفي وجه زيد مثلا.
(والمراد
بالتخييلي) المذكور بقوله او تخييلا (ان لا يوجد ذلك) كما قلنا آنفا (في احد
الطرفين او في كليهما الا على سبيل التخيل والتأويل نحو ما في قوله اي مثل وجه
الشبه في قول القاضي التنوخي وكان النجوم بين دجاها جمع دجية وهي الظلمة والضمير)
المؤنث (لليالي) المستفادة من كلمة رب الداخلة على ليل في قوله رب ليل قطعته بصدود
الدالة على التكثر والتعدد والقرينة على ذلك ان العاشق لا يشتكي من الم الفراق في
ليلة واحدة (او) الضمير عائد الى (النجوم) والاضافة في دجاها لادنى ملابسة لأن
النجوم واقعة في دجى الليل (سنن لاح) اي ظهر (بينهن ابتداع) أي بدعة وهي الشيء
الذي ادعى انه ورد في الشرع مع انه ليس كذلك كما ان السنة ما ورد في الشرع وكان
مأمورا به.
(فان وجه الشبه
فيه اي في التشبيه المذكور في هذا البيت هو الهيئة الحاصلة من حصول اشياء مشرقة
بيض في جوانب شيء مظلم اسود فهي اي تلك الهيئة غير موجودة في المشبه به) اي في
قوله سنن لاح بينهن ابتداع لان السنن ليست اجراما حتى تكون مشرقة وكذلك البدعة
ليست اجراما حتى تكون مظلمة.
(الا على سبيل
التخييل) اي تخييل الوهم كونه حاصلا (وذلك اي بيان وجوده في المشبه به على طريق
التخييل انه) هذا (الضمير للشأن لما كانت البدعة وكل ما هو جهل) وضلالة (تجعل
صاحبها) والعامل بها (كمن يمشي في الظلمة فلا يهتدي) اي لا يصل (للطريق فلا يامن
من ان ينال مكروها) يتأذى به (شبهت البدعة وكل ما هو جهل بها اي بالظلمة فقوله
شبهت جوات لما ولزم) من ذلك اي من تشبيه البدعة بالظلمة (بطريق العكس) اي المقابلة
والضدية (ان تشبه السنة وكل ما هو علم بالنور لان السنة والعلم تقابل البدعة
والجهل) والتقابل بينهما من قبيل تقابل التضاد (كما ان النور يقابل الظلمة) كذلك
ومن البديهي ان ما يترتب على الشيء من حيث هو ضد لا يترتب على مقابلة وضده والا
لأنتفت المقابلة والضدية.
(وشاع ذلك)
التشبيه (اي كون البدعة والجهل كالظلمة والسنة والعلم كالنور حتى تخيل) من شيوع
ذلك التشبيه وكثرة استعماله (ان الثاني اي السنة وكل ما هو علم مما له بياض) اي من
الاجرام التي لها بياض (واشراق).
وقد جاء نظير
ذلك في كلام من هو افصح من نطق بالضاد (نحو) قوله (ص) (اتيتكم بالحنفية البيضا)
فانه (ص) وصف دين الاسلام واحكامه
بالبياض لتخيل انها من الاجرام التي لها بياض واشراق والحنفية في كلامه (ص)
صفة لمحذوف اي بالملة او الشريعة الحنفية نسبة الى الحنيف وهو المائل عن كل دين
سوي دين الحق وعني به اي بالحنيف ابراهيم (ص).
(والاول على
خلاف ذلك اي وتخيل ان البدعة وكل ما هو جهل مما له سواد واظلام كقولك شاهدت سواد
الكفر من جبين فلان) مع ان الكفر لا سواد له حقيقة بل تخيلا والجبين ما بين العين
والاذن الى جهة الرأس ولكل انسان جبينان يكتنفان الجبهة وانما خص الشهود بالجبين
مع ان المراد شهوده من الوجه كما قال (ص) الفقر سواد الوجه في الدارين إذ هو اول
ما يبدو عند الالتفات حيث يقصد تتبع الشخص ليظهر وجهه.
(فصار اي بسبب
تخيل ان الثاني) اي السنة وكل ما هو علم (مما له بياض واشراق والاول) اي البدعة
وكل ما هو جهل (مما له سواد واظلام) الاولى ان يقول وظلمة فكانه راعى المطابقة
لقول المصنف واشراق (صار تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع كتشبيهها اي
مثل تشبيه النجوم ببياض المشيب) اي بالذي تحقق فيه وجه التشبيه حسا كالشعر الابيض
وقت المشيب الكائن في سواد الشباب) اي في الشعر الاسود (اي ابيضه في اسوده فيما
سواده متحقق او) صار تشبيه النجوم بالسنن بين الأبتداع كتشبيهها (بالانوار) جمع
النور بفتح النون كما في قول ابن مالك :
وشاع فحو خاف
ربه عمر
|
|
وشذ نحو زان
نوره الشجر
|
(اي الازهار) حالكون تلك الانوار (مؤتلقة)
هذا (بالقاف اي لامعة) ظاهرة (بين النبان الشديد الخضرة) حتى مال بشدة الخضرة الى
السواد (فيما سواده بحسب الأبصار فقط) لا التخييل (فظهر) من هذا
البيان (اشتراك النجوم بين الدجى والسنن بين الابتداع في كون كل منهما شيئا
ذا بياض بين شيء ذي سواد على طريق التاويل وهو) اي التأويل (تخيل ما ليس بمتلون)
يعني البدعة وكل ما هو جهل (متلونا) والحاصل انه ظهر مما قررنا ان تشبيه النجوم
بين الدجى بالسنن بين الابتداع صحيح وذلك لوجود وجه التشبيه في الطرفين وان كان في
السنن بين الابتداع انما هو بطريق التأويل اي تخييل ان ما ليس بمتلون متلونا فصح
ان يقال ان وجه التشبيه في البيت هو الهيئة الحاصلة من حصول اشياء مشرقة بيض في
جوانت شيء مظلم اسود حسبما قرر في المتن.
(واعلم ان قوله
سنن لاح بينهن ابتداع من باب القلب والمعنى) بدون القلب (سنن لاحت بين الابتداع)
وقد تقدم في آخر الباب الثاني ان الحق ان القلب المقبول لا بد فيه من نكتة ولطيفه (وكان
اللطيفة فيه) اي في القلب الذي في هذا البيت (بيان كثرة السنن حتى كان البدعة)
لقلتها (تلمع) وتطهر (من بينها) فليس المراد من لمعان البدعة الا الظهور لا
الأشراق فلا يرد ما قيل من ان في نسبة اللمعان الى البدعة ركاكة وحزازة فتدبر
جيدا.
(فعلم من وجوب
اشتراك وجه التشبيه بين المشبه والمشبه به فساد جعله اي جعل وجه التشبيه في قول
القائل النحو في الكلام كالملح في الطعام كون القليل مصلحا والكثير مفسدا لان هذا
المعنى مما لا يشارك فيه المشبه اعني النحو لان النحو لا يحتمل القلة والكثرة)
وذلك لأن النحو قواعد واحكام معلومة حاصلة من تتبع كلام العرب الموثوق بعربيتهم
فكل كلام روعي فيه تلك القواعد والاحكام صح وصلح للافادة والاستفادة والا فلا والى
ذلك اشار بقوله (لانه اذا كان من حكمه) وقواعده (رفع الفاعل ونصب
المفعول مثلا فان وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه وانتفى الفساد عنه)
اي عن الكلام (فصار) الكلام منتفعا به في فهم المراد منه) والتفهيم به (وان لم
يوجد ذلك فيه) اي في الكلام (لم يحصل النحو) فيه (وكان فاسدا لا ينتفع به بل يستضر
ذلك لوقوعه) اي السامع (في عمياء وهجوم الوحشة عليه كما يوجبه الكلام الفاسد) من
جهة اخرى غير النحو.
فان قلت قد
يفهم المعنى من الكلام الملحون قلت المنفى الانتفاع بالنظر لذات اللفظ وفهم المراد
من الملحون ان وجد فبواسطة القرائن.
فتحصل مما
قررنا ان النحو لا يحتمل القلة والكثرة (بخلاف الملح فانه يحتمل القلة والكثرة بان
يجعل في الطعام القدر الصالح منه او اقل او او اكثر فالحق ان وجه التشبيه فيه) اي
في النحو هو كون استعمالهما اي استعمال النحو والملح (مصلحا واهما لهما مفسدا
والمعنى) اي معنى قول القائل النحو في الكلام كالملح في الطعام (ان الكلام لا
يستقيم ولا يحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد الأ بمراعاة احكام النحو فيه)
اي في الكلام من الاعراب والترتيب الخاص) يعني تقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه
التأخير (كمالا يجد) اي لا يفيد الطعام ولا يحصل المنفعة المطلوبة منه وهي التغذية
ما لم يصلح بالملح ومن جعل وجه التشبيه) ما تقدم اعنى (كون القليل مصلحا والكثير
مفسدا فكأنه اراد بكثرة النحو استعمال الوجوه الغريبة والاقوال الضعيفة ونحو ذلك
مما يفسد الكلام).
وللموصلي في
المثل السائر كلام يناسب المقام يعجبني ذكره وان كان موجبا للاطالة وهذا نصه اما
علم النحو فانه في علم البيان من المنظوم والمنثور بمنزلة ابجد في تعليم الخط وهو
اول ما ينبغي اتقان معرفته لكل احد ينطق باللسان العربي ليأمن معرّة اللحن ومع هذا
فانه وان احتيج اليه في بعض
الكلام دون بعض لضرورة الافهام فان الواضع لم يخص منه شيئا بالوضع بل جعل
الوضع عاما والا فاذا نظرنا الى ضرورته واقسامه المدونة وجدنا اكثرها غير محتاج
اليه في افهام المعاني الا ترى انك لو امرت رجلا بالقيام فقلت له قوم باثبات الواو
ولم تجزم لما اختل من فهم ذلك شيء وكذلك الشرط لو قلت ان تقوم اقوم ولم تجزم لكان
المعنى مفهوما والفضلات كلها تجري هذا المجرى كالحال والتميز والانشاء فاذا قلت
جاء زيد راكب وما في السماء قدر راحة سحاب وقام القوم الا زيد فلزمت السكون في ذلك
كله ولم تبين اعرابا لما توقف الفهم على نصب الراكب والسحاب ولا على نصب زيد وهكذا
يقال في المجرورات وفي المفعول فيه والمفعول له والمفعول معه وفي المبتدأ والخبر
وغير ذلك من اقسام أخر لا حاجة الى ذكرها لكن قد خرج عن هذه الامثلة ما لا يفهم الا
بقيود تقيده وانما يقع ذلك في الذي تدل صيغته الواحدة على معان مختلفة ولنضرب لذلك
مثلا يوضحه فنقول اعلم ان من اقسام الفاعل والمفعول ما لا يفهم الا بعلامة كتقديم
المفعول على الفاعل فانه اذا لم يكن ثم علامة تبين احدهما من الآخر والا اشكل
الامر كقولك ضرب زيد عمرو ويكون زيد هو المضروب فانك اذا لم تنصب زيدا وترفع عمرا
والا لا يفهم ما اردت وعلى هذا ورد قوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وكذلك لو قال قائل ما احسن زيد ولم يبين الاعراب في ذلك
لما علمنا غرضه منه اذ يحتمل ان يريد به التعجب من حسنه او يريد به الاستفهام عن
اي شيء منه احسن ويحتمل ان يريد به الاخبار بنفي الاحسان عنه ولو بين الأعراب في
ذلك فقال ما احسن زيدا وما احسن زيد خ وما احسن زيد علمنا غرضه وفهمنا مغزى كلامه
لانفراد كل قسم من هذه الاقسام الثلاثة بما يعرف به من الاعراب فوجب حينئذ بذلك
معرفة النحو
اذ كان ضابطا لمعاني الكلام حافظا لها من الاختلاف. وأول من تكلم في في
النحو ابو الأسود الدؤلي وسبب ذلك انه دخل على ابنة له بالبصرة فقالت له ما اشد
الحر متعجبة ورفعت اشد فظنها مستفهمة فقال شهرنا حر فقالت يا أبت انما اخبرتك ولم
اسألك فاتى علي بن ابي طالب رضى الله عنه فقال يا امير المؤمنين ذهبت لغة العرب
ويوشك ان تطاول عليها زمان ان تضمحل فقال له وما ذاك فاخبره خبر ابنته فقال هلم
صحيفة ثم املى عليه الكلام لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ثم رسم له رسوما
فنقلها النحويون في كتبهم وقيل ان ابا الاسود دخل على زياد ابن ابيه بالبصرة فقال
اني ارى العرب قد خالطت العجم وتغيرت السنتها افتأذن لي ان اصنع ما يقيمون به
كلامهم فقال لا فقام من عنده ودخل عليه رجل فقال ايها الأمير مات أبانا وخلف بنون
فقال زياد مات ابانا وخلف بنون مه ردوا علي ابا الاسود فردوه فقال له اصنع ما كنت
نهيتك عنه فوضع شيئا ثم جاء بعده ميمون الاقرن فزاد عليه ثم جاء بعده عنبسه بن
معدان المهري فزاد عليه ثم جاء بعده عبد الله بن ابي اسحق الحضرمي وابو عمرو ين
العلاء فزاد عليه ثم بعدهما الخليل بن احمد الازدي وتتابع الناس واختلف البصريون
والكوفيون في بعض ذلك فهذا ما بلغني من امر النحو في اول وضعه وكذلك العلوم كلها
يوضع منها في مباديء امرها شيء يسير ثم يزاد بالتدريج الى ان يستكمل آخرا (فان قيل)
اما علم النحو فمسلم اليك انه تجب معرفته لكن التصريف لا حاجة اليه لان التصريف
انما هو معرفة اصل الكلمة وزيادتها وحذفها وابدالها وهذا لا يضر جهله ولا تنفع
معرفته ولنضرب لذلك مثالا كيف اتفق فنقول اذا قال القائل رأيت سردا حالا يلزمه ان
يعرف الالف في هذه الكلمة زائدة هي ام اصلية لان العرب لم تنطق بها الا كذلك
ولو قالت سردحا بغير الف لما جاز لأحد ان يزيد الالف فيها من عنده فيقول
سرداحا فعلم بهذا انه انما ينطق بالالفاظ كما سمعت عن العرب من غير زيادة فيها ولا
نقص وليس يلزم بعد ذلك ان يعلم اصلها ولا زيادتها لان ذلك امر خارج تقتضيه صناعة
تأليف الكلام (فالجواب) عن ذلك انا نقول اعلم انا لم نجعل معرفة التصريف كمعرفة النحو
لان الكاتب او الشاعر اذا كان عارفا بالمعاني مختارا لها قادرا على الالفاظ مجيدا
فيها ولم يكن عارفا بعلم النحو فانه يفسد ما يصوغه من الكلام ويختل عليه ما يقصده
من المعاني كما أريناك في ذلك المثال المتقدم واما التصريف فانه اذا لم يكن عارفا
به لم تفسد عليه معاني كلامه وانما تفسد عليه الاوضاع وان كانت المعاني صحيحة
وسيأتي بيان ذلك في تحرير الجواب فنقول اما قولك ان التصريف لا حاجة اليه
واستدلالك بما ذكرته من المثال المضروب فان ذلك لا يستمر لك الكلام فيه ا لا ترى
انك مثلت كلامك في لفظة سرداح وقلت انه لا يحتاج الى معرفة الالف زائدة هي ام
اصلية لأنها انما نقلت عن العرب على ما هي عليه من غير زيادة ولا نقص وهذا لا يطرد
الا فيما هذا سبيله من نقل الالفاظ على هيئتها من غير تصرف فيها بحال فاما اذا
اريد تصغيرها او جمعها والنسبة اليها فانه اذا لم يعرف الاصل في حروف الكلمة
وزيادتها وحذفها وابدالها يضل حينئذ عن السبيل وينشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن
الا ترى انه اذا قيل للنحوي وكان جاهلا بعلم التصريف كيف تصغير لفظة اضطراب فانه
يقول ضطيرب ولا يلام على جهله بذلك لان الذي تقتضيه صناعة النحو قد اتى به وذلك ان
النحاة يقولون اذا كانت الكلمة على خمسة احرف وفيها حرف زائد ولم يكن حذفته نحو
قولهم في منطلق مطيلق وفي جحمرش جحيمر فلفظة منطلق على خمسة احرف وفيها
حرفان زائدان هما الميم والنون الا ان الميم زيدت فيها لمعنى فلذلك لم تحذف
وحذفت النون واما لفظة جحمرش فخماسية لازيادة فيها وحذف منها حرف ايضا ولم يعلم
النحوي ان علماء النحو انما قالوا ذلك مهملا اتكالا منهم على تحقيقه من علم الصرف
لانه لا يلزمهم ان يقولوا في كتب النحو اكثر مما قالوا وليس عليهم ان يذكروا في
باب من ابواب النحو شيئا من التصريف لان كلا من النحو والتصريف علم منفرد برأسه غير
ان احدهما مرتبط بالآخر ومحتاج اليه وانما قلت ان النحوي اذا سئل عن تصغير لفظة
اضطراب يقول ضطيرب لانه لا يخلو اما ان يحذف من لفظة اضطراب الالف او الضاد او
الطاء أو الراء أو الباء وهذه الحروف المذكورة غير الالف ليست من حروف الزيادة فلا
تحذف بل الاولى ان يحذف الحرف الزائد ويترك الحرف الذي ليس بزائد فلذلك قلنا ان
النحوي يصغر لفظة اضطرات على ضطيراب فيحذف الالف التي هي حرف زائد دون غيرها مما
ليس من حروف الزيادة واما ان يعلم ان الطاء في اضطراب مبدلة من تاء وانه إذا اريد
تصغيرها تعاد الى الاصل الذي كانت عليه وهو التاء فيقال ضتيرب فان هذا لا يعلمه
الا التصريفي وتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف معرفة ذلك كتكليفه علم ما لا
يعلمه فثبت بما ذكرناه انه يحتاج الى علم التصريف لئلا يغلط في مثل هذا (ومن العجب)
ان يقال انه لا يحتاج الى معرفة التصريف الم تعلم ان نافع بن ابي نعيم وهو من اكبر
القراء السبعة قدرا وافخمهم شأنا قال في معايش معائش بالهمز ولم يعلم الاصل في ذلك
فأوخذ عليه وعيب من اجله ومن جملة من عابه ابو عثمان المازني فقال في كتابه في
التصريف ان نافعا لم يدر ما العربية وكثيرا ما يقع أولوا العلم في مثل هذه المواضع
فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا اطلاع
لهم عليها واذا علم حقيقة الامر في ذلك لم يغلط فيما يوجب قدحا ولا طعنا
وهذه لفظة معايش لا يجوز همزها باجماع من علماء العربية لان الياء فيها ليست مبدلة
من همزة وانما الياء التي تبدل من الهمزة في هذه المواضع تكون بعد الف الجمع
المانع من الصرف ويكون بعدها حرف واحد ولا تكون عينا نحو سفائن وفي هذا الموضع غلط
نافع رحمة الله عليه لانه لا شك اعتقد ان معيشة بوزن فعيلة وجمع فعيلة هو على
فعائل ولم ينظر الى ان الاصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة وذلك لان اصل هذه
الكلمة من عاش التي اصلها عيش على وزن فعل ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح
الياء نحو يعيش ثم تنقل حركة العين الى الفاء فتصير يعيش ثم يبنى من يعيش مفعول
فيقال معيوش به كما يقال ميسور به ثم يخفف ذلك بحذف الوار فيقال معيش به كما يقال
مسير به ثم تؤنث هذه اللفظة فنصير معيشة ومع هذا فلا ينبغي لصاحب هذه الصناعة من
النظم والنثر ان يهمل من علم العربية ما يخفى عليه باهماله اللحن الخفي فان اللحن
الظاهر قد كثرت مفاوضات الناس فيه حتى صار يعلمه غير النحوي ولا شك ان قلة
المبالات بالامر واستشعار القدرة عليه توقع صاحبه فيما لا يشعر انه وقع فيه فيجهل
بما يكون عالم به الا ترى ان ابا نواس كان معدودا في طبقات العلماء مع تقدمه في
طبقات الشعراء وقد غلط فيما لا يغلط مثله فقال في صفة الخمر :
كان صغرى
وكبرى من فواقعها
|
|
حصباء در على
ارض من الذهب
|
وهذا لا يخفى
على مثل ابي نواس فانه من ظواهر علم العربية وليس من غوامضه في شيء لانه امر نقلي
يحمل ناقله فيه على النقل من غير تصرف وقول ابي نواس صغرى وكبرى غير جائز فان فعلى
افعل لا يجوز حذف الالف واللام منها وانما يجوز حذفهما من فعلي التي لا افعل لها
نحو حبلى
الا ان تكون فعلى افعل مضافة وههنا قد عريت عن الاضافة وعن الألف واللام
فانظر كيف وقع ابو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته وقد غلط ابو تمام في
قوله :
بالقائم
الثامن من المستخلف اطأدت
|
|
قواعد الملك
ممتدا لها الطول
|
الا ترى انه
قال اطأدت والصواب اتطدت لان التاء تبدل من الواو في موضعين احدهما مقيس عليه كهذا
الموضع لانك اذا بنيت افتعل من الوعد قلت اتعد ومثله ما ورد في هذا البيت فانه من
وطد يطد كما يقال وعد يعذ فاذا بني منه افتعل قيل اتطد ولا يقال اطأد واما غير
المقيس فقولهم في وجاه تجاه وقالوا تكلان واصله الواو لانه من وكل يكل فأبدلت الواو
تاء للاستحسان فهذه الامثلة قد اشرت اليها ليعلم مكان الفائدة في امثالها وتتوقى
على اني لم اجد احدا من الشعراء المفلقين سلم من مثل ذلك فاما ان يكون لحن لحنا
يدل على جهله مواقع الاعراب واما ان يكون قد اخطأ في تصريف الكلمة ولا اعني
بالشعراء من هو قريب عهد بزماننا بل اعني بالشعراء من تقدم زمانه كالمتنبي ومن كان
قبله كالبحتري ومن تقدمه كأبي تمام ومن سبقه كأبي نواس والمعصوم من عصمه الله
تعالى على ان المخطيء في التصريف اندر وقوعا من المخطيء في النحو لأنه قلما يقع له
كلمة يحتاج في استعمالها الى الابدال والنقل في حروفها واما النحو فانه يقع الخطأ
كثيرا حتى انه ليشذ في ظاهره في بعض الاحوال فكيف خافيه كقول ابي نواس في الامين
محمد رحمهالله :
يا خير من
كان ومن يكون
|
|
الا النبي
الطاهر الميمون
|
فرفع في
الاستثناء من الموجب وهذا من ظواهر النحو وليس من خافيه في شيء وكذلك قال ابو
الطيب المتنبي :
أرأيت همة
ناقتي في ناقة
|
|
نقلت يدا
سرحا وخفا مجمرا
|
وتكرمت
ركباتها عن مبرك
|
|
تقعان فيه
وليس مسكا اذفرا
|
وتكرمت
ركباتها عن مبرك
|
|
تفعان فيه
وليس مسكا اذفرا
|
فجمع في حال
التثنية لان الناقة ليس لها الا ركبتان فقال ركبات وهذا من اظهر ظواهر النحو وقد
خفى على مثل المتنبي ومع هذا فينبغي لك ان تعلم ان الجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة
ولا بلاغة ولكنه يقدح في الجاهل به نفسه لانه رسوم قوم تواضعوا عليه وهم الناطقون
باللغة فوجب اتباعهم والدليل على ذلك ان الشاعر لم ينظم شعره وغرضه منه رفع الفاعل
ونضب المفعول او ما جرى مجراهما وانما غرضه ايراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن
المتصفين بصفة الفصاحة والبلاغة ولهذا لم يكن اللحن قادحا في حسن الكلام لانه اذا
قيل جاء زيد راكب ان لم يقل حسنا الا بأن يقال جاء راكبا بالنصب لكان النحو شرطا
في حسن الكلام وليس كذلك فتبين بهذا انه ليس الغرض من نظم الشعر اقامة اعراب
كلماته وانما الغرض امر وراء ذلك وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من الكلام
المنثور واما الادغام فلا حاجة اليه لكاتب لكن الشاعر ربما احتاج اليه لانه قد
يضطر في بعض الأحوال الى ادغام حرف والى فك ادغام من اجل اقامة الميزان الشعري
انتهى.
(وهو اى وجه
التشبيه اما غير خارج عن حقيقتهما اي حقيقة الطرفين) اي يكون ذاتيا لهما (وذلك بان
يكون تمام ماهيتهما النوعية او جزء منها مشتركا بينها وبين ماهية اخرى او مميزا
لها من غيرها) حاصلة ان وجه التشبيه اما نوع للطرفين او جنس او فصل.
قال محشى
التهذيب ثم الكلي اذا نسب الى افراده المحققة في نفس الامر فاما ان يكون عين حقيقة
تلك الافراد وهو النوع او جزء حقيقتها فان
كان تمام المشترك بين شيء منها وبين بعض آخر فهو الجنس والا فهو الفضل
ويقال لهذه الثلاثة ذاتيات انتهى.
(كما في تشبيه
ثوب بآخر في نوعهما او جنسهما او فصلهما كما يقال هذا القميص مثل ذلك في كونهما
كرباسا) هذا مثال للنوع (او) يقال هذا القميص مثل ذلك في كونهما (ثوبا) هذا مثال
للجنس وسيأتي وجه كون الثوبية جنسا (او) يقال هذا القميص مثل ذلك في كونهما (من
القطن) هذا مثال للفصل فتأمل.
اعلم ان الثوب
اسم لكل ما يلبس لكن ان كان يسلك في العنق قيل له قميص وان يلف على الرأس قيل له
عمامة وان كان يسلك فيها قيل له طاقية وان كان يستر به العورة قيل له سروال وان
كان يوضع على الاكتاف قيل له رداء فالثوب جنس تحته انواع عمامة وقميص ورداء وسروال
وطاقية.
واعلم ايضا ان
التشبيه في الجنس وما معه من النوع والفصل يفيد عند التعريض مثلا بمن يستنكف عن
لبس احدهما وعند التقريع لمن ينزلهما منزلة المتباينين كالفرس والحمار مثلا واذا
علمت هذا تعلم ان التشبيه بالنوع والجنس والفصل لا ينافي ما تقرر من كون وجه الشبه
لا بد له من نوع خصوصية والا لم يفد لما تقدم من ان معنى الخصوصية كونه في قصد
المتكلم مما ينبغي ان يشبه به لافادته ولو باعتبار ما يعرض في الاستعمال من تعريض
او تقريع هذا واحتمل بعضهم انه ليس المراد من الجنس والنوع والفصل ما هو المصطلح
عند المنطقيين بل ما يقصد منها عند العرف فتأمل.
(او) وجه
التشبيه (خارج عن حقيقة الطرفين) اي ليس ذاتيا لهما (ولا محالة يكون معنى قائما
بهما) اذ لا بد من وجود وجه التشبيه في الطرفين (ولهذا) اي لكون وجه التشبيه معنى
قائما بهما (قال صفة وتلك
الصفة) القائمة بالطرفين (اما حقيقة اي هيئة متمكنة في الذات متقررة) اي
ثابتة (فيها والصفة الحقيقية اما حسية اي مدركة بالحس) كالكيفيات الجسمية اي
المختصة بالاجسام مما يدرك بالبصر وهي) اي البصر والتأنيث باعتبار قوله (قوة
مترتبة) اي مثبتة من رتب رتوبا اذا ثبت (في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان
فتفترقان الى العينين) ظاهر هذا يخالف ما قاله القوشجي فانه قال هواي البصر قوة
مودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين اللتين تنبتان من غور البطنين المقدمين من
الدماع عند جوار الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي يتيامن النابت منهما يسارا
ويتياسر النابت منهما يمينا حتى يلتقيا ويصير تجويفهما واحدا ثم ينفذ النابت يمينا
الى الحدقة اليمنى والنابت يسارا الى الحدقة اليسرى فذلك التجويف الذي هو في
الملتقى اودع فيه القوة الباصرة ويسمى بمجمع النور وانما جعلت هاتان العصبتان
مجوفتين للاحتياج الى كثرة الروح الحامل للقوة الباصرة بخلاف سائر الحواس الظاهرة
ويتعلق البصر بالذات بالضوء واللون وبواسطتها بسائر المبصرات كالشكل والمقدار
والحركة وغيرها انتهى.
والى بعض ما
ذكرنا اشار بقوله (من الالوان والأشكال) بجميع اقسامها الآتية (والشكل هيئة احاطة
نهاية واحدة بالجسم كالدائرة) فيه تسامح يأتي دفعه (او نهايتين كشكل نصف الدائرة
او ثلث نهايات كالمثلث او اربع) نهايات (كالمربع الى غير ذلك) كلخمس والمسدس وغير
ذلك من الاشكال المبينة في علم الهندسة.
قال الميبدي في
شرح الهداية في بحث ان الصورة الجسمية لا تتجرد عن الهيولي ان الشكل هو الهيئة
الحاصلة من احاطة الحد او الحدود أي حدين او اكثر بالمقدار اي الجسم التعليمي او
السطح ثم قال هذا ما اشتهر
بينهم ويلزم منه ان لا يكون لمحيط الكرة وامثاله شكل والانسب ان يقال الشكل
هو الهيئة الحاصلة للمقدار من جهة الاحاطة سواء كان احاطة المقدار به او احاطته
بالمقدار ليشمل ذلك محيط الدائرة وامثاله.
قال المحشي على
قوله والانسب ان يقال الخ انه اشارة الى ان المشهور ايضا تام وذلك بان يقال اطلاق
الشكل على محيط الكرة والدائرة والمضلعات يجوز ان يكون مجازا فلا يضر خروجها عن
التعريف لكن لما كان الظاهر من اطلاقاتهم ان يكون بطريق الحقيقة فعرفه بوجه يشمله
انتهى وليعلم ان المراد من الحد النهاية وقد صرحوا بان حد الخط اي نهايته نقطة وحد
الجسم التعليمي سطح.
فتحصل مما
ذكرنا ان الدائرة شكل احاطت به نهاية واحدة اي خط واحد ويحققها اي الدائرة كون ما
احاط به الخط فيه مكان لو وضعت فيه نقطة وفرض خروج خطوط مستقيمة للخط الواحد
المحيط بها استوت تلك الخطوط ويسمى موضع تلك العطوط مركز الدائرة.
واما نصف
الدائرة فله نهايتان اي خطان احدهما مستديرة كالقوس والآخر مستقيم كالوتر والمثلث
له ثلاث نهايات تجتمع فيه نهايتان في زاوية حادة او منفرجة وتجمع النهاية الثالثة
طرفي المجتمعتين والمربع له اربع نهايات تجتمع فيه كل نهاية باثنين وتسمى كل نهاية
ضلعا وقس على ما ذكرنا ما لم نذكر فتحصل من ذلك ما قال في الهداية من ان كل متناه
فهو متشكل لانه يحيط به حد واحد او حدود فيكون متشكلا.
(والمقادير)
جمع (المقدار) وهو (كم متصل قار الذات ونعني بالكم) ما ذكره في الهداية وهو ما
يكون (عرضا) اي موجودا في الموضوع (يقبل التجزية لذاته) قال في الهداية والانسب (في
تعريف العرض) ان يقال
هو الماهية التي اذا وجدت في الخارج كانت في موضوع.
(و) نعني (بالاتصال
ان يكون لاجزائه حد مشترك تتلاقى عنده) قال في شرح الهداية والمراد بالحد المشترك
ما يكون نسبته الى الجزئين نسبة واحدة كالنقطة بالقياس الى جزئي الخط فانها وان
اعتبرت نهاية لأحد الجزئين يمكن اعتبارها نهاية الجزء الآخر وان اعتبرت بداية له
يمكن إعتبارها بداية للاخر فليس لها اختصاص باحد الجزئين وليس ذلك الاختصاص
بالنسبة الى الجزء الآخر نسبتهما اليهما على السوية وكالخط بالقياس الى جزئي السطح
والسطح الى جزئي الجسم والان بالنسبة الى جزئي الزمان والحدود المشتركة يجب كونها
مخالفة بالنوع لما هي حدود له لان الحد المشترك يجب كونه بحيث اذا صم الى احد
القسمين لم يزدد به اصلا واذا فصل عنه لم ينقص منه شيء ولو لا ذلك لكان الحد
المشترك جزء آخر من المقدار المقسوم فيكون التقسيم الى القسمين تقسيما الى ثلاثة
والتقسيم الى ثلاثة تقسيما الى خمسة وهكذا فالنقطة ليست جزء من الخط بل هي عرض فيه
وكذا الخط بالقياس الى السطح والسطح بالقياس الى الجسم.
ولا يوجد بين
اجزاء الكم المنفصل حد مشترك فان العشرة اذا قسمتها الى ستة واربعة كان السادس جزء
من الستة داخلا فيها وخارجا من الاربعة فلم يكن ثمة امر مشترك بين قسمي العشرة
وهما الستة والاربعة كما كانت النقطة مشتركة بين قسمي الخط كالعدد انتهى.
(وبه) اي بقيد
الاتصال (احترز) الأولى ان يقرء بضم الهمزة والتاء اعني مبنيا المفعول (عن العدد)
لانه ليس متصلا بل منفصل وقد عرفت الفرق بينهما (و) نعني (بكونه قار الذات ان يكون
الاجزاء المفروضة ثابتة) اي مجتمعة كاجزاء الخط والسطح والثخن (وبه) اي بقيد
قار الذات (احترز عن الزمان).
قال في الهداية
اذا فرضنا حركة واقعة في مسافة على مقدار معين من السرعة وابتدأت معا حركة اخرى
ابطاء منها واتفقنا في الاخذ والترك وجدت البطيئة قاطعة لمسافة اقل من مسافة
السريعة والسريعة قاطعة لمسافة اكثر منها واذا كان كذلك كان بين اخذ السريعة
وتركها امكان اي امر واحد غير المسافتين والحركتين ممتد يسع قطع مسافة معينة بسرعة
معينة وقطع مسافة اقل منها ببطؤ معين فهذا الامكان قابل للزيادة والنقصان فان
الحركتين اذا اختلفتا في الاخذ او الترك يتفاوت امكاناهما وغير ثابت اذ لا يوجد اجزائه
معا بالضرورة فههنا امكان متقدر اي قابل للمساواة ويقال له بالفأرسية (اندازه
گرفتن) غير ثابت وهو المعنى من الزمان انتهى بتغيير ما ولهم في وجود الزمان كلام
لا يهمنا ذكره.
(والمقدار جسم
تعليمي ان قبل القسمة في الطول والعرض والعمق) ويقال له الثخن ايضا (وسطح ان قبلها
في الطول والعرض فقط وخظ ان قبلها في الطول فقط) ظاهر ذلك ان التسمية بالتعليمي
مختص بالمقدار القابل للقسمة في الجهات الثلاث دون الاخريين اعني السطح والخط ولكن
ظاهر كلام القوشجي العموم للثلاثة وهذا نصه وانواع الكم المتصل القار اي الخط
والسطح والجسم التعليمي قد تكون تعليمية وذلك بان يؤخذ كل منها لا بشرط شيء وهو ان
يتصور المقدار من حيث هو هو من غير التفات الى شيء من المواد واحوالها فاذا تخيلنا
الثخن أعني المقدار الممتد في الجهات الثلاث من غير ان نلتفت الى شيء من المواد
واحوالها كان ذلك المتخيل جسما تعليميا انتهى وكذلك ما في حاشية الهداية وهذا نصه
اعلم ان كل واحد من الخط والسطح والجسم قد يكون تعليميا وذلك بان يوجد
كل منها لا بشرط شيء من المواد واحوالها فاذا تخيلنا الثخن اي المقدار
الممتد في الجهات الثلاث من غير التفات الى شيء من المواد واحوالها كان ذلك المتخيل
جسما تعليمية واذا تخيلنا السطح كذلك اي من غير التفات الى الجسم واعراضه كان ذلك
المتخيل سطحا تعليميا واذا تخيلنا الخط مع الغفلة عن السطح وعوارضه كان ذلك
المتخيل خطا تعليميا وانما سميت هذه المقدمة المأخوذة على هذا الوجه تعليمية لان
علم التعليمي اعني الرياضي يبحث فيه عن هذه المقادير المأخوذة على هذا الوجه وقد
مر وجه تسميته الرياضي والتعليمي بأنهم كانوا يبتدئون به في التعلم ورياضة النفوس
انتهى.
والاوضح في وجه
التسمية ما قاله القوشجي وهذا نصه انما سميت الانواع المأخوذة على هذا الوجه
تعليمية لان العلوم التعليمية أعني الرياضية تبحث عن هذه الانواع المأخوذة على هذا
الوجه وانما سميت العلوم الرياضية الباحثة عن احوال الكميات المتصلة والمنفصلة
اعني الهندسة والحساب تعليمية ورياضية لانهم كانوا يبتدئون بها في التعليم ورياضة
النفوس تأنيسا لها باليقينيات وتبعيدا لها عن الغلط فانها علوم متسقة منتظمة قلما
يضل الفكر فيها انتهى.
(والحركات
والحركة عند المتكلمين حصول الجسم في مكان بعد حصوله في مكان آخر عني عبارة عن
مجموع الحصولين وهذا مختص بالحركة الاينية وعند الحكماء هو الخروج من القوة الى
الفعل على سبيل التدريج) كخروج الانسان من شبابه الى الهرم فانه انتقال من الهرم
بالقوة الى الهرم بالفعل وكخروج الزرع الاخضر من الخضرة الى اليبوسة فانه انتقال
من اليبوسة بالقوة الى اليبوسة بالفعل فالزرع الاخضر يابس بالقوة فاذا يبس بالفعل
قيل لذلك الانتقال حركة.
قال الميبدي
قيل بيانه ان الشيء الموجود لا يجوز ان يكون بالقوة من جميع الوجوه والا لكان
وجوده بالقوة فيلزم ان لا يكون موجودا وقد فرضناه موجودا هف فهو اما بالفعل من
جميع الوجوه وهو الموجود الكامل الذي ليس له كمال متوقع كالباري عز اسمه والعقول
او بالفعل من بعض الوجوه وبالقوة من بعضها فمن حيث انه بالقوة لو خرج من القوة الى
الفعل فذلك الخروج اما ان يكون دفعة واحدة وهو الكون والفساد كانقلاب الماء هواء
فالصورة الهوائية كانت للماء بالقوة فخرجت منها الى الفعل دفعة واحدة او على
التدريج فهو الحركة.
وقال ايضا قال
ارسطو الحركة قد تطلق على كون الجسم بحيث اي حد من حدود المسافة يفرض لا يكون هو
قبل آن الوصول اليه ولا بعده حاصلا فيه فيكون في كل آن في جهة آخر ويسمى الحركة
بمعنى التوسط وهي صفة شخصية موجودة في الخارج دفعة مستمرة من المبدء الى المنتهى
تستلزم اختلاف نسب المتحرك الى حدود المسافة فهي باعتبار ذاتها مستمرة اي غير
زمانية وباعتبار نسبتها الى تلك الحدود سيالة فباستمرارها وسيلانها تفعل في الخيال
امرا ممتد غير قار اي غير مجتمع الاجزاء يطلق عليه الحركة بمعنى القطع فانه لما
ارتسم نسبة المتحرك الى الجزء الثاني في الخيال قبل ان تزول نسبته فانه لما ارتسم
نسبة المتحرك الى الجزء الثاني في الخيال قبل ان تزول نسبته الى الجزء الاول عنه
يتخيل امر ممتد منطبق على المسافة كما يحصل من القطرة النازلة والشعلة الجوالة امر
ممتد في الحس المشترك فتزى لذلك خطا او دائرة والحركة بهذا المعنى لا وجود لها الا
في التوهم لأن المتحرك ما لم يصل الى المنتهى لم توجد الحركة بتمامها واذا وصل
اليه فقد انقطعت الحركة.
ثم قال ثم
الحركة باعتبار مقولة هي فيها على اربعة اقسام (معنى وقوع
الحركة في مقولة هو ان الموضوع يتحرك من نوع تلك المقولة الى نوع آخر منها
او من صنف الى صنف آخر او من فرد) حركة في الكم كالنمو هو ازدياد حجم الاجزاء
الاصلية للجسم بما ينضم اليه ويداخله في جميع الاقطار على نسبة طبيعته بخلاف السمن
فانه زيادة في الاجزاء الزائدة والاجزاء الاصلية في بعض الحيوانات هي المتولدة من
المنى كالعظم والعصب والرباط والزائدة فيه هي المتولدة من الدم كاللحم والشحم
والسمن.
والذبول هو
انتقاص حجم الاجزاء الاصلية للجسم بما ينفصل عنه في جميع الاقطار على نسبه طبيعية
بخلاف الهزال فانه انتقاص عن الاجزاء الزائدة وقد عد العلامة في شرح القانون السمن
والهزال ايضا من اقسام الحركة الكمية.
وحركة في الكيف
كتسخن الماء وتبرده مع بقاء صورته النوعية ويسمى هذه الحركة استحالة.
وحركة في الاين
وهي انتقال الجسم من مكان الى مكان بل من اين الى أين آخر على سبيل التدريج ويسمي
نقلة وحركة في الوضع وهي ان تكون للجسم حركة على سبيل الاستدارة فان كل واحد من
اجزائه يباين اي يفارق كل واحد من اجزاء مكانه لو كان له مكان ويلازم كله مكانه
فقد اختلف نسبة اجزائه الى اجزاء مكانه على التدريج انتهى.
(وفي جعل
المقادير والحركات من الكيفيات نظر لان المقدار من مقولة الكم اعني التي تقتضي
القسمة لذاته والحركة من الاعراض النسبية و) اما (الكيفية) فقد تقدم في اوائل
الكتاب انها (لا تقتضي لذاتها قسمة ولا نستة) فلا تصدق الكيفية على المقادير ولا
على الحركة لان النسبة بين كل واحد منهما وبين الكيفية التباين فلا يصح جعلهما من
الكيفيات هذا هو
وجه النظر.
(و) اما دفع
ذلك فبان يقال (كأنه) اي الخطيب (اراد بالمقادير اوصافها من الطول والقصر والتوسط
بينهما وبالحركات نحو السرعة والبطوء والتوسط بينهما) فيصح جعلهما من الكيفيات لان
تلك الاوصاف والامور من مقولة الكيف (وما يتصل بها اي بالمذكورات) مما يدرك بالبصر
(كالحسن والقبح المتصف بهما الشخص) الانساني (باعتبار الخلقة التي هي عبارة عن
مجموع الشكل واللون وكالضحك والبكاء الحاصلين باعتبار الشكل) اي شكل الفم بالنسبة
الى الضحك وشكل العين بالنسبة الى البكاء (والحركة) اي حركة الفم في الضحك والعين
في البكاء (وكالاستقامة والانحناء والتحدب والتقعر الداخلة تحت الشكل وغير ذلك)
مما اشار اليه القوشجي من القلة والكثرة والبشر والطلاقة وغير ذلك مما ذكره في طي
كلامه وهذا نصه من الكيفيات المحسوسة المبصرات مطلقا يعني سواء كان اولا وبالذات
او ثانيا وبالعرض فالامور التي تدرك بالبصر مطلقا هي الضوء واللون والاطراف والحجم
والبعد والوضع والشكل والتفرق والاتصال والعدد والحركة والسكون والملاسة والخشونة
والكثافة والظل والظلمة والحسن والقبح والتشابه والاختلاف.
وهيهنا امور
راجعة الى ما ذكر فالترتيب داخل تحت الوضع والنقوش كالكتابة وغيرها داخلة تحت
الترتيب والشكل والاستقامة والانحناء والتحدب والتقعر متعلقة بالشكل والكثرة
والقلة تابعتان للعدد والضحك والبكاء داخلان تحت الشكل والحركة والبشر والطلاقة
والعبوس والتقطيب داخلة تحت الشكل والسكون.
والبصر يدرك
الرطوبة من السيلان واليبوسة من التماسك واما المدرك
بالبصر اولا وبالذات عند الجمهور فهو اللون والضوء وهذا اعني المبصر بالذات
عند الجمهور هو الذي عد من الكيفيات المحسوسة دون غيره.
(او بالسمع عطف
على قوله بالبصر) يعني ان الكيفيات الجسمية مما يدرك بالبصر او بالسمع (والسمع قوة
رتبت) اي رتبها الله بمعنى انه خلقها وجعلها (في العصب المفروش على سطح باطن
الصماخين) وهما ثقبتان معلومتان في الاذن وفي الطرف الأسفل من الأذن عصبة جلدت
عليه كالطبل فالسمع قوة متمكنة في تلك العصبة (يدرك بها الاصوات).
وقوله (من
الاصوات) بيان لما يدرك بالسمع المراد بالاصوات (الضعيفة) المنخفضة التي لا تسمع
الا من قرب والمراد من (القوية) العالية التي تسمع من بعد والمراد من (التي بين
بين) ما تكون بين الضعيفة والقوية (ومن الاصوات) ايضا بيان لما يدرك بالسمع
والمراد من (الحادة) النافذة في السمع بسرعة كأصوات المزامير والاوتار والاجراس
ونحو ذلك.
والفرق بين
الاصوات القوية (والثقيلة) ان الاولى كما قلنا مرجعها الى العلو والارتفاع بحيث
تسمع من بعد والثانية مرجعها الى التمهل وعدم النفوذ في السمع سريعا كما في صوت
الحمار وما ماثله من الأصوات الغليظة (والتي بين بين) اي بين الحادة والثقيلة.
(والصوت يحصل
من التموج) اي تموج الهواء وتحركه (المعلوم) ذلك التموج (للقرع الذي هو امساس عنيف)
اي اساس جسم لآخر امساسا عنيفا اي شديدا وانما اشترط في القرع كونه شديدا لانك لو
وضعت حجرا على آخر بمهل لم يحصل تموج ولا صوت (والقلع الذي هو تفريق عنيف) اي
شديد.
والتفريق
المذكور على وجهين احدها تفريق بين متصلين بالاصالة
كتقطيع الخيط وتفريق قطعة خشب عن آخرى وثانيهما تفريق بين متصلين اتصالا
عارضا كجذب رجل غائص في الطين او جذب جسم مغروز في جسم فاذا وقع التفريق في
الوجهين بعنف تموج الهواء وحصل الصوت وانما اشترط فيه العنف اي كونه بشدة لانه لو
وقع بتمهل بان قطع الخيط شيئا فشيئا او جذب الرجل الغائص في الطين او الجسم
المغروز في جسم آخر بتدريج لم يحصل تموج ولا صوت وانما يحصل ذلك اذا كان التفريق
بعنف لكن (بشرط مقاومة المقروع) اي الملاقى بالفتح (للقاطع) أي الملاقي بالكسر.
وبعبارة أخرى
بشرط مساوات المقروع للقارع في القوة والصلابة لأنه لو كان احدهما ضعيفا غير صلب
كالقطن المندوف المتراكم يقع عليه حجر او خشب لم يحصل صوت فالمراد من المقاومة
المساوات في القوة والصلابة ويحتمل ان يكون المراد من المقاومة المدافعة كحجر واقع
على حجر بخلاف نحو القطن الواقع على حجر او العكس.
(و) بشرط
مقاومة (المقلوع) منه (للقالع) اي للمقلوع اي للجسم الذي يخرج من المقلوع منه
وبعبارة اخرى بشرط مساوات المنزوع منه للمنزوع في القوة والصلابة لانه لو كان
احدهما ضعيفا او غير صلب لم يحصل تموج ولا صوت فتأمل جيدا.
(وبحسب قوة
المقاومة وضعفها يختلف) الصوت (قوة وضعفا) مثلا اذا وقع حجر كبير على مثله بعنف او
من مكان عال كان الصوت قويا وان وقع حجر صغير على مثله او كبير على مثله من دون
عنف كان الصوت ضعيفا وان وقع حجر متوسط على مثله بعنف كان الصوت متوسطا بين القوة
والضعف هذا في القرع ومنه يظهر لك الاختلاف في القلع أيضا.
(وبحسب
الاختلاف في صلابة المقروع او ملاسته كما في اوتار الاغاني) المراد بالاغاني الات
الغناء ذوات الاوتار (الممتدة) كالعود والقانون وما يسمى في بعض البلاد بدمبورة (او)
بحسب الاختلاف في (قصر المنفذ) وعدم قصره (او) في (ضيقة) وعدم ضيقه (او شدة
التوائه كما في المزامير الملتوية) وهي الات ينفخ فيها فيحصل الصوت وبحسب كل واحد
من هذه الامور تختلف الصوت (حدة وثقلا).
والحاصل انه
اذا كان المقروع صلبا كان الصوت ثقيلا وان كان املس كان حادا وان كان منفد الصوت
قصيرا او ضيقا كان حادا وان كان مستطيلا او واسعا كان ثقيلا.
واني يعجبني ان
اختم الكلام بما قاله المبيدي في المقام اذ به يتضح بعض ما بقي من حقيقة المرام
وهذا نصه السمع قوة مودعة في العصبة المفروشة في مقعر الصماخ التي فيها هواء محتقن
كالطبل فاذا وصل الهواء المتكيف بكيفية الصوت لمتموجه الحاصل من قرع او قلع عنيفين
مع مقاومة المقروع للقارع والمقلوع للقالع الى تلك العصبة وقرعها ادركته القوة
المودعة فيها وكذا ان كان الهواء قريبا منها.
ثم قال وليس
المراد بوصول الهواء الحاصل للصوت الى السامعة ان هواء واحد بعينه يتموج ويتكيف
بالصوت ويوصل اليها بل ان ما يجاور ذلك الهواء المتكيف بالصوت يتموج ويتكيف بالصوت
ايضا وهكذا الى ان يتموج ويتكيف به الهواء الراكد في الصماخ فيدركه السامعة حينئذ
انتهى.
(او) مما يدرك (بالذوق
وهي قوة منبثة) اي سارية (في العصب المفروش على جرم اللسان) وادراكها كما في
الميبدي بتوسط الرطوبة اللعابية بان يخالطها اجزاء لطيفة من ذى الطعم ثم تغوص اي
تنزل هذه الرطوبة
معها في جرم اللسان الى الذائقة فالمحسوس حينئذ هو كيفية ذي الطعم وتكون
الرطوبة واسطة لتسهيل وصول الجوهر الحامل للكيفية الى الحاسة أو بأن تتكيف نفس
الرطوبة بالطعم بسبب المجاورة فتغوص وحدها فيكون المحسوس كيفيتها.
(من الطعوم)
بيان لما يدرك بالذوق (واصولها) اي الطعوم (تسعة) الاول (الحراقة) وهي طعم منافر
للقوة الذائقة دون المرارة في المنافرة فيه لذع ما كطعم الفلفل والزنجبيل والقرنفل
(و) الثاني (المرارة) وهي طعم منافر للذوق شدة المنافرة كطعم الصبر (و) الثالث (الملوحة)
وهي طعم منافر للذوق بين المرارة والحراقة ولذلك تكون تارة مائلة للحراقة وتارة
تكون مائلة للمرارة (و) الرابع (الحموضة) وهي طعم منافر للذوق ايضا يميل الى
الملوحة والحلاوة (و) الخامس (العفوصة) وهي طعم تقبض ظاهر اللسان وباطنه وهي قريب
من المرارة (و) السادس (القبض) وهو طعم يقبض ظاهر اللسان فقط فوق الحموضة وتحت
العفوصة (و) السابع (الدسومة) وهي طعم فيه حلاوة لطيفة مع دهنية فهو ملائم للذوق
دون الحلاوة في الملائمة كطعم اللحم والشحم واللبن الحليب والادهان (و) الثامن (الحلاوة)
وذلك ظاهر (و) التاسع (التفاهة) ولها معنيان احدهما كون الشيء لا طعم له كما اذا
وضعت اصبعك في فمك ثانيهما كون الشيء لا يحس بطعمه لشدة كثافة اجزائه فلا يتحلل
منها ما يخالطه الرطوبة اللعابية فاذا احتيل في تحليله احس منه بطعم وذلك كما في
الحديد فانه اذا وضع على اللسان لم يجد له الانسان طعما فلو تحلل منه نحو القراضة
وجد له طعما آخر والمقصود منهما هو المعنى الثاني لا الاول.
قال المحقق
الطوسي ومنها المطعومات التسعة الحاصلة من تفاعل الثلاثة في مثلها فقال القوشجي
يعني من الكيفيات المحسوسة طعوم المطعومات
واصولها اعني الطعوم البسيطة تسعة لان الطعم لا بد له من فاعل هو الحرارة
او الكيفية المتوسطة بينهما ومن قابل هو الكثيف واللطيف او المعتدل بينهما.
واذا ضرب اقسام
الفاعل في اقسام القابل حصل اقسام تسعة ينقسم الطعوم بحسبها فالحرارة ان فعلت في
اللطيف حدثت الحراقة وفي الكثيف حدثت المرارة وفي المعتدل حدثت الملوحة.
والبرودة ان
فعلت في اللطيف حدثت الحموضة وفي الكثيف حدثت العفوصة وفي المعتدل حدثت القبض
والكيفية المتوسطة بين الحرارة والبرودة ان فعلت في اللطيف حدثت الدسومة وفي
الكثيف حدثت الحلاوة وفي المعتدل حدثت التفاهة وهي على نوعين احدهما ان لا يكون له
طعم حقيقة التفه بهذا المعنى يسمى مسيخا والثاني أن لا يكون له طعم في الخص ويكون
له طعم في الحقيقة لكن لشدة الالتحام بين اجزائه لا يتحلل منه شيء يخالط اللسان
فلا يحس بطعمه ثم اذا احتيل في تحليل اجزائه وتلطيفها احس منه بطعم كالنحاس
والحديد وهذه هي المعدود في الطعوم دون الاول انتهى.
(او) مما يدرك (بالشم
وهي قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي) والجمهور كما في
الميبدي على ان الهواء المتوسط بين القوة الشامة وذوي الرائحة يتكيف بالرائحة
الاقرب فالأقرب منه الى ان يصل ما يجاور الشامة فتدركها.
وقال بعضهم
سببه التجزي وانفصال اجزاء من ذي الرائحة يخالطها الاحزاء الهوائية فيصل الى
الشامة وقد يقال انه يفعل ذو الرائحة في الشامة من غير استحالة في الهواء ولا بتجز
وانفصال.
(من الروائح)
بيان لما يدرك بالشم (ولا حصر لانواعها ولأ اسماء لها الا من جهة الموافقة) لطبع
الانسان وميله (او المخالفة) كذلك
(كرائحة طيبة او منتنة او من جهة الاضافة الى محالها كرائحة المسك) او
الميتة (او) الاضافة (الى ما يقارنها كرائحة الحلاوة) او المرارة فان الرائحة
مقارنة للحلاوة لا قائمة بها وكذلك في المرارة والا لزم قيام المعنى اي الرائحة
بالمعنى اي الحلاوة والمرارة.
(او) مما يدرك (باللمس
وهي قوة سارية في البدن كله بها يدرك الملموسات) وفي كون تلك القوة في البدن كله
نظر ظاهر اذ ليس لبعض الاعضاء حسن كالكبد والطحال والكلية كما اشار اليه الميبدي
وقال ايضا انه ذهب الجمهور الى انها قوة واحدة وقال كثير من المحققين ومنهم الشيخ
انها اربعة الحاكمة بين الحرارة والبرودة وبين الرطوبة واليبوسة وبين الخشونة
والملاسة وبين اللين والصلابة ومنهم من زاد الحاكمة بين الثقل والخفة.
(من الحرارة
والبرودة والرطوبة واليبوسة هذه الاربعة هي اوائل الملموسات التي بها تتفاعل
الاجسام العنصرية) قال في الهداية البسائط العنصرية اربعة بالاستقراء اذ العنصر
اما بارد او حار وعلى التقديرين اما رطب او يابس فالبارد الرطب هو الماء والبارد
اليابس هو الارض والحار اليابس هو النار والحار الرطب هو الهواء والعنصر هو الاصل
في اللغة العربية كاسطقس في اللغة اليونانية وهذه الاربعة من حيث انها تتركب منها
المركبات تسمى اسطقسات ومن حيث انها ينحل اليها المركبات سمي عناصر ومن حيث انها
يحصل بنضدها عالم الكون والفساد تسمى اركانا ومن حيث انها ينقلب كل منها الى الآخر
تسمى اصول الكون والفساد انتهى.
قال القزويني
في عجائب المخلوقات المقالة الثانية في السفليات وهو ما دون فلك القمر من العناصر
والمولدات والنظر فيها في امور في حقيقة
العناصر وطباعها وترتيبها وانقلات بعضها الى بعض.
ذهبوا الى ان
العنصر هو الاصل وانما سميت هذه الاجسام عناصر لانها اصل المولدات اعني المعادن
والنبات والحيوان وتسمى ايضا اركانا وهي اربعة النار والهواء والماء والتراب
فالنار حارة يابسة مكانها الطبيعي تحت الفلك وفوق الهواء والهواء حار رطب ومكانه
الطبيعي تحت النار وفوق الماء والماء بارد رطب ومكانه الطبيعي تحت الهواء وفوق
الارض والارض باردة يابسة ومكانه الطبيعي الوسط.
ثم ان كل واحد
من هذه الاركان متكيف بكيفيتين يشاكل الذي بقربه بكيفية ويضاده باخرى فلاجل
مشاكلتها تقاربت مراكزها ولاجل تضادها تباينت واختص كل بمركز لا يقف الا فيه الا
اذا منعه مانع فاذا ارتفع المانع فان كان النزوع الى مركز العالم فهو ثقيل وان كان
الى المحيط فهو خفيف والله العالم انتهى ثم اخذ في شرح هذا الاجمال والله العالم
بحقيقة الحال.
(وينفعل بعضها
عن بعض فيتولد منها المركبات) اي المعادن والنباتات والحيوانات قال القزويني في
كتاب عجائب المخلوقات الاجسام المتولدة من الامهات اما ان تكون نامية او لم تكن
فان لم تكن نامية فهي المعدنيات وان كانت نامية فأما ان تكون لها قوة الحس والحركة
او لم تكن فان لم تكن فهي النبات وان كانت فهي الحيوانات زعموا ان اول ما يستحيل
اليه الاركان الابخرة والعصارات فالبخار ما يصعد من لطائف مياه البحار والاجام
والانهار من تسخين الشمس.
والعصارات ما
ينجلب في باطن الارض من مياه الامطار ويختلط بالاجزاء الارضية ويغلظ وتنضجها
الحرارة المستبطنة في عمق الارض فتصيرها مادة
للنبات والمعادن والحيوان وانها متصلة بعضها ببعض بترتيب عجيب ونظام بديع
تعالى صانعها عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
فأول مراتب هذه
الكائنات تراب وآخرها نفس ملكية طاهرة فان المعادن متصلة اولها بالتراب او الماء
وآخرها بالنبات والنبات متصل اوله بالمعادن وآخره بالحيوان والحيوان متصل اوله
بالنبات وآخره بالانسان والنفوس الانسانية متصلة اولها بالحيوان وآخرها بالنفوس
الملكية والله تعالى اعلم بالصواب انتهى.
ثم اخذ في بيان
كيفية تولد المركبات الثلاثة من هذه الاربعة فمن اراد الاطلاع فعليه بمراجعة كلامه
فان فيه ما لا يستغنى عنه في المعرفة.
قال القوشجي في
شرح قول الخواجة فمنها اوائل الملموسات ما هذا نصه الملموسات تسمى اوائل المحسوسات
بوجهين احدهما ان القوة اللامسة تعم جميع الحيوانات فلا يخلو حيوان عن هذه القوة
وقد يخلو عن هذه الحواس الظاهرة كالخراطين الفاقد للمشاعر الاربعة وكالخلد الفاقد
لحاسة البصر والحكمة في ذاك ان بقاء الحيوان باعتدال مزاجه فلا بد له من الاحتراز
عن الكيفيات المفسدة اياه وذلك بادراكها ولذلك جعلت هذه القوة منتشرة في اعضائه
فالحكمة تقتضي ان لا يخلو حيوان عن هذه القوة واما سائر المشاعر فليس في هذه
المرتبة من الضرورة فجاز الخلو عنها.
والثاني ان
الأجسام العنصرية قد تخلو عن الكيفيات المبصرة والمسموعة والمذوقة والمشمومة ولا
تخلو عن الكيفيات الملموسة والحكمة في ذلك ان الابصار لما توقف على توسط جسم فلا
بد ان يكون ذلك الجسم خاليا عن الكيفية المبصرة والا لاشتغلت الحاسة بكيفيته فلا
يدرك كيفية الجسم الآخر على ما ينبغي وكذلك الذوق يتوقف على تكيف الرطوبة اللعابية
بطعم ذي الطعم او اختلاطها بشيء من اجزائه وايصالها اياه بالنفوذ الى القوة
الذائقة فلا بد من خلو تلك الرطوبة عن الكيفية المذوقة والا لم يحصل الاحساس التام
بذلك الطعم بل يحس حينئذ بطعم مركب وكذا الشم يتوقف على جسم يتكيف بكيفية ذي
الرائحة او يختلط باجزاء منه فلا بد من خلو ذلك الجسم في نفسه عن الرائحة لما ذكرناه
وهكذا السمع يتوقف على جسم يحمل الصوت اليه فلا بد ان يكون في نفسه خاليا عن الصوت
والا لم يحمله كما ينبغي ولم يحصل الاحساس التام واما اللمس فلا حاجة به الى
التوسط حتى يلزم خلوه عن الكيفيات الملموسة ثم قال كما ان الملموسات اوائل
المحسوسات لما عرفته كذلك هذه الكيفيات الاربع اوائل الملموسات لأنها مدركة اولا
وبالذات وما عداها اعني اللطافة والكثافة والهشاشة والوزوجة والبلة والجفاف والخفة
والثقل تدرك بتوسطها وهذا معنى قول الخواجة والبواقي منتسبة اليها وما قيل ان
الخشونة والملاسة ملموستان بلا توسط فقد يجاب عنه بانهما من الوضع عند بعضهم
انتهى.
(والاوليان) اي
الحرارة والبرودة (منها) اي من هذه الاربعة (فعليتان) اي مؤثرتان في موصوفهما (لأن
الحرارة كيفية من شأنها تفريق المختلفات وجمع المشاكلات والبرودة كيفية من شأنها
تفريق المتشاكلات وجمع المختلفات) فالتفريق بين المشاكلات كما في الطين اللين اذا
يبس فانه ينشق لشدة البرودة والجمع بين المختلفات كما في الاجسام المختلفة
المنجمدة في الشتاء وكالجمع بين الرطب واليابس.
(والاخريان
انفعاليتان) لانهما تقتضيان تأثر موصوفيهما والى ذلك اشار بقوله (لان الرطوبة
كيفية تقتضى سهولة التشكل والتفرق والاتصال واليبوسة كيفية تقتضي صعوبة ذلك) هذا
اجمال الكلام في المقام وان اردت
التفصيل فاستمع لما يتلى عليك.
قال القوشجي في
شرح قول الخواجة فالحرارة جامعة للمتشاكلات ومفرقة للمختلفات اعلم ان الحرارة
والبرودة من اظهر المحسوسات غنيتان عن التعريف فما ذكروه من خواصهما لم يقصدوا بها
تعريفهما بل قصدوا بها بيان احكامهما قالوا من شأن الحرارة افادة الميل المصعد
وبواستطه التحريك.
ثم ان المركبات
لما كانت مركبة من اجسام مختلفة في اللطافة والكثافة وكل ما كان الطف كان اقبل
للخفة الحاصلة من الحرارة فان الهواء اسرع قبولا لذلك من الماء الذي هو اسرع فيه
من الارض لاجرم اذا عملت الحرارة في المركب بادر الى الصعود الالطف من اجزائه ثم
الالطف دون الكثيف فانه لا ينفعل الا ببطوء.
وربما لم تفده
الحرارة خفة تقوى على تصعيده فيلزم من ذلك تفرق الاجسام المختلفة الطبايع التي
منها تركب المركب ثم يحصل عند تفرق تلك المختلفات بهذا السبب اجتماع المتشاكلات
لان تلك الاجزاء بعد تفرقها تجتمع بالطبع الى ما يجانسها لان طبايعها تقتضي الحركة
الى امكنتها الطبيعية والانضمام الى اصولها الكلية فان الجنسية علة للضم كما اشتهر
في الالسنة.
فالحرارة معدة
للاجتماع الصادر عن طبايعها بعد زوال المانع الذي هو الالتيام فنسب الاجتماع اليها
كما ينسب الأفعال الى معداتها فلهذا السبب يقال ان الحرارة من شأنها تفريق
المختلفات وجمع المتشاكلات وهذا الجمع والتفريق انما يعمضان في المركب الذي لا
يكون بسائطه شديدة الألتحام.
اما الذي يكون
التحامها شديدا فلا يخلو اما ان يكون اللطيف والكثيف فيه قريبين من الاعتدال اولا
وعلى الاول اذا قوى عمل الحرارة فيه حدثت حركة دورية كما في الذهب لان النار انما
لا تفرقه لان التلازم بين بسائطه
شديد جدا فكما مال اللطيف الى التصعد جذبه الكثيف الى الانحدار فحدثت حركة
دورية.
وعلى الثاني ان
كان الغالب هو اللطيف يصعد بالكلية واستصحب الكثيف كالنوشادر وان كان الغالب هو
الكثيف فان لم يكن غالبا جدا حدثت تسييل كما في الرصاص او تليين كما في الحديد وان
كان غالبا جدا كما في الطلق والنورة حدث مجرد سخونة واحتيج في تليينه الى
الاستعانة بأعمال يتولاها اصحاب الأكسير من الاستعانة بما يزيده اشتعالا كالكبريت
والزرنيخ ولذلك قيل من حل الطلق استغنى من الخلق.
وعدم حصول
التصعيد وتفريق المختلفات وجمع المتشاكلات بناء على المانع لا ينافي كون هذه
الافعال خاصيتها لان هذه انما تكون عند تحقق الشرائط وارتفاع الموانع.
وايضا افعال
الطبيعة الواحدة تختلف بحسب اختلاف القوابل وما ذكروا من ان الحرارة تجمع
المتشاكلات وتفرق المختلفات انما هو اذا اثرت في المركب اما اذا اثرت في البسيط
فقد يحصل منه تفريق المتشاكلات فان الماء اذا اثرت فيه الحرارة انقلب بعضه هواء
وتحرك بطبعه وانما تفيده الحرارة من الخفة الى الفوق ويختلط ويلتزق بذلك الهوا
اجزاء مائية صغار فيصعد معه ويكون مجموع ذلك بخارا فالحرارة تكون مفرقة للمتشاكلات
اعني الاجزاء المائية.
ثم قال في شرح
قول الخواجة والبرودة بالعكس اي هي جامعة للمختلفات فانها اذا اثرت في المركبات
المتخالفة الاجزاء وجبت تكاثفها والتصاق بعضها ببعض ومنعت من تفارقها فالحرارة
توجب تسييل الرطوبات المنجمدة بالبرودة وتحليلها وتصعيدها والبرودة توجب انجمادها
وتكاثفها
وانضمامها.
ثم قال في شرح
قول الخواجة وهما متضادان اشارة الى رد من زعم ان البرودة تقابل الحرارة تقابل
العدم والملكة فان البرودة ليست عدم الحرارة لانها محسوسة بالذات ولا شيء من العدم
كذلك بل التقابل بينهما تقابل التضاد.
وقال قبيل ذلك
الكيفيات المحسوسة ان كانت راسخة كصفرة الذهب وحلاوة العسل سميت انفعاليات لانفعال
الحواس عنها ولكونها بخصوصها او عمومها تابعة للمزاج الحاصل من انفعال العناصر
فالمخصوص كما في المركبات مثل حلاوة العسل والعموم كما في البسائط مثل حرارة النار
فان النار لبساطتها لا يتصور فيها المزاج وحرارتها ليست تابعة للمزاج لكن الحرارة
من حيث هي قد توحد تابعة للمزاج كما في الفلفل وهذا معنى قولهم بشخصها او نوعها
والا فالحرارة ليست نوعا لحرارة النار وغيرها لا حقيقيا ولا اضافيا.
وان كانت غير
راسخة كحمرة الخجل وصفرة الوجل سميت انفعالات لانها لسرعة زوالها شديدة الشبه بان
ينفعل فسميت بها تمييزا لها عن الكيفيات الراسخة وتنبيها على تلك المشابهة.
وقد يقال هذا
القسم يشارك القسم الأول في سبب التسمية بالأنفعاليات لكن حاولوا التفرقة بين
القسمين فنقص من الأسم شيء واطلق الباقي عليه تنبيها على قصور فيه وهو عدم ثباته
وسرعة زواله.
(و) مما يدرك
باللمس (الخشونة وهي كيفية تحصل عن كون بعض الاجزاء اخفض وبعضها ارفع) وتلك
الكيفية تدرك عند اللمس ويدرك بالبصر ملزوم تلك الخشونة وهو كونه على الوضع
المذكور (و) مما يدرك باللمس (الملاسة وهي كيفية تحصل عن استواء وضع الاجزاء) اي
اجزاء
الجسم فهي ايضا باعتبار كونها على ذلك الوضع المخصوص تدرك بالبصر (و) مما
يدرك باللمس (اللين وهي كيفية تقتضي قبول الغمز الى الباطن ويكون للشيء بها قوام
غير سيال فينتقل عن وضعه ولا يمتد كثيرا بسهولة وانما يكون قبوله الغمر الى الباطن
من الرطوبة وتماسكه من اليبوسة (و) مما يدرك باللمس (الصلابة وهي تقابل اللين) فهي
كيفية تقتضي عدم قبول الانغمار اي التداخل الى الباطن فاللين ككيفية العجين
والصلابة ككيفية الحجر والخبز اليابس.
(و) اعلم ان (كون
هذه الاربعة) اي الخشونة والملاسة واللين والصلابة (من الملموسات مذهب بعض الحكماء)
واما الاخرون فجعلوا الاوليين من باب الوضع والاخيرتين من الكيفيات الأستعدادية.
قال القوشجي
قال الامام قد ظن في امرين انهما من الكيفيات الملموسة وليسا كذلك الاول الخشونة
والملاسة فان الخشونة عبارة عن اختلاف الاجزاء في ظاهر الجسم بان يكون بعضها نابتا
ويعضها غايرا والملاسة عبأرة عن استوائها فهما من باب الوضع ثم ذكر حاصل ما ذكر في
الهداية وشرحه.
قال في الهداية
واما الكيف فهو هيئة في شيء لا تقتضي لذاته قسمة ولا نسبة وينقسم الى كيفيات
محسوسة راسخة كحلاوة العسل وملوحة ماء البحر وغير راسخة كحمرة الخجل وصفرة الوجل
والى كيفيات نفسانية وهي حالات ان لم تكن راسخة كالكتابة في ابتداء الخلقة وملكات
ان كانت راسخة كالكتابة بعد الرسوخ والعلم وغير ذلك والى كيفيات استعدادية نحو
الدفع واللا انفعال كالصلابة او نحو الانفعال كاللين.
وقال الميبدي
في ذيل شرح هذا الكلام واعلم ان اكثرهم عدوا الصلابة واللين من الكيفيات الملسوسة
والحق ما ذهب اليه المصنف لما ذكره الامام
من ان الجسم اللين هو الذي ينغمر فهناك امور ثلاثة الاول الحركة الحاصلة في
سطحه والثاني شكل التقعير المقارن لحدوث تلك الحركة والثالث كونه مستعدا لقبول
ذينك الامرين وليس الاولان بلين لأنهما محسوسان بالبصر واللين ليس كذلك فتعين
الثالث وهو من الكيفيات الاستعدادية.
وكذلك الجسم
الصلب فيه امور اربعة الاول عدم الأنغمار وهو عدمي والثاني الشكل الباقي على حاله
وهو من الكيفيات المختصة بالكميات والثالث المقاومة المحسوسة بالمس وليست ايضا
صلابة لان الهواء الذي في الزق المنفوخ فيه له مقاومة ولا صلابة له وكذا الرياح
القوية فيها مقاومة ولا صلابة فيها والرابع الاستعداد الشديد نحو اللا انفعال فهذا
هو الصلابة فيكون من الكيفيات الاستعدادية انتهى.
(و) من
المدركات باللمس (الخفة وهي كيفية يقتضي بها الجسم ان يتحرك الى صوب المحيط لو لم
يعقه عائق) كالدخان والريش الخفيف ونحوهما فانها لو لا العائق لارتفعت الى صوب
المحيط اي العلو (و) من المدركات باللمس (الثقل وهي كيفية يقتضي بها الجسم ان
يتحرك الى صوب المركز) اي السفل (لو لم يعقه عائق) كالحمل فالرصاص المحمول مثلا لو
لا حمله لنزل الى السفل.
واعلم انهم
شبهوا العلو بمحيط الدائرة والسفل بمركزها ولذلك قالوا في تعريف الخفة الى صوب
المحيط اي جهة العلو وفي تعريف الثقل الى صوب المركز اي الجهة السفل.
(وكل منهما في
الحقيقة مبدء مدافعة محسوسة توجد مع عدم الحركة كما يجده الانسان من) ثقل (الحجر
اذا اسكنه) الأنسان بيده (في الجو قسرا) اي جبرا (فانه) اي الانسان (يجد فيه) اي
في الحجر (مدافعة
هابطة ولا حركة فيه) اي في الحجر (وكما يجد) ه الانسان (من) خفة (الزق
المنفوح فيه اذا حبسه بيده تحت الماء قسرا فانه يجد فيه مدافعة صاعدة ولا حركة فيه)
اي في الزق.
وللمحقق
القوشجي في المقام كلام يطول ذكرها فلذلك اثرنا كما قال صاحب المعالم في آخر بحث
مسند الراوي طي ذكره على غره الا انه لا بد من ذكر كلام له في شرح قول الخواجة
والميل طبيعي وقسري ونفساني وهذا نصه لما كان الثقل والخفة من اقسام الميل عقبهما
بمباحث الميل مطلقا وهو الذي يسميه المتكلمون اعتمادا وهو كيفية بها يكون الجسم
مدافعا لما يمانعه.
وهو ينقسم الى
ذاتي وعرضي لانه ان قام حقيقة بما وصف به فهو ذاتي وان لم يقم به حقيقة بل بما
يجاوره فهو عرضي على قياس الحركة الذاتية والعرضية والميل الذاتي ينقسم الى طبيعي
وقسري ونفساني لان حدوثه في محله الحقيقي ان كان من تأثير امر خارج عن ذلك المحل
اي مباين له في الوضع فهو قسري كما في السهم المرمي وان كان حدوثه فيه من تأثير ما
لا يباينه وضعا فان كان مع قصد وشعور فنفساني والا فطبيعي سواء اقتضته القوة على
وتيرة واحدة ابدا كميل الحجر الساكن في الجو او اقتضته على وتيرة مختلفة كميل
النبات الى النمو والتزايد.
والمراد
بالطبيعية ههنا ما يصدر عنه الحركة او السكون اولا وبالذات دون شعور وارادة
والمراد بالنفساني ههنا الأرادي ومنهم من يجعل النفساني اعم منه ومن احد قسمي
الطبيعي اعني ما لا يكون على وتيرة واحدة لاختصاصه بذوات الانفس فربما تختلف على
حسب اقتضاء النفس وبهذا الاعتبار يسمى ميل النبات نفسانيا ويختص الطبيعية بما يصدر
عنه الحركات
على نهج واحد دون شعور وارادة وهو العلة القريبة للحركة اي هو سبب مقتض
للحركة اقتضاء يترتب عليه وجود الحركة ان لم يكن هناك مانع انتهى.
(و) من المدركات
باللمس (ما يتصل بها اي بالمذكورات) اي ما يلحق بالمذكورات في كونه مدركا باللمس (كالبلة
والجفاف). البلة هي الرطوبة الجارية على سطوح الأجسام والجفاف يقابلها (واللزوجة)
وهي كيفية تقتضي سهولة التشكل وعسر التفرق كما في العلك الذي تستعمله النسوان
واشباهها (والهشاشة) وهي كيفية تقتضي سهولة التفرق وعسر الاتصال بعد التفرق كالخبز
المعجون بالسمن والفطير الكائن من الذرة (واللطافة) هي رقة القوام اي الاجزاء
المتصلة كما في الماء وقيل هي كون الشيء شفافا بحيث لا يحجب ما ورائه (والكثافة)
ضدها بكل واحد من المعنيين (وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الفن) كاللذع الذي
هو كيفية سارية في الأجزاء يحس بها ان مس اللاذع.
(او عقلية عطف
على حسية اي الصفة الحقيقية اما حسية كما مر او عقلية كالكيفيات النفسانية اي
المختصة بذوات الانفس) الحيوانية بمعنى انها تكون من بين الاجسام للحيوان دون النبات
والجماد فلا يمتنع ثبوت بعضها للمجردات من الواجب وغيره وفسرها بعضهم بالمختصة
بذوات الانفس مطلقا كذا في الميبدي والقوشجي.
ثم الكيفية
النفسانية ان كانت راسخة سميت ملكة وان كانت غير راسخة سميت حالا والتمايز بينهما
قد لا يكون الا بعارض بان يكون الصفة حالا ثم يصير بعينها ملكة كما ان الشخص من
الانسان يكون صبيا ثم يصير شيخا فكذلك الصفة النفسانية بعينها تصير ملكة بعد ما
كانت حالا.
(من الذكاء اي
حدة الفواء) قد يطلق الفواد على الشكل الصنوبري
وعلى القوة الحاصلة فيها والمراد هنا الثاني (وهي) اي حدة الفؤاد (شدة قوة
للنفس معدة) بكسر العين اي مهيئة او بفتح العين هيئها الله لاكتساب الآراء) اي
العلوم والمعارف (وقيل هو ان يكون سرعة انتاج القضايا وسهولة استخراج النتائج ملكة
للنفس كالبرق اللامع الخاطف بواسطة كثرة مزاولة المقدمات المنتجة).
(و) من
الكيفيات النفسانية العلم) وليعلم ان (العلم قد يطلق على الادراك المفسر بحصول
صورة من الشيء عند العقل و) قد يطلق على الأعتقاد الجازم المطابق الثابت و) قد
يطلق كما تقدم في اوائل الكتاب (على ادراك الكلي وعلى ادراك المركب و) قد يطلق (على
ملكة يقتدر بها على استعمال موضوعات ما) اي آلات ما سواء كان خارجية كآلات الخياطة
والنجارة ونحوهما او ذهنية كالأستدلال (نحو) اي جانب (غرض من الاغراض) كاستعمال
آلات الخياطة نحو خياطة القميص واستعمال آلات النجارة نحو نجارة الباب وكاستعمال
الدليل نحو اثباب المدعى.
لكن حالكون ذلك
الاستعمال (صادرا عن البصيرة بحسب ما يمكن) والأ فليس من باب الملكة (ويقال لها)
اي للملكة (الصناعة) ايضا.
(و) من
الكيفيات النفسانية (الغضب وهي حركة للنفس مبدئها) اي سببها وعلتها (ارادة
الانتقام) ويعجبني ان اذكر ههنا نكتة ذكرها النيشابوري في تفسيره قال واعلم انه قد
ورد في القرآن الفاظ دالة على معان لا يمكن اثباتها بالحقيقة في حق الله تعالى
منها الأستهزاء (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) والأستهزاء مذموم لكونه جهلا (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ
أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ومنها المكر (وَمَكَرُوا) ومكري ومنها الغضب (وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) ومنها التعجب (بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ) فيمن قرء بضم التاء والتعجب حالة للقلب يعرض عند الجهل
بسبب الشيء ومنها التكبر (الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ) والقانون في تصحيح هذه الالفاظ ان يقال لكل واحدة من
هذه الأحوال امور توجد معها في البداية وآثار تصدر منها في النهاية مثاله الغضب
حالة يحصل في القلب عند غليان دمه وسخونة مزاجه والاثر الحاصل منها في النهاية
ايصال الضرر الى المغضوب عليه فالغضب في حقه تعالى محمول على الاثر الحاصل في
النهاية لا الأمر الكائن في البداية وقس على هذا.
(و) منها (الحلم
وهو ان تكون النفس مطمئنة بحيث لا يحركها الغضب) المتلبس (بسهولة) وانما يحرك نفس
الحليم الغضب القوي ولذلك يقال انتقام اشد على قدر غضبه وقد يقال ان الحلم كيفية
نفسانية تقتضي العفو عن الذنب مع المقدرة على الانتقام ولعله الى ذلك اشار بقوله (ولا
تضطرب) النفس (عند اصابة المكروه) فتأمل.
(و) منها (سائر
الغرائز جمع غريزة وهي الطبيعة) اعني السجية التي جبل عليها الانسان وانما سميت
غريزة لأنها لملازمتها للانسان صارت كأنها مغروزة فيه فهي فعيلة بمعنى مفعولة.
(وفسرت)
الغريزة (بانها ملكة تصدر عنها صفات ذاتية) والمراد بالصفات الذاتية الصفات)
الأختيارية (التي لا يكون للكسب فيها مدخل فملكة الكتابة والخياطة ونحوهما لا تسمى
غريزة لأن صدور هذه الأفعال من الأنسان انما يكون بعد الكسب وكذلك الكرم ونحوه اذا
كان صدوره بالأعتياد والممارسة.
(ويقرب منها)
اي من الغريزة (الخلق) بضمتين (وهو ملكة تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير روية الا
ان للاعيتاد مدخلا في الخلق دون
الغريزة وتلك الغرائز مثل الكرم والقدرة والشجاعة ومقابلاتها) اي البخل
والعجز والجبن (وما اشبه ذلك) كالعفة والتملق والاحسان ونحو ذلك.
(واما اضافية
عطف على قوله) فيما سبق (اما حقيقية والحقيقية) لها اطلاقان لانها (كما تطلق على
ما يقابل الاضافي) وهو (الذي لا يكون متقررا في الذات بل يكون متعلقا بشيئين) بحيث
يتوقف تصوره على تصورهما كالفوقية والتحتية والبوة والبنوة فانه ليس شيء منها
متقررا في ذات بقطع النظر عن الغير بل بالقياس الى الغير و (كأزالة الحجاب) فان
المضاف اي الازالة (في تشبيه الحجة بالشمس) من الاضافي بهذا المعنى (فانها ليست
هيئة متقررة في ذات الحجة) التي تقام لاثبات ما خفى من المدعى (ولا في ذات الحجاب).
والحاصل انك
اذا قلت هذه الحجة كالشمس كان وجه الشبه بينهما ازالة الحجاب عما من شأنه ان يخفى
الا ان الشمس مزيلة عن المحسوسات والحجة مزيلة عن المعقولات واذ زال الحجاب ظهر
المزال عنه والوجه المذكور ليس صفة متقررة في الحجة ولا في الشمس بل امر نسبي
يتوقف تعقله على تعقل المزال وهو الحجاب وتعقل المزيل كما ان الابوة والنبوة يتوقف
كل واحد منهما على تصور شيئين اي الاب والابن فتأمل.
(كذلك قد تطلق)
الحقيقية (على ما يقابل الاعتباري) وهو (الذي لا تحقق لمفهومه الا يحسب اعتبار
العقل).
والحاصل ان
الصفة اما ان تكون متقررة في ذات الموصوف لكونها موجودة في الخارج كالكيفيات
الجسمانية المدركة بالحواس الخمس الظاهرة وكالكيفيات النفسانية المدركة بالعقل
كالعلم والحلم والغصب وسائر الغرائز وتسمى هذه الصفة حقيقية.
واما ان تكون
غير موجودة في الخارج وهي على قسمين الاولى الصفة التي يكون لها تحقق وثبوت سواء
اعتبرها المعتبر ام لا كالابوة والبنوة وكأزالة الحجاب وتسمى هذه الصفة اضافية
واعتبارية نسبية والثانية الصفة التي لا يكون لها تحقق وثبوت الا باعتبار المعتبر
فقط فان اعتبرها المعتبر كانت محققة وثابتة وان لم يعتبرها المعتبر لم يكن لها
تحقق وثبوت (كالصورة الوهمية الشبيهة بالمخلب) او الاظفار) والناب (للمنية) وكصورة
الغول وكرم البخيل وبخل الكريم والاحسان وحسن الاخلاق من اللئيم وتسمى هذه الصفة
اعتبارية وهمية.
(والى كليهما)
اي كلا الاطلاقين (أشار صاحب المفتاح حيث قال ان الوصف العقلي منحصر بين حقيقي
كالكيفيات النفسانية وبين اعتباري.
(ونسبي) اي
اضافي (كاتصاف الشيء بكونه مطلوب الوجود) لكونه مرغوبا فيه محبوبا للطالب وهذا
المعنى امر نسبي اي اضافي لانه يتوقف تعقله على تعقل الطالب والمطلوب (او) بكونه
مطلوب (العدم) لكونه مرغوبا عنه ومكروها للطالب وهذا المعنى ايضا امر نسبي كما
بينا في المعنى المتقدم (عند النفس) اي نفس طالب الوجود او العدم.
(او كاتصافه)
اي كاتصاف الشيء (بشيء تصوري وهمي محض) اي خالص من التحقق والثبوت كالصورة الشبهية
بالمخلب او الناب للمنية.
(واعلم ان
امثال هذه التقسيمات) اي (التي) ذكرها السكاكي ونقلها المصنف اي الخطيب بقوله
طرفاه اما حسيان كالخد والورد الى هنا (لا يتفرع على اقسامه احكام متفاوتة) اذ
التشبيه تشبيه سواء كان طرفاه حسيين او غيرهما وكذلك سائر ما ذكر من الاقسام فتكون
التقسيمات (قليلة الجدوى) اي قليلة الفائدة والنفع.
قال في المصباح
جدا فلان علينا جدوا وجدا وزان عصا إذا أفضل والاسم الجدوي وجدوته واجتديته واستجديته
سألته فأجدى علي اذا اعطاك واجدى ايضا اصاب وما اجدى فعله شيئا مستعار من الاعطاء
اذا لم يكن فيه نفع واجدي عليك الشيء كفاك انتهى.
(وكان هذا) اي
ذكر هذه التقسيمات (ابتهاج من السكاكي باطلاعه على اصطلاحات المتكلمين فلله در
الامام عبد القاهر واحاطته بأسرار كلام العرب وخواص تراكيب البلغاء فانه لم يزد في
هذا المقام على التكثير من امثلة انواع التشبيهات وتحقيق اللطائف التي فيها) اي في
الامثلة.
(وايضا) تقسيم
آخر وهو ان (وجه التشبيه اما واحد) والمراد بالواحد هنا ما يعد في العرف واحدا لا
الذي لا جزء له اصلا (واما بمنزلة الواحد لكونه مركبا من متعدد اما تركيبا حقيقيا
بان يكون وجه التشبيه حقيقة ملتئمة من امور مختلفة) والمراد بالجمع ما فوق الواحد
وذلك كالحقيقة الانسانية الواقعة في قولك زيد كعمرو في الانسانية فهي حقيقة مركبة
تركيبا حقيقيا من امرين مختلفين وانما كان التركيب حقيقيا لأن الجزئين اعني
الحيوانية والناطقية صارا شيئا واحدا في الخارج فتأثير هذا التركيب في تقريب
المركب من الواحد احق واقوى والغرض من التركيب افادة هذا المعنى فكان باسم التركيب
ايضا احق واقوى.
(او تركيبا
اعتباريا بان يكون هيئة انتزعها العقل) اي اوجدها اي استحضرها العقل (من) ملاحظة
عدة (امور) مختلفة لم يصر مجموع تلك الامور حقيقية واحدة بخلاف ما تقدم من التركيب
الحقيقي والحاصل ان المركب تركيبا اعتباريا لا حقيقة له في حد ذاته بل هو هيئة
يلاحظها العقل من اجتماع امور بحيث لا يصح التشبيه الا باعتبار تعلقها بمجموع
الأجزاء
كالهيئة المنتزعة في قول الشاعر كان مثال النقع فوق رؤوسنا الخ فانه سيأتي
ان وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من هوى اجرام مشرقة على وجه مخصوص في جنب شيء
مظلم فان من المعلوم انه لا يلتئم من المجموع حقيقة واحدة ولكن تلك الهيئة وان
اعتبر فيها متعدد لكنها كالشيء الواحد في عدم استقلال كل جزء منها في التشبيه.
(وبهذا) الذي
ذكر من التعميم في المركب من متعدد (يشعر لفظ المفتاح) الذي هو اصل لهذا المتن
وسيأتي نقله عند بيان المركب الحسي ولذلك حمله التفتازاني على التعميم المذكور (و)
لكن (فيه) اي في التعميم (نظر ستعرفه) عند البيان المذكور.
(وكل منهما اي
من الواحد وما هو بمنزلته حسي او عقلي) فهذه اقسام اربعة وقوله (واما متعدد عطف
على) قوله المتقدم (اما بمنزلة الواحد اي وجه التشبيه اما واحد او غيره وغير
الواحد اما بمنزلة الواحد وإلا متعدد) وذلك بان ينظر الى عدة امور ويقصد اشتراك
الطرفين في كل واحد منها) عليحده ومستقلا بحيث لا يتقيد بعضها ببعض بل كل واحد
منها منفرد بنفسه بحيث لو حذف البعض واقتصر على البعض لم يختل التشبيه كقولنا هذه
الفاكهة مثل هذه الفاكهة في شكلها ولونها وحلاوتها وطعمها (وهذا بخلاف المركب
المنزل منزلة الواحد فانه لم يقصد اشتراكهما) اي الطرفين (في كل واحد من تلك
الامور) عليحده ومستقلا (بل) قصد اشتراكهما (في الهيئة المنتزعة) اذا كان تركيبا
اعتباريا كالبيت المشار اليه آنفا (او) في (الحقيقة الملتئمة) اذا كان مركبا
تركيبا حقيقيا كقولنا زيد كعمرو في الانسانية وقد مر بيانه.
(وذلك المتعدد
كذلك اي اما حسى او عقلي او مختلف اي بعضه
حسى وبعضه عقلي) وهذه ثلاثة اقسام فصار المجموع سبعة اقسام وسيجيء تصريح
التفتازاني بذلك هذا كله في نفس وجه التشبيه واما اجزاء وجه التشبيه فأشار اليها
بقوله (والمتعدد الذي يتركب منه ما هو بمنزلة الواحد ايضا اما حسي او عقلي او
مختلف) اي بعضه حسي وبعضه عقلي (لكن لما كان وجه التشبيه هو المجموع المركب دون كل
واحد من الاجزاء لم يلتفت الى تقسيمه) اي الى تقسيم المجموع المركب باعتبار اجزائه
الى الأقسام الثلاثة اذ لا غرض لنا يتعلق باجزائه.
(والحسي طرفاه
حسيان لا غير يعني ان وجه التشبيه سواء كان بتمامه حسيا) وذلك اذا كان واحدا او
مركبا (او متعددا مختلفا) اي يكون بعضه حسيا وبعضه عقليا (لا يكون المشبه والمشبه
به فيه الأ حسيين ولا يجوز ان يكون كلاهما او احدهما عقليا لأمتناع ان يدرك بالحس)
الظاهر اعني الخمسة التي منها السمع والبصر (من) الطرف (غير الحسي شي) حسي (يعني
ان وجه التشبيه امر ماخوذ من الطرفين) فهو (موجود فيهما وكل ما يوخذ من العقلي
ويوجد فيه يجب ان يدرك بالعقل لأبالحس لأن المدرك بالحس لا يكون الأ جسما او قائما
بالجسم) كالألوان وسأئر الكيفيات الجسمانية.
(و) وجه
التشبيه (العقلي) سواء كان بتمامه عقليا او متعددا مختلفا حسبما مر (اعم) من وجه
التشبيه الحسي (يعني يجوز ان يكون طرفاه) اي طرفا العقلي (عقليين و) يجوز (ان
يكونا حسيين وان يكون احدهما حسيا والآخر عقليا لجواز ان يدرك بالعقل من) الطرف (الحسي
شيء) عقلي كما يجوز ان يدرك منه بالحس شيء حسي (اذ لا امتناع في قيام المعقول
بالمحسوس بل كل محسوس فله اوصاف) متعددة (بعضها حسي)
كالكيفيات الجسمانية في الانسان (وبعضها عقلي) كالكيفيات النفسانية فيه.
(ولذلك) اي
لاجل ما قلناه من ان وجه التشبيه اذا كان عقليا يكون اعم من وجه التشبيه الحسي
وتلك الأعمية باعتبار الطرفين (يقال التشبيه بالوجه العقلي اعم من التشبيه بالوجه
الحسي بمعنى ان كل ما يصح فيه التشبيه بالوجه الحسي) بأن يكون الطرفان حسيين (يصح
بالوجه العقلي دون العكس) بالمعنى اللغوي اي لأ يصح ان يقال كل ما يصح فيه التشبيه
بالوجه العقلي يصح بالوجه الحسي واما العكس المنطقي فهو صحيح لكونه جزئيا فتدبر
جيدا واما بطلان العكس اللغوي فهو (لما مر) من امتناع ان يدرك بالحس من غير الحسي
شيء حسبما ما بيناه فتدبر جيدا.
واعلم ان ههنا
سؤالا اي اشكالا نشأ من القول بان وجه التشبيه قد يكون حسيا اشار اليه بقوله (فان
قيل هو اي وجه التشبيه مشترك فيه) لأنه يوجد في الطرفين (فهو كلي) لصدقه على
كثيرين (والحسي ليس بكلي) لما يبين في (تقرير السؤال) وهو اي التقرير انه اي
السؤال مركب من قياسين اولهما من الشكل الاول مؤلف من موجبتين كليتين والصغرى منهما
قوله (ان كل وجه تشبيه فهو مشترك فيه لأشتراك الطرفين فيه) والكبرى منهما قوله (وكل
مشترك فيه فهو كلي لان الجزئي ما يكون نفس تصوره مانعا من وقوع الاشتراك فيه)
والنتيجة من هذا القياس الاول كلي وهو قوله (فكل وجه تشبيه فهو كلي).
وثانيهما من
الشكل الثاني مؤلف من موجبة كلية صغرى هي نتيجة القياس الاول اي قولنا كل وجه
تشبيه فهو كلي ومن سالبة كلية كبرى وهي قوله (ولا شيء من الحسي بكلى لأن كل حسى
فهو موجود في المادة حاضر عند المدرك) بالكسر (وكل ما هذا شأنه) اي كل ما هو موجود
في
المادة) اي الجسم (حاضر عند المدرك فهو جزئي ضرورة) والنتيجة من هذا القياس
الثاني قوله (فلا شيء من وجه التشبيه بحسي وهو المطلوب) فثبت الاشكال.
(قلنا) في
الجواب عن الاشكال ان (المراد بكون وجه التشبيه حسيا ان افراده اي جزئياته) حسي لا
نفسه ومن البديهي ان الأفراد قد يكون (مدركة بالحس كالحمرة في تشبيه الوجه بالورد
فان افراد الحمرة وجزئياتها الحاصلة في المواد مدركة بالبصر وان كانت الحمرة
الكلية المشتركة بينهما مما لا يدرك الأ بالعقل) لأ بالحس الظاهر.
(واعلم ان هذا)
الجواب (لأ يصلح جوابا عما ذكره صاحب المفتاح وهو) اي ما ذكره صاحب المفتاح (ان
التحقيق في وجه التشبيه يأبى ان يكون هو غير عقلي) واما وجه عدم صلاحية هذا الجواب
عما ذكره صاحب المفتاح فهو قول التفتازاني (لان المصنف قد عدل عن التحقيق) الذي
ذكر في المفتاح (الى التسامح كما ترى) في قوله فان قيل هو مشترك فيه الخ ونحن نذكر
كلام المفتاح بتمامه حتى يظهر لك عدول المصنف عن التحقق الى التسامح.
قال في المفتاح
وههنا نكتة لا بد من التنبيه لها وهي ان التحقيق في وجه الشبه يابى ان يكون غير
عقلي وذلك انه متى كان حسيا وقد عرفت انه يجب ان يكون موجودا في الطرفين وكل موجود
فله تعين فوجه الشبه مع المشبه متعين فيمتنع ان يكون هو بعينه موجودا مع المشبه به
لامتناع حصول المحسوس المعين ههنا مع كونه بعينه هناك بحكم الضرورة وبحكم التنبيه
على امتناعه ان شئت وهو استلزامه اذا عدمت حمرة الخدود دون حمرة الورد او بالعكس
كون الحمرة معدومة موجودة معا وهكذا في اخواتها
بل يكون مثله مع المشبه به لكن المثلين لا يكونان شيئا واحدا ووجه الشبه
بين الطرفين كما عرفت واحد فيلزم ان يكون امرا كليا مأخوذا من المثلين بتجريدهما
من التعين لكن ما هذا شأنه فهو عقلي ويمتنع ان يقال فالمراد بوجه الشبه حصول
المثلين في الطرفين فان المثلين متشابهان فمعهما وجه تشبيه فان كان عقليا كان
المرجع في وجه الشبه العقل في المال وان كان حسيا استلزم ان يكون مع المثلين مثلان
اخران وكان الكلام فيهمأ كالكلام فيما سواهما ويلزم التسلسل انتهى.
فترى ان
المفتاح حكم بامتناع كون نفس وجه التشبيه حسيا وما ذكره المصنف تسليم لما حكمه واعتراف
بان وجه الشبه عقلي لكنه يسمى حسيا باعتبار افراده وهل هذا الا تسامح منه وخروج عن
التحقيق لان ما يدرك افراده بالحس لا يسمى حسيا وذلك لما تقدم من ان الخيالي ملحق
بالحسي لا حسي.
(قوله الواحد
الحسي شروع في تعداد امثلة الاقسام المذكورة ووجه ضبطها ان وجه التشبيه اما واحد
او مركب او متعدد وكل من الاولين) اي الواحد والمركب (اما حسي او عقلي) اي ما يدرك
بالعقل وان كان بعض اجزائه حسيا كالمركب الذي بعضه حسي وبعضه عقلي (والاخير) اي
المتعدد (اما حسي او عقلي او مختلف) بان يكون بعض اجزائه حسيا وبعضها عقليا (فصارت
سبعة اقسام وكل منها طرفاه امأ حسيأن او عقليان) اي مدركان بالعقل سواء كان
اجزائهما عقليين او بعضها عقليا وبعضها حسيا او المشبه حسي والمشبه به عقلي او
بالعكس) فبضرب هذه الاقسام الاربع في تلك الأقسام السبعة (يصير) الأقسام (ثمانية
وعشرين لكن وجوب كون طرفي الحسي حسيين يسقط اثني عشر قسما) ثلاثة منها
فيما يكون وجه الشبه واحدا حسيا والطرفان عقليين او المشبه عقليا والمشبه
به حسيا وعكسه وثلاثة منها فيما يكون الشبه مركبا حسيا كذلك وثلاثة منها فيما يكون
وجه الشبه متعددا حسيا كذلك وثلاثة فيما يكون وجه الشبه مختلفا كذلك وليعلم انه
انما اهمل الخيالي والوهمي والوجداني لدخول الاول في الحسي والاخيرين في العقلي.
(وتبقى ستة عشر)
قسما (فالواحد الحسي كالحمرة من المبصرات والخفاء اي خفاء الصوت من المسموعات وفيه
تسامح لان الخفاء ليس بمسموع) بل المسموع هو الصوت المتصف بالخفاء (وكذا في قوله
وطيب الرائحة من المشمومات ولذة الطعم من المذوقات) لان المشموم هو الرائحة لا
طيبها والمذوق هو الطعم لا لذته) والحاصل ان الخفاء والطيب واللذة امور عقلية غير
مدركة بالحواس فتأمل.
(ولين) الجسم (الملس
من) الاجسام (الملموسات فيما مر) عند بيان طرفي اللشبيه (اي في تشبيه الخد بالورد
والصوت الضعيف بالهمس والنكهة بالعنبر والريق بالخمر والجلد الناعم بالحرير)
وليعلم ان مقتضى الاختصار ان يقتصر في المقام في التمثيل للواحد الحسي على مثال
واحد لكن المصنف مثل له بامثلة خمسة نظرا لتعدد الحواس وكونها خمسة وكيف كان فهو
قسم واحد من الاقسام الستة عشر.
(و) وجه
التشبيه (الواحد العقلي) اربعة اقسام لان طرفيه اما عقليان او حسيان او المشبه
عقلي والمشبه به حسي او عكس ذلك فالاول (كالعراء عن الفائدة و) الثاني (الجرئة هي
على وزن الجرعة) بمعنى ملأ الفم من الماء واما الجرئة فهي بمعنى التجاسر والسرعة
بالهجوم على الخصم من غير توقف وعدم الاعتناء به وهي كما سيصرح اعم من (الشجاعة)
وفيه
اربع لغات جرائية ككراهية وجرة ككزة وجرائة بضم الجيم والمد لكنه على ما
قيل لحن (و) قد (يقال جرائة بالمد) ككراهة.
(وانما اختار
الجرئة على الشجاعة لان الشجاعة على مأ فسرهأ الحكماء) من الملكات النفسانية فهي (مختصة
بذوات الانفس) الناطقة (لوجوب كونها عن روية) وفكر (فيمتنع اشتراك الاسد فيه بخلاف
الجرئة) فانها كما اشرنا اقتحام المهالك مطلقا اي سواء كان صادرا عن روية وفكر ام
لا واما اللغويون فانهم يتسامحون في تفسير الالفاظ فلذلك يقولون ان الجرئة هي
الشجاعة.
(و) الثالث (الهداية
اي الدلالة الموصولة الى المطلوب) او ارائه الطريق الاول انسب لما يأتي من كون
طرفيه العلم والنور اذ كل منهما موصل الى شيء (و) الرابع (استطابة النفس) مصدر
مضاف الى الفاعل اي وجدان النفس طيب شيء.
الى هنا كان
الكلام في اقسام الواحد العقلي ثم شرع في بيان طرفي كل واحد منها فبينها بقوله (في
تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه) كما يقال فيمن لا عقل له هذا وجوده كعدمه
هذا (فيما طرفاه معقولان فان الوجود والعدم من الامور العقلية سواء كان الوجود
عاريا عن الفائدة) كما فيمن لا عقل له (او غير عار) عن الفائدة كما فيمن له عقل (وبهذا)
اي بجعل وجه التشبيه بين وجود الشيء وعدمه العراء عن الفائدة (سقط ما ذكره الشيخ
في دلائل الاعجاز من ان التشبيه) في الأصطلاح (هو ان تثبت لهذا) اي للمشبه (معنى
من معاني ذلك) اي المشبه به (و) تثبت لهذا (حكما من احكامه) اي احكام المشبه به
فالأول (كاثباتك للرجل شجاعة الاسد و) الثاني كاثباتك (للعلم حكم النور في انك
تفصل به) اي
بالعلم (بين الحق والباطل كما تفصل بالنور بين الاشياء و) لكن (اذا قلت
للرجل القليل المغاني) اي المنافع (هو معدوم او هو والمعدوم سواء) او هو كالعدم (لم
تثبت بشيء من هذه الاقوال (له) اي للرجل (شبها من شيء) آخر فليس شيء من هذه
الاقوال تشبيها اصطلاحيا (بل انما تنفي وجوده كما اذا قلت ليس هو بشيء ومثل هذا)
الكلام (لا يسمى) في الاصطلاح (تشبيها) لما مر آنفا من ان التشبيه في الاصطلاح هو
ان تثبت لهذا معنى من معاني ذلك او حكما من احكامه.
(ثم قال الامر
كذلك) يعني حقيقة المطلب ما ذكرنا من عدم كون ذلك تشبيها اصطلاحيا (لكنا اذا نظرنا
الى ظاهر قولهم) هو (موجود كالمعدوم) في العراء عن الفائدة (و) قولهم هو (شيء
كاللاشيء) كذلك (و) قولهم هو (وجود شبيه بالعدم) كذلك فظاهر هذه الاقوال جامع
لجميع اركان التشبيه لكنها في الحقيقة ليست بتشبيه اصطلاحي (فان ابيت الا ان تعمل
على الظاهر فلا مضايقة فيه) انتهى كلام الشيخ اما وجه سقوطه فهو انهم لم يريدوا
بهذه الاقوال نفي الوجود من الشيء كما ادعاه بل اريد بها اثبات المعنى الذي في
العدم وهو العراء عن الفائدة للوجو فيكون تشبيها اصطلاحيا يقينا هذا ولكن لا يخفى
عليك ان النزاع حينئذ يكون لفظيا فتأمل.
(و) في تشبيه (الرجل
الشجاع بالاسد فيما طرفاه حسيان) (و) في تشبيه (العلم بالنور فيما المشبه عقلي
والمشبه به حسي فبالعلم يوصل الى الحق و) بالعلم (يفرق بينه) اي بين الحق (وبين
الباطل كما ان بالنور يدرك المطلوب) اي يرى فيعرف (و) بالنور (يفصل بين الاشياء)
المحسوسة بالبصر (و) في تشبيه (العطر بخلق رجل كريم فيما المشبه
محسوس) بالشامة (والمشبه به معقول وفي الكلام لف) لاقسام وجه التشبيه (ونشر)
مرتب لطرفيه (وهو ظاهر) قال في نصاب الصبيان بالفارسية.
لف ونشر مرتب
انرا دان
|
|
كه دو لفظ
آورند ودو معنى
|
لفظ اول
بمعنى اول
|
|
لفظ ثاني
بمعنى ثاني
|
لف نشر مشوش
انرادان
|
|
كه دو لفظ
اورندو دو معنى
|
لفظ ثاني
بمعنى اول
|
|
لفظ اول بمعنى
ثاني
|
(و) ليعلم ان (في وحدة) وجه
التشبيه في (بعض هذه الامثلة تسامح لما فيه من شائبة التركيب كالعراء عن الفائدة)
وذلك لتقييده بالجار والمجرور (واستطابة النفس) وذلك لتقييده بالمضاف اليه.
واجيب عن ذلك
بانه لم يقصد في ذلك الى هيئة منتزعة من معان عديدة وهي المراد بالمركب كما يأتي
عن قريب بل قصد في كل منها الى معنى واحد لكن قيد بمعنى آخر جعل تابعا وتتمة له
وكم فرق بين التقييد والتركيب كما يظهر ذلك من قول الحكيم السبزواري تقيد جزء وقيد
خارجي فراجع ان شئت وسيجييء زيادة تحقيق لذلك بعيد هذا.
(و) اعلم انه (قد
ذكر) السكاكي (في المفتاح و) الخطيب في (الايضاح من امثلة العقلي فيما طرفاه
عقليان تشبيه العلم بالحيوة) بان يقال العلم كالحيوة (في كونهما جهتي ادراك وبيان
ذلك) اي بيان كون الطرفين في هذا المثال عقليين (ان المراد بالعلم) في هذا التشبيه
(الملكة التي يقتدر بها على ادراكات جزئية) اي على النتائج التي تحصل من ضم الصغرى
الى الكبرى فتقييد الادراكات بكونها جزئية غير مستحسن لان النتيجة قد تكون كلية (كعلم
النحو) فانه يقال فيه كل فاعل ركن للكلام وكل ركن
للكلام عمدة فكل فاعل عمدة وقد تقدم منا في اول الفن الاول ما يفيدك ههنا
فراجع ان شئت.
(والحيوة شرط
للادراك) مطلقا (والسبب والشرط يشتركان في كونهما طريقين الى الادراك ويقرب من هذا
ما يقال ان المراد بالعلم هو العقل ولو جعل وجه التشبيه بين الحيوة والعلم
الانتفاع بهما كما ان وجه التشبيه بين الجهل والموت عدم الانتفاع كان ايضا صوابا)
ومن هنا قيل الناس اموات واهل العلم احياء.
(والمركب الحسي
من وجه الشبه لا ينقسم باعتبار حسية الطرفين وعقليتهما لما عرفت من ان الحسي مطلقا)
اي سواء كان مركبا او واحدا او متعددا (لا يكون طرفاه الأ حسيين لكنه ينقسم
باعتبار آخر وهو ان طرفيه اما مفردان او مركبان او احدهما مفرد والآخر مركب.
فان قلت ما
معنى الافراد والتركيب ههنا) اي في الطرفين اذا كان وجه الشبه مركبا (ولم خصص هذا
التقسيم بوجه الشبه المركب دون الواحد.
قلت يجب ان
يعلم ان ليس المراد بتركيب المشبه والمشبه به ان يكون) كزيد والاسد من حيث ان كل
واحد منهما (حقيقة مركبة من اجزاء مختلفة) والاجزاء في زيد عبارة عن الحيوانية
والناطقية والتشخص وفي الأسد عن الحيوانية والمفترسية والتشخص وبعبارة اخرى ليس
المراد من التركيب ههنا اي في الطرفين التركيب الحقيقي كالذي في نحو زيد والاسد.
وانما قلنا ليس
المراد من التركيب ههنا هذا المعنى (ضرورة ان الطرفين في قولنا زيد كالاسد مفردان
لا مركبان) مع ان كل واحد منهما كما قلنا حقيقة مركبة من جنس وفصل وتشخص فلو اريد
بالمركب ما يكون حقيقة
مركبة من اجزاء مختلفة لم يجز جعلهما مفردين (وكذا في وجه الشبه ضرورة ان
وجه الشبه في قولنا زيد كعمرو في الانسانية واحد) مع اشتمال وجه التشبه اعنى
الانسانية على الحيوانية والناطقية (لا منزل منزلة الواحد) حتى يمكن ان يقال انه
مركب.
(بل المراد
بالتركيب) ههنا اي في الطرفين وفي وجه الشبه (ان تقصد) انت (الى عدة اشياء مختلفة)
لكل منها دخل في تحققه هذا في الطرفين (او) تقصد (الى عدة اوصاف لشيء واحد) كذلك
هذا في وجه الشبه (فتنتزع منها) اي من الاشياء او الاوصاف (هيئة وتجعلها) اي
الهيئة المنتزعة (مشبها) كما سيجيء في تشبيه نهار مشمش شابه زهر الربى بليل مقمر (او
مشبها به) كما مر في تشبيه الشقيق باعلام ياقوتية نشرن على رماح من زبرجد وسيصرح
بذلك عن قريب (او وجه تشبيه) كما سيجيء في قول ابن المعتز وابي النجم.
(ولذلك ترى
صاحب المفتاح يصرح في تشبيه المركب بالمركب بان كلا من المشبه والمشبه به هيئة
منتزعة على ما سيجيء) في بحث تقسيم التشبيه باعتبار الطرفين (انشاء الله).
الى هنا كان
الكلام في الجواب عن قول السائل ما معنى الافراد والتركيب ههنا واما الجواب عن
قوله ولم خصص هذا التقسيم بوجه الشبه المركب فاشار اليه بقوله (وحينئذ) اي حين اذ
عرفت معنى الواحد والمركب ههنا (لا يخفى عليك ان وجه التشبيه الواحد بهذا المعنى)
المذكور ههنا.
(اعنى بمعنى ان
لا يكون معنى منتزعا من عدة اشياء لكل منها دخل في تحققه) لان الواحد بهذا المعنى
مقابل للمركب بهذا المعنى فحينئذ (لا يكون طرفاه) اي طرفا الواحد بهذا المعنى (مركبين
بالمعنى المذكور) ههنا
(لان تركيب الطرفين بهذا المعنى اعني بمعنى ان تقصد الى) شيئين (متعددين
وتنتزع منهما هيئتين ثم تقصد اشتراك الهيئتين في هيئة) واحدة (تعمهما) اي الهيئتين
(وتشملهما انما يكون) هذا التركيب (اذا كان وجه الشبه) ايضا (مركبا فليتأمل) حتى
لا يتوهم انه يجوز ان يكون الهيئتين المنتزعتين مشتركتين في امر واحد عارض لهما
فلا يستلزم تركيب وجه الشبه.
(وبهذا) اي بما
ذكرنا من ان المركب سواء كان طرفا او وجه شبه لا يكون الا هيئة منتزعة لأ حقيقة
مركبة من اجزاء مختلفة (يظهر ان ما ذكر في المفتاح من ان وجه الشبه يكون امرا
واحدا أو غير واحد وغير الواحد اما ان يكون في حكم الواحد لكونه اما حقيقة ملتئمة
او اوصافا مقصودا من مجموعها الى هيئة واحدة او لا يكون في حكم الواحد محل نظر)
وجه النظر انه صرح بان غير الواحد يمكن ان يكون حقيقة ملتئمة اي مركبة وقد قلنا
انه لا يكون الا هيئة منتزعة لأ حقيقة مركبة من اجزاء مختلفة.
(فالمركب الحسي)
من وجه الشبه (فيما اي في التشبيه الذي طرفاه مفردان كما في قوله اي كوجه التشبيه
في قول احيحة بن الجلاح) بضم الجيم وتخفيف اللام (او قيس بن الاسلت وقد لاح في
الصبح الثريا كما ترى وفي رواية لمن رأى كعنقود ملاحية) الاضافة بيانية (الملاحي
بضم الميم عنب ابيض في حبه طول) وتخفيف اللام فيه اكثر من التشديد (وقد جاء بتشديد
اللام كما في هذا البيت) مع قلته لاستقامة الوزن ومن هنا قيل انه ضرورة (حين نورا
اي تفتح نوره كذا في اسرار البلاغة).
قال في المصباح
نور الشجرة مثل فلس زهرها والنور زهر النبت ايضا الواحدة نورة مثل تمر وتمرة ويجمع
النور على انوار ونوار مثل تقاح
وانار النبت والشجرة ونور بالتشديد اخرج النور انتهى والى ذلك اشار بقوله (يقال
نورت الشجرة وانارت اذا اخرجت نورها).
واما قوله (من
الهيئة) فهو (بيان لما في قوله كما) واما قوله (الحاصلة) فهو صفة لقوله الهيئة
يعني الهيئة الحاصلة (من تقارن الصور البيض) الموجودة في الثريا والعنقود الملاحية
(المستديرة) قيل ان هذا يخالف ما مر من ان العنب الملاحي فيه طول واجيب بان الطول
يحدث فيه بعد طيبه واما في حال صغره فهو مستدير والتشبيه في حال صغره (الصغار
المقادير في المرئى) اي مرئي العين باعتبار ما يبدو (وان كانت) النجوم ومنها
الثريا (كبارا في الواقع) بحيث يقال انها اعظم من الارض بكثير اذ المعتبر في
التشبيه ما يبدو لا في نفس الامر اذ الخطاب بما يتبادر لا بما هو في نفس الأمر هذا
ولكن قال بعضهم ان قوله في المرئى قيد للتقارن والبيض والمستديرة والصغار لأنه لا
تقارن في الحقيقة ولأنه لأ لون للفلكيات او لا نعلم لونها ولأ نعلم استدارتها وهي
في الواقع كبار وما قاله التفتازاني من انه قيد للصغار فهو قصور.
واما قوله (على
الكيفية) فهو حال من الصور والانجم (اي تقارنها حالكونها على الكيفية المخصوصة)
حالكون تلك الكيفية (منضمة الى المقدار المخصوص والمراد بالكيفية المخصوصة انها)
اي الصور أو الانجم اي الثريا (لأ تكون مجتمعة اجتماع التضام والتلاصق ولأ هي
شديدة الأفتراق بل لها كيفية مخصوصة من التقارب والتباعد على نسبة قريبة مما نجده
في العين) حاصله ان تلك الصور او الأنجم متقاربة مجتمعة اجتماعا متوسطا بين
التلاصق وشدة الافتراق قريبة مما يراه (بين تلك الأنجم) اي الثريا او بين تلك
الصور.
(وهذا الذي
ذكرنا في تفسير الكيفية جعله الشيخ عبد القاهر تفسيرا لمقدار مخصوص اي مقدار في
القرب والبعد وجمع صاحب المفتاح بينهما) اي بين الكيفية والمقدار المخصوص فكأنه)
اي صاحب المفتاح (اراد بمقدار مخصوص مجموع مقدار الثريا والعنقود اعني ما لهما من
الطول والعرض المخصوصين ويحتمل ان يريد بالكيفية الشكل المخصوص لان الشكل من
الكيفيات وبالمقدار المخصوص ما اراده الشيخ من التقارب على ما ذكرنا.
وبالجملة فقد
نظر) الشاعر (في هذا التشبيه الى عدة اشياء) وهي الصفات القائمة بالثريا والعنقود
او نفسهما على وجه دقيق (وقصد الى الى الهيئة الحاصلة منها) اي من الاشياء (وانما
قلنا ان الطرفين مفردان لان المشبه) في الحقيقة (وهو نفس الثريا) لا الصفات
القائمة بها (والمشبه به هو) نفس (العنقود حين تفتح نوره) لا الصفات القائمة بها
فهما مفردان بالمعنى المراد ههنا اي بمعنى ان لا يكون معنى منتزعا من عدة اشياء
لكل منها دخل في تحققه فتأمل فان فهم المراد ههنا دقيق وبالتأمل حقيق.
فان قلت اذا
كان المشبه به العنقود الملاحية مقيدا بكونه حين نوره كما ان المشبه اعني الثريا
مقيد بكونه في الصبح فهما مركبان لا مفردان قلت (وسيجيء) في بحث تقسيم التشبيه
باعتبار الطرفين (ان المفرد قد يكون مقيدا وانه) اي كون المفرد مقيدا (لا يقتضي
التركيب) وحاصل ما يأتي هناك ان المركب ما كان كل واحد من اجزائه جزء للطرف او
الوجه والمفرد المقيد يكون الطرف او الوجه نفس المقيد والقيد شرط لا جزء والشرط
خارج كما قال الحكيم تقيد جزء وشرط خارجي.
(وفيما اي
والمركب الحسي في التشبيه الذي طرفاه مركبان كما) اي كوجه التشبيه الذي (في قول
بشار) بن برد (كأن مثار النقع) المثار بضم الميم اسم مفعول واضافته الى النقع من
اضافة الصفة إلى الموصوف اي النقع بمعنى الغبار (يقال اثار الغبار اي هيجه) ويحتمل
ان يكون المثار مصدرا ميميا مضافا الى الفاعل (فوق رؤوسنا واسيافنا) منصوب كما
يأتي بعيد هذا على انه مفعول معه (ليل تهاوى كواكبه اي يتساقط بعضها في اثر بعض)
اي طائفة بعد طائفة لا واحدا يعد واحد (والاصل) اي اصل تهاوى (تتهاوى) بالتائين
لانه مضارع باب التفعلل (فحذفت احدى التائين) اما الاولى او الثانية.
قال في التصريف
واعلم انه اذا اجتمع تاءان في أول مضارع تفعل وتفاعل وتفعلل فيجوز اثباتهما نحو
تتحبب وتتدحرج وتتقاتل ويجوز حذف احديهما كما ورد في التنزيل (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) و (ناراً تَلَظَّى) و (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ).
وقال في شرحه
واختلف في المحذوف فذهب البصريون الى انه هو الثانية لان الأولى حرف المضارعة
وحذفها مخل وقيل الاولى لأن الثانية للمطاوعة حذفها مخل والوجه هو الاول لان رعاية
كونه مضارعا اولى ولأن الثقل انما يحصل عند الثانية انتهى.
(ومن جعله
ماضيا لم يؤنث) اي لم يقل تهاوت بتاء التأنيث الساكنة (لكونه مسندا الى) الاسم (الظاهر)
المجازي التأنيث وقد ثبت في محله انه لا يجب حينئذ لحوق التاء (فقد اخل بكثير من
اللطائف التي قصدها الشاعر) لان تلك اللطائف يستفاد من المضارع.
وذلك لان
المضارع يدل على الاستمرار التجددي اي الحصول بعد الحصول والتجدد يدل على كثرة
حركات الاسياف وتساقطها في جهات
كثيرة من العلو والسفل واليمين واليسار والتداخل (على ما ستطلع عليه في
اثناء شرحه) اي شرح البيت من قوله وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب الخ.
(وقوله من
الهيئة بيان لما في قوله كما) اي الهيئة (الحاصلة من هوى بفتح الهاء اي سقوط اجرام
مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم فوجه الشبه مركب) من امور
ذكرها بقوله من هوى اجرام مشرقة مستطيلة الخ (كما ترى) في الليالي التي تسقط فيها
الكواكب (وكذا طرفاه) اي طرفا وجه الشبه ايضا مركبان (كما حققه الشيخ في اسرار
البلاغة حيث قال) ان الشاعر (قصد تشبيه) مجموع (النقع والسيوف) حال كونها (فيه) اي
في النقع (بالليل المتهاوي كواكبه لا تشبيه النقع) وحده (بالليل) وحده (من جانب
وتشبيه السيوف) وحدها (بالكواكب) وحدها (من جانب) آخر.
والحاصل انه
ليس المقصود في البيت تشبيهان مستقلان حتى يكون المعنى كان مثار النقع ليل وكأن
اسيافنا كواكبه المتهاوية بل المقصود تشبيه واحد وهو تشبيه هيئة السيوف باوصافها
المتقدمة مع الغبار فوق الرؤوس بهيئة الكواكب المتهاوية مع الليل.
(ولذلك وجب
الحكم بان اسيافنا في حكم صلة) اي قيد (للمصدر) المدلول عليه بالمثار او للمثار
نفسه بناء على كونه كما قلنا مصدرا انما زاد لفظ الحكم لانه ليس معمولا للمصدر
فانه مفعول معه والعامل فيه معنى التشبيه المستفاد من كان لكنه قيد له ومقارن معه
فيكون في حكم الصلة وسيأتي الاشارة الى ذلك بعيد هذا (ونصب الأسياف لا يمنع من
تقدير الاتصال) بينها وبين المثار (لان الواو فيها بمعنى مع كقولهم لو
تركت الناقة وفصيلها لرضعتها الا ترى ان ليس لك ان تقول لو تركت الناقة ولو
تركت فصيلها فتجعل الكلام جملتين) فكذلك ليس لك ان تجعل واسيافنا كلاما مستقلا
فتقول كان مثال النقع فوق رؤوسنا ليل وكان اسيافنا كواكبه بل يجب ان تجعل الاسياف
في حكم صلة اي قيد للمصدر.
(ومما ينبه على
ذلك) اي على ان اسيافنا في حكم الصلة للمصدر (ان قوله تهاوى كواكبه جملة وقعت صفة
ليل فالكواكب مذكورة على سبيل التبع لليل) فتكون غير مستقلة في التشبيه باعتبار
قواعد النحو ايضا (ولو كانت) الكواكب مستبدة بشأنها) اي مستقلة في التشبيه (لقال)
كأن مثار النقع واسيافنا (ليل) بدون التقييد بالصفة (وكواكب) بدون الاضافة الى
ضمير الليل (فهو) اي الشاعر (لم يقتصر على ان اراك) في هذا التشبيه (لمعان السيوف)
فقط (في اثناء العجاجة كالكواكب) فقط (في الليل بل عبر عن هيئة السيوف وقد سلت)
بضم السين وتشديد اللام اي اخرجت (من اغمادها وهي تعلو) اي ترتفع (وترسب) اي تصير
الى اسفل (وتجيء) من العلو (وتذهب) الى العلو (وهذه الزيادة) المذكورة في قوله وقد
سلت الخ (زادت التشبيه تفضيلا) وحسنا (لانها) اي الزيادة لا تقع) اي لا تحصل (في
النفس) اي في نفس من يريد ان يتصور التشبيه المقصود من البيت (الا بالنظر لاكثر من
جهة واحدة) اي جهات مختلفة كما يصرح بذلك بعيد هذا.
(وذلك ان
للسيوف في حال احتدام الحرب) اي اشتدادها (واختلاف الايدي فيها) اي في الحرب (للضرب
اضطرابا شديدا وحركات بسرعة) في العلو والنزول (ثم ان لتلك الحركات) اي حركات
السيوف (جهات مختلفة واحوالا تنقسم بين الاعوجاج) اي بالذهاب يمنة ويسرة (والأستقامة)
بالذهاب الى الامام (والارتفاع والأنخفاض وان السيوف باختلاف هذه الامور
تتلاقى وتتداخل) عند تعاكس الحركتين او السيفين (ويصدم بعضها بعضا ثم ان اشكال
السيوف مستطيلة فنبه على هذه الدقائق بكلمة واحدة وهي قوله تهاوى فان الكواكب اذا
تهاوت اختلفت جهات حركاتها وكان لها في) وقت (تهاويها تواقع) اي تدافع (وتداخل ثم
انها بالتهاوي يستطيل اشكالها فاما اذا لم تزل عن اماكنها فهي على صورة الاستدارة
هذا كلامه) اي الشيخ.
(وقوله ان
اسيافنا في حكم الصلة للمصدر معناه) اي مقصود الشيخ من هذا الكلام (انه) اي ان
اسيافنا ليس عطفا على مثار النقع بل هو) اي قوله اسيافنا (مما يتعلق به) اي يقترن
به (معنى الاثارة لكون الواو بمعى مع وهذا كما يقال في قولنا زيد ضارب عمرا وبكرا
في حكم الصلة للضرب) وذلك لان قيد اسم المفعول والفاعل بل جميع المتعلقات قيد
للمصدر وليعلم ان تعلق واسيافنا بمعنى الأثارة انما هو المقارنة والمصاحبة وتعلق
بكرا في المثال بالضرب انما هو تعلق المعمولية فالغرض من تشبيه البيت بالمثال مجرد
اثبات التعلق بالمصدر لا اثبات وحدة نوع التعلق فيهما (وليس المراد) اي مراد الشيخ
(ان المثار بمعنى المصدر على ما يسبق الى الوهم) وقد مر منا انه ليس ببعيد والله
العالم.
(والمركب الحسي
فيما) اي في التشبيه الذي (طرفاه مختلفان) يعني (احدهما مفرد والآخر مركب كما مر)
في بحث وجه التشبيه الخيالي (في تشبيه الشقيق باعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد)
وقوله (من الهيئة) بيان لما في قوله كما (الحاصلة من نشر اجرام حمر مبسوطة) اي
فيها اتساع فهو غير المنشور مع عدم الاتساع كالخيط فلذا ذكر قوله
مبسوطة مع قوله مستطيلة مع قوله نشر اجرام (على رؤوس اجرام خضر مستطيلة
مخروطية فالمشبه) يعني محمر الشقيق (مفرد) لانه اسم لمسمى واحد واجزائه التي اعتبر
اجتماعها كاليد من زيد (والمشبه به) يعني اعلام ياقوت (مركب) لان المراد تشبيه
محمر الشقيق بالهيئة الحاصلة من مجموع الاعلام الياقوتية المنشورة على الرماح
الزبرجدية لا الأعلام فقط حتى يكون مفردا والدليل على ذلك ان المشبه اعني محمر
الشقيق لم يعتبر فيه الجزء المناسب للاعلام فقط بل المعتبر هو الشقيق مقيدا بفروعه
وقد تقدم ويأتي الفرق بين المركب والمقيد.
(وعكسه) وهو
كون المشبه مركبا والمشبه به مفردا (كما سيجيء) في البحث عن تقسيم الطرفين (في
تشبيه نهار مشمش شابه زهر الربى بليل مقمر وسيجيء لهذا زيادة تحقيق في) البحث
المذكور اي في (تقسيم التشبيه باعتبار الطرفين) ان شاء الله تعالى.
(ومن بديع) وجه
الشبه والبديع من كل شيء البالغ غاية الشرف وحاصل المعنى في المقام ان من البالغ
غاية الشرف في البلاغة (المركب الحسي ما اي وجه الشبه الذي يجيء في الهيئات التي
تقع عليها الحركة اي يكون وجه التشبيه الهيئة التي تقع عليها الحركة من الاستدارة
والاستقامة وغيرهما ويعتبر فيها تركيب ويكون ما يجيء في تلك الهيئات على وجهين
احدهما ان يقرن بالحركة غيرها من اوصاف الجسم كالشكل واللون) فتكون مركبة منهما اي
من الحركة ومن سائر اوصاف الجسم (وقد غير المصنف عبارة الشيخ في اسرار البلاغة)
والفرق بين العبارتين ان المصنف جعل البداعة والدقة وصفا لوجه الشبه فقط والشيخ
جعلها وصفا للتشبيه المشتمل على تلك الحالة وهي مجيء التشبيه في الهيئات التي توجد
معها الحركات
سواء كانت تلك الهيئات اطرافا للتشبيه او كانت وجه شبه وايضا كلام الشيخ
يفيد ان الهيئة المركبة من الحركات تارة تقترن بغيرها وتارة لا تقترن وكلام المصنف
يفيد ان الهيئة اما مركبة من الحركات أو منها ومن غيرها فعلى كلام الشيخ لا تكون
الهيئة الا من الحركات بخلاف كلام المصنف وبالجملة فكلام الشيخ اوضح وانسب لما نحن
فيه فتدبر جيدا (حيث قال اعلم ان ما يزداد به التشبيه دقة وسحرا ان يجيء في
الهيئات التي تقع عليها الحركات والهيئة المقصودة في التشبيه) سواء كانت مشبها او
مشبها به او وجه شبه (على وجهين احدهما ان تقرن) تلك الهيئة بغيرها من الاوصاف) اي
اوصاف الجسم.
(والثاني ان
تجرد هيئة الحركة حتى لا يراد غيرها) من اوصاف الجسم (فالاول كما في قوله اي كوجه
التشبيه الذي في قول ابن المعتز او ابي النجم).
والشمس
كالمرآت في كف الاشل
|
|
لما رأيتها
بدت فوق الجبل
|
الاشل الذي
يبست يداه وذهبت والمراد هنا الذي في يدها رعشة لأن يابس اليد او عديمها لا يمكن
ان يكون في كفه مرآة ولان المرآة انما تؤدي الهيئة المقصودة اذا كانت اليد مرتعشة
لا اذا كانت يابسة أو ذاهبة.
(من الهيئة)
بيان لما في قوله كما اي الهيئة (الحاصلة من الاستدارة مع الاشراق والحركة السريعة
المتصلة مع تموج الاشراق وإضطرابه بسبب تلك الحركة حتى يرى الشعاع كانه يهم) بفتح
الياء وضم الهاء اي يقصد ويريد (بأن ينبسط حتى يفيض) اي يسيل من محله او يخرج (من
جوانب الدائرة ثم يبدو له يقال بذا له إذا ندم والمعنى) اي معنى البداء بحسب
اصل اللغة (ظهر له رأي غير) الرأي (الاول) وللبداء معنى آخر وهو اظهار ما
خفي وبهذا المعنى ورد في زيارة العسكريين عليهما الصلاة والسّلام.
(فيرجع من
الانبساط الذي) هم به ثم (بدا له الى الانقباض كأنه) اي الشعاع (يرجع من الجوانب
إلى الوسط) أي وسط الدائرة وهذه الهيئة المذكورة حاصلة في الطرفين (فان الشمس إذا
أحد الانسان النظر إليها) أي الى الشمس اي اذا نظر اليها بدقة وتأمل فيها (ليتبين
جرمها وحدها) اي بانفرادها (مؤدية لهذه الهيئة) وذلك واضح (وكذا المرآة في كف
الاشل) اي المرتعش اليد حسبما تقدم.
والوجه الثاني
ان يجرد الحركة عن غيرها من الاوصاف) اي اوصاف الجسم (فهناك) اي في هذا الوجه
الثاني (ايضا يعني كما لا بد في) الوجه (الاول من ان يقترن بالحركة غيرها من
الاوصاف فكذا في) الوجه (الثاني لا بد من اختلاط) اي اجتماع (حركات كثيرة للجسم
الى جهات مختلفة له) اي للجسم (كان يتحرك بعضه الى اليمين وبعضه الى الشمال وبعضه
الى العلو وبعضه الى السفل ليتحقق التركيب والا) اي وان لم يختلط حركات كثيرة
للجسم الى جهات مختلفة بان كانت الحركات المختلطة كلها لجهة واحدة (لكان وجه الشبه
مفردا وهو الحركة) وحدها (لا مركبا) وذلك لاتحادها حينئذ.
(فحركة الرحى
والسهم لا تركيب فيها لاتحادهما) اي لأتحاد حركتي الرحى والسهم (بخلاف حركة المصحف
في قوله اي قول ابن المعتز وكان البرق مصحف قار بحذف الهمزة) بعد قلبها ياء (اي
قارء) فابدلت الهمزة ياء ثم اعل اعلال قاض (فانطباقا مرة وانفتاحا اي فينطبق
انطباقا مرة وينفتح انفتاحا اخرى) فحذف العامل للمفعول المطلق في الموضعين وذلك
جائز كثيرا
كما قال ابن مالك في قوله :
وحذف عامل
المؤكد امتنع
|
|
وفي سواه
لدليل متسع
|
(فان فيها) اي في حركة المصحف (تركيبا
لان المصحف يتحرك في الحالتين اعني حالتي الانطباق والانفتاح الى جهتين) مختلفتين
اي (في كل حالة الى جهة) اذ في حال الانطباق يتحرك الى جهة العلو وفي حالة
الانفتاح يتحرك إلى جهة السفل والأولى ان يقال الى جهات اربع لان المصحف في كل
حالتي الانطباق والانفتاح متحرك بعضه الى اليمين وبعضه الى الشمال ومجموعه متحرك
الى العلو في حال الانطباق والى السفل في حال الانفتاح فتدبر جيدا.
(قال الشيخ كل
هيئة من هيئات الجسم في حركاته اذا لم يتحرك الى جهة واحدة) بل الى جهات متعددة (فمن
شأنه ان يعز) وجوده (ويندر) اي يقل (وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك اليها
ابعاض الجسم شد كان التركيب في هيئة المتحرك اكثر ومن ذلك قول الشاعر في صفة
الرياض.
حفت بسرو
كالقيان تلحفت
|
|
خضر الحرير
على قوام معتدل
|
فكأنها
والريح جاء يميلها
|
|
تبغي التعانق
ثم يمنعها الخجل
|
والشاهد في
البيتين التشبيه الذي وجهه مركب حسي واقع في الهيئة التي تقع عليها الحركة وفيه
تفصيل دقيق لانه راعى الحركتين حركة التهيؤ للدنو والعناق وحركة الرجوع الى
الاقتراق وابان ما في الثانية من السرعة الزائدة ابانة لطيفة لان حركة الشجرة
المعتدلة في رجوعها الى الاعتدال اسرع من حركتها في حال خروجها عن مكانها وكذلك
حركة من يدركه الخجل فيرجع اسرع من حركة من يهم بالدنو لان حركة الحرب للخوف اسرع
من
حركة الاقدام للرجاء.
(وقد يقع
التركيب في هيئة السكون كما في قوله اي كوجه الشبه الذي في قول ابي الطيب في صفة
كلب) حيث قال (يقعي اي يجلس ذلك الكلب على الييه جلوس البدوي المصطلى* بأربع
مجدولة لم تجدل اي بقوائم محكمة الخلق) فان المجدولة مأخوذ (من جدل الله) اي احكم
واتقن (لا من جدل الانسان) الخيط اي فتله (والمجدول) بهذا المعنى الثاني (المفتول)
اي المبروم والمجدول في الاصل كما يأتي في بحث تشبيه الجمع المطوي المدمج اي
المدخل بعضه في بعض غير المسترخي ولا يخفى وجه المناسبة فقد ظهر لك انه لا تناقض
بين قوله باربع مجدولة وقوله لم تجدل لأختلاف معنييهما لأن الجدل المثبت كما قلنا
بمعنى الاحكام والأتقان والجدل المنفي بمعنى الفتل والابرام وقوله (من الهيئة)
بيان لما في قوله كما اي الهيئة (الحاصلة من موقع) اي وقوع (كل عضو منه اي من
الكلب في اقعائه) اي في جلوسه (فانه يكون لكل عضو منه في) حالة (الاقعاء موقع) اي
وقوع (خاص و) يكون (للمجموع) اي لمجموع الاعضاء (صورة) اي هيئة (خاصة مؤلفة من تلك
المواقع) اي الوقوعات (وكذلك صورة جلس البدوي عند الاصطلاء بالنار الموقدة على
الأرض) فانه ايضا لكل عضو منه في حال اصطلائه وقوع خاص ولمجموع اعضائه هيئة خاصة
مؤلفة من تلك الوقوعات وانما خص البدوي بالذكر لغلبة الاصطلاء بالنار منه.
والشاهد فيه
التشبيه الذي وجه الشبه فيه مركب حسي واقع في هيئة السكون والغرض من تشبيه الكلب
في حال الاقعاء بحالة البدوي المصطلى مدح الكلب بشدة الحراسة لان جلوس الكلب على
هذه الحالة في الغالب انما هو وقت الحراسة.
(ومن لطيف ذلك)
اي من لطيف التركيب في هيئة السكون (قول الشاعر في صفة مصلوب).
كانه عاشق قد
مد صفحته
|
|
يوم الوداع
الى توديع مرتحل
|
او قائم من
نعاس فيه لوثته
|
|
مواصل لتمطيه
من الكسل
|
فان الشاعر (شبهه
اي المصلوب (بالمتمطي اي المتمدد اصله المتمطط بالطائين قلبت طائه الاخير ياء (الموصل
تمطيه) ووجه كونه لطيفا ان في تشبيه المصلوب بحال العاشق الذي يمد عنقه لتوديع
حبيبه المفارق له اشارة لطيفة الى ان العاشق في مثل هذه الحال من الاموات بل اسوء
حالا لكونه مشبها به والشاهد فيه التشبيه الغريب الذي وجه الشبه فيه مركب حسي واقع
في هيئة السكون ووجه غرابته انه اي الشاعر شبهه بالمتمطي المتابع لتمطية (مع
التعرض لسببه وهو اللوثة) والفتور (والكسل فنظر الى) هذه (الجهات الثلاث بخلاف
تشبيهه بالمتمطي) فقط (فانه من قريب التناول) ولو اقتصر على التمطي لم يكن غريبا
لان هذا القدر قد يقع في نفس الرائي للمصلوب) بلا تأمل ودقة (لكونه امرا جليا أي
مجملا لا تركيب فيه.
(والمركب
العقلي من وجه الشبه كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه في
قوله تعالى) هذا صفة للحرمان وفي الكلام حذف مضاف اي كحرمان الانتفاع الواقع في
التشبيه الكائن في قوله تعالى في وصف علماء اليهود ((مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً)) اي كتبا الاسفار (جمع سفر بكسر السين) وسكون الفاء لا
جمع سفر بفتح السين والفاء (وهو الكتاب) الكبير كما في القاموس.
(فانه) اي
حرمان الأنتفاع (امر عقلي منتزع من عدة امور لأنه روعي
من الحمار فعل مخصوص هو الحمل وان يكون المحمول شيئا مخصوصا وهو الاسفار
التي هي اوعية العلوم) قال في المصباح الوعاء ما يوعى فيه الشيء اي يجمع اوعية
واوعيته واستوعيته لغة في الاستيعاب وهو اخذ الشيء كله انتهى (و) روعي ايضا (ان
الحمار جاهل بما فيها) اي في الاسفار (وكذا في جانب المشبه) اي صفة اليهود لانه
روعي فيها فعل مخصوص وهو الحمل المعنوي وكون المحمول العلم او اوعيته وكونهم
جاهلين اي غير منتفعين بالعلم.
والحاصل انه قد
روعي في كل من الطرفين ثلاثة امور وقد تحقق ان الطرفين اذا كان فيهما تركيب جاء
وجه الشبه مركبا لانه اعتبر فيه ما اعتبر فيهما فأخذ في حرمان الانتفاع الذي هو
وجه الشبه الجهل المعتبر في الطرفين واخذ كون ما حرم الانتفاع به ابلغ نافع واخذ
فيه تحمل التعب في الاستصحاب لكون الحمل الشيء الغير الخفيف والمراد بالتعب اعم من
ان يكون محسوسا كما في تعب الحمار او معقولا كما في العالم الغير العامل بعلمه
فتدبر جيدا.
(واعلم انه قد
ينتزع وجه الشبه من متعدد فيقع الخطاء) في الأنتزاع وذلك (لوجوب انتزاعه من اكثر)
مما انتزع منه (كما اذا انتزع وجه الشبه من الشطر الاول من قوله كما ابرقت قوما
عطاشا) قال في كتاب مختار الصحاح عطش ضدروي وبابه طرب فهو عطشان وقوم عطشى بوزن
سكري وعطاشى بوزن حبالى وعطاش بالكسر انتهى (غمامة) ولا برق اطلاقات اربعة الاول (يقال
ابرق القوم اذا اصابهم برق) فاهلكوا به.
(و) الثاني
يقال (ابرق الرجل بسيفه اذا لمع به ولا يصح ههنا شيء من هذين الوجهين) اي
الاطلاقين (و) الثالث (حكي ابرقت السماء اذا صارت ذات برق و) الرابع ما ذكره
الزمخشري (في) كتاب (الاساس) وهو
ابرقت لي فلانة اذا تحسنت لك) اي تزينت (وتعرضت فالمعنى (المتاسب (ههنا) هو
الاطلاق الرابع وهو من قولهم (ابرقت الغمامة للقوم) بلام الجر فان ابرق لا يتعدى
الا باللام كما علم من الاساس (اي تعرضت لهم) (فحذف) في البيت (الجار) اي اللام
للضرورة (واوصل الفعل) الى المفعول بنفسه وهذا يسمى في النحو بالمنصوب بنزع الخافض
وبالحذف والايصال فتبصر.
والشطر الثاني
قوله (فلما رأوها) اي الغمامة (اقشعت وتجلت اي تفرقت) هذا تفسير للاول (وانكشفت)
تفسير للثاني او كلاهما لكليهما فيكونان مترادفين (فانتزاع وجه التشبيه من مجرد
قوله كما ابرقت قوما عطاشا غمامة خطاء لوجوب انتزاعه من الجميع اي جميع البيت) اي
الشطرين كليهما لا الشطر الاول فقط (فان المراد التشبيه اي تشبيه الحالة المذكورة
في الابيات السابقة) قال صاحب الشواهد لا اعلم قائله ولا ما قبله ولا رأيت من يعلم
ذلك مع كمال التفحص وانا اقول الامر كذلك اذ كل من تعرض لشرح هذا البيت قد مر منه
مر الكرام ولم يتعرض لذكر الابيات السابقة في المقام.
وكيف كان
فالمراد التشبيه (بظهور الغمامة لقوم عطاش ثم تفرقها وانكشافها) ولا يتم هذا
المراد من التشبيه الا (باتصال) الباء فيه كالباء في قولك كتبت بالقلم ونجزت
بالقدوم (اي بواسطة اتصال يعني باعتبار ان يكون وجه التشبيه والمقصود المشترك فيه
اتصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس) وبعبارة اخرى المراد من التشبيه في البيت ظهور
الشيء لمن يحتاج اليه اشد الحاجة فيطمع في انه وصل الى ما احتاج اليه فبمجرد ظهوره
ينعدم فييئس (لان البيت مثل في ان يظهر للمضطر الى الشيء الشديد الحاجة
اليه امارة) اي علامة اي ما يظن به (وجوده) قال المحقق الطوسي في التجريد
في بحث الكيفيات النفسانية ملزوم العلم دليل والظن امارة وقال القوشجي في شرحه
اراد ان يشير الى ما يتعلق به النظر وهو ينقسم الى ما يحصل به العلم وهو الدليل
والى ما يحصل به الظن وهو الامارة انتهى.
) ثم يفوته
ويبقى تحسره وزيادة ترح (الترح بالحاء المهملة ضد الفرح اي الحزن (فالباء في قوله
باتصال) كما قلنا للالة والسبية (ليست هي) الباء (التي تدخل في المشبه به) اي ليست
الباء التي تدخل على الاسد مثلا في قولنا شبه زيد بالاسد بل الباء هي التي تدخل
على وجه التشبيه اي على الشجاعة مثلا فانه يقال صار زيد مشابه الاسد بالشجاعة
وانما قلنا ذلك (لان هذا المعنى) اي اتصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس مشترك بين
الطرفين) اي بين المشبه اعني الحالة المذكورة في الابيات (و) بين (المشبه به) اعني
(ظهور الغمامة ثم انكشافها) فالاتصال ليس مشبها به بل هو وجه التشبيه فالباء
الداخلة عليه ليست هي التي تدخل على المشبه به (بل هي مثل الباء في قوله) فيما سبق
(التشبيه بالوجه العقلي اعم) من التشبيه بالوجه الحسي بمعنى ان كل ما يصح فيه
التشبيه بالوجه الحسي يصح بالوجه العقلي دون العكس (فليتأمل) فانه دقيق.
(فان قيل هذا)
الذي ذكرته في البيت من انه يجب ان ينتزع وجه التشبيه من المجموع والا يقع الخطاء (يقتضي
ان يكون بعض التشبيهات المجتمعة) اي المتعددة (كقولنا زيد يصفو ويكدر تشبيها واحدا)
مركبا لا متعددا (لأن الاقتصار على احد الجزئين يبطل الغرض من الكلام لان الغرض
منه وصف المخبر عنه) يعتي زيد (بانه يجمع بين الصفتين) اي الصفاء والكدرة (وان
احديهما لا تدوم) بل يوجد فيه كل واحد من الصفتين.
(قلنا الفرق
بينهما) اي بين ما ذكر في البيت وبين الغرض في المثال (ان الغرض في البيت ان يثبت)
الشاعر (ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس وكون الشيء ابتداء لاخر امر زائد على
الجمع بينهما) فلا يتم الغرض الا باعتبار هذا الامر الزائد اعني الاتصال والأمتزاج
مع الترتب (وليس في قولنا زيد يصفو ويكدر اكثر من الجمع بين الصفتين من غير قصد
الى امتزاج احديهما بالاخرى) والترتب بينهما (لأنك لو قلت هو يصفو ولم تتعرض لذكر
الكدر وجدت تشبيهك له بالماء بحاله) اي تاما غير متوقف على ذكر الكدر (و) وجدته (على
حقيقته) اي وافيا بما هو الغرض من تشبيه بالماء اعني الصفا.
فتحصل من مجموع
ما ذكرنا ان الفرق بين البيت والمثال ان الاول لا يجوز فيه حذف بعض ما اعتبره الشاعر
والا اختل المعنى ولا تقديم بعض ما اعتبر على بعض بخلاف الثاني (ونظير البيت قولنا
زيد يكدر ثم يصفو) عبارة الايضاح يصفو ثم نكدر (لافادة ثم الترتيب المقتضي ربط احد
الوصفين بالآخر كذا ذكره المصنف) في الايضاح (وقد نقله عن اسرار البلاغة) وما ذكره
التفتازاني ههنا ليس نص عبارة الايضاح فراجع ان شئت.
(ولا يخفى ان
قولنا زيد يصفو ليس من التشبيه المصطلح) وذلك لأنه كلام اخباري مضمونه الاخبار عن
اتصاف زيد بالصفاء فليس بتشبيه اصطلاحي وان كان لب معناه تشبيه زيد بالماء في
الصفاء (بل هو من قبيل الاستعارة بالكناية) حيث شبه زيد في زمان انبساطه بالماء
الصافي واثبت له بعض لوازمه على) ما بين اجمال معنى الاستعارة بالكناية في اوائل
الكتاب و (ستعرف) تفصيلها عن قريب (انشاء الله تعالى) فانتظر.
(ثم قال)
المصنف في الايضاح (وقد ظهر بما ذكرنا ان التشبيهات المجتمعة
تفارق التشبيه المركب في مثل ما ذكرنا) اي في البيت (بأمرين احدهما انه لا
يجب فيها ترتيب والثاني انه اذا حذف بعضه لا يتغير حال الباقي في افادة ما كان
يفيده قبل الحذف فاذا قلنا زيد كالاسد) باسا (والبحر) جودا (والسيف) مضاء (لا يجب
ان يكون لهذه التشبيهات نسق) اي ترتيب (مخصوص بل لو قدم التشبيه بالبحر او بالسيف
جاز) فلا يجب الترتيب فيها (ولو اسقط واحد من الثلاثة لم تتغير حال الباقي في
افادة معناه) اي التشبيه المقصود منه (والله اعلم) بحقيقة الحال.
(و) اعلم انه (قد
مر ان وجه التشبيه ثلاثة اقسام واحد ومركب ومتعدد فلما فرغ من الاولين شرع في
الثالث) اي المتعدد (وهو اما حسي او عقلي او مختلف والمتعدد الحسي كاللون والطعم
والرائحة في تشبيه فاكهة باخرى) كتشبيه التفاح مثلا بالسفرجل في الامور الثلاثة
المذكورة ولا شك انها تدرك بالحواس فاللون بالبصر والطعم بالذوق والرائحة بالشم (والمتعدد
العقلي كحدة النظر) الموجبة لأدراك الخفيات (وكمال الحذر) على وزن نظر وهو
الاحتراس من العدو (واخفاء السفاد) أي نزو الذكر على الانثى وفي المثل اخفى سفادا
من الغراب حتى قيل انه لا سفاد له معتاد وانما له إدخال منقره في منقر الانثى (في
تشبيه طائر بالغراب) في هذه الامور الثلاثة ولا شك في ان كل واحد من تلك الامور
عقلي لا يدرك بالحس.
(والمتعدد
المختلف) اي (الذي بعضه حسي وبعضه عقلي كحسن الطلعة) اي الوجه (الذي هو حسي لان
الحسن مجموع الشكل واللون وهو حسي لانهما مدركان بالبصر فكذلك الحسن الذي هو
مجموعهما ونباهة الشان اي شرفه واشتهاره الذي هو عقلي اذ لا شك ان الشرف والاشتهار
لا يدركان بالبصر ولا بغيره من الحواس وانما يدركان بالعقل
وان كان سبب كل منهما قد يكون حسيا (في تشبيه الانسان بالشمس.
(واعلم انه
الضمير للشأن قد ينتزع الشبه اي التماثل يقال بينهما شبه بالتحريك) اي بتحريك
الباء (اي تشابه) اسم مصدر للتفاعل (وقد يكون) الشبه بالتحريك (بمعنى الشبه
بالسكون) اي بسكون الباء فليس المراد المعنى المصدري (وعند التحقيق المراد ههنا ما
به التشابه اعني وجه التشبيه) فتحصل من ذلك ان وجه الشبه قد ينتزع (من نفس التضاد
لاشتراك الضدين فيه اي في التضاد فان كلا منهما) اي المشبه والمشبه به (مضاد للآخر
ثم ينزل التضاد منزلة التناسب بواسطة تمليح اي اتيان بما فيه ملاحة وظرافة يقال
ملح الشاعر اذا اتى بشيء مليح أو تهكم اي سخرية واستهزاء فيقال للجبان ما اشبهه
بالاسد وللبخيل هو حاتم).
واعلم ان هذين
المثالين (كل منهما يحتمل ان يكون مثالا للتمليح او التهكم وانما يفرق بينهما بحسب
المقام فان كان الغرض مجرد الملاحة والظرافة من غير قصد الى استهزاء وسخرية فتمليح
والا فتهكم) اي سخرية واستهزاء.
(وما وقع في
شرح المفتاح من ان التلميح) بتقديم الميم على اللام (هو ان يشار في فحوى الكلام
الى قصة او مثل او شعر نادر وان قولنا هو حاتم مثال للتمليح لا للتهكم فهو) اي ما
وقع في شرح المفتاح (غلط لان ذلك انما هو التلميح بتقديم اللام على الميم كما
سيجيء في علم البديع) ان شاء الله تعالى.
(و) ايضا (ليس
في قولنا هو حاتم اشارة الى شيء من قصة حاتم) ولا مثل ولا شعر نادر فكيف يحكم بانه
مثال لما اشير في فحواه الى قصة او مثل او شعر نادر (ثم قال الامام المرزوقي في
قول) الشاعر (الحماسي).
اتاني من ابي
انس وعيد
|
|
فسل بغيظه
الضحاك جسمي
|
(ان قائل هذه الابيات قد قصد بها
الهزء والتمليح) اي قصد كلاهما فلفظة او في قول الخطيب ليس لامتناع الجمع كما
توهمه شارح المفتاح لجواز الجمع بين التمليح والتهكم كما قال المرزوقي في البيت
فان الشاعر قد اطلق الضحاك وهو اسم الملك المشهور على ابي انس للتهكم والاستهزاء
أو السخرية به مع كونه من السوقة ومع ذلك قد اراد التمليح ايضا والفرق بينهما ان
التمليح بالنظر الى حال السامع والتهكم بالنظر الى حال المشبه.
فان قلت ظاهر
قوله) اي الخطيب (لاشتراك الضدين فيه يوهم ان وجه الشبه بين الجبان والأسد هو
التضاد باعتبار وصفي الجبن والجرأة وكذا بين البخل وحاتم) باعتبار وصفي البخل
والجود (وحينئذ لا تمليح لانا اذا قلنا جبان كالشجاع في التضاد اي في ان كلا منهما
مضاد للآخر لا يكون هذا من الملاحة والتهكم في شيء) لانه يجب في كل واحد منهما ان
يكون على خلاف الواقع او خلاف المتعارف والتضاد بين الوصفين في كل واحد من
المثالين واقعي بالبداهة.
(وايضا فحينئذ)
اي حين اذ كان التضاد باعتبار الوصفين حسبما قررنا (لا حاجة الى قوله ثم ينزل
منزلة التناسب) لكون التضاد نفسه كافيا فيما هو المهم في المقام اعني وجود معنى
مشترك بين الطرفين فلا حاجة الى التنزيل المذكور (بل لا معنى له) اي لقوله المذكور
(اصلا) لانه خلاف الواقع فتأمل.
(قلت لا يخفى
على احد انا اذا قلنا للجبان هو اسد وللبخيل هو حاتم واردنا التصريح بوجه الشبه لم
يتأت لنا ان نقول في التضاد او في
مناسبة الضدية بل انما يصح ان نقول هو اسد في الجرأة وحاتم في الجود ومعلوم
ان الحاصل في المشبه) يعني زيد مثلا (هو ضد الجرأة والجود وهو الجبن والبخل لكن
نزلناه) اي الضد (منزلة الجرأة والجود بواسطة التمليح والتهكم لاشتراكهما في
الضدية كما تجعل في الاكاذيب المضحكة) كما في قصة الحمار والاسد حيث سئله ما اسمك
فقال بالفارسية اسمي (شير) فقال الحمار إسمي (لمشير) الى آخر القصة (فوجه الشبه في
قولنا للجبان هو اسد انما هو الجرأة) وفي قولنا هو حاتم انما هو الجود (لكن
باعتبار التمليح او التهكم) فلابد من التنزيل فالجبان شجاع تنزيلا والبخيل جواد
فجاء الاشتراك تمليحا وتهكما (هكذا ينبغي ان يفهم هذا هذا المقام) والتوفيق لذلك
من الله الملك العلام.
ولما فرغ
الخطيب من ثلاثة اركان التشبيه اعني الطرفين والوجه شرع في الرابع منها وهو اداته
فقال (واداته اي اداة التشبيه الكاف وكان قال الزجاج كأن) يستعمل (للتشبيه اذا كان
الخبر جامدا نحو كان زيدا اسد وللشك اذا كان) الخبر (مشتقا نحو كأنك قائم لان
الخبر) الواقع موقع المشبه به متحد (في المعنى) مع اسم كان الواقع موقع ما (هو
المشبه) فليس فيه تشبيه (و) ذلك لان (الشيء لا يشبه بنفسه) ولا يخفى عليك ان هذا
التعليل جار ايضا فيما كان الخبر جامدا لان الشيء لا يحمل على نفسه فالاولى ان
يتمسك بالاستعمال لا بالتعليل والاستدلال.
(وقيل انه
للتشبيه مطلقا) اي سواء كان الخبر جامدا ام مشتقا (و) حينئذ يجاب عن التعليل
المذكور بان (مثل هذا) الكلام اعني كأنك قائم (على حذف الموصوف اي كأنك شخص قائم)
فلا اتحاد لان الشخص القائم أعم من المخاطب فالضمير في قائم ضمير غائب عائد الى
الموصوف
المحذوف لا الى الكاف (لكن لما حذف الموصوف) اي شخص (وجعل الاسم) اي اسم
كان اعني الكاف اي الضمير المخاطب (بسبب التشبيه كأنه نفس (الخبر بعينه صار الضمير)
الغائب منقلبا الى الضمير المخاطب فهو حينئذ (يعود الى الاسم) ان الكاف (لا الى
الموصوف المقدر نحو كأنك قلت) بفتح التاء (وكاني قلت) بضمها (والحق انه قد تستعمل)
كلمة كان (عند الظن بثبوت الخبر) للاسم (من غير قصد الى التشبيه سواء كان الخبر
جامدا او مشتقا نحو كان زيدا اخوك وكأنه فعل كذا وهذا) اي استعمال كان لهذا المعنى
(كثير في كلام المولدين لا غيرهم.
(و) من اداة التشبيه
لفظ (مثل وما في معناه كسائر ما يشتق من المماثلة والمشابهة والمضاهاة وما يؤدي
معناها) كقولك زيد يمأثل عمرا او يشابه او يضاهي او يحاكي عمرا فكل ذلك يفيد
التشبيه ولكن لا يذهب عليك ان هذه الالفاظ ونحوها من المشتقات انما تفيد الاخبار
بمعناها فان قولك زيد يشابه عمرا مثلا اخبار بالمشابهة كقولك زيد يقوم فانه اخبار
بالقيام وليس فيها اداة داخلة على المشبه به ومثل هذا يلزم في لفظ مثل فعدها من
الاداة لا يخلو من تسامح.
(والاصل) اي
الكثير الراجح (في نحو الكاف) اما الكاف نفسها فالحكم فيها بطريق اولى لما تقدم في
بحث المسند اليه في مثلك لا يبخل من انه اذا ثبت الحكم لمماثل الشي ولما هو على
اخص اوصافه ففيه بطريق اولى والى ذلك اشار بقوله (اي في الكاف ونحوها مما يدخل على
المفرد كلفظ نحو ومثل وشبه) ومماثل ومشابه ونحوهما (بخلاف نحو كان) مما يدخل على
الجملة او يكون بنفسه جملة (و) ذلك نحو (تماثل وتشابه) وما يؤدي معناهما من
الافعال فان هذه لا يليها المشبه به بل المشبه كقولك
زيد يشابه عمرا فان الضمير المستتر في الفعل هو المشبه وعمر المتأخر المشبه
به (إن يليه المشبه به) اي يقع المشبه به بعد الكاف ونحوه بلا فاصلة كذا فسر
الجامي الولي في بحث المنصوب بلا التي لنفي الجنس.
(اما لفظا) حال
من المشبه به اي حالكون المشبه به ملفوظا به (كقولنا زيد كالاسد او كولد الاسد)
تكرار المثال للاشارة الى ان المراد بالمفرد ههنا ما يقابل الجملة لا المضاف (و)
كذلك (قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) فان المشبه به هو مثل المستوقد اي حاله وقصته العجيبة
الشان).
قال الراغب في
المفردات المثل يقال على وجهين احدهما بمعنى المثل نحو شبه وشبه ونقض ونقض قل
بعضهم وقد يعبر بهما عن وصف الشيء نحو قوله (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) والثاني عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني اي
معنى كان وهو اعم الالفاظ الموضوعة للمشابهة وذلك ان الند يقال فيما يشارك في
الجوهر فقط والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط والمساوي يقال فيما يشارك في
الكمية فقط والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك
ثم ذكر الآية وقال فانه شبه من اتاه الله تعالى ضربا من الهداية والمعاون فاضاعه
ولم يتوصل به الى ما رشح له من نعيم الابد بمن استوقد نارا في ظلمة فلما اضاءت له
ضيعها ونكس فعاد في الظلمة انتهى.
(واما تقديرا)
اي اما حال كون المشبه به مقدرا (كقوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) الآية) فالمشبه به مقدر (فان التقدير او كمثل ذوي صيب
فحذف ذوي) الذي هو جمع ذو بمعنى الصاحب (لدلالة قوله (يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) عليه) اي على
ذوي (لان هذه الضمائر) اي ضمائر الجمع (لابد لها من مرجع) وانما (حذف) لفظ (مثل)
المضاف الى ذوي (لقيام القرينة اعني عطفه على قوله (كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً)) ومثل هذا العطف مجوز لمثل هذا الحذف كما قال ابن مالك
:
وربما جروا
الذي ابقوا كما
|
|
قد كان قبل
حذف ما تقدما
|
لكن بشرط ان
يكون ما حذف
|
|
مماثلا لما
عليه قد عطف
|
(فالمثل) المقدر الذي هو (المشبه
به قد ولي الكاف لان المقدر في حكم الملفوظ) وسيأتي فيه كلام عن قريب فانتظر وانما
جعلنا ذلك من قبيل ما ولى المشبه الكاف لما ذكر في الكشاف والايضاح فيما لا يلي
المشبه به الكاف كقوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) ان ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر
يتمحل) اي يطلب محل ومكان (لتقديره فعلمنا) من قولهما ولا بمفرد اخر يتمحل لتقديره
(انه اذا كان المشبه مفردا مقدرا فهو من قبيل ما ولى المشبه به حرف التشبيه)
وسيأتي في المتن الاتي الكلام في المشبه به في هذه الآية فانتظر.
(وقد صرح
المصنف في الايضاح بان قوله تعالى (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ليس من قبيل ما لا يلي المشبه به الكاف) بل هو من قبيل
ما يلي المشبه به الكاف (لان التقدير ككون الحواريين انصار الله وقت قول عيسى من
انصاري الى الله) وذلك بناء (على ان ما) في كما قال عيسى (مصدرية والزمان) اي وقت
او ما يؤدي معناه (مقدر كقولهم اتيك خفوق النجم اي زمان خفوقه) اي عزوبه والى نحو
هذا التقدير اشار ابن مالك بقوله :
وقد ينوب عن
مكان مصدر
|
|
وذاك في ظرف
الزمان يكثر
|
(فالمشبه به
وهو كون الحواريين انصار الله مقدر يلي الكاف) فالتقدير كالتقدير في الآية
المتقدمة اذ قلنا ان التقدير فيها (كمثل ذوي صيب) وانما (حذف) المشبه به في هذه
الآية (لدلالة ما اقيم مقامه عليه) وهو ما المصدرية وصلتها وانما قلنا ان المشبه
به هو كون الحواريين لا ما المصدرية وصلتها (اذ لا يخفى ان ليس المراد تشبيه كون
المؤمنين انصارا بقول عيسى للحواريين من انصاري الى الله) بل المراد تشبيه كون
المؤمنين انصار الله بكون الحواريين انصار الله وقت قول عيسى وبعبارة اخرى المعنى
كونوا انصارا كما كان الحواريون انصار عيسى حين قال لهم من انصاري الى الله وذلك
ظاهر لمن كان له ذوق سليم وفهم مستقيم.
(قال صاحب
المفتاح اوقع) الله تعالى (التشبيه) المعهود اي تشبيه كون المؤمنين انصار الله
فكون المؤمنين مشبه والمشبه به مردد بين كون الحواريين انصار الله) حسبما حققنا (وبين
قول عيسى للحواريين (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ)) بناء على ما هو صريح الاية المباركة.
والحاصل ان
المشبه به في الآية مردد بين شيئين احدهما كون الحواريين انصار الله والآخر قول
عيسى للحواريين (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) (و) الحق هو الاول والى ذلك يشير قوله (انما المراد (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) مثل كون الحواريين انصاره) فتكون الآية كما قال في
المفتاح نظيرا لقوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ).
(فتوهم بعضهم
من ظاهر قوله) اي قول صاحب المفتاح (اوقع التشبيه بين كذا) اي بين كون الحواريين
انصار الله (وكذا) اي قول عيسى للحواريين (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) (ان المراد) اي مراد صاحب المفتاح (ان الاول) اي كون الحواريين انصار الله (مشبه
والثاني) اي قول عيسى (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) (مشبه به فجزم) هذا البعض المتوهم (بان الصواب)
في عبارة المفتاح (المؤمنين بدل الحواريين اذ ليس المشبه كون الحواريين
انصارا بل كون المؤمنين) على ما هو المفروض في المقام (والشارح العلامة) لم يفهم
مراد هذا البعض المتوهم لأنه (قد رد قول هذا البعض) المتوهم (بأن الآية حينئذ) أي
حين اذ كان الثاني اي قول عيسى للحواريين (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) مشبا به (لا يكون نظيرا لقوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ)) اذ المشبه به حينئذ يكون مذكورا لا مقدرا (و) رد أيضا
قول هذا البعض (بأن تشبيه الكون بالقول مما لا وجه له) وهذا ظاهر لا نزاع فيه.
(و) لكن (هذا)
أي الرد الاول المستلزم للرد الثاني (غلط منه) أي من الشارح العلامة وذلك لعدم
فهمه المراد (لأن مراد هذا القائل) أي البعض المتوهم عين ما هو مراد صاحب المفتاح
ولذلك جزم بأن الصواب في عبارة المفتاح المؤمنين بدل الحواريين فمراده بعد التبديل
(إنه) أي الله جل جلاله (أوقع في الظاهر التشبيه بين كون المؤمنين انصار الله وبين
قول عيسى عليهالسلام) فالمشبه به في الظاهر قول عيسى (ع) وهو مذكور (مع ان
المراد) في الحقيقة ونفس الأمر (ايقاع التشبيه بين كون المؤمنين أنصار الله وبين
كون الحواريين انصاره وقت قول عيسى كما هو صريح الكتاب) أي المفتاح (فالمشبه به
محذوف) وهو كون الحواريين وهو (مضاف ومضاف اليه كما في قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) بعينه) فلا يرد على هذا البعض المتوهم الرد الأول ولا الثاني
لأن الآية حينئذ تكون نظيرا لقوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ) ولم يشبه الكون بالقول بل بالكون حسبما بيناه.
(نعم ما ذكره
الشارح) العلامة (في توجيه لفظ المفتاح كاف في رد هذا القول) أي قول البعض المتوهم
(وهو) أي ما ذكره الشارح العلامة (أن معنى كلامه) أي كلام صاحب المفتاح (اوقع)
الله جل جلاله (التشبيه
اي تشبيه كون المؤمنين انصار الله) بناء (على ان اللام) في قوله التشبيه (للعهد)
والمشبه به (بين) أي حالكون المشبه به (دائرا بين) شيئين احدهما (كون الحواريين
أنصارا) هذا بناء (على ما يفهم ضمنا) وبالذوق السليم والفهم المستقيم (ويستلزمه)
اي هذا الوجه اي كون المشبه به كون الحواريين أنصارا (قولهم) في جواب عيسى (ع) ((نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) وبين قول عيسى) (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) وهذا بناء (على ما هو صريح) في الآية حيث الكاف دخلت
على قول عيسى (يعني ان المشبه كون المؤمنين انصار الله والمشبه به يحتمل ان يكون
هو كون الحواريين انصاره) أي الله بناء (على ما يفهم ضمنا) بالذوق السليم والفهم
المستقيم (ويحتمل ان يكون قول عيسى (ع) بناء (على ما هو صريح) في الآية المباركة (لكن
المراد هو الأول لا الثاني إذ لا معنى لتشبيه كونهم بقول عيسى) عليه وعلى نبينا
وآله السّلام.
(وقيل المراد
بالحواريين) الأول (في قوله) اي صاحب المفتاح (أوقع التشبيه بين كون الحواريين هم
المؤمنون لأنهم حواريو محمد (ص) اذ حواري الرجل صفيه وخلصائه) فصح قول البعض من
دون حاجة الى تبديل الحواريين بالمؤمنين ولا يرد عليه شيء مما ذكره الشارح العلامة
(والله اعلم) بما هو المراد عند صاحب المفتاح.
(وقد يليه غيره
أي وقد يلي نحو الكاف غير المشبه به وذلك اذا كان المشبه به مركبا) من اعتبارات
شتى (لم يعبر عنه) أي عن ذلك المركب (بمفرد دال عليه) كلفظ المثل فلا يكون ثم لفظ
هو المشبه به محقق ولا مقدر (وانما قلنا ذلك) أي انما قلنا لم يعبر عنه بمفرد دال
عليه (أحترازا عن نحو قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً) فأن المشبه به فيه مركب) من اعتبارات شتى حسبما تقدم
بيانه
(لكنه عبر عنه بمفرد يلي الكاف وهو المثل اعني الحال والقصة العجيبة الشان)
بخلاف ما لم يعبر عنه بالمفرد لفظا ولا اقتضى الحال تقديره بل استغنى عنه بما في
ضمن مجموع اللفظ فلا يلي الكاف فيه المشبه به (نحو قوله تعالى (وَاضْرِبْ)) أي بين ((لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ
الدُّنْيا كَماءٍ) خبر مبتدء محذوف اي هي كماء وهو استيناف بياني كأنه قيل
بم ابينه فقيل هي (كَماءٍ (أَنْزَلْناهُ
مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً)) أي يابسا شديد اليبوسة ((تَذْرُوهُ الرِّياحُ) اذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر
يتمحل) أي يطلب محل ومكان (لتقديره بل المراد تشبيه حالها في نضرتها وبهجتها وما
يتعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات الحاصل من الماء يكون أخضر ناضرا) أي جميلا
حسنا (شديد الخضرة ثم ييبس فتطيره الرياح كان لم يكن) هذا تفسير لتذروه الرياح.
(فأن قلت
فليعتبر هنا) أي في هذه الآية (أيضا مضاف محذوف اي كمثل ماء فيكون المشبه به يلى
الكاف تقديرا كما في قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ) قلت هذا تقدير لا حاجة اليه فلا ينبغي ان يعرج) أي يرقى
(عليه) حاصله انه لا ينبغي ان يرتكب التقدير لأن عدم التقدير أولى من التقدير (بخلاف
قوله (أَوْ كَصَيِّبٍ) فأن الضمائر في قوله تعالى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لابد لها من مرجع) فلذلك نحتاج الى التقدير.
(قال صاحب
الكشاف لو لا طلب هذه الضمائر مرجعا لكنت مشتغنيا عن تقدير كمثل ذوي صيب لأني
اراعي) في وجه التشبيه (الكيفية) والحالة (المنتزعة) من مجموع كل واحد من الطرفين (سواء
ولى حرف التشبيه مفرد يتأتى به التشبيه ام لا).
فالحاصل ان
المشبه به اذا كان مركبا فأن عبر عنه بلفظ مفرد كلفظ
المثل فقد ولى المشبه به الكاف وان لم يعبر عنه بمفرد ولا اقتضى الحال
تقديره أي لا يكون في الكلام شيء يحوجنا الى التقدير بل استغنى عنه بما يفهم من
مجموع الكلام فلا يكون المشبه به شيء يلي الكاف لا لفظا ولا تقديرا (إلا ترى الى
قوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية كيف ولى الماء الكاف وليس الغرض تشبيه الدنيا
بالماء والا بمفرد آخر يتمحل) أي يطلب محل ومكان (لتقديره ومما هو بين في هذا) أي
في ان ما يلي الكاف ليس بمشبه به (قول لبيد).
وما الناس
إلا كالديار واهلها
|
|
بها يوم
حلوها وغدوا بلاقع
|
فإنه (لم يشبه
الناس بالديار وانما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار
فيها وسرعة نهوضهم عنها وتركها خالية هذا كلامه) أي صاحب الكشاف.
(فإن قيل هب)
قد بينا في المكررات في بحث افعال القلوب ان هب بمعنى فعل الأمر من ظن يظن فالمعنى
ظن (ان طلب مرجع الضمير أحوجنا الى تقدير ذوي فما وجه الأحتياج الى تقدير مثل).
قول الشارح (لا
يقال) جواب ان قيل لغير الشارح واما جواب الشارح فقوله بعيد هذا بل الجواب الخ وجه
الاحتياج الى تقدير مثل انما هو (لأن المشبه به ليس ذوات ذوي الصيب بل حالهم
وصفتهم) فلا بد من تقدير مثل واما رد هذا الجواب فقوله (لأنا نقول لا يلزم من عدم
تقدير مثل والاقتصار على تقدير ذوي ان يكون المشبه به ذوات ذوي الصيب بل) المشبه
به (مجموع القصة المذكورة) اي مجموع (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ) الخ (كما في قوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ)) الى هنا كان الكلام في جواب ان قيل لغير الشارح ورده وأما
جواب ان قيل من الشارح
فقوله (بل الجواب) الصحيح عن ان قيل أي عن فما وجه الاحتياج الى تقدير مثل (انه
لما انفتح باب الحذف والتقدير فتقدير مثل ذوي صيب اولى من الاقتصار على تقدير ذوي
لأنه ادل على المقصود وأشد ملائمة للمعطوف عليه اعني قوله تعالى (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) فليتأمل فإن الفرق بين ما يحتاج الى التقدير وما لا
يحتاج دقيق.
(وقد ظهر بما
ذكرنا ان من قال ان تقدير قوله (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) كمثل ماء على حذف المضاف فالمشبه به لم يل الكاف لكونه
محذوفا فقد سهى سهوا بينا) لأن كون المشبه به محذوفا لا يقتضي ان لم يل الكاف وذلك
لأن المقدر كالمذكور.
(وقد يذكر فعل
ينبئ عنه اي عن التشبيه) من غير ذكر أداة فيكون الفعل قائما مقامها والمراد فعل
غير ما تقدم في صدر المبحث مما يدل وضعا على التشبيه من نحو تماثل وتشابه (كما في
علمت زيدا أسدا) وانما يستعمل علمت (ان قرب التشبيه) أي ان أريد افادة قرب المشبه
للمشبه به وادعى كمال المشابهة (وأريد انه) أي زيدا (مشابه للأسد مشابهة قوية لما
في علمت من الدلالة على تحقق الشبه ويتقنه) فيفيد المبالغة في التشبيه لتيقن
الاتحاد وهذا يناسب الأمور الظاهرة البعيدة عن الخفاء.
(وكما في حسبت
او خلت زيدا أسدا ان بعد التشبيه) اي اريد افادة ضعفه و (بعده) (ادنى تبعيد) بأن
تكون مشابهة المشبه للمشبه به ضعيفة لكون وجه التشبيه من الأمور الخفية عن الإدراك
(لما في الحسبان من الدلالة على الظن دون التحقيق ففيه اشعار بأن شبهه بالأسد ليس
بحيث يتيقن انه هو هو بل يظن ذلك ويتخيل وفي كون هذا الفعل منبئا عن التشبيه نظر)
أي لا يتم قول الخطيب فعل ينبيء عنه (للقطع بأنه لا دلالة للعلم والحسبان على ذلك)
أي على التشبيه (وانما يدل عليه علمنا بأن أسدا لا يمكن حمله على زيد
تحقيقا وانه انما يكون على تقدير أداة التشبيه سواء ذكر الفعل أو لم يذكر كما في
قولنا زيد أسد ولو قيل انه) اي الفعل (ينبيء عن حال التشبيه من القرب والبعد لكان
أصوب).
الى هنا كان
الكلام في وجه التشبيه (و) اما الكلام في الغرض منه فهو أن (الغرض منه أي من
التشبيه في الاغلب) استعمالا (يعود الى المشبه وهو اي الغرض العائد الى المشبه
بيان إمكانه يعني بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود وذلك في كل أمر غريب يمكن ان
يخالف فيه ويدعى امتناعه) من أجل غرابته (كما في قوله اي قول أبي الطيب :
فأن تفق
الأنام وانت منهم
|
|
فأن المسك
بعض دم الغزال
|
(فأنه أراد ان يقول ان الممدوح قد
فاق الناس بحيث لم يبق بينه وبين الناس مشابهة بل صار اصلا برأسه وجنسا بنفسه وهذا
في الظاهر كالممتنع لأستبعاد ان يتناهى بعض أحاد النوع) الواحد (في الفضائل الخاصة
بذلك النوع) الواحد (إلى أن يصير كأنه) أي ذلك البعض (ليس منها) اي الاحاد (فأحتج)
أي فأستدل (لهذه الدعوى وبين امكانها بأن شبه حاله بحال المسك الذي هو من) جنس (الدماء
ثم انه لا يعد من الدماء لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا توجد في الدم) ومن
هذا القبيل ما قيل الناس يتفاضلون تفاضل الدماء منها مسك يباع ومنها علق يضاع.
(فأن قلت اين
التشبيه في هذا البيت قلت يدل البيت عليه) أي على التشبيه ضمنا وإن لم يدل عليه
صريحا لأن المعنى ان تفق الانام مع انك واحد منهم فلا استبعاد في ذلك لأن المسك
بعض دم الغزال وقد فاقها حتى لا يعد منها فحالك شبيهة بحال الأسد وليسم هذا تشبيها)
ضمنيا مدلولا عليه
باللازم لأنه ذكر في البيت لازم التشبيه وهو وجه الشبه أي فوقان إلا نام
واراد الملزوم وهو التشبيه واما قوله او تشبيها مكنيا عنه (فهو تفسير لقوله تشبيها
ضمنيا.
والحاصل ان
التشبيه لم يذكر صراحة بل كناية بذكر لازمه وقال بعضهم انما سمي ضمنيا لأنه يفهم
من الكلام ضمنا وسمى مكنيا عنه لأنه مكنى أي خفى ومستتر.
(او حاله)
بالجر لأنه (عطف على امكانه أي بيان حال المشبه بأنه على اي وصف من الاوصاف) أي
السواد والبياض وغيرهما من الألوان (كما في تشبيه ثوب بآخر في السواد اذا علم لون
المشبه به دون المشبه وإلا) أي وان علم لون المشبه أيضا (لم يكن لبيان الحال) اي
لبيان حال المشبه (لأنها) اي حال المشبه مبينة) أي معلومة كما هو المفروض.
(أو مقدارها)
بالجر أيضا لما تقدم (اي بيان مقدار حال المشبه في القوة) اي الشدة (والضعف
والزيادة والنقصان كما في تشبيهه) أي تشبيه الثوب الأسرد بالغراب في شدته اي شدة
السواد) وذلك أيضا إذا علم مقدار حال المشبه به دون المشبه وإلا لم يكن لبيان
المقدار لأنه مبين معلوم على الفرض.
(أو) الغرض
العائد الى المشبه (تقريرها) وهذا (مرفوع) لا مجرور لأنه (معطوف على) المضاف أي (بيان
امكانه) فحاصل المعنى انه قد يكون الغرض من التشبيه التقرير (أي تقرير حال المشبه)
وتثبيتها (في نفس السامع وتقوية شانه) أي شأن المشبه وحاله (كما في تشبيه من لا
يحصل من سعيه على طائل) أي على فائدة وفضل لأنه مأخوذ من الطول بفتح الطاء يقال
لفلان على فلان طول أي فضل وامتنان (بمن يرقم) أي ينقش ويكتب ويخطط (على الماء
فأنك تجد) أي تعلم (فيه) أي في هذا التشبيه المخصوص (من
تقرير عدم الفائدة) أي من تقرير المتكلم عدم الفائدة الذي هو حال المشبه
أعني من لا يحصل من سعيه على طائل (وتقوية شأنه) أي شأن المشبه اي حاله (ما لا
تجده في غيره) أي في غير هذا التشبيه المخصوص (لأن الفك) وانسك (بالحسيات) التي
منها الرقم على الماء (اتم منه) أي من الفك (بالعقليات) وذلك (لتقدم الحسيات) في
الحصول عند النفس أي الذهن على العقليات لأن النفس في مبدء الفطرة خالية عن العلوم
ثم بعد احساسها بالجزئيات بالحواس الخمس وتنبهها لما بينها من المشاركات والمباينات
اجمالا يحصل لها علوم كلية التي هي من العقليات (وفرط الف النفس بها) أي
بالمحسوسات (إلا ترى انك إذا أردت وصف يوم بالطول فقلت يوم كأطول ما يتوهم او كأنه
لا آخر له فلا يجد السامع من الأنس) والتأثير في النفس (ما يجده في قوله) :
ويوم كظل
الرمح قصر طوله
|
|
دم الزق عنا
واصطكاك المزامر
|
والشاهد فيه ان
الشاعر شبه اليوم بالمحسوس المألوف أعنى ظل الرمح لتقرير حال المشبه في ذهن
السامع.
قال في شرح
المقامات يوصف اليوم الطويل بظل القناة كما يوصف اليوم القصير بأبهام القطاة
والعرب تزعم ان ظل الرمح أطول ظل ومنه البيت إنتهى.
وقال الثعالبي
في ثمار القلوب ظل الرمح يضرب به المثل في الطول كما قال ابن الطثرية البيت قال
الجاحظ قولهم منينا بيوم كظل الرمح فأنهم لا يريدون به الطول وحده ولكنهم يريدون
انه مع الطول ضيق غير واسع قالوا وليس يوجد لظل الشخص نهاية مع طلوع الشمس وقال
ابن المعتز.
بدلت من ليل
كظل حصاة
|
|
ليلا كظل
الرمح ليس موات
|
وقال آخر
نهار مثل
ابهام الحباري
|
|
وليل مثل ظل
الرمح طولا
|
انتهى
(وكذا إذا قلت
في وصفه بالقصر يوم كأقصر ما يتصور وكلمح البصر وكأنه ساعة) فأنه لا تجد فيه من
الأنس والتأثير في النفس (ما تجده في قولهم إيامهم كأباهيم القطا وقول الشاعر.
ظللنا عند
باب ابي نعيم
|
|
بيوم مثل
سالفة الذباب
|
ابو نعيم
بالتصغير كنية رجل والسالفة العنق والشاهد التشبيه بالمحسوس المألوف لتقرير حال
المشبه في ذهن السامع (وكذا إذا قلت فلان إذا هم بشيء لم يزل ذاك عن ذكره وقصر
خواطره على امضاء عزمه فيه ولم يشغله عنه شيء فالسامع لا يصادف فيه من الأريحية)
أي سعة الخلق والنشاط (ما يصادفه من انشاد قوله) :
اذا هم القى
بين عينيه عزمه
|
|
ونكب عن ذكر
العواقب جانبا
|
(وهذه الأغراض الأربعة) أي بيان
الأمكان والحال والمقدار والتقرير (تقتضي) أي تستلزم أي توجب (ان تكون وجه التشبيه
في المشبه به اتم) منه أي من وجه التشبيه في المشبه (وهو) اي المشبه به (به) أي
بوجه التشبيه (اشهر) عند السامع وإن لم يكن اشهر في الواقع (وأعرف) اي إذا كان
المشبه معروفا بوجه التشبيه يكون المشبه به أشد معرفة به منه وكذلك الأشهرية.
(ظاهر هذه
العبارة) المذكورة في المتن (ان كلا) أي كل واحد (من الأربعة يقتضي) جميع (ذلك) اي
كل واحد من الأتمية والأشهرية والأعرفية (وليس الامر كذلك لأن بيان امكانه) الذي
هو أحد هذه الاغراض الاربعة (إنما يقتضي كون المشبه به بوجه الشبه اشهر ليصح قياس
المشبه عليه)
أي على المشبه به (و) ليصح (جعله دليلا على امكانه) حسبما مر في قوله وإن
تفق الأنام الخ.
(لكنه لا يقتضي
كونه) أي كون وجه الشبه اي الامكان (في المشبه به اتم) وذلك لأن المطلوب في بيان
الأمكان إنما هو مجرد وقوع وجه الشبه في الخارج في ضمن المشبه به ليفيد عدم
الأستحالة وغاية ما يقتضي ذلك مجرد العلم بالوجود الخارجي ليسلم الامكان ولا يتوقف
الأمكان على الأتمية لأن مطلق وقوع الماهية في فرد ما يكفي في إمكانها فاذا قلت
انك في خروجك عن أهل جنسك كالمسك كفى في المراد العلم بخروج المسك عن جنسه أي الدم
ولا يطلب كونه اتم منك في الخروج على انه قد ثبت كما في القوشجي ان الامكان الذاتي
غير قابل للشدة والضعف فتأمل جيدا.
(وكذا بيان
حاله) أي المشبه (لا يقتضي إلا كون المشبه به بوجه الشبه اشهر كما إذا كان ثوبان
متساويين في السواد لأن الغرض مجرد الأشعار بكونه أسود) لأن الغرض كما تقدم أن
المخاطب جاهل به طالب لمجرد تصوره وذلك يكفي فيه كونه معروفا في المشبه به ليفيد
معرفته في المشبه فاذا قيل ما لون ثوبك الذي أشتريته اليوم فقلت كثوبك الذي
أشتريته امس فيحصل الغرض بمجرد العلم بكونه أسود لأن ذلك هو المطلوب ولا يتوقف على
كون هذا اتم في السواد لأنه زائد على الغرض من السؤال.
(وكذا بيان
مقدار حاله لا يقتضي كونه اتم بل هو يقتضي كون المشبه على حد مقدار المشبه به في
وجه الشبه لا ازيد ولا انقص) وإلا لزم الكذب والخلل في الكلام وذلك لأن التشبيه
فيه (ليتعين مقداره) أي المشبه (على ما هو عليه ولهذا قالوا كلما كان وجه التشبيه
ادخل في السلامة عن الزيادة
والنقصان كان التشبيه أدخل في القبول) مثلا إذا قيل كيف بياض الثوب الذي
أشتريته والحال انه في مرتبة التوسط او التسفل في البياض وقلت هو كالثلج ليكون وجه
الشبه في المشبه به اتم كان الكلام كذبا اللهم إلا أن يكون الغرض من الكلام
المبالغة في بياض الثوب فتأمل.
(واما تقرير
حاله) أي حال المشبه (فيقتضى الأمرين) اي أتمية المشبه به واشهريته (جميعا لأن
النفس الى) المشبه به (لأتم الأشهر أميل فالتشبيه به) أي بالأتم الاشهر (بزيادة
التقرير والتقويه اجدر) الباء في بزيادة التقرير للسببية متعلق بقوله أجدر وحاصل
المعنى ان التشبيه بالأتم الأشهر أولى من التشبيه بالخالي من الأتمية والأشهرية
بسبب افادته زيادة التقرير أي التقرير الزائد في نفسه والتقوية فتقرير الحال مقتضى
للأمرين جميعا.
(فأن قلت لم
خصص هذه) الاغراض (الأربعة بذلك) دون ما يأتي من الأغراض الأخر الآتية في المتن
الآتي.
(قلت لأن)
الأغراض الآتية وهي (التزيين والتشويه والاستطرأف لا يقتضي الأتمية والأشهرية) أي
أتمية وجه التشبيه في المشبه به واشهريته فيه (لصحة تشبيه وجه الهندي الشديد
السواد بمقلة الظبي) التي سواده مستحسن عند أهل الذوق للتزيين) أي لتزيين وجه
الهندي اي جعله ذا زينة وذلك لأن يتخيل السامع حسنه فيكون ذلك داعيا لرغبته فيه (مع
ان السواد فيها) أي في مقلة الظبي (ليس اتم منه) أي من السواد (في وجهه ولا هي) اي
مقلة الظبى (أشهر منه) أي من وجه الهندي (بالسواد) بل الأمر بالعكس (و) هكذا
التشويه (لأن الهيئة المشتركة بين الوجه المجدور) أي الوجه الذي عليه آثار الجدري
وهو حب يخرج في الانسان أو في غيره يمرضه ويبرء غالبا ويبقى بسبه حفرا في الوجه أو
في سائر الاعضاء (والسلحة) بالحاء
المهملة اي العذرة الجامدة اليابسة (المنقورة) اي التي نقرتها الديكة حال
رطوبتها على ما يأتي بيانه في المتن الآتي (ليست) تلك الهيئة المشتركة (في السلحة
أتم ولا هى بها اشهر) بل الأمر هنا ايضا بالعكس (وكذا في الاستطراف) وسيأتي بيانه
ففيه أيضا لا يلزم أن يكون المشبه به اتم واشهر فتحصل من مجموع ما ذكرنا ان هذه
الاغراض الثلاثة لا يقتضي ان يكون وجه التشبيه في في المشبه به أتم وأشهر (بل كلما
كان المشبه به) في هذه الثلاثة (اندر واخفى كان التشبيه بتأدية هذه الاغراض)
الثلاثة (أو في) مما كان المشبه به أتم واشهر.
(وقد أضطرب في
هذا المقام كلام السكاكي) أي في مقام بيان ان اي غرض من الاغراض يقتضي كون وجه
التشبيه في المشبه به اتم وأشهر (لأنه قال أن حق المشبه به أن يكون اعرف بجهة
التشبيه من المشبه واخص بها واقوى حالا معها) أي مع جهة التشبيه (والا) أي وان لم
يكن المشبه به اعرف بجهة التشبيه من المشبه وأخص بها وأقوى حالا معها (لم يصح ان
يذكر المشبه به لبيان مقدار المشبه ولا لبيان امكانه ولا لزيادة تقريره ولا
لأبرازه في معرض التزيين والتشويه لأمتناع تعريف المجهول بالمجهول وتقرير الشيء
بما يساويه التقرير الأبلغ) والحاصل إنه إذا لم يكن أعرف إما ان يساويه أو لا وعلى
الاول أي ان يساويه يلزم الثاني اي تقرير الشيء بما يساويه التقرير الابلغ وعلى
الثاني أي ان لا يساويه يلزم الاول أي تعريف المجهول وكلاهما ممتنعان.
وقوله (او في
معرض الاستطراف) عطف على قوله في معرض التزيين والأستطراف على ما يأتي أبراز
المشبه في صورة الممتنع (كما) سيأتي (في تشبيه فحم جمر موقد ببحر من المسك موجه
الذهب) قوله (نقلا) مفعول له
لقوله تشبيه فحم (لأمتناع وقوع المشبه به وهو البحر الموصوف الى الواقع وهو
الفحم المذكور) حاصل المعنى أن الغرض من تشبيه البحر الموصوف بالفحم المذكور ان
ينقل امتناع وقوع البحر الموصوف الى الفحم المذكور (ليستطرف المشبه) أي الفحم
المذكور (بصيرورته) أي الفحم المذكور (كالممتنع لمشابهته) أي الفحم المذكور (اياه)
أي البحر الموصوف.
(او) يكون
التشبيه نقلا للوجه الآخر أي نقلا لندرة حضور المشبه به في الذهن) والندرة (أما
مطلقا) أي من غير تقييد بحالة حضور المشبه به الى المشبه وذلك إذا كان المشبه به
في نفسه نادرا بل ممتنعا كبحر من المسك موجه الذهب (او عند حضور المشبه به الى
المشبه) لا مطلقا وذلك إذا كان المشبه شيئا معتاد إلا ندرة فيه وحينئذ يكون النقل (لمثل
ما ذكر أي ليستطرف) المشبه (استطراف النوادر) لأن ندرة الحضور موجبة لغرابة ذلك
النادر ولكل غريب لذة وإذا شبه غير النادر بالنادر المستطرف أنتقل وصف الندرة لذلك
المشبه وصار مبرزا في صورته أي بصفته فينجر الاستطراف اليه (كذا ذكره الشارح
العلامة) إلى هنا كان الكلام في نقل حاصل كلام السكاكى واما وجه الاضطراب في كلامه
فأشار اليه بقوله (وعلى هذا) التفسير أي تفسير قول السكاكى لمثل ما ذكر بما ذكره
العلامة أي بليستطرف استطراف النوادر (يكون عدم صحة ذكر المشبه به الذي لا يكون
أعرف واخص واقوى في صورة الاستطراف خاليا عن التعليل) والحاصل أن العلامة جعل قوله
لمثل ما ذكر تعليلا لنقل ندرة حضور المشبه به كما ان قوله فيما تقدم ليستطرف تعليل
لنقل امتناع وقوع المشبه به وحينئذ يبقى دعوى عدم صحة ذكر المشبه به الذي لا يكون
أعرف وأخص واقوى في صورة الاستطراف خالية عن التعليل فالأولى ان يفسر قوله لمثل ما
ذكر بما ذكره التفتازاني بقوله (وقيل معناه)
أي معنى لمثل ما ذكر (لمثل ما ذكره) آنفا (من) امتناع (تعريف المجهول
بالمجهول) وامتناع تقرير الشيء بما يساويه التقرير الأبلغ (وهذا التفسير أنسب
بسياق كلامه) اي كلام السكاكي.
(وبالجملة) اي
خلاصة الاضطراب في كلام السكاكي (فدليله لا يطابق دعواه لأنه) أي كلام السكاكي
الذي نقله التفتازاني بقوله آنفا لأنه قال ان حق المشبه به ان يكون اعرف بجهة
التشبيه الخ (يكون لزيادة التقرير نعم لا بد فيما يكون للتزيين او التشويه او
الاستطراف ان يكون المشبه اتم في الإستحسان أو الاستقباح أو الغرابة) فيما كان الغرض
من الاستطراف نقل الإمتناع (أو الندرة) فيما كان الغرض منه نقل الندرة (ليحصل
الغرض) من التشبيه في كل واحد من التشبيهات الثلاثة (أما) الاتمية (في وجه التشبيه
الذي هو الهيئة المشتركة فلا) يدل كلامه على ذلك.
(وحينئذ) أي
حين اذ لم يدل قول السكاكي ان حق المشبه به ان يكون أعرف بجهة التشبيه واقوى حالا
معها إلا فيما يكون التشبيه لزيادة التقرير حسبما أوضحناه لك (لا يبعد ان يكون
مراد السكاكي بجهة التشبيه المقصد الذي توجه اليه التشبيه اعنى) من المقصد (الأمر
الذي لأجله ذكر التشبيه وهو الغرض منه) وحينئذ يطابق دليله دعواه لأنه يدل حينئذ
على ما كل ما نفينا دلالته عليه.
وإنما قلنا لا
يبعد ان يكون مراد السكاكي بجهة التشبيه المقصد والغرض منه (لأنه قال يجب ان يكون
المشبه به أعرف بوجه الشبه فيما اذا كان الغرض من التشبيه بيان حال المشبه أو بيان
مقداره لكن يجب في بيان مقداره ان يكون المشبه به مع كونه اعرف على حد مقدار
المشبه في وجه التشبيه لا أزيد ولا أنقص ويجب ان يكون)
المشبه به (اتم في وجه الشبه) هنا محل الأستشهاد لقوله أي التفتازاني
وحينئذ لا يبعد الخ (إذا قصد الحاق الناقص بالكامل او زيادة التقرير عند السامع و)
يجب أيضا (ان يكون) المشبه به (مسلم الحكم معروفة) أي معروف الحكم (فيما) أي في
الغرض الذي (يقصد من وجه التشبيه إذا كان الغرض) من التشبيه (بيان امكانه) أي
المشبه (أو تزيينه او تشويهه وان يكون نادر الحضور في الذهن إذا قصد استطرافه) وقد
تقدم بعض الكلام في بيان كل واحد من هذه الأمور آنفا ويأتي بعض آخر في قوله (او)
أو الغرض العائد إلى المشبه (تزيينه) وهو (مرفوع عطف على بيان امكانه أي تزيين
المشبه) أي تحسيته بمعنى إيقاع زينته وحسنه (في عين السامع) فيتخيل انه كذلك وذلك
للترغيب فيه ولو لم يكن في نفس الأمر كذلك.
ولا يخفى عليك
أن الأولى ان يقال بدل عين السامع عند السامع لأجل أن يشمل تشبيه كل ما يدرك بأحدى
الحواس الخمس لا خصوص ما يدرك بالبصر وبعبارة أخرى ليشمل تشبيه صوت حس بصوت داود (ع)
وتشبيه جلد ناعم بالحرير وتشبيه نهكة شخص بريح المسك وتشبيه طعم البطيخ بالعسل
وحينئذ يكون المراد بتزيينه تصويره للسامع بصورة حسنة سواء كانت تلك الصورة تدرك
بالعين أو بغيرها وقد تقدم في أوائل الكتاب عند دفع التناقص عن كلام الشيخ ان
المراد من الصورة مطلق ما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة لا الصورة بالمعنى الأخص
اعنى ما يدرك بالباصرة والمراد بالمعنى ما لا يدرك بشيء من تلك الحواس الظاهرة بل
بالحواس الباطنة فراجع ان شئت.
(كما) أي
كالتزيين الحاصل (في تشبيه وجه أسود بمقلة الظبى) فإن السواد الكائن في مقلة الظبي
أوجب لها حسنا لأن السواد في العين حسن
بالطبع وذلك ظاهر لمن له ذوق سليم في فهم حسن الأشياء.
(او تشويهه) كذلك
أي تشيين المشبه وتقبيحه عند السامع لتنفيره عنه بالحاقه بذى صورة قبيحة فيتخيل
انه كذلك (كما في تشبيه وجه مجدور بسلحة) أي عذرة (جامدة) أي يابسة (قد نقرتها
الديكة) في حال رطوبتها والديكة بكسر الدال وفتح الياء والكاف جمع ديك كقرد وقردة
وهو كما في المصباح ذكر الدجاج وانما قيد السلحة بكونها جامدة ليتحقق الشبه بلزوم
الحفر الحاصلة فيها بالنقر كما في الوجه المجدور الذي عليه آثار الجدري ومن هذا
القبيل تشبيه صوت خشن بصوت الحمار وقس عليه باقي المدركات بالحواس الثلاث الأخر.
(او) الغرض من
التشبيه (استطرافه) بالطاء المهملة (أي عد المشبه طريفا حديثا) يقال استطرفت الشيء
أي اتخذته طريفا أي جديدا والمال الطريف هو المقابل للقديم وفي كل جديد لذة ويحتمل
ان يكون بالظاء المعجمة فالمراد عدة ظريفا أي حسنا جميلا (كما) أي كالأستطراف
الحاصل (في تشبيه فحم فيه جمر موقد) بحيث سرت النار فيه سريانا يتوهم فيه الاضطراب
كأضطراب الموج (ببحر من مسك) ذائب (موجه الذهب) الذائب (لابرازه أي انما استطرف
المشبه) يعني الفحم الموصوف بتلك الصفة (في هذا التشبيه لأبراز المشبه) مع كونه
ممكنا موجودا في الخارج (في صورة الممتنع) وجوده (عادة) لا ذاتا فأنه ممكن عقلا.
والحاصل ان
المشبه به وهو البحر من المسك الذائب وموجه الذهب الذائب ممتنع عادة وان أمكن عقلا
وقد أبرز المشبه اعني الفحم المذكور في صورة البحر الموصوف بتلك الصفة ولا شك أن
أبراز المبتذل الموجود في صورة الممتنع بتخيل انه كهو يوجب غاية الاستطراف واللذة
العقلية والحسن
والجمال العقليين.
(وللأستطراف
وجه آخر غير الأبرار في صورة الممتنع عادة وهو) كما مر آنفا (ان يكون المشبه به
نادر الحضور في الذهن اما) ندورا (مطلقا) أي من غير تقييد بحالة حضور المشبه في
الذهن وعند عدمه (كما مر) الآن (في تشبيه فحم فيه جمر موقد) ففي هذا التشبيه جهتان
من التشبيه الأولى أبراز المشبه في صورة الممتنع عادة وقد تقدم الآن والثانية
ابرازه في صورة نادر الحضور مطلقا ولا منافاة بين الجهتين (واما) ان يكون المشبه
به نادر الحضور (عند حضور المشبه) لا مطلقا وذلك إذا كان المشبه به مشاهدا معتادا
لكن غير مجتمع مع المشبه فيبعد حضور احدهما عند حضور الآخر (كما) أي كندرة حضور
المشبه به اعني اوائل النار في اطراف كبريت في البيت الآتي عند حضور المشبه اعني
لا زوردية الخ (في قوله أي قول ابي العتاهية يصف البنفسج) وهو ورد معروف (ولا
زوردية) الواو وأورب واللازوردية بكسر الزاي المعجمة وفتح الواو وكسر الراء
المهملة صفة لمحذوف أي رب أزهار الازوردية من البنفسج نسبها الشاعر الى الحجر
المعروف الموجود معدنه في بلادنا افغانستان فالنسبة أي الياء المشددة للتشبيه اي
تشبيه البنفسج باللازورد (تزهو قال الجوهري زهى الرجل) بالياء (فهو مزهو أي تكبر)
فهو متكبر (وفيه لغة أخرى حكاها ابن دريد) وهذه اللغة من باب نصر بالواو فإنه يقال
(زها يزهو زهوا) والمعنى في الصورتين واحد (بزرقتها) أي بلونها الازرق (بين الرياض)
حال من فاعل تزهو والرياض جمع روض وروضة بمعنى البستان والحديقة (على حمر اليواقيت)
من باب اضافة الصفة إلى الموصوف أي اليواقيت الحمر واليواقيت يجوز أن يراد بها
الحجر المعلوم (ويجوز أن يريد بها الأزهار الحمر الشبيهة باليواقيت المسماة بشقائق
النعمان وهذا أنسب بسياق الكلام بقرينة الرياض فالمراد أن البنفسج تزهو أي
تتكبر على شقائق النعمان ونسبة التكبر الى البنفسج مجاز والمراد ان لها علوا
وارتفاعا في نفسها (كأنها) أي الأزهار اللازوردية (فوق قامات) أي ساقات (ضعفن بها)
أي ضعفن عن تحملها لأن ساقها في غاية الضعف واللين فاذا طال مكثها عليها انحنت
الساقات بسبب ثقلها (اوائل النار في اطراف كبريت) فأن صورة اتصال النار بأطراف
الكبريت لا يندر حضورها في الذهن ندرة بحر من المسك موجه الذهب) لأن صورة أوائل
النار بأطراف الكبريت موجودة كثيرا عند الناس وقت الحاجة والهيئة المذكورة واضحة
في ذلك لأن نار الكبريت زرقاء (لكن يندر حضورها عند حضور صورة البنفسج فيستطرف
لمشاهدة عناق) بكسر العين أي معانقة وهو مصدر باب المفاعلة كما قال ابن مالك لفاعل
الفعال والمفاعلة أي أجتماع (بين صورتين متباعدتين غاية البعد) إذ لا مناسبة بين
صورة النار المذكورة والبحر ولا سيما إذا كان من المسك موجه الذهب.
(ووجه آخر)
للأستطراف والندرة في هذا التشبيه (انه) أي الشاعر (اراك شبها لنبات غض) أي طرى (يرف)
من رف لونه أي ابرق وتلألأ (واوراق رطبة) أي أوراق البنفسج (من لهب نار في جسم) اي
الكبريت (يستولي عليه اليبس) والحاصل ان الشاعر أراك شباهة الأوراق اللطيفة الرطبة
بالنار التي في جسم يابس أي الكبريت (ومبنى الطباع) البشرية وجبلتها (على أن الشيء
إذا ظهر من موضع لم يعهد ظهوره منه) وخرج من موضع ليس بمعدن له (كان ميل النفس
اليه أكثر وبالشعف منه اجدر) هذا الوجه الآخر نقله في الأيضاح عن الشيخ.
الى هنا كان
الكلام فيما يعود الغرض من التشبيه في الأغلب الى
المشبه فأراد ان يبين ما هو غير الأغلب فقال (وقد يعود الغرض من التشبيه
الى المشبه به وهو ضربان أحدهما ايهام انه أي المشبه به اتم من المشبه في وجه
التشبيه وذلك في التشبيه المقلوب وهو أن يجعل الناقص في وجه الشبه مشبها به قصدا
الى ادعاء انه زائد) ولذلك قد يسمى غلبة الفرع على الأصل (كقوله أي قول محمد بن
وهب) في مدح المأمون العباسي (وبدا الصباح كان عزته هي بياض في جبهة الفرس) مقداره
(فوق الدرهم) هذا معناها الحقيقي (ثم) نقل عنه أوصار مجازا فأنه (يقال غرة الشيء
لاغره واكرمه وغرة الصباح بياضه) التام الحاصل عند الأسفار وهو الذي يسمى بالصبح
الصادق لا الناقص الذي هو مخلوط بظلمة آخر الليل وهو الذي يسمى بالصبح الكاذب
والدليل على ان المراد هو الأول لا الثاني كون الشاعر في مقام المدح ومن المعلوم
ان المناسب لذلك هو الاول.
فالمشبه غرة
الصباح والمشبه به (وجه الخليفة في حين يمتدح فأنه) أي الشاعر (قصد) بهذا التشبيه
المقلوب (ايهام ان وجه الخليفة أتم من ألصباح في الوضوح والضياء) فأن القلب يوهم
انه اقوى من غرة الصباح بناء على قاعدة ما يفيد التشبيه بالأصالة من كون المشبه به
أقوى من المشبه في وجه الشبه.
(وفي قوله حين
يمتدح دلالة على اتصاف الممدوح) أي المأمون العباسي (بمعرفة حق المادح) أي بمعرفة
ما يستحقه من الاكرام (وتعظيم شأنه عند الحاضرين) في المجلس (بالأصغاء اليه) أي
الأستماع لكلامه (والارتياح له) قال في المصباح بعد كلام طويل في مادة روح والراحة
زوال المشقة والتعب وارحت الأجير اسقطت عنه ما يدر من تعبه فأستراح وحاصل المراد
بقرينة المقام الأطمئنان لذلك المادح وذلك لا يوجد إلا فيمن هو كامل
في الكرم.
ولذلك قال (وعلى
كونه كاملا في الكرم بحيث يتصف بالبشر والطلاقة عند استماع المديح) والحاصل ان
تقييد الشاعر التشبيه وأكملية وجه الخليفة على غرة الصباح يدل على شيئين احدهما
قبول المدح والا لعبس وجهه وهذا مستلزم لمعرفة حق المادح بمقالته بالسرور التام
والثاني كون طبع الممدوح يعني الخليفة الكرم لأن الكريم هو الذي يهزه الانبساط حال
المدح حتى يظهر أثره على وجهه فأنه اذا كان لئيما لعبس وجهه لأنه مقتضى طبعه.
(والضرب الثاني
بيان الأهتمام به أي بالمشبه به) يعني رغيف العبز في قوله (كتشبيه) الشخص (الجائع)
هو (كالبدر في الاشراق والاستدارة بالرغيف) بأن يقول الشخص الجائع وجه زيد كالرغيف
كما يحكى عن الصاحب بن عباد أن قاضي سجستان دخل عليه فوجده الصاحب متفننا فأخذ
يمدحه حتى قال وعالم يعرف بالسنجري واشار الى الندماء ان ينتظموا على اسلوبه
ففعلوا واحدا بعد واحد إلى ان انتهت النوبة إلى علوي في البين فقال أشهى الى النفس
من الخبز فأمر الصاحب أن تقدم له مائدة وقد ينسب هذه الحكاية الى بعض الملوك وقد
وقع لي نظير هذه الحكاية في بعض اسفاري حيث نزلت عند أحد العلماء لبعض الطوائف
وكنت في كمال الحاجة إلى الطعام لشدة الجوع فكنت أسئل من تلاميذ ذلك العالم طريقة
تحصيلهم الخبز والطعام في مدرستهم فلم يفهموا مرادى ولا اطعمني ذلك العالم الذي
نزلت عنده فبت في تلك الليلة جائعا.
(ويسمى هذا أي
التشبيه المشتمل على هذا النوع من الغرض) وهو بيان الأهتمام بالمشبه به (اظهار
المطلوب) كالرغيف في المثال والحكاية وذلك لأن المتكلم لما عدل عن تشبيه الوجه
الحسن بالبدر الذي هو المناسب دل
كلامه مع مصاحبة بعض القرائن الحالية على أنه جائع جوعا أوجب له كونه بحيث
إذا التفت الى ما يشبه به هذا الوجه الحسن لم يجد أقرب من الرغيف لشدة الرغبة
الموجبة لعدم زواله عن خاطره.
(هذا أي الذي
ذكرناه من جعل احد الشيئين مشبها والآخر مشبها به) ليكون تشبيها اصطلاحيا (انما
يكون إذا أريد الحاق الناقص في وجه التشبيه) ويكون الناقص ناقصا (حقيقة كما في
التشبيه الذي يعود الغرض منه الى المشبه) كالاغراض الاربعة المتقدمة (او) يكون
الناقص ناقصا (ادعاء كما في التشبيه الذي يعود الغرض منه الى المشبه به) كالغرض
الذي في التشبيه المقلوب وفي تشبيه الوجه الحسن بالرغيف ففي كل هذه الاغراض أريد
الحاق الناقص (بالزائد في وجه الشبه و) لكن (هذا الكلام محل نظر لأن ما تقدم) من
التشبيهات والأغراض (ليس مما يقصد فيه الحاق الناقص في وجه التشبيه بالزائد على ما
قررنا فيما سبق) في قوله ظاهر هذه العبارة أن كلا من الاربعة الخ.
والحاصل ان هذا
الكلام محل نظر لأنه يقتضي ان التشبيه المفيد للأغراض المتقدمة كلها يقصد فيها
الحاق الناقص بالزائر في وجه التشبه والحال إنه ليس كذلك إذ لا يقصد الحاق الناقص
بالزائد إلا إذا كان الغرض من التشبيه تقرير حال المشبه فقط كما سبق في قوله
المذكور.
(فأن أريد
الجمع بين شيئين في امر من الأمور) وقصد من ذلك الأمر القدر المشترك الذي أشتركا
فيه واستويا فيه (من غير قصد الى كون أحدهما ناقصا في ذلك الأمر والآخر زائدا سواء
وجدت الزيادة والنقصان أم لم يوجد فالأحسن ترك) المتكلم (التشبيه) الاصطلاحي
حالكون المتكلم ذاهبا (الى الحكم بالتشابه) الذي هو تشبيه لغوي فأن التشبيه
الاصطلاحي
ما قصد فيه التفاوت بين الطرفين في وجه الشبه ليكون أحدهما وهو الناقص في
وجه الشبه مشبها والآخر وهو الكامل فيه مشبها به والتشابه ما قصد فيه التساوي بين
الطرفين في أمر من الأمور (ليكون كل واحد من الشيئين) اللذين قصد تساويهما في أمر
من الأمور (مشبها ومشبها به احترازا من ترجيح احد المتساويين في وجه الشبه) وذلك
لأن المتبادر إلى الذهن في التشبيه الأصطلاحي ترجيح المشبه به في وجه الشبه على
المشبه ولا ترجيح هنا لأن الغرض أن الطرفين متساويان في وجه الشبه فحكم بالتشابه
لما ذكر (كقوله أي قول ابي اسحق الصابي اليهودي كان يحفظ القرآن حفظا جيدا ولم
يشرح الله صدره للأسلام كما هداه لمحاسن الكلام أعوذ بالله من أغواء الشيطان وقد
ذكروا ترجمته أصحاب التراجم مفصلا.
تشابه دمعى
اذ جرى ومدامتى
|
|
فمن مثل ما
في الكأس عيني تسكب
|
فو الله ما
أدري أبالخمر اسبلت
|
|
جفوني ام
عبرتي كنت اسكب
|
(يقال اسبل الدمع والمطر اذا هطل)
أي سال كثيرا (و) يقال أيضا (اسبلت السماء) بالمطر مراده ان أسبل فعل لازم لا
يتعدى الى المفعول بنفسه (فالباء في) قوله (ابالخمر للتعدية وليست بزائدة على ما
وهم) ولفظة ام في قوله (ام من عبرتي كنت اشرب) متصلة لوقوعها بعد همزة التسوية
بناء على ما قاله السيوطي في قول الناظم.
وام بها اعطف
بعد همر التسوية
|
|
أو همزة عن
لفظ أي مغنية
|
والشاهد في انه
(لما أعتقد التساوي بين الدمع والخمر) في الحمرة (ولم يقصد ان أحدهما زائد في
الحمرة والآخر ناقص ملحق به حكم بينهما بالتشابه وترك التشبيه ويأتي بعض الكلام في
ذلك في فصل شرائط حسن الأستعارة انشاء الله تعالى.
(و) انما قال
الخطيب فالأحسن ترك التشبيه لأنه (يجوز عند ارادة الجمع بين شيئين في أمر) من
الأمور (التشبيه) الاصطلاحي (أيضا) كما جاز التشابه (كتشبيه غرة الفرس) قد قدم
معنى الغرة (بالصبح) بأن يقال غرة الفرس كالصبح فيما اذا اقتضى الحال تقديمها
وجعلها مشبهة للأهتمام به مثلا (وعكسه أي كتشبيه الصبح بغرة الفرس) بأن يقال الصبح
كغرة الفرس فيما إذا اقتضى التشبيه المقلوب والأهتمام بتقديم الصبح.
وإنما يكون
المقام من قبيل الحكم بالتشابه بين الشيئين من غير قصد الى كون أحدهما ناقصا في
وجه الشبه والآخر زائدا فيه ومن غير قصد الى الحاق الناقص بالزائد (متى أريد) في
نحو المثالين (ظهور منير) كالغرة في المثال الأول وكبياض الصبح في العكس أي المثال
الثاني (في مظلم أكثر منه اي من ذلك المنير) كالفرس في المثال الأول وكالليل في
العكس أي أي في المثال الثاني مع ملاحظة التساوي بين الطرفين في كل واحد من
المثالين (من غير قصد الى المبالغة في وصف غره الفرس بالضياء والأنبساط وفرط
التلالؤ) فحينئذ يكون المثالان كالبيت من قبيل التشابه (اذ لو قصد شيء من ذلك)
يعني لو قصد المبالغة في وصف غرة الفرس بالضياء والانبساط وفرط التلالؤ يعني قصد
كون أحدهما ناقصا والآخر زائدا وقصد الحاق الناقص بالزائد (لوجب) حينئذ التشبيه
الاصطلاحي وهو (جعل الغرة مشبها والصبح مشبها به لأنه) أي الصبح (ازيد في ذلك)
الضياء والأنبساط والتلالؤ هذا في التشبيه المستقيم وأما في التشبيه المقلوب فوجب
العكس أي جعل الصبح مشبها والغرة مشبها به لأنها أزيد مبالغة وادعاء فتلخص من
مجموع ما ذكر انه أن اريد مطلق الجمع بين الأمرين في أمر من غير قصد الى التفاوت
بينهما في ذلك الأمر والحاق الناقص منهما بالزائد منهما
فالأحسن الحكم بالتشابه كالبيت ويجوز التشبيه أيضا كالمثالين فهما أيضا
مثالان للحكم بالتشابه فيجوز المثال الأول وعكسه من باب التشابه وان أريد الجمع
بينهما في امر مع قصد التفاوت بينهما في ذلك الأمر والحاق الناقص منهما بالزائد
فحينئذ تعين التشبيه بأن يجعل الغرة مشبها لأنه ناقص والصبح مشبها به لأنه زائد
ولا يجوز العكس الا لغرض من الأغراض كما يأتي بيانه.
وبعبارة أخرى
إذا أريد مجرد الجمع بين الشيئين كالغرة والصبح مثلا من غير قصد الى المبالغة في
وصف الغرة بالضياء ونحو ذلك صح التشابه والتشبيه كلاهما فيجوز تشبيه الغرة بالصبح
وعكسه ولا يعد العكس حينئذ تشبيها مقلوبا بل يعد تشابها وأما إذا قصد الى المبالغة
المذكورة لوجب التشبيه الاصطلاحى المعروف وهو جعل الناقص أعني الغرة مشبها والزائد
أعني الصبح مشبها به ولا يجوز العكس وذلك لما (قال الشيخ في أسرار البلاغة) وهذا
نصه (جملة القول انه متى لم يقصد ضرب من المبالغة في اثبات الصفة) أي الضياء مثلا (للشيء)
أي العزة في المثال (ولم يقصد إلى إيهام في الناقص) أي الغرة (انه) أي الناقص (كالزائد)
اي الصبح في المثال (واقتصر على الجمع بين الشيئين في مطلق الصورة والشكل واللون)
أي يحكم بالتشابه بين الطرفين لا التشبيه (او) اقتصر على (جمع وصفين) أي هيئتين
كذلك بأن يقال تشابه البياض والصفرة مثلا فيؤدي كل واحد من الجمعين اشتراك الطرفين
في وجه الشبه (على وجه يوجد في الفرع) أي المشبه (على حده او قريب منه في الاصل
فأن العكس) أي جعل الصبح مثلا مشبها والغرة مشبها به (يستقيم في التشبيه) لا في
التشابه (فمتى أريد شيء من ذلك) المبالغة في اثبات الصفة للشيء (لم يستقم) العكس.
(فأن قلت
امتناع ترجيح أحد المتساويين) الذي ذكرته في وجه الأحسنية (يقتضي ان يجب الحكم
بالتشابه ولا يجوز التشبيه أصلا) وذلك للأمتناع المذكور.
(قلت التساوي
بينهما انما هو في وجه الشبه فيجوز ان يجعل المتكلم احدهما) أي المتساويين (مشبها
والآخر مشبها به) ولا يحكم بالتشابه (لغرض من الاغراض) كالأهتمام بما جعل مشبها (وبسبب
من الاسباب) كما اذا انجر الكلام الى ذكر ما جعل مشبها مثلا انجر الكلام إلى ذكر
غرة الفرس فيقال غرة الفرس كالصبح او أنجر الكلام الى ذكر الصبح فيقال الصبح كغرة
كالفرس (من غير قصد) في ذلك (الى الزيادة والنقصان لكن لما أستويا) حقيقة او ادعاء
(في الأمر الذي قصد اشتراكهما فيه) كالضياء والتلالؤ في المثالين (كان الأحسن)
حينئذ (ترك التشبيه المنبيء في الأغلب عن كون احدهما ناقصا والآخر زائدا في وجه
الشبه) وذلك للأحتراز عن ترجيح احد المتساويين بجعله اصلا ومشبها به على الآخر
بجعله فرعا ومشبها.
(هذا تمام
الكلام في أركان التشبيه) أي الطرفين ووجه الشبه والاداة (وفي الغرض منه) أي من
التشبيه وأما النظر في اقشامه فهو ان له تقسيما باعتبار الطرفين و) تقسيما (آخر
باعتبار وجه الشبه و) تقسيما (آخر باعتبار الأداة و) تقسيما (آخر بأعتبار الغرض
فذكر هذه) التقسيمات (الأربعة على الترتيب السابق) الذي أشرنا اليه آنفا.
(واشار) الخطيب
(الى) التقسيم (الاول بقوله وهو اي التشبيه بأعتبار الطرفين أي المشبه والمشبه به
اربعة اقسام لأنه اما تشبيه مفرد بمفرد وهما أي المفردان غير مقيدين) بمجرور او
اضافة او مفعول أو وصف او حال أو غير ذلك وسيأتي التصريح بذلك بعيد هذا من القيود (كتشبيه
الخد بالورد) في الحمرة والمراد تشبيه الخد الغير ألمضاف إلى أحد وكذلك
المراد الورد الغير المقيد بشيء من القيود المذكورة والألم يكونا مفردين (وكتشبيه
كل من الرجل والمرئة باللباس للأخر في قوله تعالى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)) ووجه الشبه بين كل واحد من المرئة والرجل وبين اللباس
حسى (لأن كل واحد) منهما (يشتمل على صاحبه) أي يلاصق به (عند الأعتناق كاللباس)
وكون الاشتمال والملاصقة أمرا حسيا لا يحتاج الى البيان وقيل أن وجه الشبه عقلي
والى ذلك أشار بقوله (او لأن كل واحد منهما يصون صاحبه من الوقوع في فضيحة الفاحشة
كاللباس الساتر للعورة) وكون الصيانة أمرا عقليا لا يحتاج الى البيان.
(فأن قلت أليس
قوله (لَكُمْ) و (لَهُنَ) قيدا) اي وصفا ملحوظا (في المشبه به) أي اللباس في
الموضعين وذلك لما بينا في الكلام المفيد في خاتمة الحديقة الرابعة في احكام ما
يشبه الجملة من أن الجار والمجرور والظرف بعد النكرة المحضة صفة لها فراجع ان شئت.
(قلت لا) أي
ليس قوله (لَكُمْ) و (لَهُنَ) قيدا في المشبه به) أي اللباس بعنوان كونه مشبها به وإن
كان نظرا لتلك القاعدة وصفا له (اذ لا مدخل له) أي لقوله (لَكُمْ) و (لَهُنَ) (في) وجه (التشبيه) أي الاشتمال او الصيانة (لعدم توقف الأشتمال أو الصيانة)
عن فضيحة الفاحشة (عليه) اي على قوله (لَكُمْ) و (لَهُنَ) وذلك لأن اللباس في حد ذاته يشتمل بلابسه ويستره من غير
توقف على كونه للرجال ولا على كونه للنساء فما أفاده قوله (لَكُمْ) و (لَهُنَ) من كون اللباس للرجال أو للنساء لا يتوقف عليه وجه
التشبيه وما لا يتوقف عليه وجه التشبيه لا يعد من التقييد فلذا قال ان الآية من
تشبيه المفرد بالمفرد غير مقيدين فتدبر جيدا.
(او) هما أي
المفردان (مقيدان) بقيد من القيود وسيأتي ان الفرق بين المركب والمفرد المقيد أحوج
شيء إلى التأمل (كقولهم لمن لا يحصل من سعيه على طائل) أي على شيء يعتد به عند
العقلاء يقال هو غير طائل اذا كان حقيرا كذا في المصباح (هو كالراقم على الماء)
فالطرفان فيه مفردان مقيدان (فأن المشبه هو الساعي المقيد بأن لا يحصل من سعيه على
شيء) يعتد به العقلاء لا مطلق الساعي (والمشبه به هو الراقم المقيد بكون رقمه على
الماء) لا مطلق الراقم (لأن وجه الشبه فيه هو التشويه بين الفعل) أي فعل هذا
الساعي (وعدمه) أي عدم فعله (وهو) اي وجه الشبه أي التسوية المذكورة (موقوف على
اعتبار هذين القيدين) اي قيد عدم الحصول من سعى الساعي شيء يعتد به لأنه قد يحصل
من سعيه شيء يعتد به فلا يكون مشبها وكذلك قيد كون رقم الراقم على الماء فأنه قد
يرقم على حجر ونحوه مما يبقى الرقم عليه مدة طويلة فلا يكون مشبها به والحاصل أن
المشبه هو الساعي لكن لا مطلقا بل مقيدا بكونه لا يحصل من سعيه على شيء وكذلك
المشبه به هو الراقم لكن لا مطلقا بل مقيدا بكون رقمه على الماء.
(ثم التقييد)
أي تقييد كل واحد من المفردين كما قلنا آنفا (قد يكون بالوصف وقد يكون بالأضافة
وقد يكون بالمفعول وقد يكون بالحال وقد يكون بغير ذلك) لكن كل ذلك بشرط أن يكون
التقييد دخيلا في وجه الشبه أيضا.
(او) هما أي
الطرفان (مختلفان أي احدهما غير مقيد والآخر مقيد كقوله) أي قول ابن المعتز او ابي
النجم المتقدم في الهيئة المقترنة بالحركة غيرها من اوصاف الجسم كالشكل واللون (والشمس
كالمرأة في كف الاشل فأن المشبه وهو الشمس غير مقيد والمشبه به وهو المرأة مقيد
بكونها في
كف الأشل) لأن الهيئة المذكورة هناك الحاصلة من الأستدارة والحركة وتموج
الأشراق التي هي وجه التشبيه لا تتحقق إلا بقيد كونها في كف الأشل وما يتوقف عليه
وجه التشبيه قيد والتوقف هنا ضروري اذ المرأة في كف الثابت اليد لا يتصور فيها
الهيئة المذكورة.
(وعكسه أي
تشبيه المرأة في كف الأشل بالشمس فيما المشبه مقيد والمشبه به غير مقيد (وأما
تشبيه مركب بمركب كما بيت بشار وهو قوله كان مثار النقع البيت وقد تقدم تحقيقه) مع
توضيح منا فلا نعيده (ويجب في تشبيه المركب بالمركب أن يكون كل من المشبه والمشبه
به هيئة حاصلة من عدة امور كما صرح به صاحب المفتاح وأشار اليه صاحب الكشاف حيث
قال أن العرب تأخذ اشياء فرادى) أي (مغر ولا بعضها عن بعض فتشبهها) اي تشبه كل
واحد من تلك الأشياء (بنظائرها) اي بنظير كل واحد منها والحاصل أن العرب تارة تشبه
كل واحد من تلك الاشياء بنظيره بحيث يكون الطرفان ذاتهما لا الهيئة الحاصلة منهما (و)
تارة أخرى (تشبه كيفية) أي هيئة (حاصلة من مجموع اشياء قد تضامت) بتشديد الميم (و)
هو من باب التفاعل أي (تلاصقت) في الاعتبار (حتى عادت) أي صارت تلك الأشياء
المتعددة (شيئا واحدا) بحيث لو جعل وجه الشبه منتزعا من بعضها أختل التشبيه في قصد
المتكلم (بأخرى) أي بكيفية اخرى (مثلها) أي حاصلة من مجموع اشياء قد تضامت وتلاصقت
حتى عادت شيئا واحدا كما في تلك الكيفية بحيث لو جعل الخ.
وليعلم انه يجب
في تشبيه المركب بالمركب ان يكون وجه الشبه أيضا مركبا أي هيئة كما انه في تشبيه
المفرد بالمركب لا بد ان يكون الوجه كذلك وأما في تشبيه المفرد بالمفرد فتارة يكون
الوجه مركبا وتارة يكون مفردا وقد تقدم
الكلام في ذلك عند بيان المركب الحسي من وجه الشبه فراجع.
(ثم) اعلم أن (تشبيه
المركب بالمركب) ثلاثة اقسام الأول (قد يكون بحيث يحسن تشبيه كل جزء من اجزاء أحد
طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر كقوله :
وكان اجرام
النجوم لوامعا
|
|
درر نشرن على
بساط ازرق
|
(فأن تشبيه النجوم) بمقابلها أي (بالدرر
وتشبيه السماء) بمقابلها أي (ببساط ازرق) كل ذلك (تشبيه حسن) لأنه يصح التشبيه في
كل منهما على الأنفراد بأن يقال النجوم كالدرر والسماء كبساط أزرق (ولكن اين هو عن
التشبيه الذي) قصده الشاعر لأنه قصد ان (يريك الهيئة التي تملاء القلوب سرورا
وعجبا من) بيان للهيئة يعني (طلوع النجوم مؤتلقة) أي متلألئة (متفرقة في أديم
السماء وصفحتها والأديم في الأصل كما في المصباح الجلد المدبوغ (وهي) أي السماء (زرقاء
زرقتها الصافية) والشاهد على احسنية ذلك الذوق السليم.
(و) القسم
الثاني من تشبيه المركب بالمركب انه (قد لا يكون بهذه الحيثية) أي حيثية أن يحسن
تشبيه كل جزء من اجزاء احد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر كقوله :
كأنما المريخ
والمشتري
|
|
قدامه في
شامخ الرفعة
|
منصرف بالليل
عن دعوة
|
|
قد أسرجت
قدامه شمعة
|
فأن تشبيه
المشتري وهو نجم معروف بمقابله أي الشمعة المسرجة وان صح بأعتبار الهيئة الحاصلة
من وجود شيء أحمر اللون اعني المريخ خلف شيء ابيض اللون متلألأ بينهما مسافة قريبة
لكن تشبيه المريخ وهو النجم المعروف بمقابله أي بالرجل المنصرف عن الدعوة الى
وليمة مثلا لا معنى له بأنفراده
(فأنه لو قيل المريخ كمنصرف من الدعوة لم يكن شيئا) أي لم يصح اذ لا شباهة
بينهما منفردا.
(و) القسم
الثالث انه (قد يكون بحيث لا يمكن ان يعين لكل جزء من اجزاء الطرفين ما يقابله من
الطرف الآخر إلا بعد تكلف وتعسف) وسيأتي طريق التكلف والتعسف بعيد هذا (كما في
قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) الآية) وكقوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ) الآية (فأن الصحيح ان هذين التشبيهين) في هاتين الآيتين
(من التشبيهات المركبة) أي (التي لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر تشبيهه به) وقد
تقدم بيانهما عند قول الخطيب والأصل في نحو الكاف ان يليه المشبه به (و) هذا أي
كونهما من التشبيهات المركبة (هو القول الفحل) أي القوى (والمذهب الجزل) أي القويم
وقد تقدم الوجه في ذلك عند بيان المركب الحسي من وجه الشبه فراجع فأنه يفيدك.
(وان جعلتهما)
أي التشبيهين في الآيتين (من) التشبيهات (المتفرقة) أي المتعددة بأن يشبه كل جزء
من اجزاء أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر وسيأتي بيانه عنقريب في قول الخطيب
ان تعدد طرفاه (فلا بد) حينئذ كما قلنا آنفا من (تكلف) وتعسف (وهو) أي التكلف (ان
يقال في) التشبيه (الأول شبه المنافق) بما يقابله أي (بالمستوقد نارا و) شبه (اظهاره
الايمان) للأنتفاع القليل في الدنيا بما يقابله أي (بالاضائة و) شبه انقطاع
انتفاعه) أي الايمان بالموت بما يقابله أي (بأنطفاء النار) فهناك ثلاثة تشبيهات
متفرقة (و) ان يقال (في) التشبيه (الثاني شبه دين الاسلام) بما يقابله اي (بالصيب
و) شبه (ما يتعلق به) أي بدين الاسلام (من شبه) واشكالات (الكفار) والملحدين لدفع
الاسلام بما يقابلها أي (بالظلمات و) شبه (ما فيه) أي في دين الأسلام
(من الوعد) بالخير (والوعيد) بالشر بما يقابلهما أي (بالرعد والبرق)
لاشتمال كل منهما أي بالرعد والبرق على طمع وخوف فمن حيث تضمنهما للطمع شبه بهما
الوعد ومن حيث تضمنهما للخوف بهما الوعيد فليس الكلام على اللف والنشر على ما توهم
(و) شبه (ما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الاسلام) بما
يقابله أي (بالصواعق) فهناك اربعة تشبيهات متفرقة ولكن كل ذلك تكلفات وتعسفات من
غير ضرورة تلجئنا اليها بل القول الفحل والمذهب الجزل ان المراد في مثل الآيتين
تشبيه الهيئة الحاصلة من المجموع بالهيئة الحاصلة من المجموع وبعبارة أخرى المراد
في امثال المقام تشبيه القصة بالقصة وذلك بدليل ذكر لفظ المثل فتدبر جيدا.
(واما تشبيه
مفرد بمركب كما مر من تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من زبرجد فالمشبه)
أي الشقيق (مفرد والمشبه) اي الأعلام (مركب من عدة امور) وهو كونها ذات أجرام
طويلة حمر مبسوطة على سيقان طويلة خضر (كما ترى) فهيئة تلك الأمور الاجتماعية
معتبرة في الاعلام ولا يتم التشبيه إلا بأعتبار تلك الهيئة.
(وكذا تشبيه
الشاة الجبلي بحمار أبتر) اي لا ذنب له (مشقوق الشفة والحوافر نابت على رأسه شجرتا
غضا) فأنه أيضا من تشبيه المفرد بالمركب وانما لم يقل الجبلية لأن الشاة كما في
المصباح يقع على الذكر والأنثى فيقال هذا شاة للذكر وهذه شاة للانثى والمراد ههنا
الذكر.
(والفرق بين
المركب والمفرد المقيد أحوج شيء إلى التأمل) وذلك لأن تشبيه المركب بالمركب
والمفرد المقيد بالمفرد المقيد لا يكاد يتميز احدهما عن الآخر في اللفظ بل في
المعنى فكثيرا ما يقع الالتباس فحيث كان المقصود تشبيه الهيئة الحاصلة من مجموع
أمرين او أمور بمثلها فهو تشبيه مركب بمركب
لأن كل واحد من اجزاء الطرف الواحد ليس مقصودا بذاته وإن صح تشبيهه بما
يقابله من الطرف الآخر وحيث كان المقصود تشبيه كل واحد من اجزاء أحد الطرفين بما
يقابله لكن بقيد مأخوذ فيهما ولم يكن ذلك القيد المقصود ذاتا بل تبعا فهو تشبيه
مفرد مقيد بمفرد مقيد وقس على ذلك تشبيه مركب بمفرد مقيد وعكسه وان كان المراد
تشبيه اشياء متعددة متفرقة بأشياء متعددة متفرقة فهو تشبيه متعدد بمتعدد.
(فالمشبه به في
قوله هو كالراقم على الماء انما هو الراقم) لكن لا مطلقا بل (بشرط) أي يقيد (ان
يكون رقمه على الماء) وكذلك المشبه اعني الساعي فأنه أيضا مقيد بأن لا يحصل من
سعيه على شيء فهو تشبيه مفرد مقيد كما صرح الخطيب بذلك آنفا.
(و) المشبه به (في
تشبيه الشقيق أو الشاة الجبلي هو المجموع المركب من الامور المتعددة بل الهيئة
الحاصلة منها) وقد تقدم بيان كل ذلك آنفا فلا نعيده.
(وجعل صاحب
المفتاح تشبيه الشاة الجبلي من المفرد بالمفرد كتشبيه السقط) وهو ما ينتشر من
الفحم الموقد ونحوه أو ما يسمى بالفارسية اتش كردان (بعين الديك و) كذلك (تشبيه
الثريا بالعنقود المنور وتشبيه الشمس بالمرأة في كف الاشل وجعل التشبيه في نحو
قوله).
والشمس من
مشرقها قد بدت
|
|
مشرقة ليس
لها حاجب
|
|
كأنها بوتقة احميت
يجول فيها ذهب
ذائب البوتقة معرب بوته بالفارسية وهي التي يذاب فيها الذهب (وقوله كان مثار النقع
وقوله وكان اجرام النجوم وقوله كأنما المريخ من تشبيه المركب بالمركب) حالكون صاحب
المفتاح (ذاهبا الى ان
كلا من المشبه والمشبه به) في هذه الأمثلة (هيئة حاصلة من عدة أمور ولم
يتعرض) صاحب المفتاح (لتشبيه المفرد بالمركب وعكسه وكان ما ذكره المصنف أقرب فأن
الفرق بين تشبيه الشقيق) الذي هو تشبيه المفرد بالمركب (و) بين (تشبيه الشاة
الجبلي) الذي جعله السكاكي من تشبيه المفرد بالمفرد (بأنه قصد في الثاني) أي في
تشبيه الشاة الجبلي (الى ما) أي تشبيه (لا يدخل فيه الأمور المتعددة المختلفة
بخلاف الأول) أي تشبيه الشقيق (ضعيف) لا ضعف فيه لأن الحاكم في أمثال المقام إنما
هو الذوق الحاصل من تتبع تراكيب البلغاء سليقة او كسبا فاذا التبس في هذا الفن باب
بباب آخر لم يحصل التميز بينهما إلا بالذوق والأذواق مختلفة ليس فيها انضباط فلا
تجري على نسق واحد في كثير من الأمور التي من هذا القبيل بخلاف المعقولات ألصرفة
والله الهادي الى سواء السبيل.
(واما تشبيه
مركب بمفرد كقوله أي قول أبي تمام يا صاحبي تقصيا نظريكما أي ابلغا اقصى نظريكما
واجتهدا في النظر يقال تقصيته أي بلغت اقصاه كذا) قال الزمخشري (في) كتاب (الأساس)
أي كتاب اساس اللغة (تريا وجوه الارض كيف تصور أي تتصور بحذف التاء) الاولى او
الثانية على اختلاف بينهم في ذلك.
قال في شرح
التصريف واعلم إذا أجتمع تاءان في اول مضارع تفعل وتفاعل وتفعلل حالكونه فعل
المخاطب أو المخاطبة مطلقا أو الغائبة المفردة او المثناة احديهما حرف المضارعة والثانية
التاء التي كانت في أول الماضي فيجوز اثباتهما لأن الأثبات هو الأصل نحو تتحبب
وتتدحرج وتتقابل ويجوز حذف احديهما تخفيفا لأنه لما اجتمع مثلان ولم يمكن الأدغام
لرفضهم الأبتداء بالساكن حذفوا أحدى التائين ليحصل التخفيف كما تقول انت تحبب
وتقابل
وتدحرج كما ورد في التنزيل (فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى) ولو كان ماضيا لوجب ان يقال تصديت لأنه خطاب ونارا تلظى
والأصل تتلظى ولو كان ماضيا لوجب ان يقال تلظت لأنه مؤنث وتنزل الملائكة والأصل
تتنزل واختلف في المحذوف فذهب البصريون الى أنه هو الثانية لأن الأولى حرف
المضارعة وحذفها مخل وقيل الأولى لأن الثانية للمطاوعة وحذفها مخل والوجه هو الاول
لأن رعاية كونه مضارعا أولى ولأن الثقل انما يحصل عند الثانية انتهى بأختصار غير
مخل.
(يقال صوره
الله صورة حسنة فتصور) فهو من باب التفعل وهو كما قلت للمطاوعة (تريانها را مشمسا
أي ذا شمس لم يستره غيم قد شابه أي خالطه) لون (زهر الربى) ففي الكلام حذف مضاف
وانما (خصها) بالذكر من بين الأزهار (لأنها انضر واشد خضرة) ولأنها المقصود بالنظر
لان الربى المكان المرتفع والانسان يبدء بالنظر للعالي سيما اذا كان فيه ازهار (فكأنما
هو أي ذلك النهار المشمس الموصوف مقمر أي ليل ذو قمر).
والشاهد في
البيت انه (شبه النهار المشمس الذي أختلط به أزهار الربوات فنقصت) تلك الأزهار
شيئا (من ضوء الشمس حتى صار) الضوء (يضرب) أي يميل (الى السواد) فتم بذلك النقص
التشبيه (بالليل المقمر فالمشبه) أي النهار المشمس الموصوف بكونه مختلطا به ازهار
الربوات (مركب) وذلك لأن المشبه في الحقيقة الحاصلة من ذلك لا النهار المقيد بتلك
القيود (والمشبه به) أي الليل المقمر (مفردو) لكن (لا يخلو هذا) المثال (عن تسامح)
وذلك لما صرح به من كون مقمر بتقدير موصوف ففيه تعدد وشائبة تركيب.
وقد أجيب عن
ذلك ان الوصف والاضافة وغيرهما من القيود لا تمنع
الأفراد لما سبق من أن المراد بالمركب الهيئة الحاصلة من عدة أمور والمشبه
به هنا ليس كذلك بل مفرد مقيد بقيد فلا تسامح وقد يقال ان بعض اللغويين ذكر أن
المقمر والمقمرة ليلة فيها قمر فهو من الصفات المختصة بالليل فليس في الكلام تقدير
الموصوف فلا يرد الاعتراض حتى يحتاج الى الجواب فتدبر جيدا.
(وأيضا) يعني
هذا (تقسيم آخر للتشبيه بأعتبار الطرفين) وليعلم اولا ان هذا التقسيم ليس
كالتقسيمات المتقدمة لأنها كانت تقسيمات للتشبيه الواحد وهذا تقسيم للتشبيهات
المتعددة اذ لا يمكن ان يتعدد طرفا تشبيه واحد وليس تشبيه المتعدد قسما من الاقسام
السابقة في قوله وهو باعتبار الطرفين أما تشبيه مفرد بمفرد الخ فلا يقال ان تشبيه
المتعدد بالمتعدد من قبيل تشبيه المفرد بالمفرد غاية ما في الباب انه متعدد فلا
معنى لجعله قسيما له.
وليعلم أيضا ان
هذه الأمور المنقسم اليها التشبيه اعني الملفوق بمعنى اللف والمفروق والتسوية
والجمع الأقرب فيها إنها من اقسام المحسنات المعنوية البديعية وسيأتي كل واحد منها
هناك انشاء الله تعالى وكان وجه التعرض لها ههنا تكميل اقسام التشبيه او يقال أن
الوجه في ذلك ما حققه التفتازاني في بحث تعريف المسند اليه بأسم الاشارة فراجع
تعرف.
(وهو) أي
التقسيم الآخر (انه) اي التشبيه (ان تعدد طرفاه فأما ملفوق) وانما سمى بذلك لتلفيق
المشبهات فيه أي ضم بعضها الى بعض وكذلك المشبه بها وقد سمي ملفوفا (وهو ان يؤتى
على طريق العطف) وذلك كالبيت الآتي (او غيره) أي غير العطف قيل كأنه أراد به مثل
قولنا كالقمرين زيد وعمر اذا اريد تشبيه أحدهما بالشمس والآخر بالقمر فتأمل (بالمشبهات)
او بالمشبهين كما في البيت (اولا ثم بالمشبه بها) كذلك (كقوله أي قول امرء
القيس يصف العقاب) وهي مؤنث بدليل إنها تجمع على وزن افعل أي اعقب ومن شروط
الاسم اذا يجمع على هذا الوزن ان يكون مؤنثا كما قال في الألفية.
لفعل اسما صح
عينا افعل
|
|
وللرباعي
اسما أيضا بجعل
|
ان كان
كالعناق والذراع في
|
|
مد وتأنيث
وعد الاحرف
|
(بكثرة اصطياد الطيور) اللازم من
كون قلوب الطير عند وكرها بعضها رطبا وبعضها يابسا والملازمة بينهما ظاهرة.
(كان قلوب
الطير) حالكون تلك القلوب (رطبا بعضها ويابسا بعضها) اشار بذلك الى أن الضمير في
رطبا ويابسا راجع إلى القلوب بأعتبار بعضها فلا يرد عليهما ان الحال يجب مطابقتها
لصاحبها في التذكير والتأنيث وقد انعدمت المطابقة هنا حيث لم يقل رطبة ويابسة (لدى
وكرها) الوكر عش الطائر اين كان في جبل أو شجر كذا في المصباح (العناب) كرمان وهو
حب احمر مائل للكدرة قدر قلوب الطير (والحشف) كفرس (وهو اردء التمر البالي) وهو أي
الحشف التمر الذي يجف من غير نضج ولا أدراك فلا يكون له لحم كذا في المصباح.
والشاهد في انه
أي امرء القيس اتى بتشبيهين لأنه شبه الرطب الطري من قلوب الطير بالعناب) لأنه
يشابه في اللون والقدر والشكل (و) شبه (اليابس العتيق منها) أي من قلوب الطير (بالحشف
البالي) لأنه يشابهه في اللون والقدر والشكل والإنكماش فالأول أي العناب للأول اي القلب
الطري والثاني أي الحشف البالي للثاني أي القلب اليابس وهذا هو اللف والنشر كما
يأتي في علم البديع انشاء الله تعالى.
وإنما جعل هذا
التشبيه من تشبيه المفرد المتعدد بالمفرد المتعدد ولم
يجعله من تشبيه المركب بالمركب (اذ ليس لاجتماعها) أي لأجتماع القلوب الطرية
مع اليابسة (هيئة مخصوصة يعتد بها) عند أهل الذوق (ويقصد تشبيهها) حتى يكون من
تشبيه المركب بالمركب ولذا لو فرق التشبيهين بأن يقال كان الرطب من القلوب عناب
واليابس منها حشف بال لم يكن أحد التشبيهين موقوفا على الآخر (ولذا قال الشيخ في
أسرار البلاغة انه إنما يستحق الفضيلة من حيث اختصار اللفظ) بحذف أداة التشبيه من
احد التشبيهين (و) من حيث (حسن الترتيب) لكونه لفا ونشرا مرتبا لا مشوشا (لا لأن
للجمع) أي جمع المشبهين أولا ثم المشبه بهما على الترتيب (فائدة في عين التشبيه)
بأن يوجب استحسانا واستطرافا عند أهل الذوق والمعرفة.
(أو) تشبيه (مفروق
وهو ان يؤتى بمشبه به ثم) بمشبه (آخر و) مشبه به (آخر) وهكذا وبعبارة أخرى هو ان
يؤتى فيه مع كل مشبه بمقابله من غير ان يتصل أحد المشبهين بالآخر بل يفرق بين
المشبهين بالمشبه به فيؤتي بالمشبه به ثم بمشبه آخر مع مشبه آخر وهكذا (كقوله أي
قول المرقش الاكبر يصف نساء) جميلات.
(النشر أي
الطيب والرائحة) من هؤلاء النسوة نشر (مسك) أي رائحتهن الذاتية كرائحة المسك في
الاستطابة فالمشبه في الحقيقة الرائحة الذأتية لهن لأنفسهن والمشبه به رائحة المسك
لأنفسه والنشر الريح الطيبة أو أعم اوريح فم المرئة قاله في القاموس والكل مناسب
للمقام.
(والوجوه) من
هؤلاء النسوة (دنانير) أي كالدنانير من الذهب في الاستدارة والاستتارة مع مخالطة
الصفرة والصفرة مما يستحسن في الوان النساء (واطراف الاكف) أي الأصابع منهن (وروى
اطراف البنان) والأضافة عليه بيانية كما في خاتم فضة كما انها في الأول اللامية (عنم)
أي كعنم و
(هو شجر احمر لين اغصانه) فوجه الشبه فيه الحمرة واللين والمراد ان اصابعهن
مخضبة.
والحاصل ان في
البيت ثلاثة تشبيهات كل منها مستقل بنفسه ليس بينها امتزاج يحصل منه هيئة واحدة
حتى يكون من قبيل التركيب (وان تعدد طرفه الأول يعني المشبه دون الثاني) يعني
المشبه به (فتشبيه التسوية) سمي بذلك لأن المتكلم سوى بين شيئين أو اكثر في تشبيه
المجموع بشيء واحد (كقوله صدغ الحبيب وحالي كلاهما كالليالي) أي كل منهما كالليالي
في السواد إلا أن السواد في حاله تخييلي وفي الصدغ يعني الشعر المتدلى من رأس
الحبيب إلى ما بين الاذن والعين محسوس فقد تعدد المشبه وهو شعر صدغه وحاله واتحد
المشبه به اعنى الليالي وإنما قلنا ان الليالي متحد لأن المراد بالتعدد هنا وجود
معينين أو أزيد مع الأختلاف فيها مفهوما مصداقا لا وجود أفراد لشيء مع التساوي
فيهما أي في المفهوم والمصداق.
(وثغره في صفاء
وادمعي كاللئالي) وفيه شاهد أيضا لأن المشبه فيه متعدد والمشبه به واحد لأنه شبه
ثغره أي مقدم اسنان الحبيب ودموع نفسه باللئالي أي الدرر في الصفاء والاشراق وفي
وصف دموعه بالصفا اشارة الى كثرة بكائه لفراق الحبيب وذلك لأن كثرة جريان ماء
المنبع موجب لصفائه عن الكدرة لأنه يغسل المنبع ويدفع عنه الكدرات التي تمتزج
بالماء بخلاف ما إذا جرى احيانا فأنه يسون مكدرا بكدرات المنبع.
(وان تعدد طرفه
الثاني يعني المشبه به دون الأول) يعني المشبه (فتشبيه الجمع) سمى بذلك لأن
المتكلم جمع فيه بين شيئين أو ازيد في مشابهة شيء واحد اعني المشبه.
وليعلم ان
التفرقة بين القسمين اعني ما يسمى بالتسوية وما يسمى
بالجمع انما هو مجرد اصطلاح وإلا فيمكن ان يعتبر في كل منهما ما اعتبر في
الآخر وذلك ظاهر لمن تدبر.
(كقوله أي قول
البختري بات نديما) أي مؤنسا (لى) بالليل (حتى) أي الى (الصباح) وقوله (اغيد) اسم
بات خبره نديما ومعنى الاغيد كما يصرح بعيد هذا ناعم البدن (مجذول مكان الوشاح)
مجدول مضاف الى مكان الوشاح والمجدول في الأصل كما تقدم فيما يقع التركيب في هيئة
السكون المطوى المدمج أي بعضه في بعض غير المسترخى والمراد هنا لازمه أي ضامر
الخاصرتين والبطن لأن ذلك موضع الوشاح وهو جلد عريض يرصع بالجواهر وما يشبهها يشد
في الوسط أو يجعل على المنكب الأيسر معقود تحت الابط الأيمن للتزين وللوشاح أيضا
معنى آخر يظهر ذلك من المصباح لأنه قال الوشاح شيء ينسج من أديم ويرصع شبه قلادة
تلبسه النساء ثم ذكر ما يدل على ذلك المعنى فراجع.
(كأنما يبسم)
بكسر السين ويجوز ضمها والتبسم اقل الضحك واحسنه (ذلك الاغيد أي الناعم البدن عن
لؤلؤ منضذ) أي (منضم او) يبسم عن (برد وهو حب الغمام) النازل مع المطر او وحده (او)
يبسم عن (اقاح جمع اقحوان وهو ورد له نور) الاولى ان يقول كما في المصباح هو نبات
له نور لا رائحة له وهو البابونج عند الفرس فتأمل.
والشاهد في انه
(شبه ثغره) الثغر مقدم الاسنان أي الثنايا (بثلثة اشياء) يعني اللؤلؤ والبرد
والاقحوان فهو تشبيه الجمع لأن المشبه واحد والمشبه به متعدد هذا ولكن الظاهر من
كلمة أو انه شبه الثغر واحد دائر بين الثلاثة فهو حينئذ تشبيه مفرد بمفرد لا تشبيه
الجمع اللهم إلا ان يقال ان كلمة او بمعنى الواو أو أنه لما لم يعين واحدا بخصوصه
كان كأنه شبهه
بثلاثة اشياء او يقال إنه أورد كلمة او تنبيها على ان كل واحد من الثلاثة
مشبه به على حدة فتكون كلمة أو للتسوية أي الأباحة لا للأبهام فتأمل.
(وفي قول
الحريري) نظير هذا التشبيه لكنه مع الواو وهو قوله (يفتر) يقال افتر عن اسنانه اذا
تبسم بحيث أظهر اسنانه (عن لؤلؤ رطب) أي جيد (وعن برد) قد تقدم معناه (وعن اقاح)
تقدم أيضا (وعن طلع) قال في المصباح الطلع بالفتح ما يطلع من النخلة ثم يصير تمرا
ان كانت انثى وان كانت النخلة ذكرا لم يصر تمرا بل يؤكل طريا ويترك على النخلة
أياما معلومة حتى يصير فيه شيء ابيض مثل الدقيق وله رائحة ذكية فيلقح به الأنثى
انتهى ويسمى في زماننا عند العراقيين بالجمار (وعن حبب) وهو ما يطلع على الماء
شبيه نصف الكرة عند أفراغ ماء على آخر.
(شبه) الحريري
في قوله هذا (ثغره بخمسة اشياء و) لكن (في كون هذين البيتين من باب التشبيه نظر
لأن المشبه اعني الثغر غير مذكور) فيهما (لفظا ولا تقديرا الا ان لفظ كأنما في بيت
البختري يدل على انه تشبيه لا استعارة وستسمع في هذا كلاما انشاء الله تعالى) وذلك
في الخاتمة حيث يقول بقى ههنا بحث.
(ومن تشبيه
الجمع قول الصاحب ابن عباد في وصف ابيات أهديت اليه
اتتني بالأمس
ابياته
|
|
تعلل روحي
بروح الجنان
|
كبرد الشباب
وبرد الشراب
|
|
وظل الامان
ونيل الأماني
|
وعهد الصبا
ونسيم الصبا
|
|
وصفو الدنان
ورجع القيان
|
والشاهد فيه
انه شبه الأبيات بثمانية اشياء.
(وبأعتبار وجهه
عطف على قوله بأعتبار الطرفين أي التشبيه بأعتبار وجهه ينقسم ثلث تقسيمات) التقسيم
(الأول) انه (تمثيل وغير تمثيل و)
التقسيم (الثاني) انه (مجمل ومفصل و) التقسيم (الثالث) انه (قريب وبعيد
اشار) الخطيب (الى) التقسيم (الاول بقوله اما تمثيل وهو ما أي التشبيه الذي وجهه
وصف) أي هيئة (منتزع) ذلك الوصف (من متعدد) اي من (أمرين او امور) سواء كان
الطرفان مفردين او مركبين او كان احدهما مفردا والآخر مركبا وسواء كان ذلك الوصف
المنتزع حسيا بأن كان منتزعا من حسى او عقليا او اعتباريا (فالاقسام اثنى عشرة
والى ذلك أشار بقوله (كما مر من تشبيه الثريا والتشبيه في بيت بشار وتشبيه الشمس
بالمرأة في كف الاشل وتشبيه الكلب بالبدوي المصطلي والتشبيه في قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) الآية والتشبيه في قوله كما أبرقت قوما عطاشا البيت الى
غير ذلك) كتشبيه الشقيق بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد وقول الشاعر في صفة
مصلوب كأنه عاشق قد مر صفحته البيت وقد مر تحقيق ذلك كله مستوفى فلا نعيده فعليك
تطبيق الأمثلة على الاقسام ومن الله التوفيق وبه الأعتصام هذا كله عند الجمهور
وسيأتي في بحث الاستعارة بعض الكلام في ذلك عند قول الخطيب ورد بأنه مستلزم
للتركيب المنافي للأفراد.
أما عند غيرهم
ففيه ثلاثة مذاهب حسبما يذكره الخطيب والتفتازاني فالأول مذهب السكاكي فأنه اوجب
في المنتزع زائدا على كونه منتزعا من متعدد كونه غير حقيقي واليه اشار بقوله (وقيده
أي المنتزع من متعدد السكاكي بكونه غير حقيقي) أي غير متحقق حسا ولا عقلا بل كان
اعتباريا وهميا (حيث قال متى كان وجهه وصفا غير حقيقي وكان منتزعا من عدة أمور خص
بأسم التمثيل) أي يسمى في الاصطلاح بالتمثيل فينحصر التمثيل عنده في التشبيه الذي
وجهه مركب اعتباري وهمي (كما في تشبيه مثل اليهود بمثل الحمار فأن وجه الشبه) كما
تقدم في المركب العقلي (هو) مجموع (حرمان
الأنتفاع بأبلغ نافع من الكد والتعب في استصحابه فهو وصف مركب من متعدد)
وقد تقدم انه روعي من الحمار فعل مخصوص هو الحمل وان يكون المحمول شيئا مخصوصا وهو
الأسفار أي الكتب التي هي اوعية العلوم وان الحمار جاهل بما فيها وكذا في جانب
المشبه اعني علماء اليهود فأنه روعي فيهم أيضا فعل مخصوص وهو الحمل المعنوي أي
تعلم ما في التوراة وكون المحمول من أوعية العلم وكونهم جاهلين أي غير منتفعين بما
فيها وكذلك العلماء السوء من هذه الأمة كما قال الشاعر الفارسي في شأنهم :
نه محقق بود
نه دانشمند
|
|
چارپائي بر
او كتابي چند
|
فوجه الشبه فيه
مركب (وليس بحقيقي بل هو عائد الى التوهم وكذا قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) الآية وما اشبه ذلك) كقوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) وكقوله تعالى إنما مثل الحيوان الدنيا الآية فتأمل.
(و) قد ظهر من
ذلك ان (التمثيل بتفسيره أخص منه) اي من التمثيل (بتفسير الجمهور) لأنه بتفسيرهم
اعم وسيأتي توضيح النسبة في بيان المتن الآتي فكل تفسير عند السكاكي تمثيل عند
الجمهور وليس كل تمثيل عند الجمهور تمثيلا عند السكاكي فتشبيه الثريا بالعنقود كما
يصرح التفتازاني بعيد هذا تمثيل عند الجمهور دون السكاكي لأن وجه الشبه فيه كما
تقدم حسى وقد قلنا انه أوجب كون المنتزع منتزعا من متعدد وغير حقيقي أي غير حسي.
وأما المذهب
الثاني من المذاهب الثلاثة فهو ما أشار اليه بقوله (واما صاحب الكشاف فيجعل
التمثيل مرادفا للتشبيه) فعلى مذهبه كل تشبيه تمثيل حتى لو كان وجه الشبه مفردا
حسيا (و) المذهب الثالث من المذاهب
الثلاثة ما أشار اليه بقوله (قال الشيخ في أسرار البلاغة التمثيل التشبيه
المنتزع من أمور) متعددة او من امرين (و) لكن (إذا لم يكن) وجه (التشبيه عقليا) أي
غير حسى (يقال انه) اي الكلام (يتضمن التشبيه ولا يقال ان فيه) أي في الكلام (تمثيلا
أو ضرب مثل) بسكون الراء وفتح الباء اي لا يقال ان في الكلام ضرب مثل (وإن كان)
وجه التشبيه (عقليا) أي غير حسى أو اعتباريا وهميا (جاز اطلاق اسم التمثيل عليه و)
جاز (ان يقال ضرب الأسم مثلا لكذا) فأنه (يقال ضرب النور مثلا للقرآن) كما في قوله
تعالى (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) وقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (و) كذلك يقال ضرب (الحيوة) مثلا (للعلم) ويقال ضرب الموت مثلا للجهل.
فتحصل من مجموع
ما ذكرناه أن الأقوال والمذاهب في المقام اربعة وأعم هذه المذاهب الأربعة مذهب
صاحب الكشاف ثم مذهب الجمهور ثم مذهب الشيخ وأخصها مذهب السكاكي فعليك بتصور
النسبة بين المذاهب وليعلم ان الهيئة من حيث انها هيئة اعتبارية فجعلها حسية أو
عقلية أو وهمية انما هو بأعتبار الأمور المنتزعة منها فتدبر جيدا.
(وأما غير
تمثيل وهو بخلافه اي بخلاف التمثيل وهو) اي غير التمثيل (عند الجمهور ما لا يكون
وجهه منتزعا من متعدد) بل مفرد محض كتشبيه العلم بالنور والخد بالورد (وعند
السكاكي ما لا يكون منتزعا منه) كالمثالين (او) يكون منتزعا من متعدد لكنه (يكون
وصفا حقيقيا) أي حسيا كما في بيت بشار (فتشبيه الثريا بالعنقود المنور تمثيل عند
الجمهور) لأنه منتزع من متعدد (وليس بتمثيل عند السكاكي) لأنه وصف حقيقي أي حسى.
(و) أشار إلى
التقسيم الثاني بقوله (وأيضا تقسيم آخر للتشبيه بأعتبار
وجهه وهو) أي التقسيم الآخر للتشبيه (انه) أي التشبيه (اما مجمل وهو) أي
المجمل (ما لم يذكر وجهه فمنه) الضمير راجع الى المجمل (أي فمن المجمل ما هو ظاهر
وجهه او) يكون الضمير راجعا الى الوجه أي (فمن الوجه الغير المذكور ما هو ظاهر)
بحيث (يفهمه كل أحد نحو زيد كالأسد) فأن كل احد ممن يفهم معنى هذا الكلام سواء كان
من الخاصة أو العامة (يعرف ان وجه الشبه هو الشجاعة (ومنه) أي من المجمل او من
الوجه الغير المذكور (خفى) بحيث (لا يدركه إلا الخاصة) أي الذين انعم الله عليهم
وأعطاهم ذهنا صحيحا وفهما مستقيما به يدركون الدقائق ولا يخفى عليهم الأسرار
والحقائق (كقول بعضهم) سيأتي المراد من ذلك البعض (هم كالحلقة المفرغة) أي
المصبوبة المذابة من ذهب ونحوه ومن ذلك قوله تعالى (أَفْرِغْ عَلَيْنا
صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) وقوله تعالى (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ
ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً).
والحلقة
المفرغة هي التي أذيب أصلها من ذهب او فضة او نحاس او حديد او نحو ذلك ثم افرغ في
القالب فيصير كالماء المنحصر فاذا جمد لم يظهر في الحلقة الناشئة منه طرف بل تكون
مصمتة الجوانب أي لا تفريج فيها والمراد من الحلقة ما كان كالدائرة ليتحقق التناسب
في أجزائها في الشكل والوضع فتصير بذلك ذات أحاطة واحدة.
وليعلم انه لا
يلزم من نفى دراية الطرفين (أي من قوله لا يدري طرفاها) وجودهما وذلك لأن السالبة
ههنا بأنتفاء الموضوع وأشار الخطيب الى كون قول ذلك البعض متضمنا لوجه التشبيه
بقوله (أي هم متناسبون في الشرف يمتنع تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم افضل منهم) وانما
قلنا ان قوله متضمن لوجه التشبيه لأن الوجه يجب ان يكون في الطرفين معا والتناسب
في الشرف
ليس كذلك لأنه مختص بالمشبه والتناسب في الأجزاء مختص بالمشبه به كما صرح
بذلك بقوله (كما إنها أي الحلقة المفرغة متناسبة الاجزاء في الصورة يمتنع تعيين
بعضها طرفا وبعضها وسطا لكونها مفرغة مصمتة الجوانب كالدائرة بخلاف ما لو لم تكن
مصمتة الجوانب فأن موضع الأنفراج منها يكون طرفا ومقابله وسطا) ولكن تضمن وصف كل
منهما التناسب المانع من وجود التفاوت وهو حاصل في الطرفين لكن الانتقال الى ذلك
لا يتيسر إلا للخاصة.
(ذكر جار الله)
أي الزمخشري في تفسير سورة الزخرف (ان هذا قول الأنمارية فاطمة بنت الخرشب حين
مدحت بنيها الكملة) هي جمع كامل اطلاقها على الكل من باب التغليب كما يظهر من قوله
(وهم ربيع الكامل وعمارة الوهاب وقيس الحفاظ) بضم الحاء وتشديد الفاء أو بكسر
الحاء وتخفيف الفاء (وانس الفوارس) وهؤلاء الاربعة (أولاد زياد العبسي وذلك لأنها
سئلت عن بنيها) الاربعة (أيهم افضل فقالت) في الجواب ابتداء (عمارة) معتقدة انه
أفضل ثم ظهر لها انه ليس افضل اضربت عنه فقالت (لا بل فلان) وهكذا قولها (لا بل
فلان) وانما استعمل التفتازاني لفظه فلان لأنه لم يعلم الذي ذكرته ثانيا وثالثا
وكان على التفتازاني ان يزيد لا بل فلان ثالثا لأن الاولاد اربعة.
(ثم قالت) في
الجواب (ثكلتهم) بفتح المثلثة وكسر الكاف وضم التاء أي فقدتهم بالموت (إن كنت أعلم
ايهم افضل) لفظة أي ان كانت استفهامية فالمعنى ان كنت اعلم جواب هذا الاستفهام وقد
ذكرنا وجه ذلك في المكررات في بحث تعليق أفعال القلوب فراجع ان شئت وان كانت
موصولة فالمعنى ظاهر ثم قالت (هم كالحلقة المفرغة) لا يدري طرفاها.
(قال الشيخ انه
قول من وصف بنى المهلب للحجاج لما سئل عنهم) أي عن بني المهلب (وأيضا منه أي من
المجمل وقوله منه دون ان يقول وايضا اما كذا واما كذا أشعار بأن هذا) التقسيم أيضا
(من تقسيمات) التشبيه (المجمل لا من تقسيمات مطلق التشبيه) والحاصل انه لو حذف
كلمة منه بأن يقال وأيضا اما كذا وكذا لتوهم انه تقسيم لمطلق التشبيه (و) لتوهم ان
(هذا) أي قوله واما كذا وكذا (عطف على قوله منه ظاهر ومنه خفى) فيكون حينئذ تقسيما
لمطلق التشبيه وذلك باطل لأن هذا التقسيم ليس لمطلق التشبيه بل هذا أيضا تقسيم
للمجمل (أي ومن المجمل ما لم يذكر فيه وصف احد الطرفين يعني الوصف الذي فيه إيماء
إلى وجه الشبه) وذلك بأن يؤتي فيه بالطرفين مجردين عن الوصف الدال على وجه التشبيه
كما كانا مجردين عن ذكر وجه التشبيه (نحو زيد أسد) فأنه ليس فيه وصف دال على
الشجاعة في زيد أو في الأسد فليس المراد الوصف مطلقا بل الوصف الدال على الوجه كما
قلنا (فقولنا زيد الفاضل اسد يكون مما لم يذكر فيه وصف أحد الطرفين لأن الفاضل لا
يشعر بالشجاعة هكذا ينبغي ان يفهم) المراد من عدم ذكر الوصف.
(ومنه أي ومن
المجمل ما ذكر فيه وصف المشبه به وحده) دون وصف المشبه (يعني الوصف المشعر بوجه
الشبه) على النحو الذي تقدم الآن (كقولنا) الأحسن ان يقول كقولها (هم كالحلقة
المفرغة لا يدري اين طرفاها فأن وصف الحلقة بكونها مفرغة غير معلومة الطرفين مشعر
بوجه الشبه كما مر) آنفا.
(ومنه) أي ومن
هذا القسم الذي ذكر فيه وصف المشبه به وحده (قول النابغة الذبياني) في مدح النعمان
بن المنذر :
فإنك شمس
والملوك كواكب
|
|
اذا طلعت لم
يبد منهن كوكب
|
وجه الشبه بين
الممدوح والشمس كمال الظهور وبين الملوك والكواكب نقصان الظهور والشاهد في قوله
اذا طلعت لم يبد منهن كوكب لأنه وصف المشبه به الأول أعنى الممدوح وهو مشعر بوجه
الشبه.
(ومنه) أي ومن
المجمل (ما ذكر فيه وصفهما أي وصف المشبه والمشبه به كليهما كقوله أي قول أبي تمام
في الحسن بن سهل :
ستصبح العيس
بي والليل عند فتى
|
|
كثير ذكر
الرضى في ساعة الغضب
|
صدفت عنه أي
اعرضت ولم تصدف مواهبه عني وعاوده ظني فلم يخب كالغيث إن جئته) أي الغيث اي إن جئت
الغيث حالة أقباله (وافاك اي اتاك ريقه يقال فعله في روق شبابه وريقه أي اوله و)
يقال أيضا (اصابه ريق المطر وريق كل شيء أفضله) وانما جعل اول المطر افضله وأحسنه
للأمن معه من الفساد وإنما يخشى الفساد بدوامه (وان ترحلت عنه) أي ان فررت وتباعدت
عن الغيث (لج) بالجيم من اللجاج وهو الخصومة والمبالغة في الكلام أو بالحاء
المهملة من الألحاح وهو كثرة الكلام أريد به هنا مجرد الكثرة والمعنى على الوجهين
بالغ (في الطلب).
والشاهد في انه
أي الشاعر (وصف) المشبه اعني (الممدوح بأن عطاياه فائضة عليه) أي على الشاعر (أعرض
عنه او لم يعرض وكذا وصف) المشبه به اعني (الغيث بأنه يصيبك جئته او ترحلت عنه
وهذان الوصفان مشعران بوجه الشبه اعني الافاضة في حالتي الطلب وعدمه) هذا بالنسبة
إلى المشبه به اعني الغيث (وحالتي الأقبال عليه والأعراض عنه) هذا بالنسبة إلى
المشبه أعني الممدوح.
(ومنه) أي ومن
المجمل (ما ذكر فيه وصف المشبه وحده كقوله)
الأحسن ان يقول كقولنا (فلان كثر اياديه) أي نعمه (لدى ووصل مواهبه الى
طلبت عنه أو لم اطلب) ففلان (كالغيث) والوصف المذكور هو طلبت عنه او لم أطلب وهو
وصف المشبه به أعني فلان ولم يذكر الخطيب في المتن مثالا لهذا القسم من المجمل (فكأنه
تركه لعدم الظفر بمثال في كلامهم) أي في كلام من يستشهد بكلامه في امثال المقام.
الى هنا كان
الكلام في المجمل وأقسامه فلنشرع فيما يقابله وهو ما ذكره بقوله (واما مفصل عطف)
أي معطوف (على قوله اما مجمل) ولهم في كون العاطف الواو أو أما كلام ذكرناه في
الكلام المفيد في بحث المفردات فراجع ان شئت (وهو) أي المفصل (ما ذكر وجهه كقوله
وثغره) أي اسنانه (في صفاء وادمعي) كل واحد منهما (كاللآلي) الصافية ووصف الدموع
بالصفاء أشعارا بكثرتها لأقتضاء الكثرة تغسيل المنبع وتنقية من الاوساخ ومن لازم
ذلك صفاء الدمع بخلاف القليل فأنه يمكن معه بقاء تكدر المنبع بالاوساخ فلا يصفو
والغرض من توصيف الدموع بالكثرة والصفاء الدلالة على شدة الحزن وكثرته.
(وهذا) الذي
ذكر وجهه (على قسمين احدهما أن يكون المذكور حقيقة وجه الشبه) كما في المثال
المتقدم فأن الصفاء حقيقة وجه الشبه (والثاني ان يكون) وجه الشبه (أمرا لازما له)
أي للمذكور فيكون المذكور ملزوما لوجه الشبه فيطلق على ذلك الملزوم انه وجه الشبه
تسامحا (وأشار اليه) اي الى هذا القسم (بقوله وقد يتسامح بذكر ما يستتبعه مكانه أي
بأن يذكر مكان وجه الشبه ما يستلزمه) فائدة هذا التفسير أن المراد بالاستتباع
الاستلزام فأن الاستتباع أعم من استتباع الملزوم للازم والعلة للمعلول وغيرهما
وفائدة قوله (أي يكون وجه الشبه لازما له) ان الضمير المستترة في يستتبعه راجع
الى ما الموصولة والضمير البارز راجع الى وجه الشبه دون العكس.
فحاصل المعنى
انه قد يتسامح بأن يذكر مكان وجه الشبه شيء يستلزمه أي يكون وجه الشبه تابعا لذلك
الشيء ولازما له ومعنى ذكر ذلك الشيء مكان وجه الشبه ان يؤتي بذلك الشيء على طريقة
وجه الشبه من ادخال لفظة في عليه (كقولهم للكلام الفصيح هو كالعسل في الحلاوة فأن
الجامع فيه لازمها أي وجه الشبه في هذا التشبيه لازم الحلاوة وهو ميل الطبع لأنه
المشترك بين العسل والكلام) الفصيح (لا الحلاوة التي هي من خواص المطعومات).
قال في الأيضاح
وقد يتسامح بذكر ما يستتبعه مكانه كقولهم في وصف الألفاظ اذا وجدوها لا تثقل على
اللسان لتنافر حروفها او تكرارها ولا تكون غريبة وحشية تستكره لكونها غير مألوفة
ولا مما تبعد دلالتها على معانيها هي كالعسل في الحلاوة وكالماء في السلاسة
وكالنسيم في الرقة وقولهم في الحجة اذا كانت معلومة الأجزاء يقينية التأليف بينة
الاستلزام للمطلوب هي كالشمس في الظهور والجامع في الحقيقة لازم الحلاوة وهو ميل
الطبع ولازم السلاسة والرقة وهو أفادة النفس نشاطا وروحا ولازم الظهور وهو أزالة
الحجاب إلى أن أن قال الشيخ صاحب المفتاح وتسامحهم هذا لا يقع إلا حيث يكون
التشبيه في وصف اعتباري كالذي نحن فيه واقول يشبه ان يكون تركهم التحقيق في وجه
التشبيه على ما سبق التنبيه عليه من تسامحهم هذا انتهى كلامه (أي كلام صاحب
المفتاح).
وإلى حاصل هذا
المنقول من كلام المفتاح أشار التفتازاني بقوله (قال السكاكي وهذا التسامح لا يكون
إلا حيث يكون التشبيه في وصف اعتباري كميل الطبع وإزالة الحجاب ويشبه) أي يحتمل (أن
يكون تركهم التحقيق
في وجه الشبه حيث قسموه الى حسى وعقلي مع انه في التحقيق لا يكون إلا عقليا
كما مر) أي في المفتاح من كونه كليا والكلى لا يدركه إلا العقل وقد تقدم بيان ذلك
في كلام الخطيب حيث قال فأن قيل هو مشترك فيه فهو كلي الخ.
(من تسامحهم
هذا) فقال الشارح العلامة (يعني ذلك التسامح) أي تركهم التحقيق في وجه الشبه (ناش
عن هذا التسامح) الذي كلامنا فيه (ومتفرع عليه وذلك لأنهم لما تسامحوا فجعلوا وجه
التشبيه ههنا هو الحلاوة مثلا وهو أمر حسي) وجزئي (قطعا) لأن المدرك بالحواس
الظاهرة لا يكون إلا جزئيا (حملهم ذلك) التسامح الذي ههنا (ان يتسامحوا) في مقام
التقسيم (فيجعلوا وجه التشبيه منقسما إلى الحسى والعقلي ليصح قولهم وجه الشبه ههنا
هو الحلاوة التي هي من الامور المحسوسة قطعا).
والحاصل ان
التسامح ههنا علة لذلك التسامح الذي وقع في مقام التقسيم (كذا ذكره الشارح العلامة)
في شرح كلام السكاكي اعني قوله ويشبه أن يكون تركهم التحقيق في وجه الشبه الخ (وفساده)
أي فساد ما ذكره الشارح العلامة (بين) لأنه ترجيح احد الأمرين على الآخر بلا مرجح
أي ترجيح التسامح الواقع ههنا على التسامح الواقع في قولهم في تعداد أمثلة الأقسام
الواحد الحسى كالحمرة في تشبيه الخد بالورد وقد تقدم بيان التسامح فيه في كلام
الخطيب الذي أشرنا إليه آنما فراجع لتعرف حقيقة المرام في المقام.
وإلى ما
أوضحناه لك أشار بقوله (لأن جعلهم وجه الشبه في مثل هذا التسامح) الواقع ههنا (هو
الحلاوة لا يزيد على) التسامح الواقع هناك أعني (جعلهم وجه الشبه على التحقيق في
قولنا الخد كالورد هو الحمرة)
الجزئية (التي هي من الأمور المحسوسة أيضا) كالحلاوة في قولهم للكلام
الفصيح هو كالعسل في الحلاوة (فكيف يكون الحامل على التسامح) والعلة له أي للتسامح
(وترك لتحقيق) في مقام التقسيم (هو هذا) التسامح الواقع ههنا كما فهم الشارح
العلامة من كلام السكاكي (دون ذاك) التسامح الواقع في قولهم في تعداد أمثلة
الأقسام الواحد الحسى كالحمرة في تشبيه الخد بالورد وهل هذا إلا ترجيح أحد
التسامحين على الآخر من دون مرجح فعليك بمراجعة كلام الخطيب الذي أشرنا اليه انفا
حتى تعرف حقيقة المرام في المقام ومن الله التوفيق وبه الاعتصام.
(والذي يخطر
بالبال ان معنى كلام السكاكي ان تسامحهم في تقسيم وجه الشبه إلى الحسى والعقلي
وتسمية بعضه حسيا) مع انه بأسره عقليا حسبما ما ذكر في المقام المشار اليه آنفا من
أن التحقيق في وجه الشبه يأبى أن يكون هو غير عقلي (إنما هو من قبيل التسامح) ههنا
أعني التسامح الواقع (في تسمية ما يستلزم وجه الشبه وجه شبه) أي في تسمية الحلاوة
وجه الشبه مع انها لازم له (وذلك لأن وجه الشبه في تشبيه الخد بالورد) كما مر في
المقام المشار اليه آنفا (هو الحمرة المشتركة الكلية اللازمة للجزئية المحسوسة
فبهذا الاعتبار سموا وجه الشبه في مثل هذا حسيا) والا فنفس الحمرة المشتركة الكلية
كما صرح هناك مما لا يدرك إلا بالعقل (فليتأمل) فأنه دقيق وبالتأمل حقيق.
(وأيضا) يعني
أن هذا (تقسيم ثالث للتشبيه بأعتبار وجهه وهو انه) أي التشبيه (أما قريب مبتذل) أي
متداول بين الناس حتى العوام منهم فلا يختص استعماله بالخواص أي البلغاء منهم (وهو
ما أي التشبيه الذي ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر) أي
امعانه وحاصله انه
لا يحتاج الى استعمال الفكر في فهم وجه الشبه (لظهور وجهه في بادي الراي أي
في ظاهر الراي) هذا معناه (اذا جعلته من بدأ الامر يبدو) أي اذا جعلته ناقصا واويا
من البدو (أي ظهر وان جعلته مهموزا من بدا) أي من البدأ (فمعناه في أول الراي) أي
في اول ما يبدء الراي في فهم معنى التشبيه.
(وظهور وجه
الشبه في بادي الراي يكون لأمرين) أشار الى الامر الاول بقوله (أما لكونه أمرا
جمليا) بسكون الجيم نسبة الى الجملة بسكون الجيم ايضا أي لكونه أمرا مجملا والمجمل
يطلق على ما لم يتضح معناه وعلى المركب وعلى ما لا تفصيل فيه يقال كما في المصباح
أجملت الشيء اجمالا أي جمعته من غير تفصيل فأشار التفتازاني بقوله (لا تفصيل فيه)
الى انه ليس المراد منه هنا ما لم يتضح معناه ولا المركب بل الأمر الذي لا تفصيل
فيه سواء كان أمرا واحدا لا تركيب فيه كقولك زيد كعمرو في الناطقية او زيد كالفحم
في السواد أو مركبا لم ينظر فيه الى اجزائه وخصوصياته فأن معنى التفصيل هنا أدراك
الاجزاء والخصوصيات.
وانما قلنا أن
الامر الجملي اظهر من التفصيلي (فأن الجملة اسبق إلى النفس) حين توجهها للأدراك (من)
ذي (التفصيل) وذلك لأن المجمل يحتاج الى ملاحظة واحدة بخلاف المفصل فأنه يحتاج الى
ملاحظات متعددة فكلما كثرت التفاصيل كثرت الملاحظات والاعتبارات وكلما كثرت
الأعتبارات في الشيء كثرت التخصيصات فيه وكلما كثر التخصيص في الشيء قلت افراده
فيقل وجوده فيكون غريبا فيشكل ادراكه بخلاف ما لا تفصيل فيه فأنه لقلة اعتباراته
عام والعام يكثر وجوده في الافراد فيسهل أدراكه (إلا ترى ان ادراك الانسان) اجمالا
أي (من حيث انه شيء او جسم او حيوان اسهل وأقدم من ادراكه) تفصيلا أي (من حيث انه
جسم حساس
متحرك بالارادة ناطق) وذلك (لأن المفصل يشتمل على المجمل) يعني الشيئية أو
الجسمية او الحيوانية (وشيء آخر) يعني سائر ما ذكر في المفصل (ولهذا كان العام
اعرف من الخاص ووجب تقديمه) على الخاص (في التعريفات الكاملة) أي المركبة من الجنس
والفصل ولذلك أيضا كان التعريف بالأخص اخفى وقد بين كل من الأمرين في المنطق في
الجدول المكتوب في الحاشية في باب المعرف حيث يقول في بعض الصور غير صحيح لتقدم
الأخص فراجع ان شئت.
(وكذلك أدراك الحواس)
الظاهرة (فأن الرؤية) مثلا (تصل اولا الى الجملة) فيدرك الرائي ان المرئى حمار
مثلا (ثم) تصل الرؤية (الى التفصيل ثانيا) فيدرك انه ذكر او انثى (ولذلك قيل
النظرة الاولى حمقاء) اذ ربما يستحسن بها القبيح ويستقبح الحسن (و) لذلك قيل أيضا (فلان
لم يمعن النظر) أي لم يبالغ فيه أي في النظر (ولم ينعمه) أي لم يتسع النظر (وكذا)
سائر الحواس فأنه (يدرك) بالسامعة والذائقة والشامة واللامسة (من تفاصيل الأصوات
والطعوم والروائح وغير ذلك) أي اللين والصلابة ونحوهما (في المرة الثانية ما لا
يدرك في المرة الأولى) وهذا من الوضوح بمكان لا يحتاج الى البيان.
(أو قليل)
بالنصب من دون تنوين لأنه مضاف (عطف على أمرا جمليا أي او لكون وجه الشبه قليل
التفصيل) هذا هو الأمر الثاني من الأمرين اللذين هما علة لظهور وجه الشبه لكن قلة
التفصيل وحدها لا تكفي في ظهور وجه الشبه بل لا بد ان تكون (مع غلبة حضور المشبه
به) كغلبة حضور الكون في المثال (في الذهن) وتلك الغلبة على قسمين فأنها (أما عند
حضور المشبه) يعني الجرة الصغيرة في المثال والغلبة أي غلبة حضور المشبه به عند
حضور
المشبه أنما هي (لقرب المناسبة بين المشبه والمشبه به اذ لا يخفى ان الشيء
مع ما يناسبه اسهل حضورا منه) أي من الشيء (مع ما لا يناسبه) لأنهما اذا كانا
متناسبين اقترنا في الخيال فسهل الأنتقال في التشبيه لظهور الوجه قبل وقوع التشبيه
غالبا مما يحضر كثيرا مع غيره فاذا وقع التشبيه ظهر الوجه بسبب ما كان في الأصل أي
قبل وقوع التشبيه وقد تقدم بعض الكلام مما يناسب المقام في بحث الفصل والوصل عند
بيان الجامع الخيالي فراجع ان شئت.
(كتشبيه الجرة
الصغيرة بالكوز في المقدار والشكل) ففي هذا التشبيه تفصيل قليل (فأن في وجه الشبه
تفصيلا ما حيث اعتبر المقدار والشكل لكن الكوز غالب الحضور عند حضور الجرة) الصغيرة
لا سيما في البلاد الحارة التي ليس فيها مكائن الثلج كالنجف الاشرف قبل خمسين سنة
من تأليف الكتاب.
(او) مع غلبة
حضور المشبه به (مطلقا) أي من دون تقيد تلك الغلبة بحضور المشبه فقوله مطلقا (عطف
على قوله عند حضور المشبه و) اما (غلبة حضور المشبه في الذهن مطلقا) فهي (تكون
لتكرره أي تكرر المشبه به على الحس) الذي هو البصر او السمع او الذوق أو الشم أو
اللمس (إذ لا يخفى أن ما يتكرر على الحس كصورة القمر غير منخسف أسهل حضورا مما لا
يتكرر على الحس كصورة القمر منخسفا) فتلك الغلبة المطلقة الحاصلة بسبب التكرر (كالشمس
بالمراء المجلوة في الاستدارة والأستنارة فأن في وجه الشبه) في هذا التشبيه أيضا (تفصيلا
ما لكن المراة غالب الحضور في الذهن مطلقا) من دون تقيد غلبة حضورها بكونها عند
حضور الشمس.
(لمعارضة كل من
القرب) أي قرب المناسبة بين المشبه والمشبه به في تشبيه الجرة الصغيرة بالكوز (والتكرر)
أي تكرر المشبه به في تشبيه الشمس
بالمراة المجلوة (التفصيل) مفعول لقوله لمعارضة والفاعل لفظة كل (أي وانما
كان قلة التفصيل في وجه الشبه مع غلبة حضور المشبه به بسبب قرب المناسبة) في
المثال الاول (او) بسبب (التكرر على الحس) في المثال الثاني (سببا لظهوره) أي
لظهور وجه الشبه (المؤدي) ذلك الظهور (الى الابتذال) أي ابتذال وجه الشبه وقربه (مع
ان التفصيل) في نفسه ولو كان قليلا (من اسباب الغرابة) فلا بد أن يختص استعماله
بالخواص اعني البلغاء من الناس وقد قلنا آنفا ان المبتذل لا يختص بهم بل يستعمله
جميع الناس حتى العوام منهم (لأن قرب المناسبة في الصورة الاولى والتكرار على الحس
في) الصورة (الثانية يعارض التفصيل القليل لأن كلا من القرب والتكرر يقتضي سرعة
الانتقال) أي انتقال الذهن (من المشبه الى المشبه به فيبقى وجه الشبه كأنه امر
جملي لا تفصيل فيصير سببا للأبتذال كما سبق في القسم الاول) الذي لا تفصيل فيه
اصلا لكونه أمرا جمليا وقد مر بيانه.
(واما) التشبيه
(بعيد غريب) وسيأتي بيان الغرابة بعيد هذا وقوله أما بعيد غريب (عطف على قوله اما
قريب مبتذل وهو بخلافه أي هو التشبيه الذي لا ينتقل فيه من المشبه الى المشبه به
إلا بعد فكر) طويل (وتدقيق نظر) أصيل (لعدم الظهور) أي لعدم ظهور وجه الشبه (أي
لخفاء وجهه في بادي الراي) قد مر معنى هذه العبارة (وعدم الظهور يكون لأمرين)
الاول (اما لكثرة التفصيل) في وجه الشبه وسيأتي المراد من التفصيل بعيد هذا (كقوله
الشمس كالمرأة في كف الاشل فأن وجه التشبيه فيه هو الهيئة المذكورة فيما سبق) عند
قول الخطيب ومن بديع المركب الحسى الخ (وقد عرفت) هناك (ما فيها) أي في تلك الهيئة
(من التفصيل) فراجع (ولذا) أي لكثرة ما فيها من التفصيل (لا تقع) تلك الهيئة (في
نفس الرائي للمراة أي في
نفس الانسان الذي يرى المرأة (الدائمة الاضطراب إلا بعد أن يستأنف) أي يحدث
أي يجدد (تأملا ويكون في نظره متمهلا) أي حالكونه ينظر بتراخ وتأمل.
والأمر الثاني (أو
لندور أي او لندور حضور المشبه به اما عند حضور المشبه لبعد المناسبة كما مر) عند
قول الخطيب وللأستطراف وجه آخر الخ (من تشبيه البنفسج بنار الكبريت وأما) ندور
حضور المشبه به (مطلقا) أي سواء حضر المشبه أي البنفسج في البيت المتقدم هناك ام
لم يحضر (وندور حضور المشبه به مطلقا يكون لكونه) أي لكون المشبه به (وهميا كأنياب
الأغوال) في بيت امرء القيس وقد تقدم بيانه عند قول الخطيب وبالعقلي ما عدا ذلك
الخ.
(او) لكون
المشبه به (مركبا خياليا كأعلام ياقوت منشورة على رماح من زبرجد) وقد مر بيانه في
التشبيه المركب الذي طرفاه مركبان (أو لكون المشبه به (مركبا عقليا (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)) وقد تقدم بيانه عند قول الخطيب والمركب العقلي كحرمان
الانتفاع بأبلغ نافع الخ وقوله (كما مر اشارة الى ما ذكرنا) أي التفتازاني ههنا (من
الامثلة المذكورة) فيما تقدم وقد أشرنا نحن الى مواضع تلك الأمثلة (او) يكون عدم
الظهور (لقلة تكرره أي تكرر المشبه به على الحس كقوله والشمس كالمرأة في كف الاشل
فأن المرأة في كف الأشل ليست مما يتكر على الحس لأنه ربما يقضي الرجل دهره) أي
عمره في دهره (ولا يتفق له أن يرى مرأة في يد) انسان (اشل) وذلك واضح لا يحتاج الى
البيان.
(وانما كان
ندور حضور المشبه به سببا لعدم ظهور وجه الشبه لأنه) أي وجه الشبه (فرع الطرفين)
لأن تعقله بعد تعقلهما لكونه أمرا نسبيا يتعلق
بهما فاذا ندر حضورهما او احدهما ندر حضوره بالبداهة لأن الفرع تابع للأصل (ومنهما
ينتقل اليه) أي الى وجه الشبه (لكونه) الكلي (المشترك والجامع بينهما) واذا كان
كذلك (فلا بد وان يخطر الطرفان) في الذهن (اولا ثم يطلب ما يشتركان فيه.
وقد تحصل مما
ذكرنا أن عدم الظهور والغرابة قد يكون لكثرة التفصيل وقد يكون لقلة التكرر (فالغرابة)
وعدم الظهور (فيه أي في تشبيه الشمس بالمرأة في كف الاشل من وجهين أحدهما كثرة
التفصيل في وجه الشبه والثاني قلة التكرر على الحس) فأفهم ذلك وقس.
(والمراد بالتفصيل
ان تنظر في أكثر من وصف واحد لشيء واحد او) لشيء (اكثر) من واحد بأن يكون ذلك
الشيء اثنين او أكثر والنظر في الوصف الاكثر (بمعنى ان يعتبر في الأوصاف وجودها)
جميعا (او عدمها) جميعا (او) يعتبر (وجود البعض وعدم البعض كل ذلك) المعتبر
بأقسامه الثلاثة (في أمر) أي في موصوف (واحد) كما مر في تشبيه الثريا بالعنقود
الملاحية من ان الوجه فيه اوصاف كثيرة اعتبرت في الثريا وهي أي الثريا واحد حسبما
مر بيانه في التشبيه الذي طرفاه مفردان فراجع ان شئت (او) في (أمرين) أي موصوفين
كالوجه في مثار النقع مع الأسياف فقد اعتبرت فيه أوصاف كثيرة كما مر في التشبيه
الذي طرفاه مركبان (أو ثلاثة أمور او اكثر) كالوجه في قوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا
كَماءٍ) الخ كما مر عند قول الخطيب وقد يليه غيره.
فأقسام الموصوف
أربعة فيحصل من ضرب الثلاثة في الأربعة اثنى عشر قسما (فلهذا) أي فلكثرة الاقسام (قال
ويقع أي التفصيل على وجوه كثيرة اعرفها ان تأخذ بعضا من الأوصاف وتدع) أي تترك (بعضا)
آخر من الاوصاف
(أي تعتبر وجود بعضها وعدم بعضها كما في قوله أي قول امرء القيس :
حملت ردينيا
كان سنانه
|
|
سنا لهب لم
يتصل بدخان
|
والردين منسوب
الى ردينة وهي امرئة تحسن صنعة الرماح فأخذ الشاعر واعتبر في اللهب الشكل واللون
واللمعان وترك الأتصال بالدخان ثم شبه به سنان الرمح أي حديدته التي في طرفه فتدبر
جيدا.
(أو يعتبر
الجميع كما مر في تشبيه الثريا قال الشيخ اسرار البلاغة اعلم ان قولنا التفصيل
عبارة جامعة معناه ان معك وصفين أو اوصافا فأنت تنظر فيها واحدا فواحدا وتفصل) أي
تميز (بالتأمل بعضها عن بعض وان لك في الجملة) أي في جملة تلك الاوصاف (حاجة الى
أن تنظر في اكثر من شيء واحد) سواء كان ذلك الشيء المشبه أو المشبه به أو الوجه (و)
ان لك ايضا حاجة (ان تنظر في الشيء الواحد الى أكثر من جهة واحدة) أي اكثر من صفة
واحدة (ثم انه) أي كل واحد من النظرين (يقع على اوجه احدها ان تأخذ بعضا وتدع بعضا
كما فعل امرء القيس في اللهب حين عزل الدخان عن السنا وجرده) منه أي من الدخان.
(والثاني ان
تنظر من المشبه في أمور لتعتبرها كلها وتطلبها) أيضا (في المشبه به كأعتبارك في
تشبيه الثريا بالعنقود الانجم انفسها) مفعول لقوله كأعتبارك (و) كذلك (الشكل
والمقدار واللون واجتماعهما) أي الثريا والعنقود (على مسافة مخصوصة في القرب ثم
اعتبارك في العنقود الملاحية مثل ذلك) هذا أيضا مفعول لقوله ثم اعتبارك.
(الثالث ان
تنظر الى خاصة في الجنس كما في عين الديك فأنك لا تقصد فيه الى نفس الحمرة بل الى
ما ليس في كل حمرة) أي الى صفة ليس في كل حمرة بل حمرة خاصة بعين الديك ففيه تركيب
من الحمرة
المخصوصة والشكل والمقدار المخصوص وبهذا الاختصاص يمتاز الثالث من الثاني فأن
النظر فيه الى الاوصاف من دون الأختصاص فتدبر جيدا.
(ثم قال واعلم
أن هذه القسمة في التفصيل موضوعة على الأغلب الأعرف والأفد فائقة لا تكاد تضبط)
بالبيان فلا بد لك من اعمال الذوق.
(وكلما كان
التركيب خياليا كان أو عقليا من امور اكثر كان التشبيه أبعد لكون تفاصيله اكثر
كقوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية) الى قوله كان لم تغن بالأمس (فأنها عشر جمل
متداخلة قد انتزع وجه الشبه من مجموعها) وقد تقدم بيان ذلك فيما سبق.
(والتشبيه
البليغ ما كان من هذا الضرب أي من البعيد الغريب دون القريب المبتذل لغرابته أي
لكون هذا الضرب غريبا غير مبتذل للأستماع ولا منسوجة عليه) بيوت (العناكب) حتى لا
يلتفت اليه (ولا يخفى ان المعاني الغريبة ابلغ وأحسن من المعاني المبتذلة ولأن نيل
الشيء بعد طلبه الذ وموقعه من النفس الطف وبالمسرة أولى) ولهذا كلما كان المسئلة
ادق واخفى كان لذة انكشافها أزيد كما نقل عن بعض الاكابر انه كان يقول عند استنباط
مسئلة مشكلة وإستخراج حكمها اين ابناء الملوك من هذه اللذات.
(ولهذا ضرب
المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظماء (و) ان قلت هذا البعد تعقيد مخل
بالبلاغة قلت (نعني بعدم الظهور في بادي الراي ما يكون سبه لطف المعنى ودقته أو
ترتيب بعض المعاني على البعض فأن المعاني الشريفة قلما ينفك عن بناء) معنى (ثان
على) معنى (أول ورد) معنى (تال الى) معنى (سابق فيحتاج الى نظر وتأمل وهل شيء أحلى
من الفكر اذا صادف منهجا قويما وطريقا مستقيما بوصل الى المطلوب ويظفر بالمقصود
والخفاء المردود المعدود في التعقيد) المخل بالبلاغة كما بين في اوائل الكتاب
(هو الخفاء الذي سببه سوء ترتيب الالفاظ) ونظمها كما تقدم في أول الكتاب في
قول الفرزدق في مدح خال هشام (واختلال الأنتقال من المعنى المذكور الى المعنى
المقصود) كما تقدم في قول عباس بن الأحنف هناك.
(وقد يتصرف في
التشبيه القريب المبتذل بما يجعله غريبا ويخرجه عن الابتذال كقوله أي قول أبي
الطيب :
لم يلق هذا
الوجه شمس نهارنا
|
|
إلا بوجه ليس
فيه حياء
|
فأن تشبيه
الوجه الحسن بالشمس قريب مبتذل) أي كثير الاستعمال عند العامة والخاصة وكثير
العروض للأسماع لجريان العادة به (لكن حديث الحياء) أي ذكر نفى الحياء عن وجه
الشمس في لقيها وجه المحبوب (قد اخرجه عن الأبتذال الى الغرابة لأشتماله على زيادة
دقة وخفاء) وحاصل التشبيه مع ذكر نفي الحياء تنزيل الشمس منزلة من يرى ويستحي ان
ينظر وقد يأتى في بحث الأستعارة أيضا ان الغرابة قد تحصل بتصرف في العامية فأنتظر.
(ولم يلق ان
كان من لقيته بمعنى أبصرته فالتشبيه في البيت مكنى غير مصرح) به لأنه ليس فيه اداة
التشبيه ولا فعل ينبيء عن التشبيه فالتشبيه فيه يفهم ضمنا لا صريحا (وان كان من
لقيته بمعنى قابلته وعارضته فهو فعل ينبيء عن التشبيه) الواقع بعد اداة الأستثناء (أي
لا تقابله) الشمس (ولم تعارضه في الحسن والبهاء إلا بوجه ليس فيه حياء) فتقابله
وتماثله فالتشبيه حينئذ مأخوذ من الفعل المنفي المصرح به فيكون مصرحا به بخلاف
الاول فأنه ليس فيه لفظ ينبيء عن التشبيه (ومثله قول الآخر :
ان السحاب
لتستحي اذا نظرت
|
|
الى نداك
فقاسته بما فيها
|
وقوله أي وكقول
الوطواط عزماته مثل النجوم ثواقبا اي لوامعا
لو لم يكن للثاقبات أفول فأن تشبيه العزم بالنجم مبتذل لكن الشرط المذكور)
أي قوله لو لم يكن الخ (اخرجه الى الغرابة ويسمى هذا التشبيه) المتصرف فيه بما
يصيره غريبا (التشبيه المشروط) أي المقيد بقيد مطلقا لا خصوص الشرط النحوي وهذا
التعميم ظاهر من المثالين المتقدمين فلا تغتر بظاهر قوله (وهو ان يقيد المشبه او
المشبه به أو كلاهما بشرط وجودي) كقولك هذه القبة فلك لو كان الفلك في الأرض (او
عدمي) كالبيتين المتقدمين (يدل عليه بصريح اللفظ) كالأمثلة المتقدمة (او سياق
الكلام) كما في قوله (ومنه قولهم هي بدر يسكن الأرض أي لو كان البدر يسكن الأرض
وهذه القبة فلك ساكن اي لو كان الفلك ساكنا) فأن هذا الشرط مفهوم فيهما ضمنا.
(ولما فرغ عن
تقسيم التشبيه بأعتبار الطرفين والوجه أشار الى تقسيمه بأعتبار الأداة بقوله
وبأعتبار أي والتشبيه بأعتبار أداته اما مؤكد وهو ما حذف اداته) أي تركت بالكلية
وصارت نسيا منسيا بحيث لا تكون مقدرة في نظم الكلام لأجل الأشعار بأن المشبه عين
المشبه بخلاف ما لو كانت الاداة مقدرة فلا يفيد الأتحاد فلا يكون التشبيه مؤكدا (مثل)
قوله تعالى (وَهِيَ) أي الجبال يوم القيامة (تَمُرُّ مَرَّ
السَّحابِ) فقول التفتازاني (أي مثل مر السحاب) بيان لحاصل المعنى
لأن لفظة مثل لو كانت مقدرة والمقدر كالمذكور فلا يكون التشبيه مؤكدا.
(ومنه أي ومن
المؤكد ما أضيف المشبه به الى المشبه بعد حذف الاداة نحو.
والريح تعبث
بالغصون وقد جرى
|
|
ذهب الأصيل
على لجين الماء
|
أي على ماء
كاللجين) بضم اللام وفتح الجيم على صيغة التصغير (أي
الفضة في البياض والصفاء) وقد تقدم في أوائل الكتاب في آخر بحث الأسناد
الخبري ما يفيدك ههنا فراجع إن شئت.
(والأصيل هو
الوقت بعد العصر الى المغرب يوصف بالصفرة) فيقال أصيل اصفر لأن الشمس تضعف في ذلك
الوقت فيصفر شعاعها ويمتد على الأرض فتصير صفراء فوصف الوقت بالصفرة لأصفرار الأرض
فيه (و) المراد من (ذهب الأصيل صفرة الشمس في ذلك الوقت يعني صفرة أصيل او شمس
اصيل كالذهب فعلى هذا) تركيب (ذهب الأصيل قريب من) تركيب (لجين الماء) أي من اضافة
المشبه به الى المشبه بعد حذف الأداة.
(قال الشاعر :
ورب نهار
للفراق اصيله
|
|
ووجهي كلا
لونيهما متناسب
|
فأن وجه مفارق
الأحبة معلوم ان لونه الصفرة من الدهش والحيرة فيتناسب الأصيل.
(فذهب الاصيل
صفرته وشعاع الشمس فيه) أي في الاصيل (وعبث الريح بالغصون عبارة عن امالتها اياها
وخص وقت الأصيل لأنه من اطيب الأوقات كالسحر) فأنه أيضا من أطيب الأوقات.
ولكون الأصيل
والسحر كل واحد منهما من أطيب الأوقات (قال الأبيوردي) في وصف الربيع :
(لياليه اسحار وفيه هواجر
|
|
كما خضلت
والشمس تنعس أصال
|
الهواجر جمع
هاجرة وهي ما بين الزوال الى العصر والآصال جمع الأصيل فاعل خضلت بمعنى ابتلت وحصل
لها النظارة وما كافة او مصدرية وقوله والشمس تنعس أصال جملة حالية لقوله ليالي
الربيع والنعامن تغيرها عند قربها من الغروب كأنها تضعف بكثرة السير والمراد ان
هواجر الربيع
شبيه الأصال في الطيب واللطافة.
(هكذا يجب ان
ينقد الذهب واللجين المذكوران في البيت) أي يعرف المعنى الجيد والزيف منهما
والمعنى الجيد ما ذكره لأنه معنى لطيف ومشتمل على صنعة مراعاة النظير الآتية في
علم البديع في المحسنات البديعية (لا كما سبق الى بعض الأوهام الفاقدة للبصائر
الناقدة من ان اللجين انما هو بفتح اللام وكسر الجيم اعنى الورق الذي يسقط من
الشجر وقد شبه به وجه الماء وإن الأصيل هو الشجر الذي له أصل وعرق وذهبه) أي ذهب
الأصيل (هو ورقه الذي اصفر ببرد الخريف وسقط منه على وجه الماء فكل من هذين
الوجهين أبرد من الآخر) اما برودة الاول فلأنه لا معنى لتشبيه وجه الماء بمطلق
الورق الساقط من الشجر وذلك لأنتفاء الجامع المعتبر بينهما اذ يصير كتشبيهه بمطلق
النبات في الأخضرار ولو جاز مثل هذا لجاز تشبيهه بالجبل الاخضر نباتها ونحو ذلك
ونحو هذا التشبيه غير معتد به عند البلغاء.
وأما برودة
الثاني فلأنه لا اختصاص للورق المصفر ببرد الخريف بالشجر الذي له أصل وعرق فلا وجه
لاضافة الذهب الى الأصيل وايضا اطلاق اللجين على الورق في الوجه الأول والأصيل على
الشجر في الثاني مما لا يعرف ولا بعهد لغة ولا عرفا فلأجل هذا كان فساد هذا
الوجهين غنيا عن البيان.
(أو مرسل عطف
على اما مؤكد وهو بخلافه أي ما ذكر أداته فصار مرسلا من التأكيد المستفاد من حذف
الأداة المشعر بحسب الظاهر ان المشبه هو المشبه به كما مر من الأمثلة السابقة
المذكورة فيها أداة التشبيه) الى هنا كان الكلام في تقسيم التشبيه بأعتبار الأداة.
(و) اما تقسيم (التشبيه
بأعتبار الغرض) فهو أنه (اما مقبول وهو الوافي بأفادة الغرض) المطلوب من التشبيه (كان
يكون المشبه به اعرف شيء) من
المشبه عند السامع (بوجه الشبه) وذلك (في) التشبيه الذي يكون الغرض منه (بيان
الحال أو كان يكون المشبه به اتم شيء فيه اي في وجه الشبه) وذلك (في) التشبيه الذي
يكون الغرض منه (الحاق الناقص بالكامل او كان يكون المشبه به مسلم الحكم فيه أي في
وجه التشبيه معروفه) أي معروف الحكم (عند المخاطب) وذلك (في) التشبيه الذي يكون
الغرض منه (بيان الأمكان) أي بيان ان المشبه أمر ممكن الوجود وقد تقدم مثال كل
واحد من هذه الثلاثة عند قول الخطيب والغرض منه في الأغلب يعود الى المشبه (أو
مردود وهو بخلافه أي ما يكون قاصرا عن افادة الغرض) المطلوب من التشبيه (وقد ذكر
فيما سبق) أي في الموضع الذي أشرنا اليه (ما يحقق هذا الموضع) فراجع ان شئت.
هذه (خاتمة في
تقسيم التشبيه) الأولى ان يقول في مراتب التشبيه في القوة والضعف والتوسط بينهما
كما هو الظاهر من كلام الخطيب بل الصريح منه ولو كان المقصود تقسيم التشبيه لذكرها
في عداد التقسيمات ولم يجعلها خاتمة وما قيل انما جعل هذا التقسيم منفردا عن سائر
التقسيمات لأنه لا يختص الطرف ولا الوجه ولا الأداة بل بأعتبار كل من الطرفين
والوجه والأداة والمجموع فأنما يصير نكتة لعدم إدراجها في التقسيمات لا لأفراده
منها (بحسب القوة) في المبالغة (والضعف في المبالغة) والتوسط فيها وذلك (بأعتبار
ذكر أركانها كلها او بعضها وقد سبق) في اول بحث التشبيه (ان اركانه اربعة) المشبه
والمشبه به ووجهه واداته (فالحاصل من اقسامه بهذا الأعتبار ثمانية فأن المشبه به
مذكور قطعا) فأن قيل لا نسلم ذلك لأنه يجوز ترك المشبه به كما في قولك زيد في جواب
من يشبه بالأسد فأنه تشبيه لكونه فاعل فعل محذوف أي يشبه زيد الأسد وقد حذف المشبه
به والوجه والأداة أعني الفعل فلا
يصح قولكم ان المشبه به محذوف قطعا فلا ينحصر الأقسام أي المراتب في ثمانية
بل يصير الأقسام ضعف الثمانية.
قلنا انه ليس
بتشبيه إذ ليس القصد الى بيان الاشتراك بين زيد والاسد بل القصد الى جواب السائل
وبيان الفاعل سلمنا ولكن ليس مما يرد في تشبيهات البلغاء والكلام فيها فتأمل.
(وحينئذ) أي
حين اذ كان المشبه به مذكورا قطعا (فأما ان يكون المشبه مذكورا أو محذوفا وعلى
التقديرين فوجه الشبه اما مذكور أو متروك وعلى التقادير الأربعة فالأداة اما
مذكورة أو محذوفة تصير) الأقسام (ثمانية).
وليعلم ان
الاختلاف في التعبير حيث عبر في المشبه بالحذف وفي الوجه والأداة بالترك للأشارة
الى نكتة دقيقة وهي ان المراد بذكرهما أي ذكر الوجه والأداة هنا ما يشتمل التقدير
لا الذكر لفظا فقط وبحذفهما تركهما لفظا وتقديرا فأن مدار المبالغة في زيد أسد في
الشجاعة كما يأتي بعيد هذا على دعوى الاتحاد وهو لا يجامع التقدير أي تقدير الأداة
في الكلام ومدارها في زيد كالأسد كما يأتي أيضا بعيد هذا على ادعاء عموم وجه الشبه
وادعاء العموم لا يجامع تقدير وجه خاص وقد تقدم في مطاوي ابحاث الكتاب غير مرة أن
الحذف وعدم التقدير يفيد العموم فتبصر.
(ثم) ليعلم أن (اختلاف
مراتب التشبيه قد يكون بأعتبار اختلاف المشبه به كقولنا زيد كالأسد أو كالسرحان في
الشجاعة) وجه الاختلاف فيهما ظاهر لا يحتاج الى البيان (او) بأعتبار (اختلاف
الأداة كقولنا زيد كالأسد أو كان زيدا الأسد) فالثاني ابلغ واقوى من الاول لأن كان
للظن وهو قريب من العلم أي اظن ان زيدا اسد لشدة المشابهة بينهما وهذان الاختلافان
غير مقصودان بالخاتمة لأستواء العامة والخاصة فيهما.
(وقد يكون)
الأختلاف (بأعتبار ذكر الأركان كلها أو بعضها) حسبما.
فصلناه آنفا
والاختلاف بهذا الاعتبار (بأنه ان ذكر الجميع) أي ذكر جميع الأركان لفظا او تقديرا
وسيأتي أيضا مثالهما (فهو أدنى المراتب وان حذف الوجه والأداة معا سواء ذكر المشبه
او حذف وسيأتي مثالهما فأعلاها وإلا) يحذف الوجه والأداة معا بأن حذف احدهما سواء
ذكر المشبه او حذف وسواء ذكر الوجه أو حذف (فمتوسطة) فهذا أربع صور يأتي ايضا
امثلتها (وهذا) الاختلاف الذي يكون بأعتبار ذكر الأركان كلها أو بعضها (هو المقصود
في هذا المقام فلذا قال وأعلى مراتب التشبيه في قوة المبالغة بأعتبار ذكر أركانه
كلها او بعضها فقوله بأعتبار متعلق بالأختلاف الدال عليه سوق الكلام لأن أعلى
المراتب انما يكون بالنظر الى عدة مراتب مختلفة كأنه قيل وأعلى المراتب في قوة
المبالغة إذا اعتبر اختلاف المراتب بأعتبار ذكر الأركان كلها أو بعضها) فأعلى
المراتب (حذف وجهه وأداته فقط أي بدون حذف المشبه نحو زيد اسد أو مع حذف المشبه
نحو أسد في مقام الأخبار عن زيد) اي في مقام يقال كيف زيد فيقال في الجواب زيد أسد
او يقال أسد ويأتي وجه القوة والاعلائية فيهما (ثم أي الأعلى بعد هذه المرتبة)
والبعدية في المرتبة انما هي بناء (على أن ثم للتراخي في الرتبة) كما تقدم بيان
ذلك في اوائل بحث الفصل والوصل (حذف احدهما أي وجهه واداته كذلك أي فقط) أي بدون
حذف المشبه (او مع حذف المشبه) وقد قلنا ان هذا أربع صور فالأولى (نحو زيد كالأسد
و) الثانية (نحو زيد أسد في الشجاعة و) الرابعة (نحو اسد في الشجاعة في) مقام (الاخبار
عن زيد) حسبما بيناه آنفا.
(ولا قوة لغيره
أي لغير المذكور وهما الاثنان الباقيان) يعني ما ذكر فيه جميع الأركان الأربعة (نحو
زيد كالأسد في الشجاعة أو) ذكر فيه ثلاثة منها
بحذف المشبه بأن يقال (كالاسد في الشجاعة عند الاخبار عن زيد) فهذه مراتب
ثمانية (فالمرتبتان الأوليان) أي ما حذف فيه وجهه واداته فقط او مع حذف المشبه (متساويتان
في القوة والآخريان) أي ما ذكر فيه جميع الأركان او حذف المشبه (متساويتان في عدم
القوة والاربعة الباقية) أي ما حذف احدهما أي وجهه واداته فقط أي من دون حذف
المشبه او مع حذفه (متوسطة بينهما) اي بين أي بين ماله القوة وما ليس له القوة اي
الأعلى والأدنى (وذلك لأن القوة اما بعموم وجه الشبه) المستفاد ذلك العموم من
الحذف أي من حذف وجه الشبه (من حيث الظاهر) لا بحسب الحقيقة لأنه بحسبها لا يكون
عاما ضرورة ان التشبيه لا يكون إلا في أخص اوصاف المشبه به واشهرها (او) القوة (بأجراء
المشبه به على المشبه بأنه هو هو نظرا الى الظاهر) أي ظاهر اللفظ نحو زيد أسد فأن
ظاهر لفظ الكلام ادعاء أن المشبه به بمعنى ان زيدا هو الأسد أي متحدان واما في
الحقيقة فلا اجراء ولا أتحاد كما سيصرح بذلك عنقريب (فما أشتمل عليهما) اي على
عموم وجه الشبه والأجراء (كالأولين فهو في غاية القوة) ولذلك جعل أعلى المراتب (وما
خلا عنهما كالأخيرين فلا قوة له) فلذا جعل ادنى المراتب (وما اشتمل على احدهما فقط)
أي على عموم الوجه فقط أو على اجراء المشبه به على المشبه فقط (فهو متوسط في القوة
والضعف) لأشتماله على أحد موجبي القوة فأن في الصورتين الأوليين من الأربع
المتوسطة عموم الوجه دون الأجراء وفي الصورتين الأخيرتين بالعكس أي الأجراء دون
عموم الوجه.
(ثم لا يبعد ان
يفرق بين الأربعة المتوسطة بأن حذف الأداة) كما في الصورتين الأخيرتين منها (اقوى
من حذف وجه الشبه) كما في الصورتين الأوليين منها وذلك (لجعل المشبه) في الصورتين
الأخيرتين (عين المشبه به من
حيث الظاهر) حسبما بيناه آنفا وحاصل الفرق ان دعوى الاتحاد بالأسد اقوى من
دعوى المماثلة اذ ليس في الثاني ما في الاول من المبالغة.
(بقى ههنا بحث
وهو الفرق بين قولنا لقبني اسد يرمي ولقيت في الحمام أسدا وبين نحو قولنا زيد أسد
او) قولنا (اسد) بحذف زيد (في نحو الاخبار عن زيد حيث يعد) قولنا (الأول) اي
المثالين الأولين (استعارة) كما سيأتي في بحث الأستعارة (و) يعد قولنا (الثاني) اي
المثالين الأخيرين (تشبيها) حسبما مر آنفا.
(وتحقيق ذلك)
الفرق بين القولين (أنه اذا اجرى في الكلام لفظة ذات قرنية دالة على تشبيه شيء
بمعناها) كلفظة اسد فأنها دالة على تشبيه الرجل الشجاع بمعناها أي بالحيوان
المفترس (فهو) أي الأجراء المذكور على وجهين أحدهما ان لا يكون المشبه مذكورا ولا
مقدرا) بل ترك بالكلية واعرض عنه بحيث لم يلحظ في نظم الكلام (كقولك لقيت في
الحمام أسدا اي رجلا شجاعا ولا خلاف في ان هذا) الوجه (استعارة لا تشبيه) وكذلك
قولنا لقينى اسد يرمى اي رجل شجاع.
(و) الوجه (الثاني
ان يكون المشبه مذكورا او مقدرا) ملحوظا في نظم الكلام (وحينئذ فأسم المشبه به ان
كان خبرا عن المشبه) كقولنا زيد اسد او اسد في نحو الاخبار عن زيد (او) كان اسم
المشبه به (في حكم الخبر) عن المشبه (كخبر باب كان) نحو كان زيد أسدا (و) قس عليه
خبر (ان والمفعول الثاني لباب علمت والحال والصفة فالأصح انه) اي هذا الوجه (يسمى تشبيها
لا استعارة لأن اسم المشبه به إذا وقع في هذه المواقع كان الكلام مصوغا لأثبات
معناه) أي معنى اسم المشبه به (لما أجرى عليه) في الأيجاب (او نفيه) أي نفى معناه (عنه)
أي عما اجرى عليه (فاذا قلت زيد
اسد فصوغ الكلام في الظاهر لأثبات معنى الأسد لزيد وهو ممتنع على الحقيقة)
ضرورة امتناع اثبات معنى أحد المتباينين للآخر (فيحمل على انه) أي صوغ الكلام في
الحقيقة (لأثبات شبه من الأسد له) اي لزيد (فيكون الأتيان بالأسد لأثبات التشبيه)
اي تشبيه زيد بالأسد (فيكون خليقا) أي حريا (بأن يسمى تشبيها) لا استعارة (لأن
المشبه به) يعني الأسد (انما جييء به لأفادة التشبيه) لا الأستعارة (بخلاف نحو
لقيت) في الحمام (اسدا) ولقينى اسد يرمى (فأن الأتيان بالمشبه به) يعني الأسد في
هذين المثالين (ليس لأثبات معناه لشيء) أي ليس لأثبات معناه للرجل الشجاع (بل صوغ
الكلام لأثبات الفعل) اي لأثبات الملاقات حالكونه (واقعا على الأسد) نفسه فلا يكون
لأثبات التشبيه (فيكون قصد التشبيه مكنونا في الضمير لا يعرف إلا بعد نظر وتأمل
واذا أفترقت الصورتان) يعني المثالين الأولين وهما لقينى أسد يرمى ولقيت في الحمام
اسدا والمثالين الأخيرين وهما زيد أسد وأسد في نحو الأخبار عن زيد (هذا الأفتراق)
يعني كون صوغ الكلام في الأولين لأثبات الفعل واقعا على الأسد لا لأثبات التشبيه
وكونه في الأخيرين لأثبات شبه من الاسد للرجل الشجاع (ناسب ان يفرق بينهما) أي بين
الأولين والأخيرين (في الاصطلاح والعبارة) أي في التسمية (بأن تسمى احديهما) اي
الاخيرين (تشبيها والاخرى) اي الأولين (استعارة) فظهر وجه الفرق اعنى عد الأول
استعارة والثاني تشبيها (هذا) التحقيق الذي ظهر منه وجه الفرق (كلام الشيخ في
أسرار البلاغة وعليه جمع من المحققين ومن الناس من ذهب الى ان الثاني أيضا اعني
زيد اسد) واسد عند الأخبار عن زيد (استعارة لأجرائه على المشبه مع حذف كلمة
التشبيه والخلاف لفظي راجع الى تفسير التشبيه والاستعارة المصطلحين) فمن فسر
الاستعارة المصطلحة بأعطاء اسم المشبه به
سواء ذكر المشبه تحقيقا او تقديرا او نية ام لم يذكر وفسر التشبيه المصطلح
بالدلالة على مشاركة شيء لغيره مع كون اداته مذكورة جعل المثال المذكور اعني زيد
اسد واسد في نحو الاخبار عن زيد استعارة ومن فسر الاستعارة بإعطاء اسم المشبه به
للمشبه مع كون اسم المشبه مطوى الذكر تحقيقا او تقديرا او نية وفسر التشبيه
بالدلالة المذكورة مع كون الطرفين مذكورين ولم يشترط الاداة جعله تشبيها.
(هذا اذا كان
اسم المشبه به خبرا عن اسم المشبه او في حكم ألخبر وإن لم يكن كذلك) أي وان لم يكن
اسم المشبه به خبرا عن المشبه أو في حكم الخبر ولكن كان كلاهما مذكورين (نحو رأيت
بزيد اسدا ولقيني منه اسد فلا يسمى استعارة بالأتفاق) بل يسمى تجريدا وهو كما يأتي
في الفن الثالث ان ينتزع من امر ذي صفة كالرجل الشجاع أمرا آخرا مثله في تلك الصفة
كالأسد للمبالغة في كمال تلك الصفة في موصوفها أي للمبالغة في كمال شجاعة الرجل
الشجاع فكأنه قيل في المثالين المذكورين بلغ زيد في الشجاعة مرتبة يصح معها أن
ينتزع منه شجاع آخر فكان هناك شجاعين اعني اسدين وذلك لكمال زيد في الشجاعة.
وانما لم يسم
استعارة (لأنه لم يجر اسم المشبه به على ما يدعى استعارته) أي استعارة اسم المشبه (له)
اي لزيد وبعبارة اخرى لأنه لم يجر لفظة اسد على زيد (لا بأستعماله) اي استعمال اسم
المشبه به (فيه) أي فيما يدعى استعارته له يعني زيد (كما في) لقيني أسد يرمى و (لقيت)
في الحمام (اسدا ولا بأثبات معناه له كما في زيد اسد على اختلاف المذهبين) في
تفسير الاستعارة احدهما المذهب المشهور وهو وجوب اجراء اسم المشبه به على ما يدعى
استعارته له بطريق استعماله فيه وثانيهما المذهب المشار اليه بقوله ومن الناس
من ذهب الخ.
(ولا يسمى
تشبيها أيضا لأن الأتيان بأسم المشبه به) في هذين المثالين اعنى رأيت بزيد اسدا
ولقيني منه اسد (ليس لأثبات التشبيه اذ لم يقصد الدلالة على المشاركة وانما ـ التشبيه
مكنون في الضمير لا يظهر إلا بعد تأمل).
فأن قلت فلم لا
يكون استعارة بالكناية عند المصنف مع ان التشبيه المضمر في النفس عنده استعارة
بالكناية قلت لأنعدام شرطه عنده وهو) كما يأتي في فصل تحقيق معنى الاستعارة
بالكناية والاستعارة التخييلية الدلالة على ذلك التشبيه المضمر بذكر لازم من لوازم
المشبه به.
(خلافا للسكاكي
فأنه يسمى مثل ذلك تشبيها وهذا الخلاف ايضا لفظي) لأن الخلاف في ذلك ايضا راجع إلى
الأصطلاح فأن من اطلق الدلالة المذكورة في تعريف التشبيه عن عدم كونها على وجه
الاستعارة التحقيقية ولا الاستعارة بالكناية ولا على وجه التجريد سماه تشبيها ومن
قيده بذلك كالمصنف لا يسميه تشبيها ولا مشاحة في الاصطلاح.
(ثم قال الشيخ
في أسرار البلاغة فأن ابيت) اي امتنعت عن كل ما يحتمل في المقام (إلا ان تطلق اسم
الاستعارة على هذا القسم) وبعبارة اخرى أن أردت اطلاق اسم الاستعارة على هذا القسم
(اعني نحو زيد اسد) اي ما كان فيه اسم المشبه به خبرا عن المشبه او في حكم الخبر
مما ذكرنا آنفا (فأن حسن دخول اداة التشبيه عليه فلا يحسن اطلاقه) أي اطلاق اسم
الاستعارة (عليه) أي على هذا القسم (وذلك بأن يكون اسم المشبه به معرفة نحو زيد
الاسد وهو شمس النهار فأنه يحسن نحو زيد كالاسد وهو كشمس النهار).
ثم قال الشيخ
كما في الايضاح وان حسن دخول بعضها دون بعض هان
الخطب في اطلاقه وذلك كان يكون نكرة غير موصوفة كقولك زيد اسد فأنه لا يحسن
ان يقال زيد كأسد ويحسن ان يقال كان زيدا اسد ووجدته اسدا والوجه في ذلك ان المراد
بأسد فرد ما من الحيوان المفترس فيلزم بدخول الكاف كما يصرح بعيد ذلك القياس
بالمجهول بخلاف دخول كان لأنه حكم بأتحاد زيد مع مفهوم الأسد على وجه الظن.
ثم قال (وان لم
يحسن دخول شيء من الاداة إلا بتغيير لصورة الكلام) يأتي طريق تغيير الصورة بعيد
هذا (كان اطلاق اسم الاستعارة) على هذا القسم (أقرب) من إطلاق التشبيه عليه (لغموض
تقدير اداة التشبيه فيه وذلك) أي عدم حسن دخول شيء من الأداة إلا بتغيير لصورة
الكلام (بأن يكون) اسم المشبه به (نكرة موصوفة بصفة لا تلائم المشبه به نحو فلان
بدر يسكن الارض وشمس لا تغيب قال الشاعر :
شمس تألق
والفراق غروبها
|
|
عنا وبدر
والسدود كسوفه
|
فأنه لا يحسن
دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة) اذ ليس لنا بدر يسكن الارض او الصدود
كسوفه ولا شمس لا تغيب أو الفراق غروبها.
فأن قلت قد
تقدم في مطاوي الأبحاث المتقدمة انه قد يكون المشبه به أمرا غير موجود كأنياب الاغوال
فليكن المقام من هذا القبيل.
قلت نعم ولكنه
خلاف الظاهر فلا يصار اليه إلا اذا تضمن اعتبارا لطيفا وليس في المقام ذلك
الأعتبار فلا يحسن دخول الأداة (إلا بتغيير صورته) أي صورة الكلام ولو كان ذلك
التغيير بجعل النكرة معرفة وجعل الصفة التي لا تلائم المشبه به حالا له (نحو هو
كالبدر إلا انه يسكن الارض وكالشمس إلا انه لا يغيب وعلى هذا القياس) فيقال في
البيت هو كالشمس المتألقة إلا
ان الفراق غروبها وكالبدر إلا ان الصدود كسوفه) كذا في الأيضاح.
ثم قال فيه (وقد
يكون في الصفات والصلات) أي الحال ونحوها من القيود (التي تجييء من هذا القبيل ما
يحيل تقدير اداة التشبيه فيه) اي يمنع منعا قويا فلا يتوهم انه ينافيه قوله (فيقرب
من اطلاق اسم الاستعارة اكثر اطلاق وزيادة قرب) وجه التوهم دلالة استحالة تقدير
الأداة على استحالة اطلاق التشبيه عليه ودلالة هذا اي قوله فيقرب على جوازه (كقوله)
أي قول أبي الطيب كذا في الايضاح.
اسد دم الأسد
الهزبر خضابه
|
|
موت فريص
الموت منه يرعد
|
فأنه لا سبيل
الى ان يقال) ان المراد التشبيه بتوهم ان (المعنى إنه كالأسد وكالموت لما في ذلك)
التوهم (من التناقض لأن تشبيهه) أي المدوح (بجنس السبع المعروف) يعني الأسد (دليل
على انه دونه) أي دون السبع المعروف (او مثله وجعل دم الهزبر الذي هو اقوى) ذلك (الجنس
خضاب يده دليل على انه) اي الممدوح (فوقه) اي فوق السبع المعروف (وكذا في الموت)
فانه لا يصح ان يشبه الممدوح بالموت المعروف ثم يجعل يخاف منه كذا قال في الايضاح.
ثم قال فيه (ومثله)
اي مثل قول ابي الطيب (قول البحتري :
وبدر اضاء
الارض شرقا ومغربا
|
|
وموضع وحلى
منه اسود مظلم
|
فأنه ان رجع
فيه إلى التشبيه الساذج) معرف سادة والمراد منه هنا الخالص والرجوع المذكور بأن
يقال ان الشاعر أراد تشبيه الممدوح بالبدر ولم يرد من الكلام شيء آخر غير التشبيه (حتى
يكون المعنى هو) أي الممدوح (كالبدر لزم) حينئذ (ان يكون) المتكلم اعني الشاعر (قد
جعل البدر المعروف موصوفا بما ليس فيه) وهو تنويره الشرق والغرب دون موضع
الرحل منه فأن القمر المعروف لا يفرق في التنوير بين موضع وموضع.
(فظهر انه) لم
يرد مجرد التشبيه الساذج لما يلزم منه توصيف البدر المعروف بما ليس فيه بل (انما
أراد ان يثبت من الممدوح بدرا) آخر (له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للبدر)
المعروف (فهو) اي كلام البحتري (مبنى على تخييل) أي الايقاع في خيال السامع (انه)
أي الشاعر (زاد في جنس البدر واحدا) اي بدرا (له تلك الصفة) العجيبة التي لم تعرف
للبدر المعروف (فليس الكلام) اي كلام البحتري (موضوعا لأثبات التشبيه بينهما) اي
بين الممدوح والبدر (بل) موضوع (لأثبات تلك الصفة) العجيبة (فهو كقولك زيد رجل كيت
وكيت) اي رجل يحضر مجالس العلماء مثلا.
قال في
الانموذج في بحث المبني وبتيت كيت لأنها كناية عن الجملة ثم قال واصل كيت كيّت
بتشديد الياء فخففت ثم حذفت وكذلك ذيت ذيت ومعناهما بالفارسية چنين چنين ولا
يستعملان إلا مكررتين ويجوز في تائهما الحركات الثلث.
وقال في حاشيته
واما كيت كيت وفي معناهما ذيت وذيت فلأنها كناية عن الجملة الخبرية المعلومة عند
المتكلم مثلا يقول في مقام مثل قتل زيد عمرا كان من الأمر كيت كيت اي يخبر عن
الصفة المعلومة على وجه الابهام لغرض بتعلق به من الخوف او غيره والجملة مبنية
فبنيت هذه لوقوعها موقعها.
فأن قلت ما وجه
التكرار والعطف قلت كونها كناية عن الجملة اذ الجملة لا بد لها من تعدد الأجزاء
ومن وجود الارتباط بينها بالاسناد فالتزم فيها التعدد والة الربط التي هي الواو
وقالوا يجوز الحركات الثلث في تائهما الكسر لأنه الأصل في تحريك الساكن كأنها بنيت
على السكون ثم عدلت الى الكسرة لالتقاء الساكنين والفتح للخفة والضم لجبر المحذوف
بأقوى
الحركات لأن الأصل كيت وذيت بتشديد الياء كسيد فخفف انتهى فظهر من مطاوي
هذا الكلام ان اسقاط الواو من بينهما من النساخ فتدبر جيدا.
(لم تقصد)
بقولك زيد رجل كيت وكيت (اثبات كونه) اي كون زيد (رجلا لكن اثبات كونه متصفا بما
ذكرت) اي كونه متصفا بأنه يحضر مجالس العلماء مثلا فكذلك فيما نحن فيه اي في نحو
قول البحتري واشباهه لم تقصد اثبات كون الممدوح بدرا بل لأثبات تلك الصفة العجيبة (فاذا
لم يكن اسم المشبه به في البيت مجتلبا لأثبات التشبيه تبين انه خارج عن الاصل الذي
تقدم من كون الأسم مجتلبا لأثبات التشبيه فالكلام فيه) أي في قول البحتري (مبني
على أن كون الممدوح بدرا امر قد استقر وثبت) فليس فيه تشبيه الممدوح بالبدر لما
يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه (وإنما العمل) اي عمل المتكلم وقصده (في اثبات) تلك (الصفة
الغريبة) العجيبة.
(وكما يمتنع
دخول الكاف في هذا) اي في قول البحتري (ونحوه) كالبيت قبله وامثاله لما تقدم بيانه
كذلك (يمتنع دخول الكاف في هذا ونحوه يمتنع كان وحسبت عليهما) أي على المشبه
والمشبه به (لاقتضائهما) أي كان وحسبت (ان يكون الخبر) في كان (والمفعول الثاني)
في حسبت (امرا ثابتا في الجملة) أي تحقيقا كالاسد او تخييلا كالاعلام الياقوتية
المنشورة على الرماح الزبرجدية فأنها ثابتة في الخيال وان لم تكن موجودة في الحال (إلا
ان كونه) اي كون ذلك الأمر (متعلقا بالاسم) في كان (والمفعول الأول) في حسبت (مشكوك
فيه) وذلك إذا كان ذلك الأمر اي الخبر والمفعول الثاني معرفة (كقولك كان زيدا
الأسد (او) كونه متعلقا بالأسم والمفعول الاول (خلاف الظاهر) وذلك اذا كان ذلك
الأمر نكرة (كقولك كان زيدا اسد) وجه الفرق أي ثبوت المشكوكية في المعرف ومخالفة
الظاهر في المنكر ان الظاهر في صورة
المعرف دعوى التشبيه لا دعوى الإتحاد والا الحمل والتشبيه ليس فيه مخالفة
الظاهر واما في سورة المنكر فالظاهر دعوى الأتحاد فدخول اداة التشبيه في الأول
لأظهار الشك وفي الثاني لأظهار كون الدعوى خلاف الظاهر لكن تلك الدعوى تقتضي كون
الشيئين الذين ادعى اتحادهما امرا ثابتا (والنكرة فيما نحن فيه) يعني الموصوف بما
لا يلائم المشبه به او بما يحيل تقدير اداة التشبيه فيه (غير ثابتة) اذ ليس لنا
بدر معروف متصف بكونه فارقا بين موضع وموضع ولا أسد معروف متصف بكون دم الهزبر
الذي هو اقوى الجنس خضاب يده (فدخول كان وحسبت عليها كالقياس على المجهول) وذلك باطل
كما بين في علم المعقول عند قولهم التشبيه بيان مشاركة جزئي لجزئي آخر.
(وأيضا هذا
الفن) أي علم البيان الذي احد مقاصده واركانه التشبيه الذي كلامنا فيه (اذا تأملت
وتحققت
سره وجدت
محصوله) اي محصول هذا الفن في بيان ما كان اسم المشبه به نكرة موصوفة بصفة لا تلائمه
او موصوفة بما يحيل تقدير اداة التشبيه فيه (انك تدعى حذوث شيء هو من الجنس
المذكور) في الكلام (إلا انه) اي الشيء الحادث (اختص بصفة عجيبة لم يتوهم جوازها)
اي لم يتوهم امكان ثبوت تلك الصفة للجنس المذكور (فلم يكن لتقدير) اداة (التشبيه
فيه (معنى) لأن تقدير اداة التشبيه يتوقف على ثبوت المشبه به والمفروض ان الشيء
الحادث المتصف بتلك الصفة العجيبة غير ثابت (مثلا قولنا دم الأسد الهزبر خضا به
صفة عجيبة اختص بها الأسد المذكور ولا يتصور جوازها) اي امكانها (على ذلك الجنس)
المذكور في الكلام (اعني الأسد الحقيقي) المعروف (فلا معنى لتقدير) اداة (التشبيه)
حسبما بيناه آنفا من توقف ذلك على ثبوت المشبه به والمفروض في المقام انه غير
ثابت.
(هذا) الذي
ذكرنا من الوجوه لأمتناع التشبيه في الأمثلة المذكورة ونحوها ووجوب جعلها استعارة (محصول
كلامه) اي الشيخ (و) اما (مذهب صاحب المفتاح) فهو (انه اذا كان المشبه مذكورا) في
الكلام (او مقدرا) فيه (فهو تشبيه لا استعارة ولنا في هذا المقام كلام نذكره في
اول بحث الاستعارة) ونوضحهه نحن هناك (انشاء الله تعالى) هذا تمام الكلام في
التشبيه الذي هو المقصد الأول من مقاصد علم البيان.
تقدم في اول
الفن وجه عد التشبيه مقصدا برأسه وان كان ذكره في علم البيان بسبب ابتناء
الاستعارة عليه وقد تقدم هناك ايضا وجه التعرض له قبل التعرض للمجاز.
واما قوله (اي
هذا بحث الحقيقة والمجاز) فهو اشارة الى توجيه التركيب بأنه حذف فيه المبتدء
والمضاف الى الخبر واقيم المضاف اليه مقامه (وهو) أي بحث الحقيقة والمجاز (المقصد
الثاني من مقاصد علم البيان والمقصود الأصلي) من هذا البحث (انما هو بحث المجاز)
لأن مقصد البياني كما علم في اول الفن ايراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح
الدلالة وقد تقدم هناك أيضا ان الأيراد المذكور لا يتأتى بالحقيقة بل بالمجاز
والكناية (لكن قد جرت العادة بالبحث عن الحقيقة أيضا لما بينهما من شبه تقابل
العدم والملكة) لا حقيقة تقابل العدم والملكة لأنه انما يكون بينهما حقيقة التقابل
لو كان المجاز عدم استعمال اللفظ فيما وضع له وليس كذلك بل عدم الاستعمال فيما وضع
له لازم المجاز لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له فيلزمه عدم
استعمال اللفظ فيما وضع له والحاصل ان الحقيقة والمجاز امران وجوديان لكن
الحقيقة بمنزلة الملكة (حيث اشتمل الحقيقة على استعمال اللفظ فيما وضع له والمجاز)
بمنزلة عدم الملكة لأنه اشتمل (على استعماله في غير ما وضع له) فيلزمه العدم اي
عدم استعماله فيما وضع له (ولهذا) اي لما بينهما من شبه تقابل العدم والملكة (قدم
تعريف الحقيقة) لأن الملكة وما هو بمنزلتها اشرف لكونه وجوديا ولتقدم تصور الملكة
على تصور العدم ومن هنا قالوا انه يلزم من تصور العمى تصور البصر قبله (ولأن
المجاز وان لم يتوقف على ان يكون له حقيقة كما هو المذهب الصحيح) لجواز ان لا
يستعمل فيما وضع له اصلا كلفظ رحمن حيث استعمل مجازا في المنعم على العموم ولم
يستعمل في المعنى الحقيقي اعنى رقيق القلب وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في بحث
احوال الأسناد الخبري عند قول الخطيب ومعرفة حقيقته اما ظاهرة هذا بالنظر الى
الأستعمال واما بالنظر إلى الوضع فالمعنى الموضوع له مما لا بد منه واليه اشار
بقوله (لكن الدال على غير ما وضع له فرع الدال على ما وضع له في الجملة) فأن
المجاز وان لم يستعمل فيما وضع له لكنه دال عليه قطعا وذلك لما يأتي عنقريب من انه
قد تقدم في مقدمة هذا الفن ان مبنى المجاز على الأنتقال من الملزوم الى اللازم
وهذا لا يتحقق بدون الدلالة على الملزوم في الجملة اي مع قطع النظر عن القرينة
الصارفة فتأمل.
فتحصل من ذلك
ان الحقيقة اصل للمجاز (فالتعرض للأصل مناسب) فأن قلت هذا ينافي ما تقدم من ان
المجاز لم يتوقف على ان يكون له حقيقة قلنا ان هذا بالنظر الى الغالب اذ الغالب ان
كل مجاز يتفرع عن حقيقة.
(وقد يقيدان)
أي الحقيقة والمجاز (باللغويين ليتميزا عن الحقيقة والمجاز العقليين الذين هما في
الاسناد) والظاهر انه لا حاجة الى التقييد لأنه قد تقدم
الكلام فيهما في أحوال الأسناد الخبري مستوفي فلا يعقل دخولهما حتى يحتاج
لتميزهما الى التقييد (والأكثر) الأولى (ترك هذا التقييد لئلا يتوهم انه مقابل
للشرعى أو العرفي) اي لئلا يتوهم ان التقييد باللغويين لأخراج الحقيقة والمجاز
الشرعيين والعرفيين ولا يصح ذلك لأن هذا البحث معقود للكلام عليهما أيضا كما
سيأتي.
(فالمقيد
بالعقلي ينصرف الى ما في الأسناد) اي اذا قلنا الحقيقة والمجاز العقليين ينصرف الى
الحقيقة والمجاز في الاسناد وقد وقع الكلام فيه في الباب الاول من علم المعاني (والمطلق
الى غيره) أي ينصرف المطلق الى غير العقلي (سواء كان لغويا أو شرعيا او عرفيا) وقد
يأتي بيان كل منها عنقريب.
(الحقيقة في
الأصل) وزن (فعيل بمعنى فاعل) مأخوذ (من حق الشيء إذا ثبت أو بمعنى مفعول مأخوذ من
حققت الشيء إذا أثبته) فعلى الاول قاصر وعلى الثاني متعد (نقل إلى الكلمة الثابتة)
في مكانها الأصلي أي في معناها الذي وضعت له أولا هذا على الاول (او المثبتة في
مكانها الاصلي) بالمعنى الذي ذكرنا هذا على الثاني (والتاء فيها للنقل) أي للدلالة
على نقل تلك الكلمة (من الوصفية الى الاسمية) وليست للتأنيث نظرا إلى ان الحقيقة
أسم للكلمة بدليل انه يقال لفظ حقيقة ولو اعتبر كونها للتأنيث لقيل لفظ حقيق بدون
التاء فمن ذلك يعلم ان التاء ليست للتأنيث بل للنقل بيان ذلك ان التاء في أصلها
كما بين في بحث غير المنصرف من علم النحو تدل على معنى فرعي وهو التأنيث فاذا روعي
نقل الوصف عن أصله الذي هو التذكير الى ما كثر استعماله فيه وهو الاسمية اعتبرت
التاء فيه وأتى بها أشعارا بفرعية الأسمية فيه كما كانت فيه حال الوصفية أشعارا
بالتأنيث فالتاء الموجودة فيه بعد النقل غير الموجودة قبله كقولهم ذبيحة فأنها بلا
تاء وصف في الأصل لكل مذبوح من أبل او غنم كثر أستعمالها في الشاة واعتبر نقلها
اسما لها فجعلت التاء فيها للنقل فيه.
(وعند صاحب
المفتاح التاء للتأنيث على الوجهين) أي سواء كان في الأصل فعيل بمعنى فاعل ام
بمعنى مفعول (أما على الأول) أي اذا كان في الأصل فعيل بمعنى فاعل (فظاهر لأن
فعيلا) اذا كان (بمعنى فاعل يذكر) في المذكر (ويؤنث) في المؤنث (سواء أجرى على
موصوفة أولا نحو رجل ظريف وامرئة ظريفة وأما على الثاني) أي إذا كان في الأصل فعيل
بمعنى مفعول (فلأنه يقدر لفظ الحقيقة قبل النقل الى الأسمية صفة لمؤنث غير مجرأة
على موصوفها وفعيل بمعنى مفعول انما يستوي فيه المذكر والمؤنث) يعني يستعمل بدون
التاء (إذا أجرى على موصوفه نحو رجل قتيل وامرئة قتيل وأما اذا لم يجر على موصوفه
فالتأنيث) أي اتيان التاء (واجب دفعا للألتباس نحو مررت بقتيل بني فلان) هذا إذا
كان المقتول مذكرا (و) يقال (قتيلة بني فلان) اذا كان مؤنثا صرح بذلك كله السيوطي
عند قول الناظم :
ومن فعيل
كقتيل ان تبع
|
|
موصوفه غالبا
التاء تمتنع
|
(و) لكن (لا يخفى ما فيه) أي في
كلام صاحب المفتاح وتوجيهه بأن يقدر لفظ الحقيقة قبل النقل الى الأسمية صفة لمؤنث
غير مجراة على موصوفها (من التكلف المستغنى عنه بما تقدم) من كون التاء للنقل من
الوصفية الى الأسمية حسبما أوضحناه وقد تقدم منا كلام يناسب المقام في ذيل كلام
الشارح واعلى معجزات نبينا القرآن فراجع فأنه يفيدك في فهم المرام.
(والحقيقة في
الاصطلاح الكلمة المستعملة فيما أي في معنى وضعت تلك الكلمة له في اصطلاح به
التخاطب) أي التكلم بالكلام المشتمل على تلك الكلمة والغرض من قوله (أي وضعت له في
اصطلاح يقع به التخاطب) تعيين متعلق لفظة في كما يظهر ذلك من قوله (فالجار
والمجرور) يعني في
(متعلق بقوله وضعت لا بالمستعملة اذ لا معنى) صحيح (له) أي لكون الجار
والمجرور متعلقا بقوله المستعملة (عند التأمل) والحاصل ان تعلق الجار والمجرور
بالمستعملة لا يصح لفظا ولا معنى أما لفظا فلأنه لا يجوز تعلق حرفي جر متحدي اللفظ
والمعنى بعامل واحد وأما معنى فلان مادة الأستعمال تتعدي بكلمة في للمعنى المراد
من اللفظ فمدخول في هو مدلول الكلمة فلو علق قوله اصطلاح بالمستعملة لفسد المعنى
لأن قوله اولا فيما وضعت له يفيد ان المدلول هو المعنى الموضوع له وقوله في اصطلاح
يفيد ان المدلول هو الأصطلاح وأيضا المعهود كون الاصطلاح ظرفا للوضع أو سببا له لا
للأستعمال فيقال وضع هذا اللفظ في اصطلاحهم لكذا أي وضع في جملة ما اصطلحوا على وضعه
لكذا او بسبب اصطلاحهم لكذا ولا يقال استعمل في اصطلاحهم لكذا إلا ان يكون استعمل
بمعنى وضع فتأمل.
وقد يجاب عن
الفسادين بأن ذلك انما يتوجه اذا أجريت كلمة في على الظاهر المتبادر منها اعني
الظرفية الحقيقية وأما اذا جعلت في معنى على كما في قوله تعالى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ) بأن يقدر ان المعنى المستعملة فيما وضعت له بأعتبار
اصطلاح التخاطب وبالنظر اليه بجعل الطرفية مجازية او جعلت كلمة في للسببية كما في
قوله (ص) ان امرئة دخلت النار في هرة فلا يلزم فساد لا لفظا ولا معنى إلا انه صرف
للكلام عن المتبادر منه فالحمل عليه تكلف وقد يجاب بأن وضعت فعل فهو أولى في العمل
من الوصف الذي هو مستعملة خصوصا وهو أقرب للمعمول فتأمل.
(واحترز
بالمستعملة عن الكلمة قبل الاستعمال) وبعد الوضع (فأنها لا تسمى حقيقة كما لا تسمى
مجازا) ولكن لا يخفى عليك ان مقتضى هذا الأحتراز ان يكون اللفظ قبل الأستعمال وبعد
الوضع يسمى كلمة كما هو
الظاهر من قولهم الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد.
(و) أحترز (بقوله
فيما وضعت له عن شيئين احدهما ما استعمل في غير ما وضع له غلطا كقولك خذ هذا الفرس)
حالكونك (مشيرا الى كتاب بين يديك فأن لفظ الفرس ههنا قد استعمل في غير ما وضع له
وليس بحقيقة) لأن الحقيقة ما كان مستعملا فيما وضع له (كما انه ليس بمجاز (لعدم
العلاقة المعتبرة بين الكتاب وبين الحيوان الصاهل الذي هو الموضوع له للفظ الفرس.
وليعلم ان
المراد بالغلط الخارج بالقيد المذكور انما هو الذي يسمى بسبق اللسان وليس المراد
الخطأ في الاعتقاد فأنه حقيقة ان كان الاستعمال فيما وضع له بحسب زعم المتكلم ولو
اخطأ في زعمه كمن قال للكتاب الذي راه من بعيد هذا فرس لأعتقاده انه حيوان صاهل
وان كان الاستعمال في غير ما وضع له بحسب زعم المتكلم فهو مجاز ان كان هناك ملاحظة
علاقة كمن قال للكتاب الذي راه من بعيد فأعتقد انه حمار هذا فرس فأن لم يكن هناك
ملاحظة علاقة فليس بمجاز كما انه ليس بحقيقة وليعلم ان قوله فيما وضعت له كما أخرج
الشيئين المذكورين كذلك أخرج الكذب كما قال للحجر هذا ماء متعمدا لذلك القول وليس
ملاحظا لعلاقة وليس ثم قرنية تمنع من إرادة المعنى الحقيقي كان كذبا وصدق عليه انه
مستعمل في غير ما وضع له فهو خارج بهذا القيد أيضا لكن التفتازاني سكت عن اخراجه
لأنه لا ينبغي ان يكون من مقاصد العقلاء فتأمل (والثاني المجاز الذي لم يستعمل
فيما وضع له لا في اصطلاح التخاطب ولا في غيره كالأسد في الرجل الشجاع لأن
الأستعارة) أي لفظة الاسد كما يأتي عنقريب في قوله وقيل انها مجاز عقلي (وان كانت
موضوعة) للرجل الشجاع (بالتأويل) أي بأدعاء دخول الرجل
الشجاع في جنس الحيوان المفترس فيكون استعمالها أي استعمال لفظة الاسد في
الرجل الشجاع بهذا التأويل والأدعاء استعمالا فيما وضعت له (لكن الوضع عند الأطلاق
لا يفهم منه إلا الوضع بالتحقيق دون التأويل) والأدعاء وليس استعمال الأسد في
الرجل الشجاع استعمالا فيما وضع له بالتحقيق بأعتبار اصطلاح أهل اللغة ولا بأعتبار
اصطلاح غيرهم اعني اهل الشرع والعرف فتأمل جيدا.
(و) احترز (بقوله
في اصطلاح التخاطب عن المجاز الذي استعمل فيما وضع له في اصطلاح آخر غير اصطلاح به
التخاطب كالصلوة إذا أستعملها المخاطب) اي المتكلم (بعرف الشرع في الدعاء فأنها
تكون مجازا لكون الدعاء غير ما وضعت هي) أي لفظة الصلوة (له) أي للدعاء (في اصطلاح)
اهل (الشرع لأنها) أي لفظ الصلوة (في اصطلاح) اهل (الشرع إنما وضعت للأركان)
المخصوصة (مع انها) أي لفظة الصلوة (موضوعة للدعاء في اصطلاح آخر اعني اللغة).
والحاصل ان
الصور أربع الأولى أستعمال اللغوي الصلوة في الدعاء الثانية إستعمال الشرعي لها في
الأركان المخصوصة وهاتان الصورتان حقيقتان داخلتان في التعريف بقوله في اصطلاح به
التخاطب والثالثة استعمال اللغوي لها في الأركان المخصوصة والرابعة استعمال الشرعي
لها في الدعاء وهما مجازان خرجا بقوله في اصطلاح به التخاطب والرابعة هي التي بنى
التفتازاني كلامه عليها فتبصر.
(فأن قلت كان
الواجب) على الخطيب (ان يقول) الحقيقة (اللفظ المستعمل) بدل الكلمة المستعملة (ليتناول
المفرد والمركب) لأن للمركب أيضا كما يأتي في اول بحث المجاز المركب وضعا وكل ماله
وضع فلا بد فيه من ان يكون له
حقيقة.
(قلت لو سلم
اطلاق الحقيقة على المجموع المركب) ولا بد من تسليمه لما يأتي هناك (فنقول لما كان
تعريف الحقيقة غير مقصود في هذا الفن لم يتعرض إلا لما هو الأصل اعني الحقيقة في
المفرد) فلا اشكال.
(والوضع أي وضع
اللفظ) لا مطلق الوضع الشامل لوضع الكتابة والاشارة والعقد والنصب والا لزم
التعريف بالأخص فيكون غير جامع لأن الوضع المطلق تعيين الشيء لفظا كان أو غيره
للدلالة على معنى بنفسه فبالتفسير الذي ذكره التفتازاني حصلت مساواة الحد للمحدود
والى ذلك اشار الخطيب حيث قال (تعيين اللفظة) أي اللفظ المفرد لأن الكلام في وضع
الحقايق الشخصية اعني الكلمات لا ما يشمل المركبات لأن وضعها كما يأتي في المذكور
آنفا نوعي (للدلالة على معنى بنفسه) هذا الجار والمجرور متعلق بقوله للدلالة (أي
ليدل بنفسه الا بقرينة تنضم اليه فخرج المجاز عن ان يكون موضوعا بالنسبة الى معناه
المجازي) يعني ان تعيين اللفظ للدلالة على المعنى المجازي لا يكون وضعا وذلك (لأن
دلالته انما تكون بقرينة) مانعة عن ارادة المعنى الموضوع له.
(فأن قلت فعلى
هذا يخرج الحرف أيضا عن ان يكون موضوعا لأنه انما يدل على المعنى بغيره لا بنفسه
فأن معنى قولهم الحرف ما دل على معنى في غيره انه مشروط في دلالته على معناه
الافرادي ذكر متعلقها) كالمجرور في زيد في نعمة كما يأتي عند تقسيم الاستعارة الى
الأصلية والتبعية قال الجامي الحرف كمن وإلى فأنهما يحتاجان في الدلالة على
معنيهما اعني الابتداء ولأنتهاء الى كلمة أخرى كالبصرة والكوفة في قولك سرت من
البصرة الى الكوفة انتهى وفيه كلام يأتي هناك.
(قلت لا نسلم
ان معنى الدلالة على معنى في غيره ما ذكرت) من كونه مشروطا في دلالته على معناه
الأفرادى ذكر متعلقه (بل ما اشار اليه بعض المحققين من النحاة) يعني الرضى (من ان
الحرف ما دل) بنفسه (على معنى ثابت في لفظ غيره) قال الجامي في شرح قول ابن الحاجب
الحرف ما دل على معنى في غيره ما هذا نصه أي كلمة دلت على معنى حاصل في غيرها
انتهى (فاللام في قولنا الرجل مثلا يدل بنفسه على التعريف الذي هو في الرجل وهل في
قولنا هل قام زيد يدل بنفسه على الأستفهام الذي هو في جملة قام زيد سلمنا ذلك) أي
سلمنا ان معنى الدلالة على معنى في غيره ما ذكرت (لكن) لا يخرج الحرف عن ان يكون
موضوعا لأن (معنى الدلالة بنفسه ان يكون العلم بالتعيين كافيا في الفهم) أي في فهم
المعنى من اللفظ عند اطلاقه اي عند ذكره مطلقا عن القرنية فيشمل وضع الحرف كالأسم
والفعل لأن وضع الحرف وتعيينه انما هو على انه ان سمع حرف فهم معناه من غير توقف
على قرينة لأنا نفهم معاني الحروف الأفرادية كالأبتداء والاستفهام عند ذكرها بعد
علمنا بأوضاعها لتلك المعاني مثلا اذا علمنا أن من موضوعة للأبتداء فهمناه عند
سماعها وكذلك الأستفهام بالنسبة الى هل وهذا بخلاف المجاز فأن فهم المعنى المجازي
يتوقف على القرينة (دون المشترك أي فخرج المجاز لا المشترك وما وضع لمعنيين او
اكثر وضعا متعددا) على وجه الأستقلال سواء اتحد وضعه او تعدد (وذلك لأنه) أي
المشترك (قد عين للدلالة على كل من المعنيين بنفسه) أي بلا قرنية (وعدم الدلالة
على احد المعنيين) او المعاني (على التعيين لعارض) هو (الاشتراك) أي اشتراك
المعنيين أو المعاني في ذلك اللفظ (لا ينافي ذلك) أي تعيينه للدلالة على كل من
المعنيين أو المعاني فيكون المشترك موضوعا لكل من المعنيين او المعاني على وجه
الأستقلال فاذا أستعمل في المعنى
وأحتيج إلى القرينة المعينة للمراد لم يضر ذلك في كونه حقيقة لأن الحاجة
إلى القرينة فيه لتعيين المراد لا لأجل وجود أصل الدلالة على المراد فالقرء مثلا
عين مرة للدلالة على الطهر بنفسه ومرة أخرى للدلالة على الحيض بنفسه فيكون موضوعا
للدلالة على معنى بنفسه.
فتحصل مما
ذكرنا أن مدلول المشترك احد المعنيين او المعاني معينا (وزعم صاحب المفتاح) خلاف
ذلك لأنه قال (ان المشترك كالقرء مثلا مدلوله) غير معين لأن مدلوله (ان لا يتجاوز
الطهر والحيض غير مجموع بينهما يعني ان مدلوله واحد من المعنيين غير معين).
قال في الايضاح
وذهب السكاكي الى أن المشترك كالقرء معناه الحقيقي هو ما لا يتجاوز معنييه كالطهر
والحيض غير مجموع بينهما انتهى (فهذا) أي واحد من المعنيين غير معين (مفهومه)
ومدلوله الحقيقي (ما دام منتسبا إلى) مجموع (الوضعين) من غير تخصيص بأحدهما (لأنه)
أي لأن واحد من المعنيين غير معين (المتبادر الى الفهم والتبادر الى الفهم من
دلائل الحقيقة) وإن كان لها دلائل أخرى مذكورة في كتب الاصول.
ثم قال السكاكي
كما في الايضاح (اما إذا خصصته في أحد الوضعين) أما صريحا (كما إذا قلت القرء
بمعنى الطهر او) استلزاما كما إذا قلت القرء (لا بمعنى الحيض فأنه) أي التخصيص في
أحد الوضعين بسبب احد القيدين اي قولك بمعنى الطهر أو قولك لا بمعنى الحيض (ينتصب)
اي يقام ذلك التخصيص (دليلا) أي قرينة دالا بنفسه كما في المفتاح (على الطهر
بالتعيين) كما كان الواضع عينه بأزائه بنفسه فليس مدلوله حينئذ أحد المعنيين لا
على التعيين (و) اما (القرينة) أي أحد القيدين فهي ليست لأصل الدلالة بل (لدفع
مزاحمة الغير) أي غير الطهر يعني الحيض.
قال في الايضاح
ثم قال السكاكي في موضع آخر واما ما يظن بالمشترك من الاحتياج الى القرينة في
دلالته على ما هو معناه فقد عرفت ان منشأ هذا الظن عدم تحصيل معنى المشترك الدائر
بين الوضعين انتهى فتحصل من كلامه أن معنى المشترك هو أحد المعنيين لا على التعيين
وهذا المعنى انما هو بعد وضعه لكل واحد من المعنيين على التعيين.
(وتحقيق ذلك أن
الواضع عينه) مرة (للدلالة بنفسه على معنى الطهر) على التعيين (وكذا عينه) مرة
أخرى (للدلالة بنفسه على معنى الحيض) على التعيين (وقولنا بمعنى الطهر أو لا بمعنى
الحيض قرينة لدفع المزاحمة) أي لدفع مزاحمة ما اريد من المعنيين (لا لأن يكون
الدلالة بواسطته وحصل من هذين الوضعين وضع آخر ضمنا وهو تعينه) بعد هذين الوضعين (للدلالة
على أحد المعنيين عند الاطلاق) اي عند تجرده عن القيدين (غير مجموع بينهما) أي بين
المعنيين.
(وكان الواضع
وضعه) ثلاث مرات (مرة للدلالة بنفسه على هذا) المعنى اي على الطهر مثلا (و) مرة (أخرى
للدلالة بنفسه على ذلك) المعنى أي على الحيض.
(فقال) الواضع
بعد هذين الوضعين إنه (إذا أطلق) أي إذا تجرد عن القرينة أي عن أحد القيدين
فمفهومه احدهما) اي احد المعنيين (غير مجموع بينهما) وهذا هو المرة الثالثة (هذا)
الذي أوضحناه (تحقيق كلام المفتاح) وقد نقلنا بعض فقراته طبقا لما أورد في الايضاح
والمتحصل من تحقيق كلامه ان للقرء ثلاثة معان أحدها الطهر معينا وثانيها الحيض
معينا وثالثها ما حصل بعد وضعه لكل واحد من هذين المعنيين وهو ان لا يتجاوز الطهر
والحيض أي احد هذين المعنيين عند الاطلاق غير مجموع بينهما.
واعترض عليه
الخطيب في الايضاح بثلاثة أمور الأول أنا لا نسلم ان معناه الحقيقي ان لا يتجاوز
الطهر والحيض أي لا نسلم ان مدلوله واحد من المعنيين غير معين الثاني انه أي دليل
على انه عند الأطلاق يدل عليه اي على ان لا يتجاوز الطهر والحيض والثالث انه إذا
قيل القرء بمعنى الطهر أو لا بمعنى الحيض فدلالته على الطهر ليست بنفسه بل بواسطة
القرينة لأن بمعنى الطهر وكذا لا بمعنى الحيض قرينة على ذلك لأن القرينة كما تكون
معنوية تكون لفظية فقول السكاكي أن الدلالة حينئذ بنفسه سهو ظاهر.
فرد التفتازاني
هذه الأيرادات الثلاثة بقوله (وعلى هذا) التحقيق (لا يتوجه اعتراض المصنف بأنا لا
نسلم ان معناه الحقيقي ان لا يتجاوز الطهر والحيض) وجه عدم توجه هذا الاعتراض أنا
حققنا ان المتحصل بعد الوضع لكل واحد من المعنيين ذلك (و) كذا لا يتوجه اعتراض
المصنف بأنه (ما الدليل على انه عند الاطلاق يدل عليه) وجه عدم توجه هذا الاعتراض
انه قد ثبت من هذا التحقيق تعينه للدلالة بنفسه على أحد المعنيين عند الاطلاق غير
مجموع بينهما (و) كذا لا يتوجه اعتراض المصنف (بأن قوله) أي السكاكي (القرء بمعنى
الطهر أو لا بمعنى الحيض دال بنفسه على الطهر بالتعيين سهو ظاهر لأن كلا من قوله
بمعنى الطهر وقوله لا بمعنى الحيض قرينة لفظية والقرينة كما تكون معنوية فقد تكون
لفظية) فقول السكاكي انه دال بنفسه سهو ظاهر وجه عدم توجه هذا الاعتراض ان كون
بمعنى الطهر ولا بمعنى الحيض قرينة مسلم لكنه كما ذكرنا لدفع المزاحمة لا لأن
الدلالة بواسطته فصح ان دلالة القرء على الطهر بالتعيين بنفسه فلا سهو في كلامه
بعد ان حققنا مرامه.
(وفي أكثر
النسخ بدل قوله دون المشترك دون الكناية وهو سهو من الناسخ لأنه ان أريد ان
الكناية) لم تخرج عن تعريف الحقيقة لأنها (بالنسبة إلى المعنى الذي هو مسماها)
ككثرة
الرماد مثلا (موضوع) فيصدق عليه انه كلمة مستعملة فيما وضعت له (فالمجاز
أيضا كذلك لأن اسدا في قولك رأيت اسدا يرمى موضوع ايضا بالنسبة الى الحيوان
المفترس) فيصدق عليه ايضا التعريف المذكور فلا وجه لخروج المجاز دون الكناية.
(وان أريد انه)
أي الكناية لم تخرج لأنه (موضوع بالنسبة الى لازم المسمى) كالجود والمضيافية مثلا (الذي
هو) المقصود من (معنى الكناية ففساده واضح لظهور ان دلالته على اللازم ليست بنفسه
بل بواسطة قرينة) لفظية او معنوية فلا يشمله الوضع المأخوذ في تعريف الحقيقة لأنه
تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه لا بقرينة تنضم اليه.
(لا يقال معنى
قوله بنفسه أي من غير قرينة مانعة من إرادة الموضوع له) فيخرج المجاز لأن قرينته
مانعة من إرادة الموضوع له الحقيقي دون الكناية لأن قرينتها ليست مانعة من إرادة
الموضوع له الحقيقي بل يجوز مع الكناية إرادة المعنى الحقيقي ولذا قالوا ان
الكناية أستعملت في لازم الموضوع له مع جواز إرادة الملزوم فتعريف الحقيقة يشمل
الكلمة التي استعملت فيما وضعت له بلا قرينة أصلا او مع قرينة غير مانعة من إرادة
المعنى الحقيقي كالكناية.
(او) يقال معنى
قوله بنفسه أي (من غير قرينة لفظية) فيخرج أيضا المجاز دون الكناية لأن المجاز
قرينته لفظية والكناية قرينتها معنوية.
(لأنا نقول
المعنى الأول) الذي ذكر في لا يقلل لقوله بنفسه (يستلزم الدور حيث أخذ الموضوع في
تعريف الوضع) لأنه ال الأمر على ذلك أن الوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى من غير
قرينة مانعة من إرادة الموضوع له وهذا صريح في الدور وذلك لتوقف معرفة الوضع على
معرفة الموضوع لأخذه جزء
في تعريفه وتوقف معرفة الموضوع على معرفة الوضع لأن الموضوع مشتق من الوضع
ومعرفة المشتق متوقفة على معرفة المشتق منه ولأجل الفرار عن هذا الدور لم يأخذ
الخطيب الموضوع في التعريف وعبر بالمعنى فتأمل.
(والثاني
يستلزم إنحصار قرينة المجاز في اللفظي حتى لو كانت القرينة معنوية كان المجاز
داخلا في) تعريف (الحقيقة) وكذا يستلزم إنحصار قرينة الكناية في غير اللفظ وكل
منهما ممنوع وذلك لأنه قد تكون قرينة المجاز معنوية فيكون كما قلنا داخلا في
التعريف فلا يصح إخراجه حينئذ منه وقد تكون قرينة الكناية لفظية فتكون خارجة من
التعريف فلا يصح إدخالها حينئذ فيه فلا يصح قوله دون الكناية.
(فأن قيل معنى
كلامه انه خرج عن تعريف الحقيقة المجاز) لأنه لم يستعمل فيما وضعت له (دون الكناية
فأنها أيضا حقيقة) لأنها استعملت فيما وضعت له) فهي من أقسام الحقيقة (على ما صرح
به السكاكي حيث قال الحقيقة في المفرد والكناية تشتركان في كونهما حقيقتين وتفترقان
في التصريح وعدمه) وتفترقان أيضا بما يأتي في آخر بحث الكناية في قوله أطبق
البلغاء على ان المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح.
(قلنا هذا أيضا
غير صحيح) على رأي المصنف كما يأتي في اول بحث الكناية (لأن الكناية) على رأيه (لم
تستعمل في الموضوع له بل انما استعملت في لازم الموضوع له مع جواز إرادة الملزوم)
يعني الموضوع له (ومجرد جواز إرادة الملزوم) أي الموضوع له (لا يوجب كون اللفظ
مستعملا فيه وسيجييء لهذا زيادة تحقيق في باب الكناية انشاء الله تعالى) هذا ولكن
لا يذهب عليك ان ما ذكره ههنا مناف لما ذكره في بحث تعريف المسند اليه العلمية من
ان طويل النجاد يستعمل في معناه الموضوع له لينتقل منه إلى
طول القامة ولو قلت رأيت اليوم أبا لهب واردت كافرا جهنميا لأشتهار ابي لهب
بهذا الوصف يكون استعارة نحو رأيت حاتما ولا يكون من الكناية في شيء انتهى اللهم
إلا ان يقال ان المذكور هناك رأي والمذكور ههنا رأى آخر وكم لها من نظير فتأمل
جيدا.
وليعلم ان هذا
الجواب مبني على ان قوله في أكثر النسخ فخرج المجاز دون الكناية تفريع على تعريف
الحقيقة لا على تعريف الوضع والجواب الاول على العكس من ذلك.
وأعلم انه لما
عرف الخطيب الوضع بتعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه وأقتضى ذلك اثبات الوضع
وينافيه ما ذهب اليه بعضهم من ان دلالة اللفظ على المعنى لذاته لأنه يلغو الوضع بل
في تعريفه بتعيين اللفظ للدلالة على المعنى تحصيل للحاصل عقبه بقوله (والقول
بدلالة اللفظ لذاته ظاهره فاسد) هذا ولكنه ينافي ما يأتي من قول التفتازاني فنقول
هذا ابتداء بحث فتدبر جيدا.
(ومن العجائب
في هذا المقام ما وقع لبعض مشاهير الأئمة وحذاق العصر) وهو الفاضل العلامة صدر
الشريعة (وهو انه نظر الى ظاهر لفظ الايضاح) وهذا نصه وقيل دلالة اللفظ على معناه
لذاته وهو ظاهر الفساد لأقتضائه ان يمتنع نقله الى المجاز وجعله علما ووضعه
للمتضادين كالجون للأسود والابيض فأن ما بالذات لا يزول بالغير ولأختلاف اللغات
بأختلاف الأمم انتهى كلام المصنف في الايضاح (فتوهم) بعض مشاهير الأئمة (ان هذا)
الكلام من الأيضاح (من تتمة أعتراضه) أي اعتراض المصنف (على السكاكي) والحاصل ان
بعض المشاهير توهم ان هذا الكلام من الايضاح تتمة لما أعترض به على السكاكي في
مسئلة القرء حيث قال السكاكي ان القرء بمعنى الطهر او لا بمعنى الحيض دال بنفسه
على الطهر بالتعيين (فقال) بعض المشاهير (ان مراد
السكاكي بالدلالة بنفسها ان يكون العلم بالوضع كافيا في الفهم) لا ان يكون
دلالة اللفظ لذاته ثم قال بعض المشاهير (والمصنف حيث ذكر ان دلالة اللفظ لذاته
ظاهر الفساد توهم ان السكاكي أراد بالدلالة على معنى بنفسها) في مسئلة القراء (ما
قيل أن دلالة الألفاظ ذاتية) والحال انه ليس مراد السكاكي ما قيل بل مراده
بالدلالة بنفسها ان يكون العلم بالوضع كافيا (فلا يحل لأحد أن يبطل كلام غيره
بحمله على معنى قائله بريء عنه) يعني فلا يحل للمصنف ان يبطل كلام السكاكي بحمله
على أن مراده بالدلالة على معنى بنفسها ما قيل ان دلالة الالفاظ ذاتيه والحال ان
السكاكي بريء عما قيل (هذا كلامه) أي كلام بعض المشاهير والدليل على برائة السكاكي
عما قيل انه كما يأتي عنقريب قد تأول ما قيل فلا يحل للمصنف حمل كلام السكاكي
عليه.
إلى هنا كان
الكلام في بيان ما توهمه بعض المشاهير من أن هذا من تتمة اعتراضه على السكاكي (وأقول)
لبعض المشاهير (كيف حل لك أبطال كلام المصنف بحمله على ما هو بريء عنه) أي بحمل
كلام المصنف على انه من تتمة اعتراضه على السكاكي (والعجب انه) أي بعض المشاهير (لم
يتنبه ان المصنف أيضا فسر الوضع بتعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه) فلو كان هذا
من تتمة اعتراض المصنف على السكاكي لزم ان يكون إعتراضا على نفسه أيضا (و) لم
يتنبه بعض المشاهير (ان السكاكي أيضا اورد هذا المذهب) اي القول بدلالة اللفظ
لذاته (وابطله ثم تأوله) بما يأتي عنقريب فكيف يصح ان يكون هذا من تتمة اعتراض
المصنف على السكاكي مع كونه موافقا له في ابطال هذا المذهب وتأويله.
(فما اليق بهذا
الحال) أي حال بعض المشاهير (قول من قال) في شأن امثال بعض المشاهير (قل للذي يدعى
في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك
اشياء) وهي الأمور التي تدل على انه ليس من تتمة اعتراضه على السكاكي.
(فنقول هذا
ابتداء بحث) لا ربط له بما سبق من كلام المفتاح في مسئلة القرء (يعني ان دلالة
اللفظ على معنى دون معنى لا بد لها من مخصص لتساوي نسبته) أي اللفظ (الى جميع
المعاني) فدلالته على بعض دون بعض ترجيح بلا مرجح وذلك محال.
(فذهب المحققون
الى أن المخصص هو الوضع ومخصص وضعه لهذا دون ذاك هو إرادة الواضع) وفي الواضع أقوال
ذكرناها في المكررات في باب شرح الكلام (والظاهر أن الواضع هو الله تعالى على ما
ذهب اليه الشيخ أبو الحسن الأشعري من انه تعالى وضع الألفاظ ووقف عباده عليها
تعليما بالوحي أو بخلق الأصوات والحروف في جسم واسماع ذلك الجسم واحدا أو جماعة من
الناس) كما في تكلمه جل جلاله مع نبيه موسى (ع) في طور سيناء.
(أو بخلق علم
ضروري في واحد او جماعة وذهب بعضهم) وهو عباد بن سليمان الصيمري إلى ان المخصص
لدلالة هذا اللفظ على هذا المعنى دون غيره من المعاني (هو ذات الكلمة) فلا يحتاج
إلى مخصص آخر فلا يحتاج إلى وضع واضع (يعني أن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعية)
أي ذاتية (تقتضي اختصاص دلالة اللفظ على ذلك المعنى) دون غيره من المعاني فلا
يحتاج في دلالته الى ما ذكر.
(وأتفق الجمهور
على ان هذا القول فاسد لأن دلالة اللفظ على المعنى لو كانت لذاته كدلالته على
اللافظ) أي على وجوده وحياته فأن هذه الدلالة عقلية لا تنفك عنه أصلا (لوجب ان لا
تختلف اللغات بأختلاف الأمم) وقد اختلفت كما في لفظة دود فأنها بالفارسية بمعنى
الدخان وبالهندية بمعنى اللبن وبالعربية بمعنى الحيوان المعروف وكذلك لفظة سوفانها
بالفارسية بمعنى
الجانب وبالتركية بمعنى الماء.
(ولوجب ان يفهم
كل واحد معنى كل لفظ لأمتناع إنفكاك الدليل على المدلول كما ان كل أحد يفهم من كل
لفظ ان له لافظا) لأن الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر هو المدلول (ولأمتنع
جعل اللفظ المخصص بواسطة القرينة بحيث يدل على المعنى المجازي دون الحقيقي)
وبعبارة أخرى لأمتنع جعل لفظ الأسد مثلا بواسطة القرينة بحيث يدل على الرجل الشجاع
دون الحيوان المفترس (لأن ما بالذات) يعني الدلالة على المعنى الحقيقي (لا يزول
بالغير) أي بالقرينة.
(ولأمتنع نقله
من معنى) حقيقي (الى معنى) حقيقي (آخر بحيث لا يفهم منه عند الاطلاق) أي عند عدم
القرينة (إلا المعنى الثاني كما في الأعلام المنقولة وغيرها من المنقولات الشرعية
والعرفية) كزيد والصلوة والدابة (لما ذكر) آنفا من أن ما بالذات لا يزول بالغير.
(ولأمتنع وضعه
مشتركا بين المتنافيين) المتناقضين (كالناهل للعطشان والريان والمتضادين كالجون
للأسود والابيض) وإنما يمتنع ذلك (لاستلزامه ان يكون المفهوم من قولنا هو ناهل او
جون اتصافه بالمتنافيين) المتناقضين (أو المتضادين وهذا أولى من قولهم) في هذا
اللازم الرابع (لأن الأسم الواحد لا يناسب بالذات للنقيضين أو المتضادين) وإنما
كان هذا اولى منه (لأنه) أي عدم المناسبة المذكورة (ممنوع) اذ لا مانع من مناسبة
الشيء الواحد الضدين معا بجهتين مختلفتين) نظير تأثر الحاسة من البرودة والحرارة
والباصرة من البياض والسواد.
والحاصل ان
دلالة اللفظ على معناه لو كانت لذاته للزم عليه الأمور الأربعة المذكورة والحال
انها كلها باطلة فالملزوم مثله.
(وقد تأوله أي
القول بدلالة اللفظ لذاته السكاكي أي صرفه عن ظاهره وقال انه تنبيه على ما عليه
ائمة علمي الاشتقاق والتصريف) قد بينا الفرق بين العلمين في ديباجة المكررات فراجع
إن شئت (من أن للحروف في انفسها خواص) أي صفات (بها) أي بسبها (تختلف) اجناس
الحروف كما اختلفت مخارجها (كالجهر والهمس والشدة والرخاء والتوسط بينهما وغير ذلك)
من الاستعلاء والاستفال ونحوهما وقد بينا كل واحد منها في باب الأمالة من المكررات
مستقصى (وتلك الخواص تقتضى ان يكون العالم بها) أي بتلك الخواص (إذا أخذ) اي شرع (في
تعيين شيء) أي لفظ (مركب منها) اي من الحروف ذوات الخواص المختلفة (لمعنى لا يهمل
التناسب بينهما) أي بين اللفظ والمعنى (قضاء لحق الكلمة كالفصم بالفاء الذي هو حرف
رخوة) وقد وضع (لكسر الشيء من غير ان يبين) أي من غير ان يقع بين جزئي الشيء
المكسور بينونة وانفصال (والقصم بالقاف الذي هو حرف شديد) قد وضع (لكسر الشيء حتى
يبين) أي حتى تقع البينونة بين جزئيه.
والحاصل ان من
مقتضى حكمة الواضع أن لا يهمل المناسبة عند الوضع ولو جاز عقلا تركها فيضع مثلا ما
يشتمل على حرف فيه رخاوة لمعنى فيه رخاوة وسهولة كالفصم بالفاء الذي هو حرف رخو
وقد وضع لكسر الشيء بلا بينونة لأنه أسهل مما فيه بينونة ولذلك وضع له القضم
بالقاف الذي هو حرف شديد لأن الكسر مع البينونة أشد وكذا يضع ما فيه حرف مستعل لما
فيه علو وضده لضده وعلى هذا القياس.
(وإن لهيئات
تركيب الحروف) في الكلمة (أيضا خواص) تناسب معنى دون معنى (كالفعلان والفعلى
بالتحريك) أي بتحريك العين فيهما فقد وضعا لما فيه من جنس الحركة (كالنزوان) وهو
ضراب الذكر ونزوه على الانثى
(والحيدي) وهو قد وضع للحمار الذي له نشاط في حركاته بحيث انه إذا رأى ظله
ظنه حمارا حاد منه اي فر منه ليسبقه لنشاطه.
والحاصل انهما
قد وضعا لما ذكر (لما في مسماهما) أي فيما ذكر لهما من المعنى (من الحركة وكذا باب
فعل بضم العين مثل شرف وكرم) فأن هيئة هذا الباب مشتملة على الضم والضم نظرا إلى
معناه اللغوي أي جعل الشيء ضميمة ولازما لشيء آخر ناسب أن يكون مدلوله ضميمة
ولازما لشيء وبهذه المناسبة وضع هذا الباب (للأفعال الطبيعية اللازمة) للأنسان (وقس
على هذا) الذي ذكر سائر خواص الحروف والهيئات والتوفيق لفهم أمثال هذه الخواص
والمناسبات من منن عالم السر والخفيات.
ولما فرغ
الخطيب من الحقيقة المقابلة للمجاز اشار إلى تقسيم المجاز ثم إلى تعريفه فقال (والمجاز
في الأصل مفعل) أي انه بأعتبار أصله مصدر ميمي على وزن مفعل فأصله مجوز نقلت حركة
الواو للساكن قبلها ثم تحركت الواو بحسب الأصل وانفتح ما قبلها بحسب الآن فصار
مجازا لأن المشتقات تتبع الماضي المجرد في الصحة والأعلال كما في عدة ووعد
وإستحواذ وإستحوذ مأخوذ (من جاز المكان يجوزه إذا تعداه نقل) في الاصطلاح من
المصدرية (إلى الكلمة الجائزة أي المتعدية مكانها الأصلي) وحاصله ان لفظ مجاز في
الأصل أي في اللغة مصدر معناه الجواز والتعدية ثم نقل في الاصطلاح من المصدرية إلى
الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له بأعتبار انها جائزة ومتعدية مكانها الأصلي
فيكون بمعنى اسم الفاعل أو بأعتبار انها مجوز بها ومتعدى بها مكانها الأصلي فيكون
بمعنى اسم المفعول (كذا ذكره الشيخ في أسرار البلاغة) وحاصل كلامه أن المنقول في
الأصل كان اسم حدث (و) أما ما (زعم المصنف) في الايضاح فهو انه منقول من المستعمل
أسم مكان لأنه قال فيه
ما حاصله (ان الظاهر انه) أي لفظ المجاز منقول (من قولهم جعلت كذا) اي
الشيء الفلاني مجازا الى حاجتي أي طريقا لها) وهذا بناء (على ان معنى جاز المكان
سلكه) أي وقع عبوره وجوازه فيه (فأن المجاز طريق الى تصور معناه) المجازي المراد
منه بالقرينة.
لا يقال
الحقيقة كذلك طريق الى تصور معناها الموضوع فلتسم مجازا بهذا الأعتبار لأنا نقول
ما ذكر وجه للتسمية وترجيح لهذا الاسم في هذا المعنى على غيره وهو لا يقتضي أطراد
التسمية في كل ما وجد فيه ذلك الوجه المعتبر لأنه إنما أعتبر لأنشاء التسمية على
وجه الخصوص بالمسمى كما لا يلزم انتفاء ذلك الوجه بخلاف اعتبار المعنى في وصف شيء
بشيء فأنه يقتضى اطراد الوصف في كل ما وجد فيه ذلك المعنى وينتفي وصفه به عند
انتفاء ذلك المعنى أعتبر لصحة إطلاق الوصف والحقيقة وإن وجد فيها المعنى المذكور
وهو كونها طريقا الى تصور معناها لا تسمى مجازا إذ لا يطلق المجاز على معناه ليشعر
بالمعنى الذي أشتق منه فيتبعه ثبوتا ونفيا كما في الأوصاف بل اعتبر المعنى فيه
لترجيح الأسم للتسمية من غير قصد وضعه للمعنى الوصفي وإلى اجمال ما ذكرنا أشار
بقوله (واعتبار التناسب في تسمية شيء بأسم يغاير اعتبار المعنى في وصف شيء بشيء
كتسمية انسان له حمرة بأحمر ووصفه بأحمر فأن اعتبار التناسب في التسمية لترجيح
الأسم على غيره حال وضعه للمعنى وبيان انه اولى بذلك من غيره (و) اعتبار التناسب (في
الوصف لصحة إطلاقه) أي لصحة اطلاق الوصف على الموصوف (ولهذا يشترط بقاء المعنى في
الوصف) أي في التوصيف (دون التسمية فعند زوال الحمرة) عن الموصوف بلفظ أحمر (لا
يصح وصفه بأحمر حقيقة) نعم يصح وصفه بذلك مجازا بأعتبار إذا كان علما وان زال
الحمرة (فأعتبار المعنيين) أي الثبوت (في الحقيقة و)
ما كان (و) لكن (يصح تسمية) أي تسمية المسمى (بذلك) أي بلفظ احمر الطريق (في
المجاز ليس لصحة تسميتهما) اي ليس لصحة اطلاقهما أي ليس لصحة توصيف الحقيقة
والمجاز (بهما) اي باسم الحقيقة والمجاز (بل لا ولوية ذلك) الأسم (وترجيحه على
تسميتها بغيرهما من الأسماء فلا يصح في اعتبار تناسب التسمية ان ينقض بوجود ذلك
المعنى في غير المسمى) وبعبارة أخرى لا يصح في اعتبار كون المجاز طريقا الى المعنى
المراد منه النقض بوجود الطريقية في غير المجاز أي الحقيقة فبطل ما قلت من ان
الحقيقة كذلك طريق الى تصور معناها فلتسم مجازا بهذا الاعتبار.
(فالمجاز)
والمراد بالمجاز هنا ما ليس عقليا فانه سبق في المعاني فدخل فيه كما يأتي عنقريب
المجاز اللغوي والشرعي والعرفي (مفرد ومركب وحقيقة كل منهما تخالف حقيقة الآخر فلا
يمكن جمعهما في تعريف واحد) بحيث يحصل معرفة تمام حقيقة كل منهما بخصوصه وإلا فقد
يمكن جمع الانسان والحمار في تعريف واحد وقدم تقدم نظير ذلك قبيل تعريف الفصاحة في
المفرد مع توضيح منا فراجع ان شئت.
(اما) المجاز (المفرد
فهو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت تلك الكلمة (له) أي في معنى مغاير للمعنى
الذي وضعت الكلمة له فضمير وضعت ليس راجعا إلى ما بل راجع كما أشرنا إلى الكلمة
فكان الواجب إبراز الضمير لجريان الصلة على غير ما هي له كما قال ابن مالك :
وابرزنه
مطلقا حيث فلى
|
|
ما ليس معناه
له محصلا
|
(في اصطلاح به التخاطب) اي في
الأصطلاح الذي يقع بسببه التخاطب والتكلم (على وجه يصح) أي مع ملاحظة العلاقة
المصححة للمجاز لأن صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له تتوقف على ملاحظتها ولا
يكفي مجرد
وجودها ولذا صح تقريع ما يأتي من قوله فلا بد الخ عليه (مع قرينة عدم
إرادته اي إرادة ما وضعت) الكلمة (له) حاصله ان تكون الكلمة المستعملة في الغير
مصاحبة لقرينة دالة على عدم إرادة المتكلم للمعنى الموضوع له فقرينة المجاز مانعة
من إرادة المعنى الحقيقي هذا عند البيانيين وأما الأصوليون فقد جوز بعضهم الجمع
بين الحقيقة والمجاز في استعمال واحد فعليه لا يشترط في القرينة ان تكون مانعة عن
إرادة المعنى الحقيقي فعند هؤلاء يجب اسقاط القيد المذكور من التعريف ولا مشاحة في
الأصطلاح فتأمل.
(فأحترز)
الخطيب (بالمستعملة عما لم يستعمل) أي عن الكلمة الموضوعة غير المستعملة (فأن
الكلمة قبل الأستعمال) وبعد الوضع (لا تسمى مجازا كما لا تسمى حقيقة و) احترز (بقوله
في غير ما وضعت له عن الحقيقة مرتجلا كان) الضمير اسم كان راجع الى الحقيقة وإنما
ذكر الضمير بأعتبار أن الحقيقة لفظ ومرتجلا خبر مقدم و (او منقولا أو غيرهما) عطف
عليه والمراد بالمرتجل والمنقول ما أشار اليه الناظم بقوله :
ومنه منقول
كفضل واسد
|
|
وذو ارتجال
كسعاد وادد
|
والمراد
بغيرهما أي ما ليس مرتجلا ولا منقولا المشتقات فأنها ليست مرتجلة محضة لتقدم وضع
موادها ولا منقولة لعدم وضعها بنفسها قبل ما اشتقت له وكذلك المشترك فأنه تعدد فيه
وضع اللفظ من ملاحظة مناسبة بين كالمشتق فتأمل.
المعنيين مثلا
ولا يشترط فيه هجران المعنى الأول فهو مغاير للمرتجل والمنقول.
(وقوله في
اصطلاح به التخاطب) قد مر المراد منه (وهو متعلق بقوله وضعت) فحاصل المراد كونه
موضوعا له في ذلك الأصطلاح سواء حدث الوضع في ذلك الاصطلاح أو لا بل اقره اهل ذلك
الاصطلاح على الموضوع
له اولا كلفظ الأسد الذي وضع في اللغة للحيوان المفترس فأقره النحوي أو
العرف على ذلك المعنى (ليدخل فيه) أي في التعريف (المجاز المستعمل فيما وضع له في
اصطلاح آخر) أي غير الاصطلاح الذي وقع التخاطب فيه حاصله ان يكون مستعملا في غير
ما وضع له في اصطلاح المتكلم (كلفظ الصلوة إذا استعملها المخاطب) بكسر الطاء أي
المتكلم (بعرف الشرع في الدعاء مجازا فأنه) أي لفظ الصلوة (وإن كان مستعملا فيما
وضع له في الجملة) أي في بعض الاصطلاحات وهو اللغة (فليس بمستعمل فيما وضع له في
الاصطلاح الذي به وقع التخاطب أعني اصطلاح الشرع وكذا) العكس أي (إذا استعمله
المخاطب بعرف اللغة في الأركان المخصوصة) وقد تقدم نظير ذلك في تعريف الحقيقة
فراجع ان شئت.
(فلا بد)
للمجاز (من العلاقة) وهي بفتح العين في الاصل في المعاني وبالكسر في الحسيات وقيل
بالفتح مطلقا أي سواء كانت في المعاني كعلاقة المجاز والحب القائم بالقلب أو
المحسوسات كعلاقة السيف والسوط والمراد ههنا الأمر الذي به الأرتباط بين المعنى
الحقيقي والمعنى المجازي وبه الأنتقال من الأول للثاني كالمشابهة في مجاز
الأستعارة والسببية في المجاز المرسل وإنما اشترط في المجاز ملاحظة العلاقة بين
المعنى المجازي والمعنى الحقيقي ولم يصح ان يطلق اللفظ عليه بلا علاقة بأن يكتفي
بالقرينة الدالة على المراد لأن أطلاق اللفظ على غير معناه الأصلي ونقله له على ان
يكون الحقيقي أصلا والثاني فرعا تشريك بين المعنيين في اللفظ وتفريع لأحد
الأطلاقين على الآخر وذلك يستدعي وجها لتخصيص المعنى الفرعي بالشريك والتفريع دون
سائر المعاني وذلك الوجه هو المناسبة التي تسمى بالعلاقة وإلا فلا حكمة في التخصيص
فيكون تحكيما ينافي حسن التصرف في التأصيل والتفريع.
و (المعتبر) من
العلاقة (نوعها) ولذا صح انشاء المجاز في كلام المولدين فاذا عرفنا أن العرب القح
استعمل لفظا في سبب معناه أو في المسبب عن معناه أو في المشابه لمعناه جاز لتا أن
نستعمل لفظا مغايرا لما استعملوه لمثل تلك العلاقة لأن العرب القح قد اعتبر ذلك
ولا نقتصر على خصوص ذلك اللفظ الذي أستعمله ولو كان المعتبر شخص العلاقة لتوقف
استعمال اللفظ في معناه المجازي على النقل عن العرب في تلك الصورة مع انه ليس كذلك
وسيأتي الكلام في ذلك عند بيان انواع العلاقة على وجه كلى وإنما أعتبر نوع العلاقة
(لأن هذا) أي ثبوت العلاقة في المجاز (معنى قوله على وجه يصح وهو) أي قوله على وجه
يصح (متعلق بالمستعملة) وقد أشرنا اليه آنفا (فيخرج الغلط من تعريف المجاز كما
يقول خذ هذا الفرس) حالكونك (مشيرا إلى كتاب لأن هذا الأستعمال ليس على وجه يصح
لعدم العلاقة) بين الكتاب والفرس وقد أشير الى ذلك ايضا آنفا.
(ويخرج الكناية
أيضا بقوله مع قرينة عدم إرادته) أي مع عدم ارادة ما وضعت له (لأن لكناية) عند
المصنف (مستعملة في غير ما وضعت له مع جواز إرادته) فهي أي الكناية عنده واسطة أي
لا حقيقة ولا مجاز اما إنها ليست حقيقة فلأنها اي الحقيقة مستعملة فيما وضعت له
والكناية عنده ليست كذلك وأما انها ليست مجازا فلأنه اشترط فيه القرينة المانعة عن
إرادة الحقيقة والكناية ليست كذلك ولهذا أخرجها من تعريف المجاز.
فاللفظ
المستعمل في غير ما وضع له قد يكون مجازا وقد يكون كناية وقد يكون مرتجلا وقد يكون
منقولا والمنقول منه ما غلب في معنى مجازي للموضوع له الأول حتى هجر) المعنى (الأول
وهو في اللغة حقيقة في المعنى الأول ومجاز في) المعنى (الثاني وفي الاصطلاح
المنقول فيه بالعكس) أي مجاز
في المعنى الأول وحقيقة في المعنى الثاني (كلفظ الصلوة المنقول من الدعاء
إلى الأركان المخصوصة المشتملة على الدعاء فأنه في اللغة حقيقة في الدعاء مجاز في
الأركان المخصوصة وفي الشرع بالعكس) أي حقيقة في الأركان المخصوصة مجاز في الدعاء.
(ومنه ما غلب
في بعض أفراد الموضوع له الأول كلفظ الدابة فأنه إذا أطلقت على الفرس بأعتبار مجرد
انه يدب) أي يسير (على الأرض) مع قطع النظر عن كونه فرسا (تكون حقيقة) لأنه معناه
لغة لأنه وضع فيها لمطلق ما يدب على الأرض فرسا كان أو غيره فيكون ملاحظة الدبيب
لصحة الاطلاق على ذات ما له دبيب فالملحوظ اصالة هو ذات الفرس (و) إذا أطلقت عليه (بأعتبار
خصوصية الفرسية والدبيب جميعا تكون مجازا) لأنه من قبيل اطلاق لفظ الموضوع للجزء
على الكل.
(هذا من حيث
اللغة أما من حيث العرف) العام (فهي) أي لفظ الدابة (موضوعة له) أي للفرس (ابتداء)
فأنها في العرف العام موضوعة لذي القوائم الأربع المعهود وهو الحمار والبغل والفرس
(ورعاية معنى الدبيب إنما هي لمجرد المناسبة في التسمية) فلا يلزم منه صحة إطلاقها
على كل ما يوجد فيه الدبيب (بخلاف الحقيقة اللغوية فأن رعاية المعنى) أي الدبيب (فيها)
أي في لفظ الدابة في اللغة (لصحة الأطلاق حتى يصح إطلاق الدابة على كل ما يوجد فيه
الدبيب بخلاف المجاز فأن اعتبار المعنى الحقيقي فيه) أي في المجاز (إنما هو لصحة
اطلاق اللفظ) مجازا (على كل ما يوجد فيه لازم ذلك المعنى حتى يصح اطلاق) لفظ (الأسد)
مجازا (على كل ما يوجد فيه الشجاعة) التي هي لازم معنى الحقيقي أعني الحيوان
المفترس (ولا يصح إطلاق الدابة في العرف) العام (على كل ما يوجد فيه الدبيب) لأنه
في العرف موضوع لخصوص الثلاثة
المتقدمة لا لكل ما يوجد فيه الدبيب (و) كذلك (لا يصح اطلاق) لفظ (الصلوة
في الشرع على كل دعاء) لأنه في الشرع موضوع للأركان المخصوصة المشتمل على الدعاء
لا للدعاء المطلق.
(وكل منهما أي
من الحقيقة والمجاز لغوي وشرعي وعرفي خاص وهو ما يتبين ناقله عن المعنى اللغوي) اي
يكون ناقله عن المعنى طائفة مخصوصة من الناس ولا يشترط العلم بشخص الناقل (كالنحوي
والصرفي والكلامي وغير ذلك) كالمنطقي والأصولي ونحوهما وإنما لم يجعل الشرعي من العرفي
الخاص تشريفا له حيث جعل قسما مستقلا برأسه (وعرفي عام) وهو ما (لا يتعين ناقله)
عن اللغة أي ان ناقله عن اللغة لا يتعين بطائفة مخصوصة وان كان معينا في نفس
الأمر.
هذا كله في
المجاز (أما الحقيقة فلان واضعها إن كان وأضع اللغة فهي) حقيقة (لغوية وإن كان
الشارع فشرعية) وللأصوليين في الحقيقة الشرعية كلام مذكور في محله (وإلا فعرفية
عامة او خاصة وبالجملة تنسب) الحقيقة (إلى الواضع) اياما كان.
(وأما المجاز
فلان الاصطلاح الذي وقع به التخاطب وكان اللفظ مستعملا في غير ما وضع له في ذلك
الاصطلاح إن كان هو اصطلاح اللغة فالمجاز لغوي وإن كان اصطلاح الشرع فشرعي وإلا
فعرفي عام أو خاص).
أما الأمثلة
فهي (كأسد للسبع والرجل الشجاع يعني ان لفظ أسد إذا أستعمله المخاطب) أي المتكلم (بعرف
اللغة في السبع المخصوص يكون حقيقة لغوية وفي الرجل الشجاع يكون مجازا لغويا و)
كلفظ (صلوة للعبادة والدعاء يعني إذا أستعمل المخاطب بعرف الشرع لفظ الصلوة في
العبادة المخصوصة يكون حقيقة شرعية وفي الدعاء يكون مجازا و) كلفظ (فعل للفظ
والحدث
يعني إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في اللفظ المخصوص يكون حقيقة وفي
الحدث يكون مجازا و) كلفظ (دابة لذى الأربع) أي لذى القوائم الأربع المعهود (والانسان)
المهين (فأنها) أي الدابة (في العرف العام حقيقة في الاول مجاز في الثاني فما ذكره
بلفظ النكرة مثال للحقيقة والمجاز وما ذكره بعد كل نكرة من المعرفتين أشارة إلى
المعنى الحقيقي والمجازي) وذلك واضح.
ولما فرغ من
تعريف الحقيقة والمجاز وذكر أقسام كل منهما بالنسبة الى منشئه من اللغة والشرع
والعرف العام والخاص شرع في بيان قسمي المجاز الذي هو المقصود بالذات في هذا الباب
وهما المجاز المرسل والاستعارة وفي بيان أقسام كل منهما وقدم اقسام المرسل لقلة
الكلام والبحث فيها فقال (والمجاز مرسل ان كانت العلاقة المصححة) للتجوز (غير
المشابهة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي) كما إذا كانت سببية أو مسببية أو
غيرهما مما يأتي عنقريب وإنما سمي حينئذ مرسلا لأرساله اي اطلاقه عن التقييد
بعلاقة المشابهة فيصح جريانه في عدة من العلاقات كما يتضح ذلك فيما يأتي من
أمثلته.
(وإلا) أي وان
لم تكن العلاقة المصححة للتجور غير المشابهة بل كانت نفس المشابهة كما في اطلاق
لفظ الأسد على الرجل الشجاع (فأستعارة فالأستعارة على هذا هو اللفظ المستعمل فيما
شبه بمعناه الأصلي كأسد في قولنا رأيت أسدا يرمي) ومن هنا عرفوا الأستعارة بأنها
اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي للعلاقة التي هي المشابهة كلفظ الأسد في
قولنا رأيت أسدا يرمي فالأستعارة على هذا من باب المصدر بمعنى اسم المفعول كما
قالوا في المنطق ان العكس بمعنى المعكوس أي الجملة المعكوسة وحينئذ لا يصح منه
الأشتقاق لكونه اسما للفظ لا للحدث والمشتق منه يجب أن يكون حدثا
(وكثيرا ما تطلق الأستعارة على فعل المتكلم اعني على استعمال اسم المشبه به)
أي لفظ الأسد مثلا (في المشبه) أي في الرجل الشجاع (وحينئذ تكون) الأستعارة (بمعنى
المصدر) الخالص (فيصح منه الأشتقاق ويكون المتكلم مستعيرا ولفظ المشبه به) أي لفظ
الأسد مثلا (مستعارا والمعنى المشبه به) يعني الحيوان المفترس (مستعارا منه
والمعنى المشبه) يعني المسمى بزيد أي الرجل الشجاع (مستعارا له والى هذا) الاشتقاق
(أشار بقوله فهما أي المشبه به والمشبه مستعار منه ومستعار له واللفظ أي لفظ
المشبه به مستعار) وذلك (لأن اللفظ بمنزلة لباس طلب عارية من المشبه به لأجل
المشبه و) الضرب الأول أي المجاز) المرسل وهو ما كان العلاقة غير المشابهة كاليد)
إذا استعملت (في النعمة وهي موضوعة للجارحة المخصوصة لكن من شأن النعمة أن تصدر
منها وتصل الى) المنعم عليه (المقصود بها) أي بالنعمة فالجارحة المخصوصة بمنزلة
العلة الفاعلية لها) أي للتعمة (وايضا بها) اي بالجارحة المخصوصة (تظهر النعمة فهي
بمنزلة العلة الصورية لها) أي للنعمة إذ بها تظهر النعمة كما يظهر المعلول بصورته
وقد ثبت في العلم الأعلى ان شيئية الشيء بصورته لا بمادته فيكون العلاقة المسببية
إذ قد أطلق اسم السبب وهو اليد واريد المسبب أي النعمة لأن اليد سبب في صدور
النعمة ووصولها الى الشخص المقصود بها (ومع هذا فلا بد من اشارة إلى المنعم) بكسر
الشين إذ بدونه لا ينتقل الذهن بسهولة الى النعمة اذ لا قرينة جلية خيره فيخل
بأنتقال الذهن من الملزوم الى اللازم فيكون الكلام موصوفا بالتعقيد المعنوي المخل
بالفصاحة (مثل كثرت أيادي فلان عندي وجلت يده لدى ونحو ذلك بخلاف اتسعت اليد في
البلد) اذ لا قرينة جلية على أن المراد باليد النعمة فلا يصح.
(والقدرة أي
وكاليد) اذا أستعملت (في القدرة) والعلاقة فيه ايضا المسببية (لأن أكثر ما يظهر
سلطان القدرة في اليد وبها يكون الأفعال الدالة على القدرة من البطش والضرب والقطع
والاخذ وغير ذلك) كالدفع والمنع ونحوهما.
(وأما اليد في
قوله (ص) المؤمنون تتكافؤ دمائهم) اي يتساوى دمائهم أي لأفضل في القصاص لشريف على
وضيع (ويسعى بذمتهم ادناهم) أي إذا اعطى رجل منهم امانا فليس للباقين نقضه (وهم يد
على من سواهم فمن باب التشبيه) لا المجاز (أي هم) اي المؤمنون (مع كثرتهم في وجوب
الاتفاق بينهم مثل اليد الواحدة فكما لا يتصور ان يخذل بعض أجزاء اليد بعضا وإن
يختلف بها الجهة في التصرف كذلك سبيل المؤمنين) أي طريقتهم (في تعاضدهم على
المشركين) وسائر الكفار (لأن كلمة التوحيد جامعة لهم وما ذكره الشيخ في أسرار
البلاغة من ان اليد ههنا أستعارة فهو مبني على ما نقلناه عنه) في ذبل بحث التشبيه (من
ان المشبه به إذا كان مما لا يحسن دخول أداة التشبيه عليه فأطلاق الاستعارة عليه
بمحل من القبول وههنا كذلك إذ لا يحسن ان يقال هم كيد على من سواهم) فتأمل.
(والرواية) إذا
أستعملت (في المزادة أي في المزود الذي يجعل فيه الزاد أي الطعام المتخذ للسفر والراوية
في الاصل أسم للبعير الذي يحمل المزادة).
وفي الصحاح
الراوية البعير والبغل والحمار الذي يستقى عليه والعامة تسمى المزادة راوية وذلك
جائز على الاستعارة أنتهى وقال في المصباح روي البعير الماء يرويه من باب رمى حمله
فهو راوية الهاء فيه للمبالغة ثم أطلقت الراوية على كل دابة يستقى الماء عليه وقال
أيضا المزادة سطر الراوية بفتح
الميم والقياس كسرها لأنها ألة يستقى فيها الماء وجمعها مزايد وربما قيل
مزاد بغير هاء والمزادة مفعلة من الزاد لأنه يتزود فيها الماء انتهى ومما نقلناه
يعلم ان ما ذكره التفتازاني في المقام كأنه من سقطات القلم (و) كيف كان (العلاقة
كون البعير حاملا لها) أي مجاورا لها عند الحمل فسميت المزادة راوية للمجاورة
والمتجاور ان ينتقل من أحدهما الى الآخر ويحتمل ان يكون التسمية لعلاقة الحال
والمحل ويأتي بيان ذلك عنقريب.
(ولما ذكر
للمجاز المرسل عدة أمثلة) من دون أن يبين نوع العلاقة فيها (أراد أن يشير إلى عدة
انواع العلاقة على وجه كلي ليقاس عليها) جزئياتها (وذلك لأن العلاقة يجب ان يكون
مما اعتبرت العرب نوعها ولا يشترط النقل عنهم في كل جزئي من الجزئيات لأن أئمة
الأدب كانوا يتوقفون في الأطلاق المجازي على ان ينقل من العرب نوع العلاقة ولم
يتوقفوا على أن يسمع احادها وجزئياتها مثلا يجب ان يثبت ان العرب يطلقون اسم السبب
على المسبب) أياما كانا (ولا يجب ان يسمع أطلاق) خصوص (الغيث على النبات وهذا معنى
قولهم المجاز موضوع بالوضع النوعي لا بالوضع الشخصي وأنواع العلاقة المعتبرة كثيرة
يرتقى ما ذكروه الى خمسة وعشرين) وقال في مفاتيح الاصول وعن الصفي الهندي الذي
يحضرنا من أنواعها احدى وثلثون وقال الحاجبي كما عن الامدي انها خمسة ويستفاد من
كلام السيد الاستاذ ان علائق المجاز ليست بمحصورة فأنه قال التحقيق أن العلاقة غير
متوقفة على السماع ولا محصورة فيما ذكروه من الانواع فأنهم عرفوا العلاقة بأنها
إتصال ما للمعنى المستعمل فيه بالمعنى الموضوع له وهو غير محصور ولذا نرى أن
الأصوليين وارباب البيان لم يقفوا منها على حد مضبوط ولا عدد معلوم فأن اللاحق
منهم يزيد على الاول بحسب استقرائه وتتبعه حتى حكى عن
الصفي الهندي انه قال الذي يحضرنا الخ انتهى وهو جيد أنتهى كلام مفاتيح
الأصول.
(والمصنف قد
اورد هنا تسعة غير ما سبق اولا في اطلاق اليد على النعمة والقدرة بعلاقة السببية
الصورية) حسب ما بيناه آنفا (واطلاق الراوية على المزادة بعلاقة المجاورة) أول الحال
والمحل كما قلنا آنفا.
(فقال ومنه أي
ومن المجاز المرسل تسمية الشيء باسم جزئه يعني ان في هذه التسمية مجازا مرسلا وهو
اللفظ الموضوع لجزء الشيء عند اطلاقه على ذلك الشيء لا أن نفس التسمية مجاز ففي
العبارة) يعني في قوله ومنه تسمية الشيء بأسم جزئه (تسامح) لأن ظاهر العبارة ان
المجاز نفس التسمية مع أن المجاز هو اللفظ الذي كان للجزء واطلق على الكل للملابسة
(كالعين وهي الجارحة المخصوصة) إذا استعمل (في الربيئة وهي الشخص الرقيب) وهو في
الأصل المشرف والحافظ على الشيء والمراد هنا الشخص المسمى بالجاسوس الذي يطلع على عورات
العدو أي على خفايا أموره (والعين جزء منه) فأستعمل فيه كله (وذلك) الأستعمال (لأن
العين لما كانت هي المقصودة في كون الرجل ربيئة لأن غيرها من الاعضاء مما لا يغنى)
أي لا يفيد (شيئا بدونها وصارت العين كأنه الشخص كله) والحاصل أن العين لم يطلق
على الربيئة من حيث انه انسان بل من حيث انه رقيب ومن المعلوم أن الربيئة إنما
تحقق كونه شخصا رقيبا بالعين إذ لولاها لأنتفت عنه القريبية والى ذلك أشار بقوله (فلا
بد في الجزء المطلق على الكل من ان يكون له فريد اختصاص بالمعنى الذي قصد بالكل
مثلا لا يجوز اطلاق اليد والأصبع على الربيئة وان كان كل منهما جزء منه) أي من
الربيئة.
(وعكسه أي ومنه
عكس المذكور يعني تسمية الشيء بأسم كله كالاصابع)
إذا استعملت (في الأنامل) كما (في قوله تعالى (يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ)) أي اناملهم ((فِي آذانِهِمْ مِنَ
الصَّواعِقِ) والأنملة جزء من الأصابع) والقرينة استحالة دخول
الأصابع بتمامها في الأذن (والغرض منه المبالغة كأنه يجعل جميع الاصابع في الأذن
لئلا يسمع شيئا من الصاعقة) ومن أقسام المجاز اسم الكلي اذا استعمل في الجزئي
وسياتي بيانه عند قول الخطيب ودليل إنها أي الأستعارة مجاز لغوي الخ (وتسمية اي ومنه
تسمية الشيء بأسم سببه نحو رعينا الغيث أي النبات الذي سببه الغيث او تسمية الشيء
بأسم مسببه نحو امطرت السماء نباتا اي غيثا يكون النبات مسببا عنه وقد ذكر) الخطيب
في الايضاح في امثلة تسمية السبب بأسم المسبب قولهم فلان أكل الدم) أي الدية (و)
لكن (ظاهر انه سهو لأنه من تسمية المسبب بأسم السبب) لا العكس إذ) من المعلوم أن (الدم)
الحاصل من القتل (سبب الدية) ومما يؤيد سهو الخطيب (و) يوجب (العجب إنه) صرح بما
يثبت انه سهو لأنه (قال في تفسيره اي الدية المسببة عن الدم (أو بأسم ما كان عليه
أي تسمية الشيء بأسم الشيء الذي كان هو عليه في الزمان الماضي نحو (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) اي الذين كانوا يتامى قبل ذلك لأنه لا يتم بعد البلوغ)
إذ بعده يعد الانسان من الرجال.
(او تسمية
الشيء بأسم ما يؤل ذلك الشيء اليه في الزمان المستقبل نحو (أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) اي عصيرا يؤل الى الخمر) الأولى ان يقول اي عنبا يؤل
عصيره الى الخمر لأن العصير لا يعصر (أو تسمية الشيء بأسم محله) اي بأسم المكان
الذي يحل فيه ذلك الشيء (نحو (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) اي اهل نادية الحال فيه والنادي المجلس) ويحتمل ان يكون
هذا من قبيل المجاز في الحذف كما يأتي في آخر المبحث في قوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (او تسمية الشيء باسم حاله
أي بأسم ما يحل في ذلك الشيء) فيكون على عكس ما قبله (نحو (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ
وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) اي في الجنة التي تحل فيها الرحمة او تسمية الشيء بأسم
الته نحو واجعل لي لسان صدق في الآخرين اي ذكرا حسنا واللسان اسم دلالة الذكر)
والفرق بين الالة والسبب ان الألة هي الواسطة بين الفعل وفاعله والسبب ما به وجود
الشيء فاللسان الة للذكر الحسن لا سبب له ورد بعضهم هذا الفرق بأنه قد يقال ان
الالة بها وجود الشيء فأدخل الالة في السبب فجعلها من جملة أفراده وفيه نظر يظهر
وجهه بالتأمل الصادق.
فأن قلت لم ذكر
الخطيب المعنى المجازي في المثالين الآخيرين دون ما عداهما من الأمثلة السابقة قلت
(لما كان في) مجازية (الآخيرين نوع خفا) لأن المعنى المجازي فيهما لا يظهر ظهوره
في الأمثلة السابقة لأن استعمال الرحمة في الجنة واللسان في العام ولذا حمل
الزمخشري الرحمة على الثواب المخلد والظرفية على الأتساع وقيل في الثاني ان المعنى
اجعل لي لسانا ينطق بالصدق في الآخرة (صرح به) أي بالخفاء أي بمزيلة وهو ما بعد اي
البفسيرية (في) هذا (الكتاب) اي المتن.
(فان قلت قد
ذكر في مقدمة هذا الفن ان مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم) وذلك
حيث قسم الدلالة ثم قال ويتأتى بالعقلية الخ (و) الحال ان (بعض أنواع العلاقة بل
أكثرها لا يفيد اللزوم) بالمعنى الذي مر في المقدمة وهو ان يكون المعنى الحقيقي
الموضوع له اللفظ بحيث يلزم من حصوله في الذهن حصول المعنى المجازي أما على الفور
أو بعد التأمل في القرائن فاذا كان اكثر هذه العلائق لا يفيد اللزوم فلا وجه
لجعلها علاقات فأن معنى اليتامى مثلا لا يستلزم معناه المجازي الذي هو البالغون
وكذا العنب
لا يستلزم الخمر وكذا النادي لا يستلزم اهله لصحة خلوه عنهم وكذا الرحمة لا
تستلزم الجنة لصحة وقوعها في غيرها كما في الدنيا وكذا اللسان لا يستلزم مطلق
الذكر لصحة السكوت.
(قلت يعتبر في
جميعها اللزوم) الذي مر في المقدمة بالمعنى المذكور (بوجه ما) اي في الجملة
وبعبارة اخرى ليس المراد باللزوم هنا اللزوم الحقيقي أعني امتناع الأنفكاك في
الذهن أو الخارج بل المراد به الاتصال بين المعنيين الحقيقي والمجازي ولو في
الجملة أي في بعض الأحيان فينتقل من أحدهما الى الآخر وهذا متحقق في جميع انواع
العلاقة (اما في الاستعارة) نحو جائني أسد يرمى (فظاهر لأن وجه الشبه إنما هو أخص
اوصاف المشبه به فينتقل الذهن من المشبه به) أي الأسد أي الحيوان المفترس الذي هو
المعنى الحقيقي (اليه) أي إلى الشجاع الذي هو المعنى المجازي (لا محالة فالأسد) أي
لفظة (مثلا إنما يستعار للشجاع لا لزيد أو عمرو على الخصوص ولا شك في انتقال الذهن
من الأسد) أي من معناه الحقيقي (إلى الشجاع) الذي هو معناه المجازي.
(وأما في غيرها)
أي في غير الاستعارة (فيظهر) اللزوم في الجملة (بأيراد كلام ذكره بعض المتأخرين
وهو ان اللفظ إذا اطلق على غير ما وضع له فأما أن يكون الغير مما يتصف بالفعل) اي
لا بالقوة اي يتصف (بالمعنى الموضوع له في زمان سابق) كما في وأتوا اليتامى (او)
في زمان (لاحق) كما في اراني اعصر خمرا (فهو مجاز بأعتبار ما كان او بأعتبار ما
يؤل) الأول للأول والثاني للثاني (او) يكون الغير مما يتصف (بالقوة) بالمعنى
الموضوع له أي لا فعلية له لا في زمان سابق ولا في زمان لاحق (فمجاز بالقوة) أي
فهو مجاز بالقوة (كالمسكر) أي كأستعمال المسكر (للخمر التي أريقت) فأن
إتصافها بالمسكرية إنما هو بالقوة لا بالفعل.
(واذا كان ذلك
الغير مما يتصف بالمعنى الحقيقي) الموضوع له (في الجملة) حسبما بيناه (فالذهن
ينتقل من المعنى الحقيقي) الموضوع له (اليه) أي الى غير ما وضع له (في الجملة و)
من اجل كفاية هذا القدر من اللزوم قالوا إنه (لا يشترط ان يلزم من تصوره) أي
المعنى الحقيقي (تصوره) أي الغير الذي هو المعنى المجازي.
(واللزوم) بين
المعنيين (أما ذهني محض) بحيث لا لزوم في الخارج (كأطلاق البصير على الأعمى) فأنه
لا لزوم بينهما في الخارج لكنه قد ينتقل الذهن من البصير إلى الأعمى بأعتبار
المقابلة التي بين العمى والبصر إذ العمى عبارة عن عدم البصر عما من شأنه ان يكون
بصيرا فبينهما تقابل العدم والملكة فتأمل.
(او منضم) ذلك
اللزوم الذهني (إلى لزوم خارجي بحسب العادة) والعرف كأطلاق الغائط الذي معناه كما
في المصباح المطمئن الواسع من الأرض على مدفوع الانسان فأنه لما كان في عرف
المتمسكين بالآداب الانسانية قضاء الحاجة في المكان المطمئن أي المنخفض المستور عن
العيون حصل بينهما ملازمة عرفية.
قال في المصباح
أطلق الغائط على الخارج المستقذر من الأنسان كراهة لتسميته بأسمه الخاص لأنهم
كانوا يقضون حوائجهم في الموضع المطمئنة فهو من مجاز المجاورة ثم توسعوا فيه حتى
اشتقوا منه وقالوا تغوط الانسان انتهى.
(او) منضم إلى
لزوم خارجي (بحسب الواقع) وله أمثلة كثيرة منها أطلاق السبب على المسبب (وحينئذ)
أي حين اذ كان اللزوم الذهني منضما
إلى اللزوم الخارجي (أما ان يكون أحدهما) اي المعنى الحقيقي والمجازي (جزء
للآخر كالقرآن للبعض) أي كأستعمال القرآن الموضوع لمجموع ما بين الدفتين في سورة
أو آية (والرقبة للعبد) أي كأستعمال الرقبة في العبد والجزئية في المثالين واضح
كالنار على المنار.
(او) يكون
احدهما (خارجا عنه) أي عن الآخر (واللزوم بينهما) حينئذ (قد يكون بحصول أحدهما في
الآخر كالحال والمحل) وقد تقدم مثاله (أو سببية احدهما للآخر) قد تقدم أيضا مثاله
بقسميه (او مجاورتهما) وقد ذكرنا مثاله نقلا عن المصباح (أو يكون احدهما شرطا
للآخر) كأطلاق الايمان على الصلوة في قوله تعالى (ما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) فأن المراد من الأيمان الصلوة نحو بيت المقدس وكون
الايمان شرطا للصلوة بل لجميع العبادات من الواضحات (فجميع ذلك يشتمل على لزوم) ما
أي في الجملة (ولهذا) أي والاعتبار اللزوم في الجملة (يشترط في اطلاق الجزء على
الكل إستلزام الجزء للكل كالرقبة والرأس مثلا فأن الأنسان لا يوجد بدونهما بخلاف
اليد) والأصبع ونحوهما (فأنه لا يجوز اطلاقها على الانسان وأما اطلاق العين) التي
هي جزء يوجد الانسان بدونها (على الربيئة فليس من حيث انه) اي الربيئة (انسان بل
من حيث انه رقيب وهذا المعنى) اي كونه رقيبا (لا يتحقق بدون العين فأفهم) فأن
الفرق دقيق.
(وبالجملة إذا
كان بين الشيئين علاقة) بنحو من الأنحاء (فلا محالة يكون أنتقال الذهن من احدهما
إلى الآخر في الجملة) وفي بعض الاحيان (وهذا معنى اللزوم في هذا المقام) لا أمتناع
الأنفكاك في الذهن أو الخارج.
(والأستعارة
وهي ما) أي مجاز (كانت علاقته المشابهة) بين المعنيين الحقيقي والمجازي (أي قصد ان
إطلاقه على المعنى المجازي بسبب تشبيهه
بمعناه الحقيقي) أشار بهذا إلى ان وجود المشابهة في نفس الأمر بدون قصدها
لا يكفي في كون اللفظ استعارة بل لا بد من قصد ان اطلاق اللفظ على المعنى المجازي
بسبب التشبيه بمعناه الحقيقي لا بسبب علاقة أخرى غيرها مع تحققها (فاذا أطلق لفظ
المشفر) بكسر الميم شفة البعير (على شفة الانسان فأن أريد تشبيهها بمشفر الأبل في
الغلط فهو استعارة وان أريد انه) بعلاقة (اطلاق المقيد على المطلق كأطلاق المرسن)
بفتح الميم وكسر السين وفتحها أيضا على الأنف) أي انف الأنسان والمرسن مكان الرسن
من البعير أو الدابة مطلقا ومكان الرسن هو الأنف لأن الرسن عبارة عن حبل يجعل في
انف البعير (فمجاز مرسل) أي فالمشفر مجاز مرسل كالمرسن (فاللفظ الواحد بالنسبة الى
المعنى الواحد يجوز ان يكون استعارة وان يكون مجازا مرسلا بأعتبارين) كما بينا
وسيأتي الكلام فيه أيضا عند تقسيم الأستعارة بأعتبار الجامع (قد تقيد بالتحقيقية)
اعلم ان الاستعارة تنقسم الى ثلاثة اقسام الأول التحقيقية وهي على ما يذكره الآن
ان يذكر المشبه به ويراد به المشبه ويكون المشبه أمرا تحقيقا اما حسا او عقلا
والثاني التخييلية والثالث الأستعارة بالكناية وسيأتي بيان كل واحد منهما مفصلا ان
شاء الله تعالى.
(وبهذا القيد)
أي التحقيقية (تتميز عن التخييلية والمكنى عنها وإنما سمى تحقيقية لتحقق معناها أي
ما عنى بها واستعملت هي فيه) أي معناه المجازي (حسا او عقلا بأن يكون ذلك المعنى)
المجازي (أمرا معلوما يمكن ان ينص عليه ويشار اليه أشارة حسية) أي اشارة منسوبة
الى حاسة البصر أو مطلق الحواس على الاختلاف في المشار إليه بأسم الاشارة (أو)
يشار إليه اشارة (عقلية) وذلك بأن لا يدرك معناه المجازي بالحواس بل بالعقل بأن
كان له تحقق وثبوت في نفسه بحيث لا يصح للعقل نفيه في نفس الأمر والحكم
ببطلانه فتصح الأشارة اليه أشارة عقلية بأن يقال هذا الشيء الثابت عقلا هو
الذي نقل له اللفظ وهذا بخلاف الأمور الوهمية فأنها لا ثبوت لها في نفسها بل بحسب
الوهم ولذا كان العقل لا يدركها ثابتة ويحكم ببطلانها دون الوهم.
والى ما ذكرنا
أشار بقوله (فيقال ان اللفظ في التشبيه نقل عن مسماه الأصلي) أي الحقيقي (فجعل)
اللفظ (أسما لهذا المعنى) المجازي (على سبيل الأعارة للمبالغة في تشبيهه بالمعنى
الموضوع له) أي الحقيقي.
(فالحسي كقوله
أي قول زهير بن ابي سلمى لدى أسد شاكي السلاح اي تام السلاح بالكسر وهو ما يقاتل
به في الحرب ويدافع) فشاكي صفة مشبهة أضيفت إلى الفاعل اي تام سلاحه والأضافة
لفظية لا تفيد تعريفا فلذا وقع صفة للنكرة وهو مأخوذ من الشوكة قال في المصباح
الشوكة شدة الباس والقوة في السلاح وشاك الرجل يشاك شوكا من باب خاف ظهرت شوكته
وحدته وهو شائك السلاح وشاكي السلاح على القلب وشوكة المقاتل شدة بأسه انتهى
والمراد من القلب النقل المكاني إذ الأصل شاوك فصار شائك مثل قائل فنقل العين أي
الواو قبل الأعلال أي قبل إبداله بالهمزة او بعده الى موضع اللام واللام أي الكاف
الى موضع العين فصار شاكي على وزن فالع فتدبر جيدا.
(وكذا) في
المعنى (شائك السلاح وشاك السلاح) واما قوله (بالقلب والحذف) فهو راجع الى الثاني
أي شاك لا الى الأول أي شاك كما توهمه بعض المحشين.
قال في شرح
النظام في باب الاعلال ونحو شاك بالكسر رفعا لشجر ذي شوك ولتام السلاح وشاك بالضم
رفعا شاذ لأنه معتل العين والاصل فيه أن
يقال شائك مثل قائل فلو قلبت العين الى موضع اللام واللام الى موضع العين
وقيل شاكي على وزن فالع واعل اعلال قاض واعرب أعرابه او حذف العين حتى يبقى شاك
واعرب أعراب زيد كان كلا الوجهين شاذا انتهى وههنا وجه ثالث نقله الرضي عن سيبويه
وهذا نصه انهم انما التجأوا إلى القلب في لاث وشاك خوفا من الهمزة بعد الالف وأما
في نحو جاء (اسم فاعل جاء يجييء) فيلزم همزة واحدة بعد الالف سواء قلب اللام الى
موضع العين أولا قال سيبويه وأكثر العرب يقولون لاث وشاك بحذف العين الى أن قال
ويجوز ان يكون اصل لاث وشاك لوث وشوك مبالغة لائث وشائك كعمل في عامل وليث في لائث
فيكونان ككبش صاف ويوم راح انتهى.
(مقذف أي رجل
شجاع قذف) بكسر الذال مخففة في الموضعين لا مشددة كما توهم وإلا صار كثيرا ضايعا
فتأمل (به كثيرا إلى الوقائع) والحروب (وقيل قذف باللحم ورمى به) تفسير لما قبله
أي زاد الله اجزاء لحمه حتى صار لحمه كثيرا (فصار له جسامة) أي عظمة في البدن (ونبالة)
عطف تفسير لجسامة (تمامه) أي تمام البيت (له لبد اظفاره لم تقلم) قال في المصباح
اللبد وزان حمل ما يتلبد من شعر او صوف واللبدة اخص منه انتهى وإلى الأخصية أشار
بقوله (لبدة الأسد ما تلبد من شعره على منكبيه والتقليم مبالغة القلم وهو القطع
فالأسد ههنا مستعار للرجل الشجاع وهو أمر متحقق حسا) يشار اليه بالبصر.
(وقوله أي
والعقلي كقوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ)) وهو في الأصل الطريق الذي لا اعوجاج فيه استعير لأمر
عقلي (أي الدين الحق وهو ملة الأسلام) أي الاحكام الشرعية (وهذا) المعنى المجازي
للصراط ألمستقيم (امر متحقق عقلا لا حسا) ووجه الشبه التوصل الى المطلوب في كل من
المعنيين.
(وذكر صاحب
المفتاح في قوله (فَأَذاقَهَا اللهُ
لِباسَ الْجُوعِ) أن الظاهر من اللباس عند أصحابنا) البيانيين (الحمل على
التخييل) أي الاستعارة التخييلية وذلك بأن يشبه الجوع في التأثير بذي اللباس القاصد
للتأثير المبالغ فيه فيخرج له حينئذ صورة وهمية شبيهة باللباس ويطلق عليه اسمه كما
يأتي انه معنى التخييل على رأي السكاكي.
(وإن كان يحتمل
عندي ان يحمل على التحقيق) أي الاستعارة التحقيقية (وهو ان يستعار لما يلبسه
الأنسان عند جوعه من انتقاع اللون وتغيره) عطف تفسير لما قبله (ورثاثة الهيئة) أي
ضعفها وحقارتها (وفيه) اي في نسبة القول بالتخييل إلى الأصحاب (بحث لأن كلام صاحب
الكشاف) وهو من أعاظم هذا الفن (مشعر بأنه) أي اللباس في الآية (استعارة تحقيقية
يحتمل ان تكون عقلية وان تكون حسية) وإنما قلنا انه مشعر بذلك (لأنه قال) في تفسير
الآية (شبه ما غشى الانسان والتبس به من بعض الحوادث باللباس لأشتماله على اللابس
والحادث الذي غشيه يحتمل أن يريد به الضرر الحاصل من الجوع فتكون عقلية و) يحتمل (ان
يريد انتقاع اللون ورثاثة الهيئة) أي سيئها (فتكون حسية كما ذكره السكاكي) وقد ذكر
آنفا.
(وبالجملة ليس
المشبه هو الجوع بل الأمر الحادث عنده فتوهم كونه تشبيها لا استعارة غلط على ما
وقع في بعض الشروح من انه تشبيه من قبيل لجين الماء) وقد تقدم ذلك في أول بحث
تقسيم التشبيه بأعتبار اداته مفصلا فراجع ان شئت.
(قال المصنف)
في الأيضاح والمقصود من نقله لكلام المصنف أفادة أن المصنف يجعل نحو زيد اسد ورأيت
زيدا اسدا ورأيت به اسدا تشبيها بليغا
على ما تقدم في أول بحث التشبيه لا استعارة فأنه قال (فالاستعارة ما) أي
مجاز (تضمن تشبيه معناه) المجازي (بما وضع له) أي معناه الحقيقي (والمراد بمعناه
ما) أي المعنى المجازي الذي (عني باللفظ) أي بلفظ اسد مثلا (واستعمل اللفظ فيه) أي
في المعنى المجازي (فعلى هذا) التعريف للأستعارة (لا يتناول قولنا) في التعريف (ما
تضمن تشبيه معناه بما وضع له) أي بمعناه الحقيقي لا يتناول قولنا المذكور (اللفظ
المستعمل فيما وضع له) وذلك لأن اللفظ المستعمل فيما وضع له ليس بمجاز بل هو حقيقة
(وان تضمن تشبيه شيء بشيء) بواسطة اجرائه على المبائن (نحو زيد اسد ورأيت زيدا
واسدا ورأيت به اسدا لأنه إذا كان معناه) المستعمل هو فيه (عين المعنى الموضوع له
لم يصح تشبيه معناه) المستعمل هو فيه (بالمعنى الموضوع له) الذي هو عين المعنى
الحقيقي المستعمل هو فيه (الاستحالة تشبيه الشيء بنفسه) والتحقيق (على ان) لفظة (ما
في قولنا ما تضمن) تشبيه معناه بما وضع له (عبارة عن المجاز أي) الاستعارة (مجاز
تضمن) تشبيه معناه بما وضع له) وذلك (بقرينة تقسيم المجاز الى الأستعارة وغيرها و)
الحال ان لفظة (أسد في الأمثلة المذكورة ليس بمجاز لكونه مستعملا فيما وضع له) على
ما هو مفروض المقام الى هنا كان الكلام فيما ذكره المصنف في الايضاح وحاصله كما
قلنا آنفا ان لفظ اسد في الأمثلة المذكورة ونحوها تشبيه فليس بمجاز واستعارة لكونه
مستعملا فيما وضع له.
(وفيه) أي فيما
ذكره المصنف من ان لفظ اسد في الأمثلة المذكورة ونحوها (مستعمل فيما وضع له (نظر
لأنا لا نسلم ان أسدا في نحو زيد اسد مستعمل فيما وضع) يعني الحيوان المفترس (بل
هو مستعمل في معنى الشجاع فيكون مجازا واستعارة كما في رأيت اسدا يرمى بقرينة حمله
على زيد)
لأن الحمل مانع عن كون المراد بأسد الحيوان المفترس لامتناع حمل المباين
على المباين فليس بتشبيه (ولا دليل لهم على أن أداة التشبيه ههنا محذوفة وان
التقدير زيد كأسد) حتى يكون تشبيها كما توهمه المصنف.
(فأن قلت) كيف
لا تسلم انه تشبيه وان ههنا أداة التشبيه محذوفة والحال انه (قد استدل صاحب
المفتاح على ذلك بأنك اذا قلت زيد أسد اوقعت أسدا على زيد ومعلوم ان الأنسان لا
يكون اسدا) لكونه مباينا له (وجب المصير الى التشبيه بحذف أداته قصدا الى المبالغة)
وقد تقدم بيان المبالغة في اول بحث التشبيه نقلا عن المحققين.
(قلت لا نسلم
وجوب المصير الى ذلك) أي الى كونه تشبيها بتقدير اداة التشبيه (وانما كان أسد
مستعملا في معناه الحقيقي) لأمتناع الحمل حينئذ إلا بتقدير أداة التشبيه (واما إذا
كان) اسد (مجازا عن الرجل الشجاع فصحة حمله على زيد ظاهرة) من دون ان يحتاج الى
تقدير اداة التشبيه اذ لا يلزم حينئذ حمل المباين على المباين وذلك ظاهر.
(وتحقيق ذلك)
وفاء بما وعده في أول بحث الأستعار حيث قال وسيجيء لهذا زيادة تحقيق وتفصيل في آخر
باب التشبيه انشاء الله تعالى (أنا إذا قلنا في نحو رأيت اسدا يرمي ان أسدا
استعارة فلا نعني انه استعارة عن زيد إذ لا ملازمة بينهما ولا دلالة له عليه)
والاستعارة يجب فيه الملازمة لأنها مجاز وقد تقدم فيما سبق ان المجاز لا يكون بدون
الملازمة في الجملة بحيث ينتقل من المعنى الحقيقي الى المعنى المجازي (وانما نعنى
انه) أي أسدا (استعارة عن شخص موصوف بالشجاعة فقولنا زيد أسد اصله زيد رجل شجاع
كالاسد فحذفنا المشبه) يعني رجل شجاع (واستعملنا المشبه به) يعني أسدا (في معناه)
المجازي أي في رجل شجاع (فيكون استعارة) ومجازا.
(ويدل على ما
ذكرنا) أي على استعمال اسد في رجل شجاع (ان المشبه به) أي اسد (في هذا المقام) مع
جموده (كثيرا ما يتعلق به الجار والمجرور) وذلك لتأوله بالمشتق.
(كقوله أسد على
وفي الحروب نعامة) فتعلق على بأسد وفي الحروب بنعامة لكونهما بتأويل المشتق (أي
مجترء) اي شجاع وجبان وحاصل المعنى مجترء على كأجتراء الأسد وفي الحروب نعامة أي
جبان لأن النعامة من اجبن الحيوانات (وكقوله والطير اغربة عليه) الاغربة جمع غراب
وهو جامد تعلق به عليه لكونه بتأويل المشتق (أي باكية) أي حزينة وإنما اول بذلك
لأن الغراب عند العرب يشبه الباكي الحزين إذ يزعمون إن الغراب يعلم بالموت ومن
لازم ذلك التحزن وحاصل المعنى إن كل الطيور في الحزن على ذلك الميت المرثي مثل
الأغربة الباكية عليه (وكقوله (ص) المؤمنون تتكافؤ دمائهم ويسعى بذمتهم أدناهم و (هم
يد على من سواهم) قد تقدم ان اليد فيه مئول بالمشتق أي واحدة (و) قد تقدم أيضا (انه
كثيرا ما يكون بحيث لا يحسن دخول اداة التشبيه عليه كما نقلناه) قبيل بحث الحقيقة
والمجاز وعند التمثيل بأستعمال اليد في القدرة (عن) الشيخ (عبد القاهر) في أسرار
البلاغة (وكذا الكلام في نحو لقيت اسدا) فأنه أيضا بتأويل المشتق (اي شجاعا كالأسد)
فتبين من جميع ما ذكرنا أن الجوامد في الأمثلة يتعلق بها الجار والمجرور لتأولها
بالمشتق ولو كانت باقية على جمودها ومستعملة في معناها الحقيقي لم يتعلق بها الجار
والمجرور هذا كله فيما ذكر المشبه في الكلام لفظا أو تقديرا كما يظهر ذلك من
الأمثلة المذكورة.
(واما إذا ترك
المشبه بالكلية) أي لفظا وتقديرا (لكن اوتي بوجه الشبه نحو رأيت اسدا في الشجاعة
ونحو قوله :
ولاحت من
بروج البدر بعدا
|
|
بدور مها
تبرجها اكتنان
|
ففيه اشكال لأن
ترك المشبه لفظا وتقديرا) كما هو المفروض (واجراء اسم المشبه به عليه يقتضي ان
يكون هذا) القسم (استعارة) لا تشبيها إذ التشبيه لابد فيه من مشبه لفظا أو تقديرا
وليس فليس (وذكر وجه الشبه يقتضي ان يكون تشبيها) فأن وجه الشبه اعني في الشجاعة
وبعدا أي في البعد (يقتضي تقدير المشبه اي الرجل في المثال والقصور في البيت (اي
رأيت رجلا كالأسد في الشجاعة ولاحت من قصور مثل بروج البدر في البعد) ولا يصح ان
لا يقدر المشبه ويصار إلى الأستعارة إذ لا يصح وقوع اسم المشبه موقع المشبه به
فأنه لو قيل رأيت رجلا شجاعا لكان لغوا من الكلام لفوات المبالغة المطلوبة في
المقام وقس عليه البيت (فبينهما) أي بين المقتضيين اي الاستعارة والتشبيه (تدافع)
إذ لازم احدهما كون اللفظ مجازا ولازم الآخر كونه حقيقة (كذا ذكره صدر الأفاضل في
ضرام السقط) شرح ديوان المعري.
(والظاهر أن
هذا من باب التشبيه لأن المراد بكون المشبه مقدرا أعم من ان يكون محذوفا جزء كلام
كما في قوله تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) أي هم صم فالمشبه وهو هم محذوف وهو جزء الكلام لأنه
مبتدء (أو يكون في الكلام ما يقتضي تقديره) ولو لم يكن الكلام مفتقرا الى تقديره
بأن يكون تاما بدونه (كما في قولنا رأيت اسدا شجاعا) اي رجلا كالأسد فأن ذكر وجه
الشبه اعني الشجاعة اقتضى تقدير المشبه اعني رجلا (بدليل إنهم جعلوا الخيط الأسود
في قوله تعالى) (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ تشبيها) لأن من الفجر الذي هو بيان للخيط الأبيض يقتضي تقدير المشبه اعني من الليل
الذي هو بيان للخيط الأسود (لأن بيان الخيط الأبيض بالفجر قرينة على ان الخيط
الأسود أيضا مبين
بسواد آخر الليل) فكأنه قيل حتى يتبين أي يظهر لكم الخيط الابيض الذي هو
الفجر من الخيط الأسود واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الاسود لأن بيان
احدهما بيان للآخر.
قال في الكشاف
فأن قلت أهذا من باب الأستعارة ام من باب التشبيه قلت قوله (مِنَ الْفَجْرِ) أخرجه من باب الاستعارة كما ان قولك رأيت اسدا مجاز
فاذا زدت من فلان رجع تشبيها فأن قلت فلم زيد من الفجر حتى كان تشبيها وهلا أقتصر
به على الاستعارة التي هي ابلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة قلت لأن من شرط
المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام ولو لم يذكر من الفجر لم يعلم ان الخيطين
مستعاران فزيد من الفجر فكان تشبيها بليغا وخرج من أن يكون استعارة انتهى.
وانما اكتفى
ببيان الاول عن الثاني لأن بيان أحدهما كما قلنا بيان للآخر وكان الأكتفاء ببيان
الأول أولى لأن المقصود بالتبين والمنوط بتبيينه الحكم من إباحة المباشرة والأكل
والشرب ولقلق اللفظ لو صرح به إذ لو يقال حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر من الليل لجاء من الليل فضلة نظرا إلى القرينة أعني من الفجر
فناسب حذف البيان الثاني.
وإنما احتاج
الخيط الأبيض والأسود الى البيان لما روى في تفسير النشابوري عن عدي بن حاتم قال
لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدت الى عقالين أبيض واسود فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت
أنظر اليهما من الليل ولا يتبين لي فاذا تبين لي الأبيض من الأسود امسكت فلما
أصبحت غدوت الى رسول الله (ص) فأخبرته فضحك فقال انك لعريض القفاء انما ذلك بياض
النهار وسواد الليل وكنى رسول الله (ص) بذلك عن بلاهة عدي وقلة فطنته انتهى.
قال في الكشاف
فأن قلت فكيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان حتى قال عمدت إلى عقالين الخ
قلت غفل عن البيان ولذلك عرض رسول الله (ص) قفاه لأنه مما يستدل به على بلاهة
الرجل وقلة فطنته انتهى.
(وأبعد من ذلك)
أي اشكل مما ترك ذكر المشبه بالكلية حسبما بين آنفا (ما يشعر به كلام صاحب الكشاف
من أن قوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) وقوله) تعالى ((وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) من باب التشبيه المطوي فيه ذكر المشبه كما في الاستعارة
وليس بأستعارة).
والحاصل ان
صاحب الكشاف جعل الآيتين من قبيل التشبيه الذي طوى أي نسى ذكر المشبه بالكلية كما
في الأستعارة وقال انهما ليسا بأستعارة قال في تفسير قوله (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون
على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون
والاستعارة انما تطلق حيث يطوي ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن
يراد به المنقول اليه لو لا دلالة الحال أو فحوى الكلام ثم قال بعد كلام طويل له
عند تفسير قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ) الخ فأن قلت هذا تشبيه اشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات
وهلا صرح به كما في قوله (وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا
الْمُسِيءُ) وفي قول امرء القيس :
كأن قلوب
الطير رطبا ويابسا
|
|
لدى وكرها
العناب والخسف البالي
|
قلت كما جاء
ذلك صريحا فقد جاء مطويا ذكره على سنن الاستعارة كقوله تعالى (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ) الخ ضرب الله مثلا والصحيح الذي عليه علماء البيان لا
يتخطونه ان التمثلين جميعا من التمثيلات المركبة دون
المفرقة انتهى.
(وهو) أي كون
الآيتين تشبيها لا استعارة (مشكل لأن المشبه فيه) اي في كل واحد من الآيتين (ليس
بمذكور ولا مقدر) فلا يصح ان يجعل تشبيها بل يجب ان يجعل استعارة (و) لكن (يمكن
التفصي) أي التخلص (عن هذا الأشكال بأن) يقال ليس في الآيتين ما يصحح جعلهما
استعارة لأن (الاستعارة يجب ان تكون مستعملة في غير ما وضع له) اللفظ (وعلامته) أي
علامة كونه مستعملا في غير ما وضع له (ان يصح وقوع اسم المشبه موقعه ولا يفوت إلا
المبالغة في التشبيه فيصح في نحو رأيت اسدا ان يقال رأيت رجلا شجاعا) أي يصح ان
يقع اسم المشبه اعني رجلا موقع لفظ اسد الذي هو استعارة (وهذا) أي قوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ
شُرَكاءُ) الخ (ليس كذلك) أي ليس الرجل الأول الذي ضربه الله مثلا
للمشرك العابد للأصنام والرجل الثاني الذي ضربه الله مثلا للموحد العابد لله
الواحد ألعلام مستعملين في غير ما وضع له بل كل واحد من اللفظين مستعمل في معناه
الحقيقي أي العبد المشترك بين موالي متشاكسين والعبد الخالص السلم لمولى واحد لا
في المشرك والموحد فلا يصح أن يقع اسم المشبه أعني المشرك والموحد موقع الرجلين
المذكورين في الآية لفساد المعنى حينئذ كما لا يخفى فليسا بأستعارة اذ ليس فيهما
العلامة المذكورة.
(وكذا لا يصح
أن يراد بالبحرين الموصوفين) في الآية الثانية المشبه يعني (المؤمن والكافر) وانما
لا يصح ذلك (لأن قوله تعالى (وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) ينبيء عن انه قصد التشبيه) أي تشبيه المؤمن بالبحر الذي
مائه عذب فرات سائغ شرابه وتشبيه الكافر بالبحر الذي مائه ملح أجاج (لا الاستعارة)
اذ يلزم على الاستعارة نظرا الى العلامة
المذكورة أن يقع المؤمن والكافر موقع البحرين وذلك لا يصح لمنافاة ذلك قوله
(وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ) الخ وذلك ظاهر لمن له ذوق سليم وفهم مستقيم.
(و) انما (أراد)
بعد التشبيه أي زائدا عليه (تفضيل البحر الأجاج على الكافر بأنه) أي البحر الأجاج (قد
شارك) البحر (العذب في منافع) أشيرت اليها في الآية بقوله تعالى (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) الخ (والكافر خلو عن المنفعة فهو) أي التشبيه في هذه
الآية (في طريقة قوله تعالى) (ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) (فهي) أي القلوب ((كَالْحِجارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ)).
قال في الكشاف
وان من الحجارة بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة وتقرير لقوله (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) انتهى (ولخفاء ذلك) المذكور في التفصي (ذهب كثير من
الناس الى أن الآيتين من قبيل الاستعارة وإن صاحب الكشاف أوردهما مثالين للأستعارة
ولا يخفى ضعفه على من يتأمل لفظ الكشاف) وقد نقلنا نحن شطرا منه آنفا.
واعلم انهم كما
يأتي بعيد هذا لما أختلفوا في الاستعارة هل هي مجاز عقلي وقد يأتي المراد منه
عنقريب أو لغوي وقد مر بيانه عنقريب وقد مر أيضا ان المصنف اختار انها مجاز لغوي
حيث قال وقد يقيدان أي الحقيقة والمجاز باللغويين ثم قسم المجاز اللغوي الى
استعارة ومجاز مرسل فتكون الاستعارة حينئذ مجازا لغويا قال (ودليل انها أي
الاستعارة مجاز لغوي) لا عقلي (كونها) أي لفظة الأسد التي هي الأستعارة (موضوعة)
في الحقيقة (للمشبه به) اي للحيوان المفترس مثلا (لا للمشبه) يعني الرجل الشجاع (ولا
الأعم منهما) أي الشجاع مطلقا رجلا كان او حيوانا مفترسا إذ لو كان اللفظ موضوعا
للأعم منهما أي للكلي الشامل لكل واحد منهما لكان متواطيا
او مشككا فيكون حقيقة بالنسبة لكل واحد منهما وإذا كان اللفظ لم يوضع
للمشبه ولا للقدر المشترك بينهما المستلزم لكون اطلاقه على كل منهما حقيقة فلا
محالة يكون استعماله في المشبه استعمالا في غير ما وضع له فيكون مجازا لغويا اذ
يصدق عليه حينئذ انه لفظ استعمل في غير ما وضع له لأن هذا هو معنى المجاز اللغوي.
وما ذكرنا هو
المراد بقوله (اختلفوا في أن الاستعارة مجاز لغوي ام عقلي فذهب الجمهور إلى انه
مجاز لغوي) المقابل للعقلي فيشمل الشرعي والعرفي بمعنييه وإلى هذا أشار بقوله (بمعنى
إنها لفظ استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة والدليل على ذلك ان الاستعارة
كأسد مثلا في قولنا رأيت اسدا يرمي موضوعة للمشبه به اعني السبع المخصوص) يعني
الحيوان المفترس (لا للمشبه أعني الرجل الشجاع ولا لأمر اعم من المشبه به والمشبه
كالشجاع مثلا ليكون إطلاقه على كل منهما حقيقة كأطلاق الحيوان عليهما) أي على كل
واحد منهما فأنه حقيقة قطعا.
(وهذا) أي كون
لفظ اسد موضوعا للمشبه به لا للمشبه ولا لأمر اعم (معلوم قطعا بالنقل عن ائمة
اللغة فحينئذ يكون استعماله) أي لفظ اسد في المشبه) اي الرجل الشجاع (استعمالا في
غير ما وضع له مع قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له أعني المشبه به) يعني السبع
المخصوص (فيكون مجازا لغويا) لأن هذا هو معنى المجاز اللغوي.
(وهذا الكلام)
الذي نفى كونها موضوعة للأعم من المشبه به والمشبه وهو في مقام إنها مجاز لغوي (صريح
في انه إذا أطلق لفظ العام على الخاص لا بأعتبار خصوصه بل بأعتبار عمومه فهو ليس
من المجاز في شيء كما إذا رأيت زيدا فقلت رايت انسانا او) قلت (رايت رجلا فلفظ
إنسان او رجل
لم يستعمل إلا فيما وضع له لكنه قد وقع في الخارج على زيد وكذا إذا قال
قائل أكرمت زيدا واطعمته وكسوته فقلت) في مقام تمجيده وتحسينه (نعم ما فعلت)
فأطلقت لفظ الفعل على كل واحد من الاكرام والاكساء مع إنه (لم يكن لفظ فعلت مجازا)
في شيء منهما (وكذا لفظ الحيوان في قولنا الانسان حيوان ناطق فليتأمل فأن هذا) أي
إطلاق لفظ العام على الخاص (بحث يشتبه على كثير من المحصلين حتى يتوهمون انه مجاز
بأعتبار ذكر العام وارادة الخاص) نظرا إلى إنه لفظ موضوع للعام فأستعمل في غيره
فهو من قبيل إستعمال اللفظ في غير ما وضع له فيكون مجازا (ويعترضون أيضا بأنه لا
دلالة للعام على الخاص بوجه من الوجوه) فكيف يذكر العام للدلالة على الخاص.
(ومنشأئه) أي
منشاء الأشتباه (عدم التفرقة بين ما يقصد باللفظ من الأطلاق والأستعمال وبين ما
يقع) اللفظ (عليه في الخارج) فأنه إذا اطلق لفظ العام على الخاص وأستعمل فيه وقصد
بذلك الدلالة على المعنى العام من حيث عمومه مع قطع النظر عن خصوصية الخاص فهو
حقيقة اذ لم يستعمل اللفظ حينئذ إلا في معناه العام الموضوع له وهذا هو المراد
بقوله ما يقصد باللفظ من الأطلاق والاستعمال ولا يضر في كونه حقيقة صدق اللفظ في
الخارج على ذلك الخاص بالقرينة لأن خصوص الخاص لم يقصد من اللفظ وهذا هو المراد
بقوله ما يقع عليه في الخارج وانما يكون مجازا إذا قصد الخاص من حيث خصوصه ودلت
القرينة على قصد النقل للنقل للخاص للعلاقة.
(وقد سبق) في
أحوال المسند اليه (في بحث التعريف باللام اشارة الى حقيقة) حيث قال فأن قلت
المعرف بلام الحقيقة وعلم الجنس إذا اطلقا على واحد نحو إدخل السوق ورأيت اسامة
مقبلة احقيقة هو ام مجاز قلت بل
حقيقة الخ فراجع ان شئت.
(وقيل انها) أي
الاستعارة (مجاز عقلي) ومما يجب ان يعلم ههنا انه ليس المراد بالمجاز العقلي اسناد
الفعل أو ما هو بمعناه إلى غير ما هو له على ما مر في بحث الأسناد الخبري لأنه كما
بين هناك التصرف في الاسناد بجعله لغير ما هو له وذلك غير متحقق هنا بل المراد هنا
بالمجاز العقلي التصرف في أمر عقلي اي ما يدرك بالعقل وهو المعاني العقلية والى ما
ذكرنا اشار بقوله (بمعنى ان التصرف في أمر عقلي) وهو الادعاء الآتي (لا) في امر (لغوي)
وهو لفظ الأسد مثلا بمعنى ان المتكلم لم ينقل اللفظ إلى غير معناه بل أستعمله في
معناه بعد التصرف في المعنى بأن جعل المعنى معنى آخر ادعاء وإلى ذلك اشار بقوله (لأنها)
أي الاستعارة اي لفظ الأسد مثلا (لم تطلق على المشبه) أي الرجل الشجاع مثلا (إلا
بعد ادعاء دخوله اي دخول المشبه في جنس المشبه به) أي الأسد (بأن جعل الرجل الشجاع
فردا من افراد الأسد) إدعاء وحاصل الفرق أن الكلام هناك في ان الاسناد هل جاز
موضعه الأصلي ام لا وههنا في أن اللفظ هل جاز موضعه الاصلي ام لا فتأمل جيدا فأنه
دقيق وبالتأمل حقيق ومن هنا قيل ان الفرق بين ادعاء السكاكي الذي تقدم الكلام فيه
في بحث الأسناد الخبري وبين هذا الادعاء أحوج شيء الى التأمل وقد اشرنا الى ذلك
آنفا.
وقوله (كان
جواب لما استعمالها أي استعمال الاستعارة في المشبه كأستعمال الأسد في الرجل
الشجاع مثلا استعمالا فيما وضعت له) لبداهة أن التصرف والادعاء المذكور صير الرجل
الشجاع من افراد الاسد الذي وضعت لفظة الأسد له فتكون حقيقة لغوية ومجازا عقليا.
(وإنما قلنا
إنها لم تطلق على المشبه إلا بعد الأدعاء المذكور لأنها لو لم
تكن كذلك) أي لو لم تكن مطلقة على المشبه بعد الأدعاء للزم امور ثلاثة
الأول (لما كانت استعارة لأن مجرد نقل الأسم لو كان) سببا لصيرورة الاسم (استعارة)
في الأصطلاح (لكان الاعلام المنقولة كيزيد ويشكر) وكفضل وأسد (استعارة) لوجود
النقل فيها صرح بذلك ابن مالك في قوله :
ومنه منقول
كفضل واسد
|
|
وذو ارتجال
كسعاد وادد
|
(و) الثاني (لما كانت الأستعارة
أبلغ من الحقيقة) اي لو لم يكن اطلاق اللفظ على المشبه بعد ادعاء دخوله في جنس
المشبه به المقتضى للمبالغة لما كانت الأستعارة أبلغ من الحقيقة (إذ لا مبالغة في
إطلاق الاسم المجرد) عن الأدعاء المذكور حالكونه (عاريا عن معناه) الحقيقي بحسب
الادعاء.
(و) الثالث (لما
صح ان يقال لمن قال رأيت اسدا واراد) بلفظ الأسد (زيدا إنه) اي القائل (جعله) أي
صيره (اسدا) اي حيوانا مفترسا (كما لا يقال لمن يسمى ولده اسدا انه جعله اسدا)
وذلك (لأن جعل إذا كان متعديا الى مفعولين كان بمعنى صير) صرح بذلك السيوطي في باب
افعال القلوب (ويفيد) حينئذ (اثبات صفة لشيء) فيكون مدلول قولك فلان جعل زيدا أسدا
انه اثبت الأسدية له ولا شك ان مجرد نقل لفظ الأسد لزيد وإطلاقه عليه من غير ادعاء
دخوله في جنسه ليس فيه اثبات أسدية له فثبت ان الجعل يستلزم الادعاء المذكور (حتى
لا تقول جعلته أميرا إلا إذا اثبت له صفة الامارة) ولو ادعاء.
فتحصل مما
ذكرنا انه يلزم بناء على انتفاء الادعاء المذكور الأمور الثلاثة المذكورة وكل منها
باطل فيكون ملزومها وهو إنتفاء الادعاء المذكور في الأستعارة باطلا فيثبت نقيضه
وهو اعتبار الادعاء المذكور في الاستعارة وإذا كان الادعاء المذكور معتبرا فيها
فيكون اسم المشبه به أعني لفظ اسد
مثلا إنما نقل للمشبه اعني الرجل الشجاع تبعا لنقل معناه أي معنى لفظ اسد
إليه اي إلى الرجل الشجاع.
(وإذا كان نقل
إسم المشبه به) أي لفظ اسد (إلى المشبه) اي الرجل الشجاع (تبعا لنقل معناه إليه
بمعنى انه أثبت له معنى الاسد الحقيقي ادعاء ثم اطلق عليه اسم الاسد كان الاسد
مستعملا فيما وضع له فلا يكون مجازا لغويا بل عقليا بمعنى ان العقل تصرف فيه وجعل
الرجل الشجاع من جنس الاسد و) من المعلوم ان (جعل ما ليس في الواقع واقعا مجاز
عقلي) بالمعنى الذي أوضحناه آنفا.
(ولهذا اي ولأن
إطلاق اسم المشبه إنما يكون بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به صح التعجب) الذي
أصله إن يشاهد الانسان وقوع امر غريب او حصول شيء من مورد لم تجر العادة على حصوله
منه (في قوله اي قول ابي الفضل بن عميد في غلام قام على رأسه يظلله) من الشمس قامت
تظللني اي توقع الظل على من الشمس نفس أعز على من الشمس قامت تظللني ومن عجب ويروي)
البيت بدل ومن عجب (فأقول يا عجبا ومن عجب شمس أي انسان كالشمس في الحسن والبهاء
تظللني من الشمس فلو لا انه إدعى له) أي للغلام (معنى الشمس الحقيقي وجعله شمسا
على الحقيقة لما كان لهذا التعجب معنى) اي لايصح التعجب (إذ لا تعجب في ان يظلل
إنسان حسن الوجه انسانا آخر) بخلاف الشمس الحقيقي فأن تظليله انسانا من الشمس أمر
غريب وذلك لأن الشمس لا يرتسم ظل تحتها على الانسان إلا إذا حال بينه وبينها جسم
كثيف يحجب نورها واما إذا كان الحائل بينهما شيء له نور فلا يرتسم ظل تحتها على
الأنسان لأن النور لا يحجب النور فاذا جعل ذلك الغلام شمسا حقيقة على سبيل الأدعاء
استغرب فتعجب وذلك
صحيح لأن الشمس من شأنها طي الظل وإذهابه لا إحداثه كما هنا فهو امر على
خلاف العادة.
(والنهي عنه أي
ولهذا صح النهي عن التعجب في قوله لا تعجبوا من بلى غلالته) اي لا تعجبوا من تسارع
الفساد والبلى إلى غلالته (هي شعار) أي قميص (يلبس تحت الثوب وتحت الدرع ايضا) قيل
سمي شعارا لأنه يلي شعر البدن ويلاقيه وقوله (قد زر) بالبناء للمفعول علة للنهي عن
التعجب أي لأنه قد زر (إزراره على القمر) والضمير راجع إلى المحبوب أو إلى الغلالة
والتذكير بأعتبار انه قميص أو شعار (تقول زررت القميص عليه ازره إذا شددت إزراره
عليه) اراد بهذا ان تعدية زر إلى الازرار فيه شيء من التسامح لأنه انما يتعدى إلى
القميص ويتضمن الدلالة على الأزرار ولا يتعدى إلى الأزرار والشاعر قد عداه اليها.
(فلو لا إنه)
أي الشاعر (جعله قمرا حقيقيا لما كان للنهي عن التعجب معنى لأن الكتان إنما يسرع اليه
البلى) عادة كما ثبت ذلك بالتجربة واخبار أهل الخبرة (بسبب ملابسة القمر الحقيقي
لا بسبب ملابسة انسان كالقمر في في الحسن) والبهاء.
والحاصل انه
لما خشى ان يتوهم ان صاحب الغلالة انسان عادي تسارع البلى لغلالته فيتعجب من ذلك
لأن العادة ان غلالة الانسان العادي لا يتسارع البلى اليها قبل الأمد المعتاد
لبلاها نهى الشاعر عن ذلك التعجب وبين سبب النهي وهو أن ذلك الغلام لم يبق في
الانسانية بل دخل في جنس القمرية والقمر لا يتعجب من بلى ما يباشر ضوئه لأن هذا من
خواصه ومتى ظهر السبب بطل العجب ومن هذا القبيل ما قيل بالفارسية :
اگرچه فرش من
از بوريا است طعنه مزن
|
|
چرا كه
خوابگه شير در نيستان است
|
إلى هنا كان
الكلام في ان الادعاء المذكور يقتضي كون الاستعارة اعني لفظ الأسد مثلا مستعملة
فيما وضعت له أي في الحيوان المفترس فيكون حقيقة لغوية ومجازا عقليا (و) لكن (رد
بأن الادعاء أي رد هذا الدليل بأن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يقتضى
كونها اي كون الاستعارة مستعملة فيما وضعت له) حقيقة (للعلم الضروري بأنها مستعملة
في الرجل الشجاع مثلا) وهو غير ما وضعت له (والموضوع له هو السبع المخصوص) يعني
الحيوان المفترس.
(وتحقيق ذلك)
الجواب وهو حاصل ما ذكره السكاكي في بحث الاستعارة وسيأتي نصه عند قول الخطيب وعني
بالمكنى عنها الخ انشاء الله تعالى ان ساعدنا التوفيق إلى شرحه (ان دخوله) أي
المشبه (في جنس المشبه به مبني على إنه جعل افراد الأسد) مثلا (بطريق التأويل
قسمين أحدهما المتعارف وهو الذي له غاية الجرئة ونهاية القوة) حالكونه (في مثل تلك
الجثة وهاتيك الصورة والهيئة وتلك الأنياب والمخالب إلى غير ذلك) من الخصوصيات
الموجودة في الحيوان المفترس المعروف.
(والثاني غير
المتعارف وهو الذي له تلك الجرئة وتلك القوة لكن لا في تلك الجثة والهيكل و) من
المعلوم إن (لفظ الأسد) في الواقع والحقيقة (انما هو موضوع للمتعارف فأستعماله في
غير المتعارف استعمال في غير ما وضع له والقرينة) اللازمة فيها (مانعة عن إرادة
المعنى المتعارف) فقط (ليتعين المعنى الغير المتعارف) فكيف يصح ان يقال انه حقيقة
لغوية.
(وبهذا) البيان
أي ببيان ان القرينة مانعة عن إرادة المتعارف فقط ليتعين
غير المتعارف (يندفع ما يقال ان الأصرار على دعوى الأسدية للرجل الشجاع
ينافي نصب القرينة المانعة عن إرادة السبع المخصوص) وجه الاندفاع أن الأصرار على
دعوى الأسدية إنما هو لجعل الرجل الشجاع أسدا غير متعارف لا متعارفا ولا شك ان لفظ
الأسد موضوع للمتعارف اعني السبع المخصوص فلا بد في إستعماله في غير المتعارف من
نصب قرينة مانعة عن إرادة المتعارف والألم يظهر المراد.
(واما التعجب)
من المشبه (والنهي عنه) أي عن التعجب (في البيتين المذكورين وغيرهما فللبناء) اي فلبناء
الاستعارة (على تناسي التشبيه) اي على إظهار نسيان التشبيه وانما تنوسي التشبيه (قضاء)
أي اداء وتوفية (لحق المبالغة) في التشبيه وقد فسر المراد بالمبالغة بقوله (ودلالة
على ان المشبه) يعني الغلام في البيتين (لا يتميز عن المشبه به) أي الشمس في البيت
الأول والقمر في البيت الثاني (اصلا حتى ان كل ما يترتب على المشبه به من التعجب
والنهي عنه) أي عن التعجب (يترتب على المشبه ايضا) فلذلك صح التعجب في البيت الأول
والنهي عنه في البيت الثاني كما يصح ذلك في الشمس والقمر فتدبر حتى لا تتوهم انه
كر على ما فر.
(و) الكلام الذي
فيه (الاستعارة تفارق الكذب بوجهين) فلا يشتبه به الأول (بالبناء على التأويل و)
الثاني (نصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر) الذي هو الأول (يعني ان في الاستعارة
دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به) حالكون تلك الدعوى (مبنية على تأويل وهو جعل
أفراد المشبه به قسمين) متعارف وغير متعارف (كما ذكرنا) في التحقيق آنفا (ولا
تأويل في الكذب) لأن الكاذب يبقى اللفظ على اصله مجدا في ترويجه.
(وأيضا لا بد
في الاستعارة من قرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي
الموضوع له) حالكون تلك القرينة.
(دالة على ان
المراد خلاف الظاهر بخلاف الكذب فأنه لا ينصب فيه قرينة على إرادة خلاف الظاهر بل
يبذل المجهود) اي الجهد والوسع والطاقة (في ترويج ظاهرة) إذا خاف الكاذب من ان
السامع يمكن ان يعرف عدم مطابقة كلامه للواقع فيبذل كمال جهده في اظهار صحته عند
السامع لا سيما إذا كان الكاذب كبعض السفهاء الذين كنت مبتلى بهم ايام كتابة هذه
المباحث فأنهم كانوا يتشبثون في ترويج أكاذيبهم بشتى الوسائل ولا يستحيون من الله
ولا ممن يعرف بطلان تلك الوسائل.
(وزعم صاحب
المفتاح ان الاستعارة تفارق) شيئين ويختص كل واحد من الفارقين بواحد من الشيئين
وحاصل ما زعمه ان الاستعارة (تفارق الدعوى الباطلة) وهي كما يأتي ما لا يطابق
الواقع مع أن صاحبها يعتقد مطابقتها (لبناء الدعوى فيها اي في الاستعارة على
التأويل) ولا تأويل في الدعوى الباطلة اذ لا يتصور من صاحب الدعوى الباطلة قصد
التأويل ولا نصب القرينة المانعة عن إرادة الظاهر لأن ذلك ينافي اعتقاد المطابقة.
(وتفارق)
الاستعارة (الكذب) وهو ما لا يطابق الواقع مع علم المتكلم بعدم المطابقة (بنصب
القرينة المانعة عن أرادة خلاف الظاهر) والكاذب لا ينصب تلك القرينة بل يبذل
المجهود كما مر في ترويج ظاهره (والشارح العلامة فسر) في شرح هذا الكلام (الباطل
بما يكون على خلاف الواقع) من دون تقييد بكونه مطابقا للأعتقاد (و) فسر (الكذب بما
يكون على خلاف ما في الضمير) أي الأعتقاد من دون تقييد بكونه مخالفا للواقع.
(وانت تعلم ان
تفسيره) أي الشارح العلامة (الكذب) بما ذكر (خلاف ما عليه الجمهور) فأن ما عليه
الجمهور على ما تقدم في مقدمة الكتاب هو
عدم المطابقة للواقع حسبما مر بيانه هناك مستقصى (واختاره) أي ما عليه
الجمهور (السكاكي) أيضا فصار تفسيره الكذب في كلام السكاكي بما ذكر تفسيرا بما لا
يرضي صاحبه.
(ومع هذا)
الخلاف (فلا جهة لتخصيص التأويل بمفارقة الباطل والقرينة بمفارقة الكذب بل يحصل
بكل منهما المفارقة عن الباطل والكذب جميعا) اما المفارقة عن الكذب فقد علم من شرح
كلام الخطيب واما المفارقة عن الباطل فيعلم من قياسه على الكذب.
(نعم فرق)
اعتباري (بين الباطل والكذب بأن الباطل يقابل الحق) كما ان الحق يقابل الباطل (و)
ان (الكذب يقابل الصدق) كما أن الصدق يقابل الكذب (والحق هو كون الخبر مطابقا
للواقع بقياس الواقع اليه والصدق هو كونه مطابقا للواقع بقياسه إلى الواقع فهما)
اي الباطل والكذب (متحدان بالذات متغايران بالأعتبار ولمحشى التهذيب كلام يناسب
المقام يعجبني ذكره وهذا نصه الخبر والأعتقاد إذا طابق الواقع كان الواقع أيضا
مطابقا له فأن المفاعلة من الطرفين فمن حيث انه مطابق للواقع بالكسر يسمى صدقا ومن
حيث انه مطابق له بالفتح يسمى حقا وقد يطلق الصدق والحق على نفس المطابقية
والمطابقية انتهى (لكن) مع هذا الفرق الاعتباري (وجه التخصيص) أي تخصيص التأويل
بمفارقة الكذب (غير ظاهر بعد) أي إلى الآن لما تقدم آنفا من انه لا جهة للتخصيص
المذكور.
فتحصل من جميع
ما تقدم ان الاستعارة لا بد فيها من ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به وجعله من
إفراده (و) إذا كان الأمر كذلك (لا يكون الاستعارة) في أصله (علما لما سبق من إنها
تقتضي ادخال المشبه في جنس المشبه به بجعل افراده قسمين متعارفا وغير متعارف ولا
يمكن ذلك في العلم
لمنافاته) أي العلم (الجنسية لأنه) اي العلم (يقتضي التشخص ومنع الأشتراك
والجنس يقتضي العموم وتناول الأفراد) فيتنافيان.
وبعبارة أخرى
لا يكون اللفظ المسمى بالأستعارة علما بمعنى ان حقيقة ذلك اللفظ لا يتصور فيها
كونه علما في الأصل لأن الاستعارة ملزومة للوضع الكلي والعلم ملزوم للوضع الجزئي
وهما متنافيان وتنافي اللوازم يؤذن بتنافي الملزومات وذلك لما تقدم وهو ان المشبه
يعتبر دخوله في جنس المشبه به ودخول شيء تحت شيء يقتضي عموم المدخول فيه ومن
المعلوم ان العموم المعتبر في المشبه به ينافي العلمية الملازمة للجزئية فتأمل.
(إلا إذا تضمن
العلم نوع وصفية بسبب اشتهاره بوصف من الأوصاف) التي لها عموم من حيث المفهوم أو
المصداق (كحاتم فأنه تضمن الأتصاف بالجود) وحاتم في الأصل اسم فاعل من الحتم بمعنى
الحكم فنقل وصار علما بحاتم بن عبد الله بن الحشرج الطائي المشتهر بالأتصاف
بالجود.
(وكذا مادر في
البخل) وهو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة وانما سمي مادرا لأنه سقى إبلاله من
حوض فلما فرغت الأبل من الشرب بقى أسفل الحوض ماء قليل فسلح فيه اي تغوط ومدر
الحوض به اي حرك مائه به بخلا خوفا من ان يستقى من حوضه احد.
(وسحبان في
الفصاحة) فأنه علم لرجل مشهور بالبلاغة وله فيها حكايات مذكورة في التراجم (وبأقل
في الفهاهة) فأنه متضمن الأتصاف بالفهاهة اي العجز عن الأفصاح عما في الضمير وهو
اسم رجل من العرب كان شديد العي في النطق وقد اتفق انه كان اشترى ظبيا بأحد عشر
درهما فقيل له بكم أشتريته ففتح كفيه وفرق اصابعه واخرج لسانه ليشير بذلك إلى احد
عشر فأنفلت منه الظبي فضرب به المثل في العى.
(وحينئذ) أي
حين إذ تضمن العلم نوع وصفية حسبما بينا (يجوز ان يشبه شخص بحاتم في الجود ويتأول
في حاتم ويجعل كأنه موضوع للجواد) أي لجنس الجواد اي لكليه (سواء كان ذلك الرجل
المعهود) من العرب (من قبيلة طي أو) كان رجل (آخر غيره) عربا كان او عجما او
غيرهما من الطوائف فيصير المقام نظير جعل احمد الثاني في قولنا رأيت احمد واحمدا
آخر نكرة فيشمل كل من يسمى بهذا الأسم فيصير كليا فيصدق على كثيرين وقد بين ذلك
مستوفي في النحو في باب غير المنصرف (كما جعل) لفظ (أسد كأنه موضوع للشجاع) اي
لجنسه اي لكليه (سواء كان متعارفا او غيره فبهذا التأويل يكون) لفظ (حاتم متنا ولا
للفرد المتعارف) يعني الرجل (المعهود) من العرب (والفرد الغير المتعارف) من اي
طائفة كان (وهو) أي الفرد غير المتعارف كل (من يتصف بالجود) من أي طائفة وقبيلة
كان (لكن استعماله) اي استعمال لفظ حاتم (في غير المتعارف يكون استعمالا في غير
الموضوع له فيكون استعارة) ومجازا (نحو رأيت اليوم حاتما) اي رجلا جواد إلا ذلك
الرجل المعهود.
(وقرينتها اي
قرينة الاستعارة) لأنها مجاز وكل مجاز لا بد له من قرينة مانعة عن إرادة المعنى
الموضوع له) ومن هنا ثبت عند المحققين من الاصوليين إمتناع إستعمال اللفظ في
معنييه الحقيقي والمجازي.
وقرينتها (اما
أمر) اي شيء (واحد) يلائم المشبه اي المعنى المجازي (كما في قولك رأيت اسدا يرمي)
إذا المراد بيرمي الرمي بالسهم لا مطلق الرمى لأنه يوجد في المشبه به ايضا فتأمل.
(او أكثر) يعني
(امران او امور يكون كل واحد منها قرينة) من دون ان يضم إليه الآخر (كقوله وإن
تعافوا اي تكرهوا العدل وإلايمان فأن في ايماننا
نيرانا أي سيوفا تلمع كشعل النيران فتعلق قوله تعافوا بكل واحد من العدل
والأيمان قرينة على ان المراد بالنيران السيوف لدلالته) أي التعلق المذكور (على ان
جواب هذا الشرط تحاربون وتلجأون إلى الطاعة بالسيوف) فحذف هذا الجواب وأقيم فأن في
إيماننا نيرانا مقامه لأنه علة لذلك الجواب المحذوف هذا ولكن الأولى ان يقال
تحاربوا وتلجأوا بحذف النون المضارعة صرح بذلك الناظم في قوله :
وبعد ماض
رفعك الجزاء حسن
|
|
ورفعه بعد
مضارع وهن
|
(او معان ملتئمة مربوطة بعضها ببعض)
بحيث (يكون الجمع قرينة) واحدة (لأكل واحد وحينئذ) أي حين لم يكن كل واحد قرينة (لا
يخفى صحة كونه قسيما لقوله أو اكثر) وبعبارة اخرى تصح المقابلة والعطف بأو المؤذنة
بالتغابر (كقوله اي قول البحتري وصاعقة) يأتي المراد منها بعيد هذا (روى بالجر على
إضمار رب وبالرفع على إنه مبتدء موصوف بقوله من نصله اي من نصل سيف الممدوح وخبره
قوله تنكفي من انكفأ اي قلب والباء في قوله بها للتعدية والمعنى رب نار) أو نار
بالرفع (من حد سيفه يقلبها على ارؤس الاقران) جمع قرن بمعنى الكفو (خمس سحائب أي
انامله الخمس التي هي في الجود وعموم العطايا سحائب أي يصبها على اكفائه) جمع كفو (في
الحرب فتهلكهم بها) أي بالأنامل (والمراد بارؤس الاقران) معنى (جمع الكثرة) وإن
كانا جمعي قلة وزنا (بقرينة المدح لأن كلا من صيغة جمع القلة والكثرة يستعار للآخر)
صرح بذلك ابن مالك في باب جمع التكسير بقوله :
وبعض ذي
بكثرة وضعا يفي
|
|
كأرجل
والعكسن جاء كالصفي
|
ويحتمل أن يكون
المراد بهما القلة وذلك للأشارة الى قلة اكفائه في الحرب وقلة امثاله فيها او إلى
الاستخفاف بأمرهم وتقليلهم في مقابلته فتأمل.
(و) الشاهد انه
(لما أستعار السحائب لأنامل الممدوح ذكر ان هناك صاعقة) وهي في الأصل نار سماوية
تهلك ما أصابته تحدث غالبا عند الرعد والبرق (وبين إنها من نصل سيفة ثم قال على
ارؤس الاقران ثم قال خمس فذكر العدد الذي هو عدد الأنامل فظهر من جميع ذلك) مرتبطا
البعض بالبعض (إنه أراد بالسحائب الأنامل) لا معناها الحقيقي.
(وهي أي
الاستعارة تنقسم بأعتبار الطرفين وبأعتبار الجامع وبأعتبار الثلاثة) اي الطرفين
والجامع معا (وبأعتبار اللفظ وبأعتبار آخر غير ذلك) ويأتي بيان كل واحد منها في
محله بالترتيب المذكور (فهي بأعتبار الطرفين يعني المستعار منه) اي المعنى الحقيقي
(والمستعار له) أي المعنى المجازي (قسمان لأن اجتماعهما اي اجتماع الطرفين في شيء
اما ممكن نحو أحييناه في) قوله تعالى ((أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) أي ضالا فهديناه) والشاهد في انه عزوجل (استعار الأحياء من معناه الحقيقي وهو جعل الشيء حيا للهداية التي هي
الدلالة إلى طريق يوصل الى المطلوب) أو نفس الايصال على ما اشار إليه محشى التهذيب
(والاحياء والهداية مما يمكن إجتماعهما في شيء وهذا) الذي قلنا (أولى من قول
المصنف) في الايضاح (إن الحيوة والهداية مما يمكن إجتماعهما) وجه الأولوية إن
المستعار منه كما يأتي في الاستعارة التبعية هو الأحياء لا الحيوة وذلك ظاهر (واما
إستعارة الميت للضال فليست من هذا القبيل إذ لا يمكن إتصاف الميت بالضلال) لأن
الضلال الكفر والميت لا يتصف بالكفر إلا بأعتبار ما كان لا حقيقة لأن الكفر جحد
الحق والجحد لا يقع من الميت لأنتفاء شرطه وهو الحياة فالاستعارة فيهما عنادية على
ما يأتي فأجتمع في الآية إستعارتان وفاقية وعنادية (فلهذا) صرح بموضع الاستشهاد و
(قال نحو أحييناه في (أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) ولتسم هذه الاستعارة التي
يمكن إجتماع طرفيها في شيء وفاقية لما بين الطرفين من الاتفاق) في الاجتماع
في ذلك الشيء.
(واما ممتنع عطف
على قوله أما ممكن كأستعارة اسم المعدوم للموجود لعدم غنائه هو بالفتح) اي بفتح
الغين المعجمة والمد معناه (النفع) والفائدة وأما بكسر الغين فهو الترنم بالصوت
وبكسر الغين مع القصر معناه اليسار (اي لأنتفاء النفع في ذلك الموجود كما في
المعدوم) نحو قولك صعد المنبر اليوم المعدوم فشبه الرجل الواعظ لا يعرف الهر من
البر ولا الشعير من البر حيث لا نفع ولا فائدة في كلامه بالعدم وأستعير العدم
للوجود واشتق من العدم معدوم بمعنى موجود لا نفع فيه فهو استعارة مصرحة تبعية
عنادية وسيأتي بيان تسميتها بكل واحد عنقريب (ولا شك ان اجتماع الوجود والعدم في
شيء ممتنع وكذلك) العكس أي (استعارة الموجود لمن عدم او فقد إذا بقيت اثاره
الجميلة التي تجييء ذكرها) في المجالس والمحافل (وتديم في الناس اسمه) كما قال
الشاعر الفارسى :
دولت جاويد
يافت هركه نكونام زيست
|
|
كز عقبش ذكر
خير زنده كند نام را
|
نوشيروان
نمرد چه نام نكو گذاشت
|
|
جمشيد جز
حكايت جام از جهان نبرد
|
(وكذلك استعارة إسم الميت للحي
الجاهل أو العاجز او النائم فأن الموت والحياة مما لا يمكن اجتماعهما في شيء) وذلك
ظاهر.
للمصنف كلام
ننقل نصه ليتضح (قال المصنف) في الايضاح كلاما ننقله بالتمام ليتضح به حقيقة
المرام من المقام قال وأما العنادية فمنها ما كان وضع التشبيه فيه على ترك
الأعتداد بالصفة وإن كانت موجودة لخلوها مما هو
ثمرتها والمقصود منها وما إذا خلت منه لم تستحق الشرف كاستعارة اسم المعدوم
للموجود إذا لم تحصل منه فائدة من الفوائد المطلوبة من مثله فيكون مشاركا للمعدوم
في ذلك أو اسم الموجود للمعدوم إذا كانت الآثار المطلوبة من مثله موجودة حال عدمه
فيكون مشاركا للموجود في ذلك او اسم الميت للحي الجاهل لأنه عدم فائدة الحياة
والمقصود بها اعني العلم فيكون مشاركا للميت في ذلك ولذلك جعل النوم موتا لأن
النائم لا يشعر بما بحضرته كما لا يشعر الميت او للحى العاجز لأن العجز كالجهل يحط
من قدر الحي.
ثم الضدان ان
كانا قابلين للشدة والضعف كان استعارة إسم الاشد للأضعف اولى وكل من كان اقل علما
واضعف قوة كان اولى بأن يستعار له اسم الميت ولما كان الأدراك أقدم من العقل في
كونه خاصة للحيوان كان الأقل علما أولى بأسم الميت او الجماد من الأقل قوة وكذا في
جانب الاشد فكل من كان أكثر علما كان اولى بأن يقال له حي وكذا من كان اشرف علما
وعليه قوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) فأن العلم بوحدة الله تعالى وما انزله على نبيه (ص)
اشرف العلوم انتهى نص كلامه.
والتفتازاني
غير هذه الفقرة الأخيرة بقوله (ثم الضدان) ان كانا قابلين للشدة والضعف كان
استعارة اسم الأشد للأضعف أولى فكل من كان اقل علما واضعف قوة كان اولى بأن يستعار
له اسم الميت لكن الأقل علما أولى بذلك) اي باستعارة اسم الميت (من الأقل قوة لأن
الأدراك) اي العلم (اقدم من الفعل) الذي هو المناط في القوة والعجز (في كونه خاصة
للحيوان لأن افعاله المختصة به اعني الحركات الأرادية مسبوقة بالأدراك) أي العلم (وإذا
كان الادراك أقدم واشد اختصاصا به) اي بالحيوان (كان النقصان فيه) في الادراك كما
في الجاهل المحض (اشد تبعيدا له) أي الحيوان اي الجاهل المحض (من الحيوة وتقريبا
إلى ضدها) أي ضد الحيوة يعني الموت فكل من
كان اقل علما او فاقدة كان اولى بأن يقال له ميت.
(وكذا في جانب
الاشد فكل من كان اكثر علما او اشرف) كالعلم بالفقه الاكبر او الاصغر (كان اولى
بأن يقال له انه حي هذا كلامه) أي كلام المصنف في الايضاح وقد عرفت مواضع التغيير.
(ولا يخلو عن
اختلال لأن الضدين القابلين للشدة والضعف) كما قلنا (هما العلم والجهل والقدرة
والعجز ولم يستعر اسم احدهما للآخر) أي لم يستعر اسم العلم للجهل ولا اسم القدرة
للعجز فلا يصح قوله كان استعارة اسم الاشد الخ (بل المقصود إنه إذا اطلق اسم أحد
الضدين على الآخر) وذلك كأطلاق اسم الميت على الحي الجاهل وعكسه (بأعتبار معنى
قابل للشدة والضعف) وذلك كأطلاق الميت على الحي الجاهل والحي على الميت الباقي آثاره
الجميلة التي تجييء ذكره الموجود فائدته والمنتشر مئاثره ولو كان ميتا مفقودا من
بين الناس وجوده (فكل من كان ذلك المعنى فيه أشد كان اطلاق ذلك الأسم عليه أولى و)
لكن (العبارة) اي عبارة المصنف في الايضاح (غير وافية بذلك) المقصود وللمحققين من
المحشين في توجيه العبارة بحيث تكون وافية بالمقصود كلام فعليك بمراجعتها.
(ولتسم هذه
الأستعارة التي لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء عنادية لتعاند الطرفين ومنها أي ومن
العنادية الاستعارة التهكمية) وهي ما كان الغرض منها الهزء والسخرية (والتمليحية)
وهي ما كان الغرض منها إيراد القبيح بصورة شيء مليح للأستظراف.
وإلى ما
فسرناهما به اشارة بقوله (وهما ما استعمل في ضده أي الاستعارة التي استعملت في ضد
معناها الحقيقي أو نقيضه لما مر اي لتنزيل التضاد او التناقض منزلة التناسب بواسطة
تمليح او تهكم على ما سبق تحقيقه في باب
التشبيه) عند الفراغ عن وجه الشبه المتعدد الحسي فراجع إن شئت (نحو (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) اي انذرهم) والشاهد (استعيرت البشارة التي هي الأخبار
بما يظهر سرور المخبر له للأنذار الذي هو ضدها بأدخاله) أي الأنذار (في جنسها) اي
البشارة (على سبيل التهكم و) قد تقدم هناك انه (كذا قولك رأيت اسدا وانت تريد
جبانا على سبيل التمليح والظرافة والاستهزاء) والسخرية.
(والاستعارة
بأعتبار الجامع اعني ما قصد إشتراك الطرفين) أي المستعار له والمستعار منه (فيه
وهو الذي يسمى في التشبيه وجها وههنا) اي في الاستعارة (جامعا قسمان لأنه أي
الجامع اما داخل في مفهوم الطرفين) يعني (المستعار له والمستعار منه) (نحو قوله (ص)
خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه) العنان بكسر العين اللجام (كلما سمع هيعة طار
اليها او رجل في شعفة) اي في رأس جبل (في غنيمة) هي بدل اشتمال من شعفة اي في
غنيمة له (يعبد الله حتى يأتيه الموت قال جار الله) الزمخشري (الهيعة الصيحة التي
يفزع) أي يخاف (منها) بسبب الجبن واليه اشار بقوله (اصلها من هاع يهيع إذا جبن (والشعفة
رأس الجبل والمعني خير الناس رجل اخذ بعنان فرسه واستعد للجهاد في سبيل الله او
رجل اعتزل الناس وسكن في بعض رؤوس الجبال في غنم له قليل) القلة مستفادة من
التصغير كما ان البعضية مستفادة من التنكير (ويكتفي بها) اي بالغنيمة (في أمر
معاشه ويعبد الله حتى يأتيه الموت) والشاهد في انه (ص) (استعار الطيران للعدو) أي
عدو الفرس (والجامع داخل في مفهومهما) أي مفهوم العدو والطيران (فأن الجامع بين العدو
والطيران قطع المسافة بسرعة وهو) اي القطع المذكور (داخل فيهما) اي في مفهوم العدو
والطيران (إلا انه) أي القطع (في الطيران اقوى منه) اي من القطع (في
العدو) اي في عدو الفرس واعلم ان الظاهر من الخطيب عدم الفرق بين ما كان
الاشتراك بين الطرفين من قبيل ما نحن فيه وبين ما كان الاشتراك بينهما من قبيل
رأيت اسدا (و) لكن (قال الشيخ في اسرار البلاغة والفرق بينه) اي بين الحديث (وبين
نحو رأيت اسدا ان الاشتراك ثمة) اي في رأيت اسدا ونحوه (في صفة) وهي الشجاعة مثلا
توجد في جنسين مختلفين (كالأسد والانسان) الظاهر من تمثيله بالأسد والأنسان انه
ليس المراد بالجنس ههنا ما هو المصطلح عند أهل الميزان بل المراد به ما هو
المتعارف من ان الشيئين إذا كان بينهما كثرة اختلاف في الأوصاف والمنافع فهما
جنسان كالذكر والأنثى من الانسان وإن لم يكن كذلك فهما جنس واحد كالذكر والأنثى من
الغنم والى ما ذكرنا يشير بقوله (بخلاف الطيران والعدو فأنهما جنس واحد وهو المرور
وقطع المسافة وإنما الأختلاف بالسرعة وحقيقتها قلة تخلل السكنات) (و) اما كون
احدهما بالجناح والآخر بالقوائم وكون احدهما سريعا والآخر بطيئا فأن (ذلك لا يوجب
اختلافا في الجنس) لعدم الأختلاف بما ذكر في المنفعة المقصودة منهما.
(ثم قال) الشيخ
جوابا عما قيل او يمكن ان يقال ما الفرق بين استعمال الطيران للعدو وبين استعمال
المرسن في الأنف حيث جعل الاول إستعارة والثاني مجازا مرسلا مع ان في كل من المرسن
والطيران خصوص وصف ليس في الأنف والعدو والوصف الخاص بالمرسن كونه أنف بهيمة ولا
شك ان هذا غير موجود في انفه الانسان لأنه ليس بهيمة والوصف الخاص في الطيران كونه
موجبا للسرعة ولا شك ان هذا غير موجود في السرعة.
والحاصل إنه
أعتبر في المعنى الحقيقي لكل من الطيران والمرسن وصف خاص به لم يوجد في معناه
المجازي اعني العدو والأنف فلم جعل استعمال
الطيران في العدو إستعارة وإستعمال المرسن في الأنف مجازا مرسلا.
إلى هنا كان
الكلام في بيان ما قيل او يمكن ان يقال (و) اما بيان ما أجاب به الشيخ عن ذلك فهو
ان (الفرق بين استعارة الطيران للعدو) اي إستعماله فيه فالاستعارة ههنا وما بعده
بالمعنى اللغوي الذي اشار الخطيب اليه فيما سبق بقوله وكثيرا ما تطلق الاستعارة
على استعمال اسم المشبه به في المشبه فتنبه (واستعارة المرسن لأنف الانسان) أي
إستعماله فيه (مع ان في كل من المرسن والطيران) كما ذكرت (خصوص وصف ليس في الأنف
والعدو ان خصوص الوصف الكائن في طار) وهو كون قطع المسافة بالجناح الموجب لشدة
السرعة (مرعى في استعارته للعدو بخلاف خصوص الوصف في المرسن) فأنه لم يراع في
استعماله في الأنف كونه اي الانف انف بهيمة ولذلك جعلوه من باب اطلاق المقيد على
المطلق وقد صرح بذلك فيما سبق عند قوله والاستعارة قد تقيد بالتحقيقية والحاصل ان
خصوص كون القطع بالجناح الموجب لقوة الوجه مرعى في الطيران بمعنى انه شبه العدو به
فيما يوجب الوصف القوي أي قطع المسافة على نحو الأشد فنقلنا اللفظ الدال عليه وهو
الطيران فكان إستعارة والمرسن لم ينقل بعد تشبيه انف الانسان به في كونه آنفا
واسعا يجعل فيه الرسن لعدم وجدان مثل هذا الشبه فيه وهو في انف الدابة أقوى (والحاصل
ان التشبيه ههنا) اي في إستعمال الطيران في العدو (منظور) أي ملحوظ فلذلك جعل
إستعارة (بخلاف ثمة) اي بخلاف استعمال المرسن في الأنف فأن التشبيه لم يلاحظ فيه
وإنما لوحظ فيه كما قلنا الاطلاق والتقييد فلذلك لم يجعل إستعارة بل جعل مجازا
مرسلا لعدم التشبيه (ولهذا إذا لوحظ فيه التشبيه كما في غليظ المشا فرعد إستعارة)
وقد تقدم ذلك في الموضع المشار اليه آنفا حيث قال فاذا أطلق نحو المشفر على شفة
الانسان
فأن اريد تشبيهها بمشفر الأبل في الغلظ فهو استعارة وإن اريد انه اطلاق
المقيد على المطلق كأطلاق المرسن على الانف من غير قصد الى تشبيه فمجاز مرسل
فاللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد يجوز ان يكون استعارة وان يكون مجازا
مرسلا بأعتبارين انتهى.
(وقال) الشيخ (أيضا
كان الواجب ان لا اطلق اسم الاستعارة على وضع المرسن موضع الأنف ونحو ذلك) مما لم
يلاحظ فيه التشبيه (إلا إني كرهت مخالفة السلف) من البيانيين (فأنهم عدوها) اي وضع
المرسن موضع الأنف ونحو ذلك من الأمثلة وتأنيث الضمير بأعتبار كثرة الامثلة فتأمل (في
الاستعارات وخلطوها) اي وضع المرسن موضع الأنف ونحو ذلك من الامثلة (بها) أي
بالاستعارات (فأعتددت) اي فأعتنيت (بكلامهم في الجملة) بأن ذكرت انهم عدوا وضع
المرسن على الأنف ونحو ذلك في الاستعارات (ونبهت على ذلك) اي على عدهم إياها
استعارة وأيضا اعتددت بكلامهم في الجملة (بأن تسميته) اي تسمية وضع المرسن موضع
الأنف ونحو ذلك (استعارة غير مفيدة).
واما اطلاق
السلف الأستعارة على وضع المرسن موضع الأنف ونحو ذلك فهو على سبيل الاستعارة اي
تشبيه نقل الأسم من المجانس الى المجانس كما في المرسن والانف فأن كلا منهما عضو
مخصوص هو طريق للشم دائما والأختلاف إنما هو بالأختصاص بالأنسان وعدمه بنقل الاسم
من المشابه الى المشابه كما في الطيران والعدو فأطلاق الاستعارة على الأول مجازا
لشباهته بالثاني (ووجه الشبه بينه) اي الاول (وبين الاستعارة) أي الثاني الذي هو
حقيقة اصطلاحية (انك تنقل فيه) أي في الاول (الاسم الى مجانس له كالمرسن والانف
والمجانسة) التي في المرسن والانف (والمشابهة) التي في الطيران
والعدو (من واد واحد وهذا بخلاف اليد والنعمة إذ لا مجانسة بينهما) قد
أشرنا إلى المراد من المجانسة قبيل ذلك (فلا يطلق الاستعارة عليه) اي على اطلاق
اليد على النعمة والحاصل انه لا مجانسة بين اليد والنعمة حتى يقال المجانسة
والمشابهة من واد واحد.
(فأن قلت
الجامع) يعني وجه الشبه (في المستعار منه) الذي هو المشبه به في الحقيقة وإنما قيد
بالمستعار منه ليخرج التشبيه فأنه لا يجب فيه كون الجامع أقوى واشد في احد الطرفين
لأنه قد تقدم في باب التشبيه ان التشبيه قد يقصد به بيان الحال وهذا يكفي فيه
مساواة الطرفين في الجامع (يجب ان يكون اقوى واشد) منه في المستعار له الذي هو
المشبه في الحقيقة (ليكون الاستعارة مفيدة) الفائدة المطلوبة من الأستعارة لأن
الفائدة المطلوبة منها المبالغة في إدخال المشبه في جنس المشبه به حتى يصح إطلاق
اسم المشبه به على المشبه (وقد تقرر في غير هذا الفن) يعني فن الحكمة والكلام (إن
جزء المهية) أي الجنس والفصل (لا يختلف بالشدة والضعف) لأمتناع التشكك في الذاتيات
صرح بذلك القوشجي عند قول الخواجة ومقوليته عليها بالتشكيك أي مقولية التقابل على
اقسامه الأربعة بالتشكيك فالحيوانية التي في زيد ليست اقوى واشد من الحيوانية في
عمرو وكذلك الناطقية بل التي في زيد مساوية للتي في عمرو فراجع ان شئت (فكيف يكون
الجامع داخلا في مفهوم الطرفين) والحاصل ان الدخول في مفهوم الطرفين يقتضي عدم
التفاوت وكونه جامعا يقتضي التفاوت وهل هذا الأجمع بين متناقضين والجمع بينهما
باطل فما أدى إلى ذلك وهو كون الجامع داخلا في مفهوم الطرفين باطل.
(قلت امتناع
الأختلاف إنما هو في المهية الحقيقية) وهي المركبة من الذاتيات أي من الاجناس
والفصول لا الأعتبارية وهي التي إعتبرو لها مفهوما
مركبا من امور غير ذاتيات لها كمهية الأسود والأبيض ونحوهما مما هو مركب من
الذات والعارض (إلا ترى ان السواد جزء من المجموع المركب من السواد والمحل مع
إختلافه) أي السواد (بالشدة والضعف) بالضرورة والعيان بحيث لا يحتاج الى البيان
والبرهان.
(ووجه الشبه
إنما جعل داخلا في مفهوم) لفظ (الطرفين لا في المهية الحقيقية للطرفين والمفهوم)
من لفظ الطرفين (قد تكون ماهية حقيقية وقد يكون أمرا مركبا من امور بعضها قابل
للشدة والضعف) وذلك كالمفهوم من لفظ الأسود والأبيض حسبما بيناه (فيصح كون الجامع
داخلا في المفهوم) من لفظ الطرفين (مع كون احد المفهومين) أي المفهوم من لفظ
المستعار منه (اشد واقوى) هذا (و) لكن (في كون استعارة الطيران للعدو من هذا
القبيل) أي من قبيل كون الجامع داخلا في مفهوم الطرفين نظر (لأن الطيران قطع
المسافة بالنجاح وليس السرعة) التي هي الجامع بينه وبين العدو (بل هي) السرعة (لازمة
له) أي للطيران (في الأكثر) لا دائما فأنه قد يكون الطيران من غير سرعة إذ قد يقال
طار الطائر حيث ينتقل من غصن وشبهه إلى غصن وشبهه ولو كان متمهلا في طيرانه
فالسرعة (كالجرئة للأسد) لازمة لا داخلة ولأجل هذا النظر قال (والأولى) عبر
بالأولى لأن حاصل النظر المشاحة والمناقشة في المثال والمشاحة والمناقشة في المثال
ليست من داب المحصلين لأن المثال كما تقدم في الديباجة إنما يذكر لأيضاح القاعدة
على تقدير صحته لكن الأولى ان يكون صحيحا (ان يتمثل) للجامع الداخل في مفهوم
الطرفين (بأستعارة التقطيع الموضوع لأزالة الأتصال بين الاجسام الملتزقة بعضها
ببعض لتفريق الجماعة وإبعاد بعضها عن بعض في قوله تعالى (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) والجامع إزالة الأجتماع الداخلة في مفهومهما) أي
التقطيع وتفريق
الجماعة (وهي) اي الأزالة (في القطع أشد) واقوى لتأثيرها في الأتصال الأشد
والأقوى.
(وكذا إستعارة
الخياطة الموضوعة لضم خرق الثوب للسرد الذي هو ضم حلق الدرع بجامع الضم الداخل في
مفهوميهما الأشد في الأول) أي في الخياطة.
(واما غير داخل
عطف على قوله اما داخل) والجامع غير الداخل (كما مر من استعارة) لفظ (الأسد للرجل
الشجاع) في الجرئة فأنها لازمة للطرفين معا لأن المستعار منه الأسد المقيد بالجرئة
والمستعار له هو الرجل المقيد بها وقد ثبت في محله ان التقيد جزء وقيد خارجي.
(و) مثله
استعارة لفظ (الشمس للوجه المتهلل) أي المتلاليء المتنور قال في مختار الصحاح تهلل
وجه الرجل من فرحه تلالأ وتنور انتهى فوجه الشبه هو التلألأ والاشراق والأستدارة
وذلك خارج عن حقيقة الطرفين أي الوجه والشمس كخروج الجرئة عن حقيقة الرجل والأسد
وذلك لظهور ان المستعار منه هو ذات الشمس المقيد بالتلألأ والأشراق والأستدارة
والمستعار له هو ذات الوجه المقيد بها وقد ثبت في محله ان التقيد جزء وقيد خارجي.
(فأن قلت قد نص
الشيخ في أسرار البلاغة على ان) لفظ (الأسد موضوع للشجاعة لكن في تلك الهيئة
المخصوصة) التي لذلك الحيوان المعروف (لا للشجاعة وحدها) ولا للشجاعة في أي حيوان
كان (ومعلوم ان المستعار له هو الرجل الشجاع لا الرجل وحدة فالجامع ههنا) اي في
استعارة الاسد للرجل الشجاع (أيضا داخل في الطرفين وعلى هذا قياس غيره) من الامثلة
التي من قبيل استعارة الشمس للوجه المتهلل.
(قلت اما كلام
الشيخ ففيه تجوز وتسامح) اما التجوز فذلك (للقطع
بأن الأسد موضوع لذلك الحيوان المخصوص) المعروف (والشجاعة وصف له) خارج عن
حقيقته ففي قوله ان الأسد موضوع للشجاعة مجاز ظاهر (و) اما التسامح فهو ان (المستعار
له فهو الرجل الموصوف بالشجاعة لا المجموع المركب منهما) ففي قوله إن المستعار له
هو الرجل الشجاع تسامح واضح (و) قد تقدم في طي المباحث المتقدمة غير مرة انه (فرق
بين المقيد والمجموع) المركب وقد تقدم في تشبيه المفرد بالمركب ان الفرق بين
المركب والمفرد المقيد احوج شيء الى التأمل.
(على انه لو
كان المستعار له هو المجموع) المركب من الرجل والشجاعة (أيضا لصح ان الجامع غير
داخل في مفهوم) كل واحد من (الطرفين) وذلك (بأعتبار انه) أي الجامع غير داخل في
مفهوم المستعار منه اعني الاسد) إذ الشجاعة التي هي الجامع وصف لازم له خارج عن
حقيقته.
(وأيضا) يعني
هذا (تقسيم آخر للأستعارة بأعتبار الجامع وهو) اي التقسيم الآخر (إنها) اي
الأستعارة (اما عامية) أي منسوب إلى العامة اي العوام لأنهم يدركونها ويستعملونها
في محاوراتهم فصلا عن الخواص (وهي المبتذلة) اي كثير الوجود في الأستعمال بحيث
يتناولها كل واحد (لظهور الجامع فيها نحو رأيت اسدا) يرمي.
(او خاصية) أي
منسوب الى الخاصة اي الخواص من الناس (وهي الغريبة التي لا يطلع عليها إلا الخاصة)
وهم (الذين أتو ذهنا) وقادا متفطنا للأمور الدقيقة بحيث يميزون المجاز عن الحقيقة (به
ارتقوا عن طبقة العامة) الذين لا يعرفون الهر من البر والشعير من البر.
(والغرابة قد
تكون فى نفس) وجه (الشبه) وذلك (بأن يكون تشبيها فيه نوع غرابة) وذلك بأن يكون اصل
الاستعارة أي تشبيه امر بأمر آخر
غريبا ونادرا وإن كان كل واحد من الأمرين كثيرا في نفسه كما في البيت الآتي
فأن ايقاع العنان على القربوس وجمع الرجل ظهره وساقيه بالثوب واقع كثير ولا سيما
في بلادنا أفغانستان فأن اغلب الرجال يقعدون في المجالس والأندية بهذه الهيئة وكذا
إيقاع العنان على القربوس وقد تقدم الكلام في بعض وجوه الغرابة في باب التشبيه
فراجع فأنه يفيدك هنا (كما في قوله أي قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له
بأنه مؤدب وانه إذا نزل عنه والقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه الى ان يعود اليه)
بعد إتمام زيارته وقضاء حاجته (وإذا احتبى) قال في المصباح حبا الصغير يحبو حبوا
إذا دحرج على بطنه إلى ان قال واحتبى الرجل جميع ظهره وساقيه بثوب أو غيره وقد
يحتبى بيديه انتهى وإلى هذه اشار الشاعر الفارسي حيث يقول :
پس زانو
منشين وغم بيهوده مخور
|
|
كم ز غم
خوردن تو رزق نگردد كم بيش
|
(قربوسه اي مقدم سرجه وفي الصحاح
القربوس السرج) ويمكن ان يكون في عبارة الصحاح سقطا فالاصح الأول كما يدل عليه
قوله الشاعر الفارسى حيث يقول :
بخوردم صد
وشصت تير خدنگ
|
|
نناليدم از
بهر ناموس وننگ
|
تو خوردي يكي
چوبه تير گزين
|
|
سرت را نهادي
بقرپوس زين
|
وقد ظهر ذلك
انه اسم أعجمي فهو غير منصرف للعلمية والعجمية فتأمل.
(بعنانه علك)
أي مضع ولاك (الشكيم الشكيم والشكيمة هي الحديدة المعترضة في فم الفرس وأراد)
الشاعر (بالزائر نفسه بدليل ما قبله.
عودته فيما
ازور حبائبي
|
|
إهماله وكذاك
كل مخاطر
|
أي عودت ذلك
الفرس الأهمال والترك عند زيارة الأحبة وعند فعل كل امر خطير مهم.
والشاهد في ان
الشاعر (شبه هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السرج ممتدا إلى جانبي فم الفرس
بهيئة وقوع الثوب في موقعه من ركبة المحتبى ممتدا إلى جانبي ظهره فأستعار الاحتباء
وهو) كما نقلنا عن المصباح (ان يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب او غيره لوقوع العنان
في قربوس السرج فجائت الاستعارة غريبة لغرابة) وجه (الشبه) فتحصل مما ذكرنا ان
الشاعر أوقع المقابلة والتشبيه بين وقوع العنان على القربوس وبين وقوع الثوب على
الركبة فكلاهما عاليان وأوقع ايضا المقابلة بين جانبي فم الفرس وبين جانبي الظهر
فكلاهما سافلان فيكون الركبتان بمنزلة القربوس والظهر بمنزلة فم الفرس.
(فأن قلت هل
يجوز) العكس وهو (ان يقال انه شبه هيئة وقوع العنان في القربوس ممتدا إلى جانبي
الفم بهيئة وقوع) ما به (الحبوة في ظهر المحتبى ممتدا إلى جانبي الساقين حتى يكون
الظهر بمنزلة القربوس) لا بمنزلة فم الفرس (و) حتى يكون (الركبتان والساقان بمنزلة
رأس الفرس) لا بمنزلة القربوس.
(قلت) يجوز ذلك
لكن (الأحسن ما ذكرناه اولا لأن الركبتين متضامتين اشبه بالقربوس والثوب في
الركبتين مائلا الى العلو ثم يمتد متسفلا الى الظهر كما ان الطرف الذي يلي القربوس
من العنان أعلى من الذي يلي فم الفرس) فتدبر جيدا.
(وقد تحصل
الغرابة بتصرف في) الأستعارة (العامية كما في قوله :
ولما قضينا
من مني كل حاجة
|
|
ومسح
بالأركان من هو ماسح
|
وشدت على دهم
المهاري رحالنا
|
|
ولم ينظر
العادي الذي هو رائح
|
أخذنا بأطراف
الاحاديث بيننا
|
|
وسالت بأعناق
المطي الاباطح
|
الدهم جمع
الدهماء وهي السوداء والمهاري جمع مهرية وهي الناقة المنسوبة الى مهرة بن حيدان
بطن من قضاعة والأباطح جمع ابطح وهو مسيل الماء فيه دقاق الحصى أي لما فرغنا عن اداء
مناسك الحج ومسحنا اركان البيت عند طواف الوداع وشددنا الرحال) وهي ما يحمل من
الأخبية وغيرها على المطايا (وأرتحلنا و) استعجلنا بحيث (لم ينتظر السائرون في
الغداة) وهي من الصباح إلى الظهر (السائرين في الرواح) وهو من الظهر إلى الغروب
وإنما كان عدم الأنتظار (للأستعجال) والأشتياق إلى الاولاد والأهل و (اخذنا) أي
شرعنا (في) فنون (الاحاديث واخذت المطايا في سرعة لمضى) اي الذهاب والمشى.
والشاهد في ان
الشاعر (إستعار سيلان السيول الواقعة في الأباطح لسير الابل سيرا حثيثا) أي مسرعا (في
غاية السرعة المشتملة على لين وسلاسة و) وجه (الشبه فيها ظاهر عامي لكن) الشاعر (قد
تصرف فيه بما أفاد اللطف والغرابة) وقد بين التصرف الموجب للغرابة بقوله (إذ أسند
الفعل) المجازي (يعني قوله سالت) المستعار لسارت (إلى الأباطح) التي هي فاعل مجازي
(دون المطي أو اعناقها) التي هي الفاعل الحقيقي (حتى افاد) هذا الأسناد المجازي (إنه)
الضمير للشأن (امتلأت الأباطح من الابل) وذلك لأن نسبة الفعل الذي هو صفة الحال
إلى المحل تقيد شيوع ذلك الفعل في المحل واحاطته بكله (كما في قوله تعالى (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)).
والحاصل ان
السيلان المستعار للسير حقه ان يسند إلى المطي لأنها هي التي تسير فأسنده الشاعر
إلى الأباطح التي هي محل السير فهو من إسناد الفعل لمحله مجازا كما في جرى النهر
وذلك للأشارة إلى كثرة الأبل وإنها ملأت الأباطح لأن نسبة الفعل الذي هو صفة الحال
إلى المحل تشعر بشيوع
الحال في المحل وإحاطته بكله ولذلك لا يسند الجريان إلى النهر إلا اذا
أمتلأ النهر من الماء وكذلك لا يقال اشتعل الرأس شيبا إلا إذا انتشر شيب الرأس
وظهر ظهورا تاما كما إذا قيل اشتعل البيت نارا بخلاف اشتعل النار في البيت فلا
يقال سالت الأباطح أي سارت إلا إذا امتلأت بالسائر فيها لأنه قد جعل كل محل منها
سائرا لأشتماله على ما هو سائر فيه فلو كان في الأباطح محل خال من الأبل لصدق عليه
انه غير سائر لعدم إشتماله على ما يسير فيه.
(وأدخل الأعناق
في السير لأن السرعة والبطوء في سير الأبل يظهر ان غالبا في الاعناق ويتبين امرهما
في الهوادي) أي في الاعناق يقال اقبلت هوادي الخيل إذا ظهرت أعناقها وسميت الاعناق
هوادي لأن البهائم تهتدي بعنقها إلى الجبهة التي تميل اليها.
(وسائر الأجزاء)
أي باقي اعضاء الابل (تستند اليها في الحركة وتتبعها في الثقل والخفة) أي ثقل
السير وخفته.
فحاصل الكلام
في المقام ان الشاعر إستعار سيل الماء لسير الأبل في المحل الذي فيه دقيق الحصى
استعارة مبتذلة لكثرة إستعمالها ثم اضاف اليها ما اوجب غرابتها وهو تجوز آخر وذلك
بأن اسند السيلان الذي هو وصف للمطي في الحقيقة إلى محلها أي الاباطح من باب جرى
النهر وسال الميزاب أشعارا بكثرتها وادخل الاعناق في السير حيث قال وسالت بأعناق
المطي فقد تضمن ذلك الكلام كون الأعناق سائلة لأن باء الملابسة الداخلة عليها
تقتضي ملابسة الفعل أي السير لها لأن مرجع الملابسة الى الأسناد وحينئذ فيكون
السيلان مسندا إلى الأعناق لأن الاعتاق تظهر فيها سرعة السير وبطوئه وبقية الاعضاء
تابعة لها واسناد السير إلى الاعناق مجاز آخر من اسناد الشيء إلى ما هو كالسبب فيه
فلما ان أضاف إلى إستعارة السيلان هذين التجوزين
وهما إسناده إلى مكانه لفظا وسناده إلى سببه ضمنا صارت الاستعارة غريبة.
(وقد يحصل
الغرابة بالجمع بين عدة إستعارات لألحاق الشكل) أي لألحاق شكل شيء (بالشكل) أي
بشكل شيء آخر (كما في قول امرء القيس :
فقلت له لما
تمطى بصلبه
|
|
وأردف اعجازا
وناء بكلكل
|
أراد وصف الليل
بالطول فأستعار له صلبا) الصلب كل ظهر له فقار (يتمطى) اي يتمدد (به إذ كان كل ذي
صلب يزيد شيء في طوله عند تمطيه ثم بالغ) في وصف الليل بالطول (فجعل) أي إستعار (له
اعجازا) جمع العجز وزان رجل وهو من الرجل والمرئة الوركين والعجز من كل شيء مؤخره (يردف)
أي يتبع (بعضها بعضا) والمراد كثرة الاعجاز (ثم اراد ان يصفه بالثقل على قلب ساهره
والشدة والمشقة له فأستعار) ثالثا (له كلكلا ينوء به أي يثقل به) فهذه الاستعارات
المتعددة أوجبت غرابة لطيفة يدركها الخواص.
(والظاهر إن
هذا) المذكور من الاستعارات في البيت (من قبيل الاستعارة بالكناية) حيث شبه الشاعر
في ذهنه الليل بالانسان المتمطى في الطول واثبت لوازم المشبه به للمشبه وهي الصلب
والتمطى والكلكل والاعجاز وأما بيان قوله (كاليد في الشمال) فسيجيئ في فصل تحقيق
معنى الاستعارة بالكناية إنشاء الله تعالى.
(والاستعارة
بأعتبار الثلاثة اي المستعار له والمستعار منه والجامع ستة أقسام لأن المستعار منه
والمستعار له اما حسيان او عقليان او المستعار منه حسى والمستعار له عقلي او
بالعكس فهذه أربعة اقسام والجامع في الثلثة الأخيرة لا يكون إلا عقليا لما عرفت في
بحث التشبيه) من إمتناع ان يدرك بالحس من غير الحسى شيء يعني ان وجه التشبيه أمر
مأخوذ من الطرفين موجود فيهما وكل ما يؤخذ من العقلي ويوجد فيه يجب ان يدرك بالعقل
لا بالحس لأن المدرك بالحس لا يكون إلا جسما أو قائما بالجسم والعقلي اعم
يعني يجوز ان يكون طرفاه عقليين وان يكونا حسيين وإن يكون احدهما حسيا والآخر
عقليا لجواز ان يدرك بالعقل من الحسى شيء إذ لا امتناع في قيام المعقول بالمحسوس
بل كل محسوس فله أوصاف بعضها حسى وبعضها عقلي ولذلك يقال التشبيه بالوجه العقلي
اعم من التشبيه بالوجه الحسي بمعنى ان كل ما يصح فيه التشبيه بالوجه الحسي يصح
بالوجه العقلي دون العكس.
(والقسم الاول)
وهو ما كان فيه الطرفان حسيا (ينقسم ثلاثة اقسام لأن الجامع فيه أما حسى او عقلي
او مختلف بعضه حسى وبعضه عقلي فالمجموع ستة اقسام وإلى هذا) الذي ذكر من وجود
الاقسام الستة وأمثلتها (اشار بقوله لأن الطرفين إن كانا حسيين فالجامع اما حسي
نحو قوله تعالى (فَأَخْرَجَ لَهُمْ
عِجْلاً جَسَداً) فأن المستعار منه ولد البقرة والمستعار له الحيوان الذي
خلقه الله تعالى من حلى القبط التي سبكتها نار السامري عند القائه في تلك الحلى
التربة التي أخذها من موطيء فرس جبرئيل (ع) والجامع الشكل فأن ذلك الحيوان كان على
شكل ولد البقرة وهذا) الاطلاق أي إطلاق إلعجل على ذلك الحيوان (كما يقال للصورة
المنقوشة على الجدار إنه فرس بجامع الشكل والجميع أي المستعار منه والمستعار له
والجامع حسي) فأن كل واحد من هذه الثلاثة (يدرك بالبصر) كما لا يخفى على من فكر
وتدبر.
(ومما عده
السكاكي من هذا القسم قوله تعالى (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) فالمستعار منه هو النار والمستعار له هو الشيب) أي إبيضاض
الشعر المسود (والجامع هو الأنبساط) أي الأنتشار (الذي هو في النار اقوى والجميع
حسى والقرينة) على الأستعارة والمجازية (الإشتعال الذي هو من خواص النار
لكن) ههنا مظنة سؤال وهو إنه لم لم يمثل المصنف في المقام بهذا مع أن
السكاكي عده من هذا القسم فأجاب التفتازاني بقوله (لما كان هذا من قبيل الأستعارة
بالكناية صح للسكاكي أن يمثل به لأن كلامه فيما هو اعم من الاستعارة المصرحة
والمكنى عنها بخلاف المصنف فأن كلامه في المصرحة) فلا يصح تمثيله به لأنه كما قلنا
من قبيل الاستعارة بالكناية (وزعم المصنف أن فيه تشبيهين الأول تشبيه الشيب بشواظ
النار في البياض والأنارة وهذا إستعارة بالكناية والثاني تشبيه إنتشار الشيب في
الشعر بأشتعال النار في سرعة الأنبساط مع تعذر تلافيه) ومن هنا عدعود الشباب من
التمنيات التي عدوها من المحالات (فهذه الأستعارة تصريحية لكن الجامع فيها عقلي)
فتأمل.
(واما عقلي عطف
على اما حسى يعني ان الاستعارة التي طرفاها حسيان والجامع عقلي نحو (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ) فأن المستعار منه) أي الذي انتقل منه لفظ السلخ (كشط
الجلد عن نحو الشاة والمستعار له) أي الذي انتقل اليه لفظ السلخ (كشف الضوء عن
مكان الليل وهو) أي مكان الليل (موضع القاء ظلله) أي ظل الليل والمراد بالقاء الظل
ظهوره والمراد بظله ظلمته والمكان للظلمة أما الهواء او سطح الأرض على الخلاف فيه
وإنما قال ظله ولم يقل القاء ظلمته اشارة إلى ان الظلمة أمر وجودي كما ذهب اليه
بعض المتكلمين ويؤيده قوله تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ) ومن هنا بصح قوله بعيد هذا ترتب ظهور الظلمة على كشف
الضوء فحاصل معنى الآية والله العالم وآية أي وعلامة لهم على قدرة الله الليل نكشف
ونزيل عن مكان ظلمته ضوء النهار فشبه كشف ضوء النهار عن المكان الذي فيه ظلمة
الليل بكشف الجلد فأستعير السلخ للكشف والأزالة واشتق من السلخ نسلخ بمعنى نكشف
ونزيل.
(وهما) أي
الكشط وكشف الضوء (حسيان) بأعتبار الهيئة المحسوسة الحاصلة عندهما أو بأعتبار
متعلقهما وهو اللحم والضوء وذلك كاف في حسيتهما وإلا فالكشط والكشف مصدران والمعنى
المصدري لا وجود له في الخارج فكيف يكونان محسوسين بالحواس الظاهرية.
(والجامع ما
يعقل من ترتب أمر على آخر اي حصول امر عقيب امر دائما او غالبا) فالثاني أي الترتب
والحصول غالبا (كترتب ظهور اللحم على كشط الجلد) لأنه ليس دائما بل غالبا لأنه قد
يكشط الجلد عن اللحم بدس عود ونحوه بينهما بحيث لا يصير لازقا به من دون إزالة له
عنه فقد وجد الكشط بدون ظهور اللحم (و) الأول أي الترتب والحصول دائما (ترتب ظهور
الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل) ففي كلامه لف ونشر مشوش كما في قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ) الخ فتأمل (وهذا) أي ترتب امر على آخر بكلا قسميه (عقلي)
وذلك ظاهر لا يحتاج الى البيان.
(وبيان ذلك) أي
وبيان ترتب ظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل او بيان التشبيه بين كشط
الجلد وكشف الضوء عن مكان ظلمة الليل (إن الظلمة هي الأصل) إذ مرجع الظلمة إلى عدم
الظهور والأصل في كل حادث العدم (والنور طار عليها بسترها بضوئه) وإلى ذلك أشير في
الحديث إن الله خلق الخلق من ظلمة ثم رش عليهم من نوره (فاذا غربت الشمس فقد سلخ
النهار من الليل أي كشط وازيل كما يكشف عن الشيء الطاري عليه الساتر له فجعل ظهور
الظلمة بعد ذهاب ضوء النهار كظهور المسلوخ بعد سلخ اهابه) أي جلده قال في المصباح
الأهاب الجلد قبل ان يدبغ انتهى.
فتحصل من جميع
ما ذكرنا ان علامة قدرة الله انه جل جلاله يزيل ضوء النهار فيظهر ظلمة الليل فيقع
الناس في الظلام فلا يبصرون شيئا ولذلك قال
جل شأنه فاذا هم مظلمون (و) لكن (وقع في عبارة الشيخ عبد القاهر وصاحب
المفتاح ان المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل وهذا يدل) عكس ما تحصل مما
ذكرنا أي ان علامة قدرة الله انه يزيل ظلمة الليل فيظهر ضوء النهار فيقع الناس في
الضياء فيبصرون الاشياء (وأعترضن) عليها (بأنه لو اريد) من الآية (ذلك لقيل) فيها ((فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) ولم يقل فاذا هم مظلمون أي داخلون في الظلام لأن الواقع
عقيب ظهور النهار من ظلمة الليل إنما هو الأبصار لا الأظلام.
وأجيب بحمل
عبارتهما على القلب اي ظهور ظلمة الليل من النهار) فيصح فاذا هم مظلمون (و) اجيب
ايضا (بأن المراد بظهور النهار) في عبارتهما (تميزه) أي النهار وإنفصاله (عن ظلمة
الليل) فيصح ذلك ايضا (و) اجيب ايضا (بأن الظهور ههنا) أي في عبارتهما (بمعنى
الزوال كما) اي كالظهور (في قول) الشاعر (الحماسي) أي الشاعر الذي دون اشعاره في
كتاب الحماسة (وذلك عار يا بن ريطة ظاهر) هذا عجز بيت صدره :
اعيرتنا
البانها ولحومها
|
|
وذلك عار
يابن ريطة ظاهر
|
وقبله.
اتنسى دفاعي
عنك إذ انت مسلم
|
|
وقد سال من
ذل عليك قراقر
|
ونسوتكم في
الروع باد وجوهها
|
|
يخلن اماء
والاماء حرائر
|
الأستفهاء
للأنكار ومسلم بفتح اللام أي مخلى من اسلمته خليت بينه وبين من يريد النكاية به
وقراقر اسم وأداي اشتد الذل عليك في ذلك الوادي حتى صار مثل السيل الذي يسيل به
عليك والروع الخوف ويخلن أي يظن تلك النسوة اماء لكونهن مكشوفات الوجوه والحال
انهن حرائر في نفس الأمر والأستفهام في اعيرتنا أيضا للأنكار اي لم تعيرنا بالبان
الأبل ولحومها
مع ان اقتناء الأبل مباح والانتفاع بلحومها وألبانها جائز في الدين وفي
العقل وتفريقها في المحتاجين اليها إحسان (قال الامام المرزوقي ذلك عار ظاهر أي
زائل قال ابو ذؤيب :
وعيرها
الواشون اني احبها
|
|
وتلك شكاة
ظاهر عنك عارها
|
فالمعنى) أي
فمعنى عبارتهما (ان المستعار له زوال ضوء النهار عن ظلمة الليل فأقام من مقام عن)
لأن الزوال يتعدى بعن (فيكون) كلامهما (موافقا لكلام غيرهما) فيصح فاذا هم مظلمون.
(وذكر الشارح
العلامة ان السلخ قد يكون بمعنى النزع) والأزالة (سلخت الاهاب عن الشاة) أي نزعته
وازلته عنها (وقد يكون بمعنى الأخراج نحو سلخت الشاة من الأهاب) أي اخرجتها (والشاة
مسلوخة) اي مخرجة (فذهب عبد القاهر والسكاكي إلى الثاني) أي إلى ان السلخ في الآية
بمعنى الأخراج فيصير المعنى ان علامة قدرة الله إخراج ضوء النهار من ظلمة الليل
فحينئذ لا بد في فاذا هم مظلمون من توجيه يذكره الآن (و) ذهب (غيرهما إلى الأول)
أي إلى ان السلخ في الآية بمعنى النزع والأزإلة (فأستعمال الفاء) وإذا الفجائية (ظاهر
على قول قيرهما) فأن حاصل تقدير الآية حينئذ أنا ننزع النهار عن الليل كنزع اللباس
والجلد عن البدن والجسم فاذا هم داخلون في الظلام على الفور كما هو معنى الفاء
وإذا الفجائية.
(وأما على
قولهما) اي عبد القاهر والسكاكي (فإنما) يحتاج إلى التوجيه لأن إخراج ضوء النهار
من الليل لا يعقبه ولا يفاجئه ظلمة الليل لأن زمان النهار وهو ساعات كثيرة مبدئها
طلوع الفجر أو الشمس متوسطة بين إخراج النهار من الليل السابق وهو اول طلوع الفجر
أو الشمس وبين دخول الظلام اعني الليل اللاحق.
وتوجيه ذلك إنه
(صح من جهة إنها) أي الفاء وإن كانت (موضوعة لما يعد في العادة مرتبا غير متراخ)
أي بلا مهلة (و) لكن (هذا) المعنى (يختلف بأختلاف الأمور والعادات فقد يطول الزمان)
بين أمرين (و) لا يعد ذلك الزمان متراخيا لأن (العادة في مثله تقتضي عدم اعتبار
المهلة) يعني ان العادة تقتضي أطول من ذلك الزمان الطويل فيستصغره المتكلم ويلحق
الطول بالعدم ويجعل الأمر الثاني غير متراخ فيستعمل الفاء كما في قولك تزوج زيد
فولد له مع ان بين التزويج والولادة مدة الحمل إلا أن العادة تعده غير متراخ عن
التزويج وكما في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وقد تقدم في باب الفصل والوصل في بحث العطف بالفاء ما
يفيدك ههنا فراجع ان شئت.
(وقد يكون
بالعكس) أي وقد يقصر الزمان بين امرين والعادة في مثله تقتضي ان يكون الزمان طويلا
(كما في هذه الآية فأن زمان النهار) وهو ساعات كثيرة (وإن توسط بين إخراج النهار
من) ظلمة (الليل) السابق (وبين دخول الظلام) يعني الليل اللاحق (لكن لعظم دخول الظلام
بعد) ساعات من (اضائة النهار وكونه) أي كون دخول الظلام (مما ينبغي ان لا يحصل إلا
في اضعاف ذلك الزمان) وبعبارة أخرى لما كان دخول الظلام بعد اضائة النهار شأنه
عظيم بحيث لا يخطر بالبال لأن الشيء إذا عظم شأنه يبالغ فيه ويقال هذا أمر لم يكن
يخطر بالبال حتى انه من حقه ان لا يحصل إلا بعد نهارات متعددة فمن هذه الحيثية
اعني المبالغة (عد الزمان) أي عد زمان النهار وإن كان ساعات كثيرة (قريبا) أي
قصيرا وبعبارة اخرى لما كان النهار المتوسط بين الظلمتين يزول قطعا جعل كالعدم (وجعل
الليل) اللاحق (كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل) السابق (بلا مهلة) وتراخ
فلذلك أتى بالفاء وإذا
الفجائية فتبصر فأن المقام من مزال الأقدام وإلتوفيق من الله وبه الاعتصام.
(ثم) ذكر
الشارح العلامة إنه (لا يخفى ان إذا المفاجأة إنما يصح إذا جعل السلخ بمعنى
الأخراج كما يقال إخرج النهار من الليل ففاجئه دخول الليل فأنه مستقيم) وذلك لما
تقدم آنفا من ان المفاجأة إنما هي فيما لا يخطر بالبال ولا يكون مترقبا في كل
الأحوال بل كان حصوله بحيث يعد بغتة.
(بخلاف ما إذا
جعل) السلخ (بمعنى النزع فأنه لا يستقيم ان يقال نزع ضوء الشمس عن الهواء ففاجئه
دخول الظلام كما لا يستقيم ان يقال كسرت الكوز ففاجئه الأنكسار لأن دخولهم في
الظلام عين حصول الظلام فتكون نسبة دخولهم في الظلام إلى نزع ضوء النهار كنسبة
الأنكسار إلى الكسر) ومن المعلوم بالبداهة إن الأنكسار مصاحب للكسر لأنه مطاوعه
ويحصل بحصوله وكذلك الدخول في الظلام مصاحب لنزع الضوء فلا يعقل الترتب الذي تفيده
إذا المفاجأة فلا يستقيم ان يقال نزع ضوء الشمس عن الهواء ففاجئه دخول الظلام (فلهذا
جعل السلخ الاخراج دون النزع أنتهى كلامه اي كلام الشارح العلامة (واقول تقوية
لذلك) أي لكون السلخ بمعنى الأخراج (لا شك ان الشيء إنما يكون آية) اي علامة لقدرة
الله جل جلاله (إذا أشتمل على نوع إستغراب وإستعجاب بحيث يفتقر إلى نوع اقتدار)
خاص لا يحصل لغيره تعالى (وذلك إنما هو مفاجأة الظلام عقيب ظهور النهار لا عقيب
زوال ضوء النهار) ونزعه لأن ذلك أي مفاجئة الظلام عقيب زوال ضوء النهار اي عقيب
غروب الشمس في الأفق لا غرابة فيها ولا إستعجاب في باديء الرأي (فليتأمل) فان
المقام يحتاج الى دقة ونظر ثاقب.
(واما مختلف)
عطف على قوله أما حسى اي ان كان الطرفان حسيين فالجامع اما حسى كله او عقلي كله او
مختلف (بعضه حسى وبعضه عقلي)
وذلك (كقولك رأيت شمسا وانت تريد إنسانا كالشمس في حسن الطلعة) اي حسن
الوجه وإنما سمي الوجه طلعة لأنه هو المطلع عليه عند الشهود والمواجهة (وهو) أي
الحسن (حسى) لأنه عبارة عن الشكل واللون (ونباهة الشأن) أي شهرته ورفعته عند
النفوس وعلو الحال في القلوب للأشتمال على اوصاف حميدة توجب شهرة الذكر كالكرم
وسائر الأخلاق الحميدة والعلم والنسب ونحو ذلك (وهي) أي نباهة الشأن (عقلية) لأن
مرجعها إلى إستعظام النفوس لصاحبها وكونه بحيث يعتني به وهذا أمر غير محسوس
فالجامع في هذا القسم مركب من قسمين قسم منه حسى وقسم آخر منه عقلي حسبما بيناه.
(وقد أهمل صاحب
المفتاح هذا القسم لندرة وقوعه ولأنه في الحقيقة إستعار حديهما داخلة فيما كان
الجامع فيها حسيا والأخرى فيما كان الجامع فيها عقليا وهذا هو المراد بقوله (الجامع
في أحديهما حسى وفي الأخرى عقلي فيدخل فيما تقدم) من الاقسام (فلا يكون نوعا آخر)
فيكون الاقسام حينئذ خمسة وهذا هو المراد بقوله (فقال) أي السكاكي (ولأن الاستعارة
مبناها على التشبيه يتنوع إلى خمسة أنواع تنوع التشبيه اليها) فأسقط هذا القسم من
اقسام الاستعارة (لكنه قد ذكر في باب التشبيه الاقسام ألست كلها) يعني جعل هذا
القسم قسما عليحده وجعل اقسام التشبيه ستة ولما كان الاستعارة مبناها التشبيه فلا
وجه لأسقاطه من الاستعارة والعذر بندرة الوقوع وكونه في الحقيقة إستعارتين مشترك
بين التشبيه وبينها فتدبر جيدا.
(والأعطف على
قوله إن كانا حسيين أي وإن لم يكن الطرفان حسيين فهما اي الطرفان اما عقليان نحو
قوله تعالى) حكاية عن قول الكفار يوم القيامة ((مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا) فأن المستعار منه الرقاد اي النوم والمستعار له
الموت) يعني شبه الموت بالرقاد فأستعمل لفظ المشبه به أعني الموت بقرينة
البعث على وجه كما إستعمل لفظ الأسد في الرجل الشجاع بقرينة يرمي (والجامع عدم
ظهور الفعل والجميع عقلي) أي النوم والموت وعدم ظهور الفعل كلها عقلي.
(فأن قلت لم
اعتبر التشبيه في المصدر) أي الرقاد والموت (وجعل الأستعارة تبعية) ويأتي المراد
منها بعيد هذا مفصلا.
(قلت لما سيجيي)
كما قلنا بعيد هذا (من انه إذا كان اللفظ المستعار فعلا أو مشتقا منه فالأستعارة
تبعية والتشبيه) اعتبر (في المصدر سواء كان المشتق صفة كأسم الفاعل والمفعول أو
غير صفة كأسم الزمان والمكان) كما فيما نحن فيه على قول (ولأن المنظور في هذا
التشبيه هو الموت والرقاد لا مجرد القبر والمكان الذي ينام فيه) والتشبيه فيما هو
المنظور أولى واحسن فصح ان إعتبار التشبيه في المصدر والاستعارة تبعية.
(ويحتمل ان
يكون المرقد بمعنى المصدر فيكون قوله المستعار منه الرقاد تفسيرا للكلام وتحقيقا)
وتوضيحا له (فيكون الاستعارة) حينئذ (اصلية) فتحصل مما ذكر ان المستعار منه الرقاد
والمستعار له الموت على كل من الوجهين.
(وههنا بحث وهو
ان الجامع يجب ان يكون في المستعار منه أقوى واشهر ولا شك ان) ههنا ليس كذلك لأن (عدم
ظهور الافعال في الموت الذي هو المستعار له اقوى فهو لا يصح جامعا فقيل) تفصيا عن
هذا البحث ان (الجامع البعث الذي هو في النوم أقوى واشهر لكونه مما لا شبهة فيه
لأحد ولذلك لا ينكره احد وإن كان حقيقته في الموت أقوى لأنه رد الحياة وإحساسها
وفي النوم رد الأحساس فقط (وقرينة الاستعارة كون هذا الكلام كلام الموتى)
بعد البعث (مع قوله (هذا ما وَعَدَ
الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) فلهذه الاستعارة قرينتان أحديهما معنوية وهي كون هذا
الكلام كلام الموتى والثانية قوله (هذا ما وَعَدَ
الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).
(وممن جعل
الجامع عدم ظهور الأفعال من زعم ان القرينة هو ذكر البعث وفيه نظر لأن البعث لا
اختصاص له بالموت) بل يستعمل في النوم أيضا (لأنه يقال بعثه من نومه إذا ايقظه و)
كذلك يقال (بعث الموتى إذا نشرهم والقرينة يجب ان يكون لها إختصاص بالمستعار له)
وحينئذ فتعين ان قرينة الأستعارة كون هذا الكلام كلام الموتى مع قوله (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) الخ.
(وأما مختلفان
عطف على قوله اما عقليان اي احد الطرفين حسي والآخر عقلي) ويلزم ان يكون الجامع
عقليا وقد تقدم بيان ذلك وهذا أي اختلاف الطرفين قسمان لأنهما إذا أختلفا فأما إن
يختلفا (والحسي هو المستعار منه) والعقلي هو المستعار له (نحو قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فأن المستعار منه كسر الزجاجة) ونحوها من الاشياء
الصلبة وتفريق أجزائها (وهو) اي الكسر والتفريق (حسى والمستعار له التبليغ) أي
تبليغ التوحيد والأحكام.
قال في المصباح
صدعته صدعا من باب نفع شققته فأنصدع وصدعت القوم صدعا فتصدعوا فرفتهم فتفرقوا
وقوله تعالى (فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ) قيل مأخوذ من هذا أي شق جماعاتهم بالتوحيد وقيل افرق
بذلك بين الحق والباطل وقيل اظهر ذلك وصدعت بالحق تكلمت به جهارا إنتهى.
(والجامع) بين
الكسر والتبليغ (التأثير وهما) أي وإلمستعار له الذي هو التبليغ والجامع الذي هو
التأثير (عقليان) أما التأثير فكونه عقليا ظاهر وإما التبليغ فقال في القاموس التبليغ
الأيصال وهو أمر عقلي يكون بالقول وبالفعل وبالتقرير فمن قال ان التبليغ تكلم بقول
مخصوص لم يأت بشي إنتهى.
(والمعنى ابن
الأمر ابانة لا تنمحي) أي اظهر الاحكام الالهية إظهارا لا تعود إلى الخفاء (كما لا
يلتئم صدع الزجاجة) كما قال الشاعر الفارسى :
شيشه بشكسته
را پيوند كردن مشكلست
|
|
دل چو از رده
شود خورسند كردن مشكلست
|
(وكذلك) أي نظير الآية في
الأستشهاد (قوله تعالى) في شأن اليهود ((ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ) أي جعلت الذلة محيطة بهم) مشتملة عليهم (كما يضرب
الخيمة او القبة على من فيها أو جعلت الذلة ملصقة بهم حتى لزمتهم ضربة لازب) اي
لازق ثابت (كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه فالمستعار منه) اما (ضرب) الخيمة أو (القبة
على الشخص او ضرب الطين على الحائط وهو) أي كل واحد من ضرب القبة وضرب الطين (حسى
والمستعار له تثبيت الذلة وإلصاقها بهم) أي باليهود (والجامع الاحاطة واللزوم وهما)
اي المستعار له والجامع بالمعنى الذي ذكر لهما (عقليان والأستعارة) حينئذ (تبعية)
لا اصلية (تصريحية) لا بالكناية وسيتضح المراد من كل واحدة منها بعيد هذا أي في
تقسيم الاستعارة بأعتبار اللفظ وفي الفصل الآتي (ويحتمل أن يشبه الذلة) في الذهن (بالقبة
أو الطين ويكون القرينة) على التشبيه المضمر في الذهن (إسناد الضرب المعدى بعلى
اليها) أي إلى الذلة (فيكون) الاستعارة في الآية حينئذ (إستعارة بالكناية) وسيتضح
وجه ذلك في الفصل الآتي.
(وأما) ان
يختلفا والامر على (عكس ذلك) القسم الاول (اي الطرفان مختلفان والحسى هو المستعار
له) والعقلي المستعار منه (نحو قوله تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ) حملنا في الجارية) أي السفينة (فأن المستعار له كثرة
الماء وهو حسي والمستعار منه التكبر) فأن الطغيان حقيقة في التكبر (والجامع
الأستعلاء المفرط) أي الزائد على الحد (وهما) اي التكبر واستعلاء (عقليان) اما
عقلية
التكبر فظاهر لأنه عبارة عن عد المتكبر نفسه كبيرا ذا رفعة أما مع الاتيان
بما يدل عليها او بأعتقادها ولو لم تكن حاصلة له كما في بعض السفهاء ممن عاصرناهم
وأما عقلية الاستعلاء فلأن المراد به طلب العلو وهو عقلي فتأمل.
(والاستعارة
بأعتبار اللفظ المستعار قسمان لأنه أي اللفظ المستعار إن كان اسم جنس وهو ما دل
على نفس الذات الصالحة لأن تصدق على كثيرين) فيكون كليا سواء كان عينا كأسد أو
معنى كقتل فخرج الاعلام والمضمرات واسماء الاشارة وباقي المبهمات فأنها كلها
جزئيات لا تجري الاستعارة فيها (من غير إعتبار وصف من الاوصاف) فلا يكون مشتقا مثل
ضارب وقاتل لأنها إنما وضعت بأعتبار الأوصاف بخلاف لفظ أسد ونحوه فأنه دال على
الذات والماهية من غير إعتبار وصف من أوصافه لأنه وضع للحيوان المفترس من حيث هو
لا بأعتبار كونه شجاعا وذا جرئة حتى لو وجد اسد غير شجاع صدق عليه اسم الأسد هذا
ولا يذهب عليك ان الفرق بين إسم الجنس في هذا الفن وبين ما هو المصطلح عند النحاة
يحتاج إلى مزيد دقة وتأمل فتأمل تعرف (فأصلية أي فالاستعارة اصلية) نسبة إلى الاصل
بمعنى ما كان مستقلا وليس مبنيا على غيره ولا شك ان هذه الاستعارة تعتبر اولا من
غير توقف على تقدم إستعارة أخرى بخلاف التبعية فأنها متوقفة على استعارة اخرى
متقدمة عليها وسيأتي بيان ذلك او بمعنى ما ابتنى عليه غيره كما في شرح الأمثلة إذ
لا شك كما يأتي إنها اصل للتبعية لبنائها عليها (كأسد إذا أستعير للرجل الشجاع) نحو
رأيت اسدا (وقتل) بسكون التاء نحو هذا قتل (إذا استعير للضرب الشديد والأول اسم
عين) وقد بينا المراد منه في الكلام المفيد (والثاني اسم معنى) وقد بيناه هناك
أيضا (وكذا ما يكون متأولا بأسم جنس كالعلم نحو رأيت اليوم حاتما) اي رجلا كريما
فأن حاتما وإن
كان علما وجزئيا لكنه اول بأسم جنس وهو رجل يلزمه الكرم والجود بحيث يكون
الكرم والجود غير معتبر في مفهومه وإنما قلنا أي رجلا كريما ولم نقل كريما لأنه لو
أول بكريم لدخل في دلالته وصف الكرم فيكون مثل كريم المشتق من الكرم فيصير
الاستعارة فيه تبعية لا اصلية.
والحاصل ان إسم
الجنس بالتفسير المتقدم لا يتناول العلم الشخصي إذ ليس مدلوله ذاتا صالحة لأن تصدق
على كثيرين وإلا لكان كليا ولو تضمن نوع وصفية لأن الوصف الذي اشتهرت به ذات الشخص
خارج عن مدلوله الوضعي كأشتهار الأجناس بأوصافها الخارجة عن مدلولاتها الوضعية
بخلاف الأسماء المشتقة فأن المعاني المصدرية المعتبرة فيها داخلة في مدلولاتها
الوضعية فلذا كانت الأعلام المشتهرة بوصف ملحقة بأسماء الأجناس دون الصفات
وإلحاقها بأسماء الأجناس يجعل الوصف المتضمن وسيلة لتأويلها بكلى ويجعل ذلك الوصف
وجه شبه على انه لازم لا داخل في مفهوم اللفظ كالمشتق ويجعل ملزومة الكلى فردين
احدهما الفرد المتعارف والآخر غير المتعارف وقد تقدم بعض الكلام في ذلك فيما سبق
عند قول الخطيب ولا يكون الاستعارة علما فراجع إن شئت.
(وإلا فتبعية
أي وإن لم يكن اللفظ المستعار إسم جنس فالاستعارة تبعية) لكن بعد تحقق كون اللفظ
صالحا للأستعارة فلا ينتقض بما يكون معناه جزئيا كالاعلام الشخصية والضمائر وسائر
المبهمات كالفعل وما يشتق منه) هذا بناء على ان الأصل هو الفعل دون المصدر أو يقال
ان التقدير او ما يشتق من مصدره (من اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وأفعل
التفضيل وإسم الزمان والمكان والالة) في هذه الثلاثة الاخيرة كلام يأتي بعيد هذا (والحرف
وإنما كانت) الاستعارة في الأمور المذكورة (تبعية لأن الاستعارة
تعتمد) على (التشبيه والتشبيه يقتضي كون المشبه موصوفا بوجه الشبه او)
موصوفا (بكونه مشاركا للمشبه به في وجه الشبه) لفظة أو اشارة إلى انه لا فرق بين
التعبيرين في الدلالة على المقصود فهي للتنويع في التعبير فأنت مخير في التعبير
بكل من العبارتين لأنهما متلازمان اذ يلزم من كون المشبه موصوفا بوجه الشبه ان
يكون مشاركا للمشبه به في وجه الشبه وبالعكس.
(وإنما يصلح
للموصوفية الحقائق أي الامور المتقررة) اي التي اجتمع اجزائها في الوجود (الثابتة)
في نفسها لاستقلالها بالمفهومية سواء كانت تلك الحقائق من الجواهر والاعيان (كقولك
جسم ابيض) أو من الاعراض والمعاني (و) ذلك كقولك (بياض صاف) فكل من الجسم والبياض
مدلولة متقرر أي ليس سيالا متجددا شيئا فشيئا وثابت في نفسه لأستقلاله بالمفهومية
فلذا صح وصف الاول بالبياض والثاني بالصفاء.
(دون معاني
الأفعال والصفات المشتقة منها) فأن معانيها لا تصلح للموصوفية (لكونها متجددة غير
متقررة بواسطة دخول الزمان في مفهومها) وذلك في الأفعال (أو عروضه لها) وذلك في
الصفات المشتقة منها (ودون) معاني (الحروف) فأنها أيضا لا تصلح للموصوفية (وهو) اي
عدم صلاحية معاني الحروف (ظاهر) وذلك لعدم استقلالها بالمفهومية وعدم تقررها في
نفسها لأنها روابط والات لملاحظة غيرها كما قرر ذلك في النحو مستقصى (واما الموصوف
في نحو شجاع باسل وجواد فياض وعالم نحرير فمحذوف أي رجل شجاع باسل) ورجل جواد فياض
ورجل عالم نحرير (كذا ذكره القوم) في وجه كون الاستعارة في الفعل وما يشتق منه
تبعية.
(و) لكن (ههنا)
أي فيما ذكره القوم (نظر وهو) اي النظر (ان هذا الدليل) اولا غير صحيح في نفسه
لأنه منقوض بنحو قولهم حركة سريعة طيبة
وهذا زمان صعب فكل من الحركة والزمان لا تقرر له مع صحة وصف كل منهما
وثانيا (بعد تسليم صحته غير متناول لأسماء الزمان والمكان والالة لأنها تصلح
للموصوفية نحو مقام واسع ومجلس فصيح) هذان المثالان للمكان بدليل الوصف المذكور
فيهما (ومنبت طيب) يمكن ان يكون للزمان واما مثال الالة فكقولك مفتاح طويل ومضراب
ثقيل (ولا تقع) هذه الثلاثة اوصافا البتة) أي يقينا وجزما (وهم ايضا خصصوا) في
الاستعارة التبعية (ما يشتق من الفعل بالصفات المشتقة وهذه) الثلاثة (ليست بصفات
بالاتفاق) وإن كانت مشتقة فبتخصيصهم ما يشتق من الفعل بالصفات أيضا خرجت هذه
الثلاثة (ولذا) أي ولكون هذه الثلاثة خارجة عن الصفات بالأتفاق (صرحوا بأن تعريف
الصفة) المشتقة التي تكون الأستعارة فيها تبعية (بما دل على ذات بأعتبار معنى هو
المقصود غير صحيح) أي غير مانع للأغيار (لأنتقاضه بأسم الزمان والمكان والالة فأن
المقتل مثلا اسم للمكان بأعتبار وقوع الفعل فيه).
فتحصل من جميع
ما ذكرنا ان اسماء الزمان والمكان والالة خارجة عن الصفات التي تكون الأستعارة
فيها تبعية وذلك لعدم تناول دليلهم لها ولتخصيصهم المذكور (فيجب ان يكون الأستعارة
فيها اصلية لا تبعية و) يجب (ان يقدر التشبيه في نفسها لا في مصادرها ولا شك) في
ان الامر ليس كذلك إذ يجب ان يقدر التشبيه في مصادرها حتى يكون الاستعارة تبعية لا
في نفسها إذ لا شك في (إنا إذا قلنا بلغنا مقتل فلان أي الموضع الذي ضرب فيه شربا
شديدا كان المعنى) على الاستعارة التبعية أي (على تشبيه ضربه) اي مضروبيته (بالقتل)
أي بالمقتولية فقدر التشبيه في المصدر لا في نفس اسم المكان (وكذا إذا قلنا هذا
مرقد فلان اشارة إلى قبره فهو) على تشبيه المصدر أي (على تشبيه الموت بالرقاد) لا
على تشبيه نفس اسم المكان اي المرقد
بمكان الموت.
(فالاولى)
التمسك بدليل آخر يتناول اسماء الزمان والمكان والالة وهو (ان يقال ان المقصود
الأهم في الصفات) المشتقة (وإسم الزمان والمكان والالة هو المعنى) المصدري (القائم
بالذات لأنفس الذات) مثلا المقصود الأهم في ضارب إتصاف الذات أي زيد مثلا بصدور
الضرب منه وكذا المقصود الأهم في مقتل إتصاف الذات أي الموضع الذي فيه القتل بكونه
موضعا لوقوع القتل (وهذا ظاهر) لكل من هو عارف بالغرض من الأشتقاق.
(فاذا كان
المستعار صفة أو اسم مكان مثلا) او غيرهما من سائر المشتقات (ينبغي ان يعتبر
التشبيه فيما هو المقصود الأهم) أي المعنى المصدري (إذ لو لم يقصد ذلك) التشبيه (لوجب
ان يذكر اللفظ الدال على نفس الذات) كزيد والدار مثلا (وحينئذ) أي حين إذ ثبت ان
التشبيه في المشتقات ينبغي ان يعتبر فيما هو المقصود الأهم لا في نفس الذات (يكون
الاستعارة في جميعها تبعية) فهذا الدليل من دليلهم لأنه متناول لأسم الزمان
وأخويه.
(فالتشبيه في
الاولين أي الفعل وما يشتق منه لمعنى المصدر وفي الثالث اي الحرف لمتعلق معناه أي
لما تعلق به معنى الحرف) اي للمعنى الكلي الذي يكون معنى الحرف جزئيا من جزئياته
كالأبتداء الخاص في سرت من البصرة فأنه متعلق بالأبتداء الكلي تعلق الجزئي بالكلي
وكذلك الأنتهاء الخاص في إلى الكوفة.
(قال صاحب
المفتاح المراد بمتعلقات معاني الحروف ما) أي المتعلقات الكلية التي (يعبر بها) أي
بتلك المتعلقات الكلية (عنها) اي عن المعاني الحرفية (عند تفسير معانيها) أي معاني
الحروف (مثل قولنا من معناها ابتداء الغاية وفي معناها الظرفية وكي معناها الغرض)
أي التعليل (فهذه) المعاني المذكورة
لهذه الحروف (ليست معاني) تلك (الحروف) لأن تلك المعاني المذكورة معاني
كلية مستقلة بالمفهومية (وإلا) أي وإن كانت تلك المعاني الكلية المستقلة معاني
لتلك الحروف (لما كانت) تلك الحروف (حروفا بل اسماء لأن الأسمية والحرفية) أي
اسمية الكلمة وحرفيتها (إنما هي بأعتبار المعنى) فاذا كان معنى الكلمة كليا مستقلا
بالمفهومية ولم يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة فتلك الكلمة اسم (وإنما هي) أي تلك
المعاني المذكورة لتلك الحروف (متعلقات لمعانيها اي إذا افادت هذه الحروف معاني)
جزئية (رجع تلك المعاني) الجزئية المفادة بتلك الحروف (إلى هذه) المعاني الكلية (بنوع
إستلزام) أي بأستلزام نوعي وهو إستلزام الجزئي للكلي لا العكس.
والحاصل ان من
مثلا موضوعة للأبتداء الخاص والابتداء الخاص لما كان يرد إلى مطلق الأبتداء أي
يستلزمه كان مطلق الإبتداء متعلقا بالأبتداء الخاص وهكذا بقية الحروف.
فتحصل مما
ذكرنا ان المراد من المتعلق المعنى الكلي الذي يعبر به عن المعنى الجزئي للحرف (فقول
المصنف) في الأيضاح (في تمثيل متعلق الحرف كالمجرور في زيد في نعمة) أي كمعنى
المجرور لأن تقدير التشبيه في المعنى بالأتفاق (ليس بصحيح) لأن معنى المجرور الخاص
ليس هو المتعلق بل المتعلق كما هو المعنى الكلي الذي استلزمه معنى الحرف حسبما
قررناه فمتعلق كلمة في في المثال المذكور الظرفية الكلية لا النعمة (كما سنشير
اليه) أي كما سنشير إلى عدم صحة ذلك في ذيل نقل كلام صاحب الكشاف حيث يقول وهو غير
مستقيم الخ.
(فيقدر التشبيه
في نطقت الحال) بكذا (و) في (الحال ناطقة بكذا للدلالة بالنطق أي يقدر تشبيه دلالة
الحال بنطق الناطق في إيضاح المعنى وإيصاله
إلى الذهن) أي ذهن المخاطب (ثم تدخل الدلالة في جنس النطق بالتأويل المذكور)
عند قول الخطيب والاستعارة تفارق الكذب بوجهين الخ (فيستعار لها لفظ النطق ثم يشتق
منه) أي من النطق بمعنى الدلالة (الفعل) كما في نطقت الحال بكذا (والصفة) كما في
الحال ناطقة بكذا (فيكون الاستعارة في المصدر أصلية وفي الفعل والصفة تبعية)
لتأخرها وفرعيتها عن الاستعارة التي في المصدر.
هذا كله بناء
على جعل العلاقة بين الدلالة والنطق المشابهة ويمكن ان يكون العلاقة بينهما
الملازمة وإلى ذلك أشار بقوله (وسمعت بعض الأفاضل يقول ان الدلالة لازمة للنطق فلم
لا يجوز ان يكون إطلاق النطق عليها) أي على الدلالة (مجازا مرسلا بأعتبار ذكر
الملزوم وإرادة اللازم من غير قصد إلى التشبيه ليكون إستعارة.
فقلت إن اللفظ
الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد) المجازي (يجوز ان يكون مجازا مرسلا وإن يكون
استعارة بأعتبارين وذلك إذا كان بين ذلك المعنى) المجازي (والمعنى الحقيقي نوعان
من العلاقة أحدهما المشابهة) فيكون حينئذ استعارة (والآخر غيرها) أي علاقة كانت
فيكون حينئذ مجازا مرسلا (كاستعمال المشفر في شفة الانسان فأنه) قد عرفت فيما سبق
انه (استعارة بأعتبار قصد المشابهة في الغلظ ومجاز مرسل بأعتبار إستعمال المقيد
اعني مشفرا لبعير في مطلق الشفة على ما صرح به الشيخ عبد القاهر) في أسرار البلاغة
(فكذا إطلاق النطق على الدلالة) فأنه إذا اطلق عليها بأعتبار علاقة اللزوم من غير
قصد إلى التشبيه كان مجازا مرسلا وإذا اطلق عليها بعلاقة المشابهة كان إستعارة (وحينئذ
يصح التمثيل) بالنطق للأستعارة (على أحد الأعتبارين) اي اعتبار علاقة المشابهة (فأستحسنه
اي بعض الأفاضل.
(ويقدر التشبيه
في لام التعليل نحو (فَالْتَقَطَهُ) اي موسى (ع) (آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) للعداوة أي يقدر تشبيه العداوة والحزن الحاصلين بعد
الألتقاط بعلته أي علة الألتقاط الغائية كالمحبة والتبني) اي اخذه ابنا لهم (ونحو
ذلك) مما يحصل من الألتقاط والحاصل انه شبه العداوة والحزن الحاصلين بعد الألتقاط
بالعلة الغائية للألتقاط وهي محبة موسى لآل فرعون وإتحادهم له ابنا فأنه إنما
حملهم على التقاطه وكفالتهم له ما رجوه من انه يحبهم ويكون ابنا لهم فلما كان
الحاصل بعد الالتقاط ضد ذلك من العداوة والحزن شبه ذلك بالعلة الغائية التي رجوها (في
الترتب على الالتقاط والحصول بعده) يعني الجامع ووجه الشبه بين العداوة والحزن
وبين العلة الغائية التي رجوها ترتب كل على الالتقاط وإن كان الترتب في العلة
الغائية رجائيا وفي العداوة والحزن فعليا.
(ثم) أي بعد
هذا التشبيه المذكور (استعمل في العداوة والحزن ما) أي لفظ لام العلة الذي (كان
حقه ان يستعمل في العلة الغائية فيكون الاستعارة فيها) أي في اللام (تبعا
للأستعارة في المجرور) اي العداوة والحزن.
(و) ليعلم ان (هذا
الذي ذكره المصنف) في المقام (مأخوذ من كلام صاحب الكشاف حيث قال معنى التعليل في
اللام وارد على طريق المجاز لأنه لم يكن داعيتهم إلى الالتقاط ان يكون لهم عدوا
وحزنا ولكن) كان داعيتهم (المحبة والتبني غير ان ذلك لما كانت نتيجة التقاطهم
وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل فعله لأجله وهو غير مستقيم على مذهب المصنف)
والجمهور أيضا وإنما اقتصر على المصنف لكون الكلام معه (لأن المشبه) كما علم سابقا
(يجب ان يكون متروكا في الاستعارة على مذهبه سواء كانت إستعارة أصلية
او تبعية غاية ما في الباب ان التشبيه في التبعية لا يكون في مفهوم) اللفظ
المذكور في الكلام بل في المصدر أو المتعلق حسبما فصلناه.
(نعم هذا) الذي
ذكره المصنف (موجه على ان يكون استعارة بالكناية في نفس المجرور لأنه اضمر في
النفس تشبيه العداوة) والحزن (بالعلة الغائية) يعني المحبة والتبني (ولم يصرح بغير
المشبه ودل عليه) أي على التشبيه المضمر في النفس (بذكر ما يخص المشبه به وهو لام
التعليل) وبعبارة أخرى جعل اللام قرينة على التشبيه لأن اللام من مختصات ما يكون
علة غائية بنظر الفاعل لا مطلق ما يترتب على الفعل (فلا يكون من الاستعارة التبعية
في شيء وكذا يصح على مذهب السكاكي في الاستعارة بالكناية لأنه ذكر المشبه اعني
العداوة) والحزن (وأريد المشبه به اعني العلة الغائية) اي المحبة والتبني (إدعاء
بقرينة لام التعليل) وسيأتي تفصيل مذهب السكاكي في الاستعارة بالكناية وإنكاره
للأستعارة التبعية في أواخر الفصل الآتي مع توضيح منا إنشاء الله تعالى.
(فتحقيق
الاستعارة التبعية في ذلك) بحيث يطابق رأي الجمهور والمصنف (إنه شبه ترتب العداوة
والحزن على الألتقاط) لأنفسهما كما قال المصنف اخذا من كلام صاحب الكشاف (بترتب
علته الغائية) لا بنفس العلة الغائية للألتقاط اعني المحبة والتبني.
والحاصل انه
شبه الترتب بالترتب لا المترتب بالمترتب (ثم إستعمل في المشبه) أي في ترتب العداوة
والحزن (اللام الموضوعة للدلالة على ترتب العلة الغائية الذي هو المشبه به فجرت
الاستعارة عليه) أي على هذا التحقيق (او لا في العلية والغرضية وبتبعيتها) جرت
الاستعارة في اللام كما في نطقت الحال) والحال ناطقة حيث قلنا انه جرت الاستعارة
او لا في المصدر ثم يشتق
منه الفعل والصفة فيكون الاستعارة في المصدر اصلية وفي الفعل والصفة تبعية.
(فصار حكم
اللام حكم الأسد حيث أستعيرت لما يشبه العلية) كما استعير الأسد لما يشبه الحيوان
المفترس (والحاصل انه أن قدر إلتشبيه) المضمر في النفس أي في الذهن (في امثال ذلك
فيما دخل عليه الحرف) كالمجرور أعني العداوة والحزن على ما زعمه المصنف (فالاستعارة
مكنية وللحرف) يعني اللام (قرينة) على ذلك التشبيه (وهو إختيار السكاكي) حسبما
بيناه ويأتي في الفصل الآتي مفصلا (كما إذا قدر في نطقت الحال تشبيه الحال) في
النفس (بالانسان المتكلم ويكون نطقت قرينة) على ذلك التشبيه (وإن قدر التشبيه في
متعلق معنى الحرف كالعلية والظرفية وما أشبه ذلك) كالاستعلاء والالصاق ونحوهما (فالأستعارة
تبعية) حسب التحقيق الذي أخترناه.
ولما كانت
الاستعارة التبعية لا بد لها من قرينة لأنها مجاز كسائر الأستعارات شرع في بيان
قرينتها فقال (ومدار قرينتها أي قرينة الأستعارة التبعية في الاولين أي الفعل وما
يشتق منه على الفاعل) حاصله انه يدور القرينة على الفاعل بمعنى ان اسناد الفعل وما
يشتق منه يكون قرينة على الاستعارة فيهما (نحو نطقت الحال) فأسناد نطقت الى الحال
يكون قرينة على ان المراد من نطقت ليس معناه الحقيقي بل المراد منه معناه المجازي
أعني دلت (فأن النطق الحقيقي لا يسند إلى الحال) لأن النطق يتوقف على اللسان
والحال ليس لها لسان.
فأن قلت
فالقرينة حينئذ من قسم إستحالة قيام المسند بالمسند اليه وقد تقدم في بحث الاسناد
الخبري إن ذلك من قرائن المجاز العقلي والكلام ههنا
في المجاز اللغوي.
قلت لا يضر ذلك
لأن المقصود بالقرينة ما يصرف عن إرادة المعنى الحقيقي وهذه كذلك وإن صلحت للمجاز
العقلي أيضا فتبصر.
(او) على (المفعول
نحو جمع الحق لنا في امام قتل البخل واحيى السماحا فأن القتل والأحياء الحقيقيين
لا يتعلقان بالبخل والجود) لأنهما يحتاجان إلى البدن ذي الروح والبخل والجود لا
بدن لهما ولا روح فالمراد بالقتل معناه المجازي وهو الأزالة وكذلك المراد بالأحياء
معناه المجازي وهو الأظهار فالقرينة في هاتين الأستعارتين جعل البخل والسماح
مفعولين.
(ونحو قول
القطامي) بضم القاف :
لم تلق قوما
هم شر لأخوتهم
|
|
منا عشية
يجري بالدم الوادي
|
نقريهم
لهذميات نقد بها
|
|
ما كان خاط
عليهم كل زراد
|
اللهذم من
الأسنة) جمع سنان (القاطع فأراد بلهذميات طعنات منسوبة إلى الأسنة القاطعة او أراد
نفس الأسنة و) ياء (النسبة) في لهذميات (للمبالغة كأحمري) هذا جواب عما يمكن ان
يقال ان المراد باللهذميات إن كان نفس الأسنة كان نسبة الشيء إلى نفسه وحاصل
الجواب إن النسبة هنا للمبالغة في المنسوب بمعنى إنه لم يوجد أعلى منه حتى ينسب
اليه فنسب إلى نفسه كما يقال للرجل شديد الحمرة احمري فزيدت الياء فيه لأفادة
المبالغة في وصف الحمرة فما يقال من أن نسبة الشيء إلى نفسه ممنوعة إنما هو فيما
لم يكن المقصود بالنسبة المبالغة وإلا فلا منع فتدبر.
(والقد القطع
وزرد الدرع وسردها نسجها فالمفعول الثاني أعني اللهذميات قرينة على ان نقريهه
إستعارة) بمعنى نطعنهم وذلك لأن اللهذميات لا يصح تعلق القرى الحقيقي بها إذ هو
تقديم الطعام للضيف فعلم ان المراد به هنا
ما يناسب اللهذميات وهو تقديم الطعنات في الحرب عند اللقاء أو تقديم الأسنة
فشبه تقديم الطعنات أو الأسنة بالقرى وهو تقديم الطعام للضيف والجامع ووجه الشبه
تقديم ما يصل من خارج إلى داخل وأستعير اسم القرى لتقديم الطعنات أو الأسنة ثم
اشتق من القرى الفعل اعني نقريهم بمعنى نقدم لهم الطعنات أو الأسنة على طريق
الاستعارة التبعية.
(وقد يكون
المفعولات بحيث يصلح كل منهما قرينة كقول الحريري واقرى) بضم الهمزة وسكون القاف (المسامع
اما نطقت) بفتح النون وضم التاء (بيانا يقود الحرون الشموسا) الشاهد في مفعولي
أقرى (فأن تعلق اقرى بكل من المسامع) وهو مفعوله الأول (والبيان) وهو مفعوله
الثاني (دليل على إنه) أي اقرى (إستعارة) عن إيراد الكلام البليغ الذي يؤثر في كل
من سمعه فيتعظ ويتوب عن المعاصي ويعمل بالصالحات من الأعمال.
(او) مدار
قرينتها (المجرور نحو (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فأن ذكر العذاب) الذي هو مجرور بالباء (قرينة على ان
بشر إستعارة) تهكمية وقد تقدم بيانها في الأستعارة العنادية حيث قال أستعيرت
البشارة التي هي الأخبار بما يظهر سرور المخبر له للأنذار الذي هو ضدها بأدخاله في
جنسها على سبيل التهكم وكذا رأيت اسدا وانت تريد جبانا على الوجوه المذكورة هناك.
(أو) مدار
قرينتها (على الجميع اعني الفاعل والمفعول) الاول او الثاني (والمجرور نحو قرى حرب
بني فلان اعناق الأعادي بالسيوف طعنات) والشاهد يعلم مما تقدم.
(وأما تمثيل
السكاكي في ذلك) اي فيما كان مدار قرينتها على الجميع بقول الشاعر :
تقرى الرياح
رياض الحزن مزهرة
|
|
إذا سرى
النوم في الاجفان إيقاظا
|
فغير صحيح لأن
المجرور اعني في الأجفان متعلق بسرى لا بتقرى) فلا يصح ان يكون قرينة له.
(وما ذكره
الشارح من انه) أي في الأجفان (قرينة على ان سرى إستعارة) عن غلبة النوم وجريانه
في الأجفان فهو مجاز يعني إستعارة تبعية (لأن سرى في الحقيقة السير) بالأقدام (بالليل)
وهذا المعنى غير حاصل للنوم (فليس) ما ذكره الشارح (بشيء) لأنه لا ينطبق على
المقصود في المقام (لأن المقصود) في المقام (إن يكون الجميع قرينة لأستعارة واحدة)
والبيت على ما ذكره ليس كذلك لأن الفاعل اعني الرياح والمفعول أعني الرياض قرينة
للأستعارة في تقرى والمجرور قرينة للأستعارة في سرى فلا وحدة.
(وإنما قال
مدار قرينتها) ولم يقل وقرينتها (على كذا) لأن القريتة لا تنحصر فيما ذكر (لجواز
أن يكون القرينة غير ذلك كقرائن الأحوال) والقرائن العقلية (نحو قتلت زيدا إذا
ضربته ضربا شديدا) وهو حي يرزق.
والحاصل انه
قال ومدار قرينتها على ما ذكر ولم يقل وقرينتها الفاعل والمفعول والمجرور إذ لو
قال ذلك لاقتضى انحصار قرينة التبعية فيما ذكر لأنه قد سبق في علم المعاني إن
الجملة المعرفة الطرفين تفيد الحصر بخلاف قوله ومدار قرينتها على كذا فأنه لا يفيد
الأنحصار فيما ذكر لأن دوران الشيء على الشيء لا يقتضي ملازمته دائما عند العرف لصحة
إنفكاك الدوران مثلا يقال مدار عيش الطائفة الفلانية على التمر والشعير مثلا ويصح
أن يعيشوا بغيرهما فحاصل قوله ومدار قرينتها على ما ذكر انه الأكثر أو الأصل.
(واما القرينة
في الحروف فغير منضبطة) والضابط فيها ان يكون تعلق الفعل أو ما يشتق منه بالمجرور
غير مناسب من حيث المعنى فيعلم بذلك ان المراد معناه المناسب للمقام والمقامات
مختلفة فتكون القرينة فيها غير منضبطة.
(والاستعارة
بأعتبار آخر غير اعتبار الطرفين والجامع واللفظ) بل بأعتبار إقتران الملائم لأحد
الطرفين وعدمه (ثلاثة اقسام لأيها ان لم تقرن بشيء يلائم) أي بصفة او تفريع يناسب (المستعار
له والمستعار منه) هذا هو الأول (أو قرنت بما يلائم المستعار له) هذا هو القسم
الثاني (او) قرنت بما يلائم (المستعار منه) هذا هو القسم الثالث والقسم (الأول
مطلقة) وإنما سميت بذلك لكونها غير مقيدة بشيء مما يلائم المستعار له والمستعار
منه (وهي ما لم تقرن بصفة) أي بصفة تلائم اي تناسب احد الطرفين (ولا تفريع اي
تفريع كلام) يلائم احد الطرفين وبيان الصفة والتفريع هو قوله (مما يلائم المستعار
له أو المستعار منه).
والفرق بين
الصفة والتفريع إن الملائم ان كان من بقية الكلام الذي فيه الأستعارة فهو صفة وإن
كان كلاما مستقلا جيئ به بعد ذلك الكلام الذي فيه الأستعارة لكن كان الكلام الثاني
مبنيا على الكلام الأول فتفريع مثلا إن جعلت يرمي في قولنا رأيت اسدا يرمي قيدا
للأسد للمدح ونحوه فيكون من بقية الكلام فهو صفة وإن جعلته جملة مستقلة مستأنفة
أعني جواب سؤال مقدر كأنه قيل أي شيء كان يفعل ذلك الأسد فقيل في الجواب يرمي
فيكون تفريعا ويأتي عنقريب إن من هذا القبيل قوله تعالى (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) بعد قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فظهر مما بينا إن الكلام الثاني إن كان مستقلا فهو
تفريع سواء كان بحرف تفريع أعني الفاء كالآية او بدونه كالمثال.
(نحو عندي أسد)
هذا مثال للأستعارة التي لم تقرن بشيء من الملائم وعندي قرينة للمجازية والاستعارة
ووجهه ظاهر إذ لا يعقل عادة إن يكون عند المتكلم الأسد الحقيقي.
(والمراد
بالصفة) التي قلنا قد لا تقترن الاستعارة بها ولا بالتفريع فتكون مطلقة (المعنوية)
التي هي معنى قائم بالغير (لا النعت النحوي) الذي هو احد التوابع (على ما مر في
بحث القصر) النسبة بينهما مفصلا فراجع.
(و) القسم (الثاني)
من الاقسام الثلاثة (مجردة) وإنما سميت بذلك لتجردها عن شيء من المبالغة في
الأستعارة لأن هذا القسم صار بذكر ما يلائم المشبه أبعد من دعوى الاتحاد مع المشبه
به كما هو اي الاتحاد مبنى الأستعارة ومنه نشاء المبالغة.
(وهي) أي
المجردة (ما قرن بما يلائم المستعار له كقوله اي قول كثير) بالتصغير وهو شاعر
معروف وإنما صغروه لشدة قصره حتى قيل في شأنه انه من حدثك إنه يزيد على ثلاثة
اشبار فلا تصدقه (غمر الرداء اي كثير العطاء إستعار الرداء للعطاء لأنه يصون عرض
صاحبه) أي يصون ما يوجب مذمته وتعييبه وكل ما يكره عقلا (كما يصون الرداء ما يلقى
عليه) من الغبار والدنائس والحر والبرد ومن كل ما يكره حسا (ثم وصفه) أي الرداء
الذي هو المستعار منه (بالغمر) اي الكثرة (الذي يناسب) ويلائم (العطاء) الذي هو
المستعار له فأنه يقال عطاء كثير أو قليل (دون الرداء) الذي هو المستعار منه فأنه
لا يقال رداء كثير بل يقال رداء واسع أو ضيق (تجريدا للأستعارة اي لكون الاستعارة
مجردة بالمعنى الذي بيناه آنفا.
(والقرينة) على
استعارة الرداء للعطاء (سياق الكلام) أي ما يساق إليه الكلام (اعني قوله إذا تبسم
ضاحكا اي) يكون التبسم حالكونه (شارعا في الضحك أخذا فيه).
لما كان التبسم
دون الضحك فلم يكن الضحك مجامعا له فسره بشارعا في الضحك فجعله حالا وفي قوله (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) مدح بأنه وقور لا يقهقه وإنه
باش بسام في وجه المحتاجين فلا يكون عبوسا قمطريرا كما هو صفة اللآم
والسفلة.
(وتمامه) أي
تمام البيت (غلقت بضحكته رقاب المال يقال غلق) بكسر اللام (الرهن) اي المال
المرهون (في يد المرتهن إذا لم يقدر) الراهن (على إنفكاكه) أي الرهن (يعني إذا
تبسم) الممدوح (غلقت رقاب امواله في ايدي السائلين) أي يأخذون امواله بدون ان يأذن
لهم وهو من حسن خلقه وكرمه لا يقدر على نزعها من أيديهم وحاصله إنه يعلم ان
للسائلين والمحتاجين حقا في امواله كما قال الله تعالى (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ) فبذلك لا يأخذها منهم فصارت الاموال مرهونة عندهم وإنه
عاجز عن اداء حقهم فلذلك لم يقدر على إنفكاكها من أيديهم.
وليعلم إنه قد
أشير بقوله ثم وصفه بالغمر الخ إلى ان البيت مثال التجريد بالصفة واما مثال
التجريد بالتفريع فقد اشرنا اليه فيما سبق فلا تغفل (وعليه) اي على القسم الثاني
أي الاستعارة المجردة جاء قوله تعالى (فَأَذاقَهَا اللهُ
لِباسَ الْجُوعِ)) لأنه أستعير اللباس كما سيصرح لما يدرك عند الجوع
والخوف من الضر وإنتفاع اللون ورثاثة الهيئة.
ثم قرنت الاستعارة
بالأذاقة التي تلائم المستعار له على وجه دقيق أشار إليه الزمخشري حيث قال الأذاقة
جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا وما يمس منها يقولون ذاق فلان البؤس
وإذاقه العذاب إنتهى ولم تقرن بما يلائم المستعار منه اعني اللباس (حيث لم يقل
فكساها) حاصله إنه جعل الاستعارة في الآية مجردة لا مرشحة (لأن الترشيح) وسيأتي
بيانه (وإن كان ابلغ) كما يأتي بيانه أيضا (لكن الأدراك بالذوق) الذي ذكر في الآية
ليكون الاستعارة مجردة (يستلزم الأدراك باللمس) الذي يدل عليه الكسوة التي لم
تذكر في الآية إذ اللمس كما ذكرناه سابقا قوة سارية في جميع البدن حتى في
جرم اللسان الذي محل الذوق (من غير عكس) لأن الأدراك باللمس لا يستلزم الأدراك
بالذوق وذلك ظاهر لا يحتاج إلى البيان (فكان في) ذكر (الأذاقة اشعارا بشدة الاصابة)
اي أصابه الجوع والخوف لأنها اي الاذاقة تدل على اصابتهما وتأثيرهما حتى في الباطن
(بخلاف الكسوة) فتأمل جيدا.
(وإنما لم يقل
طعم الجوع) بدل لباس الجوع حتى يكون المستعار منه الطعم دون اللباس فيكون
الاستعارة مرشحة لكون الاذاقة حينئذ ملائمة للمستعار منه (لأنه) أي الطعم (وإن
لائم) اي ناسب (الاذاقة) من دون حاجة إلى ما ذكرنا نقلا عن الزمخشري من الوجه
الدقيق (فهو) اي الطعم (مفوت) أي فاقد (لما يفيده) لفظ (اللباس من بيان ان الجوع
والخوف عم اثرهما جميع البدن) مثل (عموم الملابس) فأن اللباس يعم جميع بدنه.
(فإن قيل
المستعار له هو ما يدرك عند الجوع من الضر وإنتقاع اللون ورثاثة الهيئة على ما مر)
في أول بحث الاستعارة مفصلا) والاذاقة (لكونها من خواص المطعومات (لا تناسب ذلك)
المستعار له لأنه ليس من المطعومات (فكيف يكون تجريدا) لأن التجريد على ما بين
إنما يكون إذا قرن بما يلائم المستعار له وهذا كما قلنا ليس كذلك.
(قلنا المراد
بالاذاقة) ليس معناها المتعارف المعهود الذي يوجد باللسان بل المراد (إصابتها بذلك
الأمر الحادث) عند الجوع والخوف (الذي أستعير له اللباس كأنه قيل فأصابها بلباس من
الجوع والخوف و) قد قلنا نقلا عن الزمخشري ان (الأذاقة) بهذا المعنى المناسب
للمستعار له المذكور (جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد كما
يقال ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب) وبهذا المعنى يقال في الفارسية (حلوا
بكسى ده كه
محبت نچشيده باشد) فتدبر جيدا.
إلى هنا كان
مبنى الكلام على ان في الآية الشريفة إستعارة واحدة (و) لكن (الذي يلوح من كلام
القوم في هذه الآية ان في لباس الجوع إستعارتين أحديهما تصريحية) وجه التسمية
التصريح بأسم المستعار منه كما يظهر ذلك من قوله (وهي إنه شبه ما غشى الأنسان) أي
ستره اي احاط به اي عرض عليه (عند الجوع والخوف من بعض الحوادث) يعني الضر وإنتقاع
إللون ورثاثة الهيئة على ما مر (باللباس لإشتماله على اللابس ثم أستعير له اللباس
و) الاستعارة (الأخرى مكنية) سيأتي عنقريب وجه التسمية بذلك مفصلا (وهو) أي
المكنية في الآية (انه شبه ما يدرك من اثر الضر والألم) عند الجوع والخوف (بما
يدرك من طعم المر والبشع) يقال طعام بشع فيه كراهة ومرارة كذا في المصباح فهو من
عطف العام على الخاص (حتى أوقع عليه الأذاقة) أي جعلها قرينة على التشبيه المضمر
في النفس (كذا في الكشاف) في بيان الأستعارة في الآية.
(فعلى هذا)
الأخير أي الأستعارة بالكناية (يكون) إثبات (الاذاقة) للمشبه اعني ما يدركه
الانسان عند الجوع والخوف (بمنزلة) إثبات (الأظفار للمنية فلا يكون ترشيحا) لأن
الترشيح إنما يعتبر بعد تمام الاستعارة والقرينة من تتمتها (بل) تكون (إستعارة
تخييلية) لأن التخييلية كما يأتي ان يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به من غير ان
يكون هناك امر متحقق حسا او عقلا يجري عليه اسم ذلك الأمر والأمر فيما نحن فيه
كذلك إذ ليس فيما يحدث للأنسان عند الجوع والخوف شيء زائد متحقق حسا أو عقلا يجري
عليه لفظ الاذاقة فتدبر جيدا.
(و) القسم (الثالث
مرشحة) وإنما سميت مرشحة لأنه روعي فيها جانب
المستعار منه فذكر ما يلائمه فزادت فائدة الأستعارة والمرشح المربي من رشحه
رباه ومن هنا يقال فلان يرشح للوزارة والمرئة ترشح ولدها إذا جعلت اللبن في فيه
قليلا قليلا حتى يقوي على المص.
(وهي ما قرن
بما يلائم المستعار منه نحو قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) فأنه استعار الاشتراء للأستبدال) (والاختيار) أي اختيار
الضلال (ثم فرع عليها ما يلائم الاشتراء) الذي هو المستعار منه وقوله (من الربح)
المنفى الذي بمعنى الخسران (والتجارة) بيان لما يلائم وسيأتي بعض الكلام في ذلك في
تفسير السكاكي التخييلية في الاعتراض الثالث عليه (ونظير الترشيح بالصفة) بل عينه (قولك
حاورت) أي كالمت وجادلت وباحثت (بحرا) أي عالما (زاخرا متلاطم الامواج) فأستعار
البحر للعالم المتقن ثم أتى بصفتين متلائمتين للبحر الذي هو المستعار منه.
(وقد يجتمعان
أي التجريد والترشيح) في إستعارة واحدة (كقوله لذى اسد شاكي السلاح) أي تام السلاح
(هذا) اي شاكي السلاح (تجريد لأنه وصف يلائم المستعار له اعني الرجل الشجاع مقذف
له لبد اظفاره لم تقلم) يقال فلان مقلم الأظفار أي ضعيف (هذا) اي مجموع ما ذكر في
المصراع الثاني خصوصا له لبد (لأن هذا الوصف) الحاصل من المجموع (يلائم المستعار منه
اعني الأسد الحقيقي) وقد تقدم في هذا البيت إعلال صرفي في أول بحث الأستعارة
فتذكر.
(والترشيح ابلغ
من) القسمين المتقدمين اعني (الأطلاق والتجريد و) كذا أبلغ (من جمع التجريد
والترشيح) كما في البيت وإنما كان الترشيح ابلغ (لأشتماله على تحقيق المبالغة في
التشبيه) وتقويته (لأن في) نفس (الاستعارة مبالغة في التشبيه) بسبب ادعاء دخول
المشبه في جنس المشبه به وسيأتي
بعض الكلام في ذلك في فصل حسن الاستعارة إنشاء الله تعالى (فترشيحها
وتزيينها بما يلائم المستعار منه تحقيق لذلك) المذكور من المبالغة والادعاء (وتقوية
له و) لأن (مبناه أي مبنى الترشيح على تناسي التشبيه وادعاء ان المستعار له نفس
المستعار منه لا شيء مشبه به) أي لا شيء شبهه المتكلم بالمستعار منه (حتى انه)
الضمير للشأن (يبني) أي يجري (على علو القدر) والمنزلة (الذي يستعار له علو المكان
(ما) أي شيء (يبنى على علو المكان) المراد بالبناء ذكر وصف يناسب المستعار منه (كقوله
أي قول ابي تمام من قصيدة يرثى بها خالد بن يزيد الشيباني ويذكر) في القصيدة (اياه)
يعني يذكر فيها مدح أبي خالد (و) الحاصل إن (هذا البيت في مدح ابيه وذكر علوه) من
حيث القدر والمنزلة :
ويصعد حتى
يظن الجهول
|
|
بأن له حاجة
في السماء
|
(فأستعار) الشاعر (الصعود) الذي هو
علو المكان (لعلو القدر) والمنزلة (والارتقاء في مدارج الكمال) والشرف (ثم بني) أي
جرى (عليه) اي علو القدر (ما) أي شيئا (يبني على علو المكان والارتقاء إلى السماء)
وذلك الشيء ظن الجهول أي الذي لأذكاء له ان له حاجة في السماء.
(فلو لا ان
قصده) أي قصد الشاعر (ان يتناسى التشبيه ويصر على إنكاره فيجعله صاعدا إلى السماء)
حقيقة (من حيث المسافة المكانية) لا القدرية والكمالية (لما كان لهذا الكلام) أي
لقوله حتى يظن الجهول إلخ (وجه) وإنما خص هذا الظن بالجهول لأنه الذي يخفى عليه
حال الممدوح فيظن ان له حاجة في السماء واما غيره فهو يعلم أن الله اغناه عما سواه
فلا حاجة له في شيء اصلا فلا يظن ذلك الظن الباطل فتأمل.
(ونحوه أي نحو
البناء على علو القدر ما يبنى على علو المكان لتناسى
التشبيه) حتى كأنه لا يخطر غير المشبه به (ما مر) في أول بحث الاستعارة (من
التعجب في قوله :
قامت تظللني
ومن عجب
|
|
شمس تظللني
من شمس
|
(و) من (النهي عنه أي عن التعجب في
قوله :
لا تعجبوا من
بلى غلالته
|
|
قد زر ازراره
على القمر
|
(لأنه لو لم يقصد تناسى التشبيه
وإنكاره) بحيث لم يخطر غير المشبه به أعني الشمس في البيت الأول والقمر في البيت
الثاني (لما كان للتعجب) في البيت الاول (أو النهي عنه) اي عن التعجب في البيت
الثاني (وجه كما سبق) بيان ذلك في الموضع المذكور.
وحاصله إنه لو
لا تناسي التشبيه لا وجه للتعجب في البيت الاول إذ لا عجب من تظليل إنسان جميل
كالشمس من الشمس الحقيقية وإنما يتحقق التعجب من تظليل الشمس الحقيقية من الشمس
التي في السماء وكذلك لا وجه للنهي عن التعجب من بلى الغلالة في البيت الثاني لو
لا تناسي التشبيه وجعل اللابس القمر الحقيقي لأن غيره لا يوجب ذلك أي البلى
المذكور فيصح التعجب فلا يصح النهي عنه.
(إلا ان مذهب
التعجب) في البيت الأول إنما هو (إثباب وصف) يعني التظليل الذي (يمتنع ثبوته
المستعار له) يعني الأنسان الجميل (ومذهب النهي عنه) أي عن التعجب في البيت الثاني
(إثبات خاصة) وهي التأثير في بلى الغلالة وهي (من خواص المستعار منه) يعني القمر
الحقيقي فلذلك صح النهي عن التعجب إذ لا تعجب في تأثير الشيء أثره الذي هو من
خواصه.
وبعبارة أخرى
مذهب التعجب في البيت الأول عكس مذهب النهي عنه في الست الثاني فأن التعجب في
البيت الأول سببه إثبات ما لا يناسب المستعار
منه والنهي عن التعجب سببه إثبات ما هو مناسب للمستعار منه فأنه في الأول
قد أثبت التظليل للشمس وهو ممتنع فلذا تعجب من تظليلها وفي الثاني قد أثبت بلى
الغلالة مع القمر وهو من خواصه فلا يصح حينئذ ان يتعجب منه فلذا نهاهم عن التعجب
من ذلك.
(ثم اشار إلى
زيادة تقرير وتحقيق لهذا الكلام) أي لكون مبني الترشيح على تناسي التشبيه حتى إنه
يبني على المستعار له اعني علو القدر ما يبنى على المستعار منه أعني علو المكان (بقوله
وإذا جاز البناء على الفرع اي المشبه به) أي الشمس في البيت الآتي (مع الأعتراف
بالاصل) اي مع ذكر الاصل (أي المشبه) اي الضمير فيه العائد إلى المحبوبة اعني هي (وذلك)
اي وإنما فسرنا الفرع بالمشبه به والأصل بالمشبه مع إنه خلاف ما اشتهر فيهما إذ ما
اشتهر فيهما العكس أي كون الأصل المشبه به والفرع المشبه (لأن الاصل في التشبيه
وإن كان هو المشبه به من جهة إنه اقوى وأعرف في وجه الشبه لكن المشبه أيضا اصل من
جهة ان الغرض) من التشبيه كبيان حاله او مقداره في الأغلب (يعود إليه) وقد مر
بيانه في بحث التشبيه (و) من جهة (إنه المقصود في الكلام بالأثبات والنفي) فمن اجل
ذلك فسرناهما بالتفسير المذكور.
(ومنهم من
أستبعد تسمية المشبه اصلا والمشبه به فرعا فزعم ان المراد بالأصل هو التشبيه
وبالفرع الأستعارة وهو) أي الزعم (غلط لأنه لا معنى للبناء على الأستعارة مع
الأعتراف بالتشبيه وما ذكرنا) أي التفسير المذكور (صريح في الأيضاح) حيث قال وإذا
جاز البناء على المشبه به مع الأعتراف بالمشبه ثم إستشهد بالبيت الآتي (ويدل عليه)
أي على التفسير المذكور (لفظ المفتاح) أيضا (وهو قوله وإذا كانوا مع التشبيه
والأعتراف
بالاصل) أي المشبه يسوغون ان لا يبنوا إلا على الفرع) اي المشبه إذ لو كان
مراده بالأصل التشبيه لكان تقدير كلامه وإذا كانوا مع التشبيه والاعتراف بالتشبيه
وهذا معنى ركيك لا يناسب حمل كلامه عليه فحاصل الكلام في المقام إنه إذا جاز في
التشبيه مع ذكر المشبه البناء على المشبه به (كما في قوله أي قول العباس الأحنف هي)
اي المحبوبة (الشمس) والمراد إنها كالشمس فهو تشبيه لا إستعارة لأيه يشترط فيها ان
لا يذكر الطرفان على وجه ينبيء عن التشبيه وهما هنا مذكوران كذلك المشبه بضميره
والمشبه به بلفظه.
والشاهد في
قوله (مسكنها في السماء) حيث بناه الشاعر على المشبه به اعني الشمس مع الاعتراف
بالمشبه اعني المحبوبة (فعز) فعل (امر من عزاه) بمعنى (حمله على العزاء وهو الصبر)
قال في المصباح عزى يعزي من باب تعب صبر على ما نابه وعزاية قلت أحسن الله عزائك
اي رزقك الصبر الحسن والعزاء مثل سلام إسم من ذلك مثل سلم سلاما كلم كلاما وتعزي
هو تصبر وشعاره ان يقول إنا لله وإنا إليه راجعون انتهى.
والشاعر يخاطب
نفسه ويقول احمل (الفؤاد) على العزاء أي الصبر (عزاء) اي صبرا (جميلا) لعدم إمكان
الوصول إلى تلك الشمس اي المحبوبة قد تقدم في أوائل الباب الثالث معنى الصبر
الجميل فراجع ثم اكد عدم إمكان الوصول بقوله (فلن تستطيع انت إليها اي إلى الشمس
الصعود ولن تستطيع الشمس إليك النزول وبحث تقديم الظرف) اي إليها وإليك (على
المصدر) أي الصعود والنزول (قد سبق في شرح الديباچه) في شرح قول الخطيب وأكثرها
للأصول جمعا) وحاصله ان العامل في الظرف المتقدم المصدر المتأخر ان جوزنا تقديم
الظرف على المصدر كما هو المختار وإلا فمحذوف يفسره المذكور.
(فمع جحده) أي
مع عدم ذكر المشبه كما في ما نحن فيه اي الاستعارة (اولى) بالجواز (هذا جواب الشرط
أعني قوله وإذا جاز) البناء على الفرع إلخ (اي فالبناء على الفرع) اي المشبه به (مع
جحد الأصل) اي المشبه (كما في الاستعارة أولى بالجواز لأنه قد طوى فيها) اي في
الاستعارة (ذكر الأصل أعني المشبه وجعل الكلام) الذي فيه الاستعارة خلوا عنه) اي
عن الأصل أي المشبه (وجاء الحديث) اي الكلام (مع المشبه به) فقط كأنه لا تشبيه
هناك لأنه تنوسي التشبيه وإدعى ان المشبه نفس المشبه به لا شيء آخر يشتبهه (فكيف
لا يجوز بناء الكلام عليه) أي على المشبه به.
وحاصل الكلام
في المقام ان ذكر المشبه كما في قوله هي الشمس ينافي البناء المذكور لأن ذكر
المشبه يمنع تناسي التشبيه المقتضى للبناء فاذا جاز البناء حينئذ فمع عدم ذكر
المشبه الذي هو موجب لتناسى التشبيه اولى بالجواز.
(هذا) الذي ذكر
من قول الخطيب أما المفرد فهو الكلمة المستعملة إلخ إلى هنا (هو المجاز المفرد
واما المجاز المركب فهو اللفظ) المركب فخرج المجاز العقلي فأنه ليس من قبيل اللفظ (المستعمل)
فخرج المهمل (فيما اي في المعنى) المركب (الذي شبه بمعناه) المركب (الاصلي أي
بالمعنى الذي يدل عليه ذلك اللفظ) المركب (بالمطابقة تشبيه التمثيل وهو ما يكون
وجهه منتزعا من متعدد وأحترز بهذا عن الاستعارة في المفرد) كالأسد في الرجل الشجاع
لأنه ليس وجهه وهو الشجاعة منتزعا من متعدد فتأمل.
وقوله (للمبالغة
في التشبيه اشارة إلى إتحاد الغاية في الإستعارة في المفرد والمركب وحاصله) أي
حاصل المجاز المركب (ان يشبه إحدى الصورتين المنتزعتين من متعدد بالاخرى ثم يدعى
ان الصورة المشبهة من جنس الصورة
المشبه بها فيطلق على الصورة المشبهة اللفظ الدال بالمطابقة على الصورة
المشبه بها للمبالغة في التشبيه كما يقال للمتردد في أمر) يعني يتردد في فعله
وتركه (إني أراك تقدم) تارة (رجلا) بكسر الراء (وتؤخر) تلك الرجل تارة (أخرى)
فالمراد بالرجل الاخرى هو الرجل الأولى المتقدمة بالذات وإنما سماها بأخرى بأعتبار
ان صفتها في المرة الثانية وهي التأخر غير صفتها في المرة الأولى أعني التقدم
فالمقام نظير ما ذكرنا في المكررات في بحث المفعول المطلق في شرح قول ابن مالك
ومنه ما يدعونه مؤكدا إلخ (وكما كتب الوليد بن يزيد لما بويع) بالخلافة (إلى مروان
بن محمد وقد بلغه) اي الوليد (إنه) اي مروان (متوقف في البيعة له) اي لوليد (فأني
أراك تقدم رجلا وتؤخر اخرى فاذا اتاك كتابي فأعتمد على أييتهما) اي الرجلين (شئت)
يعني اعتمد اما على الرجل المتقدمة يعني بايع وأما على الرجل المتأخرة يعني لا
تبايع فأنت مخير في المبايعة وتركها (شبه) الوليد (صورة تردده) أي تردد مروان (في
المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة لا
يريد) الذهاب (فيؤخر) رجلا (أخرى) اي الرجل الأولى بالمعنى الذي بيناه آنفا.
(فأستعمل
الكلام الدال على هذه الصورة) أي صورة تقدم رجل وتأخر اخرى مترددا (في تلك الصورة)
أي صورة تردده في المبايعة (ووجه الشبه) بين الصورتين (وهو الاقدام تارة والأحجام)
أي التأخر تارة (اخرى منتزع عن عدة أمور كما ترى) لأنه اعتبر فيه إقدام وتقدمه
وإحجام وتأخره وقد مر في بحث التشبيه ان مثل ذلك مركب.
(وهذا أي
المجاز المركب يسمى التمثيل لأن وجهه منتزع من متعدد) حسبما بيناه (على سبيل
الاستعارة لأنه قد ذكر المشبه به وأريد المشبه وترك ذكر المشبه بالكلية كما هو
طريق الاستعارة).
والحاصل ان
المجاز المركب يسمى تشبيه التمثيل مقيدا بقولنا على سبيل الاستعارة (وقد يسمى
التمثيل مطلقا) اي (من غير تقييد بقولنا على سبيل الاستعارة).
(و) ان قلت قد
تقدم في بحث التشبيه ان التشبيه بأعتبار وجهه يسمى تمثيلا ايضا فكيف يمتاز هذه
الاستعارة التي تسمى تمثيلا مطلقا عن التشبيه الذي يسمى تمثيلا أيضا.
قلت (يمتاز)
هذه الاستعارة (عن التشبيه بأن يقال له) اي للتشبيه المتقدم في باب التشبيه (تشبيه
تمثيل) بالاضافة (او تشبيه تمثيلي) بالقطع عن الاضافة وبالتوصيف ويقال للأستعارة
تمثيل من غير تقييد بشيء فيمتاز كل واحد منهما عن الآخر.
(وههنا بحث وهو)
كما يأتي في ذيل هذا البحث (ان) حصر المجاز المركب في الاستعارة فقط عدول عن
الصواب فأن (المجاز المركب) مثل المجاز المفرد (كما يكون إستعارة فقد يكون غير
إستعارة) اي قد يكون مجازا مرسلا.
(وتحقيق ذلك ان
الواضع كما وضع المفردات لمعانيها بحسب الشخص كذلك وضع المركبات) بأعتبار هيأتها (لمعانيها
التركيبية بحسب النوع) اي نوع الهيئة وقد ذكرنا في باب شرح الكلام من المكررات ما
يفيدك ههنا فراجع ان شئت (مثلا هيئة التركيب في نحو زيد قائم موضوعة للأخبار
بالأثبات) اي بأثبات القيام لزيد (فاذا استعمل ذلك المركب في غير ما وضع له) مثلا
إذا استعمل في مقام التعجب عن كونه قائما او نحو ذلك مما تقدم في آخر باب الانشاء (فلا
بد) حينئذ (وإن يكون ذلك) الأستعمال في غير ما وضع له (لعلاقة بين المعنيين) اي
الموضوع له وغير الموضوع له (فاذا كانت العلاقة) هي (المشابهة) بين المعنيين
فأستعارة وإلا) اي وان لم تكن العلاقة هي المشابهة
(فغير استعارة) أي مجاز مركب مرسل (كقوله هو اي مع الركب اليمانين مصعد
البيت) الذي تقدم في بحث تعريف المسند اليه بالاضافة (فأن) هذا (المركب) يعني جملة
هو اي مع الركب إلخ موضوع للأخبار) بكون هواه أي مهويه ومحبوبه مصعدا مع الركب
اليمانين وجسمه موثق ومقيد بمكة (و) لكن هذا المركب لم يستعمل في معناه الموضوع له
لأن (الغرض منه) كما تقدم هناك (إظهار التحزن والتحسر) على مفارقة المحبوب اللازم
ذلك التحزن والتحسر للأخبار بالمفارقة لأن الأخبار بوقوع شيء مكروه يلزمه إظهار
التحزن والتحسر فيصدق على هذا المركب إنه استعمل في غير الموضوع له لعلاقة
الملازمة لا المشابهة فلا يكون حقيقة ولا إستعارة فيجب ان يكون مجازا مركبا مرسلا (فحصر
المجاز المركب في الاستعارة) كما يفهم ذلك الحصر من إتيان المبتدء اعني قوله واما
المجاز المركب معرفا باللام وقد تقدم في بحث تعريف المسند ان ذلك يفيد الحصر (وتعريفه
بما ذكر) مع كونه كما قلنا مفيدا للحصر (عدول عن الصواب) فتأمل.
(ومتى فشى) أي
كثر (إستعماله اي استعمال المجاز المركب او التمثيل كذلك اي على سبيل الأستعارة لا
على سبيل التشبيه) اي تشبيه مضربه بمعناه الأصلى (ولا في معناه الأصلي سمي) المجاز
المركب (مثلا) بفتح الثاء وتمثيلا ومثلا بسكون الثاء (ولهذا أي ولكون المثل تمثيلا
فشا إستعماله على سبيل الاستعارة لا تغير الأمثال) عن الهيئة التي وردت عليها في
الاصل (لأن الأستعارة يجب ان يكون) عين (لفظ المشبه به المستعمل في المشبه) الذي
هو مضر به (فلو تطرق تغيير إلى المثل لما كان لفظ المشبه به بعينه فلا يكون
إستعارة فلا يكون مثلا) لأن الاستعارة اعم من المثل فأن المثل الفرد الفاشي
الاستعمال منه فاذا لم يكن إستعارة لم يكن مثلا لأن رفع الأعم
يستلزم رفع الأخص.
(وتحقيق ذلك ان
المستعار يجب أن يكون) عين (اللفظ الذي هو حق المشبه به) اي المستعار منه لكونه في
الأصل موضوعا له (اخذ منه عارية للمشبه) اي لمضربه اي الموضع الذي يضرب فيه المثل
ويستعمل فيه لفظه وهو المستعار له (فلو وقع فيه تغيير لما كان هو) عين (اللفظ الذي
يخص المشبه به فلا يكون عارية فلهذا) اي لأجل كون الأمثال لا تغير (لا يلتفت في
المثل إلى مضربه تذكيرا وتأنيثا وافرادا وتثنية وجمعا بل إنما ينظر إلى مورد المثل)
اي إلى معناه الأصلي (مثلا إذا طلب) منك (رجل شيئا ضيعه قبل ذلك تقول له بالصيف
ضيعت اللبن بكسر تاء الخطاب) وإن كان مخاطبك الآن رجلا (لأن) هذا (المثل ورد في)
خطاب (امرئة) كانت تحت شيخ كبير السن فسئلته الطلان فطلقها فزوجها شاب فقير فاشتهت
يوما لبنا فأرسلت إلى الشيخ تستسقيه لبنا فقال الشيخ للرسول قل لها في الصيف ضيعت
اللبن يعني لما سئلت الطلاق في الصيف اوجب ذلك ان لا يعطي لها لبنا فلما رجع
الرسول واخبرها بما قاله الشيخ ضربت يدها على منكب زوجها وقالت ومذوقها خير يعني
إن هذا الشاب الجميل واللبن المذوق اي الممزوج بالماء خير منك ومن لبنك الكثير
وإنما خص الشيخ زمان الصيف لأن سؤالها الطلاق كان في الصيف.
(واما ما يقع
في كلامهم من نحو ضيعت اللبن بالصيف على لفظ المتكلم) اي بضم تاء ضيعت وكذلك
بتغيير الترتيب (فليس بمثل بل مأخوذ من) ذلك (المثل واشارة إليه ولكون المثل مما
فيه غرابة استعير لفظه للحال او الصفة او القصة إذا كان لها شأن عجيب ونوع غرابة)
فالمستعار له واحدة من هذه الثلاثة والعلاقة الغرابة (كقوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) اي حالهم
العجيب الشأن وكقوله تعالى (وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) اي له الصفة العجيبة وكقوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ) اي فيما قصصنا عليكم من العجائب قصة الجنة العجيبة) إلى
هنا كان الكلام في المجاز اللغوي.
(في تحقيق معنى
الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية) فأعلم إنه (قد اتفقت الآراء) أي آراء
علماء البيان (على ان في مثل قولنا إظفار المنية نشبت بفلان) امران احدهما (إستعارة
بالكناية و) الثاني (إستعارة تخييلية لكن اضطربت) تلك الآراء (في تشخيص المعنيين
الذين يطلق عليهما هذان اللفظان ومحصل ذلك يرجع إلى ثلاثة اقوال احدهما ما يفهم من
كلام القدماء والثاني ما ذهب إليه السكاكي وسيجيء بيانهما) اما بيان ما يفهم من
كلام القدماء فيأتي في هذا الفصل في قوله معناها الصحيح المذكور في كلام السلف إلخ
واما بيان ما ذهب إليه السكاكي فيأتي في الفصل الآتي عند قول الخطيب وعني بالمكنى
عنها إلخ وسيجييء ايضا ان مال هذين القولين الى قول واحد (والثالث ما اورده المصنف)
هنا.
(ولما كانتا)
أي الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية (امرين معنويين) اي فعلين من افعال
المتكلم القائمة بنفسه (غير داخلين في تعريف المجاز) أي في اللفظ المستعمل في غير
ما وضع له مع قرينة مانعة من إرادته ووجه عدم دخولهما فيه ان المجازية من عوارض
الالفاظ وهما عند المصنف ليستا بلفظين بل هما كما قلنا فعلان من أفعال النفس
احدهما كما سيصرح التشبيه المضمر في النفس والآخر إثبات لوازم المشبه به للمشبه (أورد
لهما فصلا في ذيل بحث
الاستعارة تتميما لأقسامها) اي اقسام الاستعارة (وتكميلا للمعاني التي تطلق
هي) أي الاستعارة عليها) اي على المعاني وهي ثلاثة الأستعارة المكنية والاستعارة
التخييلية فلفظ الأستعارة يطلق على هذه المعاني الثلاثة بطريق الاشتراك اللفظي لكن
بعضها داخل في تعريف المجاز وهو المصرحة وبعضها غير داخل عند المصنف وهو القسمان
الآخران.
(فقال وقد يضمر
التشبيه في النفس أي في نفس المتكلم فلا يصرح بشيء من اركانه) الأربعة (سوى المشبه)
وسيأتي مثاله في قول أبي ذؤيب.
(فأن قلت قد
سبق في) الخاتمة في تقسيم (التشبيه) بحسب القوة والضعف في المبالغة (ان ذكر المشبه
به واجب البة وإن) الحاصل من (أقسامه لا يخرج عن ثمانية بأعتبار ذكر الأركان) كلها
أو بعضها (وتركها) كذلك.
(قلت ذلك إنما
هو في التشبيه المصطلح) وهو ما لا يكون على وجه الاستعارة كما سبق في اول بحث
التشبيه لا اللغوي (وقد سبق) عند تعريف التشبيه (ان المراد به) أي بالتشبيه
المصطلح (غير الاستعارة بالكناية) وغير الاستعارة التحقيقية ولا على وجه التجريد
فراجع ان شئت.
(و) إن قلت إذا
أضمر التشبيه في النفس ولم يصرح بشيء من اركانه سوى المشبه فكيف يفهم كونه تشبيها.
قلنا (يدل عليه
أي على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يثبت للمشبه امر مختص بالمشبه به من غير
ان يكون هناك أمر متحقق حسا أو عقلا يجري عليه اسم ذلك الأمر) المختص بالمشبه به (فيسمى
التشبيه المضمر في النفس إستعارة بالكناية أو) إستعارة (مكنيا عنها اما الكناية)
اي تسمية التشبيه بالكناية (فلأنه لم يصرح به) أي بالتشبيه (بل) اضمر في النفس و (إنما
دل عليه بذكر خواصه) أي خواص المشبه به (ولوازمه) هذا عطف
للخواص (واما الاستعارة) أي تسمية التشبيه المضمر في النفس بالاستعارة (فمجرد
تسمية خالية عن المناسبة) لأن الاستعارة هي الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له
وههنا ليست كلمة إستعملت في غير ما وضعت له إذ كل واحد من المشبه والمشبه به اعني
المنية والسبع مثلا إستعمل فيما وضع له وسيأتي بيان ذلك عند قول الخطيب وعني
بالمكنى عنها.
(ويسمى إثبات
ذلك الأمر المختص بالمشبه به للمشبه إستعارة تخييليه لأنه قد إستعير للمشبه ذلك
الأمر الذي يخص المشبه به وبه يكون كما له) في وجه الشبه وذلك إذا كان خارجا عن
وجه الشبه كما في البيت الاول الآتي وسيأتي بيانه (أو قوامه في وجه الشبه) وذلك
إذا كان داخلا في وجه الشبه كما في البيت الثاني الآتي وسيأتي بيانه أيضا (ليخيل
إنه من جنس المشبه به ثم ذلك الأمر المختص بالمشبه به المثبت للمشبه على ضربين
احدهما ما لا يكمل وجه الشبه في المشبه به بدونه والثاني ما به يكون قوام وجة
الشبه في المشبه به فأشار إلى) الضرب (الاول بقوله كما في قول أبي ذؤيب الهذلي إذ
المنية إنثبت اظفارها أي علقت) اظفارها اي مكنتها فيمن جاء اجله (الفيت) اي وجدت (كل
تميمة لا تنفع) عند ذلك الأنساب (والتميمة الخرزة) بفتح الخاء والراء المهملة
وبعدها زاي معجمة مفتوحة (التي تجعل معاذة) المعاذة والتعويذ والعوذة كلها بمعنى
واحد وهي الشيء الذي يعلق على عنق الصبيان حفظا لهم عن العين أو الجن على زعم عوام
الناس.
(يعني إذا علق
الموت مخلبه في شيء ليذهب به) أي ليهلكه (بطلت عنده) اي وقت التعليق (الحيل) جمع
حيلة (روى إنه هلك لأبي ذؤيب في عام واحد خمس بنين وكانوا فيمن هاجروا إلى مصر
فرثاهم بقصيدة منها هذا البيت ومنها قوله :
اودي بني
واعقبوني حسرة
|
|
عند الرقاد
وعبرة لا تقلع
|
حكى ان الحسن
بن علي (ع) أو عبد الله بن عباس على ما في بعض الحواشي وهذا أقرب من حيث التاريخ (دخل
على معاوية يعوده) في مرض موته (فلما راه معاوية قام وتجلد وانشد) :
بتجلدي
للشامتين أريهم
|
|
اني لريب
الدهر لا اتضعضع
|
فأجابه الحسن (ع)
او عبد الله (على الفور وقال وإذا المنية انشبت اظفارها البيت) وذكر في تلك
الحاشية إنه ما خرج من داره حتى سمع الناعية عليه.
والشاهد في ان
ابي ذؤيب (شبه في نفسه المنية بالسبع في إغتيال النفوس) في إهلاكها (بالقهر
والغلبة) بحيث لا يمكن عند مجيئها اي المنية مقاومتها ومدافعتها (من غير تفرقة بين
نفاع) أي كثير النفع من البشر (وضرار) اي كثير الضرر منهم (ولا رقة لمرحوم) اي لمن
شأنه ان يرحم (ولا بقيا على ذي فضيلة) وذلك كما قيل بالفارسية :
مزن دم ز
حكمت كه در وقت مرك
|
|
ارسطو دهد
جان چو بيچاره كرد
|
(فأثبت لها اي للمنية الاظفار التي
لا يكمل ذلك الأغتيال فيه اي في السبع بدونها) اي بدون الاظفار وإنما يكون إثبات
الاظفار (تحقيقا للمبالغة في التشبيه) اي لأجل تحقيق المبالغة الحاصلة من دعوى ان
المشبه فرد من أفراد المشبه به مع انه ليس للمنية أمر ثابت حسا او عقلا يجري عليه
اسم الاظفار (فتشبيه المنية) في النفس (بالسبع إستعارة بالكناية وإثبات الاظفار
للمنية إستعارة تخييلية).
إلى هنا كان
الكلام في الأمر الذي يكون به كمال المشبه به (واشار إلى الثاني) اي إلى الامر
الذي يكون به قوام المشبه به (بقوله وكما في
قول الآخر :
ولئن نطقت
بشكر برك مفصحا
|
|
فلسان حالي
بالشكاية انطق
|
وقبله.
لا تحسبن
بشاشتي لك من رضى
|
|
فو حق جودك
انني اتملق
|
والشاهد في ان
الشاعر (شبه الحال بأنسان متكلم في الدلالة على المقصود) على ما تقدم بيانه في بحث
الاستعارة التبعية (وهذا هو الاستعارة بالكناية فأثبت لها اي للحال اللسان الذي به
قوامها اي قوام الدلالة فيه أي في الانسان المتكلم وهذا) اي إثبات اللسان للحال (إستعارة
تخييلية فعلى ما ذكره المصنف) في بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية (كل
من لفظي الأظفار والمنية) وكذلك اللسان والحال (حقيقة مستعملة في المعنى الموضوع
له وليس في الكلام مجاز لغوي) لأنه الكلمة المستعملة في غير ما وضع له والاظفار
والمنية ليستا كذلك على رأي المصنف لا السكاكي وسيأتي بيان ذلك عند تفسير السكاكي
للتخييلية (وإنما المجاز إثبات شيء) اي الأظفار مثلا (لشيء) اي المنية مثلا وكذلك
اللسان والحال (ليس هو) أي الشيء الاول (له) أي للشيء الثاني.
والحاصل ان
المجاز إثبات الأظفار للمنية وإثبات اللسان للحال (وهذا) مجاز (عقلي كأثبات
الأنبات للربيع على ما سبق) في الباب الأول في بحث المجاز العقلي من إنه اسناد
الفعل او معناه إلى غير ما هو له وقد تقدم هناك أيضا ان المجاز العقلي لا يخرج
الطرف عما هو عليه بل حاله كحال سائر الالفاظ المستعملة في إنه اما حقيقة واما
مجاز فالأظفار والمنية باقيان على ما هما عليه من الحقيقة وكذلك الأنشاب فتأمل
جيدا.
(و) إن قلت ما
المانع من ان يكون الاستعارتان المذكورتان مجازين قلت
(الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية) ليستا من قبيل اللفظ والكلمة بل
هما (أمران معنويان وهما فعلان للمتكلم) احدهما التشبيه المضمر في النفس والثاني
إثبات الأمر المختص حسبما مر آنفا.
(و)
الأستعارتان (يتلازمان في الكلام) بحيث (لا يتحقق احدهما بدون الآخر لأن التخييلية
يجب ان تكون قرينة للمكنية البة) إذ بها يدل على التشبيه المضمر في النفس وإلا لا
يعلم الغيب إلا الله (وهي) أي المكنية (يجب ان تكون قرينتها التخييلية البة)
فالاستلزام من الطرفين عند غير السكاكي وسيأتي ذلك عند تفسير التخييلية.
(فأن قلت) إذا
كان رأي المصنف على التلازم بين المكنية والتخييلية حسبما قررت (فماذا يقول المصنف
في) موضع قد وجدت التخييلية بدون المكنية وذلك (مثل قولنا اظفار المنية الشبيهة
بالسبع اهلكت فلانا) لأنه صرح فيه بالتشبيه ولم يضمر في النفس حتى يكون مكنيا.
(قلت) يجوز (له)
أي للمصنف (ان يقول) اولا انا لا نسلم صحة هذا المثال لأنه مثال مخترع لم يصدر عن
البلغاء الذين عليهم المعول في إثبات القواعد وقد يأتي التصريح بذلك عند بيان
تفسير السكاكي الأستعارة التخييلية وثانيا (بعد تسليم هذا الكلام) أي هذا المثال
فله ان يقول (إنه ترشيح للتشبيه) والترشيح للتشبيه ان يؤتي بوصف ملائم للمشبه به
كالأظفار في المثال الملائمة للسبع فليس هنا إستعارة مكنية بل مجرد تشبيه (كما
يسمى اطو لكن في قوله (ص) اسرعكن لحوقا بي اطو لكن يدا ترشيحا للمجاز اعني اليد
المستعملة في النعمة قيل وهذا الحديث من معجزاته (ص) حيث اخبر بأن اول من يموت
عقيبه من نسائه هي زينب وهي كانت اسخاهن) والترشيح للمجاز ان يؤتي بوصف ملائم
للمعنى الحقيقي كالأطولية الملائمة للعضو المخصوص والترشيح
للأستعارة ان يؤتي بوصف ملائم للمستعار منه وقد تقدم مثاله الى هنا كان
الكلام في قول المصنف.
(فأن قلت ما
ذكره المصنف من تفسير الاستعارة بالكناية) من إنها التشبيه المضمر في النفس (لا
مستند له في كلام السلف) لأنه لم ينقل عن أحد منهم مثل ما ذكره المصنف (ولا هو
يبتني على مناسبة لغوية) لأن إضمار التشبيه ليس فيه نقل اللفظ إلى غير معناه حتى
يكون مناسبا لأن يسمى بالاستعارة كما يناسب نقل اللفظ الذي هو المجاز (وكأنه
إستنباط منه فما تفسيرها) أي تفسير الأستعارة بالكناية (الصحيح) المقبول عند اهل الفن.
(قلت معناها
الصحيح المذكور في كلام السلف) أي القدماء (هو ان لا يصرح بذكر) نفس لفظ (المستعار)
يعني السبع مثلا (بل) يصرح ويقتصر (بذكر رديفه) اي رديف المستعار (ولازمه الدال
عليه) يعني الاظفار مثلا (فالمقصود بقولنا اظفار المنية) نشبت بفلان (إستعارة
السبع للمنية كأستعارة) لفظ (الاسد للرجل الشجاع في قولنا رأيت اسدا يرمي لكنا لم
نصرح بذكر) لفظ (المستعار اعني) لفظ (السبع بل اقتصرنا على ذكر لازمه) كالاظفار
مثلا (لينتقل منه) أي اللازم (الى المقصود) اي إلى السبع الذي هو الملزوم للأظفار (كما
هو شأن الكناية) من ذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم وحاصله الاشارة إلى المقصود
من دون تصريح به وهذا معنى صحيح مناسب لا غبار عليه فالمستعار هو لفظ السبع الغير
المصرح به والمستعار منه هو الحيوان المفترس والمستعار له هو المنية) والجامع
الاغتيال بالقهر والغلبة من غير تفرقة بين نفاع وضرار فتم اركان الاستعارة وصح
التسمية بالكناية أيضا لعدم التصريح بالمقصود.
(وبهذا) الوجه
الصحيح عند السلف (يشعر كلام صاحب الكشاف في)
تفسير (قوله تعالى (يَنْقُضُونَ عَهْدَ
اللهِ) حيث قال شاع إستعمال النقض في ابطال العهد من حيث
تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الأستعارة لما فيه) أي في العهد (من ثبات الوصلة
بين المتعاهدين) روى ان ابن التيهان قال في بيعة العقبة يا رسول الله ان بيننا
وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها بك فنخشى إن الله اعزك واظهرك ان ترجع إلى قومك
فأستعمل ابن التيهان الحبال في العهود.
والحاصل انه
شبه العهد بالحبل في النفس بجامع الربط والاتصال في كل منهما فأن العهد يربط بين
المتعاهدين كما يربط الشيئان بالحبل فالمستعار في الآية الحبل والمستعار له العهد
كما إن المستعار في المثال السبع والمستعار له المنية فلم يصرح بذكر المستعار اعني
الحبل بل صرح بذكر رديفه ولازمه اعني النقض لأن النقض كما في المصباح ابطال برم
الحبل يقال نقضت الحبل أي حللت برمه ونقضت ما ابرمه إذا ابطلته (وهذا) اي السكوت
عن ذكر المستعار والأشارة اليه بذكر رديفه ولازمه (من أسرار البلاغة ولطائفها)
وحاصله كما قلنا (إن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا) ويشيروا إليه (بذكر
شيء من روادفه فينبهوا بذلك الرمز) والاشارة (على مكانه) أي على ثبوت معنى
المستعار للمستعار له (نحو) زيد (شجاع يفترس أقرانه ففيه) أي في ترك ذكر المشبه به
اعني الأسد وذكر الافتراس الذي هو لازم الأسد (تنبيه) واشارة (على ان الشجاع أسد
هذا كلامه) اي كلام صاحب الكشاف وهو كما ترى موافق لما عليه السلف فالمراد من
السلف هو صاحب الكشاف ومن قبله ومن تبعه (وهو) أي كلام صاحب الكشاف (صريح في ان
المستعار هو اسم المشبه به المتروك صريحا) كالحبل في الآية والسبع في المثال (المرموز
إليه) أي إلى اسم المستعار المتروك (بذكر لوازمه) كالنقض في
الآية وكالاظفار في المثال (لكنا قد استفدنا منه ان قرينة الاستعارة
بالكناية لا يجب ان تكون استعارة تخييلية) وهي كما تقدم في اول الفصل ان يثبت
للمشبه امر مختص بالمشبه به من غير ان يكون هناك امر متحقق حسا او عقلا يجري عليه
اسم الأمر (بل قد تكون) تلك القرينة إستعارة (تحقيقية) وهي كما مر في اول بحث
الاستعارة ان يكون ذلك الامر معلوما حسا أو عقلا بحيث يمكن ان ينص عليه ويشار اليه
إشارة حسية أو عقلية (كأستعارة النقض) بالمعنى المتقدم آنفا (لأبطال العهد) إلى
هنا كان الكلام فيما يفهم من كلام القدماء فلم يبق من الاقوال في الاستعارة
بالكناية إلا ما ذهب إليه السكاكي (وسيجييء الكلام) في الفصل الآتي (على ما ذكره
السكاكي) إنشاء الله تعالى.
(وأما الشيخ
عبد القاهر فلم يشعر كلامه بذكر الاستعارة بالكناية) اي لم يذكره في كتابه بهذا
الاسم (وإنما دل) كلامه (على ان في قولنا اظفار المنية إستعارة بمعنى انه اثبت
للمنية ما ليس لها) اي الاظفار التي ليست للمنية (بناء على تشبيهها) اي تشبيه
المنية (بما له الاظفار وهو السبع وهذا) الذي يدل عليه كلام الشيخ (قريب مما ذكره
المصنف في) الاستعارة (التخييلية) إذ ليس للمنية شيء موجود حسا او عقلا يكون مشبها
بالاظفار بل هو امر موجود في المنية على سبيل التوهم (وذلك) أي وجه القرب (إنه) اي
الشيخ (قال في اسرار البلاغة الاستعارة على قسمين احدهما أن ينتقل الاسم عن مسماه)
اي عن معناه الحقيقي (إلى امر) اي معنى مجازي (متحقق يمكن ان ينص عليه ويشار اليه
نحو رأيت اسدا اي رجلا شجاعا) فأن الرجل الشجاع امر متحقق يمكن ان ينص عليه ويشار
اليه.
(والثاني ان
يؤخذ الاسم) أي ينقل (عن حقيقته ويوضع) اي يستعمل
(موضعا لا يتبين فيه) اي ذلك الموضع (شيء يشار اليه فيقال هو المراد بالاسم
كقول لبيد :
وغداة ريح قد
كشفت وقرة
|
|
إذا صبحت بيد
الشمال زمامها
|
الشمال ريح
تجييء من الجهة المقابلة للجنوب والشاهد فيه أن الشاعر (جعل للشمال يدا من غير ان
يشير إلى معنى) اي إلى شيء (فيجري عليه اسم اليد) وبعبارة اخرى ليس في الشمال شيء
يشار إليه ويجري عليه اسم اليد (ولهذا لا يصح ان يقال إذا صبحت) غداة الريح (بشيء
مثل اليد للشمال) إذ ليس هنا شيء موجود نجعله المشبه به (كما) يصح ان (يقال رأيت
رجلا مثل الأسد) فان الأسد الذي هو المشبه به موجود.
والحاصل إنه لا
يصح التشبيه لعدم تمامية الأركان (وإنما يتأتى لك التشبيه في هذا البيت بعد ان
تغير الطريقة فتقول إذا صبحت الشمال ولها في قوة تأثيرها في الغداة شبه بالمالك)
للشيء (في تصريف الشيء بيده فتجد الشبه المنتزع) من بين الشمال والمالك لا يلقاك
من المستعار نفسه) اي من اليد نفسها (بل مما يضاف) المستعار (إليه) اي من الشمال
والحاصل ان الشباهة لا تعقل ولا تحصل في ذهنك من اليد لتثبتها وشيء هو ثابت للشمال
بل الشباهة نعقل وتحصل في ذهنك من نفس الشمال والمالك (لأنك تجعل) نفس (الشمال مثل
ذي اليد من الاحياء) في تصريف الشيء بيده (فتجعل المستعار له اعني الشمال) التي هي
الشبيهة بالمالك (ذا شيء) متوهم (وغرضك) من التشبيه (إن يثبت له) أي للمستعار له
اعني الشمال (حكم من يكون له ذلك الشيء) وبعبارة اخرى (غرضك ان يثبت للشمال حكم
المالك الذي يكون له اليد اعني يثبت للشمال التصرف في الأشياء كتصرف الأحياء (وقال)
الشيخ (ايضا لا خلاف في ان لفظ اليد استعارة مع انه لم ينتقل عن شيء الى شيء) في
الشمال
(إذ ليس المعنى على انه شبه شيئا) موجودا محققا في الشمال (باليد وإنما
المعنى على إنه) أي لبيد (اراد ان يثبت) اي إن يخترع بالقوة الواهمة للشمال يدا)
كما مر في انياب الأغوال فظهر مما بيناه إنه أخذ الاسم اي اليد ووضعه موضعا لا
يتبين فيه شيء يشار إليه فيقال هذا هو المراد بالاسم فتدبر جيدا.
(وكذا) أي مثل
ولئن نطقت إلخ (قول زهير) اي مثله في كون الاستعارة بالكناية والتخييلية فيها مما
يكون به قوام وجه الشبه وسيأتي وجه تكرار المثال بعيد هذا (صحا أي سلا) مأخوذ من
السلو وهو زوال العشق والحزن فأستعمل صحا بمعنى سلا (مجازا) لأن صحا مأخوذ (من
الصحو خلاف السكر) والحاصل ان الصحو الأفاقة من السكر فأستعمله الشاعر بمعنى السلو
مجازا فالمراد زوال العشق من القلب والرجوع عنه والخلاص عن الأحزان التي تحصل
للعاشق فحاصل المعنى إنه تخلص (القلب) أي الفؤاد (عن) حب (سلمى) والميل اليها (واقصر)
أي ترك (باطله) اراد بباطل القلب ميله إلى الحب والعشق والهوى (يقال اقصر) فلان (عن
الشيء) الفلاني (إذا اقلع عنه أي تركه وامتنع عنه قيل هو) أي قوله اقصر باطله (على
القلب) اي على العكس اي الفؤاد (عن باطله ولا حاجة إليه) اي إلى القول بالقلب (لصحة
ان يقال امتنع باطله عنه وتركه بحاله) الأصلي وهو الخلو عن المحبة والعشق والميل
إلى الهوى (وعرى) أي صار عريانا (افراس) جمع فرس الحيوان المعروف (الصبي) اي الميل
إلى الجهل حاصل المعنى كما يأتي عنقريب ان كل ما كان يفعله القلب زمن العشق زال
عنه وبقي عاريا كالفرس العاري عن السرج (و) عرى (رواحله) أي رواحل الصبي والرواحل
جمع راحلة وهي ما يركب من الأبل في الاسفار.
(هذا مثال ثالث
للأستعارة بالكناية والتخييلية أورده تنبيها على ان من التخييلية ما يحتمل ان تكون
تحقيقية وهي التي سماها السكاكي الاستعارة المحتملة للتحقيق والتخييل وعند حملها
على) الاستعارة (التحقيقية تنتفي الاستعارة بالكناية ضرورة) عند المصنف لقوله كما
مر بالاستلزام بينهما (فأشار اولا الى بيان) الاستعارة (التخييلية) في البيت (وقال
أراد زهير إنه ترك ما كان يرتكبه زمن المحبة) أي زمن عشق سلمي (من الجهل والغي) اي
سوء الأعتقاد وسوء الأفعال (واعرض عن معاودته) أي رجوعه إلى ما كان يرتكبه في زمن
المحبة (فبطلت الآته أي الآت ما كان يرتكبه وكذا الضمير في معاودته) يرجع إلى ما
كان يرتكبه (فشبه زهير في نفسه الصبي بجهة من جهات المسير كالحج والتجارة) والحاصل
إنه شبه في نفسه الميل إلى الجهل والغي بجهة من الجهات التي يقصده المسافر كالحج
والتجارة ونحوهما فالمراد بالجهة ما يتوجه إليه المسافر لتحصيل غرض من الاغراض (قضى)
اي حصل ووجد (منها اي من تلك الجهة الوطر) اي الغرض الحامل على إرتكاب السفر (فأهملت
الآتها) اي فلما قضى من تلك الجهة الوطر اهملت الآتها الموصلة إليها مثل الأفراس
والرواحل والأعوان والاقوات السفرية ومثل جواز السفر في زماننا ونحو ذلك (ووجه
الشبه) بين الصبي وجهة المسير (الاشتغال التام به) اي بتحصيل الغرض من الصبي
والمسير إلى الجهة (وركوب المسالك الصعبة فيه) اي في كل من الصبا والمسير (غير
مبال بمهلكة ولا متحرز عن معركة وهذا التشبيه المضمر في النفس إستعارة بالكناية
فأثبت له) اي للصبا (اي بعد ان شبه الصبي بالجهة المذكورة اثبت له بعض ما يختص تلك
الجهة).
حاصله إنه اثبت
للمشبه الذي هو المستعار له بعض ما يختص المشبه به الذي هو المستعار منه (اعني
الافراس والرواحل التي بها قوام جهة المسير
والنفر فإثبات الافراس والرواحل) نظير إثبات الاظفار للمنية (إستعارة
تخييلية فالصبي على هذا من الصبوة) أي من الناقص الواوي كالدعوة (بمعنى الميل إلى
الجهل والفتوة يقال صبا يصبو صبوة أي مال إلى الجهل والفتوة كذا في الصحاح)
والفتوة هي المروة والكرم وقد تستعمل في إستيفاء اللذات وهو المراد هنا (لا من
الصباء بفتح الصاد) مع المد أي ليس مأخوذا من المهموز اللام (يقال صبيء صباء مثل
سمع سماعا اي لعب مع الصبيان).
وإنما كان الصبي
في البيت مأخوذا من الاول أي الناقص الواوي لا من الثاني اي المهموز اللام لأن
المناسب تشبيه الجاهل المقصر في افعاله بالمسافر القاضي وطره من سفره لا تشبيه حال
الصبي والطفل بذلك ولأن قول الشاعر صحا القلب عن سلمى يدل على ان حاله العشق
والمحبة لا اللعب مع الصبيان والعشق والمحبة لا يحصل في زمن الصباء والطفولة.
(واشار إلى)
بيان الاستعارة (التحقيقية بقوله ويحتمل إنه أي زهيرا أراد بالافراس والرواحل
دواعي النفوس وشهواتها والقوى الحاصلة لها) اي للنفوس اي القوى التي يحملها على
الاستيفاء او القوى التي تستعين به النفوس من الصحة والفراغ والجهد للروحاني
والبدني وإلى ذلك أشار بعضهم بقوله :
إن الشباب
والفراغ والجدة
|
|
مفسدة للمرء
أي مفسدة
|
وإلى هذا
المعنى الأخير أشار بقوله (او اراد بها الاسباب التي قلما تتأخذ) اي تجتمع وتتفق
بعضها مع بعض مأخوذ من قولهم تأخذت هذه الامور إذا أخذ بعضها بعضد بعض فحاصل
المعنى ان هذه الاسباب قلما يعين بعضها بعضا (في إتباع الغي إلا أو ان الصبي
وعنفوان الشباب) اي اوله (مثل المال والمنال) بضم الميم اي ما يطلب وينال وعطفه
على الملل من عطف العام على
الخاص (و) عطف (الأعوان والأخوان) عليه بالعكس.
فشبه زهير
دواعي النفوس وشهواتها المتحققة في الأنسان او الأسباب المتحققة فيه وله بالافراس
بجامع ان كلا منهما الة وسبب لتحصيل ما يتحمل الانسان في تحصيله المشقة واستعار
اسم المشبه به للمشبه (فتكون الاستعارة اعني استعارة الافراس والرواحل تحقيقية
لتحقق معناها) اي المستعار له (عقلا) وذلك (إذا أريد بها) اي بالافراس والرواحل
الدواعي) والقوى التي هي مبدء الافعال التي تصدر من الانسان زمن الشباب (و) لتحقق
معناها (حسا) وذلك (إذا أريد بها) اي بالأفراس والرواحل (اسباب إتباع الغي)
والهوى.
(ولما كان كلام
صاحب المفتاح في بحث الحقيقة والمجاز وبحث الاستعارة بالكناية والاستعارة
التخييلية مخالفا لما ذكره المصنف في عدة مواضع وهي حسبما يأتي بيانها مع التعسف
الآتي ثمانية (يشير إليها بعد نقل كلام صاحب المفتاح (اراد) المصنف (ان يشير إليها)
اي إلى تلك المباحث طبقا لكلام صاحب المفتاح (وإلى ما فيها) من القيود المحتاجة
إلى البيان والتوضيح (و) إلى (ما عليها) من الردود والاشكالات الثمانية التي يأتي
بيانها مفصلا (فوضع لذلك) المذكور (فصلا وقال فصل عرف السكاكي الحقيقة اللغوية)
المراد بها ما قابل العقلية التي تقدم في الباب الاول من إنها إسناد الفعل او
معناه إلى ما هو له وحينئذ تشمل اللغوية الحقيقة العرفية والشرعية (بالكلمة) هي
جنس خرج عنه اللفظ المهمل وغير اللفظ مطلقا (المستعملة) فصل خرج به الكلمة
الموضوعة قبل الاستعمال فلا تسمى حقيقة ولا مجازا على ما تقدم بيانه في أول بحث
الحقيقة والمجاز (فيما) اي في المعنى الذي وضعت) الكلمة (له) أي للمعنى (من غير
تأويل في الوضع واحترز بالقيد الاخير) اي بالفصل
الأخير (وهو قوله من غير تأويل في الوضع اعن الأستعارة) وهذا الأحتراز بناء
(على اصح القولين) في الاستعارة (وهو القول بأن الاستعارة) كلفظ الأسد في لقيت
اسدا في الحمام او رأيت اسدا يرمى مرادا به الرجل الشجاع (مجاز لغوي لكونها
مستعملة في غير الموضوع له الحقيقي) يعني الرجل الشجاع (فلا بد من الاحتراز منها
واما على القول الآخر وهو إنها مجاز عقلي بمعنى ان التصرف في أمر عقلي وهو جعل غير
الأسد) اي الرجل الشجاع (اسدا وإن اللفظ) حينئذ (إستعمل فيما وضع له فيكون) لفظ
الاسد (حقيقة لغوية) وقد مر تحقيق ذلك عند قول الخطيب وقيل إنها مجاز عقلي إلخ (فلا
يصح الاحتراز عنها) فحينئذ يخرج بهذا القيد الأخير المجاز المرسل فقط (فأنها أي
إنما وقع الاحتراز بهذا القيد عن الأستعارة لأنها مستعملة فيما وضعت له بتأويل وهو
ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به بجعل أفراد المشبه به قسمين متعارفا وغير
متعارف فمجرد قولنا المستعملة فيما وضعت له لا يخرج الاستعارة بل لابد) في إخراجها
(من التقييد بقولنا من غير تأويل) إذ لا تخرج بالوضع للأتفاق على وضعها لكن وضعها
للمشبه بتأويل اي بالادعاء المذكور.
والحاصل إن
السكاكي لما بنى تعريفه على هذا القول الأصح وهو إن الاستعارة مجاز لغوي احتاج
لزيادة قيد لأخراجها وذلك القيد هو أن وضع الحقيقة لا تأويل فيه ولا ادعاء ووضع
الأستعارة فيه تأويل وادعاء وهذا هو المراد بقوله من غير تأويل.
(هذا هو المعنى
الصحيح الذي يجب ان يقصده السكاكي لكن عبارته قاصرة عن ذلك (لأنه قال وإنما ذكرت
هذا القيد) يعني من غير تأويل ليحترز به عن الاستعارة) لأنها ليست مستعملة فيما
وضعت له من غير تأويل (ففي
الاستعارة تعد الكلمة مستعملة فيما وضعت له) لكن ليس الاستعمال فيها من غير
تأويل بل بالتأويل والدعاء المذكور اعني ادعاء دخوله في الموضوع له بجعله فردا من
افراده فهذا القيد الأخير أعني من غير تأويل ذكر ليحترز به عن الأستعارة إلى هنا
لأغبار على كلامه حسبما اوضحناه وإنما الكلام في متعلق قوله (على أصح القولين) في
الاستعارة (ويأتي بيانه ثم قال السكاكي (ولا نسميها) اي لا نسمي الاستعارة (حقيقة
بل مجازا لغويا لبناء دعوى كون اللفظ المستعار) يعني لفظ المنية مثلا (موضوعا
للمستعار له) يعني السبع مثلا (على ضرب من التأويل) والادعاء (والظاهر ان قوله على
أصح القولين متعلق بقوله مستعملة فيما وضعت له لا بقوله ليحترز به عن الأستعارة
وليس بصحيح لما سبق) في أول بحث الاستعارة (من ان الاختلاف إنما هو في كونها مجازا
لغويا) كما اختاره المصنف تبعا للجمهور (ام) مجازا (عقليا) كما اختاره السكاكي
ومتابعوه وقد تقدم بيان ذلك هناك (لا في كونها مستعملة فيما وضعت له) وذلك (لأتفاق
القولين على كونها مستعملة فيما وضعت له في الجملة) أما على القول بالمجاز اللغوي
فلما يأتي في تعريف المجاز من إنها مستعملة فيما وضعت له بالتأويل لا بالتحقيق
واما على القول بالمجاز العقلي فلأنها حينئذ حقيقة لغوية مستعملة فيما وضعت له
بالتحقيق بناء على ما اختاره بعضهم لا السكاكي وإن نسب اليه اشتباها هذا كله إذا
أريد بالوضع فيما وضعت له الوضع في الجملة (ولو اريد الوضع بالتحقيق فهو) أي كون
الاستعارة موضوعا له بالتحقيق (ليس اصح القولين وإن كان) ذلك أصح القولين (فكيف
يخرج بقوله من غير تأويل) بل يجب ان يدخل لأن معنى من غير تأويل الوضع بالتحقيق (فليتأمل)
فأن المقام يحتاج إلى مزيد تأمل ودقة نظر.
(فالوجه)
الصحيح (ان يتعلق) قوله على أصح القولين (بقوله ليحترز به عن الاستعارة ويرتكب)
حينئذ (كون الكلام قلقا) أي مضطربا وذلك لوقوع الفصل بالاجنبي بين المتعلق بالكسر
اعني قوله على اصح القولين وإلمتعلق بالفتح اعني قوله ليحترز.
(وعرف السكاكي
المجاز اللغوي بالكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في
الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها والمراد بنوع حقيقتها حسبما سيصرح اللغوية إن كانت
حقيقة لغوية او الشرعية إن كانت شرعية او العرفية إن كانت عرفية وبعبارة أخرى لو
كان نوع حقيقة تلك الكلمة لغوية تكون الكلمة مستعملة في غير معناها اللغوي فتكون
مجازا لغويا وذلك كأستعمال لفظ الاسد في الرجل الشجاع وعلى هذا القياس إلشرعية
وإلعرفية يعني لو كان نوع حقيقة تلك الكلمة شرعيا تكون الكلمة مستعملة في غير
معناها الشرعي كأستعمال الصلوة في الدعاء فتكون مجازا شرعيا ولو كان نوع حقيقتها
عرفيا يكون الكلمة مستعملة في غير معناها العرفي كأستعمال الدابة فيما يدب على
الارض فتكون الكلمة مجازا عرفيا عاما او خاصا لأنها موضوعة في العرف لذوي القوائم
الاربعة لكن كل ذلك (مع قرينة مانعة عن إرادة معناها) الحقيقي (في ذلك النوع) الذي
أوضحناه لك.
(والباء في
قوله بالنسبة متعلق بالغير) تعلقا معنويا وذلك بأن يكون نعتا للغير فحينئذ يكون
تعلقه النحوي بالعامل المحذوف وجوبا او تعلقا. نحويا وذلك بأن يكون الغير بمعنى
المغاير (واللام في الغير للعهد) والمعهود غير ما هي موضوعة له (اي) الكلمة (المستعملة
في معنى) يكون (غير المعنى الذي) تكون (الكلمة موضوعة له في اللغة أو الشرع او
العرف) حالكون ذلك الغير (غيرا بالنسبة إلى نوع حقيقة تلك الكلمة حتى لو كان نوع
حقيقتها لغويا
يكون الكلمة قد إستعملت في غير معناها اللغوي فيكون مجازا لغويا وعلى هذا
القياس) الشرعي والعرفي وقد بيناهما آنفا.
(ولما كان هذا
القيد) بطوله (بمنزلة قولنا في إصطلاح به التخاطب مع إنه أوضح) من هذا القيد (و)
ذلك لأنه (ادل على المقصود) وإنما كان ادل لأن قوله بالنسبة إلى نوع حقيقتها ربما
يتوهم منه ان المراد بنوع حقيقتها نوع مخصوص أي كونها حقيقة لغوية فقط او شرعية او
عرفية كذلك مع ان المراد ما هو اعم من ذلك بخلاف قولنا في إصطلاح به التخاطب فأنه
ليس فيه ذلك التوهم لأن التخاطب اعم من ان يكون المستعمل لغويا أو شرعيا او عرفيا
فتأمل جيدا.
(إقامة المصنف
مقامه) اي اقام قولنا في إصطلاح به التخاطب مقام هذا القيد (فقال في غير ما وضعت)
الكلمة له بالتحقيق في إصطلاح به التعاطب مع قرينة مانعة عن إرادته اي إرادة
معناها في ذلك الاصطلاح) الذي به إلتخاطب.
(واتى السكاكي
بقيد التحقيق اي قيد) السكاكي (الوضع في قوله غير ما وضعت بقوله بالتحقيق ليدخل في
تعريف المجاز الاستعارة التي هي مجاز لغوي على ما مر) في اول هذا الفصل (من إنها
مستعملة فيما وضعت له بالتأويل لا بالتحقيق فلو لم يقيد الوضع بالتحقيق لم يدخل هي
في التعريف) اي تعريف المجاز (إذ لا يصدق عليها إنها مستعملة في غير ما وضعت له)
لأنها ليست مستعملة في غير ما وضعت له بالتأويل بل مستعملة فيما وضعت له بالتأويل
فهي مستعملة فيما وضعت له في الجملة فمجرد قولنا في غير ما وضعت له لا يدخلها في
التعريف فلا بد في إدخالها في التعريف من تقييد الوضع بالتحقيق.
(هذا) أي
الأحتياج إلى التقييد لأدخال الاستعارة (واضح لكن عبارته
في هذا المقام قلقة) بل ظاهرها فاسد (لأنه قال وقولي بالتحقيق إحتراز عن ان
لا تخرج الاستعارة وهذا) بظاهره (فاسد لأنه) أي قوله بالتحقيق (إحتراز عن خروج الأستعارة)
عن تعريف المجاز (لا عن عدم خروجها) لأن الاستعارة عنده وفاقا للجمهور قسم من
المجاز وإن اشتبه ذلك على كثير من الأعلام وقد نقلنا في الباب الأول عند قول
الخطيب وانكره السكاكي إنه قال وإني بناء على قولي ههنا وقولي ذلك في فصل
الأستعارة التبعية وقولي في المجاز الراجع إلى حكم الكلمة (أي المجاز في الاعراب
نحو (وَجاءَ رَبُّكَ)) على ما سبق اجعل المجاز كله لغويا (فيجب) في تصحيح
ظاهر كلامه إن تكون لا زائدة مثله في قوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ)
أَهْلُ الْكِتابِ) قاله ابن هشام في المغنى في حرف اللام في الثالث من اوجه
لا.
(وقال) السكاكي
(ايضا وقولي إستعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها إعتراز عما إذا اتفق كون
الكلمة مستعملة فيما وضعت له) فيما يكون الكلمة موضوعة بالنسبة إلى غير نوع
حقيقتها أي في إصطلاح آخر غير اصطلاح المتكلم (لا بالنسبة إلى نوع حقيقتها) أي في
إصطلاح المتكلم (كما إذا استعمل صاحب اللغة لفظ الغائط) وهو موضوع في اللغة
للمطمئن من الأرض الواسع (في فضلات الأنسان مجازا او صاحب الشرع لفظ الصلوة في
الدعاء مجازا أو صاحب العرف لفظ الدابة في الحمار مجازا وهذا ايضا في الظاهر فاسد
لأن مثل هذا مجاز) وإن كان في إصطلاح غير المستعمل حقيقة (فكيف يصح الاحتراز عنه)
مع كونه من اقسام المعرف (فلا بد ههنا من حذف مضاف) بين لفظة عن ولفظة ما (أي
إحتراز عن خروج ما إذا اتفق) كون الكلمة مستعملة إلخ (أو نحو ذلك) مما يكون مفاده
عدم خروج هذا القسم من المجاز.
(ورد ما ذكره
السكاكي بأن الوضع وما يشتق منه) كالموضوع له ووضعت وأمثالهما (إذا اطلق) اي لم
يقيد بالتحقيق ولا بالتأويل (لا يتناول الوضع لتأويل) حتى يحتاج إلى زيادة قوله
بالتحقيق ليكون الخارج عن تعريف المجاز هو الوضع التحقيقي فقط فيبقى التأويلي
داخلا فيه وبعبارة أخرى المطلق عند الاطلاق ينصرف إلى الفرد الأكمل والفرد الاكمل
هو الوضع التحقيقي فلا يتناول الوضع لتأويل و (لأنه نفسه قد فسر الوضع بتعيين
اللفظ بأزاء المعنى بنفسه وقال قولي بنفسه إحتراز عن المجاز المعين بأزاء معناه)
المجازي (بقرينة) كيرمى وفي الحمام ونحوهما (ولا شك ان دلالة الأسد على الرجل
الشجاع وتعيينه بأزائه إنما هو بواسطة القرينة فحينئذ لا حاجة إلى تقييد الوضع في
تعريف الحقيقة بعدم التأويل) لأخراج الاستعارة (وفي تعريف المجاز بالتحقيق) لأدخال
الأستعارة (اللهم إلا ان يراد زيادة الايضاح كما يقال جاء الانسان الناطق بالتصريح
بفصله لدفع توهم إمكان حمله على معنى آخر لا تتميم الحد وإن أراد ذلك) اي زيادة
الايضاح (فقوله ليحترز عن كذا وكذا مبنى على تجوز وتسامح) وقد بينا التجوز
والتسامح اعني جعل لا زائدة في الأول وتقدير مضاف في الثاني.
(واجيب) عن
الرد المذكور (بأنا لا نسلم إن الوضع عند الأطلاق لا يتناول الوضع بالتأويل) بل
الوضع عند الاطلاق يشمله ايضا لأن الوضع صار مشتركا لفظيا بين معنيين احدهما
الأصلي اعني التحقيق والثاني العارضي اعني التأويلي فعلى هذا يحتاج في تعريف
الحقيقة إلى قوله من غير تأويل لأخراج الاستعارة وفي تعريف المجاز إلى قوله
بالتحقيق لأدخالها بناء على اصح القولين فيها.
(و) أما (التقييد
بقولنا بنفسه) فهو (إنما يصح للأحتراز عن المجاز المرسل)
فقط (لا عن الاستعارة لأن تعيين اللفظ في الاستعارة) إنما هو (بأزاء المعنى
بنفسه) غاية الأمران ذلك (بحسب الأدعاء) والتأويل (و) اما (نصب إلقرينة) ففي
الأستعارة (إنما هو لتعيين الدلالة) على غير المتعارف ونفى القسم المتعارف أعني
الحيوان المفترس (فلا ينافي) نصب القرينة (الوضع) لغير المتعارف اعني الرجل الشجاع
(كما في المشترك) حسبما بين في تعريف الوضع عند قول الخطيب دون المشترك (فأن
المستعير) اي المتكلم الذي يقول رأيت إسدا يرمي (يدعي ان افراد الأسد قسمان متعارف
وغير متعارف ونصب القرينة إنما هو لنفي المتعارف ليتعين المراد أعني غير المتعارف
لا لنفي الأسد مطلقا) متعارفا كان او غير متعارف (وإلا) أي وإن ينافي نصب القرينة
الوضع (لا يستقيم الأدعاء المذكور) لأنه يصير لغوا (فلا يكون إستعارة ولا يخفى
عليك ضعف هذا الكلام) اما اولا فلان المطلق ينصرف إلى الفرد الاكمل فلا يتناول
الوضع عند الاطلاق الوضع التأويلي فلا يصح اصل الجواب فلا بد من التسليم واما
ثانيا فلان عبارة المفتاح صريح في ان قيد بنفسها لأخراج مطلق المجاز عن تعريف
الوضع فلا يصح قول المجيب ان التقييد بقولنا بنفسه إنما يصلح للأحتراز عن المجاز
المرسل لا عن الاستعارة فراجع عبارة المفتاح إن شئت واما ثالثا فلان الاستعارة
إنما يدل على معناها بالقرينة والادعاء المذكور لا يوجب كون دلالتها على غير
المتعارف بنفسها وهذا ظاهر لأخفاء فيه فلا يصح قول المجيب لأن تعيين اللفظ إلخ
هذا.
(ورد أيضا ما
ذكره) الشكاكي (بأن التقييد بأصطلاح به التخاطب او ما يؤدي معناه) كقول السكاكي
بالنسبة إلى نوع حقيقتها (كما لا بد منه في تعريف المجاز ليدخل نحو لفظ الصلوة إذا
إستعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا فكذلك لا بد منه) أي من التقييد
بأصطلاح به التخاطب او ما
يؤدي معناه (في تعريف الحقيقة ايضا ليخرج عنه) اي عن تعريف الحقيقة (نحو
هذا اللفظ) أي لفظ الصلوة إذا إستعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا (لأنه
مستعمل في ما وضع له في الجملة) أي في بعض الاصطلاحات وهو إصطلاح المخاطب بعرف
اللغة لأن الدعاء ما وضع لفظ الصلوة في إصطلاحه (وإن لم يكن) الدعاء (ما وضع له)
للفظ الصلوة (في هذا الأصطلاح) أي في إصطلاح المخاطب بعرف الشرع لأنه وضع في
إصطلاحه للأركان المخصوصة.
(و) إن قلت قول
السكاكي في تعريف الحقيقة من غير تأويل في الوضع يغني عن التقييد بأصطلاح به
التخاطب فأن إستعمال اللفظ فيما وضع له في غير إصطلاح التخاطب إنما يكون بتأويل في
وضعه فالمخاطب بعرف الشرع إذا استعمل لفظ الصلوة في الدعاء فهو خارج عن تعريف
الحقيقة لأن إستعماله فيه وإن كان إستعمالا في ما وضع له في الجملة أي في إصطلاح
المخاطب بعرف اللغة لكنه بتأويل في الوضع فلا يحتاج في إخراجه من تعريف الحقيقة
إلى التقييد بأصطلاح به التخاطب.
قلت ليس الأمر
كذلك لأنه (لا تأويل في هذا الوضع) أي في وضع لفظ الصلوة للدعاء في اللغة (لما
عرفت من معنى التأويل) في الوضع (وإنه) عطف على قوله لما عرفت اي ولأنه أي التأويل
في الوضع لا يكون في ساير اقسام المجاز فهو اي التأويل في الوضع (مختص بأخراج
الأستعارة) كما صرح بذلك حيث قال وإنما ذكرت هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة (فأهمال
هذا القيد في تعريف الحقيقة مخل به) فأنه لو لم يذكر هذا القيد لكان غير مانع
حسبما بيناه.
(ولا يخفى عليك
ان اعتبار هذا القيد) المخرج عن تعريف الحقيقة لنحو لفظ الصلوة إذا إستعمله
المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا (في تعريفها)
أي في تعريف الحقيقة (إنما يمكن بهذه العبارة اعني قولنا في إصطلاح به
التخاطب لا بعبارة المفتاح إذ لو قيل) الحقيقة (هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له
إستعمالا فيه بالنسبة إلى نوع حقيقتها او) قيل الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما
وضعت له إستعمالا فيه بالنسبة (إلى نوع مجازها لزم) على كلا القولين (الدور) اي
توقف الشيء على نفسه (اما) الدور (على) القول (الاول فظاهر) وذلك لأتحاد المعرف
بالفتح والمعرف بالكسر نظرا إلى قوله بالنسبة إلى نوع حقيقتها (واما على) القول (الثاني
فلكون الحقيقة مأخوذة في تعريف المجاز) لأنه عرف المجاز بذكر الحقيقة والحقيقة
بذكر المجاز وهذا دور ظاهر.
(وما يقال من
إن هذا القيد) اي في إصطلاح به التخاطب (مراد في تعريف الحقيقة لكنه اكتفى عن ذكره
فيه بذكره في تعريف المجاز لكون البحث عن الحقيقة غير مقصود بالذات فكلام لا ينبغي
ان يلتفت إليه لا سيما في التعريفات) للزوم اختلال التعريف بذلك وذلك لأن
التعريفات يجب ان يكون كل واحد منها مستقلا منقطعا عن غيره فلا يصح الاكتفاء
والحوالة إلى ما ذكر في غيره إذ لا دلالة جلية بذلك على ما حذف منه وذلك لكمال
العناية فيها ببيان الماهية والحاصل إنه لا يجوز ان يترك قيد من تعريف ويتكل في
فهمه على ما في تعريف آخر وقد ذكرنا وجوه الأختلال في الفن الاول في ذيل قول
التفتازاني وإنما عدل عن تعريف صاحب المفتاح إلخ فراجع إن شئت.
(وكذا) لا
ينبغي ان يلتفت إلى (ما يقال ان تعريف الوضع بلام العهد اغني عن هذا القيد)
وبعبارة اخرى ان اللام في قوله في تعريف الحقيقة من غير تأويل في الوضع لام العهد
والمعهود هو الوضع الذي وقع بسببه التخاطب والوضع الذي وقع بسببه التخاطب هو
وضع الأصطلاح الذي وقع به التخاطب فلا حاجة إلى زيادة قيد في اصطلاح به
التخاطب.
(لأنا نقول
المعهود هو) مطلق (الوضع الذي إستعملت الكلمة فيما هي موضوعة له بذلك الوضع) سواء
كان الوضع الذي وقع به التخاطب ام غيره (لا) خصوص (الوضع الذي وقع فيه التخاطب إذ
لا دلالة) للفظ الوضع المطلق (عليه) أي على هذا الوضع الخاص اعني الوضع الذي فيه
وقع التخاطب.
والحاصل إن
المعهود هو الوضع المدلول لقوله فيما وضعت له ومن المعلوم بداهة إنه يدل على مطلق
الوضع لأن الأستعمال إنما يفتقر إلى مطلق الوضع الذي هو أعم من الوضع في إصطلاح
وقع فيه التخاطب ومن غيره فاذا كان المراد المعهود وهو أعم فلا إشعار له بالأخص
الذي هو الوضع في إصطلاح وقع التخاطب فلا يخرج بالوضع المعهود نحو لفظ الصلوة إذا
إستعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا إذ معنى التعريف حينئذ ان الحقيقة هي
الكلمة المستعملة في مطلق ما وضعت له من غير تأويل في ذلك الوضع المطلق ولا شك ان
لفظ الصلوة إذ إستعملت في عرف الشرع في الدعاء صدق إنه كلمة استعملت في مطلق ما
وضعت له وهو اللغة من غير تأويل في ذلك الوضع المطلق الصادق باللغوي لأن المعهود
ليس فيها دلالة وإشعار على الوضع الذي وقع فيه التخاطب (ولو سلم ذلك) الدلالة
والاشعار يكون فيه خفاء (فلا يتم) أي فلا يرتفع الخفاء عن التعريف (ايضا حتى يقيد
الموضوعة في قوله فيما هي موضوعة له بالوضع الذي وقع فيه التخاطب ولا نعني بفساد
التعريف سوى هذا) الخفاء.
(بل الجواب)
الصحيح التام (ان الامور التي تختلف باختلاف الاضافات)
والاعتبارات (لا بد في تعريفاتها من التقييد بقولنا من حيث هو كذلك وهذا
القيد كثيرا ما يحذف من اللفظ لا نسباق الذهن اليه من العلم بكونه إضافيا) أي
اعتباريا (كما حذفه جميع المنطقيين من تعريفات الكليات الخمس) وقد بين بيانه اول
هذا الفن (ومعلوم ان الكلمة) الواحدة تختلف بأختلاف الأضافات والأعتبارات كلفظ
الصلوة (بالنسبة إلى معنى واحد) كالدعاء مثلا (ايضا قد في محله (و) كما حذفه (المتقدمون
من تعريفات الدلالات الثلث) وقد تقدم تكون حقيقة) وذلك في عرف اللغة (و) قد تكون (مجازا)
وذلك في عرف الشرع (لكن) هذا الأختلاف (بحسب وضعين) مختلفين (كما مر) بيان ذلك
آنفا (فالمعنى) اي معنى التعريف (ههنا ان الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما هي
موضوعة له من حيث إنها موضوعة اي مع قطع النظر عن امر) اي وضع (آخر له) او المعنى
مع قطع النظر عن القرينة وهذا ارجح نظرا إلى ما يأتي (لا سيما ان تعليق الحكم
بالوصف) وهو فيما نحن فيه الموضوعية (مشعر بالحيثية كما في قولنا الجواد لا يخيب
سائله اي من حيث إنه جواد) لا يتصف بالتخييب لأن المنافي للتخييب هو الجود فهو
العلة لنفي التخييب واما لو روعي مصداق الجواد من دون وصف الجود وكونه إنسانا صح
منه التخييب لعروض البخل له فمسلمية القضية إنما هي بأعتبار الوصف وهكذا قولنا
العادل يقتدي به في الصلوة فتبصر.
وفي النسخة
التي عندي تكرر قوله (فالمعنى ههنا إن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة
له من حيث إنها موضوعة له وحينئذ يخرج عن التعريف نحو) لفظ (الصلوة إذا إستعملها
الشارع في الدعاء لأن إستعماله) أي الشارع (إياها) اي الصلوة (في الدعاء ليس من
حيث إنها موضوعة للدعاء وإلا) أي وإن كان استعماله في الدعاء من حيث إنها موضوعة
للدعاء
(لما احتيج إلى القرينة بل) إستعماله فيه (من حيث ان الدعاء لازم للموضوع
له) لزوم الجزء للكل.
(لا يقال فعلى
هذا) أي فعلى اعتبار الحيثية وكون تعليق الحكم مشعرا بالحيثية (ينبغي ان يترك
القيد) أي قيد في إصطلاح به التخاطب او ما يؤدي معناه (في تعريف المجاز ايضا) كما
تركه في تعريف الحقيقة (لأنا نقول اولا الأصل هو ذكر القيد) فلا نزاع فيه وإنما
النزاع في إرتكاب خلاف الاصل (وما ذكرنا إنما هو إعتذار عن تركه) لكونه خلاف
الاصل.
(وثانيا إنه لو
ترك) القيد (في تعريف المجاز لصار المعنى) اي معنى تعريف المجاز (إنه الكلمة
المستعملة في غير ما هي موضوعه له من حيث انه غير ما هي موضوعة له و) الحال إن (إستعمال
المجاز في غير الموضوع له ليس من حيث إنه غير الموضوع له بل من حيث إنه متعلق) اي
مرتبط (بالموضوع له بنوع علاقة) من انواع العلاقة (مع قرينة مانعة عن إرادة
الموضوع له فلهذا) اي فلأجل عدم صحة الحيثية في تعريف المجاز وصحتها في تعريف
الحقيقة (جاز تركه) أي ترك القيد في تعريف الحقيقة دون المجاز فليتأمل) حتى يعرف
ان إستعمال اللفظ مجازا في غير ما وضع له كالجزء او اللازم أو نحوهما ليس من حيث
انه غير ما وضع له بل من حيث إنه متعلق ومرتبط بالموضوع له فيجب فيه ذكر القيد حتى
لا يتوهم إن الأستعمال في المجاز من حيث الغيرية لا من حيث التعلق والارتباط فتدبر
جيدا.
(واعترض) على
السكاكي (ايضا بأن تعريفه للمجاز يدخل فيه الغلط) إذ لو قيل خذ هذا الكتاب مشيرا
إلى فرس صدق على لفظ الكتاب إنه كلمة مستعملة في غير ما وضعت له (فلا بد من
التقييد بقولنا على وجه يصح) حتى يخرج ذلك (واجيب بأنه يخرج بقوله مع قرينة مانعة
عن إرادة معناها) اي
معنى الكلمة (إذ لا ينصب) الغالط (في الغلط قرينة على عدم إرادة الموضوع له)
لأن نصب القرينة من الأفعال الأختيارية والفعل الاختياري مسبوق بالقصد والشعور
والأرادة وذلك مفقود في الغلط لأن الغالط لا يقصد نصب قرينة تدل على عدم إرادته
معنى الفرس (وهذا) الجواب (غلط لأن إشارته إلى الكتاب حيث يقول حذ هذا الفرس مشيرا
إلى كتاب بين يديه قرينة قاطعة على إنه لم يرد بالفرس معناه الموضوع له) يعني
الحيوان الصاهل بل أراد غير معناه اعني المشار إليه وهو الكتاب (وكذا إذا قال)
الغالط (أكتب هذا الفرس).
ومما يجب ان
يعلم في المقام ان الاعتراض بتناول تعريف المجاز للغلط إنما يرد ان كان المراد
بالغلط سبق اللسان لأن الغالط حينئذ قد استعمل لفظ الفرس في المثالين في الكتاب وإن
كان المراد به الخطأ في الأعتقاد بأن زعم الغالط ان لفظ الفرس وضع للكتاب أو توهم
بسبب ظلمة ونحوها ان الكتاب فرس فلا يرد الأعتراض لأن الغالط حينئذ اطلق الفرس
بزعمه على معناه الموضوع له.
(وقسم السكاكي)
الغرض من نقل هذا الكلام إلى قوله وعد التمثيل منها الاعتراض عليه بقوله الآتي ورد
بأنه مستلزم للتركيب المنافي للأفراد وما قبل الأعتراض كله تمهيد له (المجاز
اللغوي) إحتراز عن المجاز إلعقلي (الراجع إلى معنى الكلمة) إحتراز عن المجاز
اللغوي الراجع الى حكم الكلمة أي إلى إعرابها نحو (وَجاءَ رَبُّكَ) وسيأتي بيانه (المتضمن للفائدة) إحتراز عن المجاز
اللغوي الراجع إلى معنى الكلمة الغير المتضمن للفائدة نحو قطعت مرسنه اي آنفه فأن
المرسن كما تقدم غير مرة موضوع للأنف المقيد اعني آنف البعير فأستعماله في الآنف
المطلق من قبيل إطلاق المقيد في المطلق مجاز خال عن الفائدة لأن المعنى الأصلي
للمرسن موجود في ضمن المعنى الذي
إستعمل فيه الآن وفيه نظر لأنه ان عني فائدة مخصوصة كالمبالغة في التشبيه
عند اقتضاء المقام إياه كما في الأستعارة وكأطلاق اسم الجزء على الكل حيث أريد
إقامته مقامه للأشعار بأن لذلك الجزء خصوصية الكل وإنه لا يتم إلا به كالعين يطلق
مجازا مرسلا على الربيئة فهو مسلم ولكن لا يفيد نفي مطلق الفائدة حتى يكون قسيما
لكل ما يفيد هاتين الفائدتين أو غيرهما وإن اريد إنه لا فائدة فيه أصلا لم يسلم
فأن المجاز مطلقا لا يخلو عن فائدة ولو كانت تلك الفائدة هي دلالته على معناه
كدعوى الشيء بالدليل المفيد للتقرر في الذهن حيث تضمن معنى الاصل إذ بذلك يحصل مع
القرينة والعلاقة الانتقال منه إلى لازمه.
(إلى الأستعارة)
اعم من التصريحية والمكنية كما سيصرح بذلك عنقريب (وغيرها) والباء في قوله (به)
سببية اي بسبب ان المجاز (إن تضمن المبالغة في التشبيه فأستعارة وإلا) اي وإن لم
يتضمن المبالغة في التشبيه (فغير إستعارة) اي فمجاز مرسل.
(وعرف) السكاكي
(الاستعارة) بالمعنى المصدري كما يظهر من قوله (بأن تذكر) انت اسم (احد طرفي
التشبيه) كلفظ الاسد مثلا (وتريد) انت (به أي بالطرف المذكور) الطرف (الآخر اي
الطرف المتروك) كالرجل الشعاع مثلا حالكونك (مدعيا دخول المشبه) أي الرجل الشجاع (في
جنس المشبه به) اي الاسد وذلك (كما تقول في الحمام اسد وأنت تريد به) اي بلفظ
الاسد (الرجل الشجاع مدعيا إنه من جنس الأسود) على ما مر من جعل افراده قسمين
متعارف وغير متعارف (فتثبت له ما يخص المشبه به وهو) اي ما يخص المشبه به (اسم
جنسه) اي لفظ الأسد الذي هو اسم لجنس الحيوان المفترس.
(وكما تقول
انشبت المنية اظفارها وانت تريد بالمنية) اي بلفظ المنية (السبع) المعروف الذي
يغتال كل من يصادفه بالقهر والغلبة من غير تفرقة بين نفاع وضرار ولا رقة لمرحوم
ولا بقيا على ذي فضيلة وقد تقدم ذلك في فصل تحقيق معنى الأستعارة بالكناية
والاستعارة التخييلية (بأدعاء السبعية لها) اي للمنية (فتثبت لها ما يخص المشبه به
اعني السبع وهو) اي ما يخص المشبه به (الأظفار).
وليعلم إنه لما
كان كلام السكاكي يشمل ما إذا كان الطرف المذكور اسم المشبه به وما إذا كان الطرف
المذكور اسم المشبه أتى بمثالين الأول للأول والثاني للثاني (فالشجاع) في المثال
الأول. (قد اكتسى اسم الأسد كما إكتساه الحيوان المفترس والمنية) في المثال الثاني
(قد برزت) وظهرت في عالم المعنى (مع الأظفار في معرض السبع معها) أي مع الأظفار في
إنه) اي السبع (كذلك ينبغي) اي ينبغي ان يكون له مخلب واظفار ليكمل فيه الأهلاك
لمن يصادفه (كما هو) أي البروز المذكور (شأن العارية فأن المستعير (اي الذي ليس
مالكا للشيء (يبرز مع العارية في معرض المستعار منه) أي الذي هو مالك للشيء فهما (لا
يتفاوتان إلا بأن احدهما) وهو المستعار منه (مالك) للعارية (والآخر) وهو المستعير
ليس (بمالك) للعارية.
(ويسمى) ذات (المشبه
به) اعني مصداقه (سواء كان هو) الطرف (المذكور) كما في المثال الأول (أو) كان هو
الطرف (المتروك) كما في المثال الثاني (مستعارا منه ويسمى اسم المشبه به) أي لفظه
في الصورتين أي سواء كان مذكورا كالمثال الأول أو متروكا كالمثال الثاني (مستعارا)
فالمستعار في المثال الاول هو لفظ الأسد وفي المثال الثاني هو لفظ السبع ومعنى كون
لفظ السبع مستعارا مع إنه متروك إنه يستحق ان يكون مستعارا لكنه ترك
وجييء بلازم المشبه به اعني الأظفار (ويسمى) مصداق (المشبه بالمشبه به) في
الصورتين (مستعارا له) والوجه في صورة تركه ما تقدم.
(هذا كلامه وهو)
كما بيناه (دال على ان المستعار منه في الاستعارة بالكناية هو) مصداق (السبع
المتروك والمستعار هو لفظ السبع والمستعار له) هو (المنية وكلامه في مناسبة
التسمية كان مشعرا بأن المستعار هو الأظفار مثلا).
وإني يعجبني ان
انقل بعض كلامه المشعر بذلك حتى يظهر لك وجه الأشعار قال في مفتتح الفصل الثالث من
المفتاح الأستعارة هي ان تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدعيا دخول
المشبه في جنس المشبه به دالا على ذلك بأثباتك للمشبه ما يخص المشبه به كما تقول
في الحمام اسد وأنت تريد به الشجاع مدعيا إنه من جنس الأسود فتثبت للشجاع ما يخص
المشبه به وهو اسم جنسه مع سد طريق التشبيه بأفراده في الذكر او كما تقول إن
المنية انشبت اظفارها وانت تريد بالمنية السبع بادعاء السبعية لها وإنكار ان تكون
شيئا غير سبع فتثبت لها ما يخص المشبه به وهو الأظفار وسمي هذا النوع من المجاز
إستعارة لمكان التناسب بينه وبين معنى الاستعارة وذلك أنا متى ادعينا في المشبه
كونه داخلا في حقيقة المشبه به فردا من افرادها برز فيما صادف من جانب المشبه به
سواء كان اسم جنسه وحقيقته او لازما من لوازمها في معرض نفس المشبه به نظرا إلى
ظاهر الحال من الدعوى فالشجاع حال دعوى كونه فردا من افراد حقيقة الأسد يكتسي اسم
الاسد إكتساء الهيكل المخصوص إياه نظرا إلى الدعوى والمنية حال دعوى كونها داخلة
في حقيقة السبع إذا اثبت لها مخلب او ناب ظهرت مع ذلك ظهور نفس السبع معه في إنه
كذلك ينبغي وكذلك الصورة المتوهمة على شكل المخلب او الناب مع المنية المدعى إنها
سبع تبرز في تسميتها بأسم
المخلب بروز الصورة المتحققة المسماة بأسم المخلب من غير فرق نظر إلى
الدعوى وهذا شأن العارية فأن المستعير يبرز معها في معرض المستعار منه لا يتفاوتان
إلا في ان احدهما إذا فتش عنها مالك والآخر ليس كذلك انتهى.
فما نقلنا من
كلامه ولا سيما الفقرة الأخيرة منه اعني قوله وكذلك الصورة المتوهمة إلى قوله في
تسميتها بأسم المخلب إلخ فيه إشعار بأن المستعار هو لفظ الأظفار لأنه كما سيصرح
الخطيب والتفتازاني عنقريب نقلا عن السكاكي جعل إسما للصورة المتوهمة في المنية
كما جعل لفظ الأسد اسما للرجل الشجاع فتدبر جيدا.
(وسيجييء من
كلامه) حيث يقول الخطيب وعني بالمكنى عنها إلخ (ما ينافي جميع ذلك) فأن كلامه هناك
يدل على ان المستعار هو لفظ المنية المعبر به عن السبع إلا دعائي وإنكار ان تكون
غير سبع بقرينة إضافة الاظفار التي هي من خواص السبع اليها (ففي الجملة قد وقع منه)
اي من السكاكي (على زعم القوم) لا في الواقع (خبط في تحقيق معنى الاستعارة
بالكناية) إذ صار له في المستعار على ما ذكرنا اقوالا ثلاثة والمستفاد من احدها ان
المستعار هو المشبه به المتروك اعني السبع ومن الثاني إنه المشبه المذكور وهو
الاظفار ومن الثالث ايضا المشبه المذكور لكنه المنية والمتحصل من هذه الأقوال إن
في كلامه تناقضا لأن كلامه في بعضها وهو القول الأول على ان المستعار هو المشبه به
المتروك وفي بعضها وهو القولان الآخران يدل على إنه المشبه المذكور وهذا تناقض
واضح هذا كله على زعم القوم ولكن سيجيئ من التفتازاني في ذيل قول الخطيب وعني
بالمكنى عنها وجه الجمع والتوفيق بين هذه الأقوال بحيث يرتفع الاشكال والله العالم
بحقيقة الحال.
(وقسمها اي قسم
السكاكي الاستعارة إلى المصرح بها والمكنى عنها
وعني بالمصرح بها ان يكون الطرف المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه به)
كالمثال الاول من المثالين المتقدمين ولا يخفى ما في كلامه من التسامح لأن كون
الطرف مشبها او مشبها به ليس هو المصرح بها او المكنى عنها لأن المصرح بها والمكنى
عنها هو اللفظ لا الكون المذكور.
(وجعل منها اي
من الاستعارة المصرح بها) لا من الاستعارة المكنية لأن المشبه به في المكنية لا
يكون إلا تخييليا لأن المشبه في قولنا انشبت المنية اظفارها هو المنية والمشبه به
الفرد المجازي من السبع أعني الموت المتخيل إنه سبع لا السبع الحقيقي كذا قيل
فتأمل.
(تحقيقية
وتخييلية) وسيأتي تفسير كل واحدة منهما بعيد هذا (وإنما لم يقل قسمها اليهما)
المشعر بأنحصارها في القسمين بل عدل إلى قوله جعل منها كذا وكذا المشعر ببقاء شيء
آخر غيرهما (لأن المتبادر إلى الفهم من التحقيقية والتخييلية ما يكون) كذلك (على
القطع) والجزم بحيث يتيقن بكونه احدهما (وهو) أي السكاكي (قد ذكر قسما آخر وسماها
المحتملة للتحقيق والتحقيق كما ذكرنا) في فصل تحقيق معنى الاستعارة بالكناية (في
بيت زهير) صحا القلب إلخ.
هو (المنية وكلامه
في مناسبة التسمية) الذي ذكر التفتازاني خلاصته ههنا (وفسر التحقيقية بما مر) في
اول بحث الاستعارة (أي بما يكون المشبه المتروك متحققا حسا او عقلا وعد التمثيل
على سبيل الاستعارة كما) تقدم في المجاز المركب (في قولك أراك تقدم رجلا وتؤخر
اخرى) وقد تقدم بيان ذلك هناك (منها اي من التحقيقية حيث قال في قسم الاستعارة
المصرح بها التحقيقية مع القطع) لا المحتملة للتحقيق والتخييل (ومن الامثلة)
للحقيقية (استعارة وصف احدى الصورتين المنتزعتين من امور) متعددة (لوصف صورة
أخرى) المراد من الوصف الأول اللفظ لأن اللفظ بمنزلة وصف يكتسبه المعنى
وإنما قلنا ان المراد من الوصف الأول اللفظ لأن المستعار ابدا هو اللفظ والمراد من
الوصف الثاني البيان اي بيان صورة المعنى فالبيان هو المستعار له.
وحاصله كما
تقدم هناك ان يشبه احدى الصورتين المنتزعتين من متعدد بالاخرى ثم يدعى ان الصورة
المشبهة من جنس الصورة المشبه بها فيطلق على الصورة للشبهة اللفظ الدال بالمطابقة
على الصورة المشبه بها كما فعل الوليد ابن يزيد فأنه شبه صورة تردد مروان في
البيعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة لا
يريد الذهاب فيؤخر تلك الرجل تارة اخرى فأستعار اللفظ الدال على الصورة المشبه بها
لبيان الصورة المشبهة اعني التردد في البيعة.
(ورد ذلك) اي
رد عد التمثيل من التحقيقية (بأنه اي التمثيل مستلزم للتركيب المنافي للأفراد)
الذي هو لازم للأستعارة التحقيقية ولذلك جعلوه اي التمثيل كما تقدم من اقسام المجاز
المركب (فلا يصح عده من الاستعارة التي هي قسم من اقسام المجاز المفرد لأن تنافي
اللوازم تدل على تنافي الملزومات وإلا) اي وإن لم تدل تنافي اللوازم على تنافي
الملزومات وذلك بأن يجتمع الملزومات كان يجتمع في ما نحن فيه الاستعارة والتمثيل (لزم
اجتماع) اللازمين (المتنافيين) أي الافراد والتركيب (ضرورة وجود اللازم عند وجود
الملزوم) وإجتماع اللازمين المتنافيين كالافراد والتركيب محال بالبداهة لادائه
لأجتماع النقيضين وهو الأفراد واللافراد الأول بأعتبار الاستعارة والثاني بأعتبار
التمثيل والتركيب واللاتركيب الاول بأعتبار التمثيل والثاني بأعتبار الأستعارة
فتدبر جيدا.
(وجوابه إنه)
أي السكاكي (عد التمثيل قسما من مطلق الاستعارة)
التصريحية التحقيقية الشاملة للأفرادية والتركيبية (لا من الأستعارة التي
هي مجاز مفرد) فلا مانع من كون مطلق الاستعارة التحقيقية تمثيلا مستلزما للتركيب
ولا يلزم من ذلك الجمع بين المتنافيين بل يلزم الجمع بين المقسم والقسم ولا مانع
منه بل ذلك واجب كما لا يخفى.
(و) ان قيل ان
السكاكي قد قسم المجاز المتضمن للفائدة إلى الأستعارة وغيرها وسمي هذا المجاز
المتضمن للفائدة المنقسم إلى الاستعارة وغيرها لغويا وعرف اللغوي بأنه الكلمة
المستعملة في غير ما وضعت له فلزم ان يكون الأستعارة التي هي قسم من المجاز
المتضمن للفائدة مفردا لأنه كلمة وكل كلمة مفرد لأنه قد بين في المنطق ان لازم
الأعم لازم للأخص وإذا كانت الأستعارة قسما من المفرد فيلزم على عد التمثيل من
الاستعارة كون المركب مفرد وهو باطل فيصح رد الخطيب.
قلت (لا يلزم
من قسمة المجاز المفرد) المتضمن للفائدة الذي هو قسم من المجاز المطلق (إلى
الاستعارة وغيرها ان يكون كل إستعارة مجازا مفردا) وذلك لأن الأستعارة ليست أخص
مطلقا من المجاز المفرد بل بينها وبين المجاز المفرد عموم وخصوص من وجه فيجتمعان
في نحو الأسد يطلق على الرجل الشجاع بواسطة المبالغة في التشبيه وينفرد المجاز
المفرد عن الاستعارة في نحو العين تطلق على الربيئة مجازا مرسلا وتنفرد الاستعارة
عن المجاز المفرد فيما نحن فيه اعني اراك تقدم رجلا وتؤخر اخرى.
فاذا ثبت ان بين
الاستعارة وبين المجاز المفرد عموما من وجه صح غد التمثيل قسما من مطلق الأستعارة
وبعبارة اخرى صح تقسيم مطلق الأستعارة إلى التمثيل وغيره فتستلزم الاستعارة
التركيب في التمثيل وتستلزم الافراد في غيره فيكون صدق المجاز المفرد على
الأستعارة إنما هو في غير التمثيل
لا في التمثيل الذي هو مستلزم للتركيب المنافي للأفراد.
فالمقام (كما
يقال الأبيض اما حيوان أو غيره و) النسبة بين الأبيض والحيوان عموم وخصوص من وجه
فأن (الحيوان قد يكون ابيض) كالبقرة البيضاء (وقد لا يكون) ابيض كالبقرة السوداء
او الصفراء كما أن الأبيض قد يكون حيوانا كالبقرة الأولى وقد لا يكون حيوانا
كالعمامة البيضاء ونحوها.
فتحصل مما
ذكرنا ان السكاكي لم يجعل مطلق الأستعارة من أقسام المجاز المفرد المعرف بالكلمة
المستعملة في غير ما وضعت له بل جعل قسما منها من اقسامه ثم جعل التمثيل قسما من
اقسام مطلق الاستعارة لا قسما من اقسام الأستعارة المفردة (ومما يدل قطعا) ويقينا (على
إنه) اي السكاكي (لم يجعل مطلق الاستعارة من اقسام المجاز المفرد المعرف بالكلمة
المستعملة في غير ما وضعت له إنه قال بعد تعريف المجاز ان المجاز عند السلف قسمان
لغوي وعقلي) قد تقدم بيانه في بحث الاسناد المجازي في اول الكتاب (واللغوي قسمان
راجع إلى معنى الكلمة وهو ان تنقل الكلمة عن معناها الحقيقي إلى غيره كلفظ الأسد
المستعمل في الرجل الشجاع وكلفظ المرسن المستعمل في الأنف (وراجع إلى حكم الكلمة)
وهو أن تنقل الكلمة عن إعرابها الأصلي إلى إعراب آخر بسبب نقصان كلمة نحو (وَجاءَ رَبُّكَ) ونحو (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أو زيادتها نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) وسيأتي بيان ذلك عنقريب إنشاء الله تعالى.
(والراجع إلى
المعنى قسمان) احدهما ما هو (خال عن الفائدة) وهو إستعمال المطلق في المقيد وعكسه
من دون اعتبار تشبيه فهو عند السكاكي غير مفيد قال في المفتاح المجاز اللغوي
الراجع إلى معنى الكلمة غير المفيد هو أن تكون الكلمة موضوعة لحقيقة من الحقائق مع
قيد فتستعملها لتلك الحقيقة لا مع ذلك القيد بمعونة القرينة مثل ان تستعمل المرسن
وإنه موضوع لمعنى
الأنف مع قيد ان يكون مرسونا إستعمال الأنف من غير زيادة قيد إلى ان قال
سمي غير مفيد لقيامه مقام احد المترادفين من نحو ليث واسد وحبس ومنع انتهى وقد
تقدم لنا كلام في ذلك عند قول الخطيب وقسم السكاكي المجاز اللغوي إلخ فراجع إن
شئت.
(و) ثانيهما ما
هو (متضمن لها) اي للفائدة وهذا القسم ما كان غير إستعمال المطلق في المقيد وعكسه
وامثلته كثيرة.
ثم قال (والمتضمن
للفائدة قسمان إستعارة) وهو ما كان العلاقة فيه التشبيه (وغير إستعارة) وهو المجاز
المرسل فصار اقسام المجاز خمسة العقلي والراجع إلى حكم الكلمة والخالي عن الفائدة
والأستعارة وغير الأستعارة وهذه الأقسام الأربعة الأخيرة كلها لغوية (وظاهر إن)
القسمين الأولين أعني (المجاز العقلي والمجاز الراجع إلى حكم الكلمة لا بدخلان في
المجاز المعرف بالكلمة المستعملة في غير ما وضعت له).
وبعبارة أخرى
ظاهر إنهما ليسا من اقسام المجاز المفرد اعني الكلمة بالمعنى المذكور اما كون
العقلي خارجا عنه فلأنه هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له فليس من
جنس اللفظ حتى يكون كلمة واما عدم كون المجاز الراجع إلى حكم الكلمة داخلا في
الكلمة فلأن الأعراب الذي هو محل التجوز سواء قلنا إن الاعراب من مقولة المعنى او
من مقولة اللفظ غير داخل في جنس الكلمة اما على الأول فظاهر واما على الثاني فلأن
المراد باللفظ في تعريف الكلمة حيث يقولون الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد اللفظ
المستقل بالوضع والأستعمال لا ما لا تحقق له إلا بتحقق لفظ آخر ومن هنا قلنا في
المكررات في تعريف الكلمة إن الألف من فاعل والواو من مفعول خارجان عن التعريف
فالأعراب كذلك.
وإذا ثبت ان
هذين القسمين أعني المجاز العقلي والمجاز الراجع الى حكم الكلمة ليسا داخلين في
المجاز المفرد المعرف بالكلمة المستعملة في غير ما وضعت له وقد ادخلهما السكاكي في
اقسام المجاز (فعلم) من ذلك (إنه) اي المجاز المفرد المعرف بالتعريف المذكور (ليس
مورد القسمة) فوجب ان يريد بالمجاز المقسم اعم من الكلمة بأن يراد به مطلق المجاز
اعم من ان يكون لفظا او غيره كلمة كان او غيرها ووجب ان يريد بالراجع لمعنى الكلمة
اعم من المفرد والمركب كل ذلك لأجل صحة حصر المجاز في العقلي واللغوي وحصر اللغوي
في اقسامه الاربعة إذ لو اريد بالمقسم خصوص الكلمة لم يصح الحصر الاول ولو اريد
بالراجع لمعنى الكلمة خصوص المفرد لم يصح الحصر الثاني لأن اللغوي حينئذ لا يشمل
الراجع لمعنى الكلمة إذا كان مركبا فيبقى هذا القسم من المجاز خارجا وإذا كان
المقسم اعم فلا مانع من عد التمثيل من الاستعارة.
(و) قد (اجيب)
عن الاعتراض على السكاكي ايضا (بوجوه آخر الاول إن الكلمة قد يطلق على ما) اي على
اللفظ الذي (يعم) اي يشمل (المركب ايضا) كما يشمل المفرد (نحو) قوله تعالى (كَلِمَةُ اللهِ) هِيَ الْعُلْيا) اي في البلاغة والبلاغة لا تكون في الكلمة بل في الكلام
(فلا يمتنع حمل الكلمة في تعريف المجاز على اللفظ ليعم المفرد والمركب) فحينئذ
دخلت الاستعارة التمثيلية في المجاز فيسقط الاعتراض والحاصل إن المجاز المركب الذي
هو التمثيل داخل أيضا في تعريف المجاز لأن المراد بالكلمة في تعريف المجاز هو
اللفظ واللفظ شامل للمفرد والمركب نحو قوله تعالى (وَكَلِمَةُ اللهِ
هِيَ الْعُلْيا) فأن المراد بكلمته تعالى كلامه لأن قوله (هِيَ الْعُلْيا) أي في البلاغة والبلاغة قد تقدم في اول الكتاب انها لا
تكون في الكلمة بل في الكلام.
(وفيه نظر لأن إستعمال
الكلمة في اللفظ مجاز في إصطلاح اهل العربية)
لأنه من قبيل اطلاق الاخص على الأعم (فلا يصح) إستعمالها (في التعريف من
غير قرينة) جلية والقرينة مفقودة في المقام والحال ان التعاريف يجب صونها عن
المجازات الخالية عن القرينة وقد بينا العيوب التي تقع في التعاريف في بعض المباحث
السابقة فراجعها إن شئت ان تعرف جميعها.
والقائل أن
يقول ان التنظير بكلمة الله هي العليا لا يناسب الجواب لأن المراد من الكلمة في
الآية الكلام لا اللفظ الشامل للمفرد والمركب فالتنظير بها يقتضي تخصيصها في
التعريف بالمركب فقط وهذا غير مقصود في الجواب فتأمل (مع إنه) اي السكاكي (صرح بأن
المنقسم إلى الاستعارة وغيرها هو المجاز في المفرد) وجه التصريح إنه قال في الأصل
الثاني من علم البيان ففي الاستعارة تعد الكلمة مشتملة فيما هي موضوعة له على اصح
القولين ولا نسميها حقيقة بل نسميها مجازا لغويا لبناء دعوى المستعار موضوعا
للمستعار له ضرب من التأويل ثم قال وأما المجاز فهو الكلمة المستعملة في غير ما هي
موضوعة له بالتحقيق ثم قال في آخر ذلك الأصل اعلم ان المجاز عند السلف من علماء
هذا الفن قسمان لغوي وهو ما تقدم ويسمى مجازا في المفرد وعقلي وسيأتيك تعريفه فهذه
الفقرات الثلاث بضم بعضها ببعض ولا سيما الفقرة الأخيرة بضميمة الأولى صريحة في ان
المنقسم إلى الاستعارة وغيرها هو المجاز في المفرد.
(سلمنا ذلك) أي
سلمنا ان الكلمة قد يطلق على ما يعم المركب ايضا نحو (كَلِمَةُ اللهِ) فلا يمتنع حمل الكلمة في تعريف المجاز على اللفظ ليعم
المفرد والمركب سلمنا جميع ذلك وإن اختل التعريف بكونه مجازا (لكنا نقول بعد ما
أريد بالكلمة ما يعم المفرد والمركب فأن اريد بالوضع) في التعريف اي في قوله في
تعريف المجاز الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له (الوضع بالشخص
لم يدخل المركب في التعريف لأنه ليس له وضع شخصي) لما تقدم في بحث المجاز
المركب من ان وضع المركبات لمعانيها التركيبية بحسب النوع بخلاف المفردات فأنها
وضعت لمعانيها بحسب الشخص وإني ليعجبني زيادة توضيح المقام بنقل كلام الهروي في
كفاية الأصول في الأمر السادس من المقدمة وهذا نصه لا وجه لتوهم وضع للمركبات غير
وضع المفردات ضرورة عدم الحاجة اليه بعد وضعها بموادها في مثل زيد قائم وضرب عمرو
بكرا شخصيا وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا ومنها خصوص هيئات المركبات
الموضوعة لخصوصيات النسب والاضافات بمزايا الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا بداهة
ان وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها
بجملتها مع إستلزامه الدلالة على المعنى تارة بملاحظة وضع نفسها وأخرى بملاحظة وضع
مفرداتها ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك هو وضع الهيئات على حدها غير وضع
المواد لا وضعها بجملتها علاوة على وضع كل واحد منهما إنتهى.
وقال المحشى ان
تحقيق المقام يحتاج إلى رسم أمور الأول ان افادة المقاصد قد تكون بغير اللفظ من
الاشارة والكتابة وغيرهما وقد تكون بالمركب من اللفظ وغيره وقد تقدم مثالهما وقد
تكون باللفظ والمفاد باللفظ قد يكون مفردا وقد يكون مركبا وهو الغالب مثل زيد قائم
فأن المقصود فيه إفادة إتصاف زيد بالقيام فهو مركب من امور ثلاثة اثنان منها قد
افيد باللفظ الحقيقي وهما زيد وقائم والآخر بالهيئة العارضة لهما التي بحكم اللفظ
لتقومها بهما فتأمل.
الثاني ان هذا
النزاع إنما هو في ثبوت وضع للمركب من الثلاثة او ازيد التي احديها الهيئة
التركيبية غير وضع المفردات واما النزاع في نفس
الهيئة التركيبية التي هي إحدى المفردات فقد حدث في آخر الأزمنة ولا دخل له
في هذا النزاع لوقوعه بين القدماء وقد صرح بوقوع النزاع في نفس المركب دون الهيئة
التركيبية في الفصول.
وقال ايضا انه
قد يمكن ان يستشهد لثبوت وضع للمركب بوقوع المجاز المركب المسمى بالتمثيل في
المحاورات كما في قولهم أراك تقدم رجلا وتؤخر اخرى فأنه لا اشكال في ان مفردات هذا
المركب من الفعل وإلفاعل والمفعول والهيئة التركيبية إستعملت في معانيها الموضوعة
لها وكذا لا اشكال في وقوع تجوز في هذا الكلام فلو لم يكن وضع لنفس المركب لما كان
لهذا التجوز محل إنتهى.
(وإن اريد)
بالوضع المذكور في قوله غير ما وضعت له (ما) أي وضع (هو اعم من الشخصي والنوعي فقد
دخل المجاز في تعريف الحقيقة لأنه موضوع بأزاء المعنى المجازي نوعيا على ما تبين
في علم الاصول).
قال المشكيني
في حاشيته على قول الهروي في الأمر الثالث من المقدمة ما هذا نصه اعلم ان في وضع
المجازات أقوالا ثلثة الوضع الشخصي والنوعي وإنه لا وضع له اصلا وبيان ذلك يحتاج
إلى مقدمة وهي ان الوضع بأعتبار اللفظ الموضوع ينقسم إلى نوعي وشخصي لأن تعيين
اللفظ بأزاء المعنى لا يخلو عن اقسام اربعة لأنه اما ان يكون الملحوظ حين الوضع
مادة اللفظ مع هيئته كالأعلام واما ان يكون مادته دون هيئته الخاصة كمادة ضاد وراء
وباء المقيدة بكونها في ضمن اي هيئة حصلت من الهيئات المخصوصة بناء على وجه غير وجيه
يأتي إليه الأشارة في بحث الأوامر واما ان يكون هيئته دون مادته كهيئة الفاعل حيث
إنها وضعت لمن صدر عنه المبدء في ضمن اي مادة حصلت واما ان لا يكون شيء منها
ملحوظا كالمجاز على القول الثاني حيث
إنه بناء عليه لم يلحظ في مقام الوضع لا مادته ولا هيئته بل اذن في إستعمال
كل لفظ في معنى يكون مناسبا لمعناه الحقيقي.
ثم ان هذا
القسم يسمى بالنوعي إتفاقا كما ان الأول يسمى بالشخصي كذلك والوسطان مختلف فيهما
هل وضعهما نوعي او شخصي ولا يخفى ان لهما جهتين بأعتبار احديهما يصح التسمية
بالشخصي وبأعتبار اخرى بالنوعي.
ثم الحق هو القول
الأخير وإنه لا وضع للمجازات بل كل ما يستحسنه الذوق السليم يصح وكلما يستقبحه فلا
والملاك في ذلك هو كون المعنى المجازي عين المعنى الحقيقي تنزيلا.
واستدل عليه
بوجوه الأول عدم الدليل على وضع عليحده شخصا او نوعا غير الوضع للمعنى الحقيقي عدا
ما يتوهم من نقل جماعة من النحويين والبيانيين ثبوته ومن المحتمل إنهم استندوا في
نقلهم إلى الحدس والاجتهاد بأن تخيلوا إنه لا يكاد يصح الاستعمال بدون الوضع
وحدسهم غير حجة على أحد ما دام لم يحصل القطع للمنقول إليه فيكون نظير قول اللغوي
في اخباره بالوضع حيث إنه من المحتمل بل المظنون إستناده إلى الحدسيات وفيه ان عدم
الدليل ليس دليلا على العدم ثم ذكر بقية الوجوه ونحن لم نذكرها طلبا للأختصار ولأن
فيما ذكرناه كفاية لما نحن بصدده من توضيح المقال والله الموفق في كل حال.
(الثاني) من
الوجوه التي أجيب بها (انا لا نسلم ان التمثيل يستلزم التركيب بل هو إستعارة مبنية
على التشبيه التمثيلي) الذي وجهه منتزع من متعدد (و) قد تقدم في بحث وجه التشبيه
ان وجه التشبيه التمثيلي (قد يكون طرفاه مفردين) فكذلك الاستعارة المبنية على
التشبيه التمثيلي (كما) اي كالتشبيه (في قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) الآية) والحاصل
ان التمثيل لا يستلزم التركيب فكذلك الأستعارة المبنية عليه لأن وجه الشبه
المنتزع من متعدد لا يستدعي إلا متعددا ينتزع منه ولا يجب ان يعبر عنه بلفظ مركب
فيجوز ان يعبر عن تلك الصورة بلفظ مفرد مثل المثل بفتح الميم والثاء في الآية فأنه
قد تقدم هناك ان المثل بمعنى الصفة والحال وهو منتزع من متعدد اعني حرمان الانتفاع
بأبلغ نافع إلى آخر ما ذكر هناك.
(وفيه) أي في
هذا الوجه الثاني (نظر لأنه لو ثبت ان مثل هذا المشبه به) المعبر عنه بلفظ مفرد
اعني لفظ المثل (يقع إستعارة) وذلك بأن ينقل لفظ المشبه به المفرد إلى المشبه كما
نقل لفظ الأسد إلى الرجل الشجاع فيكون لفظ المشبه به اعني المثل إستعارة (تمثيلية)
غير مستلزمة للتركيب (فهذا إنما يصلح لرد كلام المصنف حيث ادعى إستلزامه التركيب
ولا يصح لتوجيه كلام السكاكي لأنه قد عد من) الأستعارة (التحقيقية مثل قولنا اراك
تقدم رجلا وتؤخر اخرى) وذلك مشعر بأن الاستعارة التحقيقية عنده مستلزمة للتركيب (و)
ذلك الأشعار من حيث إنه (لا شك إنه) اي قولنا اراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى (ليس مما
عبر) فيه (عن المشبه به) يعني صورة التردد في شيء (بمفرد) وقد تقدم في بحث المجاز
المركب التمثيل بذلك (و) ذلك دليل على إنه (لا مجاز في مفرد من مفرداته) لأن لفظة
تقدم كما يأتي في الجواب الثالث وكذلك سائر الألفاظ المذكورة في المثال المذكورة
مستعملة في معناه الاصلي (بل) المجازية (في نفس الكلام حيث لم يستعمل في معناه
الاصلي) وهو صورة تردد من قام ليذهب في امر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة لا
يريد فيؤخر اخرى بل إستعمل في غير ذلك اعني في التردد في شيء من الأمور كالتردد في
المبايعة مثلا.
(والحاصل) أي
حاصل النظر في الجواب الثاني إنه وإن كان مبطلا
لكلام الخطيب اي لدعواه إستلزام التمثيل للتركيب لكنه لا ينفع السكاكي لأنه
عد التمثيل ههنا من الاستعارة التي هي قسم من المجاز المفرد وقد تقدم ان التمثيل
إنما هو المجاز المركب فنقول حينئذ (إنه) اي التمثيل (إن لم يستلزم التركيب) كما
يدعيه المجيب في الجواب الثاني (لم يستلزم الأفراد أيضا) فكيف يعد السكاكي التمثيل
من الأستعارة التي هي قسم من المجاز المفرد (وهذا) اي عدم إستلزام التمثيل للتركيب
(كاف في الاعتراض) على السكاكي أي على عده التمثيل من الاستعارة التي هي قسم من
المجاز المفرد لأن الظاهر من العد المذكور إستلزام التمثيل للتركيب.
(الثالث) من
الوجوه التي أجيب بها (ان اضافة الكلمة إلى شيء) المراد من الأضافة معناها اللغوي
وقد اشار إليه بقوله (وتقييدها وإقترانها بالف شيء) كأقتران التقديم في المثال
بالرجل وإقتران الرجل بالتقديم مزة والتأخير مرة اخرى (لا يخرجها عن ان يكون كلمة)
ومفردا (فالأستعارة ههنا) اي في المقام اي في المثال المذكور (هو التقديم المضاف
إلى الرجل) اي المقيد بها (المقترن) ذلك التقديم (بتأخير) رجل (اخرى والمستعار له
هو التردد) في امر من الامور كالمبايعة مثلا (فهو) اي التقديم المقيد بما ذكر (كلمة)
ومفرد (مستعملة في غير ما وضعت) فهو مجاز مفرد.
والحاصل انا لا
نسلم ان التمثيل كالمثال المذكور إستعارة مركب وإنما فيه إستعارة مفرد وكلمة واحدة
وحينئذ لا تنافي بين الاستعارة التي هي قسم من المجاز المفرد وبين التمثيل لأن
التمثيل كما في المثال المذكور مفرد وإن إقترن بما ذكر فالتقديم في المثال ليس
بمركب وإن قيد بقيود متعددة فاعتراض الخطيب غير وارد.
(وهذا) الجواب
الثالث (في غاية السقوط وإن كان صادرا ممن هو في
غاية اللحذاقة والاشتهار) وهو على ما في بعض الحواشي صدر الشريعة).
(للقطع)
واليقين (بأن لفظة تقدم رجلا وتؤخر اخرى) بمجموعها (مستعملة في معناه الأصلي والمجاز
إنما هو في إستعمال هذا الكلام) بأجمعه (في غير معناه الاصلي أعني) بمعناه الاصلي (صورة
تردد من يقوم ليذهب فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة لا يريد) الذهاب اي ينصرف
عنه (فيؤخر اخرى) اي يؤخر تلك الرجل التي قدمها وقد بينا وجه هذا التفسير في اول
بحث المجاز المركب فراجع ان شئت (هذا ظاهر عند من له مسكة) بضم الميم اي عقل وقوة (في
علم البيان).
فهذه الأجوبة
الثلاثة منظور فيها فالحق في الجواب ما ذكره اولا بقوله وجوابه إنه عد التمثيل
إلخ.
(وفسر السكاكي
الاستعارة التخييلية بما لا تحقق لمعناه حسا) لعدم إدراكه بأحدى الحواس الظاهرة (ولا
عقلا) لعدم إدراكه به أيضا (بل هو اي معناه صورة وهمية محضة) اي خالصة من التحقق
الحسي والعقلي والى هذا اشار بقوله (لا يشوبها شيء من التحقق العقلي او الحسي كلفظ
الاظفار في قول الهذلي وإذ المنية انشبت اظفارها فأنه لما شبه المنية بالسبع في الاغتيال)
والاهلاك على ما مر مرارا (اخذ) اي شرع (الوهم) اي القوة الواهمة التي سبق فيما
تقدم ان من شأنها فرض المستحيلات وإيجاد الاباطيل (في تصوير المنية بصورته أي
تصوير المنية السبع وإختراع لوازمه لها اي لوازم السبع للمنية وعلى الخصوص ما يكون
قوام) أي حصول وكمال (إغتيال السبع للنفوس به) كالأظفار والأنياب والمخالب (وإخترع)
الوهم (لها أي للمنية صورة مثل صورة الأظفار) والأنياب وللخالب (المحققة ثم) اي
بعد ذلك التشبيه والشروع المذكورين (اطلق) الهذلي (عليه اي على المثل
يعني على الصورة التي هي مثل صورة الأظفار لفظ الأظفار فتكون) هذه
الاستعارة أي إستعارة لفظ الأظفار لتلك الصورة (إستعارة تصريحية لأنه قد اطلق اسم
المشبه به وهو) لفظ (الأظفار) الذي وضع للأظفار (المحققة على المشبه وهو صورة
وهمية شبيهة بصورة لأظفار المحققة) فيكون مجازا وإستعارة لما تقدم في اول بحث
الاستعارة من ان الاستعارة ما كانت علاقته المشابهة اي قصدان إطلاقه على المعنى
المجازي بسبب تشبيهه بمعناه الحقيقي ولما تقدم ايضا من ان التصريحية ما يكون الطرف
المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه كما في المقام (والقرينة) على المجازية
والاستعارة (إضافتها) أي اضافة لفظ الاظفار (الى المنية) فأن قلت قد تقدم في اول
الفصل السابق ان الأستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية أمران معنويان وهما
فعلان للمتكلم ويتلازمان في الكلام لا يتحقق احدهما بدون الآخر لأن التخييلية يجب
ان تكون قرينة للمكنية البتة وهي يجب ان تكون قرينتها التخييلية والمتحصل من ذلك
إنه يجب ان تكون الاستعارة التخييلية تابعة للمكنية بحيث لا توجد بدونها كما هو
كذلك في المثال اي في قول الهذلي فأنه شبه المنية في النفس بالسبع ولم يصرح بشيء
من أركان التشبيه سوى المشبه ثم اثبت له الأظفار المختص بالمشبه به فيظهر من تفسير
السكاكي التخييلية وتمثيله له بقول الهذلي مستشهدا بأثبات الاظفار كما ذكر هناك
إنه موافق لما ذكر فهل الأمر كذلك.
قلت ليس الأمر
كذلك لأن ما ذكر في اول الفصل السابق إنما هو عند المصنف والقوم لا السكاكي وقد
اشار التفتازاني هناك إلى خلافه حيث قال ومحصل ذلك يرجع إلى ثلاثة أقوال إلخ
وسيصرح بذلك مفصلا في آخر الفصل الآتي (و) ذلك لأن (التخييلية عنده لا تجب ان تكون
تابعة الاستعارة
بالكناية) فانها عنده قد توجد بدون الاستعارة بالكناية كالأمثلة الثلاثة
الآتية الآن وقد توجد معها كقول الهذلي على ما ذكر هناك واما الاستعارة بالكناية
فلا توجد بدون التخييلية عند الكل لأن المكنية تستلزمها حيث وجدت بحيث لا تنفك
التخييلية عنها.
والحاصل ان
النسبة بين الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية من حيث الوجود كالنسبة بين
الانسان والحيوان فكلما وجدت الأولى وجدت الثانية ولا عكس يدل على ما ذكرنا قوله
في بحث التجريد والترشيح واما حسن الاستعارة التخييلية فبحسب حسن الأستعارة
بالكناية متى كانت تابعة لها وقوله في بحث الاستعارة بالكناية بعد كلام طويل وقد
ظهر ان الأستعارة بالكناية لا تنفك عن الأستعارة التخييلية فتدبر تعرف (ولهذا) اي
لأن التخييلية عنده لا تجب ان تكون تابعة للأستعارة بالكناية) بل يمكن ان توجد
التخييلية بدونها (مثل) في بحث التخييلية (لها) اي للتخييلية (بنحو اظفار المنية
الشبيهة بالسبع ولسان الحال الشبيهة بالمتكلم وزمام الحكم الشبيهة بالناقة فصرح
بالتشبيه لتكون الاستعارة) التخييلية (في الأظفار فقط من غير إستعارة بالكناية في
المنية لأن التشبيه في الاستعارة بالكناية يجب ان يكون مضمرا في النفس وفي هذه
الأمثلة الثلاثة مصرح به ولأنه ذكر المشبه والمشبه به وقد تقدم إنه يجب في
الاستعارة بالكناية ان لا يصرح بشيء من اركان التشبيه سوى المشبه ولأنه عند
التصريح بالتشبيه لا يكون هناك إستعارة فضلا عن كونها مكتية لبناء الأستعارة على
تناسي التشبيه فتحصل من جميع ما ذكرنا ان التخييلية عنده اعم من المكنية فأفهم
جيدا.
(قال المصنف)
في الايضاح ما حاصله (إنه) اي كون التخييلية غير تابعة للأستعارة بالكناية (بعيد
جدا إذ لا يوجد له مثال في الكلام) البليغ الذي
عليه المعول في إثبات القواعد حسبما ما مر في اول الكتاب واما غير البليغ
فقد وجد له مثال بل امثلة كالأمثلة الثلاثة المتقدمة التي تكلم بها السكاكي.
فأن قلت قد وجد
ذلك في الكلام البليغ كما اشار إليه بقوله (واما قول ابي تمام) وهو من البلغاء
الذين يستشهد بكلامهم في إثبات امثال هذه القواعد
(لا تسقني ماء الملام فأنني
|
|
صب قد
استعذبت ماء بكائي
|
فزعم السكاكي
إنه إستعارة تخييلية غير تابعة لمكنى عنها وذلك) اي وجه كونه تخييلية (انه) اي أبا
تمام توهم للملام شيئا شبيها بالماء) كما توهم ابو ذؤيب الهذلي للمنية شيئا شبيها
بالأظفار (فأستعار) ابو تمام (له) اي للملام (لفظ الماء) كما إستعار ابو ذؤيب
للمنية الاظفار ففي كلامه وهو من البلغاء إستعارة تخييلية غير تابعة للمكنية ثم
قال السكاكي في آخر بحث التجريد والترشيح ما حاصله (لكنه) اي كون التخييلية غير
تابعة للأستعارة بالكناية كما في قول ابي تمام (مستهجن) وسيأتي نص كلامه في آخر
الفصل الآتي.
قلت (وزعم
المصنف) في الايضاح قائلا ما حاصله (إنه لا دليل له) أي للسكاكي او لكون التخييلية
غير تابعة للمكنية (لجواز) اي لأحتمال (ان يكون) ابو تمام (قد شبه الملام بظرف
شراب مكروه) لأشتماله على ما يكرهه الشارب لمرارته او بشاعته وهذا هو وجه الشبه
بين الملام وظرف شراب مكروه لأن الملام ايضا مكروه عند العاشق (فيكون) هذا التشبيه
المضمر في النفس (إستعارة بالكناية ثم اضاف) لفظ (الماء إليه) ولا يمكن ان يراد منه
حينئذ إلا الماء المتوهم الذي صورته صورة الماء الحقيقي فيكون هذا (إستعار تخييلية)
تابعة للأستعارة بالكناية لا غير تابعة لها.
(او يكون) ابو
تمام (قد شبه الملام بالماء المكروه) اي بنفس الماء
لا بظرفه ووجه الشبه حينئذ الاسكان فأن الملام يسكن حرارة العشق كما ان
الماء يسكن حرارة العطش فتأمل (فأضاف المشبه به إلى المشبه كما في لجين الماء) وقد
مر بيانه عند تقسيم التشبيه بأعتبار اداته (فلا يكون من الاستعارة في شيء) فضلا عن
ان يكون إستعارة تخييلية لأنه حينئذ تشبيه محض.
(وعلى
التقديرين) اي على تقدير ان يقال انه شبه الملام بظرف شراب مكروه حتى يكون إستعارة
بالكناية او بنفس الماء ليكون تشبيها محضا (يكون مستهجنا ايضا) كما كان مستهجنا
عند السكاكي بجعله إستعارة تخييلية غير تابعة للأستعارة بالكناية (لأنه) اي ابا
تمام (كان ينبغي) له (ان يشبهه) اي الملام (بظرف شراب مكروه) بحيث يدل الكلام على
التشبيه (او) يشبهه بنفس (شراب مكروه) كذلك (و) الحال إنه (لا دلالة للفظ) اي للفظ
البيت (على هذا التشبيه) المضمر في النفس على الاول وعلى التشبيه المطلق المحض على
الثاني وإلى هذا أشار في الايضاح حيث قال ما هذا نصه والأستهجان على الوجهين لأنه كان
ينبغي له ان يشبهه بظرف شراب مكروه أو بشراب مكروه ولهذا لم يستهجن قولهم اغلظت
لفلان القول وجرعته منه كأسا مرة او سقيته امر من العلقم إنتهى هذا ما تقرر عندي
في شرح هذا المقام العويص ولا اظن ان تجد عند غيري ما فيه محيص والمنة لله.
(وفيه اي وفي
تفسير التخييلية بما ذكر تعسف اي اخذ على غير الطريق) اي جرى على غير الجادة
السهلة لأدراك المطالب (لما فيه من كثرة الاعتبارات التي لا يدل عليها دليل ولا
يدعو إليها حاجة) والاعتبارات عبارة عن تقدير الصور الخيالية ثم تشبيهها بالمحققة
ثم إستعارة اللفظ الموضوع للصور المحققة للصور الخيالية وتقدير مشبهين احدهما في
المكنية والآخر في التخييلية
وتقدير وجهين للشبه وقد لا يتفق إمكان صحة مثل هذه الاعتبارات في كل مادة
او قد لا يحسن بخلاف ما ذكره المصنف في تفسير التخييلية فانه خال من تلك الأمور
لأنه كما مر فسرها بأثبات الأمر المختص بالمشبه به للمشبه.
(وقد يقال ان)
مراد الخطيب من (التعسف فيه إنه لو كان الأمر كما زعم) السكاكي في تفسير التخييلية
(لوجب ان يسمى هذه الاستعارة توهمية) لأنها ثبتت بالوهم لما تقدم من قوله أخذ
الوهم في تصويرها إلخ (لا تخييلية وهذا) التوجيه للتعسف (في غاية السقوط لأنهم
يسمون حكم الوهم تخييلا ويقولون كما تقدم في تعريف المجاز إنه يكفي في التسمية
ادنى مناسبة بين الأسم والمسمى والمناسبة هنا موجودة وذلك لما تقدم غير مرة من ان
الوهم والخيال كل منهما قوة باطنية شأنها ان تخترع مالا ثبوت له في نفس الأمر فهما
مشتركتان في المتعلق وحينئذ يجوز ان ينسب إلى احدى القوتين ما ينسب إلى الاخرى
للمناسبة بينهما والحاصل ان الاختراع فيما نحن فيه وإن كان بالوهم لكنه نسب الى
الخيال للمناسبة بينهما.
والدليل على
جواز تلك التسمية وإنه اصطلاح قد ثبت قبل السكاكي وليس من مبدعاته إنه (ذكر ابو
علي) ابن سيناء (في) كتاب (الشفاء) وهو علم من أعلام الفن (ان القوة المسماة
بالوهم هي الرئيسة) اي الغالبة على سائر القوى الحيوانية (الحاكمة في الحيوان حكما
غير عقلي ولكن حكما تخييليا) فقد سما ابو على حكم الوهم تخييلا (وايضا إنهم) أي
علماء المعقول (يقولون ان للوهم قوة تخدمه وهي) كما تقدم في بحث التشبيه (التي لها
قوة التركيب والتفصيل بين الصور والمعاني الجزئية) وقد تقدم بيانه هناك (وتسمى)
تلك القوة (عند إستعمال العقل إياها مفكرة وعند إستعمال الوهم متخيلة) فالمسمى
واحد وتعدد الاسم بأعتبار المستعمل والمتعلق
حسبما بين هناك فراجع ان شئت.
(و) فيه أيضا
إنه (يخالف تفسيره للتخييلية تفسير غيره لها اي غير السكاكي للتخييلية) لأن غيره
فسرها (بجعل الشيء للشيء كجعل اليد للشمال) في قول لبيد وقد تقدم بيانه في فصل
تحقيق الاستعارة بالكناية والتخييلية.
(وجعل الاظفار
للمنية) وقد مر بيانه ايضا في قول الهذلي (فعلى تفسير السكاكي) للتخييلية (يجب ان
يجعل للشمال صورة متوهمة شبيهة باليد ويكون إطلاق اليد عليها) اي على تلك الصورة
المتوهمة إستعارة تصريحية) لأنه قد ذكر المشبه به (تخييلية) وذلك لما تقدم آنفا (وإستعمالا
للفظ في غير ما وضع له) فاليد حينئذ مجاز لغوي والحاصل ان الاستعارة على تفسيره
إنما هي إستعمال لفظ اليد في غير ما وضع له اعني في تلك الصورة المتوهمة (وعند
غيره الأستعارة هو إثبات اليد للشمال) وجعلها له والأثبات والجهل أمر معنوي ليس من
مقولة اللفظ (و) حينئذ (لفظ اليد حقيقة لغوية مستعملة في معناه الموضوع له ولهذا)
أي ولأن الاستعارة عند غيره هو إثبات اليد للشمال ولفظ اليد حقيقة لغوية مستعملة
في معناه الموضوع له (قال الشيخ عبد القاهر إنه لا خلاف في ان اليد) في البيت من
حيث إضافتها إلى الشمال ويحتمل ان يكون في الكلام حذف مضاف أي لا خلاف في ان إثبات
اليد (إستعارة ثم) اي بعد عدم الخلاف في ذلك (إنك لا تستطيع ان تزعم ان لفظ اليد)
مجاز لغوي (قد نقل عن شيء) اي عن معناه الموضوع له (الى شيء) اي إلى غير معناه
الموضوع له (إذ ليس المعنى) اي معنى اليد المضاف إلى الشمال او معنى إثبات اليد
للشمال (على إيه) أي لبيد (شبه شيئا) متوهما في الشمال (باليد) التي هي عضو من
الأعضاء فليس المعنى على ما يقوله السكاكي
ان التخييلية صورة وهمية محضة على ما تقدم بيانه (بل المعنى على إنه أراد
ان يثبت للشمال يدا) حقيقية كما ان الهذلي اثبت اظفارا للمنية فالاستعارة في إثبات
اليد للشمال لا في لفظ اليد بعد تشبيه الشمال بالمالك المتصرف باليد فلفظ اليد
حقيقة لغوية مستعملة في معناه الموضوع له اعني العضو المخصوص وسيأتي الفرق بين قول
السكاكي وغيره ببيان أوضح من هذا بعد قوله (لا يقال) كيف يحكي عن الشيخ إنه لا
خلاف في ان اليد إستعارة وقد بين في الأصول ان دعوى عدم الخلاف عبارة أخرى عن دعوى
الأجماع والحال إنه (إنما يتحقق معنى الأستعارة في التخييلية على تفسير السكاكي
دون المصنف لأن الأستعارة في شيء يقتضي تشبيه معناه) أي الصورة التي اخترعه الوهم (بما
وضع له اللفظ المستعار بالتحقيق) اي العضو المخصوص مثلا (ولا يتحقق هذا المعنى) اي
التشبيه المذكور (بمجرد جعل الشيء) اي اليد او الأظفار (للشيء) اي للشمال او
للمنية (من غير توهم تشبيه بمعناه الحقيقي) اي بمعنى اليد الحقيقي او الاظفار
الحقيقية (لما سبق) في اول بحث الاستعارة (من تفسير الاستعارة) التي هي قسم من
المجاز المطلق حيث قلنا وهي ما اي مجاز كانت علاقته المشبهة اي قصد ان إطلاقه على
المعنى المجازي بسبب تشبيهه بمعناه الحقيقي الى آخر ما ذكر هناك.
(وإن خصص
التفسير المذكور بغير التخييلية يصير النزاع) بين المصنف والسكاكي (لفظيا) إذ يصير
التخييلية حينئذ متفقا على إنها ليست من الاستعارة التي فسرت بالتفسير المذكور
فليست التخييلية إستعارة ومجازا من جهة المعنى بالأتفاق إذ التفسير المذكور مختص
بغيرها بالأتفاق فيبقى النزاع لفظيا اي يبقى النزاع في ان التخييلية هل يسمى
إستعارة اولا والنزاع اللفظي ليس من شأن امثال المصنف والسكاكي لأنه عبارة عن
المغالطة وهي
بعيدة عن مباحث المحققين فأنها يليق بالسوفسطائين.
(و) ايضا (يكون)
تخصيص التفسير المذكور بغير التخييلية (مخالفا لما اجمع عليه السلف) اي القدماء من
علماء البيان (من ان الأستعارة التخييلية قسم من اقسام المجاز اللغوي).
والحاصل ان
الاستعارة بالتفسير المذكور تتحقق على مذهب السكاكي في التخييلية لا على مذهب غيره
لأن في التخييلية على مذهبه إستعمل لفظ المشبه به اعني لفظ اليد مثلا في المشبه
اعني الصورة المتوهمة فيصدق على لفظ اليد إنه كلمة إستعملت في غير ما وضع له بسبب
تشبيهه بما وضع له فيصدق على لفظ اليد إنه إستعارة تخييلية ومجاز واما على مذهب
غيره فليس في التخييلية إلا جعل اليد للشمال مثلا وليس فيه تشبيه فلا يصدق على لفظ
اليد إنه إستعارة ومجاز فضلا عن ان يكون تخييلية وإن شئت فقل ان تفسير السكاكي
واعتباره الصورة الوهمية وتشبيهها بلازم المشبه به وإستعارة لفظه لها ومخالفته
لغيره في تفسير الأستعارة التخييلية لأجل ان يتحقق معنى الأستعارة في التخييلية إذ
لا يتحقق معناها إلا على مذهبه لا على مذهب المصنف وذلك لأن الاستعارة كلمة
إستعملت فيما شبه بمعناها ولا يتحقق هذا المعنى بمجرد جعل الشيء للشيء من غير توهم
وتشبيه بمعناها الحقيقي ولا يمكن ان يتخصص تفسير الاستعارة المذكور بغير التخييلية
لأن التخصيص المذكور مخالف لما اجمع عليه السلف من ان الأستعارة التخييلية قسم من
المجاز اللغوي على إنه يصير النزاع لفظيا وهو بعيد.
(لأنا) نختار
الشق الثاني أي تخصيص التفسير المذكور بغير التخييلية ونمنع صيرورة النزاع لفظيا
هذا حاصل الجواب واما تفصيله فهو أنا (نقول ما ذكرت من معنى الاستعارة المقتضى
للتشبيه إنما هو) معنى (الأستعارة التي هي
من اقسام المجاز اللغوي وهو غير الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية)
وما ادعيت من إجماع السلف على ان الاستعارة التخييلية قسم من اقسام المجاز اللغوي
باطل وغلط وسيصرح بذلك بعيد هذا إذ ليس إجماع على ان التخييلية مجاز لغوي بمعنى
إنها كلمة إستعملت فيما شبه بمعناها وإلا لما وقع الخلاف بينهم فليس الأجماع في ان
مجازية الأستعارة التخييلية من قبيل مجازية لفظ الأسد في الرجل الشجاع بل الأجماع
في ان المجازية فيها من قبيل المجاز العقلي الذي تقدم في الباب الأول إذ كما ان في
المجاز العقلي إسناد الفعل او ما هو بمعناه إلى غير ما هو له كذلك في الاستعارة
التخييلية إثبات شيء اي الأظفار او اليد مثلا لشيء اي للمنية او الشمال مثلا
وبعبارة اخرى ان اللفظ المسمى بالتخييل كالأظفار واليد مثلا منقول لغير من هو له
اعني المنية او الشمال مثلا واثبت له فبرز فيه بروز المستعير في العارية وإلى ما
ذكرنا من معنى الأستعارة المجمع عليها اشار بقوله (وتحقيق معنى الأستعارة في
التخييلية إنه استعير للمنية ما) اي الأظفار الذي (ليس لها وهو) اي ما ليس لها
عبارة عن (الأظفار) وإذا كان الأجماع على هذه الاستعارة بهذا المعنى فيأتي الخلاف
والنزاع بين المصنف والسكاكي في إنه هل هناك شيء وهمي وصورة مخترعة للوهم شبه ذلك
الشيء الوهمي بمعنى ذلك اللفظ اي لفظ الأظفار او اليد المسمى بالتخييل فيكون اللفظ
اطلق على تلك الصورة الوهمية مجازا لغويا كما يقوله السكاكي او ليس هناك تشبيه شيء
بشيء فهو حقيقة لغوية كما يقوله المصنف وهذا النزاع والخلاف معنوي لا لفظي وإلى ما
ذكرنا اشار بقوله (والنزاع) بين المصنف والسكاكي حينئذ معنوي لأنه (في ان لفظ
الأظفار) او ليد مستعمل في معناها الحقيقي ليكون حقيقة لغوية) كما هو مذهب المصنف (او)
مستعمل (في غير معناه اعني الصورة
الوهمية الشبيهة بالأظفار) او باليد (ليكون مجازا لغويا وقسما من الاستعارة
التصريحية كما هو مذهب السكاكي) وسيأتي التصريح بهذا النزاع عنقريب عند قول الخطيب
وعني بالمكنى (وظاهر ان هذا النزاع ليس بلفظي) فهو معنوي إذ ما يترتب على كونه
مجازا وهو كون إطلاق الاظفار او اليد على الصور المتوهمة إستعارة تصريحية غير ما
يترتب على كونه حقيقة وهو كون الاستعارة والمجاز في إثبات اليد للشمال من قبيل
المجاز العقلي حسبما أشرنا إليه آنفا.
(والقول بأجماع
السلف على ان) الاستعارة (التخييلية من المجاز اللغوي غلط محض ولا يبعد ان يدعي
إجماعهم على خلافه) وجه عدم بعد هذه الدعوى تصريح الشيخ في عبارته المتقدمة على
خلاف ما نسب إلى السلف وهو منار في هذا الفن بين السلف وقدوة للخلف.
(و) اعترض ايضا
إنه (يقتضي ما ذكر السكاكي في التخييلية) وهو ان يؤتي بلفظ لازم المشبه به ويستعمل
في صورة وهمية (ان يكون الترشيح) وهو كما تقدم في تقسيم الأستعارة بأعتبار آخر غير
اعتبار الطرفين والجامع واللفظ ان يقرن المشبه بما يلائم المشبه به كما في قوله
تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) وقد تقدم بيانه هناك (إستعارة تخييلية للزوم مثل ما
ذكره السكاكي في التخييلية من إثبات صورة وهمية فيه أي في الترشيح لأن في كل من
الترشيح والتخييلية إثبات بعض ما يختص بالمشبه به للمشبه فكما اثبت) في التخييلية (للمنية
التي هي المشبه ما يختص بالسبع الذي هو المشبه به من الأظفار كذلك اثبت) في
الترشيح في الآية (لأختيار الضلالة على الهدى الذي هو المشبه ما يخص المشبه به
الذي هو الاشتراء الحقيقي من الربح والتجارة) حسبما بين هناك.
(فكما اعتبر
هناك) اي في التخييلية (صورة شبيهة بالاظفار فلتعتبر ههنا) اي في الترشيح (ايضا
معنى وهمي شبيه بالتجارة و) معنى وهمي (آخر شبيه بالربح ليكون إستعمال) لفظ (التجارة
و) لفظ (الربح فيهما) اي في المعنيين الوهميين (إستعارتين تخييلتين إذ لا فرق
بينهما) اي بين التخييل والترشيح (إلا بأن التعبير عن المشبه الذي اثبت له ما) اي
الاظفار الذي (يخص المشبه به كالمنية مثلا في التخييلية بلفظه الموضوع له كلفظ
المنية وفي الترشيح بغير لفظه كلفظ الاشتراء المعبر به عن الاختيار والأستبدال
الذي هو المشبه مع ان لفظ الاشتراء ليس بموضوع له) أي للمشبه اي للأختيار
والاستبدال (وهذا) الذي ذكرناه من قولنا إذ لا فرق إلخ (معنى قوله) اي قول الخطيب (في
الايضاح) حيث يقول (ان في كل منهما) اي من التخييلية والترشيح (إثبات بعض لوازم
المشبه به) اراد بالمشبه به السبع الذي شبه به المنية في التخييلية والاشتراء الذي
شبه به.
(للمشبه) اي
للمنية في التخييلية وللأختيار والاستبدال في الترشيح (غير ان التعبير عن المشبه)
اي عن المنية (بلفظه الموضوع له) اي باللفظ المركب من (م) و (ن) و (ي) المشددة و (ه)
الموضوع للمنية اي الموت (و) التعبير عن المشبه اي عن الاختيار والاستبدال (في
الترشيح بغير لفظه) الموضوع له فأن اللفظ الموضوع للأختيار والاستبدال مركب من (ا)
و (خ) و (ت) و (ي) و (ا) و (ر) وقس عليه لفظ الاستبدال فلم يعبر عن الاختيار
والأستبدال بهذين المركبين بل بغيرهما وهو لفظ الاشتراء المركب من (ا) و (ش) و (ت)
و (ر) و (ا) و (ء) «فالمشبه في قوله» اي قول الخطيب في الايضاح (ان التعبير عن
المشبه في التخييلية هو) المشبه (المعهود) اي المنية (الذي اثبت له بعض لوازم
المشبه به) حاصله ان المراد بالمشبه في التخييلية المنية
التي أثبت لها بعض اللوازم اي اثبت لها الاظفار.
(وقد خفى هذا)
اي كون المشبه في التخييلية هو المشبه المعهود اي المنية (على بعضهم فتوهم ان
المراد بالمشبه هيهنا) اي في هذا المقام من قوله في الايضاح (هو الصورة الوهمية)
التي اخترعها الوهم (الشبيهة بالصورة المتحقة) للأظفار حاصله إنه توهم ان المراد
بالمشبه هو الصورة الوهمية التي شبهت بصورة الاظفار المتحققة (فاعترض) على الخطيب
بأن التعبير عنه) اي عن المشبه في التخييلية (ايضا) اي كما في الترشيح (ليس بلفظه
بل بلفظ المشبه به اعني) كلمة (الأظفار التي هي موضوعة للصورة المتحققة التي هي
المشبه بها وهو) اي الاعتراض المذكور بتوهم إن المراد بالمشبه هو الصورة الوهمية
الشبيهة بالصورة المتحققة للأظفار (سهو) ظاهر لأن المراد بالمشبه ما بيناه لا ما
توهمه.
(ثم) اي بعد
الاعتراض المذكور في المتن وبعد ثبوت ان لا فرق بين التخييلية والترشيح إلا الفرق
المذكور يرد على السكاكي إعتراض آخر وهو ان (هذا الفرق) المذكور (لا يقتضي وجوب
اعتبار المعنى المتوهم) أي الصورة المتوهمة (في التخييلية وعدم اعتباره) اي عدم
اعتبار المعنى المتوهم أي الصورة المتوهمة (في الترشيح) وذلك لأن هذا التفريق
بمجرد الاعتبار والامور الاعتبارية امره بيده المعتبر (فأعتباره) اي اعتبار المعنى
المتوهم (في احدهما) يعني التخييل (دون الآخر) يعني الترشيح (تحكم) أي حكم بلا
دليل وترجيح بلا مرجح لا عبرة به إذا المعنى الذي صحح اعتبار المعنى المتوهم أي
الصورة الوهمية موجود فيهما وذلك المعنى الذي صحح الاعتبار عبارة عن إثبات بعض ما
يختص بالمشبه به حسبما ما عرفت في صدر المبحث فكما لا يمنع من اعتبار الصورة
المتوهمة التعبير عن المشبه في التخييلية بنفس لفظه
فكذا يجب ان لا يمنع من اعتبار تلك الصورة التعبير عن المشبه في الترشيح
بغير لفظه فاذا صح اعتبار تلك الصورة في كل من التخييلية والترشيح فأما ان تعتبر
في كل واحد منهما او لا تعتبر في كل واحد منهما فأعتبارها في احدهما دون الآخر
تحكم محض لا عبرة به.
فان قيل انما
يعتبر السكاكي في الترشيح الصورة الوهمية واعتبره في التخييلية لان الترشيح ينافي
اعتبار تلك الصورة لانه اي الترشيح ليس الا حقيقة او مجازا وايا ما كان فالمعنى
فيه امر محقق حسا او عقلا لا متوهم واما التخييل كما يستشعر من لفظه لا يمكن فيه
اذا اريد ان يكون مجازا لغويا الا باعتبار الصورة الوهمية لانه معنى التخييل
واختراع الوهم وبعبارة اخرى لا يمكن الاستعارة التخييلية اذا اريد كون لفظ الاظفار
مجازا إلا باعتبار تلك الصورة الوهمية ليستعمل اللفظ فيها بخلاف الترشيح فانه
مستعمل في معناه الحقيقي او المجازي المحقق فلا يحتاج الى اعتبار معنى آخر له فضلا
عن كون ذلك المعنى وهميا وبعبارة اخرى الترشيح لا يحتاج الى اعتبار المعنى المتوهم
لانه مستعمل في معناه اما حقيقة او مجازا وايا ما كان فالمعنى محقق اما حسا او
عقلا فلا وجه لاعتبار معنى آخر متوهم لا تحقق له حسا ولا عقلا فصح عدم اعتبار تلك
الصورة في الترشيح واعتبارها في التخييلية كما فعل السكاكي وبطل قولكم ان استعمال
الربح والتجارة فيهما استعارتين تخييليتين.
قلت لا نسلم ان
المعنى دائما محقق في الترشيح اذا كان مجازا بل قد يكون المعنى المجازي للترشيح
متوهما كما في الآية المتقدمة اذ نفى الربح في التجارة ترشيح استعمل في نفي
الانتفاع بالاعمال مجازا وهو امر متوهم
فصح الاعتراض وصح قولنا ان استعمال التجارة والربح فيهما استعارتين
تخييليتين.
(ومما يدل على
ان الترشيح ليس) دائما (من المجاز والاستعارة) التي معناها محقق حسا او عقلا بل قد
يكون معناها امرا متوهما (ما ذكره صاحب الكشاف في قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) انه يجوز ان يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام
استعارة للوثوق بالعهد) والدليل في قوله (او هو) اي الاعتصام (ترشيح لاستعارة
الحبل) للعهد (بما يناسبه) اي بالاعتصام الذي يناسب الحبل وجه دلالة هذه الفقرة من
كلامه على عدم وجوب كون الترشيح استعارة ومجازا محقق المعنى انه جعل جواز كون
الاعتصام ترشيحا مقابلا لجواز كونه استعارة والمقابلة بين شيئين عبارة اخرى عن
مباينتهما فالترشيح ليس مجازا ولا استعارة بل يكون حقيقة وهو المطلوب.
(وحاصل اعتراض
المصنف) على السكاكي اي الاعتراض الذي ذكره بقوله ويقتضي ما ذكره الخ (مطالبته) اي
مطالبة المصنف السكاكي (بالفرق بين التخييلية والترشيح) حيث اعتبر السكاكي الصورة
المتوهمة في الاول دون الثاني والحال انه لا فرق بينهما من هذه الجهة حسبما بيناه.
(وجوابه) اي
جواب هذا الاعتراض (إن إلأمر الذي هو من خواص المشبه به) يعني بالامر الاظفار مثلا
في التخييلية والاشتراء مثلا في الترشيح (لما قرن في التخييلية بالمشبه كالمنية
مثلا حملناه على المجاز) والاستعارة (وجعلناه عبارة عن امر متوهم يمكن اثباته
للمشبه) اذ معناه الحقيقي مناف للمشبه وليس له ههنا شيء آخر محقق نجعله عبارة عنه (وفي
الترشيح لما قرن) ذلك الامر الذي هو من خواص المشبه به (بلفظ المشبه به) وهو اي
ذلك الامر يناسب بمعناه الحقيقي الذي هو المشبه به الحقيقي (لم يحتج)
الترشيح (الى ذلك) الامر المتوهم (لانه) الضمير للشأن (جعل المشبه به هو
هذا المعنى) اي الاشتراء (مع لوازمه) اي الربح والتجارة الحقيقيين وبعبارة اخرى
جعل المشبه به الاشتراء مع لوازمه من الربح والتجارة الحقيقيين فاذا كان المشبه به
هو المجموع فالمراد من الربح والتجارة معناهما الحقيقي اللازم للاشتراء الحقيقي
الذي هو المشبه به وبعبارة اخرى انما نقل لفظ المشبه به اعني لفظ الاشتراء مع لفظ
الربح والتجارة بمالهما من المعنى الحقيقي فلا يحتاج الى اعتبار صورة وهمية بجعل
الربح والتجارة عبارة عنها بل لا يمكن إعتبارها لانها تنافي الحقيقة.
والحاصل انه
لما عبر عن المشبه في التخييلية بلفظه واقترن بما هو من لوازم المشبه به وكان ذلك
اللازم منافيا للمشبه ومنافر اللفظة وبعبارة اخرى كان الاظفار منافيا للمنية اذ لا
اظفار لها حقيقة وكان الاظفار منافرا للفظ المنية جعل لفظ الاظفار عبارة عن صورة
متوهمة يمكن اثباتها للمنية لان اثبات الاظفار بمعناه الحقيقي للمنية مما لا يقبله
العقل لانه منافر لها والاجتناب عن اثبات المنافر واجب عقلا وهذا بخلاف الترشيح فانه
لما عبر فيه عن المشبه اي عن الاختيار مثلا بلفظ المشبه به اي بالاشتراء واقترن
بما هو من لوازم المشبه به وبعبارة اخرى اقترن بالربح والتجارة الذين لا ينافران
المشبه به فقلنا انهما باقيان على مالهما من المعنى الحقيقي فلا احتياج الى إعتبار
الصورة المتوهمة مع امكان إعتبار نقل لفظ المشبه به مع لازمه اعني الربح والتجارة
بما لهما من المعنى الحقيقي.
(فاذا قلنا) في
الترشيح (رأيت اسدا يفترس اقرانه ورأيت بحرا تتلاطم امواجه) ليكون الترشيح عبارة
عن افتراس الاقران وتلاطم الامواج حيث انهما مما يلائم المشبه به (فالمشبه به هو
الاسد الموصوف بالافتراس
الحقيقي والبحر الموصوف بالتلاطم الحقيقي) فهما اي الافتراس والتلاطم
باقيان على ما لهما من المعنى الحقيقي فليسا بمجازين وهذا (بخلاف اظفار المنية) في
التخييلية (فانها) اي الاظفار (مجاز عن الصورة المتوهمة لتصح اضافتها الى المنية)
إذ لو كان الاظفار باقية على معناها الحقيقي لا يقبل اضافتها اليها فلا تصح.
فتحصل مما
ذكرنا ان اللفظ المنقول من المشبه به في الترشيح هو مجموع لفظ المشبه به مع لفظ
لازمه بمعناه الحقيقي.
(فان قيل فعلى
هذا) الذي تحصل (لا يكون الترشيح خارجا عن الاستعارة) اي عن استعارة لفظ الاسد
للرجل الشجاع مثلا (زائدا عليها) اي الاستعارة لانه اي لفظ الاسد لم ينقل الى
المشبه وحده بل نقل مع ما لها من اللازم وبعبارة اخرى نقل مع الافتراس الحقيقي
وكذلك البحر فانه نقل مع تلاطم الامواج الحقيقي والحاصل انه نقل لفظ المشبه به
مقيدا بلوازمه إلى المشبه لا مجردا عن التقيد باللوازم مع انهم صرحوا بان الترشيح
خارج عنها زائدا عليها.
(قلنا فرق بين
المقيد والمجموع) فان الفرق بينهما كالفرق بين المفرد المقيد والمركب وقد تقدم
بيانه في بحث تشبيه المفرد بالمركب وحاصل الفرق ان المقيد ما اشار إليه السبزواري
بقوله تقيد جزء وقيد خارجي اما المجموع فكل ما اجتمع منه داخل فيه (والمشبه به) في
الترشيح (هو الموصوف) المقيد بالصفة (والصفة) التي جعلت قيدا هي الترشيح (خارجة
عنه) اي عن الموصوف الذي هو الاستعارة (لا) ان المشبه به هو (المجموع المركب منهما)
اي الموصوف والصفة (وايضا) جواب آخر وهو أن (معنى) خروجه و (زيادته) حيث صرحوا بان
الترشيح خارج عن الاستعارة
زائد عليها (ان الاستعارة تامة بدونه) اي بدون الترشيح وبعبارة اخرى معنى
خروج الترشيح وزيادته ان استعارة الاشتراء للاختيار والاستبدال لا يحتاج الى
ترشيحها اي ترشيح الاستعارة بالتجارة والربح اللازمان للاشتراء فليس المعنى ان
الترشيح لغو بحيث لا فائدة فيه اذ كونه لغوا لا فائدة فيه غير مسلم بل فيه فائدة
مهمة وهي تقوية المبالغة في التشبيه ويكفي في صحته وعدم كونه لغوا هذا المقدار من
الفائدة.
الى هنا كان
الكلام في الموضع السادس من المواضع التي وضع الخطيب لها فصلا مستقلا ليبين ان كل
واحد من تلك المواضع مخالف لما ذكره المصنف فشرع في الموضع السابع فأشار الى ما
اراده السكاكي بالمكنى عنها بناء على تفسيره ليكون تمهيدا ومقدمة لبيان الموضع
السابع فقال (وعنى بالمكنى عنها اي اراد السكاكي بالاستعارة المكنى عنها ان يكون
الطرف المذكور من طرفي التشبيه هو) لفظ (المشبه) اي المنية مثلا (ويراد به المشبه
به) يعني السبع اي الموت الذي ادعي انه سبع بناء (على ان المراد بالمنية) اي
بلفظها (في قوله واذ المنية انشبت اظفارها هو السبع) اي الموت الذي جعل سبعا (بادعاء
للسبعية لها) اي للمنية اي للموت (انكار ان تكون) المنية اي الموت (شيئا غير السبع)
والادعاء المذكور يفهم ويحصل (بقرينة اضافة الاظفار التي هي من خواص السبع اليها
اي المنية) فهذه الاضافة تدل على ان المراد بلفظ المنية هو السبع وذلك لان الاظفار
من مختصات السبع (فقد ذكر) لفظ (المشبه) اي المنية وهذا لا نزاع فيه لانه ليس
مخالفا لما عليه الخطيب (واريد به) اي بلفظ المشبه (المشبه به اعني السبع) وهذا هو
محل النزاع لانه مخالف لما عليه الخطيب وسيأتي بيانه ومما يجب ان يعلم ان كلام
السكاكي بناء على هذا التفسير مخالف لما تقدم
من كلامه عند قول الخطيب وقسم السكاكي المجاز اللغوي الخ لان كلامه هناك
كما صرح التفتازاني هناك دال على ان المستعار منه في الاستعارة بالكناية هو السبع
المتروك والمستعار له المنية واما كلامه في هذا التفسير فهو دال على ما يخالف ذلك
اي دال على ان المستعار منه هو الموت المجرد والمستعار له هو الموت الذي جعل سبعا
وكذلك مخالف لكلامه في مناسبة التسمية لان كلامه فيها كان مشعرا بأن المستعار هو
الاظفار والمستعار له الصورة المتوهمة والى جميع ما ذكرنا اشار بقوله هناك حيث قال
وسيجيء من كلامه ما ينافي جميع ذلك فتذكر.
فلنعد الى ما
كنا فيه فنقول قد تحصل من كلامه ههنا امران الاول ان الاظفار التي هي استعارة
تخييلية قرينة للاستعارة بالكناية اي لاستعارة لفظ المنية للسبع فلا قرينة لها
سواها وهذا الحصر معلوم من مذهبه (فالاستعارة بالكناية لا تنفك) عنده (عن)
الاستعارة (التخييلية) لأن اضافة خواص المشبه به الى المشبه لا تكون الا على سبيل
الاستعارة وبعبارة اخرى اضافة الاظفار الى المنية لا تكون الا على سبيل الأستعارة
التخييلية فيصح الاعتراض الذي يورده الخطيب عليه عن قريب بقوله فلم تكن المكنى
عنها مستلزمة للتخييلية وذلك باطل بالاتفاق.
الامر الثاني
ان المراد بلفظ المنية هو السبع بادعاء السبعية لها فلفظ المنية استعارة ومجاز
لانه نقل عن معناه الموضوع له اعني الموت إلى غيره اعني السبع غير المتعارف ولما
كان هذا مخالفا لما عليه الخطيب من ان كلا من لفظي الاظفار والمنية كما تقدم في
الفصل السابق حقيقة مستعملة في المعنى الموضوع له وليس في الكلام مجاز لغوي وانما
المجاز هو اثبات شيء لشيء ليس هو له.
الى آخر ما
ذكره هناك اعترض عليه بقوله (ورد ما ذكره من تفسير الاستعارة المكنى عنها بان لفظ
المشبه فيها اي في الاستعارة بالكناية كلفظ المنية مثلا) ليس مستعملا في السبع
الذي جعل موضوعا له تأويلا حتى يكون استعارة كما توهمه السكاكي بل (مستعمل فيما
وضع له تحقيقا للقطع بان المراد بالمنية هو الموت لا غيره والاستعارة ليست كذلك)
اي ليست مستعملا فيما وضع له (لانه) اي السكاكي (فسرها) اي الاستعارة (بان تذكر) لفظ
(احد طرفي التشبيه وتزيد به الطرف الآخر) حاصله ان تستعمل اللفظ الموضوع لاحد
الطرفين في الطرف الآخر الذي لم يوضع ذلك اللفظ له وذلك كلفظ الاسد الذي وضع
للحيوان واستعمل في الرجل الشجاع بطريق الاستعارة (و) لانه (جعلها) اي جعل
الاستعارة قسما من المجاز اللغوي المفسر بالكلمة المستعملة في غير ما وضعت له
بالتحقيق.
(و) اما (اضافة
الاظفار التي جعلها قرينة للاستعارة) اي لاستعارة لفظ المنية للسبع فهذا توهم فاسد
بل (انما هي قرينة التشبيه المضمر في النفس) كما بيناه في اول الفصل السابق (وهذا)
اي قوله واضافة الاظفار الخ (كأنه جواب سؤال مقدر وهو انه لو اريد بالمنية معناها
الحقيقي) اي الموت بناء على ما يقوله الخطيب (فما معنى اضافة الاظفار اليها)
الاستفهام انكاري اي ليس لتلك الاضافة معنى (وإلا) اي وان لم يكن هذا جوابا عن
سؤال مقدر (فلا دخل له في الاعتراض) لان حاصل الاعتراض قياس من الشكل الثاني من
الاشكال الاربعة المنطقية تقريره ان يقال لفظ المشبه الذي ادعى انه إستعارة مستعمل
فيما وضع له هذا صغر القياس ولا شيء من الاستعارة بمستعمل فيما وضع له هذا كبرى
القياس فينتج المشبه ليس استعارة وهذا هو الاعتراض الوارد على تفسير
السكاكي.
ومما يجب ان
يعلم انه ليس النزاع بين الخطيب والسكاكي في ان في قول الهذلي انشبت اظفارها
استعارة ام لا لانه قد تقدم في اول الفصل السابق انه قد اتفقت الاراء على ان في
مثله إستعارة بالكناية وإستعارة تخييلية وايضا لا نزاع بينهما في ان المذكور من
طرفي التشبيه هو لفظ المشبه اي لفظ المنية وانما النزاع في المراد بذلك إللفظ
فالخطيب يرى ان الاستعارة بالكناية ان يذكر لفظ المشبه ويراد به نفس المشبه اي
الموت حقيقة ويكون المراد تشبيهه بالسبع وقد تقدم في اول الفصل المتقدم ان هذا
التشبيه المضمر في النفس يسمى إستعارة بالكناية إما الكناية فلانه لم يصرح به بل
انما دل عليه بذكر خواصه ولوازمه واما إلاستعارة فمجرد تسمية لانه لم ينقل لفظ
المشبه عن معناه الى غيره بل شبه معناه بالسبع المتعارف الذي له الهيكل المخصوص
فلفظ المنية حينئذ حقيقة لانه يصدق عليه انه كلمة استعملت فيما وضع له والسكاكي
يرى ان الاستعارة بالكناية ان يذكر لفظ المشبه اي لفظ المنية ويراد به إيضا المشبه
إي الموت لكن بعد ادعاء دخوله في جنس السبع وبعبارة اخرى استعمل لفظ المنية الذي
هو موضوع للموت المجرد عن إدعاء السبعية في الموت إلذي إدعى له السبعية بمعنى جعله
فردا من افراد السبع لكنه على غير الهيكل المخصوص والحاصل انه انتقل لفظ المنية عن
معناه الذي هو الموت المجرد الى غير معناه وهو الموت الذي ادعى له السبعية
فالغيرية في المقام نظير الغيرية التي ذكرناها في المكررات في بحث المفعول المطلق
عند قول الناظم ومنه ما يدعونه مؤكدا الخ فبناء على هذه الغيرية يرى السكاكي انه
استعير لفظ المنية من الموت المجرد الى الموت المدعى له السبعية فكانه صار
مستعملا في غير ما وضع له لانه انما وضع للموت المجرد عن الادعاء فيكون استعارة
ومجازا باعتبار هذه الغيرية وحاصل اعراض الخطيب انه لا يكفي في المجازية هذه
الغيرية لانه مستعمل فيما وضع له تحقيقا للقطع بان المراد بلفظ المنية هو الموت لا
غير وانت إذا امعنت النظر فيما بيناه وإعملت الروية والفكر فيما اوضحناه لك من
بيان رأي الطرفين يسهل لك فهم قول التفتازاني (فان قلت انه) اي السكاكي (قد ذكر في
كتابه) اي في المفتاح (ما يحصل به التفصي عن هذا الأعتراض حيث اورد سؤالا وهو ان
الاستعارة) اي المجاز الذي تكون علاقته المشابهة (تقتضي ادعاء ان المستعار له) اي
المشبه (من جنس المستعار منه) اي المشبه به ففيما نحن فيه الاستعارة تقتضي ادعاء
ان المنية اي الموت من جنس السبع (و) لكن هذا الادعاء ينافي (مبنى الاستعارة
بالكناية) لان مبناها كما صرح الخطيت نقلا عنه (على ذكر المشبه) اي الموت (باسم
جنسه) اي المنية لان ذكر اسم الموت (و) التصريح به اعتراف بانه باق على حقيقته
فليس من جنس السبع لانه (لا اعترافا بحقيقة الشيء اكمل من التصريح باسم جنسه)
والتنافي بين ان الموت من جنس السبع وبقائه على حقيقته كالنار على المنار.
(ثم اجاب)
السكاكي عن هذا التنافي (بانا نفعل ههنا) اي في الاستعارة بالكناية (باسم المشبه)
اي بلفظ المنية (ما نفعل في الاستعارة المصرح بها بسمى المشبه به فكما ندعي هناك)
اي في الاستعارة المصرح بها ان الرجل (الشجاع مسمى للفظ الاسد بارتكاب تأويل كما
مر) في كتابه حيث قال في بحث الاستعارة ما نصه اعلم ان وجه التوفيق هو ان تبنى
دعوى الاسدية للرجل على ادعاء ان افراد جنس الاسد قسمان بطريق التأويل
متعارف وهو الذي له غاية جزئة المقدم ونهاية قوة البطش مع الصورة المخصوصة
وغير متعارف وهو الذي له تلك الجرئة وتلك القوة لا مع تلك الصورة بل مع صورة اخرى
انتهى.
وقد نقل
التفتازاني مضمونه فيما تقدم عند قول الخطيب ورد بأن الادعاء لا يقتضي الخ فتذكر.
(حتى يتهيأ لنا
التقصي عن التناقض بين ادعاء الأسدية) للرجل الشجاع (ونصب القرية المانعة عن ارادة
الهيكل المخصوص كذلك ندعي ههنا) اي في الاستعارة بالكناية ان (اسم المنية) صار (اسما
للسبع) وذلك بادعاء ان الموت سبع من السباع فكان الواضع وضع لفظ المنية للسبع اي
للحيوان الذي يغتال النفوس كما انه وضع لفظ السبع لذلك الحيوان فصار لفظ المنية (مرادفا
للفظ السبع) والحاصل انا لم نتصرف في الاسم بل نتصرف في المسمى اي في الموت بان
نجعله سبعا فاذا جعلناه سبعا صار الاسم اسما للمنبع فكأنه انتقل عن معناه الحقيقي
اعني الموت المجرد الى هذا المعنى الجديد اعني الموت الذي جعلناه سبعا فصار اسما
للسبع بعد ما كان اسما للموت المجرد كل ذلك (بارتكاب تأويل وهو ان ندخل المنية) اي
الموت في جنس السبع للمبالغة في التشبيه بجعل افراد السبع قسمين متعارف) وهو
الحيوان الذي على الهيكل المعصوص (وغير متعارف) وهو الذي ليس على ذلك الهيكل اعني
الموت (ثم نذهب على سبيل التخييل) اي تخييل ترادف لفظي المنية والسبع (الى ان
الواضع كيف يصح منه) الاستفهام انكاري اي لا يصح منه (ان يضع اسمين كلفظي المنية
والسبع لحقيقة واحدة) اي للحيوان الذي يغتال النفوس (ولا يكونان مترادفين) فيجب ان
يكونا مترادفين لكن يجب ان يعلم انه ليس المراد ان لفظ المنية وضع حقيقة للسبع حتى
يلزم ان يكون له وضعان مرة للموت
ومرة للسبع فيكون مشتركا لفظيا بل المراد تخييل انه وضع للسبع بتخييل ان
الموت سبع فتعدد معنى لفظ المنية وترادفه مع لفظ السبع امر خيالي محض فمن حيث
انهما مترادفان تخييلا صح ان يقال ان المراد بلفظ المنية السبع الادعائي اي الموت
المدعي له السبعية وصح ايضا ان يقال انه إستعارة ومجاز لانه إنما وضع للموت المجرد
لا للموت المدعى له السبعية لان الترادف خيالي لا حقيقي فاذا استعمل في الموت
المدعى له السبعية يصدق عليه انه كلمة استعملت في غير ما وضع له (فيتهيأ لنا بهذا
الطريق) اي بادعاء دخول المنية اي الموت في جنس السبع وتخييل ان لفظي المنية
والسبع مترادفان (دعوى السبعية للمنية) اي للموت (مع التصريح بلفظ المنية) والحاصل
انه بادعاء السبعية ذكرنا لفظ المنية واردنا منه السبع الادعائي وبالترادف المتخيل
استعملنا لفظ المنية في ذلك السبع ثم قلنا ان اللفظ استعارة ومجاز فيه لانه لم
يوضع للسبع الادعائي بل وضع للموت المجرد فلا تنافي بين ادعاء السبعية للموت كما
هو مقتضى الاستعارة وبين ذكر المشبه باسم جنسه كما هو مبنى الاستعارة بالكناية لان
ذكر الاسم بعد دعوى الترادف فليس اعترافا بحقيقة الموت حتى يكون منافيا لدعوى
السبعية وبعبارة اخرى ذكر لفظ المنية بعد الادعاء كذكر لفظ السبع لا ينافي دعوى
السبعية فظهر مما ذكرنا ان السكاكي يرى ان الاستعارة في لفظ المنية فتسمية ذلك
استعارة ليست مجرد اصطلاح بخلاف ما يراه الخطيب فانها كما صرح التفتازاني مجرد
اصطلاح وقد بينا وجهه في اول الفصل السابق فتذكر جيدا.
(قلت سلمنا
جميع ذلك) الذي ذكر في كتابه من ترادف لفظي المنية والسبع بالطريق المذكور الخ (لكنه
لا يقتضي كون لفظ المنية) اذا استعمل في الموت بعد ادعاء السبعية له بسبب الترادف (مستعملا
في غير ما وضع
له على التحقيق من غير تأويل حتى يدخل في تعريف المجاز ويخرج عن تعريف
الحقيقة) والحاصل ان لفظ المنية اذا استعمل في الموت ليس بمجاز بل حقيقة ولو بعد
ادعاء الترادف في لفظي المنية والسبع لان ادعاء الترادف الخيالي والسبعية الخيالية
لا يغير ما يكون واقعا فلا يوجب ثبوت الترادف في اللفظين حقيقة وواقعا وكذا لا
يوجب ثبوت السبعية للموت فلا يكون استعمال المنية في الموت استعمالا في غير ما وضع
له حتى يكون مجازا لان الادعاء كما قلنا لا يغير الواقع فلا يجعل الموضوع له اعني
الموت غير الموضوع له هذا في الاستعارة بالكناية كما لا يجعل الرجل الشجاع الذي هو
غير الموضوع له اسدا في الاستعارة المصرح بها فالتناقض باق بحاله.
والى ما ذكرنا
اشار بقوله (فكما انا اذا جعلنا مسمى الرجل الشجاع من جنس مسمى الاسد بالتأويل لم
يصر استعمال لفظ الاسد فيه) اي في مسمى الرجل الشجاع (بطريق الحقيقة بل كان مجازا)
ومستعملا في غير ما وضع له (فكذا اذا جعلنا اسم المنية مرادفا لاسم السبع بالتأويل
لم يصر استعماله في الموت بطريق المجاز حتى يكون استعارة بل هو حقيقة) ومستعمل
فيما هو موضوع له لان الادعاء والتأويل لا يجعل الموضوع له غير الموضوع له (فليتأمل)
فان المقام من دقائق المباحث وصعاب المطالب والله ولي التوفيق وهو المعين.
(وبالجملة) اي
خلاصة ما ذكر في قلت لتأييد اعتراض الخطيب على السكاكي (ان كل احد يعرف ان المراد
بالمنية ههنا) اي في الإستعارة بالكناية (هو الموت وهذا اللفظ) اي لفظ المنية (موضوع
له على التحقيق فلا يكون مجازا البة) لانه لم يستعمل الا فيما هو موضوع له (وعلى
هذا) الذي ذكر في قولنا وبالجملة (يندفع ما قيل ان لفظ المنية بعد ما جعل
مرادفا للسبع) بحسب الادعاء والتأويل (فاستعماله في الموت) الذي جعل سبعا
وموضوعا له (استعمال فيما وضع له ادعاء لا تحقيقا فلا يكون حقيقة بل مجازا) وجه
الاندفاع ما ذكر من ان هذا اللفظ موضوع للموت على التحقيق ومن البديهي ان التأويل
والادعاء لا يغير الواقع فهو حقيقة لا مجاز.
(وكذلك) اندفع (ما
قيل ان المراد به المشبه به اي السبع وهذا مما لا يمكن انكاره) لانه الغرض من
الاستعارة فحينئذ اذا استعمل في الموت يكون مجازا وان كان قد ادعى انه سبع (وذلك)
اي وجه الدفع (لانا نقول المشبه به انما هو السبع الحقيقي المتعارف) فهو ليس بمراد
(لا الادعائي الغير المتعارف لان الادعائي انما هو عين المشبه الذي هو المنية) اي
الموت وهو المراد فيكون مستعملا في ما وضع له فيكون حقيقة (وهو ظاهر) فهذه الامور
الثلاثة التي احدها ما ذكره السكاكي في كتابه والثاني والثالث هذان القولان
الاخيران لا تصير جوابا صحيحا عن اعتراض الخطيب على السكاكي حسبما اوضحناه (بل
الجواب) الصحيح عن الاعتراض (انا قد ذكرنا ان قيد الحيثية مراد في تعريف الحقيقة
فالحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له بالتحقيق من حيث انها موضوعة
بالتحقيق ونحن لا نسلم) ما اعترض به الخطيب على السكاكي من (ان استعمال لفظ المنية
في الموت) الذي جعل سبعا في مثل قولنا انشبت المنية اظفارها استعمال فيما وضع له
بالتحقيق من حيث انه موضوع له بالتحقيق بل) استعماله فيه (من حيث انه جعل فردا من
افراد السبع الذي لفظ المنية موضوع له بالتأويل المذكور) يعني تخييل الترادف
والادعاء.
(وبيان ذلك ان
استعماله) اي استعمال لفظ المنية (في الموت قد يكون باعتبار انه) اي لفظ المنية (موضوع
له) اي للموت وذلك (في
مثل قولنا دنت اي قربت (منية فلان وقد يكون) استعماله في الموت (باعتبار
انه) اي لفظ المنية (موضوع للسبع) اي للحيوان المعروف الذي يغتال الناس فهو اي لفظ
المنية (مرادف له) اي للفظ السبع (و) ان (الموت فرد من افراد السبع) حال كونه فردا
(غير متعارف) وذلك (كما في اظفار المنية) في قولنا انشبت المنية اظفارها.
(فاستعماله) اي
استعمال لفظ المنية في الموت بالاعتبار الاول على سبيل الحقيقة) لانه يصدق عليه
حينئذ انه كلمة مستعملة فيما هي موضوعة له بالتحقيق من حيث انها موضوعة له
بالتحقيق (بخلاف الاعبار الثاني فان استعماله) اي استعمال لفظ المنية (فيه) اي في
الموت (ليس من حيث انه) اي لفظ المنية (موضوع له) اي للموت (بالتحقيق بل من حيث
انه) اي لفظ المنية (مرادف للسبع) اي للفظ السبع (والموت فرد من افراده) اي افراد
السبع غاية الامر انه فرد غير متعارف (فليفهم) لئلا يشتبه احدى احدى الحيثيتا
بالاخرى (هذا) الذي ذكر في الجواب (غاية ما امكن في توجيه كلامه) اي كلام السكاكي (على
ما فهموه وفيه ما فيه) من جملة ما فيه ان ما ذكر في الجواب من ان استعمال لفظ
المنية في الموت ليس من حيث انه موضوع له بالتحقيق بل من حيث انه مرادف للسبع
والموت فرد من افراده وان كان مخرجا له عن كونه حقيقة فيبطل اعتراض الخطيب بان لفظ
المشبه فيها مستعمل فيما وضع له تحقيقا للقطع بان المراد بالمنية هو الموت لا غير
ولكنه لا يقتضي كونه مجازا فضلا عن كونه استعارة مرادا به الطرف الآخر وهذا هو
مقصود السكاكي ولم يثبت لانه اي لفظ المنية في الواقع لم يستعمل في غير ما وضع له
وهو المعتبر في المجاز وانما استعمل في نفس ما وضع له اعني الموت وان استعماله فيه
لا من حيث انه
موضوع له بل من حيث انه فرد من افراد المشبه به اعني السبع والحاصل انه لا
يلزم من خروج اللفظ عن كونه حقيقة ان يكون مجازا لجواز ان لا يكون حقيقة ولا مجازا
بل واسطة بينهما الا ترى ان اللفظ المهمل والغلط ليسا بحقيقة ولا بمجاز قطعا فعلى
هذا لم يتم هذا الجواب ايضا كالاجوبة الثلاثة المتقدمة فليتدبر جيدا.
(والحق)
والصحيح في المقام للسلف الاعلام ان يقال (ان الاستعارة هو لفظ السبع) الموضوع
للحيوان المعروف الذي يغتال النفؤس المكنى عنه) اي عن لفظ السبع (بذكر رديفه) اي
بذكر لفظ المنية الذي جعل مرادفا للفظ السبع بالتأويل حسبما تقدم آنفا فالاستعارة
بالكناية انما هو لفظ السبع (الواقع موقعه) اي المستعمل في مكانه (لفظ المنية
المرادف له) اي للفظ السبع (ادعاء) وتأويلا حسبما تقدم من جعل الموت سبعا (والمنية)
اي الموت (مستعار له والحيوان المفترس) المعروف (مستعار منه) وذلك لان لفظ السبع
وكذا رديفه الادعائي اعني لفظ المنية موضوع لذلك الحيوان المعروف فاستعير منه
وانتقل إلى الموت والقرينة على ذلك اضافة الاظفار الى المنية كل ذلك بناء (على ما
سبق في الفصل المتقدم عند بيان معنى الاستعارة في كلام السلف فمال قول السكاكي إلى
قول السلف كما اشرنا هناك انه سيجيء ان مال هذين القولين الى قول واحد فتذكر.
(والسكاكي حيث
فسر الاستعارة بالكناية بذكر المشبه وارادة المشبه به اراد بها) اي بالاستعارة (المعنى
المصدري) الذي هو فعل المتكلم (وحيث جعلها من اقسام المجاز اللغوي اراد بها) اي
بالاستعارة (اللفظ المستعار) يعني لفظ السبع او رديفه الذي هو لفظ المنية وقد تقدم
نظير
هذا مع توضيح منا في اول بحث الانشاء فراجع ان شئت.
(وقد صرح)
السكاكي في كتابه (بان المستعار في الاستعارة بالكناية هو اسم المشبه به المتروك)
لا اسم المشبه كما زعم الخطيب فاستشكل عليه بما تقدم (وعلى هذا لا اشكال عليه) لان
الاشكال انما هو بالنظر الى ما زعمه الخطيب من كون الاستعارة بالكناية هو لفظ
المشبه على ما تقدم آنفا وليس ههنا لفظ مستعمل في غير الموضوع له وذلك لانه جعلها
من اقسام المجاز اللغوي فليس ههنا استعارة بالكناية لانه جعلها كما قلنا من اقسام
المجاز اللغوي (الا انه صرح في آخر بحث الاستعارة التبعية بان) لفظ (المنية
استعارة بالكناية عن السبع و) لفظ (الحال) استعارة (عن المتكلم إلى غير ذلك من
الامثلة) التي ذكرها في كتابه (و) هكذا صرح (في آخر فصل المجاز العقلي بان الربيع
استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي) يعني القادر المختار (فجاء الاشكال) اي
اعتراض الخطيب المتقدم لان ما صرح في هذين الموضعين موافق لما زعمه الخطيب (فالوجه)
الذي يوجه به كلام السكاكي ليوافق ما عليه السلف ويرتفع الاشكال (ان يحمل مثل هذا)
الذي صرح في اخر بحث الاستعارة التبعية وفي آخر بحث المجاز العقلي (على حذف المضاف)
وهو لفظ ذكر (اي ذكر المنية) وذكر الربيع (استعارة بالكناية حال كونها) اي المنية
والربيع (عبارة عن السبع) وعن القادر المختار (ادعاء) والحمل على هذا مبني (على أن
المراد بالاستعارة معناها المصدري) لا اللفظ المستعار (اعني) من معناها المصدري (إستعمال
اسم المشبه في المشبه به إدعاء فيوافق) هذا الذي صرح في آخر بحث الاستعارة التبعية
مع (كلامه في بحث الاستعارة بالكناية حينئذ) اي حين حملنا مثل هذا على حذف المضاف
بناء على ان المراد بالاستعارة معناها المصدري
(ويندفع الاشكال بحذافيره) اي بجميعه قال في الصحاح حذافير الشيء اعاليه
ويقال اعطاه الدنيا بحذافيرها اي بأسرها والواحد حذفار والمراد من الاشكال المندفع
هو اختلال عبارة السكاكي حيث ان ظاهر ما صرح به في آخر بحث الاستعارة التبعية وفي
آخر فصل المجاز العقلي مخالف لكلامه في بحث الاستعارة بالكناية.
واما اعتراض
الخطيب حسبما صرح به في الايضاح حيث قال ان السكاكي جعل الاستعارة من اقسام المجاز
اللغوي وليس ههنا لفظ مستعمل في غير الموضوع له فلا يندفع الا بما ذكره التفتازاني
من ان الاستعارة بالكناية هو لفظ السبع وهو مذكور كناية بذكر رديفه اعني لفظ
المنية فعلى هذا يكون قوله حينئذ اشارة الى مجموع ما ذكره في قوله والحق الى ههنا
لا خصوص ما ذكره في قوله والوجه فتامل جيدا.
ولما فرغ من
الموضع السابع من المواضع التي وضع لها فصلا شرع في الموضع الثامن منها وهو آخر
المواضع فقال (واختار السكاكي رد الاستعارة التبعية) قد تقدم ان اللفظ المستعار ان
كان إسم جنس فاصلية كأسد وقتل بسكون التاء والا فتبعية (وهي ان تكون في الحروف
والافعال وما يشتق منها) من اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وافعل التفضيل
واسم الزمان والمكان والآلة وقد تقدم هناك ان في هذه الثلاثة نظر فراجع ان شئت (الى
الاستعارة المكنى عنها بجعل قرينتها اي قرينة التبعية استعارة مكنيا عنها وجعل
الاستعارة التبعية قرينتها اي قرينة الاستعارة المكنى عنها) والحاصل انه جعل النطق
والحال (على نحو قوله اي قول السكاكي في المنية واظفارها حيث جعل المنية إستعارة
بالكناية) عن السبع (واضافة الاظفار اليها) اي إلى المنية (قرينتها) اي قرينة
الاستعارة بالكناية (ففي قولنا نطقت الحال بكذا جعل القوم نطقت استعارة عن
دلت) فكانت تبعية لان التشبيه في الاصل بين المصدرين اعني الدلالة والنطق (و) جعل
القوم (الحال حقيقة) اي مستعملة في معناها الموضوع له (لا استعارة) ومجازا (لكنها)
اي الحال (قرينة لاستعارة النطق للدلالة) لانها اي الدلالة المرادة بالنطق تقبل ان
تكون الحال بمعناها الحقيقي فاعلا لها هذا عند القوم.
واما عند
السكاكي (فهو يجعل الحال) مجازا و (إستعارة بالكناية عن المتكلم) الذي له لسان
ينطق به (ويجعل نسبة النطق اليه) اي إلى الحال (قرينة الاستعارة) بالكناية الحاصلة
في لفظ الحال وذلك بان يتوهم للحال صورة شبيهة بصورة النطق باللسان (وهكذا في
قولنا لهذميات) فان القوم يجعلون نقريهم استعارة) بالكناية عن نطعنهم ويجعلون
اللهذميات قرينتها (تبعية) لان التشبيه في الأصل بين المصدرين اعني الطعن بالأسنة
والقرى وقد تقدم الكلام فيه على مذهبهم عند قول الخطيب في الاستعارة التبعية ومدار
قرينتها على الفاعل الخ واما على مذهبه فهو (يجعل اللهذميات استعارة بالكناية عن
المطعومات الشهية على سبيل التهكم) اي السخرية والاستهزاء (و) يجعل (نسبة لفظ
القرى اليها) اي إلى اللهذميات (قرينة الاستعارة) بالكناية واما نفس القرى فهو اما
استعارة تخييلية وذلك بأن يجعل للهذميات في الحرب صورة متوهمة شبيهة باطعام الضيف
عند نزوله ويمكن ان يقال ان المراد بالقرى الضرب والطعن بالاسنة كما عند القوم
بناء على ان القرينة عنده قد تكون مجازا حقيقيا.
(وعلى هذا القياس)
الخلاف بين القوم والسكاكي في سائر الامثلة) التي جعل القوم الاستعارة فيها تبعية
فانه يرد الاستعارة التبعية فيها الى
الاستعارة بالكناية (ففي قوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً)) قد تقدم الكلام فيه على مذهب القوم واما على مذهبه فهو
(يجعل العداوة والحزن استعارة بالكناية عن العلة الغائية للالتقاط ويجعل نسبة لام
التعليل اليه) اي الى الالتقاط اي تعلقها به قرينة لتلك الاستعارة (وكذا في قوله
تعالى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) يجعل الجذوع استعارة بالكناية عن الظروف والامكنة) التي
يستقر الانسان فيها وتحيط تلك الامكنة به (و) يجعل (استعمال) كلمة (في) التي هي
للظرفية (قرينة على ذلك) الجعل اي جعل الجذوع استعارة بالكناية عن الظروف
والامكنة.
(وبالجملة) اي
خلاصة الكلام في هذا المقام ان (ما جعله القوم قرينة الاستعارة التبعية) كالحال (يجعله
هو استعارة بالكناية وما جعلوه استعارة تبعية) كنطقت (يجعله قرينة الاستعارة
بالكناية) فعلى مذهبه لا يوجد استعارة تبعية اصلا اذ لا يقال حينئذ الاستعارة اما
اصلية او تبعية بل اصلية فقط (وانما اختار ذلك ليكون اقرب الى الضبط لما فيه) اي
فيما اختاره (تقليل الاقسام) اي اقسام الاستعارة هذا ولكن في دعوى كون ذلك مختاره
نظر لانه لم يصرح باختيار ذلك بل قال لو جعل التبعية من المكنية لكان اقرب الى
الضابط وليس ذلك صريحا في اختيار هذا إذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك.
(ورد ما اختاره
السكاكي) من رد التبعية الى المكنى عنها وجعلها داخلة فيها (بانه اي السكاكي ان
قدر) بفتح القاف اي جعل (التبعية كنطقت في قولنا نطقت الحال بكذا حقيقة بان يراد
بها معناها الحقيقي) الذي هو التكلم باللسان ويراد بالحال انه استعارة بالكناية
وعبارة عن المتكلم الادعائي فحينئذ (لم تكن) التبعية (استعارة تخييلية لانها اي
التخييلية مجاز عنده اي عند السكاكي) اي لا عند المصنف والسلف (لانه جعلها
من اقسام الاستعارة المصرح بها التي هي من اقسام المجاز اللغوي) المستعمل في غير
معناه الحقيقي فاذا كان نطقت حقيقة لم تكن مجازا فضلا عن كونها استعارة فضلا عن
كونها تخييلية (المفسرة) تلك الاستعارة التخييلية (بذكر المشبه به وارادة المشبه
لا) ان الفرق بينها اي بين التخييلية وغيرها (ان المشبه فيها) في التخييلية (يجب
ان يكون مما لا تحقق له حسا ولا عقلا بل يكون صورة وهمية محضة واذا لم تكن التبعية
تخييلية) يحصل الافتراق بين الاستعارة التخييلية والاستعارة المكنى عنها واذا حصل
الافتراق بينهما (فلم تكن الأستعارة المكنى عنها مستلزمة للتخييلية لوجود المكنى
عنها في مثل نطقت الحال واشباهه بدون التخييلية حينئذ) وقد تقدم عند تفسير المكنى
عنها على مذهبه ان المكنى عنها لا تنفك عن التخييلية بمعنى ان النسبة بيتهما عموم
وخصوص مطلقا اي كلما وجدت المكنى عنها وجدت التخييلية ولا عكس فالمكنى عنها ملزوم
والتخييلية لازم لها (ووجود الملزوم بدؤن اللازم محال وذلك اي عدم استلزام المكنى
عنها للتخييلية باطل بالاتفاق) وانما الخلاف في العكس وهو ان التخييلية هل تستلزم
المكنى عنها او لا فالمصنف على الاول والسكاكي على الثاني وقد تقدم الكلام في ذلك
عند تفسير التخييلية على مذهبه فراجع ان شئت.
(والا اي وان
لم يقدر التبعية التي جعلها قرينة المكنى عنها حقيقة بل قدرها مجازا فيكون التبعية
كنطقت استعارة لا مجازا مرسلا) بان يقال ان نطقت مجاز عن دلت والعلاقة بينهما
الملازمة لا المشابهة (ضرورة ان العلاقة بين المعنيين) اي النطق والدلالة (هي
المشابهة) لا الملازمة (ولا نعني بالاستعارة سوى هذا) المجاز الذي يكون العلاقة
فيه المشابهة فيكون ما
ذهب اليه من قبيل الكر على ما فر منه لان الاستعارة في الفعل لا تكون تبعية
اي بتبع المصدر حسبما تقدم بيانه (فلم يكن ما ذهب اليه من رد التبعية الى المكنى
عنها مغنيا عما ذكره غيره اي غير السكاكي من تقسيم الاستعارة الى التبعية وغيرها)
يعني الاصلية (لانه اضطر آخر الامر الى القول بالاستعارة التبعية حيث لم يتأت له
ان يجعل نطقت في قولنا نطقت الحال بكذا حقيقة بل لزمه ان يقدره) اي يجعله استعارة
والاستعارة في الفعل لا تكون لا تبعية) فما قلت الاقسام فصار ما ذهب اليه لغوا غير
معتد به عند الاعلام والمسؤول من الله ان يعصمنا من كل لغو لا سيما من اللغو في
الكلام.
(وما يقال) في
الجواب عن هذا الاعتراض من (ان مجرد كون العلاقة هي المشابهة لا يكفي في ثبوت
الاستعارة) حتى يكون ما ذهب اليه السكاكي من قبيل الكر على ما فر منه (بل انما
تكون) المشابهة كافية) في ثبوت الاستعارة (اذا كانت) المشابهة (جلية مع قصد
المبالغة في التشبيه وتحقق هذين الامرين) اي كون المشابهة جلية وقصد المبالغة في
التشبيه (ممنوع) فلا استعارة فليس كر على ما فر منه (فمما لا ينبغي ان يلتفت اليه)
لان هذا منع لما هو بين ومسلم عندهم من ان ليس الاستعارة الا مجازا علاقته
المشابهة اذ لا يعرف ههنا كما قلنا انفا علاقة غير المشابهة فلو لم يكن استعارة لم
يصح الكلام اصلا مع ان السكاكي صرح في كتابه بان نطقت امر مقدر وهمي كأظفار المنية
فاطلاق النطق على هذا الامر الوهمي ليس بطريق الحقيقة وهو ظاهر ولا بطريق المجاز
المرسل اذ لا يعرف القصد الى علاقة بينهما غير المشابهة كالاظفار.
(وذكر بعض من
له حذاقة) اي مهارة ومعرفة للغوامض والدقائق (في
غير هذا الفن جوابا) آخر (عن اعتراض المصنف) وهو (انا لا نسلم ان) كلمة (نطقت
اذا كانت حقيقة لم توجد الاستعارة التخييلية لانها) اي التخييلية (ليست في نطقت بل
في الحال بان يجعل لها لسان) فلا يرد اعتراض الخطيب على السكاكي لان اعتراضه عليه
مبني على ان التخييلية عنده في نطقت (وايضا) جواب آخر ذكره بعض من له حذاقة في غير
هذا الفن) وهو صدر الشريعة كما صرح بذلك بعض المحشين (معنى قوله في المفتاح لا
ينفك المكنى عنها عن التخييلية ان التخييلية مستلزمة للمكنى عنها) فمتى وجدت
التخييلية وجدت المكنى عنها (لا) ان معنى قوله في المفتاح محمول (على العكس) اي
ليس معنى قوله في المفتاح انه متى وجدت المكنية وجدت التخييلية (كما فهمه المصنف)
الضمير راجع الى العكس (فاذا قلنا نطق لسان الحال واردنا باللسان الصورة المتخيلة
للحال) فاطلق اللسان على الصورة (التي هي بمنزلة اللسان للانسان فلا بد من استعارة
المتكلم للحال) ولا بد ايضا من استعارة اللسان لتلك الصورة المتخيلة (فههنا
استعارة مكنى عنها) وهي استعارة المتكلم للحال (و) ههنا ايضا استعارة (تخييلية)
وهي استعارة اللسان لتلك الصورة المتخيلة فثبت انه متى وجدت التخييلية وجدت
المكنية (واما إذا قلنا نطقت الحال) بحذف لفظ اللسان فالمكنى عنها) وهي استعارة
المتكلم للحال (موجودة دون) الاستعارة (التخييلية) لانا لم نذكر اللسان حتى
نستعيره لتلك الصورة المتوهمة وبعبارة اخرى ليست في قولنا نطقت الحال بحذف لفظ
اللسان استعارة تخييلية (لانها) اي الاستعارة التخييلية (من قسم) الاستعارة (المصرح
بها) وقد تقدم ذلك حيث قال وقسمها اي قسم السكاكي الاستعارة الى المصرح بها
والمكنى عنها وعني بالمصرح بها ان يكون الطرف
المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه به وجعل منها اي من الاستعارة المصرح
بها تحقيقية وتخييلية (ولا تصريح بالمشبه به في نطقت الحال) لان المشبه به فيه هو
اللسان وهو محذوف والحاصل اي حاصل هذا الجواب انه لا ملازمة بين المكنية
والتخييلية فلا مانع من وجود المكنية بدون التخييلية فلا يرد اعتراض الخطيب بان
عدم استلزام المكنى عنها للتخييلية باطل بالاتفاق (هذا كلامه) اي كلام بعض من له
حذاقة في غير هذا الفن (ولا مساس له بكلام السكاكي) والحاصل ان كلا الجوابين اجنبي
عما اراده السكاكي في هذا المقام من جهات اما اولا فلأن قوله اي قول هذا البعض ان
الاستعارة التخييلية ليست في نطقت بل في الحال مما لا معنى له اصلا لان الحال عند
السكاكي استعارة بالكناية عن المتكلم والاستعارة التخييلية عنده يجب ان يكون بذكر
المشبه به وارادة المشبه الذي لا تحقق له حسا ولا عقلا وانتفائها في مثل نطقت
الحال اذا جعل نطقت حقيقة مما لا ينبغي ان يخفى على احد.
واما ثانيا
فلأن السكاكي بعد ما اعتبر ذكر شيء من لوازم المشبه به في تعريف الاستعارة
بالكناية والتزم في امثلة تلك اللوازم ان يكون ذلك على سبيل الاستعارة التخييلية
قال وقد ظهر ان الاستعارة بالكناية لا تنفك عن الاستعارة التخييلية على ما عليه
سياق كلام الاصحاب وهذا صريح في ان الاستعارة بالكناية مستلزمة للتخييلية بمعنى
انها لا توجد بدونها والا فقد صرح بان التخييلية توجد بدونها كما في اظفار المنية
الشبيهة بالسبع وغير ذلك من الامثلة التي ذكرها.
واما ثالثا
فلأنه قد صرح السكاكي بان نطقت الحال امر وهمي كأظفار المنية وهذا صريح في ان
الاستعارة التخييلية فيه لا في الحال وبالجملة جميع
ما ذكره هذا القائل في هذين الجوابين مخالف لصريح كلام المفتاح (والعجب ممن
يقوم بالذب) اي بالدفع (عن كلام احد) اي عن كلام السكاكي (من غير ان ينظر فيه ادنى
نظرة) ليعرف مقصوده ثم يقوم بالذب حتى لا يكون ذبه من قبيل التفسير بما لا يرضي
صاحبه.
(فان قلت اراد)
الخطيب (بالاتفاق على استلزام المكنى عنها للتخييلية اتفاق غير السكاكي فهو) غير
وارد عليه لانه اي اتفاق غيره (لا يقوم دليلا على ابطال كلامه لانه بصدد الخلاف
معهم) اي مع علماء لبيان فاتفاقهم غير مفيد من حيث كونه دليلا على ابطال ما اختاره
من عدم استلزام المكنى عنها للتخييلية.
بل يمكن ان
يقال ان اتفاق غيره ايضا غير ثابت لان كلام صاحب الكشاف مشعر بل مصرح بخلاف ذلك
واليه اشار بقوله (على انه قد ذكر صاحب الكشاف في قوله تعالى (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) ان في العهد استعارة بالكناية وتشبيها بالحبل) وبعبارة اخرى ان العهد مشبه
بالحبل على طريق لاستعارة بالكناية وهي على ما مر ان يكون الطرف المذكور هو المشبه
(والنقض استعارة) تخييلية (لابطال العهد) وبعبارة اخرى ينقضون مستعار ليبطلون على
طريق الاستعارة (وهذا) اي الابطال (امر محقق عقلا) فيكون الاستعارة اي استعارة
النقض لابطال العهد إستعارة تحقيقية وهي على ما مر ان يكون المشبه المتروك متحققا
حسا او عقلا (لا وهمي) حتى يكون الاستعارة تخييلية لانها على ما مر ما لا تحقق
لمعناه حسا ولا عقلا بل هو صورة وهمية محضة (فيكون) على ما ذكره صاحب الكشاف (قرينة
الاستعارة بالكناية استعارة تحقيقية لا تخييلية) فليس المكنى عنها مستلزمة
للتخييلية فلا اتفاق عند غير السكاكي ايضا على استلزام المكنى
عنها للتخييلية فلا يصح قول الخطيب ان ذلك اي عدم استلزام المكنى عنها
للتخييلية باطل بالاتفاق.
(وان اراد
اتفاق السكاكي وغيره) على التلازم اي على كون المكنى عنها مستلزمة للتخييلية (فظاهر
البطلان لانه) اي السكاكي (قد صرح بان عدم انفكاك المكنى عنها عن التخييلية انما
هو مذهت السلف وعنده لا لزوم بينهما اصلا بل توجد التخييلية بدونها) اي بدون
المكنى عنها (كما ذكر في) المثال الذي تقدم بيانه عند تفسير التخييلية على مذهبه
وهو (اظفار المنية الشبيه بالسبع وهي) اي المكنى عنها (توجد بدون التخييلية كما
صرح به في المجاز العقلي حيث قال ان قرينة المكنى عنها اما امر مقدر وهمي) فيكون
استعارة تخييلية (كالاظفار في اظفار المنية ونطقت في نطقت الحال) فان الاظفار
للنية) التي هي استعارة بالكناية عن السبع (والنطق للحال) الذي هي استعارة
بالكناية عن المتكلم (امران اي صورتان وهميتان لا تحقق لهما حسا ولا عقلا (او امر
محقق) حسا او عقلا فيكون استعارة تحقيقية لا تخييلية اذ لا تخييل في الامر المحقق
فقد اثبت المكنى عنها بدون التخييلية (كالانبات في قولك انبت الربيع البقل) فانه
قد شبه الربيع في النفس بالقادر المختار وجعل الانبات الذي هو امر محقق قرينة على
ذلك المضمر في النفس (و) كذلك (الهزم في) قولك (هزم الامير الجند) فانه شبه الامير
في النفس بالجيش الذي هو من اسباب هزيمة جند العدو وجعل الهزم الذي هو مر محقق
قرينة على ذلك التشبيه المضمر في النفس.
(قلت هذا) الذي
ذكر من فساد حكاية الاتفاق بكلا وجهيه (يصلح ابطالا لكلام المصنف) اذ لا اتفاق على
عدم الانفكاك لا عند السكاكي ولا عند غيره ولو كان اتفاق عند غيره لا يقوم دليلا
على ابطال كلامه ولكن
(لا) يصلح (توجيها لكلام السكاكي) حيث اختار رد الاستعارة التبعية الى
المكنى عنها تقليلا للاقسام وانما لا يصلح لذلك (لانه قد صرح بان نطقت) المسند الى
الحال (من قبيل الوهمي كالاظفار) المضاف الى المنية (فيجب ان يقدر) للحال (امر
وهمي شبيه بالنطق) الحاصل في المتكلم الحقيقي كما ذكره في الاظفار) من انه يقدر
للمنية امر وهمي شبيه بالاظفار الحاصلة للسبع الحقيقي (وهذا) كر على ما فر لأنه (قول
بالاستعارة التبعية) لان نطقت فعل وقد مر آنفا ان الاستعارة في الفعل انما هي يتبع
الاستعارة في مصدر ذلك الفعل.
(نعم يستفاد من
كلامه) اي من كلام السكاكي (انه يمكن رد التركيب المشتمل على) الاستعارة التبعية
الى التركيب المشتمل على المكنى عنها) فيقل الاقسام ايضا لكن لا على تفسيره للمكنى
عنها والتخييلية) لانه يلزم على تفسيره ما ذكرنا من الكر على ما فر منه (بل اذا
اعتبر في المكنى عنها والتخييلية تفسير المصنف) وقد تقدم تفسيره في الفصل السابق
وقد صرح بذلك في الايضاح حيث قال ما هذا نصه لكن يستفاد مما ذكره رد التركيب في
التبعية الى تركيب الاستعارة بالكناية على ما فسرناها وتصير التبعية حقيقة واستعارة
تخييلية لما سبق لان التخييلية على ما فسرناها حقيقة لا مجاز (مثلا في نطقت الحال
بكذا يجعل تشبيه الحال بالمتكلم استعارة بالكناية واثبات النطق لها) اي للحال (استعارة
تخييلية ويكون نطقت حقيقة مستعملة في المعنى الاصلي) اي الحقيقي لا المجاز التابع
لمصدره (كما هو) اي اثبات شيء بمعناه الحقيقي للمشبه (مذهبه في الاظفار) وقد تقدم
بيان ذلك هناك (فلا يلزم) على هذا (القول بالاستعارة التبعية) لانه على هذا لا
يكون نطقت مجازا فضلا عن ان يكون استعارة فضلا عن
ان يكون تبعية (وكذا يمكن ذلك) اي رد التركيب المشتمل على الاستعارة
التبعية الى التركيب المشتمل على المكنى عنها ليقل الاقسام (على مذهب السلف ايضا
لما مر) هناك (من ان) الاستعارة التخييلية عندهم حقيقة كيد الشمال) في قول لبيد (واظفار
المنية) في قول ابي ذؤيب الهذلي.
الى هنا كان
الكلام في المواضع التي كان كلام السكاكي فيها مخالفا لما ذكره المصنف ثم ختم
الخطيب باب المجاز بفصل حسن الاستعارة وفصل المجاز في الاعراب وآخر الثاني منهما
لخفة امره ولكون الاول كالحكم على ما تقدم اذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك.
«((فصل))»
(في شرائط حسن
الاستعارة) اطلق الجمع على ما فوق الواحد كما في اصطلاح اهل الميزان اذ المشترط في
حسنها شرطان اشار الى إحدهما بقوله (حسن كل من الاستعارة التحقيقية) قد تقدم انها
هي التي تحقق معناها حسا او عقلا وهي ضد التخييلية (والتمثيل على سبيل الاستعارة)
اي الاستعارة التمثيلية ووقد تقدم ايضا انها اللفظ المنقول من معنى مركب الى ما
شبه بمعناه وحينئذ ان خصصت الاستعارة التحقيقية بالمفردات كان عطف التمثيلية على
التحقيقية من عطف المباين على المباين والا كان من عطف الخاص على العام (برعاية
جهات حسن التشبيه كأن يكون وجه الشبه شاملا للطرفين) بان يكون متحققا فيهما وذلك
كالشجاعة في زيد والاسد فاذا وجد وجه الشبه في احدهما دون الآخر فات الحسن
كاستعارة اسم الاسد للجبان من غير قصد التهكم هذا ولكن عد هذا الوجه من شروط
الحسن غير وجيه لانه من شروط الصحة لا من شروط الحسن اذ لا تشبيه مع انتفاء
الجامع (و) ان يكون (التشبيه وافيا بافادة ما علق به من الغرض) الذي قصد افادته
كبيان امكان المشبه او تزيينه او تشويهه فاذا كان الغرض تزيين وجه أسود فيشبه
بمقلة الظبى ثم يستعار له لفظ المقلة فهذا واف بالغرض فكانت الاستعارة حسنا ولو
شبه لافادة هذا الغرض بالغراب واستعير له لفظ الغراب فات الحسن وقس على ذلك غيره
مما ذكر فيما سبق (ونحو ذلك مما سبق في باب التشبيه) مثل كون وجه الشبه غير مبتذل
بان يكون غريبا لطيفا لكثرة ما فيه من التفصيل او نادر الحضور في الذهن كتشبيه
الشمس بالمراة في كف الاشل وتشبيه البنفسج بأوائل النار في اطراف كبريت ثم يستعار
كل واحد من المرآة واوائل النار لما شبه به فان ذلك مما يحصل فيه الحسن لكونه
غريبا بخلاف تشبيه الوجه الجميل بالشمس ثم استعارتها وتشبيه الشجاع بالاسد ثم
استعارته له فان ذلك مما يفوت فيه الحسن لفوات حسن التشبيه فيه لعدم الغرابة لوجود
الابتذال فيه.
(وذلك) أي كون
حسن كل من الاستعارة التحقيقية والتمثيل على سبيل الاستعارة برعاية جهات التشبيه
حسبما ذكر (لان مبناهما على التشبيه فيتبعانه في الحسن والقبح حسبما فصلنا (و)
الامر الثاني (ان لا يشم رائحته لفظا) وانما قال لفظا لان رائحة التشبيه موجودة
بالقرينة في معنى الاستعارة اذ الاستعارة لفظ اطلق على المشبه بمعونة القرينة بعد
نقله عن المشبه به بواسطة المبالغة في التشبيه فلا يمكن نفي اشمام الرائحة معنى
والحاصل ان المعنى على التشبيه قطعا فلا بد من الاشمام المذكور واما لفظا فيجب ان
لا يذكر لفظ يدل على التشبيه (اي وبان لا يشم كل) واحد (من التحقيقية او التمثيل
رائحة التشبيه من جهة
اللفظ ولهذا قلنا بان نحو رأيت اسدا في الشجاعة) مما ذكر فيه وجه التشبيه (تشبيه
لا استعارة وذلك لان اشمامهما) اي اشمام الاستعارة التحقيقية والتمثيل على سبيل
الاستعارة (رائحة التشبيه يبطل الغرض من الاستعارة اعني ادعاء دخول المشبه في جنس
المشبه به للمبالغة (والحاقه) اي الحاق المشبه (به) اي بالمشبه به بحيث يتساويان
في وجه الشبه وانما يبطل الغرض (لما في التشبيه من الدلالة على) ما ينافي الدخول
والالحاق لان فيه اي في التشبيه دلالة على (كون المشبه به اقوى في وجه الشبه كقوله
:
ظلمناك في
تشبيه صدغيك بالمسك
|
|
فقاعدة
التشبيه نقصان ما يحكي)
|
اي قاعدة
التشبيه واصله الذي يبتني عليه نقصان ما يحكي اي نقصان المشبه الذي يحكي المشبه به
كما في قولنا زيد كالاسد فنص الشاعر على ان التشبيه يدل على ان المشبه به اقوى
واكمل من المشبه في وجه الشبه فلا يتساويان.
(ومن زعم ان من
شرائط حسن كل منهما) اي التحقيقية والتمثيل (ان تكون مطلقة) اي (غير معقبة بصفة او
تفريع كلام ملائم لاحد الطرفين) وبعبارة أخرى لم تقرن بصفة ولا تفريع كلام بما
يلائم المستعار له او المستعار منه قد مر بيان المراد من الصفة والتفريع عند قول
الخطيب وباعتبار آخر ثلاثة اقسام (فقد اخطأ لان) الاستعارة (المرشحة) وهي كما مر
هناك ما قرن بما يلائم المستعار منه (من احسن انواع الاستعارة نعم الاستعارة
المجردة) وهي كما مر ايضا هناك ما قرن بما يلائم المستعار له (ناقصة الحسن بالنسبة
الى المرشحة كما مر) هناك ايضا حيث قال والترشيح ابلغ من الاطلاق والتجريد ومن جمع
التجريد والترشيح لاشتماله على المبالغة في
التشبيه لأن في الاستعارة مبالغة في التشبيه فترشيحا وتزيينها بما يلائم
المستعار منه تحقيق لذلك وتقوية له الى آخر ما ذكر هناك فراجع ان شئت.
(ولذلك اي ولان
شرط حسنه ان لا يشم رائحة التشبيه لفظا يوصي) من طرف علماء البلاغة (ان يكون الشبه
اي ما به المشابهة) اي وجه الشبه (بين الطرفين جليا) اي ظاهرا (بنفسه) لكونه
محسوسا باحدى الحواس كما في تشبيه الثريا بعنقود الملاحية ونحو ذلك مما يكون وجه
الشبه فيه محسوسا (او بسبت عرف) عام كما في تشبيه زيد مثلا بانسان عريض القفا في
البلادة فان العرف العام حاكم بان عرض القفا موجب ودال على البلادة وفيه كلام يأتي
في اوائل باب الكناية (او) بسبب (اصطلاح) اي عرف (خاص) كما في تشبيه النائب عن
الفاعل بالفاعل في حكم الرفع فان الرفع في الفاعل ظاهر في اصطلاح النحاة فيشبه
نائبه به عند ما يحتاج المعلم للتشبيه لافهام المتعلم فتأمل.
وانما يوصي
بذلك اي بكون وجه الشبه جليا باحد الانحاء المذكورة (لئلا يصير كل منهما) اي
التحقيقية والتمثيلية (الغازا اي تعمية في المراد) من الكلام الذي يشمل على احدهما
لانه إذا لم يكن وجه الشبه جليا بل كان خفيا وانضم ذلك الى عدم الاشمام المذكور
اجتمع خفاء على خفاء فتكون الاستعارة لغزا وهو كالتكليف بعلم الغيب وقد ذكرنا في
بحث التعقيد امثلة للغز والمعمى والاحجية واللغز في الاصل جحر اليربوع وذلك انه
يحفر جحره الى اسفل مستقيما ثم يجعل فيه مختفى يمينا وشمالا فسمي المختفى لغزا ولا
يخفى عليك وجه المناسبة (يقال الغز في كلامه اذا عمي مراده ومنه اللغز) بضم اللام
وفتح الغين وهو المعنى الملغز فيه أو
اللفظ المستعمل فيه (والجمع الغاز مثل رطب وارطاب يعني يصير الغازا إذا
روعي شرائط حسن الاستعارة) بان لا يشم رائحة التشبيه لفظا) لان عدم اشمام رائحة
التشبيه يبعد عن الاصل فاذا بعد عن الاصل لم يفهم المراد (واما اذا لم تراع كما لو
اشم رائحة التشبيه فلا يصير الغازا) لان إشمام رائحة التشبيه مما يقرب الى الاصل (لكن
يفوت الحسن كما لو قيل في) الاستعارة (التحقيقية) التي خفي فيها وجه الشبه (رأيت
أسدا واريد انسان ابخر) اي منتن ريح الفم فوجه الشبه وهو البخر بين الطرفين اي
الاسد والرجل خفي وحينئذ فلا ينتقل من الاسد الى المقصود اي الى الانسان الابخر بل
ينتقل الى غير المقصود وهو الانسان الموصوف بلازم الاسد المشهور وهو الشجاعة
والانتقال الى الانسان بدون الوصف يفيد في التجوز.
(و) كما لو قيل
(في) الاستعارة على سبيل (التمثيل رأيت ابلا مائة لا تجد فيها راحلة واريد الناس)
من حيث عزة وجود الكامل مع الكثرة ولا شك ان وجه الشبه المذكور خفي فلا ينتقل من
الابل الى الناس بهذا المعنى وانما جعل هذا المثال استعارة تمثيلية لان وجه الشبه
فيه منتزع من متعدد لانه اعتبر فيه وجود كثرة من جنس وكون تلك الكثرة بحيث يعز
فيها الكامل من ذلك الجنس وليعلم ان هذا المثال مأخوذ (من قوله (ص) الناس كأبل
مائة لا تجد فيها راحلة) يعني قوله (ص) لم يكن الغازا لانه (ص) صرح بطرفي التشبيه
واداته لان مقصوده (ص) التفسير لا التعمية وكذا كل ما كان وجه الشبه بين طرفين
خفيا يخترعه المتكلم لا بد فيه من التصريح والا لكان ذلك تكليفا بعلم الغيب (وفي
الفائق) هو كتاب للزمخشري الفاظ الرواية (تجدون الناس كالابل المائة ليست فيها
راحلة) قال الزمخشري
(الراحلة البعير الذي يرتحله الرجل) اي يعده للرحل وحمل الاثقال لقوته (جملا
كان او ناقة يريد (ص) ان المرضى المنتخب) اي المهذب من القبائح الزاهد فيما لا
يعني (في عزة وجوده) بين الناس مع كثرتهم (كالنجيبة التي لا توجد في كثير من الابل
والكاف) في رواية الفائق (مفعول ثان لتجدون وليست مع ما في حيزها) اي مع اسمها وهو
راحلة وخبرها وهو فيها (في محل النصب على الحال) من الابل او الناس على وجه دقيق (كأنه
قيل) الناس (كالابل المائة) حالكونها (غير موجود فيها راحلة او هي جملة مستأنفة)
بيانية اي جواب سؤال مقدر كأنه قيل هم كأي مائة من الابل فقيل في الجواب مائة ليست
فيها راحلة ويجوز ان تجعل صفة للابل المائة اذ لا تعريف فيها لان اللام فيها
كاللام في قوله ولقد امر على اللئيم يسبني وقد تقدم في بحث تعريف المسند اليه ان
اللام فيه للجنس وان المعرف بهذا اللام في المعنى كالنكرة يعامل معاملة النكرة
كثيرا فيوصف بالجمل وقد ذكرنا في الكلام المفيد في خاتمة الحديقة الرابعة ما يفيدك
ههنا فراجع ان شئت.
قال القمي في
السفينة في باب الراء المهملة بعده الحاء قال النبي (ص) الناس كأبل مائة لا تجد
فيها راحلة واحدة وقال ابن قتيبة الراحلة هي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على
النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر فاذا كانت في جماعة الابل عرفت يقول (ص) الناس
متساوون ليس لاحد منهم فضل في النسب ولكنهم اشباه كأبل مائة ليس فيها راحلة وفائدة
الحديث ذم الناس وان الكامل فيهم قلما يوجد وراوي الحديث عبد الله بن عمر انتهى.
فان قيل بين
المفاد من الشرط الثاني والمفاد من الشرط الاول تناف
سافر لان من جملة رعاية جهات حسن التشبيه ان يكون وجه الشبه بعيدا غير
مبتذل فاشتراط جلائه في الاستعارة ينافي ذلك.
قلنا الجلاء
والخفاء مما يقبل الشدة والضعف فيجب ان يكون من الجلاء بحيث لا يصير مبتذلا ومن
الخفاء والغرابة بحيث لا يصير الغازا فكما ان الخفاء المفرط ممنوع فكذا الجلاء
المفرط ممنوع لان الاول يؤدي إلى الالغاز والثاني الى الابتذال فلا تنافي في الجمع
بين المتوسطين منهما بل هما يتحققان معا من غير تناف بينهما فتدبر جيدا.
(وبهذا) اي
بكون التشبيه قد يكون بالجلى وقد يكون بالخفى والاستعارة لا تكون الا بالجلى حسبما
بيناه الآن (ظهر ان التشبيه اعم محلا اي كل ما يتأتى فيه الأستعارة التحقيقية
والتمثيل يتأتى فيه التشبيه وليس كل ما يتأتى فيه التشبيه يتأتى فيه الاستعارة
التحقيقية والتمثيل لجوزا ان يكون وجه الشبه خفيا فيصير تعمية والغازا) فيصير بذلك
(تكليفا) بعلم الغيب والتكليف بعلم الغيب تكليف (بما لا يطاق كالمثالين المذكورين)
في كلام الخطيب وذلك لا يحسن من اللبيب.
(ويتصل به اي
بما ذكر من انه اذ اخفى الشبه) اي ما به المشابهة (بين الطرفين لا يحسن الاستعارة
ويتعين التشبيه انه اذا قوي الشبه بين الطرفين) بحيث يفهم من احدهما ما يفهم من
الآخر وليس المراد اتحادهما حقيقة.
فقوله (حتى
اتحدا) محمول على المبالغة (كالعلم والنور والشبهة والظلمة) فقد كثر تشبيه العلم
بالنور في الاهتداء وتشبيه الشبهة بالظلمة في التحير حتى صار كل واحد من المشبهين
بحيث يتبادر منه المعنى الموجود في المشبه بهما فصارا كالمتحدين في ذلك المعنى
فحينئذ (لم يحسن التشبيه وتعينت الاستعارة) او التشابه بناء على ما تقدم في بحث
التشبيه عند قول
الخطيب فان اريد الجمع بين الشيئين في امر فالاحسن ترك التشبيه الى الحكم
بالتشابه بالحكم بتعين الاستعارة حكم بلا محل فتأمل وكيفما كان لا يحسن تشبيه
احدهما بالآخر (لئلا يصير) الكلام (كتشبيه الشيء بنفسه فاذا فهمت مسألة تقول) على
سبيل الاستعارة اي ذكر المشبه به وارادة المشبه (حصل في قلبي نور) فتستعير للعلم
الحاصل في قلبك لفظ النور (ولا تقول) على سبيل التشبيه (كان في قلبي نور) اي علم
كالنور (وكذا إذا وقعت في شبهة تقول) على سبيل الاستعارة (وقعت في ظلمة) فتستعير
للشبهة لفظ الظلمة ولا تقول) على سبيل التشبيه (كأني في ظلمة) اي في شبهة كالظلمة.
ولحاصل ان
التشبيه في الكلامين لا يحس لانه كتشبيه الشيء بنفسه ولا يذهب عليك انه قد تقدم
هناك انه يجوز التشبيه ايضا غاية الامر انه يفوت الحسن فالكلام ههنا لا يخلو من
نوع مسامحة او اختلال والله العالم بحقيقة الحال.
الى هنا كان
الكلام في شرائط حسن الاستعارة التحقيقية والاستعارة على سبيل التمثيل (والاستعارة
المكنى عنها كالتحقيقية في ان حسنها برعاية جهات حسن التشبيه) فقط (لانها) على
مذهب المصنف (تشبيه مضمر) في النفس واما على مذهب القوم فقد تقدم بيانه في فصل
تحقيق معنى لاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية فراجع ان شئت.
وليعلم ان
الظاهر من كلام الخطيب ان حسن الاستعارة المكنى عنها منحصر في رعاية جهات التشبيه
ولا يتوقف على ان لا يشم رائحة التشبيه كما اشرنا اليه بقولنا فقط بل يمكن ان يقال
انه لا يتأتى فيها اي في الاستعارة المكنى عنها عدم الاشمام لان من لوازمها ذكر ما
هو من خواص المشبه به
وذلك يدل على التشبيه فكيف يمكن معه عدم الاشمام.
(والاستعارة
التخييلية حسنها بحسب حسن المكنى عنها) يعني حسنها متوقف على حسن المكنى عنها (لانها
لا تكون الا تابعة للمكنى عنها عند المصنف ليس لها) اي للتخييلية (في نفسها تشبيه)
حتى يراعى فيها جهات التشبيه او لا يشم رائحته (لانها) عند المصنف (حقيقة) مستعملة
في ما وضعت له وانما جيء بها لتكون قرينة على التشبيه المضمر في النفس الذي يسمى
عند المصنف بالاستعارة بالكناية فان حسنت الاستعارة بالكناية حسنت التخييلية من
حيث كونها قرينة لها والا فلا حسن لها في نفسها هذا كله عند المصنف (واما) عند (صاحب
المفتاح فلما لم يقل بوجوب كونها تابعة للمكنى عنها قال ان حسنها بحسب حسن المكنى
عنها متى كانت تابعة لها وقلما تحسن) التخييلية (الحسن البليغ غير تابعة لها)
وانما حكم بقلة ذلك لانها قد تحسن الحسن البليغ وان لم تكن تابعة للمكنى عنها وذلك
اذا ناسبت المقام وكانت مطابقة لمقتضى الحال كالامثلة التي اخترعها السكاكي اعني
اظفار المنية الشبيهة بالسبع ونظائرها فانه قد مر عند تفسير السكاكي الاستعارة
التخييلية انه مثل بهذه الامثلة للتخييلية غير التابعة للمكنية.
(ولهذا) الذي
ذكر من انه قلما تحسن الاستعارة التخييلية الحسن البليغ اذا لم تكن تابعة للمكنى
عنها (استهجن) اي عد قبيحا لاحستا (ماء الملام) في قول ابي تمام المذكور هناك فانه
زعم انه استعارة تخييلية غير تابعة لمكنى عنها وذلك انه اي ابا تمام توهم للملام
شيئا شبيها بالماء فأستعار له لفظ الماء فقال السكاكي انه مستهجن وقد تقدم ايضا
هناك انه زعم المصنف انه لا دليل له فيه فراجع ان شئت.
(ولقائل ان
يقول لما كانت التخييلية عنده) اي عند السكاكي (استعارة مصرحة مبنية على التشبيه)
قد تقدم ذلك عند قول الخطيب وقسمها الى المصرح بها والمكنى عنها وعني بالمصرح بها
ان يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه وجعل منها اي من الاستعارة المصرح بها
التحقيقية والتخييلية (فلم لم يكن حسنها برعاية جهات التشبيه) في نفسها (ايضا كما
ذكره) السكاكي او المصنف (في التحقيقية والمكنى عنها) وبعبارة اخرى إذا كانت
التخييلية عنده استعارة مصرحة مقصودة في نفسها مبنية على تشبيه الصورة الوهمية
بالمحققة فينبغي ان يكون حسنها كالتحقيقية والتمثيل برعاية حسن جهات التشبيه
وكونها في بعض الصور تابعة للمكنى عنها لا يقتضي ان يكون حسنها تابعا لحسنها نعم
يقتضي ان يكون حسن المكنى عنها موجبا لازديا حسنها الذي هو في نفسها فتأمل جيدا.
«((فصل))»
(اعلم ان
الكلمة كما توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الاصلي كذلك توصف به ايضا لنقلها عن
اعرابها الاصلي الى غيره وظاهر عبارة المفتاح) وهذا نصها هو عند السلف رحمهمالله ان تكون الكلمة منقولة عن حكم لها اصلي إلى غيره كما في
قوله علت كلمته (وَجاءَ رَبُّكَ) فالاصل وجاء امر ربك فالحكم الاصلي في الكلام لقوله (رَبُّكَ) هو الجر واما الرفع فمجاز وفي قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) والاصل واسئل اهل القرية فالحكم الاصلي للقرية في
الكلام هو الجر والنصب مجاز وفي قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) فالاصل ليس مثله شيء بنصب مثله والجر مجاز انتهى فحكمه
في هذه الامثلة الثلاثة على
الرفع والنصب والجر بالمحازية ظاهر في (ان الموصوف بهذا النوع من المجاز هو
الاعراب وهذا) الذي هو ظاهر عبارته (ظاهر في الحذف) اي فيما كان منشأ المجازية فيه
حذف شيء من الكلام (كالنصب في القرية) في المثال الثاني (والرفع في ربك) في المثال
الاول (لأنه) اي كل واحد من الاعرابين) قد نقل عن محله اعني المضاف) المحذوف وهو
الأهل والأمر وقد تقدم بيان ذلك في الباب الثامن من علم المعاني في بحث ايجاز
الحذف فراجع ان شئت.
(واما في
المجاز بالزيادة) اي فيما كان منشا المجازية فيه زيادة كلمة في الكلام كالمثال
الثالث فان منشأ المجازية فيه هو زيادة الكاف (فلا يتحقق ذلك الانتقال فيه) لانه
ليس هناك لفظ نقل اعرابه الى لفظ آخر فلا يظهر فيه كون الاعراب واقعا في غير محله (وهو)
اي السكاكي (قد صرح) كما رايت (بان الجر في ليس كمثله مجاز) فحينئذ يظهر وجه قول
التفتازاني ان ظاهر عبارته ذلك وهو امكان تأويل الرفع والنصب والجر بالمرفوع
والمنصوب والمجرور لئلا يرد الاشكال في المثال الثالث فتأمل جيدا.
(والمقصود في
فن البيان هو المجاز بالمعنى الاول) الذي توصف به الكلمة لنقلها عن معناها الاصلي (لكنه
قد حاول التنبيه على الثاني) الذي توصف به الكلمة لنقلها عن اعرابها الاصلي الى
غيرها (إقتداء بالسلف واجتذابا) اي جرا وحفظا (بضبع السامع) اي بعضده (عن الزلق)
الزلق والزلل متقاربا المفهوم قال في المصباح زلقت القدم زلقا من باب تعب لم تثبت
حتى سقطت ثم قال زل عن مكانه زلا من باب ضرب تنحى عنه الى ان قال يقال ارض مزلة
تزل فيها الاقدام وزل في منطقه او فعله يزل من باب ضرب اخطاء انتهى.
وحاصل المراد
انه قصد من ذكر المجاز بالمعنى الثاني في هذا الفن
حفظ السامع عن الخطأ (عند اتصاف الكلمة بالمجاز بهذا الاعتبار) اي باعتبار
نقلها عن اعرابها الاصلي اي لئلا يظن السامع ان المجاز منحصر في المعنى الاول
وبعبارة اخرى ليعرف ان للمجاز معنى آخر غير المعنى الاول الذي توصف به الكلمة
باعتبار نقلها عن معناها فاذا وصفت الكلمة بالمجأز باعتبار نقلها عن اعرابها
الاصلي إلى غيره يعرف المراد ولا يخطأ.
(فقال وقد يطلق
المجاز على كلمة تغير حكم اعرابها الظاهر ان اضافة الحكم الى الاعراب للبيان)
فالاضافة بتقدير من البيانية التي يقوم مقامها الذي هو في المذكر والتي هي في
المؤنث فالمعنى تغير حكمها الذي هو الاعراب (وبه) اي بكون اضافة الحكم الى الاعراب
للبيان (يشعر لفظ المفتاح) الذي قد تقدم نقله آنفا (اي تغير اعرابها من نوع) من
الاعراب (الى) نوع (آخر) من الاعراب كتغير الجر الى الرفع مثلا (بحذف لفظ او زيادة
لفظ فالاول كقوله تعالى (وَجاءَ رَبُّكَ)) والاصل كما تقدم امر ربك (و) نحو (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) والاصل كما تقدم اهل القرية (والثاني مثل قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) والاصل ليس مثله شيء بدون الكاف والى ما ذكرنا اشار
بقوله (اي جاء امر ربك لاستحالة مجيء الرب) اذا المجيء عبارة عن الانتقال من حيز
الى آخر بالرجل وهو مخصوص بالجسم الحي الذي له الرجل ومطلق الجوهرية محال على الله
عز إسمه فضلا عن الجسمية التي هي جوهر خاص باعتبار عروض النمو وقبول الابعاد
الثلاثة وغيرهما من الاعراض التي تختص بالاجسام (واسئل أهل القرية للقطع بان
المقصود سؤال اهل القرية وان كان الله قادرا على إنطاق الجدران) التي تركب القرية
منها ومن غيرها من الجمادات كما أنطق الله
الشجر والحصى لاظهار المعجزة وغير ذلك مما هو ثابت في محله لكنه ليس بمراد
قطعا وذلك لان المقصود من هذا الكلام وهو كلام اخوة يوسف حيث قالوا لابيهم يعقوب
ان ابنك وهو ابن يامين سرق وما شهدنا الا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين فمرادهم
من هذا الكلام بقرينة السياق والمعطوف اعني والعير التي اقبلنا فيها اثبات إنهم
صادقون وذلك يحصل عادة بسؤال اهل القرية واما سؤال الجدران ونحوها من الجمادات
التي تركب منها ابنية القرية وان كان ممكنا لكنه ليس بمراد قطعا لانه انما يقع عند
التحدي واظهار المعجزات او الكرامات او في مقام تنزيل غير القابل للسؤال بمنزلة
القابل له لامور خطايية تقتضيها الحال والمقام ومن هذا القبيل مخاطبة الأطلال
والحيوانات العجم للتحسر والتوجع ونحو ذلك مما تقدم في المباحث المتقدمة من اول
الكتاب الى هنا والى بعض ما ذكرنا اشار بقوله (قال الشيخ عبد القاهر ان الحكم
بالحذف) اي بحذف الاهل (ههنا) اي في (سْئَلِ الْقَرْيَةَ) (لامر يرجع الى غرض المتكلم) يعني اخوة يوسف وقد ذكرنا ان غرضهم من الكلام
اثبات انهم صادقون في قولهم ان ابنك سرق فالمراد سؤال اهل القرية كالعير التي
كانوا معهم للاستشهاد بهم فيجيبوا بما يظهر صدقهم او كذبهم لان الشاهد لا يكون
جمادا (حتى لو وقع) هذا الكلام اي واسئل القرية (في غير هذا المقام) اي في غير
مقام إثبات الصدق (لم يقطع بالحذف) اي بحذف الاهل (لجواز ان يكون) هذا الكلام (كلام
رجل مر بقرية قد خربت وباد) اي هلك (اهلها فاراد) ذلك الرجل (ان يقول لصاحبه واعظا
ومذكرا او) يقول ذلك الرجل (لنفسه متعظا ومعتبرا اسئل القرية عن اهلها وقل لها ما
صنعوا كما يقال سل الارض من شق انهارك وغرس اشجارك وجنى اثمارك) ولكن القرينة
المقامية
التي ذكرناها يمنع حمل الآية على امثال هذا المعنى فيجب حملها على ما يصح
وهو تقدير المضاف (فالحكم الاصلي لربك والقرية هو الجر وقد تغير في الاولى الى
الرفع وفي الثانية الى النصب بسبب حذف المضاف) وهو لفظ الامر في الاولى والاهل في
الثانية.
ويحتمل ان يكون
القرية مجازا عن اهلها من باب اطلاق اسم المحل على الحال فيخرج المثال عما نحن فيه
من كون التجوز بتغير حكم الاعراب بتقدير المضاف ويدخل في المجاز بمعنى الكلمة
المستعملة في غير ما وضعت له مع قرينة وقد تقدم بيان ذلك في اول بحث المجاز في
المفرد في قوله تعالى (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) اي اهل نادية الحال فيه.
(وليس مثله شيء
فالحكم الاصلي لمثله هو النصب لانه خبر ليس وقد تغير الى الجسر بسبب زيادة الكاف)
لان الكاف اما حرف جر او إسم بمعنى مثل مضاف لما بعده وايا ما كان فهو يقتضي الجر (وذلك)
اي وجه كون الكاف زائدة (لان المقصود نفي ان يكون شيء) من الاشياء (مثله تعالى لا
نفي ان يكون شيء) من الاشياء (مثل مثله) هذا كله نظرا الى ما هو الظاهر من (الكلام)
(و) لكن (الاحسن) نظرا الى ما يقتضيه ما هو المقصود من بيان عظمة الله جل جلاله (ان
لا تجعل الكاف زائدة ويكون من باب الكناية) التي هي ابلغ من التصريح وقد تقدم بعض
الكلام فيها في بحث تقديم المسند اليه عند قول الخطيت ومما يرى تقديمه كاللازم لفظ
مثل وغير اذا استعملا على سبيل الكناية فراجع.
(وفيه) اي في
كونه من باب الكناية (وجهان احدهما) انه نفى للشيء بنفي لازمه لان نفي اللازم
يستلزم نفي الملزوم كما يقال ليس لاخي زيد اخ فاخو زيد) يعني المجرور باللام (ملزوم
والاخ) يعني المرفوع الذي هو
اسم ليس (لازمه لاخي زيد من اخ هو زيد) وذلك لان الاخوة من الامور النسبية
المتكررة التي لا تحقق لها الا بعد تحقق شيئين هما طرفا النسبة) وقد تقدم بعض
الكلام في ذلك في تفسير الملكة (فنفيت هذا اللازم) المذكور اعني الاخ المرفوع (والمراد
نفي ملزومة) وهي كون اخ لزيد (اي ليس لزيد اخ اذ لو كان له اخ لكان لذلك الاخ اخ
هو زيد).
والحاصل انه
يلزم من نفي اللازم نفي الملزوم والا كان الملزوم موجودا بلا لازم وهو باطل (فكذا
نفيت ان يكؤن لمثل الله مثل والمراد نفى مثله تعالى اذ لو كان له مثل لكان هو) اي
الله تعالى (مثل مثله إذ التقدير انه تعالى موجود) وبعبارة اخرى ان الشيء اذا كان
موجودا متحققا فمتى وجد له مثل لزم ان يكون ذلك الشيء الموجود المتحقق مثلا لذلك
المثل لان المثلية امر نسبي قائم بالطرفين فاذا نفى هذا اللازم وقيل لا مثل لمثل
ذلك الشيء الموجود المتحقق لزم نفي الملزوم وهو مثل ذلك الشيء الموجود المتحقق
لانه كما قلنا يلزم من نفي اللازم نفي الملزوم والا كان الملزوم موجودا بلا لازم
وهو باطل فالله تبارك وتعالى موجود متحقق فلو كان له مثل كان الله تبارك وتعالى
مثلا لذلك المثل المفروض فاذا نفى مثل ذلك الذي هو لازم كان مقتضيا لنفي الملزوم
وهو وجود المثل فصح النفي لمثل المثل.
والحاصل انه لو
لم ينتف المثل عند نفي مثل المثل لم يصح نفي مثل المثل لان الله تبارك وتعالى
موجود فلو كان له مثل كان الله تعالى مثلا لذلك المثل فيكون مثل المثل موجودا فلا
يصح نفيه حينئذ لكن النفي صحيح لوقوعه في كلام من لا يتكلم الا صحيحا فتعين ان
يكون المراد من نفي مثل المثل نفي المثل ليصح النفي فقد ظهر ان نفي مثل المثل توصل
به الى نفي المثل وهو
معنى الكناية لانه اطلق نفي اللازم واريد نفي الملزوم.
(و) الوجه (الثاني
ما ذكره صاحب الكشاف) وقد قلنا آنفا انه تقدم بعض الكلام في هذا الوجه في بحث
تقديم المسند اليه (وهو انهم) اي البلغاء من اهل اللسان (قد قالوا) للمخاطب (مثلك
لا يبخل فنفوا البخل عن مثله) اي عن مثل المخاطب (والغرض نفيه عن ذاته فسلكوا طريق
الكناية قصدا الى المبالغة) في نفي البخل عن المخاطب (لانهم اذا نفوه عما يماثله
وعمن يكون على اخص اوصافه فقد نفوه عنه) والا لزم التحكم في ثبوت الوصف لاحد
المثلين دون الآخر وهذا اي قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) (كما يقولون) فلان (قد ايفعت لداته) قال في المصباح اليفاع مثل سلام ما
ارتفع من الارض وايفع الغلام شب انتهى.
ولداة كعداة
وهباة وزنا واعلالا معناه الاقران في العمر (وبلغت اترابه) قريب من ذلك من حيث
المعنى (يريدون) بهذين الكلامين (ايقاعه) اي ايقاع فلان (وبلوغه) والحاصل انهم
يريدون بالمثل نفس الشخص وذاته وبعبارة اخرى يكنى بلفظة مثل عن الشخص نفسه اذا
قصدوا المبالغة فيريدون بهذين العبارتين ايقاع نفس فلا وبلوغه لا ايفاع لداته
وبلوغهم.
(فحينئذ) اي
حين اذ كان المراد من الآية الشريفة نفي المثل عن الله تعالى بطريق الكناية على ما
قررناه لا نفي مثل مثله (لا فرق بين قوله ليس كالله شيء) حيث نفي في هذه العبارة
المثل عنه تعالى صريحا (وقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ)) حيث نفى فيه المثل عنه تعالى كناية (الا ما تعطيه
الكناية من فائدتها) يعني المبالغة ومن هنا قالوا كما يأتي في الفصل الآتي المجاز
والكناية ابلغ من الحقيقة والتصريح لان الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم فهو
كدعوى الشيء ببينة وبرهان فان وجود الملزوم يقتضي
وجود اللازم لامتناع انفكاك الملزوم من اللازم وقد بينا لك آنفا الملازمة
بين نفي مثل المثل ونفي المثل فتبصر.
(وهما) اي ليس
كالله شيء و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) (عبارتان معقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته) تعالى وتقدس (و)
هما (نحو قوله تعالى (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) فان معناه بل هو جواد من غير تصور يد و) من غير تصور (بسط
لها) اي لليد (لانها) اي اليد او هذه العبارة (وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون) بها
(شيئا آخر حتى انهم استعملوها فيمن لا يد له) اصلا كذاته تعالى وتقدس او بسبب
نقصان الخلقة كبعض افراد البشر إذا كان جوادا (وكذلك يستعمل هذا) اي ليس كمثله شيء
(فيمن له مثل ومن لا مثل له) وفي بعض النسخ وهو قريب مما في الايضاح (فان كان
الحذف او الزيادة مما لا يوجب تغير الحكم اي حكم الاعراب كما في قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ)) بحذف مثل ذوي اذا اصله كما تقدم في بحث التشبيه عند
قول الخطيب والاصل في نحو الكاف ان يليه المشبه به (او كمثل ذوي صيب وقوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ)) بزيادة لفظة ما (اي فبرحمة فالكلمة توصف بالمجاز
والاول يسمى مجازا بالنقصان ويعرف بانه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة
بعد نقصان منه يغير الاعراب والمعنى الى ما يخالفه رأسا كنقصان الامر) في (وَجاءَ رَبُّكَ) (و) كنقصان (الاهل) في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (فيما مر) اي في (جاءَ رَبُّكَ
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (لا كنقصان منطلق الثاني في قولنا زيد منطلق وعمرو نقصان مثل ذوي في قوله
تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ) لبقاء الاعراب ولا كنقصان في من قولنا سرت يوم الجمعة
لبقائه على معناه) اي لبقاء يوم على الظرفية.
(وفيه نظر لان
تغير المعنى واستعمال اللفظ في غير ما وضع له في هذا
النوع من المجاز ممنوع اذ لو جعل القرية مثلا مجازا عن الاهل لعلاقة كونها
محلا كما وقع في بعض كتب الاصول) قال محشي المغني في الباب الخامس في بحث الجهات
التي يدخل الاعتراض على المعرب ذهب قوم الى ان القرية عبر بها عن اهلها والتأنيث
فيها على اللفظ فيكون مجازا انتهى (فهو لا يكون في شيء من هذا النوع من المجاز) بل
هو حينئذ يكون من قبيل المجاز في الكلمة الذي هو عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما
وضع له (ولا يحتاج) حينئذ (الى تقدير المضاف كما لو قيل بكونها) اي القرية (مشتركة)
لفظية (بين الجدران) وسائر الابنية المجتمعة (والاهل) قال المحشي في ذلك الموضع
وقيل القرية اسم مشترك بين المكان واهله نقلة إبن داود الطاهري عن بعض اهل اللغة
انتهى.
(والثاني يسمى
مجازا بالزيادة ويعرف بانه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بعد زيادة عليه
تغير الاعراب والمعنى الى ما يخالفه بالكلية) نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) فان زيادة الكاف تغير الاعراب والمعنى إلى ما يخالفه
بالكلية فان المعنى قبل زيادة الكاف نفي المثل وبعد زيادتها صار المعنى نفي مثل
المثل (فخرج ما لا يغير شيئا نحو (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ) لِنْتَ لَهُمْ) فان زيادة لفظة ما لم يغير اعرابا لان اعراب رحمة قبل
زيادتها كان جرا بالباء وهكذا بعد زيادتها وكذلك المعنى فان المعنى في كلتا
الصورتين هو سببية الرحمة للينه (ص) هذا ولكن فيه نظر ظاهر يظهر وجهه مما ذكرناه
في اوائل الكتاب عند قول الخطيب وكثيرا يسمى فصاحة ايضا وحاصله ان ما الزائدة
كسائر الحروف الزائدة ليس وجودها كعدمها بل تحدث في الكلام معنى لم يكن قبلها وقد
ذكرنا في المكررات في بحث الحروف الجارة وفي الكلام المفيد في بحث الحروف الزائدة
المسماة بالصلة ما يفيدك ههنا فراجع ان شئت.
(و) خرج ايضا (ما
يغير الاعراب فقط نحو سرت في يوم الجمعة) بزيادة كلمة في فانها لم تغير الا اعراب
اليوم واما المعنى فهو على ما كان عليه قبل زيادتها فتأمل.
(و) خرج ايضا (ما
يغير المعنى فقط نحو الرجل بزيادة اللام للعهد) ونحوه (و) خرج ايضا (ما يغير
المعنى لا الى ما يخالفه بالكلية) بل الى ما يخالفه ببعض الوجوه كالتأكيد في (مثل
ان زيدا قائم) بزيادة ان للتأكيد.
(وفيه نظر لان
تغير المعنى والاستعمال في غير الموضوع له ممنوع كما مر) في قوله والاحسن ان لا
تجعل الكاف زائدة وايضا إذا كان المقصود بالمجاز تغيير الكلام عما كان عليه الى
نقص او زيادة فأي فرق بين تغيير حكم الاعراب وبقائه ثم لا نسلم ان حكم الأعراب لم
يتغير في كصيب فانه لو لا الحذف لكان مجرورا بالمحذوف فصار مجرورا بالكاف وايضا
الحق ان محل التجوز هو الكلمة التي قامت مقام المحذوف في الاعراب والكلمة التي
باشرتها الزيادة لا ما إقتضاه ظاهر كلام الخطيب من ان المجاز هو الكلمة المزيد
عليها ومما يجب ان يعلم في هذا المقام انه يشترط في المجاز بالزيادة ان يكون
الكلام مستغنيا عن تلك الكلمة استغناء واضحا كالباء في بحسبك درهم وكفى بالله
شهيدا دون ليس زيد بمنطلق او ما زيد بقائم فتأمل جيدا.
اذا عرفت ذلك
فلنعد الى ما كنا فيه (قال صاحب المفتاح) في ذيل عبارته المتقدمة ورأيي في هذا
النوع) من المجاز (ان يعد ملحقا بالمجاز المعروف (ومشبها به لاشتراكهما في التعدي)
اي الانتقال (عن الاصل إلى غير الاصل) لان الكلمة في المجاز المعروف انتقلت من
الموضوع له إلى غيره وفي هذا النوع من المجاز انتقلت من الاعراب الذي تستحقه الى
غيره (لا ان يعد مجازا ولهذا لم اذكر الحد شاملا له لكن العهدة في ذلك)
اي في عد هذا النوع مجازا (على السلف) اي القدماء.
(وفيه) اي في
انكاره ما اختاره السلف من عد هذا النوع مجازا وادعائه انه انفرد برأي آخر (نظر
لانه ان أراد بعده عن المجاز) اي اراد بما نسبه الى السلف من عدهم هذا النوع مجازا
(إطلاق لفظ المجاز عليه) وبعبارة اخرى ان اراد بما نسبه الى السلف أنهم اطلقوا إسم
المجاز على هذا النوع فأنكره (فلا نزاع له في ذلك) لان لفظ المجاز يطلق على هذا
النوع عند الكل حتى عنده اي السكاكي (سواء كان) ذلك الاطلاق (على سبيل المجاز) بان
كان هذا النوع ملحقا بالمجاز ومشبها به (او) على سبيل (الاشتراك) اللفظي بأن كان
لفظ المجاز وضع مرتين مرة للمجاز المعروف ومرة لهذا النوع (وان اراد انهم جعلوه)
اي هذا النوع (من اقسام المجاز اللغوي المقابل للحقيقة المفسر) ذلك المجاز اللغوي (بتفسير
يتناوله) اي يتناول المجاز اللغوي (وغيره) المراد من الغير هو هذا النوع (فليس
كذلك اي لم يجعلوه من اقسام المجاز ولم يفسروا المجاز اللغوي بتفسير يتناوله وغيره
(لاتفاق السلف على وجوب كون المجاز مستعملا في غير ما وضع له) فلا يتناول هذا
المعنى غير المجاز اللغوي وبعبارة اخرى لم يجعلوا هذا النوع من اقسام المجاز
اللغوي (مع اختلاف عباراتهم في تعريفاته) اي في تعريفات المجاز اللغوي (كما في
التعريف الذي نقله السكاكي عنهم) اي عن السلف (وهو كل كلمة اريد بها غير ما وضعت
له في وضع واضع) من الواضعين لمختلف اللغات والاصطلاحات وكان تلك الارادة (لملاحظة)
اي لعلاقة (بين الثاني) اي بين غير ما وضع له (والاول) اي ما وضع له والحاصل ان
ارادة غير ما وضع له تكون للعلاقة بين المعنى المجازي والحقيقي والا يكون غلطا او
كناية على ما مر في تعريف المجاز المفرد
فراجع (فظاهر انه) اي هذا التعريف المنقول عنهم (لا يتناول هذا النوع من
المجاز لانه مستعمل في معناه الاصلي) غاية الامر انه تغير اعرابه بسبب الحذف او
الزيادة (والا) اي وان تناول التعريف الذي نقله السكاكي عن السلف هذا النوع من
المجاز (لدخل) هذا النوع من المجاز (في تعريف السكاكي ايضا).
وقد تقدم
تعريفه في الفصل الذي وضعه الخطيب لبيان المواضع التي كان كلامه مخالفا لما ذكره
وللسكاكي تعريفان آخران للمجاز قريبان من التعريف المذكور وهذا نص او لهما المجاز
هو الكلمة المستعملة في غير ما تدل عليه بنفسها دلالة ظاهرة استعمالا في الغير
بالنسبة الى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن ارادة ما تدل عليه بنفسها في ذلك النوع
وهذا نص ثانيهما المجاز هو الكلمة المستعملة في غير معناها بالتحقيق استعمالا في
ذلك بالنسبة الى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن ارادة معناها في ذلك النوع انتهى
وانت ترى انه لا فرق بين هذه التعاريف الثلاثة والتعريف الذي نقله عن السلف من حيث
المال فلو تناول تعريف السلف هذا النوع من المجاز لتناوله تعريفه ايضا وحينئذ فلا
معنى لقوله ورأيي في هذا النوع الخ.
(و) ان قلت
انهم قسموا المجاز الى هذا النوع وغيره والتقسيم يدل على ان كل قسم من الاقسام
داخل في المقسم فهذا النوع داخل في المجاز فكيف تقول أنهم لم يجعلوه من اقسام
المجاز اللغوي.
قلت (اما
تقسيمهم المجاز الى هذا النوع وغيره فمعناه انه) اي المجاز (يطلق عليهما) اي على
هذا النوع وغيره وليس معنى التقسيم ان كل واحد منهما داخل في المجاز وبعبارة اخرى
تقسيم المجاز الى هذا النوع وغيره من باب تقسيم اللفظ الى ما يستعمل فيه مطلقا اي
سواء كان
استعماله فيه بطريق الحقيقة او بطريق المجاز (كما يقال المستثنى متصل ومنقطع)
مع انه من المعلوم والمسلم في محله ان لفظ المستثنى في المنقطع مجاز لعدم كونه
داخلا في المستثنى منه حتى يكون مخرجا صرح بذلك صاحب المعالم في بحث تخصيص العام
وارادة الباقي فاطلاق لفظ المستثنى عليه انما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة
والحاصل ان تقسيمهم المجاز الى هذا النوع وغيره كتقسيمهم لفظ الاسد الى الرجل
الشجاع والحيوان المفترس وقد اشار إلى ما ذكرنا في القوانين في بحث الصحيح والاعم
فتحصل من جميع ما ذكرنا ان السلف لم يعدوا هذا النوع من المجاز من اقسام المجاز
اللغوي المقابل للحقيقة اللغوية وانما كان مرادهم من التقسيم إطلاق لفظ المجاز
عليه كاطلاق لفظ الاسد على الرجل الشجاع كما هو كذلك على رأي السكاكي (فلا نعرف
للسكاكي رأيا ينفرد به والله اعلم) بحقائق الاراء والاقوال.
ولما فرغ
الخطيب من المجاز وهو الباب الثاني من هذا الفن الذي هو اعظم ابوابه شرع في الثالث
الذي به تماع الفن وهو باب الكناية فقال (الكناية) وهي (في اللغة مصدر كنيت بكذا)
اي بكثير الرماد مثلا (عن كذا) اي عن الجود مثلا (وكنوت) بكذا عن كذا وذلك (اذا
تركت التصريح) بالجود مثلا.
فعلى الاحتمال
الاول ناقص يائي كرمى يرمي وعلى الاحتمال الثاني ناقص واوي كدعا يدعو هذا ولكن
قولهم في المصدر كناية بالياء دون كناوة بالواو يؤيد الاحتمال الاول فتأمل.
(وهي في
الاصلاح تطلق على معنيين احدهما معنى المصدر الذي هو فعل المتكلم اعني ذكر اللازم
وارادة الملزوم مع جواز إرادة اللازم أيضا)
حاصله ان الكناية بالمعنى المصدري عبارة عن ذكر اللفظ بقصد استعماله في
ملزوم معناه الحقيقي مع جواز ان يقصد دلالته على نفس معناه الحقيقي ايضا وبعبارة
اخرى يجوز فيها ارادة معناه الموضوع له اي معناه الحقيقي ومعناه الغير الموضوع اي
معناه المجازي بحيث يكون اللفظ مستعملا فيهما وبذلك امتازت عن المجاز اذ لا يجوز
فيه ارادة المعنيين معا لانه يشترط فيه كما تقدم في اول بحث المجاز ان يكون
استعماله في المعنى المجازي مع قرينة مانعة من ارادة المعنى الحقيقي ومن هنا منع
الجمهور كما في المعالم الاستعمال في المعنيين فالكناية واسطة بين الحقيقة والمجاز
وليست حقيقة لان اللفظ لم يرد به معناه الحقيقي بل لازمه وبعبارة اخرى لم يستعمل
اللفظ في معناه الحقيقي بل استعمل في معناه المجازي الذي هو لازم معناه الحقيقي
وليست مجازا لان المجاز لا بد له من قرينة مانعة عن ارادة المعنى الحقيقي هذا كله
بناء على ما اختاره الخطيب ومن تبعه وسيأتي عن قريب ما يفهم منه ان اللفظ في
الكناية مستعمل في المعنى الحقيقي لينتقل منه الى لازمه اي إلى المعنى المجازي
فعلى هذا تكون داخلة في الحقيقة لان إرادة المعنى الحقيقي باستعمال اللفظ فيه اعم
من ان يكون وحده اي من دون ارادة المعنى المجازي كما في الصريح اي كما في
الاستعمالات المتعارفة من دون كناية او مع ارادة المعنى المجازي كما في الكناية.
لا يقال كيف
وقد تقدم انه لا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معا لانا نقول ان
ذلك اذا استعمل فيهما بحيث يكون كل واحد منهما مقصودا لذاته وههنا ليس كذلك لان
احدهما وهو المعنى الحقيقي مقصود تبعا كما سيصرح بذلك عن قريب واذا عرفت ما بينا
فاستمع لما يتلى عليك.
(فاللفظ) اي
طويل النجاد مثلا (مكنى به) اي كنى بسببه عن المراد
والمقصود اي عن طول القامة (والمعنى) المراد وهو طول القامة (مكنى عنه) هذا
كله بناء على المعنى المصدري وقد تقدم توضيح هذا الاشتقاق في اول بحث الاستعارة
عند قول الخطيب وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال المشبه به في المشبه فراجع
ان شئت.
(و) المعنى (الثاني)
للكناية (نفس اللفظ وهو الذي اشار اليه المصنف بقوله الكناية لفظ اريد به لازم
معناه) الحقيقي (مع جواز ارادته معه اي ارادة ذلك المعنى) الحقيقي (مع لازمه كلفظ
طويل النجاد) النجاد حمائل السيف (والمراد به) اي بلفظ طويل النجاد (لازم معناه
اعني طول القامة مع جواز ان يراد طول النجاد ايضا).
والحاصل ان
النجاد حمائل السيف فطول النجاد يستلزم طول القامة فاذا قيل فلان طويل النجاد
فالمراد انه طويل القامة فقد استعمل اللفظ في لازم معناه مع جواز ان يراد بذلك
الكلام الاخبار بأنه طويل حمائل السيف وطويل القامة وبعبارة اخرى مع جواز ان يراد
كلا المعنيين اي المعنى الحقيقي وهو طول حمائل السيف والمعنى المجازي وهو طول
القامة.
(فظهر انها) اي
الكناية (تخالف المجاز من جهة) جواز (إرادة المعنى الحقيقي لللفظ مع ارادة لازمة
كارادة طول النجاد مع ارادة طول القامة بخلاف المجاز فانه لا يصح فيه ان يراد
المعنى الحقيقي مثلا لا يجوز في قولنا رأيت أسدا في الحمام ان يراد بالاسد الحيوان
المفترس) مع الرجل الشجاع الذي هو المعنى المجازي (لانه يلزم ان يكون في المجاز
قرينة) كلفظ في الحمام ونحوه (مانعة عن ارادة المعنى الحقيقي) يعني الحيوان
المفترس (فلو انتفى هذا) اللازم يعني القرينة (انتفى المجاز لانتفاء الملزوم
بانتفاء اللازم) ومن هنا قالوا في علم الميزان في القياس
الاستثنائي نحو لو كان هذا انسانا كان حيوانا ان استثناء نقيض التالي ينتج
رفع المقدم.
(وهذا) الذي
قلنا من انه يلزم ان يكون في المجاز قرينة مانعة عن ارادة المعنى الحقيقي (معنى
قولهم) كما في المعالم (ان المجاز ملزوم قرينة معاندة لارادة الحقيقة وملزوم معاند
الشيء) اي الحقيقة مثلا (معاند لذلك الشيء) والحاصل ان المجاز معاند للحقيقة لكونه
ملزوما للقرينة المعاندة لها فلا يجتمع معها في الارادة من لفظ واحد (والا) اي واي
لم يكن ملزوم معاند الشيء معاندا لذلك الشيء وبعبارة اخرى ان لم يكن المجاز معاندا
للحقيقة بان يجتمعا في الارادة من لفظ واحد (لزم صدق الملزوم) اي المجاز مثلا (بدون
اللازم) اي القرينة.
(وههنا بحث)
حاصله ان تعريف الكناية غير جامع لانه لا يشمل الكناية التي لا وجود لمعناه
الحقيقي كان يقال مثلا زيد طويل النجاد ولم يكن له نجا داصلا وكان يقال زيد جبان
الكلب او مهزول الفصيل ولم يكن له كلب ولا فصيل ومثل هذه الكنايات في الكلام اكثر
من ان تحصى كقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) و (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) وقد تقدم قبيل بحث الكناية والى ما ذكرنا من الحاصل
اشار بقوله (وهو) اي البحث (ان المفهوم من التعريف المذكور) في المتن اي في كلام
المصنف (ان المراد في الكناية هو لازم المعنى) اي طول القامة (وارادة المعنى) أي
طول النجاد (جائزة لا واجبة وبهذا) المفهوم من التعريف المذكور (يشعر قوله) اي قول
السكاكي (في المفتاح ان الكناية لا تنافي ارادة الحقيقة فلا يمتنع في قولك فلان
طويل النجاد ان يراد طول نجاده مع ارادة طول قامته وهذا هو الحق لان الكناية كثيرا
ما تخلو عن ارادة المعنى الحقيقي وان كانت) إرادة المعنى
لحقيقي (جائزة للقطع بصحة قولنا فلان طويل النجاد وان لم يكن له نجاد (قط)
اي في شيء من الازمنة (و) للقطع بصحة (قولنا) فلان (جبان الكلب ومهزول الفصيل وان
لم يكن له كلب ولا فصيل).
وقد اجاب بعضهم
عن هذا البحث باعتبار الحيثية في التعريف المذكور بان يقال قولهم في تعريف الكناية
لفظ اريد به لازم معناه مع جواز ارادته معه اي من حيث ان اللفظ كناية واما من حيث
خصوص المورد فقد يمتنع إرادة المعنى الحقيقي كالامثلة المذكورة لأستحالته فجواز
الأرادة من حيث خصوص المورد فتعريف الكناية صادق على الامثلة المذكورة ايضا.
ولنعد الى ما
كنا فيه وهو ان قول السكاكي في المفتاح مشعر بما هو المفهوم من التعريف المذكور من
ان المراد بالكناية هو لازم المعنى (و) لكن (في موضع آخر من المفتاح تصريح بان
المراد في الكناية هو المعنى) اي طول النجاد مثلا (ولازمه) اي طول القامة والحاصل
ان المراد في الكناية المعنى الحقيقي والمجازي (جميعا) اي كلاهما (لانه) اي
السكاكي (قال المراد بالكلمة المستعملة اما معناها) الحقيقي (وحده او غير معناها)
الحقيقي (وحده او معناها وغير معناها) جميعا (والاول الحقيقة الثاني المجاز
والثالث الكناية) ثم قال (والحقيقة والكناية تشتركان في كونهما حقيقتين) اي
مستعملتين في المعنى الحقيقي (وتفترقان بالتصريح) اي بذكر اللفظ الدال بالمطابقة
على طول القامة مثلا (وعدم التصريح) اي بذكر اللفظ الدال بالالتزام على طول القامة
كقولنا فلان طويل النجاد (وبهذا) التصريح الذي في الموضع الآخر من المفتاح (يشعر
قول المصنف) في المتن المتقدم (انها) اي الكناية (تخالف المجاز من جهة ارادة
المعنى) الحقيقي اي طول النجاد مثلا (مع ارادة لازمة) اي المعنى المجازي يعني طول
القامة (وإن كان)
المصنف (مشيرا) بسبب كلمة مع في هذه العبارة (الى ان إرادة اللازم اصل
وارادة المعنى) الحقيقي (تبع كما يفهم) هذا الذي اشار إليه (من قولنا جاء زيد مع
عمرو) فانه يفهم من كلمة مع فيه ان الاصل في المجيء هو عمرو واما زيد فهو تبع له
في المجيء وذلك لان كلمة مع لا يدخل غالبا الا على الاصل اي المتبوع (ولهذا يقال
جاء فلان مع الامير ولا يقال جاء الامير معه) اي مع فلان.
فتحصل مما
ذكرنا ان بين المفهوم من التعريف المذكور وبين ما يشعر به قول المصنف انها تخالف المجاز
الخ تناف ظاهر لان المفهوم من التعريف كما قلنا ان المراد في الكناية هو لازم
المعنى الحقيقي وارادة المعنى الحقيقي جائزة لا واجبة والمفهوم مما يشعر به قوله
انها تخالف المجاز الخ ان ارادة المعنى الحقيقي كارادة اللازم واجبة لا جائزة غاية
الامر ان إرادة المعنى الحقيقي تبع لارادة اللازم والاصل ارادة اللازم والتنافي
بين المفهومين كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار.
(فوجه التوفيق
بين كلامي المصنف) اي التعريف وانها تخالف المجاز الخ (ان معنى قوله من جهة ارادة
المعنى من جهة جواز إرادة المغنى) وبعبارة اخرى وجه التوفيق بين كلاميه ان يحمل
كلامه الثاني على حذف مضاف اي من جهة جواز ارادة المعنى (بقرينة ما سبق من التعريف)
فان لفظ الجواز مذكور فيه.
(واما قوله في
الايضاح والفرق بينها) اي بين الكناية (وبين المجاز من هذا الوجه اي من جهة ارادة
المعنى) الحقيقي (مع جواز إرادة لازمه فليس بصحيح) لانه بظاهره يدل على ان إرادة
المعنى الحقيقي واجبة لا جائزة وارادة اللازم جائزة لا واجبة وهذا غلط محض لان
إرادة اللازم
واجبة عند الكل حتى للصنف نفسه.
(اللهم الا ان
يراد بالمعنى ما عنى باللفظ) اي ما استعمل فيه اللفظ اي المعنى المجازي اعني طول
القامة (وهو لازم للمعنى الموضوع له) الحقيقي (و) يراد (بلازم المعنى معناه
الموضوع له) أي طول النجاد فحينئذ يتفق القولان اعنى قوله في الايضاح وقوله في
التعريف في هذا الكتاب (وفيه) اي فيما وجهنا قوله في الايضاح ليتفق مع قوله في
التعريف ههنا (ما فيه) لان اطلاق المعنى على لازم الموضوع له الحقيقي واطلاق
اللازم على الموضوع له الحقيقي من قبيل التعمية والالغاز يجب في بيان المسائل
العلمية لا سيما التعاريف أن يحترز عنه غاية الأحتراز وذلك لأنه غير وارد في شيء
من اطلاقاتهم اطلاق المعنى على اللازم واللازم على المعنى الحقيقي وايضا اطلاق
اللازم على المعنى الحقيقي الموضوع له لا يصح عند المصنف اذ لا إنتقال عنده كما
يأتي بعيد هذا من اللازم بما هو لازم إلى الملزوم فتأمل جيدا.
وكيفكان فظهر
مما ذكره الخطيب في هذا الكتاب ان الفرق بين الكناية والمجاز عنده انما هو من جهة
ارادة المعنى الحقيقي وعدم ارادته ففي الكناية يجوز ارادته بخلاف المجاز فانه لا
يصح فيه ارادته لان المجاز ملزوم قرينة معاندة له حسبما بيناه دون الكناية فلما
بين هذا الفرق المرضى عنده اشار الى فرق آخر غير مرضى عنده فقال (وفرق اي فرق
السكاكي وغيره) ممن يوافقه في الفرق (بين الكناية والمجاز بان الانتقال فيها اي في
الكناية من اللازم إلى الملزوم كالانتقال من طول النجاد الذي هو لازم) غالبا (لطول
القامة اليه) اي الى طول القامة فان قلت طول القامة لا يستلزم طول النجاد وقد تقدم
قبيل بحث الكناية ما يدل على انه يصح ان يقال فلان طويل
النجاد وان لم يكن له نجاد اصلا قلت قد اشرنا إلى الجواب بقولنا غالبا لأن
المراد باللزوم في المقام هو العرفي الغالبي لا الحقيقي الدائمي فتنبه (و)
الانتقال (فيه اي في المجاز) على العكس لأن الانتقال فيه (من الملزوم الى اللازم
كالأنتقال من الغيث الذي هو ملزوم النبت الى النبت ومن الأسد الذي هو ملزوم الشجاع
إلى الشجاع).
وطول النجاد
ملزوم له ومقتضى ما ذكر ههنا عكس ذلك قلت سيأتي في قول الخطيب ورد بأن اللازم ما
لم يكن ملزوما الخ الجواب عن ذلك لان المتحصل منه ان كلا من طول النجاد وطول
القامة لازم للآخر وملزوم له لأن كلا منهما مساو للاخر فهما متلازمان فيصح ما تقدم
في بيان التعريف وما ذكره ههنا.
(ورد هذا الفرق
بأن اللازم ما لم يكن ملزوما) بأن بقى على لازميته ولم يكن ملزوما لملزومه لكونه
اعم من ملزومه كالحرارة والنار (لم ينتقل منه إلى الملزوم لأن اللازم من حيث انه
لازم يجوز أن يكون أعم من الملزوم) كالحرارة والنار (ولا دلالة للعام) أي الحرارة
مثلا (على الخاص) أي على النار مثلا (بل إنما يكون ذلك) الانتقال (على تقدير
تلازمهما وتساويهما) كالناطق والانسان أو الضاحك والكاتب.
(فأن قيل يجوز
ان يدل) العام (عليه) أي على الخاص (بواسطة انضمام القرينة) العرفية كقولنا كناية
عن الخطيب والواعظ رأيت انسانا يلازم الصعود على المنابر فأن الانسان الملازم
للصعود على المنابر فيما يتبادر عند العرف العام بل الخاص ملازم للخطيب والواعظ
ولكن يمكن أن يكون أعم منه لأمكان ملازمة الصعود على المنابر لا للخطابة والوعظ بل
للتدريس لكن قرنية العرف العام بل الخاص دالة على انه الخطيب والواعظ لأن ذلك هو
الغالب المتبادر عندهم فالصعود على المنابر لازم أعم قد صار ملزوما
ومساويا بالقرنية العرفية.
(قلنا حينئذ)
أي حين إنضمام تلك القرنية العرفية (لا يبقى اعم) بل يصير خص (ولو سلم) انه يبقى
اعم (فلم لا يجوز ان يكون المجاز أيضا كذلك) اي يصير المجاز الذي له لوازم متعددة
دالا على لازم خاص بواسطه القرينة العرفية كدلالة قولنا رأيت أسدا في الحمام على
خصوص الشجاعة لا على سائر لوازمات الحيوان المفترس لأن لفظ الأسد بواسطة القرنية
اعني كونه في الحمام صار مساويا للرجل الشجاع فتأمل جيدا.
(وحينئذ أي إذا
كان اللازم ملزوما يكون الأنتقال من الملزوم إلى اللازم كما في المجاز فلا يتحقق
الفرق) الآخر الذي ادعاه السكاكي ومن تبعه.
(و) يتأكد هذا
بأن (السكاكي أيضا معترف بان اللازم ما لم يكن ملزوما امتنع الأنتقال منه لأنه قال
مبنى الكناية على الأنتقال من اللازم الى الملزوم وهذا يتوقف على مساوات اللازم
للملزوم) وقد قلنا ان المساوات إنما يتحقق اذا كان اللازم ملزوما (وحينئذ يكونان)
اي اللازم والملزوم (متلازمين فيصير الانتقال من اللازم الى الملزوم بمنزلة
لأنتقال من الملزوم إلى اللازم) كما في المجاز فلم يحصل فرق بين الكناية والمجاز
بما ادعاه من أن لأنتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم وفي المجاز من الملزوم
إلى اللازم اذ ثبت أن اللازم لا ينتقل منه إلا إذا كان ملزوما فأتحد الكناية
والمجاز في المنتقل عنه والمنتقل اليه فأين الفرق.
(فأن قيل مراده)
بالأنتقال من اللازم في الكناية مع تصريحه واعترافه بأن الأنتقال منه يتوقف على
مساوات اللازم للملزوم (ان اللزوم من الطرفين) أي التلازم والمساوات (من خواص
الكناية دون المجاز) فأنه أي المجاز
يصح وإن لم يكن بين الملزوم واللازم لزوم من الطرفين (أو) مراده ان اللزوم
من الطرفين (شرط لها) اي للكناية (دونه) أي دون المجاز فليس مراده ان الكناية
ينتقل فيها من اللازم من حيث إنه لازم لي الملزوم لأنه لا يصح لأمكان عمومه كما
بيناه فلا يرد عليه ما أورده الخطيب وصح الفرق أيضا.
(قلنا لا نسلم)
ان مراده (ذلك) لأنه لو كان مراده ذلك لزم ان يصدر من السكاكي التحكم المحض لأنه
لا دليل على كون اللزوم من الطرفين من خواص الكناية ولا على كونه شرطا لها
والسكاكي وامثاله من المحققين برييء من التحكم في امثال المقام وإلى اجمال ما
بيناه اشار التفتازاني بقوله (وما الدليل عليه) فتبصر.
(بل الجواب)
الصحيح عن ايراد الخطيب بحيث يصح كلام السكاكي ومن تبعه (ان مرادهم) أي مراد
السكاكي ومن تبعه في الكناية (باللازم ما يكون وجوده على سبيل التبعية) لوجود غيره
وبعبارة اخرى مرادهم في الكناية ان الانتقال فيها يكون من التابع الى المتبوع (كطول
النجاد التابع) غالبا (لطول القامة) والانتقال في المجاز كما سيصرح التفتازاني
بعيد هذا على العكس أي يكون الانتقال فيه من الملزوم في الوجود الى اللازم أي مما
يكون وجوده متبوعا لوجود غيره كالانتقال من الانسان الى الكاتب ومن الحيوان
المفترس الى الشجاع.
والحاصل إنه
ليس مرادهم اللازم والملزوم بما هما لازم وملزوم بل مرادهم بما هما تابع ومتبوع من
حيث الوجود في الخارج فصحت التفرقة بين الكناية والمجاز فلا يرد اعتراض الخطيب (ولهذا)
أي ولأجل ان مرادهم باللازم ما يكون على سبيل التبعية لوجود غيره لا بما هو لازم (جوزوا)
أي السكاكي ومن تبعه (كون اللازم) المنتقل منه إلى الملزوم (اخص كالضاحك
بالفعل) الذي هو لازم خص (للأنسان) فيصح في مقام الكناية ان يقال رأيت ضاحكا
بالفعل ويراد به الأنسان لأنه يمكن الانتقال من الضاحك بالفعل الذي هو تابع في
الوجود الخارجي للأنسان اليه بخلاف اللازم بما هو لازم فأنه لا يمكن الأنتقال منه
الى اللازم لجواز كونه أعم وقد تقدم انه لا دلالة للعام على الخاص ولا يكون اللازم
بما هو لازم أخص وإلا لكان الملزوم اعم فيوجد بدون اللازم وهو محال بالبداهة والا
يلزم الخلف.
(فالكناية ان
يذكر من المتلازمين ما هو تابع ورديف) في الوجود الخارجي (ويراد به ما هو متبوع
ومردوف) فيه (والمجاز بالعكس) وقد بيناه مستوفى فلا نعيده فحصل الفرق ولا يرد
الأعتراض.
(و) لكن (فيه)
أي في هذا الجواب أيضا (نظر لأن المجاز قد يكون) التلازم فيه (من الطرفين) بحيث يكون
احدهما تابعا والآخر متبوعا كالنبات والغيث وقد تقدم في بحث عد اقسام المجاز صحة
ارادة المجاز من كل واحد منهما (كأستعمال الغيث في النبت واستعمال النبت في الغيث)
فالنبت مما هو تابع غالبا مع التلازم فلو اختصت الكناية بما هو تابع لزم ان يكون
مثل هذا تابعا والحال انهم كما تقدم هناك مثلوه للمجاز واتفقوا على انه منه.
وقد يجاب عن
النظر برعاية الحيثية في نحو النبات المستعمل في الغيث وذلك بان يقال اذا استعمل
النبات في الغيث من حيث انه تابع للغيث ورديف له في الوجود غالبا كان كناية وان
استعمل من حيث مجرد اللزوم الغالب كان مجازا وقد تقدم نظير هذا الجواب في اول بحث
الاستعارة في لفظ المشفر وفي بحث تقسيم الاستعارة باعتبار الجامع فتذكر ولكن بعد
لا يخلو هذا الجواب
من نوع تحكم لان تخصيص الكناية بالتبعية والمجاز بمجرد اللزوم مما ليس عليه
دليل اللهم الا ان يدعي ان ذلك تقرر عندهم بالاستقراء وقرائن احوال المستعملين.
(وهي اي
الكناية ثلاثة اقسام الاولى اي القسم الاولى والتأنيث) اي تأنيث لفظة اولى مع كونه
صفة للقسم وهو مذكر انما هو (باعتبار كونه) اي كون القسم (عبارة عن الكناية)
فالمعبر عنه مؤنث (يعني الاول من الكناية المطلوب بها غير صفة ولا نسبة) وسيأتي
معنى طلب الصفة وطلب النسبة ثم اشار الى قسمي هذا القسم بقوله (فمنها اي من الاولى
ما هي معنى واحد) اي القسم الاول من هذا القسم لفظ يكون مدلوله معنى واحدا والمراد
بالمعنى الواحد ان لا يكون مركبا من اشياء مختلفة وإن كان متعددا كما في الاضغان
في البيت الاتي فليس المراد بالوحدة ما قابل التثنية والجمع والى ذلك اشار بقوله (وهو
ان يتفق في صفة من الصفات) كالمجامع في البيت الاتي فانه صفة تدل على كون الذات
مكان الاجتماع (اختصاص بموصوف معين) والمراد بالموصوف المعين في البيت الاتي
القلوب وقوله (عارض) بالرفع صفة اختصاص يعني يكون اختصاص تلك الصفة بموصوف معين
بالعرض يعني لاسباب خارجة عن مفهومها فيكون الاختصاص عارضا كما في اختصاص صفة
مجامع الاضغان بالقلوب لان الاضغان مفرده ضغنة بمعنى الحقد ومكان ذلك القلب ولا شك
ان المجمعية للاضغان صفة مختصة بالقلوب فانها لا تجتمع في غيرها لكن هذا الاختصاص
عارض لأن في وضع الصفة سواء كان من المشتقات او من غيرها لم يؤخذ موصوف معين خاص
فاختصاص تلك المجمعية بالقلوب عارض ومن باب الاتفاق.
(فتذكر) لفظ (تلك
الصفة) التي عرض عليها اختصاصها بموصوف
معين (ليتوصل بها) اي بتلك الصفة اي بلفظها (الى ذلك الموصوف) المعين (كقوله)
:
الضاربين بكل
ابيض مخذم
|
|
والطاعنين
مجامع الاضغان
|
(المخذم) بالميم والذال المعجمة
بينهما خاء منقوطة وهو كما قال بعض المحققين على وزن منبر للسيف (القاطع والضغن
الحقد ومجامع الاضغان معنى واحد) وليس مركبا من امور مختلفة وان كان جمعا وذلك
المعنى الواحد صفة معنوية جعل (كناية عن القلوب) لان تلك الصفة مختصة بها فالمطلوب
بلفظ مجامع الاضغان غير الصفة وغير النسبة لان المطلوب به القلوب وهو ذات غير صفة
ولا نسبة.
(ومنها) اي
القسم الثاني من قسمي هذا القسم (ما هي مجموع معان) اي لفظ مدلوله مجموع معان
مختلفة (وهو) اي القسم الثاني (ان يؤخذ صفة) كحي في الاولي الاتي (فتضم) تلك الصفة
(الى لازم آخر) اي الى صفة اخرى كيستوى القامة وعريض القفا في المثال الآتي
والتعبير باللازم للتفنن فلو عبر بالصفة اولا وثانيا أو باللازم كذلك كان صحيحا
فالمقام نظير ما قاله السيوطي في باب التصغير عبر به سيبويه وبالتصغير وهو تفنن (لتصير
جملتها) اي مجموع الصفات بعد ضم بعضها ببعض (مختصة بموصوف) خاص كالانسان في المثال
الآتي (فيتوصل بذكرها) اي بذكر تلك الصفات المنضم بعضها الى بعض (اليه) اي الى ذلك
الموصوف الخاص.
(كقولنا كناية
عن الانسان) جائني (حي مستوى القامة عريض الاظفار) اي جائني انسان (ويسمى هذا)
القسم في اصطلاح اهل الميزان (خاصة مركبة) فهو نظير طائر ولود في الكناية عن
الخفاش حسبما ذكره محشي التهذيب في بحث المعرف فلو كنى عن الانسان باستواء القامة
وحده
شاركه فيه النخل ولو كنى عنه بالحي وحده شاركه فيه الحمار ولو كنى عنه
بالحي وحده شاركه فيه الحمار ولو كنى عنه بها شاركه التمساح ولو كنى عنه بعريض
الاظفار وحده او به مع الحي شاركه الجمل بخلاف مجموع الاوصاف الثلاثة فانها يختص
بها الانسان.
(وشرطهما اي
شرط هاتين الكنايتين الاختصاص بالمكنى عنه) ولو كان ذلك الاختصاص عارضيا وباسباب
خارجية كما اذا إشتهر زيد بالمضيأفية او الجود بحيث لا يعتمد بمضافية غيره وجوده (ليحصل
الانتقال من للعام الى الخاص) وبعبارة اخرى لما كان هاتان الكنايتان عامان بحسب
المفهوم فيصدق على كل ما وجد فيه مفهومهما من الاختصاص بالمكنى عنه بحسب الوجود
والتحقق في الخارج حتى يحصل الانتقال من العام بحسب المفهوم الى الخاص بحسبه
فالعموم فيهما انما هو بحسب المفهوم والخاص بحسب الخارج فلا منافاة هذا ولكن لا
اختصاص لهذا الشرط بهاتين الكنايتين اللتين هما قسما الاولى بل كل كناية كذلك اذ
قد تقدم في اول الباب انه لا يدل الاعم على الاخص ولا ينتقل منه اليه فهذا الشرط
مستدرك اللهم إلا ان يقال انه نص على ذلك الشرط فيهما تذكرة لما سبق لئلا يغفل
فيتوهم ان مجموع الاوصاف او الصفة ينتقل منها الى الموصوف مع بقاء عمومها.
(وجعل السكاكي)
القسم (الأولى) من هاتين الكنايتين (اعني ما هي معنى واحد قريبة والثانية اعني ما
هي مجموع معان بعيدة) والحاصل أن السكاكي سمي الأولى قريبة والثانية بعيدة (وقال
المصنف) في الايضاح (وفيه نظر) ولكنه لم يبين وجه النظر (ولعل وجه النظر انه) أي
السكاكي (فسر القريبة في القسم الثاني) من اقسام الكناية وسيأتي بعد هذا (بما يكون
الانتقال) فيها من الكناية الى المطلوب (بلا واسطة و
فسر (البعيدة بما يكون الأنتقال) فيها (بواسطة لوازم متسلسلة (والحاصل انه
أي السكاكي جعل مناط القرب والبعد وجود الواسطة وعدمها فجعل ما هي واحد قريبة وما
هي مجموع معان بعيدة لوجود الواسطة بينها وبين المنتقل اليه (و) الحال ان هذا
المناط لا ينطبق على هاتين الكنايتين لأن (الكناية التي هي معنى واحد والتي هي
مجموع معان كلاهما خالية عن الواسطة لظهور ان ليس الأنتقال من حي مستوى القامة
عريض الأظفار الى شيء ثم منه الى الأنسان) فلا واسطة بين هذه الثلاثة وبين المنتقل
اليه اعني الأنسان ولا لوازم متسلسلة كما فيما هي معنى واحد فلا وجه لجعلها قريبة
وجعل الثانية بعيدة.
(فالجواب أن)
المناط في هذا القسم ليس ما هو المناط في القسم الثاني بل (القرب) والبعد (ههنا
بأعتبار آخر وهو سهولة المأخذ) أي الأخذ يعني ان المتكلم بالكناية يسهل عليه
الأتيان بها والسامع يسهل عليه الانتقال منها (لبساطتها) وعدم التركيب فيها (واستغنائها
عن ضم لازم إلى) لازم (آخر وتلفيق) أي تأليف (بينهما) أي بين لازم آخر (و)
استغنائها عن (تكلف في التساوي) بين اللازمين بسبب العطف أو التساوي بين الكناية
والمنتقل اليه (و) استغنائها عن تكلف التأمل في (الاختصاص) وبعبارة أخرى لا يحتاج
فيها إلى التأمل في إنها مختصة بالمكنى عنه (والبعد بخلاف ذلك) فيكون البعيدة ههنا
صعبة الأخذ والأنتقال وذلك لأنها يحتاج الى ضم لازم إلى آخر ويحتاج إلى التأمل في
المجموع حتى يعلم اختصاصه بالمنتقل اليه بلا زيادة ولا نقصان.
فظهر أن مراد
السكاكي بالقرب سهولة الأخذ والانتقال للبساطة وبالبعد صعوبة الأخذ والأنتقال
للتركيب لأن اتيان المركب والفهم منه اصعب من الفهم
من البسيط غالبا وليس المراد بالقرب هنا انتفاء الواسطة بين الكناية
والمنتقل إليه وبالبعد وجودها كما في الثانية على ما يأتي الآن فلا وجه لنظر
الخطيب أن كان مراده ما ذكرناه.
(الثانية من
اقسام الكناية المطلوب بها صفة من الصفات) والمراد بالصفة المعنوية وهي المعنى
القائم بالغير (كالجود والكرم والشجاعة وطول القامة ونحو ذلك) من الصفات المعنوية
كالجبن والبخل والبلاهة وما شاكلها والحاصل ان المراد بالصفة المعنوية لا النعت
النحوي وقد تقدم الفرق بينهما في اول باب القصر عند قول الخطيب وكل منهما نوعان
الخ.
(وهي) أي
الكناية الثانية (ضربان قريبة وبعيدة فأن لم يكن الأنتقال من الكناية إلى المطلوب
بواسطة) بين الكناية والمنتقل اليه (فقريبة والقريبة قسمان) الأولى ما هي (واضحة)
وهي ما (يحصل الانتقال منها بسهولة كقولهم كناية عن طول القامة) فلان (طويل نجاده
وطويل النجاد) إذ لا شك ان طول النجاد أشتهر إستعماله عرفا في طول القامة فيفهم
منه اللزوم بلا تكلف إذ لا يتعلق بالانسان من النجاد إلا مقداره وليس بينه وبينه
واسطة فكانت واضحة قريبة وكانت كناية عن صفة لا عن نسبة وإنما المقصود بالذات
صاحبها وهو الوصف فكانت كناية مطلوبا بها صفة (ثم اشار إلى الفرق بين الكنايتين
أعني قولنا طويل نجاده وطويل النجاد بقوله والأولى كناية ساذجة) أي خالصة لأنها (لا
يشوبها شيء من التصريح) بالمعنى المقصود أي بطول قامة فلان لأن الفاعل لطويل هو
النجا لينتقل منه إلى طول قامة فلان.
(وفي الثانية)
أي في طويل النجاد (تصريح ما) بالمعنى المقصود أي بطول قامة فلان (لتضمن الصفة
الضمير الراجع انى الموصوف) أي إلى فلان (ضرورة احتياجها الى مرفوع مسند اليه)
لأنها مشتقة وكل مشتق
بمنزلة الفعل يحتاج الى فاعل ظاهر أو مضمر كما في هذا المثال (فتشتمل على
نوع تصريح بثبوت الطول له) أي لفلان (والدليل على هذا) أي على تضمن الصفة في هذا
المثال الضمير الراجع الى الموصوف (إنك تقول زيد طويل نجاده وهند طويل نجادها
والزيدان طويل نجادهما والزيدون طويل نجادهم بأفراد الصفة وتذكيرها) في كل واحد من
هذه الأمثلة وإن كان الموصوف أي المبتدء على خلاف ذلك (لكونها) أي لكون الصفة (مسندة
الى الظاهر) وهو النجاد.
والحاصل انه قد
ثبت في النحوان المشتق كالفعل في انه ان رفع ضميرا مستترا يثنى ويجمع ويؤنث وإن
رفع اسما ظاهرا أو ضميرا بارزا فلا وقد أشارا الناظم الى حكم الفعل بقوله :
وجرد الفعل
اذا ما أسندا
|
|
لاثنين او
جمع كفاز الشهداء
|
والى حكم
المشتق بقوله
|
|
وهو لدى
التوحيد والتنكيرا
|
|
او سواهما كالفعل
فأقف ما قفوا
ومن ذلك يتضح
أيضا قول التفتازاني (وفي الاضافة) أي فيما كان الصفة مضافة الى النجاد (تقول هند
طويلة النجاد) بتأنيث الصفة (والزيدان طويلا النجاد) بالتثنية (والزيدون طوال
النجاد) بالجمع (فتؤنث) مبنى للفاعل بقرينة تقول وكذا تالييه ويحتمل أن يكون مبنيا
للمفعول (وتثنى وتجمع الصفة) متعلق بالثلاثة على سبيل التنازع (لكونها) أي الصفة (مسندة
الى ضمير الموصوف) بالطول والموصوف بالطول في الاول مؤنث وفي الثاني تثنية وفي
الثالث جمع فيجب المطابقة بناء على ما نقلنا عن الناظم.
فأن قلت كيف
يجوز اسناد الطويل إلى الضمير الراجع المبتدء مع كون الموصوف بالطول في الحقيقة هو
النجاد لا المبتدء وهذا ظاهر بالبداهة.
قلت نعم (و)
لكن (إنما جاز اسناد الصفة) أي الطويل (إلى ضمير المسبب) أي المتعلق بالفتح أي
المبتدء (مع إنها في المعنى) كما قلت (عبارة عن السبب) أي عن المتعلق بالكسر (اعني
المضاف اليه) أي النجاد (لكونها) أي الصفة اعني الطول (جارية على المسبب في اللفظ)
حالكون تلك الصفة الجارية على المسبب (خبرا) للمسبب كما في هذه الأمثلة (أو حالا)
كما في قولنا جائني زيد طويلا نجاده (او نعتا) كما في قولنا جائني رجل طويل نجاده (و)
كونها (في المعنى دالة على صفة له) أي للمسبب (في نفسه سواء كانت) تلك الصفة (هي
الصفة المذكورة) في الكلام (نحو زيد حسن الوجه فأنه) أي زيد (يتصف بالحسن لحسن
وجهه) ومن هذا القبيل هذه الأمثلة فأن المبتدء فيها يتصف بطول القامة لطول نجاده
إذ لا شك أن طول النجاد أشتهر استعماله عرفا في طول القامة فيفهم منه ذلك بلا تكلف
إذ لا يتعلق بالأنسان من النجاد إلا مقداره فاذا كان نجاد زيد طويلا يصح ان ينسب
الطول اليه كما اذا كان وجهه حسنا يصح ان ينسب إليه الحسن.
(أو كانت) تلك
الصفة (غيرها) أي غير الصفة المذكورة (نحو زيد ابيض اللحية) فأن بياض اللحية لا
يدل على بياض زيد لأمكان كونه أسود مثلا لكنه يدل على صفة غير مذكور (أي شيخ وكثير
الأخوان) والعشيرة (أي متقو بهم) وليعلم ان استعمال ابيض اللحية بهذا المعنى لا
يستلزم أن يكون اللحية متصفة بالبياض بل لا يلزم أن يكون لزيد لحية اصلا بل يمكن
ان يدعى ان هذا الكلام صار حقيقة ثانوية عرفية للرئيس وكبير العشيرة وإن لم يكن
بالغا حد الشيخوخة أو حد انبات اللحية بل ولو لم يكن ممن ينبت له لحية كما يتفق
ذلك في بعض الطوائف والاقوام.
فتحصل مما
ذكرنا إنه وان لم يصح في نحو زيد ابيض اللحية اتصاف زيد بالبياض المذكور في الكلام
لكن يصح انصافه بما يلازم ذلك البياض عرفا اعني الرياسة والتقوى في العشيرة فيحسن
فيه الأضافة بعد سلب الأسناد عن المضاف اليه وتحويل الاسناد الى الضمير العائد الى
زيد مثلا (بخلاف زيد أحمر فرسه وأسود ثوبه فأنه نقبح فيه) اي في كل واحد من هذين
المثالين (الأضافة) أي اضافة الصفة) إلى فاعله بعد سلب الاسناد عنه وتحويل الاسناد
الى الضمير العائد إلى زيد مثلا اذ لا يحسن ان يقال فيمن حمر فرسه انه احمر ولا
فيمن سود ثوبه انه اسود إذ لا ملازمة لغة ولا عرفا بين المعنيين ولا بين سواد
الفرس أو الثوب وبين صفة آخر يلازمهما (وكذا يقبح هند قائمة الغلام) لمثل ما ذكرنا
وقد ذكرنا بعض ما يفيدك في المقام في المكررات والكلام المفيد في باب اسم الفاعل
والصفة المشبهة فراجع إن شئت.
(فأن قلت إذا
أسند الصفة إلى ضمير الموصوف) كما في صورة اضافة الصفة (فلم زعمت إنها كناية مشوبة
بالتصريح وهلا كانت تصريحا) خالصا وبعبارة أخرى لم لم تجعل تصريحا محضا من دون ان
يكون في شيء آخر خليطا معه (كما ان قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ونحو ذلك مما يشتمل على اشارة إلى ذكر احد الطرفين جعل
تشبيها) خالصا (لا استعارة مشوبة بالتشبيه) وقد تقدم بعض الكلام فيه في اوائل بحث
الاستعارة فراجع ان شئت.
(قلت) انما
جعلته كذلك (للقطع بأنها) أي طويل (صفة) في الحقيقة ونفس الأمر (للمضاف اليه) أي
النجاد لا لفلان وإن كان الضمير المستتر في طويل عائدا الى فلان (و) ذلك لأن (اعتبار
الضمير) المستتر في طويل
(العائد إلى المسبب) اي إلى فلان (انما هو لمجرد امر) اي قانون (لفظي)
اثبته النحاة (وهو امتناع خلو الصفة) اي المشتق (عن معمول) اي عن فاعل (مرفوع بها)
أي بالصفة لأن المشتق حكمه حكم الفعل والفعل لابد له من فاعل ظاهر أو مضمر كما قال
الناظم :
وبعد فعل
فاعل فأن ظهر
|
|
فهو وإلا
فضمير استتر
|
(و) الكناية القريبة (خفية) هذا (عطف
على واضحة وخفائها) أي خفاء الكناية القريبة (بأن يتوقف الانتقال منها) إلى المكنى
عنه) على تأمل و) على (اعمال رؤية (أي فكر ونظر في القرائن لينتقل من الكناية إلى
المكنى عنه اي إلى المقصود وذلك حيث يكون في اللزوم بين الكناية والمكنى عنه نوع
غموض فليس المراد من الخفاء ان يتوقف الأنتقال منها إلى المكنى على الواسطة لأنها
لو كانت كذلك لدخلت في القسم الثاني الآتي اعني البعيدة.
(كقولهم كناية
عن الأبله) اي البليد أو الذي له خفة عقل فلان (عريض القفا) القفا بالقصر مؤخر
الرأس (فأن عرض القفا وعظم الرأس بالأفراط) أي زائدا عن حد الأعتدال (مما يستدل به)
عرفا وفي علم القيافة (على بلاهة الرجل) وخفة عقله (وهو) أي ما ذكر يعني عرض القفا
وعظم الرأس بالأفراط (ملزوم لها) أي للبلاهة والبلاهة لازمة له (بحسب الأعتقاد)
الحاصل للعرف بالتجربة وعلم القيافة ولكن ذلك إذا لم يكن لهذه العلامة معارض يدل
على الخلاف وهكذا سائر العلامات العرفية التي أشتهر دلالتها على بعض الأمور كطول
اللحية الذي جعلوه علامة للحمق والبلاهة أيضا ونحو ذلك فلا اعتماد على امثال هذه
العلامات لأحتمال وجود المعارض ولو لم يكن معلوما لنا.
(ولكن في
الانتقال منه) أي من المذكور يعني عرض القفا وعظم الرأس (الى البلاهة نوع خفاء لا
يطلع عليه كل أحد) وإنما يدركه من تأمل واعمل فكره ورؤيته حتى اطلع على الملزومية
واعتقدها.
(و) ان قلت إذا
كان هذا القسم من القريبة بهذه المثابة من الخفاء فبم يمتاز عن القسم الثاني الآتي
اعني البعيدة.
قلت ان هذا
القسم من القريبة (ليس ينتقل منه إلى امر آخر ومن ذلك) الأمر الآخر (إلى المقصود
بل انما ينتقل منه إلى المقصود) بلا واسطة أمر آخر (لكن لا في باديء النظر) بل بل
بعد تأمل ورؤية (وبهذا تمتاز) هذه الكناية (عن) القسم الثاني الآتي أعني (البعيدة)
لأن الانتقال فيها بواسطة.
(وجعل صاحب
المفتاح قولهم عريض الوسادة كناية قريبة خفية عن هذه الكناية اعني قولنا عريض
القفا) وبعبارة أخرى جعل صاحب المفتاح الانتقال من عريض الوسادة الى عريض القفا من
القسم الثاني من الكناية القريبة يعني جعله كناية قريبة خفية فاذا قلنا فلان عريض
الوسادة فهذا كناية قريبة خفية عن عرض القفا وعظم الرأس.
(قال المصنف)
في الايضاح (وفيه نظر بل هو) اي عريض الوسادة (كناية بعيدة عن الابله لانه ينتقل
منه الى عرض القفا ومنه الى الابله) فالانتقال من عريض الوسادة الى الابله الذي هو
المطلوب بالكناية بواسطة عرض القفا فيكون بعيدة لا قريبة خفية.
(والجواب انه
لا امتناع في ان يكون الكناية بعيدة بالنسبة الى المطلوب) الذي هو الابله (وقريبة
بالنسبة الى الواسطة) يعني عرض القفا فيكون حينئذ في الكلام كنايتان احديهما ما
يكون المراد منه الانتقال الى
الابله بواسطة عرض القفا والثانية ما يكون المراد منه الانتقال إلى الواسطة
أعني عرض القفا لينتقل منه الى الابله فيكون الاولى قريبة والثانية بعيدة والغرض
من عريض الوسادة الانتقال الى ما هو كناية عن الابله ففي الحقيقة هو كناية عن
كناية (بل الامر كذلك) دائما (فيما) اي في الكناية التي (يكون الانتقال منه الى
المطلوب بواسطة فنبه صاحب المفتاح على ان المطلوب بالكناية) يعني عريض الوسادة (قد
يكون هو الؤصف المقصود المصرح) يعني البلاهة وانما سمي مصرحا لان المتكلم اذا اراد
أن يصرح بالمقصود من دون كناية فحينئذ يقول فلان ابله ومعلوم انه صرح حينئذ بوصف
البلاهة (وقد يكون) المطلوب بالكناية يعني عريض الوسادة (ما هو كناية عنه) اي عن
الوصف المقصود وبعبارة اخرى يكون المطلوب بعريض الوسادة عريض القفا الذي هو كناية
عن الابله ففي الصورة الاولى تكون الكناية بعيدة لأن الأنتقال الى الوصف المطلوب
اعني البلاهة إنما هو بواسطة عرض القفا وفي الصورة الثانية قريبة لان الانتقال من
الكناية اعني عريض الوسادة الى عرض القفا بلا واسطة فظهر انه لا مانع من ان يكون
كناية واحدة بعيدة بالنسبة الى المطلوب وقريبة بالنسبة الى الواسطة.
(هذا) الذي ذكر
من كون الكناية قريبة واضحة وقريبة خفية (كله ان لم يكن الانتقال بواسطة وان كان
الانتقال من الكناية الى المطلوب بها بواسطة فبعيدة كقولهم كثير الرماد) حالكونه (كناية
عن المضياف) اي كثير الضيافة التي هي القيام بحق الضيف (فانه ينتقل من كثرة الرماد
إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدر ومنها اي ومن كثرة الاحراق وكذا كل ضمير في) لفظ (منها
عائد إلى الكثرة التي قبله الى كثرة الطبائخ) اي الاطعمة التي تطبخ في القدر ومنها
الى كثرة الاكلة) جمع الأكل كالطلبة
جمع الطالب (ومنها الى كثرة الضيفان) هو (بكسر الضاد جمع ضيف ومنها الى
المقصود وهو المضياف) قد تقدم معناه آنفا.
(و) ليعلم انه (بحسب
قلة الوسائط وكثرتها تختلف الدلالة على المقصود وضوحا وخفاء) وقد تقدم الكلام في
ذلك مستقصى في اول هذا الفن عند قول الخطيب ويتأتى بالعقلية الخ فكثرة الوسائط سبب
للخفاء وقلتها سبب للوضوح ولكن مما يجب ان يعلم في هذا المقام انه ليس المراد من
الخفاء الحاصل من التعقيد الذي منشأه اما الخلل في النظم او في الانتقال على ما مر
بيانه في صدر الكتاب لان ذلك كما مر هناك مخل بفصاحة الكلام والكناية المبحوث عنها
في المقام انما هي اذا كانت في الكلام الفصيح وأيضا ليس المراد بالخفاء ما تقدم في
اول هذا الفن في قول التفتازاني وكثيرا ما نفتقر في استنباط المعاني المطابقية الخ
وقد مر الوجه في ذلك في كلامه هناك فراجع ان شئت (وعليك بتتبع الامثلة) اي امثلة
الكناية التي يحتاج الانتقال منها الى المطلوب الى الواسطة (فانها أكثر من ان تحصى)
منها فلان جبان الكلب ومنها فلان مهزوم الفصيل فان الذهن ينتقل في الأول من جبن
الكلب عن الهرير في وجه من يجيء الى بيته اي بيت فلان وخروج الكلب عن طبعه المخالف
لذلك إلى إستمرار تأديبه الى استمرار موجب نباحه وهو اتصال مشاهدته وجوه القادمين
ثم إلى كونه أي كون فلان مقصدا للقاصي والداني ثم إلى كونه مشهورا بحسن القرى
والمضيافية وفي الثاني ينتقل الذهن من هزال الفصيل الى فقد آلام ومنه إلى قوة
الداعي لنحرها مع بقاء ولدها مع عناية العرب بالنوق ومنها الى صرفها إلى الطبائخ
ومتها الى انه مضياف.
(الثالثة من
اقسام الكناية الكناية المطلوب بها نسبة اي إثبات أمر لأمر او نفيه عنه وهذا معنى
قول صاحب المفتاح) في هذا للقسم من الكناية
(المطلوب بها تخصيص الصفة بالموصوف) فأراد بالتخصيص النسبة (ولم يرد
بالتخصيص) معناه المعروف اعني (الحصر اذ لا وجه له ههنا كقوله اي قول زياد الاعجم
ان السماحة والمروة اي كمال الرجولية) هذا تفسير باللازم يعرف ذلك من مراجعة كتب
اللغة (والندى) الفضل والاحسان يقال فلان اندى من فلان اي اكثر فضلا وخيرا كذا في
المصباح في قبة ضربت على ابن الحشرج) اسمه عبد الله كان من أجواد العرب والشاهد في
قوله في قبة ضربت على ابن الحشرج (فانه) اي الشاعر (أراد أن يثبت اختصاص ابن
الحشرج بهذه الصفات اي ثبوتها له سواء كان على طريق الحصر أو لا فترك التصريح
بأختصاصه) أي اختصاص ابن الحشرج (بها) أي بتلك الصفات والتصريح (بأن يقول انه) أي
ابن الحشرج (مختص بها) أي بتلك الصفات (أو نحوه مجرور معطوف على ان يقول اي او
بمثل القول) انه مختص بها (أو منصوب معطوف على مفعول ان يقول أي او ان يقول نحو
قولنا انه مختص بها من العبارات الدالة على هذا المعنى كالأضافة ومعناها والاسناد
ومعناه مثل ان يقول سماحة ابن الحشرج) هذا مثال للأضافة (أو السماحة لابن الحشرج)
هذا مثال لمعنى الأضافة (أو سمح ابن الحشرج) هذا مثال الأسناد (او حصل السماحة له
أو ابن الحشرج سمح) هذان مثالان لمعنى الاسناد فتأمل والحاصل ان المراد بقوله أو
نحوه هذه العبارات الخمس التي صرح فيها بأختصاص أبن الحشرج بصفة السماحة (كما أن
اختصاص الصفة بالموصوف مصرح به في أمثلة القسم الثاني) من الكناية أعني المطلوب
بها صفة (بأعتبار اضافتها) أي اضافة الصفة (أو اسنادها إلى الموصوف او) إلى (ضميره)
اي ضمير الموصوف (إلا ترى أن طول القامة المكنى عنه بطويل النجاد مضاف)
أي منسوب (إلى ضميره) اي ضمير الموصوف وبعبارة اخرى ان معنى طول القامة
منسوب إلى فلان صريحا وإن كان المضاف الى ضميره (في قولنا طويل نجاده) هو طول
النجاد والحاصل ان هذا المعنى منسوب الى زيد صريحا وإن كان المضاف إلى ضمير زيد
بحسب اللفظ هو طول النجاد بل النجاد (ومسند الى ضميره في قولنا طويل النجاد وكذا
في كثير الرماد وغيره) نحو جبان الكلب ومهزول الفصيل
ونحوهما (كذا
في المفتاح وبه) أي بما ذكر من الأمثلة وتوجيهها (يعرف ان ليس المراد بالأختصاص
ههنا الحصر) بل المراد به الثبوت للموصوف سواء كان على سبيل الحصر ام لا فترك)
الشاعر (التصريح بأختصاصه) أي اختصاص ابن الحشرج (بها) أي بتلك الصفات ومال (إلى
الكناية بأن جعلها اي جعل تلك الصفات في قبته تنبيها على أن محلها) اي محل تلك
الصفات (ذو قبة) اي صاحب قبة لأنه معلوم ان تلك الصفات لا بد لها من محل تقوم به
في تلك القبة وهي صالحة لصاحب القبة (وهي) أي القبة (ما تكون فوق الخيمة يتخذها
الرؤساء) علامة للرياسة (مضروبة) تلك القبة والخيمة (عليه أي على ابن الشرج وإنما
احتاج) الشاعر (إلى هذا) أي الى ذكر ابن الحشرج (لوجود ذي قباب في الدنيا كثيرين
فأفاد) الشاعر بذكر ابن الحشرج (اثبات الصفات المذكورة له) أي لابن الحشرج (لأنه
اذا ثبت الامر) أي الشيء اي الصفات المذكورة (في مكان الرجل وحيزه فقد اثبت له)
وذلك لما تقدم آنفا من ان الصفة لابد لها من محل تقوم به.
(ونحوه أي نحو
قول زياد) الأعجم (في كون الكناية لنسبة الصفة إلى الموصوف بأن تجعل فيما يحيط به)
كما في القبة (ويشتمل عليه قولهم المجد بين ثوبيه) أي ثوبي فلان (والكرم بين برديه
حيث لم يصرح) في
قولهم (بثبوت المجد والكرم له بل كنى عن ذلك بكونهما) أي المجد والكرم (بين
برديه وثوبيه وفي هذا) أي في قوله ونحوه اي في تكرار المثال (اشارة إلى دفع ما
يتوهم من ان قولهم المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه من القسم الثاني) من الكناية
أعني المطلوب بها صفة (اعني نحو طويل نجاده بناء على ان اضافة البرد والثوب إلى
ضمير الموصوف كأضافة النجاد إليه) أي إلى الموصوف (وليس كذلك) أي والحال ان قولهم
المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه ليس من القسم الثاني من الكناية (لأن اسناد
الطويل إلى النجاد تصريح بأثبات الطول للنجاد وهو قائم مقام طول القامة فاذا صرح
باضافة النجاد إلى ضمير زيد كان ذلك تصريحا بأثبات طول القامة له وإن كان ذكر طول
القامة غير صريح وليس في قولنا المجد بين ثوبيه دلالة على ثبوت المجد للثوبين فضلا
عن التصريح بذلك حتى يكون التصريح بأضافة الثوبين الى الضمير تصريحا بأثبات المجد
لمن يعود اليه الضمير) وذلك لأنه لا ملازمة بين كون المجد بين الثوبين وبين ثبوت
المجد لنفس الثوبين حتى يلزم منه ثبوت المجد لمن يعود اليه الضمير الذي أضيف
الثوبين اليه وإن شئت قل لا ملازمة بين مجد الثوب ومجد صاحبه اللابس له بخلاف طويل
النجاد وطول القامة فأن الملازمة بينهما ثابتة عرفا وعادة (وأمثلة هذا القسم)
الثالث اعني الذي يكون المطلوب فيه نسبة (أكثر من ان تحصى) فعليك بأستخراجها إلى
هنا كان الكلام في الاقسام الثلاثة التي ذكرها الخطيب وهي ثلاثة اقسام.
(فأن قلت ههنا
قسم رابع وهو أن يكون المطلوب بها) أي بالكناية (صفة ونسبة معا) لا صفة فقط حتى
يكون من قبيل القسم الثاني ولا نسبة فقط حتى يكون من قبيل القسم الثالث (كما في
قولنا يكثر الرماد في ساحة
عمرو) الساحة هي الفسحة التي بين بيوت الدار وقدام بابها فهذا المثال (كناية
عن نسبة المضيافية اليه) وعن اثباتها له اما الأثبات فلأنا لم تثبت كثرة الرماد لزيد
ولا لما أضيف إليه كما في طويل نجاده حتى تكون النسبة معلومة وإنما اثبتناها في
ساحته لينتقل من ذلك إلى ثبوتها له وأما المضيافية فلأنا لم نصرح بها حتى يكون
المطلوب نفس النسبة بل كنينا عنها بكثرة الرماد.
(قلت ليس هذا
بكناية واحدة بل كنايتان أحديهما المطلوب بها نفس الصفة وهي كثرة الرماد والثانية
المطلوب بها نسبة المضيافية اليه) أي إلى عمرو (وهو جعلها في ساحته ليفيد اثباتها
له) أي لعمرو لاستلزام كثرة الرماد في ساحته ثبوت المضيافية له.
على انه لو جاز
جعل مجموع الكنايتين قسما رابعا وانفتح هذا الباب لصح أن يقال ان ههنا قسما خامسا
وهو الكناية التي بها ثلاثة اشياء اعني الصفة والنسبة والموصوف كقولنا كثر الرماد
في دار العالم حيث دل الشهرة ونحوها على ان المراد بالعالم زيد مثلا فتكون كثرة
الرماد كناية عن الصفة أعني المضيافية لإستلزامها اياها وأثباتها في الدار المضافة
إلى العالم كناية عن النسبة وذكر العالم كناية عن الموصوف.
وليعلم انه قد
علم مما تقرر في القسم الأول من الكناية أعني التي المطلوب بها غير صفة ولا نسبة
إنه لا يتصور فيه إلا ان يكون الموصوف فيه غير مذكور لأنه نفس المطلوب فيجب ان
يكون غير مذكور وإلا لم تكن كناية بل تصريحا (و) اما (الموصوف في هذين القسمين
اعني الثاني) وهو التي يكون المطلوب بها صفة (والثالث) وهو التي يكون المطلوب بها
نسبة فهو (قد يكون) فيهما (مذكورا كما مر) مثالهما في قولنا زيد طويل
نجاده فأن الموصوف بالصفة المطلوبة وهو زيد مذكور وفي قوله أن السماحة
والمروة الخ فان الموصوف بنسبة السماحة والمروة والندى وهو ابن الحشرج مذكور.
(وقد يكون)
الموصوف فيهما (غير مذكور كما يقال في عرض من يؤذي المسلمين المسلم من سلم
المسلمون من لسانه ويده فأنه كناية عن نفي صفة الاسلام عن المؤذي وهو) اي المؤذي (غير
مذكور في الكلام) وجه الكناية فيه ان مدلول الكلام كما تقدم في بحث تعريف المسند
اليه حصر الأسلام فيمن لا يؤذي ولا ينحصر فيه إلا بأنتفائه عن المؤذي فهو من قبيل
الأمير زيد والفرق في الأثبات والنفي فتأمل (وكما تقول في عرض من يشرب الخمر
ويعتقد حلها وانت تريد تكفيره أنا لا اعتقد حل الخمر وهذا كناية عن اثبات صفة
الكفر له) فأن نفى اعتقاد الحل عن نفسه مع تقديم المسند اليه أعني لفظ أنا يدل على
ثبوته لغيره بناء على ما تقدم في بحث تقديم المسند اليه في ما انا قلت (مع انه قد
كنى عن الكفر أيضا بأعتقاد الحل) فيكون في الكلام كنايتان احديهما ثبوت حل الخمر
لغيره والأخرى اعتقاد حل الخمر كناية عن الكفر وسيأتي عنقريب وجه تكرار المثال.
والحاصل أن في
كل واحد من المثالين الموصوف غير مذكور والنسبة في الأول عبارة عن نفي صفة الاسلام
عن المؤذي وفي الثاني اثبات الكفر لمن أعتقد حل الخمر وقد كنى في كلاهما عن الصفة
والنسبة ولم يصرح بهما (ولا يخفى عليك امتناع ان يكون الموصوف غير مذكور عند
الكناية عن الصفة مع التصريح بالنسبة لأن التصريح باثبات الصفة للموصوف أو نفيها
عنه مع عدم ذكر الموصوف محال) ضرورة استحالة نسبة لغير منسوب اليه لأن النسبة فرع
وجود المنسوب اليه (فاذا كان الموصوف غير مذكور كان القسم
الثاني) أي الكناية التي المطلوب بها صفة (مستلزما للثالث) أي للكناية التي
المطلوب بها نسبة.
وبعبارة أخرى
إذا كان الموصوف غير مذكور وكنى عن الصفة فلا بد من أن يكنى عن النسبة أيضا فلا
يجوز التصريح بها (من غير عكس) بمعنى ان الكناية عن النسبة إذا كان الموصوف غير
مذكور لا تستلزم الكناية عن الصفة بل يمكن التصريح بها فالأستلزام من طرف واحد وهو
الكناية عن الصفة (فأفهم) فأنه دقيق فقد علم مما بيناه أن الكناية التي المطلوب
بها صفة ان كانت النسبة مصرحة فلا بد من ذكر الموصوف لفظا كما في قولنا زيد كثير
الرماد أو تقديرا كقولنا كثير الرماد في جواب هل زيد كريم واما مثال عدم ذكر
الموصوف مع عدم التصريح بالنسبة فكقولنا كثر الرماد في هذه الساحة فأن كثرة الرماد
كناية عن صفة المضيافية واثبات الكثرة في الساحة كناية عن نسبة المضيافية إلى صاحب
الساحة وهو غير مذكور والمثال الذي ذكره التفتازاني اعني أنا لا اعتقد حل الخمر من
هذا القبيل وقد مر بيانه وأما المثال الذي ذكره الخطيب فهو أيضا من هذا القبيل إلا
ان المكنى عنه فيه نفي الصفة لا ثبوتها لأن نسبة الصفة يكنى عنها مطلقا سواء كانت
ثبوتية كما في مثال التفتازاني أو سلبية كما في مثال الخطيب فأن النسبة فيه كما
قلنا سلبية اذ هي نفى صفة الأسلام عن المؤذي وهو غير مذكور وأظن قويا ان تكرار
المثال اشار إلى ذلك والمصنف لم يصرح بأن المثال من القسم الثاني أو الثالث لكن
الظاهر انطباقه على كلا القسمين وكذلك مثال التفتازاني فتدبر.
(وعرض الشيء
بالضم) أي بضم العين وزان فقل (ناحيته من أي وجه جئته) اي سواء جئته من يمينه أو
يساره أو من جهة اخرى من جهاته
الست (يقال نظرت اليه عن عرض وعرض أي من جانب وناحية) ففيما نحن فيه لما
كان المعنى المعرض به كنفي صفة الأسلام عن المؤذي في المثال الأول وكأثبات صفة
الكفر لمن يعتقد حل الخمر في المثال الثاني منظورا اليه من ناحية المعنى الذي
إستعمل فيه اللفظ قيل للفظ المستعمل في ذلك المعنى عرض أي تعريض.
(قال السكاكي
الكناية تتفاوت إلى تعريض وتلويح ورمز وإيماء وأشارة وذكر في شرح المفتاح) للرازي (انه
إنما قال) السكاكي (تتفاوت ولم يقل تنقسم لأن التعريض وأمثاله مما ذكر ليس من
اقسام الكناية فقط بل هو أعم) لأن التعريض وأمثاله مما ذكر يوجد في الحقيقة
والمجاز ايضا ولو قال تنقسم لتوهم إنه مختص بالكناية مع انه عامة للحقيقة والمجاز
فلأجل دفع هذا التوهم قال تتفاوت.
(وفيه نظر) من
وجهين الأول ان تعدية التفاوت بالي إنما تصح بتضمينه معنى الأنقسام فلا تتفاوت
الحال سواء يقال تتفاوت أو يقال تنقسم.
الثاني ان
انقسام الشيء الى أقسام بعضها أو كلها اعم من المقسم لا يمتنع بناء على أن يكون
المراد تقسيم ذلك الشيء مقيدا بقيد يصير به أخص من حقيقته إلى ما هو اخص من تلك
الأقسام كما يقسم الحيوان إلى ابيض وأسود أي ابيض واسود بقيد الحيوانية فأن الأبيض
والأسود مقيدا بالحيوانية أخص من الأبيض والأسود المطلقين وبعبارة أخرى ان اقسام
الشيء لا يجب ان تكون اخص منه لصحة أن يكون بعض الأقسام أو كلها بينها وبين المقسم
عموم من وجه كما في تقسيم الأبيض إلى حيوان وغيره والحال أن بين الحيوان والأبيض
عموما من وجه لصدقهما في الحيوان الأبيض واختصاص الحيوان بنحو الفرس الأدهم
واختصاص الأبيض بنحو العاج وكذا غيره وإذا صح أن
يكون قسم الشيء أعم منه فلا مانع حينئذ في التعبير بتنقسم ولا يلزم أن لا
يخرج هذه الأشياء عن الكناية لما عرفت انه يصح ان يكون قسم الشيء أعم منه وما ذكر
الرازي في شرح المفتاح مبنى على ما زعمه من جواز كون القسم أعم من المقسم
والمحققون على خلافه لأن القسم من حيث هو قسم اي مقيد بالمقسم لا يكون إلا اخص
وعمومه إنما هو بأعتبار مطلق ما يصدق عليه القسم مثلا الأبيض من حيث هو قسم من
الحيوان أي مقيد بالحيوانية أخص من الحيوان لوجود الحيوان في الأسود أيضا وعموم
الأبيض إنما هو بأعتبار مطلق ما يصدق عليه من دون تقييده بالحيوانية كالحجر الأبيض
ونحوه من الاجسام المتصفة بالبياض.
(والمناسب
للعرضية التعريض أي الكناية إذا كانت عرضية) أي (مسوقة لأجل موصوف غير مذكور)
حسبما تقدم آنفا في المثالين (كان المناسب ان يطلق عليها اسم التعريض يقال عرضت
لفلان) أي ارتكبت التعريض لأجل إظهار حال فلان فاللام للتعليل (وبفلان) الباء
للسببية أي عرضت بسبب اظهار حال فلان (اذا قلت قولا وأنت تعنيه فكأنك أشرت به إلى
جانب) أي المعنى الأصلي للفظ أي المعنى الحقيقي (وتريد جانبا آخر) اي التعريض
بالغير (ومنه المعاريض في الكلام وهي التورية بالشيء عن الشيء).
قال في المصباح
بعد كلام طويل والمعرض وزان مقود ثوب تجلى فيه الجواري ليلة العرس وهو افخر
الملابس عندهم أو من افخرها ثم قال بعد كلام طويل آخر والمعراض مثل المفتاح سهم لا
ريش له والمعراض التورية وأصله الستر يقال عرفته في معراض كلامه وفي لحن كلامه
وفحوى كلامه بمعنى قال في البارع وعرضت له وعرضت به تعريضا إذا قلت قولا وانت
تعنيه فالتعريض خلاف التصريح من القول كما اذا سئلت رجلا هل رأيت فلانا وقد
رأه ويكره ان يكذب فيقول ان فلانا ليرى فيجعل كلامه معراضا فرارا من الكذب وهذا
معنى المعاريض في الكلام ومنه قولهم ان في المعاريض لمندوحة عن الكذب ويقال عرفته
في معرض كلامه بحذف الألف.
قال بعض
العلماء هذا استعارة في المعرض وهو الثوب الذي تجلى فيه الجواري وكأنه قيل في
هيئته وزيه وقالبه وهذا لا يطرد في جميع اساليب الكلام فانه لا يحسن ان يقال ذلك
في مواضع السب والشتم بل يقبح ان يستعار ثوب الزينة التي هو احسن هيئة للشتم الذي
هو اقبح هيئة فالوجه ان يقال معرض مقصور من معراض الى ان قال والعرض وزان قفل
الناحية والجانب انتهى محل الحاجة من كلامه.
(وقال صاحب
الكشاف الكناية ان تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له والتعريض ان تذكر شيئا تدل به
على شيء) آخر (لم تذكره كما يقال المحتاج للمحتاج اليه جئتك لاسلم عليك فكأنه امال
الكلام الى عرض يدل على المقصود) وبعبارة اخرى الكناية هو اللفظ المستعمل في غير
ما وضع له اي في اللازم مع جواز ارادة معناه الموضوع ذلك اللفظ له أعني الملزوم
والتعريض ان يفهم من اللفظ معنى بالسياق والقرائن من غير ان يقصد استعمال اللفظ
فيه اصلا ولذلك يكون لفظ التعريض كما يأتي عن قريب تارة حقيقة وتارة يكون مجازا
وتارة يكون كناية.
(ويسمى) هذا
القسم من الكناية (التلويح) ايضا (لانه) أي المتكلم بهذا القسم كالمحتاج مثلا
ويحتمل ان يكون الضمير للشأن (يلوح منه) اي من هذا القسم (ما يريده) المتكلم.
(وقال ابن
الاثير في المثل السائر الكناية ما يدل على معنى يجوز
حمله على جانبي الحقيقة والمجاز بوصف جامع بينهما) كما في زيد كثير الرماد
فانه يجوز حمل هذا الكلام على معناه الحقيقي وهو اثبات كثرة الرماد حقيقة ويجوز
حمله ايضا على معناه المجازي اعني اثبات الجود له.
(وتكون)
الكناية (في المفرد) كما في كثير الرماد ونحوه فانه مفرد (و) في (المركب) كما في
المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه وكقول المحتاج جئت لاسلم عليك (والتعريض هو
اللفظ الدال على معنى) قصده المتكلم اي المعنى المعرض به (لا من جهة الوضع الحقيقي
او المجازي بل من جهة التلويح والاشارة فيختص باللفظ المركب) وجه الاختصاص باللفظ
المركب ان تلك الدلالة لما لم تكن من جهة الوضع الحقيقي والمجازي لا بد من ان يكون
بالسياق والسياق عبارة عن دلالة الكلام على معنى بطريق الاشارة الذوقية (كقول من
يتوقع صلة والله اني محتاج فانه تعريض بالطلب مع انه) اي هذا القول الذي يقول
المتوقع (لم يؤضع له) اي للتعريض بالطلب (حقيقة ولا مجازا وانما فهم منه المعنى)
المعرض به اي الطلب (من عرض اللفظ اي من جانبه) وليعلم انه ليس المراد من الجانب
الجانب الحسي بل المراد الجانب العقلي وليعلم انه يسمى التعريض بالفارسية كوشه
زدن.
(ولغيرها اي
والمناسب لغير العرضية ان كثرت الوسائط بين اللازم) الذي استعمل لفظه والملزوم)
الذي اطلق اللفظ عليه كناية وانما فسرنا اللازم والملزوم على اصطلاح السكاكي لان
اصل الكلام له (كما في كثير الرماد) المستعمل في المضيافية فان بينهما وسائط كثيرة
وهي الاحراق وكثرة الطبائخ وكثرة الاكلة وكثرة الاضياف (و) كما في (جبان الكلب)
المستعمل في المضيافية ايضا فان بينهما عدم جرئة الكلب وانس الكلب بالناس وكثرة
مخالطة الواردين وكثرة الاضياف (و) كما في (مهزول الفصيل) المستعمل في
المضيافية أيضا فان بينهما عدم اللبن وموت الأم واطعام لحمها وكثرة طاعميه وكثرة
الأضياف (التلويح) وإنما سميت به الكناية الكثيرة الوسائط (لان التلويح) في الاصل
اي في اللغة (هو ان تشير إلى غيرك من بعد) وكثرة الوسائط بعيدة الادراك فالمناسبة
بين المعنى اللغوي والأصطلاحي حاصلة.
(والمناسب
لغيرها) أي لغير العريضة (ان قلت الوسائط) المراد بقلة الوسائط ان لا تكون كثيرة
وهذا صادق بانعدامها رأسا وبوجودها مع القلة وهذا التعميم انما هو لما ثبت في
المنطق من ان السالبة تصدق بانتفاء الموضوع ايضا فلا يرد انه قد تقدم ان المثال
الاول من المثالين الآتيين كناية عن عريض الوسادة مما ليس له واسطة فضلا عن ان
يكون قليلة او كثيرة (مع خفاء في اللزوم) بين المستعمل فيه والمعنى الأصلي (كعريض
القفا وعريض الوسادة) المثال الأول كناية عن عريض الوسادة ولا واسطة فيها والثاني
عن الأبله بواسطة عريض القفا (الرمز) وانما سميت هذه الكناية رمزا (لان الرمز) في
اللغة (ان تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية لانه الاشارة بالشفة والحاجب)
والأشارة بهما تكون عند قصد الاخفاء.
(والمناسب
لغيرها) اي لغير العريضة (ان قلت الوسائط بلا خفاء كما في قوله :
او ما رأيت
المجد القى رحله
|
|
في ال طلحة
ثم لم يتحول
|
وجه كون
الوسائط فيه قليلة من غير خفاء ان القاء المجد رحله في آل طلحة مع عدم التحول هذا
معنى مجازي اذ لا رحل للمجد ولكن شبه برجل
شريف له رحل يخص بنزوله من شاء ووجه الشبه الرغبة في الاتصال بكل واضمر التشبيه
في النفس على طريق الاستعارة بالكناية واستعمل معه ما هو من لوازم المشبه به وهو
القاء الرحل اي الخيمة والمنزل تخييلا ولما جعل المجد ملقيا رحله في آل طلحة بلا
تحول لزم من ذلك كون محله وموصوفه آل طلحة لعدم وجدان غيرهم معهم وذلك بواسطة ان
المجد ولو شبه بذي الرحل هو صفة لا بد له من موصوف ومحل وهذه الواسطة لا خفاء فيها
لانها بينة بنفسها فكانت الكناية ظاهرة والواسطة واحدة فقد قلت الوسائط مع الظهور
وعدم الخفاء فالمناسب ان يطلق عليها (الايماء والاشارة) لان اصل الايماء والأشارة
ان تكونا حسية وهي ظاهرة فتدبر جيدا.
(ثم قال
السكاكي والتعريض قد يكون مجازا كقولك اذيتني فستعرف وانت تريد) بتاء الخطاب (انسانا
مع المخاطب) اي تريد تهديد ذلك الانسان وتخويفه وحده فصارت تاء الخطاب غير مستعمل
في معناها الحقيقي الذي هو المخاطب فكان هذا مجازا (دونه اي لا تريد المخاطب) وذلك
كما سيصرح بان تقوم قرينة على عدم صحة ارادة المعنى الحقيقي ومن هذا القبيل قوله
تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) والياء في قوله تعالى (وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقد تقدم بيان ذلك في الباب الثالث.
(وان اردتهما
اي المخاطب وانسانا آخر معه جميعا) حيث لم تقم قرينة على عدم صحة المعنى الحقيقي
بل قامت على ارادة الحقيقي (كان كناية لانك اردت باللفظ المعنى الاصلي) اي الحقيقي
(وغيره معا) وذلك لانه قد تقدم في اول بحث الكناية انها في الاصطلاح لفظ اريد به
لازم معناه مع جواز ارادته معه (و) قد تقدم ايضا في اول بحث المجاز ان (المجاز
ينافي ارادة المعنى الاصلي) اي المعنى الحقيقي.
(ولا بد فيهما
اي في الصورتين) اي في صورة كون التعرض مجازا وفي صورة كونه كناية (من قرينة دالة
على ان المراد في الصورة الاولى هو الانسان الذي مع المخاطب وحده لتكون مجازا وفي)
الصورة (الثانية كلاهما جميعا لتكون كناية) فالفارق بين الصورتين القرينة كغيرهما
مما يحتمل الوجهين او الوجوه.
(وههنا بحث وهو
ان المذكور في المفتاح ليس هو ان التعريض قد يكون مجازا وقد يكون كناية بل)
المذكور في المفتاح (انه) أي التعريض (قد يكون على سبيل المجاز وقد يكون على سبيل
الكناية) أي ليس التعريض مجازا حقيقة ولا كناية (و) من هنا (قال الشارح العلامة)
الشيرازي (معناه) أي معنى ما ذكر في المفتاح (ان عبارة التعريض) أي اللفظ الذي
يستعمل في التعريض (قد تكون مشابهة للمجاز كما في الصورة الأولى فأنها تشبه المجاز
من جهة استعمال تاء الخطاب) في قولك اذ يتبنى فستعرف وكذلك في قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ) وكذلك الياء قوله تعالى (وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (فيما هي غير موضوعنا له وليس بمجاز اذ لا يتصور فيه لازم وملزوم وانتقال
من ملزوم إلى لازم) كما هو الشأن في المجاز (وقد تكون) عبارة التعريض (مشابهة
للكناية كما في الصورة الثانية فأنها تشبه الكناية من جهة إستعمال اللفظ فيما هو
موضوع له مرادا منه غير الموضوع له وليس بكناية إذ لا يتصور فيه لازم وملزوم
وانتقال من احدهما الى الآخر) كما هو الشأن في الكناية.
(وفيه) أي فيما
قاله الشارح العلامة من كون عبارة التعريض مشابها للمجاز أو الكناية لا مجازا ولا
كناية (نظر) ظاهر (لأن هذا) الذي قاله
الشارح العلامة (مذهب لم يذهب اليه أحد بل أمر لا يقبله عقل) سليم وفهم
مستقيم (لأنه يؤدي الى أن يكون كلام يدل على معنى دلالة صحيحة من غير ان يكون
حقيقة في ذلك المعنى ولا مجازا ولا كناية) وهذا باطل جزما لانحصار اللفظ المستعمل
في هذه الاقسام الثلاثة (بل الحق أن الأول) وهو أن تريد بتاء الخطاب انسانا مع
المخاطب دونه (مجاز والثاني) وهو أن تريد بتاء الخطاب كليهما (كناية كما صرح به
المصنف وهو الذي قصده السكاكي وتحقيقه ان قولنا اذ يتنى فستعرف كلام دال على معنى
يقصد به تهديد المخاطب بسبب الايذاء ويلزم منه التهديد بالنسبة الى كل من صدر منه
الأيذاء فأن استعملته وأردت به تهديد المخاطب وغيره من المؤذين كان كناية) أورد
عليه ان مبنى الكناية عند الجمهور على الأنتقال من اللازم الى الملزوم وفيما نحن
فيه الأمر بالعكس على ما يدل عليه قوله ويلزم منه التهديد الى كل من صدر منه
الأيذاء فتأمل (وان اردت به تهديد غير المخاطب بسبب الأيذاء بعلاقة اشتراكه
للمخاطب في الأيذاء اما تحقيقا وأما فرضا وتقديرا كان مجازا) لأنه ينتقل من
المخاطب المؤذي الى المؤذي المطلق ثم منه إلى المؤذي المعين كما في رأيت اسدا يرمي
ينتقل من الاسد الى مطلق الشجاع ثم منه إلى الشجاع المعين (والله اعلم) بحقايق
الأمور.
فصل
يتكلم فيه على
ابلغية المجاز والكناية وأفضليتهما على الحقيقة في الجملة (اطبق) اي اتفق (البلغاء)
العالمون بالأصطلاحات وغيرهم من البلغاء بالسليقة فأنهم وإن لم يكونوا عالمين بلفظ
المجاز والحقيقة والكناية والاستعارة
والتشبيه ونحوها لكنهم عالمون بمعانيها فكلهم متفقون (على ان المجاز
والكناية ابلغ من الحقيقة والتصريح) لف ونشر مرتب فقوله من الحقيقة راجع إلى
المجاز والتصريح راجع الى الكناية هذا ولكن أورد في المقام أن أبلغ ان كان مأخوذا
من بلغ بضم اللام بلاغة ففيه أن البلاغة لا يوصف بها المفرد والكناية كلمة مفردة
والمجاز قد يكون كلمة وأيضا الحال والمقام ان اقتضى الحقيقة كانت البلاغة في
الأتيان بها ولا عبرة بغيرها من كناية أو مجاز وإن اقتضى المجاز أو الكناية كانت
البلاغة في الاتيان بما ذكر ولا عبرة بالحقيقة وإن كان مأخوذا من بالغ مبالغة ففيه
ان أفعل التفضيل لا يصاغ من غير الثلاثي المجرد وقد يجاب بأختيار الأول وإن المراد
البلاغة اللغوية وهي الحسن فقوله ابلغ من الحقيقة أي افضل وأحسن منها ويصح إرادة
الثاني بناء على ما ذهب اليه بعض النحاة من تجويز صوغ افعل التفصيل من غير الثلاثي
والمعنى حينئذ أكثر مبالغة في اثبات المقصود.
(لأن الأنتقال
فيهما) أي في المجاز والكناية (من الملزوم الى اللازم) فلا يفهم المعنى المراد من
نفس اللفظ بل بواسطة الانتقال المذكور أما في المجاز فظاهر إنه لا يفهم الرجل
الشجاع من نفس قولك رأيت اسدا يرمي بل بواسطة الأنتقال من الحيوان المفترس إلى
لازمه وهو الشجاع وأما في الكناية فلان اللازم الذي قيل ان الأنتقال فيها منه الى
الملزوم قد تقدم في أوائل بحث الكناية إنه ما دام غير ملزوم لا يمكن الأنتقال منه
فصح ان الأنتقال فيها أيضا من الملزوم فالمراد بالملزوم بالنسبة لها الملزوم في
الذهن وإن كان لازما في الخارج.
(فهو كدعوى الشيء
ببينة) وبرها (فأن وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم لأمتناع انفكاك الملزوم من
اللازم وهذا ظاهر) في نحو رأيت أسدا
يرمي اعني فيما استعمل اللفظ الموضوع للملزوم في اللازم وإن كان الملازمة
بسبب علاقة الجزء والكل (وإنما الاشكال في بيان اللزوم في ساير انواع المجاز) وقد
تقدم دفعه في أوائل بحث المجاز في المفرد عند قول التفتازاني مشيرا إلى الاشكال
بقوله فأن قلت قد ذكر في مقدمة هذا الفن ان مبنى المجاز على الإنتقال من الملزوم
الى اللازم وبعض أنواع العلاقة بل أكثرها لا يفيد اللزوم فكيف ذلك فراجع ان شئت.
فتحصل من جميع
ما ذكرنا أن اللازم المنتقل اليه من الملزوم كالشيء المدعي ثبوته المصاحب للبنية
اي الدليل والبرهان بخلاف الحقيقة والتصريح فأن كلا منهما دعوى مجردة عن الدليل
والبرهان فاذا قلت فلان كثير الرماد كأنك قلت فلان جواد لأنه كثير الرماد واذا قلت
رأيت أسدا يرمي فكأنك قلت رايت شجاعا يرمي لأنه كالاسد.
ويحتمل أن يراد
بالبينة ما هو المصطلح عند الفقهاء اعني الشاهدين وعلى هذا وجه كون المجاز
والكناية كالدعوى بالبينة ان ثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم لما تقدم آنفا من
امتناع انفكاك الملزوم عن اللازم فصار ثبوت الملزوم مشعرا بثبوت اللازم والقرينة
مشعرة به أيضا فصار كأنه ثبت مرتين مثل الدعوى التي اثبتت بشاهدين من جهة أن في كل
تأكيد الأثبات.
وإنما قال
كدعوى ولم يقل نفس الدعوى بالبينة للعلم بأن الملزوم في المجاز لم يسبق ليستدل به
على ثبوت اللازم وقد ثبت في محله ان كون شيء دليلا متوقف على سبق الدعوى فتبصر.
(واطبقوا) يعني
البلغاء بالمعنى المتقدم (أيضا على ان الاستعارة التحقيقية والتمثيلية) وقد تقدم
المراد بهما في بحث الاستعارة فتذكر (أبلغ من التشبيه لأنها) أي الاستعارة (نوع من
المجاز وقد علم) آنفا (أن
المجاز ابلغ من الحقيقة) والتشبيه حقيقة ومن البديهي ان ما كان من نوع
الابلغ يلزم ان يكون ابلغ مما يكون من نوع غير الابلغ فالمقام من قبيل ذكر الخاص
بعد العام والنكتة فيه الأهتمام بشأن الاستعارة لما فيها من ادعاء كون المعنى
المجازي فردا غير متعارف للمعنى الحقيقي حسبما تقدم في أوائل بحث الاستعارة وكون
المقابل لها حقيقة مخصوصة وهي التشبيه.
(وإنما قيدنا
الاستعارة بالتحقيقية والتمثيلية لأن) الاستعارة (التخييلية والمكنى عنها ليستا من
أنواع المجاز) اللغوي على مذهب الخطيب وقد تقدم بيان ذلك في فصل تحقيق معنى هاتين
الاستعارتين فراجع ان شئت.
أعلم ان للشيخ
عبد القاهر ههنا كلاما فيه اجمال ما ففهمه الخطيب على وجه فأعترضه ثم أجاب ورد
عليه التفتازاني فحمل كلام الشيخ على وجه آخر وإلى مجموع ما ذكرنا أشار فقال (قال
الشيخ عبد القاهر وليس السبب في كون المجاز والاستعارة والكناية أبلغ ان واحدا من
هذه الأمور) ألثلاثة (يفيد زيادة في نفس المعنى) أي الزيادة في مساواة الرجل للأسد
في الشجاعة مثلا (لا يفيدها) أي الزيادة (خلافه) اي خلاف كل واحد من هذه الأمور
الثلاثة اعني الحقيقة والتشبيه والتصريح (بل لأنه) أي كل واحد من هذه الأمور
الثلاثة اعني المجاز والاستعارة والكناية (يفيد تأكيدا لأثبات المعنى) المراد وهو
مساواة الرجل للأسد في الشجاعة والمراد من التأكيد ما تقدم آنفا من أن الانتقال في
كل منها من ملزوم الى لازم فيكون كدعوى الشيء ببينة وبرهان حسبما بيناه (لا يفيد)
ذلك التأكيد (خلافه) يعني الحقيقة والتشبيه والتصريح (فليست مزية) أي فضيلة (قولنا
رأيت اسدا) يرمي الذي هذا استعارة (على قولنا رأيت رجلا هو والأسد سواء في الشجاعة
الذي هذا تشبيه (أن الاول) خبر ليست والمراد بالأول رأيت اسدا يرمي
(افاد زيادة في مساواته) أي الرجل (للأسد في الشجاعة لم يفدنا الثاني) يعني
رأيت رجلا هو والأسد سواء في الشجاعة.
والحاصل انه
ليست مزية التركيب الأول المشتمل على الاستعارة على التركيب الثاني المشتمل على
التشبيه ان الأول أفاد زيادة في مساواة الرجل للأسد في الشجاعة لم يفدها الثاني بل
كل واحد من التركيبين إنما أفاد مساواة الرجل للأسد في الشجاعة ولم يفد أحدهما
زيادة على المساواة المذكور.
(بل الفضيلة هي
ان الاول أفاد تأكيدا لأثبات تلك المساواة له) أي للرجل (لم يفده الثاني) فالفرق
بين التركيبين إنما هو في التأكيد وعدمه لا في زيادة نفس المعنى المراد ونقصه.
(و) كذلك (ليست
فضيلة قولنا كثير الرماد) الذي هو كناية (على قولنا كثير القرى) الذي هو تصريح (ان
الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني بل هي) أي الفضيلة (أن الأول افاد تأكيدا
لأثبات كثرة القرى له لم يفدها الثاني) الى هنا كان كلام الشيخ (واعترض) عليه (المصنف)
في الايضاح (بأن الاستعارة أصلها التشبيه و) قد تقدم في بحث التشبيه أن (الأصل في
وجه الشبه ان يكون في المشبه به أتم منه) اي من وجه الشبه (في المشبه واظهر فقولنا
رأيت اسدا يفيد للمرء شجاعة اتم مما يفيدها قولنا رأيت رجلا كالأسد لأن الاول يفيد
له) أي للمرء (شجاعة الأسد والثاني يفيده) أي المرء (شجاعة دون) أي اقل وانزل من (شجاعة
الاسد فكيف يصح القول بأن ليس واحد من هذه الامور يفيد زيادة في نفس المعنى لا
يفيده خلافه ثم أجاب) المصنف عن الاعتراض (بأن مراد الشيخ أن السبب) في كون المجاز
والاستعارة والكناية أبلغ (في كل صورة من
صور كل واحد من هذه الثلاثة (ليس هو) أي السبب (ذلك) الذي ذكر اعني افادة
زيادة في نفس المعنى لا يفيدها خلافه.
وبعبارة أخرى
مراد الشيخ رفع الايجاب الكلي أي السالبة الجزئية نظير قولنا ليس كل عالم عادل (وليس
المراد أن ذلك) المذكور من افادة زيادة في نفس المعنى (ليس بسبب في شيء من الصور)
التي لكل واحد من هذه الثلاثة.
وبعبارة أخرى
ليس مراد الشيخ السالبة الكلية حتى يرد عليه الاعتراض بأن قولنا رأيت اسدا يفيد
للمرء شجاعة اتم مما يفيدها قولنا رأيت رجلا كالأسد فأذا ثبت ان مراد الشيخ رفع
الايجاب الكلي أي السالبة الجزئية وقد ثبت في محله إنها تصدق مع الايجاب الجزئي (فهذا)
أي كون السبب في الابلغية افادة زيادة في نفس المعنى (يتحقق) في المثال الذي ذكره
المصنف في الأعتراض اي (في قولنا رأيت اسدا بالنسبة إلى قولنا رأيت (رجلا كالأسد)
وذلك لأن السامع لما سمع في المثال الاول لفظ الاسد وانتقل بالقرينة الى اللازم
الذي هو الرجل الشجاع على ما تقدم بيانه واستشعر انه عبر بأسم الأسد عن هذا الرجل
فيستشعر انه بولغ في التشبيه حتى سوى بينهما بواسطة الادعاء وصيرا من جنس واحد
بحيث يشملهما الاسم على ما تقدم في أوائل بحيث الاستعارة ففهم من ذلك مساواتهما
عند المتكلم في الشجاعة الجامعة لهما ففي الاستعارة مبالغة في التسوية أفادها
التعبير عن المشبه بلفظ المشبه به لان ذلك يشعر باتحادهما وكونهما شيئا واحدا وهذه
المبالغة لا توجد في الحقيقة التي هي التشبيه اعني المثال الثاني فالمبالغة
والزيادة في نفس المعنى يتحقق في الاستعارة بالنسبة الى بعض صور التشبيه وهو قولنا
رأيت رجلا كالاسد (لا بالنسبة الى) بعض آخر وهو (قولنا
رأيت رجلا مساويا للاسد او زائدا عليه في الشجاعة) فسبب الابلغية بالنسبة
اليه انما هو الامر العام وهو ما في كل واحد من الثلاثة أعني تأكيد الاثبات.
فتحصل من جميع
ما ذكرنا ان مراد الشيخ انه ليس السبب افادة الزيادة اي الدلالة عليها في كل مورد
ودائما بل انما يكون سبب الابلغية في الاستعارة مع التشبيه واما مع غيره فالسبب
انما هو الامر العام وهو ما في كل من تأكيد الاثبات الحاصل من الانتقال من اللازم
الى الملزوم حسبما مر بيانه هذا كله في الاستعارة.
(و) كذلك
الكلام في الكناية فانه (لا يتحقق) ذلك السبب الخاص (ايضا في كثير الرماد وكثير
القرى ونحو ذلك) من الكنايات.
(وهذا) اي
الاعتراض وجوابه (وهم) اي إشتباه إن قرء بسكون الهاء او غلط ان قرء بفتحها وسيصرح
التفتازاني بالثاني (من المصنف بل معنى كلام الشيخ ان شيئا من هذه العبارات لا
يوجب ان يحصل له) اي للرجل (في الواقع زيادة في المعنى) الذي اراد المتكلم إثباته
للرجل كالشجاعة فيما نحن فيه (مثلا اذا قلت رأيت اسدا فهو لا يوجب ان يحصل لزيد في
الواقع زيادة شجاعة لا يوجبها قولنا رأيت رجلا كالاسد) وان كان الدلالة في الأول
بسبب الانتقال الذي تقدم بيانه وفي الثاني بسبب الحقيقة والتصريح.
والحاصل ان
المعنى المراد وهو اثبات الشجاعة لزيد مثلا لا يتغير سواء عبر بالاستعارة او
بالتشبيه او بغيرهما من انحاء الالفاظ والعبارات (وهذا كما ذكره الشيخ من ان الخبر)
اي الكلام الخبري (لا يدل على ثبوت المعنى او نفيه مع انا قاطعون بان المفهوم من
الخبر ان هذا الحكم ثابت) وذلك اذا كان الكلام ثبوتيا كقولنا زيد قائم (او متفي)
وذلك إذا كان الكلام سلبيا كقولنا ما زيد بقائم (وقد بينا ذلك في) أوائل (بحث
الاسناد الخبري) وقد اوضحناه نحن هناك بما يقتضيه المقام فراجع ان شئت.
(والدليل على
ما ذكرنا) من معنى كلام الشيخ (انه) اي الشيخ (قال فان قيل مزية قولنا رأيت اسدا)
وهو استعارة (على قولنا رأيت رجلا مساويا للاسد في الشجاعة) وهو تشبيه (ان
المساواة في الاول تعلم من طريق اللفظ) اي لفظ الاسد حيث عبر به عن المشبه لينتقل
به الى الشجاعة على ما بيناه آنفا مستقصى (وفي الثاني من طريق المعنى) الذي يدل
عليه مجموع الالفاظ لغة.
(قلنا لا يتغير
حال المعنى) المراد (في نفسه بان يكنى عنه بمعنى آخر و) بعبارة اخرى (لا يتغير
معنى كثرة القرى) الذي هو المضيافية (بان يكنى عنه) اي عن هذا المعنى الذي هو
المضيافية (فهكذا لا يتغير معنى مساواة الاسد) والشجاعة (بان يدل عليه) اي على هذا
المعنى الذي هو مساواة الاسد والشجاعة (وهذا) الذي قاله الشيخ (صريح في ان مراده
ما ذكرنا) لا ما فهمه المصنف (لكن المصنف كثيرا ما يغلط في استنباط المعاني من
عبارات الشيخ لافتقارها) اي العبارات (إلى تأمل) وامعان نظر (والله اعلم) بحقائق
الاشياء وما يراد من العبارات لانها قد تكون بطريق الرمز والاشارات (هذا آخر
الكلام في علم البيان والله المشكور على نواله) اي عطائه (وهو المسؤول) والمفتقر
اليه (لاتمام القسم الثالث) اي علم البديع (بالنبي وآله) الاطهار عليهم الصلواة
والسّلام في الليل والنهار.
قد تم بعون
الله وحسن توفيقه ما اردته من شرح الفن الثاني فشرحته
شرحا ينشر مطويات رموزه واشاراته ويظهر مخفيات كنوزه وعباراته بحيث يهدي
الى سواء السبيل ويخلو عن الاختصار المخل والتطويل الممل وضمنته جميع ما يحتاج
اليه من تبيين ما فيه اوله او عليه واوردت ما ادى اليه نظري القاصر وسنح لخاطري
الفاتر وجنحت في حل بعضها للنقل من الاساطين والفحول مخافة ما عليه نواقص العقول
من معرفة الحق بالرجال خلافا لما قاله ولي ذي الجلال عليه صلوات الملك المتعال
انظر الى ما قيل ولا تنظر إلى من قال :
تو بگوينده
سخن منگر
|
|
تو سخن را
نگر كه حالش چيست
|
وارجو من اعيان
اذكياء اهل العلم والتقى ان ينظروا فيه بعين الرضا والانصاف وان لا يبادروا الى
الانكار والأعتساف قبل دقة النظر والأستكشاف وكان الفراغ في يوم الثلاثاء الثالث
والشرين من ذي القعدة الحرام من شهور سنة الف وثلاثمائة وواحد وتسعين في جوار
مولانا ومولى الكؤنين علي امير المؤمنين عليهم صلوات المصلين وانا افقر العباد
وأحوجهم محمد علي المدرس الافغاني بن المرحوم مراد علي الجاغوري مولدا وللغروي
مسكنا ومدفنا إن شاء الله والحمد لله اولا وآخرا.
|