الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيمِ

( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [ غافر : ٦٠ ].


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


كلمة المجلة

لقد مرت الامة الاسلامية بفترات حرجة من تأريخها ، ولعبت العوامل السياسية دورها البارز في إضفاء طابع الفئات الحاكمة وبصماتها علیٰ مسيرة الاحداث ، فكان نتيجة ذلك أن طفت علیٰ السطح معالم وطمست معالم اُخریٰ.

ولا يخفیٰ علیٰ متتبع في مسيرة الاحداث وتاريخ المسلمين بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدوين الحديث كان ممنوعاً ، واستمر المنع سنوات طويلة ، ولولا جهود أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، لضاع الكثير من الاحاديث واندرست معالم جانب كبير ومهم من الشريعة ، وقد حاول البعض تبرير وتسويغ أمر المنع بعلل لا تصمد أمام محكّ الواقع الذي يفرض نفسه ، والذي أثبت أن الأمة بأمس الحاجة إلیٰ من يفهم القران الكريم حق فهمه تفسيراً وتأويلا. وليس من أحد يستطيع الادعاء بأنه أهل للقيام بهذه المهمة إلّا من اختصهم الله واجتباهم ، وهو أهل البيت النبوي الكريم الراسخون في العلم وأهل الذكر كما صرّح الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك في معرض تفسيره لقوله تعالیٰ : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ).

ولقد تصدّیٰ أهل البيت عليهم‌السلام لتبيان حقائق القران الكريم ونشر علوم الشريعة الحقة ، فحفظوا بذلك للامة الاسلامية تراثها من الضياع ، ورسموا معالم المنهج الالهي الاصيل الذي أرسیٰ دعائمه رسول الانسانية قولاً وعملاً.

ولم يترك المناوئون لأهل البيت سانحة ، فقد عملوا جهدهم ، وبذلوا ما في وسعهم لإطفاء هذه الشعلة الوهاجة بكل ما يتسنیٰ لهم من الوسائل ، تارة بالقضاء مباشرة علیٰ مصدر الاشعاع ، وتارة بتحريف وتزوير معالمه وآثاره.

ومع كل ما تعرض له أهل البيت عليهم‌السلام علیٰ امتداد مسيرة حياتهم الشريفة


من اضطهاد وارهاب وتشريد وقتل ، فقد شاءت الارادة الربانية أن يبقیٰ هذا التراث الجليل محفوظاً ، مصداقاً لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ولن يفترقا حتیٰ يردا عليّ الحوض ». فکما أن القران هو الدستور الخالد للأمة الاسلامية بنص قوله تعالیٰ : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) فكذلك العترة الطاهرة ، ستبقیٰ خالدة مع خلود القرآن ، خالدة بوجودها الشريف ، متمثلة ببقية الله في أرضه الامام المهدي عليه‌السلام ، وخالدة بآثارها ومعالم مدرستها الأصيلة ، التي هي امتداد الرسالة المحمدية الخالدة.

وليس العمل علیٰ نشر معالم هذه المدرسة الشريفة إلّا عملاً علیٰ احياء رسالة السماء والنهوض بالشريعة الاسلامية إلیٰ تحقيق أهدافها في الوصول بالامة الیٰ شاطئ النجاة وسعادة الدارين « ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ابدا ».

فلقد كانت مسيرتهم الطاهرة نبراساً يضيء للامة طريقها في جميع مناحي الحياة علماً وفكراً وسلوكاً وجهاداً ومواقف وإباء ، ورفضاً لجميع أشكال الهيمنة والاستعباد والانحراف عن الصراط القويم الذي أمر الله تعالیٰ عباده أن ينهجوه بقوله تعالیٰ : ( وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ).

وانطلاقاً من وصية الامام الرضا عليه‌السلام لأتباع أهل البيت عليهم‌السلام في قوله : « رحم الله عبداً أحيا أمرنا ، قيل : وكيف يُحيا أمركم ؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا » ، أخذت مجلة رسالة الثقلين علیٰ عاتقها القيام بهذه المسؤولية الفخمة بإحيائها للمعارف الاسلامية من منبعها الحقيقي منبع الثقلين ، ودفاعها عن حريم القران الكريم وسنة الرسول الشريفة ، وخط أهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام بنشرها علیٰ صفحاتها بعض الابحاث المسلسلة ذات الموضوع أو العنوان الواحد ، والتي تصب في هذا المجال ، وتؤدي الدور الاساس في هذا المضمار.


ونظراً لأهمية هذه الابحاث ، وقيام كتابها بمراجعتها وتنقيحها وإكمالها بما يجعلها قابلة لاخراجها علیٰ شكل كتب متكاملة في مواضيعها ، فقد شرعت مجلة « رسالة الثقلين » بإصدار سلسلة کتب تحت عنوان « کتاب الثقلين » مفتتحة عملها المبارك بإصدار الكتاب الاول من هذه السلسلة وهو الكتاب الموسوم بـ « الدعاء عند أهل البيت عليهم‌السلام » لسماحة العلامة الشيخ محمد مهدي الآصفي ، الذي أوضح فيه حقيقة الدعاء وأنه روح العبادة وجوهرها ، وهو مفتاح الرحمة ، لأنه إقبال علیٰ الله ، فهو يشدّ الإنسان إلیٰ خالقه ، ويجعل ارتباطه به وثيقاً.

وليس في العبادات عبادة تقرب العبد إلیٰ الله أكثر من الدعاء ، وان فقر الانسان وحاجته يلجئانه إلیٰ الله ويزيدانه إقبالاً عليه ، فالدعاء من أهم الابواب والقنوات التي جعلها الله تعالیٰ لورود عباده عليه والارتباط به ، إذ إن قنوات الارتباط به تعالیٰ كثيرة منها : التوبة والاستغفار ، والخوف والخشية ، والحب والشوق ، والرجاء والشكر. والاعراض عن الدعاء إعراض عن الله تعالیٰ واستكبار عن عبادته ، قال تعالیٰ : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ).

وانما يستعين الانسان علیٰ قضاء حوائجه الدنيوية والاخروية بالدعاء والابتهال والتضرّع إلیٰ الله سبحانه. وإن بين الدعاء والاستجابة علاقة متبادلة ، وأي علاقة أفضل من أن يقبل العبد علیٰ ربه بالحاجة والطلب والسؤال ، ويقبل الله تعالیٰ علیٰ عبده بالاجابة ويخصه بها ؟

وللدعاء آداب وشروط ينبغي للعبد أن يلتزم بها ولا يتخطاها ، كما أن للاستجابة معوقات وعقبات وموانع وهي الذنوب التي تنغلق بها القلوب ، ويفقد الانسان معها حلاوة الذكر.

ولقد كان لأئمة أهل البيت دورهم الريادي في إرساء قواعد الدعاء ، وتبيان


أثره الكبير والعميق في سلوك العبد تجاه نفسه وتجاه مجتمعه وخالقه ، ولم يترك أهل البيت عليهم‌السلام باباً من ابواب حياة الانسان إلّا ووضعوا له من الدعاء ما يختص به ، حيث عملوا علیٰ شد الانسان بخالقه في جميع تصرفاته ، في أي وقت كان وأينما حلّ.

والكتاب الذي بين أيدينا سياحة في رياض الدعاء ، وكشف لأسرار مروجه الزاهرة الخضراء ، من خلال ما وضعه أهل البيت عليهم‌السلام من أدعية ومناجاة تسمو بالعبد إلیٰ قمة الخضوع والخشوع والذوبان في الساحة الالهية المقدسة. وقد ابدع الكاتب فيه إذ سلّط الاضواء علیٰ جوانب وزوايا قلّما تناولتها اقلام علمائنا الابرار بهذا التفصيل والبيان ، خصوصاً في باب الحب الالهي في ادعية اهل البيت عليهم‌السلام. ونترك لقرائنا الافاضل أمر التجوال في فصوله وفقراته ليلمسوا هذه القيمة ويتفاعلوا معها علیٰ طريق رحلة العبودية لله وفي رحاب حبه ورحمته.

هيئة التحرير مجلة رسالة الثقلين


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي




( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (١).

الدعاء اقبال العبد علی الله ، والاقبال علیٰ الله هو روح العبادة ، والعبادة هي الغاية من خلق الانسان.

هذه النقاط الثلاثة تستطيع ان تجسد قيمة الدعاء وتوضح لنا حقيقته ولنبدأ بالنقطة الاخيرة ، ومنها نتدرج إلیٰ الثانية ثم الاولیٰ.

إن القران الكريم صريح وواضح في أن العبادة هي الغاية من خلق الانسان. يقول تعالیٰ :

( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) وهذه هي الحقيقة الاولیٰ ، وهي ذات اهمية كبيرة في هذا الدين.

وقيمة العبادة أنها تشد الانسان إلیٰ الله وتربطه به تعالیٰ.

ولذلك فان قصد التقرب إلیٰ الله في العبادة امر جوهري في تحقيقها. ومن دونه لا تكون العبادة ، فالعبادة في حقيقتها حركة الی الله ، واقبال علیٰ الله ، وقصد لوجه الله ، وابتغاء لمرضاته.

وهذه الحقيقة الثانية ، وهي توضح الحقيقة الاولیٰ.

والحقيقة الاولیٰ أن الدعاء اقبال علیٰ الله ، ومن ابرز مصاديقه الانشداد والارتباط بالله ... ولا يوجد في العبادات عبادة تقرب الانسان إلیٰ الله أكثر من

__________________

(١) المؤمن : ٦٠.

(٢) الذاريات : ٥٦.


الدعاء.

روي عن سيف التمار أنه قال سمعت ابا عبدالله الصادق عليه‌السلام يقول : « عليكم بالدعاء ، فانكم لا تتقربون بمثله » (١).

وكلما تكون حاجة الانسان إلیٰ الله اعظم ، وفقره إليه تعالیٰ اشد ، واضطراره إليه أكثر يكون اقباله في الدعاء علیٰ الله اكثر.

والنسبة بين فقر الانسان إلیٰ الله واضطراره إليه تعالیٰ ، وبين اقبال الانسان عليه سبحانه في الدعاء نسبة طردية. فإن الحاجة والاضطرار يلجئان الانسان إلیٰ الله ، وبقدر ما يشعر بهذه الحاجة يكون اقباله علیٰ الله ، كما ان العكس أيضاً كذلك.

يقول تعالیٰ : ( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) (٢).

إن الانسان ليطغیٰ ويعرض عن الله بقدر ما يتراءیٰ له أنه قد استغنیٰ ، ويقبل علیٰ الله بقدر ما يعي من فقره وحاجته إلیٰ الله. وتعبير القران دقيق ( أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ). فلا غنىٰ للانسان عن الله ، بل الانسان فقر كله إلیٰ الله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ولكنه يتراءیٰ له أنه قد استغنیٰ ، وغرور الانسان هو الذي يخيل إليه ذلك.

فإذا تراءیٰ له أنه قد استغنیٰ عن الله اعرض ونأیٰ بجانبه وطغیٰ.

فإذا مسه الضر ، وأحس بالاضطرار إلی الله عاد واقبل عليه.

اذن الدعاء في حقيقته اقبال علیٰ الله.

ومن يدع الله تعالیٰ ، ويتضرع إليه فلابدّ ان يقبل عليه تعالیٰ.

وهذا الاقبال هو حقيقة الدعاء وجوهره وقيمته.

__________________

(١) بحار الانوار ٩٣ : ٢٩٣.

(٢) العلق : ٦ ـ ٧.


المناهل الاربعة للورود علیٰ الله في القرآن

والدعاء من اهم المناهل التي جعلها الله تعالیٰ لعباده للورود عليه.

وقد بيّن الله تعالیٰ لنا في القرآن اربعة مناهل للورود عليه ، في جملة المناهل التي ورد ذكرها في القرآن والسنّة.

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « اربعة للمرء لا عليه : (الايمان) و (الشكر) ، فإن الله تعالیٰ يقول : ( مَّا يَفْعَلُ اللَّـهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ) (١).

و (الاستغفار) فإنه تعالیٰ يقول : ( وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (٢).

و (الدعاء) فإنه تعالیٰ يقول : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) (٣).

وعن معاوية بن وهب عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « يا معاوية ، من اُعطي ثلاثة لم يُحرم ثلاثة : من اُعطي الدعاء اُعطي الاجابة ، ومن اُعطي الشكر اُعطي الزيادة ، ومن اُعطي التوكل اُعطي الكفاية ؛ فان الله تعالیٰ يقول في كتابه : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ).

ويقول : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ).

ويقول : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (٤).

وعن عبدالله بن وليد الوصافي عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « ثلاث لا يضر معهن شيء : الدعاء عند الكربات ؛ والاستغفار عند الذنب ؛ والشكر عند النعمة » (٥).

__________________

(١) النساء : ١٤٧.

(٢) الانفال : ٣٣.

(٣) الفرقان : ٧٧. بحار الانوار ٩٣ : ٢٩١.

(٤)خصال الصدوق ١ : ٥٠ ، المحاسن للبرقي : ٣ ، الكافي : ٦ في ٤ : ١١ من جهاد النفس.

(٥) امالي الشيخ الطوسي : ١٢٧.


وهذه قنوات للارتباط بالله ، وقنوات الارتباط بالله كثيرة منها التوبة ؛ ومنها الخوف والخشية ؛ ومنها الحب والشوق إلى الله ؛ ومنها الرجاء ؛ ومنها الشكر ؛ ومنها الاستغفار.

وعلاقة الانسان بالله يجب أن تنظم طبق مجموعة متناسقة من هذه القنوات ؛ ولا يصحح الاسلام نظرية وحدة طريق الارتباط.

والدعاء من اهم وسائل الارتباط بالله والاقبال علىٰ الله.

ذلك لأنه لا شيء يلجئ الناس إلى الله كما تلجئهم إليه حاجتهم وفقرهم.

فالدعاء من اوسع ابواب الارتباط والعلاقة بالله.

الدعاء جوهر العبادة

اذن الدعاء جوهر العبادة وروحها ؛ فإن الغاية من خلق الانسان العبادة ؛ والغاية من العبادة الانشداد إلىٰ الله. والدعاء يحقق هذا الانشداد والارتباط من اوسع الابواب ، وباقویٰ الوسائل.

وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الدعاء مخ العبادة ؛ ولا يهلك مع الدعاء احد » (١).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « افزعوا إلى الله في حوائجكم ، والجأوا إليه في ملماتكم ، وتضرعوا إليه ، وادعوه ؛ فإن الدعاء مخ العبادة وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب ؛ فإما أن يعجله له في الدنيا ، أو يؤجل له في الآخرة ، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ؛ ما لم يدع بمأثم » (٢).

وتكاد الرواية ترينا طريقة حركة الانسان إلى الله في الدعاء واقباله عليه.

__________________

(١) بحار الانوار ٩٣ : ٣٠٠.

(٢) بحار الانوار ٩٣ : ٣٠٢.


تأمّلوا :

(افزعوا إلى الله في حوائجكم) ، (والجأوا إليه في ملماتكم) ، (وتضرعوا إليه).

وفي رواية اُخرىٰ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين » (١).

وإنما كان الدعاء (عماد الدين) ؛ لأنه قوام الدين وهو التحرك إلى الله والدعاء اقبال علىٰ الله.

ولما كانت حقيقة الدعاء هي الاقبال علىٰ الله كان الدعاء أحب شيء الىٰ الله واكرم شيء عنده.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من شيء اكرم علىٰ الله تعالىٰ من الدعاء » (٢).

وعن حنان بن سدير عن ابيه ، قال : « قلت للباقر عليه‌السلام : أي العبادة افضل ؟ فقال : ما من شيء احب إلىٰ الله من ان يسأل ويطلب ما عنده ؛ وما أحد ابغض إلى الله عزوجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأله ما عنده (٣).

الاعراض عن الدعاء اعراض عن الله

يقول تعالىٰ : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ).

والاستكبار عن العبادة في هذه الآية الكريمة هو الاعراض عن الدعاء ، فإن السياق يدعو إلى الدعاء. يقول تعالىٰ : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وبعد ذلك

__________________

(١) بحار الانوار ٩٣ : ٢٨٨.

(٢) مكارم الاخلاق : ٣١١.

(٣) مكارم الاخلاق : ٣١١ ونفس المضمون في المحاسن للبرقي : ٢٩٢.

(٤) غافر : ٦٠.


مباشرة يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ).

اذن الاعراض عن الدعاء في هذه الآية الكريمة يحكم الاستكبار عن العبادة ؛ لأنّه اعراض عن الله.

وروي بهذا المعنىٰ عن الامام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية الكريمة : « هي والله العبادة ؛ هي والله العبادة ».

وعن حماد بن عيسىٰ عن الصادق عليه‌السلام : « إنّ الدعاء هو العبادة ؛ إن الله عزّوجلّ يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (١).

ولا قيمة للانسان عند الله إلّا بالدعاء ، وبمقدار الدعاء ، ولا يعبأ الله تعالىٰ بعبده إلّا بقدر ما يدعوا الله ويقبل عليه ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) (٢).

وذلك لأن الدعاء في الحقيقة يساوي الاقبال علىٰ الله ، كما أن الاعراض عن الدعاء اعراض عن الله ، ومن يعرض عن الله فلا يعبأ الله به ، ولا قيمة له عند الله.

عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في حديث : « وما أحد أبغض إلى الله عزّوجلّ ممن يستكبر عن عبادته ، ولا يسأل ما عنده » (٣).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لتسألن الله أو ليغضبن عليكم ، إن لله عباداً يعملون فيعطيهم داخرين ، يسألونه صادقين فيعطيهم ، ثم يجمعهم في الجنة ، فيقول الذين عملوا : ربنا عملنا فأعطيتنا ، فبما اعطيت هؤلاء ؟ فيقول : هؤلاء عبادي اعطيتكم اجوركم ولم التكم من اعمالكم شيئاً ، وسألني هؤلاء فاعطيتهم واغنيتهم ، وهو

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٣.

(٢) الفرقان : ٧٧.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٤ ، ح ٨٦٠٤.


فضلي اوتيه من اشاء » (١).

إن الله يشتاق إلى دعاء عبده :

فإذا أقبل العبد بالدعاء علىٰ الله أحبّه الله ، وإذا اعرض العبد عن الله كرهه الله.

وقد يؤجل الله تعالىٰ إجابة دعاء عبده المؤمن ليطول وقوفه بين يديه ، ويطول اقباله عليه وتضرعه إليه ... فإن الله يحب أن يسمع تضرع عبده ، ويشتاق إلى دعائه ومناجاته.

روي عن العالم عليه‌السلام : « إنّ الله عزّوجلّ ليؤخر اجابة المؤمن شوقاً إلى دعائه ، ويقول : صوت اُحب أن اسمعه ، ويعجل دعاء المنافق ، ويقول : صوت اكرهه » (٢).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « اكثروا من أن تدعو الله ، فإن الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه ، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة » (٣).

وعن امير المؤمنين عليه‌السلام : « احب الاعمال إلى الله عزّوجلّ في الأرض الدعاء » (٤).

وروي أن أبا جعفر الباقر عليه‌السلام كان يقول : « إن المؤمن ليسأل الله عزّوجلّ حاجة ، فيؤخر عنه تعجيل اجابته حباً لصوته واستماع نحيبه » (٥).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « إن العبد ليدعو فيقول الله عزّوجلّ للملكين : قد استجبت له ، ولكن احبسوه بحاجته ، فإني اُحب أن اسمع صوته ، وإن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٤ ، ح ٨٦٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٩٧ : ٢٩٦.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٦.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٩ ، ح ٨٦٣٩.

(٥) قرب الاسناد : ١٧١ ، اصول الكافي : ٥٢٦.


العبد ليدعو فيقول الله تبارك وتعالىٰ : عجلوا له حاجته فإني ابغض صوته » (١).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « إن العبد الولي لله ليدعو الله عزّوجلّ في الامر ينوبه ، فيقال للملك الموكل به : اقض لعبدي حاجته ، ولا تعجلها فإني اشتهي أن اسمع صوته ونداءه ، وإن العبد العدو لله عزّوجلّ يدعو الله عزّوجلّ في الامر ينوبه ، فيقال للملك الموكل به : اقض حاجته ، وعجلها فإني اكره أن اسمع صوته ونداءه » (٢).

والله تعالی يكره سؤال الناس بعضهم لبعض ، ويحب للمؤمن ان يكرم نفسه ويده عن السؤال ، ولكنه تعالىٰ يحب سؤال المؤمنين منه ، ويحب تضرعهم ودعاءهم عنده.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن الله احب شيئاً لنفسه وابغضه لخلقه ، ابغض لخلقه المسألة ، واحب لنفسه أن يسأل ، وليس شيء احب الله عزّوجلّ من أن يسأل ، فلا يستحي احدكم من أن يسأل الله من فضله ، ولو شسع نعل » (٣).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « إن الله يحب العبد أن يطلب إليه في الجرم العظيم ، ويبغض العبد أن يستخف بالجرم اليسير » (٤).

روي عن محمد بن عجلان قال : « اصابتني فاقة شديدة واضاقة ، ولا صديق لمضيق ، ولزمني دين ثقيل وعظيم ، يلح في المطالبة ، فتوجهت نحو دار الحسن بن زيد ، وهو يومئذ أمير المدينة لمعرفة كانت بيني وبينه ، وشعر بذلك من حالي محمّد بن عبدالله بن علي بن حسين عليهم‌السلام ، وکان بيني وبينه قديم معرفة ، فلقيني في الطريق فاخذ بيدي وقال : قد بلغني ما أنت بسبيله ، فلن تؤمّل لكشف ما

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١١٢ ، ح ٨٧٣١ ، اصول الكافي : ٥٢٦.

(٢) اصول الكافي : ٥٢٧ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١١٢ ، ح ٨٧٣٢.

(٣) فروع الكافي ١ : ١٩٦ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٣.

(٤) المحاسن للبرقي : ٢٩٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٢٩٢.


نزل بك ؟

قلت : الحسن بن زيد. فقال : اذن لا يقضي حاجتك ، ولا تسعف بطلبتك ، فعليك بمن يقدر علىٰ ذلك ، وهو اجود الاجودين ، فالتمس ما تؤمله من قبله ، فإني سمعت ابن عمي جعفر بن محمد يحدث عن ابيه عن جده عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اوحى الله إلى بعض انبيائه في بعض وحيه : وعزتي وجلالي لاُقطّعن امل كل آمل أمّل غيري بالإياس ، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس ، ولاُبعدنه من فرجي وفضلي ، ايأمل عبدي في الشدائد غيري والشدائد بيدي ؟ ويرجو سواي وانا الغني الجواد ؟ بيدي مفاتيح الابواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني.

الم تعلموا أن من دهاه نائبة لم يملك كشفها عنه غيري ، فما لي اراه يأمله معرضاً عني ، وقد اعطيته بجودي وكرمي ما لم يسألني ؟

فأعرض عني ، ولم يسألني ، وسأل في نائبته غيري ، وانا الله ابتدئ بالعطية قبل المسألة.

أفاُسأل فلا أجود ؟ كلّا. اليس الجود والكرم لي ؟ اليس الدنيا والآخرة بيدي ؟ فلو أن أهل سبع سماوات وارضين سألوني جميعاً واعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي مثل جناح البعوضة ، وكيف ينقص ملك انا قيّمه ، فيا بؤساً لمن عصاني ، ولم يراقبني.

فقلت له : يا بن رسول الله ، أعد علي هذا الحديث ، فأعاده ثلاثاً ، فقلت : لا والله ما سألت احداً بعدها حاجة ، فما لبث أن جاءني الله برزقٍ من عنده » (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي




قيمتان للاستجابة :

للاستجابة من الله تعالیٰ لدعاء العبد قيمتان ، وليس قيمة واحدة. احداهما اعظم من الاُخریٰ.

اما القيمة الدنيا فهي انجاز المطلب والمسألة التي طلبها الانسان من الله تعالیٰ لدنياه أو آخرته ، أو لهما معاً.

واما القيمة العليا فهي نفس الاجابة من الله تعالیٰ لعبده فإن في كل (اجابة) اقبال من الله تعالیٰ علیٰ عبده ، كما ان في كل (دعاء) اقبال من العبد علیٰ الله تعالیٰ.

ومهما كان لشيء من ثمن وحساب وحدّ ، فلا حساب ولا حد لقيمة اقبال الله تعالیٰ علیٰ عبده.

ولا حد لسعادة العبد إذا كان موضع رعاية الله تعالیٰ وعنايته واقباله الخاص ، وتلك سعادة ليس فوقها سعادة ان يخص الله تعالیٰ عبداً من عباده فيقبل عليه ، ويسمع منه ، ويستجيب له ، ويشعره بالاستجابة مهما كانت قيمة المطلب والمسألة التي طلبها العبد من الله تعالیٰ ، روي عن الامام الصادق عليه‌السلام انه قال : « لقد دعوت الله مرة فاستجاب ، ونسيت الحاجة ، لأن استجابته بإقباله علیٰ عبده عند دعوته اعظم وأجل مما يريد منه العبد ، ولو كانت الجنّة ونعيمها الأبد ، ولكن لا يعقل ذلك إلّا العالمون ، المحبون ، العابدون ، العارفون ، صفوة الله ، وخاصته » (١).

فالدعاء والاجابة اذن علاقة متبادلة بين الله تعالیٰ وعبده ، من افضل ما تكون العلاقة وأشرفها ، وأي علاقة بين الله تعالیٰ وعباده افضل من ان يقبل العبد

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٤ ـ ١٥ ، بحار الانوار ٩٣ : ٣٢٣.


علیٰ ربه بالحاجة والطلب والسؤال ، ويقبل الله تعالیٰ علیٰ عبده بالاجابة ويخصه بها.

علاقة الاستجابة بالدعاء :

( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (١).

ما هي علاقة الاستجابة بالدعاء ؟

وكيف تتم الاستجابة ؟

هذا ما نحاول أن نتحدث عنه إن شاء الله في هذا الفصل من هذه المقالة.

إن الاستجابة من عند الله تعالیٰ تجري ضمن قوانين وسنن إلٰهية ، كما هو شأنه تعالیٰ في سائر افعاله.

فليس في ساحة الله تعالیٰ انفعال ، كما هو الحال عندنا نحن البشر ، إذا غضبنا ، وإذا رضينا ، وإذا تذمرنا ، وإذا انشرحنا ، وإذا نشطنا ، وإذا مللنا.

وإنما فعل الله تعالیٰ قانون وسنّة ، ولا يختلف ذلك في رضاً أو غضب ، أو بسط أو قبض ، أو عطاء أو امساك ، كل ذلك يجري ضمن سنن وقوانين الٰهية ثابتة.

وهذه السنن الإلٰهية ، تجري في افق الغيب (الميتافيزيقا) كما تجري في الفيزياء والكيمياء والميكانيك من غير فرق.

( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلً ) (٢).

( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَحْوِيلًا ) (٣).

فما هي سنة الله تعالیٰ في استجابة الدعاء ؟

__________________

(١) غافر : ٦٠.

(٢) الاحزاب : ٦٢.

(٣) فاطر : ٤٣.


الدعاء مفتاح الرحمة :

وقد ورد في النصوص الاسلامية التعبير عن العلاقة بين الدعاء والاجابة بأن الدعاء مفتاح الاجابة ، وهذه الكلمة تقرر نوع العلاقة بين الدعاء والاستجابة.

عن الامام علي عليه‌السلام : « الدعاء مفتاح الرحمة » (١).

وفي وصية للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام إلی ابنه الحسن : « ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه ، بما أذن فيه من مسألته ، فمتیٰ شئت استفتحت بالدعاء ابواب خزائنه » (٢).

وللتعبير ظلال واضحة في العلاقة بين الدعاء والاستجابة (فمتیٰ شئت استفتحت بالدعاء ابواب خزائنه).

إذن الدعاء هو المفتاح الذي نفتح به خزائن رحمة الله.

وخزائن رحمة الله لا نفاد لها ، ولكن ليس كلّ الناس يملكون مفاتيح خزائن رحمة الله ، وليس كل الناس يحسن فتح خزائن رحمة الله.

وقد روي عن الامام الصادق جعفر بن محمد عليهم‌السلام في قوله تعالیٰ : ( مَّا يَفْتَحِ اللَّـهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ) انه قال : « الدعاء » (٣).

أي إن الدعاء هو هذا المفتاح الذي به يفتح الله للناس ابواب رحمته ، والذي جعله الله بيد عباده.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من فتح له من الدعاء منكم فتحت له ابواب الاجابة » (٤).

__________________

(١) بحار الانوار ٩٣ : ٣٠٠.

(٢) بحار الانوار ٧٧ : ٢٩٩.

(٣) بحار الانوار ٩٣ : ٢٩٩.

(٤) كنز العمال ح ٣١٥٦.


والله تعالیٰ هو الذي يفتح للعبد بالدعاء ، وهو الذي يفتح له ابواب الاجابة.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من قرع باب الله سبحانه فتح له » (١).

وعن الامام الصادق عليه‌السلام : « اكثر من الدعاء ، فإنه مفتاح كل رحمته ، ونجاح كل حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء ، وليس باب يكثر قرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه » (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الدعاء مفاتيح النجاح ، ومقاليد الفلاح ، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي » (٣).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألا ادلكم علیٰ سلاح ينجيكم من اعدائكم ، ويدرّ ارزاقكم ؟ قالو : بلیٰ ، قال : تدعون ربكم بالليل والنهار ، فإن سلاح المؤمن الدعاء » (٤).

العمل والدعاء مفتاحان لرحمة الله

والله تعالیٰ جعل في ايدينا مفتاحين نستفتح بهما خزائن رحمة الله ، ونطلب بهما رزقه وفضله ، وهذان المفتاحان هما : (العمل) و (الدعاء).

وكل منهما لا يغني عن الآخر.

فلا العمل يغني عن الدعاء ، ولا الدعاء يغني عن العمل ، فلا يصح أن يكتفي الانسان بالدعاء عن العمل.

وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته لابي ذر (رضوان الله عليه) : « يا اباذر ،

__________________

(١) غرر الحكم.

(٢) بحار الانوار ٩٣ : ٢٩٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٦.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٤ ، ح ٨٦٥٧ ، واصول الكافي : ٥١٧.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٥ ، ح ٨٦٥٨.


مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر » (١).

وعن الامام الصادق عليه‌السلام : « ثلاثة ترد عليهم دعوتهم : رجل جلس في بيته ، وقال يا ربِّ ارزقني ، فيقال له : الم اجعل لك السبيل إلی طلب الرزق ؟ ... » (٢).

ولا يصح أن يكتفي الانسان بالعمل عن الدعاء.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ لله عباداً يعملون فيعطيهم ، وآخرين يسألونه صادقين فيعطيهم ، ثم يجمعهم في الجنة. فيقول الّذين عملوا : ربّنا ، عملنا فأعطيتنا ، فبما اعطيت هؤلاء ؟ فيقول : هؤلاء عبادي ، اعطيتكم اُجوركم ولم ألتكم من اعمالكم شيئاً ، وسألني هٰؤلاء فأعطيتهم واغنيتهم ، وهو فضلي اُوتيه من اشاء » (٣).

وقد جعل الله تعالیٰ الدعاء جابراً لعجز الانسان في العمل ، لئلا يعتمد الانسان علیٰ نفسه ، ويغتر بما اُوتي من حول وقوة ، وبما يقوم به من عمل.

إذن العمل والدعاء هما مفتاحان من اعظم المفاتيح التي يستفتح الانسان بها رحمة الله.

ولسنا الآن بصدد البحث عن (العمل) وعلاقته بـ (رحمة الله) في مقابل العلاقة بين (الدعاء) و (خزائن رحمة الله) ، وعلاقة (العمل) بـ (الدعاء) فإن هذه العلاقة من امهات المسائل الاسلامية.

والله تعالیٰ يعطي عباده بهما معاً (العمل والدعاء). ومعنیٰ ذلك أن الله يعطي عباده (بما عندهم) و (ما ليس عندهم) ، وما عندهم هو جهودهم واعمالهم ، وما يقدّمون إلیٰ الله من جهد وانفاق من انفسهم واموالهم وهو (العمل) ، وما ليس

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ابواب الدعاء ، باب ٣٢ ، ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٥٠ ، ح ٣.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٤ ، ح ٨٦٠٩.


عندهم هو فقرهم وحاجتهم إلی الله ، وعرض الفقر والحاجة علیٰ الله.

وكل منهما من مفاتيح رحمة الله في حياة الانسان ، وبكل منهما يستنزل الانسان رحمة الله ، بما يرفع إلی الله من جهده وعمله ونفسه وماله ، وبما يرفع إلی الله من حاجته وفقره وعدمه واضطراره.

ولسنا الآن بصدد البحث عن تفاصيل علاقة العمل بخزائن رحمة الله ، ولا عن علاقة (العمل) بـ (الدعاء).

وإنما نريد أن نكتشف ، إن شاء الله ، علاقة الدعاء بما يرزق الله تعالیٰ عباده من خزائن رحمته.

الحاجة والفقر إلی الله :

إن وعي الحاجة والفقر هو السر الذي نستطيع من خلاله أن نكتشف علاقة الدعاء بالاستجابة ، ونفهم كيف يكون الدعاء مفتاحاً لرحمة الله ، وكيف يستنزل الدعاء رحمة الله تعالیٰ.

فإن كل دعاء يجسّد درجة من وعي الفقر ، ويعبرّ عن مرتبة من مراتب وعي الحاجة إلی الله.

وبقدر ما يكون وعي العبد لحاجته إلی الله اكثر يكون دعاؤه اقرب إلی الاستجابة ، وتكون رحمة الله اقرب إليه.

فليس من شح ولا بخل في رحمة الله تعالیٰ ، وانما يختلف حظّ الناس من رحمة الله لاختلاف أواني نفوسهم وأوعيتها.

ومن عجب أن الحاجة والفقر ، ووعي الحاجة والفقر هو وعاء الانسان الذي ينال به رحمة الله ، وكلما يكون وعيه لفقره إلی الله اكثر يكون وعاؤه الذي ينال به رحمة الله اكبر.


والله تعالىٰ يعطي كلاً بقدر وعائه. وكلّ ينال من رحمة الله بقدر ما يتسع له وعاؤه ، وكلما كان وعاؤه اكبر كان حظّه من رحمة الله اعظم ، يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (١).

ويمكننا أن نختصر الدعاء في ثلاث كلمات :

١ ـ الفقر إلى الله.

٢ ـ وعي الفقر.

٢ ـ رفعه ونشره وبثه بين يدي الله.

والكلمة الثالثة تختلف عن الثانية والثانية تختلف عن الاولىٰ.

فإن الفقر غير وعي الفقر. فقد يكون فقيراً إلى الله تعالىٰ ، وهو غير واع لفقره إلى الله.

وقد يكون واعياً لفقره إلى الله ، ولكنه لا يحسن ان يرفع فقره إلىٰ الله وينشره ويبثه بين يديه ، ولا يحسن السؤال والطلب والدعاء من الله.

وعندما تجمتع هذه الكلمات الثلاثة يتحقق الدعاء. والفقر هنا من الناحية الفلسفية ليس فقراً في الحدوث فقط ، كما يفتقر البِناء الىٰ المهندس والبنّاء ، وإنما هو فقر في الحدوث والبقاء ، كما في حاجة المصابيح الكهربائية إلىٰ السيال الالكتروني ، فإن المصباح يضيء ما دام السيال الالكتروني متصلاً ، فإذا انقطع السيال لحظة واحدة انقطع الضوء في نفس تلك اللحظة.

وفقر الانسان الىٰ الله من هذا القبيل في الحدوث والاستمرار ، ووجود الانسان ومواهبه وحركته وحياته كلها ترتبط بالله تعالىٰ. وتفتقر إلى الله لحظة بعد لحظة ، وبصورة مستمرة ومتصلة.

__________________

(١) فاطر : ١٥.


يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (١).

والحاجة والفقر تستنزلان رحمة الله تعالىٰ وعاهما الانسان ام لم يعهما ، ورفعهما الانسان إلىٰ الله وعرضهما عليه تعالىٰ ام لم يرفعهما ، إلا أن الحاجة والفقر الذين يعيهما الانسان ، ويرفعهما إلیٰ الله ، وينشرهما بين يدي الله تعالیٰ اقویٰ في اجتذاب رحمة الله.

وعليه فنحن نتحدث عن (الفقر) وعلاقته بـ (رحمة الله) قبل الوعي والرفع إلىٰ الله ، وبعد الوعي والرفع إلى الله.

الحاجة قبل الوعي والرفع إلىٰ الله :

إن الحاجة الىٰ الله ، بحدّ ذاتها تستنزل رحمة الله حتّىٰ قبل الوعي والرفع إلىٰ الله. ومثلها مثل الأرض الواطئة الهشة التي تجتذب المياه ، وتمتصها.

كما أن مثل الاستكبار عن الله والغرور مثل الارض الناتئة الصلدة التي تردّ الماء. كذلك المستكبرون عن عبادة الله ودعائه يردون رحمة الله تعالىٰ فلا ينالهم منها شيء ، وإن وسعت السماوات والارضين.

إن بين الفقر والرحمة علاقة تكوينية ، كل منهما يطلب الآخر ويسعىٰ إليه.

الفقر إلىٰ الله يسعىٰ الىٰ رحمة الله ، ورحمة الله تطلب مواضع الحاجة والفقر.

كما أن بين ضعف الطفل وحاجته وبين حنان الاُم وعطفها علاقة وصلة ، كل منهما يطلب الآخر ، ضعف الطفل يطلب حنان الاُم ، وحنان الاُم ورحمتها يطلبان ضعف الطفل لرعايته.

بل في دائرة الممكنات كل منهما يحتاج الآخر ، وليست حاجة الاُم الىٰ

__________________

(١) فاطر : ١٥.


رعاية ضعف الطفل بأقل من حاجة الطفل الىٰ حنان الاُم.

كذلك العالم يطلب الجاهل ليعلمه ، كما أن الجاهل يطلب العالم ليتعلم منه ، وليست حاجة العالم الىٰ تعليم الجاهل بأقل من حاجة الجاهل الى التعلم من العالم.

والطبيب يطلب المريض ليداويه ، ويعلن عن مهنته واختصاصه ليدعو المرضىٰ إليه ، كما أن المريض يطلب الطبيب ، وليست حاجة الطبيب الىٰ المريض بأقل من حاجة المريض الىٰ الطبيب.

والقوي يبحث عن الضعيف ليحميه ، كما أن الضعيف يبحث عن القوي ليحتمي به ، وليست حاجة القوي الىٰ أن يحمي الضعيف بأقل من حاجة الضعيف الىٰ الاحتماء بالقوي.

إنها سنة الله في كل شيء.

وكذلك في رحمة الله تعالىٰ وفقر عباده ، فكما أن الفقر يطلب الرحمة كذلك الرحمة تطلب الفقر ، والله تعالىٰ تتنزّه صفاته الحسنىٰ عن الحاجة ، فلا حاجة في ساحة الله تعالىٰ ، ولكن رحمة الله تطلب مواضع الحاجة والفقر.

ولا شح ، ولا بخل في ساحة الله ، واختلاف مراتب الرحمة تتبع اختلاف مراتب الحاجة والفقر.

إن الطفل الرضيع الذي لا يعي من نفسه شيئاً ليعطش ويشتد به العطش فيعلمه الله تعالىٰ أن يبكي ويصرخ ، ويعطف عليه قلب اُمه وابيه ليدركاه ويسقياه ، وعطش الرضيع وجوعه يستنزلان رحمة الله تعالیٰ وعطفه ، من دون طلب ودعاء ويتألم المريض ويعاني من المرض فيستنزل مرضه والمه رحمة الله تعالىٰ.

واننا لنعصي تعالیٰ ونرتكب الذنوب والمعاصي ، فتطلب ذنوبنا


ومعاصينا عفو الله تعالىٰ ومغفرته بالسؤال والدعاء ، ومن دون سؤال ودعاء احياناً ، ما لم يتمرد العبد علىٰ مولاه ويقسو قلبه ويطرد عن ساحة رحمة الله.

وهذه العلاقة بين العفو والرحمة من الله والذنوب والمعاصي منا ، وبين قوة الله تعالىٰ وضعفنا ، وبين غنىٰ الله تعالىٰ وفقرنا ، وبين شفاء الله لنا وأمراضنا ، وبين انقاذ الله تعالىٰ لنا واضطرارنا إليه ، وبين علم الله تعالىٰ وجهلنا وشططنا حتىٰ عن غير سؤال وطلب ودعاء ... اقول : إن هذه العلاقة من اسرار هذا الدين كما هي من اسرار هذا الكون وقوانينه. وما لم يفهم الانسان هذا القانون في الكون ، وفي علاقة الإنسان بالله تعالىٰ ، لا يستطيع أن يدرك طائفة واسعة من معارف هذا الدين واسراره.

وكم من مريض شفي برحمة الله من غير سؤال ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ). وكم من فقير جائع رزقه الله تعالیٰ واطعمه من جوع من غير سؤال ولا دعاء. وكم من مضطر في لجج البحار أو تحت الانقاض أو تحت ظلال السيوف أو في وسط الحريق ادركته رحمة الله تعالىٰ وانقذته من غير سؤال ولا دعاء. وكم من ظمآن بلغ به الظمأ مبلغاً استنفد مقاومته فأدركته رحمة الله تعالىٰ وأروته من غير سؤال ولا طلب. وكم من إنسان واجه الاخطار ، وكان علیٰ قاب قوسين منها وهو يعلم أو لا يعلم ، فجاءه (ستر الله) فانقذه منها. وكم من إنسان وصل إلى طريق مسدود في حياته ففتح الله تعالىٰ له الف طريق ، وكل ذلك من غير سؤال ولا طلب ولا دعاء ، بل دون أن يعرف صاحبه الله تعالىٰ كثيراً ، فضلاً عن أن يعرفه فلا يطلب منه.

وكم من رضيع تدركه رحمة الله تعالىٰ دون أن يطلب من الله ، ودون أن


يسأل الله تعالیٰ (١).

وقد ورد في دعاء الافتتاح :

(فكم يا الهي من كربة قد فرجتها ، وهموم قد كشفتها ، وعثرة قد اقلتها ، ورحمة قد نشرتها ، وحلقة بلاء قد فككتها).

وورد في ايام رجب :

(يا من يعطي من سأله ، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة).

وفي المناجاة الرّجبيّة :

(ولكن عفوك قبل عملنا).

ان عفو الله تعالىٰ يقبل سيّئاتنا بل يطلب سيّئاتنا.

اذن الحاجة والفقر من منازل رحمة الله تعالىٰ ، وحيث يكون الفقر وتكون الحاجة تجد رحمة الله تعالىٰ.

وللعارف الرّومي الشهير بيت من الشعر في هذا الباب اذكر ترجمته.

يقول العارف الرّومي : « لا تطلب الماء واطلب الظمأ حتّىٰ يتفجّر الماء من كل اطرافك وجوانبك ».

وقد وردت الاشارة الىٰ هذه العلاقة بين رحمة الله تعالىٰ وحاجة عباده وفقرهم ، في مناجاة بليغة ومؤثرة لامير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه‌السلام ، نورد

__________________

(١) وهذا لا يعني أن الناس لا يموتون تحت الأنقاض في الزلازل ، ولا يحترقون في الحرائق ، ولا يهلكون في لجج البحار ، ولا يموت انسان من المرض والألم ، ولا يموت طفل رضيع. فقد صمم الله تعالىٰ هذا الكون بموجب (الرحمة) و (الحكمة) ، فإذا كانت حكمة الله تقتضي وقوع كارثة في انسان أو حيوان أو نبات فلا يعني ذلك أن ننفي البعد الآخر من فضل الله تعالىٰ وصفاته الحسنىٰ ، وهو الرحمة. ومن الناس ممن يخضع لسنن الله تعالىٰ وحكمته في البلاء والضراء ، لم يلمس رحمة الله تعالىٰ الواسعة في اليسر والعسر ، وفي اللحظات الحرجة من حياته ، ومن الناس من لم يتعرف علىٰ رحمة الله تعالىٰ الواسعة في لحظات الاضطرار القصویٰ في حياته.


فيما يلي طرفاً منها : « مولاي يا مولاي ، أنت المولىٰ وأنا العبد ، وهل يرحم العبد إلا المولىٰ ؟ مولاي يا مولاي ، انت المالك وانا المملوك ، وهل يرحم المملوك الا المالك ؟ مولاي يا مولاي ، انت العزيز وانا الذليل ، وهل يرحم الذليل الا العزيز ؟ مولاي يا مولاي ، انت الخالق وانا المخلوق ، وهل يرحم المخلوق إلا الخالق ؟ مولاي يا مولاي ، انت القوي وانا الضعيف ، وهل يرحم الضعيف إلا القوي ؟ مولاي يا مولاي ، انت الغني وانا الفقير ، وهل يرحم الفقير إلا الغني ؟ مولاي يا مولاي ، انت المعطي وانا السائل ، وهل يرحم السائل إلا المعطي ؟ مولاي يا مولاي ، انت الحي وانا الميت ، وهل يرحم الميت إلا الحي ؟ ».

وهذه هي الحاجة قبل الوعي والطلب (الفقر غير الواعي).

الحاجة بعد الوعي والطلب (الفقر الواعي) :

وهي الحاجة التي يعيها الإنسان ويرفعها إلىٰ الله.

فقد يعي الانسان فقره إلىٰ الله ويرفعه وينشره بين يدي الله ، ويسأل الله تعالىٰ ويدعوه ويطلب منه ، وهو الفقر الواعي.

وهذه الحاجة المقترنة بالوعي والطلب تستنزل رحمة الله أكثر من الشطر الاول من الحاجة غير المقترنة بالدعاء.

ورحمة الله تنزل هنا وهناك ، ولكن الحاجة إذا اقترنت بالطلب والدعاء تكون اقوىٰ في اجتذاب رحمة الله تعالىٰ ، ورحمة الله تستجيب لها اكثر مما تستجيب لغيرها.

وإلىٰ هذه الحاجة تشير الآية الكريمة من سورة النمل :

( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ).

والآية الكريمة تركز علىٰ نقطتين اثنتين : (اضطرار) و (دعاء) ، ( الْمُضْطَرَّ إِذَا


دَعَاهُ ) ، وكل منهما يجذب الرحمة : الاضطرار والدعاء ، فإذا اجتمع الاضطرار والدعاء فلابد أن تهبط عندهما رحمة الله تعالىٰ.

وقد ورد تأكيد بليغ في الاسلام علىٰ الدعاء والسؤال من الله ، والاهتمام برفع الحاجة إلىٰ الله ، ونشرها بين يديه عز شأنه ، وابتغاء رحمته.

وتقترن الاستجابة بالدعاء في النصوص الاسلامية : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).

ويؤكدّ القرآن أن قيمة العبد عند الله تعالىٰ بدعائه : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْ لَا دُعَاؤُكُمْ ).

ويؤكّد القرآن أن الصدود عن الدعاء استكبار عن عبادة الله تعالىٰ : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ).

وواضح أن الاستكبار عن عبادة الله استكبار عن الله.

والذي يستكبر عن الله يطرد من رحمة الله ويدخل جهنم ( سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ).

ونتساءل لماذا يكون هبوط الرحمة أشد إذا اقترنت الحاجة بالدعاء والسؤال ، ولماذا تتأكد العلاقة بين الدعاء والاستجابة اكثر مما هي في الحالة السابقة بين الحاجة غير المقترنة بالدعاء ورحمة الله ؟

إن الاجابة علىٰ هذا التساؤل في الحقيقة إجابة علىٰ السؤال الذي استفتحنا به هذا الفصل عن سر العلاقة بين الدعاء والاستجابة وتحليل هذه العلاقة.

وللاجابة علىٰ هذا السؤال نقول : إن الدعاء يستنزل رحمة الله تعالىٰ من خلال ثلاثة قوانين :


القانون الاول : هو علاقة رحمة الله بالفقر والحاجة ، وقد شرحنا هذا القانون فلا نعيد. وكل حالة من حالات الدعاء تتضمن حالة الحاجة والفقر إلى رحمة الله. وهذا هو المنزل الاول من منازل رحمة الله.

القانون الثاني : في علاقة الفقر والحاجة بعد الوعي برحمة الله تعالىٰ.

والفقر بعد الوعي يختلف عن الفقر قبل الوعي.

وكل منهما فقر وحاجة ، وكل منهما يجتذب رحمة الله تعالىٰ ويستنزلها ، ولكن احدهما من الفقر غير الواعي والآخر من الفقر الواعي.

والفقر غير الواعي أن يفتقر الانسان إلىٰ الله وهو لا يعي فقره وحاجته إلىٰ الله ، بل قد لا يعرف الله.

والفقر الواعي أن يعي صاحبه فقره وحاجته إلى الله ، وهذا الوعي يخرج الفقر إلىٰ الله من دائرة الظلمة إلىٰ النور والوعي ، بينما الفقر غير الواعي يبقی في دائرة الظلمة ، لا يشعر به صاحبه.

ولكن الفقير الذي يعي فقره الىٰ الله ، يستدعي من رحمة الله وفضله ما لا يستدعيه الفقير الذي لا يعي فقره وحاجته الىٰ الله.

وكأنما وعي الفقر يركّز ويكرّس حالة الفقر ، وكلما كان الفقر اكبر واركز واكثر تكريساً كان وعاء النفس لتقبل رحمة الله أوسع ، وقد ذكرنا من قبل أن خزائن رحمة الله تعالىٰ لا شح فيها ولا عجز ، وانما اوعية الناس تختلف في تقبل رحمة الله ، فمن كان وعاؤه اكبر كان حظّه من رحمة الله اكثر ، والوعاء هنا الفقر ولكن يتكرس الفقر ويتركز كلما كان الانسان اوعیٰ لفقره وحاجته الىٰ الله.

إن المجرم الخاطئ الذي يؤخذ لينفّذ به حكم الاعدام وهو يعلم بذلك ، يستعطف قلوب الناس والحكام اكثر من المجرم الذي يؤخذ لتنفيذ حكم الاعدام


به وهو لا يعلم إلى اين يذهب ، علماً بانهما يؤخذان إلى الاعدام علىٰ نحو سواء ، إلا أن المجرم المعترف بجريمته يستعطف الناس أكثر من غيره ، لوعيه للجريمة وعدم وعي الاول بها.

امارات وعي الفقر الىٰ الله :

ولوعي الفقر الیٰ الله في دعاء الانسان امارات وعلامات ، فكلما يكون وعي الانسان لفقره وحاجته الىٰ الله اكثر تظهر هذه الامارات في دعائه بشكل اوضح.

ومن اهم هذه الامارات الخشوع والخضوع والبكاء والتضرع والاقبال علىٰ الله ، وحالة الاضطرار واللجوء في الدعاء الىٰ الله.

وقد ورد التأكيد في النصوص الاسلامية علىٰ هذه الحالات والامارات في الدعاء ، وتأكيد دورها في استجابة الدعاء.

وفي الحقيقة إن هذه الامارات تكشف عن تركيز العامل الثاني والثالث في الدعاء ، وهما عامل (وعي الفقر) وعامل (الطلب والسؤال) ، وكلما كان تضرع الانسان وخشوعه واضطراره في الدعاء اكثر كان ذلك دليل وجود عمق اكثر للطلب والسؤال اولاً ، ولوعي العبد لحاجته وفقره الىٰ الله ثانياً.

وهما سبب تأكيد استجابة الدعاء في هذه الاحوال. وقد ورد الامر بهذه الحالات والترغيب اليها في القرآن الكريم نذكر جانبا منها.

يقول تعالىٰ :

١ ـ ( تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) (١).

__________________

(١) الانعام : ٦٣.


٢ ـ ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) (١).

والتضرّع ، والخوف حالتان تؤكّدان وعي الانسان لفقره الىٰ الله وحاجته الىٰ الامن من جانب الله.

والطمع حالة تؤكد وعي الانسان لرغبته فما عند الله.

والخفية في الدعاء تمنح الانسان الاقبال علىٰ الله.

٣ ـ ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) (٢).

وفيه اعتراف واقرار بالظلم من العبد بين يدی الله تعالىٰ ( سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ).

والاعتراف بالظلم من وعي الظلم ، وهو يعمق حالة الاستغفار واللجوء الیٰ الله في نفس العبد المذنب ، وكلما كان العبد اوعیٰ لظلمه وذنبه كان اضطراره ولجوؤه الىٰ الله واستغفاره لله تعالىٰ اكثر.

٤ ـ ( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (٣).

والرغبة ، والرهبة ، والخشوع حالات نفسيّة تؤكّد وعي الانسان لفقره الىٰ الله ، وخوفه من عقوبة الله ورغبته فيما عند الله من الرزق الحسن والثواب.

٥ ـ ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) (٤).

والاضطرار حالة نفسيّة تؤكّد وعي الانسان لحاجته وفقره الىٰ الله ، ووعيه

__________________

(١) الاعراف : ٥٦.

(٢) الانبياء : ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) الانبياء : ٩٠.

(٤) النمل : ٦٢.


لانقطاع كل وسيلة وسبب للنجاة والنجدة إلّا من عند الله.

٦ ـ ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ) (١).

*       *      *

والاجابة من جانب الله تعالىٰ تأتي علىٰ قدر وعي الانسان لفقره واضطراره الىٰ الله ، وعلىٰ قدر الحاجة في السؤال والدعاء ، يقول تعالىٰ : ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ).

وقرب رحمة الله تعالىٰ من العبد يتناسب طرداً مع ما في نفس العبد من الخوف من عذاب الله والطمع في احسان الله.

وكلما كان الخوف في نفس العبد أشد كان اللجوء الىٰ الله تعالىٰ في نفسه اقوىٰ ، وكان دعاؤه لله تعالىٰ اقرب الىٰ الاستجابة.

وكلما كان طمعه في ما عند الله من الرزق الحسن والثواب اكثر كان دعاؤه لله اقرب الىٰ الاستجابة.

القانون الثالث : في العلاقة بين الدعاء والاستجابة ، وهي من اوضح القوانين التي يدركها الانسان بفطرته ، وعليه تنص الآية الكريمة : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).

فإن لكل دعوة اجابة ، وهو معنىٰ قوله تعالىٰ : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وهذا قانون فطري وواضح ، يتقبله الانسان بفطرته ، وهو قانون عام إلّا أن يمنع عن الاجابة عائق.

__________________

(١) السجدة : ١٦.


والعوائق التي تمنع عن الاجابة علىٰ نوعين : فمنها ما يرجع الىٰ المسؤول ، ومنها ما يرجع الىٰ السائل.

والذي يرجع الىٰ المسؤول إما أن يكون من قبيل العجز عن الاجابة ، أو من قبيل البخل والشح بالإجابة.

وقد يرجع الىٰ السائل نفسه ، كما لو كانت الاجابة ليست في صالحه وهو يجهل ذلك ، والله تعالىٰ يعلم به.

أما النوع الاول من العوائق فلا وجود له في ساحة سلطان الله ، فإن سلطانه سبحانه وتعالىٰ سلطان مطلق ، لا يعجز عن شيء ولا يفوته شيء ، ولا يخرج عن سلطانه وقدرته شيء ، ولا حد لجوده وكرمه ، ولا تنقص خزائنه ، ولا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً.

إذن فلا يمكن أن نتصور عائقاً عن الاجابة من النوع الاول.

واما العوائق اتي ترجع الىٰ السائل فهي أمر ممكن ، ويتفق كثيراً أن الله تعالىٰ يؤخر اجابة دعاء عباده لا لبخل وشح في ساحته ، ولا لعجز ، ولكن لعلمه بأن التأخير الصلح لحالهم ، ويتفق كثيرا أن الاجابة تضر بالعبد ، فلا يستجيب الله تعالىٰ لدعوة عبده ، ولكن يعوضه عن الاجابة بخير واسع في الدنيا ، ومغفرة للذنوب أو درجات رفيعة في الآخرة ، أو كل ذلك جميعاً.

ونحن هنا نتحدث عن النوع الاول من العوائق اولاً ، ثم نتحدث عن النوع الثاني من العوائق ثانياً ، ثم نتحدث عن العلاقة بين الدعاء والاجابة ثالثاً.

١ ـ النوع الاول من العوائق :

اما العوائق من النوع الاول فلا وجود لها ، كما ذكرنا في ساحة سلطان الله تعالىٰ وجوده ؛ فإن سلطان الله سلطان مطلق لا يعجز عن شيء ، ولا يفوته شيء ، ولا حد لسلطانه وقدرته ، وكل شيء في الكون خاضع لسلطانه وقدرته ، لا يمتنع


عن ارادته وامره شيء إذا قال له : كن.

( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١).

( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٢).

( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٣).

وليس في الكون شيء يخرج عن قبضة سلطانه وقدرته.

( وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٤).

( إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٥).

وامره سبحانه وتعالىٰ نافذ لا يوقفه شيء ، ولا يعلقه شيء ، ولا يعيقه شيء.

( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٦).

ذلك من حيث سعة سلطانه وقدرته ونفوذ حكمه وامره.

ولا وجود كذلك لشح أو بخل في ساحته ، فهو سبحانه وتعالىٰ الجواد الذي لا حدّ لجوده وكرمه.

( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ) (٧).

( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) (٨).

وعطاؤه سبحانه عطاء ممدود غير مجذوذ.

__________________

(١) البقرة : ١١٧.

(٢) النحل : ٤٠.

(٣) يس : ٨٢.

(٤) الزمر : ٦٧.

(٥) آل عمران : ١٦٥.

(٦) النحل : ٧٧.

(٧) غافر : ٧.

(٨) الانعام : ١٤٧.


( كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) (١).

( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ .. عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٢).

وإذا اراد الله ارسال رحمة فلا ممسكَ لها ( مَّا يَفْتَحِ اللَّـهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ) (٣).

ولا نفاد لخزائن رحمته ، ( وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٤).

( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (٥).

ولا تنقضي خزائن رحمته بما يهب عباده من رزق ، ولا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً.

في دعاء الافتتاح

وفي دعاء الافتتاح : « الحمدلله الفاشي في الخلق امره وحمده ... الباسط بالجود يده ، الذي لا تنقص خزائنه ، ولا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً ».

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام برواية الشريف الرضي : « اعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والارض قد اذن لك في الدعاء ، وتكفل لك بالاجابة ، وامرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه ، ولم يمنعك إن اسأت من التوبة ، ولم يعاجلك بالنقمة ، ولم يفضحك حيث الفضيحة ، ولم يشدد عليك في قبول الانابة ، ولم يناقشك بالجريمة ، ولم يؤيسك من الرحمة ، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة ،

__________________

(١) الاسراء : ٢٠.

(٢) هود : ١٠٨.

(٣) فاطر : ٢.

(٤) المنافقون : ٧.

(٥) الحجر : ٢١.


وحسب سيئتك واحدة ، وحسب حسنتك عشراً ، وفتح لك باب المتاب وباب الاستعتاب.

فإذا ناديته سمع نداءك ، وإذا ناجيته علم نجواك ، فأفضيت إليه بحاجتك ، وأبثثته ذات نفسك ، وشكوت إليه همومك ، واستكشفته كروبك ، واستعنته علىٰ اُمورك ، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر علىٰ اعطائها غيره ، من زيادة الاعمار وصحة الابدان ، وسعة الارزاق.

ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته ، فمتىٰ شئت استفتحت بالدعاء ابواب النعمة ، واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يقنطنك ابطاء اجابته ، فان العطية علىٰ قدر النّية » (١).

وفي الحديث القدسي : « يا عبادي ، كلكم ضال إلّا من هديته ، فاسألوني الهدىٰ اهدكم ؛ وكلكم فقير إلّا من اغنيته ، فاسألوني الغنىٰ ارزقكم ؛ وكلكم مذنب إلّا من عافيته ، فاسألوني المغفرة اغفر لكم ... ولو أن اولكم وآخركم وحيكم وميتكم اجتمعوا فيتمنىٰ كل واحد ما بلغت اُمنيته ، فأعطيته لم يتبين ذلك في ملكي ... فإذا اردت شيئاً فإنّما اقول له كن فيكون » (٢).

٢ ـ النوع الثاني من العوائق :

وأمّا العوائق التي تعيق اجابة الدعاء من النوع الثاني فهي كثيرة.

فقد تضر السائل اجابة الدعاء وهو يجهل ذلك ، والله تعالىٰ أعلم بحاله وصلاحه وفساده منه.

وقد يضره الاستعجال باجابة الدعاء ، والله تعالىٰ يعلم أن التأخير في الاستجابة اصلح لحاله وانفع له ، فيؤخر الله تعالىٰ الاجابة دون أن يلغيها أو

__________________

(١) نهج البلاغة ، قسم الرسائل والكتب ، كتاب رقم : ٣١.

(٢) تفسير الامام : ١٩ ـ ٢٠ ، بحار الانوار ٩٣ : ٢٩٣.


ينفيها.

وفي دعاء الافتتاح : « فصرت ادعوك آمناً ، وأسالك مستأنساً ، لا خائفاً ولا وجلاً ، مدلاً عليك فيما قصدت فيه اليك ، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك ، ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور ».

وقد يؤخر الله تعالىٰ اجابة دعاء عبده ، كي يطول قيامه وتضرعه بين يديه تعالىٰ ، والله تعالىٰ يحب أن يطول وقوف عبده وتضرعه بين يديه ؛ ففي الحديث القدسي : « يا موسىٰ ، إني لست بغافل عن خلفي ، ولكني اُحب أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء من عبادي » (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : « إن العبد ليدعو فيقول الله عزّوجلّ للملكين : قد استجبت له ، ولكن احبسوه بحاجته ، فإني اُحب أن اسمع صوته ، وإن العبد ليدعو فيقول الله تبارك وتعالىٰ : عجلوا له حاجته فإني اُبغض صوته » (٢).

ولكن حتىٰ لو كانت الاجابة تضره فإن الله تعالىٰ لا يلغي الاجابة بشكل مطلق ، وإنما (يبدله) إلىٰ كفارة لذنوبه ، وغفران لها ، أوالىٰ رزق يرزقه اياه في الدنيا عاجلاً ، أو درجات رفيعة له في الجنة.

وفيما يلي نذكر ثلاثة احاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام في هذين (التبديل) و (التأجيل).

(التأجيل) و (التبديل) في الاجابة :

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من مسلم دعا الله سبحانه دعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا اثم ، إلّا اعطاه الله احدىٰ خصال ثلاثة : إما أن يعجل دعوته ، وإما أن

__________________

(١) عدة الداعي.

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٢١ ، ح ٣.


يؤخر له ، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها. قالوا يا رسول الله ، اذن نكثر. قال : اكثروا » (١).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الدعاء مخ العبادة ، وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب له ، إمّا أن يعجل له في الدنيا ، أو يؤجل له في الآخرة ، وإما أن يكفر من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم » (٢).

ويقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام كما في رواية الشريف الرضي : « فلا يقنطنك ابطاء اجابته ؛ فإن العطية علىٰ قدر النية ، وربما اُخّرت عنك الاجابة ؛ ليكون ذلك اعظم لاجر السائل ، واجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه ، واُوتيت خيراً منه ، عاجلاً أو آجلاً ، أو صرف عنك لما هو خير لك. فلرب امر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اُوتيته ؛ فلتكن مسألتك فما يبقیٰ لك جماله وينفیٰ عنك وباله ، والمال لا يبقیٰ لك ولا تبقیٰ له » (٣).

وإذا جمعنا بين هذه النصوص نلتقي خمس حالات في الاجابة :

١ ـ (التعجيل) في الاجابة للحاجة التي يدعو الله تعالىٰ بها العبد.

٢ ـ (التأجيل) في الاجابة للحاجة التي يسألها العبد من ربه.

٣ ـ (التبديل) في الاجابة وذلك بدفع السوء عن الداعي ، إذا كانت اجابة الداعي إلىٰ حاجته ليست في صالحه.

٤ ـ (التبديل) في الاجابة بما يرزق الله تعالىٰ عبده من الدرجات والنعم والمنح في الآخرة ، إذا كانت اجابة الداعي إلى طلبه ليست في صالحه.

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « والله مصيّر دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٧.

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ١٥ ، و ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٨.

(٣) نهج البلاغة ، قسم الرسائل والكتب ، كتاب رقم : ٣١.


عملاً يزيدهم في الجنة » (١).

وفي حديث آخر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « والله ما أخّر الله عزّوجلّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا ، خير لهم عما عجّل لهم منها » (٢).

٥ ـ (التبديل) في الاجابة بما يكفر الله تعالىٰ من ذنوبه وسيئاته ، إذا كانت اجابة الداعي ليست في صالحه (٣).

وقد لا يكون التبديل والتأجيل لمصلحة الداعي فقط في حالتي تأجيل الاجابة والغائها ، وإنّما قد يكون ذلك لمصلحة النظام الذي يشمل السائل وغيره ، فيكون في اجابة الدعاء أو التعجيل في الاجابة إخلال بمصلحة النظام الذي اقره الله تعالىٰ للانسان خاصة ، أو الكون عامة.

عندما ينقلب (الدعاء) إلى (عمل) :

إن (الدعاء) و (العمل) مقولتان مختلفتان ، وكل منهما من منازل رحمة الله ، فإن العمل يستنزل رحمة الله تعالىٰ كما يستنزل الدعاء رحمة الله ، يقول تعالىٰ :

( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) (٤).

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (٥).

وكذلك الدعاء من مفاتيح الرحمة ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).

ولكن ليس كل ما يسأله الانسان ممكناً في حساب النظام الكوني العام ، فقد يدعو الانسان الله تعالىٰ بما لا يمكن في حساب النظام العام (القضاء والقدر) ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٥.

(٢) قرب الاسناد : ١٧١ ، واصول الكافي : ٥٢٦.

(٣) الثلاثة الاخيرة تختص فقط بحالة الغاء دعوة العبد ، فقد يرزق الله تعالىٰ عبده مع استجابة دعائه كفارة ذنوبه ودفع السوء عنه ودرجات رفيعة في الآخرة.

(٤) التوبة : ١٠٥.

(٥) الزلزلة : ٧.


فلا يستجاب الدعاء.

وقد لا تكون الاجابة أو الاستعجال بها في صالح صاحب الدعاء ، فماذا يكون مآل هذا الجهد الذي يبذله الانسان في الدعاء ؟ والجواب : أن الدعاء بنفسه يتحول الى (عمل) وعباده تستنزل رحمة الله عليه.

فلا يكون اذن (القضاء والقدر) من مثبطات الدعاء ، فإن الله تعالىٰ إن لم يستجب لدعاء عبده ، حوله إلى عمل وعبادة يجزيه بها في الدنيا والآخرة.

والنصوص الاسلامية تشير إلىٰ هذا المعنىٰ الدقيق في انقلاب (الدعاء) إلىٰ (العمل).

روى حماد بن عيسىٰ عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : ادع ، ولا تقل قد فرغ من الامر (١) ، فإن الدعاء هو العبادة » (٢).

وفي حديث آخر عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « ادعه ، ولا تقل قد فرغ من الأمر ، فإن الدعاء هو العبادة ؛ إنّ الله عزّوجلّ يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) » (٣).

٣ ـ العلاقة بين الدعاء والاجابة :

عرفنا ان العوائق من النوع الاول منتفية من ساحه الله تعالىٰ بشكل مطلق.

ولكن العوائق من النوع الثاني حقيقة قائمة وموجودة في حياه العباد وادعيتهم ، ولذلك فان الله تعالىٰ قد يؤجل الاستجابة ، وقد يبدل الاجابة.

وفي غير هاتين الحالتين (حالة التأجيل وحالة التبديل) لابد من الاجابة.

__________________

(١) يعني هذا الامر من قضاء الله وقدره الذي لا يمكن تجاوزه واختراقه بالدعاء.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٢ ، ح ٨٦٤٣ واصول الكافي : ٥١٦.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٢ ، ح ٨٦٤٥ واصول الكافي : الفروع ١ : ٩٤.


وهذه الحتمية نابعة من حكم الفطرة القطعي ، إذا كان السائل محتاجاً وفقيراً ومضطر إلى المسؤول ، والمسؤول قادر علىٰ اجابة طلبه ، ولا بخل ولا شح مع خلقه.

والقرآن الكريم يؤكد هذه العلاقة الحتمية (١) يقول تعالىٰ :

١ ـ ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) (٢).

فلا يحتاج المضطر في الاجابة لاضطراره ، وكشف السوء عنه إلّا إلىٰ الدعاء ( إِذَا دَعَاهُ ) ، فإذا دعاه سبحانه استجاب لدعائه ، وكشف عنه السوء.

٢ ـ ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (٣).

والآية الكريمة واضحة وصريحة في الربط بين الدعاء والاستجابة ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).

٣ ـ ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) (٤).

والعلاقة القطعية بين الدعاء والاجابة واضحة وصريحة في هذه الطائفة من آيات كتاب الله ، وهي تدفع كل شك وريب من النفس في قطعية الاجابة من الله لكل دعاء ، ما لم تكن الاجابة مضرة بالداعي ، أو بالنظام العام الذي يعتبر الداعي جزءاً منه ، والاستجابة في هذه الآيات غير مشروطة ولا معلّقة بشيء.

وأمّا الشروط التي سوف نتحدث عنها فهي في الحقيقة ترجع إلى تحقيق الدعاء وتثبيته ، أو مصلحة الداعي نفسه ، ومن دونها يضعف الدعاء أو ينتفي.

__________________

(١) ليس معنىٰ القول بحتمية هذه العلاقة فرض امر علىٰ الله تعالىٰ ، فهو سبحانه قد كتب علىٰ نفسه الرحمة ( فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (الانعام : ٥٤).

(٢) النمل : ٦٢.

(٣) غافر : ٦٠.

(٤) البقرة : ١٨٦.


اذن فإن العلاقة بين الدعاء والاستجابة علاقة حتمية لا يمكن أن تتخلف ، وعلاقة مطلقة لا يمكن ان تتعلق ، إلّا أن يكون الشرط مما يؤكد ويثبت حالة الدعاء ، نحو قوله تعالىٰ : ( إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ )

وفي النصوص الاسلامية في احاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ما يؤكد ويعمق هذه العلاقة بين الدعاء والاجابة.

ففي الحديث القدسي : « يا عيسیٰ ، إني اسمع السامعين ، استجيب للداعين إذا دعوني » (١).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من عبد يسلك وادياً فيبسط كفيه ، فيذكر الله ويدعو إلّا ملأ الله ذلك الوادي حسنات ، فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر » (٢).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام في حديث : « لو أنّ عبداً سدّ فاه ، ولم يسأل لم يعط شيئاً ، فسل تعط » (٣).

وعن ميسر بن عبدالعزيز عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « يا ميسر ، إنه ليس من باب يقرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه » (٤).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « متىٰ تكثر قرع الباب يفتح لك » (٥).

وفي وصايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « يا علي ، اوصيك بالدعاء فإن معه الاجابة » (٦).

وعن الصادق عليه‌السلام : « إذا اُلهِم احدكم الدعاء عند البلاء فاعلموا ان البلاء

__________________

(١) اصول الكافي.

(٢) ثواب الاعمال : ١٣٧.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٤ ، ح ٨٦٠٦.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٥ ، ح ٨٦١١.

(٥) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٥ ، ح ٨٦١٣.

(٦) وسائل الشيعة ، کتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٢ ، ح ١٨.


قصير » (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : « لا والله لا يلح عبد علىٰ الله عزّوجلّ إلّا استجاب الله له » (٢).

والنصوص الاسلامية تؤكد هذه الحتمية والاطلاق في العلاقة بين الدعاء والاجابة ، وتبين بشكل واضح وصريح أنّ الله تعالىٰ يستحيي أن يرد دعاء عبده إذا دعاه.

في الحديث القدسي : « ما انصفني عبدي ، يدعوني فأستحيي أن ارده ، ويعصيني ولا يستحيي مني » (٣).

وعن الصادق عليه‌السلام : « ما أبرز عبد يده إلىٰ الله العزيز الجبار إلا استحيىٰ الله عزّوجلّ أن يردها » (٤).

وفي الحديث القدسي : « من احدث وتوضأ وصلّىٰ ودعاني فلم اُجبه فيما يسأل عن امر دينه ودنياه فقد جفوته ، ولست برب جافٍ » (٥).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما كان الله ليفتح باب الدعاء ، ويغلق عليه باب الاجابة » (٦).

وعن امير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً : « من اُعطي الدعاء لم يحرم الاجابة » (٧).

وفي النصين الاخيرين التفاتة ذات مغزیً ونكهة علوية ؛ فإن الله تعالىٰ كريم ووفي ، فإذا فتح باب الدعاء فلا يمكن أن يغلق علىٰ العبد باب الاجابة ، وإذا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٧ ، ح ٨٦٢٤.

(٢) اصول الكافي ، كتاب الدعاء ، باب الالحاح في الدعاء ، ح ٥.

(٣) ارشاد القلوب للديلمي.

(٤) عدة الداعي ، وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٤ ، ح ١.

(٥) ارشاد القلوب للديلمي.

(٦) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٢ ، ح ١٢ ، و ٤ : ١٠٨٧ ، ح ٨٦٢٤.

(٧) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٢ ـ و ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦٢٢.


رزق العبد توفيق الدعاء فلا يمكن أن يحرمه الاجابة.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما فتح لاحد باب دعاء إلا فتح الله له فيه باب اجابة ، فإذا فتح لأحدكم باب دعاء فليجهد فإن الله لا يمل » (١).

وهذا هو المنزل الثالث من منازل رحمة الله. اللّهم سمعنا وشهدنا وآمنا.

المنازل الثلاثة للرحمة :

في قصة هاجر واسماعيل عليهما‌السلام ، وفي قصة ابي الانبياء ابراهيم عليه‌السلام نلتقي مشهداً فريداً أو نادراً من نوعه ، في اجتماع المنازل الثلاثة للرحمة في موضع واحد ، وفي قصة واحدة ، وذلك عندما أودع ابو الانبياء ابراهيم عليه‌السلام زوجته هاجر في وادياً غير ذي زرع وترك معها ابنهما اسماعيل عليه‌السلام وهو يومئذ طفل رضيع ، وقال : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (٢).

وذهب ابراهيم خليل الله بعد ذلك إلىٰ شأنه كما امره الله تعالىٰ ، وترك هذه المرأة والطفل الرضيع وحدهما في هذا الوادي القفر بامر الله تعالىٰ ، فنفد ما كان لديهما من الماء ، وعطش الطفل وغلب عليه الظمأ وبحثت المرأة عن الماء فلم تجد له اثراً ، وأخذ الطفل يصرخ ويضرب بيديه ورجليه ، والاُم تهرول هنا وهناك ، فتصعد علىٰ الصفا تارة ، تنظر إلى الاُفق البعيد بحثاً عن الماء ، ثم تهبط وتهرول باحثة عن الماء إلىٰ جانب جبل المروة ، وتدعو الله تعالىٰ أن يرزقهما الماء في هذا الوادي القفر ، والطفل يصرخ ويبكي ويضرب بيديه ورجليه عند البيت الحرام.

ففجر الله تعالىٰ الارض بالماء تحت قدمي الطفل ، فأسرعت الاُم إلىٰ الماء ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٧ ، ح ٨٦٢٤.

(٢) ابراهيم : ٣٧.


لتروي طفلها الرضيع ، ولتلملم الماء لئلا يذهب هدراً ، فتقول للماء وهي تصنع له حوضاً يجمعه : « زم ... زم ... ».

إن هذا المشهد العجيب استنزل يومذاك رحمة الله تعالىٰ ، ففجر الله تعالىٰ زمزم في واد غير ذي زرع ، وجعلها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات علیٰ هذه الارض المباركة.

وجعل الله تعالىٰ هذا المشهد جزءاً من أعمال الحج ، وثبته الله تعالىٰ في واحد من اشرف فرائضه.

فما هو السر الكامن في هذا المشهد ؟ ولماذا هذا الاهتمام به في أصل الدين ، وتثبيته في الحج ؟ وما هو السبب المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة الله تعالىٰ بقوة في هذا المشهد ، وجعلها مبدأً لبركات كثيرة في تاريخ اجيال الموحدين ؟

فلابد أن يكون هذا المشهد ينطوي علىٰ سرّ خاص استدعىٰ نزول رحمة الله تعالىٰ في ذاك الوادي القفر ، واستدعىٰ دوام هذه الرحمة وثباتها ، وجعل منها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات ، واستدعىٰ أن يثبتها الله تعالىٰ في حج اجيال الموحدين عند بيته الحرام.

إنني اعتقد ، والله تعالىٰ اعلم باسرار هذا المشهد ، أن هذا المشهد النادر كان يجمع يومئذ بين ثلاثة منازل من منازل رحمة الله تعالىٰ ، كل منها يستنزل رحمة الله.

واول هذه المنازل الحاجة التي كان يمثلها الظمأ الذي اضر بالطفل الرضيع ، والحاجة والفقر إلىٰ الله من منازل رحمة الله.

وكلّما اضر الفقر بصاحبه أكثر كان أقرب إلىٰ رحمة الله ، ولذلك نرىٰ أن الاطفال الرضع إذا اضرّ بهم ألم أو جوع أو ظمأ أو برد أو حرّ ، كانوا أقرب إلىٰ رحمة الله من الكبار الّذين يطيقون ذلك.


وذلك لان الحاجة تضرّ بهم أكثر من غيرهم.

وقد ورد في الدعاء « اللّهم أعطني لفقري » والفقر إلى الله وحده يستنزل رحمة الله تعالىٰ ، وكلما كان الفقر إلىٰ الله اعظم كان أدعىٰ لنزول رحمة الله.

فإن الفقر إلىٰ الله يجعل الانسان عند رحمة الله ، ويقرب الانسان منه ، سواء كان الانسان يعي فقره إلی الله ام لا يعي ، وإن كان وعي الفقر إلى الله يضاعف من قيمته وقدرته في استنزال رحمة الله تعالىٰ ، كما ذكرنا.

ولكن بشرط إلّا يحرّف الانسان الفقر عن موضعه ، فيتصوّر أنّه من الفقر إلى المال أو إلى حطام الدنيا ، أو إلىٰ بعض عباد الله بدل أن يعيه علىٰ واقعه من الفقر إلىٰ الله.

وشتّان بين هذا الفقر وذاك الفقر. والّذي يستنزل رحمة الله تعالىٰ هو الفقر إلىٰ الله ، فإذا حرف الانسان هذا الفقر من الفقر إلىٰ الله إلىٰ الفقر إلىٰ عباد الله ، فقد الفقر قيمته في استنزال رحمة الله تعالىٰ ، واكثر فقر الناس من هذا النوع.

وفي هذا المشهد كان صراخ الطفل وضجيجه وبكاؤه من شدة العطش مشهداً نافذاً مؤثراً في استنزال رحمة الله تعالىٰ.

وليس في مشاهد الحاجة والفاقة إلى الله مشهد مؤثر ورقيق يستنزل رحمة الله تعالىٰ ، اكثر من مشهد طفل يتلظىٰ من العطش ، ولا تجد له اُمّه إلىٰ الماء سبيلاً.

والمنزل الثاني لرحمة الله في هذا المشهد هو (السعي) ، وهو شرط للرزق ، ولا رزق من دون سعي ، وقد جعل الله تعالىٰ السعي والحركة في حياة الانسان مفتاحاً للرزق.

وإذا كان عامل الفقر يتطلب من الانسان حالة الاضطرار والفاقة والحاجة ، فإنّ عامل السعي يتطلب من الانسان العزم والقوّة والارادة ، والحركة والنشاط ، وعلىٰ قدر حركة الانسان وسعيه وعزمه يرزقه الله تعالىٰ من رحمته.


وقد تحركت اُم اسماعيل عند ما نفد عندهما الماء ، وغلب الظمأ علىٰ اسماعيل تحركت للبحث عن الماء وسعت في طلبه ، تصعد إلىٰ الصفا مرة ، تنظر في الافق البعيد باحثة عن الماء ، وتنزل من الصفا وتتّجه إلى المروة تارة اخرىٰ لتصعد عليه وتنظر إلى الافق البعيد تبحث عن الماء ، ورغم أنها استعرضت في هذه الحركة كل الاُفق من علىٰ الصفا والمروة فلم تجد ماءً ، لم تيأس وكررت هذه الحركة والصعود والنزول والهرولة من الصفا إلىٰ المروة وبالعكس سبع مرات.

ولو لا هذا الامل والرجاء لانقطع سعيها في الشوط الاول ، ولكن الامل والرجاء اللذين كانا يعمران قلبها العامر كانا يدعوانها كل مرة إلىٰ إعادة السعي مرة اخرىٰ ، حتىٰ فرج الله عنهما وفجر زمزم تحت قدمي اسماعيل ، ولكن الامل هنا في الله وليس في الماء ، ولو كان املها في الماء لانقطع املها في المرة الاُولىٰ أو الثانية.

وقد جعل الله تعالىٰ هذا السعي وهذه الحركة شرطاً للرزق ، ولا تزول رحمته علىٰ الانسان ، والله تعالىٰ يرزق عباده ، وينزل عليهم رحمته ، ولكن الله تعالىٰ شاء أن يكون السعي والحركة مفتاحاً لرزقه ورحمته.

والمنزل الثالث لرحمة الله تعالىٰ في هذا المشهد هو دعاء ام اسماعيل ، وانقطاعها إلىٰ الله واضطرارها إليه عزّ شأنه في طلب الماء في هذا الوادي القفر غير ذي الزرع.

وكلّما انقطع الانسان في دعائه الىٰ الله اكثر كان اقرب الىٰ رحمة الله.

ولست ادري في أية حالة من حالات الانقطاع إلىٰ الله كانت هذه المرأة الصالحة ، في تلك اللحظات في ذلك الوادي ، وليس من انسان أو حيوان حولها ، ووحيدها الرضيع يتلظى عطشاً ، ويكاد أن يلفظ آخر انفاسه.

لقد انقطعت هذه المرأة إلى الله في تلك اللحظه انقطاعاً ضجّت له ملائكة الله


بالدعاء ، وضموا اصواتهم الى صوتها ، ودعاءهم إلى دعائها.

ولو أن الناس كلهم انقطعوا إلىٰ الله بمثل هذا الانقطاع ( لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) وعمتّهم رحمة الله تعالىٰ. عليكِ سلام الله يا اُمنا ام اسماعيل من ابنائك الّذين آتاهم الله النور والهدىٰ ، والايمان والنبوة ومن المهتدين بهداهم ونورهم ، فلو لا الانفراد في ذلك الوادي القفر غير ذي الزرع في هجير الحجاز ، ولو لا تلك المعاناة والمحنة لم تنقطعي إلى الله عزّوجلّ بمثل هذا الانقطاع في ذلك الموقف العسير علىٰ جبلي الصفا والمروة ، ولو لا ذلك الانقطاع إلىٰ الله ، لم تنزل رحمة الله تعالىٰ عليكما ، ولو لا تلك الرحمة لم يكن انقطاعك الىٰ الله وسعيك بين الصفا والمروة من شعائر الله في الحج.

( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) (١).

لقد ثبّت الله تعالىٰ يا اُمنا انقطاعك إليه في ذلك الهجير ، وسعيك إلى الماء وصراخ صغيرك اسماعيل في ذاكرة التاريخ ، ليعرف الاجيال من بعدك كيف يستنزلون رحمة الله ، وكيف يتعرضون لرحمة الله.

إن رحمة الله تعالىٰ واسعة لا شح فيها ولا نقص ، ولا عجز ، ولكن الناس لا يعرفون مواضع هذه الرحمة ومنازلها ، ولا يحسنون التعرّض لها والاستفادة منها.

ومنك تعلمنا يا اُمنا كيف نطلب منازل رحمة الله وكيف نتعرض لرحمة الله ، ومنك يا اُمنا اخذنا مفاتيح الرحمة.

وعذراً يا اُمنا إذا كنّا نحن ابناءك لم نحفظ هذه المفاتيح التي سلمتِها إلىٰ اسماعيل من بعدك ، وتوارثها ابناء اسماعيل من اسماعيل وتوارثناها نحن من ابنك

__________________

(١) البقرة : ١٥٨.


محمد المصطفیٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضيعناها فيما ضيعنا من ثرات الانبياء ومواريثهم.

لقد تعلمنا من أبينا ابراهيم كيف نوحّد الله ، وتعلمنا من اُمنا هاجر كيف نسأل الله.

وفي متاهات الهوىٰ والطاغوت ضيعنا هذا وذاك.

فأعنا اللّهم علىٰ تحصيل ما ضيعناه من تراث أبينا واُمنا ابراهيم وهاجر عليهما‌السلام ، واجعلنا من اُسرتهم ، ولا تطردنا ربنا من هذا البيت من آل ابراهيم وآل عمران.

( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١).

( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (٢).

لقد اخذت اُمنا (ام اسماعيل) يومذاك في ذلك الوادي القفر ، وفي رمضاء ذلك الهجير بأسباب الخير كلّها ، وذلك هو السعي والدعاء والفقر.

لقد كانت امنا تسعىٰ إلى الماء وتشرف علىٰ الوادي تارة من علىٰ الصفا ، واخرىٰ من علىٰ المروة باحثة عن الماء ، والله تعالىٰ يحب من عباده الحركة والسعي والعمل ، وجعل ذلك من أهم شروط الرزق.

ولكنها في سعيها كانت منقطعة إلىٰ الله ، وتدعوه تعالىٰ وتسأله في حالة من الانقطاع ، يقلّ نظيرها في تاريخ الانسان.

فلا السعي والتحرك ، كان يحجبها عن الله ، ويقطعها عنه تعالىٰ ، ولا الانقطاع الىٰ الله كان يعطل فيها حالة الحركة والسعي ، السعي الىٰ الماء بأقصىٰ ما

__________________

(١) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) البقرة : ١٢٨.


تستطيعه امرأة في ذلك الوادي ، وفي ذلك الهجير ، في اشواط سبعة من الصفا الى المروة ومن المروة الىٰ الصفا.

واننا اليوم في شعائر حجنا ، نسعىٰ في هذه الاشواط بين هذين الجبلين ، من غير معاناة ولا عذاب ، ولا هم ، ولا قلق فنكدح ونتعب ويرهقنا هذا السعي.

وقد قامت امنا هاجر بهذا السعي كله في ذلك الوادي القفر وفي رمضاء ذلك الهجير ، وهي ظمأىٰ قد استنفد العطش كل حولها وقوتها ، ورضيعها الصغير يكاد يلفظ آخر انفاسه ، ولكنها مع ذلك قامت بهذا السعي الىٰ الماء بقوة وهمّة وعزم وارادة.

ومع ذلك لم يقطعها هذا السعي ولو لحظةً واحدة عن الانقطاع الىٰ الله ، ولم يحجبها ولو لحظةً واحدة عن الله. لقد كانت في هذا السعي المرير كله علىٰ اتصال بالله وانقطاع الىٰ الله ، لا يشغلها هذا عن ذاك ولا يحجبها ذلك عن هذا ، فقرنت السعي الىٰ الدنيا بالانقطاع الىٰ الله ، وقرنت الانقطاع الىٰ الله بالسعي الىٰ الدنيا ، ومن منا يقدر علىٰ ذلك ؟

والملائكة يومئذ ينظرون اليها ويتعجبون منها ، كيف استطاعت أن تنقطع الىٰ الله هذا الانقطاع ؟ وكيف تمكنت أن تسعىٰ الىٰ الماء وهي مثقلة بالمتاعب والمحن هذا السعي ؟ وكيف استطاعت أن تجمع بين السعي والانقطاع الىٰ الله بمثل هذا الجمع ؟

فيضجون الىٰ الله تعالىٰ أن يستجيب لدعائها وسعيها ، وأن يستنزل سعيها ودعاؤها رحمة الله تعالىٰ ، وتستقرب رحمة الله حتىٰ تكاد أن تنطبق السماء علىٰ الارض.

لقد صعد يومئذ عمود من الدعاء والعمل الصالح من الارض الىٰ السماء ، ونزل عمود من الرحمة من السماء الىٰ الارض ، واتصلت الارض بالسماء والسماء


بالارض ، وحشود الملائكة يشهدون هذا المشهد الفريد ، ويضجون الىٰ الله تعالىٰ ويتضرعون ، فيحدث ما ليس بالبال ولا بالخيال ، وتتفجر الارض تحت اقدام الرضيع ماءً بارداً زلالاً شفافاً هنيئاً.

وسبحان الله والحمد لله ، لقد استجاب الله لسعيها ودعائها ، ولكن لا حيث سعت وإنّما تحت اقدام الرضيع الذي كان يضرب بيديه ورجليه ظمأً يومذاك ، ليعلمها الله أنه تعالىٰ هو وحده الذي رزقها هذا البارد العذب في هذه الرمضاء وذلك الهجير ، وليست هي التي حققت ذلك بسعيها وحركتها ، وإن كان لابد لها أن تسعىٰ وتتحرك ليرزقها الله تعالىٰ زمزم.

ففجر الله (زمزم) تحت اقدام الرضيع ، واقام الله تعالىٰ في ذلك الوادي بيته المحرم ، وبارك في زمزم وجعل منها سقاية الحاج مدىٰ الاجيال ، وثبّت الله هذا السعي والدعاء في ذاكرة التاريخ ، وجعل منه شعيرة من شعائر الحج ، يحذو فيها حشود الحجاج كل عام حذوها ، ويحيّون فيها من بُعد امهم هاجر وأبويهم ابراهيم واسماعيل.

لقد اجتمع في هذا الوادي يومذاك ثلاثة اسباب من اسباب نزول رحمة الله تعالىٰ : الفقر ، والسعي ، والدعاء ؛ فقر في اقصىٰ درجات الضعف والفاقة ، وسعي في قوة وحزم وعزم ، ودعاء في تضرع وانقطاع واضطرار.

وفي الحج نحيي نحن كل عام هذا المشهد لنتعلم من اُمّنا ام اسماعيل عليهما‌السلام كيف نطلب رحمة الله تعالیٰ ، وكيف نستنزل فضله ورحمته ، وكيف نغرف من رحمته ونتعرض لها.


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي




عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قلت له : آيتان في كتاب الله لا أدري ما تأويلهما ؟ فقال : وما هما ؟ قال : قلت : قوله تعالىٰ : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ثم ادعو فلا أرىٰ الاجابة. قال : فقال لي : افترىٰ الله اخلف وعده ؟ قال : قلت : لا ، قال : فمه ؟ قلت : لا أدري. فقال : الآية الاخرىٰ ، قلت : قوله تعالىٰ : ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) فاُنفق فلا أرىٰ خلفاً. قال : افترىٰ الله اخلف وعده ؟ قال : قلت : لا. قال : فمه ؟ قلت : لا أدري.

قال لكني اُخبرك إن شاء الله تعالىٰ. أما إنكم لو اطعتموه فيما امركم ثم دعوتموه لأجابكم ، ولكن تخالفونه وتعصونه فلا يجيبكم ، وأما قولك : تنفقون فلا ترون خلفاً ، أما إنكم لو كسبتم المال من حلّه ثم انفقتموه في حقه ، لم ينفق رجل درهماً إلّا أخلفه الله عليه ، ولو دعوتموه من جهة الدعاء لاجابكم ، وإن كنتم عاصين.

قال : قلت : وما جهة الدعاء ؟ فقال : إذا أدّيت الفريضة مجدت الله وعظمته وتمدحه بكل ما تقدر عليه ، وتصلي علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجتهد في الصلاة عليه وتشهد له بتبليغ الرسالة ، وتصلي علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أبلاك وأولاك ، وتذكر نعمه عندك وعليك وما صنع بك فتحمده وتشكره علىٰ ذلك ، ثم تعترف بذنوبك ذنباً ذنباً وتقرّ بها أو بما ذكرت منها ، وتجمل ما خفي عليك منها ، فتتوب إلىٰ الله من جميع معاصيك وأنت تنوي الّا تعود ، وتستغفر الله منها بندامة وصدق نية وخوف ورجاء ، ويكون من قولك : « اللّهم إني أعتذر اليك من ذنوبي وأستغفرك وأتوب اليك ، فأعنّي علىٰ طاعتك ، ووفقني لما أوجبت علي من كلّ ما يرضيك ؛ فإني لم أر


أحداً بلغ شيئاً من طاعتك إلّا بنعمتك عليه قبل طاعتك ، فأنعم عليّ بنعمة أنال بها رضوانك والجنة » ثم تسأل بعد ذلك حاجتك ؛ فإني أرجو أن لا يخيبك إن شاء الله تعالىٰ (١).

وهذه الرواية تشير الىٰ شروط استجابة الدعاء وآدابه.

وكنا نود في هذا الفصل أن نتحدث أوّلاً عن شروط استجابة الدعاء ، ثم نتحدث عن آداب الدعاء ، لو لا أني واجهت بعض الصعوبة في فرز (الشروط) عن (الآداب) ، وآثرت دمج الشروط والآداب.

وفيما يلي اُشير اشارة سريعة الىٰ طائفة من الشروط والآداب المتعلقة بالدعاء من خلال النصوص الاسلامية.

١ ـ معرفة الله :

من أهم شروط استجابة الدعاء معرفة الله ، والايمان بسلطانه المطلق وقدرته المطلقة علىٰ تحقيق ما يطلبه عبده منه. في الدر المنثور عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو عرفتم الله حق معرفته ، لزالت لدعائكم الجبال » (٢).

ورویٰ العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالىٰ : ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) ، قال : « يعلمون أني أقدر أن اُعطيهم ما يسألوني » (٣).

وروىٰ الطبرسي في مجمع البيان في تفسير الآية نفسها عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « ( وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) ليتحققوا أني قادر علىٰ إعطائهم ما سألوه ( لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) » (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣١٩ ، وفلاح السائل : ٣٨ ـ ٣٩ ، وعدة الداعي : ١٦.

(٢) الميزان ٢ : ٤٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.


وروي أن الإمام الصادق عليه‌السلام قرأ : ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ).

فسئل : « ما لنا ندعوا ، ولا يستجاب لنا ؟ فقال : لأنكم تدعون من لا تعرفون ، وتسألون ما لا تفهمون » (١).

وفي هذا الحديث تأكيد علىٰ أهمية دور وعي السؤال والمسؤول عنه في امر الاستجابة في الدعاء.

وعن ابي عبدالله الصادق عليه‌السلام : قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله عزّوجلّ ، من سألني ، وهو يعلم اني اضر وانفع استجبت له » (٢).

٢ ـ حسن الظن بالله :

حسن الظن بالله من شعب معرفة الله تعالىٰ ، والله تعالىٰ يعطي عباده بقدر حسن ظنهم به ، ويقينهم بسعة رحمته وكرمه.

في الحديث القدسي : « انا عند ظن عبدي بي ، فلا يظن بي إلّا خيراً » (٣).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ادعوا الله ، وانتم موقنون بالاجابة » (٤).

ورویٰ ابن فهد الحلي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ادعوا الله وانتم موقنون بالاجابة » (٥).

واوحیٰ الله تعالیٰ الیٰ موسیٰ : « ما دعوتني ورجوتني فإني سامع لك » (٦).

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « إذا دعوت فأقبل بقلبك ، وظنّ حاجتك

__________________

(١) الصافي : ٥٧ ، ط. حجرية ايران في تفسير الآية ٨٦ ، من سورة البقرة.

(٢) ثواب الأعمال : ٨٤.

(٣) الميزان ٢ : ٣٧.

(٤) الميزان ٢ : ٣٦.

(٥) عدة الداعي : ١٠٣ ، ووسائل الشيعة ٤ : ١١٠٥ ، ح ٨٧٠٢.

(٦) وسائل الشيعة ٤ : ١١٠٥ ، ح ٨٧٠٣.


بالباب » (١).

وفي الحديث القدسي : « انا عند ظنّ عبدي بي فلا يظن بي الّا خيراً » (٢).

وعن الامام الصادق عليه‌السلام : « فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الاجابة » (٣).

وعن الصادق عليه‌السلام : « إذا دعوت فاقبل بقلبك ، وظنّ حاجتك بالباب » (٤).

وفي مقابل ذلك القنوطُ عن رحمة الله ، وعن اجابة الدعاء ، وهو من اسباب ابتعاد الانسان عن رحمة الله ، فقد يدعو الانسان فيؤخر الله تعالىٰ الاجابة لامر يعود إليه بالصلاح ، ولا يعرفه ، ويعرفه الله فيسوء ظنه بالله تعالىٰ ، ويقنط من رحمته عز شأنه ، فيحجبه هذا القنوط واليأس عن رحمة الله.

عن الامام الصادق عليه‌السلام : « لا يزال العبد بخير ورجاء ورحمة من الله عزّوجلّ ، ما لم يستعجل ، فيقنط ، ويترك الدعاء. وقيل له : كيف يستعجل ؟ قال : يقول : قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرىٰ الاجابة » (٥).

وعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك ، إني قد سألت الله الحاجة منذ كذا وكذا سنة ، وقد دخل قلبي من ابطائها شيء ، فقال : يا أحمد ، إيّاك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتىٰ يقنطك. اخبرني عنك لو أني قلت لك قولاً كنت تثق به منّي ، فقلت له : جعلت فداك ، إذا لم اثق بقولك فبمن اثق ، وأنت حجة الله علىٰ خلقه ؟ قال : فكن بالله اوثق ، فإنك علىٰ موعد من الله عزّوجلّ ، أليس الله يقول : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ

__________________

(١) أصول الكافي : ٥١٩ ، ووسائل الشيعة ٤ : ١١٠٥ ، ح ٨٧٠٠.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٥.

(٣) أصول الكافي ، باب الاقبال علىٰ الدعاء.

(٤) أصول الكافي ، باب الاقبال علىٰ الدعاء ، ج ٣.

(٥) أصول الكافي : ٥٢٧ ، ووسائل الشيعة ٤ : ١١٠٧ ، ح ٨٧١١.


أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) وقال :

( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ) ، وقال : ( وَاللَّـهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ) فكن بالله اوثق منك بغيره ، ولا تجعلوا في انفسكم إلّا خيراً فإنّه لغفور لكم » (١).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : قال : « إن العبد إذا عجل فقام لحاجته (يعني انصرف عن الدعاء ولم يطل في الدعاء ، والوقوف بين يدي الله طالباً للحاجة) يقول الله عزّوجلّ ، أما يعلم عبدي أني انا الله الذي اقضي الحوائج ؟! » (٢).

وعن هشام بن سالم عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « كان بين قول الله عزّوجلّ ، ( قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ) وبين اخذ فرعون أربعون عاما » (٣).

وعن اسحاق بن عمّار قال : « قلت لأبي عبدالله : يستجاب للرجل الدعاء ثم يؤخر ؟

قال : نعم ، عشرين سنة » (٤).

٣ ـ الاضطرار الى الله :

ولابدّ في الدعاء أن يلجأ الانسان الىٰ الله تعالىٰ ، لجوء المضطر الذي لا يجد من دون الله عزّوجلّ من يرجوه ومن يضع فيه ثقته ورجاءه ، فإذا توزع رجاء الانسان في الله تعالىٰ وغيره من عباده ، لم ينقطع إلىٰ الله حق الانقطاع ، ولم يجد في نفسه حالة الاضطرار إلىٰ الله ، وهو شرط اساسي في استجابة الدعاء.

عن امير الؤمنين في وصيته لمحمّد بن الحنفية : « وبالاخلاص يكون

__________________

(١) قرب الاسناد : ١٧١.

(٢) وسائل الشيعة : ١١٠٦ ، ح ٨٧٠٩.

(٣) أصول الكافي : ٥٦٢.

(٤) أصول الكافي : ٥٦٢.


الخلاص ، فإذا اشتد الفزع فالىٰ الله المفزع » (١).

ففي حالة الاضطرار ينقطع رجاء الانسان عن كل أحد ، ويفزع الىٰ الله حق الفزع ، ولا يكون له رجاء إلّا عند الله عزّوجلّ.

وروي أن الله اوحیٰ الیٰ عيسیٰ عليه‌السلام :

« ادعني دعاء الحزين الغريق ، الذي ليس له مغيث. يا عيسیٰ ، سلني ولا تسأل غيري ، فيحسن منك الدعاء ومني الاجابة » (٢).

وروي عن الامام الصادق عليه‌السلام :

« وإذا أراد احدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلّا اعطاه فلييأس من الناس كلهم ، ولا يكون له رجاء إلّا عند الله عزّوجلّ ، فإذا علم الله ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلّا اعطاه » (٣).

٤ ـ الدخول من الابواب التي أمر الله تعالىٰ بها :

والدعاء اقبال علىٰ الله تعالىٰ ، فلابد أن يكون هذا الاقبال عن الطرق التي امر الله تعالىٰ بها.

روي أن رجلاً من بني اسرائيل عبد الله تعالىٰ اربعين ليلة ثم دعا الله تعالىٰ ، فلم يستجيب له ، فشكا ذلك إلیٰ عيسیٰ بن مريم عليه‌السلام.

فسأل عيسیٰ بن مريم الله تعالیٰ عن ذلك ، فقال الله : « يا عيسیٰ ، إنه دعاني ، وفي قلبه شك منك » (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٢١ ، ح ٨٧٦٤.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٧٤ ، ح : ٨٩٥٨.

(٣) تفسير الصافي : ٥٨ ، ط : ايران الحجرية ، أصول الكافي : ٣٨٢ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٧٤ ، ح : ٨٩٥٦.

(٤) كلمة الله ، ح : ٣٧١.


٥ ـ اقبال القلب علىٰ الله :

وهو من أهمّ شروط الاستجابة ، فإن حقيقة الدعاء في اقبال القلب علىٰ الله ، فإذا اشتغل قلب الانسان بغير الله تعالىٰ من شواغل الدنيا لم يحقق الانسان حقيقة الدعاء.

وروي عن الامام الصادق عليه‌السلام : « إن الله عزّوجلّ لا يقبل دعاء بظهر قلب ساه » (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : « فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الاجابة » (٢).

وعن أبي عبدالله الصادق قال : « قال أمير المؤمنين : لا يقبل الله عزّوجلّ دعاء قلب لاه » (٣).

وفي الحديث القدسي : « يا موسیٰ ، ادعني بالقلب النقي واللسان الصادق » (٤).

وفي وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : « لا يقبل الله دعاء قلب ساه » (٥).

وعن سلمان بن عمرو قال : « سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : إن الله عزّوجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الاجابة » (٦).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام أيضاً :

« إنّ الله عزّوجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب قاس » (٧).

فلابدّ في الدعاء من اقبال القلب علىٰ الله ، وحضوره عند الله. و (اللهو)

__________________

(١) أصول الكافي ، باب الاقبال علىٰ الدعاء.

(٢) أصول الكافي ، باب الاقبال علىٰ الدعاء ، ح ١.

(٣) أصول الكافي ، باب الاقبال علىٰ الدعاء ، ح ٢.

(٤) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٤.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٣٣٩.

(٦) وسائل الشيعة ٤ : ١١٠٥ ، ح : ٨٧٠٥.

(٧) وسائل الشيعة ٤ : ١١٠٦ ، ح : ٨٧٠٧.


و (السهو) و (القسوة) من الحجب والعوائق التي تعيق القلب وتمنعه من الاقبال علىٰ الله.

وفي قراءة الأدعية المأثورة ينبغي أن يستحضر القارئ للدعاء حالة الدعاء ، ويحذر من أن ينفصل قلبه عن لسانه فيشتغل لسانه بقراءة الدعاء ويشتغل قلبه عن لسانه بغير ذلك من شواغل الدنيا.

٦ ـ الخضوع وترقيق القلب :

إذا اراد الانسان أن يصيب دعاؤه الاستجابة فلابدّ له أن يطلب رقة القلب ، ويسعى الىٰ ترقيق قلبه. فإن القلب إذا رق شفّ وزالت الحجب بينه وبين الله تعالىٰ ، وكان قريباً من الله.

ولاُسلوب السؤال والدعاء تأثير في ترقيق القلب. وما ورد من النصوص في التذلل عند الطلب والدعاء ، ورد لتحقيق هذه الغاية.

روى احمد بن فهد الحلّي في عدة الداعي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ابتهل ودعا كان كما يستطعم المسكين (١).

وروي أنه كان فيما أوحىٰ الله عزّوجلّ الىٰ موسىٰ عليه‌السلام :

« ألق كفيك ذُلاً بين يديّ كفعل العُبيد المستصرخ الىٰ سيّده ، فإذا فعلت ذلك رحمت ، وأنا أكرم الاكرمين القادرين » (٢).

وعن محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ) (٣) ، فقال عليه‌السلام : الاستكانة هي الخضوع ، والتضرع

__________________

(١) عدة الداعي : ١٣٩ ، والمجالس للمفيد : ٢٢.

(٢) عدة الداعي : ١٣٩.

(٣) المؤمن : ٧٦.


هو رفع اليدين والتضرع بهما » (١).

ولأنّ الغاية من هذا الاسلوب في الدعاء لم يكن واضحاً للناس ، كان المشككون يشككون الناس في (اسلوب الدعاء). تریٰ لماذا نرفع اليدين إلیٰ السماء ؟ وهل يكون الله في جهة السماء حتىٰ نرفع يدينا الىٰ السماء ؟ فكان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام يوضحون لهم أن الله تعالىٰ في كل مكان ، ولكننا بهذ الاسلوب في الدعاء نتخذ شعار الاستكانة والحاجة بين يدي الله ، فإن رفع اليدين علامة الاستكانة والحاجة. وهذا الشعار له تأثير ايحائي في ترقيق القلب وازالة القسوة عنه ، وتخليصه وتحضيره بين يديه تبارك وتعالىٰ.

روى الطبرسي في (الاحتجاج) أن ابا قرة قال للرضا عليه‌السلام :

« ما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم الىٰ السماء ؟ قال أبو الحسن عليه‌السلام : إن الله استعبد خلقه بضروب من العبادة ... واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرع ببسط الأيدي ورفعها الىٰ السماء لحال الاستكانة علامة العبودية والتذلل له » (٢).

ولحظات (الرقة) هي لحظات نزول الرحمة ، وعلىٰ الانسان أن يغتنم هذه اللحظات بالتوجه الىٰ الله للدعاء ، فإن الرحمة نازلة من دون حساب في هذه اللحظات. لا لأن لنزول رحمة الله تعالىٰ وقتاً خاصاً ومحدوداً ، بل لأن لاستقبال الرحمة وقتاً محدوداً وحالة خاصة وهي حالة الرقة ، فإذا رق قلب الانسان امكنه ان يستقبل هذه الرحمة.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اغتنموا الدعاء عند الرقة فانها رحمة » (٣).

عن أبي بصير عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « إذا رقّ أحدكم فليدع ؛

__________________

(١) أصول الكافي ٢ : ٣٤٨.

(٢) أصول الكافي : ٥٢٢ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٠١ ، ح : ٨٦٨٧.

(٣) بحار الأنوار ٩٣ : ٣١٣.


فإنّ القلب لا يرقّ حتىٰ يخلص » (١).

وعن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك ، فدونك دونك فقد قصد قصدك » (٢).

وعن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك ، ووجل قلبك ، فدونك دونك وقد قصد قصدك » (٣).

والحديث دقيق ، فإن الاستجابة لها علاقة مباشرة بحالة الداعي ، وإن القلب كلما رقّ ، واستكان ، كان الداعي اقرب الیٰ الاستجابة ، وبعكس ذلك كلّما تمنع القلب وقسیٰ كان ابعد عن الاستجابة.

وقد ورد في النصوص الاسلامية الاستفادة من لحظات انكسار النفس ورقة القلب ، لما يلم بالانسان من المصائب والهموم في هذه الدنيا للتوجه إلىٰ الله بالدعاء والسؤال.

فإن هذه اللحظات تهيئ الانسان للاقبال علىٰ الله ولاستقبال رحمة الله ؛ والسر في ذلك كلّه أن القلب لا يتمكّن من هذا (الاقبال) و (الاستقبال) إلّا في حالات الرقة. وعلىٰ الانسان الذي يريد وجه الله والاقبال عليه تعالىٰ في الدعاء ان يكتسب هذه الرقة.

روي عن اسحاق بن عمّار قال : « قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : ادعو فأشتهي البكاء ، ولا يجيئني ، وربما ذكرت بعض من مات من أهلي فأرقّ وأبكي ، فهل يجوز ذلك ؟ فقال : نعم ، فتذكر فإذا رققت فابك ، وادع ربك تبارك وتعالىٰ » (٤).

وإذا لم يتسنّ له البكاء ليرق قلبه فليتباك ، فإن التباكي يؤدي إلىٰ البكاء ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٢٠ ، ح : ٨٧٦١ ، أصول الكافي : ٥٢١.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٤١ ، ح : ٨٧٦٣.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١١٤١ ، ح : ٨٧٦٦.

(٤) أصول الكافي : ٥٢٣ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٢١ ، ح : ٨٧٦٧.


والبكاء ، يؤدي إلىٰ ترقيق القلب ، ورقة القلب تفتح القلب علىٰ الله تعالىٰ.

عن سعد بن يسار قال : « قلت لأبي عبدالله (الصادق) عليه‌السلام : إني اتباكى في الدعاء ، وليس لي بكاء. قال : نعم » (١).

وعن أبي حمزة قال : « قال أبو عبدالله عليه‌السلام لأبي بصير : إن خفت امراً يكون أو حاجة تريدها ، فابدأ بالله فمجّده ، واثن عليه كما هو أهله ، وصلّ علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسل حاجتك ، وتباك ... إن أبي كان يقول : إن اقرب ما يكون العبد من الربّ عزّوجلّ وهو ساجد باكٍ » (٢).

٧ ـ مداومة الدعاء في الشدّة والرخاء :

المداومة علىٰ الدعاء في الشدّة والرخاء ، وتقدم الدعاء في الرخاء علىٰ الدعاء في الشدّة مما ورد التأكيد عليه في النصوص الاسلامية.

وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« تعرف الىٰ الله في الرخاء يعرفك في الشدة » (٣).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل البلاء ، وقيل : صوت معروف ، ولم يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء ، وقالت الملائكة : ذا الصوت لا نعرفه » (٤).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« إن الدعاء في الرخاء يستخرج الحوائج في البلاء » (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٢٢ ، ح : ٨٧٦٩ ، أصول الكافي : ٥٢٣.

(٢) أصول الكافي : ٥٢٤ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٢٢ ، ح : ٨٧٧٠.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٧ ، ح : ٨٦٧٢.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٦ ، ح : ٨٦٦٤.

(٥) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٦ ، ح : ٨٦٦٥.


وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام أيضاً :

« من سرّه أن يستجاب له في الشدة فليكثر الدعاء في الرّخاء » (١).

وعنه عليه‌السلام أيضاً :

« كان جدي يقول : تقدّموا في الدعاء ، فإن العبد إذا كان دعّاء فنزل به البلاء فدعا قيل : صوت معروف.

وإذا لم يكن دعّاء ، فنزل به البلاء ، قيل : اين كنت قبل اليوم ؟ » (٢).

وهذه النصوص ترمز الىٰ معنىً ظريف ودقيق ، فإن الدعاء اقبال علىٰ الله ، وأنفذ الدعاء وأقربه الىٰ الاستجابة اكثره اقبالاً علىٰ الله.

فإذا تم الاقبال وخلص القلب ، وتوجه بكلّه إلىٰ الله لم يكن بين الدعاء وبين الاستجابة عند ذلك حجاب ؛ وإذا ضعف الاقبال كانت الاستجابة بقدره ، والاقبال علىٰ الله ، وتحضير القلب عند الله يتم للانسان بكثرة الدعاء.

وهو يتمّ للانسان بكثرة الدعاء ، شأنه في ذلك شأن اي عمل آخر في حياة الانسان ، وكلّما اكثر الانسان من الدعاء تمكن من الاقبال علىٰ الله تعالىٰ اكثر ، وانقاد له قلبه في التوجه الیٰ الله اكثر.

فإذا فاجأه البلاء ، وتوجه الىٰ الله عند نزول البلاء انقاد له قلبه في الاقبال والتوجه بسرعة وبيسر ، وكان دعاؤه قريباً من الاستجابة ، ولم يحل بينه وبين الاستجابة يومئذ شيء.

وروي عن الفضل بن عباس قال : « قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : احفظ الله يحفظك. احفظ الله تجده امامك. تعرّف الىٰ الله في الرخاء يعرفك في الشدة » (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٦ ، ح : ٨٦٦٠.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٦ ، ح : ٨٦٦٧.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٣٥٨.


وعن علي بن الحسين أنه كان يقول : « لم أر مثل التقدم في الدعاء ، فإن العبد ليس تحضره الاجابة في كل ساعة » (١).

وعن أبي ذر رضي‌الله‌عنه قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا ذر ، تعرّف إلىٰ الله في الرخاء يعرفك في الشدّة ، فإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله » (٢).

وروي أن أبا جعفر عليه‌السلام ، كان يقول :

« ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة ، ليس إذا اعطىٰ فتر ، فلا تمل الدعاء فانه من الله عزّوجلّ بمكان » (٣).

٨ ـ الوفاء بعهد الله :

في تفسير القمي عن الصادق عليه‌السلام : قيل له « إن الله تعالىٰ يقول : ادعوني استجب لكم ، وإنا ندعوه فلا يستجاب لنا ، فقال : لأنكم لا توفون بعهد الله ، وإن الله يقول : « أوفوا بعهدي اُوفِ بعهدكم » والله لو وفيتم لله لوفیٰ لكم » (٤).

٩ ـ اقتران الدعاء بالعمل :

من شروط استجابة الدعاء اقتران الدعاء بالعمل ، فلا ينفع الدعاء من غير عمل ولا يغني العمل عن الدعاء.

وهاتان نقطتان : النقطة الاولىٰ أن الدعاء لا يغني عن العمل.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصاياة لأبي ذر :

__________________

(١) الارشاد للمفيد : ٢٧٧.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٨ ، عدة الداعي لابن فهد الحلي : ١٢٧.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١١١١ ، ح : ٨٧٢٩.

(٤) تفسير الصافي : ٥٧ ، ط. حجرية ، تفسير الآية ١٨٦ ، من سورة البقرة.


« يا ابا ذر ، مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر » (١).

وعن عمر بن يزيد قال : « قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : رجل قال : لاقعدن في بيتي ، ولأصلين ولأصومن ، ولأعبدن ربّي ، فأما رزقي فسيأتيني ، فقال :

هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم » (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام :

« الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر » (٣).

وعنه عليه‌السلام أيضاً :

« ثلاثة ترد عليهم دعوتهم :

رجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني ، فيقال له : ألم اجعل لك سبيلاً إلىٰ طلب الرزق ... » (٤).

والنقطة الثانية أن العمل لا يغني عن الدعاء.

وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

« يدخل الجنة رجلان كانا يعملان عملاً واحداً ، فيرىٰ احدهما صاحبه فوقه فيقول :

يا رب ، بما اعطيته وكان عملنا واحداً ؟

فيقول الله تعالىٰ : سألني ، ولم تسألني.

ثم قال : اسألوا الله من فضله ، وأجزلوا فإنه لا يتعاظمه شيء » (٥).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « إنّ لله عباداً يعملون فيعطيهم ، وآخرين

__________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٣٢ ، ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٦٠ ، ح : ٨٩١٣.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١١٧٥ ، ح : ٨٩٦٥.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ١١٧٥ ، ح : ٨٩٦٥.

(٥) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٤ ، ح : ٨٦٠٨.


يسألون صادقين فيعطيهم ، ثم يجمعهم في الجنة ، فيقول الذين عملوا : ربّنا عملنا فأعطيتنا ، فبما أعطيت هؤلاء ؟

فيقول : هؤلاء عبادي. اعطيتكم اجوركم ولم ألتْكم من أعمالكم شيئاً ، وسألني هؤلاء فأعطيتهم وأغنيتهم ، وهو فضلي اُوتيه من اشاء » (١).

١٠ ـ الدعاء ضمن السنن الالهية :

ليس الدعاء اختراقاً لسنن الله تعالىٰ في الطبيعة والكون والمجتمع والتاريخ. وسنن الله تعالىٰ لا تتحول ولا تتبدل.

وعلىٰ الداعي أن لا يطلب في دعائه ما يخالف سنن الله تعالىٰ في المجتمع والتاريخ أو في الطبيعة والكون ، أو ما يخالف احكام الله التشريعية.

وقد سئل أمير المؤمنين : « أي دعوة اضل ؟

قال : الداعي بما لا يكون » (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« يا صاحب الدعاء ، لا تسأل ما لا يكون وما لا يحل ».

و (ما لا يكون) هو طلب تغيير السنن الالهية في المجتمع والتاريخ أو الطبيعة والكون.

و (ما لا يحل) هو مخالفة النظام التشريعي لله تعالىٰ في حياة الانسان.

وفي ذلك يقول تعالىٰ : ( إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ) (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٤ ، ح : ٨٦٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٤.

(٣) التوبة : ٨٠.


١١ ـ اجتناب الذنوب :

ومن شروط الاستجابة اجتناب الذنوب والتوبة عنها ، فإن جوهر الدعاء الاقبال علىٰ الله تعالىٰ ، وكيف يتأتى الإنسان يمارس معصية الله تعالىٰ ، ويعرض عن أمره وحكمه ، ولم يتب إلىٰ الله ، كيف يتأتىٰ له أن يقبل علىٰ الله ؟

عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إن العبد يسأل الله الحاجة ، فيكون من شأنه قضاؤها إلىٰ اجل قريب ، أو الىٰ وقت بطيء ، فيذنب العبد ذنباً ، فيقول الله تعالىٰ للملك : لا تقض حاجته ، واحرمه إيّاها ، فإنه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان مني » (١).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « مرّ موسى عليه‌السلام برجل وهو ساجد ، فانصرف من حاجته وهو ساجد ، فقال عليه‌السلام : لو كانت حاجتك بيدي لقضيتها لك ، فأوحىٰ الله إليه ، يا موسیٰ ، لو سجد حتیٰ ينقطع عنقه ما قبلته « ما استجبت له » حتیٰ يتحوّل عما اكره إلىٰ ما احب » (٢).

١٢ ـ الاجتماع للدعاء وطلب التأمين من المؤمنين :

مما ورد التأكيد عليه في النصوص الاسلامية الدعاء في اجتماع المؤمنين. فإن اجتماع المؤمنين بين يدي الله تعالىٰ دائماً من منازل رحمة الله تعالىٰ. ولم يجتمع جمع من المؤمنين ، ولله تعالىٰ في اجتماعهم رضاً إلا كان اجتماعهم قريباً من رحمة الله تعالىٰ ، ومن منازل رحمته وفضله.

عن ابن خالد قال : « قال أبو عبدالله الصادق عليه‌السلام : ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوا ودعوا الله عزّوجلّ في أمر إلّا استجاب لهم ، فإن لم يكونوا أربعين فأربعة

__________________

(١) أصول الكافي : ٤٤٠.

(٢) عدة الداعي : ١٢٥.


يدعون الله عزّوجلّ عشر مرات إلّا استجاب الله لهم ، فإن يكونوا أربعة فواحد يدعو الله أربعين مرّة ، فيستجيب الله العزيز الجبار لهم » (١).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال :

« كان أبي إذا حزبه أمر دعا النساء والصبيان ، ثم دعا وأمّنوا » (٢).

١٢ ـ الترسل في الدعاء :

ومما ينبغي أن ننتبه إليه في الدعاء أن لا يفقد الداعي في الدعاء حالة الترسل في السؤال والطلب من الله. فإن حقيقة الدعاء وروحه هو الاقبال علىٰ الله بالسؤال ، والالحاح والتضرع في الطلب ، وقراءة الادعية المأثورة وترتيلها. ينبغي أن لا يفقد الداعي هذه الحالة ، ففي حالة الترسل في الدعاء من دون تكلّف قد يجد الانسان في نفسه من الاقبال والتوجه إلىٰ الله والتضرع والرقة ما لا يجده في حالة قراة الادعية الماثورة.

اذن ينبغي للداعي أن يحتفظ في نفسه بـ (حالة الدعاء) بما في هذه الحالة من الترسل ، وعدم التكلّف في التوجه إلىٰ الله والتضرع بين يديه. وقد كان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام يفضلون للداعي احياناً أن يدعو مترسلا بما يخطر علىٰ باله ، ولا يدعو بالمأثور لئلا يفقد الدعاء بالمأثور حالة الترسل والاسترسال في الدعاء.

روي عن زرارة قال : « قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : علمني دعاءً.

فقال : إن أفضل الدعاء ما جرىٰ علىٰ لسانك » (٣).

وعن أبي عبدالله عليه‌السلام انه سأله سائل أن يعلمه دعاءً ، فقال : « إن أفضل

__________________

(١) أصول الكافي : ٥٢٥.

(٢) أصول الكافي : ٥٢٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٤ ، ح : ٨٨٦٣.

(٣) الامان من الاخطار ، لابن طاووس : ٣.


الدعاء ما جریٰ علیٰ لسانك » (١).

١٤ ـ تحضير النفس للدعاء بالحمد والاستغفار والصلاة :

الدعاء اقبال علىٰ الله ، ولابدّ لهذا الاقبال من تحضير للنفس.

ومن التحضير لذلك البدء بحمدالله تعالىٰ والثناء عليه والشكر لنعمائه وفضله ، والاستغفار بين يدي الله من الذنوب ، والصلاة والسّلام علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ، فإن ذلك من أساليب الإعداد والتحضير النفسي للدعاء ، ويتهيّأ الإنسان خلال هذا التقديم للاقبال علىٰ الله والسؤال والطلب من الله.

وقد ورد الحمد ، والثناء ، والشكر ، والاستغفار والصلاة علىٰ رسول الله وأهل بيته في مقدمة أكثر الادعية كما يتخلل الكثير منها.

عن العيص بن قاسم قال : « قال أبو عبدالله عليه‌السلام : إذا طلب أحدكم الحاجة فليثن علىٰ ربّه وليمدحه ... فإذا طلبت الحاجة فمجدوا الله العزيز الجبار ، وامدحوه ، واثنوا عليه ، تقول : يا أجود من اعطىٰ ، ويا خير من سئل ، ويا أرحم من استرحم ، يا أحد ، يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً احد ، يا من لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، يا من يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويقضي ما أحب ، يا من يحول بين المرء وقلبه ، يا من هو بالمنظر الاعلی ، يا من ليس كمثله شيء ، يا سميع يا بصير. وأكثر من اسماء الله عزّوجلّ فإن اسماء الله عزّوجلّ كثيرة ، وصلّ علىٰ محمد وآل محمد ، وقل : اللّهم أوسع عليّ من رزقك الحلال ما اكفّ به وجهي ، واُؤدي به عني (عن) امانتي ، واصل به رحمي ، ويكون عوناً لي في الحج والعمرة وقال : إن رجلاً دخل المسجد فصلىٰ ركعتين ثم سأل الله عزّوجلّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عجّل العبد ربه ، وجاء آخر فصلیٰ رکعتين ثم اثنیٰ علیٰ الله عزّوجلّ

__________________

(١) المصدر السابق.


وصلىٰ علیٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سل تعط » (١).

وعن أبي كهمس عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « دخل رجل المسجد فابتدأ قبل الثناء علىٰ الله والصّلاة علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عجل العبد ربه ، ثم دخل آخر فصلىٰ ، واثنىٰ علىٰ الله عزّوجلّ ، فصلىٰ علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سل تعطه » (٢).

وعن صفوان الجمّال عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « كل دعاء يدعىٰ الله عزّوجلّ به محجوب عن السماء حتىٰ يصلّیٰ علىٰ محمّد وآل محمّد » (٣).

وعن ابي عبدالله الصادق أيضاً : « لا يزال الدعاء محجوباً عن السماء حتىٰ يصلى علىٰ محمّد وآل محمّد » (٤).

١٥ ـ دعوة الله باسمائه الحسنیٰ :

إن الله يحب أن يدعوه عباده باسمائه الحسنىٰ.

( قُلِ ادْعُوا اللَّـهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) (٥).

فإن كل واحد من اسماء الله الحسنىٰ مفتاح لباب من أبواب رحمة الله وفضله.

وقد ورد في النصوص الاسلامية تأكيد كثير علیٰ الدعاء باسماء الله الحسنیٰ ، وورد في نصوص عديدة أن المؤمن إذا دعا الله باسمائه الحسنىٰ عشراً لبّاه الله تعالىٰ.

__________________

(١) أصول الكافي : ٥٢٤ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٢٦ ، ح : ٨٧٨٦.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٢٧ ، ح : ٨٧٨٨ ، أصول الكافي : ٥٢٥.

(٣) أصول الكافي : ٥٢٨ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٣٥ ، ح : ٨٨٢٦.

(٤) مجالس المفيد : ٦٠ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٣٧ ، ح : ٨٨٣٧.

(٥) الاسراء : ١١٠.


عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « من قال : يا الله ، عشر مرات قيل له : لبيك ما حاجتك ؟ » (١).

وعن أبي بصير عن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام : « إذا قال العبد وهو ساجد : يا الله ، يا ربّاه ، يا سيداه ، ثلاث مرات ، اجابه الله تبارك وتعالیٰ : لبيك عبدي سل حاجتك » (٢).

وروى عبدالله بن جعفر في قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة قال : « حدثني جعفر قال : اشتكیٰ بعض ولد أبي فمرّ به ، فقال له : قل عشر مرات : يا الله ، يا الله ، فإنه لم يقله أحد من المؤمنين قط إلّا قال له الربّ تبارك وتعالىٰ : لبيك عبدي سل حاجتك » (٣).

وعن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : « سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً يقول : يا أرحم الراحمين ، فأخذ بمنكب الرجل ، فقال : هذا أرحم الراحمين قد استقبلك بوجهه ، سل حاجتك » (٤).

١٦ ـ بث الحاجات بين يدي الله :

والله تعالىٰ يعلم ما نريد وما نحتاج وما نطلب ويغنيه علمه عن سؤالنا ، ولكن الله تعالىٰ يحب أن نبث إليه حاجاتنا ، بل يحوجنا حتىٰ نبث إليه حاجاتنا.

وقد يمقت الله عبداً فيكفيه ويغنيه ، حتىٰ لا يسأله ولا يرفع يديه إليه تعالىٰ.

فإن الانسان عند ما يبث حاجاته بين يديه تعالىٰ ، يتقرب منه ، ويتعلق به ، ويأنس إليه ، ويحس بفقره وحاجته إليه وكل ذلك يحبه الله تعالىٰ.

__________________

(١) أصول الكافي : ٥٤١ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٣٠ ، ح : ٨٧٩٨.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٣١ ، ح : ٨٨٠٢.

(٣) قرب الاسناد : ٢ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٣٢ ، ح : ٨٨٠٩.

(٤) محاسبة النفس : ١٤٨ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٣٢ ، ح : ٨٨١٥.


فإذا دعونا الله تعالىٰ في شؤوننا احب الله تعالىٰ أن نسهب في الدعاء وتفصل فيه ، ولا نوجز ، ولا نختزل الكلام ، كما يتحدث النّاس إلىٰ الزعماء.

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« إن الله تعالىٰ يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ، ولكن يحب أن يبث إليه الحوائج ، فإذا دعوت فسمّ حاجاتك » (١).

١٧ ـ الالحاح في الدعاء :

والالحاح في الدعاء يكشف عن عمق ثقة العبد ورجائه في الله تعالىٰ وعمق تعلقه به تعالىٰ ، وكلّما كانت ثقة الانسان بالله تعالىٰ اكثر كانت الحاحه في الدعاء اكثر. وبالعكس إذا كانت ثقة الانسان بالله ضعيفة فإنه ينقطع عن الدعاء وييأس إذا لم يجد لدعائه استجابة.

وكما يكشف الالحاح في الدعاء عن عمق الثقة والعلاقة بالله ، كذلك الالحاح في الدعاء يعمق الثقة والعلاقة بالله ويثبتها.

وعلىٰ قدر ثقة الانسان بالله تعالىٰ وعلاقته بالله يكون قربه من الله.

وقد ورد في النصوص الاسلامية تأكيدات كثيرة علىٰ الالحاح في الدعاء ، وعدم اليأس عن الاستجابة في كل الاحوال.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إن الله يحب الملحين في الدعاء » (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) أصول الكافي : ٥٢٠ ، وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩١ ، ح : ٨٦٤٢.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٠.


« إن الله يحب السائل اللحوح » (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« الدعاء ترس المؤمن ، ومتىٰ تكثر قرع الباب يفتح لك » (٢).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« الدعاء يرد القضاء بعد ما اُبرم ابراماً ، فأكثر من الدعاء ، فإنه مفتاح كل رحمة ، ونجاح كل حاجة ، ولا ينال ما عند الله عزّوجلّ إلّا بالدعاء ، وإنه ليس باب يكثر قرعه إلّا أوشك أن يفتح لصاحبه » (٣).

وعن الباقر عليه‌السلام : « إن الله كره الحاح الناس بعضهم علىٰ بعض في المسألة ، وأحب ذلك لنفسه » (٤).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فألحح عليه في المسألة يفتح لك أبواب الرحمة » (٥).

وعن الوليد بن عقبة الهجري قال : « سمعت ابا جعفر عليه‌السلام يقول : والله لا يلح عبد مؤمن علىٰ الله في حاجته إلّا قضاها له » (٦).

عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

« رحم الله عبداً طلب من الله عزّوجلّ حاجة فألح في الدعاء ، استجيب له أو لم يستجب ، ثم تلا هذه الآية : ( وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) (٧).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٧٤.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٥ ، ح : ٨٦١٢.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح : ٨٦١٦.

(٤) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٧٤.

(٥) بحار الأنوار ٧٧ : ٢٠٥.

(٦) أصول الكافي : ٥٢٠.

(٧) المصدر السابق.


وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « لا والله لا يلح عبد علىٰ الله عزّوجلّ إلّا استجاب له » (١).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« سل حاجتك وألح في الطلب ؛ فإن الله يحب الحاح الملحين من عباده المؤمنين » (٢).

١٨ ـ الدعاء للآخرين ومن الآخرين :

سوف نتحدث عن هذه النقطة في فصل قادم من هذا الكتاب فيما ينبغي وما لا ينبغي من الدعاء. ونتحدث الآن عن هذا الموضوع بقدر ما يتعلق بآداب وشروط الدعاء ، فإن الانسان إذا انفتح علىٰ اخوانه بين يدي الله تعالىٰ ، وازال من نفسه ما بينه وبينهم من ضغن ونفور فتح الله تعالىٰ عليه أبواب رحمته ؛ فإن انفتاح المؤمنين بعضهم علىٰ بعض وتعميق حالة التحابب والتعاطف والمودة فيما بينهم ، من مفاتيح رحمة الله تعالىٰ للداعي وللمدعو له.

اما (الداعي) فقد روي عن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « الدعاء لأخيك بظهر الغيب يسوق الىٰ الداعي الرزق ، ويصرف عنه البلاء ، ويقول الملك : ولك مثل ذلك » (٣).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من دعا لمؤمن بظهر الغيب قال الملك : فلك بمثل ذلك » (٤).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدرّ الرزق

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) قرب الاسناد : ٥٢٠.

(٣) امالي الطوسي ٢ : ٢٩٠ ، وبحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧.

(٤) امالي الطوسي ٢ : ٩٥ ، وبحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٤.


ويدفع المكروه » (١).

وعن ابن خالد القمّاط قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : اسرع الدعاء نجحاً للاجابة دعاء الاخ لاخيه بظهر الغيب. يبدأ بالدعاء لاخيه ، فيقول له ملك موكّل به : آمين ، ولك مثلاه » (٢).

وأما (المدعو له) فقد روي أن الله تعالىٰ قال لموسىٰ بن عمران عليه‌السلام : « ادعني علیٰ لسان لم تعصني به.

قال : يا رب ، أنیٰ لي بذلك ؟ قال : ادعني علىٰ لسان غيرك » (٣).

١٩ ـ الدعاء عند نزول الرحمة :

بالدعاء يستنزل الانسان رحمة الله تعالىٰ.

ولذلك فإن افضل اوقات الدعاء هي الاوقات التي تنزل فيها الرحمة ، فيكون الانسان قريباً من رحمة الله ، ويتعرض لرحمة الله.

وساعات هبوط الرحمة كثيرة منها :

ساعة قراءة القرآن ، واوقات الاذان ، وساعة نزول المطر ، وساعة التقاء الصفين ومصارع الشهداء.

وهذه الساعة الاخيرة من أفضل الساعات تنفتح فيها أبواب رحمة الله علیٰ الارض.

عن السكوني عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

اغتنموا الدعاء عند اربع : عند قراءة القرآن ، وعند الاذان ، وعند نزول

__________________

(١) أصول الكافي : ٤٣٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٥ ، ح : ٨٨٦٧.

(٢) المصدران السابقان.

(٣) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٤٢ ، عدة الداعي : ١٢٨.


الغيث ، وعند التقاء الصفين للشهادة » (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « اغتنموا الدعاء عند خمسة مواطن : عند قراءة القرآن ، وعند الاذان ، وعند نزول الغيث ، وعند التقاء الصفين للشهادة ، وعند دعوة المظلوم فإنها ليس لها حجاب دون العرش » (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من قرأ مئة آية من القرآن ، من أيّ القرآن شاء ، ثم قال : يا الله سبع مرات ، فلو دعا علىٰ الصخرة لقلعها إن شاء الله » (٣).

عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند زوال الشمس ، فإذا أراد ذلك قدم شيئاً فتصدق به وشم شيئاً من طيب ، وراح الىٰ المسجد ودعا في حاجته بما شاء الله » (٤).

٢٠ ـ الدعاء في جوف الليل :

إن لخلوة الليل تأثيراً عظيماً في اقبال النفس علىٰ الله ، واستقبال رحمة الله تعالىٰ ، وما يجده الانسان في نفسه في الساعات المتأخرة من الليل من الاقبال علىٰ الله ، والقدرة علىٰ استقبال رحمة الله تعالىٰ قلما يجدها في وقت آخر. وقد جعل الله تعالىٰ في هذه الساعات المتأخرة من الليل من البركة والرّحمة ما لم يجعله في الساعات الاخرىٰ من الليل والنهار.

وليس من شك ، لمن يتأمل النصوص الاسلامية ، أن الاوقات ليست سواءً ، فمن الاوقات ما تنفتح فيها أبواب الرحمة علىٰ الانسان أكثر من غيرها ، ومن الاوقات ما تستنزل رحمة الله تعالىٰ أكثر من غيرها ، ومن أفضل هذه الاوقات ،

__________________

(١) أصول الكافي : ٥٢١ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١١٤ ، ح : ٨٧٣٩.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١١٥ ، ح : ٨٧٤٢.

(٣) ثواب الاعمال للصدوق : ٥٨.

(٤) أصول الكافي : ٥٢١.


واكثرها حظاً من رحمة الله ساعات النصف الأخير من الليل.

يقول تعالیٰ : ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ) (١).

روى المفضل بن عمرو عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « كان فيما ناجىٰ الله به موسیٰ بن عمران عليه‌السلام أن قال له : يا بن عمران ، كذب من زعم انه يحبني ، فإذا جنّه الليل نام عني ، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه ؟ ها أنا يا بن عمران مطلع علىٰ احبائي ، إذا جنّهم الليل حولت ابصارهم في قلوبهم ومثلت عقوبتي بين اعينهم ، يخاطبوني عن المشاهدة ، ويكلموني عن الحضور.

يا بن عمران ، هب لي من قلبك الخشوع ، ومن بدنك الخضوع ، ومن عينيك الدموع ، وادعني في الظلمات فإنك تجدني قريباً مجيباً » (٢).

وفي هذا النص مواضع للتأمل لا نريد أن نقف عندها طويلا. إن الليل يجن اولياء الله ، ويسترهم عن زحمة الحياة وشواغلها ، وكأنما الليل ينترع الانسان انتزاعاً من وسط شواغل الدنيا التي تشغله عن الانصراف والانقطاع الىٰ الله ، وتستره ، وتجنّه ، وهذه هي فرصة خلوة الليل ، حيث يخلو للانسان وجه الله عن كل شاغل وصارف ، ويتمكن من الانقطاع إلىٰ الله في هذه الخلوة.

ويكذب من يزعم أنه يحب الله ، فإذا جنّه الليل نام عن مناجاة من يحب والقيام بين يديه ، والتضرع عنده. أليس كل حبيب يحب الخلوة بحبيبه ؟

إن زحمة النهار وشواغله الكثيرة والمتعددة تشتت ابصارنا واسماعنا ، فإذا جننا الليل ، وانتزعنا من زحمة الحياة تجمّع شتات ابصارنا واسماعنا (التي شتتها

__________________

(١) المزمل : ١ ـ ٦.

(٢) المجالس للمفيد : ٢١٤ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٢٥ ، ح : ٨٧٨١.


النهار) وتحولت من الخارج الىٰ الداخل ، ومن زحمة الحياة في النهار الىٰ داخل القلب ، مصدر البصيرة والنور في حياة الانسان ، فيجتمع شتات الابصار ، ويتحول من الخارج الىٰ الداخل ، ويفتح الله علىٰ قلب الانسان حينئذٍ أبواب البصيرة والنور « إذا جنّهم الليل حولت ابصارهم في قلوبهم » ، وعندئذ يرى الانسان نفسه ماثلاً بحضرة الله ، ويرى غضب الله تعالىٰ ورحمته ماثلة امامه ، فإذا خاطب الله خاطبه عن مشاهدة وحضور لا عن بعد وغياب « يخاطبوني عن المشاهدة » ، وإذا كلم الله يكلمه عن حضور ، وليس عن غياب (ويكلموني عن الحضور) وتتمثل عقوبة الله تعالىٰ وعذابه وغضبه بين عينيه (ومثلت عقوبتي بين اعينهم) فيسلبهم انس حضور الحبيب والخلوة به ومخافة العقوبة الماثلة بين اعينهم راحة النوم ، وكيف ينام من يری نفسه في خلوة الليل بحضور حبيبه ، يناجيه ، وبخاطبه ؟ وكيف يغلب عليه النعاس وهو يرى عذاب الله ماثلاً بين عينيه ؟

وهذه الحالة نتيجة طبيعية لتحول الابصار من الخارج الىٰ الداخل وتركزه وتجمعه في الليل بعد تشتته في النهار.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة المعروفة بخطبة المتقين في وصف هذه الحالة من انقلاب الابصار من الخارج الىٰ القلب : « اما الليل فصافون اقدامهم تالين لاجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً ، يحزنون به انفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعاً ، وتطلعت نفوسهم اليها شوقاً ، وظنوا أنها نصب اعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول اذانهم ، فهم حانون علىٰ اوساطهم مفترشون لجباههم واكفهم وركبهم واطراف اقدامهم ، يطلبون إلیٰ الله تعالیٰ فكاك


رقابهم. وأما النهار فحلباء علماء ابرار اتقياء ... » (١).

وفي نهج البلاغة ، قال أمير المؤمنين لنوف البكالي في صفة الليل : « يا نوف ، إن داود عليه‌السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل ، فقال : إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له » (٢).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا كان آخر الليل يقول الله عزّوجلّ : هل من داع فاُجيبه ؟ وهل من سائل فاُعطيه سؤله ؟ وهل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ ».

٢١ ـ المسح علىٰ الوجه والرأس بعد الدعاء :

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« ما أبرز عبد يده إلىٰ الله العزيز الجبار إلا استحيا الله عزّوجلّ أن يردها صفراً ، حتىٰ يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء ، فإذا دعا احدكم فلا يرد يده حتىٰ يمسح علیٰ وجهه ورأسه (٣) ».

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة رقم ١٩٣.

(٢) نهج البلاغة القسم الثاني ص ١٦٥.

(٣) أصول الكافي ٢ : ٣٤٢ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ١٠٧ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٧.


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي




ما هي العوائق والعقبات التي تحبس الدعاء عن الصعود إلىٰ الله ؟

هذا ما نحاول أن نجيب عليه إن شاء الله في هذه النقطة من هذا المقال.

فإن الدعاء ، كما يقولون ، قرآن صاعد في مقابل القرآن النازل من الله تعالىٰ ؛ وفي القرآن النازل دعوة الىٰ العبودية ، واللجوء والاقبال علىٰ الله والانقطاع الىٰ الله ، وفي القرآن الصاعد تلبية لهذه الدعوة.

والدعوة من الله تعالىٰ الىٰ العباد ؛ والتلبية من العباد الىٰ الله.

لكن هناك طائفة من العوائق والعقبات تحبس الدعاء من الصعود الىٰ الله ؛ ومن اهم هذه العوائق التي تحبس الدعاء عن الصعود إلىٰ الله الذنوب والمعاصي.

وقد ورد في دعاء كميل : « اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ».

وفي نفس الدعاء :

« فاسألك بعزتك ان لا يحجب عنك دعائي سوء عملي ».

وفيما يلي سوف نحاول إن شاء الله تحليل هذه العوائق.

دور الذنوب في حجب الانسان عن الله

للذنوب في حياة الانسان دوران :

الدور الأوّل : تحجب الانسان عن الله ، وتقطعه عنه تعالىٰ فلا يتمكن الانسان من الاقبال علىٰ الله والتوجّه إليه ، ولا يتمكن من الدعاء ، فإن الدعاء من الاقبال علىٰ الله.

وإذا حجبت الذنوب صاحبها عن الله فقد حجبته عن الدعاء أيضاً.


الدور الثاني : الذنوب تحجب الدعاء عن الصعود إلىٰ الله ، لأن الدعاء إذا صعد الىٰ الله تتم الاجابة من عند الله ، فليس في ساحة الله تعالىٰ عجز أو شح إذا صعد دعاء العبد ، وإنّما العجز في الدعاء عن الصعود الىٰ الله.

اذن فإن الذنوب قد تحبس الانسان عن الدعاء ، وقد تحبس الدعاء عن الصعود الىٰ الله.

ولابد لهذا الاجمال من توضيح ، واليکم هذا التوضيح.

الدور المزدوج للقلوب في الأخذ والعطاء :

إن القلب (الجانحة) جهاز ارتباط يأخذ ويتلقی من الله تعالىٰ من جانب ، ويعطى من جانب آخر. كالقلب (الجارحة) الذي يقوم بدور مزدوج في ضخ الدم واستعادته وتجميعه من خلال الشرايين والاوردة.

فإذا فقد القلب (الجانحة) هذه الخاصة في وصل الانسان وربطه بالله تعالىٰ فقد كلَّ قيمته ، ولم يعد له نفع ولا جدوى ، واصبح ميتاً ، كالقلب الجارحة تماماً.

والقلوب في هذا الأخذ والعطاء ، تأخذ من الله تعالىٰ الهدى والنور والبصيرة من جانب ، وتمنح الانسان في حركته وكلامه ومواقفه واعماله وعلاقاته هذا الهدی والنور من جانب آخر.

ولنتأمل في كتاب الله ، لنعرف هذا الدور المزدوج للقلوب من خلال القرآن.

في الجانب الأوّل (التلقي والاخذ من عند الله) يقول الله تعالىٰ :

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ


فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) (١).

فالقرآن اذن يتنزل علىٰ القلوب جملة واحدة ونجوماً ، ويثبت الافئدة ، وتأخذ القلوب منه النور والهدىٰ.

ويقول تعالىٰ :

( اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ) (٢).

إن القلوب تأخذ من القرآن فتخشع وتلين ، وتتفاعل مع هدیٰ الله ونوره الذي ارسل الىٰ عباده. فإن القرآن هدى الله ونوره الذي أرسله الىٰ عباده ، وبرهانه وحجته الىٰ خلقه.

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (٣).

وقلوب المؤمنين والمتقين دون غيرهم تختص بهذا النور والهدىٰ ، وتأخذ منه ، وتتفاعل معه.

( هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) (٤).

( هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٥).

وهذا هو الدور الأول للقلوب ، تتلقى الهدیٰ والنور والبصيرة والبرهان من عند الله ، وتختص بما انزل الله تعالىٰ الىٰ عباده من النور والهدىٰ ، وتتفاعل معه وتلين له.

__________________

(١) الفرقان : ٣٢.

(٢) الزمر : ٢٣.

(٣) النساء : ١٧٤.

(٤) آل عمران : ١٣٨.

(٥) الأعراف : ٢٠٣.


الدور الثاني للقلوب البث والعطاء :

تبث فيه القلوب النور والهدىٰ الذي تلقته من عند الله ، وتمنح النور لحركة الانسان ومنطقه وموقفه ، وعلاقاته ، واهتماماته. وعند ذاك يتحرك الانسان بنور الله وهداه ، ويتكلم بنور الله وهداه ، ويحدد مواقفه بنور الله وهداه ، ويمشي في الناس بنور الله وهداه.

( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (١).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٢).

وهذا النور الذي يقيم به المؤمنون علاقاتهم مع الناس ويتحركون به في صفوف الناس ، في السياسة ، أو في التجارة ، أو في سائر شؤون الحياة هو من نور الله تعالىٰ الذي أرسله لعباده.

( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (٣).

وهذا النور يتلقاه القلب من عند الله ثم يوجه القلب به بصبر الانسان وسمعه واعضاءه وجوارحه.

ودور القلب في هذا الاخذ والعطاء دور الوسيط ، يتلقی النور من عند الله ويوجه به سلوك الانسان وتحركه وكلامه ومواقفه.

وهذه امارة سلامة القلب وصحته يتلقیٰ القرآن ، ويعطي القرآن ، كالتربة الخصبة تتلقیٰ النور والهواء والماء وتعطي الثمار الطيبة.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفة القرآن :

__________________

(١) الانعام : ١٢٢.

(٢) الحديد : ٢٨.

(٣) النور : ٤٠.


« كتاب الله تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به ».

فإذا فقد القلب سلامته فقد خاصية الاستقبال والتوجيه ، فلا يتمكن من استقبال القرآن (النازل) من عند الله.

وإذا فقد القلب القدرة علىٰ استقبال القرآن (النازل) فقد القدرة علىٰ توجيه صاحبه وعلىٰ رفع القرآن (الصاعد) الىٰ الله بالصلاة والدعاء.

وتلك الحالة هي حالة (انغلاق القلب). يقول تعالىٰ : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) (١).

والاصم الاعمىٰ لا يستطيع أن يستقبل نداءً ولا نوراً ، ومن ثمّ لا يستطيع أن ينطق أيضاً ، فيكون أبكم بطبيعة الحال.

ويقول تعالىٰ عن بني اسرائيل : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) (٢).

إن الحجارة لا تتمكن من أن تستقبل نوراً ولا هواءً ولا ماءً ، وترد كل ما يتوجه اليها من النور والهواء والماء ، وبطبيعة الحال لا تستطيع أن تعطي ثمرة ، فإن الثمرة التي تعطيها التربة الخصبة هي مما تستقبل من النور والهواء والماء.

والقلب إذا فقد سلامته يكون كذلك لا يستقبل النور ولا يمنح النور ، وهي حالة الانغلاق الكامل ، وحالة (موت القلب) يفقد فيها القلب كل حيويته ، فإن حياة القلب بما يأخذ ، ويعطي ، فإذا فقد هذه الخاصية فقد الحياة.

يقول تعالىٰ في موت القلب : ( إِنَّ اللَّـهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ) (٣).

__________________

(١) البقرة ١٨.

(٢) البقرة : ٧٤.

(٣) فاطر : ٢٢.


ويقول تعالىٰ : ( إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ) (١).

ويقول تعالیٰ : ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) (٢).

وليس العجز في قوة النداء والاداء ، ولكن العجز في قابلية الميت علىٰ السمع.

تلك هى حالة موت القلب وانغلاقه وانقطاعه عن الله تعالىٰ.

فما هو سبب هذا الانقطاع والانغلاق ؟

العوامل التي تؤدي الىٰ انغلاق القلوب :

النصوص الاسلامية تؤكد أن أهم عوامل انغلاق القلوب وانقطاعها عن الله اثنان :

١ ـ الاعراض عن آيات الله وتكذيبها.

٢ ـ ارتكاب الذنوب والمعاصي.

يقول تعالىٰ :

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ) (٣).

والتكذيب بآيات الله ، في هذه الآية الكريمة ، سبب الصمم والاستقرار في الظلمات في حياة الناس.

ويقول تعالىٰ : ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ) (٤).

ونلاحظ في هذه الآية الكريمة العلاقة المتبادلة بين الاعراض عن آيات الله

__________________

(١) النمل : ٨.

(٢) يس : ١٠.

(٣) الانعام : ٣٩.

(٤) لقمان : ٧.


والاستكبار عنها والوقر في الآذان.

وهذا هو العامل الأول (الاعراض).

وعن العامل الثاني (الذنوب) يقول تعالىٰ :

( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١).

والآية الكريمة واضحة في أنّ الذنوب التي يكسبها الانسان تتحول إلىٰ رين وصدأ علىٰ القلوب ، تغلق القلب وتقطعه عن الله.

بالذنوب تنتكس القلوب :

وإن الانسان يمارس الذنب حتىٰ ينقطع قلبه عن الله ، فإذا انقطع قلبه عن الله انتكس القلب ، فكان اعلاه اسفله ، واسفله اعلاه ، وفقد كل خصائصه.

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« كان أبي يقول : ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته. إن القلب ليواقع الخطيئة ، فلا تزال به حتىٰ تغلب عليه ، فيصير اعلاه اسفله » (٢).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام أيضاً :

« إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب انمحت ، وان زاد زادت ، حتىٰ تغلب علىٰ قلبه ، فلا يفلح بعدها ابداً » (٣).

بالذنوب يفقد الانسان حلاوة الذكر :

ولذكر الله حلاوة في القلوب المؤمنة ، ليس فوقها حلاوة ، فإذا انتكس القلب فقد هذه الحلاوة ، ولم يعد يتذوق حلاوة الذكر ، كالمريض الذي تنتكس

__________________

(١) المطففين : ١٤.

(٢) بحار الانوار ج ٧٣ ص ٤١٢.

(٣) بحار الانوار ج ٧٣ ص ٣٢٧.


سلامته فيفقد شهيّة الطيبات ، لا لأن الطيبات فقدت طيبها ، ولكن لأن المريض فقد الشهية إليها ، كذلك القلوب إذا انتكست فقدت حلاوة ذكر الله ، ولم يعد لذكر الله تعالىٰ لديها حلاوة وجاذبية.

في الحديث : « إن الله أوحىٰ الىٰ داود أن ادنىٰ ما أنا صانع بعبد غير عامل بعلمه من سبعين عقوبة باطنية أن انزع من قلبه حلاوة ذكري » (١).

وجاء رجل الىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : « يا أمير المؤمنين ، إني قد حرمت الصلاة بالليل.

فقال عليه‌السلام : أنت رجل قد قيدتك ذنوبك » (٢).

وعن الامام الصادق عليه‌السلام :

« إن الرجل يذنب الذنب ، فيحرم صلاة الليل ، وإن العمل السيئ اسرع في صاحبه من السكين في اللحم » (٣).

الذنوب التي تحبس الدعاء :

اذن انقطاع القلب عن الله من المردودات المباشرة للذنوب ، وإذا انقطع القلب عن الله فلا يأخذ ولا يعطي.

و (الدعاء) مما يرفعه الانسان الىٰ الله تعالىٰ. ولذلك قلنا : إنه (القرآن الصاعد) الذي يرفعه العبد الىٰ الله ، بعدما يستقبل من عند الله (القرآن النازل) ، فإذا انقطع الانسان عن القرآن النازل انقطع بالضرورة عن القرآن الصاعد ، فيحبس عن الدعاء ، ولا يتوفق له. وحتىٰ إذا ألحّت عليه الضرورات ودعا الله

__________________

(١) دار السّلام للشيخ النوري ٣ : ٢٠٠.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٥١.

(٣) أصول الكافي ٢ : ٢٧٢.


تعالىٰ حبس الله تعالىٰ دعاءه عن الصعود ولم يجد الاستجابة.

روي عن علي عليه‌السلام : « المعصية تمنع الاجابة ».

وسأل رجل عليّاً عليه‌السلام عن قوله تعالىٰ : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) : « ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟ قال عليه‌السلام : فأي دعاء يستجاب لكم ، وقد سددتم أبوابه وطرقه ، فاتقوا الله وأصلحوا اعمالكم ، وأخلصوا سرائركم ، واؤمروا بالمعروف ، ونهو عن المنكر ، فيستجيب الله دعاءكم » (١).

وعن علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : « والذنوب التي تردّ الدعاء ، وتظلم الهواء عقوق الوالدين » (٢).

وفي رواية اخرىٰ : « والذنوب التي ترد الدعاء : سوء النية ، وخبث السريرة ، والنفاق ، وترك التصديق بالاجابة ، وتأخير الصلوات المفروضات حتىٰ تذهب اوقاتها ، وترك التقرب إلىٰ الله عزّوجلّ بالبر والصدقة ، واستعمال البذاء والفحش في القول » (٣).

وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام :

« إن العبد يسأل الله الحاجة ، فيكون من شأنه قضاؤها الىٰ اجل قريب ، فيذنب العبد ذنباً ، فيقول الله تبارك وتعالىٰ للملك : لا تقض حاجته ، واحرمه إياها ، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني » (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٧٦.

(٢) معاني الأخبار : ٢٧٠.

(٣) معاني الأخبار : ٢٧١.

(٤) أصول الكافي ٣ : ٣٧٣.


(عوائق) و (عوامل) صعود الأعمال :

في النصوص الاسلامية ورد ذكر للـ (عوائق عن صعود الاعمال) ولـ (عوامل صعود الاعمال).

ولكليهما علاقة مباشرة بعمل الانسان ، إلّا أن (العوائق) تعيق صعود الاعمال إلىٰ الله تعالىٰ ، و (العوامل) تعين علىٰ صعود الاعمال الىٰ الله.

وفيما يلي نستعرض نموذجاً واحداً من النصوص الواردة في (العوائق) ، ونموذجاً واحداً من النصوص الواردة في (العوامل) من دون توضيح وتعليق ، ونترك الشرح والتعليق في هذه المسألة المهمة في الثقافة والتربية الاسلامية الىٰ مجال مناسب إن شاء الله.

عوائق صعود الاعمال :

روى الشيخ أبو جعفر محمّد بن أحمد بن علي القمي نزيل الري في كتابه المنبئ عن زهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن عبد الواحد عمن حدثه عن معاذ بن جبل قال : « قلت : حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظته من دقة ما حدثك به. قال : نعم ، وبكىٰ معاذ ثم قال : بأبي وأمي حدثني وأنا رديفه فقال : بينا نسير إذ رفع بصره الىٰ السماء فقال : الحمدلله الذي يقضي في خلقه ما أحب ، ثم قال : يا معاذ ، قلت : لبيك يا رسول الله وسيّد المؤمنين. قال : يا معاذ ، قلت : لبيك يا رسول الله امام الخير ونبي الرحمة ، فقال : اُحدثك شيئاً ما حدث به نبي امته إن حفظته نفعك عيشك ، وإن سمعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله ، ثم قال : إن الله خلق سبعة املاك قبل أن يخلق السماوات فجعل في كل سماء ملكاً قد جللها بعظمته ، وجعل علىٰ كل باب من أبواب السماوات ملكاً بواباً ، فتكتب الحفظة عمل العبد من حين يصبح الىٰ حين يمسي ، ثم ترتفع الحفظة بعمله وله نور كنور الشمس حتىٰ إذا بلغ


سماء الدنيا فتزكيه وتكثره فيقول الملك : قفوا واضربوا هذا العمل وجه صاحبه ، انا ملك الغيبة ، فمن اغتاب لا أدع عمله يجاوزني الىٰ غيري. أمرني بذلك ربي.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثم تجيء الحفظة من الغد ومعهم عمل صالح ، فتمر به فتزكيه وتكثره حتىٰ تبلغ السماء الثانية فيقول الملك الذي في السماء الثانية : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انما أراد بهذا عرض الدنيا ، انا صاحب الدنيا لا أدع عمله يتجاوزني الیٰ غيري.

قال : ثم تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً بصدقة وصلوة فتعجب به الحفظة ، وتجاوز به الىٰ السماء الثالثة ، فيقول الملك : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وظهره ، انا ملك صاحب الكبر ، فيقول : إنه عمل وتكبر علىٰ الناس في مجالسهم. امرني ربي ان لا أدع عمله يتجاوزني الىٰ غيري.

قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كالكوكب الدري في السماء له دوي بالتسبيح والصوم والحج ، فتمر به الىٰ السماء الرابعة فيقول له الملك : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وبطنه ، انا ملك العجب ، انه كان يعجب بنفسه أنه عمل وأدخل نفسه العجب. امرني ربي أن لا أدع عمله يتجاوزني الىٰ غيري.

قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد كالعروس المزفوفة الىٰ اهلها ، فتمر به الىٰ ملك السماء الخامسة بالجهاد والصلوة [والصدقة] ما بين الصلاتين ، ولذلك العمل رنين كرنين الابل وعليه ضوء كضوء الشمس ، فيقول الملك : قفوا انا ملك الحسد ، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ، واحملوه علىٰ عاتقه ؛ انه كان يحسد من يتعلم أو يعمل لله بطاعته ، وإذا رأىٰ لأحد فضلاً في العمل والعبادة حسده ووقع فيه ، فيحمله علىٰ عاتقه ويلعنه عمله.

قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة فيتجاوزون به الىٰ السماء السادسة ، فيقول الملك : قفوا انا صاحب الرحمة واضربوا بهذا العمل


وجه صاحبه ، واطمسوا عينيه لأن صاحبه لم يرحم شيئاً. إذا اصاب عبداً من عباد الله ذنب للآخرة أو ضر في الدنيا شمت به. امرني به ربي أن لا أدع عمله يجاوزني.

قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد بفقه واجتهاد وورع وله صوت كالرعد ، وضوء كضوء البرق ، ومعه ثلاثة آلاف ملك ، فتمر به الىٰ ملك السماء السابعة ، فيقول الملك : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الحجاب أحجب كل عمل ليس لله : إنه أراد رفعة عند القواد ، وذكراً في المجالس وصيتاً في المدائن. امرني ربي أن لا أدع عمله يتجاوزني الىٰ غيري ما لم يكن لله خالصاً.

قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به من صلوة وزكوة وصيام وحج وعُمرة وحسن الخلق وصمت وذكر كثير ، تشيعه ملائكة السماوات والملائكة السبعة بجماعتهم ، فيطؤون الحجب كلّها حتىٰ يقوموا بين يديه سبحانه ، فيشهدوا له بعمل ودعاء فيقول : انتم حفظة عمل عبدي ، وانا رقيب علىٰ ما في نفسه. إنه لم يردنى بهذا العمل. عليه لعنتي. فيقول الملائكة : عليه لعنتك ولعنتنا. قال : ثم بكىٰ معاذ قال : قلت : يا رسول الله ، ما اعمل وأخلص فيه ؟ قال : اقتد بنبيك يا معاذ في اليقين. قال : قلت : انت رسول الله وانا معاذ. قال : وإن كان في عملك تقصير يا معاذ فاقطع لسانك عن اخوانك ، وعن حملة القرآن ، ولتكن ذنوبك عليك لا تحملها علىٰ اخوانك ، ولا تزك نفسك بتذميم اخوانك ، ولا ترفع نفسك بوضع اخوانك ، ولا تراء بعملك ، ولا تدخل من الدنيا في الآخرة ، ولا تفحش في مجلسك لكى يحذروك لسوء خلقك ، ولا تناج مع رجل وانت مع آخر ، ولا تعظم علىٰ الناس فتنقطع عنك خيرات الدنيا ، ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب أهل النار ؛ قال


الله تعالىٰ : ( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ) (١) أفتدري ما الناشطات ؟ إنها كلاب أهل النار تنشط اللحم والعظم. قلت : ومن يطيق هذه الخصال ؟ قال : يا معاذ ، إنه يسير علىٰ من يسره الله تعالىٰ عليه. قال : وما رأيت معاذاً يكثر تلاوة القرآن كما يكثر تلاوة هذا الحديث » (٢).

عوامل صعود الأعمال الىٰ الله

وفي مقابل العوائق هناك (عوامل) لصعود الاعمال الىٰ الله ترفع العمل الىٰ الله ، حيث يعجز العمل عن الصعود وهذه (العوامل) تقع في مقابل (العوائق). وقد ورد ذكر طائفة من هذه العوامل في رواية نبوية شريفة يلوح عليها نور النبوة وهدیٰ الوحي ، نذكرها بتمامها برواية العلامة المجلسي رحمه‌الله في بحار الأنوار عن الصدوق في الامالي :

روى الصدوق في الامالي عن سعيد بن المسيب ، عن عبدالرحمن بن سمرة ، قال : « كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فقال : إني رأيت البارحة عجائب ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، وما رأيت ؟ حدثنا به فداك أنفسنا وأهلونا وأولادنا فقال :

رايت رجلاً من اُمتي وقد أتاه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه برّه بوالديه فمنعه منه.

ورأيت رجلاً من اُمتي قد بسط عليه عذاب القبر ، فجاءه وضوؤه فمنعه منه.

__________________

(١) النازعات : ٢.

(٢) نقلنا هذا الحديث بطوله عن كتاب عدة الداعي ٢٢٨ ـ ٢٣٠ ، والتعليق أيضاً من نفس الكتاب « عن سلمان بن خالد قال : سألت ابا عبدالله عليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ). قال : أما والله وإن كانت اعمالهم اشد بياضاً من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه ». قال في (مرآة العقول) : « وفيه دلالة علىٰ حبط الطاعات بالفسوق ؛ والاحباط عبارة عن ابطال الحسنة بعدم ترتب ما يتوقع منها عليها ، ويقابله التكفير وهو اسقاط السيئة بعدم جريان مقتضىٰ ما عليها ».


ورأيت رجلاً من اُمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله عزّوجلّ فنجاه من بينهم.

ورأيت رجلاً من اُمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع ، فجاءه صيام شهر رمضان فسقاه وأرواه.

ورأيت رجلاً من اُمتي والنبيون حلقاً حلقاً كلما أتی حلقة طردوه ، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه الىٰ جنبهم.

ورأيت رجلاً من اُمتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن تحته ظلمة مستنقعاً في الظلمة ، فجاءه حجه وعمرته فأخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور.

ورأيت رجلاً من اُمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه ، فجاءه صلته للرحم فقال : يا معشر المؤمنين ، كلموه فإنه كان واصلاً لرحمه ، فكلمه المؤمنون وصافحوه وكان معهم.

ورأيت رجلاً من اُمتي يتقي وهج النيران وشررها بيده ووجهه ، فجاءته صدقته فكانت ظلاً علىٰ رأسه وستراً علىٰ وجهه.

ورأيت رجلاً من اُمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فخلصاه من بينهم وجعلاه مع ملائكة الرحمة.

ورأيت رجلاً من امتي جاثياً علىٰ ركبتيه بينه وبين رحمة الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله في رحمة الله.

ورأيت رجلاً من اُمتي قد هوت صحيفته قبل شماله فجاءه خوفه من الله عزّوجلّ فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه.

ورأيت رجلاً من اُمتي قد خفت موازينه ، فجاءه أفراطه فثقلوا موازينه.

ورأيت رجلاً من اُمتي قائماً علىٰ شفير جهنم ، فجاءه رجاؤه في الله عزّوجلّ


فاستنقذه من ذلك.

ورأيت رجلاً من اُمتي قد هویٰ في النار ، فجاءته دموعه التي بكي من خشية الله فاستخرجته من ذلك.

ورأيت رجلاً من اُمتي علىٰ الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف ، فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضىٰ علىٰ الصراط.

ورأيت رجلاً من اُمتي علىٰ الطراط ، يزحف أحياناً ويحبو احياناً ويتعلق احياناً ، فجاءته صلاته عليّ فأقامته علىٰ قدميه ومضىٰ علىٰ الصراط.

ورأيت رجلاً من اُمتي انتهىٰ الىٰ أبواب الجنة كلما انتهىٰ الىٰ باب أغلق دونه ، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله صادقاً بها ففتحت له الابواب ودخل الجنة » (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٧ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي




وما دمنا قد تحدثنا عن (العوائق) و (العوامل) فمن المفيد أن نتحدث عن (الوسائل) التي نبتغيها الىٰ الله تعالىٰ في الدعاء.

فإنّ الله تعالىٰ يدعونا أن نبتغي إليه الوسيلة.

يقول تعالىٰ : ( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (١).

ويقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (٢).

وقد جعل الله تعالىٰ هذه الوسائل لعباده الذين تعجز أعمالهم وأدعيتهم عن الصعود إليه رحمة بهم ، وهو أرحم الراحمين.

فإن الله تعالىٰ يقول : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٣).

إنّ في حياة الانسان (كلماً طيباً) و (عملاً صالحاً).

و (الكلم الطيب) هو إيمان الانسان بالله ، وإخلاصه له تعالىٰ ، وثقته ورجاؤه به ، ودعاؤه وتضرعه بين يديه.

و (العمل الصالح) هو العمل الذي يقوم به الانسان عن (إيمان) ، و (إخلاص) ، و (ثقة) ، و (رجاء).

و (الكلم الطيب) يصعد الىٰ الله بصريح القرآن ، ولكن (العمل الصالح) هو الذي يرفع الكلم الطيب الىٰ الله ، بصريح القران كذلك.

ولولا (العمل الصالح) لم (يصعد الكلم الطيب) الىٰ الله ، إلّا أنّه قد يكون في

__________________

(١) الاسراء : ٥٧.

(٢) المائدة : ٣٥.

(٣) فاطر : ١٠.


(العمل الصالح) عجز وضعف ، فلا يستطيع أن يرفع (الكلم الطيب الىٰ الله) ، فلا يصعد دعاء الانسان الىٰ الله ، ولا يستجاب دعاؤه.

فيجعل الله تعالیٰ في حياة الانسان وبيده (وسائل) يبتغيها إليه ، تعينه في الصعود إليه ، رحمة بعباده.

ولو لا هذه الوسائل لم يتمكن من أن يرفع دعاءه وتضرعه الىٰ الله.

وهذه هي الوسائل التي يشير اليها القرآن.

ومن هذه الوسائل دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستغفاره لاُمّته.

يقول تعالىٰ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (١).

والآية الكريمة واضحة في أن استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين ، من الوسائل التي رغّب الله تعالىٰ عباده أن يبتغوها وسيلة إليه في الدعاء والاستغفار.

وما يقال عن المجيء الىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستغفاره للمؤمنين في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حي يرزق عند الله بعد وفاته.

التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته :

وفي النصوص الاسلامية ورد التأكيد كثيراً علىٰ التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام.

روي عن داود البرقي قال : « إنّي كنت أسمع ابا عبد الله عليه‌السلام أكثر ما يلحّ في الدعاء علىٰ الله بحقّ الخمسة ، يعني رسول الله ، وأمير المؤمنين ، وفاطمة ، والحسن ،

__________________

(١) النساء : ٦٤.


والحسين عليهم‌السلام » (١).

وعن سماعة : « قال لي ابو الحسن عليه‌السلام : إذا كان لك يا سماعة الىٰ الله حاجة فقل : اللّهم اني أسألك بحق محمّد وعلي ، فإن لها عندك شأناً من الشأن وقدراً من القدر ، ويحق ذلك القدر ان تصلي علىٰ محمّد وآل محمّد وان تفعل بي كذا وكذا » (٢).

الوسائل الیٰ الله في دعاء كميل :

في دعاء كميل نجد طائفة من الوسائل التي يتوسل بها الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الىٰ الله في الدعاء.

وهذه الوسائل هي الشطر الثاني من الدعاء ، ولكي نتحدث عن الوسائل التي يقدمها الامام عليه‌السلام بين يدي دعائه وحاجاته الىٰ الله في هذا الدعاء الشريف ، لابدّ أن اُقدم توضيحاً موجزاً عن هيكل الدعاء ، والافكار الرئيسة التي تضمنها ، والمنهج الذي تنتظم من خلاله الافكار الرئيسة المطروحة في هذا الدعاء الشريف.

فإن لكل واحد من نصوص الأدعية المعروفة المأثورة عن أهل البيت افكاراً محددة ، ومنهجية معينة لتنظيم هذه الأفكار ، وطريقة للدخول والخروج من الدعاء.

ولكل واحد من الأدعية المعروفة هيكل وتصميم خاص به ، ودراسة هذه المناهج تنفعنا في معرفة اساليب الدعاء والمناجاة مع الله.

إن لكل دعاء فكرة اساسية رئيسة ، ومجموعة افكار تحتضن هذه الفكرة ، ومطلباً أساسياً ومجموعة مطالب اخرىٰ تحتضن المطلب الاساسي ، ومنهجاً في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٣٩ ، ح : ٨٨٤٤.

(٢) عدة الداعي : ٣٨.


السؤال واسلوباً في الدخول والخروج.

ولو أن العلماء أولوا هذه المسألة اهتماماً علمياً كافياً لخرجوا بنتائج مفيدة.

ولست اُريد الآن أن اقدم دراسة عن تصميم دعاء كميل وهيكله والافكار الاساسية فيه ، وإنما اُريد أن اقدم فقط توضيحاً موجزاً للاطار العام ، والافكار الرئيسة لهذا الدعاء بصورة موجزة لتتأمل من خلال هذا الاطار في الوسائل التي يقدمها الامام عليه‌السلام بين يدي حاجاته الىٰ الله في هذا الدعاء.

الاطار العام لدعاء كميل :

دعاء كميل من الادعية الجليلة المعروفة في أوساط المؤمنين ، يواظبون عليه ليالي الجمعة ، ويقرأونه بصورة جمعية أو فردية.

وهذا الدعاء لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام علّمه لكميل بن زياد النخعي رحمه‌الله ، وتلقاه المؤمنون عن هذا الطريق جيلاً بعد جيل.

وهذا الدعاء غني بمفاهيم العبودية والتوبة والإخبات وزاخر بصور حيّة من التضرع والاستغاثة والانابة.

ولست في هذه التأمّلات بصدد شرح هذا الدعاء الشريف والمفاهيم التي يزخر بها ، فذلك امر يطول ولعل الله تعالىٰ يرزقني توفيق ذلك ويهيئ لي اسبابه.

اما الآن فأنا بصدد توضيح هيكل الدعاء ، فإن هذا الدعاء مصمم تصميماً خاصاً علىٰ ثلاث مراحل ، كلّ مرحلة منها تعد للمرحلة التالية لها ، وفهم هذا التصميم والاُسس التي يقوم عليها هيكل الدعاء يعيننا كثيراً علىٰ قراءة الدعاء وتأمل مفاهيمه والافكار الواردة فيه ، والتفاعل معه.

ولعل الله تعالىٰ يجعل هذا الجهد نافعاً ومفيداً للمؤمنين الذين اعتادوا قراءة هذا الدعاء.


فکرة تصميم الدعاء :

كما ذكرنا ، هذا الدعاء مصمم علىٰ ثلاثة مراحل :

المرحلة الاولىٰ : يحكم المدخل الىٰ الدعاء ، تعد الداعي للوقوف بين يدي الله وللدعاء والتضرع والسؤال ؛ فإن الذنوب والمعاصي تحجب الانسان عن الله ، وتحبس الدعاء ، ولكي يقف الانسان بين يدي ربّه موقف الدعاء لابدّ أن يجتاز هذه العقبة أولاً.

وفي هذا المدخل يبدأ عليّ عليه‌السلام بطلبين من الله.

احدهما طلب المغفرة من الله « اللّهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم. اللّهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم ... » هذا ما يتعلق بطلب المغفرة.

والآخر طلب الذكر والشكر والقرب فيقول : « وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك ، وأن توزعني شكرك ، وأن تلهمني ذكرك ».

ولابدّ للانسان ، لكي يتقدم للوقوف بين يدي الله للدعاء ، من هذا وذاك معاً. ولابدّ أن يغفر الله له ذنوبه ، ويزيل عن قلبه الحجب والغشاوات أولاً ، ولابدّ من أن يأذن الله له أن يدنو منه ويوزعه شكره ويلهمه ذكره ثانياً.

وهذه هي الفقرة الاولىٰ من المدخل في هذا الدعاء.

والفقرة الثانية من المدخل عرض للفاقة والحاجة والرغبة الىٰ الله « اللّهم وأسألك سؤال من اشتدت فاقته ، وانزل بك عند الشدائد حاجته ، وعظم فيما عندك رغبته » وليس من الله مفر ، وليس الىٰ غيره ملجأ.

وهاتان حقيقتان :

أ ـ ليس من الله مفر : « اللّهم عظم سلطانك ، وعلا مكانك ، وخفي مكرك ، وظهر أمرك ، وغلب قهرك ، وجرت قدرتك ، ولا يمكن الفرار من حكومتك ».

ب ـ وليس الىٰ غيره ملجأ : « اللّهم لا أجد لذنوبي غافراً ، ولا لقبائحي


ساتراً ، ولا لشيءٍ من عملي القبيح بالحسن مبدلاً غيرك لا اله إلّا انت ».

وهذه هي الفقرة الثانية من المدخل.

وفي الفقرة الثالثة من المدخل يستعرض علي عليه‌السلام بؤس الانسان وشقاءه الطويل « اللّهم عظم بلائي ، وافرط بي سوء حالي ، وقصرت بي أعمالي ، وقعدت بي أغلالي ، وحبسني عن نفعي بعد املي ، وخدعتني الدنيا بغرورها ، ونفسي بجنايتها ومطالي يا سيدي ».

ولهذا البؤس والشقاء اسباب من عمل الانسان وسعيه ، فيسأل الله تعالىٰ أن يهب له هذه الذنوب ، ولا يسمح لها أن تحجبه عن الدعاء.

« فأسألك بعزتك ، أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي ، ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سري ، ولا تعاجلني بالعقوبة علىٰ ما عملته في خلواتي من سوء فعلي وإساءتي ودوام تفريطي وجهالتي ، وكثرة شهواتي وغفلتي ».

وفي الفقرة الرابعة من المدخل تكريس لمفهوم جليل سبق أن اُشير إليه في هذا المدخل ، وهو أن العبد لا يجد ملجأً في ضره وبؤسه غير مولاه « الهي من لي غيرك اسأله كشف ضري والنظر في أمري ».

وفي الفقرة الخامسة من هذا المدخل اعترافان :

اعتراف بالسيئات.

واعتراف بأن لا حجة للعبد علىٰ الله فيما خالف من حدوده واحكامه وركب من اهواءه وشهواته.

وفي الفقرة السادسة والأخيرة من هذا المدخل حيث اعترف العبد بذنوبه ومعاصيه وببؤسه وشقائه ، وأعلن أن لا مفر له من الله ولا ملجأ منه إلّا إليه وطلب من الله أن لا يؤاخذه بسوء افعاله وجرائمه وجرائره ، بعد هذه الجولة من التضرع


والمسكنة بين يدي الله يعلن العبد أنه قد رجع الىٰ مولاه معترفاً بذنوبه ، نادماً منها ، منكسراً مستقيلاً ، عالماً أنه لا مفر له من الله إلّا إليه ، ولا مفزع له في ضره وبؤسه إلّا الله.

« وقد اتيتك يا الهي بعد تقصيري واسرافي علىٰ نفسي معتذراً ، نادماً ، منكسراً ، مستقيلاً ، مستغفراً ، منيباً ، مقراً ، مذعناً ، معترفاً ، لا أجد مفراً مما كان مني ، ولا مفزعاً اتوجه إليه في امري غير قبولك عذري ، وادخالك اياي في سعة رحمتك ».

وبهذا ينتهي المدخل.

وقد اشرف العبد علىٰ التحرك للمثول بين يدي الله والدعاء والتضرع ، واعلن ذلك بقوله : « وقد اتيتك ».

وتبدأ المرحلة الثانية من الدعاء ، وفي هذه المرحلة يذكر الامام الوسائل التي يتوسل بها الىٰ الله في هذه المرحلة ، وهي أربعة وسائل كما افهم.

والوسيلة الاولىٰ هي سابق فضله ورحمته بعباده وحبه لهم « يا من بدأ خلقي ، وذكري ، وتربيتي ، وبرّي ، هبني لابتداء كرمك وسالف برك بي ».

والوسيلة الثانية حبنا له وتوحيدنا اياه « اتراك معذبي بنارك بعد توحيدك ، وبعد ما انطویٰ عليه قلبي من معرفتك ، ولهج به لساني من ذكرك ، واعتقده ضميري من حبك ، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعاً لربوبيتك ».

والوسيلة الثالثة ضعفنا عن تحمل العذاب ورقة جلودنا ودقة عظامنا « وانت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها وما يجري فيها من المكاره علىٰ أهلها علىٰ أن ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدته ، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها ... الهي وربّي وسيّدي ، لاي الامور اليك اشكو ، ولما منها اضج وابكي ، لأليم العذاب وشدته ، أم لطول البلاء


ومدته ».

والوسيلة الرابعة التي يتوسل بها الامام الىٰ الله في هذا الدعاء هو لجوء العبد الآبق الىٰ مولاه الذي ابق منه وعصاه ، واستعانته به ، واستنجاده منه عندما تنقطع عليه الطرق ، ولا يجد لنفسه ملجأً إلّا إلىٰ مولاه.

ويصور الامام هذه الوسيلة أروع تصوير في هذه الكليات « فبعزتك يا سيدي ومولاي اُقسم صادقاً لئن تركتني ناطقا لأضجن اليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ، ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ، ولاُنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين ، يا غاية آمال العارفين ، يا غياث المستغيثين ، يا حبيب قلوب الصادقين ، ويا اله العالمين ».

وتنتهي المرحلة الثانية من هذا الدعاء الشريف بتقديم هذه الوسائل الأربعة ، وتوسل العبد بهما الىٰ الله لاجل الدعاء والسؤال ، ولطلب الوقوف بين يديه سائلاً وداعياً.

والآن ندخل مع علي عليه‌السلام المرحلة الثالثة من هذا الدعاء الشريف وفي هذه المرحلة ـ بعد أن توسل الامام الىٰ الله بالوسائل الأربعة ـ يعرض حاجاته ومطالبه علىٰ الله واحدة بعد الاخرىٰ ، وهذه الحاجات تبدأ من نقطة الحضيض حيث يكون العبد وعمله ، وتنتهي الىٰ نقطة القمة حيث يكون طمع العبد وطموحه في سعة رحمة مولاه.

في نقطة الحضيض نقول : « أن تهب لي في هذه الليلة وفي هذه الساعة كل جرم اجرمته ، وكلّ ذنب اذنبته ، وكل قبيح اسررته ».

وفي نقطة القمة نقول : « واجعلني من احسن عبيدك نصيباً عندك واقربهم منزلة منك واخصهم زلفة لديك » والحاجات التي يطلقها الامام من خلال هذه الفقرات أربعة طوائف :


١ ـ الطائفة الاولىٰ أن يهب الله لنا ذنوبنا ولا يؤاخذنا بسيئاتنا ، ويتجاوز عما فعلناه من سوء واقترفناه من جريمة وارتكبناه من قبيح « أن تهب لي في هذه الليلة وفي هذه الساعة كل جرم اجرمته ، وكل قبيح اسررته ، وكل جهل عملته ، كتمته أو اعلنته ، اخفيته أو اظهرته ، وكل سيئة امرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني ، وجعلهتم شهوداً علی مع جوارحي ».

وفي الطائفة الثانية يستنزل الامام رحمة الله في كل شأن وفي كل رزق ، ويطلب من الله تعالىٰ أن يوفر حظّه من كل خير ينزله ، « وأن توفر حظّي من كل خير انزلته ، أو بر نشرته ، أو رزق بسطته ».

وهو دعاء شامل واسع لا يخرج منه شيء من رحمة الله.

والطائفة الثالثة وهي أطول فقرات هذا الدعاء وتأخذ أكثر اهتمام الامام من الدعاء (علاقته بالله).

فيطلب عليه‌السلام من الله تعالىٰ أن يجعل اوقاته عامرة بذكره ، وموصولة بخدمته ، وأن يرزقه الجد في خشيته ، ويُدنيه منه ويقربه إليه ، ويرزقه جواره « أسألك أن تجعل اوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة ، وبخدمتك موصولة ... قوِّ على خدمتك جوارحي ، واشدد على العزيمة جوانحي ، وهب لي الجدّ في خشيتك والدوام في الاتصال بخدمتك ، حتىٰ أسرح اليك في المبادرين ، واشتاق الىٰ قربك في المشتاقين ، وادنو منك دنو المخلصين ، واخافك مخافة الموقنين ، واجتمع في جوارك مع المؤمنين ».

ولابدّ أن نوضح أن الطائفة الاولىٰ والطائفة الثالثة من فقرات الدعاء كلها تخص علاقة العبد بالله ، الّا أنّ الطائفة الأولىٰ سلبية ، يهتم فيها العبد بطلب مغفرة ذنوبه والتجاوز عنها ؛ والطائفة الثالثة ايجابية يهتم فيها بإقامة علاقته مع الله علیٰ أساس متين من الاخلاص والخوف والخشية والحب والشوق.


وفي الطائفة الرابعة من المطالب يطلب فيها الامام من الله أن يجنبه كيد الظالمين ومكرهم وشرهم ، ويرجع مكرهم الیٰ نحورهم ، ويحفظه من ظلمهم وأذاهم.

« اللّهم ومن ارادني بسوء فأرده ، ومن كادني فكده ».

« واكفني شر الجن والانس من اعدائي ».

هذه خلاصة موجزة وسريعة لاطار وهيكل هذا الدعاء الشريف.

ولابدّ لهذا الاجمال من تفصيل وشرح.

الوسائل الأربعة في دعاء كميل :

والآن نتحدث عن الوسائل الأربعة في دعاء كميل ، وهي الفصل الثاني من هذا الدعاء الشريف.

والوسيلة الاولىٰ : سابق بره وكرمه وفضله بعبده. وإذا كان في عمل العبد وجهده عجز وقصور يحجبانه عن الله ، فإن سابق فضله تعالىٰ ورحمته بعبده يشفع للعبد الىٰ الله.

فإن سابق فضله ورحمته تعالىٰ بعبده دليل علىٰ حب الله لعبده. وهذا (الحب الإلهي) هو الوسيلة التي يقدمها العبد بين يدي حاجاته الىٰ الله ، فإنه إذا كان لا يستحق رحمة الله تعالىٰ فإن حب الله تعالىٰ له يؤهله لرحمته وفضله ، ويضعه في موضع الاجابة ، يقول الامام في هذه الوسيلة :

« يا من بدأ خلقي وذكري وتربيتي وبري ، هبني لابتداء كرمك وسالف برك بي ».

فقد بدأنا بالبر والذكر والخلق والتربية قبل أن نسأله تعالىٰ ، ودون أن نستحق هذا البر والذكر ، فأولىٰ به تعالىٰ أن يبرنا ويكرمنا ونحن نسأله ونطلب


منه ، وإذا كانت سيآتنا ومعاصينا تحجبنا عن برّه ورحمته ، فإن حبّه لنا يشفع لنا عنده ، ويضعنا في مواضع بره ورحمته.

والوسيلة الثانية : حبنا له ، وهو وسيلة ناجحة كحبّه لنا ، فقد توسّل الامام عليه‌السلام الىٰ الله تعالىٰ في الوسيلة الاولىٰ بحبّه تعالىٰ لنا ، ثم توسل بعد ذلك بحبّنا له وهو سيلة ناجحة ومؤثرة عند الله كحبّه لنا. فإن للحب قيمة كبيرة لا تضاهيها قيمة عند الحبيب ، ومهما شككنا نحن في شيء ، فلا نشك في حبّنا لله تعالىٰ ، واوليائه والحبّ بضاعة لا يردها الله تعالىٰ.

وفي سياق هذه الوسيلة يأتي توحيدنا له تعالىٰ وخشوعنا بين يديه ، وصلاتنا وسجودنا وذكرنا وشهادتنا واعترافنا له بالربوبية ، وعلىٰ انفسنا بالعبودية.

ونرجع ذلك كله الىٰ اثنين : الىٰ حبّنا له ، وتوحيدنا ايّاه ، ونحن علىٰ يقين أن (الحب) و (التوحيد) بضاعتان لا يردهما الله تعالیٰ. ومهما شككنا في شيء فلا نشك ولا نتردد لحظة واحدة في هذا ولا ذاك.

يقول الامام عليه‌السلام في التوسل بهذه الوسيلة :

« اتراك معذبي بنارك بعد توحيدك ، وبعد ما انطوىٰ عليه قلبي من معرفتك ، ولهج به لساني من ذكرك ، واعتقده ضميري من حبّك ، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعاً لربوبيتك ».

وفي التعليق علىٰ هذه الفقرة من الدعاء تحضرني قصة :

يقال : إن يوسف عليه‌السلام لما آتاه الله الملك والسلطان في مصر كان يطل ذات يوم علىٰ المدينة من شرفة بيته ، وكان معه علىٰ الشرفة عبد صالح من عباد الله ممن آتاه الله علماً ونوراً ، فمر شاب من تحت الشرفة عابراً ، فقال ذلك العبد الصالح ليوسف عليه‌السلام : أتعرفه ؟ قال : كلّا.


قال : هذا هو الطفل الذي شهد ببراءتك يوم اتهمتك امرأة العزيز.

( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ).

وقد بلغ ذلك الطفل الرضيع الذي شهد لك في المهد مبلغ الشباب ، وهو ذا.

فاستدعاه يوسف عليه‌السلام ، وأجلسه الىٰ جنبه وأكرمه وخلع عليه ، وبالغ في اكرامه. وذلك العبد الصالح ينظر الىٰ ما يصنع يوسف عليه‌السلام متعجباً.

فقال له يوسف عليه‌السلام : أتعجب مما صنعت بهذا الشاب ؟ فقال : لا ، ولكن هذا الشاب لم يكن له من الجميل عندك غير الشهادة لك بالبراءة ، وقد أنطقه الله تعالىٰ بها ، ولم يكن له من فضل في ذلك ، ومع ذلك فقد أكرمته بهذه الصورة وبالغت في اكرامه.

فكيف يمكن أن يحرق الله بالنار وجه عبد طال سجوده بين يديه ، أو يحرق قلب عبد ، انطوىٰ علىٰ حبه ، أو يحرق لساناً طالما ذكره ، وشهد بتوحيده ، ونفي الشرك عنه ؟!

والامام عليه‌السلام يقول من هذا الصدد :

« وليت شعري يا سيدي والهي ومولاي ، أتسلط النار علىٰ وجوه خرت لعظمتك ساجدة ، وعلىٰ السن نطقت بتوحيدك صادقة ، وبشكرك مادحة ، وعلىٰ قلوب اعترفت بإلهيتك محققة ، وعلىٰ ضمائر حوت من العلم بك حتىٰ صارت خاشعة ، وعلىٰ جوارح سعت الىٰ اوطان تعبدك طائعة ، واشارت باستغفارك مذعنة ... ما هكذا الظن بك ، ولا اخبرنا بفضلك عنك يا كريم ».

والوسيلة الثالثة : ضعفنا عن تحمل العذاب ، ورقة جلودنا ، ودقة عظامنا ، وقلة صبرنا وتحملنا. والضعف وسيلة ناجحة الىٰ القوي المتين ، وفي كل ضعف ما يجذب القوي ، ويستعطفه ، ويكسب عطفه ورحمته.


وإن في الضعف سراً يطلب القوي دائماً ، وفي القوة سر يطلب الضعيف دائماً ، فكل منهما يطلب الآخر.

وإن الطفل الرضيع في ضعفه يطلب حنان الاُم ، كما أن حنان الاُم يطلب ضعف الطفل ورقته.

وليس سلاح امضى لدى القوي من البكاء والرجاء الذي هو وسيلة الضعيف وسلاحه. يقول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في هذا الدعاء :

« يا من اسمه دواء ، وذكره شفاء ... ارحم من رأس ماله الرجاء ، وسلاحه البكاء ».

إن رجاء الفقير للغني رأس ماله ، وإن بكاء الضعيف لدى القوي سلاحه ، ومن لا يفهم سنن الله تعالىٰ في الكون في علاقة الضعيف بالقوي والقوي بالضعيف ، لا يفهم هذه الفقرات المؤثرة من كلام الامام عليه‌السلام في دعاء كميل.

يقول الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام في مناجاة له اخرىٰ :

« انت القوي وانا الضعيف وهل يرحم الضعيف إلّا القوي ».

والامام عليه‌السلام في هذا الدعاء يتوسل الىٰ الله تعالىٰ بضعف العبد ، وقلة حيلته ، وسرعة نفاد صبره وتحمله ، ورقة جلده ، ودقة عظمه.

يقول عليه‌السلام :

« يا رب ارحم ضعف بدني ، ورقة جلدي ، ودقة عظمي ».

وإننا لتوشكنا الشوكة ، وتمسّنا الجمرة ، ويلم بنا المرض إلمامة خفيفة في الدنيا فتسلبنا النوم والراحة والقرار والاستقرار ، وهو بلاء قصير مدته ، خفيف وزنه ، جعله الله تعالىٰ لامتحان عبادة واختبارهم وابتلائهم رحمة بهم ، فكيف بنا إذا سِقنا الىٰ العذاب الاليم وقيل لملائكة العذاب : ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ *


ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ) (١).

يقول الامام : « وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها ، وما يجري فيها من المكاره علىٰ اهلها ، علىٰ أن ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدته ، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها ، وهو بلاء تطول مدته ، ويدوم مقامه ، ولا يخفف عن أهله ، لأنه لا يكون إلّا عن غضبك وانتقامك وسخطك ، وهذا ما لا تقوم له السموات والارض. يا سيدي ، فكيف لي وانا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين ، يا الهي وربي وسيدي ومولاي ».

والوسيلة الرابعة التي يتوسل بها الامام عليه‌السلام في هذا الدعاء هي اضطرار العبد الىٰ الله ، والاضطرار وسيلة ناجحة إلىٰ من يضطر إليه الانسان ، ولا يجد إلّا عنده نجاح حاجته.

واقصد بالاضطرار ألّا يجد العبد موضعاً لقضاء حاجته إلّا عند الله ، ولا مهرباً إلّا إليه ، ولا مجلأً إلّا عنده ، وعندما يكون فرار العبد وهروبه من الله ، ولا يجد ملجأ ومهرباً يلجأ إليه ويحتمي به إلّا الله ، يكون هذا المشهد من ادعىٰ المشاهد الىٰ استنزال رحمة الله تعالىٰ ورأفته.

إن الطفل الصغير لا يرىٰ في عالمه الصغير غير امّه وأبيه من يحميه ويدافع عنه ويقضي حاجته ويلبي طلباته ، ويمنحه من رحمته وعطفه ، فيأنس بوالديه ، ويجد عندهما في اُفقه الصغير كل مطالبه وما يحتاج إليه من الرحمة والرأفة والشفقة ، فإذا المت به ملمة ، وإذا نابته نائبة ، وإذا خاف من شيء لجأ الىٰ أبيه وأمّه ، ووجد عندهما الأمن والرحمة والشفقة ، وقضاء حاجته ، والامن مما يخاف منه.

__________________

(١) الحاقة : ٣٠ ـ ٣٢.


فإذا كان قد ارتكب ما يستحق العقوبة منهما ، وخافهما علىٰ نفسه ، نظر الىٰ يمينه ويساره فلم يجد من يلجأ إليه ، ولا من يهرب منه ، ولا من يجد عنده الأمن إلّا هما ، فيلجأ اليهما ويلقي بنفسه في احضانهما مستغيثاً بها ، وهما يريدان عقوبته ومؤاخذته.

وهذا المشهد من أكثر المشاهد التي تستدر عطف الوالدين وتكسبه حبهما وعطفهما.

والامام عليه‌السلام في هذا الدعاء الشريف يشير الىٰ هذا المعنىٰ ، فهو قد تعلّم في اُفقه الواسع الكبير أن يلجأ الىٰ الله تعالىٰ في كلّ شيء ، وكلّما ألّمت به ملمة ، أو نابته نائبة ، أو داهمته مصيبة فزع الىٰ الله ولم يجد لحاجته قضاء ، ولا لما يلم به مفزعاً غير الله. وها هو يرىٰ العبد قد تعرّض لغضب الله تعالىٰ الذي يرجو رحمته ، ولعقوبة الله الذي يرجو الأمن من عنده.

فلا يرىٰ ، وقد تعرض العبد لعقوبة الله ملجأ له غير الله ، ولا مهرباً يهرب إليه غير الله تعالىٰ ، ولا من يحتمي به ويسأله غيره تعالىٰ.

فيضجّ إليه تعالىٰ وقد ساقه ملائكة العذاب الىٰ جهنم ، يطلب من الله الأمن ، ويعوذ برحمته من غضبه ، ويستغيثه ، ويستصرخه ، ويطلب الرحمة لنفسه منه تعالىٰ ، كالطفل الذي يتعرض لغضب والديه فلا يفر منهما إلّا اليهما ، ولا يجد من يحتمي به منهما إلّا هما.

ولنسمع الإمام عليه‌السلام في هذه الكلمات الشفافة الرقيقة التي تعبر عن روح التوحيد والدعاء :

« فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً ، لأضجن اليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخن اليك صراخ المستصرخين ، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين ولاُنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين ، يا غاية آمال العارفين ، يا غياث المستغيثين ، يا حبيب قلوب الصادقين ، ويا إله العالمين ».


وهذا هو الوجه الاول من القضية. والوجه الثاني كالوجه الأوّل في البداهة والوضوح في علاقة الله تعالىٰ بعبده.

فقد كان الوجه الأوّل يتلخص في علاقة العبد بالله في اضطراره إليه ولجوئه إلىٰ امنه ورحمته.

والوجه الآخر في علاقة الله تعالىٰ بعبده عند ما يحتمي بحماه وامنه ، ويستغيث برحمته ويهرب منه إليه ، ويستصرخ رحمته وفضله وهو يتعرض لعقوبته وانتقامه.

فهل يمكن أن يسمع الله تعالىٰ ، وهو ارحم الراحمين ، استغاثة عبد ساقه جهله وطيشه الیٰ نار جهنم ، يستغيثه ، ويستصرخه ، ويناديه بلسان أهل توحيده ، ويسأله النجاة من النار ، ويضج إليه ... فيتركه في عذابها يحرقه لهيبها ، ويشتمل عليه زفيرها ، ويتقلقل بين اطباقها ، وتزجره زبانيتها ، وهو تعالیٰ يعلم صدقه في حبه له ، وتوحيده له ، ولجوئه إليه ، واضطراره إليه.

فاستمع إليه :

« أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته ، وذاق طعم عذابها بمعصيته ، وحبس بين اطباقها بجرمه وجريرته ، وهو يضج اليك ضجيج مؤمل لرحمتك ، ويناديك بلسان أهل توحيدك ، ويتوسل اليك بربوبيتك ، يا مولاي فكيف يبقیٰ في العذاب ، وهو يرجو ما سلف من حلمك ، أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك ، ام كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وتریٰ مكانه ، أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه ، أم كيف يتقلقل بين اطباقها وأنت تعلم صدقه ، أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربه ، أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه فيها ، هيهات ما ذلك الظن بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشبه لما عاملت به الموحدين من برك واحسانك ».


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي




هذان سؤالان لها أهميّة كبيرة في الدعاء.

ماذا ينبغى لنا أن نطلب من الله تعالىٰ في الدعاء ؟

وماذا لا ينبغي لنا أن نطلبه في الدعاء ؟

أ ـ ما ينبغي من الدعاء ؟

ولنبدأ بالسؤال الأوّل : « ما ينبغي أن نطلب من الله تعالىٰ في الدعاء ».

إن الدعاء هو حاجة العبد الىٰ الله تعالىٰ.

ولا حدّ لفقر العبد وحاجته كما لا حدّ لغنیٰ الرب وسلطانه وكرمه ، واجتماع هاتين غير المتناهيتين هو الدعاء :

عدم تناهي حاجة العبد ، وعدم تناهي غنیٰ الله تعالیٰ وكرمه.

فلا نفاد لخزائن ملكه ، ولا حدّ لسلطانه وقوته ، ولا حدّ لجوده وكرمه ، ولا حدّ لفقر العبد وحاجته وضعفه وقصوره وتقصيره.

ومن خلال هذا الوجه نحاول أن نعرف ماذا نطلب من الله تعالىٰ في الدعاء.

أولاً : الصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد في الدعاء :

اهم نقطة في الدعاء ، بعد الحمد والثناء علىٰ الله تعالىٰ هو الصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد أولياء أمور المسلمين. وتحتل الصلاة علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته مساحة واسعة جداً من الأدعية ، وقد ورد في النصوص الاسلامية تركيز وتأكيد كبيران علىٰ هذه الصلوات. ولهذا الاهتمام سبب واضح ، فإن الله تعالىٰ يريد أن


نجعل من الدعاء وسيلة لارتباط المسلمين بأولياء أمورهم ، واعتصامهم بحبل الولاء الذي جعله الله تعالىٰ عصمة للمسلمين. والصلوات من أهم أسباب هذا الارتباط النفسي ، فإن حلقات الولاء ممتدة بين الله تعالىٰ وعباده ، وولاء رسول الله وأهل بيته من أهم هذه الحلقات.

ويقع الولاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في امتداد الولاء لله ، والولاء لأهل البيت عليهم‌السلام امتداد الولاء لرسول الله ، وتأكيد هذا الولاء وتعميقه من تأكيد الولاء لله ، ومن تعميق الولاء لله تعالىٰ وتثبيته. وهذا باب واسع من المعرفة لا يمكن ايجازه في هذا الموضع ولا يمكن أن نبسط الكلام فيه ، كما ينبغي ، ولعل الله تعالىٰ يوفقني للحديث عن هذه النقطة الهامة والحساسة في الثقافة الاسلامية ، وفي تكوين الامة الاسلامية في موضع آخر.

وقد ورد في النصوص الاسلامية تأكيد بليغ وكثير علىٰ ذلك. وفيما يلي نورد بعض النصوص ذات العلاقة بهذا الموضوع.

واعظمها نص من كتاب الله. يقول تعالىٰ :

( إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصلاة عليّ نور علىٰ الصراط » (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن أبخل الناس من ذكرت عنده ، ولم يصلّ عليّ » (٣).

وروىٰ عبدالله بن نعيم ، قال : « قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : إني دخلت البيت ، ولم يحضرني شيء من الدعاء إلّا الصلاة علىٰ محمّد وآله. فقال : أما إنه لم يخرج أحد

__________________

(١) الاحزاب : ٥٦.

(٢) كنز العمّال : ح ٢١٤٩.

(٣) كنز العمّال : ح ٢١٤٤.


بأفضل مما خرجت به ».

وعن الباقر والصادق عليه‌السلام : « اثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة علىٰ محمّد وعلىٰ أهل بيته » (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام برواية الشريف في نهج البلاغة :

« إذا كان لك الىٰ الله سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة علىٰ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم سل حاجتك ؛ فإن الله اكرم من أن يسأل حاجتين ، فيقضي إحداهما ويمنع الأخرىٰ » (٢).

والدعاء للانبياء والمرسلين وأوصيائهم من هذا الدعاء.

وقد ورد الصلاة والسّلام علىٰ الأنبياء وأوصيائهم عموماً ، أو علىٰ نحو التشخيص والتعيين والتسمية كثيراً في نصوص الأدعية المأثورة عن أهل البيت ، ومن ذلك الدعاء الوارد في (عمل أمّ داود) في الأيّام البيض من شهر رجب ، وهو دعاء مروي عن الامام الصادق.

نموذج من الصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد :

وهو من أدعية الصحيفة السجادية : « ربّ صلّ علىٰ محمّد وآل محمّد ، المنتجب ، المصطفیٰ ، المكرّم ، المقرّب أفضل صلواتك وبارك عليه أتمّ بركاتك ، وترحم عليه امتع رحماتك.

ربّ صلّ علىٰ محمّد وآله صلاة زاكية ، لا تكون صلاة ازكىٰ منها ، وصلّ عليه صلاة نامية ، لا تكون صلاة انمىٰ منها ، وصلّ عليه صلاة راضية ، لا تكون صلاة فوقها ، ربّ صلّ علىٰ محمّد صلاة ترضيه ، وتزيد علىٰ رضاه ، وصلّ عليه

__________________

(١) بحار الأنوار ٧١ : ٣٧٤.

(٢) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، حكمة رقم ٣٦١.


صلاة ترضيك ، وتزيد علىٰ رضاك ، وصلّ عليه صلاة لا نرضىٰ له إلّا بها ، ولا ترىٰ غيره لها أهلاً ... ربّ صلّ علىٰ محمّد وآله صلاة تنتظم صلوات ملائكتك وانبيائك ورسلك وأهل طاعتك ».

ثانياً : الدعاء للمؤمنين :

وهو من أعظم مطالب الدعاء بعد حمد الله تعالىٰ وثنائه وبعد الصلاة علىٰ محمّد وآله والانبياء واوصيائهم ، وهذا الدعاء من أهم أبعاد (الدعاء) فهو يربط الفرد المسلم بالامة المسلمة في عمق التاريخ وعلىٰ وجه الارض ، كما أن الصلاة علىٰ محمّد وآله تربط المؤمن بحبل الولاء النازل من عند الله.

وهذه العلاقة التي ينسجها الدعاء بين الفرد والامة من جانب ، وبين الفرد والافراد الذين يتعامل معهم ويرتبط بهم بنحو من الانحاء من أفضل أنواع العلاقة ؛ لأنّ هذه العلاقة تتكون بين يدي الله ، وفي امتداد العلاقة بالله ، ولا يعرفها أحد إلّا الله ، وهي استجابة لدعوة الله تعالىٰ.

وهذا الدعاء يأتي علىٰ نحوين : علىٰ نحو التعميم من غير تسمية وتشخيص ؛ وعلىٰ نحو التخصيص والتسمية.

ونتحدث نحن إن شاء الله عن كلّ منهما :

أ ـ التعميم في الدعاء للمؤمنين :

وهو دعاء يحبه الله تعالىٰ ، ويستجيب له ، كما يستجيب لما يليه ويلحقه من الأدعية ، فإن الله تعالىٰ اكرم من أن يبعض في الاستجابة ، فيستجيب لبعض الدعاء ويرد بعضاً.

وهذا اللون من الدعاء لعموم المؤمنين الحاضرين ، والذين سبقونا بالايمان ،


يشعر المؤمن بالارتباط التاريخي والفعلي (العمودي والافقي) بالاسرة المؤمنة في التاريخ ، وعلىٰ وجه الأرض ، وبوحدة هذه الاسرة ، وبالعلاقة الوشيجة والقوية التي تربطنا بهذه الاسرة ، ويكون للدعاء في حياتنا بعدان : البعد الاول منهما يربطنا بالله تعالىٰ ، والبعد الثاني يربطنا بالامة المسلمة ممّن آمن بالله تعالىٰ في اعماق التاريخ وعلىٰ وجه الارض.

وقد ورد في النصوص الاسلامية تأكيدات بليغة علىٰ هذا اللون من الدعاء وورد أن الله تعالىٰ يثيب صاحب الدعاء بعدد كل مؤمن يشمله دعاؤه بالحسنات ، وأن كل مؤمن يشمله هذا الدعاء يشفع له يوم القيامة بين يدي الله تعالىٰ ، عندما يأذن سبحانه للصالحين من عباده بالشفاعة للمذنبين منهم.

عن أبي عبدالله الصادق ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات إلّا ردّ الله عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة ، مضىٰ من أوّل الدهر ، أو هو آت الىٰ يوم القيامة.

وإن العبد ليؤمر به الىٰ النار يوم القيامة فيسحب ، فيقول المؤمنون والمؤمنات : يا رب ، هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه ، فيشفّعهم الله عزّوجلّ ، فينجو » (٢).

وعن أبي عبدالله عليه‌السلام : قال : « من قال كل يوم خمساً وعشرين مرّة : اللّهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، كتب الله له بعدد كل مؤمن مضىٰ ، وبعدد كل مؤمن ومؤمنة بقي الىٰ يوم القيامة حسنة ، ومحا عنه سيئة ، ورفع له درجة » (٣).

وعن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام أنه كان يقول :

__________________

(١) أصول الكافي : ٥٣٥ ، امالي الطوسي ٢ : ٩٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٥١ ، ح ٨٨٨٩.

(٢) ثواب الأعمال : ٨٨ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٢ ، ح ٨٨٩١.


« من دعا لإخوانه من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وكّل الله به عن كل مؤمن ملكاً يدعو له » (١).

وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : « ما من مؤمن يدعو للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، الاحياء منهم والأموات ، إلّا كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة ، منذ بعث الله آدم الىٰ أن تقوم الساعة » (٢).

عن الامام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ما من مؤمن أو مؤمنة ، مضى من أوّل الدهر ، أو هو آت الىٰ يوم القيامة ، إلّا وهم شفعاء لمن يقول في دعائه : اللّهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ، وإن العبد ليؤمر به الىٰ النار يوم القيامة ، فيسحب فيقول المؤمنون والمؤمنات : يا ربنا ، هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه ، فيشفّعهم الله ، فينجو » (٣).

وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « ما من مؤمن يدعو للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الاحياء منهم والاموات ، إلّا ردّ الله عليه من كل مؤمن ومؤمنة حسنة منذ بعث الله آدم الىٰ أن تقوم الساعة » (٤).

وعن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما من عبد دعا للمؤمنين والمؤمنات إلّا ردّ الله عليه مثل الذي دعا لهم من كل مؤمن ومؤمنة ، مضىٰ من أوّل الدهر ، أو هو آت الىٰ يوم القيامة. إن العبد ليؤمر به الىٰ النار يوم القيامة ، ويسحب ، فيقول المؤمنون والمؤمنات : يا ربنا ، هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه ، فيشفّعهم الله ، فينجو من النار » (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٢ ، ح ٨٨٩٣.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٢ ، ح ٨٨٩٤.

(٣) امالي الصدوق : ٢٧٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٥.

(٤) ثواب الأعمال : ١٤٦ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٦.

(٥) ثواب الأعمال : ١٤٧ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٦.


وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إذا دعا احدكم فليعمّ ؛ فإنه اوجب للدعاء » (١).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « إذا قال الرجل : اللّهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم وجميع الأموات ردّ الله عليه بعدد ما مضیٰ ومن بقیٰ من كل انسان دعوة » (٢).

نماذج من التعميم في الدعاء :

وفيما يلي نذكر نماذج من التعميم في الدعاء من نصوص ادعية أهل البيت عليهم‌السلام. من هذه النماذج :

« اللّهم أغنِ كل فقير ، اللّهم أشبع كل جائع ، اللّهم اكسُ كل عريان ، اللّهم اقضِ دين كل مدين ، اللّهم فرج عن كل مكروب ، اللّهم ردّ كل غريب ، اللّهم فك كلّ أسير ، اللّهم أصلح كل فاسد من امور المسلمين ، اللّهم اشف كل مريض ، اللّهم سدّ فقرنا بغناك ، اللّهم غير سوء حالنا بحسن حالك ، وصلّ اللّهم علىٰ محمّد وآله الطاهرين ».

ومن هذه النماذج :

« اللّهم وتفضل علىٰ فقراء المؤمنين والمؤمنات بالغنىٰ والثروة ، وعلىٰ مرضىٰ المؤمنين والمؤمنات بالشفاء والصحة ، وعلىٰ أحياء المؤمنين والمؤمنات باللطف والكرامة ، وعلىٰ أموات المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والرحمة ، وعلىٰ مسافري المؤمنين والمؤمنات بالرد الىٰ أوطانهم سالمين غانمين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلّى الله علىٰ سيدنا محمّد خاتم النبيين وعترته الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً ».

__________________

(١) ثواب الأعمال : ١٤٧ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٦.

(٢) فلاح السائل : ٤٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧.


ومن ادعية الصحيفة السجادية للامام زين العابدين عليه‌السلام :

« اللّهم وصل علىٰ التابعين من يومنا هذا والىٰ يوم الدين ، وعلىٰ ازواجهم ، وعلىٰ ذرّياتهم ، وعلىٰ من اطاعك منهم ، صلاة تعصمهم بها من معصيتك ، وتفسح لهم في رياض جنتك ، وتمنعهم بها من كيد الشيطان ، وتعينهم بها علىٰ ما استعانوك عليه من برّ ، وتقيهم طوارق الليل والنهار إلّا طارقاً يطرق بخير».

الدعاء لحماة ثغور بلاد المسلمين :

ومن هذه النماذج الدعاء لحياة ثغور بلاد المسلمين وهو من ادعية الصحيفة السجادية :

« اللّهم صلّ علىٰ محمّد وآله ، وحصّن ثغور المسلمين بعزتك ، وأيّد حماتها بقوتك ، وأسبغ عطاياهم من جدتك ، اللّهم صلّ علىٰ محمّد وآل محمّد ، واشحذ اسلحتهم ، واحرس حوزتهم وامنع حومتهم ، وألّف جمعهم ودبر امرهم ، وواتر بين ميَرِهم ، وتوحّد بكفاية مؤنهم ، واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم بالمكر.

اللّهم صلّ علىٰ محمّد وآله ، وعرّفهم ما يجهلون ، وعلّمهم ما لا يعلمون ، وبصّرهم ما لا يبصرون ».

ومن الدعاء للمجاهدين الرساليين من المسلمين ، وهو من أدعية الصحيفة السجادية :

« اللّهم وأيّما مسلم أهمه أمر الاسلام ، وأحزنه تحزّب أهل الشرك عليهم ، فنوىٰ غزواً ، أو همّ جهاد ، فقعد به ضعف ، أو أبطأت به فاقه ، أو أخّره عنه حادث أو عرض له دون ارادته مانع فاكتب اسمه في العابدين ، واوجب له ثواب المجاهدين ، واجعله في نظام الشهداء والصالحين ».


ومن الدعاء للمساندين خلف الجبهة ، وهو من أدعية الصحيفة :

« اللّهم وأيما مسلم خلف غازياً أو مرابطاً في داره ، أو تعهّد خالفيه في غيبته أو اعانه بطائفة من ماله ، وأمدّه بعتاد ، أو رعىٰ له من ورائه حرمة ، فأجر له مثل أجره وزناً بوزن ، ومثلاً بمثل ».

الصيغ الثلاثة للدعاء في القرآن

صيغ الدعاء في القرآن ثلاثة :

١ ـ دعاء الفرد لنفسه.

٢ ـ دعاء الفرد لغيره.

٣ ـ دعاء الجميع للجميع.

وفيما يلي نستعرض هذه الطوائف الثلاثة من الدعاء ، لنتعرف علىٰ أساليب القرآن في الدعاء للمؤمنين.

١ ـ دعاء الفرد لنفسه :

وهو اسلوب معروف من الدعاء ، ونجد في القرآن نماذج من هذا الدعاء علىٰ لسان الانبياء والصالحين ، أو من تعليم الله تعالىٰ لعباده ومن ذلك قوله تعالىٰ :

( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (١).

( رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) (٢).

__________________

(١) يوسف : ١٠١.

(٢) الاسراء : ٨٠.


( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) (١).

( رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) (٢).

( رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ) (٣).

( رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ) (٤).

( رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) (٥).

٢ ـ دعاء الفرد لغيره :

وهو نحو آخر من الدعاء له نماذج وشواهد في القرآن ومن ذلك قوله تعالىٰ :

( وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (٦).

ومنه دعاء حملة العرش للمؤمنين : ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (٧).

٣ ـ دعاء الجميع للجميع :

__________________

(١) طه : ٢٥ ـ ٢٨.

(٢) الأنبياء : ٨٩.

(٣) المؤمنون : ٢٩.

(٤) المؤمنون : ٩٧ ـ ٩٨.

(٥) الشعراء : ٨٣ ـ ٨٥.

(٦) الاسراء : ٢٤.

(٧) غافر : ٧ ـ ٩.


وهو أشهر أساليب الدعاء في القرآن. واکثر ادعية القرآن من هذا القبيل ، ومن ذلك قوله تعالیٰ :

( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (١).

( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٢).

( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) (٣).

( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (٤).

( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (٥).

( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) (٦).

( رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) (٧).

( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) (٨).

__________________

(١) الفاتحة : ٦ ـ ٧.

(٢) البقرة : ١٢٧.

(٣) البقرة : ٢٠١.

(٤) البقرة : ٢٥٠.

(٥) البقرة : ٢٨٦.

(٦) آل عمران : ٨.

(٧) آل عمران : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٨) الاعراف : ١٢٦.


( رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) (١).

( رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) (٢).

( رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣).

*       *      *

تحليل وتفسير للنوع الثالث من الدعاء :

وما يعنينا في هذا التقسيم هما النحوان النحو الثاني والثالث ؛ وكلاهما دعاء للمؤمنين ، إلّا أن النحو الثاني من الدعاء دعاء الفرد للجميع ، والنحو الثالث من الدعاء دعاء الجميع للجميع ، وفي هذا النحو من الدعاء :

١ ـ المدعو له هو الجميع ، فلا يدعو الفرد لنفسه ، وإنما يدعو الفرد للجميع ، وقد لا يكون دعاء الفرد لنفسه نافعاً ، كما لو كان البلاء نازلاً علىٰ الجميع (الامّة) فيكون الفرد مشمولاً للبلاء ، حتىٰ لو لم يدخل فيما دخل فيه الآخرون من الظلم ، يقول تعالىٰ : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ).

وفي هذا المجال لا ينفع الفرد دعاؤه واستغفاره لنفسه ، وعليه ان يستغفر ويدعو للجميع ، فإذا رفع الله تعالىٰ العذاب عن الجميع ارتفع عنه أيضاً ( رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ).

٢ ـ والداعي أيضاً يمثل الجميع ، وينوب عنهم في هذا الدعاء ، فإن هذا النحو من الدعاء يتصدر غالباً بكلمة (ربنا) ، وكأن الفرد الداعي ينوب عن الجميع في

__________________

(١) المؤمنون : ١٠٩.

(٢) الفرقان : ٦٥.

(٣) التحريم : ٨.


الدعاء للجميع ، ولا يعزل الداعي نفسه عن المدعو لهم ، كما في النحو الثاني من الدعاء ، وإنما ينوب عنهم ، ويدعو لهم ، ويحشر نفسه ضمن الجميع الذين يدعو لهم ، وهو من اقرب الدعاء الىٰ الاستجابة.

فإن الله تعالىٰ إما أن يردها جميعاً ، أو يستجيب لبعض دون بعض أو يتقبلها للجميع.

والله تعالىٰ اكرم من أن يردها جميعاً ؛ وليس من شأن الكريم التبعيض في الاستجابة.

فعليه يتعين الفرض الثالث ، وهو الاستجابة للدعاء في حق الجميع.

وأجمل ما في هذا النحو من الدعاء أن الفرد هنا يكون رسولاً عن الجميع الىٰ الله ، ويمثل الجميع ويخاطب الله تعالىٰ باسم الجميع ، ويقول : (ربنا) ، وينوب عن الجميع ويكون رسول الجميع الىٰ الله.

وأجمل من ذلك أن كل واحد منا يمنح لنفسه الحق أن يكون رسولاً عن الآخرين الىٰ الله ، فكلّ منا رسول الناس الىٰ الله تعالىٰ في الدعاء ، وكما أن لله تعالىٰ رسولاً الىٰ الناس كذلك للناس رسل يرفعون تضرعهم وحاجتهم الىٰ بارئهم.

والكل هنا رسول عن الكل ، وينوب عن الكل.

ومن العجب أننا عندما نعيش في هذه الدنيا في السوق والشارع نضع بيننا الحواجز والسدود ، ونفصل بعضنا عن بعض ، ويكون لكل واحد منا حدوده وحقوقه التي لا يتراجع ولا يتنازل عنها ، ولا يمثل احدنا إلّا نفسه ، ولا ينوب عن غيره إلّا بتصريح وإذن ، فإذا صعدنا الىٰ الله بالصلاة والدعاء ، كسرنا هذه الحواجز جميعاً ، ولم يكن احدنا يفصل نفسه عن غيره ، وكان كل واحد منا يمثل الكل. وهذا التمثيل من اروع التمثيل وأجمله (تمثيل الجميع للجميع ، ونيابة الجميع عن الجميع في النطق والنداء والدعاء بين يدي ربّ العالمين).


واجمل من ذلك كله أن الله تعالىٰ يقبل هذا التمثيل والنيابة والرسالة عن الجميع من الجميع ، ولا يرده ولا يرفضه ، ويعطي لدعوة الداعي في هذه الحالة قوّة تمثيل الجميع والنيابة عنهم ، فإذا قال احدنا في صلاته : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فكأنّما رفع الجميع الدعاء للجميع يطلب الهداية من الله.

وناهيك بذلك قيمة للدعاء في هذه الحالة.

فإن كل دعاء لكل واحد منا في كل صلاة يحمل قوّة دعاء الجميع للجميع. والدعاء في مثل هذه الحالة يحمل كفاءة وقوة علىٰ درجة عالية جداً في الاسترحام بين يدي الله.

وأجمل من ذلك كله أن في هذه الادعية ما يجب أن يرفعها كل مسلم الىٰ الله تعالىٰ في كل يوم مرات عديدة من نحو قوله تعالىٰ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ).

فإن الجميع يمثّل الجميع في الدعاء للجميع ، وهو من عجائب الدعاء في حساب الرياضيات ، فإنه يعود الىٰ تمثيل الكل للكل في الدعاء للكل ، ولنتأمل مرة اخرىٰ في قيمة هذا الدعاء.

إن الدعاء للكل ذو قيمة كبيرة باعتبار أن المدعو له هو عموم المؤمنين. وهذا العموم في المدعو له يعطي قيمة كبيرة للدعاء عند الله.

والداعي لا يرفع نداءه الىٰ الله بصفته الشخصية ، وإنما يرفع الىٰ الله ايدي الجميع ، ونداءهم وهتافهم ، وينوب هو عن الجميع ، ويمثلهم بين يدي الله ، والله تعالىٰ يقبل من عبده هذا التمثيل والنيابة عن الآخرين.

والمؤمنون يقبلون تمثيل بعضهم لبعض بين يدي الله ، فالتمثيل هنا ليس ادعاء من قبل الفرد بين يدي الله تعالىٰ ، وانما هو تمثيل حقيقي يقبله الله تعالىٰ ، ويقبله الذين ينوب عنهم الفرد في الدعاء بين يدي الله ، فهو تمثيل شرعي مقبول.

وكل دعاء في هذه الحالة يحمل قوة دعاء الجميع. فإذا دعا منا فرد بين يدي


الله وقال : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فكأنما رفع الجميع هذا الدعاء الىٰ الله ، وهذا الدعاء بهذه الدرجة من القوة والكفاءة ، يرفعه في كل يوم كل مسلم يقف بين يدي الله تعالىٰ للصلاة ، ويدعو للجميع بالنيابة عن الجميع.

وفي كل يوم يضج الناس الىٰ الله تعالىٰ بهذه الصرخة غير المتناهية في القدرة علىٰ الاسترحام والاستعطاف عشر مرات الىٰ الله تعالىٰ.

وأجمل من ذلك كله أن الله تعالىٰ هو الذي دعانا الىٰ أن نضج إليه كل يوم بهذه الصرخة عشر مرات ، وهو الذي علمنا أن نستهديه ونطلب منه الهداية للجميع ، وهو الذي علمنا أن ننوب عن الجميع في هذا الدعاء ، وهو الذي يقبل منا هذه النيابة والتمثيل ..

فهل يمكن أن لا يستجيب بعد ذلك كله لدعائنا ؟ حاشا.

ب ـ التخصيص في الدعاء للمؤمنين :

وكما ورد في النصوص الاسلامية (التعميم في الدعاء للمؤمنين) كذلك ورد التخصيص في الدعاء للمؤمنين ، وتسميتهم بالدعاء وتشخيصهم وتعيينهم بأسمائهم.

وإن لهذا اللون من الدعاء نكهة اخرىٰ واثراً آخر في نفس صاحب الدعاء ، غير النكهة والأثر اللذين كانا للتعميم ، فإن هذا اللون من الدعاء يزيل ما قد يتراكم علىٰ العلاقات الثنائية والفئوية بين الافراد حيناً ، وبين مجاميع المؤمنين وطوائفهم حيناً آخر من السلبيات. فإن المؤمن إذا سأل الله تعالىٰ الرحمة والمغفرة لإخوانه الذين يسميهم ويعرّفهم ، وإذا سأله تعالىٰ قضاء حاجاتهم وتيسير أمورهم ، وكفاية مهامهم في الدعاء ، أحبّهم وزال ما كان يجد في نفسه تجاههم من الحسد والكره والحساسية والنفور أحياناً.


فيكون للدعاء في هذه الحالة ثلاثة ابعاد ؟

البعد الأول منها يربط صاحب الدعاء بالله تعالىٰ.

والبعد الثاني يربطه بالمساحة الواسعة للاُمة المسلمة علىٰ وجه الارض وفي اعماق التاريخ.

والبعد الثالث يربطه بإخوانه ومعارفه وارحامه ، وتلك مساحة واسعة من حياته.

وفي النصوص الاسلامية نجد اهتماماً بليغاً بهذا اللون من التخصيص والتسمية في الدعاء.

وفيما يلي نذكر طوائف من هذه النصوص بعناوينها الواردة في المجاميع الحديثية.

أ ـ الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب :

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدر الرزق ، ويدفع المكروه » (١).

وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « أوشك دعوة وأسرع إجابة دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب » (٢).

وعن أبي خالد القمّاط قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : أسرع الدعاء نجحاً للاجابة دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب. يبدأ بالدعاء لأخيه فيقول له ملك موكّل به : آمين ولك مثلاه » (٣).

__________________

(١) أصول الكافي : ٤٣٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٥ ، ح ٨٨٦٧.

(٢) أصول الكافي : ٤٣٥.

(٣) المصدر السابق.


وعن السكوني عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ليس شيء اسرع اجابة من دعوة غائب لغائب » (١).

وعن جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يا علي ، اربعة لا ترد لهم دعوة : إمام عادل ، والوالد لولده ، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب ، والمظلوم. يقول الله عزّوجلّ : وعزتي وجلالي لانتصرن لك ولو بعد حين » (٢).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من دعا لمؤمن بظهر الغيب قال الملك : فلك بمثل ذلك » (٣).

عن حمران بن اعين قال : « دخلت علىٰ أبي جعفر عليه‌السلام فقلت : أوصني ، فقال : اُوصيك بتقوىٰ الله ، وإيّاك والمزاح ؛ فإنه يذهب بهيبة الرجل وماء وجهه ، وعليك بالدعاء لإخوانك بظهر الغيب ؛ فإنه يهيل الرزق. يقولها ثلاثاً » (٤).

وعن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : « الدعاء لاخيك بظهر الغيب يسوق الىٰ الداعي الرزق ، ويصرف عنه البلاء ، ويقول الملك : ولك مثل ذلك » (٥).

ب ـ الدعاء لأربعين مؤمن :

ورد التأكيد في النصوص علىٰ الدعاء لاربعين مؤمن باسمائهم ، وتقديمه علىٰ دعاء الانسان لنفسه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٦ ، ح ٨٨٧٠.

(٢) الخصال للصدوق ١ : ٩٢ ، والفقيه ٥ : ٥٢.

(٣) امالي الطوسي ٢ : ٩٥ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٤.

(٤) السرائر : ٤٨٤ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧.

(٥) امالي الطوسي ٢ : ٢٩٠ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧.


علي بن ابراهيم عن ابيه بسنده عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال :

« من قدّم في دعائه أربعين من المؤمنين ، ثم دعا لنفسه استجيب له » (١).

وعن عمر بن يزيد ، قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول :

« من قدم أربعين رجلاً من إخوانه قبل ان يدعو لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه » (٢).

ج ـ إيثار الآخرين بالدعاء :

عن أبي عبيدة ، عن ثوير ، قال : « سمعت علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب ، أو يذكره بخير ، قالوا : نعم الاخ انت لأخيك ، تدعو له بالخير ، وهو غائب عنك وتذكره بخير ، قد أعطاك الله عزّوجلّ مثلي ما سألت له ، وأثنىٰ عليك مثلي ما أثنيت عليه ، ولك الفضل عليه » (٣).

وعن يونس بن عبدالرحمن عن عبدالله بن جندب أنه سمع أبا الحسن موسىٰ عليه‌السلام يقول : « الداعي لأخيه المؤمن بظهر الغيب ينادىٰ من عنان السماء : لك بكل واحدة مئة الف » (٤).

وعن ابن أبي عمير عن زيد النرسي قال : « كنت مع معاوية بن وهب في الموقف وهو يدعو ، فتفقدت دعاءه ، فما رأيته يدعو لنفسه بحرف ، ورأيته يدعو لرجل رجل من الآفاق ، ويسميهم ، ويسمّي آباءهم حتىٰ أفاض الناس.

فقلت له : يا عم لقد رأيت عجباً !

__________________

(١) المجالس : ٢٧٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٤ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٤ ، ح ٨٨٩٨.

(٢) المجالس : ٣٢٨ ، الامالي : ٢٧٣ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٤ ، ح ٨٨٩٩.

(٣) أصول الكافي : ٥٣٥ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٩ ، ح ٨٨٨٢.

(٤) رجال الكشي : ٣٦١.


قال : وما الذي اعجبك مما رأيت ؟

قلت : ايثارك اخوانك علىٰ نفسك في مثل هذا الموضع ، وتفقدك رجلاً رجلاً.

فقال لي : لا تعجب من هذا يا بن أخي ، فإني سمعت مولاي ... وهو يقول من دعا لأخيه بظهر الغيب ناداه ملك من السماء الدنيا : يا عبدالله ، لك مئة الف ضعف مما دعوت .. » الخ (١).

وعن الحسين بن علي عليه‌السلام عن أخيه الحسن عليه‌السلام ، قال : « رأيت امي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها ، فلم تزل راكعة ، ساجدة ، حتىٰ اتضح عمود الصبح ، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات ، وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء ، فقلت لها : يا أمّاه : لم لا تدعين لنفسك ، كما تدعين لغيرك ؟

فقالت : يا بني ، الجار ثم الدار (٢).

وعن أبي ناتانة عن علي عن أبيه ، قال : « رأيت عبدالله بن جندب بالموقف ، فلم أر موقفاً احسن من موقفه ، ما زال مادّاً يديه الىٰ السماء ودموعه تسيل علىٰ خديه حتىٰ تبلغ الارض. فلما صدر الناس قلت له : يا أبا محمّد ، ما رأيت موقفاً أحسن من موقفك ! قال : والله ما دعوت إلّا لإخواني ، وذلك أن أبا الحسن موسىٰ بن جعفر عليه‌السلام اخبرني أنه من دعا لاخيه بظهر الغيب نودي من العرش : ولك مئة الف ضعف. فكرهت أن ادع مئة الف ضعف مضمونة لواحدة لا ادري تستجاب أم لا » (٣).

وعن عبدالله بن سنان قال : « مررت بعبدالله بن جندب فرأيته قائماً علىٰ

__________________

(١) عدة الداعي : ١٢٩ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٩ ، ح ٨٨٨٥.

(٢) علل الشرائع : ٧١.

(٣) امالي الصدوق : ٢٧٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٤.


الصفا ، وكان شيخاً كبيراً فرأيته يدعو ويقول في دعائه : اللّهم فلان بن فلان. اللّهم فلان بن فلان. اللّهم فلان بن فلان ، ما لم اُحصهم كثرة.

فلما سلّم قلت له : يا عبدالله ، لم أر موقفاً قط أحسن من موقفك ! إلّا أني نقمت عليك خلّة واحدة. فقال : وما الّذي نقمت عليّ ؟ فقلت له : تدعو للكثير من إخوانك ولم اسمعك تدعو لنفسك شيئاً.

فقال لي : يا عبدالله ، سمعت مولانا الصادق عليه‌السلام يقول : من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب نودي من عنان السماء : لك يا هذا مثل ما سألت في أخيك مئة ألف ضعف ، فلم اُحب أن اترك مئة ألف ضعف مضمونة بواحدة لا ادري اتستجاب أم لا » (١).

وعن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال : « كان عيسىٰ بن أعين إذا حج فصار الىٰ الموقف اقبل علىٰ الدعاء لاخوانه حتىٰ يفيض الناس ، فقيل له : تنفق مالك ، وتتعب بدنك ، حتّىٰ إذا صارت الىٰ الموضع الذي تبث فيه الحوائج الىٰ الله اقبلت علىٰ الدعاء لاخوانك ، وتترك نفسك ؟ فقال : إنني علىٰ يقين من دعاء الملك لي وشك من الدعاء لنفسي » (٢).

وعن ابراهيم بن أبي البلاد (أو عبدالله بن جندب) قال : « كنت في الموقف فلما أفضت لقيت ابراهيم بن شعيب ، فسلمت عليه ، وكان مصاباً باحدىٰ عينيه ، وإذا عينه الصحيحة حمراء كانها علقة دم ، فقلت له : قد اصبت باحدىٰ عينيك ، وانا مشفق لك علىٰ الاخرىٰ ، فلو قصرت عن البكاء قليلاً.

قال : لا والله يا أبا محمّد ، ما دعوت لنفسي اليوم بدعوة ؟

فقلت : فلمن دعوت ؟

__________________

(١) فلاح السائل : ٤٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٢) الاختصاص : ٦٨ ، بحار الأنوار : ٩٣ : ٣٩٢.


قال : دعوت لاخواني. سمعت ابا عبدالله عليه‌السلام يقول : من دعا لأخيه بظهر الغيب ، وكل الله به ملكاً يقول : ولك مثلاه. فأردت أن اكون إنما ادعو لإخواني ، ويكون الملك يدعو لي لأني في شك من دعائي لنفسي ، ولست في شك من دعاء الملك إلى » (١).

ثالثاً : الدعاء للوالدين :

وهو من بر الوالدين ومصاديق بر الوالدين كثيرة.

فمنه أن يتصدق الانسان عنهما ، ومنه أن يحج عنهما ، ومنه أن يصلي عنها ، ومنه الدعاء لهما ، ومنه غير ذلك.

وروي عن الصادق عليه‌السلام : « ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين أو ميتين ، يصلّي عنهما ، ويتصدّق عنهما ، ويحج عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع لهما ، وله مثل ذلك ، فيزيده الله عزّوجلّ ببرّه (وصلته) خيراً كثيراً ».

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « كان أبي يقول : خمس دعوات لا يحجبن عن الرّب تبارك وتعالىٰ :

١ ـ دعوة الامام المقسط.

٢ ـ ودعوة المظلوم ، يقول الله عزّوجلّ ، لأنتقمن لك ولو بعد حين.

٣ ـ ودعوة الولد الصالح لوالديه.

٤ ـ ودعوة الوالد الصالح لولده.

٥ ـ ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب ، فيقول : ولك مثلاه » (٢).

ومن الدعاء للوالدين الدعاء الوارد في الصحيفة السجادية :

__________________

(١) الاختصاص : ٨٤ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٩٢.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٣ ، ح ٨٨٩٥.


« اللّهم صلّ علىٰ محمّد وآله وذريّته ، واخصص ابوي بأفضل ما خصصت به آباء عبادك المؤمنين واُمهاتهم يا ارحم الراحمين ، اللّهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلاتي ، وفي كل آن من آناء ليلي ، وفي كل ساعة من ساعات نهاري ، واغفر لي بدعائي لهما ، واغفر لهما ببرهما لي مغفرة حتماً ، وارض عنها بشفاعتي لها رضا عزماً ، وبلغهما بالكرامة مواطن السلامة ، اللّهم وإن سبقت مغفرتك لهما فشفّعهما فيّ ، وإن سبقت مغفرتك لي فشفّعني فيهما ، حتىٰ تجتمع برأفتك في دار كرامتك ، ومحل مغفرتك ورحمتك ».

رابعاً : دعاء الانسان لنفسه :

وهي آخر محطة من محطات الدعاء ، وليس أولاها.

ومن عجب أن الاسلام يطلب من الإنسان أن يتنكر لنفسه في الحياة الدنيا في شؤون معيشته وفي تعامله مع الآخرين ، ويؤثرهم علىٰ نفسه ، كما يطلب منه أن يتنكر لنفسه ، ويؤثر الآخرين علىٰ نفسه بين يدي الله تعالىٰ في الدعاء أيضاً.

ولكن عليه ألا ينسىٰ نفسه من الدعاء بين يدي الله تعالىٰ. فماذا نسأل لأنفسنا من الله تعالىٰ ؟ وكيف ندعو ؟

هذا ما سنحاول إن شاء الله أن نبحث عنه.

أ ـ التعميم في الدعاء :

ينبغي في الدعاء أن نطلب من الله تعالىٰ كل شيء مما نحتاج إليه ، وكلّما يهمنا في دنيانا وآخرتنا ، ونطلب منه أن يكفينا كلما تحترز منه من سوء وشرّ في ديننا ودنيانا ، فإن مفاتيح الخير وأسبابه كلها بيد الله ، ولا يمتنع عن ارادته شيء ، ولا يعجزه شيء ولا يبخل علىٰ عباده بشيء من الخير والرحمة.


وإذا كان الله تعالىٰ لا يبخل بالعطاء والاجابة ، فمن المعيب ، ومن القبيح أن يبخل العبد بالسؤال والدعاء.

في الحديث القدسي : « لو أنّ أولكم وآخركم وحيّكم وميّتكم اجتمعوا فتمنیٰ كل واحد ما بلغت اُمنيته فأعطيته لم ينقص ذلك من ملكي » (١).

وأيضاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديث القدسي : « لو أن أهل سبع سماوات وارضين سألوني جميعاً ، وأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي .. وكيف ينقص ملك أنا قيّمه » (٢).

وفي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سلوا الله وأجزلوا ؛ فإنه لا يتعاظمه شيء » (٣).

وروي : « لا تستكثروا شيئاً مما تطلبون ؛ فما عند الله أكثر ».

وامثلة التعميم والتوسعة في الدعاء في طلب كل خير ، والاحتراز من كل شر كثيرة في النصوص المروية من الدعاء عن أهل البيت عليهم‌السلام.

نذكر منها بعض النماذج.

منها الدعاء الوارد بعد الفرائض في أيام شهر رجب :

« يا من يعطي الكثير بالقليل ، يا من يعطي من سأله ، يا من يعطي من لم يسأله ، ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة .. أعطني بمسألتي إيّاك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة ، واصرف عني بمسألتي إيّاك جميع شر الدنيا وشرّ الآخرة ، فإنه غير منقوص ما أعطيت ، وزدني من فضلك يا كريم ».

وفي الدعاء « اللّهم إنّي أسألك مفاتح الخير وخواتمه ، وسوابغه وفوائده

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٢٩٣.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٣.

(٣) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٢.


وبركاته ، وما بلغ علمه علمي ، وما قصر عن إحصائه حفظي ».

وفي الدعاء « يا من هو في علوه قريب ، يا من هو في قربه لطيف ، صلّ علیٰ محمّد وآل محمّد. اللّهم اني اسألك لديني ودنياي وآخرتي من الخير كله ، واعوذ بك من الشر كله ».

وفي الدعاء « وأدخلني في كل خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد ، وأخرجني من كل شر أخرجت منه محمّداً وآل محمّد ».

وفي الدعاء (واكفني ما اهمني من أمر دنياي وآخرتي).

وفي الدعاء « اللّهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ، ولا هماً إلا فرجته ، ولا سقماً إلا شفيته ، ولا عيباً إلا سترته ، ولا رزقاً إلا بسطته ، ولا خوفاً إلا آمنته ، ولا سوءاً إلا صرفته ، ولا حاجة هي لك رضاً ، ولي فيها صلاح إلا قضيتها يا ارحم الراحمين ».

وفي الدعاء « يا من بيده مقادير الدنيا والآخرة ، وبيده مقادير النصر والخذلان ، وبيده مقادير الغنیٰ والفقر ، وبيده مقادير الخير والشر صل علیٰ محمّد وآل محمّد ، وبارك لي في ديني الذي هو ملاك أمري ، ودنياي التي فيها معيشتي ، وآخرتي التي اليها منقلبي وبارك لي في جميع اُموري ... أعوذ بك من شرّ المحيا والممات ، واعوذ بك من مكاره الدنيا والآخرة ».

وفي الدعاء « اسألك بنور وجهك الذي اشرقت به السماوات ، وانكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تصلي علىٰ محمّد وآل محمّد ، وأن تصلح لي شأني كله ، ولا تكلني الىٰ نفسي طرفة عين ابداً ».

وفي دعاء الاسحار للامام زين العابدين « اكفني المهم كلّه ، واقض لي بالحسنىٰ ، وبارك في جميع أموري ، واقض لي جميع حوائجي ، اللّهم يسّر لي ما أخاف تعسيره ، فإن تيسير ما اخاف تعسيره عليك يسير ، وسهل لي ما أخاف


حزونته ، ونفّس عني ما أخاف ضيقه ، وكفِّ عني ما أخاف غمّه ، واصرف عني ما اخاف بليته ».

وفي دعاء الاسحار « وهب لي رحمة واسعة جامعة أطلب بها خير الدنيا والآخرة ».

ب ـ ولا تحجبنا جلائل الحاجات عن صغارها :

قد يكون من المعيب أن يطلب بعضنا من بعض حاجاته الطفيفة والصغيرة ، ولكن عند ما يكون وجه العبد الىٰ الله تعالىٰ في الطلب والسؤال يختلف الأمر ، فلا يكون الطلب معيباً ، مهما صغرت الحاجة ، وخفت.

فان العبد مكشوف لربه سبحانه وتعالیٰ ، بكل حاجاته ، ونقصه وضعفه ، وبكل سوآته وعوراته ، ولا يخفی عليه سبحانه شيء من فقرنا ونقصنا حتىٰ نخجل أن نعرض عليه ، سبحانه ، ضعفنا وعجزنا وحاجاتنا التي نخجل أن نعرضها علىٰ غيره سبحانه.

فلا ينبغي أن تحجب جلائل الحاجات والطلبات عنه سبحانه صغار الحاجات وخفافها.

والله تعالىٰ يحب أن يرتبط به عبده في كل حاجاته وشؤونه ، صغارها وكبارها ، حتىٰ يكون ارتباطه به ارتباطاً دائماً ، ولن يدوم هذا الارتباط ، ويستمر ويتصل بين العبد وربّه ، إلا إذا كان العبد يشعر بالحاجة الىٰ ربّه ، في كلّ شؤونه وحاجاته في جلائل الحاجات وصغارها ، حتىٰ في مثل شسع نعله إذا انقطع.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « سلوا الله عزّوجلّ ما بدا لكم من حوائجكم ، حتیٰ شسع النعل ، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر ».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ليسأل أحدكم ربه حاجته كلّها ، حتىٰ يسأله شسع نعله


إذا انقطع » (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تعجزوا عن الدعاء ؛ فإنه لم يهلك أحد مع الدعاء ، وليسأل أحدكم ربّه حتىٰ يسأله شسع نعله إذا انقطع ، وأسالوا الله من فضله ؛ فإنه يحب أن يسأل » (٢).

وعن سيف التمّار قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

عليكم بالدعاء ؛ فإنكم لا تتقربون بمثله ، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تسألوها ؛ فإن صاحب الصغائر هو صاحب الكبائر » (٣).

وفي الحديث القدسي : « يا موسىٰ ، سلني كلما تحتاج إليه ، حتىٰ علف شاتك وملح عجينك » (٤).

ولسنا بحاجة الىٰ التأكيد علىٰ أن هذا المبدأ في الدعاء لا يعني التخلي عن العمل والحركة والسعي. ولكن علىٰ الانسان في حركته وسعيه أن لا يضع أولاً ثقته ورجاءه في عمله وحركته ، بل يحافظ علىٰ رجاءه وثقته بالله تعالىٰ ، وعلىٰ الإنسان ثانياً أن لا يقطع علاقته وارتباطه واحساسه بالحاجة الىٰ الله تعالىٰ في زحمة تحركه وعمله وسعيه.

وهذا وذاك يتطلبان من الانسان أن يسأل الله تعالىٰ كل حاجاته وشؤونه حتیٰ شسع نعله وعلف دابته وملح عجينه ، كما ورد في الحديث القدسي.

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ٣١٢ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٢٩٥.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٠.

(٣) بحار الأنوار ٩٣ : ٢٩٣ ، المجالس : ١٩ ، وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٠ ، ح ٨٦٣٥ ، أصول الكافي : ٥١٦.

(٤) عدة الداعي : ٩٨.


ج ـ نسأل الله تعالىٰ النعم الجليلة والكبرىٰ :

كما نسأل الله تعالىٰ كلّ شيء ، نسأله النعم الجليلة والكبرىٰ ، ولا نستكثر نعمة مهما جلّت وعظمت أن نسألها من الله ، إن كان ذلك في الامكان ، فلا يعظم شيء علىٰ الله ، ولا يعجز الله تعالىٰ شيء ، ولا ينقص من خزانته مهما كان عطاؤه جليلاً وعظيماً.

وكما ينبغي أن لا نخجل من الله تعالىٰ أن نطلب منه صغائر الأمور ، من نحو علف الدابة ، وشسع النعل ، وملح العجين ، كذلك ينبغي أن لا نستكثر علىٰ الله تعالىٰ أن نسأله النعم العظيمة الجليلة ، مهما عظمت وجلّت.

روي عن ربيعة بن كعب قال : « قال لي ذات يوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ربيعة ، خدمتني سبع سنين ، أفلا تسألني حاجة ؟ فقلت : يا رسول الله ، أمهلني حتىٰ اُفكر. فلمّا أصبحت ودخلت عليه قال لي : يا ربيعة ، هات حاجتك ، فقلت : تسأل الله أن يدخلني معك الجنة ، فقال لي : من علّمك هذا ؟ فقلت : يا رسول الله ، ما علّمني أحد ، لكني فكرت في نفسي وقلت : إن سألته مالاً كان إلىٰ نفاد ، وإن سألته عمراً طويلاً وأولاداً كان عاقبتهم الموت. قال ربيعة : فنكس رأسه ساعة ثمّ قال : افعل ذلك ، فأعني بكثرة السجود ، قال : وسمعته يقول : ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فالتزموا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام » الخبر بتمامه (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سئل شيئاً فإذا أراد أن يفعله قال : نعم ، وإذا أراد أن لا يفعل سكت ، وكان لا يقول لشيء : لا ، فأتاه أعرابي فسأله فسكت ، ثم سأله فسكت ، ثم سأله فسكت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كهيئة المسترسل : ما شئت يا أعرابي ؟ فقلنا : الآن يسأل الجنة ، فقال الاعرابي : أسألك ناقة ورحلها

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٧.


وزاداً ، قال : لك ذلك ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كم بين مسألة الاعرابي وعجوز بني إسرائيل ؟ ثم قال : إن موسىٰ لمّا اُمر أن يقطع البحر فانتهىٰ إليه وضربت وجوه الدواب رجعت ؛ فقال موسىٰ : يا ربّ ، مالي ؟ قال : يا موسىٰ ، إنّك عند قبر يوسف فاحمل عظامه ، وقد استوىٰ القبر بالأرض ، فسأل موسىٰ قومه : هل يدري أحد منكم أين هو ؟ قالوا : عجوز لعلها تعلم ، فقال لها : هل تعلمين ؟ قالت : نعم ، قال : فدلّينا عليه ، قالت : لا والله حتىٰ تعطيني ما أسألك ، قال : ذلك لك ، قالت : فإني أسالك أن اكون معك في الدرجة التي تكون في الجنة ، قال : سلي الجنة. قالت : لا والله إلّا أن أكون معك ، فجعل موسىٰ يراود فأوحىٰ الله إليه : أن أعطها ذلك ، فإنّها لا تنقصك ، فأعطاها ودلّته علىٰ القبر » (١).

ب ـ ما لا ينبغي من الدعاء :

والآن نتحدث عما لا ينبغي من الدعاء ، وهو طائفة من العناوين نستخرجها من نصوص القرآن والحديث ، واليك طائفة من هذه العناوين مما لا ينبغي الدعاء له :

١ ـ الدعاء علىٰ خلاف سنن الله العامة في الكون والحياة :

وقد دعا الله تعالیٰ نوح عليه‌السلام أن يشفّعه في ولده ، وينجيه من الغرق ، بناءً علىٰ وعد وعده الله تعالىٰ في نجاة أهله ، فلم يستجب الله لعبده ونبيه نوح عليه‌السلام وردّ دعاءه ، وقال له : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ووعظه ألّا يعود لمثل هذا الدعاء.

( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٧.


الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (١).

وقد كان من حق نوح عليه‌السلام أن يسأل الله تعالىٰ نجاة من كان من أهله. أما من لم يكن من أهله فلا يحق له أن يسأله له النجاة من الغرق.

ولم يكن ابنه من أهله ، وهذا هو حكم الله ، ولم يكن يحق لنوح عليه‌السلام أن يسأل الله تعالیٰ علیٰ خلاف قوانينه وأحكامه.

ولننظر في جواب نوح عليه‌السلام ، وهو جواب العبد المنيب الذي يسرع الىٰ مرضاة ربه ، ويعوذ به أن يسأله ما ليس له به علم ، وينيط نجاحه وفوزه برحمته ومغفرته تعالیٰ.

إن فهم سنن الله تعالىٰ أمر لابدّ منه في الدعاء ، وليست مهمّة الدعاء اختراق هذه السنن وتجاوزها ، وإنما مهمّة الدعاء توجيه العبد الىٰ السؤال من الله في دائرة سننه وقوانينه إن سنن الله تجسد دائماً ارادته تعالىٰ التكوينية ، ومهمة الدعاء استعطاف ارادة الله وليس تجاوزها واختراقها ، والله تعالىٰ يقول : ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَحْوِيلًا ).

والنظام الكوني هو تجسيد وتبلور لإرادة الله الذي لا يصلح أمر الكون من دونه ؛ ولا يصح أن يطلب العبد في الدعاء تغييره. فإن الدعاء من أبواب رحمة الله تعالىٰ لعباده ؛ وإرادة الله تعالىٰ مطابقة دائماً لرحمته ولا يصح من العبد أن يسأل الله تعالیٰ تغييرها واستبدالها.

لا تختلف سنة عن سنة ، فكل سنة تمثل ارادة الله ، وكل ارادة لله تمثل رحمة

__________________

(١) هود : ٤٥ ـ ٤٧.


الله وحكمته اللتين لا رحمة ولا حكمة فوقهما ، سواء في ذلك السنن الكونية والتاريخية والاجتماعية.

فمن سنن الله تعالىٰ مثلاً حاجة الناس بعضهم الىٰ بعض في شؤون دينهم ودنياهم ، وليس من الصحيح أن يطلب الانسان من الله تعالىٰ أن يغنيه عن الآخرين ولا يحوجه الىٰ خلقه ، فهو دعاء علىٰ خلاف سنة الله تعالىٰ وارادته تماماً.

وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنه قال : « قلت : اللّهم لا تحوجني الىٰ أحد من خلقك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، لا تقولن هكذا ، فليس من أحد إلّا وهو محتاج الىٰ الناس.

قال : فقلت : كيف (اقول) يا رسول الله ؟

قال : قل : اللّهم لا تحوجني الىٰ شرار خلقك » (١).

وروي عن شعيب عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث أنه قال له : « ادع الله أن يغنيني عن خلقه. قال : إن الله قسّم رزق من شاء علىٰ يدي من شاء ، ولكن اسأل الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك الىٰ لئام خلقه » (٢).

وبهذا الفهم للدعاء تجد أن النصوص الإسلامية تحدّد للدعاء دائرة واقعية وتخرج الدعاء عن الدوائر غير الواقعية والخيالية.

وتؤكد هذه النصوص حقيقة هامّة في طريقة واسلوب معيشة الانسان المسلم. فكما يجب أن يكون سعيه وحركته واقعيين ، وبعيدين عن الخيال ، كذلك يجب أن يكون دعاؤه في نفس الدائرة الواقعية.

روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه سأله شيخ من الشام :

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٥.

(٢) أصول الكافي : ٤٣٨ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٧٠ ، ح ٨٩٤٦.


« أي دعوة اضلّ ؟ فقال : الداعي بما لا يكون » (١).

وما لا يكون هو ما يقع خارج دائرة سنن الله المتعارفة في حياة الانسان ، ولا يكون التفكير فيه والسعي إليه واقعياً.

وفي عدة الداعي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من سأل فوق قدره استحق الحرمان » (٢).

واعتقد أن المقصود بالسؤال (فوق قدره) هو السؤال فيما لا يكون طلبه واقعياً.

٢ ـ الدعاء بما لا يحل :

وكما لا ينبغي السؤال والدعاء بما لا يكون كذلك لا ينبغي الدعاء بما لا يحلّ ، وكلاهما من باب واحد ؛ فإن الأوّل خروج علىٰ ارادة الله التكوينية ، والثاني خروج علىٰ ارادة الله التشريعية.

يقول تعالىٰ : ( إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ) (٢).

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« لا تسأل ما لا يكون وما لا يحل » (٤).

٣ ـ تمني زوال نعمة الغير :

ومما لا يجوز في الدعاء أن يتمنىٰ الإنسان أن ينقل الله تعالىٰ النعمة من الآخرين الىٰ الداعي.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٤.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٧ ، ح ١١.

(٣) التوبة : ٨٠.

(٤) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٤.


يقول تعالىٰ : ( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّـهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) (١).

وليس من بأس علىٰ الإنسان أن يتمنىٰ من الله النعمة ، ويتمنىٰ أن ينعم عليه مثل ما أنعم علىٰ الآخرين وأفضل منهم ، ولكن ما لا يحبه الله تعالىٰ لعباده أن يطيل الانسان النظر الىٰ ما انعم الله علىٰ عباده من النعمة.

يقول تعالىٰ : ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٢).

ولا يحب الله تعالىٰ لعباده أن يتمنىٰ الإنسان أن ينقل الله تعالىٰ النعمة من الآخرين إليه. فإن فيه من تمني سلب النعمة عن الآخرين ما لا يرتضيه الله تعالىٰ لعباده ، وفيه من ضيق النظر والاُفق في الامنيات والتمنيات ما لا يحبه الله تعالىٰ لعباده. إن سلطان الله واسع وخزانته لا نفاد لها ، وملكه لا حد له ، وليس من بأس علىٰ الإنسان أن يطلب من الله كلّ شيء ، وأن يتمنىٰ أن يرزقه الله أفضل مما رزق الآخرين. وقد ورد في الدعاء « اللّهم آثرني ولا تؤثر عليّ احداً ». « واجعلني من أفضل عبادك نصيباً عندك ، وأقربهم منزلة منك ، وأخصّهم زلفة لديك ». هذا كله لا بأس به ، ويحبه الله تعالىٰ ؛ أمّا أن يتمنىٰ أن يسلب الله النعمة من الآخرين فلا يحبه الله ، ولا يحتاج ربنا إذا أراد أن يرزق عبداً من عباده نعمة أن يسلبها من غيره ويمنحها إيّاه.

روىٰ عبدالرحمان بن أبي نجران قال : «سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّـهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) قال : لا يتمنىٰ الرجل إمرأة الرجل ولا ابنته ، ولكن يتمنىٰ مثلها » (٣).

__________________

(١) النساء : ٣٢.

(٢) طه : ١٣١.

(٣) تفسير العياشي : ٢٣٩.


٤ ـ الدعاء بخلاف صلاح الإنسان :

ومما لا ينبغي للإنسان أن يدعو له هو الدعاء بخلاف مصلحته. ولما كان الانسان يجهل ما ينفعه وما يضره ، والله تعالىٰ يعلم ذلك ، فقد يبدّل الله استجابة الدعاء بنعمة اخرىٰ أو بدفع بلاء ، أو يؤخر الله الاستجابة الىٰ حين تنفعه الاستجابة. وقد ورد في دعاء الافتتاح « اسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً مدلّاً عليك فيما قصدت فيه اليك ، فإن ابطأ عني عتبت بجهلي عليك ، ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي ، لعملك بعاقبة الأمور. فلم ار مولىٰ كريماً اصبر علىٰ عبد لئيم منك عليّ يا رب ».

وعلىٰ الإنسان في مثل هذه الاحوال في الدعاء أن يدعو الله تعالىٰ ويوكل الامر إليه ، وينيطه بما يراه من المصلحة ، وإذا ابطأ عليه تعالىٰ في الإجابة أو لم يستجب له لا يعتب علىٰ الله تعالىٰ. ولكن الانسان لجهله قد يطلب من الله ما يضره ، وقد يطلب الشر ، كما لو كان يطلب الخير ، ويستعجل ما يضره الاستعجال فيه.

يقول الله تعالىٰ : ( وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ) (١).

وكان من خطاب صالح عليه‌السلام لثمود :

( قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) (٢).

٥ ـ الاستعاذة من الفتنة :

ولا يصح الاستعاذة من الفتنة ، فإن زوج الانسان واولاده وماله من الفتنة.

__________________

(١) الاسراء : ١١.

(٢) النمل : ٤٦.


ولا يصح أن يعوذ الانسان بالله من أهله وماله ، ولكن يصح أن يعوذ بالله من مضلات الفتن.

عن أمير المؤمنين : « لا يقولن أحدكم : اللّهم إنّي اعوذ بك من الفتنة ؛ لأنه ليس من أحد إلّا وهو مشتمل علىٰ فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن ؛ فإن الله يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١).

وعن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام : عن آبائه عليهم‌السلام قال : « سمع أمير المؤمنين رجلاً يقول : اللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة. قال عليه‌السلام : اراك تتعوذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالىٰ : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ولكن قل : اللّهم إنّي أعوذ بك من مضلات الفتن » (٢).

٦ ـ ومما لا ينبغي من الدعاء ، الدعاء علىٰ المؤمنين :

إن من مهام الدعاء وغاياته تحكيم العلاقة داخل الاسرة المسلمة ، وازالة ما في النفوس من التراكمات التي تحدث عادة في زحمة الحياة الدنيا. والدعاء بظهر الغيب من عوامل تلطيف هذه العلاقة التي قد تتعكر في ساحة الحياة ؛ وأمّا الحالات العكسيّة التي تثبّت الحالة السلبيّة في العلاقات فما لا يحب الله فيه الدعاء.

فالله تعالىٰ يحب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بظهر الغيب ، وفي حضورهم ، وايثار الآخرين بالدعاء ، وتقديم حاجاتهم واسمائهم علیٰ حاجة الداعي نفسه.

ولا يحب في الدعاء أن يتمنىٰ الانسان زوال النعمة من أخيه كما وجدنا قبل قليل.

ولا يحب في الدعاء أن يدعو الانسان علىٰ أخيه المؤمن ، وان كان قد مسّه

__________________

(١) نهج البلاغة ، القسم الثاني : ١٦٢.

(٢) امالي الطوسي ٢ : ١٩٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٥.


منه اذیً أو ظلم (إذا كان اخوه في الايمان ، ولم يخرج بالظلم عن دائرة الاخوة الايمانية) ، ولا يحب الله تعالىٰ لعباده أن يذكر بعضهم بعضاً بسوء بين يديه.

في دعوات الراوندي في التوراة يقول الله عزّوجلّ للعبد : « إنك متىٰ ظُلمت تدعوني علىٰ عبد من عبيدي من اجل أنه ظلمك. فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته. فإن شئت اجبتك واجبته منك ، وإن شئت اخرتكما الىٰ يوم القيامة » (١).

عن الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام : قال : « إذا ظلم الرجل فظلّ يدعو علىٰ صاحبه ، قال الله عزّوجلّ : إن ها هنا آخر يدعو عليك يزعم أنك ظلمته ، فإن شئت اجبتك واجبت عليك ، وإن شئت اخرتكما ، فيوسعكما عفوي » (٢).

عن هشام بن سالم ، قال : « سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : إن العبد ليكون مظلوماً فلا يزال يدعو حتىٰ يكون ظالماً » (٣).

وعن علي بن الحسين عليهما‌السلام في حديث :

« إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه قالوا له : بئس الأخ أنت لأخيك. كفّ أيها المستّر علىٰ ذنوبه وعورته ، وأربع علىٰ نفسك ، واحمد الله الّذي ستر عليك ، واعلم أن الله عزّوجلّ اعلم بعبده منك » (٤).

إن الله تعالىٰ هو السلام ، وإليه يعود السلام ، ومنه السلام ، ومحضره محضر السلام ، فإذا وقفنا بين يدي الله تعالىٰ بقلوب عامرة بالسلام ، يدعو بعضنا لبعض ، ويسأل الله تعالىٰ بعضنا الرّحمة للبعض ، ويؤثر بعضنا بعضاً برحمة الله تعالىٰ ... استنزلنا رحمة الله ، وشملتنا جميعاً ، فإن رحمة الله تنزل علىٰ مواضع الحب والسلام ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٦.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٧٧ ، ح ٨٩٧٢ ، امالي الصدوق : ١٩١.

(٣) أصول الكافي : ٤٣٨ ، عقاب الأعمال : ٤١ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٦٤ ، ح ٨٩٢٦.

(٤) أصول الكافي : ٥٣٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٦٤ ، ح ٨٩٢٧.


وعلىٰ القلوب المتحابّة والمتسالمة من المؤمنين ، وصعدت اعمالنا وصلاتنا ودعاؤنا وقلوبنا الىٰ الله تعالىٰ ، فإن الكلم الطيب والقلوب العامرة بالكلم الطيب تصعد الىٰ الله ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ).

وإذا وقفنا بين يدي الله بقلوب متخالفة ، فيها الضغينة والحقد ، وليس فيها الحب والسلام ، واخذنا الىٰ الله خلافاتنا ومشاكلنا وشكاوانا (نحن المؤمنين بعضنا علىٰ بعض) ، واستعدىٰ الله تعالىٰ بعضنا علىٰ بعض ... انقطعت عنا جميعاً رحمة الله ، ولم تنزل علينا هذه الرحمة التي وسعت كل شيء في الكون ، ولم تصعد الىٰ الله تعالىٰ أعمالنا وصلاتنا ودعاؤنا وقلوبنا.

فإن القلوب المتحابّة والعامرة بالحب تستنزل رحمة الله تعالىٰ وتدفع البلاء والعقوبة عن المؤمنين ، وبالعكس ، القلوب المتخالفة والمتعادية (من المؤمنين) تحجب رحمة الله عنهم ، وتجلب البلاء والعقوبة لهم.

عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن الله تبارك وتعالىٰ إذا رأىٰ أهل قرية قد اسرفوا في المعاصي وفيهم ثلاثة نفر من المؤمنين ، ناداهم جلّ جلاله : يا أهل معصيتي ، لو لا فيكم من المؤمنين المتحابين بجلالي العامرين بصلاتهم ارضي ومساجدي المستغفرين بالاسحار خوفاً مني لأنزلت بكم العذاب (١).

وعن جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام قال : « من فضل الرجل عند الله محبته لإخوانه ، ومن عرّفه الله محبة اخوانه أحبّه الله ومن احبه الله أوفاه اجره يوم القيامة » (٢).

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تزال اُمتي بخير ما تحابوا ، وادوا الامانة ، وآتو

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ : ٣٩٠.

(٢) ثواب الأعمال : ٤٨ ، بحار الأنوار ٧٤ : ٣٩٧.


الزكاة ، وسيأتي علىٰ اُمتي زمان تخبث فيه سرائرهم ، وتحسن فيه علانيتهم ان يعمهم الله ببلاء فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجاب لهم » (١).

القلوب المتحابّة تستنزل رحمة الله :

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا انزل الله تعالىٰ الرّحمة عليهما ، فكانت تسعة وتسعين لأشدهما حباً لصاحبه ، فإذا تواقفا غمرتها الرّحمة ، وإذا قعدا يتحدثان قالت الحفظة بعضها لبعض : اعتزلوا بنا فلعل لهما سرّاً ، وقد ستر الله عليهما ».

وعن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« إن المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرّحمة ، فإذا التزما لا يريدان عرضاً من اعراض الدنيا قيل لهما : مغفور لكما فاستأنفا ؛ فإذا اقبلا علىٰ المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض : تنحّوا عنهما ؛ فإن لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما.

قال اسحاق : فقلت : جعلت فداك ، ويكتب عليهما لفظهما وقد قال الله تعالیٰ : ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ؟ قال : فتنفس أبو عبدالله عليه‌السلام الصعداء ، ثم بكى وقال : يا إسحاق ، إن الله تعالىٰ إنما أمر الملائكة أن تعتزل المؤمنين إذا التقيا إجلالاً لهما ، وإنه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ، ولا تعرف كلامهما ، فإنه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السر واخفیٰ » (٢).

اضمار الغش للمؤمنين يستنزل غضب الله :

وممّا يتعلق بهذا الموضوع ويحجب الدعاء وصاحبه عن الله هو اضمار الغش

__________________

(١) عدة الداعي : ١٣٥ ، بحار الأنوار ٧٤ : ٤٠٠.

(٢) معالم الزلفیٰ للمحدث البحراني : ٣٤.


للمؤمنين.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من بات وفي قلبه غش لأخيه المسلم بات في سخط الله ، وأصبح كذلك وهو في سخط الله حتىٰ يتوب ويرجع ، وإن مات كذلك مات علیٰ غير دين الاسلام ».

اضمار السوء للمؤمنين يحجب العمل عن الله :

كما أن اضمار السوء يحجب العمل عن الله تعالىٰ.

عن الصادق عليه‌السلام : « لا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمر علیٰ أخيه المؤمن سوءاً ».

والله تعالىٰ لا ينظر الىٰ الذين يبغضون المؤمنين :

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« شرار الناس من يبغض المؤمنين وتبغضه قلوبهم ، المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، اولئك لا ينظر الله اليهم ، ولا يزكيهم يوم القيامة » (١).

العلاقة بالله :

( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (٢).

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٠٤.

(٢) التوبة : ٢٤.


تتكون العلاقة بالله تعالىٰ في صورتها الصحيحة من مجموعة من العناصر المتناسقة والمتآلفة ، هذه العناصر مجتمعةً تكوّن الاسلوب الصحيح للعلاقة بالله تعالیٰ.

وترفض النصوص الإسلامية العلاقة بالله تعالىٰ علىٰ أساس العنصر الواحد ، كالخوف ، أو الرجاء ، أو الحب ، أو الخشوع ، وتعتبر العلاقة بالله التي تعتمد العنصر الواحد فاقدة لحالة التوازن والتناسق.

والعناصر التي تشكل العلاقة بالله تعالىٰ مجموعة واسعة ، ورد ذكرها بتفصيل في نصوص الآيات والروايات والأدعية مثل : الرجاء ، والخوف ، والتضرّع ، والخشوع ، والتذلل ، والوجل ، والحب ، والشوق ، والأنس ، والإنابة ، والتبتّل ، والاستغفار ، والاستعاذة ، والاسترحام ، والانقطاع ، والتمجيد ، والحمد ، والرغبة ، والرهبة ، والطاعة ، والعبودية ، والذكر ، والفقر ، والاعتصام.

وقد ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام : « اللّهم إني أسألك أن تملأ قلبي حبّاً لك وخشية منك ، وتصديقاً لك ، وإيماناً بك ، وفرَقاً منك ، وشوقاً إليك » (١).

ومن هذه العناصر المتعددة يتألّف طيف زاهٍ ومتناسق للعلاقة بالله تعالىٰ ، وكل عنصر من هذه العناصر يعتبر مفتاحاً لباب من أبواب رحمة الله ومعرفته.

فالاسترحام مفتاح لرحمة الله تعالىٰ ، والاستغفار مفتاح للمغفرة.

كما أن كل عنصر من هذه العناصر يعتبر بحدّ ذاته طريقاً للحركة والسلوك إلىٰ الله. فالشوق والحب والاُنس بالله طريق إلىٰ الله ، والخوف ، والرهبة طريق آخر إلىٰ الله تعالىٰ ، والخشوع طريق ثالث إلىٰ الله ، والرجاء والدعاء والتمنّي طريق

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٩٢.


آخر إلىٰ الله.

وعلىٰ الإنسان أن يسلك ويتحرك إلىٰ الله تعالىٰ من مسالك وطرق مختلفة ، ولا يقتصر علىٰ سلوك الطريق الواحد ، فإنّ لكل سلوك نكهة وذوقاً وكمالاً وثمرة في حركة الإنسان إلىٰ الله لا توجد في السلوك الآخر.

ويطرح الاسلام علىٰ هذا الاساس مبدأ تعدّدية عناصر العلاقة بالله تعالىٰ.

وهذا بحث واسع وباب رحب من العلم لا نريد أن ندخله الآن.

حب الله تعالىٰ :

وحب الله تعالىٰ من أفضل هذه العناصر ، وأقواها ، وأبلغها في شدّ الإنسان بالله تعالىٰ ، وتحكيم علاقته به عز شأنه.

ولا يوجد في ألوان العلاقة بالله لون أقوىٰ وأبلغ من « الحب » في توثيق علاقة العبد بالله.

وقد ورد ذكر هذه المقارنة بين عناصر العلاقة بالله تعالىٰ في مجموعة من النصوص الإسلامية ، ونذكر بعضها :

روي أنّ الله تعالىٰ أوحىٰ إلىٰ داود : « يا داود ذكري للذاكرين ، وجنّتي للمطيعين ، وحبّي للمشتاقين ، وأنا خاصة للمحبّين » (١).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « الحبّ أفضل من الخوف » (٢).

ورویٰ محمّد بن يعقوب الكليني عن الإمام أبي عبدالله جعفر الصادق عليه‌السلام : « العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّوجلّ خوفاً ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالىٰ طلب الثواب ، فتلك عبادة التّجار ، وقوم عبدوا الله عزّوجلّ حبّاً ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.

(٢) بحار الانوار ٧٨ : ٢٢٦.


فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة » (١).

ورویٰ الكليني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه ، وباشرها بجسده ، وتفرّغ لها ، فهو لا يبالي علىٰ ما أصبح من الدنيا علیٰ عسر أم يسر » (٢).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « نجوىٰ العارفين تدور علىٰ ثلاثة اُصول : الخوف ، والرجاء ، والحب. فالخوف فرع العلم ، والرجاء فرع اليقين ، والحب فرع المعرفة. فدليل الخوف الهرب ، ودليل الرجاء الطلب ، ودليل الحب إيثار المحبوب علىٰ ما سواه. فاذا تحقّق العلم في الصدر خاف ، وإذا صحّ الخوف هرب ، وإذا هرب نجا وإذا أشرق نور اليقين في القلب شاهد الفضل ، وإذا تمكّن من رؤية الفضل رجا ، وإذا وجد حلاوة الرجاء طلب ، وإذا وُفّق الطلب وجد. وإذا تجلّىٰ ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المحبّة ، وإذا هاج ريح المحبّة استأنس ظلال المحبوب ، وآثر المحبوب علىٰ ما سواه ، وباشر أوامره. ومثال هذه الاُصول الثلاثة كالحرم والمسجد والكعبة ، فمن دخل الحرم أمن من الخلق ، ومن دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها في المعصية ، ومن دخل الكعبة أمن قلبه من أن يشغله بغير ذكر الله » (٣).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بكیٰ شعيب عليه‌السلام من حب الله عزّوجلّ حتّیٰ عمي ... أوحیٰ الله إليه : يا شعيب ، إن يكن هذا خوفاً من النار ، فقد أجرتك ، وإن يكن شوقاً إلىٰ الجنة فقد أبحتك. فقال : إلهي وسيّدي ، أنت تعلم أني ما بكيت خوفاً من نارك ، ولا شوقاً إلىٰ جنّتك ، ولكن عقد حبك علىٰ قلبي ، فلست أصبر أو أراك ، فأوحىٰ الله جلّ جلاله إليه : أمّا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا ساُخدمك كليمي

__________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٨٤.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٨٣.

(٣) مصباح الشريعة : ٢ ، ٣.


موسیٰ بن عمران » (١).

وفي صحيفة إدريس عليه‌السلام : « طوبیٰ لقومٍ عبدوني حبّاً ، واتخذوني إلهاً وربّاً ، سهروا الليل ، ودأبوا النهار طلباً لوجهي من غير رهبة ولا رغبة ، ولا لنار ، ولا جنّة ، بل للمحبة الصحيحة ، والإرادة الصريحة والانقطاع عن الكلّ إليّ » (٢).

وفي الدعاء عن الإمام الحسين عليه‌السلام : « عميتْ عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً » (٣).

الايمان والحبّ :

وقد رُوي في النصوص الإسلاميّة أنّ الايمان حب.

فعن الإمام الباقر عليه‌السلام : « الإيمان حب وبغض » (٤).

وعن الفضيل بن يسار قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الحب والبغض ، أمِن الإيمان هو ؟ فقال : « وهل الإيمان إلّا الحب والبغض ؟ » (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام : « هل الدين إلّا الحب ؟ إنّ الله عزّوجلّ يقول : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ) (٦).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : « الدين هو الحب والحب هو الدين » (٧).

__________________

(١) بحار الانوار ١٢ : ٣٨٠.

(٢) بحار الأنوار ٩٥ : ٤٦٧.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.

(٤) بحار الأنوار ٧٨ : ١٧٥.

(٥) اُصول الكافي ٢ : ١٢٥.

(٦) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٣٧.

(٧) نور الثقلين ٥ : ٢٨٥.


لذّة الحبّ :

والعبادة إن كانت عن حبّ وشوق ولهفةٍ فلا تفوقها لذة وحلاوة.

يقول الإمام زين العابدين عليه‌السلام وهو ممّن ذاق حلاوة حبّ الله وذكره : « إلهي ما أطيب طعم حبّك وما أعذب شربَ قُربك » (١).

وهي حلاوة ولذة مستقرّةٌ في قلوب أولياء الله ، وليست لذّة عارضةً تعرض حيناً ، وترتفع حيناً. وإذا استقرّت لذة حب الله في قلب العبد فذلك قلب عامر بحب الله ، ولن يعذّب الله قلب عبد عَمَرَ بحبّه ، واستقرّت فيه لذّة حبه.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إلهي وعزَّتِكَ وجلالِكَ لقد أحببتُكَ محبةً استقرَّتْ حلاوتُها في قلبي ، وما تنعقدُ ضمائُر موحِّديكَ علىٰ أنّكَ تبغضُ مُحبّيكَ » (٢).

وعن هذه الحالة المستقرّة والثابتة من الحبّ الإلهي يقول الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « فوعزّتك يا سيدي لو انتهرتني ما برحت من بابك ، ولا كففت عن تملّقك ، لما انتهىٰ إليّ من المعرفة بجودك وكرمك » (٣).

وهو من أبلغ التعبير في عمق الحب واستقراره في القلب ، فلا يزول ولا يتغيّر في قلب العبد حتىٰ لو نهره مولاه ، وأبعده من جنابه ، وحاشاه أن يفعل ذلك بعبدٍ استقرّ حبه في قلبه.

وإذا عرف الإنسان طعم حبّ الله ولذّة الاُنس به فلا يؤْثر عليه شيئاً. يقول زين العابدين وإمام المحبّين : « من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلاً ، ومن ذا الذي أنِسَ بقربك فابتغىٰ عنك حِوَلاً » (٤).

وإنّما يتوزّع الناس علىٰ المسالك والمذاهب لأنّهم حُرِموا لذّة حب الله. وأمّا

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٦.

(٢) مناجاة أهل البيت : ٩٦ ـ ٩٧.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٥.

(٤) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٨.


الذين عرفوا لذة حبّ الله فلا يبحثون بعد ذلك عن شيء آخر في حياتهم.

يقول الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام : « ماذا وجد من فقدك ؟! وما الذي فقد من وجدك ؟! » (١).

ويستغفر عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام من كلّ لذةٍ غير لذّة حب الله ، ومن كل شغلٍ غير الاشتغال بذكر الله ، ومن كلِّ سرورٍ بغير قرب الله ، لا لأنّ الله تعالىٰ حرّم علىٰ عباده ذلك ، ولكن لأنّ ذلك من انصراف القلب عن الله واشتغاله بغير الله ، ولو زمناً قصيراً ، ولا ينصرف قلبٌ عرف لذّة حب الله ، عن الله.

وكل شيء وكل جهد في حياة أولياء الله يأتي في امتداد حبّ الله ، وذكر الله ، وطاعة الله ، وكلّ شيء عدا ذلك فهو انصراف عن الله ، ويستغفر الله منه. يقول عليه‌السلام : « وأستغفرك من كلّ لّذةٍ بغير ذكرك ، ومن كلِّ راحةٍ بغير اُنسك ، ومن كلّ سرورٍ بغير قربك ، ومن كلّ شغلٍ بغير طاعتك » (٢).

الحبّ يجبر عجز العمل :

والحب لا ينفصل عن العمل ، فمن أحبّ كانت أمارة حبّه العمل والحركة والجهد. ولكنّ الحب يجبر عجز العمل ، ويشفع لصاحبه كلّما قصر عمله ، وهو شفيعٌ مُشفَّعٌ عند الله تعالىٰ.

يقول علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في دعاء الأسحار الذي يرويه عنه أبو حمزة الثمالي وهو من جلائل الأدعية : « معرفتي يا مولاي دليلي عليك ، وحُبّي لك شفيعي إليك ، وأنا واثق من دليلي بدلالتك ، ومن شفيعي إلىٰ شفاعتك » (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.

(٢) بحار الأنوار ٩٤ : ١٥١.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٢.


ونعم الدليل والشفيع المعرفة والحب ، فلا يضيع عبد دليلُه إلىٰ الله « المعرفة » ، ولا يقصر عبد عن الوصول والبلوغ إذا كان شفيعه إلىٰ الله « الحب ».

يقول الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام : « إلهي إنّك تعلم أني وإن لم تَدُمْ الطاعة منّي فعلاً جزماً ، فقد دامت محبّةً وعزماً ».

وهو إشارة رقيقة من رقائق كلمات الإمام ، فإنّ الطاعة قد تقصر بالإنسان ، ولا يتمكّن أن يثق بطاعته لله ، ولكن ما لا سبيل إلىٰ الشك فيه للمحبّين هو اليقين والجزم بحبّهم لله تعالىٰ ، وعزمهم علىٰ المضيّ في الحب والطاعة ، وهذا ممّا لا يرتاب فيه عبد وجد حب الله في قلبه ، فقد يقصِّر العبد في طاعة ، وقد يرتكب ما يكرهه الله ولا يحبه من معصية ، ولكن ما لا يمكن أن يكون ـ وهو يقصّر في الطاعة ويرتكب المعصية ـ أن يكره الطاعة ويحبّ المعصية.

فإنّ الجوارح قد تنزلق إلىٰ المعاصي ، ويستدرجها الشيطان والهوىٰ إليها ، وقد تقصّر الجوارح في طاعة الله ، ولكن قلوب الصالحين من عباد الله لا يدخلها غير حبّ الله وحب طاعته وكراهية معصيته.

وفي الدعاء : « إلهي اُحبُّ طاعتَكَ وإنْ قَصرْتُ عنها ، وأَكرهُ معصيتَكَ وإن ركبْتُها ، فتفضَّلْ عليَّ بالجنةِ » (١).

وهذه هي الفاصلة بين الجوارح والجوانح ، فإن الجوارح قد تقصّر عن اللحوق بالجوانح ، وقد تخلص الجوانح وتخضع لسلطان حب الله بشكل كامل ، وتقصّر عنها الجوارح ، إلّا أن القلب إذا خلص وطاب فلابدّ أن تنقاد له الجوارح وتطيعه. ولابدّ أن تنفّذ الجوارح ما تطلبه وتريده الجوانح ، وتنعدم عند ذلك هذه الفاصلة بين الجوارح والجوانح بسبب إخلاص القلب.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٤ : ١٠١.


الحب يجير الانسان من العذاب :

وإذا كانت الذنوب تسقط الإنسان في عين الله ، وتعرّضه لعقاب الله وعذابه فإن « الحب » يجير الإنسان من عذاب الله وعقابه.

ففي المناجاة عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : « إلهي إنّ ذنوبي قد أَخافتْني ، ومحبَّتي لكَ قد أَجارَتني » (١).

درجات الحبّ وأطواره :

وللحب في قلوب العباد درجات ومراحل.

فمن الحب حب ضحل ضئيل ، لا يكاد يُحسّ به صاحبه.

ومن الحب ما يملأ قلب العبد ، ولا يترك في قلبه فراغاً لشأن آخر ممّا يلهو به الناس ويشغلهم عن ذكر الله.

ومن الحبّ ما لا يرتوي معه العبد من ذكر الله ومناجاته والوقوف بين يديه ، ولا يُبدَّد ظمأُ فؤادِه من الذكر ، والدعاء ، والصلاة ، والعمل في سبيل الله ، مهما طال وقوفه ، وعمله ، وصلاته بين يدي الله.

وفي الدعاء عن الامام الصادق عليه‌السلام : « سيّدي أنا من حبّك جائع لا أشبع ، وأنا من حبّك ظمآن لا أرویٰ ، واشوقاه إلىٰ من يراني ولا أراه ».

يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في المناجاة : « وغُلّتي لا يُبردها إلّا وَصلُك ، ولوعَتي لا يطفئها إلّا لقاؤُك ، وشوقي إليك لا يَبُلُّه إلّا النظرُ إليك » (٢).

ومن حب الله (الوله) و (الهيام) ، ففي (زيارة أمين الله) : « اللّهم إنّ قلوب

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٤ : ٩٩.

(٢) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٩.


المخبتين إليك والهة » (١).

وفي دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : « إلهي بك هامت القلوب الوالهة .. فلا تطمئنّ القلوب إلّا بذكراك ، ولا تسكن النفوس إلّا عند رؤياك » (٢).

وهذه خاصّة القلوب الوالهة والهائمة لا تسكن ولا تطمئن إلّا بذكر الله.

ومن أروع الحب وأبلغه ما تجده في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في الدعاء الذي علّمه لكميل بن زياد النخعي رحمه‌الله والمعروف بدعاء كميل :

« فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت علىٰ عذابك فكيف أصبر علىٰ فراقك ؛ وهبني صبرتُ علىٰ حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلىٰ كرامتك ، أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك ؟! » (٣).

وهو من أروع لفتات الحب وأصدقها. فهب أنّ العبد يصبر علىٰ عذاب نار مولاه ، فكيف يصبر علیٰ هجره وفراقه وغضبه ؟!

والمحب قد يتحمّل عقوبة مولاه ، ولكن لا يتحمّل غضبه ومقته له ، وقد يتحمّل النار وهي من أقسىٰ العقوبات ولكن لا يتحمّل هجر مولاه وفراقه.

وكيف يسكن العبد في نار جهنم وهو يرجو أن يعطف عليه مولاه وينقذه منها ؟

وهذان (الحب) و (الرجاء) اللذان لا يفارقان قلب العبد ـ وهو يصلىٰ في نار جهنم بغضب من الله تعالىٰ ـ من أروع صور هذا الدعاء الجليل.

فقد يحبّ العبد مولاه ، وهو ينعم بنعمته وفضله ، وهو بالتأكيد من الحب ،

__________________

(١) مفاتيح الجنان ، دعاء أبي حمزة الثمالي.

(٢) بحار الأنوار ٩٤ : ١٥١.

(٣) مفاتيح الجنان.


ولكن الحب الذي لا يزيد عليه حب أن لا يفارق الحب والرجاء قلب العبد وهو يصلىٰ بنار عذاب مولاه.

يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في دعاء الأسحار الّذي علّمه لأبي حمزة الثمالي رحمه‌الله : « فوعزّتك لو انتهرتني ما برحت من بابك ولا كففت عن تملّقك لما اُلهم قلبي من المعرفة بكرمك وسعة رحمتك. إلىٰ من يذهب العبد إلّا إلىٰ مولاه ؟! وإلىٰ من يلتجئ المخلوق إلّا إلىٰ خالقه ؟! إلهي لو قرنتني بالأصفاد ، ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ، ودللت علىٰ فضائحي عيون العباد ، وأمرت بي إلیٰ النار ، وحلت بيني وبين الأبرار ما قطعت رجائي منك ، وما صرفت تأميلي للعفو عنك ، ولا خرج حبّك من قلبي » (١).

وهذا هو أصدق الحب ، والرجاء ، والأمل ، وأنقاه وأصفاه ، لا يكاد يخرج من قلب العبد حتىٰ لو قرنه مولاه بالأصفاد ، ومنعه سيبه من بين الأشهاد ، ودلّ علىٰ فضائحه عيون العباد.

ولنتابع استعراض هذه الصور الرائعة من الحب والرجاء التي يرسمها الامام علي عليه‌السلام في الدعاء الجليل « دعاء كميل » : « فبعزّتك يا سيدي ومولاي اُقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين ، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين ، ولاُنادينك اين كنت يا وليّ المؤمنين ؛ يا غاية آمال العارفين ، يا غياث المستغيثين ، يا حبيب قلوب الصادقين ، ويا إله العالمين. أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته وذاق طعم عذابها بمعصيته ، وحبس بين اطباقها بجرمه وجريرته ، وهو يضجّ إليك ضجيج مؤملٍ لرحمتك ، ويناديك بلسان أهل

__________________

(١) مفاتيح الجنان ، دعاء أبي حمزة الثمالي.


توحيدك ، ويتوسل إليك بربوبيتك يا مولاي فكيف يبقیٰ في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ، أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك ، أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وتریٰ مكانه ، ام كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه ، أم كيف يتغلغل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه ، أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربه ، أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه فيها. هيهات ، ما ذلك الظن بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك وإحسانك ، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً ، وما كان لأحدٍ فيها مقراً ولا مقاماً » (١).

يقول أحدهم : إن خصلة البطولة والشجاعة خصلة أصيلة في علي عليه‌السلام ، لا تفارقه حتىٰ في الدعاء بين يدي رب العالمين. فها هو في الدعاء الذي علّمه لكميل يتصوّر أن النار قد احتوت العبد المذنب ، وأحاطت به من كل جانب ، فلا يسكت ولا يسكن ولا يستسلم للعذاب والعقوبة ، كما هو مقتضىٰ الحال فيمن أطبق عليه العذاب واحتوشه زبانية النار ، وإنما يضج ويبكي ويصرخ ويهتف وينادي.

ألا تراه كيف يعبر عن هذه الحالة في دعاء الله ؟

« فبعزتك يا سيدي ومولاي اُقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ، ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ، ولاُنادينّك اين كنت يا ولي المؤمنين ».

قلت : لمْ تصب في تذوق كلام علي عليه‌السلام ، ولو كان عليه‌السلام بهذا الصدد لم يقل في مقدمة هذا الخطاب « لو تركتني ناطقاً ». أما أنا فأتصور الحالة النفسية لعلي عليه‌السلام في

__________________

(١) مفاتيح الجنان ، دعاء كميل.


هذه الكلمات بين يدي الله تعالىٰ حالة الطفل الصغير الذي لم يعرف في دنياه غير عطف اُمه ، ورحمتها ، وحبها ملجأً وملاذاً. فكلما داهمه أمر أو أضرّ به شيء لجأ إلىٰ اُمه ، واستغاث بها واستنجدها ، فإذا ارتكب مخالفة وتعرض لعقوبة من اُمه ، وأراد أن يلجأ إلىٰ طرف يحميه من عقوبتها لم يجد ملاذاً وملجأً غيرها ، فيحتمي بها ويستنجدها ويستغيث ويلوذ بها ، كما كان يفعل عندما يصيبه الأذىٰ من غيرها.

وهذا هو حال علي عليه‌السلام في هذا الدعاء. إنّه تعلَّم بقلبه الكبير ، واُفقه الواسع الرحب أن يلجأ إلىٰ الله ، ويستغيث به ، ويلوذ به ، ولا يعرف غيره ملجأً ولا ملاذاً.

فهو سبحانه وتعالىٰ ، ملجأُه وملاذه الوحيد الذي لا يعرف غيره. فإذا تصوّر أن الله تعالىٰ قد أحاطه بعذابه وعقوبته (١) فلا يتردد لحظة واحدة أن يلجأ إلىٰ الله ، ويلوذ به ، ويستنجد به ، ويستغيث به كما كان يفعل كل مرة.

أو ليس هو سبحانه ملاذه وملجأه الوحيد ؟ فلماذا يتردد هذه المرة أن يستنجد ويستغيث به ؟!

يقول زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام في تصوير هذا المعنیٰ في المناجاة :

« فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ ؛ وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ. إلهي هل يرجع العبد الابق إلّا إلىٰ مولاه ؛ أم هل يجيره من سخطه أحد سواه » (٢).

ويقول عليه‌السلام في الدعاء الذي علّمه لأبي حمزة الثمالي : « وأنا يا سيدي عائذ بفضلك هارب منك إليك » (٣).

ويقول علي بن الحسين عليه‌السلام في نفس الدعاء : « إلىٰ من يذهب العبد إلّا إلىٰ

__________________

(١) نحن نستعير هنا كلمات علي عليه‌السلام نفسه ، ولو أنه لم يقل ذلك لم نجرؤ أن نتحدث عن العلاقة بينه وبين الله تعالىٰ بهذه الطريقة.

(٢) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٢.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٤.


مولاه : وإلىٰ من يذهب المخلوق إلّا إلىٰ خالقه » (١).

والهروب من الله إلىٰ الله من رقائق المعاني والأفكار في علاقة العبد بالله ، وهذه المشاعر التي يصورها علي عليه‌السلام في علاقة العبد بالله هي من أرقّ مشاعر (الحب) و (الرجاء) ، وأصدقها في نفوس المحبين.

وعلي عليه‌السلام لا يذهب مذهب الشعراء في هذه الفقرة من الدعاء في الاستعانة بالخيال في إكمال رسم هذه اللوحة الرائعة من الدعاء ، وإنما هو صادق كل الصدق في التعبير عن إحساسه وشعوره هذا بين يدي الله.

ولذلك فهو يعقب هذه اللوحة من (استغاثة العبد بربه) بلوحة اُخرىٰ في نجدة الله لعبده.

فليس يمكن فيما نعرف من رحمة الله وفضله أن الله تعالىٰ يخيب هذا الإحساس الصادق والصافي والنقي من العبد في الحب والرجاء ، فيردّ حبه ويخيّب رجاءه ، يقول عليه‌السلام : « فكيف يبقیٰ في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ؛ أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك ؛ أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وتریٰ مكانه ؛ أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه ؛ أم كيف يتغلغل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه ؛ أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربه ».

فهل يمكن أن تقوده الزبانية إلىٰ النار وتزجره فيها ، وهو ينادي الله ، ويهتف به ، ويلوذ به بلسان أهل توحيده ؟

إنّ ما سبق من حلمه وفضله في حياتنا ينفي ذلك نفياً قاطعاً مطلقاً. والإمام يستدلّ بحلم الله علىٰ حلمه وفضله علىٰ فضله : « وهو يرجو ما سلف من حلمك ».

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٨.


والإمام عليه‌السلام قاطع في هذا الجانب من القضية « الخط النازل » في علاقة الله بعبده كما كان قاطعاً وصريحاً في الطرف الآخر من القضية « الخط الصاعد » في علاقة العبد بالله.

فكما كان قاطعاً وصريحاً أنه حتىٰ في النار لا يفارقه حبه ورجاؤه ، ولن يستبدل بالله تعالىٰ ملجأً وملاذاً. كذلك هو قاطع وصريح أن الله تعالىٰ لا يخيّب مثل هذا الحب والرجاء الصادقين في قلب العبد.

تأمّلوا في هذا الجزم والقطع والصراحة في كلام علي عليه‌السلام : « هيهات ما ذلك الظن بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشابه لما عاملت به الموحّدين من برّك وإحسانك ، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً ، وما كانت لأحدٍ فيها مقراً ولا مقاماً » (١).

وهذا الجزم والقطع في علاقة العبد الذي أحب مولاه « الصاعدة » وعلاقة المولىٰ بعبده (النازلة) نجده في مواضع اُخرىٰ من كليات علي عليه‌السلام. فها هو يخاطب الله تعالىٰ في مناجاته المشهورة : « إلهي وعزتك وجلالك لقد أحببتك محبةً استقرّت حلاوتها في قلبي ، وما تنعقد ضمائر موحديك علىٰ أنك تبغض محبيك » (٢).

وفي مناجاة الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « إلهي نفسٌ أعززتها بتوحيدك كيف تذلّها بمهانة هجرانك ؛ وضمير انعقد علىٰ مودّتك كيف تحرقه بحرارة نيرانك » (٣).

ويقول عليه‌السلام أيضاً في دعاء الأسحار من شهر رمضان الذي علّمه لأبي حمزة

__________________

(١) مفاتيح الجنان : دعاء كميل.

(٢) مناجاة أهل البيت ٦٨ ، ٦٩.

(٣) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٣.


الثمالي رحمه‌الله : « أفتراك يا رب تخلف ظنوننا ، أو تخيّب آمالنا. كلّا يا كريم ، فليس هذا ظننا بك ، ولا هذا طمعنا فيك. يا رب إنّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً ، إن لنا فيك رجاءً عظيماً ... » (١).

حالتا الشوق والأنس في الحب :

للحب ظهوران : فقد يبرز الحب علىٰ صورة « الشوق » وقد يبرز الحب علىٰ صورة « الأنس » ، وكلتاهما حالتان تعبّران عن الحب ، إلّا أن حالة « الشوق » تنتاب المحب عندما يكون بعيداً عمّن يحبه ، وحالة « الأنس » تنتاب المحب عندما يكون بحضور حبيبه.

وهاتان الحالتان متواردتان علىٰ قلب العبد تجاه الله تعالىٰ. فإن لله تعالىٰ تجليين ، يتجلّىٰ للعبد عن بُعد تارة وعن قرب اُخرىٰ : « الذي بَعُدَ فلا يُرىٰ وَقَرُبَ فشهد النجویٰ » (٢).

وعندما يتجلىٰ للعبد عن بُعد تنتاب العبد حالة الشوق ، وعندما يتجلىٰ للعبد عن قرب ، ويحسّ العبد بحضور مولاه ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٣) ، ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (٤) ، ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) (٥) ، تنتاب العبد حالة « الأنس ».

وفي دعاء الافتتاح عن الإمام الحجة المهدي عجل الله فرجه تصوير دقيق لهاتين الحالتين : « الحمد لله الذي لا يُهتك حجابه ولا يُغلق بابه » (٦).

__________________

(١) مفاتيح الجنان ، دعاء ابي حمزة الثمالي.

(٢) مفاتيح الجنان ، دعاء الافتتاح.

(٣) الحديد : ٤.

(٤) ق : ١٦.

(٥) البقرة : ١٨٦.

(٦) مفاتيح الجنان ، دعاء الافتتاح.


ولا شك أن الذي لا يُهتك حجابه هو الذي لا يُغلق بابه ... ولكن شتّان بين ذكر الله تعالىٰ من خلال هذا التصور أو ذاك.

و « الحجاب » حجابان : حجاب ظلمة وحجاب نور ، فقد تمنع الإنسان من الرؤية شدة الظلمة ، وكثافة الحجب الظلامية ، وهذا حجاب الظلمة.

وقد تمنع الإنسان من الرؤية شدّة الوهج والنور ، كما يعجز الإنسان عن رؤية الشمس ليس لحاجزٍ أو مانعٍ ، وإنّما لشدة وهج الشمس ، وهذا هو حجاب النور.

وحجب الظلمة في علاقة الإنسان بالله تعالىٰ هي « حب الدنيا » و « مقارفة السيئات » و « ما يرين علیٰ القلب ».

وحجاب النور في علاقة الإنسان بالله تعالىٰ شيء غير ذلك ، وهو الحجاب الذي لا يُهتك كما يقول الإمام الحجة عجل الله تعالىٰ فرجه في هذا الدعاء.

وهذا الحجاب هو الذي يهيّج الشوق واللهفة في قلوب العباد. يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام عن هذه الحالة من الشوق واللهفة الىٰ الله في مناجاته :

« وغُلّتي لا يبرّدها إلّا وصلُك ، ولوعتي لا يطفيها إلّا لقاؤك وشوقي إليك لا يبلّه إلّا النظر إلىٰ وجهك ، وقراري لا يقرّ دون دُنوّي منك ، ولهفتي لا يردّها إلّا رَوحُك ، وسقمي لا يشفيه إلّا طبّك ، وغمّي لا يزيله إلّا قُربُك ، وجُرحي لا يبرئه إلّا صفحك ، ورَين قلبي لا يَجلوه إلّا عفوك ... فيا منتهىٰ أمل الآملين ، ويا غاية سؤل السائلين ، ويا أقصىٰ طلبة الطالبين ، ويا أعلىٰ رغبة الراغبين ويا ولي الصالحين ، ويا أمان الخائفين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، ويا ذخر المعدمين ، ويا


كنز البائسين » (١).

وفي مقابل هذا التجلّي نحوٌ آخر من التجلّي ، وهو تجلّي الله لعباده دون أن يغلق له باب بينه وبين عباده ، يسمع نجواهم ، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ، يحول بين المرء وقلبه ، ولا يخفیٰ عليه شيء مما يخطر علىٰ قلوب عباده ، فيشعر العبد أنه بحضور مولاه ، يتهيّب أن يخالفه ويعصيه ، ويأنس بذكره ، ويسكن إلىٰ مناجاته ودعائه ، ويطيل المناجاة ، والذكر والدعاء ، والوقوف بين يديه.

وفي حديث قدسي ، يقول الله لبعض أنبيائه ، وهو سبحانه يصف قيامهم له في ظلمات الليل ، وقد هدأ الناس واستسلموا للنوم : « ولو تراهم وهم يقومون لي في الدجىٰ ، وقد مثلت نفسي بين أعينهم يخاطبوني ، وقد جللت عن المشاهدة ، ويكلموني ، وقد عززت عن الحضور » (٢).

فلا يملّ العبد الوقوف بين يدي الله ، ولا يشعر بمرور الوقت. أو رأيت إن كان الإنسان بمحضر حبيب من الأحبّاء الذين تهوي إليهم نفسه ، هل يملّ أو يشعر بمرور الوقت ؟ فكيف لو كان الإنسان يشعر أنه بحضور الله ؟ يسمعه ، ويراه ، ويسمع خطابه وكلامه ، وهو معه ؛ ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٣).

فيسكن ويطمئن إلىٰ ذكر الله ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٤).

يقول الامام المهدي الحجة عجل الله فرجه في دعائه المعروف بـ « الافتتاح » : « فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً ، لا خائفاً ولا وجلاً ، مدلّاً عليك فيما قصدت فيه إليك » (٥).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٤ : ١٥٠.

(٢) لقاء الله : ١٠١.

(٣) الحديد : ٤.

(٤) الرعد : ٢٨.

(٥) مفاتيح الجنان ، دعاء الافتتاح.


ولا شك أن هذه الحالة من الأنس بالله ، والسكون إلىٰ الله ، والإحساس بالأمن في كنف الله حالة نابعة من الإحساس بحضور الله وقربه ومعيّته ، وهي من أفضل حالات العبد تجاه ربه ، ولكنها ليست تمثل كلّ شيء في علاقة الإنسان بالله بل لابدّ أن تقترن بحالة (الشوق) حتىٰ تكتمل وتتوازن ، وتتناسق.

وهاتان الحالتان بارزتان في عبادة أولياء الله وعبادة الصالحين وعلاقتهم بالله ، فقد يكون طابع الشوق واللهفة هو الغالب علىٰ عباداتهم وعلاقتهم بالله ، وقد يكون طابع الاُنس والسكون والاطمئنان هو الغالب علىٰ عباداتهم وذكرهم وعلاقتهم بالله ، وقد يكون هذا وذاك ، وهو أفضل الأحوال وأسلمها ، واقرب إلىٰ حالة التوازن والتناسق في العلاقة بالله.

عن حمّاد بن حبيب العطّار الكوفي ، قال : « خرجنا حجّاجاً فرحلنا من زبالة ليلاً ، فاستقبلتنا ريح سوداء مظلمة ، فتقطّعت القافلة فتهت في تلك الصحاري والبراري فانتهيت إلىٰ واد قفر ، فلمّا أن جنَّ اللّيل أويت إلىٰ شجرة عادية ، فلمّا أن اختلط الظلام إذا أنا بشاب قد أقبل ، عليه أطمار بيض ، تفوح منه رائحة المسك ، فقلت في نفسي : هذا وليّ من أولياء الله متىٰ ما أحسَّ بحركتي خشيت نفاره وأن أمنعه عن كثير ممّا يريد فعاله. فأخفيت نفسي ما استطعت. فدنا إلىٰ الموضع فتهيّأ للصلاة ، ثمَّ وثب قائماً وهو يقول : يا من أحاز كلَّ شيء ملكوتاً ، وقهر كلَّ شيء جبروتاً ، أَوْلِجْ قلبي فرح الإقبال عليك ، وألحقني بميدان المطيعين لك. قال : ثمَّ دخل في الصلاة ...

فلما أن تقشّع الظلام وثب قائماً وهو يقول : يا من قصده الطالبون فأصابوه مرشداً ، وأمّه الخائفون فوجوده متفضّلاً ، ولجأ إليه العابدون فوجدوه نوالاً ، متىٰ وجد راحة من نصب لغيرك بدنه ، ومتىٰ فرح من قصد سواك بنيّته ، إلهي قد تقشّع الظلام ولم أقض من خدمتك وطراً ، ولا من حاضّ مناجاتك مدراً ، صلِّ علىٰ


محمّد وآله ، وافعل في أولىٰ الأمرين بك يا أرحم الراحمين. قال : فخفت أن يفوتني شخصه ، وأن يخفیٰ عليَّ اثره فتعلّقت به ، فقلت له : بالّذي اسقط عنك ملال التعب ، ومنحك شدَّة شوق لذيذ الرعب ... من أنت ؟ فقال لي : أمّا إذا أقسمت فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب » (١).

وقال الأصمعي : « كنت أطوف حول الكعبة ليلة ، فإذا شابُّ ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان ، وهو متعلّق بأستار الكعبة وهو يقول : « نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الملك الحيُّ القيوم ، غلّقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حرَّاسها ، وبابك مفتوح للسائلين ، جئتك لتنظر إليَّ برحمتك يا أرحم الراحمين ، ثمَّ أنشأ يقول :

يا من يجيب دعا المضطرِّ في الظلم

يا كاشف الضرِّ والبلویٰ مع السّقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبة

وأنت وحدك يا قيّوم لم تنم

أدعوك ربّ دعاءً قد أمرت به

فارحم بكائي بحقِّ البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف

فمن يجود علىٰ العاصين بالنعم

قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين عليه‌السلام » (٢).

وقال طاووس الفقيه : « رأيته يطوف من العشاء إلىٰ السحر ويتعبّد ، فلمّا لم ير أحداً رمق السماء بطرفه ، وقال : إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتّحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدِّي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرصات القيامة ، ثمَّ بكىٰ وقال : وعزَّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكُّ ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني علىٰ ذلك سترك المرخىٰ به عليَّ ، فالآن

__________________

(١) بحار الانوار ٤٦ : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) بحار الانوار ٤٦ : ٨٠ ـ ٨١.


من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي ؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك ، إذا قيل للمخفّين جُوزوا ، وللمثقلين حطّوا ، أمع المخفّين أجوز ؟ أم مع المثقلين أحطّ ؟ ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، أما آن لي أن أستحي من ربّي ؟ ثمَّ بكیٰ وأنشأ يقول :

أتحرقني بالنار يا غاية المنیٰ

فأين رجائي ثمَّ أين محبّتي

أتيت بأعمال قباح زريّة

وما في الورىٰ خلق جنىٰ كجنايتي

ثم بكیٰ وقال : سبحانك تُعصیٰ كأنّك لا تریٰ ، وتَحلم كأنّك لم تُعصَ. تتودّد إلىٰ خلقك بحسن الصنيع كأنَّ بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيّدي الغنيُّ عنهم. ثمَّ خرَّ إلىٰ الأرض ساجداً. قال : فدنوت منه وشِلت برأسه ووضعته علىٰ ركبتي وبكيت حتّىٰ جرت دموعي علىٰ خدِّه ، فاستوىٰ جالساً وقال : من الّذي أشغلني عن ذكر ربّي ؟ فقلت : أنا طاووس يا بن رسول الله ما هذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون. أبوك الحسين بن عليّ وأمّك فاطمة الزهراء ، وجدُّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : فالتفت إليَّ وقال : هيهات هيهات يا طاوس دع عنّي حديث أبي واُمّي وجدِّي خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبداً حبشيّاً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً. أما سمعت قوله تعالىٰ : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ) والله لا ينفعك غداً إلّا تقدمة تقدمها من عمل صالح » (١).

ونصوص الادعية والمناجاة الواردة من أهل البيت عليهم‌السلام غنيّة بهذه الصور الحيّة والمتحركة والمعبّرة عن « الانس » و « الشوق » ، وبشكل خاص المناجاة الخمس عشرة التي يرويها العلّامة المجلسي في البحار عن الامام زين العابدين

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٦ : ٨١ ـ ٨٢.


علي بن الحسين عليه‌السلام حافلة بصور من « الانس » و « الشوق ».

ونحن نجد في تراث أهل البيت عليهم‌السلام كنزاً غنياً من هذه الصور والمعاني ، قلّما نجده عند غيرهم.

وها نحن نذكر بعض هذه الصور قبل أن نفارق هذا البحث : « إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً ، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغىٰ عنك حولاً.

إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك وأخلصته لودّك ومحبتك ، وشوّقته إلىٰ لقائك ، ورضّيته بقضائك ، ومنحته النظر إلىٰ وجهك ، وحبوته برضاك ، وأعذته من هَجرك وقلاك ، وبوّأته مقعد الصدق في جوارك ، وخصصته بمعرفتك ، وأهّلهته لعبادتك ، وهيّمت قلبه لإرادتك ، واجتبيته لمشاهدتك ، وأخليت وجهه لك ، وفرّغت فؤاده لحبك ، ورغّبته فيما عندك ، وألهمته ذكرك ، وأوزعته شكرك ، وشغلته بطاعتك ، وصيّرته من صالحي بريتك ، واخترته لمناجاتك ، وقطعت عنه كل شيء يقطعه عنك.

أللهم اجعلنا ممّن دأبهم الارتياح إليك والحنين ، ودهرهم الزفرة والأنين ، جباههم ساجدة لعظمتك ، وعيونهم ساهرة لخدمتك ، ودموعهم سائلة من خشيتك ، وقلوبهم متعلقة بمحبتك ، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك. يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقه ، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة ، ويا منىٰ قلوب المشتاقين ، ويا غاية آمال المحبّين أسألك حبك وحب من يحبك ، وحب كل عمل يوصلني إلىٰ قربك ، وأن تجعلك أحب إليّ مما سواك ، وأن تجعل حبي إيّاك قائداً إلىٰ رضوانك ، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك ، وامنن بالنظر إليك عليّ ، وانظر بعين


الود والعطف إليّ ، ولا تصرف عني وجهك » (١).

وهذه فقرات من الدعاء زاخرة بمفاهيم الحب والشوق والأنس ، ولست أريد التعليق ، فلن أستطيع أن أزيد الفقرات من الدعاء جمالاً علىٰ جمالها وبياناً علىٰ بيانها ، ولست ممن يحسن التعليق علىٰ آيات الدعاء والحب والأدب.

وأول ما يلفت النظر في هذه الفقرات النداء الذي ينادي به الإمام ربه سبحانه وتعالیٰ : « يا منیٰ قلوب المشتاقين ، ويا غاية آمال المحبين ... ». « يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة ، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة ».

ومطالب الإمام في هذا الدعاء ثلاثة ، وهي أعظم ثلاثة يطلبها العبد من ربه.

١ ـ فهو يطلب من الله أولاً أن يصطفيه لنفسه ، ويخلص قلبه لحبه ، ويخلي وجهه لوجهه الكريم ، ويرغبه فيما عنده ، ويفرغ فؤاده لحبه ، ويلهمه ذكره ، ويقطع عنه كل ما يقطعه عنه ، ويصرف عنه كلّما يصرفه عنه.

وهذه البداية ضرورية للحركة التي يطلبها الإمام من الله تعالىٰ ، والتي يحدّد غايتها بالنظر إلىٰ وجه الله ، ومن دون هذه البداية ، لا يمكن أن يتحرك الإنسان هذه الحركة الصعبة والشاقة إلىٰ قمّة لقاء الله ، والنظر إلىٰ وجهه الكريم ، وإنه لراحة لكل نبيّ وصدّيق.

ولئن كان النظر إلىٰ وجه الله رزقاً يرزقه الله تعالىٰ من يشاء ويصطفي من عباده ، فلابدّ أن يطلب العبد أن يرزقه الله تعالىٰ هذا الرزق بمفاتحه ، فإن الله تعالىٰ إذا رزق أحداً من عباده رزقاً رزقه من أبوابه ومفاتحه ، وسبّب له أسبابه.

والذين يطلبون من الله تعالىٰ أن يرزقهم من غير أبوابه ، وبغير مفاتحه

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٨.


يدعون الله تعالىٰ علىٰ خلاف سننه وقوانينه التي سنّها لعباده.

والأبواب التي منها يدخل الإنسان ، ومنها ينطلق إلىٰ قمّة لقاء الله ومشاهدة وجهه الكريم هي :

أولاً : تفريغ القلب من كل رين وهمّ وحب وتعلّق بالدنيا ، وهو ما يسمّيه العلماء بـ (التخلية) ، اي إخلاء القلب من كل هم وتعلّق لغير الله تعالىٰ.

فيقول الإمام : « واجعلنا ممن أخلصته لودّك ومحبتك ، وأخليت وجهه لك ، وفرّغت فؤاده لحبك ، وقطعت عنه كلّ شيء يقطعه عنك ».

وهذه هي النقطة الاُولىٰ في البداية ، وهي نقطة سلبية.

والنقطة الثانية في البداية هي « التحلية » في مقابل « التخلية » كما يقول العلماء. وهي نقطة إيجابية يلحظها الإمام في الطلبات التالية : « واجعلني ممن رضّيته بقضائك ، وحبوته برضاك ، وخصصته بمعرفتك ، وأهّلته لعبادتك ، ورغّبته فيما عندك ، وألهمته ذكرك ، وأوزعته شكرك ، وشغلته بطاعتك ، وصيّرته من صالحي بريّتك ، واخترته لمناجاتك ».

« واجعلنا من جباههم ساجدة لعظمتك ، وعيونهم ساهرة في خدمتك ، ودموعهم سائلة من خشيتك ، وأفئدتهم منخلعة من رهبتك ».

وهذه البداية « بنقطتيها » هي مفتاح الحركة إلىٰ الله ، وهي المنطلق التي منها ينطلق الانسان إلىٰ غاية لقاء الله ومشاهدة جلال وجهه الكريم وجماله. وهذا هو الطلب الأول.

٢ ـ والطلب الثاني مترتب علىٰ الطلب الأول ، وهي المرحلة الوسطىٰ في هذه الحركة الصاعدة إلىٰ الله ، ومن دونه لا يمكن أن يتحرك الإنسان إلىٰ الله ،


ويصل إلىٰ جواره وقربه ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) (١).

والمركب الذي يحمل الإنسان إلىٰ هذه الغاية التي يتمنّاها كل نبي وولي وصدّيق وشهيد ، هو « الحب » و « الانس بالله » و « الشوق إلىٰ الله » ومن دون الحب ، والشوق ، والاُنس لا يمكن أن يرقیٰ الإنسان هذا المرتقیٰ الرفيع إلىٰ الله.

والحب والشوق والاُنس رزق من عند الله ، من دون شك ، يرزقه الله تعالىٰ من يجتبي ويصطفي من عباده. ولكن بعد مقدمات ذكرها الامام عليه‌السلام نجدها مبثوثة في فقرات هذه المناجاة.

ويلحّ الامام في هذا الطلب ، ويتوسل إلىٰ ذلك بمختلف الوسائل والتعابير. فهو ينادي الله تعالىٰ بهذا النداء الرائع : « يا منىٰ قلوب المشتاقين ويا غاية آمال المحبين ».

ثم يطلب منه الحب ، وحبّ من يحب ، وحبّ كل عمل يوصله إلىٰ قربه وجواره.

ولنتأمل في كلمات الإمام مباشرة فإنّ التعليق يضيّع علينا فرصة النظر المباشر إلىٰ آفاق هذا الحب التي يفتحها الإمام علينا في هذا الدعاء : « أسألك حبّك ، وحبّ من يحبّك ، وحبّ كل عمل يوصلني إلىٰ قربك ، وأن تجعلك أحبَّ إليّ مما سواك ، وأن تجعل حبي إيّاك قائداً إلىٰ رضوانك ، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك ، وامنن بالنظر إليك عليّ ، وانظر بعين الود والعطف إليّ ، ولا تصرف عنّي وجهك ».

ويقول : « واجعلنا ممن شوّقته إلىٰ لقائك ، وأعذته من هجرك وقلاك ، وهيَّمت قلبه لإرادتك ».

__________________

(١) القمر : ٥٥.


ثم يقول عليه‌السلام : « اللهم اجعلنا من دأبهم الارتياح إليك والحنين ، ودهرهم الزفرة والأنين ... قلوبهم متعلقة بمحبتك ، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك ».

وخلاصة المطالب في هذه الفقرة أربعة :

١ ـ أن يعيذنا هجره وقلاه.

٢ ـ أن يرزقنا حبه ومودته.

٢ ـ أن يرزقنا الاُنس به.

٤ ـ أن يرزقنا الشوق إلىٰ لقائه.

ويختصر الإمام « الاُنس والشوق » في هذه الجملة الرائعة : « واجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين ».

فإنّ الارتياح إلىٰ الله غير الحنين إليه ، وكلاهما يطلبه الإمام من الله. والارتياح هو الأنس المنبعث من اللقاء ، والحنين هو الشوق المنبعث من الحركة إلىٰ اللقاء.

٢ ـ والمرحلة الثالثة من هذه المرحلة العلوية إلىٰ الله في هذا الدعاء الجليل هي غاية الغايات ، وأشرف ما يطلبه النبيون والصدّيقون من الله. وهي طلب النظر إلىٰ جلال وجهه وجماله البهي ، وأنه غاية لا ينالها إلّا صفوة الصفوة ممن يصطفيهم الله تعالىٰ لقربه وجواره.

يقول الإمام عليه‌السلام : « واجعلنا ممّن منحته النظر إلىٰ وجهك وبوّأته مقعد الصدق في جوارك ، واجتبيته لمشاهدتك ... وامنن بالنظر إليك عليّ ».

ويا لها من حاجة أن ينظر الإنسان إلىٰ وجه ربه ، ويشاهد جلاله وجماله عن قرب ، ويقعد عنده في مقعد صدق بجواره ، ويسقيه ربه شراباً طهوراً.

صورة اُخرىٰ من صور الشوق والاُنس في أدعية الإمام زين العابدين عليه‌السلام :

« إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك ، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود


عليك. قرّب علينا البعيد ، وسهِّل علينا العسير الشديد ، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون ، وبابك علىٰ الدوام يطرقون ، وإيّاك بالليل والنهار يعبدون ، وهم من هيبتك مشفقون الذين صفّيت لهم المشارب ، وبلّغتهم الرغائب ، وأنجحت لهم المطالب ، وقضيت لهم من فضلك المآرب ، وملأت لهم ضمائرهم من حبّك ، وروّيتهم من صافي شربك فبك إلىٰ لذيذ مناجاتك وصلوا ، ومنك أقصىٰ مقاصدهم حصّلوا. فيا من هو علىٰ المقبلين عليه مقبل ، وبالعطف عليهم عائد مفضل ، وبالغافلين عن ذكره رحيم رؤوف ، وبجذبهم إلىٰ بابه ودود عطوف ... أسالك أن تجعلني من أوفرهم منك حظّاً ، وأعلاهم عندك منزلاً ، وأجزلهم من ودّك قسْماً ، وأفضلهم في معرفتك نصيباً. فقد انقطعت إليك همتي ، وانصرفت نحوك رغبتي ، فأنت لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سَهَري وسهادي ، ولقاؤك قرة عيني ، ووصلك منىٰ نفسي ، وإليك شوقي ، وفي محبتك ولهي ، وإلىٰ هواك صبابتي ، ورضاك بغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وجوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ، وفي مناجاتك روحي وراحتي ، وعندك دواء علّتي ، وشفاء غلّتي ، وكشف كربتي ، فكن أنيسي في وحشتي ومُقيل عثرتي ، وغافر زلّتي ، وقابل توبتي ، ومجيب دعوتي ، ووليّ عصمتي ، ومُغني فاقتي ، ولا تقطعني عنك ، ولا تبعدني منك ، يا نعيمي وجنتي ، ويا دنياي وآخرتي » (١).

وهذه قطعة جليلة من جلائل المناجاة ، ورائعة من روائع أدب الدعاء ، وغرّة من غرر كلمات أهل البيت عليهم‌السلام في الدعاء والتضرّع والحب ، صادرة عن قلبٍ والهٍ بحب الله ، مشتاق إلىٰ لقاء الله ، وهي تستحق الكثير من التأمل والوقوف.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٨.


ونقتصر علىٰ الإشارة السريعة إلىٰ بعض الصور والأفكار للحب الإلهي التي تزخر بها هذه المناجاة.

في البدء يطلب زين العابدين عليه‌السلام من الله أن يأخذ بيده ويسلك به سبل الوصول إليه وهو خلاصة ما في هذا الدعاء ، وأجلّ ما فيه من المطالب. فلا يطلب الإمام في هذا الدعاء من الله تعالىٰ دنيا ولا آخرة ، وإنه لطلب مشروع يحبه الله ، ولكنه يطلب القرب ، والوصول والجوار ، في مقعد صدق عنده مع الانبياء والشهداء والصدّيقين. يقول عليه‌السلام : « إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك ». ولا يقول الإمام (سبيل الوصول إليك) بصيغة المفرد ، وإنّما يقول : « سبل الوصول » بصيغة الجمع ، ذلك لأن « الصراط » إلىٰ الله تعالىٰ واحد لا يتعدد ، ولم يذكر القرآن لله تعالىٰ إلّا صراطاً واحداً ، يقول تعالىٰ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (١) ويقول : ( وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٢). ويقول : ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٣). ويقول : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٤).

أما (السبيل) فقد ورد بصيغة الجمع في الحق والباطل في القرآن كثيراً.

يقول تعالىٰ : ( يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ) (٥). ويقول : ( وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) (٦).

( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّـهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ) (٧).

__________________

(١) الفاتحة : ٦ ـ ٧.

(٢) البقرة : ٢١٣.

(٣) المائدة : ١٦.

(٤) الانعام : ٨٧.

(٥) المائدة : ١٦.

(٦) الانعام : ١٥٣.

(٧) ابراهيم : ١٢.


( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (١).

فقد جعل الله تعالىٰ للناس إليه سُبلاً كثيرة يسلكونها إليه وقد اشتهر علىٰ لسان العلماء : « أن الطرق إلىٰ الله بعدد أنفاس الخلائق ». وكل هذه الطرق والسبل تجري علىٰ صراط الله المستقيم ، ولكن جعل الله تعالىٰ لكل إنسان طريقاً يعرف به ربه ، ويسلكه إليه.

فمن الناس من يسلك إليه سبيل العلم والعقل ، ومنهم من يسلك إليه سبيل القلب والفؤاد ، ومن الناس من يعرف الله بالتجارة والتعامل مع الله ، وأنه من أفضل السبل أن يتعرف الانسان علىٰ الله من خلال التعامل المباشر مع الله والأخذ والعطاء. قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٢) ، وقال سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (٣).

ويطلب زين العابدين عليه‌السلام هنا من الله تعالىٰ أن يسلك به سبل الوصول إليه ، لا سبيلاً واحداً ، فكلما سلك الإنسان إلىٰ الله تعالىٰ مسالك وسبلاً أكثر كان وصوله إلىٰ جوار الله وقربه أوكد وأقوىٰ وابلغ.

ثم يسأل الله تعالىٰ بعد ذلك أن يلحقه بأهل البدار من عباده الصالحين الذين يسارعون إلىٰ الله ويطوون ليلهم ونهارهم علىٰ طاعة الله وعبادته.

والطريق إلىٰ الله صعب عسير ، وعن هذا الطريق يعبّر القرآن بـ « ذات الشوكة ». وكثيرون أولئك الذين بدأوا السير علىٰ هذا الطريق بعزم وصدق ، ثم تساقطوا أثناء الطريق.

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

(٢) الصف : ١٠.

(٣) البقرة : ٢٠٧.


وزين العابدين عليه‌السلام يسأل الله أن يقرب عليه البعيد ، ويسهّل عليه العسير ، في هذه الرحلة الشاقة ، وأن يلحقه بالصالحين الذين سبقوه « وهو إمام الصالحين » فإنّ رفقة الأولياء والصالحين علىٰ طريق ذات الشوكة ، تشدّ علىٰ قلوب الجميع ، وتزيد من عزمهم علىٰ مواصلة الطريق.

إنّ السير إلىٰ الله صعب ، فإذا كان جمع من الصالحين يسيرون علىٰ هذا الطريق ، يتماسكون ، ويتواصون بالحق ، ويتواصون بالصبر ... خفّ عليهم السير علىٰ طريق ذات الشوكة.

يقول علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في طبيعة هذه الرحلة الشاقة والطويلة ، وفي طلب التقريب والتخفيف والالتحاق بالصالحين علىٰ هذا الطريق : « وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك. قرّب علينا البعيد ، وسهِّل علينا العسير الشديد ، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون ، وبابك علىٰ الدوام يطرقون ، وإيّاك بالليل والنهار يعبدون ».

واردات القلوب ورواشحها :

ويصف الإمام هؤلاء الصالحين الذين يسأل الله تعالىٰ أن يلتحق بهم بهذا الوصف الجليل الذي يستحق الكثير من التفكير والتأمّل : « الذين صفّيت لهم المشارب ، وبلّغتهم الرغائب ... وملأت لهم ضمائرهم من حبك ، وروّيتهم من صافي شربك ».

فما هو هذا الشراب الصافي الطهور الذي يسقيهم ربهم في الدنيا ؟ وأيّ إناء هذا الإناء الذي يملأه الله من حبه ؟

إن هذا الشراب الصافي هو شراب « الحب » و « اليقين » و « الإخلاص » و « المعرفة ». والإناء هو « القلب ».


وقد رزق الله تعالىٰ الإنسان اوعية كثيرة للمعرفة واليقين والحب ، ولكن « القلب » هو أعظم هذه الأواني جميعاً وأوعاها.

فإذا صفّیٰ الله تعالىٰ لعبده شرب قلبه ، وسقاه شراباً صافياً طهوراً ، كان عمله وكلامه وعطاؤه أيضاً صافياً ونقياً مثل شرابه.

فإنّ بين واردات القلب وصادراته تشابهاً ومسانحة. فإذا كانت واردات القلب نقية صافية ، من نمير نقي عذاب ، كانت صادرات القلب تشبهها ، فيكون فعل العبد ، وكلامه ، ورأيه ، وأخلاقه ، وموقفه ، وعطاؤه صافياً عذباً. وإذا كانت واردات القلب قذرة أو مشوبة بالقذارة مما يوحيه الشياطين إلىٰ أوليائهم ، كانت صادرات القلب لا محالة تشبهها من كذب ونفاق وشحّ وإعراض عن الله ورسوله.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ في القلب لمتين : لمّة من الملك ، وإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، ولمّة من العدو : إيعاد بالشر وتكذيب للحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، ومن وجد الآخر فليتعوّذ بالله من الشيطان ثم قرأ « الشّيطانُ يعِدُكم الفقرَ ، ويأمُركم بالفحشاءِ واللهُ يعِدكُم مغفرةً مِنهُ وفضلاً » (١).

ولمّة الملك هي الواردات الربّانية إلىٰ القلب. ولمّة الشيطان هي الواردات الشيطانية إلىٰ القلب.

أرأيت « النحل » إذا أخذ من رحيق الأزهار أعطىٰ الناس عسلاً حلواً شهياً ، فيه شفاء للناس ، وإذا أخذ طعامه من موارد غير صافية وغير نقية كان عطاؤه كذلك ، بطبيعة الحال.

يقول تعالىٰ عن خليله ونبيه إبراهيم واسحاق ويعقوب عليهما‌السلام : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ

__________________

(١) تفسير الميزان ٢ : ٤٠٤.


ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) (١).

وإنّ هذا الوصف الجليل الذي يصف الله تعالىٰ به عطاء هؤلاء الأنبياء الكبار ، وهو القوة والبصيرة : « الأيدي والأبصار » هو نتيجة هذا الشرب الخالص الذي آتاهم الله تعالىٰ : ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ).

ولولا أن الله تعالىٰ أخلصهم بهذه الخالصة من ذكرىٰ الدار ، لم تكن لهم قوة ولا بصيرة (٢).

إذن لكي يصفو عمل الإنسان لابدّ من ان يصفو شربه ، والقلب يعطي ما يأخذ.

أصل الاختيار :

وإذا وضّحنا دور واردات القلب وما يصدر عنه ، والتشابه والتسانخ بيان هذا وذاك ، فلابدّ أن نقول : إن هذا الكلام لا ينفي بالضرورة أصل الاختيار الذي هو أساس لكثير من المفاهيم والأفكار القرآنية. وليس معنىٰ ذلك أنّ القلب وعاء فارغ يتلقّیٰ ويعطي ما يلقیٰ إليه من خيرٍ وشر ، بل القلب وعاء واعٍ ، يعي ما يلقیٰ إليه ، ويفرز الحق عن الباطل والخير عن الشر.

وهذا أصل آخر اصيل من اُصول التفكير الإسلامى ، وعلىٰ هذا الأصل ، « وعي القلب » ، وذاك : « الاختيار » تتوقف مسائل واُصول وقضايا كثيرة في الإسلام.

__________________

(١) ص : ٤٥ ـ ٤٧.

(٢) هناك علاقة تبادلية (جدلية) بين واردات القلب وصادراته ، فإذا حسنت واردات القلب حسنت صادراته ... والعكس أيضاً صحيح ، فإن الإنسان إذا حسنت أفعاله أحسن الله إليه بخالصة ذكرىٰ الدار ، وإذا ساءت أفعاله حجب الله تعالىٰ عنه صافي الشرب ، وأوكل أمره إلىٰ نفسه ، يشرب من حيث يوحي إليه الشيطان والهوىٰ ، ومما يشرب الناس علىٰ مائدة الشيطان والهوىٰ.


وقد ورد في النصوص الإسلامية تأكيد كثير علىٰ الدور الواعي للقلب في حياة الإنسان من قدرة علىٰ التشخيص ومن كفاءة عالية علىٰ فرز الحق عن الباطل.

روي أن داود عليه‌السلام ، ناجىٰ ربه فقال : « إلهي لكل ملك خزانة ، فأين خزائنك ؟ فقال جلّ جلاله : لي خزانة أعظم من العرش ، وأوسع من الكرسي ، وأطيب من الجنّة ، وأزين من الملكوت ، أرضها المعرفة ، وسماؤها الايمان ، وشمسها الشوق ، وقمرها المحبة ، ونجومها الخواطر ، وسحابها العقل ، ومطرها الرحمة ، وشجرها الطاعة ، وثمرها الحكمة ، ولها أربعة أركان : التوكل والتفكير ، والاُنسُ ، والذكر. ولها أربعة أبواب : العلم والحكمة والصبر والرضا ... ألا وهي القلب » (١).

والنص ـ كما هو بيّن ـ يتحدّث في السؤال والجواب بلغة الرمز ، وهي لغة معروفة في النصوص الإسلامية.

وروي أن الله تعالىٰ قال لموسىٰ : « يا موسىٰ جردّ قلبك لحبّي ، فإني جعلت قلبك ميدان حبي ، وبسطت في قلبك أرضاً من معرفتي ، وبنيت في قلبك شمساً من شوقي ، وأمضيت في قلبك قمراً من محبتي ، وجعلت في قلبك عيناً من التفكّر وأدرت في قلبك ريحاً من توفيقي ، وأمطرت في قلبك مطراً من تفضّلي ، وزرعت في قلبك زرعاً من صدقي ، وأنبتّ في قلبك أشجاراً من طاعتي ، ووضعت في قلبك جبالاً من يقيني » (٢).

وهذا النص أيضاً يتحدّث بلغة الرمز. وكلا النصين يشرحان الدور الواعي للقلب في فرز الحق عن الباطل والهدىٰ من الضلال.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٥ : ٣٩.

(٢) بحار الأنوار ١٥ : ٣٩.


عودة الىٰ المناجاة :

ثم ينادي عليه‌السلام الله تعالىٰ بهذا النداء الرقيق : « فيا من هو علىٰ المقبلين عليه مقبل ، وبالعطف عليهم عائد مُفضل ، وبالغافلين عن ذكره رحيم رؤوف ، وبجذبهم إلىٰ بابه ودود عطوف ».

وهذا النداء يتضمَّن نقطتين :

أن الله تعالىٰ يُقبل علىٰ من يقبل عليه ويعود عليهم بفضله.

ويعطف علىٰ الغافلين عنه ، ويذهب عنهم الغفلة بالجذبات الربانية.

وبعد هذه البداية يطلب زين العابدين عليه‌السلام من الله تعالىٰ أن يجعله من أوفر أهل الصلاح حظّاً من رحمته ، وأرفعهم منزلةً ، وأجزلهم قسماً ، يقول عليه‌السلام : « أسالك أن تجعلني من أوفرهم منك حظاً ، واعلاهم عندك منزلاً ، وأجزلهم من ودّك قسماً ، وافضلهم في معرفتك نصيباً ».

وتثير هذه الفقرة من الدعاء هذا السؤال : لقد كان الإمام يتمنىٰ أن يلحقه الله تعالىٰ بهم قبل قليل ، والآن يتمنىٰ أن يجعله الله من أوفرهم حظاً وأعلاهم منزلة عنده فكيف نضم هذا السؤال إلىٰ جنب ذلك السؤال ؟ وما الذي حدث في جو الدعاء وفي الجو النفسي للإمام حين الدعاء ، بحيث أدّىٰ إلىٰ هذه القفزه في الطلب والسؤال من طلب اللحوق بالصالحين إلىٰ طلب التقدم عليهم وإمامتهم ؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب شرح سرٍّ من اسرار الدعاء. فقد علّمنا الله تعالىٰ أن لا نفتّر في السؤال ، ولا نبخل في الدعاء ، إذا كان المولىٰ كريماً. وما اقبح البخل في السؤال عندما يكون المسؤول كريماً. لا حدّ لخزائن رحمته ، ولا نفاد لها ، ولا تزيده كثيرة العطاء إلّا جوداً وكرماً (١).

__________________

(١) في دعاء الافتتاح « الحمد لله الفاشي في الخلق أمره وحمده ، الظاهر بالكرم مجده ، الباسط بالجود يده الذي لا تنقص خزائنه ، ولا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً إنه هو العزيز الوهاب ».


وقد علّمنا الله تعالىٰ فيما علّمنا من آداب « عباد الرحمن » وأخلاقهم أن تطلب من الله تعالىٰ أن يجعلنا للمتقين إماماً ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) (١).

ونقرأ في الدعاء الوارد عن المعصومين عليهم‌السلام كثيراً هذه الفقرة الطموحة « وآثرني ولا تُؤْثِر عليَّ أحداً ».

الدعاء قاع وقمّة :

لكثير من الادعية قاع وقمة ، أمّا القاع فهو يجسّد موضع العبد وما ركب من السيئات والذنوب ، وأمّا القمة فهي تمثّل طموحه وأمله في الله سبحانه وتعالىٰ ، ولا حدّ لكرمه وجوده وخزائن رحمته.

وفي « دعاء الاسحار » يذكر زين العابدين عليه‌السلام هذا الفاصل النفسي بين القاع والقمة ، يقول عليه‌السلام : « إذا رأيتُ مولاي ذنوبي فزعتُ ، وإذا رأيتُ كرمك طمعتُ » (٢).

ويقول عليه‌السلام في الدعاء نفسه : « عظم يا سيدي أملي ، وساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي ، ولا تؤاخذني بأسوء عملي » (٣).

وفي الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لكميل بن زياد رضي‌الله‌عنه يبدأ من القاع فيقول : « اللّهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم ، اللّهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقَم ، اللّهم اغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم ، اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ... اللهم لا أجد لذنوبي غافراً ، ولا لقبائحي ساتراً ، ولا لشيء من عملي القبيح بالحسن مبدلاً غيرك ... سبحانك وبحمدك ظلمت

__________________

(١) الفرقان : ٧٤.

(٢) دعاء أبي حمزة الثمالي.

(٣) المصدر السابق.


نفسي ، وتجرّأت بجهلي ، وسكنت إلىٰ قديم ذكرك لي ومنّك عليّ ... اللهم عظم بلائي ، وأفرط بي سوء حالي ، وقصرت بي أعمالي ، وقعدت بي أغلالي ، وحبسني عن نفعي بعد أملي ، وخدعتني الدنيا بغرورها ، ونفسي بجنايتها ومطالي ... فأسالك بعزتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي ، ولا تفضحني بخفيّ ما اطلعت عليه من سرّي ... » (١).

وهذا (القاع) هو حضيض العبوديّة وما يكتنفها من سيئات. ثم ننتهي في أواخر الدعاء إلىٰ قمه الطموح التي تجسّد أمل العبد ورجاءه العظيم في رحمة الله الواسعة ، فيقول : « وهب لي الجدّ في خشيتك والدوام في الاتصال بخدمتك حتىٰ اسرح إليك في ميادين السابقين ، واُسرع إليك في البارزين ، وأشتاق إلىٰ قربك في المشتاقين ، وأدنو منك دنوّ المخلصين ... واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك ، واقربهم منزلة منك ، وأخصّهم زلفة لديك ، فإنّه لا يُنال ذلك إلّا بفضلك ... » (٢).

ونجد في الدعاء الذي يرويه أبو حمزة الثمالي عن الامام زين العابدين عليه‌السلام لأسحار شهر رمضان نفس الفاصل الكبير بين « القاع » و « القمة ». ففي البدء ينطلق من نقطة القاع ، فيقول عليه‌السلام : « وما أنا يا ربّ وما خطري ، هبني بفضلك ، وتصدَّق عليّ بعفوك ، أي رب جلّلني بسترك ، واعف عن توبيخي بكرم وجهك » (٣).

« فلا تحرقني بالنار ، وأنت موضع أملي ، ولا تُسكنّي الهاوية فإنّك قرة عيني ... ارحم في هذه الدنيا غربتي ، وعند الموت كربتي ، وفي القبر وحدتي ، وفي اللّحد وحشتي ، وإذا نُشرت للحساب بين يديك ذُلَّ موقفي ، وارحمني صريعاً علىٰ الفراش تقلّبني أيدي أحبّتي ، وتفضّل عليّ ممدوداً علىٰ المغتسل يقلّبني صالح

__________________

(١) دعاء كميل.

(٢) دعاء كميل.

(٣) دعاء أبي حمزة الثمالي.


جيرتي ، وتحنّن عليّ محمولاً قد تناول الاقرباء أطراف جنازتي ، وجُد عليّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حفرتي » (١).

ثم بعد ذلك يقول عليه‌السلام في مرحلة الطموح وقمة الدعاء : « اللّهم إنّي أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون ، يا خير من سُئل وأجود من أعطىٰ ... أعطني سؤلي في نفسي وأهلي وولدي ، وأرغد عيشي ، وأظهر مروّتي ، وأصلح جميع أحوالي ، واجعلني ممن أطلت عمره ، وحسَّنت عمله ، وأتممت عليه نعمتك ، ورضيت عنه ، وأحييته حياة طيّبة ... اللّهم خصّني بخاصة ذكرك ... ، واجعلني من أوفر عبادك نصيباً عندك في كل خير أنزلته أو تُنزله » (٢).

وهذه الرحلة من « القاع » إلىٰ « القمة » هي تعبير عن حركة الانسان إلىٰ الله ، وهي رحلة « أمل » ، و « رجاء » ، و « طموح » ، وعندما يكون أمل الانسان ورجاؤه وطموحه في الله فلا حدّ لغاية هذه الرحلة.

الوسائل الثلاثة :

ويتوسل علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام إلىٰ الله في هذه الرحلة بثلاث وسائل. وقد أمرنا الله تعالىٰ أن نبتغي إليه الوسائل. قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (٣) ، وقال : ( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (٤). والوسائل التي يتوسّل بها الامام إلىٰ الله في هذه الرحلة هي : « الحاجة » ، و « السؤال » ، و « الحب ». ولله درّه من معلّم في الدعاء ، يعرف ماذا يطلب من الله تعالىٰ ، وكيف يطلب ، وأين مواضع رحمة الله.

__________________

(١) دعاء أبي حمزة الثمالي

(٢) دعاء أبي حمزة الثمالي

(٣) المائدة : ٣٥.

(٤) الاسراء : ٥٧.


الوسيلة الاولىٰ : « الحاجة » :

فالحاجة نفسها من منازل رحمة الله ، فإن الله تعالىٰ كريم ينزل رحمته علىٰ خلقه حتىٰ الحيوان والنبات لحاجتهم من دون سؤال وطلب. دون أن يكون معنىٰ هذا الكلام نفي السؤال والطلب ، فإنّ السؤال والطلب بابان آخران من أبواب رحمة الله إلىٰ جنب « الحاجة ».

فإذا عطش الناس سقاهم ربُّهم ، وإذا جاعوا أطعمهم ، وإذا عروا كساهم ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (١) ، حتىٰ ولو لم يعرفوا الله تعالىٰ ، ولم يعرفوا كيف يدعونه ، وماذا يطلبون منه ، « يا من يعطي من سأله ، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة » (٢).

وفي مناجاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام تجد التفاتاً رائعاً لهذه النكتة الربّانية في استنزال رحمة الله تعالىٰ :

« مولاي يا مولاي أنت المولىٰ وأنا العبد ، وهل يرحم العبد إلّا المولىٰ. مولاي يا مولاي أنت المالك وأنا المملوك ، وهل يرحم المملوك إلّا المالك. مولاي يا مولاي أنت العزيز وأنا الذليل ، وهل يرحم الذليل إلّا العزيز. مولاي يا مولاي أنت الخالق وانا المخلوق ، وهل يرحم المخلوق إلّا الخالق. مولاي يا مولاي انت العظيم وأنا الحقير ، وهل يرحم الحقير إلّا العظيم. مولاي يا مولاي أنت القوي وأنا الضعيف ، وهل يرحم الضعيف إلّا القوي. مولاي يا مولاي أنت الغني وأنا الفقير ، وهل يرحم الفقير إلّا الغني. مولاي يا مولاي أنت المعطي وأنا السائل ، وهل يرحم السائل إلّا المعطي. مولاي يا مولاي أنت الحيّ وأنا الميّت ، وهل يرحم الميّت إلّا الحيّ. مولاي يا مولاي أنت الباقي وأنا الفاني ، وهل يرحم الفاني

__________________

(١) الشعراء : ٨٠.

(٢) من أدعيه شهر رجب.


إلّا الباقي. مولاي يا مولاي أنت الدائم وأنا الزائل ، وهل يرحم الزائل إلّا الدائم. مولاي يا مولاي أنت الرازق وأنا المرزوق ، وهل يرحم المرزوق إلّا الرازق. مولاي يا مولاي أنت الجواد وانا البخيل ، وهل يرحم البخيل إلّا الجواد. مولاي يا مولاي أنت المعافي وأنا المبتلىٰ ، وهل يرحم المتبلىٰ إلّا المعافي. مولاي يا مولاي أنت الكبير وأنا الصغير ، وهل يرحم الصغير إلّا الكبير. مولاي يا مولاي أنت الهادي وأنا الضالّ ، وهل يرحم الضالّ إلّا الهادي. مولاي يا مولاي أنت الغفور وأنا المذنب ، وهل يرحم المذنب إلّا الغفور. مولاي يا مولاي أنت الغالب وأنا المغلوب ، وهل يرحم المغلوب إلّا الغالب. مولاي يا مولاي أنت الرب وأنا المربوب ، وهل يرحم المربوب إلّا الرب. مولاي يا مولاي أنت المتكبّر وأنا الخاشع ، وهل يرحم الخاشع إلّا المتكبّر. مولاي يا مولاي ارحمني برحمتك ، وارضَ عني بجودك وكرمك وفضلك. يا ذا الجود والإحسان ، والطول والامتنان » (١).

والامام أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه الفقرات من المناجاة الرائعة يتوسّل إلىٰ الله تعالىٰ بحاجته وفقره ، ويضع حاجة العبد وفقره في موضع استنزال رحمة الله.

فإن المخلوق يستنزل رحمة الخالق ، والحقير يستنزل رحمة العظيم ، والضعيف يستنزل رحمة القوي ، والفقير يستنزل رحمة الغني ، والمرزوق يستنزل رحمة الرازق ، والمبتلىٰ يستنزل رحمة المعافي ، والضالّ يستنزل رحمة الهادي ، والمذنب يستنزل رحمة الغفور ، والمتحيّر يستنزل رحمة الدليل ، والمغلوب يستنزل رحمة الغالب.

وهذه من السنن الكونيّة لله تعالىٰ ، ولن تتبدل سنن الله ، فمهما كانت حاجته

__________________

(١) مفاتيح الجنان ، أعمال مسجد الكوفة ، مناجاة أمير المؤمنين عليه‌السلام.


وفقره كانت رحمة الله وفضله عندهما. وكما ينزل الماء إلىٰ الموضع المنخفض ، تنزل رحمة الله تعالىٰ علىٰ مواضع الحاجة ، وذلك أنه تعالىٰ كريم جواد ، والكريم يرعىٰ مواضع الحاجة ويخصّها برحمته.

يقول الامام زين العابدين عليه‌السلام في دعاء الاسحار الذي علّمه لأبي حمزة الثمالي : « أعطني لفقري ، وارحمني لضعفي » ، فيجعل من فقره وضعفه وسيلةً يتوسّل بهما إلىٰ رحمة الله.

وطبيعي أن هذا الكلام لا يمكن أن يؤخذ علىٰ إطلاقه ، وعلىٰ طريقة العامل الواحد ، فإن هناك عوامل اُخرىٰ تستنزل رحمة الله تعالىٰ ، وهناك موانع وحجب تحجب رحمة الله ، وهناك عامل الابتلاء في سنن الله تعالىٰ.

وعندما نقول : إن الحاجة والفقر يستنزلان رحمة الله تعالىٰ ينبغي ان نأخذ هذا الكلام ضمن هذا النظام الإلهي الشامل. وهذا باب واسع من المعرفة لا نريد ان ندخله الآن ، وعسىٰ أن يوفقني الله تعالىٰ لشرح هذه الحقيقة بما تستحق من التوضيح.

ونجد في القرآن الكريم نماذج من عرض « الحاجة » و « الفقر » لاستنزال رحمة الله تعالىٰ ، واستنزال الاجابة من عند الله. وللحاجة إجابة ، كما للدعاء والسؤال إجابة ، فإن عرض الحاجة نحوٌ من الدعاء. وهذه النماذج يذكرها القرآن علىٰ لسان عباد الله الصالحين :

١ ـ من هذه النماذج حاجه العبد الصالح الممتحن والمبتلىٰ أيوب عليه‌السلام ، عندما نادىٰ الله تعالىٰ وهو في غمرة الابتلاء والمحنة : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ


وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ ) (١).

ولا دعاء في هذه الفقرة التي يحكيها القرآن الكريم عن لسان هذا العبد الصالح المبتلىٰ ، ولكنّ الله تعالىٰ يقول : ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ) وكأنَّ عرض الحاجة والفقر نحوٌ من الدعاء.

٢ ـ والعبد الصالح ذو النون يعرض فقره وحاجته وظلمه لنفسه علىٰ الله تعالىٰ ، وهو في ظلمات بطن الحوت في البحر : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) (٢).

والاستجابة كذلك ليست للطلب وإنّما للحاجة والفقر ، فلم يزد العبد الصالح ذو النون عليه‌السلام علىٰ هذه الكلمة ( سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فاستجاب الله تعالیٰ له ، ونجّاه من الغم ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ).

٣ ـ ونلتقي في القرآن بكلمة كليم الله موسىٰ بن عمران وأخيه هارون ، عندما دعاهما الله تعالىٰ ليحملا رسالته إلىٰ فرعون ( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ ) (٣) ، فلم يطلبا من الله تعالىٰ أن يحميهما من فرعون وجلاوزته ، ويوفّر لهما الأمن الذي يحتاجانه. وإنّما ذكرا لله ضعفهما وخوفهما من بطش فرعون ، وقوّة فرعون وبطشه ( إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ ) ، فاستجاب الله لحاجتهما إلىٰ الحماية والدعم والتأييد ( قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ) (٤).

٤ ـ والنموذج الرابع كلمة العبد الصالح نوح عليه‌السلام ، عندما عرض علىٰ الله

__________________

(١) الانبياء : ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) الانبياء : ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) طه : ٤٣ ـ ٤٥.

(٤) طه : ٤٦.


حاجته إلىٰ إنقاذ ابنه من الطوفان ( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) (١) ، وهو طلب في غاية الادب من هذا العبد الصالح ، فلم يطلب من الله تعالىٰ إنقاذ ابنه ، وإنّما عرض حاجته إلىٰ انقاذ ابنه من الغرق فقط.

ومهما يكن من أمر فإنّ « الحاجة » و « الفقر » من مواطن نزول رحمة الله تعالىٰ. وحتىٰ الحيوانات والنباتات تستنزل رحمة الله تعالىٰ بحاجتها وفقرها.

فإذا عطشت سقاها الله تعالىٰ ورواها ، وإذا جاعت أشبعها الله تعالىٰ وأطعمها. وهذا باب واسع من المعرفة ؛ وقد سبق أن بيّنتُ طرفاً من ذلك في كتاب « شرح الصدر » من « رحاب القرآن » وعسىٰ أن يقيّض الله تعالىٰ من يشرح ذلك.

وفي تاريخ الانبياء نلتقي بثلاثة مشاهد لاستجابة الله تعالىٰ في وقت واحد : أحدهما استجابة للحاجة والفقر « غير الواعي » ، والآخر استجابة للدعاء والسؤال « الفقر الواعي » ، والثالث استجابة للسعي والحركة والعمل ، وهو الموطن الثالث من مواطن الاستجابة. وذلك في قصة اسماعيل عليه‌السلام واُمه هاجر عندما ذهب ابراهيم عليه‌السلام بهما ، واسماعيل يومئذ طفل يرضع ، إلىٰ وادٍ غير ذي زرع استجابة لأوامر الله تعالىٰ ، وقال : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ) (٢).

فلما نفد ما ترك لهما إبراهيم عليه‌السلام من الماء غلب العطش علىٰ الطفل الرضيع « اسماعيل » فأخذ يصرخ ويضرب بيديه ورجليه ، وكانت اُمّه « هاجر » تسعىٰ بحثاً عن الماء بين « الصفا » و « المروة » وتصعد هذا الجبل حيناً تطلُّ منه علىٰ الصحراء باحثةً عن الماء ، وتصعد الآخر حيناً ، وهذا هو (السعي) الموطن الآخر

__________________

(١) هود : ٤٥.

(٢) إبراهيم : ٣٧.


لنزول رحمة الله.

وهي في ذلك كله تدعو الله تعالىٰ أن يسقيهما الماء في هذه الصحراء القاحلة ، وهذا هو الدعاء والسؤال « الفقر الواعي ». فاستجاب الله تعالىٰ لحاجة الطفل وفقره ، ولسعي الام وحركتها ، ودعائها وسؤالها ، فتفجّرت الارض من تحت أقدام الطفل الرضيع « اسماعيل » في موضع زمزم الحالي ، فانحدرت الام من الجبل إلىٰ طفلها تسقيه وتجمع الماء وتحوطه لئلا يذهب الماء هدراً ، وتقول : « زم ... زم » وهذا المشهد الذي يحييه الحجاج ويعيدونه كل عام في أعمال الحج ، مشهد من أروع مشاهد « علاقة العبد بالله تعالىٰ ».

ولهذه العلاقة ثلاثة منطلقات :

١ ـ الحاجة والفقر.

٢ ـ السعي والحركة.

٣ ـ الدعاء والسؤال.

وهي الوسيلة الاولىٰ التي يقدّمها الامام زين العابدين عليه‌السلام بين يدي حاجاته إلیٰ الله.

الوسيلة الثانية : « الدعاء » وهو من مفاتيح رحمة الله تعالىٰ.

يقول تعالىٰ ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (١) ، ويقول ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) (٢).

__________________

(١) غافر : ٦٠.

(٢) الفرقان : ٧٧.


الوسيلة الثالثة : « الحب » ، وإن العبد يستنزل من رحمة الله تعالىٰ بـ « الحب » ما لا يستنزله بأمر آخر.

والآن تأمّلوا في هذه الوسائل الثلاثة التي يتوسّل بها زين العابدين عليه‌السلام إلىٰ الله تعالىٰ :

« رضاك بغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وعندك دواء علّتي ، وشفاء غلّتي ، وبرد لوعتي ، وكشف كربتي ». وهذه هي وسيلة « الحاجة والفقر ».

« جوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ... فكن أنيسي في وحشتي ، ومقيل عثرتي ، وغافر زلّتي ، وقابل توبتي ، ومجيب دعوتي ، ووليّ عصمتي ، ومغني فاقتي ». وهذه وسيلة « الدعاء ».

« فأنت لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سهري وسهادي ، ولقاؤك قرّة عيني ، ووصلك منىٰ نفسي ، وإليك شوقي ، وفي محبتك ولهي ، وإلىٰ هواك صبابتي ». وهذه وسيلة « الحب ».

والآن نتأمل في هذه الفقرة من كلام الامام ، وهي رائعة من روائع الدعاء ، وإنّ للدعاء روائع كما للفن والادب ، يقول عليه‌السلام : « فقد انقطعت إليك همّتي ، وانصرفت نحوك رغبتي ، فأنت لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سهري وسهادي ، ولقاؤك قرّة عيني ».

وفي « الانقطاع » ما ليس في « التعلّق » والامام لا يقول : فقد تعلّقت بك هممي ، لأن التعلّق بالله لا ينفي التعلّق بغيره ، وإن كان العبد صادقاً في تعلّقه بالله ، وإنّما يقول : « فقد انقطعت إليك همّتي » ، فإن الانقطاع يتضمّن معنىً إيجابياً وسلبياً معاً ، فإنه انقطاع « من الخلق إلىٰ الله » ، والانقطاع « من الخلق » هو المعنىٰ السلبي الذي يقصده الامام في هذه الفقرة ، و « إلىٰ الله » هو المعنىٰ الايجابي الذي يقصده.

فإن الاخلاص في الحب « فصل » و « وصل » ؛ فصل مما عدا الله ، ووصل بالله


وبمن يحبّ الله ويأمر بحبّه ، وهما وجهان لقضية واحدة.

فإن « الحبّ » إذا صفا وخلص تضمّن وجهين : « ولاءً » و « براءةً » و « وصلاً » و « فصلاً » و « انقطاعاً » من الخلق « إلىٰ الله ».

ونفس المعنىٰ تتضمّنه الفقرة الثانية : « وانصرفت إليك رغبتي ».

فإنّ الانصراف إلىٰ الله « إعراض » و « إقبال » معاً ، « إعراض » عمّا عدا الله « وإقبال » علىٰ الله وما يأمر به ويحبّه.

ثم يأتي التأكيد الثالث لهذه الحقيقة ، وهو أبلغها جميعاً ، ويحمل من معاني الحب والانصراف إلىٰ الله ، والانقطاع عمّا عداه ما يعجز عن أدائه ووصفه التعبير : « فأنت لا غيرك مرادي ولك لا لسواك سهري وسهادي ».

و « السَهَر » و « السُّهاد » خلاف النوم ، إلّا أن « السَهَر » هو قيام الليل في حالة « الاُنس » ، و « السهاد » نحوٌ من الأرق ينتاب الانسان عندما يشغله شيء يهمه ، ويسلب عنه النوم ، وهو هنا الحنين والشوق إلىٰ الله.

إذن هما يمثّلان حالتين من حالات الحب : « الاُنس » و « الشوق ». اُنسٌ بذكر الله وبحضور الله عند العبد حيث يحس بحضور الله في دعائه ، وذكره ، ومناجاته ، وصلاته ، وشوقٌ إلىٰ لقاء الله.

والمحب يشعر بهذا أو ذاك معاً عندما يقف بين يدي الله تعالىٰ ، وهذا وذاك ينفيان عنه النوم ويؤرّقانه ، حين يستسلم الناس للنوم ، ويفقدون وعيهم وشعورهم بالنوم.

والنوم حاجة ، من دون شك ، يأخذ الناس جميعاً حظّهم منه ، الصالحون والطالحون ، وحتىٰ الانبياء والصديقون ينامون.

ولكن فرق هائل بين من يأخذ حاجته من النوم ، كما يأخذ حاجته من الأکل والشرب ، وبين من يستسلم للنوم ويتحكّم النوم فيه.


أمّا أولياء الله فلا يستسلمون للنوم ، وإنّما النوم عندهم حاجة يأخذون منه حظّهم. ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينام إلّا هنيّة حتىٰ يقوم بين يدي الله ، وكان يأمر أن يوضع وضوؤه عند رأسه ليقوم بين يدي الله ، كلّما أخذ نصيباً من هذه الحاجة الطبيعية.

ولقد كان يفرش له الفراش الوثير والمريح فيأمر برفعه لئلّا يستدرجه ذلك للاستسلام للنوم.

وكان ينام علىٰ الحصير الخشن حتىٰ أثّر الحصير في جنبه لكيلا يستغرق في النوم.

وقد أودع الله تعالىٰ في هدأة الليل من كنوز مناجاته وذكره وقربه ما ليس في النّهار ، ولليل رجال كما للنهار رجال ، يقومون إذا نام الناس ، وينشطون إذا خمل الناس ، ويعرجون إلىٰ الله إذا استسلم الناس للنوم وسقطوا علىٰ فراشهم.

ولليل دولة كما للنهار دولة ، وفي الليل كنوز كما في النهار كنوز. والناس يعرفون دولة النهار ورجاله وكنوزه ، وقليل من الناس من يعرف قيمة دولة الليل وكنوزه ورجاله. فإذا أخذ الانسان من دولتي الليل والنهار معاً كان سوياً راشداً متوازناً.

ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رجال الليل والنهار معاً ، يأخذ من هذا وذاك بصورة متوازنة ، يأخذ من الليل الحب والاخلاص والذكر ، ويأخذ من النّهار القوة والسلطان والمال ، لتمكين الدعوة وترسيخها وكانت ناشئة الليل تعينه ، وتمكّنه من حمل عبء الرسالة الثقيل. يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ


سَبْحًا طَوِيلًا ) (١).

ويعجبني أن أنقل هنا هذا النص من الحديث القدسي في الليل ورجاله.

روي أنه تعالىٰ أوحىٰ إلىٰ بعض الصدّيقين : « إن لي عباداً من عبادي يحبّوني فاُحبّهم ، ويشتاقون إليّ وأشتاق اليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، وينظرون إليّ وأنظر اليهم ، وإن حذوتَ طريقهم أحببتُك ، وإن عدلت عنهم مقتّك. قال : يا رب ، وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ، ويحنّون إلىٰ غروب الشمس ، كما يحنّ الطير إلىٰ وكره عند الغروب ، فإذا جنّهم الليل ، واختلط الظلام ، وفرشت الفرش ، ونصبت الأسرّة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إليّ أقدامهم وافترشوا إليّ وجوههم ، وناجوني بكلامي ، وعلقوا إليّ بأنغامي. فمن صارخٍ وباكٍ ، ومتأوّهٍ شاكٍ ، ومن قائمٍ وقاعدٍ وراكعٍ وساجدٍ. بعيني ما يتحمّلون من أجلي ، وبسمعي ما يشكون من حبّي ، أول ما أعطيهم ثلاث :

١ ـ اقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عنّي ، كما اُخبر عنهم.

٢ ـ والثانية : لو كانت السموات والأرض في موازينهم لاستقللتها لهم.

٣ ـ والثالثة : اُقبل بوجهي عليهم ، أَفترىٰ من أقبلت بوجهي عليه يعلم أحد ما أريد أن اُعطيه ؟ » (٢).

وروي عن الامام الباقر عليه‌السلام : « كان مما أوحىٰ الله تعالىٰ إلىٰ موسىٰ بن عمران : « كذب من زعم أنّه يحبّني ، فإذا جنّه الليل نام عنّي ، يا بن عمران ، لو رأيت الذين يقومون لي في الدجىٰ ، وقد مثلت نفسي بين أعينهم ، يخاطبوني وقد جللت عن المشاهدة ، ويكلّموني وقد عززت عن الحضور. يا بن عمران ، هب لي من عينيك الدموع ، ومن قلبك الخشوع ، ثم ادعني في ظلمة الليالي تجدني قريباً

__________________

(١) المزمل : ١ ـ ٧.

(٢) لقاء الله : ١٠٤.


مجيباً » (١).

وفي خطبة المتقين من « نهج البلاغة » يصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لهمّام حال أولياء الله في مناجاتهم إذا جنّهم اللّيل ، وذِكرهم ووقوفهم بين يدي ربّهم ، فيقول عليه‌السلام : « أمّا الليل فصافّون أقدامهم ، تالين لاجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً ، يحزِّنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً ، وتطلّعت نفوسهم ، إليها شوقاً ، وظنّوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أن زفير جهنم وشهيقَها في اُصول آذانهم ، فهم حانون علىٰ أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم ، وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلىٰ الله تعالىٰ في فكاك رقابهم.

وأمّا النهار فحلماء ، علماء ، أبرار ، أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح ... » (٢).

صورة اُخرىٰ من صور الشوق إلىٰ الله في مناجاة الامام زين العابدين عليه‌السلام. يقول زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام : « إلهي فاجعلنا من الذين ترسّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم ، وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم ، فهم إلىٰ أوكار الافكار يأوون ، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ، ومن حياض المحبّة بكأس الملاطفة يكرعون ، وشرائع المصافاة يردون ، قد كُشف الغطاء عن أبصارهم ، وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم وضمائرهم ، وانتفت مخالجة الشكّ عن قلوبهم وسرائرهم ، وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم ، وعذب في معين المعاملة شربهم ، وطاب في مجلس الاُنس سرّهم ، وأمن في موطن المخافة سربهم ، واطمأنت بالرجوع إلىٰ ربّ الأرباب أنفسهم ، وتيقّنت بالفوز والفلاح

__________________

(١) لقاء الله : ١٠١.

(٢) نهج البلاغة : ٣٠٣.


أرواحهم ، وقرّت بالنظر إلىٰ محبوبهم أعينهم ، واستقر بإدراك السؤل ونيل المأمول قرارهم ، وربحت في بيع الدنيا بالآخرة تجارتهم.

إلهي ما ألذ خواطر الإلهام بك علىٰ القلوب ، وما أحلىٰ المسير إليك بالاوهام في مسالك الغيوب ، وما أطيب طعم حبّك ، وما أعذب شرب قربك. فأعذنا من طردك وإبعادك ، واجعلنا من أخصّ عارفيك واصلح عبادك ، واصدق طائعيك وأخلص عُبّادك » (١).

ولا يسعنا الوقت أن نقف للتأمّل عند هذه المناجاة التي هي رائعة من روائع أهل البيت عليهم‌السلام في الدعاء والمناجاة. ونخرج عن الصدد والغاية من هذا البحث ، ولكن أودّ أن أقف قليلاً عند هذه الجملة التي يبدأ بها الامام علي بن الحسين عليه‌السلام مناجاته : « إلهي واجعلنا من الذين ترسَّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم ، وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم » ، فإن صدور أولياء الله كما يظهر من كلام الامام حدائق ذات بهجة ، وذات ثمار طيبة ، وإن صدور الناس علیٰ أنحاء : فمن الصدور مكاتب ومدارس للعلم ، والعلم خير ونور ، ولكن علیٰ أن يبقیٰ الصدر حديقة للشوق إلىٰ الله ، ومن الصدور متاجر وبنوك وبورصات للمال تزدحم بالارقام وجداول الإحصاء وحسابات الربح والخسارة. والمال والتجارة خيرٌ بشرط أن لا يكون الشغل الشاغل لقلب الانسان وصدره ، ولا يكون همّه الذي لا يفارقه. ومن الصدور أراض سبخة ينبت فيها الشوك والحنظل والسموم والاحقاد والصراع علىٰ المال والسلطان والكيد والمكر بالآخرين. ومن الصدور ملاهٍ وملاعب ، والدنيا لهوٌ ولعبٌ لطائفة واسعة من الناس.

ومن الناس من ينشطر صدره إلىٰ شطرين : شطر للسموم والاحقاد ،

__________________

(١) مفاتيح الجنان : مناجاة العارفين.


والمكر والكيد ، والشطر الآخر للّهو وللّعب. فإذا أقلقه الشطر الأول وسلب راحته واستقراره لجأ إلىٰ الشطر الثاني ، واستعان باللهو لكي ينقذ نفسه من عذاب الشطر الأول.

وأما صدور أولياء الله ، فهي حدائق الشوق ـ كما يقول زين العابدين ـ ذات بهجة وثمار طيّبة ، وقد ترسَّخت فيها أشجار الشوق وامتدت فيها جذورها ، فليس الشوق إلىٰ الله فيها أمراً طارئاً يزول إذا ألحّ عليه الهوىٰ أو أقبلت وتزيّنت له الدنيا ، ولا يخفّ هذا الشوق ولا تذبل أوراقه إذا ضاقت بصاحبه الدنيا ، وتراكمت عليه الابتلاءات ، فإن أشجار الشوق إذا كانت راسخة في هذه الصدور تبقیٰ مورقة وخضراء ومثمرة رغم كل العقبات والمتاعب.

وحالة الشوق حالة خفّة الروح ، وهي حالة معاكسة للتثاقل والركون إلىٰ الدنيا التي تتحدث عنها الآية الكريمة : ( مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ) (١) ، إن النفس تثقل ، وتترهّل ، كلما تعلّق الانسان بالدنيا ورضيها ، وركن إليها. فإذا تحرّر من الدنيا ، وانتزع نفسه (٢) منها خف ، فجذبه حبُّ الله تعالىٰ والشوق إليه.

ولنقف عند هذا الحد من استعراض صور الحبّ والشوق والاُنس من نصوص أدعية أهل البيت عليهم‌السلام وننصرف إلىٰ غير ذلك من مباحث « الحب الإلهي ».

__________________

(١) التوبة : ٣٨.

(٢) ليس معنىٰ التحرر من الدنيا تركها ، فقد كان رسول الله متحرراً من الدنيا ، وهو يعمل لتمكين الدعوة من الدنيا وإخضاع الدنيا لها.


إخلاص الحب لله :

وهذه مقولة فوق مقولة توحيد الحب. فإن توحيد الحب لا ينفي اي حب آخر غير حب الله ، ولكنه يحكّم حب الله تعالىٰ ويغلّبه علىٰ أي حب آخر ، فيكون حب الله هو الحب الغالب الحاكم ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ ) (١) ، وهو من شروط الايمان وفرع من فروع التوحيد.

أما إخلاص الحب لله فهو ينفي أيّ حب آخر غير حب الله ، إلّا أن يكون في امتداد حبّ الله « الحب لله ، والبغض لله » وهو ليس من شؤون الإيمان والتوحيد ، ولكنه من شؤون الصدّيقين ومقاماتهم. فإن الله تعالىٰ يمكّن أولياءه وعباده الصالحين من تفريغ قلوبهم من كل حبّ وودّ غير حبّه وودّه.

وقد روي عن الإمام أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « القلب حرم الله ، فلا تُسكن حرَم الله غير الله » (٢). وهذه صفة خاصة للقلب ، فإن الجوارح تسعىٰ وتتحرّك في الحياة باتجاهات وشؤون شتّىٰ فيما أباحه الله تعالىٰ وأجازه ، أما القلب فهو حرم الله تعالىٰ ولا ينبغي أن يحلّ فيه حبّ لغير الله وتعلّق بسواه.

والتعبير عن « القلب » في النص بـ « الحرم » دقيق ومعبّر ؛ فإن الحرم منطقة آمنة ومغلقة علىٰ كل غريب ، لا ينال أهلها سوء أو خوف ، ولا يدخلها غريب ، وكذلك القلب حرم الله الآمن ، لا يدخله حبّ آخر غير حبّ الله ، ولا يمسّ فيه حبّ الله سوء أو خوف.

ولذلك فإن الصدّيقين والاولياء من عباد الله يخلصون الحب لله ، ولا يجمعون بين حبّ الله وحبّ آخر ، مهما كان إلا أن يكون في امتداد حب الله.

وفي المناجاة التالية نلمس لوعة الحبّ وصدق الاخلاص في الحبّ في

__________________

(١) البقرة : ١٦٥.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٥.


كلمات زين العابدين عليه‌السلام : « سيّدي إليك رغبتي ، وإليك رهبتي ، وإليك تأميلي ، وقد ساقني إليك أملي ، وعليك يا واحدي عكفت همّتي ، وفيما عندك انبسطت رغبتي ، ولك خالص رجائي وخوفي ، وبك أنست محبّتي ، وإليك ألقيت بيدي ، وبحبل طاعتك مددت رهبتي ، يا مولاي بذكرك عاش قلبي ، وبمناجاتك برّدت أمل الخوف عني ... » (١).

فالامام عليه‌السلام في هذه المقطوعة من المناجاة يربط رغبته ورهبته وأمله كلّها بالله ، ويعكف بهمّته كلّها عليه تعالىٰ ، ويجعل له خالص رجائه وخوفه.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحبّوا الله من كلّ قلوبكم » (٢). وفي الدعاء عن الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : « اللهم إنّي أسألك أن تملأ قلبي حباً لك ، وخشية منك ، وتصديقاً لك ، وإيماناً بك ، وفرقاً منك ، وشوقاً إليك » (٣).

وإذا كان حبّ الله والشوق إليه ملء قلب العبد فلا يبقیٰ في قلبه محلّ شاغر لحبّ آخر غير حبّ الله ، إلّا أن يكون في امتداد حبّه تعالىٰ ، وهو في الحقيقة من حبّ الله ومن الشوق إليه.

في الدعاء عن الامام الصادق عليه‌السلام عند حضور شهر رمضان : « صلّ علىٰ محمّد وآل محمّد واشغل قلبي بعظيم شأنك ، وارسل محبّتك إليه حتىٰ ألقاك وأوداجي تشخب دماً » (٤). وهو بمعنىٰ إخلاص الحبّ لله ، حيث يكون حبّ الله هو الشغل الشاغل للقلب وهمّه الذي لا يفارقه.

__________________

(١) دعاء أبي حمزة الثمالي.

(٢) كنز العمال ٤٧ : ٤٤.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٩.

(٤) بحار الأنوار ٩٧ : ٣٣٤.


غيرة الله علىٰ عبده :

إن الله تعالىٰ يحبّ عبده ، ومن خصائص الحبّ الغيرة ، فهو علىٰ قلب عبده غيور ، يحبّ أن يخلص له عبده حبّه ولا يحبّ غيره ، ولا يسمح بحبّ آخر أن يدخل قلبه.

وروي أن موسیٰ بن عمران عليه‌السلام ناجیٰ ربّه بالوادي المقدّس ، فقال : « يا ربّ ، إني أخلصت لك المحبّة منّي ، وغسلت قلبي عمّن سواك » وكان شديد الحبّ لأهله ، فقال الله تبارك وتعالىٰ : « ... انزع حبّ أهلك من قلبك إن كانت محبّتك لي خالصة » (١).

ومن غيرة الله تعالىٰ علىٰ عبده أن يزيل حبّ الأغيار من قلب عبده ، وإذا وجد أن عبده قد تعلّق قلبه بغيره سلبه عنه حتىٰ يخلص قلب عبده لحبّه. وقد ورد في الدعاء عن الامام الحسين عليه‌السلام : « أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك ، حتىٰ لم يحبّوا سواك ... ماذا وجد من فقدك ، وما الذي فقد من وجدك ، لقد خاب من رضي دونك بدلاً » (٢).

ويعجبني أن أنقل بهذا الصدد هذه القصه المربّية التي يرويها الشيخ حسن البنا في كتابه « مذكرات الدعوة والداعية » : يقول حسن البناء : رزق الله الشيخ شلبي أحد مشايخ مصر في العرفان والاخلاق بنتاً في مرحلة متأخرة من عمره ، فولع بها الشيخ ولعاً شديداً وشغف بها حتىٰ كاد لا يفارقها إلىٰ أن كبرت. وكان يزداد حباً لها كلّما شبّت وكبرت.

ولقد زاره الشيخ البنا مع جمع من أصحابه في بعض الليالي بعد انصرافهم من موكب فرح ، انطلقوا فيه من دار قرب دار الشيخ شلبي في ليلة عيد ميلاد

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٣ : ٢٣٦.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وبعد عودتهم جلسوا مع الشيخ شلبي قليلاً. ولما أرادوا الانصراف قال لهم الشيخ بابتسامة رقيقة لطيفة : إن شاء الله غداً تزورونني لندفن روحية.

وروحية هذه وحيدته التي رُزقها بعد إحدىٰ عشرة سنة من زواجه ، وكان لا يفارقها حتىٰ في عمله. وقد شبّت وترعرعت ، وأسماها « روحية » لانها كانت تحتل منه منزلة الروح.

يقول البنا : فاستغربنا وسألناه ، ومتىٰ توفيت ؟ فقال : اليوم قبيل المغرب. فقلنا : ولماذا لم تخبرنا فنخرج من منزل آخر بموكب التشييع ؟ فقال : وما الذي حدث ؟ لقد خفف عنا الحزن ، وانقلب المأتم فرحاً ، فهل تريدون نعمة من الله أكبر من هذه النعمة ؟

وانقلب الحديث إلىٰ درس تصوّف يلقيه الشيخ ، ويعلّل وفاة كريمته بغيرة الله علىٰ قلبه ، فإن الله يغار علىٰ قلوب عباده الصالحين أن تتعلق بغيره ، أو تنصرف إلىٰ سواه. واستشهد بابراهيم عليه‌السلام وقد تعلّق قلبه باسماعيل فأمره الله أن يذبحه ، ويعقوب عليه‌السلام إذ تعلّق قلبه بيوسف فأضاعه الله منه عدة سنوات. ولهذا يجب أن لا يتعلق قلب العبد بغير الله تبارك وتعالىٰ ، وإلّا كان كاذباً في دعوىٰ المحبة.

وساق قصة الفضيل بن عياض وقد أمسك بيد ابنته الصغرىٰ فقبّلها فقالت له : يا أبتاه أتحبني ؟ فقال : نعم يا بنيّة ، فقالت : والله ما كنت أظنّك كذّاباً قبل اليوم. فقال : وكيف ذلك ؟ ولم كذبت ؟ فقالت : لقد ظننت أنك بحالك هذه مع الله لا تحبّ معه أحداً ، فبكىٰ الرجل وقال : يا مولاي ، حتىٰ الصغار قد اكتشفوا رياء عبدك الفضيل ! وهكذا من هذه الاحاديث التي كان الشيخ شبلي يحاول أن يسرّي بها عنا ، ويصرف ما لحقنا من ألم لمصابه وخجل لقضاء هذه الليلة عنده. وانصرفنا وعدنا إليه في الصباح حيث دفنّا روحية. ولم نسمع صوت نائحة ، ولم ترتفع


حنجرة بكلمة نابية ، ولم نرَ إلّا مظاهر الصبر والتسليم لله العلي الكبير.

الحبّ لله وفي الله :

يبقیٰ علينا أن نجيب عن السؤال التالي ، فقد نفسر إخلاص الحبّ لله بهذا المعنىٰ علىٰ خلاف طبيعة الانسان وفطرته ، فإن الله تعالىٰ فطر الانسان علىٰ حب أشياء كثيرة ، وكُره أشياء كثيرة ، وإخلاص الحبّ لله بهذا المعنىٰ ينافي هذه الفطرة التي فطر الله تعالىٰ خلقه عليها.

والجواب : أن إخلاص الحبّ لله ليس بمعنىٰ التنكّر للفطرة ، وإنّما هو بمعنىٰ توجيه الحب والكره من خلال ما يحبّ الله تعالیٰ وما يكره. فالله تعالیٰ لا يريد من عبده وكليمه موسیٰ بن عمران عليه‌السلام أن ينتزع حبّ أهله من قلبه ، وإنّما يريد أن يكون حبّه لأهله من خلال حبّه ، وأن يكون حبّه هو المصدر الوحيد لكلّ حبّ في قلبه. وبتعبير آخر : إن الذي يطلبه الله تعالیٰ من عبده وكليمه موسیٰ بن عمران عليه‌السلام هو ربط كلّ حبّ بقناة حبّه تعالىٰ ، فيكون عندئذٍ حبّه لأهله تكريساً لحبّه تعالىٰ ، وهو معنىً دقيق ، واُسلوب رائع في التربية لا يناله إلّا من اختصّه الله تعالىٰ يحبّه واصطفاه. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من أكثر الناس خلوصاً وصفاءً ونقاءً كان يقول : « حُبّب إليّ من دنياكم : النساء ، والطيب ، وقرّة عيني في الصلاة » (١).

وليس من شكّ أن هذا الحبّ هو من الحبّ الذي يقع في امتداد حبّ الله. فإن أحبّ هذه الثلاثة إلىٰ قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة ، فهي قرّة عينه. وليس من شك أن حبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها يقع في امتداد حبّه لله تعالىٰ.

فليس في « إخلاص الحبّ لله » تخريب للفطرة وتشويش للطبيعة التي خلقها الله تعالىٰ ، وإنّما هو إعادة لتنظيم خارطة الحبّ والبغض في حياة الانسان

__________________

(١) الخصال : ١٦٥.


بهذا الملاك الجديد الذي يطرحه الاسلام.

فيبقیٰ حبّ الانسان الطبيعي في مواضعه ، ولكن ضمن تنظيم جديد يكرّس حبّ العبد لله تعالىٰ بدل أن يضعفه ويشوّش عليه.

ولهذا السبب فقد ورد تأكيد بليغ في النصوص الاسلامية في قيمة « الحب لله وفي الله ». فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « المحبّة لله أقرب نسب » (١).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « المحبّة في الله آكد من وشيج الرحم » (٢).

والتعبير دقيق ويعتمد علىٰ أصل فكري مهم ، فإن للناس في حياتهم أنساباً ووشائج من العلاقات. ومن أوثق هذه الوشائج وشيجة الرحم. والعلاقة بالله تعالیٰ آكد من وشيجة الرحم. وإذا ربط الانسان حبّه وتعلّقه بهذه الوشيجة ، وأحبّ من خلالها ، وأبغض من خلالها ، كان أكمل النسب وآكد الوشائج.

وإنّما يكون آكد الوشائج لأن الحبّ إذا كان لغير الله فقد يتغيّر وقد يختلّ ، وقد يتأثّر بالمؤثّرات التي تغيّر وجه الناس بعضهم لبعض. أما إذا كان حبّ الانسان لأخيه لله فإنّه آكد وأقوىٰ ، وأكثر ثباتاً تجاه المؤثّرات والعوامل المضادّة المختلفة.

وليس فقط إخلاص الحبّ لله لا ينفي التعلّقات الطبيعية في نفس الانسان ، وإنّما يؤكّدها أيضاً ويرسّخها بعد أن ينظّمها من خلال القناة الكبرىٰ ، التي تنظّم كلّ حبّ الصّديقين وأولياء الله. فيكون أفضل الناس عند الله أكثرهم حبّاً لأخيه المؤمن في الله. عن الصادق عليه‌السلام : « ما التقیٰ مؤمنان قطّ إلّا كان أفضلهما أشدّهما حبّاً لأخيه » (٣).

وروي عنه عليه‌السلام أيضاً : « إن المتحابّين في الله يوم القيامة علىٰ منابر من نور ،

__________________

(١) ميزان الحکمة ٢ : ٢٣٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) بحار الأنوار ٧٤ : ٣٩٨.


قد أضاء نور أجسادهم ونور منابرهم كل شيء حتىٰ يعرفوا به ، فيقال : هؤلاء المتحابّون في الله » (١).

وروي أن الله تعالىٰ قال لموسىٰ بن عمران عليه‌السلام : « هل عملت لي عملاً ؟ قال : صلّيت لك وصمت ، وتصدّقت وذكرت لك ، فقال الله تبارك وتعالىٰ : أما الصلاة فلك برهان ، والصوم جُنّة ، والصدقة ظلّ ، والذكر نور ، فأي عمل عملت لي ؟ قال موسىٰ عليه‌السلام : دلّني علىٰ العمل الذي هو لك. قال : يا موسىٰ ، هل واليت لي وليّاً وهل عاديت لي عدوّاً قط ؟ فعلم موسىٰ أن أفضل الاعمال الحبّ في الله والبغض في الله » (٢).

والحديث دقيق ، فإن الصلاة يمكن أن يقدم عليها الانسان لحبّه لله ، ويمكن أن يقدم عليها لتكون برهاناً له في الجنّة. والصوم يمكن أن يقدم عليه الانسان حبّاً لله ، ويمكن أن يقوم به ليكون جُنّة له من النار. أمّا حبّ أولياء الله وبغض أعدائه فلا يكون إلّا حبّاً لله.

المصدر الاول للحب :

من أين نستقي حبّ الله ؟ هذا سؤال مهم في بحثنا هذا. فما دمنا قد عرفنا قيمة حب الله ، فلابدّ أن نعرف من أين نأخذ هذا الحب. وما هو مصدره ؟

وإجمال الجواب أن الله تعالىٰ هو مصدر الحبّ ومبدؤه وغايته. ولابدّ لهذا الإجمال من تفصيل ، وإليك هذا التفصيل :

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ : ٣٩٩.

(٢) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٥٣.


١ ـ يحبّ الله عباده :

إن الله تعالیٰ يحبّ عباده ، ويرزقهم ، ويستر عليهم ، ويهبهم من المواهب والنعم ما لا يحصيه أحد ، ويعفو عنهم ، ويتوب عليهم ، ويسدّدهم ، ويرزقهم التوفيق ، ويهديهم صراطه المستقيم ، ويتولّاهم برعايته وفضله ، ويدفع عنهم السوء والشرّ ، وهذه جميعاً أمارات الحبّ.

٢ ـ ويمنحهم حبّه وودّه :

ومن حبّ الله تعالىٰ لعباده أنه يحبّهم ، ويرزقهم حبّه. وأمر هذا الحبّ غريب ، فإن الله تعالىٰ هو واهب الحبّ ، وهو الذي يتلقّیٰ الحبّ من عباده. يهبهم الجذبة بعد الجذبة ، ثم يجذبهم إليه بتلك الجذبة.

ونحن نجد في نصوص الأحاديث والأدعية إشارات متكررة إلىٰ هذا المعنىٰ. ففي المناجاة الثانية عشرة للامام زين العابدين عليه‌السلام : « إلهي ، فاجعلنا من الذين ترسّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم ، وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم ». وقد شرحنا هذا النص من قبل.

وفي المناجاة الرابعة عشرة : « أسألك أن تجعل علينا واقية تنجينا من الهلكات ، وتجنّبنا من الآفات ، وتكنّنا من دواهي المصيبات ، وأن تنزل علينا من سكينتك ، وأن تغشي وجوهنا بأنوار محبّتك ، وأن تؤوينا إلىٰ شديد ركنك ، وأن تحوينا في أكناف عصمتك ، برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين ».

وفي المناجاة الخامسة عشرة (مناجاة الزاهدين) : « إلهي ، فزهّدنا فيها ، وسلّمنا منها بتوفيقك وعصمتك ، وانزع عنّا جلابيب مخالفتك ، وتولّ اُمورنا بحسن كفايتك ، وأجمل صلاتنا من فيض مواهبك ، واغرس في أفئدتنا أشجار محبّتك ، وأتمم لنا أنوار معرفتك ، وأذقنا حلاوة عفوك ولذّة مغفرتك ، وأقرر أعيننا يوم


لقائك برؤيتك ، وأخرج حبّ الدنيا من قلوبنا كما فعلت بالصالحين من صفوتك ، والأبرار من خاصّتك ، برحمتك يا أرحم الراحمين ».

وفي التكملة التي يذكرها السيد بن طاووس لدعاء الامام الحسين عليه‌السلام في عرفة : « كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتىٰ يكون هو المظهر لك ؟ متىٰ غبت حتىٰ تحتاج إلىٰ دليل يدلّ عليك ؟ ومتىٰ بعدت حتىٰ تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقه عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً ... فاهدني بنورك إليك ، وأقمني بصدق العبودية بين يديك ... وصنّي بسرّك المصون ... واسلك بي مسلك أهل الجذب ، إلهي أغنني بتدبيرك لي عن تدبيري ، وباختيارك عن اختياري ، وأوقفني عن مراكز اضطراري ... أنت الذي أشرقت الانوار في قلوب أوليائك حتىٰ عرفوك ووحّدوك. وأنت الذي أزلت الاغيار عن قلوب أحبّائك حتىٰ لم يحبّوا سواك ، ولم يلجأوا إلىٰ غيرك ، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد من فقدك ؟ وما الذي فقد من وجدك ؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً ، ولقد خسر من بغىٰ عنك متحولاً ، كيف يُرجىٰ سواك وأنت ما قطعت الاحسان ؟ وكيف يُطلب من غيرك وأنت ما بدّلت عادة الامتنان ؟ يا من أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين ، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفرين ... إلهي اطلبني برحمتك حتىٰ أصل إليك ، واجذبني بمنّك حتىٰ اُقبل عليك » (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.


٣ ـ ويتحبّب إليهم :

والله تعالىٰ يتحبّب إلىٰ عباده ، فيغدق عليهم النعم ليحبّوه ، وإن النعم في القلوب الواعية والمدركة تحبّب الله تعالىٰ إلىٰ الذين ينعم عليهم.

في دعاء علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في الاسحار : « تتحبّب إلينا بالنعم ، ونعارضك بالذنوب ، خيرك إلينا نازل ، وشرّنا إليك صاعد ، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا في كل يوم بعمل قبيح ، فلا يمنعك ما يأتي منّا من ذلك أن تحوطنا برحمتك ، وتتفضّل علينا بآلائك ، فسبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مُبدئاً ومُعيداً » (١).

والمقارنة بين ما هو النازل من لدن الله إلىٰ العبد من نعمٍ وفضلٍ وإحسانٍ وجميلٍ وعفوٍ وسترٍ ، وبين ما هو الصاعد من قبل العبد إلىٰ الله من قبيحٍ وشرٍ يُشعر العبد بالخجل من مولاه ، فهو يقابل هذا الحبّ والتحبّب من جانب الله تعالىٰ بالإعراض والتبغّض إليه.

وما أكثر بؤس الانسان وشقاءه إذا كان يقابل حبّ الله تعالىٰ له وتحبّبه إليه بالإعراض والتبغض.

تأمّلوا في هذه الكلمات من دعاء الافتتاح للامام الحجة عليه‌السلام : « إنّك تدعوني فاُولّي عنك ، وتتحبّب إليّ فأتبغّض إليك ، وتتودّد إليّ فلا أقبل منك ، كأنّ لي التطوّل عليك ، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي ، والاحسان إليّ والتفضّل عليّ » (٢).

« خيرك إلينا نازل ، وشرّنا إليك صاعد » (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٥.

(٢) مفاتيح الجنان : دعاء الافتتاح.

(٣) بحار الأنوار ١٨ : ٨٥.


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي




توحيد الحبّ :

عندما نستعرض النصوص الاسلامية في الحب الإلهي من الكتاب والسنّة ... نجد أن هذه النصوص تحدّد لنا ضوابط ثلاثة في مسألة الحب :

أولاً : تفضيل حبّ الله :

لابدّ أن يكون الانسان أشدّ حباً لله من كل أحد ، ومن كل شيء ، وأن يكون حبّ الله تعالىٰ هو أمكن شيء في نفسه ، يقول تعالىٰ : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (١).

فلا ينهىٰ الله تعالىٰ عن حبّ الآباء والابناء والاخوان والازواج والعشائر ، ما لم يعادوا الله ورسوله ، ولا ينهىٰ عن حبّ المال والتجارة والمساكن ، ما لم تكن من حرام ... وإنّما ينهىٰ أن يكون حبّ هذه الاُمور أقوىٰ وأشدّ عند المؤمن من حبّ الله ورسوله وجهاد في سبيله ، ويقول تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ ) (٢).

والآية الثانية تكمل دلالة الآية الأولىٰ ، فلا ينبغي أن يكون في الكون شيء أحبّ إلىٰ قلب المؤمن من الله ، وعليه أن يجعل لحبّ الله المنزلة العليا في نفسه ، وأن

__________________

(١) التوبة : ٢٤.

(٢) البقرة : ١٦٥.


يمكِّن حبّ الله من نفسه أكثر من أي شيء آخر ، مهما كان ذلك الشيء ، وما لم يكن لحبّ الله علىٰ قلب المؤمن مثل هذه الهيمنة القوية والفاعلة لا يكون الانسان كامل الايمان.

فإن الله تعالىٰ يقول : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ) (١).

وليس علىٰ المؤمن بأس أن يحبّ كل ذلك ما لم يحرّمه الله ... إذا كان حبّه لله أشد وأقوىٰ حتىٰ من حبّه لنفسه. فيكون الحبّ الإلهي أقوىٰ وأنفذ في نفس المؤمن من أي حبّ آخر وعلاقة اُخرىٰ. وقد روي عن الصادق عليه‌السلام : « لا يمحض رجلٌ الايمانَ باللهِ حتىٰ يكونَ اللهُ أحبَّ إليهِ من نفسِهِ وأبيهِ واُمِّهِ وولدِهِ وأهلِهِ ومالِهِ ومِن الناسِ كلِّهم » (٢).

وليست هيمنة الحبّ الإلهي علىٰ قلب المؤمن مسألة نظرية معزولة عن حياته وحبّه وعلاقاته ، وتحرّكه.

فللحبّ متطلّبات ومستلزمات وتبعات ، وما لم يقترن الحبّ بها لن يكون من الحبّ الصادق ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي ) (٣).

وعندما يتعارض حبّ وحبّ آخر في قلب المؤمن ، وتتعارض أحكام ومتطلبات كل واحد منها ، يكون حبّ الله أقوىٰ في نفسه ، وأكثر نفوذاً وفاعلية ، ويكون استجابته لحبّ الله دون غيره ، هو علامة صدقه في الحبّ.

وقد ورد هذا المعنىٰ في الكثير من النصوص الاسلامية في الادعية ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روي عنه من الدعاء : « اللّهم إني أسألك حبَّك وحبَّ من

__________________

(١) آل عمران : ١٤.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٥.

(٣) آل عمران : ٣١.


يحبّك ، والعملَ الذي يبلّغني حبَّك ، اللّهم اجعل حبَّك أحبَّ اليَّ من نفسي وأهلي » (١). وورد مثله عن داود عليه‌السلام (٢).

وورد أيضاً عن رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهم اجعل حبّك أحبّ الاشياء اليّ ، واجعل خشيتك أخوف الاشياء عندي ، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلىٰ لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرِر عيني من عبادتك » (٣).

ثانياً : تحكيم حبّ الله :

تحكيم الحبّ الإلهي علىٰ كل علاقاته وصِلاته وميوله القلبية ، فيكون حبّ الله تعالىٰ حاكماً علىٰ قلبه ، ومتصرّفاً في مشاعره وعواطفه وأحاسيسه ، فيلغي من قلب المؤمن ما لا ينسجم معه من الحبّ والكره ، ويُثبّت في قلبه ما يتطلّبه حبّ الله من حبّ وكره ، ويطرد من قلبه ما لا يرتضيه الله تعالیٰ من حبّ وكره.

فليس محظوراً علىٰ الانسان المسلم أن يحبّ ويكره ، ولكن عليه أن يضع الحبّ والبغض والرضا والغضب حيث يريد الله ، وحيث يقرّه علىٰ ذلك. فما كان من الحبّ في امتداد حبّ الله تعالىٰ فإن الله يأمر به ، وما كان من الحبّ لا ينهىٰ عنه الله تعالىٰ فإن الإسلام يقرّه ، وما كان من الكره لأعداء الله فإن الله يأمر به ، وما كان منه ممّا لا ينهىٰ عنه الله فإن الاسلام يقرّه. هذا هو الأمر الاول.

وما كان من الحبّ يعارض حبّ الله فان الاسلام يلغيه من حياة المؤمن ، وهذا هو الأمر الثاني.

يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ

__________________

(١) كنز العمال للمتقي ٢ : ٢٠٩ ، ح ٣٧٩٤.

(٢) كنز العمال للمتقي ٢ : ١٩٥ ، ح ٣٧١٨.

(٣) كنز العمال للمتقي ٢ : ١٨٢ ، ح ٣٦٤٨.


اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١).

فلم يكن المؤمنون الذين خاطبهم الله بهذه الآية يحبّون آباءهم وإخوانهم أشدّ من حبّهم لله ، ولكنهم كانوا يحبّونهم رغم كفرهم ، ويضمرون لهم المودّة والحبّ والولاء ، فنهاهم الله عن ذلك ، وعدّ حبّهم والولاء لهم من الظلم.

وهذه الآية نزلت في « حاطب بن أبي بلتعة » (٢) الذي أرسل إلىٰ قومه من المشركين يخبرهم بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولا نشكّ في أن « حاطب بن أبي بلتعة » كان مؤمناً ، ولم يكن حبّه لأهله بأشدّ من حبّه لله ، إلّا أنه كان يحبّ اهله وقومه ، رغم عدائهم لله ولرسوله.

ولا يتّسع قلب لحبّين يتعارضان في وقت واحد ، حبّ الله وحبّ أعداء الله ، فإذا أخلص قلبه لله في الحبّ والبغض وحكّم حبّ الله تعالىٰ في كل متعلّقاته النفسية ، فليس عليه من بأس بعد ذلك أن يحبّ أو يكره ، كلّما توفّرت الضوابط العقائدية للحبّ والكره لديه.

وليس للمؤمن أن يرسل عواطفه ، كما يشاء واين يشاء ، ولا أن يمدّ صِلاته وعلاقاته كما يريد ، وإنما يجب عليه أن يحكّم حبّه لله في صِلاته ، وعلاقاته ، وميوله النفسية ، بشكل دقيق ، إن كان صادقاً في حبّه لله.

ولقد كان المسلمون الاوائل يقتلون آباءهم ، وإخوانهم ، وأعمامهم من المشركين ، فلا يتردّدون في شيء من ذلك ، ولا يتزلزل لهم قدم ، ولن يكون الولاء والحبّ لله صادقاً إلّا عندما يمكّن صاحبه من التخلّي عن كل حبّه وبغضه وميوله النفسية وعلاقاته لله بشكل مطلق ، ويتحرّر من كل الوشائج النفسية التي تربطه بهذا أو ذاك بشكلٍ كامل. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « ولقد كنا مع

__________________

(١) التوبة : ٢٣.

(٢) تفسير نور الثقلين ٢ : ١٩٥.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقتل آباءنا ، وأبناءنا ، وإخواننا ، وأعمامنا ... ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً ، ومضيّاً علىٰ اللقم (١) ، وصبراً علىٰ مضض الألم ، وجدّاً في جهاد العدو ـ ثم يقول عليه‌السلام ـ : فلما رأىٰ الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت ، وأنزل علينا النصر حتىٰ استقر الاسلام » (٢).

وتستوقفنا في هذا الحديث فقرتان :

اولاهما : « ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً » ، وهذه الفقرة تحكي عن سنّة من سنن الله تعالىٰ هي سنّة (العلاقة بين العطاء وبين الايمان والحب) ، وهذه سنة لا يعيها إلّا قلّة من الناس.

والناس عادة يتصوّرون الأمر بالعكس ، فيتصوّرون أن المعاناة وتحمّل الابتلاء يستنفد صبر الانسان ومقاومته ، وما وراء هذا الصبر والمقاومة من إيمان وحبّ يبعثان علىٰ الصبر والمقاومة ... بينما الأمر بالعكس تماماً ، فإن المعاناة وتحمّل الآلام والابتلاء ، وقتل الآباء والابناء في الله يزيد في قدرة الانسان المؤمن علىٰ تحمّل الابتلاء والمعاناة ، وعلىٰ الصمود والصبر ، ويزيد في إيمان الانسان وحبه لله تعالىٰ.

والفقرة الثانية : التي تستوقفنا في هذا الحديث للتأمّل هذه العلاقة الوشيجة بين الصدق في الحبّ والولاء وبين النصر. « فلما رأىٰ الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت » ؛ فإن النصر لا ينزل إلّا حيث يكون الصدق في الولاء والموقف ، ولا تنفصل الساحة العسكرية في نتائجها عما يستقرّ في القلوب من الصدق في الحبّ والولاء.

فلن يكون المؤمن ـ إذن ـ صادقاً في حبّه وولائه لله إلّا إذا كان قادراً علىٰ

__________________

(١) اللَّقم : معظم الطريق أو وسطه وواضحه ، المنجد ، مادة لقم.

(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح ١ : ٩١ ـ ٩٢ ، خ ٥٢.


أن يحكّم ولاءه لله في كل علاقاته وصِلاته.

خارطة الحبّ والبغض :

إن حبّ الله تعالىٰ يرسم للمؤمن خارطة دقيقة جداً لعلاقاته الاجتماعية وصلاته وأعدائه وأصدقائه ... ومن خلال هذه الخارطة يستطيع المؤمن أن يشخّص بدقة كاملة أعداءه عن أصدقائه ... ومن خلال هذه الخارطة يستطيع المؤمن أن يشخّص بدقة كاملة أعداءه عن أصدقائه ، وأهله عن الغرباء.

وإن أمر هذه الخارطة لعجيب ، تقرّب البعيد ، وتبعّد القريب ، وتدخل الخارج ، وتُخرج الداخل.

يخرج ابن نوح عليه‌السلام من أهل نوح ، فيكون غريباً عنه ، وينهىٰ الله تعالىٰ نبيه نوحاً عليه‌السلام أن يسأله عن ابنه ( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١).

ويدخل سلمان الفارسي في زمرة آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيتحول من سلمان الفارسي إلىٰ سلمان المحمدي ، فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سلمان منا أهل البيت » (٢).

يقول الشيخ المفيد في الاختصاص : « جریٰ ذكر سلمان وذكر جعفر الطيار بين يدي جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وهو متكئ ففضّل بعضهم جعفراً عليه ، وهناك أبو بصير ، فقال بعضهم : إن سلمان كان مجوسيّا ثم أسلم ، فاستوىٰ أبو عبدالله عليه‌السلام جالساً مغضباً ، وقال : يا أبا بصير ، جعله الله علويّاً بعد أن كان مجوسيّاً ، وقرشيّاً بعد أن كان فارسيّاً ، فصلوات الله علىٰ سلمان ، وإن لجعفر شأناً عند الله يطير مع

__________________

(١) هود : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا : ٢٢٤.


الملائكة في الجنة ... » (١).

إن هذه الخارطة يختلف أمرها عمّا يألفه الناس من خرائط الحب والبغض والاعداء والاصدقاء ، وإنها لتصنف الناس إلىٰ جبهتين اثنتين ، جبهة أولياء الله وأنصاره وأحبائه وجبهة أعداء الله ومناوئيه ، علىٰ اختلاف درجات الناس في هاتين الجبهتين في حبّ الله تعالىٰ وعداء الله.

الحبّ في الله والبغض في الله :

وليس للمؤمن الخيار المطلق في هواه وحبّه ، وإنما عليه أن يتبع في حبّه وهواه وميوله وعلاقاته النقاط الحمراء ، والنقاط الخضراء من هذه الخارطة بشكل دقيق.

فيضع ولاءه وحبّه حيث يأمره الله ، وحيث يحبّ الله ، ويتبرّأ عمن يتبرّأ الله تعالىٰ منه ، ولن يصدق في إيمانه ، ولن يبلغ محض الايمان من دون هذا الولاء والحبّ لأحبّاء الله والبراءة والعداء لأعداء الله ، والمواقف الإيجابية الثابتة حيث يحبّ الله ، والمواقف السلبية حيث يأمر الله. فيحبّ بحبّ الله كل من احبّ الله. ويبغض كل من يبغضه الله. حتىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّه بحبّ الله ، وبحبّه لله ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمة ، وأحبّوني لحبِّ اللهِ عزّوجلّ ، وأحبّوا أهلَ بيتي لحبّي » (٢).

وهكذا يتسلسل الحبّ في الله علىٰ هذا الامتداد ، ويشمل كل أولياء الله

__________________

(١) الاختصاص للمفيد : ٣٤١.

(٢) بحار الأنوار ٧ : ١٤. ويقول العلامة الشيخ عبدالحسين الاميني رحمه‌الله في كتابه سيرتنا وسنّتنا في تخريج هذا الحديث : أخرجه جمع من الحفّاظ وأئمة الحديث بأسانيد صحيحة رجالها كلهم ثقات. راجع صحيح الترمذي ١٣ : ٢٠١ ، الجزء الاول والثالث من المعجم الكبير للطبراني ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٩ ، تاريخ بغداد ٤ : ١٦٠ ومصادر اُخریٰ تناهز ثلاثين مصدراً.


وعباده الصالحين ، كما يتسلسل الكره والعداء والبغضاء في الخط الآخر المعادي لله ولرسوله.

وعندما نمعن النظر في النصوص الاسلامية الواردة في الحبّ والبغض في الله نجد أنها تقسم الساحة إلىٰ شطرين اساسيين وجبهتين متقابلتين : جبهة أولياء الله وأحبائه علىٰ اختلاف درجاتهم في حبّ الله ، وجبهة أعداء الله علىٰ اختلاف درجاتهم في العداء والحبّ.

وليس للمؤمن خيار في هذه الساحة ، وإنما عليه أن يحدد مواقفه وتحرّكاته وميوله النفسية ضمن ضوابط الحبّ في الله والبغض في الله.

ولن يكون للمؤمن عمل من الأعمال الصالحة رغم كثرتها ، يرفعه إلىٰ الله أفضل من أن يحبّ في الله ويبغض في الله.

وإليك هذه الباقة من الروايات :

١ ـ روىٰ البرقي في (المحاسن) عن أبي بصير قال : « سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : إنَّ المتحابّينَ في اللهِ يوم القيامة علىٰ منابر من نور ، قد أضاء نور أجسادهم ونور منابرهم كلَّ شيء ، حتىٰ يُعرفوا به فيقال : هؤلاءِ المتحابّونَ في اللهِ » (١).

٢ ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لبعض أصحابه ذات يوم : « يا عبد الله ، أحببْ في الله ، وأبغض في الله ، ووالِ في الله ، وعادِ في الله ، فإنه لا تُنالُ ولايةُ الله إلّا بذلك ، ولا يجد رجلٌ طعمَ الايمان وإن كثرت صلاتهُ وصيامهُ حتیٰ يكون كذلك ... » (٢).

٣ ـ وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « مِن أوثق عرىٰ الايمان أن تحبّ في الله ، وتبغض في الله ، وتعطي في الله ، وتمنع في الله عزّوجلّ » (٣).

__________________

(١) بحار الانوار ٧٤ : ٣٩٩ ، عن المحاسن ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٢) أمالي الصدوق : ١١.

(٣) أمالي الصدوق : ٣٤٥ ، طبعة حجرية.


فلا ينال أحد ولاية الله ـ إذن ـ إلّا إذا أخلص قلبه لله ، فكان في الله حبّه وبغضه وقربه وبعده وولايته وبراءته ... ولن يكون بين عریٰ الايمان ـ وهي كثيرة ـ عروة أوثق من الحبّ والبغض في الله.

٤ ـ وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « من أحبّ كافراً فقد أبغض الله ، ومن أبغض كافراً فقد أحبّ الله ، ثم قال عليه‌السلام : صديقُ عدوِّ اللهِ عدوٌّ للهِ » (١).

٥ ـ وعن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : « أوحىٰ الله إلىٰ بعض الانبياء : أما زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة ، وأما انقطاعك إليّ فتعززك بي ، ولكن هل عاديت لي عدواً أو واليت لي ولياً » (٢).

٦ ـ وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « من أحبَّ للهِ ، وأبغض للهِ ، وأعطىٰ للهِ ، ومنع للهِ ، فهو ممّن كمل إيمانه » (٣).

٧ ـ وعن أبي جعفر عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ودُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الايمان ، ألا ومن أحبَّ في الله ، وأبغض في الله ، وأعطىٰ في الله ، ومنع في الله ، فهو من أصفياء الله » (٤).

٨ ـ عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : أيُّ عُرىٰ الايمانِ أوثق ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم. وقال بعضهم : الصلاة ، وقال بعضهم : الزكاة ، وقال بعضهم : الصيام ، وقال بعضهم : الحج والعمرة ، وقال بعضهم : الجهاد.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكلٍّ مما قلتم فضلٌ ، وليس به ولكن أوثق عُرىٰ الايمان الحبُّ في اللهِ ، والبغضُ في اللهِ ، وتوالي أولياءِ اللهِ ، والتبريّ من أعداءِ

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٣٦٠ ، طبعة حجرية.

(٢) تحف العقول : ٤٧٩.

(٣) المحاسن : ٢٦٣.

(٤) اُصول الكافي ٤ : ١٢٥.


الله » (١).

٩ ـ وعن علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، قال : « إذا جمع الله عزّوجلّ الأولين والآخرين ، قام منادٍ فنادىٰ يُسمعُ الناس ، فيقول : أين المتحابّون في الله ؟ فيقوم عنق من الناس ، فيقال لهم : اذهبوا إلىٰ الجنة بغير حساب.

قال : وتلقّاهم الملائكة ، فيقولون : إلىٰ أين ؟ فيقولون : إلىٰ الجنة بغير حساب.

قال : فيقولون : فأيُّ ضرب أنتم من الناس ؟

فيقولون : نحن المتحابّون في الله.

قال : فيقولون : وأي شيء كانت أعمالكم ؟

قالوا : كنا نحبّ في الله ونبغض في الله.

قال : فيقولون : نعم أجر العاملين » (٢).

١٠ ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام : « إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلىٰ قلبك ، فإن كان يحب أهل طاعة الله ، ويبغض أهل معصيته ، ففيك خير ، والله يحبّك ، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ، ويحب أهل معصيته ، فليس فيك خير ، والله يبغضك ، والمرء مع من أحبّ » (٣).

١١ ـ وعن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : « كل من لم يحبّ علىٰ الدين ، ولم يبغض علیٰ الدين ، فلا دين له » (٤).

١٢ ـ وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو أن عبدين تحابّا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله بينهما يوم القيامة ».

__________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ١٢٥.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٢٦.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ١٢٦.

(٤) اُصول الكافي ٢ : ١٢٧.


١٣ ـ وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل الاعمال الحبّ في الله والبغض في الله ».

١٤ ـ وعن أنس قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحبّ في الله فريضة ، والبغض في الله فريضة » (١).

١٥ ـ وروي أن الله تعالىٰ قال لموسىٰ عليه‌السلام : « هل عملت لي عملاً ؟ قال : صلّيتُ لك ، وصمت وتصدَّقتُ ، وذكرت لك ، قال الله تبارك وتعالىٰ : أمّا الصلاة فلك برهان (٢) ، والصوم جُنّة ، والصدقة ظلّ ، والذكر نور. فأي عمل عملت لي ؟

قال موسىٰ عليه‌السلام : دلّني علىٰ العمل الذي هو لك ، قال : يا موسىٰ ، هل واليت لي ولياً ، وهل عاديت لي عدوّاً قط ؟

فعلم موسىٰ أن أفضل الاعمال الحبّ في الله والبغض في الله » (٣).

خارطة الولاء والبراءة في النفس والمجتمع :

هذه باقة من النصوص الاسلامية تحدّد بشكل دقيق علاقات الانسان المؤمن الاجتماعية والاسرية ، وميوله ورغباته النفسية ، وترسم له خارطة دقيقة لساحة المجتمع الانساني بكل جبهاته المتضاربة والتواءاته السياسية والعقائدية ، وما بين هذه الجبهات والفئات من قرب ومن بعد ، وما بها من هدىً وضلال ، واستقامة واعوجاج ، وما لديها من انقياد للحق ، وعناد ، وتمرّد عليه ، وما عليها من بصيرة وهدىً ، أو ضلال وعمىً ... إن هذه الساحة المليئة بالمتناقضات والحروب والصراعات والتحالفات واللقاءات هي ساحة عملنا وتحركنا.

ومن دون وجود دليل خبير بمسالك هذه الساحة ومداخلها ، والمناطق

__________________

(١) جامع الاخبار : ١٤٩.

(٢) أي برهان ودليل علىٰ إسلامك.

(٣) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.


المحظورة ، والمناطق المجازة فيها لا نستطيع أن نتحرك في هذه الساحة ، ولا نستطيع أن نميز فيها بين أعدائنا وأصدقائنا ؛ وإن الحبّ في الله يرسم لنا في هذه الساحة خارطة دقيقة نستطيع أن نميز فيها بدقة الاصدقاء عن الاعداء ، ونعرف أين نضع ثقتنا ومن أين نسحب الثقة ، وإلىٰ من نركن وممّن نحذر ، وإلىٰ من نمدّ أيدينا ، وعمّن نسحب أيدينا ، ومع من نتعامل بثقة ، ومع من نتعامل بحذر.

فلقد شطّت هذه الامة بعيداً ، والتبس عليها الأمر طويلاً ، وركنت كثيراً إلىٰ الذين نهىٰ الله عن الركون إليهم ، وأقامت علاقات وثيقة مع الذين نهىٰ الله عن مودّتهم ، ووصلت حبلها بحبل أعداء الله ، وقطعت حبلها عن حبل أولياء الله ، ومالت إلىٰ أقصىٰ اليمين طوراً ، وإلىٰ أقصىٰ اليسار طوراً ، وصفّقت لاعداء الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومالت مع كل ريح ... كل ذلك في غياب الضوابط والمعايير الاسلامية في الحبّ والبغض والتقارب والتباعد.

وإن ضوابط الولاء و (الحبّ في الله) تعطينا خطوطاً دقيقة جداً للعلاقات والصلات والوشائج ، وترسم لنا الخارطة السياسية للساحة البشرية عموماً ، وتميز لنا فيها اصدقاءنا من أعدائنا.

كما أنها ترسم لنفوسنا الحدود الدقيقة لميولها وتعلّقاتها ، ورغباتها ، وحبّها وبغضها.

إن هذه الخارطة تقسّم الساحة البشرية إلىٰ جزأين متمايزين (الولاء) و (البراءة). ولكل من الولاء والبراءة مساحة خاصة به ، ولكل من هاتين المساحتين احكامه الخاصة به ، وإن ضوابط الولاء والحبّ في الله تحدد بصورة دقيقة مساحة كل من الولاء والبراءة ، والاحكام الخاصة بكل منهما.

وضابطة الولاء والبراءة واضحة ... إنها الحبّ في الله والبغض في الله.

إن اولياءنا وأصدقاءنا في هذه الساحة هم المؤمنون. وإن أعداءنا الذين


نحاربهم هم أعداء الله ورسوله وأئمة الكفر.

إن المساحة المؤمنة من المجموعة البشرية بعضهم من بعض ، وبعضهم أولياء بعض ؛ يجمعهم الولاء لله وللرسول ، وحبّ الله ورسوله ، ويجمعنا بهم هذا الولاء والحبّ ... ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّـهُ ) (١).

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (٢).

وهذه هي مساحة الولاء في الساحة البشرية.

ومساحة البراءة علىٰ الأرض ، وفي المجتمع هي المساحة التي تضم أعداء الله ورسوله من الكفار ، والمشركين ، ومن أئمة الكفر من الذين يحادّون الله ورسوله ، ويشاقّونهها ، ويصدون الناس عن دين الله ، ويحاربون الله ورسوله.

هؤلاء يشكّلون جبهة متميزة علىٰ وجه الارض ... تقف دائماً في قبال الجماعة المؤمنة ، وتضمر لها الكيد والمكر ، وترث العداء للمؤمنين خلفاً عن سلف ، ولن تكفّ عن محاربة الامة المسلمة حتىٰ تتبع ملّتها. ولن يهدأ لهم بال ما دام لهذا الدين قائمة علیٰ وجه الارض. ( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (٣).

هؤلاء بعضهم أولياء بعض ، وبعضهم من بعض ، اُمة واحدة في قبال الامة المسلمة ... والموقف منهم المفاصلة التامة. ليست بيننا وبينهم صلة أو مودّة ، ومن

__________________

(١) التوبة : ٧١.

(٢) الانفال : ٧٢.

(٣) البقرة : ١٢٠.


يتخذهم منا أولياء فهو منهم ، وينقطع ما بيننا وبينه من وشيجة الولاء.

والقرآن الكريم صريح وحاسم في تقرير هذه الحقيقة. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١).

مساحة الحبّ والبغض للنفس :

وما سبق من الحبّ والبغض هو الحبّ النابع من الولاء ، والبغض النابع من البراءة ، إلّا أن الاسلام لا يمنع المسلم من أن يحبّ لنفسه ، أو يبغض لنفسه في مساحة محدودة ، وإن كان يسعىٰ لتهذيب القلب المؤمن حتىٰ لا يحبّ إلّا في الله ولا يبغض إلّا في الله.

ومع ذلك يُخضع هذه المساحة من الحبّ والبغض النفسيين لضابطة دقيقة. وتلك أن لا يحبّ من يبغضه الله ومن يحارب الله ورسوله ، ولا يبغض أولياء الله والمؤمن بالله ورسوله.

فليس للمؤمن خيار في هاتين الحالتين ، ولا يجوز له أن يضمر كرهاً لمؤمن أو يضمر حباً لكافر.

ثالثاً : تحكيم الحبّ في الله :

تحكيم (الحبّ في الله) علىٰ كل علاقاته وصلاته ، وميوله القلبية تماماً ، كما كان عليه أن يحكّم حبّ الله علىٰ كل علاقاته.

فليس من حظْرٍ في الاسلام علىٰ المسلم أن يحبّ الانسان لنفسه ما يشاء

__________________

(١) المائدة : ٥١.


وما تهوىٰ نفسه ، وإن كان من منهج التربية الاسلامية أن يسعىٰ ليكون (حبّ الله) هو مصدر كل حبّ في حياته ، حتىٰ لا يحبّ شيئاً إلّا لله.

ولكن لا يجوز أن يكون حبّه لشيء أشدّ من حبّه لله. وهذه هي اُولىٰ الضابطتين السابقتين في الحبّ ، ولا يجوز له أن يحبّ من يبغضه الله ، أو يبغض من يحبّه الله وهذه هي ثانية الضابطتين. والضابطة الثالثة التي نذكر هنا ألّا يجعل من (حبّه لنفسه) محوراً حاكماً للحبّ والبغض بمعزل عن الضوابط الشرعية للحبّ والبغض ، بعكس (الحبّ في الله) فإنه المحور الحاكم للحبّ والبغض في حياة الانسان ، فما كان من الحبّ في الله فهو حاكم علیٰ كل علاقات الانسان ، وما كان من الحبّ للنفس فهو محكوم لضوابط الحبّ والبغض في الاسلام.

وهذا هو الفرق الثالث بين (حبّ الله) و (الحبّ في الله) من جانب وبين الحبّ للنفس من جانب آخر.

وهذا هو معنىٰ محورية الحبّ في الله في علاقات المسلم وميوله القلبية ، كما كان حبّ الله محوراً للحبّ والبغض في حياة الانسان المسلم.

ونفس محورية (الحبّ في الله) وتحكيمه علىٰ علاقات الانسان وميوله ضمن نقطتين :

النقطة الاولىٰ : أن يحكّم (الحبّ في الله) سلباً في نفي ما لا ينسجم مع الحبّ في الله من حبّ ، وإيجاباً في إثبات ما يتطلّبه الحبّ في الله من حبّ.

فإن (الحبّ في الله) ، كما كان الأمر في (حبّ الله) ، يستتبع حبّاً وبغضاً ... ولن يكون المسلم صادقاً في (حبّه في الله) إلّا إذا حكّم حبّه في الله في كل علاقاته وميوله ، واستجاب لكل ما يستتبعه (الحبّ في الله) من حبّ وبغض ، وكما لم يكن له خيار في (الحبّ في الله) و (البغض في الله) ، ليس له خيار فيما يستتبعه الحبّ في الله


من حبّ وبغض.

فإن امتداد (الولاء) في علاقات الانسان وارتباطاته وصلاته وميوله وتعلّقاته القلبية لا حدّ لها ، وإذا استجاب الانسان للولاء فلا خيار له فيما يستتبعه الولاء من حبّ وبغض ، مهما امتدّ في حلقات سلسلة الوشائج والعلاقات.

ولعل هذا الحديث الذي رواه الفريقان من المسلمين في حبّ أهل البيت عليهم‌السلام لحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحبّ الله ... بهذا التسلسل الولائي ... ما يلقي الضوء علىٰ مسألة تحكيم الحبّ في الله علىٰ صلات المسلم وعلاقاته وميوله القلبية.

عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحبّوا اللهَ لما يغذوكم من نعمه ، وأحبّوني بحبّ الله ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي » (١).

فلن يكون حبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحبّ في الله حقاً إلّا إذا كان المسلم يستجيب لكل ما يستتبعه هذا الحبّ من حبّ وبغض « وأحبّوا أهل بيتي لحبّي ».

هذا في الجانب الايجابي فيما يستتبعه الحبّ في الله من حبّ وأما في الجانب السلبي فإن الحبّ في الله کـ (حبّ الله) ، قضيته مبدئية في حياة الانسان تستتبع البغض والكره والحرب أحياناً ، وتكلف الانسان الكثير في هذا الجانب ، ومن دون هذه الناحية السلبية لن يكون الانسان صادقاً في حبّه وولائه.

فلن يكون الحبّ في الله أمراً شاقاً ، لو لم يستلزم مثل هذه التبعات في حياة الانسان وعلاقاته وميوله وصلاته ، ولو لم يتطلب من الانسان أن يدفع ضريبة هذا الحبّ من علاقاته وصلاته ، ومن ذات نفسه وميوله وتعلّقاته.

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٦٢٢ ، ح ٣٧٨٩ ، ط. دار الفكر ، والمستدرك علیٰ الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣ : ١٥٠. قال الحاكم : وهذا حديث صحيح الاسناد لم يخرجاه. وبحار الانوار ٧٠ : ١٤. وأمالي الصدوق : ٢١٩. وعلل الشرائع ١ : ١٣٩ ، ط. المكتبة الحيدرية. وأمالي الطوسي ١ : ٢٨٠. وبشارة المصطفیٰ : ١٦١.


والشواهد علىٰ حاكمية الحبّ في الله في الشريعة كثيرة نذكر جملة من هذه الشواهد :

عن زيد بن أرقم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام : « أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم » (١).

وعن أبي هريرة قال : « نظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » (٢).

وفي حديث الغدير يقول البراء بن عازب : « أخذ (رسول الله) بيد علي ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعاد من عاداه » (٣).

وعن زيد بن أرقم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « ألستم تعلمون ، أو ألستم تشهدون أني أولىٰ بكل مؤمن من نفسه ؟ قالوا : بلىٰ. قال فمن كنت مولاه فإن علياً مولاه. اللّهم عادِ من عاداه ووالِ من والاه » (٤).

والأحاديث بهذا المضمون كثيرة.

(فالحبّ في الله) ـ إذن ـ محور حاكم في حياة الإنسان يستتبع الحبّ والبغض ، والولاء والعداء.

وقد ورد هذا المضمون في الزيارات المأثورة لأولياء الله وأئمة المسلمين كثيراً. ففي زيارة سيد الشهداء الحسين عليه‌السلام (فمعكم معكم لا مع عدوكم) (٥).

فإن محبّة الحسين عليه‌السلام ، عندما تكون لله ، تتطلّب المفاصلة والمقاطعة مع

__________________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٤٩.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٤٩ ، قال الحاكم : هذا حديث من حديث أبي عبدالله أحمد بن حنبل. وقد أخرج الفقيد السعيد الشيخ عبدالحسين الاميني رحمه‌الله حديث الغدير عن مئة طريق فزائداً في كتابه القيم (الغدير) الجزء الاول منه.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مسند الامام أحمد بن حنبل ٤ : ٢٨١.

(٥) مفاتيح الجنان ـ زيارة الاربعين للامام الحسين عليه‌السلام.


أعدائه (لا مع عدوكم) ، ومن دون هذه المقاطعة والمفاصلة لا تكتسب هذه المحبّة قيمتها الحقيقية.

وهذه هي النقطة الاولىٰ في (الحبّ في الله).

النقطة الثانية : أن يحكّم المؤمن (الحبّ في الله) في درجات الحبّ وفي الايثار وتقديم حبّ علىٰ حبّ وتفضيل أمر علىٰ آخر.

فإذا تزاحمت الميول ، والعلاقات ، والتعلّقات القلبية قدّم منها ما كان في الله وأخّر منها ما كان لنفسه ، وآثر منها ما كان لله علىٰ ما كان لنفسه ، ضمن الضوابط الواردة في الشريعة في تقديم الأهم علىٰ المهم.

عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتىٰ أكون أحبّ إليه من ماله وولده » (١).

ورواه مسلم في الصحيح عن أنس بالصورة التالية : « لا يؤمن عبد حتىٰ أكون أحبّ إليه من أهله وماله ومن الناس أجمعين » (٢).

وعن طريق ابن ليلىٰ الانصاري عن رسول الله : « لا يؤمن عبدٌ لله حتىٰ أكون أحبّ إليه من نفسه ، وتكون عترتي أحبّ إليه من عترته ، ويكون أهلي أحبّ إليه من أهله » (٣).

وعندما يكون الحبّ في الله حاكماً علىٰ علاقات الانسان وتعلّقاته النفسية يتحول إلىٰ محور حاكم في حياة الانسان.

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٦ ، ط. دار الطباعة ، سنة ١٢٨٦.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٤٩ ، ط. دار الفكر ، بيروت. ورواه في كنز العمال ١ : ٣٧. حديث ٧٠.

(٣) نقله الشيخ عبدالحسين الاميني في كتابه سيرتنا وسنتنا سيرة نبينا وسنته : ١١ ، عن النصيبي في الجزء الثاني من أحاديثه ، والحافظ البيهقي في شعب الايمان والديلمي في مسنده ، ورواه العلامة المجلسي في البحار باختلاف يسير ٢٧ : ٧٦.


وبهذا يختلف (الحبّ في الله) عن (حبّ النفس) الذي يقع في الدائرة المسموح بها إسلامياً.

فإن الثاني يقع دائماً محكوماً للاول ، فحبّ القوم والوطن أمر جائز ولم يمنع عنه الاسلام « في الدائرة المسموح بها شرعاً » إلّا أن هذا الحبّ لا يشكّل محوراً حاكماً في العلاقات الاجتماعية والتعلّقات القلبية ، ويكون محكوماً لضوابط (حبّ الله) و (الحبّ في الله).

فلا يجوز للانسان أن يمتدَّ مع حبّه لقومه ووطنه في كل مستلزمات هذا الحبّ وتوابعه ، من دون قيود. ولا يسمح للانسان أن يحبّ اعداء الله ورسوله من قومه ووطنه ، كما لا يجوز أن يبغض المؤمنين من غير قومه ووطنه ... فيجب عليه أن يحبّ المؤمنين من غير قومه ووطنه ، ويبغض ويحارب أعداء الله ورسوله من قومه وعشيرته ووطنه.

سئل علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام عن العصبية. فقال : « العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرىٰ الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه علىٰ الظلم » (١).

وأما حبّ الاسلام والامة الاسلامية ، فإنه لما كان من مصاديق (الحبّ في الله) ، فإنه يمتدّ إلىٰ كل مستلزماته ومتطلباته ، فيجب علىٰ المؤمن أن يحبّ كل المسلمين من قومه ووطنه ، ومن غير قومه ووطنه ، ويحارب كل أعداء الله والمعتدين من قومه ووطنه ومن خارج قومه ووطنه.

فيكون الحبّ الاول من الحبّ المسموح به والمحكوم بضوابط الحبّ في الله

__________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٤٠٨. وبحار الأنوار ٧٣ : ٢٨٨.


وليس من (الولاء) لغير الله.

بينما يكون الحبّ الثاني من الولاء الحاكم علىٰ كل علاقاته وتعلّقاته بالقومية والوطنية.

إن ظاهرة القومية والوطنية التي عمّت العالم الاسلامي ، والتي استوردها المسلمون من الغرب في الأغلب ، ليست حبّاً ساذجاً فقط محكوماً لضوابط الولاء الاسلامي وللحبّ والبغض لله وفي الله ، وإنما تشكّل محوراً جديداً وحاكماً للحبّ والبغض في حياة الانسان المعاصر في مقابل محور حبّ الله والحبّ في الله.

وإنما نقول عنها أنها تشكّل محوراً جديداً في الحبّ والبغض ؛ لأن القومية والوطنية في مفهومها المعاصر توجّه عواطف الانسان وأحاسيسه من خلال قناة الانتماء القومي والوطني ، فيحبّ من الرجال والابطال ، والشعراء ، والاساطير ، والادب والحوادث ، والوقائع ، ما يتصل بقومه ووطنه طابت أم خبثت ، ويكره من الاقوام والابطال والشعر والاساطير والحوادث والايام ما كان في اتجاه مخالف لقومه ووطنه ، طابت أم خبثت.

وعلىٰ هذا الاساس تقوم الاتجاهات القوميه الحديثة في العالم الاسلامي بإحياء الحضارات الفرعونية ، والأشورية ، والبابلية ، والمجوسية لربط حاضر المسلمين بماضيهم ، طاب هذا الماضي أم كان خبيثاً.

فالقومية والوطنية ـ إذن ـ في مفهومها المعاصر ، اتجاه لإقامة محاور جديدة للولاء في مقابل الولاء لله ولرسوله.

وإنما نقول في مقابل الولاء لله وللرسول ، ولا نقول في عرض الولاء لله وللرسول ، أو مع الولاء لله وللرسول ، مع أن هذه المحاور القومية والوطنية لا تنفي الولاء لله وللرسول غالباً ، ومع ذلك نقول عنها إنها محاور جديدة للولاء في قبال الولاء لله وللرسول ؛ لأن مسألة الولاء لا تتقبل التعدد والتوزّع ، ومتىٰ يطرح ولاء


جديد في عرض الولاء لله وللرسول فإنها تنفي الولاء لله وللرسول لا محالة. فإن مسألة الولاء مسألة التوحيد دائماً ، فإما أن يكون للانسان ولاء لله ، فلا يكون له لغير الله تعالىٰ ولاء ، وإما أن لا يكون له لله وللرسول ولاء فيختار الانسان لولائه وحبّه وبغضه ما يشاء من المواضيع.

إن جوهر (الولاء) وقيمة (الولاء) في التوحيد ، فإذا انتفیٰ التوحيد ينتفي الولاء رأساً ، ونحن إذا أدركنا هذه الحقيقة في معنىٰ الولاء نستطيع أن نفهم معنیٰ (الولاء) ، ومن دونها يبقیٰ فهمنا لمسألة الولاء فهماً عامياً ساذجاً ، ينسجم الولاء فيه مع الولاء لكل أحد ، ولكل شيء ، حتىٰ مع الولاء لأعداء الله ، فيجتمع حبّ الله والولاء له ولأنبيائه عليهم‌السلام مع حبّ فرعون والولاء له ، ويجتمع حبّ الاسلام والولاء له مع حبّ الحضارات المجوسية والفرعونية والبابلية والولاء لها.

وعندما يهبط الولاء إلىٰ هذا المستوىٰ يفقد الولاء كل محتواه وقيمته وأثره.

فالحبّ في الله ـ إذن ـ يشكّل في حياة الإنسان المسلم محوراً للولاء في السلب والايجاب ، والحبّ والبغض ، والقرب والبعد ، ويكون حاكماً علیٰ كل علاقات الانسان وتعلّقاته وميوله وتوجّهاته.

وكل حبّ آخر لا ينافي الحبّ لله فهو مسموح به وجائز علىٰ أن يبقیٰ محكوماً للحبّ لله. وحتىٰ عندما يحبّ المسلم طائفتين مسلمتين في الله ولا يتخاصمان في أمر فلا يمكن أن يجمع بينهما الانسان في الحبّ ، ويضطر لاتخاذ موقف مختلف لكل منهما. فإن ضوابط الحبّ في الله هي التي تتحكّم في اتخاذ مثل هذا الموقف ، ولا يترك الأمر في مثل هذه المواقف لعواطف الانسان تجاههما ، ودرجة حبّه وتعلّقه بكل واحدة منهما ، فيؤثر منهما من كان أقرب إلىٰ نفسه ... ، ويقف من الاُخرىٰ موقفاً يميل إلىٰ السلب ... أقول : ليس للمسلم في مثل هذه المواقف ، وهو يحب الطائفتين في الله ، أن يرسل عواطفه تجاههما لضوابط الحب في الله بدقة ،


فيحاول أن يصلح بينهما ما استطاع إلىٰ ذلك سبيلاً ، وإن بغت إحداهما علىٰ الاخرىٰ وقف مع الفئة المعتدىٰ عليها ضد الفئة الباغية المعتدية ، بحزم وقوة ، ومن دون أن يميل مع ميوله وعلاقاته النفسية ، ويحسب حساباً لقرب إحداهما منه أو بعدها ، ومن دون أن يرقّ أو يلين للفئة الباغية علىٰ حساب الحق ، وإذا لم ترتدع الفئة الظالمة عن بغيها وغيّها ، أعلن عليها الحرب وقاتلها إلىٰ جنب الفئة المعتدىٰ عليها ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّـهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (١).

فالحبّ في الله ـ إذن ـ محور حاكم في حياة الانسان المسلم. يرسم له خريطة واضحة لعلاقاته في المجتمع والاسرة ولقربه وبعده ، وحبّه وبغضه.

ومن خصائص هذا المحور انه يرفض دائماً أي محور إلىٰ جنبه ، مهما يكن ذلك المحور.

وهذه الفقرة بحاجة إلىٰ مزيد من التوضيح ؛ فإن الله كريم ، ومن طبع الكريم الكرم والاحسان والعطاء.

ولكن نعم الله تعالىٰ لا تعبّر فقط عن كرمه وجوده سبحانه وتعالىٰ ، وإنما تعبّر عن معنىً آخر غير الكرم والجود ، وهو التحبّب إلىٰ عباده.

فإن الله تعالىٰ عندما ينعم علىٰ عباده يريد أن يتحبب إليهم ، ويدعوهم إلىٰ حبّه.

وواضح لمن يقرأ كتاب الله أن القرآن الكريم يحرص علىٰ توظيف النعمة في توجيه الانسان إلىٰ حبّ الله وحمده وشكره.

__________________

(١) الحجرات : ٩.


تأملوا في هاتين الآيتين الكريمتين من سورة الزخرف ، وهما مثل واحد علىٰ ما نقول : ( وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) (١).

إذن الغاية من الفلك والانعام والدواب ثلاثة ، وليست واحدة :

١ ـ ( لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ) ، وهي الاستفاده من النعمة.

٢ ـ ثم ( تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ) ، وهي وعي النعمة.

٣ ـ ثم تقولوا ( سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) ، وهي الشكر والحمد والتسبيح.

والذين يتلقّون نعم الله تعالیٰ من دون وعي وحمد ـ كالبهائم ـ يستفيدون في الحقيقة من النعمة استفادة ناقصة ؛ فإن النعمة تزوّد الجسم والروح والعقل والقلب.

والذين يستفيدون من النعمة فائدة ناقصة يحرمون عقولهم وقلوبهم وأرواحهم من النعم الإلهية.

كما تحفل النصوص الاسلامية بتوجيه الانبياء والدعاة إلىٰ الله بدعوة الناس إلىٰ الله ، وتحبيب الله إليهم من خلال (النعمة).

في الحديث القدسي : « أوصىٰ الله تعالىٰ إلىٰ موسىٰ عليه‌السلام : أحببْني وحبّبْني إلىٰ خلقي. قال موسىٰ : يا رب ، إنك لتعلم أنّه ليس أحدٌ أحبَّ إلَيَّ منكَ ، فكيف لي بقلوب العباد ؟

فأوحىٰ الله إليه : فذكّرْهم نعمتي وآلائي فإنهم لا يذكرون مني إلّا خيراً » (٢).

__________________

(١) الزخرف : ١٢ ـ ١٣.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٢.


وقال الله عزّوجلّ لداود : « أحببْني وحبِّبْني إلىٰ خلقي. قال : يا ربِّ نعم أنا اُحبُّكَ ، فكيف اُحبِّبكَ إلىٰ خلقك ؟

قال : اذكر أياديَّ عندهم ، فإنك إذا ذكرت ذلك لهم أحبّوني » (١).

والله يغار علیٰ عبده :

ومن حبّ الله تعالىٰ لعبده أنه يغار علىٰ عبده ، ويحبّ أن يخلو له وجه عبده ، ويفرغ له قلبه وقد تحدّثنا عن هذه النقطة ، فلا نعيد.

ويدعوهم إلىٰ التوبة :

ومن حبّه تعالىٰ لعباده أنهم إذا عصوه وأعرضوا عنه لم يعرض عنهم ، وإنما يمدّ إليهم حبل المودة ، ويدعوهم إلىٰ العودة ، ويفتح عليهم أبواب التوبة : ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّـهَ يَجِدِ اللَّـهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (٢).

ويأخذهم بالبأساء والضراء :

وإن لم يتوبوا ، ولم يرجعوا إليه ، واستمرّوا في إعراضهم وصدودهم لم يعرض عنهم الله ، ولم يقطع عليهم طرق العودة ، وإنما يبتليهم ، ويأخذهم بالبأساء والضراء ، لعلّهم يضّرعون ويعودون. ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) (٣).

وقد ورد في المناجاة الثامنة للامام علي بن الحسين عليهما‌السلام : « فيا من هو علىٰ المقبلين عليه مقبل ، وبالعطف عليهم عائدٌ مفضل ، وبالغافلين عن ذكره رحيم رؤوف ، وبجذبهم الىٰ بابه ودود عطوف » (٤).

فهو سبحانه عطوف ، ودود ، حتىٰ علىٰ الغافلين ، والمعرضين عنه ، (يحبّ

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) النساء : ١١٠.

(٣) الاعراف : ٩٤.

(٤) مفاتيح الجنان ، المناجاة الثامنة.


عباده) ، و (يتحبّب إليهم) ، (ويمنحهم الحبّ) ، (ويفتح إليهم طريق العودة إلىٰ الحبّ إذا أعرضوا عنه).

وعليه ، فإن الله تعالىٰ هو مصدر الحبّ وغايته. ومن أراد الحبّ الإلهي ، فعليه أن يطلبه من الله.

وفي نصوص الادعية نلتقي بكثرة سؤال (الحبّ) من الله تعالىٰ ، وقد عرضنا بعض هذه النماذج خلال هذا الحديث.

وفي دعاء الامام علي بن الحسين عليهما‌السلام : « اللهم إني أسألك أن تملأ قلبي حبّاً لك ، وخشية منك ، وتصديقاً لك ، وإيماناً بك ، وفرقاً منك ، وشوقاً إليك » (١).

وفي الدعاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهم اجعل حبَّك أحبَّ الاشياءِ إليَّ ، واجعل خشيتَك أخوفَ الاشياء عندي ، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلىٰ لقائِك » (٢).

وفي الدعاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « اللهم إني أسألك حبّك ، وحبّ من يحبّك ، والعملَ الذي يُبلغني حبَّك. اللهم اجعل حبّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي » (٣).

وفي المناجاة السابعة من المناجيات الخمسة عشرة : « اللهم احملنا في سفن نجاتك ، ومتّعنا بلذيذ مناجاتك ، وأوردنا حيّاض حبّك ، وأذقنا حلاوة ودّك وقربك ، واجعل جهادنا فيك ، وهمّنا في طاعتك ، واخلص نياتنا في معاملتك ، فإنّا بك ، ولك ، ولا وسيلة لنا إليك إلّا أنت » (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٩٢.

(٢) كنز العمال ، ح ٣٦٤٨.

(٣) كنز العمال ، ح ٣٧١٨.

(٤) مفاتيح الجنان : المناجاة السابعة.


كيف نحبّ الله ؟

ذكرنا أنّ الله تعالىٰ يتحبّب إلى عباده بالنعم ، وهذه حقيقة ثابتة لا حاجة للحديث عنها ، والذي يهمّنا هنا هو أن نقول : إنّ وعي النعمة هو العامل الأساسي والرئيس في حبّ الله.

وإذا أنعم الله على عبد بنعمة فتلقّاها عن وعي كان لهذا الوعي أثران مباشران في علاقته بالله تعالىٰ :

أحدهما : الشكر ، والثاني : الحبّ ، وكلاهما يرفعان الإنسان إلى الله ، وطريقان يسلكهما الإنسان الى الله.

والعلاقة بين (الشكر) و (النعمة) علاقة تبادلية جدلية ، كلما أنعم الله على عبد استدعته النعمة إلى الشكر ، وكلما شكر العبد ربّه زاده الله تعالىٰ من نعمه ، ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) (١) وزيادة النعم تستدعي مزيد الشكر ، وهكذا يتمّ الصعود إلى الله تعالىٰ.

وأمّا إذا تلقّی الانسان النعمة من غير وعي ، فإنّها تورثه البطر والرياء والغرور والطغيان ( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) (٢).

والنعمة تمنح الإنسان تارة حبّ الله وشكره ، وتثير في نفسه تارة اُخرى الغرور والبطر والرياء والطغيان.

والفرق بين هذا وذاك (الوعي) ، ولذلك يحرص القرآن على التذكير بنعم الله تعالیٰ ، وهذا التذكير يشغل مساحة واسعة من القرآن.

فنجد أنّ القرآن يحاول أن يفتح عقل الإنسان وقلبه على طائفة واسعة من نعم الله التي يغفل عنها الإنسان عادة. فإنّ الإنسان يألف هذه النعم في حياته

__________________

(١) ابراهيم : ٧.

(٢) العلق : ٦ ـ ٧.


اليومية كثيراً ، ومن طبيعة هذه الاُلفة أن يتبلّد الذهن ، فلا يحس الإنسان بقيمة هذه النعم وجمالها ، نحو نعمة الزوجية ، وتكور الليل والنهار ، والمراكب التي يستخدمها الإنسان في البرّ والبحر ، وما جعل الله تعالىٰ للانسان فيهما من نعمة ورزق ... وهي عملية توعية وتذكير واسعة وهادفة بنعم الله تعالىٰ ، يقول تعالىٰ : ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ) (١). ويقول تعالىٰ : ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) (٢).

وقد روي عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسّر هذه الآية الكريمة بقوله : « منْ لم يعلم فضل الله عزوجل عليه إلّا في مطعمه ومشربه فقد قصر علمه ودنا عذابه » (٣).

والتذكير بالنعمة توعية للنعمة. وإذا وعى الإنسان النعمة انقلبت النعمة في حياته حبّاً وشكراً ، وإذا تجرّدت النعمة عن الوعي انقلبت غروراً وطغياناً وبطراً ورياءً في حياة الانسان. وإلى هذا المعنى الدقيق في قيمة (الحمد) وتوعية الله لعباده بنعمه يشير الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام في الدعاء الاول من أدعية الصحيفة ، يقول عليه‌السلام : « والحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، وأسبغ عليهم من نعمه الظاهرة ... لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية الى حدّ البهيمية ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه : ( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) (٤).

وفي النصوص الإسلامية توجيه متكرر لتوظيف (نعم الله) في اتجاه حبّ الله ، وتوجيه الناس الى حبه تعالىٰ بسبب نعمه وآلائه.

__________________

(١) النحل : ١٨.

(٢) لقمان :. ٢.

(٣) أمالي الشيخ الطوسي ٢ : ١٠٥.

(٤) الصحيفة السجادية : ٢٤ بمقدمة السيد الشهيد الصدر ، والآية : الفرقان : ٤٤.


عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبّوني لحبّ الله عزّوجلّ ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي » (١).

وقد مرّ في الحديث القدسي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قال الله عزوجل لداود عليه‌السلام : أحِبَّني وحبِبني إلى خلقي. قال : يا ربّ ، نعم أنا أحبك ، فكيف أحبّبك إلى خلقك ؟ قال : اذكر أياديّ عندهم ، فإنّك إذا ذكرت ذلك لهم أحبّوني » (٢).

وفي نصوص الأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام نجد اهتماماً بالغاً في التأكيد على إحصاء نعم الله تعالىٰ وآلائه أولاً ، وفي التأكيد على الحمد والشكر لله تعالىٰ ثانياً.

وهاتان عمليّتان هادفتان في منهاج التربية الإسلامية تؤدّيان إلى :

١ ـ توعية الإنسان وتذكيره بالنعمة.

٢ ـ توجيهه إلى حمد الله تعالىٰ وشكره وحبّه.

وفيما يلي نذكر نماذج من التذكير والتوعية بالنعم في نصوص أدعية أهل البيت عليهم‌السلام أولاً ، ثمّ في توجيه الإنسان من خلال هذه التوعية وهذا التذكير إلى شكر الله تعالىٰ ثانياً.

نماذج من التذكير والتوعية بالنعم :

في دعاء الإمام الحسين عليه‌السلام يوم عرفة :

« اللهمّ إنّي أرغب إليكَ وأشهَدُ بالرُبوبيَّةِ لك ، مُقِرّاً بأنّكَ ربّي وإليْكَ مَردّي ، ابتدأتَني بنعَمِكَ قَبْلَ أنْ أكون شَيْئاً مَذْكُوراً ، وخَلَقْتني مِنَ التُرابِ ، ثُمَّ اَسْكَنْتَني الاَصلابَ آمِناً لِرَيْبِ الْمُنونِ ، وَاخْتِلافِ الدُّهُورِ وَالسِّنينَ ، فَلَمْ اَزَلْ ظاعِناً مِنْ

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ١٤.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٢.


صُلْبٍ اِلىٰ رَحِمٍ في تَقادُمٍ مِنَ الْاَيّامِ الْماضِيَةِ ، وَالْقُروُنِ الْخالِيَةِ ، لَمْ تُخْرِجْني لرَأفَتِكَ بي ، وَلُطفِكَ لي ، وَاِحْسانِكَ اِلَيَّ في دَوْلَةِ أئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ ، وَكَذَّبُوا رُسُلَكَ ؛ لكنَّك اَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الهُدَىٰ الَّذي لَهُ يَسَّرتَني ، وَفيهِ اَنْشَأْتَني ؛ وَمِنْ قَبْلِ ذلك رَؤُفْتَ بي بِجَميلِ صُنْعِكَ ؛ وَسَوابِغِ نِعَمِكَ ؛ فَابْتَدَعْتَ خَلْقي مِنْ مَنِيٍّ يُمْنىٰ ، وَاَسْكَنْتَني في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ بَيْنَ لَحْمٍ وَدَمٍ وَجِلْدٍ ، لَمْ تُشْهِدْ لي خَلْقي ، وَلَمْ تَجْعَلْ اِلَيَّ شيئاً مِن اَمْري ؛ ثُمَّ اَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الهُدىٰ اِلىٰ الدُّنيا تامّاً سَوِيّاً ، وَحَفِظتَني فِي الْمَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً ، وَرَزَقْتَني مِنَ الْغِذاءِ لَبَناً مَرِيّاً ، وَعَطَفْتَ عَلَيَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ ، وَكَفَّلْتَني الاُمَّهاتِ الرَّواحِمَ ، وَكَلَأْتَني مِنْ طَوارِقِ الْجانِّ ، وَسَلَّمْتَني مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ ، فتعالَيْتَ يا رَحيمُ يا رَحْمانُ ، حَتّٰی اِذَا اسْتَهْلَلتُ ناطِقاً بِالْكَلامِ اَتْمَمْتَ عَلَيَّ سَوابِغَ الإنعامِ ، وَرَبَّيتني زائِداً في كُلِّ عامٍ ؛ حَتّى اِذَا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتي ، وَاعْتَدَلَتْ مِرَّتي اَوْجَبْتَ عَلَيَّ حُجَّتَكَ بِاَنْ اَلْهَمْتَني مَعْرِفَتَكَ ، وَرَوَّعْتَني بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ ، وَاَيْقَظتَني لما ذَرَأْتَ في سَمائِكَ وَاَرْضِكَ مِنْ بَدائِعِ خَلْقِكَ ، وَنَبَّهْتَني لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ ، وَاَوْجَبْتَ عَلَيَّ طاعَتَكَ وَعِبادَتَكَ ، وَفَهَّمْتَني ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُكَ ، وَيَسَّرْتَ لي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ ، وَمَنَنْتَ عَلَيَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَوْنِكَ وَلُطْفِكَ ؛ ثُمَّ اِذْ خَلَقْتَني مِنْ خَيرِ الثَّرىٰ لَمْ تَرْضَ لي يا اِلهي نِعْمَةً دُونَ اُخْرىٰ ، وَرَزَقتَني مِنْ أنواعِ المَعاشِ ، وَصُنوُفِ الرِّياشِ بمَنِّكَ الْعَظيم الأَعْظَم عَليَّ ، وَاِحْسانِكَ الْقَديم اِلَيَّ ؛ حَتّىٰ اِذا اَتْمَمْتَ عَلَيَّ جَميعَ النِّعَمِ ، وَصَرَفْتَ عَنّي كُلَّ النِّقَمِ لَمْ يَمْنَعْكَ جَهْلي وَجُرْأتي عَلَيْكَ اَنْ دَلَلْتَني إلىٰ ما يُقَرِّبُني اِلَيْكَ ، وَوَقَفْتَني لما يُزْلِفُني لَدَيْكَ ؛ فَاِنْ دَعَوْتُكَ اَجَبْتَني ، وَإنْ سَأَلْتُكَ أعَطَيتَني ، وَاِنْ اَطعْتُكَ شَكَرْتَني ، وَاِنْ شَكَرْتُكَ زِدْتَني. كُلُّ ذلِكَ إكْمالٌ لِاَنْعُمِكَ عَلَيَّ ، وَاِحْسانِكَ اِلَيَّ ؛ فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ مِنْ مُبْدِئٍ مُعيدٍ حَميدٍ مَجيدٍ. تَقَدَّسَتْ اَسْماؤُكَ ، وَعَظُمَتْ آلاؤُكَ. فَاَيُّ نِعَمِكَ يا اِلهي اُحْصي عَدَدًا وَذِكْراً ، اَمْ اَيُّ عَطاياكَ اَقُومُ بِها شْكُراً. وَهِيَ يا رَبِّ اَكْثَرُ مِنْ اَنْ يُحْصِيَها الْعادّونَ ، اَوْ يَبْلُغَ عِلْماً بِها الحافِظُونَ ؛ ثُمَّ ما


صَرَفْتَ وَدَرَأْتَ عَنّي اللّهُمَّ مِنَ الضُّرِّ وَالضَّرّاءِ ، اَكْثَرُ ممّا ظَهَرَ لي مِن الْعافِيَةِ وَالسَّرّاءِ » (١).

نماذج من التوجيه الی الحمد والشكر :

في دعاء الامام علي بن الحسين عليهما‌السلام في يوم عرفة :

« لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا يَدُومُ بِدَوامِكَ ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً خالِدًا بِنِعْمَتِكَ ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً يُوازي صُنْعَكَ ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً يَزيدُ عَلى رِضاكَ ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً مَعَ حَمْدِ كُلِّ حامِدٍ ، وَشُكْراً يَقْصُرُ عَنْهُ شُكْرُ كُلِّ شاكِرٍ ؛ حَمْداً لا يَنْبَغي اِلّا لَكَ ، وَلا يُتَقَرَّبُ بِهِ اِلّا اِلَيْكَ ؛ حَمْدًا يُسْتَدامُ بِهِ الْأَوَّلُ ، ويُسْتَدْعىٰ بِهِ دَوامُ الاخِرِ ؛ حَمْداً يَتَضاعَفُ عَلى كُروُرِ الأزْمِنَةِ ، وَيَتَزايَدُ اَضْعافاً مُتَرادِفَةً ؛ حَمْداً يَعْجِزُ عَنْ إِحْصائِهِ الْحَفَظَةُ ، وَيَزيدُ عَلى ما اَحْصَتْهُ في كِتابِكَ الْكَتَبَةُ ؛ حَمْداً يُوازِنُ عَرْشَكَ الْمَجيدَ ، وَيُعادِلُ كُرْسيَّكَ الرَّفيعَ ؛ حَمْداً يَكْمُلُ لَدَيْكَ ثَوابُهُ ، وَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ جَزاءٍ جَزاؤُهُ ؛ حَمْداً ظاهِرُهُ وِفْقٌ لِباطِنِه ، وَباطِنُهُ وِفْقٌ لِصِدْقِ النِّيَّةِ ؛ حَمْداً لَمْ يَحْمَدْكَ خَلْقٌ مِثْلَهُ ، وَلا يَعْرِفُ اَحَدٌ سِواكَ فَضْلَهُ ؛ حَمْداً يُعانُ مَنِ اِجْتَهَدَ في تَعْديدِهِ ، وَيُؤَيَّدُ مَنْ اَغْرَقَ نَزْعاً في تَوْفِيَتِه ؛ حَمْداً يَجْمَعُ ما خَلَقْتَ مِنَ الْحَمْدِ ، وَيَنْتَظِمُ ما اَنْتَ خالِقُهُ مِنْ بَعْدُ ، حَمْداً لا حَمْدَ اَقْرَبُ اِلىٰ قَوْلِكَ مِنْهُ ، وَلا أحمَدُ مِمَّنْ يَحْمَدُكَ بِهِ ؛ حَمْداً يُوجِبُ بِكَرَمِكَ الْمَزيدَ بِوُفُورِه ، وَتَصِلُهُ بِمَزيدٍ بعد مزيدٍ طولاً مِنْكَ ؛ حَمْداً يَجِبُ لِكَرَمِ وَجْهِكَ ، وَيُقابِلُ عِزَّ جَلالِكَ » (٢).

وفي دعاء الامام علي بن الحسين عليه‌السلام وهو الدعاء الاول من الصحيفة السجادية :

« وَالْحَمْدُ للهِ عَلى ما عَرَّفَنا مِنْ نَفْسِهِ ، وَاَلْهَمَنا مِنْ شُكْرِه ، وَفَتَحَ لَنا مِنْ اَبْوابِ

__________________

(١) مفاتيح الجنان.

(٢) الصحيفة السجادية.


الْعِلْمِ بِرُبوبِيَّتِهِ ، وَدَلَّنا عَلَيْهِ مِنَ الْاِخْلاصِ لَهُ في تَوْحيدِه ، وَجَنَّبَنا مِنَ الْاِلحادِ وَالشَّكِّ في اَمْرِه ؛ حَمْدًا نُعَمَّرُ بِهِ فيمَنْ حَمِدَهُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَنَسْبِقُ بِهِ مَنْ سَبَقَ إلىٰ رِضاهُ وَعَفْوِهِ ؛ حَمْداً يُضيءُ لَنا بِهِ ظُلُماتِ الْبَرْزَخِ ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْنا بِهِ سَبيلَ الْمَبْعَثِ ، وَيُشَرِّفُ بِه مَنازِلَنا عِنْدَ مَواقِفِ الْاَشْهادِ ؛ ( وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ). ( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ) حَمْدًا يَرْتَفِعُ مِنّا اِلىٰ اَعْلىٰ عِلّيّينَ ، في كِتابٍ مَرْقُومٍ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ؛ حَمْداً تَقَرُّ بِه عُيوننا اِذا بَرِقَتِ الْاَبْصارُ ، وَتَبْيَضُّ بِه وُجُوهُنا اِذَا اسْوَدَّتِ الْاَبْشارُ ؛ حَمْداً نُعْتَقُ بِه مِنْ اَليمِ نارِ اللهِ اِلىٰ كَريمِ جَوارِ اللهِ ؛ حَمْداً نُزاحِمُ بِهِ مَلائِكَتَهُ الْمُقَرَّبينَ ، وَنُضامُّ بِه اَنْبِياءهُ الْمُرْسَلينَ في دارِ الْمُقامَةِ الّتي لا تَزولُ ، وَمَحَلِّ كِرامَتِهِ الَّتي لا تَحولُ. وَالْحَمْدُ لله الَّذي اخْتارَ لَنا مَحاسِنَ الْخَلْقِ ، وأجْرىٰ عَلَيْنا طَيِّباتِ الرِّزْقِ ، وَجَعَلَ لَنا الفَضيلَةَ بِالملكَةِ عَلىٰ جَميعِ الْخَلْقِ ، فَكُلُّ خَليقَتِه مُنْقادَةٌ لَنا بِقُدْرَتِهِ ، وَصائِرَةٌ اِلىٰ طاعَتِنا بِعِزّتِهِ ، وَالْحَمْدُ لله الَّذي أغْلَقَ عَنّا بابَ الْحاجَةِ إلّا اِلَيْهِ ، وَالْحَمْدُ للهِ بِكُلِّ ما حَمِدَهُ بِه اَدْنىٰ مَلائِكَتِهِ اِلَيْهِ ، وَاَكْرَمُ خَليقَتِه عَلَيْهِ ، وَاَرْضىٰ حامِدِيه لَدَيْهِ ؛ حَمْداً يَفْضُلُ سائِرَ الْحَمْدِ كَفَضْلِ رَبِّنا عَلىٰ جَميعِ خَلْقِهِ ، ثُمَّ لَهُ الْحَمْدُ مَكانَ كُلِّ نِعْمَةٍ لَهُ عَلَيْنا ، وَعَلىٰ جَميعِ عِبادِهِ الْماضينَ وَالْباقِينَ عَدَدَ ما اَحاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَميعِ الْاَشْياءِ ، وَمَكانَ كُلِّ واحِدَةٍ مِنْها عَدَدُها اَضْعافاً مُضاعَفَةً اَبَدَاً سَرْمَداً اِلىٰ يَوْمِ القيامَةِ ، حَمْداً لا مُنْتَهىٰ لِحَدِّه ، وَلا حِسابَ لِعَدَدِه ، وَلا مَبْلَغَ لِغايَتِه ، وَلا انْقِطاعَ لِاَمَدِه ؛ حَمْداً يَكُونُ وُصْلَةً اِلىٰ طاعَتِه وَعَفْوِهِ ، وَسَبَباً اِلىٰ رِضْوانِه ، وَذَريعَةً اِلىٰ مَغْفِرَتِه ، وَطَريقاً اِلىٰ جَنَّتِه ، وَخَفيراً مِنْ نَقِمَتِهِ ، وَاَمْناً مِنْ غَضَبِه ، وَظَهيراً عَلىٰ طاعَتِه ، وَحاجِزًا عَنْ مَعْصِيَتِه ، وَعَوْناً عَلٰى تأْدِيَةِ حَقِّه وَوَظائِفِهِ ؛ حَمْداً نَسْعَدُ بِه في السُّعَداءِ مِنْ اَوْلِيائِه ، وَنَصيرُ بِه في نَظْمِ الشُّهَداءِ


بِسُيُوفِ اَعْدائِهِ ؛ اِنَّهُ وَلِيُّ حَميدٌ » (١).

وَنقرأ هذا المسلسل من الحمد في دعاء الافتتاح :

« الحَمْدُ لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صاحِبَةً ولا وَلداً ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ مِن الذلِّ وكبِّرْهُ تَكْبيراً. الحمد للهِ بِجَميعِ مَحامِدِهِ كُلِّها عَلىٰ جَميعِ نِعَمِهِ كُلِّها. الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا مُضادَّ لَهُ فِي مُلْكِهِ ، وَلا مُنازعَ لَهُ فِي أمْرِهِ. الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا شَريكَ لَهُ في خَلْقِهِ ، وَلاَ شَبيهَ لَهُ في عَظَمَتِهِ. الحَمْدُ للهِ الْفَاشِي في الْخَلْقِ أمْرُهُ وَحَمْدُهُ ، الظَّاهِرِ بِالْكَرَمِ مَجْدُهُ ، ﭐلْبَاسِطِ بِالْجُودِ يَدَهُ ؛ الّذِي لاَ تَنْقُصُ خَزَائِنُهُ وَلا تَزِيدُهُ كَثْرَةُ الْعَطَاءِ إِلّا جُوُداً وَكَرَماً ، إِنَّهُ هُوَ الْعَزيزُ ﭐلوَهَّابُ. أللّٰهُمَّ إِنّي أسْأَلُكَ قَلِيلاً مِنْ كَثِيرٍ مَعَ حَاجَةٍ بِي إِلَيْهِ عَظيمة ، وَغِناكَ عَنْهُ قَديِمٌ ، وَهُوَ عِنْدِي كَثِيرٌ ، وَهُوَ عَلَيْكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ. اللهُمَّ إِنَّ عَفْوَكَ عَنْ ذَنْبِي ، وَتَجَاوُزَكَ عَنْ خَطِيئتي ، وَصَفْحَكَ عَنْ ظُلْمِي ، وَسَتْرَكَ عَلىٰ قَبِيحِ عَمَلِي ، وَحِلْمَكَ عَنْ كَثِيرِ جُرْمي ، عِنْدَما كانَ مِنْ خَطَأي وَعَمْدي ، أَطْمَعَني فِي أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لا أَسْتَوْجِبُهُ مِنْكَ ؛ الّذِي رَزَقْتَنِي مِنْ رَحْمتِكَ ، وَأَرَيْتَني مِنْ قُدْرَتِكَ ، وَعَرَّفْتَنِي مِنْ إِجَابَتِكَ ؛ فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً ، وَأَسْأَلُكَ مُسْتَأْنِساً ، لا خَائِفاً وَلا وَجِلاً ، مُدِلّاً عَلَيْكَ فِيما قَصَدْتُ فِيهِ إِلَيْكَ ، فَإنْ أبْطَأَ عَنّي عَتَبْتُ بِجَهْلي عَلَيْكَ ، وَلَعَلَّ ﭐلَّذِي أَبْطَأَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي ؛ لِعلْمِكَ بِعَاقِبَةِ ﭐلْاُمُورِ ؛ فَلَمْ أَرَ مَوْلىً كَرِيماً أَصْبَرَ عَلیٰ عَبْدٍ لَئيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يَا رَبّ ؛ إِنَّكَ تَدْعُوني فَأُوَلّي عَنْكَ ، وَتَتَحَبَّبُ إِلَيَّ فَأتَبَغَّضُ إِلَيْكَ ، وَتَتَوَدَّدُ إِلَيَّ فَلاَ أَقْبَلُ مِنْكَ ؛ كَأَنَّ لِيَ ﭐلتَّطوُّلَ عَلَيْكَ ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْكَ ذلِكَ مِنْ ﭐلرَّحْمَةِ لِي ، وَالْإِحْسانِ إِلَيَّ ، وَﭐلتَّفَضُّلِ عَلَيَّ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ ؛ فَارْحَمْ عَبْدَكَ الْجَاهِلَ وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ إِحْسانِكَ إِنَّكَ جَوَادٌ كَرِيمٌ. الْحَمْدُ للهِ مَالِكِ ﭐلْمُلْكِ ، مُجْرِي ﭐلْفُلْكِ ، مُسَخِّرِ ﭐلرّياحِ ، فَالِقِ ﭐلْإِصْباحِ ، دَيَّانِ ﭐلدّينِ ، رَبِّ ﭐلْعَالَمينَ ، الْحَمْدُ للهِ عَلىٰ حلمِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية.


وَﭐلْحَمْدُ للهِ عَلىٰ عَفْوِهِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ ، وَﭐلْحَمْدُ للهِ عَلَى طُول اَناتِهِ فِي غَضَبِهِ ، وَهُوَ قادِرٌ عَلَى ما يُريدُ. الحَمْدُ للهِ خَالِقِ ﭐلْخَلْقِ ، بَاسِطِ ﭐلرِّزْقِ ، فَالِقِ ﭐلإِصْباحِ ذِي ﭐلْجَلال وَﭐلْإِكْرَامِ ، وَﭐلْفَضْلِ وَﭐلْإِنْعامِ ، ﭐلَّذِي بَعُدَ فَلا يُرىٰ ، وَقَرُبَ فَشَهِدَ ﭐلنَّجْوىٰ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَی. الْحَمْدُ للهِ ﭐلَّذِي لَيْسَ لَهُ مُنَازِعٌ يُعادِلُهُ ، وَلا شَبِيهٌ يُشاكِلُهُ ، وَلا ظَهِيرٌ يُعَاضِدُهُ ؛ قَهَرَ بِعِزَّتِهِ ﭐلْأَعِزَّاءَ ، وَتَوَاضَعَ لِعَظَمَتِهِ ﭐلْعُظَمَاءُ فَبَلَغَ بِقُدْرَتِهِ مَا يَشَاءُ. الحَمْدُ للهِ ﭐلَّذِي يُجيبُني حِينَ اُنادِيهِ ، وَيَسْتُرُ عَلَيَّ كُلَّ عَوْرَةٍ وأَنا أعْصيهِ ، ويُعَظِّمُ ﭐلنِّعْمَةَ عَلَيَّ فَلا اُجازيهِ ؛ فَكَمْ مِنْ مَوْهِبَةٍ هَنيئَةٍ قَدْ اَعْطانِي ، وَعَظيمَةٍ مَخوُفَةٍ قَدْ كَفانِي ، وَبَهْجَةٍ موُنِقَةٍ قَدْ اَرانِي ، فاُثنِي عَلَيْهِ حَامِدًا ، وَأَذْكُرُهُ مُسَبِّحاً. أَلْحَمْدُ للهِ ﭐلَّذِي لا يُهْتَكُ حِجَابُهُ ، وَلاَ يُغْلَقُ بَابُهُ ، وَلا يُرَدُّ سِائِلُهُ ، وَلاَ يُخيَّبُ آمِلُهُ. الحَمْدُ للهِ ﭐلَّذِي يُؤْمِنُ ﭐلْخَائِفيِنَ ، وَيُنَجِّي ﭐلصَّالِحينَ ، وَيَرْفَعُ ﭐلْمُسْتَضْعَفِينَ ، وَيَضَعُ ﭐلْمُسْتَكْبِرينَ ، وَيُهْلِكُ مُلُوكاً وَيَسْتَخْلِفُ آخَرِين ؛ وَﭐلحَمْدُ للهِ قَاصِمِ ﭐلْجَبَّارِينَ ، مُبِيرِ ﭐلظّالِمينَ ، مُدْرِكِ ﭐلْهَارِبينَ ، نَكالِ ﭐلظّالِمينَ ، صَريخِ ﭐلْمُسْتَصْرِخينَ ، مَوْضِعِ حَاجَاتِ ﭐلطَّالِبينَ ، مُعْتَمَدِ ﭐلْمؤمِنينَ. الْحَمْدُ للهِ ﭐلَّذِي مِنْ خَشْيَتِهِ تَرْعَدُ ﭐلسَّماءُ وَسُكَّانُهَا ، وَتَرْجُفُ ﭐلْأرْضُ وَعُمَّارُهَا ، وَتَمُوجُ ﭐلْبِحَارُ وَمَنْ يَسْبَحُ فِي غَمَرَاتِهَا. الحَمْدُ للهِ ﭐلَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَديَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ. الحَمْدُ للهِ ﭐلَّذِي يَخْلُقُ وَلَمْ يُخْلَقْ ، وَيَرْزُقُ وَلاَ يُرْزَقُ ، وَيُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ، وَيُمِيتُ الأحْياءَ وَيحْيِي المَوْتیٰ ... » الخ (١).

نتائج وآثار حبّ الله في حياة الإنسان :

لحبّ الله نتائج وآثار عظيمة في حياة الإنسان :

١ ـ ومن أهمّها الاتّباع والطاعة ، فإنّ الإنسان إذا أحبّ الله تعالىٰ يطيع الله

__________________

(١) دعاء الافتتاح ، مفاتيح الجنان.


ورسوله ويتّبعهما بطبيعة الحال ، وطاعة الله ورسوله تستتبع حبّ الله ومغفرته ، يقول تعالىٰ : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١).

٢ ـ ومنها أنّ حبّ الله تعالىٰ يطهّر القلب مما يرين عليه ، ومن الأدران ، ومن التعلّق بالدنيا ، فإنّ حبّ الله هو العامل الأقوى والأكثر نفوذاً في قلب الإنسان ، والعامل الأقوى يصفّي العوامل المعاكسة والمضادّة.

وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قوله :

« حبُّ الله نارٌ لا يمرُّ على شيء إلّا احترق ، ونور الله لا يطلع على شيء إلّا أضاء » (٢).

فهو نار ونور ، يطهر القلب ، ويُضيئه ، ويمنحه النور والبصيرة.

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل ، وكلّ ذكر سوى الله عنده ظلمة ، والمحبّ أخلص الناس سرّاً لله وأصدقهم قولاً ، وأوفاهم عهداً ، وأزكاهم عملاً ، وأصفاهم ذكراً ، وأعبدهم نفساً ، تتباهى الملائكة عند مناجاته ، وتفتخر برؤيته .. » (٣).

٣ ـ ومن نتائج حب الله الذكر ، فإنّ قلب المحب ذاكر ، والقلب الساهي واللاهي لا يدخله الحبّ ، ولا يمكن أن يغفل ويسهو المحبّ عمّن يحبّ.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « علامة حبّ الله تعالىٰ حبّ ذكر الله ، وعلامة بغض الله تعالىٰ بغض ذكر الله عزّ وجل » (٤).

فإنّ الإنسان إذا أحبّ شيئاً ذكره ، وإذا أكثر من حبّ شيء أكثر من ذكره ،

__________________

(١) آل عمران : ٣١.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) كنز العمّال : ح ١٧٧٦.


وإذا لم يحبّ شيئاً غفل عنه أو تغافل عنه ، ومن الذكر قيام الليل ، وإطالة السجود ، والقيام بين يدي الله ، ومداومة العبادة.

وقد روي عن الإمام علي عليه‌السلام : « القلب المحب لله يحب كثيراً النصب لله ، والقلب اللاهي في الله يحب الراحة » (١).

وروي أنّه كان فيما أوحى الله تعالىٰ الى موسى بن عمران عليه‌السلام : « كذب من زعم أنّه يحبني ، فإذا جنّه الليل نام عنّي ، أليس كلّ محب يحب خلوة حبيبه ؟ ها أنا ذا يا بن عمران مطلع على أحبائي ، إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ، ومثلت عقوبتي بين أعينهم ، يخاطبوني وقد جللت عن المشاهدة ، ويكلّموني وقد عززت عن الحضور » (٢).

٤ ـ ومن نتائج حب الله الرضا بأمر الله ، والرضا بأمر الله مرتبة فوق مرتبة التسليم ، فإنّ الإنسان قد يستسلم لأمر وهو غير راض عنه ، والرضا بأمر الله وقضائه وقدره من أسمى مراتب أولياء الله.

ففي الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد : « اللهمّ إنّي أسألك سؤال خاضع متذلل خاشع ، أن تسامحني وترحمني ، وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً ، وفي جميع الأحوال متواضعاً » (٣).

وفي الدعاء في زيارة أمين الله : « اللهمّ فاجعل نفسي مطمئنّة بقدرك ، راضية بقضائك ، مولعة بذكرك ودعائك ، محبّة لصفوة أوليائك ، محبوبة في أرضك وسمائك » (٤).

والرضا بأمر الله من خصائص ونتائج حبّ الله ، فإنّ الإنسان إذا أحبّ الله

__________________

(١) تنبيه الخواطر : ٣٣٢.

(٢) لقاء الله ، الشيخ جواد ملكي : ١٠١.

(٣) دعاء كميل بن زياد النخعي عن علي عليه السلام : مفاتيح الجنان.

(٤) زيارة أمين الله في مفاتيح الجنان.


رضي بأمره وقضائه وقدره.

وفيما أوحى الله تعالىٰ الى داود عليه‌السلام : « يا داود ، من أحبّ حبيباً صدّق قوله ، ومن رضي بحبيب رضي فعله ، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه ، ومن اشتاق إلى حبيب جدّ في السير إليه » (١).

٥ ـ ومن نتائج حبّ العبد لله حبّ الله للعبد ، وهو نتيجة حتميّة.

وتشير إلى هذا المعنى الآية الكريمة ، ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٢).

وسوف نخصّ هذه النقطة بالحديث قريباً إن شاء الله.

٦ ـ ومن نتائج حبّ الله « الحبّ في الله والبغض في الله » وهو أثر طبيعي لحبّ الله ، فإنّ الإنسان إذا أحبّ شيئاً يحبّ فيه ويبغض فيه.

وفي النصّ الآتي نلتقي جملة من آثار ونتائج « حبّ الله » في حياة الإنسان. عن الإمام أبي عبدالله جعفر الصادق عليه‌السلام : « إنّ أولي الألباب الذين عملوا بالفكرة حتّى ورثوا منه حبّ الله ، فإنّ حبّ الله إذا ورثه القلب ، واستضاء به أسرع إليه اللطف ، فإذا نزل اللطف صار من أهل الفوائد ... فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبته في خالقه ، فإذا فعل ذلك نزل المنزلة الكبرى ، فعاين ربّه في قلبه ، وورث الحكمة بغير ما ورثه الحكماء ، وورث العلم بغير ما ورثه العلماء ، وورث الصدق بغير ما ورثه الصدّيقون ، إنّ الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت ، وإنّ العلماء ورثوا العلم بالطلب ، وإنّ الصدّيقين ورثوا الصدق بالخشوع وطول العبادة ، فمن أخذ بهذه المسيرة إمّا أن يسفل وإمّا أن يرفع ، وأكثرهم الذي يسفل ولا يرفع إذا لم يرع حق الله ، ولم يعمل بما أمر به ، فهذه صفة من لم يعرف الله حق معرفته ، ولم يحبّه حق

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٧ : ٤٢.

(٢) آل عمران : ٣١.


محبّته ، فلا يغرّنك صلاتهم وصيامهم ورواياتهم وعلومهم ، فإنهم حمر مستنفرة » (١).

العلاقة التبادلية بين حبّ الله ونتائجه :

ولا بدّ هنا من أن نشير إلى حقيقة مهمّة في هذا البحث ، وهي أنّ العلاقة بين حبّ الله وجملة من النتائج المترتبة علىٰ حبّ الله علاقة تبادلية وجدلية ، كلّ منهما يؤدّي إلى الآخر ، فإنّ الحبّ يؤدّي الى الذكر.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « علامة حبّ الله ، حبّ ذكر الله ؛ والذكر يؤدّي إلى الحبّ » (٢).

عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أكثر ذكر الله أحبّه » (٣).

وحبّ الله يؤدّي إلى تفريغ القلب من الشواغل والتعلّق بالدنيا.

عن الصادق عليه‌السلام : « حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل » (٤).

وتفريغ القلب من الشواغل ومن التعلق بالدنيا يؤدي إلى حبّ الله.

عن الصادق عليه‌السلام : « إذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حبّ الله ، وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط ، وإنّما خالط القوم حلاوة حبّ الله فلم يشتغلوا بغيره » (٥).

والحب في الله والبغض في الله من نتائج حب الله ، ولكنّه في نفس الوقت

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٥ عن مصباح الشريعة المنسوب الى الإمام الصادق عليه السلام.

(٢) كنز العمال : ح ١٧٧٦.

(٣) بحار الأنوار : ٩٣ : ١٦٠.

(٤) المصدر ٧٠ : ٢٣.

(٥) المصدر ٧٣ : ٥٦.


يؤدّي إلى حب الله ، فإنّ من أحب في الله يتأكّد حبه لله تعالىٰ ، ومن أحب الله أحبه الله ، ومن أحبه الله أحبّ الله.

ولهذه العلاقة التبادلية نظائر كثيرة في الثقافة الإسلامية ، وهي تسيّر العبد في خطّ تصاعدي إلى الله ، فإنّ الذكر يكرّس الحب ، والحب يكرّس الذكر مثلاً ، وهكذا يتضاعف (الحب) و (الذكر) في هذه العلاقة التبادليّة باتجاه القرب الى الله.

تبادل الحبّ بين الله تعالیٰ وعبده :

تحدّثنا عن العلاقة المتبادلة بين حبّ الله لعباده وحب العبد لله ، وذكرنا أنّ هذه العلاقة متبادلة ، وكلّ منهما يؤدّي الى الآخر ، وبالتالي تكون منطلقاً لحركة تصاعدية إلى الله في حياة الإنسان.

والقرآن الكريم يذكر هذا الحب المتبادل بين الله وعباده في سورة المائدة ، يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (١).

والعلاقة بين هذا الحب وذاك (حب الله لعبده ، وحب العبد لربّه) علاقة تبادلية ، وإذا أراد الإنسان أن يعرف حبّ الله تعالىٰ له ، فلينظر إلى نفسه ، فهي مرآة ومقياس دقيق يستطيع الإنسان أن يعرف بها منزلته عند الله تعالىٰ ، وحب الله تعالىٰ له.

روي عن الصادق عليه‌السلام : « من أحب أن يعلم ما له عند الله ، فليعلم ما لله عنده » (٢).

__________________

(١) المائدة : ٥٤.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ١٨.


وروي عنه عليه‌السلام : « من أراد أن يعرف کيف منزلته عند الله ، فليعرف کيف منزلة الله عنده ، فإنّ الله ينزل العبد مثل ما ينزل العبد الله من نفسه » (١).

وعن الإمام علي عليه‌السلام : « من أراد منکم أن يعلم کيف منزلته عند الله ، فلينظر کيف منزلة الله منه عند الذنوب ؛ کذلك منزلته عند الله تبارك وتعالیٰ » (٢).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « من أحبّ أن يعلم کيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإنّ کلّ من خيّر له أمران : أمر الدنيا وأمر الآخرة ، فاختار أمر الآخرة علی الدنيا فذلك الذي يحب الله ، ومن اختار أمر الدنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده » (٣).

وفي النصّ التالي نلتقي صورة معبّرة ودقيقة للعلاقة المتبادلة بين الله تعالیٰ وعبده ، وما أكرم الله تعالیٰ عباده به من قربه وحبه وجواره وفضله إذا أقبلوا عليه ، وأحبّوه وطلبوه. ونجد صورة رائعة من کرم الرب وسعة رحمته ، وفضله ، وعطائه الجمّ تبارك وتعالیٰ في هذا النصّ : « کان فيما أوحی الله تعالیٰ إلی داود : يا داود ، أبلغ أهل أرضي أنّي حبيب من أحبّني ، وجليس من جالسني ، ومؤنسٌ لمن أنس بذکري ، وصاحبٌ لمن صاحبني ، ... ما أحبّني أحدٌ أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلّا قبلته لنفسي ، وأحببته حبّاً لا يتقدّمه أحد من خلقي ، من طلبني بالحقّ وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني ، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ، وهلمّوا إلی کرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي ، وآنسوني اُونسکم واُسارع إلی محبتکم » (٤).

__________________

(١) المصدر السابق ٧١ : ١٥٦ ، وهذا التماثل في النسبة وليس في الکمّ.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ١٨.

(٣) المصدر السابق ٧٠ : ٢٥.

(٤) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٦.


إذا أحبّ الله عبداً :

وإذا أحبّ الله تعالىٰ عبداً فتح عليه خزائن رحمته ، ورزقه من فضله ورحمته في الدنيا والآخرة من غير حساب ، وفتح قلبه علی معرفته ، ورزقه الإيمان والبصيرة واليقين والحب ، وأولهه إليه وشوّقه إلى جنابه ، وآنسه بحضرته وأشرب قلبه حبّه ، وأدناه وقرّبه ، وأعطاه رضاه ، ورضوان الله أكبر.

عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « إذا أحب الله عبداً ألهمه الطاعة ، وألزمه القناعة ، وفقّهه في الدين ، وقوّاه باليقين ، فاكتفی بالكفاف ، واكتسى بالعفاف ، وإذا أبغض الله عبداً حبّب إليه المال ، وبسط له ، وألهمه دنياه ، ووكله الی هواه ، فركب العناد ، وبسط الفساد ، وظلم العباد » (١).

وعن الإمام عليّ عليه‌السلام : « إذا أحب الله عبداً ألهمه حسن العبادة » (٢).

وعنه عليه‌السلام : « إذا أحب الله عبداً حبّب إليه الأمانة » (٣).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « إذا أحب الله عبداً زيّنه بالسكينة والحلم » (٤).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « إذا أحب الله عبداً ألهمه الصدق » (٥).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « إذا أحب الله عبداً ألهمه رشده ووفّقه لطاعته » (٦).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « إذا أحب الله عبداً خطر عليه العلم » (٧).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « إذا أحب الله عبداً بغّض إليه المال ، وقصّر عنه الآمال » (٨).

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٦.

(٢) غرر الحكم للآمدي.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) المصدر السابق.

(٧) المصدر السابق.

(٨) المصدر السابق.


وعنه عليه‌السلام أيضاً : « إذا أحب الله عبداً رزقه قلباً سليماً ، وخلقاً قويماً» (١).

كيف نتحبّب الی الله ؟

ذكرنا قبل هذا أنّ الله تعالىٰ يتحبب الى عباده « تتحبب إلينا بالنعم ، ونعارضك بالذنوب » ومن شقاء العبد وبؤسه أن يتحبب الله تعالىٰ اليه ، وهو الغني عن عباده ، ولا يتحبب العبد إلى مولاه ، وهو الفقير إليه عزّ شأنه.

إذن نتساءل كيف يتحبب العبد إلى ربّه ؟

بين أيدينا نصّ من حديث قدسي بالغ الأهميّة ، وقد استفاضت رواية هذا النصّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق ثقات المحدّثين. ولست أشكّ في صحّة رواية هذا الحديث القدسي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله ، نظراً لتواتر روايته في كتب الفريقين المعتمدة. وهذا النصّ يوضح لنا كيف نتحبب إلى الله. وإليكم النصّ برواية البرقي عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو بعض طرق هذا النصّ :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قال الله تعالىٰ : وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنافلة حتّى اُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض نفس المؤمن يكره الموت ، وأكره مساءته » (٢).

وهذا النصّ يتضمّن مجموعة من النقاط ، نشير اليها إجمالاً (٣) :

واُولى هذه النقاط : أنّ أكثر وأبلغ ما يتقرب به العبد ، ويتحبب به الى الله هو

__________________

(١) غرر الحكم للآمدي.

(٢) منتخب الأحاديث القدسيّة : ٤٨ ط : منظمة الاعلام الإسلامي.

(٣) ونحيل تفصيل القول فيها إلى رسالة خاصّة بهذا الموضوع كتبتها في شرح هذا الحديث الشريف قبل سنين ، لعلّ الله تعالىٰ يوفّقني لإعدادها للنشر.


الفرائض. وهذه خصوصية للفرائض من صلاة ، وصوم ، وحج ، وزكاة ، وخمس ، وما عدا ذلك من الفرائض ، لا توجد في غيرها.

والنقطة الاُخرى دور (النافلة) في تقريب العبد إلى الله ، وتحبيبه إليه ، وهو يأتي في سلسلة أسباب القرب والحب ، بعد دور (الفريضة).

ولا يزال العبد يواظب على (النوافل) ، ويستمرّ عليها حتى يحبه الله.

والنقطة الثالثة في هذا النصّ عن نتائج وآثار حبّ الله تعالىٰ لعبده. « فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به » ولا ينال هذه المرتبة من الرزق إلّا ذو حظّ عظيم عند الله ، فيكون الله عينه التي بها يبصر ، ولسانه الذي به ينطق ، ويده التي بها يبطش. ومن يكن الله عينه التي بها يبصر ، كانت لعينه بصيرة نفّاذة لا تخطئ ولا تزيغ ، ومن يكن الله تعالىٰ لسانه الذي به ينطق ، فلا يقول إلّا الحق ، ولا يتحرك لسانه في لغو أو باطل ، ولا يفتر لسانه عن ذكر الله ، ومن يكن الله يده التي بها يبطش ، فلا يُغلب ولا يُقهر ، ومن يكن الله تعالىٰ سمعه الذي به يسمع ، وعينه التي بها يبصر ، فلا يلتبس عليه الحق بالباطل ، ويرى الحق حقاً ، ويرى الباطل باطلاً ، ويسمع الكلام ، فيميز حقه من باطله ، وصدقه من كذبه ، وهداه من ضلاله ، ويری الناس فيميز المؤمنين منهم عن المنافقين ، والصادقين عن الكاذبين ، ويسير في حياته كلها بنور الله وهديه ، وهدايته ودلالته ، فلا يتيه ولا يضلّ.

والنقطة الرابعة في هذا الحديث الشريف استجابة الله تعالىٰ لدعائهم « إذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته ».

وفي أولياء الله وعباده الصالحين مَن لا يردّ الله تعالىٰ لهم دعاءً ، ولا يخيّب لهم ظنّاً ، ولا يكلهم لأنفسهم طرفة عين ، يعصمهم ويسدّدهم ، ويأخذ بأيديهم ، ويمنحهم البصيرة والهدى ، ويسيّرهم على صراطه المستقيم ، ويملأ قلوبهم نوراً وهدیً ... اُولئك الذين يحبّون الله فيحبّهم الله.


حُجُب الحب وموانعه

تحدّثنا عن أسباب حب الله ، وموجباته وآثاره ، ونتائجه في حياة الإنسان.

ومن الحقّ أن نتحدّث الى جنب ذلك عن الموانع والحجب التي تحجب قلب العبد عن حب الله تعالىٰ ليستطيع الإنسان أن يتلافاها ويتجنّبها.

وأهمّ حجابين يحجبان القلب عن حب الله تعالىٰ هما الذنوب والمعاصي التي ترين على القلب أولاً ، وحب الدنيا والتعلّق بها ثانياً.

أمّا الذنوب والمعاصي فإنّها ترين على القلب ، وتفقده نقاءه وصفاءه وشفّافيّته ، وتكدّر القلب وتعكّره.

يقول تعالىٰ : ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١).

وإنّ الإنسان ليذنب الذنب ، فيكون الذنب نقطة سوداء في قلبه ، فإذا واصل المعصية ، ولم يتب ولم يقلع عن الذنب اتسعت هذه النقطة السوداء حتى تشمل القلب كله ، ويفقد القلب نقاءه وشفّافيته ، وهو أثر تكويني للذنب غير الذي توعّد الله تعالىٰ المذنبين من عقاب وعذاب في الآخرة.

روی ابن أبي عمير عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ما أحب الله عزّوجلّ من عصاه.

ثمّ تمثّل فقال :

تعصي الإله وأنت تُظهر حبه

هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لأطعته

إنّ المحب لمن يحب مطيع » (٢)

والحجاب الآخر الذي يحجب حب الله عن قلب العبد هو حب الدنيا والتعلّق بها ، فإنّ الله تعالىٰ لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه : ( مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ

__________________

(١) المطففين : ١٤.

(٢) أمالي الصدوق : ٢٩٣ ، ط. الحجرية.


مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (١) ، فإذا خلا القلب لله تعالىٰ أقبل العبد على حب الله بكل قلبه ، وتفرّغ القلب لحب الله ، وإذا شغله شاغل من همّ أو حبّ أو تعلّق بشأن من شؤون الدنيا انصرف بمقداره عن حب الله ، فإذا انصرف قلب الانسان الى الدنيا ، وشغلته شواغل الدنيا وهمومها ، انسلخ بشكل كامل عن حبّ الله ، وفقد لذّة حب الله ، وتبلّد وأصبح لا يتذوّق حلاوة حب الله وذكره.

وإلى هذا المعنى تشير النصوص الإسلامية. وفيما يلي نذكر طائفة من هذه النصوص :

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حبّ الدنيا وحبّ الله لا يجتمعان في قلب أبداً » (٢).

روي أنّه قيل لعيسى بن مريم عليه‌السلام : « علّمنا عملاً واحداً يحبّنا الله عليه ، قال : أبغضوا الدنيا يحببكم الله » (٣).

وعن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « إذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما ، ووجد حلاوة حب الله ، وكان عند أهل الدنيا كأنّه قد خولط ، وإنّما خالط القوم حلاوة حب الله ، فلم يشتغلوا بغيره » (٤).

والتعبير في الحديث دقيق ، فإنّ حب الدنيا يفقد الإنسان الإحساس بحلاوة حب الله ، ومن فقد الإحساس بحلاوة حب الله ، لم يقبل قلبه على حب الله ، ومن أخلى قلبه من حب الدنيا ، وجد حلاوة حب الله.

وعن الإمام عليّ عليه‌السلام : « كيف يدّعي حب الله من سكن على حب الدنيا » (٥).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « کما انّ الشمس والليل لا يجتمعان ، كذلك حبّ الله وحب

__________________

(١) الأحزاب : ٤.

(٢) تنبيه الخواطر : ٣٦٢.

(٣) بحار الأنوار ١٤ : ٣٢٨.

(٤) اُصول الكافي ٢ : ١٣.

(٥) غرر الحكم.


الدنيا لا يجتمعان » (١).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « والله ما أحبّ الله من أحب الدنيا ووالى غيرنا » (٢).

وعن الإمام عليّ عليه‌السلام : « من أحب لقاء الله سلا عن الدنيا » (٣).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « إن كنتم تحبون الله فأخرجوا من قلوبكم حبّ الدنيا » (٤).

وقد ورد في الدعاء كثيراً التضرّع الى الله تعالىٰ أن يخرج الله حبّ الدنيا من قلب العبد ، ففي دعاء الأسحار للإمام زين العابدين عليه‌السلام :

« سيّدي أخرج حبّ الدنيا من قلبي ، واجمع بيني وبين المصطفی وآله ، وانقلني الى درجة التوبة إليك ، وأعنّي بالبكاء على نفسي ، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري » (٥).

نسأل الله تعالىٰ أن يرزقنا حبّه وحبّ من يحبّه وأن يخرج حبّ الدنيا من قلوبنا ، ويرزقنا الزهد فيها ، وحبّ رسوله المصطفیٰ وآله الطاهرين صلواته عليهم أجمعين.

__________________

(١) غرر الحكم.

(٢) بحار الأنوار ٧٨ : ٢٢٦.

(٣) غرر الحكم.

(٤) غرر الحكم.

(٥) من دعائه عليه السلام برواية أبي حمزة الثمالي في مفاتيح الجنان ، في أعمال شهر رمضان ، أدعية السحر.


الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي


فهرس الکتاب

کلمة المجلة ........................................  ٧

حقيقة الدعاء ............................................  ١١

المناهل الاربعة للورود علیٰ الله في القرآن ................................  ١٥

الدعاء جوهر العبادة ........................................  ١٦

الاعراض عن الدعاء اعراض عن الله ................................  ١٧

ان الله يشتاق الیٰ دعاء عبده ..................................  ١٩

استجابة الدعاء .............................................  ٢٣

قيمتان للاستجابة ..........................................  ٢٥

علاقة الاستجابة بالدعاء ......................................  ٢٦

الدعاء مفتاح الرحمة .........................................  ٢٧

العمل والدعاء مفتاحان لرحمة الله ...................................  ٢٨

الحاجة والفقر الیٰ الله .......................................  ٣٠

الحاجة قبل الوعي والرفع الیٰ الله ................................  ٣٢

الحاجة بعد الوعي والطلب (الفقر الواعي) ........................  ٣٦

امارات وعي الفقر الیٰ الله ..................................  ٣٩

في دعاء الافتتاح ......................................  ٤٤

التأجيل والتبديل في الاجابة ......................................  ٤٦

عندما ينقلب الدعاء الیٰ عمل ..............................  ٤٨


المنازل الثلاثة للرحمة ........................................  ٥٣

آداب الدعاء وشروطه .................................  ٦١

معرفة الله ..............................................  ٦٤

حسن الظن بالله .........................................  ٦٥

الاضطرار الیٰ الله ...................................  ٦٧

الدخول من الابواب التي امر الله تعالیٰ بها ..............................  ٦٨

اقبال القلب علیٰ الله ..........................................  ٦٩

الخضوع وترقيق القلب ......................................  ٧٠

مداومة الدعاء في الشدة والرخاء .........................  ٧٣

الوفاء بعهد الله .......................................  ٧٥

اقتران الدعاء بالعمل ................................  ٧٥

الدعاء ضمن السنن الالهية .....................................  ٧٧

اجتناب الذنوب ...........................................  ٧٨

الاجتماع للدعاء وطلب التأمين من المؤمنين ........................  ٧٨

الترسل في الدعاء ..........................................  ٧٨

تحضير النفس للدعاء بالحمد والاستغفار والصلاة ....................  ٧٩

دعوة الله باسمائه الحسنیٰ .............................  ٨١

بث الحاجات بين يدي الله ..........................  ٨٢

الالحاح في الدعاء .........................................  ٨٣

الدعاء للآخرين ومن الآخرين ............................  ٨٥

الدعاء عند نزول الرحمة ......................................  ٨٦

الدعاء في جوف الليل .............................  ٨٧

المسح علیٰ الوجه والرأس بعد الدعاء ...........................  ٩٠


العوائق والعقبات .....................................  ٩١

دور الذنوب في حجب الانسان عن الله ..........................  ٩٣

الدور المزدوج للقلوب في الاخذ والعطاء ..........................  ٩٤

الدور الثاني للقلوب البث والعطاء ........................  ٩٦

العوامل التي تؤدي الیٰ انغلاق القلوب ...........................  ٩٨

بالذنوب تنتکس القلوب ........................................  ٩٩

بالذنوب يفقد الانسان حلاوة الذکر ...............................  ٩٩

الذنوب التي تحبس الدعاء ...............................  ١٠٠

عوائق وعوامل صعود الاعمال ...................................  ١٠٢

عوائق صعود الاعمال .....................................  ١٠٢

عوامل صعود الأعمال الیٰ الله .....................................  ١٠٥

الوسائل التي نبتغيها الیٰ الله في الدعاء .......................  ١٠٩

التوسل برسول الله (ص) واهل بيته ..........................  ١١٢

الوسائل الیٰ الله في دعاء کميل ...................................  ١١٣

الاطار العام لدعاء کميل ...................................  ١١٤

فکرة تصميم الدعاء ................................  ١١٥

الوسائل الأربعة في دعاء کميل ..............................  ١٢٠

ما ينبغي وما لا ينبغي من الدعاء .......................  ١٢٧

ما ينبغي من الدعاء ....................................  ١٢٩

الصلاة علیٰ محمد وآل محمد في الدعاء .........................  ١٢٩

الدعاء للمؤمنين ..............................  ١٣٢

الصيغ الثلاثة للدعاء في القرآن ..........................  ١٣٧

دعاء الفرد لنفسه ............................  ١٣٧


دعاء الفرد لغيره ..............................  ١٣٧

دعاء الجميع للجميع ..................................  ١٣٧

تحليل وتفسير للنوع الثالث من الدعاء ........................  ١٤٠

التخصيص في الدعاء للمؤمنين .............................  ١٤٣

الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب.................................... ١٤٤

الدعاء لاربعين مؤمن ..................................  ١٤٥

ايثار الآخرين بالدعاء ..........................  ١٤٦

الدعاء للوالدين .........................................  ١٤٩

دعاء الانسان لنفسه ............................  ١٥٠

التعميم في الدعاء ....................................  ١٥٠

ولا تحجبنا جلائل الحاجات عن صغارها ................  ١٥٣

نسأل الله تعالیٰ النعم الجليلة والکبریٰ ..........................  ١٥٥

ما لا ينبغي من الدعاء .............................  ١٥٦

الدعاء علیٰ خلاف سنن الله العامة في الکون والحياة .................  ١٥٦

الدعاء بما لا يحل ............................  ١٥٩

تمني زوال نعمة الغير ....................................  ١٥٩

الدعاء بخلاف صلاح الانسان .........................  ١٦١

الاستعاذة من الفتنة ....................................  ١٦١

ومما لا ينبغي من الدعاء علیٰ المؤمنين .....................  ١٦٢

القلوب المتحابّة تستنزل رحمة الله .........................  ١٦٥

اضمار الغش للمؤمنين يستنزل غضب الله ..........................  ١٦٥

اضمار السوء للمؤمنين يحجب العمل عن الله ........................ ١٦٦

العلاقة بالله ...................................  ١٦٦


حب الله تعالیٰ ......................................  ١٦٨

الايمان والحب .....................................  ١٧٠

لذة الحب ...............................  ١٧١

الحب يجبر عجز العمل ............................  ١٧٢

الحب يجير الانسان من العذاب .......................  ١٧٤

درجات الحب واطواره ...............................  ١٧٤

حالتا الشوق والأنس في الحب ........................  ١٨١

واردات القلوب ورواشحها ..........................  ١٩٥

أصل الاختيار .................................  ١٩٧

عودة الیٰ المناجاة ..................................  ١٩٩

الدعاء قاع وقمّة ...........................................  ٢٠٠

الوسائل الثلاثة .........................................  ٢٠٢

الوسيلة الاولیٰ (الحاجة) ..............................  ٢٠٣

الوسيلة الثانية (الدعاء) ..................................  ٢٠٨

الوسيلة الثالثة (الحب) ..............................  ٢٠٩

اخلاص الحب لله .............................  ٢١٦

غيرة الله علیٰ عبده .................................  ٢١٨

الحب لله وفي الله ..................................  ٢٢٠

المصدر الاول للحب ..............................  ٢٢٢

اخلاص الحب لله ...............................  ٢٢٧

تفضيل حب الله ................................  ٢٢٩

تحکيم حب الله ....................................  ٢٣١

خارطة الحب والبغض ..............................  ٢٣٤


الحب في الله والبغض في الله ...............................  ٢٣٥

خارطة الولاء والبراءة في النفس والمجتمع .....................  ٢٣٩

مساحة الحبّ والبغض للنفس ........................  ٢٤٢

تحکيم الحبّ في الله ..............................  ٢٤٢

کيف نحبّ الله .......................................  ٢٥٤

نماذج من التذکير والتوعية بالنعم .......................  ٢٥٦

نماذج من التوجيه الیٰ الحمد والشکر ......................  ٢٥٨

نتائج وآثار حب الله في حياة الانسان .........................  ٢٦١

العلاقة التبادلية بين حب الله ونتائجه ....................  ٢٦٥

تبادل الحب بين الله تعالیٰ وعبده ...........................  ٢٦٦

إذا أحبّ الله عبداً ...............................  ٢٦٨

کيف نتحبّب الیٰ الله ....................................  ٢٦٩

حُجُب الحب وموانعه .............................  ٢٧١

فهرس الکتاب ................................  ٢٧٥

الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الصفحات: 280