المسألة ٦٠ :

ظنّ وأخواتها (١)

الكلام عنوان على صاحبه ـ علمت الكلام عنوانا على صاحبه المجاملة حارسة للصّداقة ـ ظننت المجاملة حارسة للصداقة الوفاء دليل على النّبل ـ اعتقدت الوفاء دليلا على النبل ... الماء الجامد ثلج ـ صيّر البرد الماء ثلجا الجلد أسود ـ ردّت (٢) الشمس الجلد أسود الخشب مشتعل ـ تركت النار الخشب رمادا من النواسخ ما يدخل ـ فى الغالب ـ على المبتدأ والخبر فينصبهما معا (٣) ، ويغير اسمهما ؛ إذ يصير اسم كل منهما : «مفعولا به (٤)» للناسخ. (مثل : علم. ظنّ ـ اعتقد ـ صيّر ...) وغيرها من الكلمات التى تحتها خطّ فى الأمثلة المعروضة. وهذا هو : «القسم الثالث» من النواسخ. ويشتهر باسم : «ظنّ وأخواتها» وليس فيه حروف ؛ فكله أفعال ، أو أسماء تعمل عملها. وتنحصر هذه الأسماء فى مصادر تلك الأفعال ، وفى بعض المشتقات العاملة عملها.

__________________

(١) هما من النواسخ. ويلاحظ ما لا يصلح أن يدخل عليه الناسخ ، (وقد سبق بيانه وبيان معنى الناسخ ، وعمله ، وأقسامه ، وما يتصل بهذا ـ فى ج ١ ص ٤٠٢ م ٤٢ ـ باب : «كان وأخوتها». وتأتى له إشارة فى ص ٢٠).

(٢) صيرت.

(٣) وبالرغم من اعتبارهما مفعولين هما عمدتان ـ لا فضلتان كبقية المفعولات ـ كما سيجىء فى رقم ١ هامش ص ١٦٨ ، لأن أصلهما المبتدأ والخبر فيكون الثانى فى المعنى هو الأول ـ ولو تأويلا ـ والأول هو الثانى أيضا ؛ كالشأن فى المبتدأ والخبر دائما. وقد يدخل هذا الناسخ على غيرهما ، ـ كما سنعرف فى «ا» من ص ١١ ـ والمفعول الثانى هنا هو الذى تتم به الفائدة الأساسية ؛ لأنه الخبر فى الأصل ، فهو أهم.

وإنما كان دخول هذا النوع من النواسخ على المبتدأ والخبر أمرا غالبيا ، لأن منه ما قد يدخل عليهما ، وعلى غيرهما ، كالفعل : «حسب» ومنه ما لا يدخل إلا على غيرهما ؛ كأفعال التحويل الآتية ـ فى ص ٨ ـ. وللنحاة تعليل يسوغ الدخول على غيرهما ، سيجىء فى «ا» من ص ١١.

(٤) لاحظ ما يأتى فى «ج» من ص ١٢ ، لأهميته.


فالفعل الماضى المتصرف (١) هنا ، لا ينفرد وحده بالعمل السالف ؛ وإنما يشابهه فيه ما قد يكون له من مضارع ، وأمر ، ومصدر ، واسم فاعل. واسم مفعول ، دون بقية المشتقات (٢) الأخرى. أما غير المتصرّف فعمله مقصور على صيغته الخاصة ؛ إذ ليس لها فروع ، ولا صيغ أخرى تتصل بها.

وقد ارتضى بعض النحاة تقسيم الأفعال العاملة هنا قسمين ؛ مراعيا الأغلب فى استعمالها (٣) ؛ هما : «أفعال قلوب» (٤) ، و «أفعال تحويل» (٥). ولا بد لكل فعل فى القسمين من فاعل (٦) ؛ ولا يغنى عنه وجود المفعولين أو أحدهما :

__________________

(١) الفعل الماضى المتصرف إما أن يكون تصرفه كاملا ؛ ـ فيكون له المضارع ، والأمر ، والمصدر ، واسم الفاعل ... وبقية المشتقات المعروفة ، كالفعل : «سمع» ـ وإما أن يكون تصرفه ناقصا ؛ فيكون له بعض تلك الأشياء فقط ؛ كالفعل : «كاد» ، من أفعال المقاربة. وكالفعل : «يدع». أما غير المتصرف مطلقا فهو الجامد الذى يلازم صيغة واحدة لا يفارقها ؛ كالفعل : «تعلّم» بمعنى. «اعلم» ، والفعل : «هب» ، بمعنى : ظنّ. وهما من أفعال هذا الباب القلبية ، وكالفعل «عسى» و «ليس» وهما من أخوات «كان».

(٢) رددنا فى مناسبات مختلفة ، أسماء المشتقات الاصطلاحية من المصدر ؛ وهى : اسم الفاعل ، اسم المفعول ، الصفة المشبهة ، أفعل التفضيل ، المصدر الميمى ، اسم الزمان ، اسم المكان ، اسم الآلة. (ويدخل فى عداد المشتقات الأفعال بأنواعها الثلاثة). وهذه المشتقات قسمان :

قسم يعمل عمل فعله بشروط ؛ فيرفع الفاعل مثله ، أو نائب الفاعل ، وقد ينصب المفعول به ، كفعله أحيانا ، وهو : اسم الفاعل ، اسم المفعول ، الصفة المشبهة ، أفعل التفضيل ، المصدر الميمى. ويدخل فى هذا القسم : المصدر الأصلى أيضا (بالرغم من جموده ، فى الرأى الشائع) .. وقسم لا يعمل شيئا من عمل الفعل ؛ ويسمى : «المهمل». وهو اسم الزمان ، واسم المكان ، واسم الآلة. ولا دخل لهذا القسم المهمل بأحكام هذا الباب. بل إن بعض المشتقات العاملة لا دخل لها به ؛ فالصفة المشبهة الأصيلة خارجة من أحكامه ؛ لأنها تجىء من الفعل اللازم وحده ؛ فلا تنصب مفعولا به. أما غير الأصيلة فقد تنصب بالشروط والطريقة المذكورة فى بابها (ج ٣ ص ٢١١ م ١٠٤) وأفعل التفضيل خارج ؛ لأنه لا ينصب مفعولا به. والفعل الماضى الذى للتعجب خارج ؛ لأنه ينصب مفعولا واحدا. فالثلاثة لا تصلح لأحكام هذا الباب ، ـ كما سيجىء فى ص ٢٥ م ٦١ ـ.

(٣) راجع «ج» من ص ١٢ حيث تقسيم آخر ، وبيان عن سبب التقسيمين.

(٤) سميت بذلك لأن معانيها قائمة بالقلب ، متصلة به ، وهى المعانى النفسية التى تعرف اليوم : بالأمور النفسية ؛ ويسميها القدماء : الأمور القلبية ؛ لاعتقادهم أن مركزها القلب. ومنها : الفرح ـ الحزن ـ الفهم ـ الذكاء ـ اليقين ـ الإنكار ...

(٥) تدل على انتقال الشىء من حالة إلى حالة أخرى تخالفها. وتسمّى أيضا : «أفعال التصيير» ؛ لأن كل فعل منها بمعنى : «صيّر» ، أى : حوّل الشىء من حالته القائمة إلى أخرى تغايرها.

(٦) بخلاف «كان» وأخواتها من الأفعال الناسخة ؛ فإنها لا ترفع الفاعل ـ كما سبق ـ وهذا أحد وجوه الاختلاف بين النوعين.


(أ) فأما أفعال القلوب (١) فمنها ما قد يكون معناه العلم. (أى : الدلالة على اليقين (٢) والقطع) ، ومنها ما قد يكون معناه الرّجحان (٣). ويشتهر من الأولى سبعة (٤) :

(١) علم (٥) ؛ مثل : علمت البرّ سبيل المحبة. وعلمت المحبة سبيل القوة.

(٢) رأى (٦) ؛ مثل : رأيت الأمل داعى العمل ، ورأيت اليأس رائد الإخفاق ، وقول الشاعر :

رأيت لسان المرء وافد (٧) عقله

وعنوانه ؛ فانظر بماذا تعنون

(٣) وجد ؛ مثل : وجدت ضعاف الأمم نهبا لأقويائها ، ووجدت العلم أعظم أسباب القوة.

(٤) درى ؛ مثل : دريت المجد قريبا من الدائب فى طلبه ، ودريت لذة إدراكه ماحية تعب السعى إليه.

__________________

(١) أفعال القلوب ثلاثة أنواع ؛ نوع لازم (لا ينصب المفعول به) مثل : فكّر ـ تفكر ـ حزن ـ جبن .... ونوع ينصب مفعولا به واحدا ؛ مثل : خاف ـ أحب ـ كره .... ونوع ينصب مفعولين ؛ كأفعال هذا الباب المذكورة هنا ، بشرط أن تؤدى معنى معينا ؛ كما سنعرف.

(٢) هو : الاعتقاد الجازم الذى لا يعارضه دليل آخر يسلم به المتكلم. وقد يكون هذا الاعتقاد صحيحا فى الواقع أو غير صحيح.

(٣) الشك : ما ينشأ فى النفس من تعارض دليلين فى أمر واحد ؛ بحيث تتساوى قوتهما فى التعارض والاستدلال ؛ فلا يستطيع المرء ترجيح أحدهما على الآخر ؛ لعدم وجود مرجح. أما الرجحان أو الظن ، فهو ما ينشأ من تغلب أحد الدليلين المتعارضين فى أمر ؛ بحيث يصير أقرب إلى اليقين. فالأمر الراجح محتمل للشك واليقين ، لكنه أقرب إلى اليقين منه إلى الشك. وفى هذه الحالة يسمى المرجوح : «وهما».

(٤) قد يستعمل كل منها فى معان أخرى غير اليقين ؛ فينصب مفعولا واحدا ، أو لا ينصب. (وسنعرض لبعض هذا فى ص ١٢).

(٥ ، ٥) سيجىء فى الباب التالى : «أعلم وأرى» ـ ص ٥٥ ـ حكم الفعلين : «علم» و «رأى» إذا سبقتما همزة النقل ؛ (أى : همزة التعدية). ومما يتصل بمعنى الفعل «رأى» وباستعماله وروده فى الأساليب العالية بمعنى : «أخبرنى» ؛ نحو : أرأيتك هذا الكتاب هل عرفت قيمته؟ ... وقد أوضحنا هذا الأسلوب ، ونوع الكاف وحكمها ، بتفصيل واف يشمل معناه ، وصياغته ، وطريقة استعماله ...

(فى باب الضمير ص ٢١٥ ، م ١٩ من الجزء الأول). وستجىء له تتمة هامة فى ص ١٥.

(٦) رسول عقله ودليله. وبعد هذا البيت :

ويعجبنى زىّ الفتى وجماله

فيسقط من عينىّ ساعة يلحن


(٥) ألفى (١) ؛ مثل : ألفيت الشدائد صاقلة للنفوس ، وألفيت احتمالها سهلا على كبار العزائم.

(٦) جعل ؛ مثل : جعلت (٢) الإله واحدا ، لا شكّ فيه.

(٧) تعلّم (٣) ؛ بمعنى «اعلم» : مثل : تعلّم وطنك شركة بين أبنائه ، وتعلّم نجاح الشركة رهنا بالإخلاص والعمل.

ويشتهر من الثانية ثمانية (٤) :

(١) ظن ؛ مثل : ظنّ الطيار النهر قناة ، وظن البيوت الكبيرة أكواخا.

(٢) خال (٥) ؛ مثل : خال المسافر الطيارة أنفع له ، وهو يخال الركوب فيها متعة.

(٣) حسب ؛ مثل : أحسب السهر الطويل إرهاقا ، وأحسب الإرهاق سبيل المرض ، وقول الشاعر :

لا تحسبنّ الموت موت البلى

وإنما الموت سؤال الرجال (٦)

__________________

(١) لا يستعمل هذا الفعل هنا إلا مزيدا بالهمزة.

(٢) أى : اعتقدت. ومن هذا ـ فى بعض الآراء ـ قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أى : اعتقدوا. ـ انظر رقم ٤ فى الصفحة الآتية ـ :

ولهذا الفعل معان أخرى سيجىء بعضها (وقد أشرنا لها فى رقم ٢ من هامش ص ٩).

(٣) الفعل : «تعلم» بمعنى : «اعلم» ، فعل أمر جامد ـ عند فريق من النحاة ـ لا يجىء من صيغته الأصلية غير الأمر ، مع كثرة دخوله على مصدر مؤول ، أداته : «أنّ» المشددة أو المخففة الناسختين ، أو «أن» الداخلة على الفعل ؛ نحو : تعلم أن وطنك شركة .. وتعلم أن تنجح الشركة بالإخلاص (كما فى رقم ٣ من هامش ص ١١). ومتصرف عند فريق آخر يجرى عليه أحكام الفعل المتصرف. وقد شاع الرأى الأول فيحسن اتباعه ؛ توحيدا للتفاهم (وسيجىء إيضاح هامّ لمعناه فى رقم ٢ من هامش ص ١٨).

(٤) وقد يستعمل كل منها فى معان أخرى ؛ فينصب مفعولا واحدا ، أو لا ينصبه (كما سيجىء قريبا فى ج من ص ١٢ وما بعدها).

(٥) ومضارعها المسموع للمتكلم : إخال ـ بكسر الهمزة غالبا ، وهذا السماعىّ مخالف للقياس ـ فإن كان الفعل «خال» بمعنى : تكبر ، أو ظلع التى بمعنى : عرج .. فهو لازم.

(٦) بعد هذا البيت :

كلاهما موت. ولكنّ ذا

أفظع من ذاك ، لذل السّؤال


(٤) زعم (١) ؛ مثل : زعمت الملاينة مرغوبة فى مواطن ، وزعمت التشدد مرغوبا فى أخرى.

(٥) عدّ ؛ مثل : عددت الصديق أخا. وقول الشاعر :

فلا تعدد المولى (٢) شريكك فى الغنى

ولكنما المولى شريكك فى العدم (٣)

(٦) حجا ؛ مثل : حجا السائح المئذنة برج مراقبة.

وقول الشاعر :

قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة

حتى ألمّت بنا يوما ملمّات

(٧) جعل ؛ مثل : جعل الصياد السمكة الكبيرة حوتا. وقوله تعالى فى المشركين : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ...)(٤)

(٨) هب ؛ مثل : هب مالك سلاحا فى يدك ؛ فلا تعتمد عليه وحده.

__________________

(١) كثر الكلام فى معنى : «زعم». وصفوة ما يقال : إنها قد تكون بمعنى اليقين أحيانا عند المخاطب ؛ كقول أبى طالب يخاطب الرسول عليه السّلام :

ودعوتنى وزعمت أنك ناصح

ولقد صدقت ، وكنت ثمّ أمينا

وقد تكون بمعنى الاعتقاد من غير دليل ؛ كقوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ...) إلخ. وقد تدل على الرجحان. وقد تستعمل للدلالة على الشك ، وهو الغالب فى استعمالها ، وقد تستعمل فى القول الكاذب ؛ فإذا قلت : «زعم فلان كذا» ، فكأنك قلت : كذب ، وردد كلاما غير صحيح. والقرينة هى التى تحدد المعنى المناسب للمقام من بين المعانى السالفة.

وزعم ـ كغيرها من الأفعال القلبية الناصبة للمفعولين ـ قد تنصب المفعولين مباشرة ، وقد تدخل على «أن» مع الفعل وفاعله ، أو «أنّ» مع معموليها ؛ فيكون المصدر المؤول فى الحالتين سادا مسد المفعولين ، ومغنيا عنهما ، وهذا هو الأغلب فى «زعم» ـ كما سيجىء فى رقم ٣ من هامش ص ١١ ـ وإليه تميل أكثر الأساليب الأدبية ؛ كقوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ....) وقول الشاعر :

وقد زعمت أنى تغيرت بعدها

ومن ذا الذى ـ يا عزّ ـ لا يتغير

(٢) الناصر ، أو الصديق.

(٣) الفقر الشديد.

(٤) وقيل : إن «جعل» هنا بمعنى : اعتقد ـ كما فى رقم ٢ من هامش الصفحة السالفة.


وهذا الفعل دون بقية أفعال الرجحان ـ جامد ، ملازم صيغة الأمر (١).

* * *

(ب) وأما أفعال التحويل (أو : التّصيير) فأشهرها سبعة ، ولا تدخل على مصدر مؤول من «أنّ» مع معموليها ، أو «أن» والفعل وفاعله (٢) ...

(١) صيّر ؛ مثل : صيّر (٣) الصائغ الذهب سبيكة ، وصيّر السبيكة سوارا.

(٢) جعل ؛ مثل : جعل الغازل القطن خيوطا ، وجعل الحائك الخيوط نسيجا.

وقول الشاعر :

اجعل شعارك رحمة ومودة

إن القلوب مع المودة تكسب

(٣) اتّخذ ؛ مثل : اتخذ المهندسون الحديد والخشب باخرة ، واتخذ المسافرون الباخرة فندقا.

(٤) تخذ ؛ مثل : تخذت الحرارة الثلج ماء ، وتخذت الماء بخارا.

(٥) ترك ؛ مثل : ترك الموج الصخور حصى ، وتركت الشمس الحصى رمالا.

(٦) ردّ ؛ مثل : ردّ الأمل الوجوه الشاحبة مشرقة ، ورد النفوس اليائسة مستبشرة.

__________________

(١) هو فعل أمر ، بمعنى : «ظنّ» وهو بهذا المعنى فعل جامد ، لا يكون منه غير الأمر ، ودخوله على «أنّ» مع معموليها جائز ، نحو : هب أن الآمال محققة. فالمصدر المؤول من أن مع معموليها فى محل نصب ، سد مسد المفعولين. وهذا استعمال نادر فى الأساليب الرفيعة ، بالرغم من إجازته (انظر الخضرى والتصريح. ثم رقم ٣ من هامش ص ١١ الآتية).

(٢) انظر «ب» من ص ١١.

(٣) «صيّر» ، و «أصار» ، فعلان ، أصلهما قبل التعدية بالتضعيف والهمزة : «صار» الذى هو من أخوات «كان» ، نحو : صار الخشب بابا. وبعد تعديتهما ابتعدا عن عمل «كان» ، وانتقلا منه إلى نصب المفعولين ؛ نحو : صيّر الجوهرى الدر فصوصا ، وأصار الفصوص عقدا.

أما «صيّر» بمعنى : «نقل» فينصب مفعولا واحدا ، نحو : صيرت السائح إلى دار الآثار ، أى : نقلته.


(٧) وهب ؛ مثل : وهبت الآلات الحديثة السنابل حبّا ، ووهبت الحبّ دقيقا ، ووهبت الدقيق عجينا (١).

وفيما يلى بيان موجز للأفعال السابقة (٢) ، وأنواعها المختلفة :

__________________

(١) وهب ، بمعنى : «صير» ـ فعل ماض جامد ، ولا يستعمل فى معنى التحويل إلا بصيغة الماضى. ومنه قولهم : «وهبنى الله فداء الحق» ، أى : صيرنى.

(٢) إلى ما سبق يشير ابن مالك باختصار ، قائلا :

انصب بفعل القلب جزأى ابتدا

أعنى : رأى ـ خال ـ علمت ـ ـ وجدا

ظنّ ـ حسبت ـ وزعمت ـ مع عد

حجا ـ درى ـ وجعل ؛ اللّذ كاعتقد

وهب ـ تعلّم ـ والّتى كصيّرا

أيضا ـ بها انصب مبتدا وخبرا

أى : انصب بفعل القلب جملة ذات ابتداء. وسرد فى الأبيات كثيرا من أفعال القلوب التى شرحناها ؛ منها ما يدل على اليقين ، ومنها ما يدل على الرجحان. وقبل سردها صرح بكلمة : «أعنى» ليدل على أن المقصود أفعال معينة ، دون غيرها ؛ فليس كل فعل قلبى ينصب مفعولين ـ كما أوضحنا فى رقم ١ من هامش ص ٥ ـ وطالب أن تنصب هذه الأفعال جزأى ابتداء (وهما : المبتدأ والخبر) كما أشار إلى أن «جعل» إذا كان من أفعال القلوب ـ أى : بمعنى الفعل : «اعتقد» ـ فإنه ينصب مفعولين مثله. وهو يختلف فى المعنى والعمل عن «جعل» الذى سبق الكلام عليه فى باب : «أفعال المقاربة والشروع» من الجزء الأول ، كما يختلف فى معناه عن «جعل» الذى هو من أفعال الرجحان ، والذى من أفعال التحويل والتصيير ؛ كما عرفنا فى الشرح.

والفعل : «اعتقد» معدود من أفعال كثيرة قد تنصب مفعولين ولم تذكر فى هذا الباب. منها :

تيقن ـ تمنى ـ توهم ـ تبين ـ شعر ـ أصاب

 ....

إلى غير هذا مما سرده صاحب الهمع (ج ١ ص ١٥١) ونقل بعضه الصبان هنا.

أما أفعال التحويل والتصيير فلم يذكرها ابن مالك ، واكتفى بأن يشير إليها بقوله :

 .... والّتى كصيّرا

أيضا بها انصب مبتدا وخبرا

أى : انصب ـ أيضا ـ مبتدأ وخبرا بالنواسخ التى مثل «صير» فى إفادة التحويل.

وقضنت ضرورة الشعر على الناظم بزيادة الألف فى آخر الفعلين : «وجد» ، «صير» ، وبتخفيف الدال فى الفعل : عد. أما كلمة : «اللذ» فى أبياته فهى لغة صحيحة فى «الذى».


__________________

(١) وهذا الفعل يستعمل ـ أحيانا ـ فى القسم غير الصريح ، فيحتاج لجواب ، وتكسر بعده همزة «إنّ» ... ـ وقد أشرنا لهذا فى آخر الجزء الأول عند الكلام على كسر همزة «إن» ، وله إشارة تجىء فى ص ٤٦٠ ـ


زيادة وتفصيل :

(ا) ليس من اللازم ـ كما أشرنا (١) ـ أن يكون المفعولان أصلهما المبتدأ والخبر حقيقة ، بل يكفى أن يكون أصلهما كذلك ولو بشىء من التأويل المقبول ، كالشأن فى أفعال التحويل ، وكالشأن فى : «حسب» ؛ مثل : صيرت الفضة خاتما ؛ إذ لا يصح المعنى بقولنا : الفضة خاتم ؛ لأن الخبر هنا ليس المبتدأ فى المعنى ؛ فليست الفضة هى الخاتم ، وليس الخاتم هو الفضة ؛ إلا على تقدير أن هذه الفضة ستئول (٢) إلى خاتم. ومثل : حسبت المرّيخ الزّهرة ؛ إذ لا يقال : المرّيخ الزّهرة ؛ لفساد المعنى كذلك ؛ فليس أحدهما هو الآخر ، إلا على ضرب من التشبيه ، أو نحوه من التأويل السائغ ، المناسب للتعبير. فالأول (أى : التشبيه) قد جعل المفعول الثانى بمنزلة ما أصله الخبر ، وإن لم يكن خبرا حقيقيّا فى أصله.

هذا كلامهم. والواقع أنه لا داعى لهذا التمحل ، والتماس التأويل ؛ إذ يكفى أن يكون فصحاء العرب قد أدخلوا النواسخ على ما أصله المبتدأ والخبر حقيقة ، وعلى ما ليس أصله المبتدأ والخبر ، مما يستقيم معه المعنى.

(ب) ليس من اللازم أن تدخل أفعال هذا الباب القلبية على المبتدأ والخبر مباشرة ؛ فقد تدخل على «أنّ» مع معموليها ، أو : على «أن» مع الفعل وفاعله ؛ فيكون المصدر المؤول سادّا مسد المفعولين (٣) ، مغنيا عنهما. مثل : علمت

__________________

(١) فى رقم ٣ من هامش ص ٣.

(٢) أى : ستتحول وينتهى أمرها فى المستقبل إليه.

(٣) وسنعود للكلام على هذا المصدر عند بحث الحكم الثالث من الأحكام التى تختص بها الأفعال القلبية (فى ص ٤٢) ، والأغلب فى «زعم» وفى «تعلم» بمعنى : «اعلم» دخولهما على «أن» مع معموليها ، أو «أن». والفعل مع فاعله (كما فى رقم ٣ من هامش ص ٦ وفى ١ من هامش ص ٧). والأغلب فى «هب» بمعنى «ظن» عدم دخوله عليهما ، برغم صحته كما سبق (فى رقم ١ من هامش ص ٨).

والأحسن الأخذ بالرأى السهل القائل : إن المصدر المؤول فى هذا الباب يسد مسد المفعولين ، دون الرأى القائل : إنه يسد مسد المفعول الأول ، وأن المفعول الثانى محذوف ، وتقديره : «ثابتا» ، أو ما يشبهه ؛ ففى نحو : وجدت أن الصبر أنفع فى الشدائد ـ يقدرون : وجدت نفع الصبر فى الشدائد ثابتا ... وهذا نوع من التضييق والإطالة لا داعى له.


أن السباحة أسلم من الملاكمة ، وأظن أن العاقل يختار الأسلم. وقول الشاعر :

يرى الجبناء أن الجبن حزم

وتلك خديعة الطبع اللئيم

ومثل : دريت أن الكبر بغيض إلى النفوس الكبيرة ، ووجدت أن صغائر الأمور محببة إلى النفوس الصغيرة. ومثل : من زعم أن يخدع الناس فهو المخدوع ، ومن حسب أن يدرك غايته بالتمنى فهو مخبول (١).

أما أفعال التحويل فلا تدخل على «أنّ» ومعموليها ، ولا على «أن» والفعل مع فاعله.

(ح) جرى بعض النحاة على تقسيم الأفعال القلبية السابقة أربعة أقسام ، بدلا من اثنين :

فلليقين وحده خمسة : وجد ـ تعلم ، بمعنى : اعلم ـ درى ـ ألفى ـ جعل.

وللرجحان وحده خمسة : جعل ـ حجا ـ عدّ ـ زعم ـ هب ، بمعنى : ظنّ.

وللأمرين والغالب اليقين ، اثنان : رأى ـ علم.

وللأمرين والغالب الرجحان ، ثلاثة : ظنّ ـ خال ـ حسب.

لكن التقسيم الثنائى أنسب ؛ لأنه أدمج القسم الثالث فى الأول ، والرابع فى الثانى ؛ نظرا للغالب عليهما ، وتقليلا للأقسام (٢) ، واكتفاء بالإشارة إلى أن كل فعل قد يستعمل فى معنى آخر غير ما ذكر له ، مع ضرب أمثلة لذلك. فمن أفعال اليقين وألفاظه ما قد يستعمل فى الرجحان ؛ فينصب مفعولين أيضا ، وقد

__________________

(١) فى مثل قولهم : «غبت ، وما حسبتك أن تغيب» تكون الكاف حرفا محضا لمجرد الخطاب ومتصرفا. وليس اسما ضميرا ؛ إذ لو كان ضميرا لكان هو المفعول الأول للفعل «حسب» ومفعوله الثانى هو المصدر المؤول (أن تجىء) ويترتب على هذا أن يكون ذلك المصدر المؤول خبرا عن الكاف ، باعتبار أن أصلهما المبتدأ والخبر ؛ لأن مفعولى «حسب» أصلهما المبتدأ والخبر. وإذا وقع المصدر المؤول هنا خبرا عن الكاف أدى إلى الإخبار بالمعنى عن الجثة. وهو ممنوع عندهم فى أغلب الحالات إذا كان المراد الإخبار من طريق الحقيقة لا من طريق المجاز. أما من طريق المجاز فصحيح ـ كما سبق البيان فى الجزء الأول ص ٢١٧ م ١٩. باب : «الضمير» عند الكلام على «كاف الخطاب».

(٢) راجع الخضرى أول هذا الباب.


يستعمل فى بعض المعانى الأخرى ؛ فينصب مفعولا به واحدا ، أو لا ينصب ؛ فيكون لازما. كل ذلك على حسب معناه اللغوى الذى تدل عليه المراجع اللغويّة الخاصة ، وليس هنا موضع استقصاء تلك المعانى ؛ وإنما نسوق بعضها :

فمن الأمثلة : الفعل «علم» ؛ فإنه ينصب المفعولين حين يكون بمعنى : اعتقد وتيقن : ـ كما سبق ـ ؛ مثل : علمت الكواكب متحركة. وقد يكتفى بمفعول به واحد فى هذه الحالة ؛ بأن نأتى بمصدر المفعول الثانى ، وننصبه مفعولا به ، ونكتفى به ، بعد أن نجعله مضافا أيضا ، ونجعل المفعول الأول هو المضاف إليه. فنقول : علمت تحرّك الكواكب ، فيستغنى عن المفعول الثانى وعن تقديره. ومن النحاة من لا يقصر هذا الحكم على «علم» ؛ بل يجعله عامّا فى جميع أفعال هذا الباب ؛ فيجيز إضافة مصدر المفعول الثانى إلى المفعول الأول ، والاكتفاء بهذا المصدر مفعولا واحدا (١).

وقد يكون بمعنى : «ظن» فينصب مفعولين أيضا ؛ مثل : أعلم الجوّ باردا فى الغد. فإن كان بمعنى : «عرف» نصب مفعولا به واحدا (٢) :

__________________

(١) وهذا الرأى فيه اختصار محمود ، ولا ضرر فى الأخذ به أحيانا. وتفضيل أحدهما متروك للمتكلم ؛ ليختار منهما ما يناسب كلامه على حسب الدواعى البلاغية. ومن تلك الدواعى أن الإبانة قد تقتضينا ـ أحيانا ـ أن نصرح بالمفعولين منصوبين .... فإن لم يكن فى التصريح بهما زيادة إيضاح ، أو إزالة لبس عند السامع ، أو إتمام فائدة ـ فالاختصار أحسن.

(٢) فى بعض كتب اللغة ـ دون بعض ـ ما يدل على أن «المعرفة» مقصورة على العلم المكتسب بحاسة من الحواس ؛ جاء فى «المصباح المنير» ، مادة «عرف» ما نصه : (عرفته عرفة ـ بالكسر ـ وعرفانا ، علمته بحاسة من الحواس الخمس). وأيضا يرى كثير من النحاة فرقا بين «علم» التى بمعنى : «عرف» و «علم التى بمعنى : اعتقد» وأنهما فعلان غير متساويين لا فى المعنى ولا فى العمل ، وحجته : أن «العلم» الذى بمعنى : «المعرفة» يتعلق بنفس الشىء وذاته المادية ؛ تقول : «علمت القمر» ، كما تقول «عرفت القمر» كلاهما معناه منصب على ذاته المحسوسة وجرمه ، (أى : حقيقته المادية) وعلى هذا تكون «علم التى بمعنى : عرف» مختصة عندهم بما يسميه المناطقة : «الذات» أو : «الشىء المفرد» أى : «البسيط» وكلا الفعلين بهذا المعنى يتعدى لواحد.

أما «علم» الناصبة للمفعولين فمختصة بوصف الذات بصفة ما ، ولا شأن لها بالذات مباشرة ، مثل : علمت القمر متنقلا. أى : علمت اتصاف ذات القمر بالتنقل ، وليس المراد علمت ذات القمر وجرمه.

فالفعل «علم» بهذا المعنى مختص بما يسميه المناطقة : «الكليات».

على أساس ما سبق كله يكون القائل : «عرفت قدوم الضيف» مريدا عرفت القدوم ذاته ، دون ـ


مثل : علمت الخبر ؛ أى : عرفته (١). وإن كان بمعنى : «انشقّ» لم ينصب مفعولا به ؛ مثل : علم البعير (٢) ، أى : انشقت شفته العليا ...

والفعل : «رأى» ينصب المفعولين إذا كان بمعنى : اعتقد وتيقّن ، أو : بمعنى : «ظنّ». وقد اجتمع المعنيان فى قوله تعالى عن منكرى البعث ويوم القيامة : «إنهم يرونه بعيدا ، ونراه قريبا» (٣). فالفعل الأول بمعنى : «الظن» ، والثانى بمعنى : اليقين. وكلاهما نصب مفعولين. وكذلك إن كان معناه مأخوذا من : «الحلم» (أى : دالا على الرؤيا المنامية) نحو : كنت نائما ؛ فرأيت صديقا

__________________

ـ زيادة أخرى عليه ، فهو لا يريد وصف الضيف بالقدوم. بخلاف من يقول : علمت من الرسالة الضيف قادما ، فإنه يريد اتصاف الضيف بالقدوم ، ولا يريد أنه علم حقيقة القدوم المنسوب إلى الضيف ، بشرط أن يكون الفعل «علم» فى هذا المثال ناصبا مفعولين. وقال الرضى : لا فرق بين الفعلين فى المعنى ، وإنما الفرق فى العمل فالفعل «علم بمعنى عرف» ينصب مفعولا واحدا ، والآخر ينصب مفعولين ، بالرغم من تساويهما معنى ؛ لأن العرب هى التى فرقت بينهما فى العمل دون المعنى ، فلا اعتراض عليها.

غير أن كلامه هذا ـ مع قبوله والارتياح له ـ مناقض لما قرره فى هذا الشأن فى باب : «كان» ـ كما نصوا على ذلك ـ والحق أن الخلاف بين الآراء السابقة يسير ، يكاد يكون شكليا ، ذلك أن بين الفعلين (المتعدى لواحد والمتعدى لاثنين) فرقا فى المعنى الحقيقى لا المجازى ، وأنه لا مانع من استعمال أحدهما مكان الآخر مجازا لسبب بلاغى.

(١) وإلى هذا يشير ابن مالك فى بيت متأخر ، نصه :

لعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

(«لعلم عرفان» ؛ أى العلم المنسوب للعرفان ، ولمعنى العرفان. «ظن تهمه» ؛ أى : الظن المنسوب معناه للتهمة ..) يريد : أن «علم» بمعنى عرف ـ والمصدر : العلم ؛ بمعنى : العرفان ـ يتعدى لمفعول واحد. ومثله : الفعل : «ظن» بمعنى : اتهم ـ والمصدر : الظن ؛ بمعنى : الاتهام ـ ومثال الأول : اقترب الشبح فعلمت صاحبه ؛ أى : عرفته. ومثال الثانى : اختفى القلم ، فظننت اللص ؛ أى : اتهمته.

(٢) فهو أعلم. والناقة علماء. (والفعل من بابى : فرح وضرب).

(٣) المراد بالبعد هنا : عدم حصول الشىء ، ونفى وقوعه. وبالقرب : حصوله ووقوعه. وعلى هذا جرت ألسنة العرب وأساليبهم الفصيحة.


مسرعا إلى القطار (١).

فإن كان معناه الفهم وإبداء الرأى فى أمر عقلىّ فقد ينصب مفعولا به واحدا ، أو مفعولين ، على حسب مقتضيات المعنى ؛ مثل : يختلف الأطباء فى أمر القهوة ؛ فواحد يراها ضارّة ، وآخر يراها مفيدة إذا خلت من الإفراط. أو : واحد يرى ضررها ، وآخر يرى إفادتها.

وكذلك ينصب مفعولا به واحدا إن كان معناه : أبصر بعينه ؛ مثل : رأيت النجم وهو يتلألأ. وقول الشاعر :

إنّ العرانين تلقاها محسّدة

ولن ترى للئام الناس حسّادا

أو : كان معناه أصاب : الرئة ؛ مثل انطلق السهم فرأى الغزال ؛ أى : أصاب رئته.

وقد أشرنا قريبا (٢) إلى أن الأساليب العالية يتردد فيها الماضى : «رأى» ـ دون المضارع ، والأمر ، والمشتقات الأخرى ـ مسبوقا بأداة استفهام. ومعناه : «أخبرنى» ؛ نحو : أرأيتك هذا القمر ، أمسكون هو؟ وينصب مفعولا به ، أو مفعولين ، على حسب المراد. وأوضحنا الأمر بإسهاب فيما سبق (٣).

كذلك يتردد فى تلك الأساليب وقوع المضارع : «أرى» مبنيّا للمجهول

__________________

(١) وفى هذا يقول ابن مالك :

ولرأى الرّؤيا انم ما لعلما

طالب مفعولين من قبل انتمى

(انم : انسب. انتمى : انتسب. والتقدير : انم للفعل : «رأى» الذى مصدره «الرؤيا» ما انتمى من قبل للفعل : «علم» طالب المفعولين لينصبهما. و «الرؤيا» هى المصدر الغالب لرأى الحلمية) أى : انسب للفعل : «رأى» الذى مصدره : «الرؤيا» المنامية ـ ما انتسب وثبت من قبل للفعل : «علم» الذى يطلب مفعولين ، ويتعدى إليهما بنفسه (لكن سنعرف فى ج من ص ٤١ أن «رأى» الحلمية لا يدخلها تعليق ولا إلغاء ، بخلاف : «علم»).

(٢) فى رقم ٥ من هامش ص ٥.

(٣) هذا الأسلوب يتطلب بيانا شافيا ، جليا ، يتعرض لنواحيه المختلفة ، كصياغته ، وتركيبه ، وإعرابه ، ومعناه .. وقد وفيناه حقه فى موضعه من الجزء الأول ، ص ٢١٥ م ١٩ ـ من الطبعة الثالثة ـ عند الكلام على الضمير وأنواعه ...


ـ غالبا ـ على حسب السماع ، وناصبا للمفعولين (١) ؛ لأن معناه : «أظنّ» الدال على الرجحان ؛ نحو : كنت أرى الرحلة متعبة ، فإذا هى سارّة.

__________________

(١) إذا كان المضارع «أرى» بمعنى : «أظن» ، ويعمل عمله ـ فكيف ينصب مفعولين مع رفعه نائب فاعل ، هو فى الأصل مفعول أيضا؟ أليس معنى هذا أنه ينصب من المفاعيل ثلاثة ، مع أن الفعل : «أظن» ينصب اثنين فقط؟

يجيب النحاة بإجابتين ؛ كل واحدة منهما وافية فى تقديرهم. وفى الأولى من التعارض والتكلف ما سنعرفه.

الأولى : أن هذا المضارع : «أرى» المبنى للمجهول ـ غالبا ، طبقا للسماع ـ قد يكون ماضيه هو «أرى» مفتوح الهمزة ، الناصب لثلاثة من المفاعيل ، والذى معناه : «أعلم» الدال على اليقين ـ وسيجىء الكلام عليه فى الباب التالى ص ٥٥ ـ ؛ مثل : أرى العالم الناس السفر للكواكب سهلا ؛ أى : أعلمهم السفر سهلا ... ومقتضى هذا أن يكون مضارعه ناصبا ثلاثة أيضا ، وليس ناصبا اثنين فقط. لكن السبب فى نصبه اثنين أنه ترك معنى ماضيه ، وانتقل إلى معنى آخر جديد ؛ إذ صار بمعنى : الفعل المضارع : «أظنّ» لا بمعنى الفعل المضارع : أعلم ويعلم وغيرهما مما فعله الماضى : «أعلم» الدال على اليقين. فلما ترك معناه الأصلى إلى معنى فعل آخر ، كان من الضرورى أن يترك عمله الأصلى ليعمل العمل المناسب للمعنى الجديد ؛ فينصب مفعولين لا ثلاثة. وعلى هذا يتعين أن يكون ضمير المتكلم فى المضارع المبنى للمجهول فاعلا. ، ولا يصح أن يكون نائب فاعل ؛ لأن اعتباره نائب فاعل يؤدى إلى اعتباره مفعولا به فى الأصل قبل أن ينوب عن الفاعل ؛ فينتهى الأمر إلى أن ذلك المضارع قد نصب من المفاعيل ثلاثة. وهذا مرفوض عندهم حتما. فالسبب فى تعدية المضارع المبنى للمجهول ـ سماعا ـ إلى مفعولين مع أن ماضيه : «أرى» الدال على العلم واليقين ، ينصب ثلاثة ـ هو استعماله بمعنى الفعل : «أظن» المتعدى لاثنين ، من باب الاستعمال فى اللازم ؛ لأن معنى : «أرى العالم الناس السفر سهلا» هو : «جعل العالم الناس ظانين السفر سهلا» وصحة هذا المعنى تستلزم صحة قولنا : ظن الناس السفر للكواكب سهلا. أما إن كان الفعل «أرى» مفتوح الهمزة (أى : غير مبنى للمجهول ، وهذا جائز) ومعناه : «أظن» فينصب مفعولين بغير حاجة لتأويل ، واضح التكلف والالتواء ، كالذى سبق.

الثانية : أن الفعل : «أرى» المضارع المبنى للمجهول سماعا ، ينصب ثلاثة من المفاعيل برغم أنه بمعنى : الظن ، وأن ماضيه بمعنى : «أظننت» وأول المفاعيل الثلاثة هو الذى صار نائب فاعل ، ويليه المفعولان المنصوبان. ويقولون : إن الفعل «أرى» المبنى للمجهول هو المضارع للفعل الماضى : «أريت» المبنى للمجهول أيضا ، بمعنى : «أظننت» كما سبق ، وإن العرب لم تنطق بالماضى «أريت» إلا مبنيا للمجهول ، ولم يعرف عنهم بناؤه للفاعل. كما لم يعرف عنهم أنهم قالوا : «أظننت» ببناء الماضى «أظننت» للمجهول مع أنه بمعنى الماضى «أريت». وفى هذه الاجابة بعض اليسر ومسايرة القواعد العامة ، وإن كانت ـ كالأولى ـ لا تخلو من تكلف ، والتواء. وخير منها أن نقول : (إذا كان ـ


ولا يكون معناه فى الفصيح الوارد : «أعلم» ؛ الدّال على اليقين ، بالرغم من أنّ الماضى : «أريت» المبنى للمجهول والمسند للضمير : «التاء» ـ لا يستعمل فى الأكثر إلا بمعنى : «أعلمت» المفيد لليقين ؛ مثل : أريت الخير فى مقاومة الباطل.

وكذلك يتردد فى بعض الأساليب المسموعة وقوع المضارع : «ترى» قد حذف آخره ، وقبله الحرف : «لا» ، أو : «لو» ، وبعده «ما» الموصولة فى الحالتين. ومعناه فيهما : «لا سيّما» ، مثل : كرّمت الضيوف ، لا تر ما علىّ ـ أو : كرّمت الضيوف لو تر ما علىّ. والمعنى ولا سيما علىّ (١) ...

والفعل : «وجد» قد يكون بمعنى : «لقى ، وصادف» ؛ فينصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : وجدت القلم. وقد يكون بمعنى «استغنى» ، فلا يحتاج لمفعول ؛ نحو : وجد الأبىّ بعمله.

والفعل : «درى» قد ينصب المفعولين كما سبق ، والأكثر استعماله لازما

__________________

ـ المضارع «أرى» المبنى للمجهول بمعنى : «أظن» فإنه يرفع نائب فاعل ، وينصب بعده مفعولين فقط).

وبهذا نستريح من الإطالة والإعنات والتأويل ، ولن يترتب على هذا الرأى ضرر لفظى أو معنوى.

وقد اتفق النحاة على أن نائب فاعله لا بد أن يكون ضميرا للمتكلم الواحد أو الأكثر ؛ نحو : شاع الحديث عن الحياة فى الكواكب ، وأرى المرّيخ مأهولا. أو نرى المريخ مأهولا. وقد يكون للمخاطب ؛ كقراءة من قرأ الآية الكريمة : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) بنصب كلمة : «الناس».

مما تقدم نعلم أنه لا بد للمضارع : «أرى» الذى سبق الكلام عليه ـ من نائب فاعل يكون ضميرا للمتكلم ـ فى الأغلب ـ ومن مفعولين منصوبين. أما الفعل : «أريت» الذى يتردد فى الأساليب الصحيحة أيضا بصيغة الماضى المبنى للمجهول ـ فقد يكون بمعنى : «أظننت» ، لكن الغالب فى استعماله أن يكون بمعنى : «أعلمت» أى : من مادة «العلم» لا من مادة الظن.

(راجع فى كل ما سبق : حاشية الخضرى ، والصبان ، والتصريح ، فى باب «إن وأخواتها» عند الكلام على المواضع التى يجوز فيها فتح همزة «أن» وكسرها ، ومنها : «إذا الفجائية». وبيت الشاعر :

وكنت أرى زيدا كما قيل سيدا

 ....

إلخ. ثم راجع بعد ذلك المراجع السالفة فى باب «ظن» عند الكلام على «رأى» وأنواعها.

(١) سبق الكلام على معنى هذين الأسلوبين المسموعين ، وتفصيل إعرابهما ، وأحكامهما فى الموضع المناسب. وهو الجزء الأول ، باب الموصول ، ـ م ٢٨ ص ٣٦٣ من الطبعة الثالثة ـ عند الكلام على «لا سيما» والاقتصار فى الاستعمال على هذه أحسن.


مع تعديته إلى مفعوله بحرف الجر : «الباء» ؛ نحو : «دريت بالخبر السارّ. فإن سبقته همزة التعدية نصب بنفسه مفعولا آخر مع المجرور ؛ نحو : قد أدريتك بالخبر السارّ (١). وكذلك إن كان بمعنى : «ختل» (أى : خدع) نحو : دريت الصيد ؛ بمعنى : ختلته وخدعته.

والفعل : «تعلّم» ينصب المفعولين حين يكون جامدا بمعنى : «اعلم». فإن كان مشتقّا بمعنى : «تعلّم» نصب مفعولا به واحدا ؛ مثل : تعلّم فنون الآداب (٢).

والفعل : «ألفى» قد يكون بمعنى : «وجد» و «لقى» فينصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : غاب عصفورى ، ثم ألفيته.

ومن أفعال الرجحان ما قد يستعمل فى اليقين ؛ فينصب المفعولين أيضا. وقد يستعمل فى بعض المعانى اللغوية الأخرى ؛ فينصب بنفسه مفعولا واحدا ؛

__________________

(١) فإن وقعت همزة التعدية بعد أداة استفهام ، كما فى قوله تعالى : (الْقارِعَةُ ، مَا الْقارِعَةُ؟) (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟) فقيل إن الفعل فى الآية نصب ثلاثة مفاعيل ؛ أولها : الضمير «الكاف» ، وثانيها وثالثها معا الجملة الاسمية التى بعد الضمير ، فقد سدت مسد المفعولين الأخيرين. وقيل إن الفعل نصب بنفسه مفعولا واحدا هو الضمير ، وإن الجملة سدت مسد المفعول الآخر الذى يتعدى إليه الفعل «أدرى» بحرف الجر : «الباء» فالجملة فى محل نصب بإسقاط حرف الجر ، كما فى قولنا : «فكرت ، أهذا صحيح أم لا؟» وأصله : فكرت ، فى هذا ، أصحيح أم لا ... (راجع الخضرى فى هذا الموضع) وراجع أيضا «ح» من ص ٣٦.

(٢) بين الفعلين فرق فى اللفظ والمعنى والاستعمال ؛ فالفعل الأول : تعلم : بمعنى : «اعلم» فعل أمر جامد ؛ لا ماضى له ، ولا مضارع ، ولا مصدر ، ولا شىء من المشتقات فى الرأى الأقوى (كما أسلفنا فى رقم ٣ من هامش ص ٦). والغالب فى استعماله دخوله على «أنّ» مع معموليها ، أو «أن» والفعل مع فاعله ؛ نحو : تعلم أن احتمال الأذى فى سبيل الله لذة ... فالمصدر المؤول من «أنّ» مع معموليها سد مسد المفعولين. ومعناه مطلوب تحقيقه سريعا ، وتحصيل المراد منه فى المستقبل القريب الذى يشبه الحال ؛ وذلك بالإصغاء للمتكلم ، واستيعاب ما يريده فورا ، وتنفيذ ما يجىء بعد فعل الأمر بغير تمهل. أما الفعل الثانى فلفظه أمر أيضا ، ولكنه غير جامد ، فله ماض هو : «تعلّم» وله مضارع هو : «يتعلّم» وله مصدر ... وباقى المشتقات ... والغالب فى استعماله دخوله مباشرة على مفعوله الصريح. ويجوز دخوله على «أنّ» مع معموليها ، أو : «أن» مع الفعل وفاعله ؛ فيكون المصدر المؤول مفعوله. ومعناه مطلوب تحقيقه وتحصيله فى المستقبل ، ولكن مع تمهل وامتداد ، واتخاذ للوسائل المختلفة. الكفيلة بالوصول.


أو لا ينصبه ؛ وذلك على حسب ما ترشد إليه اللغة. ومن أمثلة ذلك الفعل : «خال» فمعناه اليقين فى نحو : إخال الظلم بغيضا إلى النفوس الكريمة. وكذلك الفعل «ظن» فى نحو : أظنّ الله منتقما من الجبارين. والفعل : «حسب» فى نحو : حسبت المال وقاية من ذل السؤال. فإن كان «حسب» (١) بمعنى : «عدّ» نصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : حسبت النقود التى معى. أى : عددتها وإن كان معناه صار ذا بياض ، وحمرة ، وشقرة ـ كان لازما ؛ نحو : حسب الغلام ... و...

والفعل : «جعل» إن كان بمعنى : «أوجد» أو بمعنى : «فرض وأوجب» ـ نصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : جعل الله الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وسائر المخلوقات ؛ أى : أوجدها وخلقها ، ونحو : جعلت للحارس أجرا (٢) ، بمعنى فرضت له ، وأوجبت علىّ ... والفعل : «هب» ينصب مفعولا به واحدا إن كان أمرا من الهبة ؛ نحو : هب بعض المال لأعمال البرّ (٣). أو أمرا من الهيبة ؛ نحو : هب ربّك فى كل ما تقدم عليه من عمل ... وهكذا (٤) ....

__________________

(١) الغالب فى الفعل : «حسب» بمعنى : «عدّ» ، فتح «السين» فى الماضى ، وضمها مضارعه.

(٢) قد يكون الفعل : «جعل» بمعنى : شرع. (وقد سبق الكلام عليه مع أفعال الشروع فى باب أفعال المقاربة ج ١ ص ٤٦٤ م ٥٠) وقد يكون بمعنى : اعتقد ، أو ظن ، أو «صيّر» ـ كما عرفنا فيما سبق.

(٣) وردت أمثلة صحيحة نصب فيها مفعولين بنفسه ؛ منها : انطلق معى ؛ أهبك نبلا. (المخصص ح ١٢ ص ٢٢٧). ولا مانع من محاكاتها وإن كانت قليلة ؛ إذ الكثير أن ينصب بنفسه مفعولا واحدا ، ويتعدى للآخر بحرف الجر. وقد صرح المغنى بأن هذا الفعل نصب المفعول الثانى بعد إسقاط حرف الجر : «اللام».

(٤) إن كان الفعل : «زعم» بمعنى : «كفل» ، أو : رأس (أى : شرف وساد) تعدى لواحد بنفسه ، أو بحرف الجر ، والمصدر : «الزعامة». وإن كان بمعنى : سمن أو هزل (أى : أصابه الهزال) لم ينصب بنفسه مفعولا.

وإن كان الفعل «حجا» بمعنى : قصد ، أو : رد ، أو : ساق ، أو : حفظ ، أو : كتم ، أو غلب فى المحاجة (وهى إقامة الحجة ، وإظهار البراعة وحدة الذكاء فى تقديمها) نصب مفعولا به واحدا ـ ....


شروط إعمالها :

يشترط لإعمال هذه النواسخ بنوعيها القلبىّ والتحويلىّ ، أن يكون المبتدأ الذى تدخل عليه صالحا للنسخ على الوجه الذى سبق تفصيله وتوضيحه عند بدء الكلام على النواسخ (١). وملخصه : أن النواسخ بأنواعها المختلفة لا تدخل على شىء مما يأتى :

(ا) المبتدأ الذى له الصدارة الدائمة فى جملته ؛ بحيث لا يصح أن يسبقه منها شىء. ومن أمثلته : أسماء الشرط ـ أسماء الاستفهام ـ كم الخبرية ـ المبتدأ المقرون بلام الابتداء ... (نحو : من يكثر مزحه تضع هيبته. من ذا الذى ما ساء قط؟ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. لكلمة حقّ فى وجه حاكم ظالم أفضل عند الله من اعتكاف صاحبها فى المسجد).

ويستثنى من هذا النوع الذى له الصدارة فى جملته ـ ضمير الشان (٢) فيجوز أن تدخل عليه النواسخ بأقسامها المختلفة ؛ نحو حسبته «الحقّ واضح».

لكن تختص النواسخ فى هذا الباب ـ دون غيرها من النواسخ ـ بجواز دخولها على المبتدأ الذى هو اسم استفهام ، أو المضاف إلى اسم استفهام. وإذا دخلت على أحدهما وجب تقديمه عليها ؛ نحو : أيّا ظننت أحسن؟ وغلام أىّ حسبت أنشط؟

ولا تدخل على أحدهما «كان» ولا «إن» ولا أخواتهما ؛ منعا للتعارض ؛ إذ الاسم فى بابى «كان» و «إنّ» وأخواتهما لا يصح تقديمه على الناسخ. فلو وقع الاسم أحدهما لامتنع تقديمه على الناسخ ؛ تطبيقا لهذا الحكم ، مع أن الاستفهام لا بد أن يتقدم (٣).

__________________

(١) راجع ج ١ ص ٤٠٢ م ٤٢ من هذا الكتاب ؛ حيث التفصيل والبيان الذى لا غنى عنه.

(٢) سبق شرحه فى ج ١ ص ١٧٧ باب : الضمير وأنواعه.

(٣) أما الخبر فيجوز أن يكون اسم استفهام ، أو مضافا إلى اسم استفهام فى البابين ، ولا يجوز أن يكون جملة إنشائية ؛ ويجوز تقديمه فى بابى : «ظن» و «كان» بشرط ألا يوجد مانع يمنع من ـ


(ب) المبتدأ الملازم للابتداء بسبب غيره ؛ كالاسم الواقع بعد «لو لا» ؛ الامتناعية ، أو بعد «إذا» الفجائية ؛ فإنه لا يكون إلا مبتدأ ؛ إذ لا يصح ـ فى الرأى الأشهر ـ دخول أحدهما على غير المبتدأ ؛ نحو : لو لا العقوبة لزادت الجرائم. ونحو ؛ فتحت الكتاب ؛ فإذا الصّور فاتنة.

(ح) المبتدأ الذى يجب حذفه بشرط أن يكون أصل خبره نعتا مقطوعا (١) ؛ نحو : شكرا للمتعلم ، النافع العزيز (أى : هو النافع العزيز).

(د) كلمات معينة لم ترد عن العرب إلا مبتدأ. ومنها : «ما» التعجبية ، وكلمة : «طوبى» ؛ (بمعنى : الجنة) وكلمة : درّ (٢) ، وكلمة : أقلّ ... وذلك فى نحو : ما أجمل الهواء سحرا!! ، وما أطيب الرياضة عصرا!! طوبى للشهداء ، ولله درّهم (٣)!! وأقلّ (٤) رجل ينكر فضلهم.

__________________

ـ تقديمه ، كوجود «ما» النافية قبل الناسخ ، أو غيرها من الموانع التى ذكرناها فى أحوال خبر «كان» (ج ١ ص ٤٢٠ م ٤٣) ، مثل : أين كنت؟ وأين ظننت الكتاب؟ أما خبر «إن» وأخواتها فلا يتقدم عليها ـ كما سبق فى بابها ح ١ ـ وقد قلنا إن الخبر لا يكون جملة إنشائية برغم ورود صور منها مسموعة ، نقل النحاة واحدة منها ثقيلة فى نطقها ، ولا أدرى لماذا تخيروها دون غيرها مع ما فيها من ثقل وإن كانت صادقة المعنى؟ هى قولهم : «رأيت الناس ، اخبر تقله». أى : اختبر كل واحد منهم تبغضه وتكرهه ؛ لما تكشفه من عيوبه. فهذا ـ وأمثاله ـ على إضمار قول مقدر ؛ أى : رأيت الناس مقولا فيهم : اختبر كل واحد منهم تبغضه وتكرهه. ويرى كثير من النحاة عدم القياس على هذا. والحق أن القياس عليه جائز بشرط وجود قرينة كاشفة تمنع الغموض ؛ وتهدى للمقصود ؛ لأن هذا هو الموافق للأصول اللغوية العامة.

وفيه تيسير وتوسيع فى ميدان الكلام والتعبير بغير ضرر ، كما يتبين هذا من الباب الخاص بأحكام «الحكاية».

(١) سبق تفصيل الكلام على النعت المقطوع فى الجزء الأول ص ٣٧٥ م ٣٩. وله تفصيل أشمل فى باب النعت ح ٣ ص ٣٥٧ م ١١٥.

(٢ و ٢) الدر : اللبن. «ولله در البطل» ... أسلوب يتقدم فيه الخبر وجوبا. (لأن العرب التزمت فيه التقديم) ويقصد به المدح والتعجب من بطولته ، معا ... والسبب : هو ما يدعيه القائل من أن اللبن الذى ارتضعه البطل فى صغره ، ونشأ عليه ، وترعرع ـ لم يكن لبنا عاديا كالمألوف لنا ، وإنما هو لبن خاص أعده الله لهذا البطل فى طفولته ؛ لينشأ نشأة ممتازة ، ويشب عظيما. فنسب اللبن لله ـ ادعاء ـ ليكون من وراء ذلك إظهار الممدوح فى صفات تفوق صفات البشر ، وكأنه ليس منهم ، فهو أسمى وأرقى ، للعناية الإلهية التى خصته برعايتها. (راجع رقم ٤ من هامش ص ٣٩٤ و «ح» من ص ٣٩٧ من هذا الجزء ، وص ٤٥٨ ح ١ م ٣٨ من الطبعة الثالثة).

(٣) أى : قلّ رجل يقول ذلك ، بمعنى : صغر وحقر. (راجع ج ١ ص ٣٢٨ م ٣٣).


ومثل بعض ألفاظ الدعاء ؛ ومنها (١) : سلام ـ ويل ؛ فى نحو : سلام على الأحرار ، وويل للجبناء.

* * *

حكم الناسخ ومعموليه من ناحية التقديم والتأخير :

لا ترتيب فى هذا الباب بين الناسخ ومعموليه ؛ فيجوز ـ لغرض بلاغى ـ أن يتقدم عليهما معا ، أو يتأخر عنهما ، أو يتوسط بينهما. لكن يترتب على كل حالة أحكام سيجىء تفصيلها قريبا (٢). فمثال تقدّم الناسخ عليهما : يظنّ الجاهل السراب ماء. ومثال تأخره عنهما : السراب ماء يظن الجاهل. ومثال توسطه بينهما : السراب يظن الجاهل ماء ، أو : ماء يظن الجاهل السراب.

أما الترتيب بين المفعولين وتقديم أحدهما على الآخر دون الناسخ فحكمه حكم الترتيب بين أصلهما المبتدأ والخبر قبل دخول الناسخ عليهما ؛ فما ثبت لأصلهما يثبت لهما من غير اعتبار لوجود الناسخ. ويترتب على هذا أن يكون المفعول الأول واجب التقديم على المفعول الثانى فى كل موضع يجب فيه تقديم المبتدأ على الخبر ، وأن يكون المفعول الثانى واجب التقديم على المفعول الأول فى كل موضع يجب فيه تقديم الخبر على المبتدأ ، وأن يكون تقديم أحدهما على الآخر جائزا فى كل موضع يجوز فيه تقديم المبتدأ أو الخبر بغير ترجيح. فلا بد من مراعاة الأصل (٣) فى ناحية التقديم والتأخير ، وتطبيقه على الفرع تطبيقا مماثلا. ففى مثل : حسبت أخى شريكى ، يجب الترتيب ؛ بتقديم المفعول الأول وتأخير الثانى ؛ منعا لوقوع لبس لا يمكن معه تمييز الأول من الثانى ؛ فيلتبس المعنى تبعا لذلك. وفى مثل : علمت الكلب حارسا أمينا ، يجب تقديم المفعول الثانى عند إرادة الحصر فى الأول ؛ فنقول : ما علمت حارسا أمينا إلا الكلب. أى : أنه لا حارس أمينا سواه. وفى مثل : ظننت القطّ البرّىّ (٤) ثعلبا ، يجوز تقديم المفعول الثانى ؛ فتقول :

__________________

(١) الكثير فى اللفظين الآتيين الرفع على الابتداء ، ولا مانع من النصب على اعتبار آخر ؛ كما سيجىء البيان فى ص ٢١٨.

(٢) فى ص ٣٧.

(٣) سبق إيضاحه فى الجزء الأول (ص ٣٦١ م ٣٧) عند الكلام على مواضع تأخير الخبر.

(٤) الصحراوى غير الأليف.


ظننت ثعلبا القطّ البرّىّ ؛ إذ لا مانع يمنع تقديم أحدهما على الآخر ... وهكذا تجب مراعاة الأحكام الخاصة بالترتيب بين المبتدأ والخبر ، وتطبيقها هنا ، عند النظر فى الترتيب بين المفعولين (١).

* * *

ما تنفرد به الأفعال القلبية الناسخة ، هى وما يعمل عملها :

تنفرد النواسخ القلبية بخمسة أحكام ، منها حكم واحد مشترك بينها جميعا ، سواء أكانت متصرفة أم جامدة. وهذا الحكم هو : تنوّع مفعولها الثانى. أما الأحكام الأربعة الأخرى فمقصورة على القلبية المتصرفة ، دون الجامدة ، ـ وغيرها ـ وسيجىء لهذه الأربعة بحث مستقل (٢).

(ا) فأما تنوع المفعول الثانى الذى أشرنا إليه فلأنه خبر فى الأصل ؛ فهو ينقسم إلى مثل ما ينقسم إليه الخبر ؛ من مفرد (٣) ، وجملة (٤) ، وشبه جملة (٥) ؛ فليس من اللازم فى المفعول الثانى أن يكون مفردا ، وإنما اللازم أن يكون الفعل الناسخ قلبيّا متصرفا أو غير متصرف (٦) ؛ كما فى الأمثلة الآتية ، ومن المهم التنبه لإعراب كل قسم. ولا سيما الجملة وشبهها :

__________________

(١) ستجىء إشارة موجزة لهذا الترتيب فى ص ١٦٥ م ٧٢.

(٢) فى ص ٢٥ المسألة : ٦١.

(٣) المراد به هنا وفى الخبر : ما ليس جملة ولا شبهها.

(٤) بشرط ألا تكون إنشائية .. لأن الإنشائية لا تصلح هنا (انظر رقم ٣ من هامش ص ٢٠).

(٥) طبقا لما جاء فى بعض المراجع الوثيقة وتؤيده النصوص الفصيحة التى تكفى لإباحة القياس عليه.

(٦) قد سبقت أمثلة المفرد. ومثال الجملة الاسمية قول الشاعر :

حذار ، حذار من جشع ؛ فإنى

رأيت الناس أجشعها اللئام

ومثال الجملة الفعلية :

وإنى رأيت الشمس زادت محبة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

فكل واحدة من الجملتين (أجشعها اللئام ـ زادت محبة) سدت مسد المفعول الثانى الذى يحتاج إليه الفعل الناسخ. ومثال شبه الجملة ـ قول بعضهم : رأيت قدرة الله فى كل شىء ، وألفيت سلطانه فوق كل سلطان.

وقول الشاعر ينتخر :

إنى ـ إذا خفى الرجال ـ وجدتنى

كالشمس ؛ لا تخفى بكل مكان

فشبه الجملة (الجار مع مجروره ، أو الظرف) سد مسد الثانى.


الجملة مشتملة على الفعل القلبى ومفعوليه

المفعول الثانى

نوعه

إعرابه   

علمت الرياء داء وبيلا.

داء

مفرد

مفعول ثان منصوب

أحسب النفاق مزريا بصاحبه.

مزريا

مفرد

مفعول ثان منصوب

زعمت الكذب سوء أدب

سوء

مفرد

مفعول ثان منصوب

أرى الفضل يعرفه أهله

(يعرف*)

جملة فعلية.

فعل مضارع ، فاعله ضمير مستتر تقديره : هو والجملة فى محل نصب (١) تسد مسد المفعول الثانى.

تعلم (اعلم) الفرصة تضيع بالتوانى

(تضيع*)

جملة فعلية

فعل مضارع ، فاعل ، ضمير مستتر تقديره هو والجملة فى محل نصب تسد مسد المفعول الثانى.

وجدت التوفيق حالف أهل الإجادة

(حالف*)

جملة فعلية.

فعل ماض ، فاعله ضمير مستتر تقديره : هو. والجملة فى محل نصب تسد مسد المفعول الثانى.

ألفيت الإذاعة هى المنبر العام ،

هى المنبر

جملة اسمية

هى : مبتدأ مبنى على الفتح فى محل رفع. المنبر خبره الجملة فى محل نصب تسد مسد المفعول الثانى.

إخال سلطان الضمير هو السلطان الأكبر

هو السلطان

جملة اسمية

هو : مبتدأ مبنى على الفتح فى محل رفع. السلطان خبره الجملة فى محل نصب تسد مسد المفعول الثانى

أظن المجد هو هدف العظيم.

هو هدف

جملة اسمية

هو : مبتدأ مبنى على الفتح فى محل رفع ، هدف : خبره الجملة فى محل نصب تسد مسد المفعول الثانى.

دريت الصديق عند الشدة

عند

ظرف منصوب

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانى ، أو الظرف نفسه سد مسد المفعول الثانى (٢).

جعلت الكتاب معك.

مع

ظرف منصوب

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانى ، أو الظرف نفسه سد مسد المفعول الثانى.

أعلم قوة الحق فوق طغيان الباطل.

فوق

ظرف منصوب

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانى ، أو الظرف نفسه سد مسد المفعول الثانى.

.

أحسب الخير فى مجانبة أهل السوء

فى مجانبة

جار مع مجروره

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانى. أو الجار مع مجروره سد مسد المفعول الثانى (٣).

أرى السعادة فى عمل الخير.

فى عمل

جار مع مجروره

متعلق بمحذوف هو المفعول الثانى ، أو الجار مع مجروره سد مسد المفعول الثانى. متعلق بمحذوف هو المفعول الثانى ، أو الجار مع مجروره سد مسد المفعول الثانى.

علمت العفو من دواعى التآلف.

من دواعى ...

جار مع مجروره

__________________

(١) ما معنى فى محل نصب ...؟

سبق الجواب عن هذا واضحا عند تفصيل الكلام على الإعراب المحلى والتقديرى. ـ ح ١ م ٦ فى آخر المعرب والمبنى ...

(٢ و ٢) راجع رقم ٢ من هامش ص ٤١٣ م ٨٩ ، وهى تلخيص لما سبق فى ج ١ ص ٢٧١ و ٣٤٦ م ٢٧ وم ٣٥ حيث الكلام على شبه الجملة بنوعيه ، من ناحية وقوعه هو أو متعلقة خبرا ، وصفة .. و...


المسألة ٦١ :

ب ـ الأحكام الأربعة الخاصة بالأفعال القلبية المتصرفة (١).

عرفنا (٢) أن الأفعال القلبية متصرفة ، إلا فعلين ؛ هما : «تعلّم» (٣) بمعنى «اعلم» ، و «هب» بمعنى : «ظنّ» ؛ نحو : تعلم داء الصمت خيرا من داء الكلام. وهب كلامك محمودا ؛ فتخير له أنسب الأوقات.

والفعل القلبىّ المتصرف قد يكون له الماضى ، والمضارع ، والأمر ، والمصدر واسم الفاعل ، واسم المفعول ، وبقية المشتقات المعروفة. لكن الناسخ الذى يعمل فى هذا الباب هو الماضى وما جاء بعده مما صرّحنا باسمه هنا ، دون بقية المشتقات المعروفة (٤) التى اكتفينا بالإشارة الموجزة إليها ، ولم نصرح بأسمائها. وبديه أن النواسخ المتصرفة التى سردنا أسماءها ـ متساوية فى العمل ؛ لا فرق بين ماض وغيره ، ولا بين فعل واسم مما سردناه (٥). أما الناسخ الجامد فيعمل وهو على صورته

__________________

(١) هذا البحث هو الذى سبقت الإشارة إليه فى ص ٢٣ عند بيان ما تنفرد به الأفعال القلبية ...

(٢) فى رقم ١ من هامش ص ٤ وفى رقم ٣ و ١ من هامشى ص ٦ و ٨.

(٣) على الرأى القائل بأنه جامد. وهو الرأى الشائع الذى يحسن الاقتصار عليه (كما سبق فى رقم ٣ من هامش ص ٦ ورقم ٢ من هامش ص ١٨). أما على الرأى القائل بأنه متصرف فيجرى عليه ما يجرى على الأفعال القلبية المتصرفة.

(٤) أوضحنا ـ فى رقم ١ و ٢ من هامش ص ٤ ـ معنى المتصرف وقسميه ، وبيان المشتقات المختلفة ، والعامل منها وغير العامل ، وما يعمل فى غير هذا الباب ولكنه لا يصلح للعمل هنا ، وأسباب ذلك ...

(٥) ومن الأمثلة ، الفعل : «علم» ، وما يتصرف له ؛ نحو : علم العاقل الحياة جهادا ـ يعلم العاقل الحياة جهادا ـ اعلم الحياة جهادا ، فمارسه ـ علم العاقل الحياة جهادا دافع له إلى الصبر والدأب ـ العاقل عالم الحياة جهادا ـ أمعلوم الحياة جهادا. (الحياة : هى المفعول الأول ؛ لكنه صار نائب فاعل لاسم المفعول ، إذ لا بد لاسم المفعول من نائب فاعل حتما. لا فاعل).

وتسوقنا المناسبة إلى بيان أن اسم الفاعل لا بد له من فاعل ـ لا نائب فاعل ـ وقد يكون فاعله اسما ظاهرا ، أو ضميرا. غير أن الضمير لا بد أن يكون للغائب دائما ، ولهذا قالوا فى مثل : أنا صائم ـ أنا مخلص ...

إن فاعله ضمير مستتر تقديره : «هو». على تأويل : أنا رجل صائم ... أنا رجل مخلص ... فالضمير المستتر تقديره : «هو» للغائب ، وعائد على محذوف ؛ ليكون عائدا على الغائب ؛ إذ لا يصح أن يعود إلا عليه. فمن الخطأ إرجاعه إلى متكلم أو مخاطب (راجع الخضرى ج ١ «باب ظن» عند الكلام على بيت ابن مالك : «وخص بالتعليق والإلغاء ..» ـ وستجىء الإشارة لهذا فى باب اسم الفاعل ج ٣ ص ١٩١ م ١٠٢ كما سبق البيان فى ج ١ م ١٩ ص ٢٤٣ من الطبعة الثالثة ، عند الكلام على اختلاف نوع الضمير مع ـ


القائمة ، لا يفارقها ، ولا يدخل عليها تغيير.

وتختص الأفعال القلبية المتصرفة ، هى وما تتصرف له مما ذكرنا اسمه صريحا بأحكام تنفرد بها ؛ فلا يدخل ـ فى الأغلب ـ حكم منها على المشتقات القلبية التى لا تعمل هنا (١) ، ولا على الأفعال القلبية الجامدة ، ولا على أفعال التحويل وما يتصرف منها. وأشهر تلك الأحكام أربعة (٢) :

الحكم الأول ـ التعليق :

ومعناه : «منع الناسخ من العمل الظاهر فى لفظ المفعولين معا ، أو لفظ أحدهما ، دون منعه من العمل فى المحلّ (٣)». فهو فى الظاهر ليس عاملا النصب ، ولكنه فى التقدير عامل. وهذا ما يعبر عنه النحاة بأنه :

«إبطال العمل لفظا ، لا محلّا». سواء أكان أثر الإبطال واقعا على المفعولين معا ، أم على أحدهما.

هذا المنع والإبطال واجب إلا فى صورة واحدة (٤). وسببه أمر واحد ، هو : وجود لفظ له الصدارة يلى الناسخ ؛ فيفصل بينه وبين المفعولين معا ، أو أحدهما ، ويحول بينه وبين العمل الظاهر. ويسمى هذا اللفظ الفاصل : «بالمانع» ويقع بعده جملة (٥) ـ فى الغالب ـ ؛ ففى مثل : علمت البلاغة إيجازا ، ورأيت الإطالة عجزا. نجد الفعل : «علم» قد نصب مفعولين مباشرة. وكذلك الفعل ؛ «رأى» ـ فإذا قلنا : علمت للبلاغة إيجاز ،

__________________

ـ مرجعه). والظاهر أن هذا الحكم ليس مقصورا على اسم الفاعل وحده ، بل يشاركه فيه كل مشتق يتحمل ضميرا مستترا ؛ فيجب أن يكون المستتر للغائب ، ويعود على غائب دائما.

(١) وهى المشتقات التى لم نصرح فيما سبق باسمها. إلا التعليق بالاستفهام فإنه عام شامل ، وستجىء الإشارة لهذا فى رقم ٢ من هامش ص ٣١ أما البيان المفصل ففى ٣٥.

(٢) وهى غير الحكم المشترك : «ا» الذى يدخل النواسخ القلبية المتصرفة والجامدة ، وغيرها.

وقد سبق بيانه فى ص ٢٣.

(٣) تفصيل الكلام على الإعراب المحلى فى ج ١ م ٦ فى الزيادة والتفصيل التى فى آخر : «المعرب والمبنى» ـ كما أشرنا ـ

(٤) جائزة ، وتجىء فى رقم ٢ من هامش ص ٢٩.

(٥) إلا إن كان المانع أحد المفعولين بحسب أصله : نحو ؛ علمت من أنت ، أو وقع المصدر المؤول سادا مسد المفعولين ، أو ثانيهما وحده ؛ (كما يجىء فى ص ٢٧ ، ورقم ٣ من هامش ص ٣١ وص ٤٢ ـ (ثم انظر رقم ٢ من هامش ص ٢٩).


ورأيت للإطالة عجز ـ لم ينصب كل من الفعلين شيئا فى الظاهر ، بسبب وجود «لام الابتداء» التى فصلت بين كل فعل ناسخ ومفعوليه ـ وهى من ألفاظ التعليق ، أى : من الموانع ـ ، ولكن هذا الفعل ينصب المحلّ ؛ فنقول عند الإعراب : «البلاغة» : مبتدأ ـ «إيجاز» : خبره. والجملة من المبتدأ والخبر فى محل نصب ؛ سدّت مسدّ مفعولى «علم» (وهذه الجملة هى التى تلى ـ فى الغالب ـ اللفظ المانع من العمل).

وكذلك نقول : «الإطالة» : مبتدأ ـ «عجز» : خبره. والجملة من المبتدأ والخبر فى محل نصب ؛ سدّت مسد مفعولى : «رأى». فقد وقع التعليق بسبب وجود المانع من العمل ، ووقع بعد المانع جملة محلها النصب ؛ لتسدّ مسد المفعولين.

أما فى مثل : علمت البلاغة لهى الإيجاز ، ورأيت الإطالة لهى العجز ـ فاللفظ المانع من العمل ـ وهو لام الابتداء ـ قد وقع فى المثالين بعد المفعول به الأول ، ووقع بعد المانع جملة سدت مسدّ المفعول به الثانى الذى لا يظهر فى الكلام ، وحلّت محله وحده. فعند الإعراب يحتفظ المفعول به الأول باسمه وبإعرابه ؛ (مفعولا به أول ، منصوبا (١)). وتعرب الجملة التى بعد المانع إعرابا التفصيلى ، ويزاد عليه : «أنها فى محل نصب ؛ سدّت مسد المفعول به الثانى (٢) الذى وقع عليه التعليق».

نعلم مما تقدم أن أثر التعليق فى منع العمل لفظى ظاهرىّ فقط ؛ لا حقيقى ، محلىّ ، وأن سببه الوحيد وجود فاصل لفظى له الصدارة ، يسمى : «المانع» ؛

__________________

(١) ستجىء حالة يجوز فيها رفعه ـ فى رقم ٢ من هامش ص ٢٩ ـ.

(٢) إذا سدت جملة مسد المفعول الثانى ـ أو مسد غيره مما يكون مفردا لا جملة ـ فهى مفرد فى المعنى ؛ ففى مثل : أظن محمدا أبوه قائم ، تعرب الجملة ـ «أبوه قائم» ـ مبتدأ وخبر ، فى محل نصب سدت مسد المفعول الثانى ؛ فهى مفرد فى المعنى ؛ لأن المعنى : أظن محمدا قائم الأب. وقد نص النحاة على هذا ، وتضمنته كتبهم ، ـ (ومنها : الصبان فى الجزء الأول عند الكلام على علامات الأسماء ، وأوضحنا هذا وبسطنا الكلام على الإعراب المحلى فى الموضع الذى أشرنا إليه فى رقم ١ من هامش ص ٢٤).


يفصل بين الناسخ ومفعوليه معا ، أو أحدهما (١) ، وبعد «المانع» جملة (٢) تسدّ مسدّ المفعولين معا ، أو أحدهما على حسب التركيب ...

ولما كان أثر التعليق مقصورا على ظاهر الألفاظ دون محلها كان اختفاء النصب عن المفعولين معا أو أحدهما ، هو اختفاء شكلىّ محض ؛ لا حقيقى محلىّ ـ كما قدمنا ـ ولهذا يصح فى التوابع (كالعطف ...) مراعاة الناحية الشكلية الظاهرة ، أو مراعاة الناحية المحلية ؛ فنقول : علمت للبلاغة إيجاز والفصاحة اختصار ـ ورأيت للإطالة عجز والحشو عيب ؛ برفع المعطوف ؛ تبعا للفظ المعطوف عليه ، وحركته الظاهرة. أو نقول : علمت للبلاغة إيجاز ، والفصاحة اختصارا ـ ورأيت للإطالة عجز والحشو عيبا ؛ بنصب المعطوف ؛ تبعا للحكم المحلىّ فى المعطوف عليه. فمراعاة إحدى الناحيتين جائزة (٣).

أما سبب التعليق فى هذه الأمثلة وأشباهها ، فيتركز فى الأمر الواحد الذى ذكرناه ؛ وهو : وجود فاصل لفظىّ بعد الناسخ ؛ يفصل بينه وبين مفعوليه أو أحدهما ، بشرط أن يكون هذا الفاصل اللفظى من الألفاظ التى لها الصدارة (٤) فى جملتها ،

__________________

(١) فلا بد من تقدم الناسخ على «المانع» ، ولا بد من تقدم «المانع» على المفعولين معا ، أو على الثانى فقط ؛ إذ ليس من اللازم ـ كما عرفنا ـ أن يقع أثر التعليق. على المفعولين معا ، فقد يقع على الثانى وحده ، ويبقى الأول منصوبا كما كان قبل التعليق. أما وقوعه على الأول دون الثانى فغير ممكن ؛ لأن أداة التعليق التى تفصل بين الناسخ ومفعوله الأول ستكون فاصلة كذلك بين الناسخ ومفعوله الثانى فى الوقت نفسه.

(٢) إلا فى الحالة التى سبق استثناؤها فى رقم ٤ من هامش ص ٢٦.

(٣) يجب عند العطف بالنصب على محل الجملة التى علق عنها الناسخ ـ أن يكون المعطوف إما جملة اسمية فى الأصل ؛ كالأمثلة السابقة ؛ فيعطف كل جزء من جزأيها على ما يقابله ، فى الجملة المتبوعة وإما مفردا فيه معنى الجملة ؛ نحو : علمت لمحمود «أديب» و «غير» ذلك من أموره. فلا يصح : علمت لمحمود «أديب» وحامدا ، ولا : علمت لمحمود «أديب» وشاعرا ـ إلا على تأول وتقدير محذوف فى كل صورة ، أما كلمة «غير» فى المثال السالف فإنها منصوبة جوازا ؛ لأنها بمنزلة الجملة كما قلنا. فهى معطوفة بالنصب على محل الجملة الاسمية التى هى المعطوف عليها ؛ فلفظ «غير» ـ وهو مفرد ـ قد ساغ عطفه على محل الجملة ؛ لأنه بمعناها ؛ إذ معناه : علمت لمحمود «أديب» ومحمودا غير ذلك ، أى : متصفا بغير ذلك. (أى : علمت محمودا متصفا بغير ذلك). ـ راجع ح ٣ ص ٤٧٨ م ١٢١ باب العطف. وعطف المفرد على الجملة ، والعكس ـ.

(٤) تقدم الناسخ على «المانع» واجب. وهو مع تقدمه لا يعمل النصب فى «المانع» ، ولا فيما بعده ، إذ لو عمل فيه أو فيما بعده النصب لفقد المانع صدارته فى جملته ، وصار حشوا لا يصلح سببا للتعليق ؛ ووقوعه حشوا مع بقاء أثره غير جائز.


كلام الابتداء ، وأدوات الاستفهام (١) وغيرها من كل ما له الصدارة فى جملته. وإليك مثالا آخر للمانع الذى يفصل بين الناسخ ومفعوليه معا ، أو يفصل بين الناسخ ومفعوله الثانى فقط :

أعلم ، أمحمود حاضر أم غائب؟ أعلم محمودا ، أحاضر هو أم غائب؟ فمتى وقع بعد الناسخ مانع بإحدى الصورتين السالفتين منع العمل الظاهر حتما ، دون العمل التقديرىّ (المحلىّ) كما رأينا ، وأوجب التعليق (٢).

وأشهر الموانع ما يأتى من الألفاظ التى لها الصدارة ، وكل واحد منها يوجب (٣) التعليق :

(ا) لام الابتداء ، كالأمثلة السالفة.

(ب) لام القسم : نحو : علمت ليحاسبنّ (٤) المرء على عمله.

__________________

(١) انظر ما يختص بالاستفهام فى ص ٣٥.

(٢ ، ٢) إلا فى حالة يكون فيها جائزا ، وستجىء هنا. وعند إعراب المثال الأول الوارد هنا نقول : «محمود حاضر» ، مبتدأ وخبر. وجملتهما فى محل نصب سدت مسد مفعولى : «أعلم». وفى المثال الثانى نقول : «محمودا» ، مفعول أول. «حاضر» : خبر مقدم ، «هو» : مبتدأ مؤخر ، والجملة منهما فى محل نصب سدت مسد المفعول الثانى وحده. ومن المثالين يتضح أن الجملة الواقعة بعد «المانع» وجوبا قد تسد مسد المفعولين معا أو مسد الثانى عند وجود الأول منصوبا لفظه.

أما الحالة التى يكون فيها التعليق جائزا ـ لا واجبا ـ فحين تكون أداة التعليق مسلطة على الثانى وحده (كأن يكون المفعول الثانى قد صدر ـ فى الغالب ـ بكلمة استفهام ، أو مضافا إليها وقد سبقها المفعول الأول ، فى الصورتين ؛ نحو : علمت الأديب من هو؟ وظننت الشاعر أخو من هو؟) ففى هاتين الصورتين يجوز نصب الكلمة السابقة التى هى المفعول الأول ؛ لأن الناسخ سلط عليها من غير مانع ، ويجوز رفعها ؛ لأنها هى وما بعد الاستفهام شىء واحد فى المعنى ؛ فكأنها واقعة بعد الاستفهام فلا يؤثر فيها الناسخ. فالتعليق جائز هنا.

(٣) يقولون فى مثل هذا : إن اللام داخلة على جواب القسم المقدر. وأصل الجملة : «علمت ـ أقسم والله ـ ليحاسبن المرء على عمله». فجواب القسم ـ وهو جملة : «يحاسبن المرء» ـ مع جملة القسم المقدرة وهى : (أقسم*) فى محل نصب سدّا معا مسد المفعولين. أى : أن مجموع الجملتين هو الذى سد مسد المفعولين ، وأنه فى محل نصب. وما يترتب على هذا الإعراب من عدم وقوع أداة التعليق فى صدر جملتها يدفعونه بأن وقوعها فى الصدارة ليس واجبا مطردا ؛ وإنما هو الغالب. وبفرض أنه واجب حتما فالمقصودا بالقسم وجملته هو تأكيد جملة جوابه ؛ فهما معا كالشىء الواحد ؛ فإذا تقدمت أداة التعليق على جواب القسم وحده فكأنها فى الوقت نفسه قد تقدمت على جملة القسم ، واحتلت مكان الصدارة اللازم لها ؛ فلا تعتبر متخلية عنه. فوجودها فى صدر الثانية يعد بمنزلة التصدر فى الأولى.

لكن سيترتب على قولهم هذا محظور آخر ؛ هو : وقوع جملة جواب القسم فى محل نصب ، والشائع أنها ـ


(ح) حرف من حروف النفى الثلاثة (١) : (ما ـ إن ـ لا) دون غيرها من أدوات النفى الأخرى. فمثال «ما» النافية : علمت ما التهوّر شجاعة. ومثال

__________________

ـ لا محل لها من لإعراب. وقد أجابوا : بأنها لا محل لها باعتبارها : «جواب قسم» ـ ولا مانع أن يكون لها محل باعتبار آخر ؛ هو : «التعليق» ومعنى هذا أن جملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب إذا لم يوجد عامل يحتاج إليها حتما ؛ فإن وجد عامل يحتاج إليها حتما كانت معمولة له. وقيل إن : «العلم» فى المثال السالف منصب على مضمون جملة الجواب فقط ، بدون نظر إلى أنها جواب قسم ؛ فجملة الجواب وحدها على هذا الاعتبار فى محل نصب سدت مسد المفعولين. (راجع الصبان ج ٢ عند الكلام على أدوات التعليق).

وفى هذا الرأى راحة وتيسير ؛ لأنه واقعى ؛ لا يلتفت إلى الجملة القسمية المستترة ، ولا يتناسى أن جواب القسم هنا ليس مجلوبا للقسم : وإنما الغرض الأساسى الأول هو إيفاء الناسخ ما يريده ، ولا ضرر فى أن يستفيد القسم منه بعد ذلك.

(وسيجىء الكلام على جملة القسم وجوابه فى باب حروف الجر (ص ٤٦٠ و ٤٦٧ ـ وما بينهما ، وفى ص ٤٦٦ النص الخاص بأن جملة جواب القسم قد يكون لها محل إعرابى مع جملة القسم).

(١) سواء أكان كل واحد منها ناسخا أم مهملا ، فالأولان قد يعملان عمل «ليس» ، والأخير قد يعمل عمل «إنّ» أو : «ليس» فاثلاثة مع الإعمال أو الإعمال صالحة لأن تكون أداة تعليق. ولا داعى لاشتراط بعضهم القسم قبل كل أداة من الثلاثة ؛ لأن هذا الاشتراط ـ فوق ما فيه من تضييق ـ لا سند له من النصوص الفصيحة الكثيرة ، فالوارد منها يدعو إلى إغفاله. ويزيد التمسك بإغفاله قوة ما يقوله أصحابه من أن القسم قبل هذه الأدوات الثلاثة يجب تقديره إن لم يكن ظاهرا فى الجملة ؛ مثل : «علمت ما محمد جبان» إذ يقدرونه : علمت والله ما محمد جبان. فما الحاجة إلى التقدير والتأويل بغير داع؟ ولا سيما التأويل القائم على مجرد التخيل المذكور. وإنه لتخيل مستطاع فى كل صورة خالية من القسم ، فتصير به صحيحة إلا أنه يدفعنا إلى الدخول فى الجدل المرهق الذى مر فى المسألة السابقة ـ فى رقم ٣ من الصفحة الماضية ـ الخاصة بجواب القسم ومحله من لإعراب ، كما سيفتح علينا أبوبا أخرى للاعتراض والجدل ؛ نحن فى غنى عنها ، ولا حاجة للبيان اللغوى الناصع بها.

وزيادة فى البيان نقول : إن اشتراط القسم مقصور عند جمهرة النحاة على «لا ـ إن» ـ النافيتين ، ولا يكاد يوجد خلاف فى صدارة «ما» النافية غير الزائدة ؛ عاملة وغير عاملة. فقد جاء فى الجزء الأول من «المغنى» عند الكلام على «لا» ما نصه :

(تنبيه ـ اعتراض «لا» بين الجار والمجرور فى نحو : غضبت من لا شىء ، وبين الناصب والمنصوب فى نحو قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ..) وبين الجازم والمجزوم فى نحو : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ ..) وتفدم معمول ما بعدها عليها فى نحو قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ..) ـ دليل على أنها ليس لها الصدر. بخلاف «ما» ...

«اللهم إلا أن تقع فى جواب القسم فإن الحروف التى يتلقى بها القسم كلها لها الصدر. ولهذا قال سيبويه فى قوله : «آليت حب العراق الدهر أطعمه ...» أن التقدير : على حب العراق ، فحذف الخافض ، ونصب ما بعده ؛ بوصول الفعل إليه ، ولم يجعله من باب : «زيدا ضربته» ؛ لأن التقدير «لا أطعمه» وهذه الجملة جواب : لآليت ؛ فإن معناه : حلفت. وقيل : لها الصدر مطلقا ، وقيل : «لا» مطلقا. والصواب الأول) ١ ه‍ وإنما قال سيبويه ذلك لأن «لا» هنا لها الصدارة فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولا يفسر عاملا أيضا .. وقال الأشمونى عند سرد الأدوات التى لها الصدارة ، ويحدث التعليق بسببها ما نصه : ـ


«إن» النافية : زعمت إن الصفح الجميل ضارّ (أى : ما الصفح الجميل ضارّ) ومثال «لا» النافية : ألفيت لا الإفراط محمود ولا التفريط (١).

(د) الاستفهام (٢) ؛ وله صور ثلاث : أن يكون أحد المفعولين اسم استفهام ، نحو : علمت أيّهم بطل؟ أو يكون مضافا إلى اسم استفهام ؛ نحو : علمت صاحب أيّهم البطل؟ أو يكون قد دخلت عليه أداة استفهام ؛ نحو : علمت أعلىّ مسافر أم مقيم؟ وأعلم هل الشتاء أنسب للعمل من الصيف (٣)؟ وقولهم لظريف : لا ندرى أجدّك أبلغ وألطف ، أم هزلك أحبّ وأظرف؟

__________________

ـ (التزم التعليق عن العمل فى اللفظ إذا وقع الفعل قبل شىء له الصدر ؛ كما إذا وقع قبل «ما» النافية ؛ نحو قوله تعالى (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) وقبل «إن ـ ولا» النافيتين فى جواب قسم ملفوظ أو مقدر) اه.

وقد استدرك الصبان فقال ما نصه :

(قوله فى جواب قسم .. قيل الصحيح أنه ليس بقيد. لكن فى «المغنى» ما يظهر به وجه التقييد ؛ حيث نقل فيه أن الذى اعتمده سيبويه أن «لا» النافية إنما يكون لها الصدارة حيث وقعت فى صدر جواب القسم. وقال فى محل آخر : «لا» النافية فى جواب القسم لها الصدر : لحلولها محل ذوات الصدر ؛ كلام الابتداء و «ما» النافية .. اه و «إن» مثل : «لا») اه كلام الصبان.

(١) الإفراط : المبالغة فى إعداد الشىء حتى يتجاوز حدوده المحمودة. والتفريط : الإهمال فيه. فهما نقيضان.

(٢) لأن الاستفهام له الصدارة ، فلا يعمل ما قبله فيما بعده (كما سبق ، إلا إن كان ما قبله حرف جر ؛ نحو : ممن علمت الخبر؟ ـ بم جئت؟ ـ عم يتساءلون؟ ـ على أى حال كنت؟ ..

أو كان ما قبله مضافا واسم الاستفهام مضاف إليه ، نحو : صديق من أنت؟ ...)

وجدير بالتنويه أن التعليق بالاستفهام ليس مقصورا على أفعال هذا الباب القلبية ـ كما أشرنا فى رقم : ١ من هامش ص ٢٦ ؛ وسيجىء البيان فى ص ٣٥ ـ

(٣) عرض بعض النحاة لهذه الصور الثلاث بشىء من التفصيل ، فقال : إن الاستفهام قد يكون بالحرف نحو قوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ.) أو بالاسم الواقع مبتدأ مباشرة ، نحو : ستعلم أىّ الرأيين أفضل؟ أو يكون المبتدأ مضافا إلى اسم الاستفهام ؛ نحو : علمت أبو من صالح. أو يكون اسم الاستفهام خبرا ؛ نحو علمت متى السفر. أو يكون الخبر مضافا إلى اسم الاستفهام ؛ نحو : علمت صباح أىّ يوم قدومك. أو يكون اسم الاستفهام فضلة ؛ نحو : علمت أىّ كتاب تقرأ. وقول الشاعر :

حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا

فلم أدر أىّ الظاعنين أشيّع

ومما سلف يتبين أن الاستفهام قد يكون حرفا فاصلا بين العامل والجملة ، وقد يكون اسما فضلة ، وقد يكون اسما عمدة ، سواء أكان العمدة مبتدأ مباشرة للاستفهام ، أم خبرا مباشرة كذلك. وسواء أكان العمدة مبتدأ مضافا والاستفهام هو المضاف إليه أم خبرا مضافا والاستفهام هو المضاف إليه.


(ه) الألفاظ الأخرى التى لها الصدارة فى جملتها ؛ مثل «كم» (١). الخبرية ؛ فى نحو : دريت كم كتاب اشتريته. ومثل : «إنّ» وأخواتها ، ما عدا «أنّ» مفتوحة الهمزة ؛ فليس لها الصدارة ؛ نحو : علمت إنك لمنصف (٢) ، ونحو : لا أدرى لعل الله يريد بكم خيرا. والأغلب الفصيح فى : «لعل» هذه أن تكون أداة تعليق للفعل : «أدرى» المبدوء بالهمزة ، أو بحرف آخر من حروف المضارعة (ندرى ـ تدرى ـ يدرى ...).

ومثل : أدوات الشرط الجازمة وغير الجازمة فى نحو : لا أعلم إن كان الغد

__________________

(١) «كم» ، نوعان ، «استفهامية» ؛ وهى : اسم يسأل به عن عدد شىء. وتحتاج لتمييز منصوب فى الغالب ؛ نحو : كم درهما تبرعت به؟ وتدخل فى أدوات التعليق الاستفهامية. «وخبرية» ؛ وهى : اسم يدل على كثرة الشىء ووفرته ، ولها تمييز مجرور فى الغالب ؛ نحو : كم ظالم أهلكه الله بظلمه. و «كم» بنوعيها لها باب خاص فى الجزء الرابع يضم أحكامها المختلفة (ص ٤٢٥ م ١٦٨).

(٢) فى هذا المثال يصح أن تكون أداة التعليق هى : «إن» ، أو «لام الابتداء» ؛ فكلاهما له الصدارة ؛ فيصلح للتعليق. ولا يقال : «لام الابتداء فيه ليس بعدها جملة». ففى هذا القول إغفال لما قرروه من أن موضعها الأصيل هو أول الجملة. فلما شغلته «إنّ» ـ ولها الصدارة أيضا ـ تخلت عنه اللام ، وتأخرت إلى الخبر ؛ منعا للتعارض. على أن هذا من التعليلات المصنوعة التى لا خير فى ترديدها. وحسبنا أن نهتدى إلى ما فى الكلام المأثور من تعليق ، سببه «إن» أو : «لام الابتداء» ، أو : هما معا ؛ فكل هذا صحيح ومريح.

وما يقال فى لام الإبتداء الداخلة على خبر «إن» يقال فى لام الابتداء الداخلة على اسم «إن» ، المتأخر ، أو على معمول خبرها ؛ نحو : حسبت إن فى الصحراء لمناجم ، وعلمت إن «المناجم لكنوزا ممتلئة. ويجب كسر همزة «ان» فى الأمثلة السابقة وأشباهها من كل جملة تجمع بين «إن» و «لام الابتداء». كما سبق فى مواضع كسرها. وسبب ذلك فى رأيهم : أن «لام الابتداء» تصيب الفعل القلى بالتعليق ، وهذا التعليق يقتضى أن تقع بعده فى الغالب جملة ـ كما سبق فى ص ٢٦ ـ. فلما وقعت «إنّ» فى صدر هذه الجملة كسرت وجوبا. فلام الابتداء كانت السبب فى التعليق ، وفى كسر همزة «إن». فإذا لم توجد «لام الابتداء» فلن يكون هناك داع للتعليق ، ولا لكسر همزة «إن» ، فتفتح.

لكن أيتفق هذا مع إدخالهم «إنّ» فى عداد الأدوات التى لها الصدارة ، وتحدث التعليق؟ لا. ومن أجله قال بعض النحاة بحق : يجوز كسر همزة «إن» وفتحها فى المثال السابق عند خلوه من لام الابتداء. فمن اختار الكسر لسبب عنده فله اختياره. ولكن يحب مع الكسر تعليق الفعل القلبى ؛ لما سبق تقريره من اعتبار «إن» مكسورة الهمزة فى عداد أدوات التعليق. ومن اختار الفتح لسبب آخر فله اختياره ، ولا يصح تعليق الفعل القلبى فى هذه الحالة ؛ لعدم وجود أداة التعليق ؛ إذ ليست «أن» مفتوحة الهمزة من أدواته. (راجع ح ١ ص ٤٨٨ م ٥١).

وراجع الصبان ج ٢ باب ظن وأخواتها عند الكلام على أدوات التعليق.


ملائما للسفر أو غير ملائم. ونحو أحسب لو ائتلف العامل وصاحب العمل لسعدا.

* * *

فيما يلى أمثلة تزيد التعليق وضوحا (١) وتبيّن موضع «المانع» وأن موضعه بعد الناسخ حتما ويليه المفعولان ، أو بعد الناسخ مع توسط هذا المانع بين المفعولين :

الجملة وفيها الناسخ بغير تعليق

الجملة بعد تعليق الناسخ

السبب

علمت التواضع غير الضعة

علمت للتواضع غير الضعة

الفصل بلام الابتداء بين الناسخ ومعموليه معا.

ألفيت العظمة غير التعاظم

ألفيت للعظمة غير التعاظم

الفصل بلام الابتداء بين الناسخ ومعموليه معا.

عددت التجارب خير معلم

عددت والله التجارب خير معلم

الفصل بالقسم بين الناسخ ومعموليه معا.

(٢) جعلت اتباع الهوى شرّ البلايا

جعلت ما اتباع الهوى إلا شرّ البلايا

الفصل بأداة النفى «ما» بين الناسخ ومعموليه معا.

وجدت الشرقّ مستردّا مجده.

وجدت الشرق لهو مستردّ مجده

وقوع لام الابتداء قبل المفعول الثانى وحده جعل أثر التعليق ينصب عليه

أرى التقصير فى العمل إسائة للوطن

أرى التقصير فى العمل والله هو إسائة للوطن.

وقوع القسم قبل المفعول الثانى وحده جعل أثر التلعيق ينصبّ عليه كذلك لام القسم.

أحسب خلف الوعد إهانة لصاحبه.

أحسب خلف الوعد ليهينن صاحبه.

دريت إكرام الجار مؤديا لطيب الإقامة.

دريت إكرام الجار لا يؤدى إلا لطيب الإقامة

وكذلك حرف النفى : «لا»

ففى الأمثلة الأربعة الأولى وقع المانع (الفاصل) بعد الناسخ وقبل المفعولين مباشرة ؛ فلا نقول فى إعرابهما إنهما مفعولان ؛ وإنما نقول هما ـ فى الأمثلة المعروضة ـ مبتدأ وخبر ، والجملة فى محل نصب سدّت مسدّ المفعولين.

__________________

(١) من الممكن البدء بهذه الأمثلة ، وتفهمها قبل الدخول فى تعريف التعليق وما يتصل به.

(٢) أيقنت.


وفى الأمثلة الأربعة الأخيرة وقع الناسخ فى صدر جملته ، ثم وليه المفعول به الأول. أما المفعول به الثانى فغير ظاهر فى الكلام بعد أن حلت محله جملة جديدة. وفى مثل هذا الحالة يبقى المفعول به الأول محتفظا باسمه وبعلامة إعرابه ، فيعرب مفعولا به أول ، وتعرب الجملة التى (١) بعده إعراب الجملة المستقلة ، ويزاد على إعرابها أنها فى محل نصب ، تسدّ مسدّ المفعول به الثانى ...

__________________

(١) قد تكون الجملة فعلية ، وقد تكون اسمية ؛ فالحكم عليها بأنها جملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر ، أو جملة فعلية مكونة من فعل ومرفوعه ... موقوف على نوعها المعروض.


زيادة وتفصيل :

(ا) تقدم (١) أن الفعل القلبى الناصب لمفعولين يصيبه التعليق إذا وجدت إحدى أدوات التعليق ، ومنها : «الاستفهام». والتعليق بالاستفهام ليس مقصورا على الأفعال القلبية المتصرفة الخاصة بهذا الباب ـ كما أشرنا من قبل (٢) ـ ، وإنما يصيبها ويصيب غيرها ، طبقا للبيان الآتى :

١ ـ الفعل القلبى الناصب لمفعول به واحد ؛ مثل : نسى ـ عرف ... ومنه قول الشاعر :

ومن أنتمو؟ إنا نسينا من أنتمو

وريحكمو! من أى ريح الأعاصر

٢ ـ الفعل القلبى اللازم ، مثل : تفكّر ؛ كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ؟؛) فالتعليق هنا عن الجار المجرور (٣) ؛ لأن المجرور بالحرف بمنزلة المفعول به (٤).

٣ ـ ما ليس قلبيّا ، وينطبق على أفعال كثيرة لا تكاد تدخل تحت حصر ؛ مثل : نظر ـ أبصر ـ سأل ـ استنبأ ـ .. و... ومن الأمثلة قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً،) وقوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ؛ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ؟،) وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَ : أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ؟،) وقوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ : أَحَقٌّ هُوَ؟ ...) فهذه الأفعال ونظائرها قد يصيبها التعليق بأداة الاستفهام ، ولهذا يوقف فى الآية الأولى على قوله : (يَتَفَكَّرُوا،) والكلام بعدها مستأنف ، وهو : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ؟،) وما استفهامية بمعنى النفى ، إذ المراد : أى شىء بصاحبكم من الجنون؟ ليس به شىء منه.

(ب) عرفنا (٥) أن التعليق لا يكون فى الأفعال القلبية الجامدة ، ولا فى بعض

__________________

(١ و ١) وفى رقم ١ من هامش ص ٢٦ وفى «د» من ص ٣١.

(٢) انظر «ح» الآتية.

(٣) كما سيجىء فى ص ١٥٣.

(٤) فى ص ٢٦.


النواسخ الأخرى ؛ كأفعال التحويل ... و... فما المراد من هذا؟ أيراد أن ألفاظ التعليق لا تقع بعد تلك الأفعال الجامدة ولا بعد تلك النواسخ ؛ فلا يحدث التعليق؟ أم يراد أن هذه الألفاظ مع وقوعها بعدها لا تقوى على منعها من العمل الظاهرى ، فكأنها غير موجودة؟ يرتضى النحاة الرأى الأول. والاقتصار عليه حسن.

(ح) سبق (١) أن الجملة بعد أداة التعليق تسدّ مسدّ المفعولين إن كان الناسخ يتعدى إليهما ، ولم ينصب المفعول به الأول مباشرة ، فإن نصبه سدت مسدّ الثانى فقط ... فإن كان الفعل ليس ناسخا ولا يتعدى لمفعولين ، ووقعت بعده جملة مسبوقة بأداة التعليق ـ فإن كان يتعدى بحرف جر فالجملة فى محل نصب بإسقاط الجار ؛ نحو : فكرت أصحيح هذا أم غير صحيح؟ أى : فكرت فى ذلك (٢). وإن كان الفعل يتعدى بنفسه إلى واحد غير مذكور سدت مسدّه ؛ نحو : عرفت من البارع؟ فإن كان مذكورا فى الكلام ؛ نحو : عرفت البارع أبو من هو؟ فقيل الجملة بدل كل من كل ، على تقدير مضاف ؛ أى : عرفت شأن البارع ، وقيل بدل اشتمال من غير حاجة إلى تقدير ، أو هى مفعول ثان لعرفت بعد تضمينه معنى : «علمت». والرأيان الأخيران أوضح ، وأيسر استعمالا ولكل منهما مزية قد يتطلبها المقام ، ويقتضيها المعنى.

(د) إذا كانت «رأى» حلميّة لم يدخل عليها التعليق (٣).

* * *

__________________

(١) فى ص ٢٦ وما بعدها.

(٢) سبقت إشارة لهذا ولإعراب آخر فى رقم ١ من هامش ص ١٨.

(٣) كما سيجىء فى «ج» من ص ٤١.


الحكم الثانى ـ الإلغاء :

وهو : «منع الناسخ من نصب المفعولين معا ؛ لفظا ومحلا ، منعا جائزا ، ـ فى الأغلب ـ لا واجبا». أو هو : «إبطال عمله فى المفعولين لفظا ومحلا ، على سبيل الجواز لا الوجوب». ولا يصح أن يقع المنع على أحد المفعولين دون الآخر. وسببه : إمّا توسط الناسخ بين مفعوليه مباشرة بغير فاصل آخر بعده يوجب التعليق (١) ، وإما تأخره عنهما. فإذا تحقق السبب جاز ـ فى الأغلب (٢) ـ الإعمال أو الإهمال ، وإن لم يتحقق وجب الإعمال. فللناسخ ثلاث حالات من ناحية موقعه فى الجملة :

الأولى : أن يتقدم على المفعولين. وفى هذه الحالة يجب إعماله ـ عند عدم المانع ـ ؛ فينصبهما مفعولين به ، نحو : رأيت النزاهة وسيلة لتكريم صاحبها.

الثانية : أن يتوسط بين مفعوليه مباشرة. وفى هذه الحالة يجوز ـ فى الأغلب (٣) ـ إعماله ؛ فينصبهما مفعولين (٤) به ؛ نحو : النزاهة ـ رأيت ـ وسيلة لتكريم صاحبها. ويجوز إهماله (٥) ؛ فلا يعمل النصب فيهما معا ، ولا فى أحدهما ؛ وإنما يرتفعان باعتبارهما جملة اسمية : (مبتدأ وخبرا) ، نحو : النزاهة ـ رأيت ـ وسيلة لتكريم صاحبها.

الثالثة : أن يتأخر عن مفعوليه ؛ والحكم هنا كالحكم فى الحالة السابقة ؛ فيجوز إعماله فينصب المفعولين ؛ نحو : النزاهة وسيلة لتكريم صاحبها ـ رأيت.

__________________

(١) إذ يجب التعليق لوجود سببه ، ويجوز فى صورة واحدة ـ انظر ص ٢٦ وبيانها فى رقم ٢ من هامش ص ٢٩ ـ

(٢ ، ٢) إلا فى مسائل ستذكر فى رقم ٣ من هامش الصفحة الآتية. ثم انظر رقم ١ من هامش ص ٣٩.

(٣) فى حالة توسط العامل بين مفعوليه يجوز أن يكون المفعول الثانى هو المتقدم عليه ، ويجوز فى حالة ـ تقدم هذا المفعول الثانى أن يكون جملة ، أو شبه جملة ، أو مفردا ، وهى الأنواع الثلاثة التى ينقسم إليها ـ كما سبق فى : «ا» من ص ٢٣ ـ ومن الأمثلة لتقدمه وهو جملة ما نقلوه من نحو : (شجاك ـ أظن ـ ربع الظاعنين ...) فكلمة «ربع» يجوز ضبطها بالنصب مفعولا أول للفعل : «أظن». والجملة الفعلية «شجاك» (أى : أحزنك) فى محل نصب تسد مسد المفعول الثانى. فيكون أصل الكلام : أظن ربع الظاعنين شجاك. فتقدمت الجملة الفعلية السادة مسد المفعول الثانى. ويصح فى كلمة : ربع» الرفع على أنها فاعل للفعل : «شجا» ويكون الفعل «أظن» مهملا. ويجوز أيضا رفع كلمة : «ربع» على أنها خبر للكلمة : «شجا» المبتدأ ، ومعناها : «حزن» ولا تكون فى هذه الصورة فعلا ، ويكون الفعل : «أظن» متوسطا بينهما ، مهملا.

(٤) وفى هذه الصورة تكون جملة : «رأيت» ، معترضة بين المفعولين ، لا محل لها من الإعراب.


ويجوز إهماله فلا يعمل النصب (١) ويرتفع الاسمان باعتبارهما جملة اسمية ، مركبة من مبتدأ وخبره ؛ نحو : النزاهة وسيلة لتكريم صاحبها ـ رأيت.

مما تقدم ندرك أوجه الفرق بين التعليق والإلغاء ؛ وأهمها :

(ا) أن التعليق واجب (٢) عند وجود سببه. أما الإلغاء فجائز ـ فى الأغلب (٣) ـ عند وجود سببه.

(ب) أن أثر التعليق يصيب المفعولين معا أو أحدهما. أما أثر الإلغاء فيصيبهما معا.

(ح) أن أثر التعليق لفظىّ ظاهرى ، لا يمتد إلى الحقيقة والمحلّ. وأثر الإلغاء لفظىّ ومحلىّ معا.

(د) أن التعليق يجوز فى توابعه مراعاة ناحيته اللفظية الظاهرية ، أو

__________________

(١) وجملته استئنافية ، كما كانت قبل التأخر عن المفعولين.

(٢) إلا فى الحالة التى يكون فيها جائزا ، (وقد سبق بيانها فى رقم ٢ من هامش ص ٢٩).

(٣) الإلغاء جائز فى أغلب الأحوال. لكن هناك بعض حالات أخرى يجب فيها الإعمال فقط ، أو الإهمال فقط. فيجب الإعمال إذا كان الناسخ منفيا ، سواء أكان متأخرا عن المفعولين ، أم متوسطا بينهما ، نحو : «مطرا نازلا لم أظن». أو : «مطرا لم أظن نازلا» ؛ لأنه لا يجوز أن يبنى الكلام على المبتدأ والخبر ثم نأتى بالظن المنفى ، إذ إلغاء الفعل المنفى ـ فى الصورتين ـ قد يوهم أن ما قبل الفعل مثبت. مع أن نفى الفعل يعم الجملة كلها ، ويتجه فى المعنى إلى المفعولين المنصوبين عند تقدمهما ، أو تأخر أحدهما. فلمنع هذا الاحتمال والوهم يجب الإعمال ؛ مبالغة فى الاحتراس ؛ كما يقولون.

وهذا التعليل ـ دون الحكم ـ لا ترتاح له النفس إلا إن أيدته النصوص الفصيحة التى لم يعرضوها فيما وقع فى يدى من المراجع.

ويجب الإهمال إذا كان العامل مصدرا ؛ نحو : المطر قليل ـ ظنى غالب ؛ لأن المصدر المتأخر لا يعمل ـ غالبا ـ فى شىء متقدم عليه ، فلا يصح تقديم مفعوله عليه أو مفعوليه (عند كثير من النحاة ويخالفهم آخرون ، كما سيجىء فى بابه ، ج ٣).

وكذلك يجب الإهمال إذا كان فى المفعول المتقدم لام ابتداء أو غيرها من ألفاظ التعليق ؛ نحو : لخالد مكافح ظننت ؛ لأن لام الابتداء وألفاظ التعليق تمنع العامل من العمل فيما بعدها ـ غالبا ـ وقد يعتبر هذا تعليقا فى رأى بعض النحاة الذين لا يشترطون فى التعليق تقدم الناسخ. ولا قيمة لهذا الخلاف فى التسمية ؛ لأن الأثر واحد ـ إلا فى التوابع كما سيجىء فى «د» ـ لا يتغير باختلاف الرأيين ؛ فكلاهما يوجب الإهمال. وهذا حسبنا.

وكذلك يجب الإهمال إذا وقع الناسخ بين اسم إن وخبرها ؛ مثل : إن التردد ـ حسبت ـ مضيعة. أو بين «سوف» وما دخلت عليه ؛ نحو : سوف ـ إخال ـ أكافح الشر. أو بين معطوف ومعطوف عليه ؛ نحو : دعاك الخير ـ أحسب ـ والبر.


مراعاة ناحيته المحلية. والإلغاء لا يجوز فى توابعه إلا مراعاة الناحية الواحدة التى هو عليها ؛ وهى الناحية الظاهرة المحضة.

(ه) أن التعليق لا بد فيه من تقدم الناسخ على معموليه ؛ ومن وجود فاصل بعده له الصدارة.

أما الإلغاء فلا بد فيه من توسط (١) الناسخ بينهما ، أو تأخره عنهما ؛

__________________

(١) يذكر النحاة بعض أمثلة يستدلون بها على أن الإلغاء قد يقع والفعل الناسخ متقدم على مفعوليه ، وليس متوسطا ولا متأخرا. ثم يؤولون تلك الأمثلة تأويلا يخرجها من حكم الإلغاء ، ويدخلها فى أحكام أخرى مطردة تنطبق عليها بعد ذلك التأويل. وهذا تكلف مردود ، وتصنع يجب البعد عنه ، منعا للفوضى فى التعبير ، والخلط فى الأصول العامة. فمن تلك الأمثلة قول الشاعر :

أرجو وآمل أن تدنو مودتها

وما إخال لدينا منك تنزيل

فالفعل : «إخال» قد ألغى ؛ فلم ينصب المفعولين : «لدى» و «تنويل» مع أنه مقدم عليهما.

ومع تقدمه فكلمة «لدى» ظرف ، خبر متقدم ، وكلمة : «تنويل» مبتدأ مؤخر. أى : أنه لم ينصبهما ؛ بدليل رفع الثانية. فما السبب فى الإلغاء؟ لا سبب. لهذا ينتحلون ما يجعل الأسلوب صحيحا. فيتخيلون وجود «ضمير شأن» مستتر بعد الفعل : «إخال» ؛ فالتقدير : «إخاله. فيكون ضمير الشأن المستتر هو المفعول به الأول ، وتكون الجملة الاسمية بعده : (لدينا تنويل) فى محل نصب ، تسد مسد المفعول الثانى ، إذ يصح فى الأفعال القلبية ـ كما سبق ، فى «ا» ن ص ٢٣ ـ أن يكون مفعولها الثانى جملة أو غيرها. وبهذا التأويل الخيالى لا يوجد فى الكلام ناسخ متقدم لم يعمل. أى : لا يوجد فى الكلام إلغاء ، ولا مخالفة لوجوب عمل الناسخ المتقدم ... فلم هذا؟ ما فائدته؟ إن واقع الأمر صريح فى مخالفة التعبير للقاعدة. والسبب هو الضرورة الشعرية ، أو المسايره للغة ضعيفة ، أو ما إلى ذلك مما يخالف اللغة الشائعة فى البيان الرفيع الذى يدعونا لهجر تلك التأويلات ، والفرار منها ؛ حرصا على سلامة اللغة ، وإيثارا للراحة من غير ضرر ، والاقتصار فى القياس على ما لا ضعف فيه ، ولا شذوذ ، ولا تأويل ...

ومن الأمثلة أيضا قول الشاعر :

كذاك أدّبت حتى صار من خلقى

أنى وجدت ملاك الشيمة الأدب

ففى البيت فعل قلبى (هو : وجد) لم ينصب ، مع أنه متقدم. فلماذا أصابه الإلغاء مع تقدمه؟ يجيبون بمثل الإجابة السابقة ؛ فيتأولون. ويتخيلون وجود «ضمير شأن» مستتر بعد ذلك الفعل ، ويعربون هذا الضمير مفعوله الأول ، والجملة الاسمية : «ملاك الشيمة الأدب» فى محل نصب سدت مسد المفعول به الثانى. أو : يقولون : إن الفعل أصابه «التعليق» بسبب وقوع لام ابتداء مقدرة بعده ، وأصل الكلام كما يتخيلون : «أنى وجدت لملاك الشيمة الأدب» ... وفى هذا ما فى سابقه مما يوجب عدم الأخذ بمثل هذا التخيل ، والتأول ، واتقاء ضرره بالاقتصار على ما لا حاجة فيه إلى تصيد وتحايل.


وليس فى حاجة بعد هذا إلى فاصل ، أو غيره (١).

__________________

(١) فيما سبق يقول ابن مالك بإيجازه المعروف :

وخصّ بالنّعليق والإلغاء ما

من قبل : «هب» والأمر : «هب» قد ألزما.

كذا : «تعلّم». ولغير الماض من

سواهما اجعل كلّ ما له زكن.

(«خص» : فعل أمر. ويصح أن يكون فعلا ماضيا مبنيا للمجهول. «الأمر» : مبتدأ مرفوع. «هب» : مبتدأ ثان. «ألزم» فعل ماض للمجهول ، ونائب فاعله ضمير مستر تقديره : هو ، يعود على «هب» والجملة من المبتدأ الثانى وخبره خبر المبتدأ الأول الذى هو : «الأمر». والرابط محذوف ، والتقدير ألزمه ، أى ألزم صورة الأمر ، وصيغته. والألف التى فى آخر «ألزما» زائدة لأجل الشعر ، وتسمى : «ألف الإطلاق». أى : الألف الناشئة من إطلاق الصوت بالفتحة ، ومده بها حتى ينشأ من المد : «ألف». «زكن» : علم).

ومعنى البيتين : التعليق والإلغاء مختصان ببعض الأفعال التى سبقت أول الباب دون بعض. ولم يبين الأفعال المقصودة ، مكتفيا بأن قال : إنها الأفعال التى ورد ذكرها قبل : «هب» و «تعلم» فى الأبيات الثلاثة الأولى من الباب : وبالرجوع إليها يتبين أنها الأفعال القلبية المتصرفة ، دون فعلين منها أخرجهما صراحة ؛ هما : «هب» بمعنى : «ظنّ» ، وتعلّم بمعنى : «اعلم» ، ـ ويزاد عليهما أفعال التحويل أيضا ـ ثم قال : إذا كان الناسخ هنا غير ماض فإنه يعمل عمل الماضى ، ويدخل عليه من الأحكام ما يدخل على الماضى. ولم يذكر تفصيل شىء من هذا المجمل. ثم انتقل بعد ذلك إلى الكلام على بعض أحكام التعليق والإلغاء ؛ فقال :

وجوّز الإلغاء لا فى الابتدا

وانو ضمير الشّان أو لام ابتدا :

فى موهم إلغاء ما تقدّما

والتزم التّعليق قبل : نفى «ما»

و «إن» ، و «لا» «لام ابتداء» ، أو قسم

كذا ، و «الاستفهام» ذا له انحتم

يريد : أن الإلغاء أمر جائز ؛ لا واجب ، وأنه لا يقع حين يكون الناسخ فى ابتداء جملته ، أى : متقدما على مفعوليه. فإذا كان فى ابتدائها لم يصح إلغاء عمله. أما إذا لم يكن فى ابتدائها ـ بأن وقع بين المفعولين أو بعدهما فإن الإلغاء والإعمال جائزان ـ فى الأغلب ـ ثم أشار بتقدير «ضمير للشان» ، أو تقدير «لام ابتداء» إذا وردت أمثلة قديمة توهم أن الناسخ المتقدم قد ألغى عمله. وقد شرحنا هذا وأبدينا الرأى فيه. ثم سرد بعض الموانع التى تكون سببا فى التعليق ؛ فعرض منها ثلاثة أدوات للنفى (ما ـ إن ـ لا) وعرض ثلاثة تغايرها ؛ هى : لام الابتداء ـ القسم ـ الاستفهام. وقال فى الاستفهام : انحتم له ذا». أى : وجب لأجله وقوع التعليق بسببه. ثم قال بعد ذلك :

«لعلم» عرفان ، و «ظنّ» تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

ولرأى الرّؤيا ، انم ما لعلما

طالب مفعولين من قبل انتمى

وقد سبق شرح هذين البيتين فى مناسبة قريبة ـ ص ١٤ و ١٥ ـ بما ملخصه : أن «علم» إذا كان ـ


زيادة وتفصيل :

(ا) إذا تقدم الناسخ على مفعوليه فلن يخرجه من حكم هذا التقدم ـ فى الرأى الأصح ـ أن يسبقه معمول آخر له ، أو لأحدهما ؛ نحو : متى علمت الضيف قادما؟ باعتبار : «متى» ظرفا للناسخ ، أو لمفعوله الثانى.

وكذلك لن يخرجه من حكم التقدم أن يسبقه شىء آخر ليس معمولا له ، ولا لأحدهما ، مثل : إنى علمت الحذر واقيا الضرر.

(ب) يختلف النحاة فى بيان الأفضل عند توسط العامل أو تأخيره. ولهم فى هذا جدل طويل ، لا يعنينا منه إلا أن الأنسب هو تساوى الإلغاء والإعمال عند توسط العامل. أما عند تأخره فالأمران جائزان ولكن الإلغاء أعلى ، لشيوعه فى الأساليب البليغة المأثورة.

وإذا توسط الناسخ أو تأخر وكان مؤكدا بمصدر فإن الإلغاء يقبح ؛ نحو : الكتاب ـ زعمت زعما ـ خير صديق ؛ لأن التوكيد دليل الاهتمام بالعامل ، والإلغاء دليل على عدم الاهتمام به ؛ فيقع بينهما شبه التخالف والتنافى. فإن أكّد الناسخ بضمير يعود على مصدره المفهوم فى الكلام بقرينة ، أو باسم إشارة يعود على ذلك المصدر ـ كان الإلغاء ضعيفا أيضا ؛ نحو : السفينة ـ ظننته ـ قصرا. أى : ظننت الظن ـ و: السفينة ظننت ـ ذاك ـ قصرا. أى : ذاك الظن ...

(ج) رأى الحلمية لا يصيبها الإلغاء ، وقد سبق (١) أنها لا يصيبها تعليق.

* * *

__________________

ـ منسوبا للعرفان (بأن كان معناه : «عرف» الذى مصدره : «العرفان»). وأيضا : «ظن» إذا كان مصدره «الظن» المنسوب للتهمة (بأن يكون الفعل : «ظن» بمعنى : «اتّهم». ومصدره : «الظن» بمعنى الاتهام ؛ ومنه التهمة) ـ فإن كل فعل منهما يتعدى لمفعول واحد لزوما ؛ أى : حتما. ما دام معناه ما سبق. ثم قال : إن الفعل «رأى» المنسوب للرؤيا (بأن كان مصدره «الرؤيا» المنامية) ينصب مفعولين.

(١) فى «د» من ص ٣٦.


الحكم الثالث ـ الاستغناء عن المفعولين بالمصدر المؤول :

يجوز أن يسدّ المصدر المؤول من «أنّ» (١) الناسخة وما دخلت عليه ، أو : «أن» المصدرية الناصبة وما دخلت عليه من جملة فعلية ـ مسدّ المفعولين ، ويغنى (٢) عنهما. ويجب أن يراعى فى معنى المصدر بعد تأويله أن يكون مثبتا أو منفيّا على حسب ما كان عليه المعنى قبل التأويل.

فمن أمثلة المثبت ما جاء فى خطبة لقائد مشهور : (علمنا أن السيف ينفع حيث لا ينفع الكلام ، ورأينا أنّ كلمة القوىّ مسموعة. فمن زعم أن يفوز وهو ضعيف فقد أخطأ ، ومن ظن أن يسلم بالاستسلام فقد قضى على نفسه ...)

وتقدير المصادر المؤولة (٣) : علمنا نفع السيف ... ـ رأينا سماع كلمة القوىّ ـ من زعم فوزه ... ـ من ظنّ سلامته ... فكل مصدر من المصادر التى نشأت من التأويل سدّ مسدّ المفعولين المطلوبين للفعل القلبىّ الذى قبله.

فالمصدر : «نفع» ، أغنى عن مفعولى الفعل «علم». والمصدر : «سماع» ، أغنى عن مفعولى الفعل : «رأى». والمصدر : «فوز» ، أغنى عن مفعولى الفعل : «زعم» ، والمصدر : «سلامة» أغنى عن مفعولى الفعل «ظن». ويقاس على هذا أشباهه (٤) من مثل قول الشاعر :

تودّ عدوى ثم تزعم أننى

صديقك ؛ إن الرأى عنك لعازب

__________________

(١) سواء أكانت مشددة النون أم مخففة.

(٢) سبق (فى رقم ٣ و ١ من هامش ٦ و ٧ و ٨ وفى ٢ من هامش ص ١٨) أن هذا كثير فى الفعلين «زعم» و «تعلم» بمعنى ، «اعلم». قليل فى : «هب» بمعنى : ظنّ. وأن المصدر المؤول سد مسد المفعولين طبقا للرأى المختار هناك ، وفى رقم ٣ من هامش ص ١١.

(٣) سبق (فى ح ١ ص ٢٩٩ م ٢٩ من هذا الكتاب ، باب الموصول) إيضاح شامل لطريقة صوغ المصدر المؤول بصوره المختلفة ، وبيان الدافع لاستعمال الحرف المصدرى ، وصلته ، دون الالتجاء إلى المصدر الصريح ابتداء.

(٤) يكون الفعل القلبى فى الأمثلة السابقة وأشباهها عاملا فى لفظ المصدر المتصيد (أى ، المستخرج) من «أنّ» و «أن» وصلتهما ، وليس عاملا فى الجملة التى دخلت عليها «أن» أو «أنّ» إذ لو كان عاملا فى الجملة نفسها لوجب تعليق الفعل عن العمل ، بسبب الفاصل (طبقا لما عرفناه فى «التعليق») ولوجب أيضا كسر همزة «إن» لوقوعها فى صدر جملة جديدة. فالذى حل محل المفعولين هو المصدر المؤول وهو مفرد. وكل هذا بشرط خلو خبر «إنّ» من لام الابتداء ؛ لأن وجودها يوجب كسر همزة «إنّ» ويوجب» التعليق (راجع رقم ٢ من هامش ص ٣٢ ورقم ٤ من هامش ص ٤٧. وكذلك ج ١ ص ٤٨٩ م ٥١).


فالمصدر المؤول من «أنّ مع معموليها» يسدّ مسدّ الفعل : «تزعم» وفاعله ومن أمثلة المعنى المنفى قول الشاعر :

الله يعلم أنى لم أقل كذبا

والحق عند جميع الناس مقبول

وتأويل المصدر مع زيادة ما يدل على النفى هو : «الله يعلم عدم كذب قولى».

ـ وقد سبق (١) تفصيل الكلام على طريقة صوغ المصدر المؤول.

* * *

الحكم الرابع (٢) ـ جواز وقوع فاعلها ومفعولها الأول ضميرين معينين :

وذلك بأن يكونا ضميرين متصلين ، متحدين فى المعنى (٣) ، مختلفين فى النوع ؛ نحو : علمتنى راغبا فى مودة الأصدقاء ، ورأيتنى حريصا عليها. فالتاء والياء فى المثالين ضميران ، متصلان ، ومدلولهما شىء واحد ؛ فهما للمتكلم ، مع اختلاف نوعهما ؛ فالتاء ضمير رفع فاعل ، والياء ضمير نصب. مفعول به. ونحو : علمتك زاهدا فى الشهرة الزائفة ، وحسبتك نافرا من أسبابها. فالتاء والكاف فى المثالين ضميران ، متصلان ، ومعناهما واحد ؛ لأن مدلولهما هو المخاطب ، مع اختلاف نوعهما كذلك ؛ فالتاء ضمير رفع فاعل ، والكاف ضمير نصب ، مفعول به (٤).

__________________

(١) سبق فى (ج ١ ص ٢٩٩ م ٢٩ من هذا الكتاب ، باب الموصول).

(٢) انظر تكملته فى الزيادة والتفصيل.

(٣) بأن يكون مدلولهما واحدا (أى : أن صاحب كل منهما هو صاحب الآخر ، فكلاهما يدل على ما يدل عليه الثانى).

(٤) ومن الأمثلة أيضا قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ؛ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)

فالفعل : «رأى» فاعله ضمير مستر ، تقديره : «هو» ـ والضمير المستتر نوع من المتصل ـ ومفعوله الأول : «الهاء» ـ فقد وقع الفاعل والمفعول هنا ضميرين ، متصلين ، متحدين فى المعنى ؛ لأن مدلولهما واحد ؛ هو : الغائب ، مع اختلاف نوعهما ، فالضمير المستتر : «هو» ضمير رفع ، فاعل ، والضمير «الهاء» ضمير نصب ، مفعول به.


زيادة وتفصيل :

الحكم الرابع غير خاص بالأفعال القلبية وحدها ؛ فهناك بعض أفعال أخرى تشاركها فيه ؛ مثل : «رأى» البصرية والحلمية ، وهو كثير فيهما ، ومثل : «وجد» (بمعنى : لقى) ، وقد ، وعدم. وهو قليل فى هذه الثلاثة ، ولكنه قياسى فى الخمسة ، وفى غيرها مما نصّت عليه المراجع ؛ وليس عامّا فى الأفعال ؛ نحو : استيقظت فرأيتنى منفردا. ـ أخذنى النوم فرأيتنى جالسا فى حفل أدبىّ. ـ ساءلت نفسى فى غمرة الحوادث : أين أنا؟ ثم وجدتنى (أى : لقيت نفسى ، وعرفت مكانها) ـ فقدتنى إن جنحت إلى خيانة ، أو عدمتنى. ولا يجوز هذا فى غير ما سبق إلا ما له سند لغوى يؤيده. فلا يصح : كرمتنى ، ولا سمعتنى ، ولا قرأتنى ، وأشباهها مما لم يرد فى المراجع. إلا إن كان أحد الضميرين منفصلا ، فيجوز فى جميع الأفعال ، نحو : ما لمست إلا إياى ـ ما راقبت إلا إياى (١).

ويمتنع فى باب : «ظن وأخواتها» وفى جميع الأفعال الأخرى ـ اتحاد الفاعل والمفعول اتحادا معنويّا إن كان الفاعل ضميرا ، متصلا ، مستترا ، مفسّرا بالمفعول به ، فلا يصح محمدا ظنّ قائما ـ ولا عليّا نظر ؛ بمعنى : محمدا ظنّ نفسه ... وعليّا نظر نفسه ... لأن مفسر الضمير هنا : (أى : مرجعه) هو المفعول به. فإن كان الضمير الفاعل منفصلا بارزا صحّ ؛ فيقال : ما ظن محمدا قائما إلا هو ، وما نظر عليّا إلا هو ...

__________________

(١) «ملاحظة» : المفهوم من كلام النحاة أنهم يمنعون ما سبق من اجتماع الفاعل والمفعول به إذا كانا ضميرين ، متصلين ، متحدين معنى ـ بأن يكونا لمتكلم واحد ، أو لمخاطب واحد ـ ولا فرق فى هذا بين المفعول به الحقيقى ، والمفعول به التقديرى ، وهو الذى يتعدى إليه العامل بحرف جر ، إذ المجرور فى هذه الصورة مفعول به تقديرا. فيمتنع أن يقال : «أحضرتنى ، أو أحضرت بى» إذا كان الضميران للمتكلم. كما يمتنع أن يقال : أوثقتك ، وأوثقت بك إذا كان الضميران لمخاطب واحد.

لكن يعترض رأيهم فى المفعول التقديرى آيات كريمة متعددة ، منها قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ..) وقوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ ..) وقوله تعالى : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ولا عبرة بما يقوله «الصبان» نقلا عن «المغنى» من أن الآيات مؤولة على تقدير حذف مضاف ، كلمة «نفس» محذوفة ، وأن الأصل : هزى إلى نفسك ـ أضمم إلى نفسك ـ أمسك على نفسك ـ قاصدين بهذا التأويل أن توافق الآيات رأيهم ، مع أن الواجب أن يغيروا رأيهم ليوافق أفصح كلام عرفوه ؛ فلا علينا من اتباعه ، ومن شاء فليتأوله.


المسألة ٦٢ :

القول معناه ، متى ينصب مفعولا واحدا؟ ومتى ينصب مفعولين؟

يعرض النحاة فى هذا الباب للقول ومشتقاته ؛ لتشابه بينه وبين «الظن» فى بعض المعانى والأحكام. وصفوة كلامهم : أن «القول» متعدد المعانى ، وأنّ الذى يتصل منها بموضوعنا معنيان ؛ أحدهما : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» والآخر : «الظنّ».

(ا) فإن كان معناه : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» فإنه ينصب مفعولا به واحدا ؛ سواء أكان الذى جرى به التلفظ ، ووقع عليه القول ـ كلمة مفردة (١) ، أم جملة. فمثال المفردة ما جاء على لسان حكيم : (تسألنى عن العظمة الحقة ؛ فأقول : «الكرامة» ، وعن رأس الرذائل ؛ فأقول : «الكذب») فمعنى «أقول» هنا «أنطق ، وأتلفظ». والكلمة التى وقع عليها القول (أى : التى قيلت) ، هى : «الكرامة» ـ «الكذب». وكلتاهما مفعول به منصوب مباشرة.

ومن الأمثلة للكلمة المفردة أيضا : سألت والدى عن مكان نقضى فيه يوم العطلة ، فقال : «الريف». وعن شىء نعمله هناك ، فقال : «التنقل» ، فمعنى قال : «تلفظ ونطق» ، والكلمة التى وقع عليها القول هى : «الريف» ـ «التنقل» وتعرب كل واحدة منهما مفعولا به منصوبا مباشرة. ومثل هذا قول الشاعر :

جدّ الرحيل ، وحثّنى صحبى

قالوا : «الصباح» ؛ فطيّروا لبّى (٢)

ومثال الجملة بنوعيها : (قلت : الشعر غذاء العاطفة) ـ (أقول : تصفو

__________________

(١) أى : ليست جملة ، ولا شبه جملة.

(٢) وقول الآخر

بلد يكاد يقول حي

ن تزوره : «أهلا وسهلا»


النفس بسماع الغناء الرفيع) ـ (قال شوقى : خ خ آية هذا الزمان الصحف) ـ (ويقول : خ خ تسير مسير الضحا فى البلاد ...)

ومثل :

(يقولون : «طال الليل») ، والليل لم يطل

ولكنّ من يشكو من الهمّ يسهر

فمعنى «القول» هنا كسابقه. وبعده جملة اسمية ، أو فعلية ، يزاد على إعرابها : أنها فى محل نصب (١) سدّت مسدّ المفعول به للقول ، وليست مفعولا به (٢) مباشرة. بخلاف الكلمة المفردة ، فإنها هى المفعول به مباشرة ـ كما تقدم ـ سواء أكان الناطق بالكلمة قد نطقها ابتداء ؛ دون أن يسمعها من غيره فيرددها بعده ؛ كالتى فى المثال الأول (أم كان نطقه بها تاليا لنطق آخر ، وترديدا لما سمعه ؛ (كالتى فى الثانى. وهى فى الحالتين لا تسمى كلمة «محكية بالقول» فى اصطلاح كثرة النحاة ، ولو كان النطق بها ترديدا ومحاكاة لنطق سابق ؛ لأن الحكاية فى هذا الباب لا تكون عندهم للكلمة المفردة (٣).

__________________

(١) وهذا هو الأعم الأغلب فى محلها ـ كما سيجىء فى رقم ٣ ـ.

(٢) لأن أصل المفعول به لا يكون جملة ، فهى تسد مسده ، ولا تكون مفعولا به أصيلا.

(٣) إلا إذا كانت الكلمة المفردة لا تدل على جملة ، ولا تعبر عنها ، ولا عن مفرد ؛ وإنما يراد نص لفظها المنطوق من قبل ؛ فيجب حكايته ورعاية إعرابه بضبطه المنطوق السابق ، نحو : قال علىّ باب ، إذا تكلم بكلمة : «باب» مرفوعة ، مثلا.

هذا ، ولا يخرج الكلمة عن وصفها بالإفراد أن تكون فى معنى الجملة أو الجمل ؛ أى : أن تكون فى ظاهرها لفظة مفردة فى مضمون جملة أو جمل ، مثل : (سمعت المؤذن يصيح : «الله أكبر» ، لقد قال : كلمة رائعة). فالكلمة هنا مفردة فى معنى الجملة ؛ لأنها تقوم مقامها فى المضمون. ومثل : كنت فى ندوة أدبية ؛ فسمعت من يقول حديثا ، وأصغيت لشاعر يقول قصيدة ، ولخطيب يقول خطبة. فكل كلمة من الكلمات الثلاث : (حديثا ـ قصيدة ـ خطبة) مفردة فى ظاهرها ، ولكنها فى مقام جمل كثيرة ؛ لأن الحديث الذى فى الندوة لا يكون إلا جملا متعددة ، وكذلك القصيدة ، والخطبة ؛ فالكلمة هنا مفردة ، ولكنها فى معنى الجملة ، كما يقول النحاة.

وقد يراد بالكلمة المفردة ، لا نصها ؛ وإنما الرمز والكناية إلى لفظة أخرى ؛ مثل : قلت كلمة. أريد : لفظة معينة نطقت بها قبل نطقى الآن ؛ مثل لفظة : عصفور ، أو بلبل ، أو خديجة ، أو كتاب أو غير ذلك مما أشير إليه ، ولا أريد إعادة النطق به لداع يمنعنى. فالكلمة المفردة التى لا تحكى ، ثلاثة أنواع هنا : كلمة مفردة لا يراد التمسك بنصها الحرفى بضبطه الأول المنطوق ، وكلمة مفردة فى لفظها ولكنها فى معنى الجملة ، وكلمة هى رمز لأخرى مفردة. والثلاثة مفعول به مباشرة للقول ـ

ثم انظر «ا» من ص ٥١.


أما الجملة التى تسدّ مسدّ مفعول «القول» فى الأغلب (١) والتى محلها النصب فيسمونها : «محكيّة بالقول» بشرط أن تكون قد جرت من قبل على لسان ، ثم أعادها المتكلم ، وردّد ما سبق أن جرى على لسانه أو على لسان غيره. فلا بدّ فى الجملة التى تسمى : «محكيّة» أن تكون قد ذكرت مرة سابقة قبل حكايتها بالقول. وإلا فلا يصح تسميتها : «محكيّة» على الصحيح. والأغلب (٢) أنها فى الحالتين فى محل نصب ، سادة مسدّ المفعول به. وتشتهر بين المعربين بأنها : «مقول القول» (٣) ؛ أى : الجملة التى جرى بها القول ، وهى المرادة منه.

(ب) وإن كان معنى «القول» ـ ومشتقاته هو : «الظنّ» (أى : الرجحان (٤)) فإنه ينصب مفعولين مثله ـ بالشروط التى سنعرفها ـ ويجرى عليه ما يجرى على «الظنّ» (٥) (بمعنى الرجحان) من التعليق ، والإلغاء ، وسائر الأحكام السابقة الخاصة بالأفعال القلبية ؛ فهو والظن سواء. إلا فى اختلاف الحروف الهجائية. ومن الأمثلة : أتقول السماء صحوا (٦) فى الغد ـ؟ أتقولان الكتاب نفيسا إن تمّ إعداده؟ ـ أتقولون السفر المنتظر مفيدا؟ ...

فلا بد من مفعولين منصوبين بعده (٧) ـ إلا عند التعليق أو الإلغاء (٨) ـ فإن

__________________

(١ ، ١) وقد تكون فاعلا أو نائب فاعل ، طبقا للبيان الذى فى ص ٦٥ وفى ٣ من هامش ص ١١١.

(٢) وهذا التعبير أحسن ؛ إذ يصدق على الجملة التى سبق النطق بها والتى لم يسبق ، فهو تعبير عام يشمل الحالتين وقد اجتمعتا فى قول جميل :

بثينة قالت ـ يا جميل ـ : أربتنى

فقلت : كلانا ـ يا بثين ـ مريب

أما التعبير هنا بكلمة : «المحكية» فيؤدى إلى أن يشمل ما سبق النطق به ، وما لم يسبق ، مع أن الشائع قصر «الحكاية» على الذى يعاد ، إلا عند إرادة المجاز.

(٣) سبق معنى الرجحان فى رقم ٣ من هامش ص ٥.

(٤) ولهذا تفتح همزة «أن» الواقعة بعد «القول» الذى معناه «الظن» ؛ لأن القول بهذا المعنى ينصب مفعولين ؛ فيكون المصدر المؤول من «أن» مع معموليها سادا مسد المفعولين. (كما سبق فى ج ١ فى موضع الكسر ص ٤٨٨ م ٥١ ، ولما تقدم هنا فى رقم ٤ من هامش ص ٤٢ ويجىء فى رقم ٢ من من هامش ص ٠).

(٥) لا غيم ولا مطر فيها.

(٦) ويجوز أن يحل محل المفعول به الثانى جملة ، أو شبه جملة ، (كما أسلفنا فى أحكام الأفعال القلبية ـ «ا» ص ٢٣ ـ ومنها : القول بمعنى الظن). وتكون الجملة فى محل نصب.

(٧) أو : عند قيام قرينة تدل على حذفهما ، أو حذف أحدهما ـ كما سيجىء فى ص ٥٣ ـ.


لم يتحقق له المفعولان المنصوبان لم يكن معناه «الظن» وإنما يكون معناه : «التلفظ المحض ، ومجرد النطق» ، وفى هذه الصورة يكون من النوع الأول «ا» الذى ينصب مفعولا به واحدا ، ولا ينصب مفعولين ؛ فمدلوله إن كان كلمة مفردة وقع عليها القول وجب اعتبارها مفعوله المنصوب مباشرة ؛ مثل : أتقول : الجوّ؟ ؛ أى : أتنطق بكلمة : «الجوّ» وإن كان مدلوله جملة اسمية أو فعلية فهى فى محل نصب تسدّ مسدّ ذلك المفعول به الواحد ، مثل : أتقول : الحروب خادمة للعلوم؟ ـ أتقول : السّلم الطويلة داء؟ ـ. ومثل : أتقول : قد يجمع الله الشتيتين بعد اليأس من التلاقى؟ ـ أتقول : لا يضيع العرف (١) بين الله والناس؟ فمعنى «تقول» : تنطق ، ومعنى «القول» فى كل ما تقدم هو «النطق» لا الظن ، والجملة بعده فى الأمثلة المذكورة : «مقول القول» ولا تسمى محكية بالقول إلا إذا سبق النطق بها قبل هذه المرة ـ كما أوضحنا ـ.

وملخص ما تقدم : أن القول المستوفى للشروط إذا وقع له مفعولان منصوبان به كان بمعنى : «الظن» حتما ، وتجرى عليه أحكام «الظن» ولا وجود للحكاية هنا أو غيرها. ـ على الأرجح. ـ وإذا وقع له كلمة واحدة (هى التى قيلت) كان معناه : «مجرد النطق» ، ونصبها مفعولا به واحدا ، ولا تسمى هذه الكلمة محكية (٢) ، مع أنها هى مفعوله المباشر. وكذلك إذا وقع له جملة اسمية أو فعلية كان معناه مجرد النطق أيضا ، ولكنه ينصب مفعولا به واحدا نصبا غير مباشر ؛ لأن الجملة التى بعده تكون فى محل نصب ؛ فتسدّ مسدّ المفعول به ؛ وتسمى : «مقول القول» دائما ، ولا تسمى «محكية بالقول» إلا إذا سبق النطق بها.

فالقول بمعنى «الظن» لا حكاية معه ـ كما عرفنا ـ إذا وقع له مفعولاه المنصوبان. فإذا تغير ضبطهما وصارا مرفوعين أصالة (٣) فإن معناه وعمله يتغيران تبعا لذلك ؛ إذ يصير معناه : النطق المجرد ، ويقتصر عمله على نصب مفعول واحد فتكون الجملة الجديدة اسمية فى محل نصب ، تسدّ مسدّ مفعوله.

* * *

__________________

(١) المعروف والخير.

(٢) إلا فى الصورة التى تقدمت فى رقم ٣ من هامش ص ٤٦.

(٣) أى : بغير سبب إلغاء العامل.


شروط القول بمعنى الظن :

يشترط النحاة ما يأتى لإجراء القول مجرى الظن معنى وعملا ، طبقا لما استنبطوه من أفصح اللغات العربية ، وأكثرها شيوعا :

(١) أن يكون فعلا مضارعا.

(٢) وأن يكون للمخاطب بأنواعه المختلفة (١).

(٣) وأن يكون مسبوقا باستفهام (٢).

(٤) وألا يفصل بين الاستفهام والمضارع فاصل. لكن يجوز الفصل بالظرف ، أو بالجار (٣) مع مجروره ، أو بمعمول آخر للفعل ، أو بمعمول معموله (٤). وكثير من النحاة لا يشترط عدم الفصل ، ورأيه قوى ، والأخذ به أيسر.

(٥) ألا يتعدى بلام الجر ؛ وإلا وجب الرفع على الحكاية (٥) ، نحو : أتقول للوالد فضلك مشكور؟

فمثال المستوفى للشروط الخمسة : أتقول المنافق أخطر من العدو؟ أتقول الاستحمام ضارّا بعد الأكل مباشرة؟

ومثال الفصل بالظرف : أفوق السحاب ـ تقول الطائر مرتفعا؟.

وقول الشاعر :

أبعد بعد تقول الدار جامعة

شملى بهم ، أم تقول البعد محتوما

وبالجار مع مجروره : ـ أفى أعماق البحر ـ تقول الغواصة مقيمة؟. وبمعمول الفعل مباشرة : ـ أواثقا ـ تقول الكيمياء دعامة الصناعة؟ ومن هذا أن يفصل أحد المفعولين بين الاستفهام والفعل المضارع ، كقول الشاعر :

أجهّالا تقول : بنى لؤىّ

لعمر أبيك أم متجاهلينا

__________________

(١) المفرد وغير المفرد ، والمذكر والمؤنث ...

(٢) سواء أكانت أداة الاستفهام اسما أم حرفا ، وسواء أكان المستفهم عنه الفعل أم بعض معمولاته ..

(٣) بشرط ألا يكون الجار هو اللام المعدية للمضارع ، كما سيأتى فى الشرط الخامس.

(٤) لا مانع من الفصل بأكثر من واحد مما ذكر.

(٥) ويكون القول بمعنى النطق ، والجملة بعده فى محل النصب سادة مسد مفعوله.


والأصل : أتقول بنى لؤى جهالا ...

وبمعمول معموله : ـ أللأمن ـ تقول : العدل ناشرا. والأصل : ناشرا للأمن.

فإذا اختل شرط من الشروط السابقة لم يكن «القول» بمعنى : «الظن» فلا ينصب مفعولين مثله ، ولا يخضع للأحكام الأخرى التى يخضع لها «الظن» وإنما يكون بمعنى : «النطق والتلفظ» ؛ فينصب مفعولا به واحدا لا محالة.

أما إذا استوفى شروطه مجتمعة فيجوز أن يكون كالظن معنى وعملا ، على التفصيل الذى شرحناه. ويجوز ـ مع استيفائه تلك الشروط كاملة ـ أن يكون بمعنى : «النطق والتلفظ» فينصب مفعولا به واحدا فقط ، وعندئذ يتعين أن يكون الاسمان بعده مرفوعين حتما ـ كما سلف ـ ويتعين إعرابهما مبتدأ وخبرا فى محل نصب ، لتسد جملتهما مسد المفعول به. فالأمران جائزان عند استيفائه الشروط (١). ولكن لكل منهما معنى وإعراب يخالف الآخر. والمتكلم يختار منهما ما يناسب المراد. فيصح : أتقول : الطائر مرتفعا؟ كما يصح : أتقول : الطائر مرتفع؟ بنصب الاسمين معا ، أو برفعهما على الاعتبارين السالفين المختلفين (٢) ؛ طبقا للمعنى المقصود. وهناك رأى آخر مستمدّ من لغة قبيلة عربية اسمها : سليم ، وملخصه : أن القول ـ ومشتقاته ـ إذا كان معناه : «الظن» فإنه ينصب مفعولين مثله ، وتجرى عليه بقية أحكام «الظن» بغير اشتراط شىء من تلك الشروط الخمسة أو غيرها ، فالشرط الوحيد عندهم أن يكون معناه : «الظن» (٣) فإن لم يتحقق هذا الشرط يكن معناه ـ فى الغالب ـ «النطق المجرد والتلفظ» ، وينصب مفعولا به واحدا ، ولهذا يجب رفع الاسمين بعده ، واعتبار جملتهما الاسمية فى محل نصب تسدّ مسدّ مفعوله.

__________________

(١ و ١) فليس استيفاؤه الشروط موجبا تنزيله منزلة «الظن». وإنما يجيز ذلك فقط. أما إجراؤه مجرى الظن فيوجب أولا تحقق الشروط كلها ..

(١ و ١) فليس استيفاؤه الشروط موجبا تنزيله منزلة «الظن». وإنما يجيز ذلك فقط. أما إجراؤه مجرى الظن فيوجب أولا تحقق الشروط كلها ..

(٢) ويروى بعض النحاة : أن «سليما» لا يشترطون أن يكون معناه «الظن» فعندهم القول قد ينصب مفعولين دائما. وفى هذا الرأى ضعف. وقد أشرنا (فى رقم ٤ من هامش ص ٤٧) إلى وجوب فتح همزة «أن» الواقعة بعد «القول» إذا كان معناه الظن ، لأنه يحتاج إلى مفعولين ؛ فيكون المصدر المؤول من «أن» مع معموليها فى محل نصب سادا مسد المفعولين. ونشير هنا إلى أن الرأى السالف يساير لغة سليم وغيرها ما دام القول بمعنى الظن ؛ لحاجته إلى ما بعده ، فتفقد «إن» الصدارة فى جملتها ؛ فتفتح همزتها وجوبا.


زيادة وتفصيل :

(ا) تضطرب أقوال النحاة فى اللفظ المحكىّ بالقول ؛ أيكون مفردا وجملة ، أم يقتصر على الجملة فقط؟ أيكون ترديدا ومحاكاة لنطق سابق به ، أم يكون ابتداء كما يكون ترديدا ومحاكاة؟ أيكون حكاية للقول بمعنى النطق والتلفظ فقط ، أم يكون حكاية له بهذا المعنى ، وبمعنى الظن أيضا ...؟ إلى غير ذلك من صنوف التفريع ؛ والخلف ، والاضطراب الذى يخفى الحقيقة ، ويغشّى على وضوحها ، ويكدّ الذهن فى استخلاصها. وقد تخيرنا أصفى الآراء فيها ، وقدمناه فيما سبق. وللحكاية تفصيلات وأحكام أخرى فى بابها الخاص ، وأشرنا فى الجزء الأول (١) إلى بعض أحكامها.

(ب) الأصل (٢) فى الجملة المحكية بالقول أن يذكر لفظها نصّا كما سمع ، وكما جرى على لسان الناطق بها أول مرة. لكن يجوز أن تحكى بمعناها ، لا بألفاظها (٣) ، فإذا نطق الناطق الأول ، وقال حكمة ؛ هى : «الأمم الأخلاق» جاز لمن يحكيها بعده أن يرددها بنصها الحرفى ، وبضبطها وترتيبها ، فيرددها بالعبارة التالية : قال الحكيم : «الأمم الأخلاق». وجاز أن يرددها بمعناها مع مراعاة الدقة فى المعنى ؛ كما يأتى : قال الحكيم : «الأمم ليست شيئا إلا الأخلاق». أو : «الأمم بأخلاقها». أو : «ما الأمم إلا أخلاقها» ... وعلى هذا لو سمعنا شخصا يقول : «البرد قارس» ، لجاز فى الحكاية أن نذكر النصّ بحروفه وضبطه وترتيبه : قال فلان : «البرد قارس» ، أو بمعناه : قال فلان : «البرد شديد» ... وإذا قالت فاطمة «أنا كاتبة» ـ مثلا ـ وقلت : لزينب «أنت شاعرة» ؛ فلك فى الحكاية أن تذكر النصّ : (قالت فاطمة «أنا كاتبة» ، وقلت لزينب «أنت شاعرة») ، مراعاة لنصّ اللفظ المحكىّ فيهما ، ولك أن تذكر المعنى : (قالت فاطمة «هى كاتبة» ، وقلت لزينب «هى شاعرة» ، أو : «إنها شاعرة») مراعاة لذلك المعنى ، فى حالة الحكاية ؛ حيث تكون فيها فاطمة وزينب غائبتين

__________________

(١) م ٢ ص ٢٩.

(٢) ومراعاته أحسن.

(٣) إن لم يكن هناك ما يقتضى التمسك بالنص الحرفى لداع دينى ، أو علمى ، أو قضائى ، أو نحو ذلك ..


وقت الكلام (١). فالحكاية بالمعنى لا تقتضى المحافظة على اسمية الجملة ، أو فعليتها ، أو نصّ كلماتها ، أو إعراب بعض كلماتها إعرابا معينا ؛ وإنما تقتضى المحافظة على سلامة المعنى ، ودقته ، وصحة الألفاظ ، وصياغة التركيب ، فيكفى فى الجملة المحكية أن تكون صحيحة فى مطابقة المعنى الأصلى ، وسليمة من الخطأ اللفظى.

فإن كانت الجملة المحكية مشتملة فى أصلها على خطأ لغوىّ أو نحوىّ وجب حكايتها بالمعنى للتخلص مما فيها من خطأ. إلا إن كان المراد إظهار هذا الخطأ ، وإبرازه لسبب مقصود ؛ وعندئذ يجب حكايتها بما اشتملت عليه.

(ج) هل يلحق «بالقول» الذى معناه النطق والتلفظ ، ما يؤدى معناه من كلمات أخرى ؛ مثل : ناديت ، دعوت ، أوحيت ، قرأت ـ أوصيت ـ نصحت ... وغيرها من كل ما يراد به : «النطق المجرد» فتنصب مفعولا به أو مفعولين (٢) ؛ على التفصيل الذى سبق؟

الأنسب الأخذ بالرأى القائل : إنها تلحق به فى نصب المفعول والمفعولين ، ما دامت واضحة الدلالة على معناه. ومن الأمثلة قوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ : لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ،) وقوله تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ : أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) بكسر الهمزة فى قراءة الكسر. وقوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ : لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ...) ولا داعى للتأويل فى هذه الآيات وغيرها بتقدير «قول» ... إذ لا حاجة للتقدير مع الدلالة الواضحة ، وعدم فساد المعنى أو التركيب ... أما إذا اقتضى المقام التقدير فلا مانع منه لسبب قوى. ومن ذلك قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ... أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) أى : فيقال لهم : أكفرتم؟ فهنا القول محذوف (٣) ولا بد من تقديره لصحة المعنى والأسلوب.

__________________

(١) لأن ذكر اسميهما دليل ـ فى الغالب ـ على غيابهما وقت حكاية الكلام. ولو لا غيابهما لاتجه إليهما الخطاب : «قلت لك» ... بدلا من «قلت لفاطمة .. وقلت لزينب ..». (راجع حاشية الصبان ج ٢ آخر باب «ظن» وكذلك الخضرى ـ وغيره ـ فى هذا الموضع).

(٢) طبقا للرأى الذى يفيد أن سليما ـ كما نقل بعض النحاة ـ تنصب بالقول مفعولين مطلقا ، (أى : ولو لم يكن بمعنى : الظن. ، كما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٥٠).

(٣) هذا موضع من مواضع حذفه جوازا ؛ لوجود كلام قبله يدل عليه وعلى مكانه ، وهو قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ...) إلخ.


المسألة ٦٣ :

حذف المفعولين ، أو أحدهما ، وحذف الناسخ

الاختصار أصل بلاغىّ عامّ ، لا يختص بباب ، ولا يقتصر على مسألة ، ويراد به : حذف ما يمكن الاستغناء عنه من الألفاظ لداع يقتضيه. وهو جائز بشرطين :

(ا) أن يوجد دليل يدل على المحذوف ، ومكانه (١).

(ب) وألا يترتب على حذفه إساءة للمعنى ، أو إفساد فى الصياغة اللفظية (٢).

واستنادا إلى هذا الأصل القويم يصح الاختصار هنا بحذف المفعولين معا أو أحدهما. فمثال حذفهما : ـ هل علمت الطيارة سابحة فى ماء الأنهار؟ فتجيب : نعم ، علمت ... ـ هل حسبت الإنسان واصلا إلى الكواكب الأخرى؟. نعم ، حسبت ... أى : علمت الطيارة سابحة ... وحسبت الإنسان واصلا ...

ومثال حذف الثانى (وهو كثير) : أىّ الكلامين أشدّ تأثيرا فى الجماهير ؛ آ لشعر أم الخطابة؟ فتقول : أظن الخطابة ... أى : أظن الخطابة أشدّ ... ومثال حذف الأول : (وحذفه أقل من الثانى) ما مبلغ علمك بخالد بن الوليد؟ فتقول : أعلم ... بطلا صحابيّا من أبطال التاريخ. أى : أعلم خالدا بطلا ...

فقد صحّ الحذف فى الأمثلة السابقة ؛ لتحقق الشرطين معا. فإن لم يتحقق

__________________

(١) لأن عدم معرفة المحذوف يفسد المعنى فسادا كاملا ، وعدم معرفة مكانه يؤثر فى المعنى قليلا أو كثيرا ؛ فلوضع الكلمة فى الجملة أثر فى المعنى. ولا فرق فى الدليل (القرينة) بين أن يكون مقاليا ؛ (أى : قولا يدل على المحذوف) وأن يكون حاليا : (أى : أمرا آخر مفهوما من الحال والمقام ، وليس بكلام. ولهذا إشارة فى رقم ١ من هامش ص ٢٠٧ م ٧٦ ، وراجع ح ١ ص ٣٦٢ م ٣٧).

(٢) يرى بعض النحاة الاقتصار على هذا الشرط ؛ لأنه يتضمن معنى الشرط الأول. ولكنا ذكرناهما معا مبالغة فى الإيضاح والإبانة.


الشرطان معا لم يجز الحذف (١) ؛ فلا يصح فى تلك الأمثلة وأشباهها : علمت فقط ، ولا حسبت فقط ، بحذف المفعولين فيهما. ولا يصح علمت الطيارة ... ولا حسبت الإنسان ... بحذف المفعول الثانى فقط ، ولا علمت سابحة ... ولا حسبت واصلا ؛ بحذف الأول. وهكذا من كل ما فقد القرينة ، أو فقد الشرطين معا.

واعتمادا على الأصل البلاغىّ السابق أيضا يصح حذف الناسخ مع مرفوعه ؛ نحو : ماذا تزعم؟ فتجيب : ... الأخ منتظرا فى الحقل. أى : أزعم ... (٢)

__________________

(١) ولا التفات لمن أباح : «الاقتصار» ؛ وهو الحذف بغير دليل. لأن هذه الإباحة مفسدة.

(٢) فى المسألتين الأخيرتين ؛ (مسألة : «القول» ومسألة : «الحذف») يقول ابن مالك فى الحذف :

ولا تجز هنا بلا دليل

سقوط مفعولين أو مفعول

يريد : ليس من الجائز فى هذا الباب سقوط مفعول (أى : حذفه) أو مفعولين. إلا بوجود دليل يدل على المحذوف. وكلامه مختصر ، وقد وفيناه. وفى القول :

و «كتظنّ» اجعل : «تقول» إن ولى

مستفهما به. ولم ينفصل

بغير ظرف ، أو كظرف ، أو عمل

وإن ببعض ذى فصلت يحتمل

المعنى : اجعل «تقول» ـ وهى مضارع للمخاطب ـ مثل «تظن» فى المعنى والعمل إن وليت : «تقول» مستفهما به ، أى : إن جاءت «تقول» بعد أداة يستفهم بها. (فوقوع الفعل «تقول» بعد الاستفهام شرط).

وشرط آخر ؛ هو : ألا ينفصل الفعل المضارع : «تقول» عن أداة الاستفهام بفاصل غير الظرف. أما الظرف فيجوز أن يقع فاصلا بينهما ، كذا ما يشبه الظرف ؛ وهو الجار مع مجروره. ـ وقد يطلق «الظرف» ـ أحيانا ـ على شبه الجملة بنوعيه ـ وكذا كل شىء آخر وقع عليه عمل الفعل : «ظن» أو عمل معمول الفعل ؛ كالأمثلة التى سبقت فى الشرح. ثم بين الرأى الآخر فى : «القول» بالبيت التالى :

وأجرى «القول» ، «كظنّ» مطلقا

عند «سليم» ؛ نحو ؛ قل ذا مشفقا

أى : قبيلة «سليم» تجرى القول مجرى الظن فى المعنى ، والعمل والأحكام المختلفة ، من غير اشتراط شىء مطلقا. إلا اشتراط أن يكون «القول» بمعنى «الظن» ... مثل : قل هذا مشفقا. وقد سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٥٠ رأى آخر لهم.


المسألة ٦٤

: أعلم ... أرى ..

ا : فرح الحزين. أفرحت الحزين.

زهق الباطل. أزهق الحقّ الباطل.

لان المتشدّد. ألانت الحوادث المتشدّد.

ب : سمع الصديق الخبر السارّ. أسمعت الصديق الخبر السارّ.

ورد الغائب أهله. أوردت الغائب أهله.

قرأ الأديب القصيدة. قرأت الأديب القصيدة.

ح : علمت الحرفة وسيلة الرزق. أعلمت الغلام الحرفة وسيلة الرزق.

علم الشباب الاستقامة طريق السلامة. أعلمت الشباب الاستقامة طريق السلامة.

رأيت الفهم رائد النبوغ. أريت المتعلم الفهم رائد النبوغ.

رأى الخبراء الآثار كنوزا. أريت الخبراء الآثار كنوزا.

الفعل نوعان. لازم ؛ (أى : قاصر ؛ لا ينصب بنفسه المفعول به) ، ومتعد ينصب بنفسه مفعولا به ، أو مفعولين ، أو ثلاثة. ولا يزيد عليها.

ولتعدية الفعل اللازم وسائل معروفة فى بابه (١). منها وقوعه بعد «همزة النقل». (أى : التعدية) فإذا دخلت همزة النقل على الفعل الثلاثى اللازم ، أو الثلاثى المتعدى لواحد أو لاثنين غيّرت حاله ، وجعلت الثلاثىّ اللازم متعديا ـ كأمثلة : «ا» ـ وصيّرت الثلاثىّ المتعدى لواحد متعدّيا لاثنين ـ كأمثلة : «ب» ـ وصيّرت الثلاثى المتعدى لاثنين متعديا لثلاثة ـ كأمثلة : «ح» ـ فشأنها

__________________

(١) هو باب «تعدى الفعل ولزومه». وسيأتى فى ص ١٤٤ م ٧٠.


أن تجعل فاعل الفعل الثلاثى مفعولا به (١) ؛ فتنقله من حالة إلى أخرى تخالفها ؛ فتكسب الجملة مفعولا به جديدا لم يكن له وجود قبل دخول همزة النقل على الفعل. أما غير الثلاثى فلا تدخل عليه هذه الهمزة.

ولا يكاد يوجد خلاف هامّ فى أن التعدية بهمزة النقل على الوجه السالف قياسية فى الثلاثى اللازم ، وفى الثلاثى المتعدى بأصله لواحد (٢). إنما الخلاف فى الثلاثى المتعدى بأصله لاثنين ؛ أتكون تعديته بهمزة النقل مقصورة على فعلين من الأفعال القلبية ؛ هما : «علم ـ ورأى» (٣) ـ دون غيرهما من باقى الأفعال القلبية التى تنصب مفعولين ، والتى سبق الكلام عليها (٤) ـ أم ليست مقصورة على الفعلين المذكورين ؛ فتشملهما ، وتشمل أخواتهما القلبية التى مرّت فى الباب السالف؟ رأيان. وتميل إلى أولهما جمهرة النحاة ، فتقصر التعدية على الفعلين المعينين («علم» و «رأى») ولا تبيح قياس شىء عليهما من أفعال اليقين والرجحان وغيرهما ، فلا يصح عندها أن تقول : أظننت الرجل السيارة قادمة ، وأحسبته السفر فيها مريحا. فى حين يصح هذا عند بعض آخر يبيح القياس على الفعلين السالفين ، ولا يرى وجها للتفرقة بينهما وبين نظائرهما من أفعال اليقين والرجحان التى تنصب مفعولين بحسب أصلها (٥).

سواء أخذنا برأى الجمهرة أم بالرأى الآخر ، فالفعل القلبىّ الناصب للمفعولين

__________________

(١) كما سيجىء فى ص ١٥٢ م ٧١. وفى رقم ٢ من ص ١٥٧.

(٢) راجع الأشمونى والصبان ـ ج ١ ـ أول باب : «تعدى الفعل ولزومه».

(٣) سواء أكانت علمية كالأمثلة المذكورة ، أم حلمية ؛ وهى التى مصدرها «الرؤيا» المنامية. كقوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ ...)

(٤) فى ص ٥. ثم راجع رقم ١ من ص ١٥٧.

(٥) وهذا رأى حسن اليوم ؛ فإنه مع خلوه من التشدد والتضييق ، يساير الأصول اللغوية العامة ، ويلائم التعبير الموجز المطلوب فى بعض الأحيان ، فتقول : أظننت الرجل السيارة قادمة ؛ بدلا من جعلت الرجل يظن السيارة قادمة ، إذ من الدواعى البلاغية ، والاستعمالات اللازمة فى العلوم الحديثة ما قد يجعل له التفضيل. فمن الخير إباحة الرأيين ، وترك الاختيار للمتكلم يراعى فيه الملابسات.


بحسب أصله وبحسب رأى كل منهما فى نوعه ... (١) سينصب ثلاثة بعد دخول همزة التعدية عليه. ومفعوله الثانى والثالث أصلهما المبتدأ والخبر ، ويجرى عليهما فى حالتهما الجديدة ما كان يجرى عليهما قبل مجىء همزة التعدية ؛ فتطبق عليهما وعلى أفعالهما ـ وباقى المشتقات ـ الأحكام والآثار الخاصة بالأفعال القلبية التى سبق شرحها ، ومنها : التعليق ، والإلغاء ، والحذف اختصارا لدليل ...

فمن أمثلة التعليق : أعلمت الشاهد لأداء الشهادة واجب ، وأريته إنّ (٢) كتمانها لإثم كبير. ومن أمثلة الإلغاء أو عدمه : النخيل أعلمت البدوىّ أنسب للصحراء ـ أو : أنسب للصحراء أعلمت البدوىّ النخيل ـ أو : النخيل أنسب للصحراء أعلمت البدوىّ. وأصل الجملة : أعلمت البدوىّ النخيل أنسب للصحراء. أما المفعول به الأول من الثلاثة فقد كان فى أصله فاعلا كما عرفنا ، فلا علاقة له بهذه الأحكام والآثار الخاصة بالأفعال القلبية السالفة.

ومن أمثلة حذف المفعول به الثانى لدليل أن يقال : هل عرفت حالة المزرعة؟ فتجيب : أعلمنى الخبير ... جيدة ، أى : أعلمنى الخبير المزرعة جيدة. ومثال حذف الثالث لدليل ؛ أن يقال : هل علم الوالد أحدا قادما لزيارتك؟ فتجيب : أعلمته زميلا ، أى : زميلا قادما (٣) لزيارتى. ومثال حذف الثانى والثالث معا أن تقول : أعلمته ...

فإن كان الفعل : «علم» بمعنى : «عرف» أو كان الفعل : «رأى» بمعنى : «أبصر» ـ لم ينصب كلاهما فى أصله إلا مفعولا به واحدا كما سبق (٤). نحو : علمت الطريق إلى النهر ـ رأيت الشهب المتساقطة. فإذا دخلت على أحدهما همزة التعدية صيرته ينصب مفعولين ، نحو : أعلمت الرجل الطريق

__________________

(١) من ناحية أنه محصور فى الفعلين السالفين دون غيرهما من أفعال القلوب ، أو غير محصور فيهما وإنما يشمل كل أفعال القلوب التى سبق شرحها. ـ انظر ما يتصل بهذا فى رقم ١ من هامش ص ١٥٧ ـ

(٢) يوضح هذا المثال وكسر همزة «إن» ما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٣٢.

(٣) المعنى الأساسى لا يتم إلا بهذه الكلمة ، فلا تعرب حالا ، لأن الحال فضلة

(٤) فى ص ١٣ ، ١٤.


إلى النهر ، وأريت (١) الغلام الشهب المتساقطة. وهذان المفعولان ليسا فى الأصل مبتدأ وخبرا ؛ إذ لا يصح : الرجل الطريق ـ الغلام الشهب. ولهذا لا يصح تطبيق الأحكام والآثار الخاصة بالأفعال القلبية عليهما. إلا التعليق فجائز ؛ ومنه قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي)(٢) كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى).

وقد نصت كتب اللغة على أفعال أخرى ـ قلبية وغير قلبية ـ ينصب كل فعل منها بذاته ثلاثة من المفاعيل ، دون وجود همزة التعدية قبله. وأشهر تلك الأفعال خمسة : نبّأ ـ أنبأ ـ حدّث ـ أخبر ـ خبّر ... مثل : نبّأت الطيار الجوّ مناسبا للطيران ـ أنبأت البحّار الميناء مستعدّا ـ حدّثت الصديق الرحلة طيبة ـ أخبرت المريض الراحة لازمة ـ خبّرت البائع الأمانة أنفع له. والكثير فى الأساليب المأثورة أن يكون فيها تلك الأفعال الخمسة مبنية للمجهول ، وأن يقع أول المفاعيل الثلاثة نائب فاعل مرفوعا ، ويبقى الثانى والثالث مفعولين صريحين. ومن الأمثلة قول الشاعر :

نبّئت نعمى على الهجران عاتبة

سقيا ورعيا (٣) لذاك العاتب الزارى

وقد جاء فى القرآن «نبّأ» ناصبا مفعولا واحدا صريحا ، وسدّ مسدّ المفعولين الآخرين جملة «إن» مع معموليها ، بعد أن علّقت الفعل عنها باللام فى قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ ـ إِذا مُزِّقْتُمْ

__________________

(١) سبقت أحكام خاصة ببعض حالات هذا الفعل عند بنائه للمجهول ، وطريقة إعرابه ـ فى هامش ص ١٦ م ٦٠.

(٢) فالآية تشتمل على فعل الأمر «أر» وهو من «أرى» البصرية التى تنصب مفعولين بشرط وجود همزة التعدية قبلها. و «ياء المتكلم» هى مفعوله الأول. وجملة(كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فى محل نصب سدت مسد المفعول الثانى. فى الرأى الراجح. باعتبار «كيف» استفهامية معمولة للفعل : «تحيى» (وقد سبق الكلام على إعراب «كيف» فى ج ١ ص ٣٧٥ م ٣٩ وفى رقم ٣ من هامش ص ١١١).

(٣) فى رقم ٢ من هامش ص ٢١٠ بيان عن كلمتى «سقى ورعى» ، وفى ج ١ م ٣٩ ص ٤٦٨ بيان أكمل.


كُلَّ مُمَزَّقٍ ـ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(١).

__________________

(١) فيما سبق يقول ابن مالك فى باب مستقل ، عنوانه : «أعلم وأرى».

إلى ثلاثة «رأى» و «علما»

عدّوا ، إذا صارا ؛ أرى وأعلما

وما لمفعولى : «علمت» مطلقا

للثّان والثالث : أيضا حقّقا

التقدير ـ وهو شرح أيضا ـ : النحاة عدوا الفعل : «رأى» والفعل : «علم» إلى ثلاثة من المفاعيل إذا صار كل من الفعلين فى صيغة جديدة ؛ هى : «أرى ، وأعلم» ؛ حيث سبقتهما (همزة التعدية). ثم بين أن ما ثبت لمفعولى «علم» من الأحكام المختلفة باعتبارهما فى الأصل مبتدأ وخبرا ـ يثبت للثانى والثالث هنا ، فليس الثانى والثالث مع وجود همزة التعدية إلا الأول والثانى قبل دخولها على فعلهما. (والألف فى «علما» ـ وأعلما ـ وحققا ـ ألف الإطلاق الزائدة لوزن الشعر). ثم قال :

وإن تعدّيا لواحد بلا

همز ، فلاثنين به توصّلا

والثّان منهما كثانى اثنى كسا

فهو به فى كلّ حكم ذو ائتسا

يريد : إذا تعدى كل من «علم» و «رأى» إلى مفعول واحد قبل مجىء حرف التعدية (وهو : الهمزة) ، فإن الفعل يتوصل بحرف الهمزة إلى مفعولين يتعدى لهما ، ليس أصلهما المبتدأ والخبر. فالثانى منهما كالثانى للفعل : «كسا» فى مثل : كسوت المحتاج ثوبا ؛ حيث لا يصلح الثانى فى هذا المثال وأشباهه أن يقع خبرا للأول : إذ لا يصح : المحتاج ثوب ...

ولما كان المفعول الثانى للفعل : «كسا» ليس خبرا فى الأصل ـ كان هو وفعله غير قابلين للأحكام الخاصة بالأفعال القلبية وآثارها ، ومنها ؛ أن يكون جملة ، وشبه جملة ، والإلغاء .. و.. إلا التعليق فيجوز على الوجه الذى سبق فى ص ٥٧ ومثله المفعول الثانى للفعل : «علم» بمعنى «عرف» والفعل : «رأى» بمعنى : «أبصر» كلاهما يشبهه فى هذا الحكم ، فالمفعول الثانى للفعل «علم» و «رأى» بالمعنيين المذكورين «ذو ائتسا» بالمفعول الثانى للفعل : «كسا» أى : ذو محاكاة ومتابعة واقتداء به فيما سبق. ثم قال ابن مالك :

وكأرى السّابق : نبّا ، أخبرا

حدّث ، أنبأ ، كذاك خبرا.

أى : مثل الفعل : «أرى» السابق أول الباب ، فى نصب ثلاثة من المفاعيل بضعة أفعال أخرى ، سرد منها فى البيت خمسة وإنما قال «أرى» السابق ليبتعد عن «أرى» التى بعدها ، وهى التى تنصب مفعولين بعد دخول همزة التعدية. وماضيها هو : رأى ، بمعنى : نظر.


زيادة وتفصيل :

من الأساليب الفصيحة : أحبّ العلوم ، ولا تر ما العلوم الكونية. أو : أحب العلوم ، ولو تر ما العلوم الكونية ... بمعنى : ولا سيما العلوم الكونية.

وقد سبق الكلام مفصلا على : «لا سيما» وعلى هذه الأساليب التى بمعناها ـ (١) وسيجىء هنا لمناسبة أخرى (٢).

__________________

(١) فى ج ١ م ٢٨ ص ٣٦٣ ـ الطبعة الثالثة.

(٢) فى «ه» من ص ٣٣٦.


المسألة ٦٥ :

الفاعل (١)

تعريفه :

اسم ، مرفوع ، قبله فعل تامّ (٢) ، أو ما يشبهه (٣) ، وهذا الاسم هو الذى فعل (٤) الفعل ، أو قام به (٥).

فمثال الاسم ، صريحا ، أو مؤولا : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) ـ

__________________

(١) للنحاة فيه تعريفات كثيرة ، راعوا فى أكثرها جانب الدقة اللفظية المنطقية. ولا بأس بهذا ؛ لو لا أنهم بالغوا حتى انتهوا إلى إطالة مذمومة لا تناسب التعريف ، أو اختصار معيب ؛ يحوى الغموض والإبهام. وقد اخترنا من تعريفاتهم ما خلا من العيبين السالفين ، ومال إلى الوضوح ، واليسر ، وإن اشتمل على بعض أجزاء يعدها المناطقة من أحكام الفاعل ، لا من تعريفه ؛ مثل : الرفع. ولكن هذا لا أهمية له قديما وحديثا.

(٢) أى : ليس من الأفعال الناقصة ـ وهى النواسخ التى تحتاج إلى اسم وخبر ، لا إلى فاعل .. ـ ويشترط فى الفعل أيضا أن يكون مبنيا للمعلوم ، لأن المبنى للمجهول يحتاج إلى نائب فاعل فى الأغلب ، ولا يحتاج إلى فاعل. وإنما قلنا فى «الأغلب» لتخرج الأفعال الملازمة للبناء للمجهول ـ فيما يقال ـ فإنها قد تحتاج لفاعل أحيانا ـ وسيجىء البيان والتفصيل فى ص ١٠٦ ـ.

(٣) من كل ما يعمل عمل الفعل ؛ كالمصدر ، واسم الفاعل ، والصفة المشبهة ، وباقى المشتقات العاملة التى سبق الكلام عليها (فى الباب الأول ، هامش ص ٤ ، وغيره) ، وكاسم الفعل أيضا. فالمصدر نحو عجبت من إتلاف المال محمد ، واسم الفاعل ؛ مثل : أصانع الثوب فتاة؟ والصفة المشبهة مثل : سحرنا الخطيب بكلام جميل أساليبه ، قوىّ براهينه. وأفعل التفضيل ؛ نحو : هذا الأكمل خلقه ... وهكذا. أما اسم المفعول فحكمه حكم الفعل المبنى للمجهول ؛ كلاهما يرفع نائب فاعل ، (كما سيجىء). ومثل المشتق المؤول بالمشتق ؛ نحو : العدو نمر ، أى : هو ؛ لأنه بمعنى : غادر ؛ فهو جامد مؤول بالمشتق ، وفاعله ضمير مستتر فيه. وقد يكون ظاهرا نحو : القائد أسد هجماته ، أى : القائد جريئة هجماته (وقد سبق بيان الجامد المؤول بالمشتق فى ج ١ ص ٣٢٦ م ٣٣ باب المبتدأ).

(٤) أو يفعله الآن ، أو فى المستقبل ؛ ليشمل المضارع الذى يقع مدلوله الآن أو فى المستقبل ؛ ويشمل الأمر الذى يقع مدلوله فى المستقبل ؛ وكذا الفعل الذى قبله أداة تعليق ؛ مثل : إن يحضر الغائب نستقبله ، والفعل هنا قد يكون داخلا فى جملة إنشائية ؛ مثل : نعم المحسن ؛ لأن الفعل فى الجمل الإنشائية وفى التعريفات العلمية لا يدل على زمان ـ كما قرره المحققون ، وأشرنا إليه هامش ج ١ ص ٣١ م ٤ ـ ولا فرق بين أن يكون معنى الفعل موجبا أو منفيا ؛ نحو : لم ينتصر الجبان.

(٥) يرد على البال السؤال عن الفرق المعنوى بين الفاعل الذى قام به الفعل ، والمفعول به الذى ـ


(وَاعْبُدُوا اللهَ ـ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(١) ـ (شاع أن البغى وخيم العاقبة) ـ (اشتهر أن تنتقل العدوى من المريض للسليم).

ومثال ما يشبه الفعل : أواقف على الشجرة عصفورة ـ ما فرح أعداؤنا بوحدتنا وقوتنا. فكلمة : «عصفورة» فاعل للوصف ؛ (وهو : واقف ، اسم الفاعل) وكلمة : «أعداؤنا» فاعل للوصف : (فرح ـ الصفة المشبهة).

ومن أمثلة الفاعل الذى قام به الفعل أيضا : اتسعت ميادين العمل فى بلادنا ، وتنوعت أسبابه ؛ فلن يضيق الرزق بطالبيه ما داموا جادّين.

__________________

ـ وقع عليه الفعل ؛ لأن المعنى اللغوى للعبارتين واحد. بحيث لو وضعت إحدهما مكان الأخرى ما تغير المعنى اللغوى ..

إن الفرق اللفظى بين الفاعل والمفعول به معروف للنحاة ؛ فالفاعل مرفوع ، والمفعول به منصوب ، وهذا الفرق اللفظى يستتبع عندهم فرنا اصطلاحيا فى معنى كل جملة ، يوضحه ما يأتى :

«تحرك الشجر». كلمة : «الشجر» تعرب فاعلا نحويا. لكن هذا الإعراب لا يوافق المعنى اللغوى الواقعى لكلمة : «فاعل». وهو : «من أوجد الفعل حقيقة ، وباشر بنفسه إبرازه فى الوجود» ؛ لأن الشجر لم يفعل شيئا ؛ إذ لا دخل له فى إيجاد هذا التحرك ، ولا فى خلقه ، وجعله حقيقة واقعة بعد أن لم تكن. فليس للشجر عمل إيجابى ـ مطلقا ـ فى إحداث التحرك. وكل علاقته به أنه استجاب له ، وتفاعل معه ؛ فقامت الحركة به ، وخالطته ، ولابسته ، من غير أن يكون له اختيار أو دخل فى إيجادها ، كما سبق. فأين الفاعل الحقيقى الذى أوجد التحرك من العدم ، وكان السبب الحقيقى فى إبرازه للوجود؟ ليس فى الجملة ما يدل عليه ، أو على شىء ينوب عنه. فإذا قلنا : حرك الهواء الشجر ـ تغير الأمر ؛ فظهر الفاعل الحقيقى المنشئ للتحرك ، وبان الموجد له ، الذى أوقع أثره على المفعول به.

مثال آخر : تمزقت الورقة. تعرب كلمة : «الورقة» فاعلا نحويا. وهذا الإعراب لا يوافق ولا يساير المعنى اللغوى لكلمة ؛ «فاعل» ، ولا يوافق الأمر الواقع ؛ لأن الورقة فى الحقيقة لم تفعل شيئا ؛ فلم تمزق نفسها ، ولا دخل لها فى تمزقها ، ولم تشترك فيه بعمل إيجابى يحدثه ؛ ولكنها تأثرت به حين أصابها. فأين الفاعل الحقيقى ـ لا النحوى ـ الذى أوجد التمزق ، وجعله حقيقة قائمة بالورقة؟ لا وجود له فى الجملة ، ولا دليل فيها يدل عليه أو على شىء ينوب عنه. لكن إذا قلنا : مزق الطفل الورقة ـ ظهر الفاعل الحقيقى ، واتضح من أوجد الفعل بمعناه اللغوى الدقيق.

ومما سبق يتبين الفرق المعنوى بينهما ، وأنه ينحصر فى :

ا ـ أن الفاعل النحوى ـ على الوجه السالف ـ ليس هو الفاعل الحقيقى ، وإنما هو المتأثر بالفعل ، وليس فى الجملة ما يدل على ذلك الفاعل الحقيقى ، أو على شىء ينوب عنه.

ب ـ وأن المفعول به ليس فاعلا نحويا ولا حقيقيا. وإنما هو المتأثر بالفعل ، أيضا ، ولكن مع اشتمال جملته على الفاعل الحقيقى ، أو ما ينوب عنه.

(١) المراد بالاسم الصريح هنا : ما يشمل الضمير ؛ كما فى الآية.


زيادة وتفصيل :

يكون الفاعل مؤولا إذا وقع مصدرا منسبكا من حرف مصدرى وصلته. وحروف المصادر خمسة (١) ، لكن الذى يصلح منها للسبك فى باب الفاعل ثلاثة (٢) ؛ هى : «أن» ـ «أنّ» ـ «ما» ، المصدرية بنوعيها. مثل يسعدك أن تعمل الخير ، ويسعدنى أنك حريص عليه. (أى : يسعدك عمل الخير ويسعدنى حرصك عليه). ومثل : ينفعك ما أخلصت فى عملك ـ يسرنى ما طالت ساعات الصفو. (أى : ينفعك إخلاصك فى عملك ـ يسرنى مدة (٣) إطالة ساعات الصفو). فلا يوجد المصدر المؤول إلا من اجتماع أمرين مذكورين ـ غالبا ـ (٤) فى الكلام ، هما : حرف سابك وصلته. ولا يجوز حذف أحدهما إلا «أن» الناصبة للمضارع ؛

__________________

(١ و ١) حروف المصادر وتسمى : «حروف السبك» ، خمسة : (أن الناصبة للمضارع ـ أن مشددة ومخففة ـ ما ـ كى ـ لو) وقد سبق الكلام على معناها ، وصلتها ، وكل ما يتعلق بها فى ج ١ ـ آخر الموصول ـ ص ٣٦٨ م ٢٩ من هذا الكتاب. وزاد عليها بعضهم همزة التسوية ؛ فإنها من أدوات السبك عندهم. وهى التى تقع بعد كلمة : «سواء» ، ويليها صلتها مشتملة على لفظة «أم» الخاصة بهما. كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) فالهمزة تسبك ـ بغير سابك ـ مع الجملة بعدها بمصدر يعرب هنا فاعلا. والتقدير : إن الذين كفروا سواء ـ بمعنى : متساو ـ إنذارك وعدمه عليهم. فهم يعربون كلمة : «سواء» خبر «إن» والمصدر المؤول ـ من غير سابك ـ فاعل لكلمة «سواء» التى هى بمعنى اسم الفاعل (وتفصيل الكلام على هذا فى مكانه الخاص ج ٣ باب العطف عند بيان أحوال «أم». ص ٤٣١ م ١١٨ ـ وسبقت الإشارة له فى ج ١ بآخر «باب الموصول» م ٢٩ ، كما قلنا).

(٢) أما : «كى» المصدرية فلا تصلح للسبك فى باب الفاعل ؛ لأنها ـ فى الغالب ـ تكون مسبوقة بلام الجزم لفظا ، أو تقديرا. فالمصدر المؤول منها ومن صلتها مجرور باللام ؛ فلا يكون فاعلا وكذلك : «لو» المصدرية ؛ لأنها ـ فى الغالب مسبوقة بجملة فعلية ، فعلها «ود» أو «يود» ـ أو ما فى معناهما ، فالمصدر المنسبك منها ومن صلتها يعرب مفعولا للفعل الذى قبلها ...

(٣) بشرط أن يكون المراد : أن مدة الإطالة هى التى تسر ، وليست الإطالة نفسها ؛ وإلا كانت «ما» مصدرية فقط.


فإنها قد تحذف وحدها وجوبا أو جوازا فى مواضع معينة ، وتبقى صلتها ـ كما سيجىء (١) ـ ومع حذفها فى تلك المواضع تسبك مع صلتها الباقية مصدرا يعرب على حسب حالة الجملة. وقد حذفت سماعا فى غير تلك المواضع ، وبقيت صلتها أيضا. وهو حذف شاذ لا يصح القياس عليه. ومنه قولهم : وما راعنى إلا يسير الركب. أى : إلا أن يسير ... والتقدير ما راعنى إلا سيره ؛ فالمصدر المؤول فاعل. ومثله : يفرحنى يبرأ المريض ؛ أى : أن يبرأ والتقدير : يفرحنى برؤه ؛ فالمصدر المنسبك فاعل. وهو نظير المسموع ، وكلاهما لا يجوز القياس عليه ، وإنما يذكر هنا لفهم المسموع الوارد فى الكلام العربى القديم ، دون محاكاته.

وقد دعاهم إلى تقدير «أن» حاجة الفعل الذى قبلها إلى فاعل ، فيكون المصدر المنسبك منها ومن صلتها فى محل رفع فاعلا. ولو لا هذا لكان الفاعل محذوفا أو جملة : (يسير ـ يبرأ المريض) وكلاهما لا يرضى عنه النحاة ، لمخالفته الأعم الأغلب.

وبهذه المناسبة نشير إلى أن الراجح الذى يلزمنا اتباعه اليوم يرفض أن تقع الجملة الفعلية أو الاسمية فاعلا. وأما قوله تعالى فى قصة يوسف : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ ...) فالفاعل ضمير مستتر تقديره : «هو» عائد على المصدر المفهوم من الفعل. أى : بدا لهم بداء ، أى : ظهور رأى. وهذا أحد المواضع التى يستتر فيها الضمير ـ كما سبق ـ (٢).

وهناك رأى يجيز وقوعها فاعلا مطلقا. ورأى ثالث يجيز وقوعها فاعلا بشرط أن تكون فعلية معلّقة (٣) بفعل قلبىّ ، وأداة التعليق الاستفهام ؛ كقوله تعالى : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ)(٤) فَعَلْنا بِهِمْ). والرأى الأول أكثر مسايرة للأصول

__________________

(١) فى الجزء الرابع ، باب «إعراب الفعل» حيث الكلام على النواصب ثم الجوازم ...

(٢) ج ١ ص ١٨١ م ٢٠ عند الكلام على «مرجع الضمير».

(٣) شرحنا فى الباب الأول : (ظن وأخواتها) التعليق وأدواته. ص ـ ٢٦ ـ

(٤) تفصيل الكلام على حالات : «كيف» الإعرابية والبنائية ، فى ج ١ م ٣٩ ص ٣٥٧.


اللغوية ، وأبعد من التشتيت والتفريق ، وآثارهما السيئة فى الإبانة والتعبير ، فالاقتصار عليه أولى.

نعم إن كانت الجملة مقصودا لفظها وحكايتها بحروفها وضبطها جاز وقوعها فاعلا ؛ لأنها ـ بسبب قصد لفظها ـ تعتبر بمنزلة المفرد ؛ كأن تسمع صوتا يقول : «رأيت البشير». فتقول : «سرنى رأيت البشير» ؛ فتكون الجملة كلها باعتبارها كتلة واحدة متماسكة ، فاعلا ، مرفوعا بضمة مقدرة على آخره ، منع من ظهورها حركة الحكاية (١)).

__________________

(١) انظر رقم ٣ من هامش ص ١١١ حيث البيان الخاص بنوع الجملة التى تصلح نائب فاعل.


المسألة ٦٦ :

أحكام الفاعل

للفاعل أحكام تسعة ، لا بد أن تتحقق فيه مجتمعة :

أولها : أن يكون مرفوعا ، كالأمثلة المتقدمة. ويجوز أن يكون الفاعل مجرورا فى لفظه ، ولكنه فى محل رفع. ومن أمثلته إضافة المصدر إلى فاعله ؛ فى نحو : يسرنى إخراج الغنىّ الزكاة ؛ فكلمة : «الغنىّ» مضاف إليه مجرور. وهى فاعل المصدر ؛ إذ المصدر هنا يعمل عمل فعله (١) : «أخرج» فيرفع مثله فاعلا ، وينصب مفعولا به ... وأصل الكلام : يعجبنى إخراج الغنىّ الزكاة ؛ ثم صار المصدر مضافا ، وصار فاعله مضافا إليه مجرورا فى اللفظ ، ولكنه مرفوع فى المحل بحسب أصله (٢) ، كما قلنا ؛ فيجوز فى تابعه (كالنعت ، أو غيره من التوابع الأربعة) (٣) أن يكون مجرورا ؛ مراعاة للفظه ، ومرفوعا مراعاة للمحل ، تقول : يعجبنى إخراج الغنىّ المقتدر الزكاة ؛ برفع كلمة : «المقتدر» أو جرها.

ومن أمثلة ذلك أيضا الفاعل المجرور بحرف جرّ زائد. ويغلب أن يكون حرف الجر الزائد هو : «من» ، أو : «الباء» ، أو : «اللام». نحو : ما بقى من أنصار للظالمين ـ كفى (٤) بالحق ناصرا ومعينا ـ هيهات لتحقيق الأمل بغير الجهد الصادق. فكلمة : «أنصار» مجرورة فى اللفظ بحرف الجر الزائد : «من» ، ولكنها فى محل رفع فاعل ، وكلمة : «الحق» ، مجرورة بحرف الجر الزائد : «الباء» فى محل رفع ؛ لأنها «فاعل». وكذلك : كلمة : «تحقيق» مجرورة باللام الزائدة فى محل رفع ؛ لأنها فاعل لاسم الفعل : «هيهات».

__________________

(١) فى أول الجزء الثالث باب خاص بإعمال المصدر ، وأحكامه المختلفة ، وكذا اسم المصدر.

(٢) ومثل المصدر المضاف لفاعله اسم المصدر فى نحو : يسرنى عطاء الغنى الفقير. فكلمة «عطاء» اسم مصدر الفعل : «أعطى» الذى مصدره : إعطاء. وقد أضيف اسم المصدر لفاعله ، ونصب مفعوله. ففاعله مجرور اللفظ ، مرفوع المحل.

(٣) فى آخر الجزء الثالث باب مستقل لكل واحد منها.

(٤) فعل ماض ، معناه : وفّى وأغنى : (حصل به الاستغناء) ....


فالفاعل فى الأمثلة الثلاثة وأشباهها مجرور اللفظ ، مرفوع المحل ؛ بحيث لو جاء بعده تابع (كالعطف ، أو غيره من التوابع الأربعة) لجاز فى تابعه الرفع والجر ؛ ـ كما أسلفنا ـ ففى المثال الأول نقول : ما بقى من أنصار وأعوان (١) للظالمين ؛ بالجر والرفع فى كلمة : «أعوان» المعطوفة. وفى المثال الثانى نقول : كفى بالحق والأخلاق ... بجر كلمة : «الأخلاق» ورفعها. وفى الثالث هيهات لتحقيق الأمل والفوز ... بجر كلمة : «الفوز» ورفعها (٢).

ثانيها : أن يكون موجودا ـ ظاهرا ، أو مستترا ـ لأنه جزء أساسى (٣) فى جملته ؛ لا بدّ منه ، ولا تستغنى الجملة عنه لتكملة معناها الأصيل مع عامله ؛ ولهذا لا يصح حذفه.

__________________

(١) إذا كان المعطوف معرفة والمعطوف عليه مجرورا بمن الزائدة ؛ مثل : ما بقى من أنصار والجنود ـ وجب فى المعطوف الرفع فقط ـ كما يقول النحاة ـ لأن «من الزائدة لا تكون جارة زائدة إلا بشرطين ـ كما سيجىء فى ص ٤٧٦ ـ أن تكون مسبوقة بنفى أو شبهه ، وأن يكون المجرور بها نكرة. ولما كان المعطوف فى حكم المعطوف عليه ، ويعد معمولا مثله لحرف الجر الزائد : «من» ـ وجب عندهم أن يكون نكرة كالمعطوف عليه. فإن لم يكن نكرة مثله لم يصلح أن يكون معمولا للحرف «من» فلا يصح فيه الجر ، ويجب فيه الاقتصار على الرفع. وكذا إن كان المعطوف عليه نكرة وأداة العطف : «لكن» أو : «بل» ؛ لأن المعطوف بهما بعد النفى والنهى يكون مثبتا ؛ فلا يصح جره ؛ لأنه بمنزلة المجرور بالحرف «من» والمجرور به لا بد أن يكون نكرة منفية (راجع إيضاح الكلام على : «بل» و «لكن» فى ج ١ ص ٤٤٣ م ٤٣ وفى باب العطف جزء ٣).

هذا تلخيص كلامهم. وهو مناقض لما يقولونه فى مواضع مختلفة ؛ من أنه يغتفر فى الثوانى (أى فى التوابع ـ وأشباهها) ـ ما لا يغتفر فى الأوائل ـ راجع ص ٣١١ م ٨١ و ٤٩٠ ـ وبنوا على هذا أحكاما كثيرة ؛ فلا داعى هنا لخروجهم على ما قرروه ، وتشددهم وتضييقهم. والرأى تطبيق قاعدتهم السابقة على توابع الفاعل المجرور ؛ فيجوز فى توابعه الجر مطلقا ؛ مراعاة للفظ المجرور ، والرفع مراعاة لمحله. وليس فى هذا ضرر لفظى أو معنوى ، بل فيه تيسير ، وتخفيف ، وتقليل للتفريع.

(٢) وإلى ما سبق يشير ابن مالك بقوله :

الفاعل الّذى كمرفوعى : أتى

زيد منيرا وجهه : نعم الفتى

وقد اكتفى فى تعريف الفاعل بذكر أمثلة مستوفية للشروط هى : أتى زيد ... فكلمة «زيد» فاعل للفعل المتصرف : «أتى» وكلمة : «وجه» فاعل للوصف المشبه للفعل ؛ وهو : «منير» اسم فاعل. و «الفتى» فاعل للفعل الجامد : «نعم» فقد عدّد الفاعل تبعا لأنواع العامل.

(٣) الجزء الأساسى فى الجملة ، أو الأصيل ، هو : الذى لا يمكن الاستغناء عنه فى أداء معناها الأصلىّ ويسميه النحاة : عمدة. ومنه : المبتدأ ـ الخبر ـ الفاعل ـ كثير من أنواع الفعل ...


ويستثنى من هذا الحكم أربعة أشياء (١) كل منها يحتاج للفاعل ، ولكنه قد يحذف ـ وجوبا ، أو جوازا ـ لداع يقتضى الحذف ؛ وهى :

(ا) أن يكون عامله مبنيّا للمجهول ؛ نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...،) ومثل : إنّ القوىّ يخاف بأسه. وأصل الكلام : كتب الله عليكم الصيام ـ إن القوىّ يخاف الناس بأسه ... ثم بنى الفعل للمجهول ، فحذف الفاعل وجوبا ، وحلّ مكانه نائب له.

(ب) أن يكون الفاعل واو جماعة أو ياء مخاطبة ، وفعله مؤكد بنون التوكيد ؛ كالذى فى خطبة أحد القوّاد ...

«أيها الأبطال ، لتهز من أعداءكم ، ولترفعنّ راية بلادكم خفاقة بين رايات الأمم الحرة العظيمة ... فأبشرى يا بلادى ؛ فو الله لتسمعنّ أخبار النصر المؤزّر (٢) ، ولتفرحنّ بما كتب الله لك من عزة ، وقوة ، وارتقاء». (وأصل الكلام : تهزموننّ ـ ترفعوننّ ـ تسمعيننّ ـ تفرحيننّ ـ حذفت نون الرفع لتوالى الأمثال. ثم حذفت وجوبا واو الجماعة ، وياء المخاطبة ؛ لالتقاء الساكنين) (٣).

(ح) أن يكون عامله مصدرا ؛ مثل : إكرام الوالد (٤) مطلوب. والحذف هنا جائز.

(د) أن يحذف جوازا مع عامله لداع بلاغى ، بشرط وجود دليل يدل عليهما

__________________

(١) زاد عليها بعص النحاة. ولكن الزيادة لم تثبت على التمحيص ، ولم يرض عنها المحققون (راجع الخضرى ج ١ ، والصبان ج ٢ أول باب الفاعل عند الكلام على مواضع حذفه) بل إنهم لم يرضوا عن هذه الأربعة ، وقالوا هناك : إن الحذف فيها ظاهرى فقط ، وليس بحقيقى. ولهم أدلتهم المقبولة القوية ، وإن كنا قد وقفنا وسطا.

(٢) البالغ الشديد.

(٣) الكلام على هذا الحذف من نواحيه المختلفة مدون بالجزء الأول ص ٦٢ المسألة السادسة. أما التفصيل الأكمل ففى ج ٤ ص ١٢٩ م ١٤٣. بابى : نون التوكيد ، ثم الإعلال والإبدال.

(٤) يرى بعض النحاة : أن المصدر جامد ، فلا يتحمل ضميرا مستترا فاعلا ، إن حذف فاعله الظاهر ، إلا إن كان نائبا عن عامله المحذوف فيتحمل ضميره (راجع ص ٢٠٧). ويرى بعض آخر أنه جامد مؤول بمشتق فهو محتمل للضمير ، ففاعله مستتر فيه (راجع : «ب» ص ١٠٧ ورقم ٢ من هامش ص ٢٠٩).


مثل : من قابلت؟ فتقول : صديقا (١). أى : قابلت صديقا.

وفى بعض الأساليب القديمة التى نحاكيها اليوم ما قد يوهم أن الفاعل محذوف فى غير المواضع السالفة ، لكن الحقيقة أنه ليس بمحذوف. ومن الأمثلة لهذا : أن يتكلم اثنان فى مسألة ، يختلفان فى تقديرها ، والحكم عليها ، ثم ينتهى بهما الكلام إلى أن يقول أحدهما لصاحبه : إن كان لا يناسبك فافعل ما تشاء. ففاعل الفعل المضارع : «يناسب» ليس محذوفا ، ولكنه ضمير مستتر يعود إلى شىء مفهوم من المقام. أى : إن كان لا يناسبك رأيى ، أو نصحى ، أو الحال الذى أنت فيه (٢) ...

ومنها : أن يعلن أحدهما رأيه بقوة وتشدد ؛ فيقول أحد السامعين : ظهر ـ أو : تبين ـ أو : تكشف .... يريد : ظهر الحق ... أو تبين الحق ... أو : تكشف الحق.

وقصارى القول : لا بد ـ فى أكثر الحالات ـ من وجود الفاعل اسما ظاهرا ، أو ضميرا مستترا أو بارزا. وقد يحذف أحيانا ؛ كما فى تلك المسائل الأربعة. وحذفه فى المسألتين الأوليين واجب ، أما فى الأخيرتين فجائز.

__________________

(١) ليس من اللازم فى هذه الصورة ، وأشباهها من كل اسم مذكور وحده .. ـ أن يعرب مفعولا به ؛ بل يصح إعرابه شيئا آخر يناسب الغرض والمقام ؛ كأن يكون مبتدأ خبره محذوف ، أو العكس .. أو .. أو .. أو .. أو ...

(٢) سبق الكلام على هذا الموضع عند الكلام على مرجع الضمير ح ١ ص ٢٣٠ م ١٩.


زيادة وتفصيل :

هناك أفعال لا تحتاج إلى فاعل مذكور أو محذوف ؛ منها : «كان» (١) الزائدة ؛ مثل : المال ـ كان ـ عماد للمشروعات العمرانية. ومنها الفعل التالى لفعل آخر ؛ ليؤكده توكيدا لفظيّا ؛ مثل : (اقترب ـ اقترب ـ القطار) ؛ (فتهيأ ـ تهيأ ـ له). فالفعل الثانى منهما مؤكد للأول توكيدا لفظيّا ؛ فلا يحتاج لفاعل مع وجود الفاعل السابق.

ومنها أفعال اتصلت بآخرها : «ما» الكافة. (أى : التى تكفّ غيرها عن العمل ، وتمنع ما اتصلت به أن يؤثر فى معمول) مثل : طالما ـ كثر ما ـ قلّما ،. نحو : (طالما أوفيت بوعدك ، وكثر ما حمدت لك الوفاء ؛ وقلما (٢) يخلف النبيل وعده) ويعرب كل واحد فعلا ماضيا مكفوفا عن العمل (أى : ممنوعا) بسبب وجود «ما» التى كفّته. وقد يقال فى الإعراب : طالما ـ أو : كثرما ـ أو : قلما ـ «كافة ومكفوفة» بمعنى : أن كل كلمة من الاثنتين كفّت الأخرى ، ومنعتها من العمل ، فهى كافة لغيرها ، ومكفوفة بغيرها.

وهناك رأى أفضل ؛ يعرب الفعل ماضيا ، ويعرب «ما» مصدرية ، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها فى محل رفع فاعل الفعل الماضى ؛ فالتقدير : طال إيفاؤك الوعد ـ وكثر حمدى لك الوفاء ـ وقلّ إخلاف النبيل وعده. وإنما كان هذا الرأى أفضل لأنه يوافق الأصل العام الذى يقضى بأن يكون لكل فعل أصلىّ فاعل ؛ فلا داعى لإخراج هذه الأفعال من نطاق ذلك الأصل (٣).

هذا ويقول اللغويون : إن تلك الأفعال ـ فى الرأى الأحسن الجدير بالاتباع ـ لا يليها إلا جملة فعلية ؛ كالأمثلة السابقة.

__________________

(١) تفصيل الكلام على زيادتها ، وفائدتها وإعرابها ... فى ج ١ ص ٤٢٨ المسألة : ٤٤.

(٢) تستعمل : «قلما» فى أغلب الأساليب لإثبات الشىء القليل ؛ كهذا المثال المذكور بعد. وقد تستعمل فى بعض الأساليب للنفى المحض ؛ فتكون حرفا نافيا ـ لا فعلا ـ مثل : «ما» النافية ، و «لا» النافية ؛ نحو : قلما يسلم السفيه من المكاره. أى : ما يسلم ... ولا بد فى استعمالها حرف نفى من وجود قرينة تدل على هذا. والأحسن ترك هذا الاستعمال القليل ـ بالرغم من جوازه ـ فرارا من اللبس.

(٣) ولأن العلة التى يذكرونها لكف الفعل فى مثل : «قلما» وعدم احتياجه للفاعل ـ وهى كما جاء فى المغنى ـ شبهه فى معناه للحرف : «رب» علة واهية.

وعلى اعتبار «ما» كافة ، يجب وصلها بالفعل الذى قبلها فى الكتابة ؛ فتشبك بآخره. أما على اعتبارها مصدرية فيجب فصلها فى الكتابة.


ثالثها ؛ وجوب تأخيره عن عامله ، كالأمثلة السالفة. وقد يوجد فى بعض الأساليب الفصحى ما يوهم أن الفاعل متقدم. والواقع أنه ليس بفاعل فى الرأى الأرجح ؛ ففى مثل : «الخير زاد» ، لا تعرب كلمة : «الخير» فاعلا مقدما ، وإنما هى مبتدأ. وفاعل الفعل بعده ضمير مستتر تقديره : «هو» يعود على الخير ، والجملة الفعلية خبر المبتدأ. وفى مثل : إن ملهوف استعان بك فعاونه ، تعرب كلمة : «ملهوف» فاعلا (١) بفعل محذوف يفسره الفعل بعدها ؛ والتقدير : إن استعان بك ملهوف ـ استعان بك ـ فعاونه. ومثله : إن أحد استغاث بك فأغثه ... وقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) فالفاعل لا يكون متقدما. أما الاسم المتقدم على الفعل فى تلك الأمثلة وأشباهها فقد يعرب حينا ، مبتدأ ، وفاعل الفعل الذى بعده ضمير مستتر يعود على ذلك الاسم ، وقد يعرب فى حالات أخرى فاعلا لفعل محذوف يفسره المذكور بعده (٢) ، أو غير هذا ...

رابعها : أن يتجرد عامله (فعلا كان ، أو شبه فعل) من علامة فى آخره تدل على التثنية أو على الجمع حين يكون الفاعل اسما ظاهرا مثنى أو جمعا ، نحو : طلع النّيران ـ أقبل المهنئون ـ برعت الفتيات فى الحرف المنزلية. فلا يصح فى الأمثلة السابقة وأشباهها أن يتصل بآخر الفعل ألف تثنية ، ولا واو جماعة ، ولا نون نسوة ؛ فلا يقال : طلعا النيران ـ أقبلوا المهنئون ـ برعن

__________________

(١) بيان السبب فى ص ١٤٠.

(٢) هذا رأى فريق كبير من النحاة ، وخاصة البصريين. ويرى غيرهم ـ ولا سيما الكوفيين ـ جواز تقدم الفاعل على عامله. وهم يعربون الاسم الظاهر المرفوع من الأمثلة المذكورة فاعلا.

وبالرغم من الميل للتيسير وتقليل الأقسام رأى البصريين هنا أقرب مسايرة للأصول اللغوية ؛ ذلك أن مهمة «المبتدأ» البلاغية تختلف عن مهمة «الفاعل» ؛ فلا معنى للخلط بينهما ، وإزالة الفوارق التى لها آثارها فى المعنى ـ كما سيجىء إيضاحه مفصلا فى مكانه المناسب من باب «الاشتغال» ص ١٤٠ ـ.

وفى الحكم الثانى والثالث يقول ابن مالك :

وبعد فعل فاعل ، فإن ظهر

فهو ، وإلّا فضمير استتر

أى : أن الفعل لا بد له ـ فى الأغلب ـ من فاعل بعده ، فإن ظهر فهو المطلوب ، ولا استتار ولا حذف وإلا فهو ضمير مستتر ... أو محذوف إن كان الموضع موضع حذفه.


الفتيات (١) ... إلا على لغة تزيد هذه الحروف مع وجود الفاعل الظاهر بعدها. وهى لغة فصيحة (٢) ، ولكنها لم تبلغ من درجة الشيوع والجرى على ألسنة الفصحاء ما بلغته الأولى التى يحسن الاكتفاء بها اليوم ، والاقتصار عليها ؛ إيثارا للأشهر ، وتوحيدا للبيان.

ومثل الفعل فى الحكم السابق ما يشبهه فى العمل ، فلا يقال فى اللغة الشائعة : هل المتكلمان غريبان؟ هل المتكلمون غريبون ، بإعراب كلمتى : «غريبان» و «غريبون» فاعلا للوصف ، ويجوز على اللغة الأخرى (٣).

__________________

(١) لا يقال هذا ولو كانت التثنية والجمع من طريق التفريق والعطف بالواو ؛ مثل : طلعا الشمس والقمر ... ـ حضروا محمود ، وصالح ، وحامد .. ـ تعلمن فاطمة ، ومية ، وبثينة ... (٢) لأن الوارد المسموع بها كثير فى ذاته ، وإن كان قليلا بالنسبة للوارد من اللغة الأخرى ولا معنى لما يتكلفه بعض النحاة من تأويل ذلك الوارد المشتمل على علامة التثنية أو الجمع مع وجود الفاعل الظاهر بعد تلك العلامة ؛ قاصدا بالتأويل إدخال تلك الأمثلة تحت حكم المنع الذى يمنع اجتماع الأمرين فى جملة فعلية واحدة ؛ فهذا خطأ منهم إذ المقرر أنه لا يصح إخضاع لغة قبيلة للغة أخرى ما دامت كلتاهما عربية صحيحة. ويستدل الذين يجيزون الجمع بين الأمرين بأمثلة كثيرة : منها قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ..) وقوله تعالى : (عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ.) بإعراب كلمة : «الذين» وكلمة «كثير» هى «الفاعل وواو حرف محض ؛ للدلالة على الجمع». وعليها قول الشاعر :

جاد بالأموال حتى

حسبوه الناس حمقا

وقول الآخر :

لو يرزقون الناس حسب عقولهم

ألفيت أكثر من ترى يتكفّف

ولا داعى لإعراب الواو فاعلا ، مع إعراب الاسم الظاهر بدلا أو غيره من ضروب التأويل.

(٣) لعل الأخذ باللغة الأخرى التى تزيد هذه الحروف أحسن فى حالة الوصف ؛ لأنه أيسر وأوضح ـ كما سبق أن قلنا فى باب المبتدأ والخبر عند الكلام على الوصف ـ ح ١ ص ٣٣٠ م ٣٤ ـ.

وفى الحكم الرابع يقول ابن مالك :

وجرّد الفعل إذا ما أسندا

لاثنين ، أو جمع ؛ كفاز الشّهدا

وقد يقال : سعدا وسعدوا

والفعل للظاهر بعد مسند

يقول : لا تلحق بآخر الفعل الذى فاعله مثنى أو جمع ـ علامة تثنية أو جمع. وساق مثلا لذلك : «فاز الشهداء» فالفاعل جمع تكسير للرجال ، وفعله مجرد من علامة جمع الرجال ؛ فلم يقل : فازوا ـ


خامسها : أن عامله قد يكون مضمرا (أى محذوف اللفظ) جوازا أو وجوبا : (ا) فيضمر العامل (أى : يحذف لفظه) جوازا حين يكون واقعا فى جواب استفهام ظاهر الأداة ، تشتمل جملته على نظير العامل المحذوف. نحو : من انتصر؟ فتجيب : الشجاع. أى : انتصر الشجاع ... ونحو : أحضر اليوم أحد؟ فتجيب : الضيف ، أى : حضر الضيف ...

أو واقعا فى جواب استفهام ضمنى مفهوم من السياق من غير تصريح بأداته ودلالته ؛ نحو : ظهر المصلح فاشتد الفرح به ... العلماء ـ القادة ـ الجنود ـ أى : فرح العلماء ـ فرح القادة ـ فرح الجنود ـ ... فكأن سائلا سأل : من فرح به؟ فكان الجواب : العلماء ... فالاستفهام غير صريح ، ولكنه مفهوم من مضمون الكلام. ومثل : ازدحم الطريق ؛ الأولاد ، السيارات ، الدراجات ... أى : زحمه الأولاد ، زحمته السيارات ... زحمته الدّرّاجات ... فليس فى الكلام استفهام صريح ، وإنما فيه استفهام ضمنىّ ، أو مقدر يفهم من السياق ؛ فكأن أصل الكلام : من زحمه؟ فأجيب : الأولاد ، أى : زحمه الأولاد ... ومثل : العيد بهجة مأمولة ، وفرحة مشتركة. الكبار ، الأطفال ، الرجال ، النساء ... ففى الكلام سؤال ضمنى أو مقدر ؛ هو : من يشترك فيها؟ فأجيب : الكبار ... أى : يشترك فيها الكبار ... ومثل : لم يدخل الحزن قلبك لموت فلان ... فتقول : بل أعظم الحزن. فكأن أصل الكلام : أهذا صحيح؟ فأجبت : أعظم الحزن ، أى : بل دخله أعظم الحزن ... وهكذا (١).

(ب) ويضمر العامل وجوبا حين يكون مفسّرا بما بعد فاعله من فعل آخر (أو ما يشبهه) يعمل مباشرة فى ضمير يعود على الفاعل الظاهر السابق ، أو : فى اسم مضاف إلى ضمير (٢) يعود على ذلك الفاعل ؛ نحو : إن ضعيف

__________________

ـ الشهداء. ثم عاد فقال : إنه قد يصح فى بعض اللغات زيادة علامة التثنية والجمع على اعتباره مجرد علامة حرفة ، وليست ضميرا فاعلا ؛ لأن الفاعل اسم ظاهر مذكور بعدها ، والفعل مسند له ؛ فنقول : سعدا الرجلان ، وسعدوا الرجال ...

(١) يجوز فى الأسماء التى أعربناها فاعلا لفعل محذوف إعرابات أخرى لغير ما نحن فيه.

(٢) هذا الاسم المضاف يسمى : «الملابس» للفاعل ، أى : الذى يجمعه به صلة أىّ صلة ؛ كقرابة ، أو صداقة ، أو عمل ، أو تملك ...


استنصرك فانصره ـ إن صديق حضر والده فأحسن استقباله. فالفعل : «استنصر» و «حضر» هو المفسّر للفعل المحذوف. وأصل الكلام : إن استنصرك ضعيف استنصرك ، وفاعل الفعل المفسّر ضمير مستتر تقديره : «هو» يعود على فاعل الفعل المحذوف. وكذلك فاعل الفعل : «حضر» فإنه مفسّر لفعل محذوف ، والتقدير : إن لابس صديق حضر والده فأحسن استقباله (١) ؛ فالضمير فى كلمة : «والده» مضاف إليه ، والمضاف هو كلمة : «الوالد» المعمولة للفعل المفسّر : «حضر». وفى هذين المثالين وأشباههما لا يجوز الجمع بين المفسّر والمفسّر ؛ لأن المفسّر هنا يدل على الأول ، ويغنى عنه ؛ فهو كالعوض ، ولا يجوز الجمع بين العوض والمعوض عنه (٢).

سادسها : أن يتصل بعامله علامة تأنيث تدل على تأنيثه (أى : على تأنيث الفاعل حين يكون مؤنثا ، هو ، أو نائبه) (٣) ، وزيادتها على الوجه الآتى :

(ا) إن كان العامل فعلا ماضيا لحقت آخره تاء التأنيث الساكنة (٤) ، مثل قول شوقى فى سكينة بنت الحسين بن علىّ ـ رضى الله عنهما ـ :

كانت سكينة تملأ الدّنيا ، وتهزأ بالرواة

روت الحديث ، وفسرت

آى الكتاب البينات

__________________

(١) سيجىء فى باب الاشتغال تفصيل المسألة ، وتوضيحها ، وسبب اختيارهم هذا الإعراب ـ ص ١٣٦ م ٦٩ و ١٤٠ ـ

(٢) وفى الحكم الخامس يقول ابن مالك :

ويرفع الفاعل فعل أضمرا

كمثل : زيد ، فى جواب : من قرا؟

يريد أن الفاعل قد يكون مرفوعا بفعل مضمر ، (أى : غير مذكور مع فاعله). وضرب لهذا مثالا هو : أن يسأل سائل : من قرأ؟ فيجاب : زيد. أى : قرأ زيد. واكتفى بهذا عن سرد التفصيل الخاص بهذا الحكم ، وقد ذكرنا.

(٣) وكذلك تدل على تأنيث اسم الناسخ إن كان العامل من النواسخ. وتمتنع التاء ، فى مواضع ستذكر فى «ج» من ص ٨٢

(٤) وفى هذا يقول ابن مالك :

وتاء تأنيث تلى الماضى إذا

كان لأنثى ؛ كأبت هند الأذى


(ب) إن كان العامل مضارعا فاعله المؤنث اسم ظاهر ، للمفردة ، أو لمثناها ، أو جمعها ، لحقت أوله تاء متحركة : مثل : تتعلم عائشة ، تتعلم العائشتان ـ تتعلم العائشات. وكذلك إن كان فاعله ضميرا متصلا للغائبة المفردة أو لمثناها (١) ، مثل : عائشة تتعلم (٢) ـ العائشتان تتعلمان. ومثل قولهم : عجبت للباغى كيف تهدأ نفسه ، وتنام عيناه ، وهو يعلم أن عين الله لا تنام؟ وكالمضارع «تملأ» و «تهزأ» فى البيت السالف.

فإن كان فاعله ضميرا متصلا لجمع الغائبات (أى : نون النسوة) فالأحسن ـ وليس بالواجب (٣) ـ تصديره بالياء ، لا بالتاء ؛ استغناء بنون النسوة فى آخره ؛ نحو : الوالدات يبذلن الطاقة فى حماية الأولاد ، ويسهرن الليالى فى رعايتهم.

(ج) إن كان العامل وصفا لحقت آخره تاء التأنيث المربوطة (٤) ؛ مثل : أساهرة والدة الطفل؟ ...

وحكم زيادة تاء التأنيث عام ينطبق على المواضع الثلاثة السالفة (ا ـ ب ـ ج) غير أن زيادتها قد تكون واجبة ، وقد تكون جائزة. فتجب فى حالتين :

الحالة الأولى : أن يكون الفاعل اسما ظاهرا ، حقيقى التأنيث (٥) ، متصلا

__________________

(١) أما تاء المخاطبة للمفردة ، ومثناها ، وجمعها ؛ فليست تاء تأنيث ؛ وإنما هى للدلالة على الخطاب لا على التأنيث ؛ نحو : أنت يازميلتى لا تعرفين العبث ـ أنتما يا زميلتىّ لا تعرفان العبث ـ أنتن يا زميلاتى لا تعرفن العبث.

(٢) الضمير المستتر نوع من المتصل ـ كما سبق فى ج ١ م ١٨ ص ١٩٨ باب الضمير. ـ

(٣) كما سبق تفصيل هذا فى باب الفعل (ح ١ م ٤ رقم ٢ من هامش ص ٤٦ عند الكلام على : «المضارع» وكذا فى «ج» ص ١٦٤ م ١٤ عند الكلام على الأفعال الخمسة).

(٤) انظر «ج» من ص ٨٢ حيث التكملة.

(٥) المؤنث أنواع اصطلاحية ، فمنه «المؤنث الحقيقى» ؛ وهو الذى يلد ويتناسل. وقد يكون تناسله من طريق البيض والتفريخ ؛ كالطيور. ومنه «المؤنث المجازى» ، وهو الذى لا يلد ولا يتناسل ولكنه يجرى فى أغلب استعمالاته اللفظية على حكم المؤنث الحقيقى ؛ فيؤنث له الفعل أحيانا ، وكذلك الصفة والخبر ... ومن أمثلته : شمس ، أرض ، سماء ... ومن الأنواع «المؤنث اللفظى» وهو الذى يشتمل لفظه على علامة تأنيث ؛ سواء أكان مؤنثا حقيقيا ، أم مجازيا ، أم دالا على مذكر ، فمن أمثلة المؤنث اللفظى والحقيقى معا : عائشة ـ فاطمة ـ ليلى ـ سعدى ـ نجلاء ، ومن أمثلة المؤنث اللفظى والمجازى معا : ورقة ، صحيفة ، صحراء ... ومن أمثلة المؤنث اللفظى ومعناه مذكر : طلحة ، معاوية ...

وهناك نوع من المؤنث يسمونه «المؤنث المعنوى» فقط وهو : ما كان دالا على مؤنث مطلقا ، مع ـ


بعامله مباشرة ، غير مراد منه الجنس ، وغير جمع (١) ـ وما يجرى مجراه ـ كقولهم : سعدت امرأة عرفت ربها حق المعرفة ؛ فأطاعته. وشقيت امرأة لم تراقبه فى السّرّ والعلن. ويلاحظ التفصيل الآتى :

١ ـ إن كان الفاعل اسما ظاهرا مؤنثا حقيقيّا ولكنه مفصول من عامله بفاصل جاز تأنيث العامل وعدم تأنيثه (٢) ؛ نحو : نسّق الزهر مهندسة بارعة. أو نسّقت ... ومثل : ما صاح إلا طفلة صغيرة ، أو : صاحت ، وعدم التأنيث هو الأفصح حين يكون الفاصل كلمة ... «إلا» (٣) والأفصح مع غيرها التأنيث (٤).

__________________

ـ خلو لفظه من علامة تأنيث.

ونوع آخر يسمونه : «المؤنث تأويلا» ؛ كالكتاب ، مرادا به : الصحيفة ، وكاللسان ، مرادا به الرسالة.

ونوع آخر ؛ يقال له : «المؤنث حكما» وهو المذكر المضاف لمؤنث ؛ نحو كلمة : «كل» فى قوله تعالى :

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ونحو كلمة : «صدر» فى قول الشاعر :

«وتحطمت صدر القناة على العدا.» فكلمة : «كل» مذكرة ، وكذا كلمة : «صدر». ولكنهما فى المثالين مؤنثتين ؛ فقد اكتسبتا التأنيث من المضاف إليه ؛ وأنث الفعل لتأنيهما. وهذا النوع ـ وكذا التأويل ـ مع جواز استعماله وصحة محاكاته يقتضينا أن نقتصد فى استعماله ؛ منعا للشبهة اللغوية ، وحيرة السامع والقارئ. فإن خيف اللبس باستعماله وجب العدول عنه ، نزولا على الصالح اللغوى.

وليس من اللازم أن توجد علامة لفظية للتأنيث فى المؤنث الحقيقى ، أو المجازى ؛ فقد توجد كالأمثلة السابقة ، أو لا توجد مثل : زينب ، سعاد ، مى .. ومثل : عين ، أذن ، يد ... (وفى الجزء الرابع ـ ص ٤٣٧ م ١٦٩ ـ الباب الشامل الخاص بالأنيث ، وأقسامه المتعددة ، وعلاماته ، وأحكامه المختلفة). وقد أشار ابن مالك إلى حالتى الوجوب بقوله :

وإنما تلزم فعل مضمر

متّصل. أو مفهم ذات حر

يريد : أن علامة التأنيث تكون لازمة فى الفعل الذى فاعله ضمير متصل ـ مستتر ، أو بارز ـ يعود على مؤنث مطلقا. وكذلك فى الفعل الذى فاعله اسم ظاهر متصل به ما يفهم ويدل على مؤنثة حقيقية ...

(١) بأن يكون مفردا ، أو مثنى ؛ لأن للجموع حكما سيجىء هنا.

(٢) سواء أكان الفاصل ضميرا كالذى فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ ...) أم غير ضمير كالأمثلة التى ستجىء.

(٣) أو : غير ، أو سوى ... مع ملاحظة أن كلمة : «غير» أو : «سوى» هى التى تعرب فاعلا ولكنها مضافة إلى المؤنث.

(٤) وفى هذا يقول ابن مالك :

وقد يبيح الفصل ترك التّاء فى

نحو : أتى القاضى بنت الواقف ـ


٢ ـ وكذلك يصح الأمران إن كان للفاعل ظاهرا ، ومؤنثا حقيقيّا غير مفصول ، ولكن لا يراد به فرد معين ، وإنما يراد به الجنس كله ممثلا فى الفاعل ، فكأن الفاعل رمز لجنس معناه ، أو مراد به ذلك الجنس كله. ومنه «الفاعل» الذى فعله : «نعم» أو «بئس» أو أخواتهما (١). فيجوز إثبات علامة التأنيث وحذفها. نحو : نعم الأمّ ، ترعى أولادها ، وتشرف على شئون بيتها ... فكلمة «الأم» هنا لا يراد بها واحدة معينة ، وإنما يرمز بها إلى جنس الأم من غير تحديد ولا تخصيص. وهذا على اعتبار «أل» جنسية (٢) ؛ فيجوز أن يقال : نعم الأم ، ونعمت الأم (٣).

٣ ـ وكذلك إن كان الفاعل ظاهرا ولكنه جمع تكسير للإناث أو الذكور فيصح تأنيث العامل ، وعدم تأنيثه ؛ نحو : عرفت الفواطم طريق السداد ،

__________________

ـ يريد : أن الفصل بين الفعل وفاعله الظاهر المؤنث الحقيقى الذى وصفناه ـ يبيح تجريد الفعل من علامة التأنيث ، وضرب لذلك مثلا هو : أتى ـ القاضى ـ بنت الواقف. ويصح أنت القاضى ...

ولو لا الفصل لوجب تأنيث الفعل. ثم قال :

والحذف مع فصل بإلّا فضّلا

كما زكا إلّا فتاة ابن العلا

وفى رأى ابن مالك أن عدم التأنيث مفضل على التأنيث حين يكون الفاصل كلمة : «إلا» مثل : ما زكا إلا فتاة ابن العلا ؛ أى : ما صلحت إلا فتاة الرجل المعروف بابن العلا. ثم قال :

والحذف قد يأتى بلا فصل ، ومع

ضمير ذى المجاز فى شعر وقع

أى : أن العامل الذى فاعله مؤنث ظاهر حقيقى قد يتجرد من علامة التأنيث مع عدم وجود فاصل ؛ نحو : قال فتاة. وكذلك قد تحذف علامة التأنيث من العامل الذى فاعله ضمير متصل ـ مستتر ، أو بارز : ـ يعود على مؤنث مجازى (ذى مجاز ، أى : صاحب مجاز) نحو الأرض اهتز بالأمس اهتزازا شديدا ، ثم انشق بعد ذلك وهذا الحذف شاذ لا يصح محاكاته ، ولا القياس عليه.

(١) فى الجزء الثالث باب خاص بهما ، وبألفاظ المدح والذم الأخرى.

(٢) وليست للعهد. ومقتضى ذلك ـ كما قالوا ، ونصوا على أنه لا بعد فيه ـ جواز الأمرين فى مؤنث قصد به الجنس ؛ نحو : صار المرأة متعلمة كالرجل. ومثل هذا : ما قام من امرأة ؛ فيصح زيادة تاء التأنيث وعدم زيادتها ؛ لأن «من» أفادت الجنسية بخلاف ما قامت امرأة ؛ لكون المراد بها الفرد وإنما جاء العموم من النفى ...

(٣) ليس من اللازم فى هذه الصورة أن يكون الفاعل ظاهرا ، فقد يكون ضميرا مفسرا بنكرة بعده ، نحو : نعم فتاة عائشة؟


واتبعت الهنود سبل الرشاد. ويصح : عرف .. واتّبع ... ؛ فالتأنيث على قصد تأويل الفاعل بالجماعة ، أو الفئة ، ... وعدم التأنيث على قصد تأويله بالجمع أو الفريق ؛ فكأنك فى الحالة الأولى تقول : عرفت جماعة الفواطم طريق السّداد ، واتبعت جماعة الهنود سبل الرشاد. وكأنك فى الحالة الثانية تقول : عرف جمع الفواطم (١) ... واتبع جمع الهنود (٢) ... فالتأنيث ملاحظ فيه معنى «الجماعة» والتذكير ملاحظ فيه معنى «الجمع». وكأن العامل مسند إلى هذه أو تلك ؛ ويجرى التأنيث أو التذكير على أحد الاعتبارين.

ومثل قولهم : إذا دعا البدوى استجاب سكان الحى لدعوته ؛ فأسرع الرجال إليه ، وبادر الفتيان لنجدته ... ويجوز : استجابت ـ أسرعت ـ بادرت ؛ فيجرى التأنيث أو التذكير هنا ـ كما فى سابقتها ـ على أحد الاعتبارين.

ويجرى على اسم الجمع (٣) واسم الجنس الجمعى (٤) المعرب (٥) ، ما يجرى على جمع التكسير ؛ نحو : قالت طائفة لا تسالموا العدوّ. ونحو : شربت البقر ... ويجوز : «قال ، وشرب» (٦) ...

__________________

(١ ـ ١) وإنما صح حذف التاء من الفعل مع أن فاعله اسم ظاهر حقيقى التأنيث لأن تأويله بمعنى «الجمع» جعله بمنزلة المذكر مجازا ؛ فأزال المجازى الطارئ ما كان يلاحظ لأجل التأنيث الحقيقى كما أزال التذكير الحقيقى فى «رجال» فى الصورة التالية.

(٢) هو ما يدل على ما يدل عليه الجمع ، ولكن ليس له مفرد من لفظه ، مثل : قوم ـ رهط ـ طائفة ...

(٣) سبق تعريفه وكل ما يتصل به فى ج ١ م ١ ص ٢٠.

(٤) بخلاف المبنى مثل : «الذين» فى رأى من يعتبرها اسم جنس جمعيا (وانظر «ا» فى ص ٨٢ حيث تتمة الحكم الخاص بعامل اسم الجنس الجمعى).

(٥) وفى جمع التكسير وفى فاعل «نعم» وأخواتها (وهى التى سبق الكلام عليها قبل جمع التكسير) يقول ابن مالك :

والتّاء مع جمع سوى السّالم من

مذكّر كالتّاء مع إحدى اللّبن

أى : تاء التأنيث التى تزاد فى العامل للدلالة على تأنيث الفاعل ـ حكمها من ناحية وجودها أو الاستغناء عنها ، كحكمها فى العامل الذى يكون فاعله هو كلمة : «اللبن» (بمعنى : الطوب الذى لم يطبخ بالنار ولم يدخلها) حيث يقال : تكاثر اللّبن. أو تكاثرت اللبن ؛ بزيادة تاء التأنيث أو بحذفها فكذلك ـ


٤ ـ وإن كان الفاعل الظاهر جمع مؤنث سالما ـ مستوفيا للشروط (١) ـ فحكمه كحكم مفرده ؛ فيجب تأنيث عامله ـ فى الرأى الأقوى ـ كقولهم : بلغت الأعرابيات فى قوة البيان وبلاغة القول مبلغ الرجال ، وكانت الشاعرات تجيد القريض كالشعراء ، وربما سبقت شاعرة كثيرا من الفحول ...

فإن لم يكن مستوفيا للشروط جاز الأمران ؛ نحو : أعلنت الطلحات السفر ، أو أعلن ... (جمع : طلحة ، اسم رجل) ؛ وكقول بعض المؤرخين : (لما تمت «أذرعات» (٢) بناء وعمرانا هيأ واليها طعاما للفقراء ، ونظر فإذا جمع من النساء مقبل ؛ فقال : الحمد لله ، أقبل أولات الفضل ممن عملن بأنفسهن ، وساعدن بأولادهن ؛ ابتغاء مرضاة الله ...) فيصح فى الفعلين : «تمّ ...» ـ «أقبل ...» زيادة تاء التأنيث فى آخرهما ، أو عدم زيادتها.

وبديه أن الفاعل إذا كان جمع مذكر سالما مستوفيا للشروط ، لا يجوز ـ فى الرأى الأصح ـ تأنيث عامله ؛ وإنما يحكم له بحكم مفرده ؛ كقولهم : «أسرع المحاربون إلى لقاء العدو ، فرحين ، ولم يتزحزح الواقفون فى الصفوف الأمامية ، ولم يتقهقر الواقفون فى الصفوف الخلفية ؛ حتى كتب الله لهم النصر ، وفاز المخلصون بما يبتغون».

فإن كان غير مستوف للشروط (٣) جاز الأمران على الاعتبارين السالفين ـ (معنى الجمع أو : معنى الجماعة) نحو : أظهر أولو العلم فى السنوات الأخيرة عجائب ؛ لم يشهد الأرضون مثلها من بدء الخليقة ، وشاهد العالمون من آثار العبقرية ما جعلهم يرفعون العلم والعلماء إلى أعلى الدرجات ... ؛ فيصح فى الأفعال

__________________

ـ الشأن فى كل جمع سوى جمع المذكر السالم المستوفى للشروط ـ وجمع المؤنث السالم المستوفى أيضا ـ فلم يبق جمع سواهما إلا جمع التكسير ، فكأنه يريد أن يقول : إذا كان الفاعل جمع تكسير جاز فى عامله التأنيث ؛ نحو : قام الرجال ، وقامت الرجال ، على نحو ما شرحناه. ثم قال :

والحذف فى «نعم الفتاة» استحسنوا

لأنّ قصد الجنس فيه بيّن

(١) سبقت شروطه فى ج ١ ص ١٠٠ المسألة ١٢.

(٢) اسم بلد بالشام.

(٣) ومن هذا أن يدخل على صيغة المفرد عند الجمع تغيير ـ أىّ تغيير ـ فى عدد الحروف ، أو فى ضبطها.


المذكورة عدم إلحاق علامة التأنيث بها كما هنا ، أو زيادتها فيقال : أظهرت ـ ـ تشهد ـ شاهدت ...

٥ ـ وإن كان الفاعل الظاهر مؤنثا غير حقيقىّ (وهو المجازىّ) صح تأنيث عامله وعدم تأنيثه ؛ نحو : امتلأت الحديقة بالأزهار ـ تمتلئ الحديقة بالأزهار. ويصح : امتلأ ، ويمتلئ.

٦ ـ هناك صور للفاعل المؤنث الحقيقى لا يصح أن يؤنث فيها عامله ، منها : أن يكون الفاعل هو التاء التى للمفردة ؛ مثل : كتبت ـ أو لمثناها ؛ نحو كتبتما ، أو التى معها نون النسوة ؛ مثل كتبتن (١) ... أو يكون الفاعل هو : «نا» التى لجماعة المتكلمات ؛ نحو : كتبنا. أو نون النسوة ؛ نحو كتبن ...

ومنها : أن يكون الفاعل المؤنث الحقيقى مجرورا فى اللفظ بالباء التى هى حرف جرّ زائد ، وفعله هو : كلمة : «كفى» مثل : «كفى بهند شاعرة (٢)».

* * *

الحالة الثانية (٣) : أن يكون الفاعل ضميرا متصلا عائدا على مؤنث مجازىّ ، أو حقيقى ؛ كقولهم : بلادك أحسنت إليك طفلا ، وأفاءت عليك الخير يافعا ؛ فمن حقها أن تسترد جزاءها منك شابّا وكهلا. وكقولهم : الأم المتعلمة تحسن رعاية أبنائها ؛ فترفع شأن بلادها ... (٤) ففاعل الأفعال (وهى : أحسن ـ أفاء ـ تسترد ...) ضمير مستتر تقديره : «هى» ، يعود على مؤنث مجازىّ ، وأما فاعل

__________________

(١) طريقة إعراب هذا الضمير ونظائره موضحة تفصيلا فى موضعها الأنسب وهو «كيفية إعراب الضمير» ج ١ م ١٩ ص ٢١٣.

(٢) نص النحاة على أن يكون الفعل هو : «كفى» الذى يكون فاعله مجرورا بحرف الباء الزائدة. ويفهم من هذا أن غيره من الأفعال التى فاعلها مجرور بحرف جر زائد ـ قد يتصل به علامة تدل على تأنيث ذلك الفاعل. بل إنهم ذكروا أمثلة للتأنيث بمناسبة عارضة فى باب النائب عن الفاعل ومن تلك الأمثلة قوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ...) وقوله : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها ...) وقوله : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى ....)

(٣) سبقت الأولى من حالتى وجوب التأنيث فى ص ٧٥.

(٤) «ملاحظة» : التأنيث فى صور الحالة الثانية واجب ولو عطف على الفاعل مذكر ؛ نحو : البنت قامت ـ هى ـ والوالد ؛ كوجوبه فى نحو : قامت البنت والوالد. كما يلزم التذكير فى عكسه ؛ نحو : قام الوالد والبنت. أما قولهم : «يغلب المذكر على المؤنث عند الاجتماع فخاص بنحو : البنت والوالد قائمان.


الفعلين : (تحسن ـ ترفع ...) فضمير مستتر تقديره : «هى» يعود على مؤنث حقيقى ...

فإن كان الفاعل ضميرا بارزا منفصلا كان الأفصح الشائع فى الأساليب العالية عدم تأنيث عامله : نحو : (ما فاز إلا أنت يا فتاة الحىّ) ـ (الفتاة ما فاز إلا هى) ـ (إنما فاز أنت ـ إنما فاز هى) ، و... وأشباه هذه الصّور مما يقال عند إرادة الحصر. ومع أن التأنيث جائز فإن الفصحاء يفرون منه.


زيادة وتفصيل :

(ا) اسم الجنس الجمعىّ الذى يفرق بينه وبين واحده بالتاء المربوطة ـ إذا وقع مفرده هذا فاعلا وجب تأنيث عامله مطلقا ؛ (أى : سواء أكان من الممكن تمييز مذكره من مؤنثه ، كبقرة وشاة ، أم لم يمكن ؛ كنملة ودودة) ؛ فيقال : سارت بقرة ـ أكلت شاة ـ دأبت نملة على العمل ـ ماتت دودة.

أما اسم الجنس المفرد الخالى من التاء الذى لا يمكن تمييز مذكره من مؤنثه فيجب تذكير عامله ، ولو أريد به مؤنث ؛ مثل : صاح هدهد ـ غرد بلبل ، ... فإن أمكن تمييز مذكره من مؤنثه روعى فى تأنيث العامل وعدم تأنيثه ما يدل عليه التمييز. فالمعول عليه فى تأنيث عامل اسم الجنس المفرد الخالى من التاء ، أو عدم تأنيثه ـ هو مراعاة اللفظ عند عدم التمييز.

(ب) إذا كان الفاعل جمعا يجوز فى عامله التذكير والتأنيث (كجمع التكسير) فإن الضمير الغائد على ذلك الفاعل يجوز فيه أيضا التذكير والتأنيث ؛ نحو : قامت الرجال كلهم ـ أو قام الرجال كلها ... والأحسن لدى البلغاء موافقة الضمير للعامل فى التذكير وعدمه ؛ نحو : قامت الرجال كلها ، أو قام الرجال كلهم ، ونحو : حضرت الأبطال كلها ، أو : حضر الأبطال كلهم ، وذلك ليسير الكلام على نسق متماثل.

(ح) كما تلحق تاء التأنيث الفعل فى المواضع السابقة تلحق أيضا الوصف ـ كما سبق (١) ـ إلا إذا كان الوصف مما يغلب عليه ألّا تلحقه التاء ؛ مثل : «فعول» ، بمعنى : «فاعل» ؛ كصبور ، وجحود ... ومثل : «فعيل» بمعنى : مفعول ؛ كطريح وطريد ، بمعنى : مطروح ، ومطرود (٢). ومثل : التفضيل (٣) فى بعض صوره. وكذلك لا تلحق آخر اسم الفعل (٤) ؛ كهيهات. ولا العامل إذا كان

__________________

(١) فى «ج» من ص ٧٥

(٢) بيان هذا وتفصيله فى الباب الخاص بالتأنيث ج ٤ م ١٦٩ ص ٤٣٧.

(٣) له باب مستقل فى ج ٣ م ١١٢ ص ٣٢٢.

(٤) له باب مستقل فى ج ٤ م ١٤١ ص ١٠٨.


شبه جملة على الرأى الذى يجعل شبه الجملة رافعا فاعلا بشروط اشترطها. وهو رأى يحسن إغفاله اليوم.

(د) إذا قصد لفظ كلمة ما ؛ (اسما كانت ، أو فعلا ، أو حرفا) جاز اعتبارها مذكرة على نية : «لفظ» أو مؤنثة على نية : «كلمة». وكذلك حروف الهجاء فى الرأى الأشهر ؛ تقول فى كلمة سمعتها مثل : «هواء» أعجبنى الهواء ، أو : أعجبتنى الهواء. فالأولى على إرادة : أعجبنى لفظ : «الهواء» والثانية على إرادة : أعجبتنى كلمة : «الهواء». وتقول فى إعراب : «أعجب» إنه فعل ماض ، أو إنها فعل ماض ...

وتقول «أل» هو : حرف يفيد التعريف أحيانا. أو : هى حرف تفيد التعريف أحيانا. وهكذا ...

وتنظر للحرف الهجائى «الميم» مثلا فتقول : إنه جميل المنظر ، أو إنها جميلة المنظر ... وعلى حسب التذكير أو التأنيث فى كل ما سبق ، يذكر أو يؤنث العامل والضمائر وغيرها.

(ه) الأحكام الخاصة بالتذكير والتأنيث المترتبين على وقوع الفاعل مفردا مؤنثا. تطبّق أيضا حين وقوعه مثنى مؤنثا ، فيجرى على عامل الفاعل المؤنث المثنى. وعلى الضمائر العائدة عليه من التذكير والتأنيث ، ما يجرى عليهما مع الفاعل المفرد المؤنث ـ كما يفهم مما سبق ـ.


سابعها : أن يتقدم ـ أحيانا ـ على المفعول به ؛ كالأمثلة السابقة ، وكقول الشاعر:

وإذا أراد الله أمرا لم تجد

لقضائه ردّا ولا تحويلا

ولهذا التقدم أحوال ثلاث ؛ فقد يكون واجبا ، وقد يكون ممنوعا ، وقد يكون جائزا.

(ا) فيجب الترتيب بتقديم الفاعل وتأخير مفعوله فى مواضع ، أشهرها :

١ ـ خوف اللّبس الذى لا يمكن معه تمييز الفاعل من المفعول به ؛ كأن يكون كل منهما اسما مقصورا ؛ نحو : ساعد عيسى يحيى. أو مضافا لياء المتكلم ؛ نحو : كرّم صديقى أبى (١). فلو تقدم المفعول به على الفاعل لخفيت حقيقة كل منهما. وفسد المراد بسبب خفائها ؛ لعدم وجود قرينة تزيل هذا الغموض (٢) واللبس. فإن وجدت قرينة لفظية أو معنوية تزيله لم يكن الترتيب واجبا. فمثال اللفظية : أكرمت يحيى سعدى ، فوجود تاء التأنيث فى الفعل دليل على أن الفاعل هو المؤنث (سعدى) ، ومثل : كلّم فتاه يحيى ؛ لأن عودة الضمير على «يحيى» دليل على أنه الفاعل ، وأنه متقدم فى الرتبة (٣) ، برغم تأخره فى اللفظ. (ولهذا يسمّى المتقدم خ خ حكما). ولم يكن مفعولا به لكيلا يعود الضمير على شىء متأخر فى اللفظ والرتبة ؛ وهذا أمر لا يساير الأساليب الصحيحة التى تقضى بأن الضمير لا بد أن يعود على متقدم فى الرتبة ، إلا فى بعض مواضع (٤) معينة ، ليس منها هذا الموضع.

ومثال المعنوية : أتعبت نعمى الحمّى. فالمعنى يقتضى أن تكون «الحمّى» هى الفاعل ؛ لأنها هى التى تتعب «نعمى» ، لا العكس.

٢ ـ أن يكون الفاعل ضميرا متصلا والمفعول به اسما ظاهرا ؛ نحو : أتقنت العمل ، وأحكمت أمره. ولا مانع فى مثل هذه الصورة من تقدم المفعول به على

__________________

(١) يقع اللبس فى صور كثيرة ؛ فيشمل كل الأسماء التى يقدر على آخرها الإعراب ، كالمقصور ، وكالمضاف إلى ياء المتكلم ، وكالأسماء التى تعرب إعرابا محليا ، ومنها «المبنيات» ؛ كأسماء الإشارة ، وأسماء الموصول ...

(٢) لا التفات لما يقال من أن مخالفة الترتيب جائزة مع اللبس ، فهذا كلام لا يساير الأصول اللغوية العامة ، ولا يوافق القصد من التفاهم الصريح بالكلام.

(٣) بيان الرتبة والدرجة ملخص فى رقم ٤ من هامش ص ٨٥

(٤) سبقت فى باب الضمير ج ١ ص ١٨٤. م ٢٠.


الفعل والفاعل معا ؛ لأن الممنوع أن يتقدم على الفاعل وحده ، فيتوسط بينه وبين الفعل.

٣ ـ أن يكون كل منهما ضميرا متصلا ولا حصر (١) فى أحدهما ؛ نحو عاونتك كما عاونتنى.

٤ ـ أن يكون المفعول به قد وقع عليه الحصر. (والغالب أن تكون أداة الحصر هى : «إنّما» أو «إلا» المسبوقة بالنفى) ، نحو : إنما يفيد الدواء المريض ، أو : ما أفاد الدواء إلا المريض.

وقد يجوز تقديم المفعول به على فاعله إذا كان المفعول محصورا بإلا المسبوقة بالنفى ، بشرط أن تتقدم معه «إلا» ؛ نحو : ما أفاد ـ إلا المريض ـ الدواء (٢). ومع جواز هذا التقديم لا يميل أهل المقدرة البلاغية إلى اصطناعه ؛ لمخالفته الشائع بين كبار الأدباء.

(ب) ويجب إهمال الترتيب ، وتقديم المفعول به على الفاعل فيما يأتى :

١ ـ أن يكون الفاعل مشتملا على ضمير يعود على ذلك المفعول به ، نحو : صان الثوب لابسه ـ قرأ الكتاب صاحبه. ففى الفاعل (وهو : لابس ـ صاحب) ضمير يعود على المفعول به السابق (٣). فلو تأخر المفعول به لعاد ذلك الضمير على متأخر لفظا ورتبة (٤) ؛ وهو مرفوض فى هذا الموضع. أما عوده على المتأخر لفظا

__________________

(١) سبق فى الجزء الأول ـ ص ٣٦٤ م ٣٧ ـ الإشارة إلى معنى الحصر (القصر) والغرض منه .. (٢) لما كان المحصور بإلا هو الواقع بعدها مباشرة كان تقدمه معها لا لبس فيه ؛ لأن وجودها قبله مباشرة يدل على أنه المحصور بغير غموض. أما المحصور «بإنما» فإنه المتأخر عنها ، الذى لا يليها مباشرة. فإذا تقدم ضاع ـ فى بعض الحالات ـ الغرض البلاغى من الحصر ، ولا قرينة فى الجملة تدل على التقديم وموضعه. فيقع اللبس الذى يفسد الغرض.

(٣) يتساوى فى هذا الحكم اتصال الضمير بالفاعل مباشرة ، ـ كالمثالين المذكورين ـ واتصاله بشىء ملازم للفاعل ، لا يمكن أن يستغنى عنه الفاعل ، كصلة الموصول إذا كان الفاعل اسم موصول كالذى فى قول الشاعر :

سموت فأدركت العلاء وإنما

يلقّى عليّات العلا من سما لها

ففى الصلة : (سما لها) ضمير يعود على المفعول به ، (وهو : عليات) فوجب تقدمه لهذا.

(٤) شرحنا (فى باب الضمير ج ١ ص ١٨٢) معنى التقدم فى اللفظ مع التقدم فى الرتبة ، ومعنى التقدم فى اللفظ دون الرتبة. وملخصه : أن بناء الجملة العربية قائم على ترتيب يجب مراعاته بين كلماتها ؛ ـ


دون رتبة ـ وهو المسمى بالمتقدم حكما ـ فجائز. ومن أمثلته : عود الضمير من مفعول به متقدم على فاعله المتأخر ؛ نحو ؛ حملت ثمارها الشجرة ـ فالضمير «ها» فى المفعول عائد على «الشجرة» التى هى الفاعل المتأخر فى اللفظ ، دون الرتبة ؛ لأن ترتيب الفاعل فى تكوين الجملة العربية يسبق المفعول به. ونحو : أفادت صاحبها الرياضة ـ أروى حقله الزارع ... أما عودة الضمير على المتأخر لفظا ورتبة فكما عرفنا ـ ممنوعة إلا فى بعض مواضع محددة. وقد وردت أمثلة قديمة عاد الضمير فيها على متأخر لفظا ورتبة فى غير تلك المواضع ؛ فحكم عليها بالشذوذ وبعدم صحة محاكاتها ، إلا فى الضرورة الشعرية ، بشرط وضوح المعنى ، وتمييز الفاعل من المفعول به ؛ فمن الخطأ أن نقول : أطاع ولدها الأمّ ـ أرضى ابنه أباه.

٢ ـ أن يكون الفاعل قد وقع عليه الحصر (بأداة يغلب أن تكون «إلا» المسبوقة بالنفى ، أو «إنما»). نحو : لا ينفع المرء إلا العمل الحميد ـ إنما ينفع المرء العمل الحميد. وقد يجوز تقديم المحصور «بإلا» على مفعوله إذا هى تقدمت معه وسبقته ؛ نحو : لا ينفع إلا العمل الحميد المرء ...

«ملاحظة» : ستأتى (١) مواضع يجب أن يتقدم فيها المفعول به على عامله ، فيكون متقدما على فاعله تبعا لذلك.

(ح) فى غير ما سبق (فى : ا ، ب) يجوز الترتيب وعدمه. ومن أمثلة تقديم الفاعل على المفعول جوازا قول الشاعر :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

__________________

ـ فتتقدم واحدة على الأخرى وجوبا أو جوازا ؛ فإن كان تقدم اللفظ واجبا بحسب الأصل الغالب عليه سمى تقدما فى الرتبة ، أو فى الدرجة ، فالأصل فى المبتدأ وجوب تقدمه على الخبر ، والأصل فى الفعل وجوب تقدمه على فاعله ومفعوله ، والأصل فى الفاعل أن يتقدم على المفعول ... فإذا تحقق هذا الأصل ووضع كل لفظ فى مكانه وفى درجته قيل إنه متقدم فى اللفظ وفى الرتبة ؛ كالمبتدأ حين يتقدم على خبره ، وكالفاعل حين يتقدم على مفعوله. فإذا تأخر المبتدأ عن خبره ، أو الفاعل عن مفعوله ، لم يفقد درجته ، ولم تزل عنه رتبته ، برغم تأخره اللفظى ؛ فيقال عنه : إنه متأخر لفظا لا رتبة ...

وهناك مواضع يجوز فيها عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة شرحناها ـ كما قلنا ـ فى مكانها الأنسب لها ، وهو باب الضمير ج ١ ص ١٧٤ م ٢٠ برغم أن بعض المطولات النحوية تذكرها فى آخر باب الفاعل لمناسبة طارئة.

(١) فى الصفحة التالية


ومن أمثلة تقديم المفعول به على فاعله وحده : الجهل لا يلد الضياء ظلامه ... وقول الشاعر :

أبت لى حمل الضّيم نفس أبية

وقلب إذا سيم الأذى شبّ وقده (١)

ويفهم من الأقسام السالفة أن المواضع التى يتقدم فيها الفاعل وجوبا ـ هى عينها المواضع التى يتأخر فيها المفعول به وجوبا ، فيمتنع تقديمه على فاعله. والعكس صحيح كذلك ؛ فالمواضع التى يتقدم فيها المفعول به على فاعله وجوبا هى عينها المواضع التى يتأخر فيها الفاعل وجوبا ، ويمتنع تقديمه عليه. وحيث لا وجوب فى التقديم أو التأخير يجوز الأمران ، ولا يمتنع تقديم هذا أو ذاك.

* * *

بقيت مسألة الترتيب بينهما وبين عاملهما. وملخص القول فيها : أنّ الفاعل لا يجوز تقديمه على عامله ـ كما سبق (٢) ـ وأن المفعول به يجب تقديمه على عامله فى صور (٣) ، ويمتنع فى أخرى ؛ ويجوز فى غيرهما.

ـ ا ـ فيجب تقديمه :

١ ـ إن كان اسما له الصدارة فى جملته ؛ كأن يكون اسم استفهام ، أو اسم شرط .. ؛ نحو ؛ من قابلت؟ ـ أىّ نبيل تكرّم أكرّم ... وكذلك إن كان مضافا لاسم له الصدارة ؛ نحو : صديق من قابلت؟ ـ صاحب أىّ نبيل تكرّم أكرّم ...

٢ ـ كذلك يجب تقديمه إن كان ضميرا منفصلا لو تأخر عن عامله لوجب اتصاله (٤) به ؛ كقولهم : «أيها الأحرار : إياكم نخاطب ، وإياكم ترقب البلاد ...» فلو تأخر المفعول به : (إيا) لاتّصل بالفعل ، وصار الكلام : نخاطبكم ... ترقبكم .. ؛ فيضيع الغرض البلاغى من التقديم (وهو : الحصر).

٣ ـ وكذلك يجب تقديمه إذا كان عامله مقرونا بفاء الجزاء (٥) فى جواب

__________________

(١) ناره.

(٢) فى ص ٧١

(٣) وفى هذه الصور يكون متقدما على فاعله أيضا ـ كما أشرنا ـ ؛ إذ لا يمكن أن يتقدم على عامله دون أن يتقدم على فاعله.

(٤) وذلك فى غير باب : «سلنيه» و «خلتنيه» حيث يجوز الاتصال والانفصال مع تأخر المفعول به عن عامله ؛ (كما تقدم فى ج ١ ص ١٧٢ باب الضمير. م ٢٠).

(٥) فى هذا الموضع يصح أن يعمل ما بعد فاء الجزاء فيما قبلها.


«أمّا» الشرطية الظاهرة أو المقدرة ، ولا اسم يفصل بين هذا العامل وأما. فيجب تقديم المفعول به ليكون فاصلا ، لأن الفعل ـ وخاصة المقرون بفاء الجزاء ـ لا يلى «أمّا» الشرطية (١). ومن الأمثلة قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ ، فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ،) وقوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ...)(٢) بخلاف : أما اليوم فساعد نفسك ، حيث لا يجب تقديم المفعول به ، لوجود الفاصل ؛ وهو هنا : الظرف (٣).

ب ـ ويمتنع تقديم المفعول به على عامله فى الصور الآتية (٤) : (وقد سبقت الإشارة لبعضها).

١ ـ جميع الصور التى يمتنع فيها تقدمه على فاعله ، وقد سبقت (٥) ؛ (ومنها أن يكون تقدمه موقعا فى لبس ، نحو : ساعد يحيى عيسى. فلو تقدم المفعول به ـ من غير قرينة ـ لالتبس بالمبتدأ ، ومهمة المبتدأ المعنوية تخالف مهمة الفاعل. وكذلك بقية الصور الأخرى) ما عدا الثانية ؛ فيجوز فيها الأمران.

٢ ـ أن يكون مفعولا لفعل التعجب «أفعل» فى مثل : ما أعجب قدرة الله التى خلقت هذا الكون.

٣ ـ أن يكون محصورا بأداة حصر ؛ هى : «إلا» المسبوقة بالنفى ، أو «إنما» نحو : لا يقول الشريف إلا الصدق ـ إنما يقول الشريف الصدق.

٤ ـ أن يكون مصدرا مؤولا من «أنّ المشددة أو المخففة» مع معموليها ؛ نحو : عرف الناس أنّ الكواكب تفوق الحصر ، وأيقن العلماء أن بعض منها قريب الشبه بالأرض. إلا إن كانت «أنّ» مع معموليها مسبوقة بأداة الشرط :

__________________

(١) كما سيجىء فى ص ١٣٥.

(٢) هذا الموضع يعبر عنه بعض النحاة بأنه ما يكون العامل فيه جوابا للأداة «أما» الشرطية المقدرة ، ويعبر عنه بعض آخر بما يكون العامل فيه فعل أمر مقرونا بالفاء ، والمعمول به منصوبا بفعل الأمر. ولم يشترط وجود «أما» المقدرة. فعند الإعراب قد يلاحظ وجودها فتكون الفاء فى الأمثلة السابقة داخلة على جوابها ، أو لا يلاحظ وجودها فتكون الفاء زائدة. والمفعول المتقدم معمولا لفعل الأمر المتأخر عنه. وهذا الإعراب أيسر وأوضح لخلوه من التقدير. (ثم انظر الأمر الثالث ص ١٣٥).

(٣) راجع ص ١٣٥.

(٤) مع ملاحظة ما هو مذكور منها فى الزيادة ، ـ ص ٩١ ـ

(٥) فى ص ٨٤.


«أمّا» ؛ نحو : أمّا أنك فاضل فعرفت. لأن «أمّا» لا تدخل إلا على الاسم.

٥ ـ أن يكون واقعا فى صلة حرف مصدرى (١) ينصب الفعل (وهو : أن ـ كى) فى نحو : سرنى أن تقرن القول الحسن بالعمل الأحسن ؛ لكى يرفع الناس قدرك. فإن كان واقعا فى صلة حرف مصدرى غير ناصب جاز ـ فى رأى ـ تقديمه على عامله ، لا على الحرف المصدرى ؛ نحو : أبتهج ما الكبير احترم الصغير. والأصل : أبتهج ما احترم الصغير الكبير ، وامتنع ـ فى رأى آخر (٢) ـ تقديمه على عامله. وهذا الرأى أقوى وأنسب فى غير صلة «ما» المصدرية (٣).

٦ ـ أن يكون مفعولا لعامل مجزوم بحرف جزم يجزم فعلا واحدا (٤). فيجوز تقدمه على عامله وعلى الجازم معا ، ولا يجوز تقدمه على العامل دون الجازم ؛ تقول : وعدا لم أخلف ، وإساءة لم أفعل. ولا يصح : لم وعدا أخلف ، ولم إساءة أفعل.

٧ ـ أن يكون مفعولا به لفعل منصوب بالحرف : «لن» ، فلا يجوز أن يتقدم على عامله فقط. وإنما يجوز أن يتقدم عليه وعلى «لن» معا ، نحو : ظلما لن أحاول ، وعدوانا لن أبدأ (٥).

__________________

(١) بيان الحروف المصدرية ، وتفصيل الكلام على أحكامها مدون فى ج ١ ص ٢٩٤ م ٢٩ :

(٢) لهذا بيان فى ج ١ م ٢٩.

(٣) راجع «الصبان» فى هذا الموضع ، ثم «التصريح» فى باب «الحال» ، عند الكلام على تأخر الحال عن عاملها وجوبا.

(٤) فخرج حرف الشرط الذى يجزم فعلين مثل : إن. فلا يجوز التقدم عليه.

(٥) وقد عرض ابن مالك عرضا سريعا موجزا لأحوال الترتيب السابقة ، واكتفى فيها بالإشارة المختصرة التى لا توفى الموضوع حقه من الإيضاح والتفصيل النافعين. قال :

والأصل فى الفاعل أن يتّصلا

والأصل فى المفعول أن ينفصلا

وقد يجاء بخلاف الأصل

وقد يجى المفعول قبل الفعل

يريد : أن الأصل فى تكوين الجملة العربية ، وترتيب كلماتها ، يقتضى اتصال الفاعل بعامله ، وانفصال المفعول به عن ذلك العامل بسبب وقوع الفاعل فاصلا بينهما ؛ إذ مرتبة الفاعل مقدمة على مرتبة ـ


وفى غير مواضع التقديم الواجب ، والتأخير الواجب (١) ، يجوز الأمران.

__________________

ـ المفعول به. ومراعاة هذه المرتبة تجعل الفاعل هو الذى يل العامل ، وتجعل المفعول به مفصولا منه بالفاعل. ثم بين أن هذا الأصل لا يراعى أحيانا ؛ فيتقدم المفعول به على الفاعل ، ويفصله عن فعله وعامله. وانتقل بعد ذلك إلى حالتين من الحالات التى يجب فيها تأخير المفعول به ؛ وهما حالة خوف اللبس ، وحالة الفاعل الضمير ، غير المحصور ، الواجب اتصاله بعامله ، فقال فيهما :

وأخّر المفعول إن لبس حذر

أو أضمر الفاعل غير منحصر

وأوضح بعد ذلك أن المحصور «بإلا» أو «إنما» يجب تأخيره ؛ فاعلا كان أو مفعولا به ، وأنه يجوز تقديمه. ولم يذكر النوع الذى يصح تقديمه ، ولا شرطه ، مكتفيا بأن يقول إن تقديم المنحصر يصح إذا ظهر المقصود ، ولم يخف المعنى ، أو يتأثر به. وفى هذا يقول :

وما بإلّا أو بإنّما انحصر

أخّر ، وقد يسبق إن قصد ظهر

وختم كلامه بأن بيّن أن عود الضمير من المفعول به المتقدم على فاعله المتأخر شائع فى أفصح الأساليب ، لا عيب فيه ؛ لأنه عائد على متأخر فى اللفظ متقدم فى الرتبة. وهذا كثير سائغ ، كما قلنا : وساق مثالا لذلك هو : خاف ربّه عمر. أما عود الضمير من الفاعل المتقدم على مفعوله المتأخر فوصفه بأنه شاذ ، لا يصح القياس عليه : ومثل له بنحو : زان نوره الشجر. فيقول :

وشاع نحو : «خاف ربّه عمر»

وشذّ نحو : «زان نوره الشّجر»

وكلامه مجمل ، بل مبتور.

(١) ومن مواضع التأخير الواجب ما يأتى فى الزيارة ـ ص ٩١ ـ


زيادة وتفصيل :

هناك مواضع أخرى لا يجوز فيها تقدم المفعول به على عامله. منها (١) : أن يكون مفعولا به لفعل مؤكد بالنون. نحو : حاربن هواك.

أو مفعولا به لفعل مسبوق بلام الابتداء ؛ وليس قبلها «إنّ» ؛ فلا يصح : فى مثل : لينصر (٢) الشريف أهل الحق ... أن يقال : أهل الحق لينصر الشريف. ويصح أن يقال : إن الشريف أهل الحق لينصر.

أو يكون فعله مسبوقا بلام القسم ؛ نحو : والله لفى غد أقضى حق الأهل.

أو مسبوقا بالحرف : «قد» نحو : قد يدرك المتأنى غايته ؛ أو : «سوف» ؛ نحو : سوف أعمل الخير جهدى.

أو باللفظ : «قلما» ؛ نحو : قلما أخرت زيارة واجبة.

أو : «ربما» نحو : ربما أهلكت البعوضة الفيل.

__________________

(١) راجع المواضع التالية فى الصبان ، وكذا الهمع ج ١ ص ١٦٦.

(٢) على اعتبار هذه اللام للابتداء.


ثامنها : عدم تعدّده ؛ فلا يصح أن يكون للفعل وشبهه إلا فاعل واحد. أما مثل : تصافح علىّ وأمين ، ومثل : تسابق حليم ، ومحمود ، وسليم ، و.. فإن الفاعل هو الأول ، وما بعده معطوف عليه. ولا يصح فى الاصطلاح النحوىّ إعراب ما بعده فاعلا ، برغم أن أثر الفعل ومعناه متساو بين الأول وغيره (١).

تاسعها : إغناؤه عن الخبر حين يكون المبتدأ وصفا مستوفيا الشروط (٢) ؛ مثل : أمتقن الصانعان؟

__________________

(١) يقول النحاة : إن مجموع المعطوف والمعطوف عليه فى المثالين السابقين وأشباههما هو الفاعل الذى أسند إليه الفعل ؛ فلا تعدد إلا فى أجزائه. لكن هذا المجموع من حيث هو مجموع لا يقبل الإعراب ، فجعل الإعراب فى أجزائه.

(٢) للوصف المستغنى بفاعله عن الخبر أحكام وتفصيلات سبق بيانها فى بابها المناسب لها (باب المبتدأ والخبر ج ١ ص ٣٢٢ م ٣٣).


زيادة وتفصيل :

مسألة أخيرة : عرض بعض (١) النحاة لما سمّاه : «الاشتباه بين الفاعل والمفعول به» وصعوبة التمييز بينهما فى بعض الأساليب. وأن ذلك يكثر حين يكون أحدهما اسما ناقصا (أى : محتاجا لتكملة بعده تبين معناه ؛ كاسم الموصول ، و «ما» الموصوفة ...) والآخر اسما تامّا ؛ أى : لا يحتاج للتكملة. وضرب لذلك مثلا هو : «أعجب الرجل ما كره الأخ». فما الفاعل فى الجملة السابقة؟ أهو كلمة : «الرجل» ، أم كلمة : «ما» التى بعده؟ وما المفعول به فى الحالتين؟

وقد وضع ضابطا مستقلا لإزالة الاشتباه ؛ ملخصه :

(ا) أن نفرض الاسم التام هو الفاعل ؛ فنضع مكانه ضميرا مرفوعا للمتكلم ، ونفرض الاسم الناقص هو المفعول به ، ونضع مكانه اسما ظاهرا ، منصوبا. أىّ اسم ، بشرط أن يكون من جنسه (٢) ؛ (حيوانا مثله إن كان المراد من الاسم الناقص حيوانا ، وغير حيوان إن كان الناقص كذلك) فإن استقام المعنى مع هذا الفرض فالضبط الأول صحيح ، على اعتبار أن الاسم التام هو الفاعل ، وأن الناقص هو المفعول به. وإن لم يستقم المعنى لم يصح الضبط السابق. نقول فى المثال السالف أعجبت الثوب. فالتاء ضمير للفاعل المتكلم ، جاءت بدلا من الاسم التام (الرجل) وكلمة : «الثوب» جاءت بدلا من الاسم الناقص : «ما» وهى من جنسه ، باعتباره من جنس غير حيوانى. وقد ظهر أن المعنى على هذا الفرض غير مستقيم ؛ وهذا ينتهى إلى أن الضبط الذى كان قبله غير صحيح أيضا.

فإن كان المقصود من : «ما» ، إنسانا مثلا ، فوضعنا مكانها فردا من أفراد الإنسان فقلنا : أعجبت محمدا ... ـ صحّ الفرض وصح الضبط الذى كان قبله.

(ب) نفرض الاسم التام : «الرجل» فى المثال السابق هو المفعول به. «وما» هى الفاعل ؛ فنضع مكان المفعول به ضميرا منصوبا للمتكلم ، ونضع

__________________

(١) منهم الأشمونى فى آخر باب الفاعل.

(٢) عاقلا كان الجنس أم غير عاقل.


مكان الناقص اسما ظاهرا ، أىّ اسم ، بشرط أن يكون من جنسه ؛ فإن استقام المعنى صح الضبط السابق وإلا فلا يصح ؛ نقول : أعجبنى الثوب ؛ إن كان المراد من «ما» شيئا غير حيوانىّ ، فيستقيم المعنى ويصح الضبط الأول.

(ح) إذا لم يصلح المعنى على اعتبار الاسم التام فاعلا أجريت التجربة على اعتباره مفعولا به ، وكذلك العكس إلى أن يستقيم.

وكالمثال السالف : أمكن المسافر السفر (١) ، بنصب : المسافر ، كما يدل على هذا الضابط السالف ؛ لأنك تقول : أمكننى السفر ؛ بمعنى : مكّننى فاستطعته ، ولا تقول : أمكنت السفر ...

والحق أن هذه المسألة التى عرض لها بعض النحاة لا تفهم بضابطهم (٢) ، ولا يزول ما فيها من اشتباه إلا بفهم مفرداتها اللغوية ، وقيام قرينة تدل على الفاعل والمفعول به ، وتفرق بينهما. أما ذلك الضابط وما يحتويه من فروض فلا يزيل شبهة ، ولا يكشفها ؛ لأنه قائم على أساس وضع اسم ظاهر مكان الناقص بشرط أن يكون من جنسه (حيوانا عاقلا ، وغير عاقل ـ أو غير حيوان) فكيف نختار هذا البديل من جنس الأصيل إذا كنا لا نعرف حقيقة ذلك الأصيل وجنسه؟ فمعرفة البديل متوقفة على معرفة الأصيل أولا. ونحن إذا اهتدينا إلى معرفة الأصيل لم نكن بعده فى حاجة إلى ذلك الضابط ، وما يتطلبه من فروض لا تجدى شيئا ؛ ذلك أن الأصيل سيدل بمعناه فى جملته على من فعل الفعل ، فيعرف من وقع عليه الفعل تبعا لذلك ، ويزول الاشتباه. وإذا لا حاجة إلى الضابط ، ولا فائدة من استخدامه ؛ لأن الغرض من استخدامه الكشف عن حقيقة الاسم الناقص ، وهذا الكشف يتطلب اختيار اسم من جنسه ليحل محله. فكيف يمكن الاهتداء إلى اسم آخر من جنسه إذا كان الاسم الناقص مجهول الجنس لنا؟

__________________

(١) الاسمان هنا تامان ـ وهى حالة قليلة بالنسبة للأولى.

(٢) عبارة الضابط كما وردت عنهم هى : «أن تجعل فى موضع التام إن كان مرفوعا ضمير المتكلم المرفوع ، وإن كان منصوبا ضميره المنصوب ، وتبدل من الناقص اسما بمعناه فى العقل وعدمه».


فمن الخير إهمال تلك المسألة بضابطها. وفروضه ، والرجوع فى فهم المثالين السابقين وأشباههما إلى فهم المعانى الصحيحة لمفرداتها اللغوية ، والاعتماد بعد ذلك على القرائن ، مع الفرار ـ جهد الطاقة ـ من استعمال تلك الأساليب الغامضة. هذا هو الطريق السديد ، وعليه المعول.


المسألة ٦٧ :

النائب عن الفاعل (١)

من الدواعى (٢) ما يقتضى حذف الفاعل دون فعله. ويترتب على حذفه أمران محتومان ؛ أحدهما : تغيير يطرأ على فعله (٣) ، والآخر : إقامة نائب عنه يحل محله ، ويجرى عليه كثير من أحكامه التى أسلفناها (٤) ـ ؛ كأن يصير جزءا أساسيّا فى الجملة ؛ لا يمكن الاستغناء عنه ، ويرفع مثله ؛ وكتأخره عن عامله (٥) ، وتأنيث عامله له أحيانا ، وتجرد العامل من علامة تثنية أو جمع ... ؛ وكعدم تعدده ، وكإغناء هذا النائب عن الخبر أحيانا فى مثل : أمزروع الحقلان؟

__________________

(١) يسميه كثير من القدماء : «المفعول الذى لم يسم فاعله». والأول أحسن ؛ لأنه أخصر ، ولأن النائب عن الفاعل قد يكون مفعولا به فى أصله وغير مفعول به ؛ كالمصدر ، والظرف ، والجار مع مجروره ؛ ـ كما سيجىء فى ص ١٠٩ م ٦٨ ـ

هذا ، والذى يحتاج لنائب فاعل شيئان ، أحدهما : «الفعل المبنى للمجهول». وقد يسمى أيضا : «الفعل المبنى للمفعول» ، والتسمية الأولى أحسن. والآخر : «اسم المفعول» ؛ فلا بد لكل منهما من نائب فاعل. ويزاد عليهما المصدر المؤول فى رأى سيجىء فى «ب» من ص ١٠٧ ، أما اسم المفعول ، وأحكامه ، وكل ما يتعلق به ، فله باب خاص مستقل فى الجزء الثالث.

(٢) بعضها لفظى ؛ كالرغبة فى الاختصار فى مثل : لما فاز السباق كوفى. أى : كافأت الحكومة السباق ، مثلا ... وكالمماثلة بين حركات الحروف الأخيرة فى السجع ؛ نحو : من حسن عمله ، عرف فضله. فلو قيل : عرف الناس فضله ، لتغيرت حركة اللام الثانية ، ولم تكن مماثلة للأولى ، وكالضرورة الشعرية ...

وبعضها معنوى ؛ كالجهل به ، وكالخوف منه ، أو عليه ... (ومما يصلح لكل واحد من الثلاثة قولنا : قتل فلان ، من غير ذكر اسم القاتل) وكإبهامه ، أو تعظيمه بعدم ذكر اسمه على الألسنة صيانة له ، أو تحقيره بإهماله ، وكعدم تعلق الغرض بذكره ، حين يكون الغرض المهم هو الفعل. وكشيوعه ومعرفته فى مثل : جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ... أى : جبلها الله وخلقها ...

(٣) ولا بد أن يكون فعله غير جامد ، وغير أمر ـ كما سيجىء فى رقم ٨ من ص ١٠٥ ـ

(٤) فى ص ٦٦.

(٥) يرى بعض النحاة أنه يجوز تقديم نائب الفاعل إذا كان شبه جملة ؛ لأن علة منع التقديم ـ وهى خوف التباس الجملة الاسمية بالفعلية ـ غير موجودة هنا ـ (راجع الصبان ج ٣ باب. «أفعل التفضيل» عند قول ابن مالك : «وما به إلى تعجب وصل ...»). ولهذا إشارة فى رقم ٢ من هامش ص ١٠٩.


(فالحقلان : نائب فاعل للمبتدأ اسم المفعول ، واسم المفعول لا يرفع إلا نائب فاعل ؛ كما عرفنا من قبل) ... إلى غير هذا من الأحكام الخاصة بالفاعل ؛ والتى قد تنتقل بعد حذفه إلى نائبه (١).

ولكل واحد من الأمرين تفصيلات وأحكام تخصه.

(ا) إليك ما يتعلق بالأمر الأول :

١ ـ إن كان الفعل ماضيا ، صحيح العين (٢) ، خاليا من التضعيف ـ وجب ضم أوله ، وكسر الحرف الذى قبل آخره إن لم يكن مكسورا من قبل. فالفعل فى مثل : (فتح العمل باب الرزق ـ أكرم الناس الغريب ...) ، يتغير بعد حذف الفاعل ؛ فيصير فى الجملة : (فتح باب الرزق ـ أكرم الغريب (٣) ...) (وهناك بعض حالات يجوز فيها كسر أوله ، وستجىء (٤) ...).

٢ ـ إن كان الفعل مضارعا وجب ـ فى كل حالاته ـ ضم أوله أيضا ، وفتح الحرف الذى قبل آخره إن لم يكن مفتوحا من قبل ؛ فالمضارع فى مثل : يرسم المهندس البيت ـ يحرّك الهواء الغصن ـ يصير فى الجملة بعد حذف الفاعل :

__________________

(١) وفى هذا يقول ابن مالك :

ينوب مفعول به عن فاعل

فيما له ـ كنيل خير نائل

وأصل الكلام : نال المستحق خير نائل ؛ أى : خير عطاء. فحذف الفاعل ، وتغير الفعل بعد حذفه تغيرا سنعرفه. وناب عنه المفعول به. وليس من اللازم أن يكون النائب مفعولا به ، كما قلنا ...

(٢) من الاصطلاحات اللغوية الشائعة : «فاء» الكلمة ، «عين» الكلمة ، «لام» الكلمة.

يريدون بالفاء : الحرف الأول من الكلمة الثلاثية ، أصيلة الأحرف ، وبالعين : الحرف الثانى ، «أى : الأوسط» وباللام الحرف الثالث ؛ «أى : الأخير». ويقولون عنها لذلك : إنها على وزن : «فعل» ؛ مثل : كتب ـ قعد ـ فتح ... فكل واحدة على وزن «فعل».

(٣) أين الكسر فى نحو : صيم الشهر ـ بيع التمر؟ أصلهما : صوم ـ بيع. وخضوعا لأحكام عامة فى : «الإعلال» طرأ عليهما تغيير معروف ؛ بقلب الضمة فيهما كسرة ، فقلب الواو ياء ، وحذف الكسرة من ياء : «بيع» ـ وانظر رقم ٥ الآتى فى ص ١٠٠ ـ فالكسر مقدر كتقديره فى المضعف ؛ (مثل : عدّ ؛ فأصله : عدد قبل الإدغام).

(٤) فى رقم ٥ من ص ١٠٠.


يرسم البيت ـ يحرّك الغصن (١). ومثل قول الشاعر :

أعندى وقد مارست (٢) كل خفيّة

يصدّق واش ، أو يخيّب سائل

وقد يكون الفتح قبل الآخر مقدرا لعلة تمنع ظهوره ؛ مثل : يصام. (أصله : يصوم ، ثم صار «يصام» لسبب صرفىّ معروف) (٣). ومثل : «تصاب وتنال» ، فى قول الشاعر :

يهون علينا أن تصاب جسومنا

وتسلم أعراض لنا وعقول.

وفى قول الآخر :

إنّ الكبار من الأمو

ر تنال بالهمم الكبار

والأصل قبل التغيير الصرفى : تصوب وتنيل.

٣ ـ إن كان الماضى مبدوءا بتاء تكثر زيادتها عادة ـ سواء أكانت للمطاوعة (٤)

__________________

(١ ، ١) وفى الحالتين السابقتين يقول ابن مالك :

فأوّل الفعل اضممن ، والمتّصل

بالآخر اكسر فى مضىّ ؛ كوصل

واجعله من مضارع منفتحا

كينتحى ؛ المقول فيه : ينتحى

أى : أن أول الفعل المبنى للمجهول يضم فى الماضى والمضارع ، وأن الحرف المتصل بالآخر يكسر فى الماضى ؛ مثل : وصل ؛ فأصله : وصل ، ويصير مفتوحا فى المضارع ، مثل ينتحى ، فإن الحرف الذى قبل آخره يفتح عند البناء للمجهول ؛ فيصير : «ينتحى». (ينتحى الرجل إلى الشجرة : أى : يميل إليها ، ويتجه نحوها). وقد قلنا : إن هناك بعض حالات يكسر فيها أول الماضى ، كالحالة الخامسة والسادسة ، والسابعة ـ وستجىء ـ

(٢) جربت وعرفت.

(٣) هو : نقل فتحة «الواو» و «الياء». إلى الساكن الصحيح قبلهما ؛ فتكون «الواو» ، وكذا «الياء» متحركة بحسب أصلها ـ قبل نقل فتحتها ـ ويكون ما قبلها متحركا بحسب الحالة الجديدة التى طرأت عليه بعد أن كان ساكنا ؛ فيقلب حرف العلة «ألفا».

(٤) حين نسمع شخصا يقول : علّمت الغلام الزراعة ، يتردد على الذهن سؤال ؛ هو : هل إستجاب الغلام للتعلم واستفاد؟ ويظل السؤال قائما حتى يجد جوابا. فإذا قال المتكلم : علّمت الغلام الزراعة فتعلمها ـ دل الفعل الثانى على أن الغلام تعلم ، واستفاد واستجاب للتعلم ، وحقق معناه ، وهذا هو ما يسمى : «المطاوعة». وحين يقول شخص : كسّرت الحديد ، فقد يرد على الذهن : كيف تستطيع تكسير الحديد؟ هل استطعت تكسيره حقا؟ فإذا قال المتكلم : كسّرت الحديد فتكسّر ، كان الفعل : «تكسر» هو الجواب عن المطلوب ، الماحى للشبهة السالفة ، الدال على أن الحديد تأثر بالكسر واستجاب له ، وحقق معنى الفعل الأول. ولهذا يسمى الفعل الثانى : «مطاوعا». ومثله : حطّمت الصخر ... فتحطم ، ـ


أم لغيرها ـ (مثل : تعلّم ، تفضّل ـ تعاون ـ تناشد ، تجاهل ...) وجب ضم الحرف الثانى مع الأول ؛ ففى مثل : تعلّم الصبى حرفة ـ تفضّل الصديق بالزيارة ـ ... يصير : تعلّمت حرفة ـ تفضّل بالزيارة (١) ... وفى مثل قولهم : تعلم البحار فن الملاحة ، وتعاون مع رفاقه فأمن الخطر ... يصير الكلام بعد بناء الفعل للمجهول : تعلّم (٢) فنّ الملاحة ، وتعوون مع الرفاق ؛ فأمن الخطر.

٤ ـ إن كان الماضى مبدوءا بهمزة وصل فإن ثالثه يضم مع أوله ؛ ففى مثل :

__________________

ـ بريت الخشب ... فانبرى ... فالمطاوعة فى فعل هى : قبول فاعله التأثر بأثر واقع عليه من فاعل ذى علاج محسوس لفعل آخر يلاقيه اشتقاقا ، بحيث يحقق التأثر معنى ذلك الفعل.

والتعريف السابق للمطاوعة هو أوضح التعريفات وأشملها ، وهو ملخص الذى ارتضاه «الخضرى» فى باب : «تعدى الفعل ولزومه». ونص على اشتراط العلاج الحسى ، وتلاقى الفعلين فى الاشتقاق ؛ فلا يقال : علّمت الرجل المسألة فانعلمت ؛ لعدم المعالجة الحسية ، ولا يقال : ضربته فتألم ، لعدم التلاقى فى الاشتقاق. وحصول الأثر وتحققه ليس بالواجب ، وإنما هو الغالب الكثير ، طبقا لما جاء فى حاشية التصريح فى باب : «التعدى واللزوم» ، نقلا عن البيضاوى فى تفسير قوله تعالى : (وعلّم آدم الأسماء كلها) حيث صرح بأنه : (يقال : كسرته فلم ينكسر ، وعلّمته فلم يتعلم وقال : إن حصول الأثر غالب لازم) اه وهذا الرأى يساير المسموع كثيرا ، ويلاحظ أنه جعل الفعل : «علّم» من أفعال المعالجة الحسية ، خلافا لسابقه. وللمطاوعة صيغ قياسية تشتمل كل صيغة منها على بعض حروف خاصة ترمز للمطاوعة ، وتدل عليها ، منها التاء فى أول الماضى ، ويسمونها لذلك : تاء المطاوعة ؛ مثل : درّبت الصانع ؛ فتدرب. هدّمت الحائط ؛ فتهدم. فجّرت الماء فتفجر. كسرت الغصن فتكسر ...

وقد عقد صاحب «المخصص» (ابن سيده) بحثا لطيفا (فى الجزء ١٤ ص ١٧٥ وما حولها) عرض فيه لكثير من أوزان المطاوعة القياسية ، ومنها : أن كل ماض ذى أربعة أحرف على وزن «فعّل» يكون له مطاوع على وزن «تفعّل» وهذا جزء من قواعد عامة هناك تفيد أعظم الفائدة ، وتتسع لكثير مما نظنه محذورا. وفى الجزء الأول من مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة شىء قليل من تلك الأوزان ، مستخلص من المرجع السابق الأصيل.

ومن بين قرارات هذا المجمع قياسية جميع أفعال المطاوعة. وقد سجل هذا القرار فى الصفحة الثامنة من المجلد الذى أصدره بعنوان : «البحوث والمحاضرات» فى مؤتمر الدورة الخاصة بسنة ١٩٦٣ ـ ١٩٦٤.

(١) يقول ابن مالك :

والثانى التّالى «تا» المطاوعه

كالأوّل اجعله بلا منازعه

أى : اجعل الحرف الثانى فى الماضى مضموما كالأول. إن كان الأول تاء المطاوعة ، إذ لا نزاع ـ أى : لا خلاف فى هذا.

(٢) إذا كانت التاء التى فى أول الماضى لا تكثر زيادتها فلا يضم الحرف الذى يليها ؛ مثل : تعرمس الزارع (الحب ، أى : رمسه ، بمعنى : دفنه.) وإنما كانت زيادة التاء غير معتادة فى هذا الكلمة ـ وأشباهها ـ لأنها جاءت للتوصل إلى النطق بالساكن ، وهو الراء ، وهذا اختصاص همزة الوصل.


اعتمد العاقل على كفاحه ـ انتصر المكافح بعمله ـ يقال فى بناء الفعلين للمجهول : اعتمد على الكفاح ـ انتصر بالعمل (١).

٥ ـ إن كان الماضى الثلاثى معلّ العين (٢) ؛ واويّا كان أو يائيّا ـ مثل : صام ، باع ـ وبنى للمجهول ، جاز فى فائه عند النطق أو الكتابة ، إما الكسر الخالص ؛ فينقلب حرف العلة ياء ؛ نحو : صيم ، بيع ، وإما الضم الخالص ،

__________________

(١) وفى هذا يقول ابن مالك :

وثالث الّذى بهمز الوصل

كالأوّل اجعلنّه كاستحلى

أى : أن الحرف الثالث من الفعل المبدوء بهمزة الوصل يضم كالأول. ومثّل له بالفعل «استحلى» المبنى للمجهول. وأصله : «استحلى» مبدوءا بهمزة وصل. فلما بنى للمجهول ضم الحرف الأول والثالث منه.

ومما يلاحظ فى البيت أن كلمة : «ثالث» ... بالنصب تعرب مفعولا به لفعل محذوف يسره الفعل الآتى بعده ؛ وهو : «اجعل» المؤكد بالنون. مع أن الفعل المؤكد بالنون لا يصلح أن يعمل فيما قبله ، ولا أن يفسر عاملا محذوفا قبله. كذلك إعراب «كالأول» فإنه جار ومجرور متعلق بالفعل المتأخر عنه المؤكد بالنون ، وهو : «اجعل» والفعل المؤكد بالنون لا يصح أن يتعلق به شبه جملة قبله ، وهذا هو الرأى الأقوى والأفصح. ويخالفه رأى آخر أقل شيوعا وقوة وهو مقبول فى شبه الجملة .. لكن ابن مالك يقع فى هذه المخالفة كثيرا لضرورة النظم. وقد سبق لها نظائر فى الجزء الأول والمعربون يلتمسون تأويلات وتقديرات لتصحيح مخالفته. ولا داعى لشىء من هذا ، لما فيه من تكلف وتعسف. ويكفى التصريح بأن النظم قهره على ارتكاب المخالفة ؛ وهذا هو السبب الحق.

(٢) معل العين «ما يكون وسطه حرف علة» ويخضع لأحكام «الإعلال» المعروفة فى الباب الخاص بهذا (ج ٤). ومنها : قلب حرف العلة الواو أو الياء ألفا ، فى نحو صام ـ هام ... فأصلهما صوم ـ هيم ـ .. ومنها : نقل حركة حرف العلة الواقع عين الكلمة إلى ساكن صحيح قبله بالشروط المذكورة هناك ؛ نحو : يقوم ، وأصله : يقوم ... إلى غير ذلك من أحكام «الإعلال» التى تدخل على حرف العلة ؛ فتحدث به تغييرا.

فإن كان حرف العلة الواقع عين الفعل لا يخضع للأحكام السالفة فإنه لا يسمى : «معلا» ، وإنما يسمى : «معتلا» وجاز فى فائه من الحركات الثلاث ما يجوز فى فاء الفعل الصحيح ؛ مثل : عور ـ هيف ـ اعتور ... وغيرها من الأفعال المشابهة لها ؛ فإنها تسلك مسلك الفعل الصحيح عند بنائها للمجهول ـ كما قلنا.

والشائع بين النحاة أن حروف العلة الثلاث (وـ ا ـ ى) إذا سكنت وكان قبلها حركة مجانسة لها سميت : حروف علة ، ومد ، ولين. فإن لم تجانسها الحركة التى قبلها سميت : حروف علة ولين. فإن تحركت فيه حروف علة فقط (راجع حاشية الخضرى «ج ٢» أول باب : الإعلال بالنقل.)

ومن النحاة من يطلق اللين على حرف العلة المتحرك. وهذا مخالف للشائع ، كما قال الخضرى فى المرجع السالف ـ (وقد سبقت لهذا إشارة فى ج ١ م ١٦ هامش ص ١٦٩ من الطبعة الثالثة ـ وسيجىء التفصيل الأوضح فى ج ٤ فى بابى «الترخيم» و «الإعلال والإبدال»).


فينقلب حرف العلة واوا ، نحو : صوم ، بوع ، وإما الإشمام (١) ـ وهذا لا يكون إلا فى النطق ـ والكسر أعلاها ، فالإشمام ، فالضم. وكل واحد من الثلاثة جائز بشرط ألا يوقع فى لبس ، وإلا وجب العدول عنه إلى ضبط آخر لا لبس فيه ؛ فكثير من الماضى المعلّ الوسط قد يوقع فى اللبس إذا بنى للمجهول ، وأسند لضمير تكلم ، أو خطاب ؛ سواء أكان الضمير فيهما للمفرد المذكر أم لغيره ، وكذلك إذا أسند لنون النسوة الدالة على الغائبات. فالفعل : «ساد» ـ وأشباهه ـ فى نحو : «ساد الرجل قومه بالفضل» إذا أسندناه لضمير متكلم أو مخاطب من غير أن يبنى للمجهول ، قلنا عند الضم : «سدت». ولو بنينا الفعل للمجهول ، وقلنا : «سدت» أيضا (٢) ؛ لوقع اللبس حتما بين هذه الصورة التى بنى فيها للمجهول والصورة السالفة التى لم يبن فيها للمجهول. وفرارا من اللبس الذى ليس معه قرينة تزيله ، يجب البعد عن ضم الحرف الأول (٣) فى هذه الصورة المبنية للمجهول ، ولنا بعد ذلك استعمال الكسر ، أو : الإشمام.

__________________

(١) الإشمام ـ عند النحاة ـ هو : النطق بحركة صوتية تجمع بين الضمة والكسرة على التوالى السريع ، بغير مزج بينهما ؛ فينطق أولا بجزء قليل من الضمة ، يعقبه جزء كبير من الكسرة ؛ يجلب بعده ياء. فالجمع بين الحركتين ليس معناه الخلط بينهما فى وقت واحد خلال النطق ؛ وإنما معناه مجيئهما على التعاقب السريع بالطريقة التى أسلفناها.

(٢) لإيضاح هذا المثال وأشباهه نقول فى : «ساد الرجل قومه بالفضل» إذا أسند الماضى المبنى للمعلوم إلى ضمير المخاطب مثلا ؛ صارت الجملة : سدت قومك بالفضل ـ بضم السين ـ فإذا صارت الجملة : يا مهمل سادك النابغ .. وأردنا بناء الفعل للمجهول مع إسناده للمخاطب أيضا فإننا نحذف الفاعل «النابغ» ونقيم المفعول به (وهو : كاف الخطاب) مقامه. ولما كان الضمير «الكاف» لا يقع فى محل رفع وجب استبداله ووضع ضمير آخر بمعناه فى مكانه ؛ بحيث يصلح الضمير الجديد أن يكون فى محل رفع نائب فاعل. لهذا نجىء بدله بضمير الخطاب التاء : فنقول عند بنائه للمجهول : يا مهمل سدت ؛ أى : صرت مسودا ، لا سيدا ؛ بمعنى أن غيرك صار سيدك. فالصورة الشكلية للفعل واحدة عند الضم ، فى حالتى بنائه للمعلوم والمجهول ، وفيها يقع اللبس. وللفرار منه منعوا فى المبنى للمجهول ضم أوله إن كانت عينه ألفا أصلها واو ... إلا نحو : خاف ـ كما سيجىء هنا.

(٣) لا يجوز الضم فى الواوى إلا إذا كان ماضيه فعل (بكسر العين) ومضارعه على وزن : يفعل (بفتح العين) نحو : خاف ـ يخاف (وأصله : خوف ـ يخوف). ذلك أن الفعل : «خاف» وأشباهه ـ إذا أسند وهو مبنى للمعلوم لمخاطب ـ مثلا ـ يصير : خفت ، بكسر أوله ، وحذف وسطه ، طبقا لقواعد الإسناد. فلو بنى للمجهول وكسر أوله لأوقع فى لبس ؛ بسبب تشابه صورتى الفعل فى حالتى بنائه للمعلوم وللمجهول. والفرار من هذا اللبس يوجب ضم أوله عند بنائه للمجهول أو الإشمام.


ومثل : الفعل : «ساد» غيره من كل فعل ماض ثلاثى ، إمّا معلّ الوسط بألف أصلها واو ؛ (وليس من باب : «فعل يفعل» ؛ كخاف يخاف ... (١)) ، مثل : شاق ، يشوق ، رام ، يروم ... وإما معلّ الوسط بألف أصلها ياء أيضا ؛ فليس اللبس مقصورا على الماضى الثلاثى المعل الوسط بألف أصلها واو ، وليس من باب فعل يفعل ، بل يمتد إلى الماضى الثلاثى المعلّ الوسط بألف أصلها ياء ؛ مثل الفعل : «زاد» فى نحو : قد زادك الصديق ودّا ؛ فإنه إذا أسند لضمير المخاطب ـ مثلا ـ من غير بناء للمجهول يصير : قد زدت الصديق ودّا ، بكسر أول الماضى. وإذا أسند للمخاطب أيضا مع البناء للمجهول فإن كسر أوله صار : زدت ودّا (٢) كذلك ، فصورته فى الحالتين واحدة مع اختلاف الإسناد والمعنى. وهذا هو اللبس الواجب توقّيه. ومن أجله لا يصح الكسر هنا عند بنائه للمجهول ؛ فيجب العدول عنه ؛ إمّا إلى ضم أوله نطقا وكتابة ، فنقول : «زدت». وإمّا إلى الإشمام (وهذا لا يكون إلا فى حالة النطق ـ كما عرفنا ـ).

ومثل الفعل «زاد» كثير من الأفعال الماضية المعلّة الوسط بالألف التى أصلها الياء ؛ ومنها : دان ، يدين ـ قاس ، يقيس ـ عاب ، يعيب ـ باع ، يبيع ... وخلاصة ما سبق : أنّ الواجب يقتضى العدول عن ضم فاء الثلاثى المعل العين بالواو ، عند خوف اللبس (إلا ما كان مثل : «خاف») ، والعدول عن كسر فاء الثلاثى المعل العين بالياء عند خوف اللبس أيضا. وكذلك إن أوقع الإشمام فى لبس وجب العدول عنه إلى النطق بالكسرة الصريحة الواضحة ، أو بالضمة الصريحة الواضحة.

__________________

(١) للسبب الذى تقدم فى رقم ٣ من هامش الصفحة السابقة والذى يمنع الكسر فى مثل : «خاف يخاف» عند بناء الماضى للمجهول ، ويوجب الضم.

(٢) وذلك بعد حذف الفاعل وإقامة المفعول به (وهو : الكاف) مقامه ، ولما كانت «الكاف» ـ كما أوضحنا فى رقم ٢ من هامش ص ١٠١ ـ من الضمائر التى لا تقع فى محل رفع أتينا مكانها بضمير للمتكلم مثلها مع صلاحيته لأن يكون نائب فاعل فى محل رفع ، هو : تاء المخاطب. والمعنى المقصود فى المثال الثانى المبنى للمجهول هو الدلالة على وقوع الزيادة على المخاطب. أما فى المثال الأول فهو الدلالة على وقوع الزيادة من المخاطب (الفاعل) ، على الصديق (المفعول به). والفرق كبير بين الدلالتين مع اتفاق الصورة الشكلية للفعلين. ومن هنا يقع اللبس الذى يجب الفرار منه ؛ بتغيير الشكل فى المبنى للمجهول ...


ومن أجل اللبس والعمل على اجتنابه وضع النحاة القاعدة التالية :

(يجوز فى فاء الفعل الماضى ، الثلاثى ، المعتلّ الوسط ، عند بنائه للمجهول ـ ثلاثة أشياء : الضم ، أو : الكسر ، أو : الإشمام ، بشرط أمن اللبس فى كل حالة. فإن أوقع الضم فى لبس وجب تركه إلى الكسر أو الإشمام ، وإن أوقع الكسر فى لبس وجب تركه إلى الضم أو الإشمام ، وإن أوقع الإشمام فى لبس وجب العدول عنه إلى النطق بحركة صريحة واضحة ، هى : الضمة أو الكسرة ، بحيث يمتنع اللبس معها. وعند صحة الأمور الثلاثة ، يكون الكسر أحسنها (١) ، فالإشمام ، ثم الضم وهو أقلها استعمالا).

٦ ـ وإن كان الماضى الثلاثى المبنى للمجهول مضعفا (٢). مدغما ؛ مثل الفعل : «عدّ» فى : «عدّ الصّيرفىّ المال» ـ جاز فى فائه الأوجه الثلاثة ، (الضم الخالص ، وهو الأكثر هنا ، فالإشمام ، فالكسر الخالص) ، تقول وتكتب : عرفت أن المال قد عدّ ـ بضم العين أو كسرها ـ كما يجوز الإشمام فى حركتها عند النطق. وإذا خيف اللبس فى وجه من الثلاثة وجب تركه إلى غيره ؛ كالفعل : «عدّ» ـ «ردّ» ، وأشباههما ، فإن فعل الأمر منهما يكون مضموم الأول ؛ فيلتبس به الماضى المبنى للمجهول إذا كانت حركة فائه الضمة ؛ إذ يقال : عدّ المال ، ردّ العدو. فلا تتضح حقيقة الفعل ؛ أهو فعل ماض مبنى للمجهول أم فعل أمر؟ وفى مثل هذه الحالة يجب العدول عن الضم إلى الكسر ، أو الإشمام ؛ لأن الكسر والإشمام لا يدخلان أول هذين الفعلين إذا كانا للأمر (٣)(٤).

__________________

(١) وبالكسر جاء قول الشاعر :

إذا قيس إحسان امرئ بإساءة

فأربى عليها فالإساءة تغفر

(٢) مضعف الثلاثى : ما كانت عينه ولامه من جنس واحد ؛ نحو : عدّ ـ مدّ ـ شقّ ـ صبّ ...

(٣) وإنما قرئ بالضم قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ...)

لوجود قرينة تمنع اللبس ، هى : أن فعل الأمر لا يكون فعل شرط للأداة «لو» أو غيرها.

(٤) وفى الأوجه الثلاثة الجائزة فى الثلاثى معل العين. وفى الثلاثى المضعف ، ومنع ما يوقع منها فى ـ


٧ ـ وتجوز الأوجه الثلاثة أيضا فى الحرف الثالث الأصلىّ من الماضى المعلّ العين ؛ إذا كان على وزن ؛ انفعل ، أو : افتعل ؛ مثل : (انقاد ـ انهال ـ انهار ...) ، ومثل : (اختار ـ اجتاز ـ احتال ...)

ويلاحظ هنا أن حركة الحرف الأول (وهو : همزة الوصل) لا تلزم صورة واحدة فى ضبطها ، فلا تقتصر على حركة معينة ، وإنما تماثل وتساير حركة الحرف الثالث ، وأن ضمة الثالث ستؤدى إلى قلب الألف التى بعده واوا ، وأن كسرته ستؤدى إلى قلبها ياء ؛ فلا بد فى حركة الحرف الأول ـ وهو همزة الوصل ـ من أن تكون مناسبة لحركة الثالث فى الضم ، أو الكسر ، أو الإشمام ، كما سبق ؛ فيقال ويكتب فيهما : انقود ، أو : انقيد ، أو : ينطق بالإشمام فى حركة الحرف الأول والثالث ، وكذا باقى الأفعال التى تشبه : «انقاد».

كذلك يقال ويكتب : اختور. أو : اختير ، أو : ينطق بالإشمام فى حركة الحرف الأول والثالث ، وكذا يقال فى باقى الأفعال التى تشبه : «اختار».

ويشبههما فى الحكم السابق : «انفعل» و «افتعل» إذا كانا صحيحين مضعفى اللام ؛ نحو : انصبّ ـ انسدّ ـ انجرّ ـ ... ومثل : امتدّ ـ اشتدّ ـ

__________________

ـ لبس ، يقول ابن مالك :

واكسر أو اشمم «فا» ثلاثىّ أعل

عينا ، وضمّ جا ، كبوع : فاحتمل

أى : اكسر أو أشمم فاء الماضى الثلاثى المعل العين. وقد جاء فيه الضم عن العرب ؛ فيجوز القياس عليه ؛ واحتمل قبوله ؛ لمجيئه عنهم. («فا» هى مقصور : «فاء» الحرف. و «جا» ، هى : مقصور الفعل : «جاء». وعند قراءة كلمة «أو» فى البيت تتحرك الواو بالفتحة التى انتقلت إليها من الهمزة التى بعدها والأصل أو أشمم ؛ لأنه أمر من الفعل : «أشمّ» الرباعى. وقد انتقلت حركة الهمزة إلى الواو الساكنة بعد حذف الهمزة للوزن الشعرى). ثم يقول :

وإن بشكل خيف لبس يجتنب

وما لباع قد يرى لنحو حب

يريد : إذا أدى وجه من الأوجه الثلاثة السالفة إلى اللبس الذى لا يمكن معه تمييز الفعل المبنى للمجهول من غيره ، وإلى اختلاط المعانى ـ وجب اجتناب ذلك الوجه إلى آخر ليس فيه لبس. ثم بين أن ما ثبت من الأحكام لفاء الفعل : «باع» ـ وغيره من الماضى الثلاثى المعل الوسط ـ عند البناء للمجهول ، قد يثبت لنحو : «حبّ» من كل فعل ماض ثلاثى مضاعف ، حيث يجوز فى فائه الأمور الثلاثة ، بشرط أمن اللبس ؛ فإن خيف اللبس فى أحدها وجب تركه.


ابتلّ ... فإذا بنى فعل للمجهول من هذه الأفعال ونظائرها ـ جاز فى حرفه الثالث ـ عند أمن اللبس ـ الضم ، الخالص نطقا وكتابة ، أو : الكسر الخالص كذلك ، أو الإشمام نطقا ، وفى كل حالة من الثلاث يتحرك الحرف الأول ؛ ـ وهو همزة الوصل ـ ، بمثل حركة الحرف الثالث ، نحو : انصبّ ـ أو انصبّ ... امتدّ ـ امتدّ (١).

٨ ـ إن كان الفعل جامدا أو فعل أمر لم يصح بناؤه للمجهول مطلقا ...

٩ ـ إن كان الفعل ناقصا (مثل : كان ، وكاد ، وأخواتهما) ، فالصحيح أنه يبنى للمجهول ، وتجرى عليه أحكام المبنى للمجهول (٢) بشرط الإفادة ، وعدم اللبس ـ إلا الناقص الجامد ؛ مثل : ليس ، وعسى ؛ لأن الجامد لا يبنى للمجهول كما سبق ...

__________________

(١) وفى هذا يقول ابن مالك :

وما لفا باع لما العين تلى

فى اختار ، وانقاد ، وشبه ينجلى

وفى هذا البيت شىء من التعقيد بسبب التقديم والتأخير والحذف. والأصل الذى يريده : الذى يثبت لفاء : «باع» يثبت كذلك للحرف الذى تليه عين الفعل من نحو : «اختار» و «انقاد» أو شبه لهما ينجلى ، (أى : يتضح). والمشابهة تكون فى الوزن والإعلال. وهناك ما يشبههما من جهة انطباق الحكم عليه ، كانفعل وافتعل ؛ الصحيحين مشددى اللام ... ـ تلى العين ، أى : تليه. فالهاء محذوفة ـ

والمعنى : ما تقرر من الأوجه الثلاثة فى حركة الفاء من الفعل المعل العين. (مثل : باع ، صام) يتقرر مثله للحرف السابق لعين الفعل المعلة ، إذا كان الفعل على وزن : «افتعل» أو «انفعل» وأشباههما وما يلحق بهما ...

(٢) بالرغم من صحة بناء هذه الأفعال للمجهول فمن المستحسن عدم بنائها للمجهول ؛ مسايرة للأساليب العليا ، وأحكام البلاغة التى ترى فيها ثقلا فى النطق ، وقبحا فى الجرس. وسيأتى فى («ب» من ص ١١٩) كلام خاص بخبر «كان» وحدها يتصل بما نحن فيه.


زيادة وتفصيل :

(ا) ورد عن العرب أفعال ماضية تشتهر بأنها ملازمة للبناء للمجهول ، سماعا عن أكثر قبائلهم. وهى الأفعال التى يعتبرها اللغويون مبنية للمجهول فى الصورة اللفظية ، لا فى الحقيقة المعنوية ؛ ولذلك يعربون المرفوع بها فاعلا ؛ وليس نائب (١) فاعل. ومن أشهرها : هزل ـ زكم ـ دهش وشده ، وهما بمعنى واحد. ومنها : (شغف بكذا ، وأولع به ، وأهتر به ، واستهتر به ، وأغرى به ، وأغرم به ... ، وكلها بمعنى واحد ؛ هو : التعلق القوى بالشىء). ومنها : أهرع ، بمعنى : أسرع. ومنها : نتج. ومنها : عنى بكذا ؛ أى : اهتم به. ومنها : حمّ فلان (بمعنى أصابته الحمّى) ـ أغمى عليه ـ فلج ـ امتقع لونه (بمعنى تغيّر) ـ زهى (بمعنى تكبر) ... و (٢) ...

لكن ما حكم مضارع هذه الأفعال؟ أيجب بناؤه للمجهول مثلها ، أم يتوقف أمره على السماع الوارد من العرب فى كل فعل؟ الصحيح أنه مقصور على السماع الوارد فى كل فعل. ومنه فى الشائع : يهرع ، يعنى ، يولع ، يستهتر.

بقى توضيح المراد من أن تلك الأفعال الماضية ملازمة للبناء للمجهول سماعا عن أكثر القبائل :

يرى أكثر النحاة أن المراد هو عدم استعمالها فى معانيها السالفة مبنية للمعلوم ؛ تقول : شدهت من الأمر ، بالبناء للمجهول ، ولا يصح عند هؤلاء شدهنى الأمر ، بالبناء للفاعل ، لاعتمادهم على ما جاء فى كتاب : «فصيح ثعلب» ، ونحوه من التصريح القاطع بأنها لا تبنى للمعلوم.

__________________

(١) وهذا فى الرأى الشائع الذى ورد صريحا فى كثير من المراجع : كالقاموس المحيط ، فى مقدمته تحت عنوان : «مسألة» ـ وكالخضرى ، فى مواضع متفرقة ، منها : باب «أبنية المصادر» ، عند الكلام على مصدر «فعل» اللازم ... ـ إلا إن كان المبنى للمجهول لزوما غير رافع الاسم بعده ؛ نحو : سقط فى يد المتسرع ، (بمعنى : قدم) ، فشبه الجملة نائب فاعل ؛ ليس بفاعل : لأن الفاعل لا يكون شبه جملة.

(٢) عقد «ابن سيده» فى كتابه : «المخصص» (ج ١٥ ص ٧٢) بابا سماه ما جاء من الأفعال على صيغة ما لم يسم فاعله.


وأنكر بعض المحققين ـ كابن برّى ـ ما قاله ثعلب وغيره من اللغويين والنحاة. وحجة ابن برّى فى الإنكار أن «ثعلبا» ومن معه لم يعلموا ما سجّله ابن درستويه وردده ؛ ونصّه (١) : «(عامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول ، ولم يقولوا إنه إذا سمّى فاعله جاز بغير ضم. وهذا غلط منهم ، لأن هذه الأفعال كلها مفتوحة الأوائل فى الماضى ؛ فإذا لم يسمّ فاعلها فهى كلها مضمومة الأوائل ، ولم نخصّ بذلك بعضها دون بعض. وقد بيّنا ذلك بعلّته وقياسه ؛ فيجوز : عنيت بأمرك ، وعنانى أمرك ـ وشغلت بأمرك ، وشغلنى أمرك ـ وشدهت بأمرك ، وشدهنى أمرك ...) ، اه ، هذا ما نقله «ابن يرى» وختمه بقوله : (وفى ذلك كفاية تغنى عن زيادة إيضاح وبيان)» اه.

ورأيه هو السديد الذى تؤيده النصوص الصحيحة التى تحمل الباحث على أن يسأل : كيف خفيت هذه النصوص على كثير من اللغويين والنحاة القدامى؟ وكيف رتبوا على وجود نوع وهمّى من الأفعال يلازم البناء للمجهول أحكاما خاصة ؛ كمنع مجىء «صيغتى التعجب» من الثلاثى مباشرة ، وعدم صحته إلا بوسيط. وكمنع صوغ «أفعل التفضيل» من مصادرها إلا بوسيط كذلك ... و...

ولا شك أن رأى «ابن برّى» ومن معه من المحققين هو السديد ـ كما تقدم ـ والأخذ به يؤدى إلى إلغاء تلك الأحكام الخاصة ، ويبيح فى الثلاثى «التعجب» المباشر ، وكذا «التفضيل» بغير وسيط ، ويرد لتلك الأفعال اعتبارها ، ويجعل شأنها شأن غيرها من باقى الأفعال التى تبنى للمعلوم.

(ب) عرفنا (٢) أن نائب الفاعل يكون مرفوعا بأحد شيئين ؛ الفعل المبنى للمجهول ، واسم المفعول ، فهل يرتفع بالمصدر المؤول المسبوك فى أصله من «أن» والفعل المبنى للمجهول؟ انتهى النحاة إلى أن الأصح جوازه بشرط أمن اللبس. ومن أمثلتهم : عجبت من أكل الطعام ؛ بتنوين المصدر «أكل» ورفع كلمة :

__________________

(١) ما يأتى منقول مما يسمى : (الرسالة المشتملة على انتقاد «ابن الخشاب البغدادى» على العلامة «أبى محمد الحريرى» فى مقاماته. وانتصار الشيخ الإمام العلامة أبى محمد عبد الله بن برى ، للإمام الحريرى فى الرد على «ابن الخشاب») اه. وهذه الرسالة مطبوعة فى ختام بعض طبعات «مقامات الحريرى».

(٢) فى رقم ١ من هامش ص ٩٦.


«الطعام» على اعتبارها نائب فاعل له. والأصل عندهم : عجبت من أن أكل الطعام. فلما سبك المصدر المؤول صارت كلمة : «الطعام» نائب فاعل له بعد سبكه.

فإن أوقع فى لبس لم يصح ؛ نحو : عجبت من إهانة علىّ ، إذا كان علىّ هو المهان ؛ (والأصل : من أهين علىّ) فيتعين أن يكون المصدر مضافا ، و «علىّ» ، هو المضاف إليه المجرور. وهو فى محل نصب مفعول به ، ولا يصح الرفع ؛ لوقوع اللبس بسببه.

وكما صح رفع نائب الفاعل بالمصدر المؤول يصح أن يكون مجرورا باعتباره مضافا إليه ، والمصدر هو المضاف ؛ فيكون مجرورا لفظا ، مرفوعا محلا ؛ كما يجوز جعل ما أضيف إليه المصدر فى محل نصب على المفعولية ، والفاعل محذوف من غير نيابة شىء عنه.

أما على الرأى الذى يمنع المصدر المؤول من رفع نائب فاعل فيتعين إضافة المصدر لما بعده على أنه فى محل نصب على المفعولية (١).

بالرغم من أن الأصح ـ عندهم ـ جوازه ، فالأنسب اليوم عدم الالتجاء إليه ؛ لأنه لا يكاد يخلو من غموض وثقل ينافيان الأساليب الناصعة العالية ، وأسس البلاغة ، وهذان أمران لهما اعتبارهما. ويزيدهما قوة ورجاحة خلو المراجع المتداولة من أمثلة مسموعة عن فصحاء العرب تؤيده.

(ح) فى الفعل الثلاثى المعلّ العين ، وفى غيره من الأفعال الماضية المبنية للمجهول ـ لغات أخرى ، أعرضنا عنها ؛ لأنها لهجات متعددة ، لقبائل متباينة لا نرى خيرا فى استعمالها اليوم ؛ حرصا على الإبانة والتوحد المفيد قدر الاستطاعة ، ومنعا للتشتت والتعدد فى أهم وسيلة للتفاهم والإيضاح ، وهى : اللغة.

__________________

(١) راجع الخضرى والصبان.


المسألة ٦٨ :

ب ـ الأشياء التى تنوب عن الفاعل بعد حذفه

ننتقل إلى الأمر الثانى (١) الذى يترتب على حذف الفاعل ؛ وهو : إقامة نائب عنه يحلّ محله ، ويخضع لكثير من أحكامه ، ـ كما قلنا ـ.

والذى يصلح للنبابة عن الفاعل واحد من أربعة أشياء ؛ المفعول به ، والمصدر ، والظرف ، والجار مع مجروره (٢) ، وقد تلحق بها ـ أحيانا ـ حالة خامسة ، ستجىء (٣)

(١) فأما المفعول به فقد سبقت له أمثلة كثيرة. غير أن فعله قد يكون متعديا لواحد ؛ كالأمثلة المشار إليها. وقد يكون متعديا لاثنين أصلهما المبتدأ والخبر ؛ كمفعولى : «ظن» وأخواتها (٤) ـ فى مثل ؛ ظنّ الغلام الندى مطرا ، أو ليس أصلهما المبتدأ والخبر ؛ كمفعولى : «أعطى» وأخواتها ومنها : «كسا» ، فى مثل : أعطى الغنىّ الفقير مالا ، وكسا المحتاج ثوبا (٥) وقد يكون متعديا لثلاثة ؛ «كأعلم» و «أرى (٦)» ، نحو : أعلم الطبيب المريض الدواء شافيا.

فإن كان الفعل متعديا لمفعول به واحد ، مذكور فى الكلام ، أقيم هذا الواحد مقام الفاعل ... وإن كان متعديا لاثنين مذكورين فقد يكون أصلهما المبتدأ والخبر أو ليس أصلهما كذلك. فأى المفعولين ينوب؟

__________________

(١) أما الأول فقد سبق فى ص ٩٧.

(٢) راجع ما قلناه أول الباب (فى رقم ٥ من هامش ص ٩٦) من أن بعض النحاة يجيز تقديم نائب الفاعل إذا كان شبه جملة.

(٣) فى ص ١١٦ ـ أما غير هذه الخمسة فسيجىء عنه كلام فى الزيادة والتفصيل ص ١١٩ ـ أـ ومنه يعلم وجود أشياء أخرى.

(٤) سبق بابها فى ص ٣.

(٥) ليس أصل المفعولين هنا المبتدأ والخبر ، إذ لا يقال على سبيل الحقيقة اللغوية. لا المجاز : الفقير مال ـ المحتاج ثوب ؛ لفساد المعنى الحقيقى على هذا.

(٦) سبق بابهما فى ص ٥٥.


وإن كان متعديا لثلاثة مذكورة فأيها ينوب كذلك (١)؟

خير الآراء وأنسبها : اختيار الأول للنيابة إذا كان هو الأظهر والأبين للقصد مهما كان نوع فعله. لكن لا مانع من تركه ، واختيار غيره ؛ فيكون فى هذا اختيار لغير الأفضل. فإن كان غير الأول هو الأقدر على إيضاح المراد ، وإبراز الغرض من الجملة فنيابته مقدمة على نيابة الأول. ولا بد فى كل الحالات من أمن اللّبس ؛ وإلا وجب العدول عما يحدثه إلى ما لا يحدثه. وفيما يلى أمثلة لأنواع الفعل المتعدى قبل بنائه للمجهول ، وبعد بنائه ، وما يحدث اللبس وما لا يحدثه. فمما لا يحدثه :

(عرف المسترشد الصواب ـ عرف الصواب).

(ظن الجاهل الخفّاش طائرا ـ ظنّ الخفاش طائرا ـ ظنّ طائر الخفاش).

(أعطى الوالد الطفل كتابا ـ أعطى الطفل كتابا ـ أعطى كتاب الطفل).

(أعلمت التاجر الأمانة نافعة ـ أعلم التاجر الأمانة نافعة ـ أعلم الأمانة التاجر نافعة ـ أعلم نافعة التاجر الأمانة).

ولا يصح إنابة غير الأول فى مثل : (أعطيت محمدا فريقا من الأعوان). (منحت الشركة مهندسا). لأن كلا من الأول والثانى يصلح أن يكون آخذا ومأخوذا ؛ فلا يمكن التمييز بينهما عند بناء الفعل للمجهول إلا باختيار أولهما ليكون نائب فاعل ؛ لأن اختياره يجعله بمنزلة الفاعل فى المعنى ؛ فيتضح من تقدمه أنه الآخذ ؛ وغيره المأخوذ. ومثل هذا يقال فى : ظننت الولد الوالد ، حيث يجب اختيار الأول للنيابة لأن كلا منهما صالح أن يكون هو المظنون الشبيه بالآخر. ولا يمنع هذا اللبس إلا اختيار الأول وذلك للسبب السالف ؛ ولا سيما أن الأول هنا أصله مبتدأ ، والمبتدأ

__________________

(١) الخلاف بين النحاة عنيف متشعب فيما يصلح للنيابة عند تعدد المفعول به ، وتباين أوصافه ؛ أهو الأول وحده ، فلا يصح إنابة غيره ، أم الأول وغيره ؛ فيختار واحد بغير تعيين؟ وهل الأول وغيره سواء عند الاختيار ، لا مزية لأحدهما على الآخر؟ وهل بين المفعولين أو الثلاثة ما لا يصلح للنيابة؟ ... و... و...

ولا نريد الإرهاق بسرد أوجه الخلاف ، وأسبابه ، وأدلته كما وردت فى المطولات فليس فى السرد ؛ ما يناسبنا اليوم. وحسبنا أن نستقصى الآراء ، ونستصفى خيرها لنقدمه هنا.


متقدم بحسب أصل رتبته على الخبر. ومثل هذا يقال فى : (أعلم السائق المهندس زميلا مهملا) ، حيث يجب اختيار الأول ؛ لما سلف.

وإذا وقع الاختيار على واحد وجب ترك ما عداه على حاله كما كان مفعولا به منصوبا (١).

ومما يجب التنبه له أن المفعول الثانى «لظن» وأخواتها قد يكون جملة ـ كما سبق فى بابها (٢) ـ فإن كان جملة لم يصح اختياره نائبا للفاعل ؛ لأن الفاعل ونائبه لا يقعان جملة (٣) فى الراجح. وينطبق هذا على غير «ظن» أيضا ؛ فهو حكم عام فيها وفى غيرها ..

(٢) وأما المصدر ـ ومثله اسم المصدر ـ فيصلح للنيابة عن الفاعل بشرطين ؛ أن يكون متصرفا ، ومختصّا. والمراد بالتصرف : ألّا يلازم النصب على المصدرية ، وإنما ينتقل بين حركات الإعراب المختلفة ؛ فتارة يكون مرفوعا ، وأخرى يكون منصوبا ، أو مجرورا ؛ على حسب حالة الجملة ؛ مثل : فهم ، جلوس ، تعلّم ... ؛ نحو : الفهم ضرورىّ للمتعلم ـ إن الفهم ضرورى ... ـ اعتمدت على الفهم ... و... وكذا الباقى ونظائره مما لا يلازم النصب على المصدرية. لأن ملازمته النصب على المصدرية تمنع أن يكون مرفوعا مطلقا ؛ فلا يصلح نائب فاعل أو غيره من المرفوعات.

__________________

(١) وإلى بعض ما سبق يشير ابن مالك بقوله :

وباتّفاق قد ينوب الثّان من

باب : «كسا» فيما التباسه أمن

فى باب : «ظنّ» و «أرى» المنع اشتهر

ولا أرى منعا إذا القصد ظهر

يريد : أن النحاة اتفقوا ـ بناء على ما استنبطوه من كلام العرب ـ على جواز إنابة المفعول الثانى الذى فعله : «كسا» وشبهه ، ـ وهو الفعل الذى ينصب مفعولين ، ليس أصلها المبتدأ والخبر ـ إذا أمن الالتباس. أما إنابة الثانى مما فعله «ظن» أو «رأى» ـ وأخواتهما فقد بين أن المشهور المنع. وهو لا يوافق على المنع إذا كان القصد يظهر ويتضح بالثانى. ولم يتعرض للمفعول الثالث الذى فعله ينصب ثلاثة ، وقد ذكرنا أن حكمه كغيره. وسيعاد البيتان لمناسبة أخرى فى هامش ص ١١٨.

(٢) ص ٢٣.

(٣) قد تقع الجملة نائب فاعل إذا حكيت بالقول ، وقصد لفظها بحروفها وضبطها ـ بالتفصيل المبين «فى ب» من ص ٥١ ـ ؛ لأنها تكون حينئذ بمنزلة المفرد ، بسبب قصد لفظها. مثل قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ...) فيجوز أن تكون جملة : «لا تفسدوا» هى نائب الفاعل مرفوعة بضمة مقدرة على آخرها ، منع من ظهورها الحكاية ... ومثل المحكية أيضا المؤولة بالمفرد ؛ نحو : ـ


فإن كان المصدر ـ أو اسمه ـ ملازما النصب على المصدرية لم يكن متصرفا ، ولم يصح اختياره للنيابة عن الفاعل ؛ مثل : «معاذ» ؛ فإنه مصدر ميمىّ لم يشتهر استعماله عن العرب إلا منصوبا مضافا (١) فى نحو : معاذ الله أن يغدر الأمين. ومثل : «سبحان» (٢) ؛ فإنه اسم مصدر لم يشتهر استعماله عن العرب كذلك إلا منصوبا مضافا ـ فى الأغلب ـ ، فلو وقع أحدهما نائب فاعل لصار مرفوعا ، ولخرج عن النصب الواجب له ، وهو ضبط لا يصح مخالفته ، ولا الخروج عليه ؛ حرصا على اللغة ، ومحافظة على طرائقها المشهورة.

والمراد بالاختصاص : أن يكتسب المصدر من لفظ آخر معنى زائدا على معناه المبهم ، المقصور على الحدث المجرد ؛ ليكون فى الإسناد إليه فائدة. فالمعانى المبهمة المجردة مثل ؛ قراءة ـ أكل ـ سفر ... و.... وأمثالها ؛ يدل كل منها على معناه الذى يفهم من لفظه نصّا ، دون زيادة شىء عليه ؛ فكلمة : «قراءة» ليس فى معناها الحرفى ما يدل على أنها قراءة سهلة أو صعبة ، نافعة أو ضارة ، ... و «الأكل» ليس فى معناه الحرفى ما يدل على أنه لذيذ أو بغيض ، قليل أو كثير ، حارّ أو بارد ... و «السفر» ليس فى معنى نصه الحرفى ما يدل على أنه سفر قريب أو بعيد ، سهل أو شاق ، مرغوب فيه أو مرغوب عنه ... وهكذا يدل المصدر وحده ـ وكذا اسمه ـ على المعنى المجرد ؛ أى : على ما يسمونه : «الحدث المحض» فمثل هذا المصدر ، أو اسمه لا يصلح أن يكون نائب فاعل ، لأن الإسناد إليه لا يفيد معنى جديدا أكثر من معنى فعله ؛ فكأنه جاء

__________________

ـ عرف كيف جاء على. أى : عرف كيفية مجىء على (راجع ج ١ م ٣٩ ـ هامش ص ٣٧٥ ـ حيث تفصيل الكلام على حالات إعراب : «كيف» وبنائها وقد أشرنا إليه فى رقم ٢ من هامش ص ٥٨ و ٦٤ وهذا يشمل المفعول الثانى لظن وغيرها. أما وقوع الجملة فاعلا فقد سبق الفصل فيه فى ص ٥٦ وأن الأرجح المنع.

(١) «معاذ» فى نحو : معاذ الله أن أنسى الفضل ، مصدر ميمى نائب عن اللفظ بفعله ، (أى : يغنى عن التلفظ بفعله). والأصل أعوذ بالله معاذا. ثم حذف الفعل ، وقام المصدر نائبا عن لفظه ، وأضيف ؛ فصار : معاذ الله. ويعرب مفعولا مطلقا. وستجىء إشارة له فى ص ٢٢٢ م ٧٦ ، ولاستعماله غير مضاف ، لضرورة الشعر.

(٢) اسم مصدر معناه : التسبيح. وفعله : سبّح. وستجىء إشارة له فى ص ٢٢٢ م ٢٢٢ م ٧٦ ولاستعماله فى ضرورة الشعر غير مضاف.


لتأكيد معنى فعله ؛ وتوكيد المعنى الموجود ليس هو المقصود الأساسى من الإسناد ، ولا يوصف بأنه معنى جديد ، فلا يصح أن يقال : علم علم ، فهم فهم ... إذ لا بد مع المصدر من زيادة معنى جديد على معناه الأصلى ؛ ليكون صالحا للنيابة ، وهذه الزيادة تأتيه من خارج لفظه ، وهى التى تجعله مختصّا.

وتحدث بواحد أو أكثر من أمور متعددة ؛ منها : وصفه ؛ نحو : علم علم نافع ـ فهم فهم عميق ، ومنها إضافته ؛ نحو : علم علم المخترعين ، وفهم فهم العباقرة. ومنها : دلالته على العدد ؛ نحو : قرئ عشرون قراءة ... وغير هذا من كل ما يزيل إبهام المصدر ، واسمه ، ويزيد معناهما على مجرد تأكيد معنى الفعل ، ويجعل الإسناد إليهما مفيدا فائدة جديدة أساسية.

ومما سبق نعلم المراد من قولهم المختصر : «إن المصدر يصلح للنيابة إذا كان مفيدا» ويكتفون بهذه الجملة ، لأن الإفادة لا تحقق إلا بالشرطين السالفين وهما : التصرف والاختصاص.

(٣) وأما الظرف بنوعيه فيصلح للنيابة عن الفاعل إذا كان مفيدا أيضا ، وهذه الفائدة تتحقق بشرطين ؛ أن يكون متصرفا كامل التصرف ، وأن يكون مختصّا.

والمراد بالتصرف الكامل : صحة التنقل بين حالات الإعراب المختلفة ؛ من (رفع ، إلى نصب ، إلى جر ؛ على حسب حالة الجملة) ، وعدم التزامه النصب على الظرفية وحدها دائما ، أو النصب على الظرفية مع الخروج عنها أحيانا إلى شبه الظرفية ، وهو الجر بالحرف «من» (١) ـ فى الغالب ـ ؛ لأن عدم تصرفه الكامل يمنع وقوعه مرفوعا ـ نائب فاعل أو غيره من المرفوعات ، كما سبق. فمثال الظرف الكامل التصرف : يوم ـ زمان ـ قدّام ـ خلف ... ؛ لأنك تقول : اليوم يوم طيب ـ قضيت يوما طيبا ـ تطلعت إلى يوم طيب ... وتقول : قدّامك فسيح ـ إن قدّامك فسيح ـ سأتجه إلى قدامك. فهذه الظروف المتصرفة يصح وقوعها نائب فاعل إن كانت مختصة (٢).

__________________

(١) ينقسم الظرف ـ باعتبار التصرف وعدمه ـ إلى ثلاثة أقسام : ظرف كامل التصرف ، وظرف ناقص التصرف ، ـ ويسمى أيضا الشبيه بالمتصرف ـ وظرف غير متصرف مطلقا. وسيجىء هنا موجز عنها. أمّا تفصيل الكلام على الأقسام كلها ففى باب الظرف ص ٢٢٩ م ٢٤٤.

(٢) «ملاحظة» : إذا صار الظرف نائب فاعل ، أو شيئا آخر غير النصب على الظرفية ، فإنه لا يسمى ظرفا ـ كما سيجىء فى بابه ، ص ٢٣١ ـ


ومثال الظرف غير المتصرف مطلقا (وهو الذى يلازم النصب على الظرفية وحدها) : قطّ (١) ـ عوض (٢) ـ إذا ـ سحر ؛ (بشرط أن يراد به سحر يوم معين دون غيره ؛ ليكون ظرفا ملازما للنصب). فلا يصح أن يقع واحد من هذه الظروف ـ وأشباهها ـ نائب فاعل ؛ فلا يقال عنه نائب فاعل فى مثل (٣) : ما كتب قطّ ـ لن يكتب عوض ـ ما يجاء إذا جاء الصديق ، مدح سحر.

لا يقال ذلك لعدم تحقق الفائدة المطلوبة من الإسناد ، ولئلا يخرج الظرف عن الظرفية إلى غيرها وهى الحكم الدائم الثابت له فى الكلام العربى الأصيل الذى لا تجوز مخالفة طريقته.

ومثال الظرف الشبيه بالمتصرف (أى : الظرف ناقص التصرف ، وهو الذى لا يترك النصب على الظرفية إلا إلى ما يشبهها ؛ وهو الجر بالحرف «من» ـ غالبا ؛ ـ كما سبق) : عند ـ ثمّ ـ مع ... وهذا النوع لا يصلح للنيابة عن الفاعل ؛ لأنه كسابقه ـ لا يفيد الفائدة المطلوبة من الإسناد ، ولأنه لا يصح إخراجه عن الحكم والضبط الذى استقر له وثبت فى الكلام العربى المأثور ؛ وهو النصب أو الجر الغالب بمن ؛ فلا يقال : قرئ عند ، ولا كتب ثمّ. ولا عرف مع (٤) ...

__________________

(١) ستجىء له إشارة أخرى فى «ب» من ص ٢٤٥ والأشهر فى ضبطه أن يكون بفتح القاف مع تشديد الطاء المضمومة ، وأن يفيد استغراق الزمن الماضى كله منفيا ؛ لأنه ـ فى الأشهر ـ لا بد أن يسبقه النفى أو شبهه ؛ نحو : ما تأخرت قط. أى : ما تأخرت فيما انقضى من عمرى إلى الآن. وهو ظرف مبنى على الضمّ. (وفيه لغات أخرى أقل شيوعا). و «قط» ه : غير التى فى مثل : تصدق بدرهمين أو ثلاثة فقط ؛ فإن هذه بمعنى : حسب» ، والفاء زائدة لتزيين اللفظ. (وتفصيل المسألة وإيضاحها فى ج ١ ص ٣٠١).

(٢) هو ظرف لاستغراق الزمن المستقبل المنفى ؛ لأنه ـ فى الغالب يكون مسبوقا بالنفى. وحكمه عند عدم إضافته : البناء على الضم أو الفتح أو الكسر ، فإن أضيف كان معربا ؛ نحو : لن أنافق عوض العائضين. ـ كما سيجىء فى «ب» من ص ٢٤٥. ـ

(٣) لا يقال ذلك ؛ سواء اعتبرنا كلا منها نائب فاعل ، مرفوعا مباشرة ، أو اعتبرناه غير معرب ، أى : نائبا مبنيا فى محل رفع.

(٤) بعض النحاة يجيز فى مثل : جلس عندك ـ بإضافة الظرف إلى الضمير ـ أن يكون الظرف منصوبا على الظرفية مع كونه فى الوقت نفسه فى محل رفع بالنيابة عن الفاعل. ويجيز فى قوله تعالى : لقد تقطع بينكم ... وقوله (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أن يكون الظرف فى الآية الأولى منصوبا على الظرفية فى محل رفع فاعلا. وأن يكون فى الآية الثانية منصوبا على الظرفية فى محل رفع مبتدأ. وهذا غريب والمشهور فى الآيتين ونظائرهما مما يضاف فيه الظرف إلى المبنى أن يبنى على الفتح جوازا ؛ فيكتسب البناء من المضاف إليه. وفى هذه الحالة التى يبنى فيها على الفتح جوازا تكون فتحته فتحة بناء ، لا فتحة إعراب. فيكون مبنيا على الفتح فى محل رفع ، أو نصب ، أو جر على حسب حاجة الجملة ...

(راجع الخضرى والصبان فى هذا الموضع من باب نائب الفاعل).


والمراد بالاختصاص هنا : أن يزاد على معنى الظرف معنى جديد آخر يكتسبه من كلمة تتصل به اتصالا قويّا ؛ ليزول الغموض والإبهام عن معناه. كأن يكون الظرف مضافا ؛ نحو : أذّن وقت الصلاة ـ نودى ساعة البيع ... أو يكون موصوفا ؛ نحو : قضى شهر جميل فى المصايف ـ قطع يوم كامل فى السفر ـ أو يكون معرّفا (١) ؛ نحو : يحبّ اليوم لأنه معتدل ، أو غير ذلك مما يزيد معنى جديدا على الظرف ، ويخرج معناه السابق من الإبهام والتجرد.

(٤) وأما الجار مع مجروره فإن كان حرف الجر زائدا ـ نحو : ما صودر من شىء ـ فلا خلاف فى أن النائب هو المجرور وحده ـ ، وأنه مجرور لفظا ، مرفوع محلّا ، فيجوز فى التوابع مراعاة لفظه أو محله.

أمّا حرف الجر الأصلى مع مجروره ـ نحو : قعد فى الحديقة الناضرة ـ فالصحيح أن الذى ينوب منهما عن الفاعل هو المجرور وحده (٢). (برغم أن الشائع على الألسنة هو : الجار مع مجروره. ولا مانع من قبوله تيسيرا وتخفيفا) (٣).

ويشترط لإنابتهما أن يكون الإسناد إليهما مفيدا. وتتحقق الفائدة بأمرين ؛ أن يكون حرف الجر متصرفا ، وأن يكون مجروره مختصّا.

والمراد من التصرف فى حرف الجر ألا يلتزم طريقة واحدة لا يخرج عنها إلى غيرها ... كأن يلتزم جر الأسماء الظاهرة فقط ؛ ومن أمثلته : مذ ـ منذ ـ

__________________

(١) ومنه التعريف بالعلمية ؛ مثل : رمضان ، للشهر المعروف. ومثل : «سحر» ـ فى رأى ـ إذا جعل علما على سحر يوم معين عند القائلين بعلميه.

(٢) فهو مجرور فى الظاهر ، ولكنه فى المعنى والتقدير مرفوع. ولا يصح ـ فى الرأى القوىّ ـ مراعاة هذا المعنى والتقدير فى التوابع أو غيرها ؛ فهو أمر ملاحظ عقليا فقط ، ولا يجوز مراعاته أو تطبيق حكمه على غيره. شأنه فى ذلك شأن المجرور بحرف جر أصلى بعد فعل لازم مبنى للمعلوم ؛ نحو : قعد الرجل فى البيت. فإن كلمة : «البيت» مجرورة فى اللفظ ؛ لكنها فى المعنى والتقدير منصوبة ؛ لأنها بمنزلة المفعول به للفعل اللازم. ولا يصح فى الرأى الأحسن مراعاة هذا النصب فى التوابع أو غيرها ؛ فنصبها ملاحظ فيها عقليا مقصور عليها. فالمجرور مع الفعل المبنى للمجهول مرفوع «محلا» ، ورفعه مقصور عليه. والمنصوب مع الفعل المبنى للمعلوم منصوب محلا ، ونصبه مقصور عليه ؛ فكلاهما يشبه الآخر فى حركة معنوية عقلية ، مقصورة عليه وحده ؛ لا يظهر لها أثر فى غيره. (انظر هامش ص ١٢٢ ثم رقم ٣ من هامش ١٤٥ لأهميته حيث تجد رأيا آخر ، وتعليقا عليه).

(٣) وفوق ذلك يريحنا من أنواع مرهقة من الجدل الثقيل حول إثبات أن النائب هو حرف الجر وحده ، أو مجروره وحده ...


حتى ... ، أو جرّ النكرات فقط ؛ ومن أمثلته : «ربّ» ، أو يلتزم جرّ نوع آخر معين من الأسماء ؛ كحروف القسم ؛ فإنها لا تجر إلا مقسما به ، وكحروف الجر التى للاستثناء (وهى : خلا ـ عدا ـ حاشا) فإنها لا تجر إلا المستثنى ومثل : مذ ومنذ : فإنهما لا يجران إلا الأسماء الظاهرة الدالة على الزمان ... فلا يصح وقوع شىء من تلك الحروف مع مجروراتها نائب فاعل ؛ فلا يقال نائب فاعل فى مثل : صنع منذ الصبح ، ولا زرع حتى الشاطئ ، ولا قوتل ربّ رجل عنيد ... و... (١)

والمراد بالاختصاص أن يكتسب الجار مع مجروره معنى زائدا فوق معناهما الخاص بهما. ويجيئهما هذا المعنى الزائد من لفظ آخر يتصل بهما ؛ كالوصف ، أو المضاف إليه ، أو غيرهما مما يكسبهما معنى جديدا ؛ فتحصل الفائدة المطلوبة من الإسناد.

ومن أمثلة الجار والمجرور المستوفيين للشروط : أخذ من حقل ناضج ـ قطع فى طريق الماء. فلا يصحّ : أخذ من حقل ـ قطع فى طريق ...

من كلّ ما سبق نعرف أن «الإفادة» هى الشرط الذى يجب تحققه فيما ينوب عن الفاعل من مصدر ، أو ظرف ، أو جار مع مجروره ، وأن هذه الإفادة تنحصر فى التصرف والاختصاص معا.

(٥) يلحق بما تقدم الجملة المحكيّة بالقول ، وكذا المؤوّلة بالمفرد ، طبقا للبيان الذى سلف (٢) عنهما.

__________________

(١) وكذلك يشترط ألا يكون معنى حرف الجر هو : «التعليل» كالذى يفهم من «اللام» و «الباء» وقد يفهم من حرف الجر «من» أحيانا. والداعى لهذا الاشتراط عندهم أن حرف الجر حين يكون معناه التعليل يكون مجروره مبنيا على سؤال مقدر. أى : يكون بمنزلة جواب عن سؤال مقدر ؛ فكأن المجرور من جملة أخرى. ويمثلون له بأمثلة منها قول الشاعر :

يغضى حياء ، ويغضى من مهابته

فلا يكلّم إلا حين يبتسم

أى : يغضى هو ، أى الطرف ؛ لأن الإغضاء خاص بالطرف ؛ فيدل عليه. ولا يصح عندهم أن يكون الجار والمجرور نائب فاعل ؛ لأن معنى حرف الجر هنا : «التعليل» ؛ فالمجرور مبنى على سؤال مقدر ، هو : لماذا يغضى؟ فأجيب : من مهابته. فكأن الجواب من جملة أخرى فى رأيهم ـ كما سبق ـ لكن كيف نوفق بين هذا الرأى وما يخلفه مما يأتى فى : «ا» ص ١١٩ ه‍.

(٢) فى رقم ٣ من هامش ص ١١١.


إلى هنا انتهى الكلام على الأشياء التى يصلح كل واحد منها أن يكون نائب فاعل إذا لم يوجد غيره فى الجملة ، فإذا وجد أكثر من واحد صالح للإنابة لم يجز أن ينوب عن الفاعل إلا واحد فقط ؛ لأن نائب الفاعل ـ كالفاعل ـ لا يتعدد.

لكن ما الأحق بالنيابة عند وجود نوعين مختلفين ، صالحين أو أكثر؟ يميل كثير من النحاة إلى الرأى القائل باختيار المفعول به (١) دائما ، (أى : فى كل الحالات) ؛ ليكون هو النائب ، ويفضلونه على غيره. وهم ـ مع ذلك ـ يجيزون ترك الأفضل ؛ ففى مثل : أنشد الشاعر القصيدة إنشادا بارعا فى الحفل أمام الحاضرين ، يكون الأفضل عندهم ـ حين بناء الفعل للمجهول ـ اختيار المفعول به نائبا ؛ فيقال : أنشدت القصيدة ، إنشادا بارعا ، فى الحفل أمام الحاضرين. ولا مانع من ترك الأفضل واختيار غيره ، كما قالوا.

والحق أن الرأى السديد الأنسب هو أن نختار من تلك الأنواع ما له الأهمية فى إيضاح الغرض ، وإبراز المعنى المراد ، من غير تقيد بأنه مفعول به أو غير مفعول به ، وأنه أوّل أو غير أوّل ، متقدم على البقية أو غير متقدم. ففى مثل : «خطف اللصّ الحقيبة من يد صاحبتها أمام الراكبين فى السيارة» ـ تكون نيابة الظرف : «أمام» أولى من نيابة غيره ؛ فيقال خطف أمام الراكبين فى السيارة الحقيبة من يد صاحبتها ؛ لأن أهم شىء فى الخبر وأعجبه أن تقع الحادثة أمام الراكبين ، وبحضورهم ؛ وهم جمع كبير يشاهد الحادث فلا يدفعه ، ولا يبالى بهم اللص ...

وقد تكون الأهمية فى مثال آخر : للجار والمجرور ؛ نحو : سرق فى ديوان الشرطة سلاح جنودها ... وهكذا (٢).

__________________

(١) ويبالغون ، فيفضلونه ، ولو كان من نوع المفعول به المنصوب على نزع الخافض. ويترتب على هذا الاختيار بعض صور لها أحكام خاصة ، منها ما سيجىء فى «ح» من ص ١١٩.

(٢) وفيما سبق يقول ابن مالك :

وقابل من ظرف لو من مصدر

أو حرف جرّ بنيابة حرى

يريد : أن اللفظ القابل للنيابة حر (أى : حقيق وجدير بها) إذا كان ذلك اللفظ ظرفا أو مصدرا ؛ أو حرف جر. ولعل ابن مالك يريد : أو مجرور الحرف (فكلمة «قابل» مبتدأ خبره : «حر» وقد حذف التنوين ورجعت الياء عند الوقف ، فصارت «حرى» «من ظرف» جار ومجرور ، ـ


ومثل هذا يقال عند حذف الفاعل ، وعدم وجود مفعول به فى الجملة ينوب عنه ، مع وجود أنواع أخرى تصلح للنيابة : فإن اختيار بعض هذه الأنواع دون بعض يقوم على أساس الأهمية ودرجتها ؛ فما كان أكبر أهمية وأعظم تحقيقا للمراد من الجملة ، فهو الأحق بالاختيار ، والأولى بالنيابة.

__________________

ـ حال من الضمير فى «قابل» ، أو صفة لقابل فتقدير البيت نحويا هو : ولفظ قابل للنيابة حر بنيابة ، حالة كون هذا اللفظ ظرفا ، أو مصدرا ، أو حرف جر ـ وهذا اللفظ موصوف بأنه من ظرف ، أو من مصدر ، أو حرف جر). ثم قال بعد ذلك :

ولا ينوب بعض هذى إن وجد

فى اللّفظ مفعول به. وقد يرد ـ

يريد أنه لا يصح ـ فى الغالب ـ إنابة شىء مما ذكره فى البيت السابق مع وجود المفعول به. ثم عاد فقرر أنه قد يرد فى الكلام الصحيح إنابة غير المفعول به مع وجوده. ثم سرد بعد ذلك بيتين سبق شرحهما فى مكانهما الأنسب من هذا الباب ص ١١١ ـ وهما :

وباتّفاق قد ينوب الثّان من

باب «كسا» فيما التباسه أمن

فى باب «ظنّ وأرى» ، المنع اشتهر

ولا أرى منعا إذا القصد ظهر

ثم ختم الباب بالبيت التالى :

وما سوى النّائب ممّا علّقا

بالرّافع ، النّصب له ، محقّقا

يريد : أن النائب عن الفاعل سيصير مرفوعا ؛ لتعلق معناه بالفعل الرافع له ؛ فلأن معناه علق برافعه (وثبت أنه رافعه) لا بد أن يرتفع. وما سوى هذا النائب فالنصب له. أى : حكمه النصب. (وكلمة «محققا» ، حال من الضمير ، الهاء فى : «له») فإذا وجد فى الكلام مفعول به أو أكثر ، ومعه شىء آخر يصلح للنيابة عن الفاعل ـ فالذى وقع عليه الاختيار للإنابة يرتفع ، وما عداه ينصب لفظا ، إلا الجملة المحكية ، والمؤولة بالمفرد (وقد سبق حكمهما فى رقم ٣ من هامش ص ١١١) وإلا المجرور ؛ فيبقى جره على حاله لفظا ، وينصب محلا. بالتفصيل الذى عرضناه.


زيادة وتفصيل :

(ا) لا يجوز إنابة الحال ، والمستثنى ، والمفعول معه ، والتمييز الملازم للنصب ، والمفعول لأجله ؛ فكل واحد من هذه الخمسة لا يصلح للإنابة ؛ لأنها تخرجه من مهمته الخاصة ، وتنقله إلى غيرها ، وقد تتغير حركته الملازمة له. لكن فريقا من النحاة يرى ـ بحق ـ جواز نيابة التمييز المجرور بالحرف «من» ، وكذا نيابة المفعول لأجله المجرور. بشرط أن يحقق كل منهما الفائدة المطلوبة منه ، والغرض من وجوده ؛ نحو : يقام لإجلال العلماء النافعين ، ويفاض من سرور رؤيتهم ، ويسمى كل منهما : نائب فاعل ، ويزول عنه الاسم السابق. ورأى هذا الفريق حسن (١).

(ب) الصحيح أنه لا يجوز إنابة خبر «كان» (٢) ولا سيما المفرد ؛ لعدم الإفادة ؛ فلا يصح : كين قائم ، (على فرض استساغته) ؛ إذ معناه كما يقولون : حصل كون لقائم. ومن المعلوم أن الدنيا لا تخلو من حصول كون لقائم.

(ح) عرفنا (٣) أن جمهرة النحاة تختار المفعول به ـ دون غيره ـ لإقامته نائبا عن الفاعل المحذوف عند تعدد الأنواع الصالحة للنيابة. وقد شرحنا رأيهم ، وأوضحنا ما فيه ، ويترتب على الأخذ برأيهم ما يأتى :

إذا قلت : زيد فى أجر الصانع عشرون ـ كانت «عشرون» باعتبارها مرفوعة النائب عن الفاعل ، ولا يكون الفعل متحملا ضميرا ، ولا يلحق بآخره علامة تثنية أو جمع.

أما إذا قدّمت : «الصانع» فقلت : الصانع زيد فى أجره عشرون ـ فيجوز أحد أمرين :

(١) أن تكون : «عشرون» مرفوعة على أنها نائب الفاعل ، والفعل معها خال من الضمير ، فلا يتصل بآخره علامة تثنية أو جمع. وفى هذه الصورة يجب بقاء

__________________

(١) لكن كيف نوفق بين هذا الرأى وما يخالفه مما سبق فى رقم ١ من هامش ص ١١١ ه‍.

(٢) هذا الحكم خاص بخبر كان ـ دون أخواتها (انظر رقم ٢ من هامش ص ١٠٥).

(٣) فى ص ١١٧.


الجار والمجرور ، واشتماله على ضمير مطابق للاسم السابق ـ المبتدأ ـ ويكون هو الرابط ، مثل : الصانعان زيد فى أجرهما عشرون ـ الصانعون زيد فى أجرهم عشرون .... وهكذا.

٢ ـ نصب كلمة : «عشرين» على أنها ليست نائب فاعل (١) ، وإنما النائب ضمير متصل بالفعل ، لأن الفعل فى هذه الصورة يتحمل الضمير مستترا أو بارزا ، يعود على المبتدأ ويطابقه ، ويكون الرابط. وفى هذه الحالة يمكن الاستغناء عن الجار ومجروره ، أو عدم الاستغناء مع بقاء الضمير الذى فى آخر المجرور ، ومطابقته أيضا للمبتدأ : (تقول : الصانعان زيدا عشرين. أو : الصانعان زيدا فى أجرهما عشرين) ـ (الصانعون زيدوا عشرين. أو الصانعون زيدوا فى أجرهم عشرين ...) وهكذا ...

__________________

(١) والأحسن فى هذه الصورة أن تعرب مفعولا مطلقا (أى : نائبة عن المصدر).


المسألة ٦٩ :

اشتغال العامل عن المعمول.

(ا) فى مثل : «شاورت الخبير» ـ يتعدى الفعل المتصرف : «شاور» بنفسه إلى مفعول به واحد ؛ فينصبه ؛ ككلمة : «الخبير» هنا. ويجوز ـ لسبب يلاغىّ ، أو غيره ـ أن يتقدم هذا المفعول الواحد على فعله (١) ، ويحل فى مكانه بعد تقدمه أحد شيئين ؛ إما ضمير عائد إليه ، يعمل فيه الفعل الموجود النصب مباشرة ، ويستغنى به عن المفعول المتقدم ؛ فنقول : الخبير شاورته (فالهاء ضمير حل محل المفعول السابق ، واكتفى به الفعل) ـ وإما لفظ ظاهر آخر ، يعمل فيه الفعل المتصرف النصب أيضا ؛ بشرط أن يكون هذا اللفظ الظاهر سببيّا (٢) للمفعول به المتقدم الذى استغنى عنه الفعل ، وأن يكون مشتملا على ضمير يعود على ذلك المفعول ؛ نحو : الخبير شاورت زميله. فاللفظ الظاهر : «زميل» هو الذى حل محل المفعول به السابق ، وهو سببىّ له ومضاف ، والضمير فى آخره مضاف إليه ، عائد على المفعول به المتقدم.

والسببى فى هذا المثال مضاف ، لكنه فى مثال آخر قد يكون متبوعا بنعت ، ونعته هو المشتمل على الضمير المطلوب ؛ نحو : التجارة عرفت رجلا يتقنها ؛ (فجملة «يتقنها» نعت ، وفيها الضمير العائد) وقد يكون متبوعا بعطف بيان مشتمل على ذلك الضمير أيضا ؛ نحو : الصديق أكرمت الوالد أباه ، وقد يكون متبوعا بعطف نسق بالواو ـ دون غيرها ـ مشتملا على الضمير المذكور ، نحو : الزميلة أكرمت الوالد وأهلها. ولا يصلح من التوابع غير هذه الثلاثة.

__________________

(١) بشرط ألا يفصل بين الفعل والمفعول المتقدم فاصل غير توابع الاسم المتقدم (من : النعت والتوكيد ، والعطف البيانى ، أو العطف بالواو ، والبدل) وغير المضاف إليه ، وغير الظرف ، وغير الجار ومجروره. ويصح الفصل بالأمرين ؛ الظرف والجار ومجروره معا. كما يجوز الفصل بما لا بد منه مما يقتضيه المقام ، وذكر الضمير فإن كان العامل وصفا صالحا للعمل جاز الفصل ـ كما سيجىء فى ص ١٢٥ ـ.

(٢) المراد بالسبى للاسم : كل شىء له صلة وعلاقة بذلك الاسم ، سواء أكانت صلة قرابة ، أم صداقة ، أم عمل ، أم غير هذا مما يكون فيه جمع وارتباط بين الاسمين بنوع من أنواع الجمع والارتباط.


ومن الممكن حذف ما حلّ محل المفعول السابق من ضميره العائد إليه مباشرة ، أو سببيه المشتمل على ضمير يعود عليه كذلك. ومتى وقع هذا الحذف صار الاسم المتقدم مفعولا به للفعل المتأخر عنه كما كان. وتفرّغ هذا الفعل لنصبه.

وكالأمثلة السابقة نظائرها ؛ نحو : يصاحب العاقل الأخيار ... أنجز الوعد ... وأشباههما ؛ حيث ينصب الفعل المتصرف مفعولا به واحدا (١) ؛ يجوز أن يتقدم على عامله ، ويحل محله أحد الشيئين ؛ إما ضميره العائد عليه مباشرة ، والذى يعمل فيه الفعل الموجود النصب ، ويستغنى به عن المفعول السابق ؛ فنقول : الأخيار يصاحبهم العاقل ـ الوعد أنجزه ـ وإما لفظ ظاهر سببى يشتمل على ضمير يعود على المفعول به المتقدم ، ويشتغل الفعل الموجود بنصبه ، ويكتفى به عن ذلك المفعول ؛ فنقول : الأخبار يصاحب العاقل زملاءهم ـ الوعد أنجز صاحبه ... وهكذا ، من غير أن نتقيد فى السببى بأن يكون مضافا ؛ فقد يكون مضافا ، أو منعوتا ، أو عطف بيان ، أو عطف نسق بالواو ، مع اشتمال كل واحد على الضمير العائد إلى الاسم السابق.

ويصح ـ كما سبق ـ حذف الضمير العائد على ذلك الاسم المتقدم ، كما يصح حذف السببىّ وما فيه من ضمير عائد عليه أيضا ؛ فيصير الاسم المتقدم فى الحالتين مفعولا به للفعل المتأخر ، ويتفرغ هذا الفعل لنصبه بعد أن كان قد انصرف عنه إلى الضمير المباشر ، أو إلى السببى.

(ب) وليس من اللازم أن يكون الفعل المتصرف متعديا بنفسه مباشرة إلى مفعوله الواحد ؛ وإنما يجوز أن يكون هذا الفعل قاصرا لا يتعدى إلى المفعول به إلا بمساعدة حرف جر أصلىّ ؛ نحو : فرحت بالنصر ؛ فالفعل : «فرح» لازم ، لم ينصب مفعوله (وهو : «النصر») بنفسه مباشرة ؛ وإنما نصبه بمعونة حرف الجر : «الباء». فكلمة «النصر» فى ظاهرها مجرورة بالباء ، ولكنها فى المعنى والحكم بمنزلة المفعول به (٢) ويصح فى هذه الكلمة المجرورة التى تعتبر بمنزلة المفعول به

__________________

(١) وقد ينصب أكثر من واحد ولكن الذى يتقدم عليه واحد فقط ـ كما سيأتى ـ

(٢) ومع أنها بمنزلة المفعول به معنى وحكما لا يجوز نصبها مع وجود حرف الجر قبلها ، كما لا يجوز ـ فى الرأى الأنسب ـ اعتبارها فى محل نصب. ولهذا لا يصح فى توابعها إلا الجر فقط (راجع رقم ٢ من هامش ص ١١٥ ثم رقم ٣ من هامش ص ١٤٥ م ٧٠ ـ حيث الرأى الآخر ، والتعليق عليه ، ثم ص ٤٠٧).


فى المعنى والحكم ، أن تتقدم وحدها ـ دون حرف الجرّ ـ على فعلها ؛ بشرط أن يحل محلها أحد الشيئين ؛ إما الضمير الذى يعمل فيه الفعل معنى وحكما ، والذى يعود على المفعول به المعنوى السابق ؛ نحو : النصر فرحت به ، وإما لفظ آخر سببىّ ، يعمل فيه الفعل ، ويشتمل على ضمير يعود على المفعول به المعنوى (الحكمىّ) السابق ، نحو : النصر فرحت بأبطاله (١).

ومثل هذا يقال فى النظائر : من نحو ؛ ينتصر الحقّ على الباطل ـ سرّ فى طريق الخير ، حيث يصح : الباطل ينتصر الحق عليه ـ الباطل ينتصر الحقّ على أعوانه ـ طريق الخير سر فيه ـ طريق الخير سر فى جوانبه ... وهكذا ، من غير أن نتقيد فى السببى بأن يكون مضافا.

ومن الممكن حذف الضمير أو السببى ، فيرجع الاسم السابق إلى مكانه القديم ، فيعمل فيه عامله الجر.

(ح) وليس من اللازم أيضا أن يكون العامل فعلا ، فقد يكون (٢) اسم فاعل ، أو : اسم مفعول ، فنحو : أنا مشارك الأمين ، نقول فيه : الأمين

__________________

(١) إذا كان الاسم المشتغل عنه ظرفا وجب فى الضمير العائد عليه أن يجر بالحرف «فى» ، نحو : يوم الخميس سافرت فيه. وهذا هو المشهور. ويجوز حذف حرف الجر ؛ توسعا ، فيقال : سافرته ؛ طبقا للبيان المفصل الذى سيجىء فى رقم ٣ من هامش ص ٣٣٣ ورقم ١ من هامش ص ٢٣٩.

(٢) لا يكون العامل هنا إلا فعلا متصرفا ، أو اسم فاعل ، أو صيغة مبالغة ، أو اسم مفعول. ولا يكون صفة مشبهة ، ولا تفضيلا ، ولا وصفا آخر ، لأن ما بعد هذه الثلاثة من معمولاتها لا يكون مفعولا به. ويشترط فى هذا الوصف العامل ألا يوجد ما يمنعه من العمل فى المتقدم ؛ كاسم الفاعل المبدوء بكلمة «أل». وكذلك إذا كان مجردا منها ومعناه المضى المحض ، فانه لا ينصب مفعولا به بعده ، فلا يصلح أن يوضح عاملا قبله ، أو يرشد إليه إن كان محذوفا. فلا اشتغال فى مثل : المخترع أنا المادحه ، ولا المخترع أنا مادحه أمس. ولا اشتغال إذا كان اسم المفعول للماضى ، أو مقرونا بأل ، أو كان العامل اسم فعل ؛ لأن اسم الفعل لا يتقدم معموله عليه فهو لا يعمل فيما قبله ؛ والذى لا يتقدمه مفعوله لا يصلح أن يكون موضحا ولا دالا على عامل قبله محذوف ، ولهذا السبب نفسه لا يصح الاشتغال إذا كان العامل مصدرا ، ... ، أو فعلا جامدا ، كفعل التعجب ، وعسى ، وليس ، وغيرها من كل ما ليس له مفعول به ، أو لا يصلح أن يتقدم عليه مفعوله. هذا إلى أن العامل فى الاشتغال لا بد أن يكون مشتقا والمصدر وما بعده مما ذكرناه هنا ـ ليس مشتقا. نعم يجوز الاشتغال فى المصدر ، وفى اسم الفعل ، وفى ليس ، عند من يجيز تقديم معمول الأولى ، وخبر ليس ، نحو : محمودا لست مثله ، أى : باينت محمودا لست مثله ، وهو رأى مقبول ، وفيه توسعة.


أنا مشاركه (١) ـ الأمين أنا مشارك رفاقه. ونحو : الحقّ منصور على الباطل ، نقول فيه : الباطل الحقّ منصور عليه ـ الباطل الحقّ منصور على شياطينه.

فمتى تقدم المفعول به على عامله وحل محله ما يشغل مكانه ، ويغنى العامل عنه ؛ فقد تحقق ما يسميه النحاة : «اشتغال العامل عن المعمول» ويقولون فى تعريف الاشتغال:

أن يتقدم اسم واحد (٢) ، ويتأخر عنه عامل يعمل فى ضميره مباشرة ، أو يعمل فى سببىّ للمتقدم ، مشتمل على ضمير يعود عليه ؛ بحيث لو خلا الكلام من الضمير الذى يباشره العامل ، ومن السببىّ ، وتفرغ العامل للمتقدم ـ لعمل فيه النصب لفظا ، أو معنى (حكما) كما كان قبل التقدم.

فلا بد فى الاشتغال من ثلاثة أمور مجتمعة ؛ «مشغول» ، وهو : العامل ، ويسمى أيضا : «المشتغل» ، وله شروط عرفناها (٣). «ومشغول به» : وينطبق على الضمير العائد على الاسم السابق مباشرة ؛ كما ينطبق على اللفظ السببىّ الذى له ضمير يعود على ذلك المتقدم. و «مشغول عنه» وهو : الاسم المتقدم الذى كان فى الأصل مفعولا حقيقيّا أو معنويّا (حكميّا) ، ثم تقدم على عامله ، وترك مكانه للضمير المباشر ، أو للسببىّ ؛ فانصرف عنه العامل ، واشتغل بما حل محله.

ولا بد فى هذا الاسم المتقدم أن يتصل بعامله بغير فاصل ممنوع بينهما (٤) إذا

__________________

(١) سيأتى فى الجزء الثالث (باب اسم الفاعل ، م ١٠٢ ص ٢١٤ ـ الهامش رقم ١) ما نصه : (فى هذا المثال ـ وأشباهه ـ نجد الاسم السابق منصوبا مع أن الضمير الراجع إليه مجرور ، لكنه مجرور فى حكم المنصوب ؛ لأن كلمة : مشارك» ، أو «مساعد» ـ ونظائرهما فى مثل هذا التركيب فى حكم الفعل ، وتنوينها ملحوظ ، وإن لم يكن ملفوظا فالضمير هنا كالضمير فى مثل : «أعليا مررت به» مجرور فى حكم المنصوب (راجع شرح المفصل ج ٦ ص ٦٩). وانظر «ب» السابقة.

(٢) التقييد واحد هو الرأى الصحيح عند عدم تعدد العامل المقدر .. أو لا مانع أن يكون العامل متعديا إلى أكثر من واحد ولكن الذى يتقدم عليه هو معمول واحد له ـ كما سبق ـ

(٣) وانظر رقم ١ من ص ١٣٤.

(٤) وقد سبق فى رقم ١ من هامش ص ١٢١ ما يجوز الفصل به.

وفى بيان «الاشتغال» وتوضيح أمره يقول ابن مالك :

إن مضمر اسم سابق فعلا شغل

عنه بنصب لفظه أو المحل ـ ١

فالسّابق انصبه بفعل أضمرا

حتما ، موافق لما قد أظهرا ـ ٢

 ـ


كان العامل فعلا (١). أما إن كان وصفا فيجوز الفصل.

* * *

حكم الاسم السابق فى الاشتغال :

يجوز فى هذا الاسم السابق من ناحية إعرابه وضبط آخره ، أمران ـ بشرط ألّا يوجد ما يحتم أحدهما مما سنعرفه ـ.

أولهما : إعرابه مبتدأ والجملة بعده خبره (٢).

__________________

ـ (أى : إن شغل ضمير اسم سابق فعلا ، عن نصب الاسم السابق لفظا أو محلا مثل : البيت قعدت فيه ـ فانصب الاسم السابق بفعل مضمر «غير ظاهر لأنه محذوف» حتما ؛ أى : إضمارا حتما ، لا مفر منه فى حالة النصب ؛ لأنه محذوف ، ويكون ذلك الفعل المحذوف موافقا للفعل الظاهر فى الجملة من ناحية اللفظ والمعنى ، أو المعنى فقط ـ كما سيأتى ـ) ذلك تقدير البيتين ومعناهما ؛ مع ما فيهما من التواء النظم ؛ بسبب التقديم والتأخير ، والحذف.

يريد : حين يوجد اسم متقدم على فعله ، ولهذا الاسم المتقدم ضمير يعود عليه ، ويشغل فعله بدلا من نصب السابق لفظا أو محلا ـ فإن ذلك الاسم السابق يجوز نصبه ولكن بفعل غير ظاهر حتما ؛ فلا يجوز إظهاره. ويكون هذا الفعل المحذوف موافقا للفعل المذكور (فكلمة حتما : صفة لمصدر محذوف ، أى : إضمارا حتما ، فتعرب مفعولا مطلقا ، و «بنصب» بمعنى عن : نصب).

ثم بين بعد أبيات : أن العامل قد يتعدى إلى مفعوله بمساعدة حرف جر ؛ فينصبه محلا ، (أى : حكما) حين لا يتعدى إليه مباشرة. وعندئذ يفصل حرف الجر بينهما. وقد يفصل بينهما المضاف حين يكون المضاف إليه هو الضمير العائد للاسم السابق. والحكم فى حالة فصل العامل المشغول كالحكم فى حالة وصله المباشر بالمعمول ؛ فيقول :

وفصل مشغول بحرف جرّ

أو بإضافة كوصل يجرى ـ ١٠

وصرح بعد ذلك بأن العامل هنا قد يكون فعلا أو وصفا عاملا ؛ فالوصف العامل يساوى الفعل فيما تقدم ؛ بشرط ألا يوجد مانع يمنع الوصف من العمل ونصب مفعوله إذا تقدم ؛ فيقول :

وسوّ فى ذا الباب وصفا ذا عمل

بالفعل ، إن لم يك مانع حصل ١١

وقد شرحنا من قبل ـ فى رقم ٢ من هامش ص ١٢٣ ـ نوع الوصف الذى يصلح للعمل هنا ، والمانع الذى يعوقه عن العمل ، وسبب ذلك ثم ختم الباب بالبيت التالى :

وعلقة حاصلة بتابع

كعلقة بنفس الاسم الواقع ـ ١٢

ومضمونه : أن السببى الخالى من الضمير إذا كان له تابع يشتمل على ضمير عائد على الاسم السابق فإن العلقة (أى : العلاقة) تحصل وتتم بين العامل والتابع كما تحصل وتتم بالاسم الواقع بعد العامل مباشرة ، وهذا الاسم هو ضمير المتقدم ، أو سببه المشتمل على ضميره ..

(١) يجوز الفصل بتوابع الاسم السابق ، ـ إلا العطف بحرف غير الواو ـ والمضاف إليه ، وشبه الجملة وغير هذا مما سبق تفصيله كاملا فى رقم ١ من هامش ص ١٢١.

(٢) فى هذه الصورة التى يرفع فيها الاسم السابق ـ تخرج المسألة من باب الاشتغال (انظر رقم ٣ من هامش ص ١٢٦).


وثانيهما : إعرابه مفعولا به لعامل محذوف وجوبا ، يدل عليه ويرشد إليه العامل المذكور بعده فى الجملة ، فيكون العامل المحذوف وجوبا مشاركا للمذكور إما فى لفظه ومعناه معا ، وإما فى معناه ، فقط ، ولا يصح الجمع بين العاملين ما داما مشتركين (١) ، إذ الموجود عوض عن المحذوف. فمثال الأول : الأمين شاركته ، فالتقدير : شاركت الأمين شاركته. ومثال الثانى : البيت قعدت فيه ، التقدير : لابست البيت ، قعدت فيه : أو : لازمت البيت ، قعدت فيه. ومثل : الحديقة مررت بها ؛ أى : جاوزت الحديقة مررت بها. وهكذا نستأنس بالعامل الموجود فى الوصول إلى العامل المحذوف وجوبا من غير أن نتقيد بلفظ العامل الموجود أحيانا. أمّا معناه فنحن مقيدون به فى كل حالات الاشتغال.

مع جواز الأمرين السالفين فالأول (وهو إعرابه مبتدأ) أحسن ؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير عامل محذوف ، ولا إلى التفكير فى اختياره ، وفى موافقته للعامل المذكور ، وقد تكون موافقته معنوية فقط ؛ فتحتاج ـ أحيانا ـ إلى كدّ الفكر (٢).

* * *

والنحاة يتخيرون هذا الموضع للكلام على حكم كثير من الأسماء المتقدمة على عواملها ، وينتهزون فرصة «الاشتغال» ليعرضوا أحكام تلك الأسماء ؛ سواء منها ما يدخل فى باب «الاشتغال» وتنطبق عليه أوصافه التى عرفناها ، وما لا يدخل فيه ، ولا تنطبق عليه صفاته (٣). وهم يقسمونها ثلاثة أقسام (٤) : ما يجب نصبه ، وما يجب رفعه ، وما يجوز فيه الأمران.

__________________

(١) فإن لم يكونا مشتركين جاز أن يكون الأول مذكورا. ومعنى هذا جواز نصب الاسم السابق بفعل مخالف للمذكور ؛ فلا اشتغال معه ؛ ـ كما سنوضحه فى الزيادة والتفصيل فى رقم ٢ من ص ؛ ١٣ ـ.

(٢) والبلاغيون يفرقون بين الأمرين ؛ إذ يترتب على أحدهما أن تكون الجملة اسمية ، وعلى الآخر أن تكون فعلية ، وفرق بلاغى بين المدلولين مع صحتهما ؛ لهذا يقولون : إن أحسن الأمرين هو ما يتفق مدلوله مع غرض المتكلم. فإن لم يعرف غرضه فهما سيّان.

(٣) كالحالة التى يجب فيها رفع الاسم السابق ؛ إذ لا ينطبق عليها فى الصحيح تعريف «الاشتغال» الأصيل. ومثلها حالات الرفع الأخرى التى يكون الرفع فيها جائزا ، فحالة الرفع بنوعيه لا ينطبق عليها ـ فى الصحيح ـ الاشتغال الحقيقى ، ما دام الاسم مرفوعا ـ كما سيجىء فى «ب» من ص ١٢٨ ثم انظر رقم ٣ من ص ١٣٤ ـ.

(٤) الواقع أنهم يقسمونها خمسة أقسام ، «قسم يجب فيه النصب ، وقسم يجب فيه الرفع ، وقسم يجوز فيه الأمران والنصب أرجح ، وقسم يجوز فيه الأمران والرفع أرجح ، وقسم يجوز فيه الأمران على ـ


(ا) فيجب نصب الاسم السابق إذا وقع بعد أداة لا يليها إلا الفعل ؛ كأداة الشرط ، وأداة التحضيض (١) ، وأداة العرض (٢) ، وأداة الاستفهام (٣) إلا الهمزة (٤) ؛ نحو : (إن ضعيفا تصادفه (٥) فترفق به ـ حيثما أديبا تجالسه

__________________

ـ السواء». وواضح أن هذا التقسيم يوجب النصب وحده فى بعض حالات ، ويوجب الرفع وحده فى حالات أخرى كذلك ، ويجيز الأمرين فى كل حالة من الأحوال الثلاثة الباقية. ولكن هذه الإجازة قد تكون مع الترجيح أحيانا ؛ كأن يكون النصب هو الأرجح ؛ فيكون الرفع هو الراجح ، أو العكس ؛ (بأن يكون النصب هو الراجح ، والرفع هو الأرجح). واستعمال الراجح ليس معيبا ولا ضعيفا من الوجهة اللغوية. نعم هو ـ مع كثرته وقوته ـ لا يبلغ درجة الأرجح فيهما ، لكن كلاهما عربى فصح ، وهذه الأرجحية مزية يسيرة إذا كان الداعى لها أمرا بلاغيا مما يطرأ ويتغير بحسب الدواعى ، فهى ليست أرجحية ذاتية دائمة وإنما هى خاضعة لأذواق البلغاء فى العصور اللغوية المختلفة ؛ متفاوتة بتفاوت تلك الأزمان والدواعى ؛ ـ لكيلا تتحجر البلاغة وتجمد عند حد لا تتجاوزه كما يصرح علماؤها ـ فالراجح قد يشيع ويكثر استعماله فى عصر لغوى ؛ فيكون هو الأرجح ، وعندئذ ينزل الأرجح إلى درجة الراجح ، ثم يتبدل الحال مرة أخرى فى عصر لغوى جديد ، فيذيع استعمال بلاغى لم يكن ذائعا من قبل ، بل فى بيئة أخرى مع اتحاد العصر ، فيقع التغيير فى الدرجة كما وصفنا ؛ وهكذا دواليك ... فالتفاوت بينهما منشؤه الأرجحية التى قد تتغير ، ولا تثبت ـ كما قلنا ـ ولو كان منشؤه القلة المعيبة والضعف ، أو الحسن والقبح اللغويين لوجب الاقتصار على القوى دون الضعيف ، وعلى الحسن دون القبيح. لهذا لا داعى لكثرة الأقسام ، والأحكام ، وتعدد الآراء فى كل حكم ، وما يتبعه من عناء لا طائل وراءه. على أنا سنشير إلى أقسامهم الخمسة (فى ص ١٣٢) ونصف منها بالقلة ما وصفو ، علما بأن هذه القلة ـ كما سبق ـ ليست المعيبة فى الاستعمال ، ولا المانعة من القياس على نظائرها ؛ فإنما هى قلة عددية راجحة ، بالنسبة للكثرة العددية التى للأرجح. ولو كانت القلة معيبة هنا ما وصفوا الضبط الوارد بها بأنه «راجح» ، وأن غيره أرجح ؛ إذ المعيب الذى لا يصلح استعماله لا يوصف بأنه راجح ولا حسن ، وفوق هذا فالخلاف محتدم فى أمر هذين الوصفين وانطباقهما أو عدم انطباقهما على بعض أقسامهم.

(١ و ١) التحضيض هو : الحث وطلب الشىء بقوة وشدة تظهر فى نبرات الصوت وكلماته. والعرض : طلب الشىء برفق وملاينة تعرف من نبرات الصوت وكلماته أيضا. وكثير من أدواتهما مشترك بينهما مثل : ـ هلّا ـ ألا ـ ألّا ـ لو لا ـ لو ما ... (ولهذه الأدوات باب خاص ـ فى ج ٤ م ١٦٢ ـ يفصل أحكامها المختلفة التى منها اختصاصها بالفعل إذا كانت للتحضيض أو العرض).

(٢) إنما تكون أدوات الاستفهام مختصة بالفعل وحده إذا وقع فعل بعدها فى جملتها ؛ كالمثالين المذكورين ؛ بخلافها فى نحو : متى العمل؟ ـ أين الكتاب؟ لخلو كل جملة من فعل بعد أداة الاستفهام. أى : أن وجود الفعل بعد أداة الاستفهام ـ غير الهمزة لأنها ليست مختصة بالأفعال ، بل تدخل عليها كما تدخل على الأسماء ـ ووقوعه متأخرا عنها فى جملتها ، يجعل هذه الأداة مختصة بالدخول على الفعل.

(٣) لما تقدم من أنها غير مختصة بالأفعال. وفى هذا الموضع الذى يجب فيه النصب يقول ابن مالك :

والنّصب حتم إن تلا السّابق ما

يختصّ بالفعل ؛ كإن ، وحيثما ـ ٣

(تلا السابق : أى : وقع الاسم السابق بعد ما يختص بالفعل ...)

(٤) المضارع هنا مرفوع لا يصح جزمه ، لأنه ليس فعلا للشرط ؛ لأن فعل الشرط المجزوم هو ـ


يؤنسك) ـ (هلّا حلما تصطنعه ـ ألا زيارة واجبة تؤديها) ـ (متى عملا تباشره؟ أين الكتاب وضعته؟) فلا يجوز الرفع فى هذه الأمثلة ونظائرها على الابتداء أما الرفع على أنه فاعل ، أو نائب فاعل لفعل محذوف ، أو أنه اسم لكان المحذوفة ـ فجائز (١). ومن الأمثلة قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ ...،) وقول الشاعر :

وليس بعامر بنيان قوم

إذا أخلاقهم كانت خرابا

وقول الآخر :

وإذا مطلب كسا حلّة العا

ر فبعدا (٢) لمن يروم نجازه (٣)

التقدير : وإن استجارك أحد من المشركين استجارك ... ـ وإذا كانت أخلاقهم كانت ... ـ وإذا كسا مطلب كسا حلة العار ... وهكذا (٤).

* * *

(ب) ويجب (٥) رفع الاسم السابق :

__________________

ـ الفعل المحذوف مع فاعله ، وموضعهما ؛ بعد أداة الشرط مباشرة. أما هذا الفعل الموجود فهو مع فاعله جملة مضارعية يتحتم رفع مضارعها ، وهى تفسر الجملة الفعلية التى حذفت وبقى معمولها المنصوب ، والتى موضعها بعد أداة الشرط مباشرة. فالمفسّر جملة ، وكذلك المفسّر. ولا يصح أن يكون الفعل المذكور هو المفسّر وحده ، بالرغم من أنه المرشد للفعل المحذوف ، والدال عليه. وسيجىء فى الزيادة والتفصيل (فى آخر رقم ٤ من ص ١٣٥ و ١٣٦) بيان مناسب عن الفعل إذا كان هو المفسّر وحده ، وأنه يكون كذلك عند رفع الاسم الواقع بعد أداة الشرط ، باعتباره مرفوعا لفعله المحذوف ، وعن الجملة الفعلية إذا كانت بتمامها هى المفسرة ، وليس الفعل وحده.

(١) سيجىء فى الزيادة والتفصيل (ص ١٣٤ رقم ٣ و ٤ وما بعدهما) إيضاح واف عن النصب الواجب ومكانه ، ثم عن هذا الرفع وما يقال فيه ، ثم تعقيبه بعرض للرأى السديد.

(٢) فهلاكا (دعاء بالهلاك).

(٣) إنجازه ، والحصول عليه.

(٤) ومن الأمثلة أيضا قول الشاعر :

إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد

بفضل الغنى ألفيت مالك حامد

الأصل : أعطيت أعطيت الغنى فحذف الفعل : «أعطى الأول» ، وبقى نائب فاعله : «التاء» وهو ضمير واجب الاتصال ، لا يستقل بنفسه ، فأتينا مكانه بضمير منفصل له معناه وحكمه.

ومثل هذا يقال فى كلمة : «نحن» من قول الشاعر :

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

الأصل : وإن أومأنا أومأنا. حذف الفعل الأول ، وبقى فاعله «نا» وهو ضمير متصل لا يستقل بنفسه ، فأتينا مكانه بما يصلح محله ، وهو «نحن» (انظر ما يوضح هذا فى ص ١١٧).

(٥) وهذه الحالة ـ كغيرها من حالات الرفع الواجب والجائز ـ ليست داخلة فى الاشتغال الأصيل (انظر رقم ٣ من هامش ص ١٢٦).


١ ـ إذا وقع بعد أداة لا يليها إلا الاسم ؛ فلا يجوز أن يقع بعدها فعل ؛ مثل : إذا «الفجائية» (١) ؛ نحو : خرجت فإذا الرفاق أشاهدهم ؛ فيجب رفع كلمة : «الرفاق» ولا يجوز نصبها على الاشتغال بفعل محذوف ؛ لأن «إذا الفجائية» لا يقع بعدها الفعل مطلقا ؛ لا ظاهرا ولا مقدرا.

ومثل «إذا» الفجائية أدوات أخرى ؛ منها : «لام» الابتداء فى نحو : إنى للوالد أطيعه ؛ فلا يجوز نصب كلمة : «الوالد» على الاشتغال ، ولا اعتبارها مفعولا به لفعل محذوف مع فاعله ؛ لأن لام الابتداء لا تدخل على المفعول به.

ومنها : واو الحال الداخلة على الاسم الذى يليه المضارع المثبت ، فى مثل : أسرع والصارخ أغيثه ؛ فلا يصح نصب «الصارخ» على اعتباره مفعولا به لفعل محذوف مع فاعله ، وتقديرهما : «أغيث» ، والجملة من الفعل المحذوف مع فاعله فى محل نصب على الحال. ـ لا يصح هذا ؛ لأن الجملة المضارعية التى مضارعها مثبت ، غير مسبوق بلفظ : «قد» لا تقع حالا ـ على الأرجح ـ إذا كان الرابط هو : «الواو» فقط (٢) ؛ كهذا المثال وأشباهه.

ومنها : «ليت» المتصلة «بما» الزائدة ؛ فلا نصب على الاشتغال فى مثل : ليتما وفىّ أصادفه ؛ لأن «ما» الزائدة لا تخرج «ليت» من اختصاصها بالأسماء ؛ إذ يجوز إعمال «ليت» وإهمالها ؛ فالمنصوب بعدها اسم لها ، ولا يصح أن يقع بعدها فعل مطلقا.

٢ ـ وكذلك يجب رفع الاسم السابق إذا وقع قبل أداة لها الصدارة فى جملتها ؛ ـ فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ـ ، وبعدها العامل ، كأداة الشرط ، والاستفهام (٣) ، وما النافية ، ولا النافية الواقعة فى جواب قسم ... (٤) ؛ فلا يصح نصب الاسم

__________________

(١) سبق إيضاح لها فى ص ٤٨٢ ج ١.

(٢) كما سيجىء فى ص ٧٣١ من باب الحال.

(٣) انظر رقم ٢ من هامش ص ١٢٧.

(٤) ومما لا يعمل ما بعده فيما قبله : أدوات التحضيض والعرض ، ولام الابتداء ، وكم الخبرية ، والحروف الناسخة ، «ما عدا أنّ» ، والموصول ، والموصوف ، وحروف الاستثناء. فكل هذا لا يعمل ما بعده فيما قبله ؛ فلا يصلح دالا على المحذوف. فلا يصح النصب فى الأسماء التى فى أول الجمل التالية : التائه هلا أرشدته ـ الضّالّ ألا هديته ـ الخائف لأنا مؤمن ـ الهرم كم مرة زرته!! ـ الخير إنى أحببته ـ النزيه الذى أصطفيه ـ الغناء فن أهواه ـ شاع ما المال إلا ينفقه العاقل فى النافع. أما حرفا التنفيس فالشائع جواز النصب والرفع فى الاسم الذى يسبقهما ؛ نحو الرسالة سأكتبها ـ القصيدة سوف أحفظها.


السابق فى نحو : الكتاب إن استعرته فحافظ عليه ـ المريض هل زرته؟ ـ الحديقة ما أتلف زروعها ـ والله الذنوب لا أرتكبها ... ؛ لأن هذه الأدوات لها الصدارة ، فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ؛ (أى : لا يجوز أن يتقدم معمولها عليها ، ولا معمول لعامل بعدها). وما كان كذلك لا يصلح أن يكون دالا على عامل محذوف يماثله ، ولا مرشدا إليه. ومثلها : أدوات الاستثناء ؛ فلا نصب فى نحو : ما السفر إلا يحبه الرحّالون (١) ...

* * *

(ح) ما يجوز فيه الأمران (٢) ، وهو ما عدا القسمين السالفين ، فيشمل ما يأتى : ١ ـ الاسم ـ المشتغل عنه ـ الذى بعده فعل دال على طلب ؛ كالأمر (٣) ، والنهى ، والدعاء ؛ نحو : الحيوان ارحمه ـ الطيور لا تعذبها ـ اللهم الشهيد ارحم ، أو : الشهيد رحمه الله ...

وكذلك إن وقع الاسم السابق بعد أداة يغلب أن يليها فعل ، كهمزة الاستفهام ، نحو : أطائرة ركبتها؟ وكأدوات النفى الثلاثة : (ما ـ لا ـ إن ـ) ؛ نحو : ما السفه نطقته ـ لا الوعد أخلفته ، ولا الواجب أهملته ـ إن السوء فعلته. ومثل : «حيث» المجردة من «ما» ، نحو : اجلس حيث الضيف أجلسته.

وكذلك إن وقع الاسم السابق بعد عاطف تقدمته جملة فعلية ، ولم تفصل كلمة :

__________________

(١) وفى وجوب الرفع يقول ابن مالك :

وإن تلا السّابق ما بالابتدا

يختصّ فالرّفع التزمه أبدا ـ ٤

كذا إذا الفعل تلا ما لم يرد

ما قبل معمولا لما بعد ، وجد ـ ٥

ومعنى البيتين : إن تلا الاسم السابق ما يختص بالابتداء ... ـ أى : إن وقع الاسم السابق بعد لفظ مختص بالدخول على المبتدأ ـ فالتزم رفع ذلك الاسم السابق.

كذلك يجب رفع الاسم السابق إذا كان الفعل المشتغل قد وقع بعد لفظ لا يرد ما قبله معمولا لعامل بعده. «الفعل تلا ما لم يرد قبل معمولا لما بعد وجد» ـ أى : تلا الفعل شيئا ، لم يرد ما قبل ذلك الشىء معمولا لما وجد بعده. وفى هذا البيت شىء من التعقيد.

(٢) مع ملاحظة أن المسألة لا تكون من باب : «الاشتغال» فى حالة ضبط الاسم السابق بالرفع ـ كما سبق فى رقم ٣ من هامش ص ١٢٦ ـ

(٣) سواء أكان الأمر بصيغة فعل الأمر ؛ نحو : التردد اجتنبه ، أم بلام الأمر الداخلة على المضارع ؛ نحو : التردد لتجتنبه.


«أمّا» (١) بين الاسم والعاطف ؛ نحو : خرج زائر والقادم استقبلته ، فلو فصلت «أما» بينهما كان الاسم «المشتغل عنه» فى حكم الذى لم يسبقه شىء ؛ نحو : خرج زائر ، وأمّا المقيم فأكرمته.

فالأمثلة فى كل الصور السابقة وأشباهها ، يجوز فيها الأمران. النصب والرفع. وجمهرة النحاة تدخلها فى النوع الذى يجوز فيه الأمران قياسا ، والنصب أرجح (٢) عندهم. وحجتهم : أن الرفع يجعل الاسم السابق مبتدأ ، والجملة الطلبية بعده خبر ، ووقوع الطلبية خبرا ـ مع جوازه ـ قليل بالنسبة لغير الطلبية. أو يجعل الاسم السابق مبتدأ بعد همزة الاستفهام ونحوها ، ووقوع المبتدأ بعدها ـ مع جوازه ـ قليل أيضا ، لكثرة دخولها على الأفعال دون الأسماء. أو يجعل الجملة الاسمية بعده إذا كانت غير مفصولة بإما (٣) ، معطوفة على الجملة الفعلية قبله ؛ والعطف على جملتين مختلفتين فى الاسمية والفعلية قليل مع صحته.

__________________

(١) كان الفاصل المراد هنا ـ غالبا ـ هو : «أما» ؛ لأن ما بعدها مستأنف ، ومنقطع فى إعرابه قبلها : فلا أثر للفصل بغيرها (راجع لأمر الثالث ص ١٣٥).

(٢) وإلى الأمور التى مرت فى القسم الأول يشير ابن مالك ، ويبين أن المختار النصب فيقول :

واختبر نصب قبل فعل ذى طلب

وبعد ما إيلاؤه الفعل غلب ـ ٦

وبعد عاطف ـ بلا فصل على

معمول فعل مستقرّ أوّلا ... ـ ٧

يريد : أن النصب والرفع جائزان فى أمور ، ولكن النصب هو المختار فيها ؛ وذلك حين يقع الاسم السابق قبل فعل دال على الطلب ، أو بعد شىء غلب إيلاؤه الفعل ، (أى : غلب أن يليه ويقع بعده الفعل ؛ كهمزة الاستفهام) ، وكذلك بعد عاطف يعطف الاسم السابق على معمول لفعل مذكور أول جملته بغير فصل بين العاطف والمعطوف. وصياغة البيت الثانى عاجزة عن تأدية المراد منه ؛ إذ المراد أن الاسم المشتغل عنه يجوز فيه الأمران ، والنصب أرجح إذا كان ذلك الاسم واقعا ـ مباشرة ـ بعد عاطف يعطف جملته على الجملة الفعلية قبله والتى استقر مكان الفعل فى أولها ، سواء أكان المعمول فى الجملة الفعلية التى قبله مرفوعا ؛ مثل : غاب حارس وحارسا أحضرته (فكلمة «حارس» الأولى فاعل وهو معمول للفعل : غاب) أم معمولا منصوبا ، نحو : صافحت رجلا ، وجنديا كلمته (فكلمة : «رجلا» مفعول ، وهو معمول للفعل : صافح) فنصب الاسم المشتغل عنه يقتضى أن يكون مفعولا لفعل محذوف يوضحه المذكور بعده. والجملة من الفعل المحذوف وفاعله معطوف على الجملة التى قبلها ، فالعطف عطف جملة فعلية على جملة فعلية ، وليس عطف مفردات. فلا معنى لقول ابن مالك إن العطف على معمول فعل مستقر فى أول جملته التى قبل العاطف. ذلك أن المعمول فى الجملة السابقة ليس معطوفا عليه ما أوضحنا. ولكن ضيق الوزن وضرورة الشعر أوقعاه فى التعبير القاصر. وقد تأوله النحاة بأن التقدير : وبعد عاطف ـ بلا فصل ـ على جملة معمول فعل مستقر أولا ... ومهما كان العذر فإن الخير فى اختيار الأسلوب الناصع الوافى الذى لا يحوى عيبا ، ولا يتطلب تأويلا أو تقديرا.


٢ ـ الاسم السابق (المشتغل عنه) الواقع بعد عاطف غير مفصول بالأداة : «أمّا» وقبله جملة ذات وجهين (١) ، مع اشتمال التى بعده فى حالة نصبه على رابط يربطها بالمبتدأ السابق (٢) ؛ ـ كالضمير العائد عليه ؛ أو الفاء المفيدة للربط به ـ ؛ نحو : (النهر فاض ماؤه صيفا ، والحقول سقيناها من جداوله) ـ (العلم الحديث نجح فى غزو الكون السماوى ، فالعلوم الرياضية ، استلهمها الغزاة قبل الشروع). فيصح رفع كلمتى : «الحقول ـ والعلوم» على اعتبار كل منهما مبتدأ ، خبره الجملة الفعلية بعده. وهذه الجملة الاسمية معطوفة على الاسمية التى قبلها. ويجوز نصب الكلمتين على أنهما مفعولان لفعل محذوف ، والجملة من هذا الفعل وفاعله معطوفة على الجملة الفعلية الواقعة خبرا قبله. وفى الحالتين تتفق الجملتان المعطوفتان مع المعطوف عليهما فى ناحية الاسمية أو الفعلية ؛ فيجرى الكلام على نسق واحد ، ولهذا يتساوى (٣) الأمران.

٣ ـ الاسم السابق (المشتغل عنه) الواقع فى غير ما سبق. نحو الرياحين زرعتها. والنحاة يجيزون الأمرين ويرجحون الرفع ؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير عامل محذوف (٤).

__________________

(١) وهى الجملة الاسمية التى يكون المبتدأ فيها اسما خبره جملة فعلية ؛ مثل : الشجرة ظهر ثمرها ـ الفاكهة طاب طعمها. (ومنها الجملة التعجبية. ولكن التعجبية لا تصلح فى هذا الموضع) أو : هى جملة اسمية صدرها مبتدأ ، وعجزها جملة فعلية ، كقولهم : النبيل زادته النعمة نبلا وشرفا ، واللئيم زادته النعمة لؤما وبطرا. ـ الحر ينتصر لكرامته ، والذليل يمتهنها.

(٢) لأنها حينئذ تكون معطوفة على الخبر ، فلا بد فيها من رانط كالخبر (راجع الأشمونى والصبان).

(٣) وفى هذا يقول ابن مالك :

وإن تلا المعطوف فعلا مخبرا

به عن اسم فاعطفن مخيّرا ـ ٨

يريد : إن وقع الاسم السابق بعد حرف عطف قبله فعل ، وهذا الفعل ـ مع فاعله ـ خبر عن مبتدأ قبلهما وقبل حرف العطف ـ فلك الخيار فى هذه الحالة أن تعطف ما بعد حرف العطف على ما قبله ، مباشرة عطف جملة فعلية على الجملة الفعلية السابقة أيضا ، وأن تعطف ما بعد حرف العطف على ما قبله عطف جملة اسمية على نظيرتها الاسمية. وقد شرحنا توجيه كل حالة من هاتين الحالتين المتساويتين فى الصحة ، شرحا يوضح هذا البيت الغامس.

(٤) وفى حالة الرفع لا تكون المسألة من باب «الاشتغال» ـ كما كررنا فى كل حالات الرفع الواجب والجائز ـ وفى هذا يقول ابن مالك.

والرفع فى غير الّذى مرّ رجح

فما أبيح افعل. ودع ما لم يبح ـ ٩


«ملاحظة» بانضمام هذه الأقسام الثلاثة (١ ، ٢ ، ٣) إلى القسم الذى يجب فيه النصب فقط ، والقسم الذى يجب فيه الرفع فقط ... ، تنشأ الأقسام الخمسة التى عرضها النحاة فى هذا الباب ، وارتضوها وجعلوا لكل منها حكما. وقد أشرنا (١) إلى أنه يمكن إدماج بعضها فى بعض ، وجعلها ثلاثة ، اختصارا وتيسيرا.

__________________

(١) فى رقم ٤ من هامش ص ١٢٦.


زيادة وتفصيل :

١ ـ زاد فريق من النحاة شروطا أخرى للاشتغال رفضها سراه ؛ بحجة أنها لا تثبت على التمحيص. وهذا رأى سديد حملنا على إهمالها ؛ ادخارا للجهد ، وإبعادا لنوع من الجدل لا خير فيه للنحو.

٢ ـ أشرنا قريبا (١) إلى صحة أن يكون الاسم السابق المنصوب مفعولا به لفعل محذوف ، يخالف الفعل المذكور بعده فى جملته ، ولا يكون له صلة بلفظه ولا بمعناه ؛ وذلك حين تقوم قرينة تدل على هذه المخالفة ؛ كأن يقال : ماذا اشتريت؟ فتجيب : كتابا أقرؤه. «فكتابا» مفعول به لفعل محذوف تقديره : اشتريت كتابا أقرؤه ؛ فالفعل المحذوف مخالف للمذكور فى لفظه ومعناه ؛ فلا تكون المسألة من باب «الاشتغال» ، ولا يكون العامل الثانى صالحا للعمل فى المفعول به السابق ، ولا مفسرا لعامله المحذوف. وفى هذه الحالة التى يختلف فيها الفعلان : المحذوف والمذكور ، لا يكون الحذف واجبا ، وإنما يكون جائزا (٢) ، فيصح فى الفعل المحذوف أن يذكر. أما الحذف الواجب ففى : «الاشتغال» ؛ فلا يصح الجمع بينهما ؛ لأن الثانى بمنزلة العوض عن الأول ؛ ولا يجمع بين العوض والمعوّض عنه (٣).

٣ ـ إنما يقع «الاشتغال» بمعناه العام الذى يشمل الاسم السابق المرفوع بعد أدوات الشرط ، والتحضيض والاستفهام ، غير الهمزة ، كما سبق ـ فى الشعر ؛ فقط ؛ للضرورة. وأما فى النثر فلا يحسن بعد تلك الأدوات إلا صريح الفعل (٤)

__________________

(١) فى رقم ١ من هامش ص ١٢٦.

(٢) ما لم يوجد سبب آخر غير الاشتغال يوجبه.

(٣) لا يصح الجمع بين العوض والمعوض عنه. وهذا أسلم من قولهم : لا يصح الجمع بين التفسير والمفسّر ، «أى : المفسّر والمفسّر» لأنه يصح أحيانا الجمع بين هذين كما فى التفسير بما بعد الحرف : «أى» وكالتفسير بعطف البيان ، وبواو العطف التى تفيد التفسير ... ـ كما سيجىء فى ص ١٣٩ ـ ومن هنا كان التعبير بعدم جواز الجمع بين العوض والمعوض عنه هو الأسلم والأدق.

(٤) يقول النحاة : إن وقوعه فى النثر مستقبح ، ولو وقع فيه لجاز مع القبح.


ويستثنى من أدوات الشرط ثلاثة أشياء ؛ يقع بعدها الاشتغال نثرا ونظما ، أولها : أدوات الشرط التى لا تجزم ؛ ومنها : إذا ـ ولو ـ مثل : (إذا السماء انشقت ...) إلخ ، ومثل : لو الحرب امتنعت لطابت الحياة.

وثانيها : «إن» ، بشرط أن يكون الفعل فى التفسير ماضيا لفظا ، نحو : إن علما تعلمته فاعمل به ، أو ماضيا معنى (١) فقط ، نحو : إن علما لم تتعلمه فاتتك فائدته. فإن كان فعل التفسير مضارعا مجزوما (٢) لم يقع الاشتغال بعدها إلا فى الشعر ، دون النثر.

وثالثها : «أمّا» الشرطية. ولكن لا يجب نصب الاسم بعدها ؛ لأن الاسم يليها حتما (٣) ، ولو كان الفعل مذكورا بعده ؛ نحو : قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ...) فقد قرئ «ثمود» بالرفع على الابتداء ، وبالنصب على الاشتغال. وفى حالة النصب يجب تقدير العامل بعد الاسم المنصوب ، وبعد الفاء معا ؛ لأن «أمّا» لا يليها إلا الاسم (٤) ولا يفصل بينها وبين الفاء إلا اسم واحد ، والتقدير ـ كما يقولون ـ وأما ثمود فهديناهم هديناهم. وللبحث تحقيق.

٤ ـ من الأصول النحوية أن المحذوف قد يحتاج ـ أحيانا ـ إلى شىء مذكور يفسره ، ويدل عليه. وقد يكون التفسير واجبا ، كما فى باب : «الاشتغال». وفى هذا الباب إن كان المحذوف جملة فعلية فتفسيره لا يكون إلا بجملة مذكورة فى الكلام ، مشاركة للمحذوفة فى لفظها ومعناها معا ، أو فى المعنى فقط ؛ نحو : العظيم نافسته ـ المصنع وقفت فيه. التقدير : نافست العظيم نافسته ـ لابست المصنع وقفت فيه. أو نحو ذلك مما يؤدى إلى الغرض فى الحدود المرسومة. ولا يصح هنا تفسير الجملة بغير جملة مثلها على الوجه السابق.

وإن كان المحذوف فعلا فقط أو وصفا عاملا يشبهه ، ويحل محله ، جاز أن

__________________

(١) كالمضارع الداخلة عليه «لم» فإنها ـ فى الأغلب ـ تقلب زمنه للمضى.

(٢) انظر سبب الجزم فى رقم ٢ من هامش ص ١٣٧

(٣) كما تقدم هنا ، وفى رقم ٣ ص ٨٧.

(٤) وقد عرفنا أن شرط وجوب النصب وحده أن تكون الأداة الشرطية مختصة بالدخول على الأفعال دون الأسماء. وليست «أما» كذلك. لأنها لا تدخل إلا على الاسم

لهذا كان الاقتصار على نصب الاسم السابق غير واجب ، بل يجوز فيه الأمران.


يفسّر كل منهما بفعل أو بما يشبهه ، تفسيرا لفظيّا ومعنويّا معا ، أو معنويّا فقط والأفضل التماثل عند عدم المانع بأن يفسّر الفعل نظيره الفعل ، ويفسّر الوصف نظيره الوصف ، نحو : إن أحد دعاك الخير فاستجب ـ ما الصلح أنت كارهه. التقدير : إن دعاك أحد ، دعاك الخير فاستجب ـ ما أنت كاره الصلح ـ أنت كارهه.

ويدور بين النحاة جدل طويل فى موضع الجملة المفسّرة ؛ أيكون لها محل من الإعراب ، أم ليس لها محل؟ وقد يكون الأنسب الأخذ بالرأى القائل إنها تساير الجملة المحذوفة «المفسّرة» وتماثلها فى محلها الإعرابى وعدمه ، كما تماثلها فى لفظها ومعناها على الوجه السالف. وعلى هذا إن كانت الجملة المحذوفة (المفسّرة) لا محل لها من الأعراب فالمفسّرة كذلك لا محل لها من الإعراب ؛ نحو : البحر أحببته ، أى : أحببت البحر أحببته ؛ فالجملة التفسيرية لا محل لها من الإعراب ؛ لأن الأصلية المحذوفة كذلك. وإن كانت الجملة المحذوفة (المفسّرة) لها محل من الإعراب فالتى تفسرها تسايرها وتماثلها فيه ؛ نحو قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ،) أى : إنا خلقنا كلّ شىء خلقناه بقدر ؛ فالجملة المحذوفة (المفسّرة) فى محل رفع خبر «إنّ» ؛ فالتى تفسرها كذلك فى محل رفع خبر. ونحو : العقلاء الواجب يؤدونه ؛ أى : العقلاء يؤدون الواجب يؤدونه ، فالجملة المحذوفة (المفسّرة) فى محل رفع خبر المبتدأ ، والمفسّرة فى محل رفع خبر المبتدأ كذلك. وفى قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ... تقع الجملة الاسمية (المفسّرة) مفعولا فى محل نصب ؛ لأن المحذوف المفسّر مفعول به منصوب ؛ إذ التقدير : الجزاء ، أو الجنة وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم مغفرة ؛ فجملة : «لهم مغفرة» هى المفسرة للمفعول به المحذوف (١).

ولا تكون الجملة هى المفسّرة فى باب الاشتغال إلا حين يكون الاسم السابق

__________________

(١) ولا يصح أن تكون هى المفعول الثانى للفعل : «وعد» لأنه من باب «كسا» ، أى : من الأفعال التى لا يقع فيها المفعول الثانى جملة.


منصوبا كالأمثلة السالفة ؛ فإن كان مرفوعا للمحذوف فالمحذوف هو فعله وحده (١) ويتعين أن يكون مفسّره هو الفعل المذكور وليس الجملة ، ولا بد ـ عند المحققين أن يكون هذا الفعل المذكور (المفسّر) مسايرا للمحذوف (المفسّر) فى حكمه وإعرابه اللفظى ، والتقديرى ، والمحلى ... مثل إن العتاب يكثر يؤد إلى القطيعة ، التقدير : إن يكثر العتاب ـ يكثر ـ يؤد إلى القطيعة. فالمفسّر هو الفعل : «يكثر» الثانى ، وهو مضارع مجزوم كالأول المحذوف (٢). ومثل : إذا العناية تلاحظك عيونها فلا تخف شيئا. التقدير : إذا تلاحظك العناية تلاحظك عيونها ، فالمفسّر فى المثال هو الفعل : «تلاحظ» وحده ، وهو كالأول فى حكمه الإعرابى. ومثل :

إذا الملك الجبّار صعّر خدّه (٣)

مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

أى : صعّر الملك خدّه ، صعره ، فالمفسّر هو الفعل الماضى وحده (صعّر). ومثل

فمن نحن نؤمنه (٤) يبت وهو آمن

ومن لا نجره يمس منا مفزّعا

التقدير : فمن نؤمنه يبت وهو آمن ... فالمفسّر هو الفعل «نؤمن» وحده ، وهو مجزوم كالفعل المفسّر المحذوف. وكلمة : «نحن» فى البيت ضمير فاعل للفعل المحذوف. وقد برز هذا الضمير ـ بعد استتاره الواجب ـ بسبب حذف فعله وحده ؛ إذ لا يبقى الفاعل مستترا بعد حذف عامله. فإذا رجع العامل وظهر ، عاد الضمير الفاعل إلى الاستتار كما كان. فإن ظهر مع ظهور عامله لم يعرب

__________________

(١) كما أشرنا فى رقم ٤ من هامش ص ١٢٧ وفى ص ١٣٦. سواء أكان الفعل مبنيا للمعلوم أى للمجهول تاما أم ناقصا مثل : كان. كل هذا على حسب السياق ، وعلى مقتضاه يعرب الاسم المرفوع فاعلا ، أو نائب فاعل ، اسما لكان ... مثل : إن برد اشتد فاحترس ـ إن عمل أتقنته فلازمه ـ المرء مجزى بعمله إن خير فخير. التقدير : (إن اشتد برد ـ اشتد ـ فاحترس) ـ (إن أتعقن عمل ـ أتقنه ـ فلازمه) ـ (المرء مجزى بعمله إن كان فى عمله خير فجزاؤه خير ...).

(٢) ما سبب الجزم؟ خلاف فيه وجاء فى الصبان ما نصه : (قال أبو على : الفعل المذكور والفعل المحذوف فى نحو قوله : «لا تجزعى إن منفسا أهلكته». مجزومان محلا ؛ وجزم الثانى ليس على البدلية ؛ إذ لم يثبت حذف المبدل منه. بل على تكرير «إن» أى : إن أهلكت منفسا إن أهلكته. وساغ إضمار «إن» أى : وإن لم يسغ إضمار لام الأمر إلا فى ضرورة لاتّساعهم فيها ، ولقوة الدلالة عليها بتقديم مثلها. واستغنى بجواب «إن الأولى» عن جواب الثانية) اه.

(٣) صعر خده : حوله إلى جهة لا يرى فيها الناس ؛ تكبرا منه وترفعا.

(٤) بمعنى : نؤمنه ، ونمنحه الأمان.


ـ فى الرأى الشائع ـ فاعلا ؛ وإنما يعرب تركيدا لفظيّا للضمير المستتر المماثل له. وينطبق هذا الكلام على البيت التالى :

فإن أنت لم ينفعك علمك (١) فانتسب

لعلك تهديك القرون الأوائل

التقدير : فإن لم تنتفع لم ينفعك علمك ... وأشباه هذا. فالفعل «ينفع» هو وحده المفسّر للفعل المحذوف ، وهو مساير لذلك المحذوف فى الجزم والنفى معا. والضمير البارز «أنت» فاعل الفعل المحذوف ، وكان مستترا وجوبا فيه ، فلما حذف الفعل برز فى الكلام فاعله المستتر ، ولما رجع الفعل إلى الظهور فى الجملة الأخيرة عاد فاعله الضمير إلى الاستتار. كما كان أولا. ومثله قول الشاعر :

إذا أنت (٢) فضّلت امرأ ذا براعة

على ناقص كان المديح من النقص

وقول الآخر :

بليغ إذا يشكو إلى غيرها الهوى

وإن هو لاقاها فغير بليغ

وفى مثل :

لا تجزعى إن منفس أهلكته

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعى

يكون التقدير : لا تجزعى إن هلك منفس أهلكته ... والمحذوف هنا مطاوع للمذكور ، فهو من مادته اللفظية ومن معناه ، وإن كانت المشاركة اللفظية ليست كاملة.

أما تفضيل الرأى القائل بمسايرة الجملة المفسّرة للجملة المفسّرة فى حكمها ، ومحلها الإعرابى فراجع إلى أمرين :

أولهما : أن الجملة المفسّرة قد يكون لها محل من الإعراب ـ بالاتفاق ـ فى بعض مواضع ، كالجملة المفسّرة لضمير الشأن (٣) فى نحو : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، فإن جملة (اللهُ أَحَدٌ) مبتدأ وخبر فى محل رفع ، لأنها خبر لضمير

__________________

(١) يريد : إن لم يكن لك علم بحوادث الموت المحيطة بك بحيث يعظك فارجع إلى أصولك الأوائل الذاهبين ، لعل لك عظة فى موتهم.

(٢) فالأصل : إذا فضلت ... فلما حذف الفعل بقيت التاء ، وهى ضمير متصل لا يستقل بنفسه فأتينا مكانها بضمير مرفوع منفصل بمعناها ؛ هو الضمير : «أنت» ـ كما سبق مثل هذا فى رقم ٤ من هامش ص ١٢٨ ـ فإذا رجع الفعل المحذوف رجع فاعله السابق ، وهو «التاء» واتصل به.

(٣) راجع ضمير الشأن ج ١ ص ٢٢٦ م ١٩ ـ باب الضمير.


الشان : «هو». وفى نحو : ظننته : «الصديق نافع» ؛ الجملة الاسمية فى محل نصب ؛ لأنها المفعول الثانى لظنّ ... وليس فى هذا خلاف.

وثانيهما (١) : أن هناك كلمات تفسر غيرها وقد تسايرها فى حركة إعرابها ؛ كالكلمات الواقعة بعد «أى» التى هى حرف تفسير فى مثل هذا سوار من عسجد ، أى : ذهب. فكلمة : «أى» حرف تفسير ؛ يدل على أن ما بعده يفسر شيئا قبله. وكلمة : «ذهب» هى التفسير لكلمة : «عسجد» ويجب أن تضبط مثلها فى حركات الإعراب. نعم إنهم يعربون كلمة «ذهب» وأمثالها مما يقع بعد «أى» التفسيرية بدلا أو عطف بيان ؛ لكن هذا لا يخرجها عن أنها مماثلة للمفسّر فى حركة إعرابه ؛ إذ كل من البدل وعطف البيان تابع هو بمنزلة متبوعه. ومن الكلمات التى تفسر غيرها ويتحتم أن تسايره فى حركة إعرابه ما يقع بعد حرف العطف : «الواو» الذى يدل أحيانا على أن ما بعده مفسر لما قبله ، كما فى مثل : الماء الصافى يشبه اللجين والفضة. فالواو حرف عطف للتفسير ، لأن ما بعدها يفسر ما قبلها. وهو مساير له ـ وجوبا ـ فى حركات إعرابه ؛ إذ المعطوف كالمعطوف عليه فى كثير من أحكامه التى منها حركات الإعراب.

فالرأى القائل باعتبار الجملة التفسيرية مسايرة لما تفسره يجعلها كنظائرها من الجمل التى لها محل من الإعراب ، وكغيرها من المفردات التى تؤدى مهمة التفسير. ولا معنى للتفرقة فى الحكم بين ألفاظ تؤدى مهمة واحدة ، إلا إن كان هناك سبب قوىّ ، ولم يتبين هنا السبب القوىّ ؛ بل الذى تبين أن الكلام المأثور الفصيح يؤيد أصحاب هذا الرأى الواضح الذى يمنع تعدّد الأقسام والأحكام ، ويؤدى إلى التيسير بغير ضرر.

وقد أشرنا (٢) إلى أن الجملة لا تكون مفسرة فى باب «الاشتغال» إلا حين يكون الاسم السابق منصوبا. فإن كان مرفوعا لعامله المحذوف فالمحذوف هو فعله وحده ، ويتعين أن يكون التفسير بفعل فقط ، كما قلنا إن الاسم السابق إذا وقع بعد أداة لا يليها إلا الفعل وجب نصبه ، ولا يجوز رفعه على أنه مبتدأ ، وإنما يجوز رفعه

__________________

(١) لهذا إشارة فى رقم ٣ من هامش ص ١٣٤.

(٢) فى رقم ٤ من هامش ص ١٢٧ وفى ص ١٣٦.


على أنه مرفوع فعل محذوف ؛ كقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) ، فكلمة : «أحد» فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور بعده ، والتقدير : وإن استجارك أحد من المشركين استجارك ... إلى آخر ما أوضحنا ...

والذى نريد بسطه الآن أن بعض القدامى والمحدثين لا يروقهم هذا التقدير ، ويسخرون منه ، مطالبين بإعراب الاسم المرفوع ـ فى الآية السالفة وأشباهها ـ إما مبتدأ مباشرة ، وإما فاعلا مقدما للفعل الذى بعده (أى : للمفسّر) وبإهمال التعليل الذى يحول دون هذا الإعراب ، لأنه ـ كما يقولون ـ تعليل نظرى محض ، أساسه التخيل والتوهم ، وتعارضه النصوص الكثيرة الواردة بالرفع الصريح ...

ولا حاجة إلى عرض أدلة كل فريق ممن يبيح أو يمنع ؛ فقد فاضت بها المطولات والكتب التى تتصدّى لمثل هذا الخلاف ، وسرد تفاصيله وأدلته التى نضيق بها الصدور ـ أحيانا ـ حين تقوم على مجرد الجدل ، وتعتمد على التسابق فى إظهار البراعة الكلامية. ومنها : كتاب : «الإنصاف فى أسباب الخلاف» ، لابن الأنبارى ...

والحق يقتضينا أن نحكم على كل وجه من أوجه الإعراب الثلاثة بالضعف. ولكن الضعف فى حالة تقدير عامل محذوف ، أخفّ وأيسر. وفيما يلى البيان بإيجاز ، ولعل فيه ـ مع إيجازه ـ ما يرد بالأمر مورده الحق ، ويضعه فى نصابه الصحيح. هذا ، وفى الاستئناس والاسترشاد بما يقال فى الاسم المرفوع بعد أداة الشرط ـ كالآية السابقة ، وأمثالها ـ ما يكفى ويوصّل لتأييد النحاة ، ودعم رأيهم فى باقى حالات رفعه.

(ا) فى مثل : إن عاقل ينصحك ينفعك ، لو أعربنا الاسم السابق : «عاقل» مبتدأ لكانت الجملة الفعلية بعده (وهى : ينصحك) فى محل رفع ، خبره. ويترتب على هذا أن تكون أداة الشرط ، وهى تفيد ـ دائما ـ التعليق (١)

__________________

(١) توقف حصول شىء ، أو عدم حصوله ، على أمر آخر ؛ فيكون الثانى ـ فى الأغلب ـ مترتبا على الأول وجودا وعدما. فإن كانت أداة الشرط جازمة فالتعلق والتوقف لا يتحقق إلا فى المستقبل.


قد دخلت على جملة اسمية ، مع أنّ الجملة الاسمية تفيد الثبوت (١) ؛ وهو من أضداد التعليق. وهنا يقع فى الجملة الواحدة التعارض الواسع بين مدلول الأداة ، مدلول والمبتدأ مع خبره ؛ وهو تعارض واقعىّ (٢) لا خيالىّ ؛ إذ مردّه الاستقراء المنتزع من الأساليب العربية الصحيحة التى لا يسوغ مخالفتها ، ولا سيما فى النواحى المتعلقة بالمعنى ، وإلا اضطربت المعانى ، وتناقضت ، ولم تؤد اللغة مهمتها ـ. بخلاف الجملة الفعلية ؛ فإنها تقبل التعليق ، ولا تعارضه.

وشىء آخر يؤيد ما سلف ؛ هو أن بعض النصوص الفصيحة الواردة تدل على وجود لغات أو لهجات ترفع المضارع «ينصح» فى ذلك المثال وأشباهه. فإذا ورد مرفوعا فأين فعل الشرط؟ أيكون هو فعل الشرط مع رفعه ؛ فنتكلف أقبح التأول والتمحل فى إعرابه؟ أم نتركه على حاله مرفوعا ، ونقدّر فعلا آخر للشرط مجزوما مباشرة؟ الأمران معيبان. ولكن الثانى أقرب إلى القبول ؛ لأنه ـ بسبب جزمه المباشر الخالى من التأول ـ ينخرط فى عداد أفعال الشرط ؛ إذ الأصل فى أفعال الشرط أن تكون مجزومة. وهذا دليل آخر يدفعنا إلى رفض الوجه الإعرابى السابق (المبتدأ). كما تحمل على رفضه أمور أخرى نحوية وبلاغية دقيقة وفى مقدمتها الفصل بالمبتدأ بين أداة الشرط الجازمة وفعلها وهذا ممنوع ؛ لمخالفته المأثور الشائع (٣).

__________________

(١) ثبوت الحكم إيجابا أو سلبا. أى : تحقق وقوعه والقطع بحصوله ؛ سواء أكان موجبا أم منفيا.

(٢) لإيضاح هذا التعارض نقول : الأصل فى الجملة الاسمية ـ كما هو مقرر مقطوع به ـ أنها تدل على الثبوت إذا كانت اسمية محضة ؛ (أى خالية من فعل) ومن أمثلتها : الوالد رحيم ـ الوالدان نفعهما عميم ... وقد تفيد مع الثبوت الدوام بقرينة. هذا شأن الجملة الاسمية المحضة. فإن كانت غير محضة (وهى التى يكون فيها الخبر جملة فعلية) نحو : الوالد زاد فضله ، فإنها تفيد التجدد ، وقد تفيد الاستمرار التجددى. وكل ما سبق موضح بتفصيلاته فى علوم البلاغة وغيرها. ومنه يتبين أن الدلالة التى تؤديها الجملة الاسمية بنوعيها (المحضة ، وغير المحضة) تعارض وتناقض التعليق. فكيف يجتمعان فى جملة واحدة؟

(٣) عند جمهور البصريين (راجع شرح العكبرى ، لديوان المتنبى وبيته : ـ


(ب) ولو أعربنا الاسم السابق وهو : «عاقل» وأشباهه ، فاعلا ـ أو شيئا آخر مرفوعا بالعامل الذى بعده ـ كما يرى فريق من الكوفيين لكان هذا أخذا برأى ضعيف أيضا ، فوق ما فيه من الفصل الممنوع عند أكثر النحاة ، ومن اختلاط الأمر فى كثير من الأساليب بين المبتدأ والفاعل المتقدم كما فى المثال المعروض ونظائره ـ وما أكثرها ـ فيوجد من يعرب كلمة ؛ «عاقل» مبتدأ ، والجملة الفعلية بعده خبره ، ومن يعربها فاعلا مقدّما للفعل بعده. وعلى الإعراب الأول تكون الجملة اسمية ، وقد سبق ما فيها من عيب. أما على الإعراب الثانى فالجملة فعلية ؛ ودلالتها مختلفة عن سابقتها ، فشتان بين مدلولى الجملتين فى لغتنا ، هذا إلى مشكلات أخرى تتعلق بوجود فاعل مذكور ـ أحيانا ـ بعد الفعل المتأخر ، وبالضمائر المتصلة بالفعل المتأخر ، وعودتها ، ومطابقتها للفاعل المتقدم أو عدم مطابقتها ، واعتبارها حروفا أو أسماء ...

(ح) فلم يبق إلا اختيار الإعراب الثالث القائم على تقدير فعل محذوف ، (تحقيقا لما اشترطه جمهور النحاة من دخول أداة الشرط على فعل ظاهر أو مقدر ومنع دخولها على الاسم) واعتباره أفضلها ، وأن العيب فيه أخف وأيسر ، كما قلنا. ولن يترتب على هذا «التقدير» خلط بين المعانى والمدلولات اللغوية ، ولا تداخل بين القواعد النحوية. على أن «التقدير» باب واسع وأصيل فى لغتنا ، ولكنه محكم ، وسائغ ممن يحسن استخدامه ـ عند مسيس الحاجة الشديدة ـ على النمط الوارد الفصيح الذى يحتج به ، والذى لا يؤدى إلى خلط أو اضطراب.

٤ ـ أجرى بعض النحاة الذين لا يقصرون الاشتغال على النصب ـ أحكاما أربعة على الاسم السابق إذا كان مرفوعا وبعده فعل قد عمل الرفع فى ضميره أو فى ملابسه : فيجب رفع هذا الاسم السابق إما بالابتداء إذا وقع بعد أداة لا يليها فعل ؛ كإذا الفجائية ، وليتما (المختومة «بما» الزائدة) ؛ نحو : خرجت فإذا النسيم

__________________

 ـ لو الفلك الدوار أبغضت سعيه

لعوّقه شىء عن الدوران

من القصيدة التى مطلعها :

عدوّك مذموم بكل لسان

ولو كان من أعدائك القمران ....)


ينعش ـ ليتما الجو يعتدل ، وإما على الفاعلية بفعل محذوف إذا وقع بعد أداة لا يليها إلا الفعل ـ كأداة الشرط ـ نحو : إن سيارة أقبلت فاحترس منها.

ويكون الرفع بالابتداء راجحا فى مثل : الزارع يكافح ؛ حيث لا يحتاج إلى تقدير شىء محذوف ، أما إعرابه فاعلا بفعل محذوف فيحتاج إلى تقدير ذلك الفعل ، والتقدير هنا ردىء ما دام الاسم غير واقع بعد أداة تطلب فعلا ؛ كأداة الاستفهام ، ونحوها ...

وقد يكون الرفع بالفعل المحذوف راجحا على الرفع بالابتداء فى مثل : العاملة لتجتهد ؛ لأن وقوع الجملة الطلبية خبرا قليل بالنسبة لغير الطلبية.

وقد يستويان فى مثل كلمة : «الزروع» من نحو : المطر نزل ، والزروع ارتوت منه. لأن الجملة الأولى ذات وجهين فإذا أعربت كلمة «الزروع» مبتدأ والجملة بعدها الخبر كانت هذه الجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية التى قبلها. وإذا أعربت كلمة : «الزروع» فاعلا لفعل محذوف كانت هذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية الواقعة خبرا قبلها.

٥ ـ أبيات ابن مالك فى هذا الباب ليست مرتبة ترتيبا متماسكا يساير المعانى ويؤالف بعضه بعضا ، فقد يذكر بيتا أو بيتين فى أول الباب يشرح بهما قاعدة معينة ، ثم يأتى ببيت أو أكثر ليشرح قاعدة ثانية ، فثالثة ... ثم يذكر بيتا آخر يتمم القاعدة الأولى ، فآخر يتمم الثالثة ، وهكذا تتفرق أجزاء القاعدة الواحدة فى بيتين أو أكثر ليس بينهما توال ، أو اتصال مباشر. فلم يكن بد من استيفاء كل قاعدة على حدة استيفاء كاملا. ثم الإشارة فى الهامش إلى أبيات ابن مالك المتعلقة بتلك القاعدة ، وتدوينها على حسب ما يقتضيه تماسك القاعدة وتكاملها ، لا على حسب ورودها فى ألفيته ؛ وإلا جاءت القاعدة مفككة ، متناثرة هنا وهناك ، متداخلة فى غيرها. على أنا وضعنا بجانب كل بيت من أبيات ابن مالك رقما خاصّا به يدل على ترتيبه الحقيقى بين أبيات هذا الباب كما وردت فى ألفيته.

٦ ـ أسلوب : «الاشتغال» بمعناه العام دقيق ، يتطلب براعة فى تأليفه وضبطه ، كى يسلم من الخطأ ، والالتواء ، والتفكك ؛ فحبذا الاقتصاد فى استعماله.


المسألة ٧٠ :

تعدية الفعل ولزومه

الكلام على المفعول به ، وأحكامه المختلفة

الفعل التام (١) ثلاثة أنواع :

(ا) نوع يسمى : «المتعدى» (٢) ، وهو الذى ينصب بنفسه مفعولا به (٣) أو اثنين ، أو ثلاثة ؛ من غير أن يحتاج إلى مساعدة حرف جر ، أو غيره مما يؤدى إلى تعدية الفعل اللازم (٤) ؛ مثل : سمع ـ ظنّ ـ أعلم ، فى نحو : لما سمعت الخبر ظننت الراوى مخطئا ، لكن الصحف أعلمتنا الخبر صحيحا.

__________________

(١) الفعل التام ، هو : ما يكتفى بمرفوعه فى تأدية المعنى الأساسى للجملة ؛ مثل : ساد ـ أضاء ـ تحرك ـ ... وأشباهها ؛ حيث نقول : ساد الهدوء ـ أضاء النجم ـ تحرك الكوكب. أما الناقص فهو الذى لا يكتفى بمرفوعه فى ذلك ، وإنما يحتاج معه لمنصوب حتما ؛ مثل : «كان وأخواتها» من الأفعال الناسخة التى ترفع الاسم وتنصب الخبر ـ كما سبق فى ج ١ ص ٤٠٣ م ٤٢ ـ وهذه الأفعال الناقصة (الناسخة) لا توصف بأنها متعدية أو لازمة ، وإنما هى قسم مستقل ، ومثلها الأفعال المسموعة التى تصلح للأمرين ؛ فتستعمل فى المعنى الواحد لازمة ومتعدية ، مثل : شكرت لله على ما أنعم ، ونصحت للعاقل بشكره. أو : شكرت الله على ما أنعم ، ونصحت العاقل بشكره. فهذه الأفعال وأشباهها قسم قائم بذاته أيضا ؛ وعلى هذا تكون أنواع الفعل ـ من ناحية التعدى واللزوم أو عدمهما ـ أربعة ، نوع متعد فقط ، ونوع لازم فقط ، ونوع صالح للأمرين ، ونوع ناقص لا يوصف بأحدهما. والثلاثة الأولى أقسام للتام وحده.

(٢) يسميه بعض القدماء «المجاوز» ، أو «الواقع» ؛ لأن أثره لم يقتصر على الفاعل وإنما جاوزه إلى المفعول به ، فوقع مدلوله عليه.

(٣) المفعول به هو : ما وقع عليه فعل الفاعل إيجابا أو سلبا ؛ نحو : يطلب العاقل السعود ، ولا ينسى السعى الحميد لها. والمفعول به يعدّ ـ فى الأغلب ـ من الفضلات ؛ طبقا للبيان الذى فى ص ١٦٨ ـ ولا ينصبه إلا الفعل المتعدى وفروعه ، أما غيره من أنواع المفاعيل فينصبها الفعل المتعدى واللازم ، وكذا بقية المنصوبات. ويجوز الاقتصار على كلمة : «مفعول» وحدها ، دون تقييدها بالجار والمجرور بعدها ، لأن كلمة : «مفعول» إذا ذكرت مطلقة بغير قيد لا يراد منها إلا «المفعول به» وهو غير «المفعول المطلق» الذى سيجىء فى ص ١٩٣ ويختلف عنه اختلافا واسعا.

(٤) اللازم أنواع ثلاثة ، يجىء بيانها فى ص ١٥١. وسيجىء فى ص ١٥٢ بيان الوسائل التى تؤدى إلى تعدية الفعل اللازم.


(ب) نوع يسمى «اللازم» (١) أو : «القاصر» ، وهو الذى لا ينصب بنفسه مفعولا به أو أكثر ؛ وإنما ينصبه بمعونة حرف جر ، أو غيره مما يؤدى إلى التعدية. مثل : أسرف ـ انتهى ـ قعد ـ فى نحو : إذا أسرف الأحمق فى ماله انتهى أمره إلى الفقر ، وقعد فى بيته ملوما محسورا (٢). فكل كلمة من : مال ، فقر ، بيت ... هى فى المعنى ـ لا فى الاصطلاح ـ مفعول به للفعل قبلها. ولكن الفعل لم يوقع معناه وأثره عليها مباشرة ، وإنما أوصله بمساعدة حرف جر ؛ فهى فى الظاهر مجرورة به ، وهى فى المعنى فى حكم المفعول به لذلك الفعل (٣).

(ح) نوع مسموع ، يستعمل متعديا ولازما ؛ مثل : شكر ونصح (٤).

وقد أراد النحاة تيسير التمييز بين الفعل المتعدى بنفسه والفعل اللازم ، وسهولة

__________________

(١) وقد يسمى : غير المتعدى ، أو المتعدى بحرف الجر.

(٢) منقطعا عن أسباب الخير ، ووسائل القوة.

(٣) وإذا كانت فى حكم المفعول به معنى فهل يجوز فى توابع هذا المفعول الحكمى (أى : المعنوى) النصب مراعاة له كما يجوز الجر مراعاة للفظ؟ تؤخذ الإجابة من شرح كتاب : «المفصل» ـ فى ج ٧ ص ٦٥ ـ ونصها : (لفظه مجرور وموضعه نصب ؛ لأنه مفعول ؛ ولذلك يجوز فيما عطف عليه وجهان ، الجر والنصب ؛ نحو قولك : مررت بزيد وعمرو ـ وعمرا ؛ فالجر على اللفظ ، والنصب على الموضع ؛ وذلك من قبل أن الحرف يتنزل منزلة الجزء من الفعل ؛ من جهة أنه به وصل إلى الاسم ؛ فكأنه كالهمزة فى : أذهبته ، والتضعيف فى : فرحته ، وتارة يتنزل منزلة الجزء من الاسم المجرور به ؛ ولذلك جاز أن يعطف عليهما بالنصب ؛ فالجر على الاسم وحده. والنصب على موضع الحرف والاسم معا) ا. ه والرأى صريح فى جواز الأمرين ، ولا شك أن ما يجرى فى العطف يجرى فى غيره من باقى التوابع. ثم عاد فردد هذا ـ فى ج ٨ ص ١٠ ـ من غير أن يقتصر فى التوابع على العطف. بل نص على الصفة أيضا. ولا ريب أن بقية التوابع يجرى عليها ما يجرى على العطف والنعت.

ولعل الخير اليوم فى إهمال هذا الرأى ، والاقتصار على الرأى الآخر السديد الذى يوجب الجر وحده فى التوابع ، وترك النصب لما قد يكون مسموعا من الكلام القديم دون محاكاته ؛ حرصا على الضبط فى أداء المعانى بدقة وإحكام ، ومنعا للخلط الذى يؤدى إليه إباحة النصب ، إذ يترتب على جواز النصب أن يكون لكل اسم مجرور بحرف جر أصلى إعراب محلى غير إعرابه اللفظى ، وهذا الحكم العام الشامل ـ الذى يقضى بإعراب جميع الأسماء المجرورة بحرف جر أصلى إعرابا محليا بعد إعرابها اللفظى ، وبإدخالها فى أنواع الألفاظ التى لها إعراب محلى ـ غير معروف فى المعربات المحلية ، ولم يذكره أحد بين أنواعها المعروضة فى المراجع المتداولة ـ فيما نعرف ـ اللهم إلا المنادى المستغاث المجرور باللام ، بالتفصيل الخاص به فى باب الاستغاثة (ج ٤ م ١٣٣ ص ٦١) ـ (راجع ما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ١١٥ و: «ب» ص ١٢٢ وما يتبعها فى رقم : ١ من هامش ص ١٢٤ وص ١٥٣ ثم ص ٤٠٧).

(٤) انظر «ب» من هامش ص ١٥٥.


تعيين كليهما ؛ فوضعوا لذلك ضابطين يصلح كل منهما لأداء هذه المهمة ـ فى رأيهم (١) ـ

أولهما : أن يتصل بالفعل ضمير ؛ ـ كالهاء (٢) أو : ها ـ ، يعود على اسم سابق غير ظرف وغير مصدر.

وطريقة ذلك : أن يوضع الفعل فى جملة تامة ، وقبله اسم جامد ، أو مشتق ؛ بشرط أن يكون هذا الاسم غير مصدر وغير ظرف. وبعد الفعل ضمير يعود على ذلك الاسم المتقدم. فإن صح التركيب واستقام المعنى فالفعل متعد بنفسه ، وإلا فهو لازم. فإذا أردنا أن نتبين حقيقة الفعل : «أخذ» من ناحية التعدى واللزوم وضعنا قبله اسما غير مصدر وغير ظرف ، وجعلنا بعد الفعل ضميرا يعود على ذلك الاسم ؛ فنقول : الصحف أخذتها ، فنرى المعنى سليما والتركيب صحيحا (لموافقته الأصول والضوابط اللغوية) ؛ فنحكم بأن هذا الفعل متعد ؛ ينصب المفعول به بنفسه ، إلا إن صار المفعول به نائب فاعل فيرفع (٣). ومثل هذا يتبع فى الفعل «قعد» حيث نقول : الغرفة قعدتها ؛ فندرك سريعا فساد الأسلوب والمعنى. ولا سبب لهذا الفساد اللغوىّ إلا تعدية الفعل : «قعد» تعدية مباشرة. لهذا نحكم بأنه لازم. ومثل الفعلين «أخذ» و «قعد» غيرهما من الأفعال ؛ حيث يمكن التوصل إلى معرفة المتعدى واللازم باستخدام الضابط السالف.

وإنما اشترطوا فى الاسم السابق أن يكون غير مصدر وغير ظرف لأن الضمير يعود عليهما من الفعل المتعدى واللازم على السواء ؛ فلا يصلح الضمير العائد على أحدهما أن يكون أداة للتمييز بينهما ، ولكشف المتعدى واللازم منهما ؛ ففى مثل : طلبت منك أن تمشى فى الصباح المبكر طويلا ، ثم تستريح ساعة ، تذهب بعدها إلى مزاولة عملك ؛ فماذا فعلت؟

__________________

(١) انظر الحكم على هذا فى رقم ٣ من هامش الصفحة التالية.

(٢) وتسمى : «هاء المفعول به» لأنها تعود عليه.

(٣) وفى هذا يقول ابن مالك :

علامة الفعل المعدّى أن تصل

«ها» غير مصدر به ؛ نحو : عمل

فانصب به مفعوله ، إن لم ينب

عن فاعل ؛ نحو : تدبرت الكتب

أى : تأملتها.


قد يكون الجواب : المشى مشيته ، والساعة استرحتها (١) ، والذهاب ذهبته ، والعمل زاولته. ففى الإجابة ضمائر عاد بعضها على المصدر أو على الظرف ، مع أن أفعالها لازمة ؛ كما فى الثلاثة الأولى ، وعاد بعضها على المصدر أيضا مع أن الفعل : «زاول» متعد بنفسه.

ثانيهما : صياغة اسم مفعول تامّ (٢) من الفعل الذى يراد معرفة تعديته أو لزومه ؛ فإن أدى اسم المفعول معناه بغير حاجة إلى جار ومجرور كان فعله متعديا بنفسه ، وإلا كان لازما. ففى مثل : فتح ـ أكل ـ أعلن ... نقول : الباب مفتوح ـ الفاكهة مأكولة ـ الخبر معلن ... فنرى اسم المفعول مستغنيا عن الجار والمجرور فى أداء المراد منه ، بخلافه عند صياغته من مثل : قعد ـ يئس ـ هتف ... حيث نقول : الحجرة مقعود فيها ـ القضاء على أسباب الحرب ميئوس منه ـ العظيم مهتوف باسمه ... فاسم المفعول هنا لم يستغن فى أداء معناه عن الجار مع مجروره ...

فالوسيلة إلى معرفة التعدية واللزوم تكون باستخدام أحد الضابطين ، أو كليهما معا ؛ كما يقول النحاة (٣).

__________________

(١) انظر نيابة العدد عن الظرف ـ فى ص ٢٤٨ ـ.

(٢) أى : لا يحتاج فى تأدية المعنى المراد منه إلى جار مع مجروره.

(٣) الحق أن تلك الوسيلة ليست ناجعة ، ولا سليمة ، وأن الضابط الصحيح هو حكم اللغة بمفرداتها ، وتراكيبها الواردة عن أهلها العرب. وقد حوت النصوص والمراجع الوثيقة كثيرا من هذه المفردات والتراكيب ، وأبانت الكتب اللغوية ـ فى عناية تامة ـ ما تعدى من الأفعال وما لزم ، مع سرد معانيها ؛ نشهد هذا فى كتاب : المصباح المنير ، وفى القاموس المحيط ، وشرحه تاج العروس ، وفى لسان العرب ، وفى أساس البلاغة ... وغيرها من المطولات اللغوية. أما الضابطان السالفان فلا يصلح أحدهما أو كلاهما للإبانة دون الرجوع إلى تلك المراجع الوثيقة. وإلا فمن أين نعلم ويعلم المستعرب أن الفعل : (فتح ـ أكل ـ أعلن ـ ...) واسم المفعول منه مستغنيان عن الجار والمجرور ، وأن الفعل : (قعد ـ يئس ـ هتف ...) واسم مفعوله لا يستغنيان؟ من أين نعلم أن هذا الأسلوب صحيح فى تركيبه بعد التعدية ، أو غير صحيح؟ وأن مثل : «الحجرة قعدتها» ـ خطأ؟ لا سبيل لذلك إلا بالرجوع إلى تلك المصادر اللغوية الأمينة ، ولا دخل للذوق الشخصى فى الصحة أو الفساد ؛ لأنه غير مأمون. ومعنى ما تقدم أننا ـ ولا سيما المستعربون ـ لا نستطيع الانتفاع بأحد الضابطين السالفين أو بهما معا دون تحكيم اللغة أولا ، والاعتماد على ما تشير به ، ولها وحدها القول الفصل. أما الضابطان أو أحدهما فيستطيع من عرف أولا ، من اللغة تعدية هذا الفعل أو لزومه ـ أن يلجأ إليهما ؛ لمجرد الاستئناس ، لا لمعرفة أمر مجهول ، بل إنه لا يحتاج إلى مثل هذا الاستئناس ؛ لاستغنائه عنه بالمعرفة اللغوية السابقة.


وبالرغم من هذه الوسيلة لجئوا إلى أخرى أدقّ منها وأصحّ ؛ فقد بذلوا الجهد ـ قدر استطاعتهم ـ فى استقصاء كلام العرب ، وحصر الأفعال اللازمة الواردة فيه ، وتقسيمها أقساما تقريبية متعددة ، لكل قسم عنوان معيّن ينطبق ـ إلى حدّ كبير ـ على عدد كثير من الأفعال اللازمة الداخلة تحته ؛ فيكتفى الراغب بمعرفة هذا العنوان ، وتطبيق معناه على الفعل الذى يريد الحكم عليه بالتعدية أو باللزوم ؛ فيصل ـ غالبا ـ إلى ما يريد. فمنزلة هذا العنوان العام منزلة القاعدة التى تطبق على أفراد متعددة ؛ فتغنى عن المراجع اللغوية ، وتوصل إلى الغاية المرجوة بغير جهد مبذول ، ولا وقت ضائع. وقد نجحوا فى وضع هذه العناوين أو القواعد التقريبية نجاحا كبيرا يمكن الاعتماد عليه ، والاكتفاء به ، بالرغم من أنها لم تنطبق على قليل من الأفعال وصف بالشذوذ ، ونحوه. وأشهر تلك العناوين والقواعد الدالة ـ فى الغالب ـ على الأفعال اللازمة ما يأتى :

١ ـ الأفعال الدالة على صفة تلازم صاحبها ، ولا تكاد تفارقه إلا لسبب قاهر ، وهى الأفعال الدالة على السجايا ، والأوصاف الفطرية مثل : شرف فلان ؛ نبل ـ ظرف ـ قصر ـ طال ـ سمن ـ نحف ... والأغلب فى هذه الأفعال أن تكون على وزن : «فعل» ـ بفتح فضم ـ وهذه صيغة تكاد تقتصر على الفعل (١) اللازم.

ويتصل بهذا ما لا يدوم ولكن زمنه يطول ، أو يتكرر ؛ مثل : جبن ـ شجع ـ نهم (٢) ـ جشع.

٢ ـ الأفعال الدالة على أمر عرضىّ (٣) طارئ ، يزول بزوال سببه المؤقت ؛ كالأفعال فى مثل : مرض المتعرض للعدوى ـ ، احمر وجهه ـ ارتعشت يده ... وكالأفعال الدالة على فرح أو حزن ؛ فرح ـ (هنئ ـ سعد ـ حزن ـ جزع ـ فزع ـ رجف ...) أو على نظافة ودنس ؛ مثل : نظف الثوب أو غيره ـ

__________________

(١) ويقول صاحب المغنى (ج ٢ باب الأمور التى لا يكون الفعل معها إلا قاصرا) : إنه لم يرد منها متعديا سماعا إلا اثنان ؛ هما : رحب ، طلع ـ بفتح أولهما ، وضم ثانيهما ـ فى مثل رحبتكم الدار ، طلع القمر اليمن. كما سيجىء فى ص ١٥٩ وفى رقم ٢ من هامش ص ١٧٢.

(٢) نهم الرجل : اشتدت رغبته فى الطعام وملازمته.

(٣) يراد بالعرضى هنا. المعنى الطارئ الذى ليس له طول ثبات ، ولا دوام ، وليس حركة جسم. أما الفعل الدال على الحركة فقد يكون لازما ؛ مثل : مشى ، وقد يكون متعديا مثل : مد ـ


طهر ـ وضؤ ـ دنس ـ وسخ ـ قذر ـ نجس ...

٣ ـ الأفعال الدالة على لون ، أو حلية ، أو عيب ؛ مثل : حمر ـ احمرّ ـ احمارّ ـ سود اسودّ ـ ابيضّ ... ومثل : دعج (١) ، كحل ـ عور ـ عمى ...

٤ ـ الأفعال التى على وزان «افعللّ» نحو : اقشعرّ ـ ابذعر (٢) ـ ، اشمأزّ ـ وما ألحق بهذا الوزن من مثل : افوعلّ (بسكون الفاء ، وفتح الواو والعين ، وتشديد اللام) ، نحو : اكوهدّ (٣) واكوألّ ...

٥ ـ الأفعال التى على وزن «افغلل» ؛ من كل فعل فى وسطه نون بعدها حرفان أصليان ، نحو : احرنجم (٤). وكالأفعال التى تضاهى «افعنلل» من كل فعل فى وسطه نون بعدها حرفان أحدهما زائد للإلحاق ، نحو : اقعنسس (٥) ؛ فإن السين الثانية زائدة للإلحاق (٦) ؛ باحرنجم.

ويلحق بهما ما كان على وزان «افعنلى» نحو اسلنقى (٧) واحرنبى (٨)

٦ ـ الأفعال التى على وزن «فعل» ـ بكسر العين أو فتحها ـ إذا كان الوصف

__________________

(١) دعجت العين : اشتد سوادها وبياضها ـ أو اتسعت مع شدة سواد المقلة.

(٢) ابذعر القطيع : تفرق هربا.

(٣) اكوهد الفرخ : ارتعش ؛ ليشعر أمه بجوعه. واكوأل الرجل. بمعنى : قصر.

(٤) احرنجم الرجل : أراد شيئا ثم عدل عنه ، واحرنجمت الخيل أو الإبل. اجتمعت متزاحمة.

(٥) اقعنسس الجمل : أبى أن ينقاد ، أو : رجع إلى الخلف.

(٦) كانت العرب تزيد على الكلمة الشائعة حرفا ؛ لتجعلها مساوية فى عدد حروفها وفى وزنها لكلمة أخرى ، وتجرى مجراها فى التصغير ، والنسب ، والجمع ، وغيرها. والذى يدعوها لذلك دواع فى مقدمتها ضرورة الشعر ، والتمليح ، أو التهكم ...

وليس من حق أحد ـ سوى العرب القدامى ـ أن يزيد فى بنية الكلمة الواردة شيئا للإلحاق ؛ فتلك الزيادة مقصورة عليهم ، وقد انتهى زمنها بانتهاء عصورهم التى حددت للاستشهاد بكلامهم ، والتى حددها مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، بنهاية القرن الثانى الهجرى فى الحواضر ، ونهاية القرن الرابع الهجرى فى البوادى. (راجع ص ١٨ من كتابا : «رأى فى بعض الأصول اللغوية والنحوية» ، وص ٢٠٢ من الجزء الأول من مجلة المجمع اللغوى القاهرى ، و ٢٩٤ ، ٣٠٣ من محاضر انعقاده الأول) ...

(٧) اسلنقى المريض : نام على ظهره.

(٨) احرنبى الديك : نفش ريشه ؛ استعدادا للقتال.


منها على «فعيل» ؛ نحو : قوى الرجل ، فهو قوىّ ، وذلّ (١) الضعيف ، فهو ذليل.

٧ ـ الأفعال التى على وزن : انفعل ؛ نحو : انبعث وانطلق ، والتى على وزن «أفعل» ، ومعناها : صار صاحب شىء معين. مثل : أغدّ البعير ؛ بمعنى : صار ذا غدّة (٢) ... أو التى على وزن : «استفعل» وتفيد الصيرورة (٣) أيضا ؛ نحو : استنوق الجمل ، أى : صار كالناقة ، واستأسد القط ؛ أى : صار كالأسد فى صورته ...

٨ ـ الأفعال الدالة على مطاوعة (٤) فعل لفعل آخر متعد بنفسه لواحد ؛ مثل : «امتد» فى نحو : مددت الحديد الساخن فامتد ، ومثل : «توفّر» فى نحو : وفّرت المال فتوفّر ، ومثل : انكسر فى نحو : كسرت الخشبة فانكسرت.

٩ ـ الأفعال الرباعية الأصول التى يزاد عليها حرف أو حرفان ؛ مثل : تدحرج ، واحرنجم.

تلك هى أشهر أنواع الأفعال التى يغلب عليها اللزوم (٥).

__________________

(١) من باب : ضرب ، يضرب.

(٢) يريدون بها : ورما ناتئا يظهر فى بعض أعضائه.

(٣) التحول والانتقال من حالة إلى حالة.

(٤) سبق شرح المطاوعة وإيضاحها بالأمثلة (فى رقم ٤ من هامش ص ٩٨). وأشرنا هناك إلى أن صاحب كتاب «المخصص» (ابن سيده) عقد بحثا وافيا للمطاوعة ضمته كثيرا من شئونها (فى الجزء ١٤ ص ١٧٥) ، كما أشرنا إلى قرار المجمع اللغوى القاهرى بقياسه أفعال المطاوعة كلها.

(٥) وفيما سبق يقول ابن مالك :

ولازم غير المعدّى. وحتم

لزوم أفعال السّجايا ؛ كنهم

يريد : اللازم هو الذى ليس متعديا. وشرع يبين أنواع الأفعال اللازمة ، فقال : حتم لزوم أفعال السجايا وعدم تعديتها ، أى : أن لزومها محتوم. وسرد أنواعا أخرى فى الأبيات التالية :

كذا : «افعللّ» والمضاهى اقعنسسا

وما اقتضى نظافة أو دنسا

أو عرضا ، أو طاوع المعدّى

لواحد ؛ كمدّه فامتدّا

أى : ما كان على وزان «افعلل» فهو لازم ، وكذا الفعل الذى على وزن يضاهى ويشابه فى أحكامه الفعل : «اقعنسس» فإنه يشابه الفعل «افعنلل» مثل : «احرنجم» ـ كما أوضحنا فى الشرح ـ وكذلك من اللازم أيضا ما دل على نظافة ، أو دنس ، أو عرض ، أو مطاوعة لفعل متعد لواحد ...


«ملاحظة» :

الفعل اللازم ثلاثة أنواع يتردد ذكرها فى مناسبات مختلفة (١).

أولها : اللازم أصالة ؛ ويراد به الفعل الموضوع فى أصله اللغوى لازما ؛ مثل : نام ـ قعد ـ تحرك ـ ...

ثانيها : اللازم تنزيلا ؛ ويراد به الفعل المتعدى لواحد ، ولكن مفعوله هذا يحذف ـ غالبا ـ فى بعض الاستعمالات ؛ كأن يشتق من مصدر هذا الفعل اسم فاعل يضاف إلى فاعله ، فيصير اسم الفاعل بسبب هذه الإضافة دالا على الثبوت بعد كان قبل الإضافة دالا على الحدوث ، ويصير فى حالته الجديدة : «صفة مشبهة» ، ويسمى باسمها ، وتجرى عليه كل أحكامها مع بقائه على صورته الأولى ، دون بقاء اسمه السابق. وهو فى حالته الجديدة لا ينصب «مفعولا به» لأنه صار ـ كما قلنا ـ صفة مشبهة ، والصفة المشبهة لا تشتقّ أصالة إلّا من فعل لازم ، فحقّ ما هو بمنزلتها أن يكون كذلك ، فيحذف ـ فى الغالب ـ مفعوله ؛ مجاراة لها ، مثل : رحم قلب المؤمن الضعفاء ، يقال فيه : فلان راحم القلب.

ثالثها : اللازم تحويلا ، وهذا يكون بتحويل الفعل المتعدى لواحد إلى صيغة : «فعل» بقصد المدح أو الذم وهذه الصيغة لا تكون إلّا لازمة ؛ مثل : جهل الأمىّ ، فى ذمّ الأمىّ. والأصل المتعدى قبل التحويل هو : جهله ... ؛ فصار بعد التحويل لازما.

__________________

(١) ولا سيما باب «الصفة المشبهة» ـ ج ٣ م ١٠٤ و ١٠٥ ص ٢١٦ و ٢٥٠ حيث البيان ـ


المسألة ٧١ :

طريقة تعدية الفعل اللازم الثلاثى

من الممكن جعل الفعل الثلاثى اللازم متعديا إلى مفعول به واحد ، أو فى حكم المتعدى إليه (١) ؛ وذلك بإحدى الوسائل التى سنذكرها ، وكلها قياسىّ ، إلا الأخيرة (٢) ...

وقبل أن نسردها نشير إلى أمر هامّ ، هو أنّ هذه الوسائل كلها تتشابه فى أمر واحد ، يتركز فى صلاحية كل منها لتعدية الفعل اللازم. وتختلف بعد ذلك بينها اختلافا واضحا. وناحية الخلاف تتركز أيضا فى أن كل وسيلة منها تؤدى مع التعدية معنى خاصّا لا تكاد تؤديه وسيلة أخرى ؛ فواحدة تفيد ـ مثلا ـ مع التعدية جعل الفاعل مفعولا به ؛ كهمزة النقل (٣). ولهذا أثره فى تغيير المعنى الأول (٤) ، وواحدة تفيد التكرار والتمهل ؛ كالتضعيف ، وهذا تغيير طارئ على المعنى السابق ، وثالثة قد تفيد المشاركة ، ولم تكن موجودة ؛ كتحويل الفعل اللازم إلى صيغة فاعل ... وهكذا ، مما سيتضح عند الكلام على كل واحدة ، وما تجلبه من المعنى مع التعدية. فإن كان أثر الوسائل من ناحية التعدية واحدا فإن أثرها مختلف من ناحية المعنى. لهذا لا تختار وسيلة منها إلا على أساس أنها ـ مع تعديتها الفعل ـ تؤدى معنى جديدا يساير الجملة ، ويناسب الغرض. وعلى هذا الأساس وحده يقع الاختيار على وسيلة دون أختها ؛ فالتى تصلح لمعنى لا تصلح لغيره فى الغالب ... إلا إذا عرف عنها أنها قد تشابه غيرها فى تأدية معناه ، كحرف الجر الأصلىّ فإنه يؤدى ما تؤديه همزة النقل أحيانا ؛ نحو : أذهبت العصفور ، وذهبت به ... وإليك الوسائل :

__________________

(١) الذى فى حكم المتعدى هو ما يبدو متعديا بحسب المظهر الشكلى اللفظى دون الواقع الحقيقى المعنوى ، ويتضح هذا جليا فى الوسيلتين الأخيرتين (٧ ، ٨) كما سيجىء عند الكلام عليهما. فى ص ١٥٩ و ١٦٠.

(٢) الأخيرة المقصورة على السماع هى : إسقاط حرف الجر ـ كما سيجىء فى هامش ص ١٦٠ ـ وتلك الوسائل القياسية مستنبطة من الكلام العربى الأصيل الشائع لاستخدامها كسائر القواعد العامة المستنبطة منه ولا يلتفت إلى الرأى القائل إن استخدامها أو بعضها مقصور على السماع ؛ إذ لو كان كذلك ما كان هناك داع لتدوين هذه الوسائل ، ولوجب الاقتصار على المسموع. وهذا غير مقبول إلا فى الحالة الأخيرة ، حالة إسقاط حرف الجر ـ كما سيأتى. أما جعل المتعدى لازما أو فى حكمه ، فيجىء الكلام عليه فى ص ١٧١.

(٣) إيضاحها فى ص ١٥٧ ولها إشارة فى ص ١٦٧.

(٤) كما سيجىء فى ص ١٥٧.


١ ـ إدخال حرف الجر الأصلى المناسب للمعنى ، على الاسم الذى يعتبر فى الحكم ـ كما شرحنا أول هذا الباب ـ مفعولا به معنويّا للفعل اللازم (١) ، ليكون حرف الجر الأصلى مساعدا على توصيل أثر الفعل إلى مفعوله المعنوى ؛ فمثل : قعد ـ صاح ـ خرج ـ. يقال فى تعديته بحرف الجر : قعد المريض على السرير ـ صاح الجندى بالبوق ـ خرجت من القرية. فكلمة : السرير ـ البوق ـ القرية ـ ... هى من الناحية المعنوية فى حكم المفعول به ؛ لوقوع أثر الفعل عليها ، وإن كانت لا تسمى فى اصطلاح النحاة مفعولا به حقيقيّا (٢) ، ولا يجوز ـ فى الرأى الأنسب ـ نصب شىء من توابعها ما دام حرف الجر الأصلى مذكورا قبلها فى الكلام (كما سبق وكما سيجىء) (٣).

وقد وردت أمثلة قليلة مسموعة عن العرب. حذف فيها حرف الجر ، ونصب مجروره بعد حذفه ؛ منها : «تمرون الديار» ، بدلا من : تمرون بالديار ، ومنها : «توجهت مكة ، وذهبت الشام» ، بدلا من : توجهت إلى مكة ، وذهبت إلى الشام .... فهذه كلمات منصوبة على نزع الخافض (٤) ـ كما يقول النحويون ـ والنصب به سماعىّ (٥) ؛ مقصور على ما ورد منها منصوبا مع فعله الوارد نفسه ؛ فلا يجوز ـ فى الرأى الصائب ـ أن ينصب فعل من تلك الأفعال المحددة المعينة كلمة على نزع الخافض إلا الكلمة التى وردت معه مسموعة عن العرب ، كما لا يجوز فى كلمة من تلك الكلمات المعدودة المحدودة أن تكون منصوبة

__________________

(١) التعدية بحرف الجر ليست مقصورة على الثلاثى اللازم ؛ وإنما تشمله وتشمل المتعدى لواحد أو أكثر ؛ فإنه يتعدى لغيره بالجار أيضا ـ كما أشار إليه «الصبان» ، ونص عليه «الخضرى» صراحة فى أول هذا الباب ـ.

(٢) لأن المفعول به الحقيقى عندهم ؛ هو الذى يقع عليه الأثر مباشرة بدون مساعدة. ولهذا يسمون التعدية بحرف الجر : «تعدية غير مباشرة» ؛ لأنها جاءت نتيجة معاونة قدمت للفعل اللازم ، ولم يستطع التعدية إلا بهذه المعاونة.

(٣) راجع رقم ٢ من هامش ص ١١٥ ؛ ثم «ب» ص ١٢٢ م ٦٩ ثم ٣ من هامش ص ١٤٥ ثم رقم ١ من هامش ٤٠٨ م ٨٩.

(٤) أى : عند نزعه من مكانه ، والمراد : عند حذفه. وفى هذه الحالة تسمى أفعالها : متعدية. بنزع الخافض ، أما مع وجود حرف الجر فتسمى : متعدية بالحرف ؛ كما سبق. ـ ولنزع الخافض إشارة فى رقم ٣ من هامش ص ٢٩١ ، عند الكلام على حذف حرف الجر. ـ

(٥) راجع حاشية الأمير على المغنى ج ١ عند الكلام على : «لكن» مشددة النون.


على نزع الخافض إلا مع الفعل الذى وردت معه مسموعة. أى : أن هذه الكلمات القليلة المنصوبة على نزع الخافض لا يجوز القياس عليها ، فهى ، مقصورة على أفعالها الخاصة بها ، وأفعالها مقصورة عليها (١). ولو لا هذا لكثر الخلط ، وانتشر اللبس والإفساد ، وفقدت اللغة أوضح خصائصها ؛ وهو : التبيين ؛ وأساسه الضوابط السليمة المتميزة التى لا تداخل فيها ، ولا اختلاط.

وليس للتعدية بحرف الجر الأصلى حرف معين ، وإنما يختار للفعل وشبهه الحرف الذى يساير معناه ، ويناسب السياق ؛ فقد يكون الحرف : من ، أو ، إلى ، أو الباء ، أو غيرها ؛ كالأمثلة السابقة. وكقولنا : انصرف الصانع إلى مصنعه ـ وانصرف من المصنع إلى بيته ـ انصرف العالم عن الهزل ـ انصرف فى سيارته ... وهكذا تتغير أحرف الجر وتتنوع مع العامل اللازم بتنوع (٢) المعانى المطلوبة.

وحرف الجر إذا كان وسيلة للتعدية ، (وهى التعدية غير المباشرة) ، لا يجوز حذفه مع بقاء معموله مجرورا ، إلا فى بضعة مواضع قياسية (٣).

__________________

(١) إلا الكلمة المنصوبة على نزع الخافض فى مثل : «أرأيتك الحديقة ، هل راقك جمالها» على اعتبار أن «أرأيتك» بمعنى : أخبرنى ، والحديقة منصوبة على نزع الخافض ، والأصل عن الحديقة. ولهذه المسألة تفصيل هام ، وإيضاح مفيد فى ج ١ ص ٢١٦ م ١٩ ـ باب الضمير.

(٢) هذا أمر يجب التنبيه له ، فإذا رأينا لغويا ـ أو غيره ـ ينص صراحة أو تمثيلا على أن فعلا ـ مثل : قعد ، أو نام .. ـ يتعدى بحرف الجر «فى» أو بحرف جر آخر ينص عليه ، فليس مراده أن هذا الفعل لا يتعدى إلا بوسيلة المجىء بجار مع مجروره ، وأن حرف الجر الذى يجىء هو «فى» أو غيره مما نص عليه. وإنما مراده أمران معا ، هما : أن هذا الفعل لازم ، وأنه يجوز تعديته. بإحدى وسائل التعدية التى ستذكر هنا ، والتى منها الإتيان بحرف جر مناسب للمعنى وللسياق مع مجروره ، دون الاقتصار على حرف جر واحد فى الأساليب والمعانى المختلفة. فإذا اقتضى الأمر تعديته بالوسيلة القياسية وكانت حرف الجر جاز لنا أن نختار من بين حروف الجر حرفا يناسب المقام والغرض المراد ، من غير التزام حرف واحد فى كل المواقف المعنوية المتباينة. وعلى هذا نقول : قعدت على الكرسى ـ قعدت منذ ساعة ـ من قعدت به همته لم تنهض به عشيرته ... وهكذا.

ويزيد الأمر وضوحا ما سيجىء فى ص ٤٠٥ خاصا ببيان المراد من تعلق الجار والمجرور بالعامل.

(٣) سيجىء كثير منها فى باب حروف الجر ص ٤٩١ م ٩١ ـ وقد استفاض الخلاف والجدل فى جواز حذف الحروف الجارة حذفا قياسيا ، أو عدم جوازه ، وفى حكم المجرور بعد الحذف ؛ أيبقى مجرورا كما كان أم ينصب على نزع الخافض؟ وعند نصبه أيجوز أن يكون مفعولا به لعامله المذكور ، أم لا يجوز؟ وما حكم المصدر المؤول إذا كان مجرورا بالحرف المحذوف؟ أيكون فى محل جر أم فى محل نصب على نزع الخافض ، أو على أنه مفعول به للعامل الجديد؟ .. و.. و... بحوث جدلية وتفريعات متشعبة ... وصفوة ما يقال إن حذف الجار على أربعة أنواع :

ا ـ نوع يحذف وينصب بعده المجرور بما يسمى : «النصب على نزع الخافض» ؛ مثل : ـ


ويعنينا الآن من تلك المواضع ما يكون فيه المجرور مصدرا مؤولا من حرف

__________________

ـ تمرون الديار ـ توجهت مكة ـ ذهبت الشام ... وهذا نوع قليل جدا ـ فهو غير مطرد ، وقد أوضحنا حكمه بأنه سماعى محض ؛ فلا يجوز فى الفعل الذى ورد معه أن ينصب غيره على نزع الخافض ، ولا يجوز فى الاسم المنصوب على نزع الخافض أن ينصب على هذه الصورة إلا مع الفعل الوارد معه ؛ فلا يجوز : توجهت الحديقة ، ولا ذهبت النهر ، ولا أشباه هذا ، لأن تعدية هذين الفعلين لم ترد عن العرب إلا فى : «مكة» و «الشام» على التوزيع السالف ، وكان ورودهما فيهما قليلا جدا فلا يسمح بالقياس. ومثلهما : مطرنا السهل والجبل ، وضربت الخائن الظهر والبطن ، أى : فى السهل والجبل ـ وعلى الظهر والبطن. والقول بأن هذه الأسماء منصوبة على نزع الخافض أولى من القول بأنها مفعول به ، وأن الفعل قبلها نصبها شذوذا ، لأن نصبها على المفعولية مباشرة ولو على وجه الشذوذ ـ قد يوحى ـ خطأ ـ أن الفعل قبلها متعد بنفسه ؛ وأن المعنى لا يحتاج إلى المحذوف ؛ فيقع فى الوهم إباحة تعديته مباشرة فى غيرها لكن إذا قلنا : «منصوبة على نزع الخافض» كان هذا إعلانا صريحا عن حرف جر محذوف ، نصب بعده المجرور ؛ فيكون النصب دليلا على ذلك لا يستقيم المعنى إلا بملاحظته ، وتقدير وجوده.

ومن هذا النوع المنصوب سماعا ما نصب على نزع الخافض للضرورة.

ب ـ نوع يحذف وينصب بعده المجرور أيضا ، ولكن على اعتباره مفعولا به مباشرة ـ للعامل الذى يطلبه ؛ كالحروف التى يكثر استخدامها فى تعدية بعض الأفعال ؛ فتجر الأسماء بعدها. وكذلك يكثر حذفها بعد تلك الأفعال ؛ فتنتصب الأسماء بعد حذفها ؛ مثل الفعل : «دخل» فقد استعملته العرب كثيرا متعديا بالحرف : «فى» ؛ مثل : دخلت فى الدار. وكذلك استعملته بغير «فى» ونصبت ما بعده فقالت : دخلت الدار ، ولم تقتصر فى حالة وجوده أو حذفه على كلمة «الدار» بل أكثرت من غيرها ، مثل : المسجد ـ الغرفة ـ الخيمة ـ القصر ـ الكوخ ـ فكثرة استعمال الفعل بغير حرف الجر ، ووقوع تلك الأسماء المختلفة بعده منصوبة مع عدم وجود عامل آخر ـ كل ذلك يدعو إلى الاطمئنان أن تلك الأسماء المنصوبة هى مفعولات للفعل الموجود ، وأن هذا الفعل نصبها مباشرة ؛ فلا حاجة إلى اعتبارها منصوبة على نزع الخافض ـ كما يرى بعض النحاة دون بعض ـ لما فى هذا من العدول عن الإعراب الواضح ، المساير لظواهر الألفاظ ومعانيها ـ إلى الإغراب ، والتعقيد من غير داع.

ومعنى ما سبق أن الفعل : «دخل» يعد من الأفعال التى تتعدى بنفسها تارة وبحرف الجر أخرى ، فهو : مثل : شكر ـ نصح ـ حيث تقول فيهما : شكرت لله على ما أنعم ، ونصحت للغافل بأن يشكره ، أو : شكرت الله على ما أنعم ، ونصحت الغافل بأن يشكره. وهذا النوع هو الذى وصفناه أول هذا الباب ـ عند تقسيم الفعل التام إلى متعد ولازم ، ص ١٤٥ ـ بأنه قسم مستقل بنفسه يسمى : الفعل الذى يستعمل لازما ومتعديا. وهذا النوع يطرد فيه النصب مع حذف حرف الجر كما يطرد الجر مع ذكر الحرف.

ح ـ نوع يحذف فيه الحرف قليلا مع بقاء مجروره على حاله من الجر ، كما كان قبل حذف الجار وهذا النوع القليل مقصور على السماع لا محالة ؛ فلا يجوز التوسع فيه بجر كلمات غير الكلمات التى وردت عن العرب كقولهم : «لاه ابن عمك» ... (أى : لله ابن عمك). فقد حذفت اللام وبقى مجرورها ؛ فلا يجوز عند حذفها وضع مجرور آخر ؛ كأن يقال : المجد أنت ـ العمل النافع أخوك. تريد : للمجد أنت ـ للعمل النافع أخوك ، فهذا ـ وأشباهه ـ مما لا يصح. ومن هذا المسموع القليل حذف «الباء» ، أو «على» ، مع بقاء مجرورها فى قول أعرابى سئل : كيف أصبحت؟ فأجاب : «خير والحمد لله» أى : ـ


مصدرى من الحروف الثلاثة مع صلته. (وهى : أنّ ، وأن المختصة بالفعل (١) وكى (٢)) ، مثل : سررت من أن الناشئ راغب فى العلم ، حريص على أن يزداد منه ، لكى يبنى مجده ، ويرفع شأن بلاده. فيصح حذف الجار قبل كل حرف من الثلاثة ؛ فتصير الجملة : سررت أن الناشئ ... حريص أن يزداد ... كى يبنى ... فالمصادر التى تؤول فى العبارات السالفة من الحرف المصدرى وصلته ، تكون مجرورة على التوالى بالحرف : «من» فالحرف : «على» ، فالحرف : «اللام» ولا داعى لأن يكون المصدر المؤول فى محل نصب على نزع الخافض ـ كما يرى فريق ـ لأن حرف الجر المحذوف ملاحظ بعد حذفه ، والمعنى قائم على اعتباره كالموجود ؛ فهو محذوف بمنزلة المذكور. ولأن النصب على نزع الخافض خروج على الأصل السائد الغالب ؛ فلا نلجأ إليه مختارين.

__________________

ـ بخير ، أو : على خير ؛ وحذف «إلى» فى قول آخر :

إذا قيل أىّ الناس شرّ قبيلة

أشارت كليب بالأكفّ الأصابع

أى : أشارت إلى كليب الأصابع مع الأكف ... وهكذا من كل ما حذف فيه حرف الجر وبقى مجروره على حاله. وهذا النوع لا يطرد فيه الجر ، وإنما يقتصر على المسموع ؛ كما قلنا.

د ـ نوع يكثر فيه حذف الجار مع إبقاء مجروره على حاله من الجر. وهذا النوع قياسى يطرد فى جملة أشياء ؛ أشهرها : حرف الجر الذى مجروره المصدر المؤول من أحد الحروف المصدرية الثلاثة مع صلته ، وهذه الحروف الثلاثة هى : أنّ ـ (أن ـ كى ،) وقد تكلمنا عليها هنا ـ أما بقية الأشياء ومناقشتها ، فموضوع الكلام عليها : آخر باب حروف الجر عند الكلام على حذف حرف الجر وإبقاء عمله ـ ص ٤٩١ م ٩١ ـ ، والكثير منها غير داخل فى موضوع التعدية بحرف الجر الذى نحن فيه.

ومما تقدم نعلم أن حرف الجر إذا حذف ، ينصب الاسم بعده فى حالتين ؛ إحداهما : قليلة غير مطردة ، فالنصب فيها مقصور على السماع. والأخرى كثيرة مطردة ؛ فالنصب فيها قياسى. ويجر فى حالتين ؛ إحداهما : قليلة غير مطردة ؛ فالجر فيها سماعى ، والأخرى : كثيرة مطردة فالجر فيها قياسى فالحالات الأربع ؛ منها اثنتان قياسيتان واثنتان سماعيتان.

(١) إذا وقعت «أنّ وأن» بعد حرف الجر الباء فى صيغة : «أفعل» ـ بفتح فسكون فكسر ـ الخاصة بالتعجب جاز حذف الباء مع «أن» قياسا دون «أنّ» المشددة فى رأى قوى. بحجة أن السماع لم يرد بحذفها ؛ وهذه التفرقة بينهما فى مسألة واحدة غير مقبولة ؛ لأن حذف الباء قبلهما جائز فى كل المسائل الأخرى ، فلم تخرج هذه المسألة ـ كما سنشير فى ص ٤٥٥ وفى رقم ٣ من هامش ص ٤٩١ لكن إذ حذفت الباء فى التعجب بعد الصيغة السالفة أتلاحظ فى التقدير أم لا؟ رأيان ، كما سيجىء فى باب التعجب ج ٣ ـ ص ٢٧٢ م ١٠٩.

(٢) كى المصدرية لا بد أن يسبقها ـ لفظا أو تقديرا ـ لام الجر التى تفيد التعليل.


وهذا الحذف القياسى لا يصح إلا عند أمن اللبس (١) كما فى الأمثلة السالفة ، وفى قول الشاعر :

ولا عار أن زالت عن الحرّ نعمة

ولكنّ عارا أن يزول التّجمّل ...

والأصل : فى أن ... ـ فإن خيف اللبس لا يصح ؛ ففى مثل : رغبت فى أن يفيض النهر ـ لا يصح حذف حرف الجرّ : «فى» فلا يقال : رغبت أن يفيض النهر ؛ إذ لا يتضح المراد بعد الحذف ؛ أهو : رغبت فى أن يفيض النهر. أم رغبت عن أن يفيض ... ؛ والمعنيان متعارضان متناقضان ؛ لعدم معرفة الحرف المحذوف المعيّن ، وخلو الكلام من قرينة تزيل اللبس. ومثل هذا : انصرفت عن أن أقرأ المجلة ؛ فلا يجوز حذف الجار ؛ لأن حذفه يؤدى إلى أن تصير الجملة : انصرفت أن أقرأ المجلة ؛ فلا ندرى المقصود ؛ أهو : انصرفت إلى أن أقرأ ، أم انصرفت عن أن أقرأ ... والمعنيان متناقضان ، ولا قرينة تزيل اللبس (٢) ...

٢ ـ إدخال همزة النقل على أول الفعل الثلاثى (٣) (وهى همزة تنقل معنى الفعل إلى مفعوله ، ويصير بها الفاعل مفعولا. ولا تقتضى ـ فى الغالب ـ تكرارا ، ولا تمهلا) ،

__________________

(١) طبقا لما سيجىء فى رقم ٢ من ص ٤٩١.

(٢) وفيما سبق يقول ابن مالك مقتصرا على بعض الحالات :

وعدّ لازما بحرف جرّ

وإن حذف فالنّصب للمنجرّ

نقلا ـ وفى : «أنّ» و «أن» يطّرد

مع أمن لبس ، كعجبت أن يدوا

«عجبت أن يدوا» : أن يعطوا الدية ، وهى التعويض المالى الذى يدفعه من ارتكب نوعا معينا من الجرائم ؛ ليأخذه المظلوم الذى وقعت عليه الجريمة ...

يقول : إن تعدية اللازم تكون بإدخال حرف الجر على مفعوله المعنوى ـ كما شرحنا ـ وعند حذف حرف الجر ينصب الاسم المجرور بشرط أن يكون هذا النصب نقلا عن العرب ؛ أى : مسموعا فى كلمات واردة عنهم ؛ فليس النصب قياسا ولا مباحا فى غير المنقول عنهم. ثم بين أن حذف الجار قياسى مطرد قبل «أنّ» و «أن».

(٣) التعدية القياسية بهمزة النقل ليست مقصورة على الفعل الثلاثى اللازم ؛ فقد صرح «الأشمونى» فى أول هذا الباب ـ وتبعه «الصبان» ـ أن همزة النقل تدخل أيضا على الثلاثى المتعدى للواحد ؛ فتجعله متعديا لاثنين.

أما دخولها على المتعدى لاثنين فإن لم يكن من أفعال اليقين والرجحان فلا يصح تعديته بها لثلاثة وإن كان منهما جاز تعديته بها للثالث ، بشرط أن يكون الفعل هو : «أعلم» أو : «أرى» دون أخواتهما من أفعال اليقين والرجحان ، فإن فى تعدية أخواتها الخلاف الذى سبق فى ص ٥٦.

ويقول صاحب الهمع ـ ج ٢ ص ٨١ باب «العوامل» وأولها : «الفعل» ـ ما نصه عن همزة ـ


نحو : خفى القمر ـ وأخفى السحاب القمر ، ومثل : جزعنا وأجزعنا ، فى قول الشاعر :

فإن جزعنا فإن الشرّ أجزعنا

وإن صبرنا فإنّا معشر صبر (١)

٣ ـ تضعيف عين الفعل اللازم ، بشرط ألا تكون همزة (٢) ؛ ففى نحو : فرح المنتصر ـ نام الطفل ، نقول ـ فرّحت المنتصر ـ نوّمت الأمّ طفلها.

٤ ـ تحويل الثلاثى اللازم إلى صيغة : «فاعل» ، الدالة على المشاركة ؛ نقول فى : جلس الكاتب ، ثم مشى ، وسار ـ جالست الكاتب ، وماشيته ، وسايرته.

٥ ـ تحويل الفعل الثلاثى اللازم إلى صيغة : «استفعل» التى تدل على الطلب (٣) ، أو على النسبة لشىء آخر. فمثال الأول : حضر ـ عان (بمعنى : عاون) تقول : استحضرت الغائب ـ استعنت الله ؛ أى : طلبت حضور الغائب ، وعون الله. ومثال الثانى : حسن ـ قبح ... تقول : استحسنت الهجرة ـ استقبحت الظلم ؛ أى : نسبت الحسن للهجرة ، ونسبت القبح للظلم.

وقد تؤدى صيغة استفعل إلى التعدية لمفعولين إذا كان الفعل قبلها متعديا لواحد ؛ نحو : كتبت الرسالة ـ استكتبت الأديب الرسالة ، وربما لا تؤدّى ، نحو : استفهمت الخبير. والأحسن قصر هاتين الحالتين الأخيرتين على السّماع (٤) ....

٦ ـ تحويل الفعل الثلاثى إلى فعل (مفتوح العين) الذى مضارعه «يفعل»

__________________

ـ النقل إنها : (لا تعدى ذا الاثنين إلى ثلاثة فى غير باب : «علم» بإجماع) اه فكيف وصف الحكم بالإجماع مع وجود الخلاف فيه ، كما أشرنا.

(١) جمع صبور. والبيت لأعشى باهلة.

(٢) لأنه غير مسموع فيها. هذا ، والتضعيف يقتضى ـ غالبا ـ التكرار والتمهل ، بخلاف همزة النقل ، بشرط ألا توجد قرينة تعارض كالتى فى قوله تعالى : (.... لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ...) فإن : «جملة واحدة» تعارض التكرار والتمهل فى الفعل : «نزّل».

(٣ و ٣) اما صيغة : «استفعل» الدالة على الصيرورة فلازمة ـ غالبا ـ ، نحو : استأسد القط ـ استرجل الغلام ... أى : صار القط أسدا ـ صار الغلام رجلا. وقد أباح المجمع اللغوى القاهرى قياسية صوغها وجاء قراره هذا صريحا (فى ص ٣٦٤ من محاضر جلسات دور الانعقاد الأول) ونصه : (يرى المجمع أن صيغة «استفعل» قياسية لإفادة الطلب ، أو الصيرورة) اه.


بضمها ، بقصد إفادة المغالبة (١) ؛ نحو : كرمت الفارس أكرمه ؛ بمعنى : غلبته فى الكرم ـ شرفت النبيل أشرفه ؛ بمعنى : غلبته فى الشرف.

٧ ـ التضمين ـ (وهو أن يؤدّى فعل ـ أو ما فى معناه ـ مؤدّى فعل آخر أو ما فى معناه ؛ فيعطى حكمه فى التعدية واللزوم) (٢). ومن أمثلته فى التعدية : لا تعزموا السفر ؛ فقد عدّى الفعل. «تعزم» إلى المفعول به مباشرة ؛ مع أن هذا الفعل لازم لا يتعدى إلا بحرف الجر ؛ فيقال : أنت تعزم على السفر. وإنما وقعت التعدية بسبب تضمين الفعل اللازم : «تعزم» معنى الفعل المتعدى : تنوى ، فنصب المفعول بنفسه مثله ؛ فمعنى : «لا تعزموا السفر» لا تنووا السفر ... ومثل : رحبتكم الدار ـ وهو مسموع ـ فإن الفعل : «رحب» لازم ؛ لا يتعدى بنفسه إلى مفعول به. ولكنه تضمن معنى : «وسع» فنصب المفعول به «الكاف» مثله ؛ إذ يقال وسعتكم الدار ؛ بمعنى : اتسعت لكم. ومثل : طلع القمر اليمن ، ـ وهو من الأمثلة المسموعة أيضا ـ والفعل : «طلع»

__________________

(١) تسابق اثنين أو أكثر ـ إلى أمر ؛ وتزاحمهما عليه ، رغبة فى انتصار كل فريق على الآخر ، وتغلّبه فى ذلك الأمر. ولأهمية المغالبة سنعود للكلام عليها فى الزيادة والتفصيل ، ص ١٦٢.

(٢) عرفه كثير من النحاة بأنه : «إشراب اللفظ معنى آخر ، وإعطاؤه حكمه ؛ لتؤدى الكلمة معنى كلمتين». لكن التعريف الذى ذكرناه هو الذى ارتضاه المجمع اللغوى القاهرى من بين تعريفات كثيرة ؛ كما ورد فى الجزء الأول من مجلته ص ١٨٠ وما حولها. وكما فى ص ٢٠٢ من محاضر جلساته فى دور الانعقاد الأول. وفى المرجعين السالفين بحوث لطيفة وافية فى أمر التضمين من نواحيه المختلفة. وقرار المجمع فى ص ١٨٠ المشار إليها صريح فى أن التضمين قياسى بشروط ثلاثة ؛ أولها : تحقق المناسبة بين الفعلين. ثانيها : وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر ، ويؤمن معها اللبس. ثالثا : ملاءمة التضمين للذوق العربى. ويوصى المجمع بعدم الالتجاء إلى التضمين إلا لغرض بلاغى.

لكن أيكون التضمين فى الفعل وما شابههه ـ نوعا من المجاز ، أم من الحقيقة ، أم مركبا منها؟ وهل يختلف التضمين بمعناه السالف النحوى عن التضمين البيانى وهو الذى يقضى بتقدير حال محذوفة موضعها قبل الجار والمجرور ، مناسبة فى معناها لهما ، ويتعلق بها الجار والمجرور من غير حاجة إلى إعطاء كلمة معنى كلمة أخرى لتؤدى المعنيين كما يقول النحاة؟ وهل يمكن وجود التضمين السماعى؟ كل هذا وأكثر منه وأوفى وأوضح ، مدون فى المرجعين السالفين وقليل منه مدون فى حاشية الصبان قبيل آخر الباب. وكذلك عرض له «ياسين» فى حاشيته على «التصريح» ـ أول الجزء الثانى ، باب «حروف الجز» ـ عرضا محمود الإسهاب ، فى نحو أربع صفحات كبيرة. وقد سجلنا فى آخر هذا الجزء ـ ص ٥٢٢ ـ بحثا نفيسا خاصا به ؛ لا يستغنى عنه المتخصصون. ثم أبدينا فيه رأينا بايجاز. وهو بحث لأحد أعضاء المجمع اللغوى القاهرى ألقاه صاحبه على زملائه ، ثم سجلته ـ مع المناقشات التى دارت حوله ـ مجلة المجمع.


ـ بضم اللام (١) ـ لازم ، ولكنه نصب المفعول به بنفسه بعد أن ضمن معنى : «بلغ».

ومن أمثلة جعل المتعدى لازما : «سمع الله لمن حمده» فالفعل : «سمع» فى أصله متعد بنفسه ، ولكنه هنا تضمن معنى : «استجاب» فتعدى مثله باللام ، وهكذا ...

والصحيح عندهم أن التضمين قياسى ، والأخذ بهذا الرأى يفيد اللغة تيسيرا واتساعا (٢). ولما كان الفعل فى التضمين لا يتعدى إلا بعد أن يستمد القوة من فعل آخر فقد وصف بأنه فى حكم المتعدى. وليس بالمتعدى حقيقة ؛ لأن المتعدى الحقيقى لا تتوقف تعديته على حالة واحدة تجيئه فيها المعونة من غيره.

٨ ـ إسقاط حرف الجر توسعا ، ونصب المجرور على نزع الخافض. وهذا مقصور على السماع (٣) ؛ كقوله تعالى : (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ،) أى : عن أمره. وهذا ـ كسابقه (٤) ـ يكون فيه الفعل فى حكم المتعدى لا حقيقته ؛ مراعاة لأنه العامل فى المجرور معنى ، ولكنه لا دخل له فى نصبه.

__________________

(١) كشأن جميع الأفعال التى على وزن : «فعل» ـ بفتح فضم ـ وقد نقلنا فى رقم ١ من هامش ص ١٤٨ عن صاحب المغنى أنه : يرد من هذه الصيغة متعديا إلا رحب وطلع ـ بضم ثانيهما. فيما يعرف ، وكما سيجىء أيضا فى رقم ٢ من هامش ص ١٧٢.

(٢) ويمتاز التضمين من بقية وسائل التعدية بأنه قد ينقل الفعل اللازم طفرة إلى أكثر من مفعول واحد ؛ ولذلك عدى : «آلوت» بمعنى : «قصّرت» إلى مفعولين بعد أن كان الفعل قاصرا ، وذلك فى نحو قولهم : لا آلوك نصحا ؛ لأنه تضمن معنى : «لا أمنعك» الذى ينصب مفعولين. وعدى : «أخبر ، وخبر ، وحدّث ، ونبّأ» إلى الثلاثة ، بعد أن تضمنت معنى : «أعلم» وبعد ما كانت متعدية إلى واحد بنفسها وإلى آخر بحرف الجر ، نحو قوله تعالى : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ـ (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ـ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ.)

(٣) سبقت الإشارة لهذه المسألة فى ج ١ ص ١٨ م ٨ ولا داعى للأخذ بالرأى القائل إنه قياسى إذا وجد حرف جر سابق ، نظير للحرف المحذوف ، ولو فصل بينهما فاصل ؛ كبيت ابن مالك فى الإعراب ونصه :

فارفع بضمّ ، وانصبن فتحا ، وجر

كسرا ؛ كذكر الله عبده يسر

أى : انصب بفتح ، وجر بكسر. لا داعى للأخذ بهذا الرأى ، منعا للخلط ، ودفعا للإلباس ؛ إذ قد يقع فى وهم كثيرين أن الفعل متعد بنفسه. (انظر ما يتصل بهذا فى رقم ٣ من هامش ص ٤٩٢.

(٤) كما سبقت لهما الإشارة فى رقم ١ من هامش ص ١٥٢.


إلى هنا انتهى الكلام على أشهر الوسائل لتعدية الفعل اللازم ، ومنها يتضح ما أشرنا إليه (١) قبل سردها ، وهو :

أن كل واحدة تؤدى مع تعدية الفعل اللازم معنى خاصّا لا تؤديه أختها ـ فى الغالب ـ وأنّ تلك الوسائل قياسية مطردة ، ما عدا إسقاط حرف الجر توسعا ، ونصب المجرور على نزع الخافض ؛ فإن إسقاطه بهذه الصورة (٢) مقصور على السماع.

__________________

(١) فى ص ١٥٢.

(٢) يلاحظ الفرق بينها وبين حذف الجار قياسا مع بقاء معموله مجرورا ، على الوجه الذى سيجىء فى ص ٤٩١ كما يلاحظ ما سبق (فى رقم ٣ من هامش ص ١٥٤) من أنواع حذف الجار ، وحكم كل نوع.


زيادة وتفصيل :

سبق تعريف «المغالبة (١)» ، ووعدنا أن نتكلم عليها هنا ، ملخصين آراء الباحثين فيها :

جاء فى مقدمة «القاموس» ـ فى المقصد الأول الخاص ببيان الأمور التى امتاز بها القاموس ، عند تعليق المصحح على الأمر الخامس ، والكلام على الأمور التى توجب ضم العين فى المضارع ضمّا قياسيّا ، ومنها أن يكون دالا على المغالبة ـ التعليق التالى :

(«قوله : أو دالّا على المغالبة ...» يقتضى أن باب المغالبة قياسى ؛ وليس كذلك ، كما يدل عليه عبارة الرضى ؛ حيث قال : «واعلم أن باب المغالبة ليس قياسيّا بحيث يجوز نقل كل لغة إلى هذا الباب. قال : س (٢). وليس فى كل شىء يكون هذا ؛ ألا ترى أنك لا تقول نازعنى فنزعته أنزعه بضم العين [وهى الزاى] ، للاستغناء عنه بغلبته. وكذا غيره. بل نقول هذا الباب مسموع كثير») اه.

وقال صاحب القاموس فى الجزء الرابع مادة : الخصومة : ما نصه :

(الخصومة : الجدل ـ خاصمه مخاصمة ، وخصومة ؛ فخصمه يخصمه : غلبه ، وهو شاذ ، لأن فاعلته ففعلته يردّ «يفعل» منه (أى : المضارع منه) إلى الضم ، إن لم تكن عينه حرف حلق فإنه بالفتح ؛ كفاخره ففخره يفخره. وأما المعتل كوجدت وبعت فيردّ إلى الكسر إلا ذوات الواو ؛ فإنها تردّ إلى الضم ؛ كراضيته فرضوته أرضوه ـ وخاوفنى فخفته أخوفه. وليس فى كل شىء (يكون ذلك) لا يقال : نازعته أنزعه ؛ لأنهم استغنوا عنه بغلبته».

وقال الجار بردى فى شرح الكافية (٣) :

«معنى المغالبة : ما يذكر بعد المفاعلة مسندا إلى الغالب». أى : المقصود

__________________

(١) فى رقم ١ من هامش ص ١٥٩.

(٢) يريد : سيبويه.

(٣) وقد نقلنا كلامه عن ص ٦٨ ج ١ من المواهب الفتحية.


بيان الغلبة فى الفعل الذى جاء بعد المفاعلة ، على الآخر. فإذا قلت : كارمنى ، اقتضى أن يكون من غيرك إليك كرم ، مثل ما كان منك إليه ؛ فإذا غلبته فى الكرم فإنك تبنيه على «فعل» بفتح العين ؛ لكثرة معانيه. ثم خصوا من أبوابه بالرد إليه ما كان عين مضارعه مضمومة ، وإن كان من غير هذا الباب ، نحو كارمنى فكرمته ، يكارمنى فأكرمه ، وضاربنى فضربته ، يضاربنى فأضربه (بضم الراء فى المضارع) فهذا قد ضربته وضربك ، ولكنك قد غلبته فى الضرب. ويجوز ألا يكون قد ضربك ، وإنما ضربتما غيركما ؛ لتغلبه فى ذلك ، أو لتغلبك ، كذا البواقى.

(وإنما فعلوا ذلك لأن «الفعل» بمعنى المغالبة قد جاء كثيرا من هذا الباب ؛ نحو الكبر ؛ وهو : الغلبة فى الكبر ، والكثر ، وهو الغلبة فى الكثرة ، والقمر ؛ وهو الغلبة فى القمار ، فنقلوا من غير ذلك الباب أيضا إليه ، ليدل على المراد الموضوع ؛ ثم استثنوا من هذه القاعدة معتل الفاء ؛ واويّا كان نحو : وعد ، أو يائيّا نحو : يسر ؛ فإنه لا ينقل إلى «يفعل» بضم العين ، لئلا يلزم خلاف لغتهم ؛ إذ لم يجىء «مثال» (١) مضموم العين. فيقال : واعدنى فوعدته أعده ، وياسرنى فيسرته ، ومعتل العين أو اللام ، اليائى ؛ فإنه لا ينقل إلى «يفعل» بالضم بل يبقى على الكسر ؛ فيقول بايعنى فبعته أبيعه ، ورامانى فرميته أرميه ؛ إذا لم يجئ أجوف ولا ناقص يأتى من : «يفعل» بالضم ؛ لأنك لو ضممت عينه لانقلب حرف الياء واوا فيلتبس بذوات الواو. ومثل هذا قاله الرضى وغيره من شراح الكافية) اه.

وجاء فى الهمع (ج ٢ ص ١٦٣) فى فعل يفعل ما نصه : «لزموا الضم فى باب المغالبة. على الصحيح ؛ نحو : ضاربنى فضربته أضربه ـ وكابرنى فكبرته أكبره ، وفاضلنى ففضلته أفضله. وجوز الكسائى فتح عين مضارع هذا النوع إذا كان عينه أو لامه حرف حلق ؛ قياسا ؛ نحو : فاهمنى ففهمته أفهمه ، وفاقهنى ففقهته أفقهه ، وحكى الجوهرى : واضأنى فوضأته ، أوضؤه ؛ قال : وذلك بسبب الحرف الحلقى. وروى غيره : وشاعرته فشعرته ، أشعره. وفاخرته ففخرته

__________________

(١) المثال : ما كانت فاؤه حرف عنة.


أفخره ، بالفتح ، ورواية أبى ذرّ بالضم ...» اه.

ورأى الكسائى ـ مع قلته ـ حسن ؛ لأن فيه تيسيرا باستعمال ضبطين فى بعض الصور والأساليب. والعجيب أن اللغتين شائعتان ـ حتى اليوم ـ فى كثير من نواحى الإقليم الجنوبىّ «الصعيد» المصرى.

مما تقدم يعلم أنه مسموع كثير عند سيبويه. والوصف بأنه مسموع كثير يؤدى إلى الحكم بأنه قياسى ، وكذلك يعلم من قول شارح الكافية السابق ـ وهو : «أنك تبنيه على كذا ـ أن هذا من عملك ؛ فهو مقيس لك ؛ لكثرته. وهذا رأى ابن جنى أيضا فى كتابه : خ خ الخصائص ج ١ عند الكلام على المغالبة».

وخير ما يلخص به الموضوع تلخيصا وافيا حكيما هو ما جاء فى الجزء الثانى من مجلة المجمع اللغوى القاهرى ص ٢٢٦ ، ونصّه (١) :

«ذهب بعض إلى أن المغالبة ليست قياسا ؛ وإنما هى مسموعة كثيرا. وذهب بعض إلى أن استعمالها مطرد فى كل ثلاثى متصرف تام خال مما يلزم الكسر. وإنه يكفى أنه مسموع كثير لنقيس عليه ، كما قرر المجمع ، وكما قال ابن جنى» اه.

وهذا هو الحكم الموفق الذى يحسن الاقتصار عليه.

__________________

(١) بقلم شيخ الجامع الأزهر ـ الخضر حسين ، وكان ـ رحمه الله ـ أحد أعضاء المجمع اللغوى الأجلاء.


المسألة ٧٢ :

تعدد المفعول به ، وما يتبع هذا من ترتيب وحذف

عرفنا أن الفعل المتعدى قد يتعدى ـ مباشرة ـ إلى مفعول به واحد ؛ نحو : عدل الحاكم يكفل السعادة للمحكومين. أو إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، نحو : رأيت الظلم أقرب طريق للخراب. أو ليس أصلهما المبتدأ والخبر ؛ نحو : منعت النفس التسرع فى الرأى. وقد ينصب ثلاثة ؛ نحو : أعلمنى العقل الاعتدال واقيا من البلاء ... ولا يتعدى الفعل لأكثر من ثلاثة.

(ا) فإن كان الفعل متعديا لاثنين أصلهما المبتدأ والخبر جاز مراعاة هذا الأصل فى ترتيبهما ؛ فيتقدم المفعول به الذى أصله المبتدأ على المفعول به الذى أصله الخبر ؛ ـ ففى مثل : (الصبر أنفع فى الشدائد ...) يجوز : حسبت الصبر أنفع فى الشديد ، كما يجوز : حسبت أنفع فى الشدائد الصبر ، لكن مراعاة الأصل أحسن.

وقد تجب مراعاة الأصل فى المواضع التى يجب فيها تقديم المبتدأ على الخبر (١) ؛ كأن يؤدى عدم الترتيب إلى الوقوع فى اللبس ؛ ففى نحو : خالد محمود ... (والمراد : خالد كمحمود) نقول : ظننت خالدا محمودا ؛ فلو تقدم الثانى لاختلط الأمر والتبس ؛ إذ لا يمكن تمييز المشبه من المشبه به ؛ لعدم وجود قرينة تساعد على هذا ؛ فيكون التقديم بمرعاة الأصل هو القرينة.

وقد تجب مخالفة الأصل ؛ فيتقدم المفعول الثانى فى المواضع التى يجب فيها تقديم الخبر على المبتدأ (٢) ؛ كأن يكون فى المفعول الأول ضمير يعود على الثانى ؛ نحو : ظننت فى البيت (٣) صاحبه.

فأحوال الترتيب بين المفعولين ثلاثة : حالة يجب فيها مراعاة الأصل بتقديم

__________________

(١ و ١) وقد سبقت فى بابهما بالجزء الأول م ٣٧ ص ٦١.

(١ و ١) وقد سبقت فى بابهما بالجزء الأول م ٣٧ ص ٦١.

(٢) سبق فى (ص ٢٣ من باب «ظن وأخواتها») أن المفعول الثانى للأفعال القلبية يجوز أن يكون جملة ، وأن يكون شبه جملة ، كالمثال المذكور هنا. وقد وجب فيه التقديم على المفعول الأول كى لا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ؛ وهذا ممنوع إلا فى مواضع أخرى محدودة ، ليس منها هذا الموضع.


ما أصله المبتدأ وتأخير ما أصله الخبر ، وحالة يجب فيها مخالفة هذا الأصل ، وثالثة يجوز فيها الأمران. وقد تقدم هذا مفصلا فى موضعه الأنسب من باب : ظن «وأخواتها» (١).

(ب) إن لم يكن أصلهما المبتدأ والخبر فالأحسن تقديم ما هو فاعل فى المعنى على غيره ؛ نحو : أعطيت الزائر وردة من الحديقة. «فالزائر» هو الآخذ ، و «الوردة» هى المأخوذة ؛ فهو فى المعنى بمنزلة الفاعل ؛ وهى بمنزلة المفعول به ، وإن كانت هذه التسمية المعنوية لا يلتفت إليها فى الإعراب.

ويجوز مخالفة الأصل ؛ فيقال : أعطيت وردة من الحديقة الزائر. لكنّ الترتيب أحسن.

وقد يجب التزام الترتيب بتقديم الأول حتما وتأخير الثانى فى مواضع ، أشهرها ثلاثة :

١ ـ خوف اللبس ؛ نحو : أعطيت محمودا زميلا فى السفر. فلا يجوز تقديم الثانى ؛ إذ لو تقدم لم يتبين الآخذ من المأخوذ ، ولا قرينة تزيل هذا اللبس ، ولا وسيلة لإزالته إلا بتقديم ما هو فاعل فى المعنى على غيره ؛ ليكون التقديم هو الدليل على أنه الفاعل المعنوىّ. وفى هذه الصورة يجوز تقديم المفعول الثانى على المفعول الأول وعلى الفعل معا ؛ لعدم اللبس فى هذه الحالة ، نحو : زميلا فى السفر أعطيت محمودا.

٢ ـ أن يكون الثانى واقعا عليه الحصر (٢) ؛ نحو : لا أكسو الأولاد إلا المناسب ، فلو تقدم الثانى لفسد الحصر ، ولزال الغرض منه.

ولا مانع من تقديمه مع «إلا» ، على المفعول الأول ؛ إذ لا ضرر من هذا ، لأنّ المحصور فيه هو الواقع بعد «إلا» مباشرة ؛ نحو : لا أكسو إلا المناسب الأولاد.

٣ ـ أن يكون الأول ضميرا متصلا والثانى اسما ظاهرا ؛ نحو : منحتك الودّ.

(لكن لا مانع من تقديم المفعول الثانى على الأول والفعل معا ، نحو الودّ منحتك).

وتجب مخالفة الترتيب فى مسائل ، أشهرها ثلاثة أيضا :

١ ـ أن يكون المفعول الأول (أى : الفاعل فى المعنى) محصورا نحو : ما أعطيت المكافأة إلا المستحقّ. ويجوز تقديمه مع «إلا» على المفعول الأول وحده ، دون عامله.

__________________

(١) ص ٢٢ م ٦٠.

(٢) تقدم فى ج ١ ص ٣٦٤ م ٣٧ إيضاح للحصر (معناه وطريقته).


٢ ـ أن يكون المفعول الأول ـ الذى هو فاعل معنوى ـ مشتملا على ضمير يعود على المفعول الثانى ؛ نحو : أسكنت البيت صاحبه. فإن كان الثانى هو المشتمل على ضمير يعود على الأول جاز الأمران ؛ نحو : أسكنت محمدا بيته ، أو : أسكنت بيته محمدا.

٣ ـ أن يكون المفعول الثانى ضميرا متصلا ، والأول (أى : الفاعل المعنوى) اسما ظاهرا ؛ نحو : القلم أعطيته كاتبا ...

فأحوال الترتيب ثلاث فى هذا القسم «ب» ؛ وجوب التزامه فى ثلاثة مواضع ، ووجوب مخالفته فى ثلاثة أخرى ، وجواز الأمرين فى غير المواضع السالفة (١).

(ح) إن كان الفعل متعديا لثلاثة ، فالأول منها كان فاعلا ، وقد صيرته همزة النقل مفعولا به (٢). فالأصل الذى يراعى فيه أن يتقدم على المفعول الثانى والثالث. وأصلهما ـ الأرجح ـ مبتدأ وخبر ؛ فيراعى فى الترتيب بينهما ما يراعى بين المبتدأ والخبر ؛ طبقا للبيان الذى سبق (٣) (عند الكلام على حكم الناسخ ومعموليه من ناحية التقديم والتأخير).

__________________

(١) ترك ابن مالك الكلام على أحوال القسم الأول : «ا» ـ واقتصر على أحوال هذا القسم : «ب» ـ فقال بإيجاز :

والأصل سبق فاعل معنى ؛ ك «من»

من : «ألبسن من زاركم نسج اليمن»

ويلزم الأصل لموجب عرى

وترك ذاك الأصل حتما ، قد يرى

يريد : إذا تعدى الفعل لمفعولين ، أحدهما فاعل فى المعنى ، فالأصل المستحسن أن يتقدم هذا المفعول على غيره. وساق مثالا هو : «ألبسن من زاكم نسج اليمن». فكلمة : «من» مفعول به ، وهى من ناحية المعنى ـ لا الاصطلاح النحوى ـ بمنزلة الفاعل ؛ لأن مدلولها هو : اللابس ، «ونسج اليمن» ، هو الملبوس. وفى هذه الحالة يراعى الأصل بتقديم المفعول الذى هو فاعل معنوى ، ويجوز عدم مراعاته ؛ فنقول : ألبسن نسج اليمن من زاركم. ثم صرح بعد ذلك بأن مراعاة هذا الأصل قد تلزم بسبب موجب لمراعاتها قد عرا ، ـ أى : حل ووجد ـ كما صرح بأن ترك مراعاة الأصل قد يرى حتما ، أى : قد يرى أمرا محتوما ، واجبا. (حتما : مفعول يرى).

(٢) راجع رقم ٢ من ص ١٥٧.

(٣) فى ص ٢٢ و ١٦٥.


حذف المفعول به :

الأغلب أن يؤدى المفعول به معنى ليس أساسيّا (١) فى الجملة ؛ فيمكن الاستغناء عن المفعول به من غير أن يفسد تركيبها ، أو يختل معناها الأساسىّ ، ولهذا يسمونه : «فضلة» (وهى اسم يطلقه النحاة على كل لفظ معناه غير أساسىّ فى جملته) بخلاف المبتدأ ، أو الخبر ، أو الفاعل ، أو نائبه ... أو غير هذا من كل جزء أصيل فى الجملة لا يمكن أن تتكون ولا أن يتم معناها الأساسىّ إلا به ، مما يسميه النحاة «عمدة».

بالرغم من أن المفعول به فضلة ـ فقد تشتد الحاجة إليه أحيانا ؛ فلا يمكن الاستغناء عنه فى بعض المواضع ، ولا يصح حذفه فيها كما سنرى. أما فى غيرها فيجوز حذفه ـ واحدا أو أكثر ـ لغرض لفظىّ ، أو معنوى.

فمن اللفظىّ : المحافظة على وزن الشعر ، كقول شوقى :

ما فى الحياة لأن تعا

تب أو تحاسب متّسع

(أى : تعاتب المخطئ أو تحاسبه (٢)) ... والمحافظة على تناسب الفواصل (٣) ؛ نحو قوله تعالى مخاطبا رسوله الكريم : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ـ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) ، وقوله : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى)(٤) ـ ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٥) فحذف مفعول الفعل : «يخشى» ولم يقل : «يخشاه» أو : يخشى الله ؛ لكى تنتهى الجملة الثانية بكلمة مناسبة فى وزنها لكلمة : «تشقى» التى انتهت بها الجملة الأولى. ومثل هذا الفعل : «قلا» الذى حذف مفعوله ؛ ليكون مناسبا فى وزنه للفعل : «سجا».

__________________

(١) هذا فى غير مفعولى «ظن» وأخواتها ، لأن أصلهما المبتدأ والخبر ـ غالبا ـ ، فهما عمدتان بحسب أصلهما ، (كما سبق فى رقم ٣ من هامش ص ٣ وقد سبق الكلام على حذفهما فى ص ٥٣ م ٦٣).

(٢) ومثل قول الشاعر :

شكرتك ؛ إن الشكر فرع من التقى

وما كل من أوليته نعمة يقضى

يريد : يقضى حقها من الشكر .. ، أو يقضى شكرها ...

(٣) الكلمات التى فى نهاية الجمل المتصلة اتصالا معنويا.

(٤) هدأ وسكن ، وخلا من الرياح والعواصف ، وأشباهها.

(٥) كره.


والرغبة فى الإيجاز ؛ نحو : دعوت البخيل للبذل ، فلم يقبل ، ولن يقبل. أى : لم يقبل الدعوة ، أو البذل ، ولن يقبل الدعوة أو البذل ...

ومن المعنوى : عدم تعلق الغرض به ، كقول البخيل لمن يعيبه بالبخل : طالما أنفقت ، وساعدت ، وعاونت ؛ أى : طالما أنفقت المال ، وساعدت فلانا ، وعاونت فلانا (١).

أو : الترفع عن النطق به ؛ لاستهجانه ، أو : لاحتقار صاحبه ، أو نحو هذا من الدواعى البلاغية وغير البلاغية.

فإذا اشتدت حاجة المعنى إلى ذكر المفعول به بحيث يختل أو يفسد بحذفه لم يجز الحذف ؛ كأن يكون المفعول به هو الجواب المقصود من سؤال معين ؛ مثل : ما ذا أكلت؟ فيجاب : أكلت فاكهة. فلا يجوز حذف المفعول به : «فاكهة» لأنه المقصود من الإجابة.

أو : يكون المفعول به محصورا ؛ نحو : ما أكلت إلا الفاكهة.

أو : يكون مفعولا به متعجبا منه بعد صيغة : «ما أفعل» التعجبية ، نحو : ما أحسن الحرية.

أو : يكون عامله محذوفا ؛ نحو قول القائل عند نزول المطر : خيرا لنا ، وشرا لعدونا ، أى : يجلب خيرا ...

وليس هذا الحذف مقصورا على مفعول الفعل المتعدى لواحد ؛ بل يشمله ويشمل المفعول الأول وحده ، أو الثانى وحده ، أو هما معا للفعل الذى ينصب مفعولين ؛ مثل : «ظن» وأخواتها. وكذلك يشمل المفعول الثانى والثالث ـ دون الأول (٢) ـ للأفعال التى تنصب ثلاثة ؛ مثل : «أعلم وأرى» كما سبق الكلام على هذا وإيضاحه بالأمثلة (٣).

* * *

__________________

(١) وقد حذفت المفعولات ؛ لأن الغرض الهام من الجملة ليس فلانا وفلانا من الأشخاص المعينة ؛ إنما الغرض هو : البذل والإعطاء لهذا أو لذاك بغير تعيين. ومن هذا قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ....) أى : أعطى المال واتقى الله ... وقوله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ؛) أى يعطيك الخير ؛ فترضاه.

(٢) لأنه فى الأصل فاعل ، وقد صيرته همزة النقل مفعولا به (راجع البيان الخاص بهذا فى ص ٥٣ ثم فى ص ٥٧).

(٣) فى ص ٥٧.

وقد اقتصر ابن مالك على بعض مواضع الحذف ؛ فقال : ـ


حذف عامل المفعول به :

بمناسبة الكلام على حذف المفعول به الواحد أو المتعدد يعرض النحاة إلى حذف عامله جوازا أو جوبا.

ا ـ فيجيزون حذفه إن كان معلوما بقرينة تدل عليه ، مثل : ماذا حصدت؟ فتقول : قمحا. أى : حصدت قمحا. وما ذا صنعت؟ فتجيب : خيرا. أى : صنعت خيرا.

ب ـ ويوجبون حذفه فى أبواب معينة ؛ منها : الاشتغال ؛ وقد سبق (١) ، ومنها : النداء (٢) ، ومنها : التحذير والإغراء (٣) ... بالشروط المدونة فى باب (٤) كل. ومنها : الأمثال المسموعة عن العرب بالنصب ؛ نحو : أحشفا وسوء كيلة (٥)؟

__________________

 ـ وحذف فضلة أجز إن لم يضر

كحذف ما سيق جوابا أو حصر

يقول : أجز حذف الفضلة (والمراد هنا : المفعول به) بشرط ألا يضر حذفها. وبين التى يضر حذفها بأنها ما سيقت جوابا ، أو وقعت محصورة على الوجه الذى شرحناه فيهما.

(هذا والفعل : «يضر» هو مضارع مجزوم ، ماضيه : «ضار» بمعنى : ضرّ ، تقول : ضارنى البرد يضيرنى ، بمعنى : ضرّنى ، يضرنى).

(١) فى ص ١٢١.

(٢) فإن المنادى منصوب بعامل محذوف وجوبا ، تقديره : أنادى ، أو أدعو ، وحرف النداء عوض عنه (طبقا للبيان الآتى فى باب «النداء» أول الجزء الرابع).

(٣) يشترط فى حذف العامل فى التحذير أن يكون التحذير بكلمة : «إياك» ؛ نحو إياك والكذب ، أو : مع العطف ؛ نحو : الكذب والنفاق ، أو مع التكرار ؛ نحو : النار النار ... ويشترط فى الإغراء : العطف ؛ نحو : الكرامة والشهامة. أو التكرار ؛ نحو الحياء الحياء.

(٤) بالجزء الرابع ... وفى حذف العامل الناصب للفضلة يقول ابن مالك :

ويحذف النّاصبها إن علما

وقد يكون حذفه ملتزما

أى : يجوز حذف ناصب الفضلة (والمراد بها هنا : المفعول به) إن كان الناصب معلوما بقرينة وقد يكون الحذف أحيانا لازما لا بد منه.

(٥) هذا مثل قاله فى الأصل أعرابى لآخر يبيع التمر رديئا ، ولا يوفى الكيل. وقد اشتهر المثل حتى صار يقال لمن يسىء إلى غيره إساءتين فى وقت واحد. (الحشف : أردأ التمر).

والمثل : الكلام يشبه مضربه بمورده ؛ أى : يشبه ما يستعمل فيه أخيرا بما وضع له فى الأصل. ـ


وكذلك ما يشبه الأمثال ؛ كقوله تعالى : (انْتَهُوا ... خَيْراً لَكُمْ) أى : واعملوا خيرا لكم.

* * *

الاشتباه بين الفاعل والمفعول به :

سبق تفصيل الكلام عليه ، وعلى طريقة كشفه ، فى آخر باب «الفاعل» (١).

* * *

جعل الفعل الثلاثى المتعدى لازما أو فى حكم اللازم (٢) ، قياسا.

يصير الثلاثى المتعدى لواحد لازما ـ قياسا ـ أو فى حكم اللازم لسبب مما يأتى (٣) :

١ ـ التضمين (٤) لمعنى فعل لازم ؛ نحو : قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ،) فإن الفعل : «يحذر» متعد فى الأصل بنفسه ، تقول

__________________

ـ أما ما يشبه المثل ؛ (أى : يجرى مجراه) ، فكلام مستعمل فيما وضع له من الأصل ، واستعماله شائع ودورانه على الألسنة كثير.

(١) ص ٩٣.

(٢) يصير لازما بأن ينسلخ عن التعدية ، ويتركها نهائيا ؛ بحسب الظاهر ، وبحسب الحقيقة الواقعة والمعنى ؛ كما فى السبب الثانى والثالث. ويصير فى حكم اللازم بأن يكون بحسب المظهر الشكلى اللفظى لازما ؛ لا بحسب المعنى والواقع الحقيقى ؛ كما فى الأول ، والرابع ، والخامس ؛ لأن «المضمن» ، متعد باعتبار دلالته الأصلية على معنى الفعل المتعدى ، ولأن الضعيف عن العمل ، المحتاج إلى مساعدة حرف الجر ، متعد فى المعنى وفى أصله للمفعول ، وطالب له. وكذلك الفعل فى الضرورة ... هكذا قالوا.

أما جعل الفعل الثلاثى اللازم متعديا فقد سبق الكلام عليه (فى ص ١٥٢).

(٣) ليس من المناسب الأخذ بالرأى القائل إن كل الأسباب الآتية أو بعضها مقصور على السماع ؛ إذ لو كان كذلك ما كانت هناك حاجة إلى ذكر هذه الضوابط ، ولوجب قصر الأمر على العرب. وفى هذا تضييق وإفساد يجافى طبيعة اللغة ، وينافى أصولها ، كما سبق فى الحالة الأخرى (رقم ٢ من هامش ص ١٥٢) ويلاحظ أن الثلاثة الأولى تجلب مع منع التعدية معنى جديدا ، على الوجه الذى سبق شرح نظيره فى طريقه تعدية الفعل اللازم ، (ص ١٥٢ م ٧١).

(٤) سبق الكلام على معناه ، والغرض منه ، وحكمه (فى ص ١٥٩ م ٧١) وقلنا : إن فى آخر هذا الجزء بحثا نفيسا خاصا به ، لا يستغنى عنه المتخصصون ، ويليه رأينا فيه بإيجاز.


حذرت عواقب الغضب. ولكنه حين تضمن معنى الفعل المضارع : «يخرج» صار متعديا مثله بحرف الجر : «عن». فالمراد : فليحذر الذين يخرجون عن أمره. ومثله قوله تعالى : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) فالفعل ؛ «تعدو» بمعنى «تتجاوز» متعد بنفسه ؛ كما فى مثل : أنت لا تعدو الحق ؛ أى : لا تتجاوز الحق. ولكنه هنا متعد بحرف الجرّ : «عن» ؛ بسبب تضمنه معنى فعل آخر ، هو : «تنصرف» الذى يتعدى بحرف الجر : «عن».

ومثله قول القائل : «قد قتل الله زيادا عنى» فالفعل : «قتل» فى أصله متعد بنفسه مباشرة إلى مفعول واحد ، مستغن بعد ذلك ـ غالبا ـ عن التعدية بالحرف الجارّ إلى مفعول ثان. ولكنه هنا تضمن معنى الفعل : «صرف» المتعدى بنفسه إلى مفعول ، وإلى الثانى بحرف الجر : «عن» ؛ فصار مثله متعديا بنفسه إلى الأول ، وبهذا الحرف إلى الثانى. فالمراد : قد صرف الله بالقتل زيادا عنى ...

والتضمين من الوسائل التى تجعل المتعدى فى حكم اللازم ؛ ولا تجعله لازما حقيقيّا ؛ ـ لما بيناه من قبل (١).

٢ ـ تحويل الفعل الثلاثى المتعدى لواحد إلى صيغة : «فعل» (بفتح أوله وضم عينه) (٢) بشرط أن يكون القصد من التحويل إما المبالغة فى معنى الفعل والتعجب منه (٣) ، نحو : نظر القطّ ، وإما المدح أو الذم (٤) ؛ نحو : سبق الفيلسوف

__________________

(١) فى رقم ١ من هامش ص ١٥٢ وفى ص ١٦٠.

(٢) وإنما كان تحويل الفعل الثلاثى المتعدى ، إلى هذه الصيغة مؤديا إلى لزومه لأنها صيغة لا تكاد تستعمل إلا لازمة ، إذ لم يرد منها فى المسموع متعديا إلا فعلان ـ فيما يقال ـ هما : رحب وطلع (بفتح أولهما وضم ثانيهما) على الوجه الذى سبق بيانه فى رقم ١ من هامش ص ١٤٨.

(٣) بشرط استيفاء الفعل لشروط التعجب المدونة فى بابه الخاص ـ ج ٣ (ص ٢٠٩ وص ٢٩٣).

(٤) يجوز تحويل الفعل الثلاثى إلى : «فعل» ـ بضم العين ـ ليكون للمدح أو الذم كنعم وبئس على الوجه المشروح فى بابهما (ج ٣) مع أوجه اختلاف بينهما ؛ أشهرها :

أمران فى معنى : «فعل» ؛ وهما : إشرابه التعجب مع عدم الاقتصار على المدح الخالص أو الذم الخالص ، وأنه للمدح الخاص بمعنى الفعل ، أو الذم الخاص كذلك ، لا العام الشامل الذى لا يقتصر فيهما على معنى الفعل. ـ


وفهم. وذلك فى مدحه بالسبق والفهم. ومنع القادر وحبس ؛ عند ذمه بمنع المعونة وحبسها.

٣ ـ الإتيان بمطاوع (١) للفعل الثلاثى المتعدى لواحد ؛ نحو : هدمت الحائط المائل ؛ فانهدم ، ثم بنيته ؛ فانبنى.

٤ ـ ضعف الفعل الثلاثى عن العمل بسبب تأخيره عن معموله ؛ نحو قوله تعالى : (... إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ،) وقوله تعالى : (... لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ.)

ومثله العامل الوصف الذى يعتوره الضعف بسبب أنه من المشتقات ؛ مثل قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) والأصل : إن كنتم تعبرون الرؤيا ـ الذين يرهبون ربهم ـ فعّال ما يريد ـ مصدّقا ما بين يديه ... وفى كل ما سبق تجىء قبل المعمول لام الجر ، وتسمى : «لام التقوية» ؛ لأنها تساعد العامل على الوصول إلى مفعوله المعنوى الحالىّ الذى كان فى الأصل مفعوله الحقيقى.

والضعف على الوجه السابق يجعل المتعدى فى حكم اللازم ، وليس لازما حقيقة (٢).

__________________

ـ وأمران فى فاعله الظاهر ؛ وهما : جواز خلوه من «أل» المباشرة وغير المباشرة ؛ نحو : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ،) وجواز جره بالباء الزائدة ؛ نحو حب بزيارة المخلص.

واثنان فى فاعله المضمر ؛ وهما : جواز عوده إلى ما قبله ، وجواز مطابقته له ، نحو : محمد شرف رجلا ؛ فيصح أن يكون الفاعل ضميرا عائدا على «محمد» المتقدم ، أو عائدا على : «رجلا» المتأخر. فإن عاد على المتقدم كان مطابقا له فى الإفراد والتثنية والجمع ، والتذكير ، والتأنيث. وإن كان عائدا على المتأخر لزم الإفراد ؛ تقول : المحمدان شرفا رجلين ، المحمدون شرفوا رجالا. فاطمة شرفت امرأة ، وهكذا.

(١) سبق شرح المطاوعة فى ص ٩٨ ، م ٧٦.

(٢) لأن العامل متعد فى المعنى إلى ما بعد لام التقوية ؛ لكنه بحسب الشكل اللفظى الظاهر لازم ، تجىء اللام للتقوية يجعل العامل لازما بحسب المظهر.

ونعود فنشير إلى ضعف كلام النحاة فى هذه الوسيلة الرابعة ـ كما سيجىء البيان المفيد عنها فى حروف الجر ، (ص ٤٣٩) ـ إذ من المعروف أن الفعل المتعدى لواحد يجوز تقديم مفعوله عليه (إلا فى بعض صور قليلة واجبة التقديم أو التأخير) وأنه لا يترتب على ذلك التقديم إبعاد الفعل عن التعدية إلى اللزوم إبعادا حتميا. وإذا كان بقاؤه متعديا مع التقديم أمرا جائزا فمن أين يأتيه الضعف ـ


٥ ـ ضرورة الشعر ، كقول القائل :

تبلت فؤادك (١) فى المنام خريدة (٢)

تسقى الضجيع ببارد بسّام

فإن الفعل «تسقى» ينصب مفعولين بنفسه ولكنه تعدى إلى الثانى هنا : «بالباء» نزولا على حكم الضرورة الشعرية. وهذه الوسيلة أيضا مما يجعل الفعل فى حكم اللازم ، وليس باللازم حقيقة. لما أوضحناه من قبل (٣).

__________________

ـ الذى يعالج بلام التقوية؟ وما سبب هذا الضعف؟ وإذا عرفنا أنه يجوز حذف هذه اللام فيعود الاسم بعدها مفعولا منصوبا كما كان قبل مجيئها من غير أن يترتب على هذا فساد فى صياغة الأسلوب أو فى معناه فما الحاجة الحقيقية إليها؟ وأين الضعف الذى تزيله؟

كذلك المشتقات العاملة التى يصفونها بالضعف ، من أين يأتيها الضعف؟ وما سببه وهى التى يجوز ـ أحيانا ـ أن تنصب مفعولها الخالى من لام التقوية مع تقدمه أو تأخره ، كما يجوز حذف لام التقوية إن وجدت فتنصبه مباشرة ، من غير أن يترتب على حذفها ضرر؟ والأولى بالنحاة أن يقولوا : (ا) إذا تعدى الفعل إلى مفعول واحد ، وجاز تقدم هذا المفعول على فعله ، فقد يبقى على حاله من النصب ، وقد يجر باللام ؛ فالأمران صحيحان.

(ب) إذا كان المشتق ناصبا مفعولا واحدا جاز فى مفعوله النصب مباشرة أو جره باللام ، سواء أكان المفعول متقدما أم متأخرا عن عامله.

(١) أصابته بالمرض بسبب الحب.

(٢) امرأة حسناء.

(٣) فى رقم ١ من هامش ص ١٥٢ وفى ص ١٦٠.


المسألة ٧٣ :

التنازع فى العمل (١)

(ا) فى مثل : وقف وتكلم الخطيب ـ نجد فعلين لا بد لكل منهما من فاعل ، وليس فى الكلام إلا اسم ظاهر واحد ، يصلح أن يكون فاعلا لأحدهما ، وهذا الاسم الظاهر هو : «الخطيب». فأى الفعلين أحق بالفاعل؟ وإذا فاز به أحدهما فأين فاعل الفعل الثانى؟

(ب) وفى مثل : سمعت وأبصرت القارئ ـ نجد فعلين أيضا ، يحتاج كل منهما إلى مفعول به منصوب. وليس فى الكلام ما يصلح أن يكون مفعولا به إلا شيئا واحدا ؛ هو : «القارئ» فأيهما أحق به؟ وإذا فاز به أحدهما فأين مفعول الفعل الثانى؟

(ح) وفى مثل : أنشد وسمعت الأديب : نجد فعلين يحتاج أحدهما إلى مرفوع يكون فاعلا ، ويحتاج الآخر إلى منصوب ، يكون مفعولا به ، فمطلب كل منهما يخالف الآخر ـ على غير ما فى الحالتين السالفتين ـ وليس فى الكلام إلا لفظة : «الأديب» التى تصلح لأحدهما. فأىّ الفعلين أولى بها؟ وما نصيب الآخر بعده؟

(د) وفى مثل : أنست وسعدت بالزائر ، نجد كلّا من الفعلين محتاجا إلى الجار مع مجروره (٢) ؛ ليكمل المعنى ، فأى الفعلين أولى؟ وما نصيب الآخر بعد ذلك؟

__________________

(١) لنا فى هذا الباب وفى أحكامه رأى خاص ، نراه أنسب ، وقد سجلناه فى آخره ص ١٩٠.

(٢) أوضحنا فى باب : «تعدى الفعل ولزومه» ص ١٤٥ ـ وفى حروف الجر ـ ص ٤٠٦ ـ أن لمجرور للتعدية فى هذا المثال وأشباهه يعد فى المعنى بمنزلة المفعول به ، فهو فى حكم المنصوب محلا ، برغم أنه مجرور لفظا ، ولا يجوز فى الرأى الأحسن مراعاة المحل إذا جاء تابع بعده.

وفى باب التنازع قد يتكلم النحاة أحيانا عن العامل الذى ينصب المفعول به لفظا ، والذى ينصبه محلا. يريدون بالأول ما يصل إليه العامل بنفسه ، وبالثانى : ما يصل إليه بحرف الجر.


من الأمثلة السالفة ـ وأشباهها ـ نعرف أن الأفعال (١) قد تتعدد فى الأسلوب الواحد ، ويحتاج كل منها إلى معمول خاص به ، ولكن لا يوجد فى الكلام إلا بعض معمولات ظاهرة ، تكفى بعض الأفعال دون بعض ، مع حاجة كل فعل إلى معمول خاص به ؛ فتتزاحم تلك العوامل الكثيرة على المعمولات القليلة ، وكأنها تتنازع ليظفر كل منها وحده بالمعمول ، ولهذا يسمى الأسلوب : «أسلوب التنازع» (٢). ويعرفه النحاة بأنه :

«ما يشتمل على فعلين ـ غالبا (٣) ـ ، متصرفين (٤) ، مذكورين ، أو على اسمين يشبهانهما فى العمل ، أو على فعل واسم يشبهه فى العمل ، وبعد الفعلين وما يشبههما معمول مطلوب (٥) لكل من الاثنين السابقين».

والفعلان أو ما يشبههما يسميان : «عاملى التنازع» ، والمعمول يسمى : «المتنازع فيه».

فلا بد فى التنازع من أمرين ؛ أولهما : تقدم فعلين أو ما يشبههما فى العمل ، وكلاهما يريد المعمول. ثانيهما : تأخير المعمول عنهما.

فمثال تقدم العاملين وهما فعلان متصرفان : تصدّق وأخلص الصالح. ومثال تقدّم العاملين وهما اسمان مشتقّان يعملان عمل الفعل : المؤمن ناصر ومساعد الضعيف. ومثال المختلفين : دراك وساعد الملهوف ؛ بمعنى أدرك وساعد. وهكذا الصور (٦) الأخرى التى تدخل فى التعريف.

__________________

(١) مثل الأفعال ما يشبهها مما يعمل عملها ـ كما سيجىء هنا ـ

(٢) ويسميه بعض النحاة القدامى : «الإعمال».

(٣) سنعرف ـ فى ص ١٧٨ ـ أنه يجوز أن تزيد العوامل على اثنين مع زيادة المعمولات أو عدم زيادتها ، ويشترط فى كل الحالات أن يزيد عدد العوامل على عدد المعمولات فى الكلام ؛ لكى ينشأ «التنازع».

(٤) إلا «فعل التعجب» فيجوز أن يكونا عاملين فى «التنازع» مع أنهما جامدان ـ كما فى الصفحة التالية ـ.

(٥) من حيث المعنى والعمل معا ، ولو كان عملهما مختلفا. وسيجىء فى الزيادة والتفصيل نوع المعمول.

(٦) كأن يكون الفعلان معا من نوع واحد (للماضى ، أو المضارع ، أو للأمر) وقد يكونان مختلفين فى بعض الصور ، وقد يكون أحد العاملين فعلا والآخر اسما يشبهه ، وقد يكون الفعل هو المتقدم أو الاسم الذى يشبه ...


على هذا لا يصح أن يكون من عوامل التنازع الحرف ، ولا العامل المتأخر فى مثل : أىّ الرجال قابلت وصافحت ، ولا العامل الذى توسط المعمول بينه وبين العامل الآخر ، نحو : اشتريت الكتاب وقرأت ، ولا العامل الجامد ؛ مثل : «عسى» أو «ليس» ، كما فى قول الشاعر :

من كان فوق محل الشمس موضعه

فليس يرفعه شىء ولا يضع

إلا فعلى التعجب ، فإنهما مع جمودهما يصح أن يكونا العاملين فى أسلوب التنازع ؛ نحو ما أحسن وأنفع صفاء النفوس ، وأحسن وأنفع بصفاء النفوس.


زيادة وتفصيل :

(ا) ليس من اللازم ـ كما أشرنا (١) ـ الاقتصار فى أسلوب «التنازع» على عاملين متقدمين ، ولا على معمول واحد ظاهر (٢) بعدهما ، فقد يقتضى الأمر أن تكون العوامل ثلاثة (٣) متقدمة من غير أن يتعدد المعمول ؛ نحو : يجلس ويسمع ويكتب المتعلم. وقد تتعدد العوامل والمعمولات الظاهرة ؛ نحو : تكتبون وتقرءون وتحفظون النصوص الأدبية كل أسبوع. ففى صدر الكلام ثلاثة عوامل تتنازع العمل فى معمولين بعدها ؛ (أى : فى المفعول به. وهو : «النصوص» ، وفى الظرف (٤) ؛ وهو : «كلّ ...») والكثير فى التنازع الاقتصار على عاملين ومعمول واحد. ولا يعرف فى الأساليب القديمة الزيادة على أربعة عوامل ، ولكن لا مانع من الزيادة عند وجود ما يقتضيها. ويشترط ـ فى كل الحالات ـ أن تقوم القرينة على أن الأسلوب أسلوب تنازع ؛ لتجرى عليه أحكام التنازع ، وأنه ليس من باب اللف والنشر ؛ مثل : غرّد وزأر العصفور والأسد ...

(ب) لا بد أن يكون بين العاملين ـ أو العوامل ـ نوع ارتباط ؛ كالعطف

__________________

(١) فى رقم ٣ من هامش الصفحة ١٧٦.

(٢) لا فرق فى المعمول بين أن يكون اسما ظاهرا ، أو ضميرا بشرط أن يكون الضمير منفصلا مرفوعا ، أو منصوبا ، أو متصلا مجرورا ، نحو : على إنما قام وقعد هو ، وما زرت وصافحت إلا إياه. ووثقت وتقويت بك. كذلك لا فرق بين اختيار الأول وغيره للعمل ما لم يكن لأحدهما مرجح ؛ كوجود «بل» أو «لا» العاطفين. فيجب إعمال الأول فى مثل : أهنت لا أكرمت النمام. ويجب إعمال الثانى فى مثل : ضربت بل أكرمت الرجل. لأن «بل» ـ هنا ـ تجعل الحكم لما بعدها ، فما قبلها مسكوت عنه ، فلا يطلب المعمول. و «لا» ـ هنا ـ تجعل الحكم لما قبلها مثبتا. فما بعدها منفى لا يطلب المعمول.

(٣) ومنه قول القطامى :

صريع غوان راقهنّ ورقنه

لدن شبّ حتى شاب سود الذوائب

فقد تنازع العمل فى الطرف : «لدن» عوامل ثلاثة ؛ هى : صريع ، وراق ـ وراق أيضا المسند إلى نون النسوة.

(٤) انظر «ح» ص ١٧٩.


فى مثل : أعبد وأخاف الله. أو أن يكون العامل المتأخر جوابا معنويّا عن السابق ؛ نحو قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ ، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(١). أى : يستفتونك فى الكلالة ، قل الله يفتيكم فى الكلالة ... أو جوابا نحويّا ، كجواب الأمر وغيره مما يحتاج لجواب ؛ نحو : أنشد ، أسمع القصيدة. أو يكون المتأخر معمولا للسابق ؛ نحو قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً،) أو أن يكون العاملان خبرين عن اسم ؛ نحو : الحاكم مكافئ معاقب المستحق ... (ح) يقع التنازع فى أكثر المعمولات ، ومنها : المفعول به ، والمفعول المطلق ، والمفعول لأجله ، وشبه الجملة ، دون الحال والتمييز ـ على الأصح ـ.

(د) ليس من التنازع «التوكيد اللفظى» ؛ كالذى فى قولهم : «هيهات هيهات العقيق ومن به ...» لأن شرط التنازع : أن يكون المعمول مطلوبا لكل واحد من العاملين من حيث المعنى. وأن يوجد الضمير ـ إذا كان مرفوعا ـ فى العامل المهمل ، وهو غير موجود فى هذا التوكيد ، إذ الطالب للمعمول إنما هو كلمة : «هيهات» الأولى ؛ فهى وحدها المحتاجة للعقيق ؛ لتكون فاعلها ، والإسناد بينهما. أما كلمة : «هيهات» الثانية فلم تجئ للإسناد إلى العقيق ؛ وهى خالية من الضمير المرفوع ؛ وإنما جاءت لمجرد تأكيد الأولى وتقويتها ؛ فالأولى هى المحتاجة للفاعل ، أما الثانية فلا تحتاج لفاعل ؛ ولا لغيره ، فليست عاملة ، ولا معمولة ؛ شأن نظائرها التى تجىء للتوكيد اللفظى. ومثل هذا : جاءك الراغبون فى معرفتك (٢).

__________________

(١) الكلالة : الميت الذى ليس له والد ولا ولد ، أو : الوارث الذى ليس بولد ولا ولد للميت.

(٢) فريق من النحاة يدخل هذين المثالين وأشباههما فى باب التنازع ، ويجرى عليهما أحكامه ؛ بأن يكون العامل هو الأول ، وفى الثانى ضمير مستتر ، أو العكس مع مراعاة التفصيل الخاص بأحكام الضمير فى باب التنازع. وفى هذه الحالة لا يكون العامل الثانى من باب التوكيد اللفظى ؛ لأن العامل الثانى فى بابه زائد للتوكيد اللفظى ؛ فلا فاعل له ـ فى الرأى الشائع ـ فلا يتحمل ضميرا ، كما سيجىء فى باب التوكيد من الجزء الثالث ، ص ٤٢٥ م ١١٦.

والذين يقولون إن التوكيد اللفظى لا يصلح للتنازع يستدلون بأمثلة مسموعة ؛ منها قول ـ


__________________

ـ الشاعر يخاطب نفسه :

فأين إلى أين النّجاة ببغلتى؟

أتاك أتاك اللّاحقون احبس احبس

فلو كان فى الكلام تنازع لقال : أتاك أتوك اللاحقون ، أو : أتوك أتاك اللاحقون ، تطبيقا لأحكام التنازع.

والحق أن كلا الرأيين لا يصلح للأخذ المطلق أو الرفض المطلق ؛ لمجرد أنه منسوب لهذا أو لذاك وإنما الذى يعول عليه عند عدم الضمير البارز هو الأخذ بما يساير المعنى ويحقق الغرض ؛ فيجب أن أن تكون المسألة من باب التوكيد اللفظى وحده ـ ولا دخل للتنازع فيها ـ حين يقتضى المقام تحقيق غرض من أغراض التوكيد اللفظى ، وفى مقدمتها إزالة شك يحيط بالعامل وحده ؛ كأن يجرى الحديث عن سقوط المطر عدة أيام متوالية ؛ فيقول أحد الحاضرين : لم يسقط المطر أمس .. فيرد آخر : سقط سقط المطر أمس. ففى هذه الصورة يدور الشك حول الفعل : «سقط» وحده دون فاعله ؛ إذ ليس هناك شك فى أن الذى سقط هو : المطر ، وليس حجرا ، ولا حديدا ، ولا خشبا .. و.

أما فى صورة أخرى يدور الشك فيها حول العامل ومعموله معا فإن إزالة الشك عنها قد تكون بتكرار الجملة كلها ، وتكرارها قد يدخلها فى باب التنازع ، ولا سيما مع وجود الضمير البارز. مثال ذلك : أن يدور الحديث حول عدم حضور أحد من الغائبين ؛ بأن يقول قائل : لم يحضر أحد من الغائبين. فيرد آخر : حضر حضر أخى ، أو حضر حضرا المجاهدان ، أو حضرا حضر المجاهدان ... فالمقام هنا يقتضى أن تكون المسألة من باب «التنازع» ، وليست من توكيد الجملة الفعلية بأختها ؛ لأن توكيد الجملة الفعلية بنظيرتها الفعلية يقتضى تكرار لفظى الفعل والفاعل فى كل واحدة منها ـ كما هو مدون فى باب التوكيد ج ٣ ـ.


الأحكام الخاصة بالتنازع (١) :

تتلخص هذه الأحكام فيما يأتى :

١ ـ لا مزية لعامل على نظيره من ناحية استحقاقه للمعمول (أى : للمتنازع فيه) ؛ فكل عامل يجوز اختياره للعمل من غير ترجيح فى الأغلب (٢) ؛ فيجوز اختيار الأول السابق مع إهمال الأخير ، ويجوز العكس (٣). وإذا كانت العوامل ثلاثة أو أكثر فإن الحكم لا يتغير بالنسبة للأول والأخير. أما المتوسط بينهما ـ ثالثا أو أكثر ـ فيصح أن يساير الأول أو الأخير ؛ فالأمران متساويان بالنسبة لإعمال الثالث المتوسط ، وما زاد عليه من كل عامل بين الأول والأخير.

٢ ـ إذا وقع الاختيار على الأول ليكون هو العامل المستحق للمعمول وجب تعويض العامل الأخير المهمل تعويضا يغنيه عن المعمول ، وذلك بإلحاق ضمير (٤) به يطابق ذلك المعمول مطابقة تامة فى الإفراد ، والتثنية ، والجمع ، والتذكير ، والتأنيث ؛

__________________

(١) سنذكر أشهر الآراء ، ثم نردفه ـ آخر الباب فى الزيادة والتفصيل ـ برأى لنا خاص قد يكون فيه يسر ونفع خالصان من الشوائب ـ كما أشرنا فى رقم ١ من هامش ص ١٧٥ ـ.

(٢) إلا فى الحالتين المذكورتين فى رقم ٢ من هامش ص ١٧٨.

(٣) الكوفيون يعملون الأول لسبقه ، والبصريون يعملون الثانى لقربه ، وهذا خلاف يجب إهماله ، إذ لا قيمة له فى الترجيح ، وفى تفضيل أحد العاملين على الآخر إلا ما سبقت الإشارة إليه. فى رقم ٢ ويقول ابن مالك فى الإشارة للتنازع ما نصه :

إن عاملان اقتضيا فى اسم عمل

قبل ، فللواحد منهما العمل

والثّان أولى عند أهل البصره

واختار عكسا غيرهم ذا أسره

يقول : إن وجد عاملان يتطلبان عملا فى اسم ظاهر ، وكانا قبله ، فلواحد منهما العمل دون نظيره ، وهذا الواحد ليس معينا مقصورا على أحدهما ، وإنما يجوز أن يعمل هذا أو ذاك ؛ ولا يصح أن يكون العمل لهما معا فى ذلك الاسم. وإعمال الثانى أولى عند البصريين ، لقربه. واختار غيرهم العكس ، أى : إعمال الأول ، لسبقه. ومعنى : «ذا أسرة» ، صاحب رابطة قوية ، يريد بها الرابطة العلمية ، وأصحاب هذا الرأى هم الكوفيون. (التقدير : اختار غيرهم العكس حالة كون غيرهم ذا أسرة).

(٤) إلا فى الحالة التى فى ص ١٨٤ والأخرى التى فى ص ١٨٧ حيث يجب إحلال اسم ظاهر بدل ذلك الضمير. طبقا للتفصيل الموضح هناك.


لأن المعمول ، (المتنازع فيه) هو المرجع للضمير ، ويعتبر هذا المرجع متقدما برغم تأخر لفظه عن الضمير. ولا بد من المطابقة بين الضمير ومرجعه فى الأشياء السالفة. والأفضل وجود الضمير فى جميع الحالات ؛ سواء أكان ضمير رفع ، أم نصب ، أم جرّ ؛ فمن إعمال الأول فى المعمول المرفوع مع إعمال الأخير فى ضميره : المثال الوارد فى «ا» ، وهو (١) : «وقف ـ وتكلم ـ الخطيب» فنقول : (وقف ـ وتكلما ـ الخطيبان). (وقف ـ وتكلموا ـ الخطيبون). (وقفت ـ وتكلمت ـ الخطيبة). (وقفت ـ وتكلمتا ـ الخطيبتان) ـ (وقفت ـ وتكلمن ـ الخطيبات).

فكأن الأصل : (وقف الخطيب ، وتكلم). (وقف الخطيبان وتكلما). (وقف الخطيبون ، وتكلموا). (وقفت الخطيبة ، وتكلمت). (وقفت الخطيبتان ، وتكلمتا) ، (وقفت الخطيبات وتكلمن). وهكذا ...

والوسيلة المضبوطة لاستعمال الضمير على الوجه الصحيح أن نتخيل العامل الأول وهو فى صدر الجملة ، ثم يليه مباشرة المعمول : «المتنازع فيه» وقد تقدم من مكانه حتى صار بعده بغير فاصل بينهما ، ثم يليهما كل عامل مهمل ، وبعده الضمير المناسب لهذا التركيب القائم على التخيل المحض ؛ كما فى الأمثلة السالفة ؛ وكما فى الآتية :

«أوقد واستدفأ الحارس» ؛ فكل من الفعلين : «أوقد» و «استدفأ» يحتاج إلى كلمة : «الحارس» لتكون فاعلا له. فإذا أعملنا الأول وجب تعويض الأخير بإلحاق ضمير مناسب ، بآخره. ولكى يكون الضمير مناسبا صحيح الاستعمال نتخيل أن الاسم الظاهر «المتنازع فيه» وهو كلمة : «الحارس» قد تقدم حتى صار بعد العامل الأول مباشرة (أى : بغير فاصل بينهما). وهذا يقتضى أن يتأخر عنهما كل عامل مهمل. فكأن أصل الأسلوب : «أوقد الحارس واستدفأ». «فالحارس» هو الفاعل للفعل : «أوقد» أما الفعل المهمل «استدفأ» فقد لحق بآخره ضمير مستتر ، مرفوع ، يعرب فاعلا ، ويغنى عن الاسم الظاهر «المتنازع فيه». وهذا الضمير هنا مفرد مذكر ؛ ليطابق مرجعه «المتنازع فيه». فلو كان المرجع مفردا مؤنثا أو مثنى أو جمعا بنوعيهما ، لوجب أن يطابقه الضمير ،

__________________

(١) ص ١٧٥.


فنقول : (أوقدت ـ واستدفأت ـ الحارسة). أوقد ـ واستدفأا ـ الحارسان). (أوقدت ـ واستدفأتا ـ الحارستان). (أوقد ـ واستدفئوا ـ الحارسون). (أوقدت ـ واستدفأن ـ الحارسات) ... و... وهكذا. فكأن الأصل : (أوقدت الحارسة ، واستدفأت). (أوقد الحارسان ، واستدفأا). (أوقدت الحارستان ، واستدفأتا). (أوقد الحارسون ، واستدفئوا). (أوقدت الحارسات واستدفأن ...)

هذا حكم «التنازع» عند إعمال الأول حين تتعدد العوامل ولا يتعدد المعمول المرفوع ؛ وهو هنا الفاعل الظاهر الذى يطلبه كل منهما.

وما سبق يقال فى مثال : «ب» (١) وهو : «سمعت وأبصرت القارئ» عند إعمال الأول أيضا ، حيث تعددت العوامل التى يحتاج كل منها إلى المفعول به ؛ وليس فى الكلام إلا مفعول به واحد فنقول : (سمعت ـ وأبصرته ـ القارئ). (سمعت ـ وأبصرتها ـ القارئة). (سمعت ـ وأبصرتهما ـ القارئين). (سمعت ـ وأبصرتهما ـ القارئتين). (سمعت ـ وأبصرتهم ـ القارئين). (سمعت ـ وأبصرتهن ـ القارئات) فكأن أصل الكلام عند التخيل : (سمعت القارئ وأبصرته). (سمعت القارئة ، وأبصرتها). (سمعت القارئين ، وأبصرتهما). (سمعت القارئتين ، وأبصرتهما). (سمعت القارئين ، وأبصرتهم). (سمعت القارئات وأبصرتهن).

وكذلك يقال فى مثال : «ج» (٢) وهو : «أنشد وسمعت الأديب» ، برغم اختلاف المطلب بين العاملين ، فأحدهما يريد المعمول فاعلا له ، والآخر يريده مفعولا به ؛ فنقول ؛ عند إعمال الأول (٣) ؛ (أنشد ـ وسمعته ـ الأديب). (أنشدت ـ وسمعتها ـ الأديبة). (أنشد ـ وسمعتهما ـ الأديبان). (أنشدت ـ وسمعتهما ـ الأديبتان). (أنشد ـ وسمعتهم ـ الأديبون). (أنشدت ـ وسمعتهن ـ الأديبات). فكأن الأصل مع التخيل : (أنشد الأديب ، وسمعته). (أنشدت الأديبة ، وسمعتها). (أنشد الأديبان ، وسمعتهما). (أنشد الأديبون وسمعتهم). (أنشدت الأديبات ، وسمعتهن ...)

__________________

(١) ص ١٧٥.

(١) ص ١٧٥.

(٢) أما عند إعمال الأخير المحتاج للمفعول به فيجىء حكمه فى ص ١٨٦.


ومثل هذا يقال عند إعمال الأول أيضا فى مثال : «د» وهو : «أنست وسعدت

بالزائر الأديب» حيث يحتاج كل من العاملين فى تكملة معناه إلى الجار مع مجروره ؛ نحو : (أنست ـ وسعدت ـ بالزائر الأديب ، به (١)). (أنست ـ وسعدت ـ بالزائرة الأديبة ، بها). (أنست ـ وسعدت ـ بالزائرين الأديبين ، بهما). (أنست ـ وسعدت بالزائرتين الأديبتين ، بهما). (أنست ـ وسعدت ـ بالزائرين الأديبين ، بهم) ، (أنست ـ وسعدت ـ بالزائرات الأديبات ، بهن). وكأن الأصل مع التخيل : (أنست بالزائر الأديب ، وسعدت به). (أنست بالزائرة الأديبة ، وسعدت بها). (أنست بالزائرين الأديبين ، وسعدت بهما). (أنست بالزائرتين الأديبتين ، وسعدت بهما). أنست بالزائرين الأديبين ، وسعدت بهم) ، (أنست بالزائرات الأديبات ، وسعدت بهن.) ... و...

وهكذا نرى أن إعمال الأول يقتضى أمرين محتومين ، ألّا يعمل الأخير فى ذلك المعمول ، وأن يعمل هذا الأخير فى ضمير مطابق للمعمول فى الإفراد ، والتثنية. والجمع ، والتذكير ، والتأنيث. ويعتبر مرجع الضمير فى كل الصور السالفة متقدما عليه ، بالرغم من تأخر لفظ المرجع ـ كما أسلفنا ـ.

وهناك حالة واحدة لا يصح فيها مجىء الضمير لتعويض الأخير المهمل ، وإنما يجب أن يحل محله اسم ظاهر ، تلك الحالة تتحقق بأن يكون هذا الفعل المهمل محتاجا إلى مفعول به لا يصح حذفه ؛ لأنه عمدة فى الأصل ، ولا يصح إضماره ، إذ لو أضمرناه لترتب على إضماره عدم مطابقته لمرجعه الاسم الظاهر ؛ مثل : (أظن ـ ويظنانى أخا ـ محمودا وعليّا ، أخوين) فكلمة : «محمودا» هى المفعول به الأول للفعل العامل : «أظن» ، وكلمة : «عليّا» معطوفة عليها. و «أخوين» هى المفعول به الثانى للفعل : «أظن». وإلى هناك استوفى الفعل العامل : «أظن» مفعوليه. وبقى الفعل الأخير المهمل : «يظنان» وهو محتاج لمفعولين كذلك. فأين هما؟ أو أين ما يغنى عنهما؟

__________________

(١) يجيز فريق من النحاة تقديم هذا المعمول بعد عامله. وسيجىء فى الزيادة والتفصيل رأى مستقل.


إن «الياء» ضمير ، وهى مفعوله الأول. وبقى مفعوله الثانى ، فلو أتينا به ضميرا أيضا ، فقلنا : أظن ـ ويظنانى إياه ـ محمودا وعليّا أخوين ، أى : أظن محمودا وعليّا أخوين ويظنانى إياه ـ لكان (إياه) مطابقا فى الإفراد «للياء» التى هى المفعول الأول ؛ فتتحقق المطابقة بينهما ، على اعتبار أن أصلهما مبتدأ وخبر ، كما هو الشأن فى مفعولى : «ظن وأخواتها» ولكنها لا تتحقق بين الضمير «إياه» وما يعود عليه ؛ وهو : «أخوين» ؛ إذ «إياه» ضمير للمفرد ، ومرجعه دال على اثنين ؛ فتفوت المطابقة بين الضمير ومرجعه. وهذا غير جائز. ولو أتينا بالضمير الثانى مثنى فقلنا : أظنّ ـ ويظنانى إياهما ـ محمودا وعليّا ، أخوين ـ لتحققت المطابقة بين الضمير ومرجعه ؛ فكلاهما لاثنين ، ولكن تفوت المطابقة بين المفعول الثانى والمفعول الأول ، مع أن الثانى أصله خبر عن الأول ، ولا بد من المطابقة بين المبتدأ والخبر ، أو ما أصلهما المبتدأ أو الخبر ، كما أشرنا.

فلما كان الإضمار هنا يوقع فى الخطأ وجب العدول عنه إلى الإظهار الذى يحقق الغرض ، ولا يوقع فى الخطأ ، فنقول : أظن ـ ويظنانى أخا ـ محمودا وعليّا أخوين. أى : أظن محمودا وعليّا أخوين ، ويظنانى أخا. وفى هذه الصورة لا تكون المسألة من باب التنازع(١).

٣ ـ إذا أعملنا الأخير ، وأهملنا الأول ، وجب الاستغناء عن تعويض الأول المهمل ؛ فلا نلحق به ضمير المعمول (المتنازع فيه) ولا ما ينوب عن ذلك الضمير. إلا فى ثلاث حالات ، لا بد فى كل واحدة من الإتيان بضمير مطابق للمعمول ، المتأخر عن هذا الضمير (وفى الحالات الثلاث يجوز عودة الضمير على متأخر لفظا ورتبة (٢).

الأولى : أن يكون المعمول المتأخر مرفوعا ، كأن يكون فاعلا مطلوبا لعاملين ـ أو أكثر ـ وكل عامل يريده لنفسه ؛ نحو : شرب وتمهل العاطش. فإذا أعملنا

__________________

(١) لهذه الحالة نظير (فى ص ١٨٧) ولكن عند إعمال الأخير وإهمال الأول.

(٢) كما سبق فى بابى الضمير ، والفاعل. ج ١ ص ١٨٤ م ٢٠.


الأخير وأهملنا الأول وجب إلحاق الضمير المناسب بالأول (١) ؛ فنقول : (شربت ، وتمهلت العاطشة). (شربا ، وتمهل العاطشان). (شربتا ، وتمهلت العاطشتان) (شربوا وتمهل العاطشون). (شربن وتمهلت العاطشات).

الثانية : أن يكون المعمول «المتنازع فيه» اسما منصوبا أصله عمدة ؛ كمفعولى «ظن» وأخواتها ؛ فأصلهما المبتدأ والخبر ؛ وكخبر «كان» وأخواتها (٢). وفى هذه الحالة لا يحذف الضمير المناسب وإنما يبقى ويوضع متأخرا عن المعمول (المتنازع فيه) ؛ نحو : أظنهما ـ ويظن محمد حامدا ومحمودا ، مخلصين ـ إياهما ، فالفعلان تنازعا كلمة : «مخلصين» لتكون المفعول الثانى ... فجعلناها للأخير ، وأعملنا الأول فى الضمير العائد إليهما متأخرا.

والمراد : يظن محمد حامدا ومحمودا مخلصين ، وأظنهما إياهما ، أى : أظن حامدا ومحمودا المخلصين. «فحامدا» : مفعول أول للفعل : «يظن». و «محمودا» : معطوف عليه. «مخلصين» مفعول ثان للفعل : «يظن». و «أظنهما» : «أظن» : مضارع ، فاعله مستتر تقديره : «أنا». «هما» ضمير ، مفعول أول. وقد تقدم ليتصل بفعله ، لأن الاتصال ممكن ؛ وهذا يقتضى التقديم فلا داعى للانفصال (٣). «إياهما» : المفعول الثانى الذى جاء متأخرا (٤).

ومثل : كنت وكان الصديق أخا إياه. فالفعلان تنازعا كلمة : «أخا» لتكون خبرا ؛ فجعلناها للمتأخر منهما ، وأعملنا السابق فى ضمير هذا الخبر وجعلنا الضمير متأخرا بعد الخبر ؛ فالمراد : كان الصّديق أخا ، وكنت إياه ، أى : كنت أخا. ويصح : كنته ؛ لأن الاتصال ممكن وجائز ؛ فلا داعى للانفصال (٥).

__________________

(١) ولكى يقع الضمير موقعا صحيحا نتخيل ـ كما سبق ـ أن الفعل المهمل قد تأخر عن مكانه إلى آخر الجملة وقد سبقته واو العطف وقبلها الفعل العامل وفاعله. وعلى أساس هذا التخيل نجىء بالضمير مطابقا لمرجعه المتقدم عليه ، فكأن أصل الكلام : تمهلت العاطشة ، وشربت. تمهل العاطشان وشربا. تمهلت العاطشتان وشربتا. تمهل العاطشون وشربوا. تمهلت العاطشات وشر بن ...

(٢) إلا خبر الجامد منها ؛ مثل : «ليس» و «عسى» إذ لا يصلح الجامد الذى ليس فعل تعجب قياسى أن يكون عاملا فى «التنازع» ـ كما أوضحنا فى ص ١٧٦ و ١٧٧ ـ.

(٣ و ٣) طبقا لما سبق فى باب الضمير من الجزء الأول م ٢٠.

(٤) هناك رأى حسن ، يجيز حذفه. وارتضاه كثير من النحاة.


بقى أن نذكر حالة (١) لا يصح فيها حذف ضمير الاسم المتنازع فيه ، ولا إعمال الأول المهمل فيه ، وإنما يجب أن يحل محله اسم ظاهر ؛ وهذه الحالة هى التى يكون فيها الفعل الأول المهمل محتاجا إلى مفعول به ، أصله عمدة ، فلا يحذف (٢) ولو أضمرناه لترتب على إضماره عدم مطابقته لمرجعه الاسم الظاهر ؛ نحو : (يظنانى ، وأظن الزميلين أخوين ـ أخا). فكلمة : «أظن» مضارع ، فاعله مستتر ، تقديره : «أنا». وهذا المضارع محتاج إلى مفعولين ، أصلهما : المبتدأ والخبر ؛ فلا يحذف واحد منهما. «الزميلين» مفعوله الأول. «أخوين» : مفعوله الثانى. إلى هنا استوفى العامل الأخير مفعوليه. بقى أن يستوفى المتقدم المهمل (وهو : «يظنان») مفعوليه. فالفعل «يظنان» مضارع. فاعله : «ألف الاثنين» و «الياء». مفعوله الأول. فأين مفعوله الثانى؟

لو جئنا به ضميرا مطابقا للمفعول الأول فقلنا : يظنانى ـ وأظن الزميلين أخوين إياه ـ لتحققت المطابقة بين المفعول الثانى : «إياه» والمفعول الأول : «الياء» وهى المطابقة الواجبة بين المبتدأ ، والخبر أو ما أصلهما المبتدأ والخبر. ولكن تفوت المطابقة بين الضمير : «إياه» الذى للمفرد ، ومرجعه المثنى ، وهو : «أخوين».

ولو جئنا به مثنى ؛ فقلنا : يظنانى ـ وأظن الزميلين أخوين ـ إياهما ، لتحققت المطابقة الواجبة بين الضمير ومرجعه ؛ فكلاهما للتثنية. وضاعت بين المفعول الثانى ، الدال على التثنية ، والمفعول الأول وهو «الياء» الدالة على المفرد ، مع أن المطابقة بينهما لازمة ؛ لأنهما فى الأصل مبتدأ وخبر.

فللخروج من هذا الحرج نأتى بالمفعول الثانى اسما ظاهرا ؛ فنقول. يظنانى وأظن الزميلين أخوين ـ أخا. ولا تكون المسألة من باب «التنازع» (٣).

فإن كان المفعول : «المتنازع فيه» ليس عمدة فى أصله ، وكان العامل هو المتأخر ، فالأحسن حذف المعمول ؛ نحو : عاونت وعاوننى الجار. وليس من الأحسن أن يقال : عاونته وعاوننى الجار.

__________________

(١) وهى التى أشرنا إليها فى رقم ١ من هامش ص ١٨٤ عند إعمال الأول ، وإهمال الأخير.

(٢) بالرغم من جواز الحذف فى غير التنازع ـ انظر «ا» من ص ١٩٠.

(٣) فهى فى هذا كالتى سبقت فى ص ١٨٤.


الثالثة : أن يكون الضمير مجرورا (١) ، ولو حذف لأوقع حذفه فى ليس. فيبقى ويوضع متأخرا عن المعمول ؛ نحو : استعنت ، ـ واستعان علىّ الزميل ـ به. فالفعل الأول يطلب كلمة : «الزميل» لتكون مجرورة بالباء : (أى : استعنت بالزميل) والفعل الأخير يطلبها لتكون فاعلا ؛ لأنه استوفى معموله المجرور بالحرف ، «على» فأعملنا الفعل المتأخر فى الاسم الظاهر ، وأضمرنا بعده ضميره مجرورا بالباء ، فقلنا : «به». ولو تقدم بحيث يقع بعد عامله المهمل ، ويتوسط بين الفعلين لترتب على هذا تقدم الضمير الفضلة ، المجرور على مرجعه ، وهو غير مستحسن فى هذه الصورة. ولو حذفناه وقلنا : استعنت ـ واستعان علىّ الزميل لأدى حذفه إلى لبس ؛ إذ لا ندرى : آلزميل مستعان به ، أم مستعان عليه ...

فإن أمن اللبس فالأحسن الحذف مع ملاحظة المحذوف فى النية ؛ فكأنه موجود نحو : مررت ومر بى الصديق (٢).

__________________

(١) يعد المجرور بحرف جر للتعدية بمنزلة المفعول به المنصوب حكما. (كما سبقت الإشارة فى رقم ٢ من هامش ص ١٧٥).

(٢) عرض ابن مالك أحكام التنازع مجملة ، موجزة ، متداخلة. وساقها فى الأبيات القليلة التالية :

وأعمل المهمل فى ضمير ما

تنازعاه ، والتزم ما التزما

يريد : إذا أعمل واحد وأهمل الآخر ، فإن المهمل يعمل فى ضمير الاسم المتنازع فيه ، مع التزام الطريقة التى أشار النحاة بالتزامها فى الإعمال ، أو : مع التزام الطريقة التى التزمها العرب فى مثل هذه الأساليب. ولم يوضح هذه الطريقة ، ولم يتعرض لتفصيلها إلا بذكر مثالين فى البيت الآتى ؛ يوضح أولهما إعمال العامل الأخير فى الاسم المتنازع فيه ، مع إعمال المتقدم فى ضميره. ويوضح ثانيهما إعمال الأول فى ذلك الاسم المتنازع فيه مع إعمال الأخير فى ضميره ؛ وكلا الفعلين يحتاج للاسم الظاهر ، ليكون فاعلا له. يقول :

كيحسنان ويسىء ابناكا

وقد بغى واعتديا عبداكا

فالاسم المتنازع فيه هو : «ابناك» ، وقد أعمل فيه مباشرة الفعل المتأخر : «يسىء» أما الفعل المتقدم : «يحسن» فقد أعمل فى ضميره ؛ فصار : «يحسنان» والمثال الذى فى الشطر الثانى يشتمل على الاسم المتنازع فيه ؛ وهو : «عبداك» ، وقد أعمل فيه الأول : «بغى» وأهمل المتأخر وهو ؛ «اعتدى». ولكنه أعمل فى ضميره ، فصار : «اعتديا». ولم يحذف الضمير فى المثالين ؛ لأنه ضمير رفع ، فلا يحذف ...

ثم انتقل إلى بيان حكم خاص بالعامل الأول المهمل ؛ يتلخص فى أنه لا يعمل فى ضمير الاسم ـ


__________________

ـ المتنازع فيه ، إلا إذا كان ذلك الضمير للرفع ، فإن كان للنصب ، أو للجر لم يذكر مع الأول ، وإنما يحذف إن كان ضميرا ليس عمدة فى الأصل ، ويؤخر إن كان أصله عمدة. (وقد شرحنا هذا تفصيلا ، وأوضحناه بالأمثلة). ويقول فيه :

ولا تجئ مع أوّل قد أهملا

بمضمر لغير رفع أوهلا

بل حذفه الزم إن يكن غير خبر

وأخّرنه إن يكن هو الخبر

(أو هل : أهّل. أى : صار أهلا ، بمعنى أعدّ ، واستعمل فى غير الرفع) ثم بين الحالة التى يحل فيها الظاهر محل الضمير فقال :

وأظهران يكن ضمير خبرا

لغير ما يطابق المفسّرا

نحو : أظنّ ويظنّانى أخا

زيدا وعمرا أخوين فى الرّخا

(الرخا ـ الرخاء. وهو سعة الرزق).


زيادة وتفصيل :

يعدّ باب «التنازع» من أكثر الأبواب النحوية اضطرابا ، وتعقيدا ، وخضوعا لفلسفة عقلية خيالية ، ليست قوية السند بالكلام المأثور الفصيح ، بل ربما كانت مناقضة له.

(ا) فأما الاضطراب فيبدو فى كثرة الآراء والمذاهب المتعارضة التى لا سبيل للتوفيق بينها ، أو التقريب. وقد أهملنا أكثرها.

يتجلى هذا فى أن بعضها يجيز حذف المرفوع ؛ كالفاعل ، وبعضها لا يجيز. وفريق يجيز أن يشترك فعلان أو أكثر فى فاعل واحد ، وفريق يمنع. وطائفة تبيح الاستغناء عن المعمولات المنصوبة ، وعن ضمائرها ... ، وطائفة تبيح حذف ما ليس عمدة الآن أو فى الأصل ، وفئة تحتم تقدير ضمير المعمول متأخرا فى بعض الصور ، وفئة لا تحتم ... و... فليس بين أحكام «التنازع» حكم متفق عليه ، أو قريب من الاتفاق ، حتى ما اخترناه هنا. وقد يبدو الخلاف واضحا فى كثير من المسائل النحوية الأخرى ، ولكنه فى مسائل «التنازع» أوضح وأفدح ، كما يبدو فى المراجع المطولة (١). حيث يدور الرأس ، وتضيق النفس.

ومن مظاهر الاضطراب أيضا أن يحرموا هنا ما أباحوه فى أبواب أخرى ، فقد منعوا حذف ضمير الاسم المتنازع فيه إن كان أصله عمدة ؛ كأحد مفعولى «ظن» وأخواتها ، مع أنهم أباحوا ذلك فى باب «ظن» (٢). ومنعوا حذف المعمول إن كان فضلة ، والمهمل هو المتأخر ، مع أنهم أجازوه فى الأساليب الأخرى التى ليست للتنازع. ومنعوا هنا الإضمار قبل الذكر فى بعض الحالات ، مع أنهم أباحوه فى مكان آخر ... و... وكأنّ اسم هذا الباب قد سرى إلى كل حكم من أحكامه.

(ب) وأما التعقيد فلما أوجبوه مما ليس بواجب ، ولا شبه واجب ؛ فقد حتموا أن يكون ضمير الاسم المتنازع فيه واجب التأخير عنه حينا ـ فى رأى كثرتهم ؛

__________________

(١) كالأشمونى وحاشيته ، والتوضيح وشروحه وحواشيه ، والجزء الثانى من الهمع و... و.

(٢) سبقت الإشارة لهذا فى رقم ٢ من هامش ص ١٨٧.


فرارا من الإضمار قبل الذكر ، ومتقدما حينا آخر إذا تعذر تأخيره لسبب ما تخيلوه. وربما استغنوا عن الضمير ، وأحلوا محله اسما ظاهرا مناسبا إذا أدى الإضمار إلى الوقوع فى مخالفة نحوية. ولقد نشأ من مراعاة أحكامهم هذه أساليب لا ندرى : ألها نظير فى الكلام العربى أم ليس لها نظير؟ كقولهم ما نصه الحرفىّ : (استعنت واستعان علىّ زيد به. وظننت منطلقة وظنتنى منطلقا هند إياها. وأعلمنى وأعلمته إياه إياه زيد عمرا قائما. وأعلمت وأعلمنى زيدا عمرا قائما إياه إياه ... و... و...) (١) وهذا قليل من الأمثلة البغيضة ، التى لا يطمئن المرء إلى أن لها نظائر فى الأساليب المأثورة. ومن شاء زيادة عجيبة منها فليرجع إلى مظانها فى المطولات.

(ح) وأما الخضوع إلى الفلسفة العقلية الوهمية فواضح فى عدد من مسائل هذا الباب ؛ منها : تحتيمهم التنازع فى مثل : قام وذهب محمد ؛ حيث يوجبون أن يكون الفاعل : «محمد» لأحد الفعلين ، وأما فاعل الآخر فضمير. ولا يبيحون أن يكون لفظ : «محمد» فاعلا لهما ؛ بحجة «أن العوامل كالمؤثرات فلا يجوز اجتماع عاملين على معمول واحد» (٢) ولا ندرى السبب فى منع هذا الاجتماع مع إباحته لو قلنا : «قام محمد وذهب» فإن فاعل الفعل : «ذهب» ضمير يعود على محمد. فمحمد فى الحقيقة فاعل الفعلين ؛ ولا يقبل غير هذا ...

من كل ما سبق يتبين ما اشتمل عليه هذا الباب من عيوب الاضطراب ؛ والتعقيد ، والتخيل الذى لا يؤيده ـ فى ظننا ـ الفصيح المأثور.

ومن سلامة الذوق الأدبى وحسن التقدير البلاغى الفرار من محاكاة الصور البيانية وأساليب التعبير الواردة بهذا الباب ـ ولو كان لها نظائر مسموعة ـ لقبح تركيبها ، وصعوبة الاهتداء إلى صياغتها الصحيحة ، ولغموض معانيها ...

ولتدارك هذا كله ، والوصول إلى أحكام واضحة ، سهلة ، لا غبار عليها من ناحية السلامة اللغوية ، وقوة مشابهتها للكلام البليغ ، وتناسقها مع الأحكام

__________________

(١) الأشمونى ـ فى هذا الباب ـ عند شرح بيت ابن مالك الذى شطره الأخير : (.. وأخرته إن يكن هو الخبر) وكذا فى المطولات الأخرى.

(٢) حاشية الصبان وغيره. وقد أجاز الاجتماع فريق آخره ، ودفع الإجازة فريق ثالث!! وهكذا دواليك.


النحوية الأخرى ـ نرى أن تكون أحكام التنازع مقصورة على ما يأتى (وكلها مستمدّ من آراء ومذاهب لبعض النحاة ، تضمنتها الكتب المتداولة ، وهذا ما نود التنويه به) :

١ ـ تعريف التنازع : هو ما سبق أن ارتضيناه من مذاهب النحاة ، ونقلناه أول هذا الباب.

٢ ـ تتعدد العوامل ؛ فتكون اثنين ، أو أكثر. وقد تتعدد المعمولات ، أو لا تتعدد بشرط أن تكون أقل عددا من عواملها المتنازعة.

٣ ـ كل عامل من العوامل المتعددة يجوز اختياره وحده للعمل فى المعمول المذكور فى الكلام. ولا ترجيح من هذه الناحية ، لعامل على آخر.

٤ ـ إذا تعددت العوامل وكان كل واحد منها محتاجا إلى معمول مرفوع ؛ (كاحتياجه إلى الفاعل فى مثل : جلس وكتب المتعلم) فالمرفوع المذكور يكون لأحدها ، أما غيره فمرفوعه ضمير يعود على ذلك الاسم المرفوع. ولا مانع هنا من عودة الضمير على متأخر فى الرتبة. ويجوز أن يكون المرفوع مشتركا بين العوامل المتعدد كلها (١) ؛ إذا كان متأخرا عنها فيكون فاعلا ـ مثلا ـ ولا يحتاج واحد منها للعمل فى ضميره.

٥ ـ إذا تعددت العوامل وكان كل منها محتاجا إلى معمول غير مرفوع جاز اختيار أحدهما للعمل ، وترك الباقى من غير عمل ، لا فى ضمير المعمول ، ولا فى اسم ظاهر ينوب عنه ؛ لأن الاستغناء عن هذا الضمير أو ما يحل محله من اسم ظاهر ، جائز فى الأساليب الخالية من التنازع. فلا بأس أن يجرى فى التنازع أيضا ، وبعض المأثور من أمثلة التنازع يطابق هذا ويسايره. ولا فرق بين ما أصله عمدة ، وما أصله فضلة. وإذا أوقع الحذف فى لبس وجب إزالته بإحدى الوسائل التى لا تعقيد فيها ، ولا تهوى بقوة الأسلوب ، وحسن تركيبه.

__________________

(١) وتعدد العوامل مع وجود معمول واحد لها ، رأى يبيحه ويصرح به بعض أئمة النحو ؛ كالفراء ـ ومكانته بين كبار النحاة معروفة. وقد أوضحناها فى ج ٣ م ٩٨ ص ١٥٨ باب : «أبنية المصادر».


المسألة ٧٤ :

المفعول المطلق (١)

معناه :

الفعل يدل على أمرين معا ؛ أحدهما : المعنى المجرد (٢) ، ويسمى : «الحدث» والآخر : الزمان ؛ ففى مثل : رجع المجاهد ؛ فأسرع الناس لاستقباله ، وفرحوا بقدومه ، يدل كل فعل من الأفعال الثلاثة : (رجع ـ أسرع ـ فرح ...) بنفسه مباشرة ؛ ـ أى : من غير حاجة إلى كلمة أخرى ، ـ على أمرين.

أولهما : معنى محض نفهمه بالعقل ؛ هو : الرجوع ـ الإسراع ـ الفرح ... وهذا المعنى المجرد هو ما يسمى أيضا : «الحدث».

وثانيهما : زمن وقع فيه ذلك المعنى المجرد (الحدث) وانتهى قبل النطق بالفعل ، فهو زمن قد فات ، وانقضى قبل الكلام. وهذا الفعل يسمى : «الماضى».

ولو غيرنا صيغة الفعل ؛ فقلنا : يرجع المجاهد ؛ فيسرع الناس لاستقباله ، ويفرحون بقدومه ـ لظلّ كل فعل دالّا على الأمرين : المعنى المجرد ، والزمن. ولكن الزمن هنا صالح للحال والاستقبال. وهذا هو : «الفعل المضارع».

ولو غيرنا الصيغة مرة ثالثة فقلنا : ارجع ... أسرع ... افرح ـ لدلّ الفعل فى صورته الجديدة على الأمرين ؛ المعنى المجرد ، والزمن ، لكن الزمن

__________________

(١) المطلق ، أى : الذى ليس مقيدا تقييد باقى المفاعيل ـ بذكر شىء بعده ، كحرف جر مع مجروره ، أو غيره من القيود ؛ كالمفعول به ـ المفعول لأجله ـ المفعول معه ...

ويقولون فى سبب إطلاقه : إنه المفعول الحقيقى لفاعل الفعل ؛ إذ لم يوجد من الفاعل إلا ذلك الحدث ؛ نحو : قام المريض قياما. فالمريض قد أو جد القيام نفسه ، وأحدثه حقّا بعد أن لم يكن ؛ بخلاف باقى المفعولات ، فإنه لم يوجدها ، وإنما سميت باسمها باعتبار إلصاق الفعل بها ، أو وقوعه لأجلها ، أو معها ، أو فيها ؛ فلذلك لا تسمى مفعولا إلا مقيدة بشىء بعدها.

هذا ، وقد لازمته كلمة : «المطلق» حتى صارت قيدا.

(٢) أى : العقل المحض الذى لا كيان ولا وجود له إلا فى العقل ؛ فهو صورة عقلية بحتة ؛ فلا يقوم بنفسه ، وإنما يقوم بغيره ، ولا يدل على صاحبه الذى يقوم به ، ولا على إفراد ، ولا تثنية ، ولا جمع ، ولا تذكير ، ولا تأنيث. هذا هو المراد من «التجريد البحت».


هنا مستقبل فقط. وهذا هو : «فعل الأمر» فالفعل بأنواعه الثلاثة يدل على المعنى المجرد (الحدث) والزمان (١) معا.

ولو أتينا بمصدر صريح (٢) ـ لتلك الأفعال ـ أو غيرها ـ لوجدناه وحده يدل على المعنى المجرد (الحدث) فقط ؛ كالمصدر وحده فى مثل : الرجوع حسن ـ الإسراع نافع ـ الفرح كثير. فهو يدل على أحد الشيئين اللذين يدل عليهما الفعل. وهذا معنى قولهم : «المصدر الصريح (٣) يدل ـ فى الغالب (٤) ـ على الحدث دون الزمان» (٥).

والمصدر الصريح أصل المشتقات ـ فى الرأى الشائع (٦) ـ ، ويصلح لأنواع الإعراب المختلفة ؛ فيكون مبتدأ ، وخبرا ، وفاعلا ، ومفعولا به ... و... و... وقد يكون منصوبا فى جملته باعتباره مصدرا صريحا جاء لغرض معنوى ؛ كتأكيد معنى عامله المشارك له فى المادة اللفظية (أو غير هذا مما سيجىء هنا) مثل : حطّم التمساح السفينة تحطيما. وفى هذه الحالة وأشباهها يسمى : «مفعولا

__________________

(١) وهذا هو الغالب ؛ لأن هناك أفعالا لا تدل على الزمان كنعم وبئس فى المدح والذم ، وكالأفعال التى فى التعريفات العلمية ، وغيرها ، مما أوضحناه وفصلناه ـ فيما يتعلق بمعنى الفعل ، وأقسامه ، والزمان ، وغيره ـ بالجزء الأول ص ٢٩ م ٤.

(٢) غير مؤول. وإذا أطلق المصدر كان المراد : الصريح.

(٣) لأن المؤول يدل على زمن معين ، (على الوجه الذى بسطناه فى مكانه من الجزء الأول ص ٣٠٢ م ٢٩).

(٤) لأن المصدر الصريح قد يدل مع الحدث على المرة ، أو الهيئة. وإيضاح هذا وتفصيله فى موضعه الخاص من بابهما (ج ٣ ص ١٤٤ و ١٦١ ، ١٧٤).

(٥) وإلى هذا أشار ابن مالك بقوله.

المصدر اسم ما سوى الزّمان من

مدلولى الفعل ؛ كأمن ، من أمن ـ ١

يقول فى تعريف المصدر : إنه اسم يطلق على شىء غير الزمان من المدلولين اللذين يدل عليهما الفعل.

ولما كان هذان المدلولان هما : الحدث والزمان ، وقد صرح بأنه يدل على غير الزمان ـ اتجهت الدلالة بعد ذلك إلى المعنى المجرد وحده. ومثل للمصدر بكلمة : «أمن» وقال عنه : إنه من الفعل الماضى : «أمن» ، يريد بذلك : أن معنى هذا المصدر هو بعض مما يحويه الفعل «أمن» إذ الأمن يدل على المعنى المجرد الذى هو أحد شيئين يدل عليهما الفعل : أمن.

(٦) راجع الرأى فى ج ٣ باب : أبنية المصادر. ص ١٤٤ م ٩٨ وفى ٩٩ ١٦١ م باب : «إعمال المصدر واسمه».


مطلقا» (١) ، ويقال فى إعرابه : إنه منصوب على المصدرية ، أو منصوب ، لأنه مفعول مطلق.

وإذا كان منصوبا على هذه الصورة الخاصة فناصبه قد يكون مصدرا آخر من لفظه ومعناه ، أو من معناه فقط. وقد يكون فعلا (٢) من مادته ومعناه ، أو من معناه فقط ، وقد يكون الناصب له وصفا متصرفا يعمل عمل فعله ـ إلا أفعل التفضيل ـ كقولهم : إن الترفع عن الناس ترفعا أساسه الغطرسة ، يدفع بصاحبه إلى الشقاء دفعا لا يستطيع منه خلاصا. وقولهم : المخلص لنفسه إخلاص العقلاء يصدّها عن الغىّ ؛ فيسعد ، والمعجب بها إعجاب الحمقى يطلق لها العنان فيهلك (٣).

فالمصدر : «ترفّعا» ـ قد نصب بمصدر مثله ؛ هو : ترفّع.

والمصدر : «دفعا» ـ قد نصب بالفعل المضارع قبله ؛ وهو : يدفع.

والمصدر : «إخلاص» ـ قد نصب باسم الفاعل قبله ؛ وهو : المخلص.

والمصدر : «إعجاب» ـ قد نصب باسم المفعول قبله ؛ هو : المعجب.

وكقولهم : الفرح فرحا مسرفا ، كالحزين حزنا مفرطا ؛ كلاهما مسىء لنفسه ، بعيد عن الحكمة والسداد.

فالمصدر : «فرحا» منصوب بالصفة المشبهة قبله وهى : «الفرح».

__________________

(١) سيجىء تعريفه فى رقم ٢ من هامش ص ١٩٨.

(٢) بشرط أن يكون متصرفا ، وتاما ، وغير ملغى عن العمل ، فخرج الفعل الجامد ؛ كفعل التعجب ، والناقص مثل كان. والملغى ، مثل «ظن» عند إلغائها بالطريقة السابقة ـ فى ص ٣٧ ـ

(٣) وفى هذا يقول ابن مالك :

بمثله ؛ أو فعل ، أو وصف نصب

وكونه أصلا لهذين انتخب ـ ٢

بيّن فى هذا البيت حكم المصدر ، وأنه قد ينصب بمصدر مثله ، أو بفعل ، أو وصف ، وانتخب كونه أصلا للفعل والوصف ؛ أى : وقع الاختيار والتفضيل على الرأى القائل بهذا.

ثم بين أقسام المصدر بحسب فائدته المعنوية ؛ فقال :

توكيدا ، أو نوعا يبين ، أو عدد

كسرت سيرتين ، سير ذى رشد ـ ٣

أى : أن المصدر قد يفيد التوكيد ، أو يبين النوع ، أو يبين العدد. وساق مثالا يجمع الأقسام الثلاثة ؛ فإن : «سيرتين» هى لبيان العدد مع التوكيد أيضا ، و «سير ذى رشد» لبيان النوع مع التوكيد أيضا. وترك القسم الرابع النائب عن عامله. وسيجىء فى ص ٢٠٧.


وكذلك المصدر : «حزنا» ؛ فإنه منصوب بالصفة المشبهة قبله ، وهى : «الحزين» (١).

* * *

تقسيم المصدر بحسب فائدته المعنوية :

(ا) قد يكون الغرض من المصدر أمرا واحدا ؛ هو : أن يؤكّد ـ توكيدا لفظيّا ـ معنى عامله المذكور قبله ، ويزيده قوة ، ويقرره ؛ (أى : يبعد عنه الشك واحتمال المجاز.) ويتحقق هذا بالمصدر المنصوب المبهم (٢) ، نحو : بلع الحوت الرجل بلعا ـ طارت السمكة فى الجو طيرانا ...

(ب) وقد يكون الغرض من المصدر المنصوب أمرين معا ؛ ـ فهما متلازمان ـ : توكيد معنى عامله المذكور ، وبيان نوعه ، ويكون بيان النوع هو الأهم (٣) ؛

__________________

(١) والصفة المشبهة تنصب المصدر فى الرأى الأنسب ؛ لأن فيه تيسيرا ـ كما سيجىء فى بابها ج ٣ م ١٠٥

«ملاحظة» : قد يكون العامل فى المنادى هو العامل فى نصب المصدر. ومن الأمثلة قول الشاعر :

يا هند دعوة صبّ هائم دنف

منّى بوصل ، وإلا مات أو كربا

(راجع الهمع ج ١ ص ١٧٣. وستجىء لهذا إشارة فى ج ٤ باب النداء ، م ١٢٧ ص ٦)

(٢) المصدر المبهم هو الذى يقتصر على معناه المجرد دون أن تجىء له زيادة معنوية من ناحية أخرى ؛ كإضافة أو وصف ، أو عدد ، أو «أل» التى للعهد ... والمصدر ، المختص ما يؤدى معناه المجرد مع زيادة أخرى تجىء لمعناه من خارج لفظه ؛ كالتى تجىء له من الإضافة ، أو الوصف .. أو أو .. والبلاغة تقتضى أن يكون استعمال المصدر المبهم مقصورا على الحالة يكون فيها معنى عامله موضع غرابة أو شك ؛ فيزيل المصدر المبهم تلك الغرابة ، وهذا الشك ؛ كالأمثلة التى عرضناها. فليس من البلاغة أن يقال : قعدت قعودا ـ أكلت أكلا .. وأشباه هذا ، مادام الفعل : «قعد» أو أكل ، ليس موضع غرابة أو شك. نعم التعبير صحيح لغويا ، ولكنه ركيك بلاغيا. أما مثل : طارت السمكة طيرانا ، فالبلاغة ترضى عن مجىء المصدر المبهم ؛ لغرابة معنى عامله ، وتشكك السامع فى صحته ... وهكذا ...

وتوكيد المصدر لعامله هو من نوع التوكيد اللفظى ـ الذى سيجىء فى الجزء الثالث م ١١٦ ص ٤٣٤ ـ ؛ فيؤكد نفس عامله إن كان مصدرا مثله ، ويؤكد مصدر عامله الذى ليس بمصدر ليتحد المؤكّد والمؤكّد معا فى نوع الصيغة ؛ (تطبيقا لشرط التوكيد اللفظى ، ومنه التوكيد بالمصدر الذى نحن فيه) ؛ فمعنى قولك : عبرت النهر عبرا ـ أو جدت عبرا عبرا. وهذا رأى المحققين. لكن سيترتب على الأخذ برأيهم حذف المؤكّد فى التوكيد اللفظى ، وهذا الحذف ينافى الغرض من التوكيد اللفظى. وفوق هذا عامله الحقيقى محذوف أيضا ؛ ففى الكلام حذف كثير.

هل يجاب بأن اؤكّد مع حذفه ملاحظ يدل عليه اللفظ المذكور الذى يشاركه فى الاشتقاق ، وهو : «عبرت» فهو محذوف كالمذكور؟

(٣) يدخل فى هذا القسم المصدر المصوغ للدلالة على الهيئة ، (وسيجىء الكلام عليه فى ج ٣ م ١٠٠)


نحو : نظرت للعالم نظر الإعجاب والتقدير ، وأثنيت عليه ثناء مستطابا. وقوله تعالى : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ،) وليس من الممكن بيان النوع (١) من غير توكيد معنى العامل.

(ح) وقد يكون الغرض منه أمرين متلازمين أيضا ؛ هما : توكيد معنى عامله المذكور مع بيان (٢) عدده ، ويكون الثانى هو الأهم. ولا يتحقق الثانى بغير توكيده معنى العامل ؛ نحو : قرأت الكتاب قراءتين ، وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات.

(د) وقد يكون الغرض منه الأمور الثلاثة مجتمعة (٣) ؛ نحو : قرأت الكتاب قراءتين نافعتين ـ وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات طويلات ... ولا بد من اعتبار المصدر مختصّا فى هذه الحالات الثلاث الأخيرة : (ب ـ ج ـ د) لأن المصدر المبهم مقصور على التوكيد المحض ؛ لا يزيد عليه شيئا. فإذا دلّ مع التوكيد على بيان النوع ، أو بيان العدد ، أو هما معا ـ وجب اعتباره مصدرا مختصّا.

ومما تقدم نعلم أن فائدة المصدر المعنوية قد تقتصر على التوكيد وحده. ولكنها لا تقتصر على بيان النوع وحده ، أو بيان العدد وحده. أو عليهما معا ؛ إذ لا بد من إفاة التوكيد فى كل حالة من هذه الحالات الثلاث. ومن ثمّ قسّم

__________________

(١) يقولون : إن المصدر النوعى إن كان مضافا فالأصح اعتباره نائب مصدر ؛ لاستحالة أن يفعل الإنسان فعل غيره ؛ وإنما يفعل فعله الصادر منه ؛ فالأصل فى مثل : سرت سير ذى رشد ؛ هو ؛ سرت سيرا مثل سير ذى رشد ؛ فحذف المصدر ، ثم صفته ، وأنيب المضاف إليه منابه. ولو لا ذلك لكان المعنى : أن سير ذى الرشد قد سرته هو نفسه ؛ وهذا فاسد ، إذ كيف أسير السير المنسوب لذى الرشد؟ كيف يكون ذو الرشد هو الذى ساره وأوجده فى حين أقول أنا الذى سرته وأوجدته؟ ففى الكلام تناقض وفساد لا يزيلهما إلا اعتبار النوعى المضاف نائب مصدر. وهذا كلام دقيق ، يتجه إليه غرض المعربين ، وإن لم يتقيدوا به فى إعرابهم الشائع المقبول أيضا ؛ تيسيرا وتخفيفا. (راجع رقم ١ هامش ص ٢٠٤).

(٢) ويدخل فى هذا القسم المصدر المصوغ للدلالة على المرة ، وهو ـ فى الغالب ـ لا يعمل ، كسائر المصادر العددية. (وسنشير لهذا فى رقم ٤ من هامش ص ١٩٩ وفى ص ٢٠٠. أما تفصيل الكلام عليه ففى بابه الخاص من ج ٣ م ١٠٠).

(٣) هى : توكيد المعنى ، وبيان النوع ، وبيان العدد.


بعض النحاة المصدر قسمين ؛ مبهما ؛ ويراد به : المؤكّد لمعنى عامله المذكور. ومختصّا ؛ ويراد به المؤكّد أيضا مع زيادة بيان النوع ، أو بيان العدد ، أو بيانهما معا.

وقسمه بعض آخر ثلاثة أقسام ؛ هى : المؤكّد لعامله المذكور ، والمؤكد المبين لنوعه ، والمؤكد المبين لعدده ، وسكت عن المؤكّد المبين للنوع والعدد معا ؛ لأنه مركب من الأخيرين ؛ فهو مفهوم ومقبول بداهة. ونتيجة التقسيم واحدة (١).

أمثلة لما سبق :

أمثلة للتوكيد وحده : كلم الله موسى تكليما ـ غزا العلم الكواكب غزوا ـ صافح الفيل صاحبه مصافحة.

أمثلة للتوكيد مع بيان النوع : ترنّم المغنّى ترنم البلبل ـ رسم الخبير رسما بديعا ـ أجاد المطرب إجادة الموسيقىّ.

أمثلة للتوكيد مع بيان العدد : قرأت رسالة الأديب قراءة واحدة ، وقرأها أخى قراءتين ، وقرأها غيرنا ثلاث قراءات.

أمثلة للتوكيد مع بيان الأمرين : ترنمت ترنيمى البلبل والمغنى الساحرين ـ رحلت لبلاد الشام ثلاث رحلات جميلات.

والنحاة يسمون المصدر المنصوب الدال بنفسه على نوع مما سبق (٢) : «المفعول المطلق».

__________________

(١) وهناك قسم آخر ـ سيجىء فى ص ٢٠٧ ـ هو المصدر النائب عن عامله المحذوف ، وهو مستقل بنفسه فى رأى حسن ؛ ولذا يقول المحققون إن أقسام المصدر أربعة ، والأخذ بهذا الرأى أنفع ، لأنه يذلل صعوبات لا يمكن تذليلها إلا بالتأويل والتقدير والتكلف من غير داع. ومن أمثلة هذا : أن المصدر المؤكد لعامله لا يجوز فى الغالب حذف عامله ـ كما سيجىء فى ص ٢٠٠ و ٢٠٧ وفى رقم ١ من هامش ص ٢٠٨ ـ ، ولا أن يعمل ، مع أن هناك أنواعا من المصادر قد تؤكد عاملها وتعمل عمله مع وجوب حذفه ؛ كالمصدر النائب عن عامله المحذوف ، فهذا تناقض يمنعه أن يكون هذا قسما مستقلا.

(٢) يقول ابن هشام فى تعريف المفعول المطلق : «إنه اسم يؤكد عامله ، أو يبين نوعه ، أو عدده. وليس خبرا عن مبتدأ (كقولنا : علمك علم نافع) ولا حالا (نحو : ولى مدبرا) ...» اه لا داعى لقوله : (ليس خبرا عن مبتدأ) ؛ لأن هذا الخبر مرفوع وعمدة ، كما أن خبر النواسخ عمدة. ولا لقوله : (ليس حالا) ، لأن الحال مشتق ـ فى الغالب ـ أما المفعول المطلق فليس مرفوعا ولا عمدة ، وليس بمشتق فى الغالب ... ـ هذا ، والحال فى المثال مؤكدة لعاملها ـ


فالمفعول المطلق تسمية يراد منها : المصدر المنصوب المبهم أو المختص. وقد يراد منها : النائب عن ذلك المصدر فهى تسمية صالحة لكل واحد منهما ، تنطبق عليه. ـ كما سنعرف (١). ـ

حكم المصدر (٢) :

١ ـ إذا كان المصدر مؤكّدا لعامله المذكور فى الجملة تأكيدا محضا ؛ فإنه لا يرفع فاعلا (٣) ، ولا ينصب مفعولا به. إلا إن كان مؤكّدا نائبا عن فعله المحذوف (٤) كما لا يجوز ـ فى الرأى الشائع ـ تثنيته ، ولا جمعه ما دام المراد منه فى كل حالة هو المعنى المجرد ، دون تقييده بشىء يزيد عليه ، أى : ما دام المصدر مبهما ؛ فلا يقال : صفحت عن المخطئ صفحين ، ولا وعدتك وعودا. إلا إن كان المصدر المبهم مختوما بالتاء ؛ مثل التلاوة ؛ فيقال : التلاوتان والتلاوات.

وسبب امتناع التثنية والجمع أن المصدر المؤكّد مقصود به معنى الجنس (٥) ؛ لا الأفراد ؛ فهو يدل بنفسه على القليل والكثير ، فيستغنى بهذه الدلالة عن الدلالة

__________________

(١) سنعلم مما سيجىء فى ص ٢٠١ أن هناك أشياء تنوب عن المصدر الأصيل عند حذفه ؛ فتعرب مفعولا مطلقا ، أو نائب مصدر ، ولا تعرب مصدرا. وعلى هذا قد يكون المصدر مفعولا مطلقا كالأمثلة السابقة ، وقد يكون المصدر غير المفعول المطلق ؛ وذلك إذا كان المصدر مرفوعا ، أو مجرورا أو كان منصوبا لا يبين توكيدا ، ولا نوعا ، ولا عددا ، نحو : القتل أشنع الجرائم ، والفتنة أشد من القتل. إن القتل أشنع الجرائم. وقد يكون المفعول المطلق غير مصدر ؛ كالأشياء التى أشرنا إليها ؛ وهى التى تنوب عن المصدر عند حذفه فالمصدر والمفعول المطلق يجتمعان معا فى بعض الحالات فقط ، وينفرد كل منهما بحالات لا يوجد فيها الآخر. (وهذا يسمى عند المناطقة : بالعموم الوجهى بين شيئين ؛ فيجتمعان معا فى جهة معينة ، وينفرد كل منهما فى جهة أخرى تجعله أعم. وأشمل ، وأكثر أفراد من نظيره ...)

(٢) أفرد النحاة لإعمال المصدر بابا خاصا بهذا العنوان ، يشمل شروط إعماله ، ومختلف أحكامه ، (وسيجىء فى ج ٣ ص ١٦١ م ٩٩).

(٣) لأنه نوع من التوكيد اللفظى ـ كما أشرنا فى رقم ٢ من هامش ص ١٩٦ ـ والتوكيد اللفظى لا يكون عاملا ولا معمولا ، إلا فيما نص عليه البيان المدون هنا ، وفى بابه الخاص.

(٤) هذه الحالة الفريدة التى يعمل فيها المصدر المؤكد عمل فعله. وستجىء مواضع نيابته عنه فى ص ٢٠٧ م ٧٦ ، أما المبين ـ بنوعيه ـ فلا يعمل فى الغالب ، كما سنذكره.

(٥) المراد : الجنس الإفرادى ، وهو ما يصدق على القليل والكثير ، مثل ، ماء ـ هواء ـ ضوء (راجع ج ١ ص ١٥ م ١).


العددية فى المفرد ، والتثنية ، والجمع ؛ لأن دلالته تتضمنها ومثل المصدر المؤكد ما ينوب عنه.

ولا يجوز أيضا ـ فى الغالب ـ حذف عامل المصدر المؤكّد ولا تأخيره ؛ عن معموله المصدر ؛ لأن المصدر جاء لتقوية معنى عامله ، وتقريره بإزالة الشك عنه ، وإثبات أنه معنى حقيقى ، لا مجازى ، والحذف مناف للتقوية والتقرير. لكن هناك مواضع يحذف فيها عامل المصدر المؤكّد وجوبا بشرط إنابة المصدر عنه ، وستجىء (١).

٢ ـ أما المصدر المبين للنوع ـ إذا اختلفت أنواعه ـ أو المبين للعدد ، فيجوز تثنيتهما وجمعهما ، وتقدمهما على العامل ، وهما فى حالة الإفراد أو التثنية أو الجمع ، ولا يعملان شيئا ـ فى الغالب ـ (٢) ؛ فليس لهما فاعل ولا مفعول ... فمثال تثنية الأول وجمعه : سلكت مع الناس سلوكى العاقل ؛ الشدة حينا ، والملاينة حينا آخر ـ سرت سير الخلفاء الراشدين ؛ أى : سلكت مع الناس نوعين من السلوك ، وسرت معهم أنواعا من السّير (وليس المراد بيان عدد مرات السلوك ، وأنه كان مرتين ، ولا بيان عدد مرات السير ، وأنه كان متعددا ، وإنما المراد بيان اختلاف الأنواع فى كل حالة ، بغير نظر للعدد).

ومثال الثانى : خطوت فى الحديقة عشر خطوات ، ودرت فى جوانبها أربع دورات(٣).

__________________

(١) فى ص ٢٠٧ م ٧٦.

(٢) وقد يعمل المبين للنوع أحيانا ، كأن يكون مضافا لفاعله ، ناصبا مفعوله أو غير ناصب ؛ نحو : تألمت من إيذاء القوىّ الضعيف ـ حزنت حزن المريض. وهذا العمل ـ على قلته ـ قياسى. (كما سيجىء البيان فى ج ٣ م ٩٩.)

(٣) وإلى هذا يشير ابن مالك ببيت ذكره متأخرا عن هذا المكان المناسب له ـ وسيجىء فى هامش ص ٠٦ ـ :

وما لتوكيد فوحّد أبدا

وثنّ ، واجمع غيره ، وأفردا

أى : أن المصدر الدال على التوكيد يجب توحيده ؛ أى : إفراده ؛ فلا يترك الإفراد إلى التثنية أو إلى الجمع. أما غيره فثنه إن شئت ، أو اجمعه ، أو أفرده ، أى : اجعله مفردا. وقد أوضحنا فى الصفحة الآتية أن النائب عن المصدر المؤكد ، أو : المبين ، يجرى على حكمه.


المسألة ٧٥ :

حذف المصدر الصريح ، وبيان ما ينوب عنه

يجوز حذف المصدر الصريح بشرطين : أن تكون صيغته : (أى : مادته اللفظية) من مادة عامله اللفظية (١) ، وأن يوجد فى الكلام ما ينوب عنه بعد حذفه.

وحكم هذا النائب النصب دائما (٢). ويذكر فى إعرابه : أنه منصوب لنيابته عن المصدر المحذوف ، أو : منصوب لأنه مفعول مطلق ، ولا يصح فى الإعراب الدقيق أن يقال : «منصوب لأنه مصدر» ؛ ذلك لأنه ليس مصدرا للعامل المذكور ؛ إذ مصدر العامل المذكور قد حذف ، وهذا نائب عنه ... فمن الواجب عدم الخلط بين المصطلحات ، والتحرز من الخطأ فى مدلولاتها ؛ فعند إعراب المصدر الأصلى المنصوب نقول : إنه «مصدر منصوب» ، أو : «مفعول مطلق» منصوب كذلك. أما عند حذف المصدر الأصلى ووجود نائب عنه فنقول فى إعرابه : «إنه نائب عن المصدر المحذوف ، منصوب» ، أو : «مفعول مطلق ، منصوب» ، ولا يصح أن يقال : مصدر.

__________________

(١) يشترط النحاة أن يكون المصدر متأصلا فى المصدرية. ويفسرونها بأنها التى تكون من لفظ عامله وحروفه ، لا مطلق المصدر ؛ ففى مثل : سررت فرحا ـ أو فرحت جذلا ـ لا تعدّ كلمة «فرحا» ولا كلمة : «جذلا» مصدرا متأصلا للفعل المذكور ؛ لعدم الاشتراك اللفظى فى الصيغة ، وإنما هما نائيتان عن المصدرين الأصيلين المحذوفين ، والأصل : «سررت سرورا» ، و «فرحت فرحا» ، ثم حذف المصدر الأصيل ، وناب عنه مصدر آخر من غير لفظه ، ولكنه يرادفه من جهة المعنى. لهذا يعربون المصدر المرادف السالف «نائبا عن المصدر الأصيل» ، أو : «مفعولا مطلقا» كما قلنا ، وكما عرفنا فى رقم ٢ من هامش ص ١٩٩ أن المفعول المطلق قد يطلق ـ أحيانا ـ على المصدر الأصيل المنصوب على المصدرية ، وقد يطلق على ما ينوب عنه أحيانا أخرى ، كما فى هذا المرادف.

والمترادفان هما اللفظان المشتركان فى المعنى تمام الاشتراك ـ بحيث يؤدى أحدهما المعنى الذى يؤديه الآخر ـ مع اختلاف صيغتهما فى الحروف ؛ مثل : (فرح ، وجذل) ومثل : (شنآن ، وكره) ومثل : (حبّ ، ومقة).

(٢) مع خضوعه لبقية الأحكام التى كان يخضع لها المصدر المحذوف كما أشرنا قريبا فى آخر الهامش ص ٢٠٠.


والأشياء التى تصلح للإنابة كثيرة (١) ؛ منها : ما يصلح للإنابة عن المصدر المؤكّد ، وقد ينوب عن المصدر المبيّن أيضا إذا وجدت قرينة تعيّن المصدر المبين المحذوف. ومنها ما لا ينوب عن المصدر المؤكّد ، ولكنه ينوب عن غيره من باقى أنواع المصدر. فمما يصلح للإنابة عن المصدر المؤكّد :

١ ـ مرادفه (٢) ؛ مثل : أحببت عزيز النفس مقة ، وأبغضت الوضيع كرها.

٢ ـ اسم المصدر (٣) ، بشرط أن يكون غير علم (٤) : نحو : توضأ المصلّى وضوءا ـ اغتسل ـ الصانع غسلا. فالوضوء والغسل اسما مصدرين للفعلين قبلهما ، نائبين عن المحذوف. ومثل : فرقة ، وحرمة ، فى قولهم : افترق الأصدقاء فرقة ، ولكنى أحترم عهودهم حرمة. فالكلمتان اسما مصدرين للفعلين «افترق ، واحترم» قبلهما. ونائبين عن المصدرين المحذوفين (٥) ؛ كالشأن فى كل ما يلاقى المصدر فى أصول مادة الاشتقاق (٦) ؛ بأن يشاركه فى حروف مادته الأصلية ؛

__________________

(١) يتبين مما يأتى أن أربعة أشياء تصلح للنيابة عن كل مصدر أصيل محذوف هى : المرادف ـ ملاقيه فى الاشتقاق ، ومن هذا اسم المصدر غير العلم ـ الضمير ـ اسم الإشارة.

(٢) راجع رقم ١ من هامش الصفحة الماضية.

(٣) هو : ما ساوى المصدر فى الدلالة على معناه ، وخالفه من ناحية الاشتقاق. بنقص بعض حروفه عن حروف المصدر ـ وهذا هو الغالب ـ كما فى الأمثلة المعروضة. فهما يتلاقيان فى الاشتقاق. ولكن الغالب أن اسم المصدر تقل حروفه عن حروف المصدر الذى يلاقيه فى مادة الاشتقاق ، وقد عرضوا للفرق بين المصدر واسم المصدر من الناحية اللفظية السابقة ، ومن الناحية المعنوية ؛ فقالوا فيهما : إن لفظ المصدر يجمع فى صيغته جميع حروف فعله ؛ فهو يجرى عليه فى أمرها ، واسم المصدر لا يجرى على فعله وإنما ينقص عن حروفه ـ غالبا ـ وإن معنى المصدر ومدلوله هو : الحدث. أما اسم المصدر فمعناه ومدلوله المصدر لا الحدث ، فهو يدل على الحدث بواسطة. أى : أن المصدر يدل على الحدث مباشرة وبالإصالة ، واسم المصدر بمنزلة النائب عنه فى ذلك. على أن تفصيل الكلام على تعريفهما وإيضاح الفروق الدقيقة بينهما وسرد أحكامهما ـ سيجىء فى الباب الخاص بهما ؛ وهو : باب إعمال المصدر واسمه (ح ٣ ص ١٦١ م ٩٩).

(٤) وحجتهم أن العلمية معنى زائد على المصدر ؛ إذ المصدر يدل على الحدث فقط ، ـ كما عرفنا ـ فإذا كان النائب اسم مصدر وعلما معا فقد اجتمع فيه أمران ؛ هما العلمية والدلالة على الحدث .. واجتماعهما يجعله غير صالح للنيابة عن المصدر المحذوف ؛ لأن المصدر المحذوف لا يدل على العلمية ؛ فكيف يدل عليها اسم المصدر وهو نائب عنه فى لفظه وفى معناه؟ أى : كيف يدل النائب على شىء ليس فى الأصيل؟

(٥) انظر المصباح المنير ، مادة : «حرم».

(٦) يدخل فى هذا المصدر الميمى.


إما مع كونه مصدر فعل آخر ؛ كالمثالين الأولين ، ونحو : «التبتيل» فى قوله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ، وَتَبَتَّلْ)(١) إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ، فإنه مصدر (٢) للفعل : «بتّل» وقد ناب عن «التبتّل» ، الذى هو مصدر الفعل : «تبتّل». وإما مع كونه اسم (٣) عين ؛ نحو قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ...،) فكلمة : «نباتا» اسم للشىء النابت من زرع أو غيره ، وقد ناب عن : «إنباتا» الذى هو المصدر القياسى للفعل : «أنبت»(٤).

٣ ـ بعض أشياء أخرى ؛ كالضمير العائد عليه بعد الحذف ، وكالإشارة له بعد الحذف أيضا ؛ كقولهم لمن يتكلم عن الإخلاص : «أخلصته لمن أودّه» ، وعن الإقبال : «أقبلت هذا». والأصل : أخلصت الإخلاص ، وأقبلت الإقبال. فالضمير عائد على المصدر المؤكد الذى حذف ، ونائب عنه ، وهو : (الإخلاص) واسم الإشارة يشير إلى المصدر المؤكد الذى حذف وينوب عنه ؛ وهو : (الإقبال).

والذى يصلح للإنابة فى الأنواع الأخرى :

١ ـ لفظ كلّ أو بعض ، بشرط الإضافة لمثل المصدر المحذوف ؛ نحو : لا تنفق كل الإنفاق ، ولا تبخل كل البخل ؛ وابتغ بين ذلك قواما (٥). ـ إذا سنحت الفرصة لغاية كريمة فلا تتمهل فى اقتناصها بعض تمهل ، ولا تتردد بعض تردّد ؛ فإنها قد تفلت ، ولا تعود.

__________________

(١) تفرغ وانقطع لعبادته وطاعته.

(٢) لم يعتبروا : «التبتيل» اسم مصدر للفعل : «تبتل» ؛ لأن حروفه تزيد على حروف مصدر هذا الفعل ، واسم المصدر ـ فى الرأى الشائع عندهم ـ لا بد أن تقل حروفه عن حروف مصدر الفعل الذى يجرى على مقتضاه فى الاشتقاق. أما الرأى الذى لا يشترط أن يقل عن حروف المصدر ، ويبيح أن تزيد ، فيجعل «تبتيلا» اسم مصدر.

(٣) ذات مجسمة ، وليس ـ كالمصدر ؛ واسمه ـ معنى مجردا.

(٤) يرى بعض النحاة أن كلمة «نبات» فى الآية مصدر جرى على غير فعله ؛ لأنه فى الأصل مصدر للفعل : «نبت» ـ ثم سمى به النابت ؛ فيكون داخلا فى قسم الملاقى للمصدر فى الاشتقاق مع كونه مصدر فعل آخر. ولا مانع أن تكون «نبات» اسم مصدر للفعل : «أنبت».

(٥) اطلب طريقا وسطا معتدلا بين الأمرين.


ومثل كل وبعض ما يؤدى معناهما من الألفاظ الدالة على العموم أو على البعضية ، مثل : جميع ، عامة ، بعض ، نصف ، شطر ...

٢ ـ صفة المصدر المحذوف (١) ؛ نحو : تكلمت أحسن التكلم ـ وتكلمت ، أىّ تكلم (٢). إذ الأصل : تكلمت تكلّما أحسن التكلم ـ وتكلمت تكلما أىّ تكلم ، بمعنى : تكلمت تكلما عظيما ـ مثلا ـ.

٣ ـ مرادف المحذوف ؛ نحو : وقوفا وجلوسا فى : قمت وقوفا سريعا للقادم العظيم ، وقعدت جلوسا حسنا بعد قعوده ، ومثله : لما اشتعلت النار صرخ الحارس صياحا عاليا ؛ لينبه الغافلين ، ولم يتباطأ توانيا معيبا فى مقاومتها.

٤ ـ اسم الإشارة ؛ والغالب أن يكون بعده مصدر كالمحذوف ؛ كأن تسمع من يقول : «راقنى عدل عمر» ؛ فتقول : سأعدل ذاك العدل العمرىّ. ويصح مع القرينة : سأعدل ذاك.

ومثل أن تسمع : أعجبنى إلقاؤك الجميل ، وسألقى ذاك الإلقاء ، أو سألقى ذاك ، فقد حذف المصدر بعد اسم الإشارة : لوجود القرينة الدالة عليه بعد حذفه ، وهى اسم الإشارة ـ فى المثالين ـ فإنه يدل دلالة المصدر هنا ويغنى عنه (٣) ...

٥ ـ الضمير العائد على المصدر المحذوف ؛ كأن تقول لمن يتحدث عن الإكرام التام والإساءة البالغة : «أكرمه من يستحقه ، وأسيئها من يستحقها» تريد :

__________________

(١) ويدخل فى صفة المصدر المحذوف المصدر النوعى المضاف الذى سبق أن أشرنا إليه فى رقم ١ من هامش ص ١٩٧ وأوضحنا الرأى والسبب فى اعتباره نائبا عن المصدر.

والكثير فى الصفة النائبة عن المصدر أن تكون مضافة إليه ؛ كالأمثلة المذكورة ، وقول الشاعر :

الغنى فى يد اللئيم قبيح

قدر قبح الكريم فى الإملاق

أى : قبيح قبحا قدر قبح الكريم فى الإملاق.

(٢) هذا التركيب فصيح بالاعتبار الذى يليه ، والذى يبين أصله ، وما طرأ عليه من حذف.

(وبسط الكلام على صحته مدون فى ج ٣ ـ باب الإضافة ، موضوع «أى»).

(٣) لا بد من هذه القرينة التى تجعل المحذوف بمنزلة المذكور ، وإلا كان اسم الإشارة نائبا عن مصدر مؤكّد ، لا عن مصدر نوعى.


أكرم الإكرام التام ... من يستحقه ، وأسىء الإساءة البالغة من يستحقها (١).

٦ ـ العدد الدال على المصدر المحذوف : نحو : يدور عقرب الساعات فى اليوم والليلة أربعا وعشرين دورة ، ويدور عقرب الدقائق فى الساعة ستين دورة.

٧ ـ الآلة التى تستخدم لإيجاد معنى ذلك المصدر المحذوف ، وتحقيق دلالته ؛ نحو : سقيت العاطش كوبا ـ ضرب اللاعب الكرة رأسا ، أو رجلا ، أى : سقيت العاطش سقى كوب ـ ضرب اللاعب الكرة ضرب رأس ، أو ضرب رجل ، بمعنى : سقيت العاطش بأداة تؤدى مهمة السقى : تسمى : «الكوب». وضرب اللاعب الكرة بأداة معروفة بهذا الضرب. تسمى : الرأس ، أو : الرجل (٢) ولا بد فى الآلة أن تكون معروفة بأنها تستخدم فى إحداث معنى المصدر ؛ فلا يصح سقيت الرجل العاطش دلوا ـ ولا ضرب اللاعب الكرة بطنا ؛ لأن الدلو لا يسقى بها الرجل ، والبطن لا يضرب به الكرة.

٨ ـ نوع من أنواعه ؛ نحو : قعد الطفل القرفصاء (٣) ـ مشى العدوّ القهقرى (٤) ، أو : التقهقر ـ سرت وراءه الجرى ـ نام الآمن ملء جفونه ... (٥)

__________________

(١) مثل هذا الأسلوب قد يبدو غريبا. لكن إذا عرفنا أن معناه : الإكرام ، أكرم إكراما من يستحقه. والإساءة ، أسىء إساءة إلى من يستحقها ـ هبت الغرابة. وهو أسلوب عربى صحيح له نظائر كثيرة فى القرآن ؛ وغيره مثل قوله تعالى : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أى : لا أعذب العذاب ـ لا أعذب عذابا ـ أحدا من العالمين ...

(٢) فى مثل هذه الأمثلة ونحوها حذف المضاف ـ وهو المصدر المنصوب ـ وأقيم المضاف إليه مقامه ؛ فصار منصوبا مثله ؛ إذ الأصل كما قلنا : سقيت العاطش سقى كوب ـ ضرب اللاعب الكرة ضرب رأس ، أو ضرب رجل.

(٣) نوع من القعود ، يستقر فيه الجالس ، وفخذاه ملتصقتان ببطنه ، يحيط بهما ذراعاه. أو ينكب على ركبتيه ، لاصقا فخذيه ببطنه ، وكفاه تحت إبطيه ...

والقرفصاء والقهقرى معدودان هنا نائبين للمصدر ؛ لأنهما من غير لفظ العامل ؛ بالرغم من أنهما مصدرين أصليين للفعلين : «قرفص» و «قهقر» ؛ فهما مع فعليهما المشاركين لهما فى المادة ـ مصدران ، أما مع عامل آخر لا يشاركهما فى المادة اللفظية ـ كالذى هنا ـ فنائبان عن المصدر كما سلف فى رقم ١ من هامش ص ٢٠١.

(٤) هى الرجوع إلى الخلف.

(٥) ومن هذا قول المتنبى عن قصائده ومشكلاتها المعنوية :

أنام ملء جفونى عن شواردها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

(جراها ـ جرائها. أى : من أجلها ...)


أى : قعد قعود القرفصاء ـ مشى مشى القهقرى ؛ وسرت سير الجرى ـ نام الآمن نوما ملء جفونه ...

٩ ـ اللفظ الدال على هيئة المصدر المحذوف ؛ كصيغة : «فعلة» ؛ نحو : مشى القط مشية الأسد ، ووثب وثبة النّمر. فكلمة : مشية ـ وثبة ـ تدل على نوع من الهيئة يكون عليه المصدر ؛ فهى هنا نائبة عنه.

١٠ ـ وقته ؛ نحو : فلان يلهو ويمرح ؛ لأنه لم يحى ليلة المريض ، ولم يعش ساعة الجريح. أى : لم يحى حياة ليلة المريض ، ولم يعش عيشة ساعة الجريح. (تريد : لم يحى فى ليلة كليلة المريض ، ولم يعش فى ساعة كساعة الجريح ؛ يذوق ما فيهما من آلام). ومن هذا كلمة : «ليلة» فى قول الشاعر :

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السّليم (١) مسهّدا

١١ ـ «ما» الاستفهامية ؛ نحو : ما تكتب خطّك؟ بمعنى : أىّ كتابة تكتب خطّك؟ أرقعة ، أم ثلثا ، أم نسخا ...؟ ومثله : ما تزرع حقلك؟ بمعنى : أىّ زرع تزرع حقلك؟ أزرع قمح ، أم ذرة ، أم قطن ...؟

١٢ ـ «ما» الشرطية ؛ نحو : ما شئت فاجلس ، بمعنى : أىّ جلوس شئته فاجلس.

تلك هى أشهر الأشياء التى تنوب عن المصدر غير المؤكّد عند حذفه (٢). وتتلخص كلها فى أمر واحد ، هو : وجود ما يدل عليه عند حذفه (٣) ويغنى عنه.

__________________

(١) الملدوغ.

(٢) ومنهما : ملاقيه فى الاشتقاق ؛ نحو قوله تعالى فى مريم : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) واسم المصدر غير العلم ؛ نحو تكلم المتعلم كلام النبلاء ـ انظر رقم ٢ ص ٢٠٢ ورقم ١ من هامشها.

(٣) وفى هذا يقول ابن مالك :

وقد ينوب عنه ما عليه دل

كجدّ كلّ الجدّ ، وافرح الجذل ـ ٦

فسجل فى هذا البيت أن المصدر ينوب عنه عند حذفه كل شىء يدل عليه. واقتصر فى التمثيل على نائبين ؛ هما : لفظ «كل» ، وقد أضافها للمصدر ؛ حيث قال : «جد كل الجد» ، ولفظ المرادف ، وهو : الجذل ، بمعنى الفرح ، فى «افرح الجذل» ثم ساق بعد هذا البيت بيتا آخر سبق تدوينه وشرحه فى مكانه المناسب له ـ بهامش ص ٢٠٠ ـ ، من مسائل الباب. هو :

وما لتوكيد فوحّد أبدا

وثنّ واجمع غيره وأفردا ـ ٥


المسألة ٧٦ :

حذف عامل المصدر. إقامة المصدر المؤكّد نائبا عن عامله فى بعض المواضع

(ا) يجوز حذف عامل المصدر المبين للنوع أو للعدد بشرط وجود دليل (١) مقالىّ أو حالىّ يدل على المحذوف. فمثال حذف عامل النوعىّ لدليل مقالىّ ، أن يقال : هل جلس الزائر عندك؟ فيجاب : جلوسا طويلا ؛ أى : جلس جلوسا طويلا ، ومثال حذفه لدليل حالىّ أن ترى صيادا أصاب فريسته ؛ فتقول : إصابة سريعة ؛ أى : أصاب إصابة سريعة. ومن هذا قولهم للمتهيئ للسفر : «سفرا حميدا ، ورجوعا سعيدا» أى : تسافر سفرا حميدا ، وترجع رجوعا سعيدا.

ومثال حذف عامل العددى لدليل مقالىّ : أرجعت إلى بيتك اليوم؟ فيجاب رجعتين ، أى : رجعت رجعتين. ولدليل حالىّ أن ترى خيل السباق وهى تدور فى الملعب ؛ فتقول : دورتين ؛ أى : دارت دورتين ... وهكذا.

والمصدر فى الحالات السالفة منصوب بعامله المحذوف جوازا ، وليس نائبا عنه. (ب) أما المصدر المؤكّد لعامله فالأصل عدم حذف عامله ؛ لما عرفنا (٢) من أن هذا المصدر مسوق لتأكيد معنى عامله فى النفس ، وتقويته ، ولتقرير المراد منه ، أى : لإزالة الشك عنه ، ولبيان أن معناه حقيقى لا مجازى ، وهذه هى حكمة المجىء بالمصدر المؤكّد ، ومن أجلها لا يصح تثنيته ، ولا جمعه ، ولا أن يرفع فاعلا أو ينصب مفعولا ، ولا أن يتقدم على عامله ، ولا أن يحذف عامله (٣) ... لأن هذا

__________________

(١) فى رقم ١ من هامش ص ٥٣ أن الدليل (ويسمى : القرينة أيضا) : قد يكون مقاليا ، أى : مرجعه إلى القول والكلام ـ وقد يكون حاليا ، لا شأن له بالقول أو الكلام ؛ وإنما الشأن فيه للمشاهدة ، أو نحوها مما يحيط بالشخص ، ويجعله يفهم أمرا مستنبطا مما حوله.

(٢) فى ص ٢٠٠ و «ا» من ص ١٩٦

(٣) سبقت أحكامه فى ص ١٩٩.


الحذف مناف لتلك الحكمة ، معارض للغرض من الإتيان بالمصدر المؤكّد (١).

لكن العرب التزموا حذف عامله باطراد فى بعض مواضع معينة ، وأنابوا عنه المصدر المؤكّد ؛ فعمل عمله فى رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، وأغنى عن التلفظ بالعامل ، وعن النطق بصيغته ؛ وصار ذكر العامل ممنوعا معه ؛ لأن المصدر بدل عنه ، وعوض عن لفظه ومعناه ؛ ولا يجتمع العوض والمعوّض عنه (٢).

ولما كان العرب قد التزموا الحذف باطراد فى تلك المواضع ، لم يكن بدّ من أن نحاكيهم ، ونلتزم طريقتهم الحتمية فى حذف العامل فى تلك المواضع ، وفى إنابة المصدر المؤكّد عنه. ولهذا قال النحاة : إن عامل المصدر المؤكّد لا يحذف جوازا ـ فى الصحيح ـ ؛ وإنما يحذف وجوبا فى المواضع التى التزم فيها العرب حذفه ، وإقامة المصدر المؤكّد مقامه.

ومع أن العامل محذوف وجوبا فإنه هو الذى ينصب المصدر النائب عنه (أى : أن المصدر نائب عن عامله المحذوف ، ومنصوب به معا).

أما المواضع التى ينوب فيها هذا المصدر عن عامله (٣) المحذوف وجوبا فبعضها خاص بالأساليب الإنشائية الطلبية ، وبعض آخر خاص بالأساليب الإنشائية غير الطلبية ، أو بالأساليب الخبرية المحضة (٤).

__________________

(١) فيما سبق يقول ابن مالك :

وحذف عامل المؤكّد امتنع

وفى سواه لدليل متّسع ـ ٦

يريد : أن هناك متسعا للحذف فى غير عامل المؤكد ، عند وجود دليل على المحذوف.

(٢) سبقت الإشارة (فى رقم ١ هامش ص ١٩٨ وفى رقم ١ من هامش ص ٢١٣ إشارة أيضا) إلى أن الأفضل اعتبار المصدر النائب عن عامله قسما مستقلا بذاته يزاد على الأقسام الثلاثة المشهورة. والسبب أن كثيرا من المصادر النائبة عن عاملها المحذوف قد يكون مؤكّدا لعامله ، والأصل فى المؤكّد ألا يعمل ، وألا يحذف عامله ... و... مع أن المؤكّد هنا يعمل ويحذف عامله ؛ فيقع التعارض والتناقض بين حكم المؤكّد هنا وحكمه فى ناحية أخرى. ولا سبيل للتغلب على هذا التعارض والتناقض إلا بالتأويل والتقدير ؛ ـ وهذا معيب ـ ، أو باعتبار المؤكد هنا ، المحذوف عامله وجوبا ، قسما مستقلا. ولا ضرر فى هذا ؛ بل فيه تغلب على الصعوبة السالفة.

(٣) بعض المصادر المؤكّدة قد تنوب عن عوامل مهملة ، أو ليست من لفظها ؛ فتكون مقصورة على السماع ، كما يجىء فى ص ٢١١ مثل : ويح ، ويل ... وسيجىء الكلام عنها فى الزيادة ، ص ٢١٨.

(٤) سبق فى ج ١ ص ٢٦٨ م ٧٢ إيضاح للجملة الخبرية ، والجملة الإنشائية. وملخصه : أن الجملة الخبرية هى التى يكون معناها صالحا للحكم عليه بأنه صدق أو كذب ، من غير نظر لقائلها من ـ


١ ـ فيراد بالأساليب الإنشائية الطلبية هنا : ما يكون فيها المصدر النائب دالّا على أمر ، أو نهى ، أو دعاء ، أو توبيخ ، والكثير أن يكون التوبيخ مقرونا بالاستفهام (١) ؛ فمثال الأمر أن تقول للحاضرين عند دخول زعيم : قياما. بمعنى : قوموا ، وأن تقول لهم بعد دخوله واستقراره : جلوسا. بمعنى : اجلسوا. فكلمة : «قياما» مصدر (أو : مفعول مطلق) منصوب بفعل الأمر المحذوف وجوبا. والمصدر نائب عنه فى الدلالة على معناه ، وفى تحمل ضميره المستتر الذى كان فاعلا (٢) له ؛ فصار بعد حذف فعله فاعلا للمصدر. ومثل هذا يقال فى : «جلوسا» وأشباههما. والأصل قبل حذف العامل وجوبا : قوموا قياما ـ اجلسوا جلوسا.

ومثال النهى أن تقول لجارك وقت سماع محاضرة ، أو خطبة ... سكوتا ، لا تكلما ؛ أى : اسكت ، لا تتكلم. فكلمة : «سكوتا» مصدر ـ أو : مفعول مطلق ـ منصوب بفعل الأمر المحذوف وجوبا ، والذى ينوب عنه المصدر فى أداء معناه. وفاعل المصدر مستتر وجوبا ، تقديره : أنت ؛ وقد انتقل إليه هذا الفاعل بعد حذف فعل الأمر على الوجه السالف. وكلمة : «لا» ناهية ، و «تكلما» :

__________________

ـ ناحية أنه معروف بهذا أو بذاك. مثل : نزل المطر أمس. فهى جملة صالحة لأن توصف بأنها ـ فى حد ذاتها ـ صادقة أو كاذبة ...

والجملة الإنشائية هى التى يطلب بها إما حصول شىء ، أو عدم حصوله ، وإما إقراره والموافقة عليه ، أو عدم إقراره ؛ فلا دخل للصدق أو الكذب فيها.

وهى قسمان ؛ إنشائية طلبية ، أى : يراد بها طلب حصول الشىء أو عدم حصوله ، وتشمل الأمر ، والنهى ، والدعاء ، والاستفهام ، والتمنى ، والعرض ، والتحضيض ... ، ـ كما هو مدون فى المصادر الخاصة بالبلاغة ـ. وإنشائية غير طلبية وهى التى يراد منها : إعلان شىء والتسليم به ، وتقرير مدلوله ، من غير أن يصحب هذا الإعلان والتسليم طلب أمر آخر ، ـ كما سيجىء فى ص ٢١١ ـ وتشمل جملة التعجب ـ فى الرأى الشائع ـ وجملة المدح والذم بنعم وبئس ونظائرهما ، وجملة القسم نفسه ، لا جملة جوابه ... وصيغ العقود التى يراد إقرارها ؛ مثل : بعت ، وهبت ... إلى غير هذا مما فى المرجع السابق.

(١) انظر رقم ٤ من هامش الصفحة الآتية.

(٢) ذلك أن فعل الأمر المحذوف ، له فاعل لم يحذف. فلما ناب المصدر عن فعل الأمر المحذوف انتقل فاعله إلى المصدر النائب ، وصار فاعلا له بعد أن كان فاعلا لفعل الأمر المحذوف ؛ فالمصدر متحمل لضمير عامله. وقيل : إن المصدر ناب عن الفعل المحذوف وعن فاعله معا ؛ فلا يحتاج لفاعل ... وقيل ... والرأى الأول أحسن ، لأنه يساير القواعد النحوية العامة. والثانى أخف وأيسر. ولا تأثير لاختلافهما فى الاستعمال الكلامى والكتابى.


مصدر منصوب بالمضارع المحذوف ، المجزوم بلا الناهية (١) ، ونائب عنه فى تأدية معناه. وفاعل المصدر ضمير مستتر فيه ، تقديره : أنت. وهذا الضمير انتقل للمصدر من المضارع المحذوف.

ومثال الدعاء بنوعيه (٢) قول زعيم : «ربنا إنا قادمون على معركة فاصلة مع طاغية جبار ؛ فنصرا عبادك المخلصين ، وهلاكا وسحقا للباغى الأثيم». أى : فانصر ـ يا رب ـ عبادك المخلصين ، واهلك واسحق الباغى الأثيم.

ومنه «سقيا» و «رعيا» (٣) لك ، وجدعا وليّا لأعدائك. وإعراب المصادر فى هذه الأمثلة كإعرابها فى نظائرها السابقة.

ومثال الاستفهام التوبيخى (٤) : أبخلا وأنت واسع الغنى؟ أسفاهة وأنت

__________________

(١) والأصل قبل الحذف فيهما : اسكت سكوتا ، لا تتكلم تكلما ، ولا يكون حذف المضارع المجزوم «بلا» الناهية واجبا إلا فى هذه الصورة.

(٢) الخير والشر.

(٣) يوجب أكثر النحاة حذف العامل هنا ؛ مراعاة للسماع. ويكون التقدير : اسق يا رب ، ارع يا رب. الدعاء لك أيها المخاطب ، فالجار والمجرور فى الصورتين خبر لمحذوف ؛ تقديره : الدعاء ـ مثلا ـ ولا يصح أن يكون الجار والمجرور متعلقين بالمصدر قبلهما ؛ لئلا يفسد المعنى ؛ إذ يكون : اسق يا رب لك ـ ارع يا رب لك. وهذا فاسد ؛ لأن السقى ليس مطلوبا لله ، وكذلك الرعى. من أجل هذا قالوا بحق فى مثل : سقيا لك ـ إن الكلام جملتان وليس جملة واحدة. على أن لهذا البحث تفصيلات واسعة ، وتفريعات دقيقة ؛ لا غنى عن الإلمام بها ، لتعدد أحكامها بتعدد استعمالاتها ـ وقد سجلناها فى ج ١ ص ٣٧٢ م ٣٩. ـ ويجيز فريق من النحاة عدم التقيد بوجوب حذف العامل فى مثل هذه الصورة المسموعة ، ورأيه سائغ ، والأول هو الأفصح والأقوى ـ كما سيجىء فى «ح» من ص ٢٢٠.

(٤) قد يكون التوبيخ للمتكلم ، بأن يوجه صيغة التوبيخ مشتملة على الخطاب يريد بها نفسه ، بقرينة. كقول القائل لنفسه : أتركا للعمل وأنا فقير؟ وقد يكون التوبيخ للمخاطب ، نحو : أسرقة وأنت غنى؟ وقد يكون للغائب : نحو : أخوفا وهو جندى؟ وقد يكون التوبيخ مسبوقا بأداة استفهام. إما مذكورة صراحة ، أو ملحوظة فى حكم المذكورة ، وإما غير مذكورة ولا ملحوظة. فمثال المذكورة وما فى حكمها قول الشاعر :

أذلّا إذا شبّ العدا نار حربهم؟

وزهوا إذا ما يجنحون إلى السّلم؟

والأصل : أتذل ذلا؟ وتزهو زهوا؟ فالأول مسبوق بهمزة الاستفهام المذكورة ، والثانى مسبوق بها ملاحظة وتقديرا. ومثال غير المذكورة وغير المقدرة قول الشاعر :

خمولا ، وإهمالا وغيرك مولع

بتثبيت أسباب السيادة والمجد

أى : تخمل خمولا ، وتهمل إهمالا ...


مثقف؟ أى : أتبخل بخلا ... أتسفه سفاهة ... وإعراب المصدر هنا كسابقه.

ونيابة المصدر عن عامله المحذوف فى الأساليب الإنشائية الطلبية ـ قياسية ، بشرط أن يكون العامل المحذوف فعلا من لفظ المصدر ومادته ، وأن يكون المصدر مفردا منكرا ، وإلا كان سماعيّا ؛ مثل : ويحه ، ـ ويله (١) ... ـ كما تقدم (٢) ـ.

٢ ـ ويراد ـ هنا ـ بالأساليب الإنشائية غير الطلبية : المصادر الدالة على معنى يراد إقراره وإعلانه ، من غير طلب شىء (٣) ، أو عدم إقراره ، كما سبق (٤). والكثير من هذه المصادر مسموع عن العرب جار مجرى الأمثال ، والأمثال لا تغير ؛ كقولهم عند تذكر النعمة : حمدا ، وشكرا ، لا كفرا ؛ أى : أحمد الله وأشكره ـ ولا أكفر به. وكانوا يردّدون الكلمات الثلاث مجتمعة لهذا الغرض وهو إنشاء المدح ، والشكر ، وإعلان عدم الكفر. ووجوب حذف العامل متوقف على اجتماعها ؛ مراعاة للمأثور ؛ وإلا لم يكن الحذف واجبا.

وكقولهم عند تذكر الشدة : «صبرا ، لا جزعا». بمعنى : أصبر ، لا أجزع ، يريدون إنشاء هذا المعنى. وعند ظهور ما يعجب : «عجبا» ، بمعنى : أعجب ، وعند الحث على أمر : افعل وكرامة ، أى : وأكرمك. وعند إظهار الموافقة والامتثال : سمعا وطاعة ، بمعنى : أسمع وأطيع.

والمصدر فى كل ما سبق ـ أو : المفعول المطلق ـ منصوب بالعامل المحذوف وجوبا وهو الذى ناب عنه المصدر فى أداء المعنى ، وفى تحمل الضمير الفاعل ، وتقديره للمتكلم : أنا.

__________________

(١) المصادر الدالة على الطلب لا تصلح أن تكون نعتا ، ولا منعوتا ـ كما سيجىء فى باب النعت ـ ج ٣ ص ٣٤٧.

(٢) فى رقم ٣ من هامش ص ٢٠٨.

(٣) المقصود فى الأساليب الآتية : الإنشاء غير الطلبى ـ وقد شرحناه فى رقم ٤ من هامش ص ١٠٨ ـ ولكنهم جعلوها من قسم الخبر نظرا لصورة العامل ولفظه. ويرى بعض النحاة أنها أساليب خبرية لفظا ومعنى. وهذا رأى حسن ، لوضوحه ، والمسألة رهن بالاصطلاح.

(٤) فى رقم ٤ من هامش ص ٢٠٨.


ونيابة هذا النوع من المصادر عن عامله تكاد تكون مقصورة على الألفاظ المحددة الواردة سماعا عن العرب. ويرى بعض المحققين جواز القياس عليها فى كل مصدر يشبع استعماله فى معنى معين ، ويشتهر تداوله فيه ، وله فعل من لفظه ، من غير اقتصار على ألفاظ المصادر المسموعة. وهذا رأى عملىّ مفيد (١).

٣ ـ ويراد بالأساليب الخبرية المحضة أنواع ، كلها قياسىّ ، بشرط أن يكون العامل المحذوف وجوبا فعلا من لفظ المصدر ومادته.

منها : الأسلوب المشتمل على مصدر يوضح أمرا مبهما مجملا ، تتضمنه جملة قبل هذا المصدر ، ويفصّل عاقبتها ؛ أى : يبين الغاية منها (فالشروط ثلاثة فى المصدر : تفصيله عاقبة ، وأنها عاقبة أمر تتضمنه جملة ، وهذه الجملة قبله) مثل : إن أساء إليك الصديق فاسلك مسلك العقلاء ؛ فإما عتابا كريما ، وإما صفحا جميلا (٢) ؛ فسلوك مسلك العقلاء أمر مبهم ، مجمل ، لا يعرف المقصود منه ؛ فهو مضمون جملة محتاجة إلى إيضاح ، وتفصيل ، وإبانة عن المراد ، فجاء بعدها الإيضاح والتفصيل والبيان من المصدرين : «عتابا» و «صفحا» المسبوقين بالحرف الدال على التفصيل ؛ وهو : «إما» وهما منصوبان بالفعلين المحذوفين وجوبا ، وقد ناب كل مصدر عن فعله فى بيان معناه. والتقدير : فإما أن تعتب عتابا كريما ، وإما أن تصفح صفحا جميلا. ومثله : إذا تعبت من القراءة فاتركها لأشياء أخرى ؛ فإما مشيا فى الحدائق ، وإما استماعا للإذاعة ، وإما عملا يدويّا. فالمصادر «مشيا» ـ «استماعا» «عملا» موضّحة ومفصّلة لأمر غامض مجمل قبلها يحتاج لبيان ، هو : «التّرك لأشياء أخرى» فعامل كل منها محذوف وجوبا ، والتقدير : تمشى مشيا ـ تسمتع استماعا ـ تعمل عملا ... وهى منصوبة بفعلها المحذوف الذى نابت عنه فى تأدية معناه ... وانتقل إليها الفاعل بعد حذف العامل فصار فاعلا مستترا للمصدر النائب. والتقدير : «أنت». ومثل قول الشاعر :

__________________

(١) لأنه يساير الأصول اللغوية العامة ، ولا تضار اللغة باتباعه. وقد أشرنا لهذا فى «ج» من ص ٢٢٠.

(٢) وتغنى «أو» عن «إما» الثانية ؛ كقول الشاعر :

وقد شفّنى ألا يزال يروعنى

خيالك إما طارقا أو مغاديا


لأجهدنّ ؛ فإمّا درء واقعة

تخشى ، وإما بلوغ السؤل والأمل

والتقدير : فإمّا أدرأ درء واقعة ، وإما أبلغ بلوغ السؤل ...

ومنها : الأسلوب الذى يكون فيه المصدر مكررا أو محصورا ، ومعناه مستمرّا إلى وقت الكلام ، وعامل المصدر واقعا فى خبر مبتدأ اسم ذات (١). فمثال المكرر : المطر سحّا سحّا ـ الخيل الفارهة (٢) صهيلا (٣) ، صهيلا ، وقول الشاعر :

أنا جدّا جدّا ولهوك يزدا

د ؛ إذا ما إلى اتفاق سبيل

ومثال المحصور : ما الوحش مع فريسته إلا فتكا ـ ما النمر عند لقاء الفيل إلا غدرا ؛ التقدير : يسحّ سحّا سحّا ـ تصهل صهيلا صهيلا ـ أجدّ جدّا جدّا ـ يفتك فتكا فتكا ـ يغدر غدرا غدرا ـ. فهذه المصادر وأشباهها ؛ تقتضى ـ بسبب التكرار أو الحصر ـ حذف فعلها. وهى منصوبة بفعلها المحذوف وجوبا ، ونائبة عنه فى بيان معناه ، ومتحملة لضميره المستتر الذى صار فاعلا لها ، وتقديره : «هو» ، أو : «هى» على حسب نوع الضمير المستتر.

ومنها : الأسلوب الذى يكون فيه المصدر مؤكّدا لنفسه ؛ بأن يكون واقعا بعد جملة مضمونها كمضمونه ، ومعناها الحقيقى ـ لا المجازى (٤) ـ كمعناه ،

__________________

(١) الشروط أربعة : أن يكون المصدر مكررا أو محصورا. وأن يكون عامله خبرا لمبتدأ ، أو ما أصله المبتدأ ، وأن يكون هذا المبتدأ اسم عين ؛ (أى : اسم ذات مجسمة) فلا يراد به أمر معنوى (عقلى) كالعلم ـ الفهم ـ النبل ـ البراعة ... وأن يكون معنى المصدر مستمرا إلى زمن الحال ؛ لا منقطعا ولا مستقبلا محضا فإن فقد شرط من الشروط لم يكن الحذف واجبا ، وإنما يكون جائزا ـ فى رأى ـ.

ويقوم مقام التكرار والحصر السالفين بشرط استيفاء باقى الشروط ـ دخول الهمزة على المبتدأ نحو : أأنت طيرانا ، والعطف على المصدر ؛ نحو أنت طيرانا وعوما.

ويلاحظ هنا ما سبق أن أشرنا إليه من أن حذف عامل المؤكد ممنوع ـ على الصحيح ـ إلا حين يكون المصدر نائبا عن فعله فى المواضع التى ينوب فيها عنه ، (ومنها هذه الصورة التى ينوب فيها وجوبا عند استيفاء الشروط ، وجوازا ـ فى رأى ـ عند فقد شرط أو أكثر.) ، وأن الأحسن اعتبار المصدر النائب عن عامله قسما رابعا مستقلا بنفسه ؛ لأنه قد يؤكد عامله المحذوف ، والأصل فى المؤكد ألا يحذف عامله. فلدفع هذا التعارض يعتبر قسما مستقلا ؛ كى لا يدخل فى قسم المؤكد غير النائب ، فيقع تعارض واضح بين حكم المؤكد وهو يقتضى عدم حذف عامله ، وحكم هذه الأنواع التى يكون فيها المصدر نائبا عن عامله ومؤكدا له. مع أن هذا العامل محذوف (كما أشرنا فى رقم ١ من هامش ص ١٩٨ وفى رقم ٢ من هامش ص ٢٠٨).

(٢) النشيطة القوية.

(٣) الصهيل : صوت الخيل.

(٤) لأن المجازى قد يراد منه ما لا يراد من المعنى الحقيقى للمصدر ، فقد يراد السخرية أو التهكم. فى الأمثلة الآتية.


ولا تحتمل مرادا غير ما يراد منه ؛ فهى نص فى معناه (١) الحقيقى ، نحو : أنت تعرف لوالديك فضلهما ، يقينا. أى : توقن يقينا ، فجملة : «تعرف لوالديك فضلهما» هى فى المعنى : «اليقين» المذكور بعدها ، لأن الأمر الذى توقنه هنا هو : الاعتراف بفضل والديك ، والاعتراف بفضل والديك هو الأمر الذى توقنه ، فكلاهما مساو للآخر من حيث المضمون.

ومثلها : سرّتنى رؤيتك ، حقّا ، بمعنى : أحقّ حقّا ، أى : أقرر حقّا. فالمراد من : سرتنى رؤيتك ، هو المراد من : «حقّا» ، إذ السرور بالرؤية هو : «الحق» هنا ، والحق هنا هو : «السرور بالرؤية». فمضمون الجملة هو مضمون المصدر ، والعكس صحيح. فكلمة : «يقينا» ، و «حقّا» وأشباههما من المصادر المؤكدة لنفسها ، منصوبة بالفعل المحذوف وجوبا ، النائبة عنه فى الدلالة على معناه. أما فاعله فقد صار بعد حذف الفعل فاعلا للمصدر ، وهذا الفاعل ضمير مستتر تقديره فى المثالين : أنا.

ولا يصح فى هذا النوع (٢) من الأساليب تقديم المصدر على الجملة التى يؤكد معناها ، ولا التوسط بين جزأيها.

ومنها : الأسلوب الذى يكون فيه المصدر مؤكدا لغيره ؛ بأن يكون المصدر واقعا بعد جملة معناها ومدلولها ليس نصّا فى معنى هذا المصدر ومدلوله ؛ وإنما يصح أن ينطبق على معناه وعلى غيره قبل مجيئه ؛ فإذا جاء هذا المصدر امتنع الاحتمال ، وزال التوهم وصار المعنى نصّا فى شىء واحد ؛ نحو : هذا بيتى قطعا ، أى : أقطع برأيى قطعا. فلو لا مجىء المصدر : «قطعا» لجاز فهم المعنى على أوجه متعددة بعضها حقيقى ، والآخر مجازى ... ـ أقربها : أنه بيتى حقّا ، أو :

__________________

(١) ولذلك سمى المؤكد لنفسه ، لأنه بمنزلة إعادة الجملة التى تتضمن معناه نصا ؛ فكأنه نفس الجملة التى أعيدت ، وكأنها ذاته.

(٢) من هذا النوع : لا أفعل الأمر ألبتة. فكلمة : «ألبتة» ، مصدر حذف عامله وجوبا. والتا فيه ليست للتأنيث ، وإنما هى للوحدة. ومعنى «البت» القطع. أى : أقطع فى هذا الأمر القطعة الواحدة ؛ لا ثانية لها ، فلا أتردد ، ثم أجزم بعد الترد. وقد تكون «أل» هنا للعهد ، أى : القطعة المعهودة بيننا ؛ وهى التى لا تردد معها. فألبتة : تفيد استمرار النفى الذى قبلها. ولو لم توجد لكان انقطاء محتملا. والأفصح ملازمة : «أل» لكلمة : «ألبتة» فى الاستعمال السالف وأن تكون همزتها للقطع.


أنه ليس بيتى حقيقة ، ولكنه بمنزلة بيتى ؛ لكثرة ترددى عليه ، أو : ليس بيتى ولكنه يضم أكثر أهلى ... أو : .. فمجىء المصدر بعد الجملة قد أزال أوجه الاحتمال والشك ، والمجاز ، وجعل معناها نصّا فى أمر واحد (١) بعد أن لم يكن نصّا.

وهو منصوب بعامله المحذوف وجوبا ، وقد ناب عنه بعد حذفه لتأدية معناه. وفاعل المصدر ضمير مستتر فيه ، تقديره : أنا ، انتقل إليه بعد حذف ذلك العامل. ولا يصح ـ أيضا ـ فى هذا النوع من الأساليب تقديم المصدر المؤكد لغيره على تلك الجملة ، ولا التوسط بين جزأيها.

ومنها : الأسلوب الذى يكون فيه المصدر دالّا على التشبيه بعد جملة ، مشتملة على معناه وعلى فاعله المعنوى (٢) ، وليس فيها ما يصلح عاملا غير المحذوف (٣) ؛ نحو : للمغنى صوت صوت البلبل. أى : للمغنى صوت. يصوّت صوت البلبل ، بمعنى : صوتا يشبهه. ومنه : للشجاع المقاتل زئير زئير الأسد. أى : يزأر زئير الأسد ، أى : زئيرا يشبه زئيره. ومنه : للمهموم أنين ؛ أنين الجريح. أى : يئن أنين الجريح. (أنينا شبيها بأنين الجريح) ... وهكذا. والمصدر منصوب فى هذه الأمثلة على الوجه الذى شرحناه (٤).

__________________

(١) ولهذا سمى المؤكد لغيره ، أى : للجملة التى قبله ، والتى لا تتضمن معناه نصا ؛ لأنه أثر فيها ، وجعل معناها نصّا ، فصار به مؤكدا قويا ، لا ضعف فيه ولا احتمال ، وقد كان ذلك المعنى ضعيفا قبل مجىء المصدر.

(٢) يراد به الفاعل اللغوى ـ لا النحوى ـ وذلك من فعل الشىء حقيقة ، ولو لم تنطبق عليه الشروط النحوية للفاعل. كالمغنى فى المثال المذكور ؛ فهو فاعل معنى للغناء والتصويت. كذلك : «الشجاع» ، هو فاعل الزئير معنى ، لا نحويا.

(٣) جملة الشروط فى الحقيقة سبعة : كونه مصدرا ـ مشعرا بأن معناه مما يحدث ويطرأ ، وليس أمرا ثابتا دائما أو كالدائم (أى : أنه ليس من السجايا الثابتة ، ولا الأمور الفطرية الملازمة ، كالذكاء ـ الطول ـ السمنة. فلا يكون مما نحن فيه : لفلان ذكاء ذكاء العبقرى. بنصب كلمة : «ذكاء» الثانية لأنها من السجايا) ـ كونه دالا على التشبيه ـ بعد جملة ـ هذه الجملة مشتملة على فاعله المعنوى ، وعلى معناه ـ ليس فيها ما يصلح للعمل.

قال الخضرى فى هذا المكان : (هذه الشروط لوجوب حذف الناصب إذا نصب ، ويجوز معها رفعه ؛ بدلا مما قبله ، أو : صفة له ؛ بتقدير : «مثل» أو خبرا لمحذوف. وهل النصب حينئذ أرجح ، أو هما سواء؟ قولان ...) اه.

(٤) عرض ابن مالك ـ بإيجاز ـ لمواضع حذف عامل المصدر وجوبا فقال :

والحذف حتم مع آت بدلا

من فعله ؛ كندلا اللّذ كاندلا ـ


هذا ، وقد اشترطنا أن تكون الجملة السابقة مشتملة على معناه ، فهل يشترط أن تكون مشتملة على لفظه أيضا؟

__________________

ـ أى : الحذف واجب فى عامل المصدر الآتى بدلا وعوضا عن فعله ، ومغنيا عن التلفظ به ؛ مثل : المصدر : «ندلا» ومعناه : «خطفا» ؛ وهو بمعنى «اندل» فى الدلالة على طلب الندل ، أى : الخطف.

فالمصدر «ندلا» منصوب بعامله المحذوف «اندل» ونائب عنه فى تأدية معناه ، ومتحمل لضميره الفاعل الذى تقديره : أنت. (واللذ : الذى).

ثم قال :

وما لتفصيل ؛ كإمّا منّا

عامله يحذف حيث عنّا

(عنّا ، أصله : عنّ ، بمعنى : عرض. والألف لوزن الشعر ، ويسمونها : ألف الإطلاق ، لأن الصوت ينطلق من غير حبس ، ويمتد ؛ فيجىء بها).

يريد أن عامل المصدر يحذف حيث عرض هذا العامل بشرط أن يدل المصدر على تفصيل أمر مبهم مجمل قبله ، وساق لهذا بعض آية تصلح للتمثيل ؛ هى قوله تعالى يخاطب المسلمين فى أمر أسرى الكفار المهزومين : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ ؛ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ، وَإِمَّا فِداءً).

الوثاق ـ القيد ، ومعنى شده : إحكام ربطه وتمكينه. وموضع الشاهد هو : منّا. وفداء ـ التقدير : تمنون منا بإطلاق الأسرى أحرارا بغير مقابل. أو يفدون أنفسهم فداء ، أى : يدفعون الفدية ؛ وهى : التعويض المالى أو غيره فى نظير إطلاق سراحهم. ثم قال :

كذا مكرّر ، وذو حصر ، ورد

نائب فعل لاسم عين استند

أى : يحذف عامل المصدر وجوبا إذا وقع المصدر نائبا عن فعل محذوف استند لمبتدأ اسم عين.

أى : كان مسندا هو وفاعله ، والمسند إليه مبتدأ ، دال على اسم عين (أى : على ذات) وقد شرحناه.

ثم انتقل إلى المؤكد لنفسه أو لغيره :

ومنه ما يدعونه مؤكّدا

لنفسه ، أو غيره ، فالمبتدا

نحو : له علىّ ألف عرفا

والثّان كابنى أنت حقّا صرفا

يريد بالمبتدأ : النوع الأول ، وهو المؤكد لنفسه. «عرفا». أى : اعترافا ، وهو المصدر المؤكد لنفسه ، والأصل أعترف اعترفا ، فحذف الفعل وجوبا وناب عنه مصدره. و «صرفا» ، أى : خالصا ، وهى نعت لكلمة : «حقا» أى : حقا خالصا لا شبهة فيه. و «حقا» هى المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا. ثم قال :

كذاك ذو التّشبيه بعد جمله

كلى بكا ، بكاء ذات عضله

يريد : المصدر المقصود به التشبيه بعد جملة مشتملة على فاعله المعنوى ، كما أوضحنا فى الشرح.

ومثل له بمثال هو : لى بكا بكاء ذات عضلة» ، أى : لى بكاء. أبكى بكاء ذات عضلة ؛ «فبكاء» ـ


الجواب : لا ؛ فإنها قد تشتمل على لفظه كالأمثلة السابقة ، وربما لا تشتمل ؛ مثل قول القائل يصف النخيل : رأيت شجرا محتجبا فى الفضاء ، ارتفاع المآذن ، فكلمة «ارتفاع» مصدر منصوب بعامل محذوف وجوبا ، تقديره : يرتفع ارتفاع المآذن. وإنما حذف وجوبا لتحقق الشروط ؛ التى منها ؛ وقوع المصدر بعد جملة مشتملة على معناه ، وإن كانت غير مشتملة على لفظه ، لأن معنى : «رأيت شجرا محتجبا فى الفضاء» ـ هو : رأيت شجرا مرتفعا. ومثله : رأيت رجلا يزحم الباب ـ ضخامة الجمل ، أى : يضخم ضخامة الجمل.

__________________

ـ هى المصدر الدال على التشبيه ، وعامله محذوف وجوبا ... ولا يصح أن يكون عامله المصدر الذى قبله ، وهو كلمة : «بكا» المقصورة ، لأن المصدر لا يعمل هنا ، لأنه ليس نائبا عن فعله ، ولا مؤولا بالحرف المصدرى. وهذان هما الموضعان اللذان يعمل فى كل منهما المصدر الصريح.

و «العضلة» الداهية. و «بكاء ذات عضلة» ، أى : بكاء من أصابتها داهية.


زيادة وتفصيل :

(أ) كررنا أن الأفضل اعتبار المصدر النائب عن عامله قسما مستقلّا بنفسه ، ينضم إلى الأقسام الأخرى الشائعة ، وأوضحنا (١) سبب استقلاله. أما عامله المحذوف فلا بد أن يكون فى جميع المواضع القياسية فعلا مشتركا معه فى المادة اللفظية ، وفى حروف صيغتها ، كالأمثلة الكثيرة التى مرت. وأما الأمثلة السماعية فمنها الخالى من هذا الاشتراك اللفظى ؛ مثل : ويح ـ ويل ـ ويس ـ ويب ... وأمثالها من الألفاظ التى كانت بحسب أصلها كنايات عن العذاب والهلاك ، وتقال عند الشتم والتوبيخ ، ثم كثر استعمالها حتى صارت كالتعجب ؛ يقولها الإنسان لمن يحب ومن يكره ، ثم غلب استعمال : «ويس» و «ويح» فى الترحم وإظهار الشفقة ، كما غلب استعمال : «ويل» و «ويب» فى العذاب. وإذا نصبت الألفاظ الأربعة ـ وأشباهها ـ كانت مفعولات مطلقة لعامل مهمل (٢) ، أو لفعل من معناها ؛ فالأصل : (رحمه الله ويحا وويسا ؛ بمعنى : رحمه الله رحمة) ـ. أو : (رحمه الله ويحه وويسه. بمعنى رحمه الله رحمته ...) وكذا : (أهلكه الله ويلا ـ وويبا ، أو أهلكه الله ويله ـ وويبه ؛ بمعنى أهلكه الله إهلاكا ـ وأهلكه الله إهلاكه). فالفعل مقدّر فى الأمثلة بما ذكرناه ، أو بما يشبهه فى أداء المعنى من غير تقيد بنصّ الأفعال السالفة التى قدرناها.

وقيل إن الكلمات السالفة : (ويح ـ ويس ـ ويل ـ ويب ... عند

__________________

(١) فى هوامش ص ١٩٨ و ٢٠٨ و ٢١٣.

(٢) أى : لفعل من لفظها ؛ كان يستعمله العرب قديما ، ثم تركوا استعماله اختيارا ؛ فصار مهملا مستغنى عنه ؛ شأن كل شىء مهمل. لكن أيجوز استعمال هذا الفعل الذى أهمله العرب؟ الرأى السديد أنه لا مانع من استعماله ما دام معروفا بنصه وصيغته. فإن لم يكن معروف الصيغة وكان المعروف مصدرا أو مشتقا ، فقد انطبق عليه رأى بعض اللغويين ـ كابن جنى ـ وهو يقضى بإباحة تكملة المادة اللغوية الناقصة بما يجعلها على غرار نظائرها ، فالمصدر تشتق منه فروع تساير الفروع التى تشتق من نظيره فى الدلالة العامة ، وفى الوزن ... ، والمشتق كاسم الفاعل وغيره تكمل له فروعه ومصدره بما يساير نظائره كذلك. وقد ارتضى مجمع اللغة بالقاهرة هذا المذهب ، وسار عليه فى بعض قراراته.

وفيما يلى كلام ابن جنى : ـ


نصبها تكون منصوبة على أنها مفعول به ؛ وليست مفعولا مطلقا ؛ فالأصل مثلا : ألزمه الله ويحه ، أو ويله ... أو ... وهذا رأى حسن لوضوحه ويسره. وإن كان الأول هو الشائع. ومثلها : بله الأكفّ (فى حالة الكسر) بمعنى : ترك الأكفّ ، أى : اترك ترك الأكفّ ...

(ب) من المصادر المسموعة التى ليس لها فعل من لفظها ، ما يستعمل مضافا وغير مضاف ؛ كالكلمات الخمس السابقة. فإن كانت مضافة فالأحسن نصبها على اعتبارها مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، أو مفعولا به ، كما شرحنا. والنصب هو الأعلى. ولم يعرف ـ سماعا ـ فى كلمة : «بله» المضافة سواه. أما الكلمات الأربع التى قبلها فيجوز فيها الرفع على اعتبارها مبتدأ خبره محذوف ، أو خبرا والمبتدأ محذوف. وتقدير الخبر المحذوف : ويحه مطلوب ـ مثلا ـ ويله مطلوب ـ مثلا ـ وهكذا الباقى ... وتقدير المبتدأ المحذوف : المطلوب ويحه ... ـ المطلوب ويله ... وهكذا ...

فإن كانت الكلمات الأربع مقرونة «بأل» فالأحسن الرفع على الابتداء ـ وهو الشائع ـ ؛ نحو : الويح للحليف ، والويل للعدو. ولا مانع أن تكون

__________________

ـ قال فى كتابه الخصائص (ج ١ ص ٣٦٢ باب : فى أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب) ما نصه :

«حكى لنا أبو على عن ابن الأعرابى أظنه قال : يقال درهمت الخبّازى ، أى : صارت كالدرهم ؛ فاشتق من الدرهم ، وهو اسم عجمى. وحكى أبو زيد : رجل مدرهم. قالوا ولم يقولوا منه درهم ؛ إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل فى الكف ، ولهذا أشباه» اه.

ثم قال بعد ذلك فى ص ٣٦٧ من الفصل نفسه ما نصه :

«ليس كل ما يجوز فى القياس يخرج به سماع ؛ فإذا أخذ إنسان على مثلهم ، وأم مذهبهم لم يجب عليه أن يورد فى ذلك سماعا ، ولا أن يرويه رواية ...»

وفى ص ١٢٧ ـ باب تعارض السماع والقياس ـ ما نصه :

«إذا ثبت أمر المصدر الذى هو الأصل لم يتخالج شك فى الفعل الذى هو الفرع. قال لى أبو على فى الشام : إذا صحت الصفة فالفعل فى الكف. وإذا كان هذا حكم الصفة كان فى المصدر أجدر لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة ...» ثم ضرب أمثلة تحتاج إلى حسن تفهم وأناة ...

وله فصل آخر جليل الشأن ، عظيم النفع ، عنوانه : فصل فى اللغة المأخوذة قياسا (ج ١ ص ٤٣٩) ـ يؤيد ما سبق ـ وسنذكر فى آخر الكتاب ـ هذا الفصل كاملا ؛ لأهميته ، ونفيس مضمونه.


خبرا ؛ نحو : المطلوب الويح ـ المطلوب الويل ... ويجوز النصب على أنها مفعول مطلق للفعل المحذوف ، أو مفعول به لفعل محذوف أيضا.

وإن كانت تلك الكلمات خالية من «أل» ومن الإضافة جاز النصب والرفع على السواء.

وملخص الحكم أن الرفع والنصب جائزان فى كل حالات الألفاظ الأربعة غير أن أحد الأمرين قد يكون أفضل من الآخر أحيانا ، طبقا للبيان السالف (١).

(ج) أشرنا (٢) إلى أن فريقا من النحاة يجيز عدم التقييد بالسماع ، وعدم وجوب حذف العامل فى المصادر المسموعة بالنصب على المصدرية لنيابتها عن عاملها ، مثل : «سقيا» و «رعيا» ... كما يجيز فى التى ليست مضافة ، ولا مقرونة بأل ، أن تضاف ، وأن تقترن بأل ؛ فتجرى عليها الأحكام السالفة فى كل حالة. وهذا هو الأنسب اليوم ؛ ليسره مع صحته وإن كان الأول هو الأقوى.

(د) هناك مصادر أخرى مسموعة بالنصب ، وعاملها محذوف وجوبا ، وهى نائبة عنه (٣) :

١ ـ منها : ما هو مسموع بصيغة التثنية مع الإضافة ؛ مثل : «لبّيك ، وسعديك» ، لمن يناديك أو يدعوك لأمر. والأصل : ألبى لبيك ، وأسعد

__________________

(١) ويجوز فى حالتى الرفع والنصب المذكورتين أن يكون الاسم المعمول لهما مجرورا باللام ؛ نحو ويح للمحسنين ، وويل للظالمين ... أو : ويحا وويلا. ومن هذا قول جرير :

كسا اللؤم تيما خضرة فى جلودها

فويلا لتيم من سرابيلها الخضر

أما كلمة : «تعسا» ... و «بعدا» ـ و «تبّا» فأفصح الاستعمالات فيها النصب مع جر معمولها باللام ، فيقال : تعسا للخائن ، وبعدا له (أى : هلاكا له) وتبّا له ـ (راجع كتاب مجمع البيان لعلوم القرآن ج ١ ص ـ ٢٩٠ ـ)

(٢) فى رقم ١ من هامش صفحتى ٢١٠ م

(٣) كثير من هذه المصادر متفرق فى النصوص الأدبية القديمة وفى المراجع اللغوية ، وقد جمع طائفة كبيرة منها شارح المفصل ج ١ ص ١٠٩ وما بعدها ، كذلك صاحب الهمع ، ج ١ ص ١٨٨ وما بعدها.

وسيجىء تفصيل الكلام عليها من جهة إضافتها فى أول الجزء الثالث م ٩٤ ص ٦٥


سعديك ؛ بمعنى : أجيبك إجابة بعد إجابة ، وأساعدك مساعدة بعد مساعدة. أى : كلما دعوتنى وأمرتنى أجبتك ، وساعدتك. والمسموع فى الأساليب الواردة استعمال : «سعديك» بعد «لبّيك». واتباع هذه الطريقة الواردة أفضل. لكن يجوز استعمال «سعديك» بدون «لبيك» إن دعت حكمة بلاغية. أما «لبيك» فالمسموع فيها الاستعمالان.

ومثل : حنانيك فى قولهم : «حنانيك ، بعض الشرّ أهون من بعض» بمعنى : حنّ علىّ حنانيك ؛ (أى : تحنّن واعطف) حنانا بعد حنان ، ومرة بعد أخرى. ـ فهى هنا كلمة : «استعطاف».

ومثل : دواليك فى نحو : تقرأ بعض الكتاب ، ثم ترده إلىّ. فأقرأ بعضه ، وأرده إليك ؛ فتقرأ وتردّ ... وهكذا دواليك ... بمعنى أداول دواليك ، أى : أجعل الأمر متداولا ومتنقلا بينى وبينك ، مرة بعد مرة.

ومثل : هذاذيك ؛ فى نحو : هذاذيك فى غصون الشجر ؛ أى : تهذّ هذاذيك ؛ بمعنى : تقطع مرة بعد مرة. ومثل : حجازيك ؛ فى نحو : حجازيك عن إيذاء اليتامى : أى : تحجز حجازيك ؛ بمعنى : تمنع.

ومثل : حذاريك ؛ فى نحو : حذاريك الخائن ، أى : احذر حذاريك بمعنى : احذر الخائن ؛ حذرا بعد حذر ...

والمصادر السالفة كلها منصوبة ، وعاملها محذوف وجوبا وهى نائبة عنه ، وكلها غير متصرف ـ فى الأغلب ـ ، أى : أنها ملازمة فى الأكثر حالة واحدة سمعت بها ، وهى حالة النصب والتثنية مع الإضافة إلى كاف الخطاب ـ التى هى ضمير مضاف إليه ـ. وقد ورد بعضها بغير التثنية ، أو : بغير الإضافة مطلقا ، أو : بالإضافة مع غير غير كاف الخطاب ، أو : له عامل مذكور ... لكن لا داعى لمحاكاة هذه الأمثلة القليلة ؛ فلا خير فى محاكاتها ، وترك الأكثر الأغلب. بقى أن نسأل : ما معنى التثنية فى الأمثلة السابقة وأشباهها؟ أهى تثنية حقيقية يصير بها الواحد اثنين ليس غير ، فيكون معنى : «لبيك» ، و «سعديك» و «حنانيك» ... تلبية موصولة بأخرى ، ومساعدة موصولة بمساعدة ، وحنانا موصولا بمثله؟ أيكون هذا هو المراد ، أم يكون المراد هو مجرد التكثير؟


رأيان قويان ... ولا داعى للاقتصار على أحدهما دون الآخر ؛ لأن بعض المناسبات والمواقف المختلفة قد يصلح له هذا ولا يصلح له ذاك ، وبعض آخر يخالفه ؛ فالأمر موقوف على ما يقتضيه المقام.

٢ ـ ومنها ما هو مفرد منصوب ملازم للإضافة ـ إلا فى ضرورة الشعر ـ مثل : «سبحان (١) الله» أى : براءة له من السوء. ومثل : معاذ (٢) الله ؛ أى : عياذا بالله ، واستعانة به. ومثل ريحان الله ؛ أى : استرزاق الله. ولا يعرف لهذا فعل من لفظه ؛ فيقدر من معناه ؛ أى : أسترزقه. والكثير استعماله بعد سبحان الله. والثلاثة السالفة غير متصرفة. ومثلها : حاش (٣) الله ؛ بمعنى تنزيه الله.

٣ ـ أمثلة أخرى أكثرها ملازم النصب بغير تثنية ولا إضافة ؛ مثل : «سلاما» من الأعداء ، بمعنى : براءة منهم ، لا صلة بيننا وبينهم. بخلاف «سلام» بمعنى : «تحية» ؛ فإنه متصرف. ومثل : «حجرا» فى نحو قولك لمن يسألك : أتصاحب المنافق؟ فتجيب : حجرا ، أى : أحجر حجرا ؛ بمعنى أمنع نفسى ، وأبعده عنى ، وأبرأ منه (٤) ... ومثل قولك لمن يطلب إنجاز أمره : سأفعله ، وكرامة ومسرّة ـ أو : ونعمة ، أو ؛ ونعام عين ـ وهذه مضافة ـ ... أى سأفعله وأكرمك كرامة ، وأسرّك مسرة ، وأنعم نفسك نعمة ، وأنعم نعام عين ، أى : إنعام عين ... بمعنى أمتعك تمتع عين.

٤ ـ أمثلة أخرى تختلف عن كل ما سبق فى أنها ليست مصادر ، ولكنها

__________________

(١) «سبحان» اسم مصدر ؛ فهو فى حكم المصدر (وقد سبقت الإشارة إليه فى : ص ١١٢ م ٦٨) ومن استعماله غير مضاف لضرورة الشعر قول الأعشى :

أقول لما جاءنى فخره

سبحان من علقمة الفاخر

(٢) سبقت الإشارة إليه فى ص ١١٢ م ٦٨.

(٣) تفصيل الكلام عليها وعلى لغاتها وأوجه إعرابها موضح فى باب «الاستثناء» ص ٣٢٩ وفى «ب» من ص ٣٣٥ عند بيان أنواع : «حاشا».

(٤) فى الجزء الأول من تفسير القرطبى ص ٧٨ ما نصه :

(العرب تقول عند الأمر تنكره : «حجرا له» ـ بضم الحاء ، وسكون الجيم ـ أى : دفعا له. وهو استعاذة من الأمر) اه.


أسماء منصوبة تدل على أعيان ، أى : على أشياء مجسمة محسوسة : (ذوات) ، كقولهم فى الدعاء على من يكرهونه : «تربا (١) وجندلا (٢)». والأحسن أن تكون هذه الكلمات وأشباهها مفعولا به لفعل محذوف ، والتقدير : ألزمه الله تربا وجندلا أو : لقى تربا وجندلا. أو : أصاب ، أو : صادف ... أو : نحو هذه الأفعال المناسبة لمعنى الدعاء المطلوب ...

__________________

(١) ترابا.

(٢) صخرا.


المفعول له ، أو : المفعول لأجله

أ

لازمت البيت ؛ استجماما

 ـ

أو : للاستجمام.

زرت المريض ؛ اطمئنانا عليه

 ـ

أو : للاطمئنان.

أتغاضى عن هفوات الزميل ؛ استبقاء لمودته

 ـ

أو : لاستبقاء مودته.

أحترم القانون ؛ دفعا للضرر

 ـ

أو : لدفع الضرر.

ب

/ تنزهت ؛ طلب الراحة

 ـ

أو : لطلب الراحة.

تحفظت فى كلامى ؛ خشية الزلل

 ـ

أو : لخشية الزلل.

ألتزم الاعتدال ؛ رغبة السّلامة

 ـ

أو : لرغبة السلامة.

أسأل الخبير ؛ قصد الاسترشاد

 ـ

أو : لقصد الاسترشاد.

ج

أجلس بين الأصدقاء ؛ الصلح

 ـ

أو : للصلح.

أطلت المشى بين الزروع ؛ التمتع بها

 ـ

أو : للتمتع بها.

أسعى بين المتخاصمين ؛ التوفيق

 ـ

أو : للتوفيق.

هجرت الصحف الهزلية ؛ النّفور منها

 ـ

أو : للنفور.

كل جملة من الجمل المعروضة تصلح أن تكون سؤالا معه جوابه على النحو الآتى ، ما الداعى أو : ما السبب فى أنك لازمت البيت؟ الجواب : الاستجمام. ما العلة ، أو : ما السبب فى أنك زرت المريض؟ ... الاطمئنان.

ما السبب فى تغاضيك عن هفوات زميلك؟ استبقاء المودة ... وهكذا باقى الأمثلة ؛ حيث يدل كل مثال على أنه يصلح سؤالا عن السبب (١) ، جوابه كلمة معه فى جملته.

ولو لحظنا الكلمة الواقعة جوابا لوجدناها : مصدرا ، يبين سبب ما قبله (أى : علته ...) ويشارك عامله فى الوقت ، وفى الفاعل ؛ لأن زمن الاستجمام وفاعله

__________________

(١) والغالب أن تكون أداة الاستفهام هى : «لماذا»؟ أو : «لم»؟ ، أو : «ما»؟ ، أو نحوها من كل ما يسأل به عن السبب.


هو زمن ملازمة البيت وفاعلها. وزمن الاطمئنان وفاعله ، هو زمن زيارة المريض وفاعلها ... وكذا الباقى ...

فكل كلمة اجتمعت فيها الأمور ـ أو الشروط ـ الأربعة السالفة تسمى : «المفعول له» ، أو : «المفعول لأجله» (١) فهو : المصدر (٢) الذى يدل على سبب ما قبله (أى : على بيان علته) (٣) ويشارك عامله فى وقته ، وفاعله ...

أقسامه :

المفعول لأجله ثلاثة أقسام (٤) ، مجرد من «أل» ، والإضافة ؛ كالقسم الأول : «ا». ومضاف ؛ كالقسم الثانى : «ب» ، ومقترن بأل ؛ كالقسم الثالث «ح». وهذا القسم دقيق فى استعماله وفهمه ، قليل التداول قديما وحديثا ، ومن المستحسن لذلك أن نتخفف من استعماله.

أحكامه :

١ ـ من أحكامه أنه إذا كان مستوفيا للشروط جاز نصبه مباشرة ، وجاز جره بحرف من حروف الجر التى تفيد التعليل ؛ وأوضحها (٥) : اللام ـ ثم : فى ،

__________________

(١) أى : لأجل شىء آخر ، بسببه حصل هذا المفعول. فالمراد : ما فعل لأجله فعل.

(٢) أى الصريح. ومثله : المصدر الميمى ، واسم المصدر. وكذلك المصدر المنسبك ؛ (كالذى فى رقم ١ من هامش ص ٢٢٨) ، ومن المصدر الميمى قول الشاعر :

وأمر تشتهيه النفس ، حلو

تركت مخافة سوء السماع

أى : تركته خوف سوء السمعة.

(٣) ولأنه يبين علة ما قبله وسببه لا يكون من لفظ عامله ؛ ـ لكيلا يصير مصدرا مؤكدا لعامله ـ. ولا من من معناه ، ولا يبين نوعه ، أو عدده ؛ لأن هذا كله مناقض للتعليل الذى هو شرط أساسى فى المفعول لأجله.

(٤) إذا كان المفعول لأجله مضافا لمعرفة أو مقترنا «بأل» التى تفيد التعريف ـ فإنه يكون معرفة ، وإذا كان مجردا منهما فإنه يكون نكرة.

(٥) من أمثلة «فى» التى لبيان السبب (أى : للتعليل) قوله عليه السّلام : «دخلت امرأة النار فى هرة حبستها» ... أى : بسبب هرة. ومن أمثلة الباء التى لبيان السبب قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أى : بسبب ظلم. ومن أمثلة «من» الدالة على بيان السبب قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ....)

أى : بسبب إملاق : (فقر). وسيجىء البيان التام عن هذه الأحرف مع نظائرها من حروف الجر ، فى الباب الخاص بها ، آخر هذا الجزء ـ ص ٤٠١ ـ


والباء ، ومن ـ والأمثلة السالفة توضح أمر النصب والجر باللام ، ومن الممكن حذف اللام من تلك الأمثلة ، ووضع حرف آخر من حروف التعليل مكانها.

لكنه فى جميع حالات جرّه لا يعرب ـ اصطلاحا ـ مفعولا لأجله ، وإنما يعرب جارّا ومجرورا متعلقا بعامله. وهذا برغم استيفائه الشروط ، وبرغم أن معناه فى حالتى نصبه وجره لا يختلف (١).

ومع أن النصب والجر جائزان ـ هما ليسا فى درجة واحدة من القوة والحسن ؛ فإنّ نصب المجرد أفضل من جره ، لشيوع النصب فيه ، ولتوجيهه الذهن مباشرة إلى أن الكلمة «مفعول لأجله». وجرّ المقترن «بأل» أكثر من نصبه. أما المضاف فالنصب والجر فيه سيانّ. (وقد تقدمت الأمثلة للأنواع الثلاثة).

فإن فقد شرط من الأربعة (٢) لم يجز تسميته مفعولا لأجله ، ولا نصبه على هذا الاعتبار ؛ وإنما يجب جره بحرف من حرف التعليل السابقة ، إلا عند فقد التعليل ؛ فإنه لا يجوز جره بحرف من هذه الحروف الدالة على التعليل ؛ منعا للتناقض.

فمثال ما فقد المصدرية : أعجبتنى الحديقة ؛ لأشجارها ، وسرتنى أشجارها ؛ لثمارها ؛ فالأشجار والثمار ليستا مصدرين ، ولهذا لم يصح نصبهما مفعولين لأجله ، وصارتا مجرورتين.

ومثال ما فقد التعليل : عبدت الله عبادة ، واطعت الرسول إطاعة (٣) ... ولا يجوز فى هذين وأمثالهما الجر بحرف جر يفيد التعليل ـ كما سبق ـ.

__________________

(١ و ١) يرى بعض النحاة أن المفعول لأجله حين يكون منصوبا ، لا يكون منصوبا بالعامل الذى قبله ؛ وإنما يكون منصوبا على نزع الخافض (أى : عند نزعه من مكانه ، وحذفه ؛ كما تقدم فى رقم ٤ من هامش ص ١٥٣ من باب : تعدى الفعل ولزومه) ولا داعى للأخذ بهذا الرأى ؛ لما فيه من تكلف وتعقيد بغير فائدة. ومثله الآراء الأخرى التى تزيد بعض الشروط أو تنقص. ومن الزيادة أن يكون المفعول لأجله «قلبيا» ؛ لأن هذا الشرط مفهوم من شرط آخر ، هو : التعليل ؛ إذ التعليل ـ غالبا ـ يكون بأمور قلبية معنوية ، لا بأمور حسية من أفعال الجوارح ، ويفهم أيضا من باقى الشروط ...

(١ و ١) يرى بعض النحاة أن المفعول لأجله حين يكون منصوبا ، لا يكون منصوبا بالعامل الذى قبله ؛ وإنما يكون منصوبا على نزع الخافض (أى : عند نزعه من مكانه ، وحذفه ؛ كما تقدم فى رقم ٤ من هامش ص ١٥٣ من باب : تعدى الفعل ولزومه) ولا داعى للأخذ بهذا الرأى ؛ لما فيه من تكلف وتعقيد بغير فائدة. ومثله الآراء الأخرى التى تزيد بعض الشروط أو تنقص. ومن الزيادة أن يكون المفعول لأجله «قلبيا» ؛ لأن هذا الشرط مفهوم من شرط آخر ، هو : التعليل ؛ إذ التعليل. ـ


ومثال ما لم يتحد مع عامله فى الوقت : ساعدتنى اليوم ؛ لمساعدتى إياك غدا (١).

ومثال ما لم يتحد مع عامله فى الفاعل : أجبت الصارخ ؛ لاستغاثته. لأن فاعل الإجابة غير فاعل الاستغاثة (٢).

__________________

(١) المراد من اتحاد المصدر مع عامله فى الوقت أن يقع حدث العامل فى أثناء زمن تحقق معنى المصدر ؛ مثل : هرب اللص جبنا ، أو : يقع أول زمن العامل فى آخر زمن تحقق المصدر : نحو : حبست المتهم خوفا من فراره ، أو العكس ، نحو : جئتك حرصا على إفادتك.

(٢) وفيما سبق يقول ابن مالك :

ينصب «مفعولا له» المصدر ، إن

أبان تعليلا ؛ كجد شكرا ، ودن

أى : ينصب على اعتباره مفعولا له إن أبان تعليل ما قبله ، أى : إن بين سبب ما قبله. وضرب لهذا مثلا هو : جد شكرا. بمعنى : جد لأجل الشكر ، فكلمة : «شكرا» مصدر بين سبب الجود. ومعنى : «دن» ، داين الناس بجودك وفضلك : ليشكروك. فهو فعل أمر من دان الرجل غيره بمعنى : صار دائنا له. ويصح أن يكون فعل أمر من : «دان» بمعنى : صار صاحب دين (بكسر الدال) وعلى المعنيين يصح أن يكون للفعل مفعول لأجله محذوف ؛ تقديره : شكرا. ويكون أصل الكلام : جد شكرا ، ودن شكرا. ثم قال فى بيان بقية الشروط :

وهو ـ بما يعمل فيه ـ متّحد

وقتا ، وفاعلا ، وإن شرط فقد

فاجرره بالحرف ، وليس يمتنع

مع الشّروط ، كلزهد ذا قنع

يريد : أنه يكون مفعولا لأجله بشرط أن يكون متحدا مع عامله فى الوقت والفاعل ، وهذا مراده من قوله بما يعمل فيه متحد. أى : وهو متحد بالذى يعمل فيه النصب. (والضمير عائد على المفعول له) فإن فقد شرط فاجرر بالحرف ، ولا تنصب. ثم بين أن الجر بالحرف ليس ممتنعا مع استبقاء الشروط ؛ مثل : قنع زهدا ؛ فيصح : هذا قنع لزهد.

وانتقل بعد ذلك لبيان درجة النصب والجر من القوة البلاغية عند دخولهما فى أقسام المفعول لأجله ، فقال :

وقلّ أن يصحبها المجرّد

والعكس فى مصحوب «أل» وأنشدوا :

لا أقعد الجبن عن الهيجاء

ولو توالت زمر الأعداء

(قل أن يصحبها : أى : يصحب الحرف. وأنثه باعتباره : كلمة. ويجوز التذكير باعتبار أنه حرف) فدخول حرف الجر على المجرد من «أل والإضافة» قليل ، ودخوله كثير على المقرون بأل ؛ مثل قول الشاعر القديم : لا أقعد الجبن عن الهيجاء ... (أى : لا أقعد عن الهيجاء الجبن ، يريد : للجبن ، أى : بسبب الجبن). ولم يتعرض ابن مالك للمضاف. وكلامه السابق يشعر بالحكم ، وهو أن النصب والجر سيان ، إذ بين أن أحد الثلاثة يكثر فيه النصب دون الجر ، وأن واحدا آخر يكثر فيه الجر دون النصب ، وسكت عن الثالث ، فالسكوت فى هذه الحالة قد يوحى بجواز الأمرين على التساوى.


٢ ـ ومن أحكامه أنه يجوز حذفه لدليل يدل عليه عند الحذف ؛ كأن يقال : إن الله أهل للشكر الدائم ؛ فاعبده شكرا ، وأطعه. والتقدير : أطعه شكرا ؛ فحذف الثانى لدلالة الأول عليه. ومثل : إن الضيف الذى سيزورنا جدير أن نظهر له التكريم فى كل حركاتنا ؛ فنقف تكريما ، ونتقدم عند قدومه تكريما ، ونصافحه ، أى : نصافحه تكريما. ومثل ما سبق من قول ابن مالك : جد شكرا ودن (١).

٣ ـ ومنها : أنه ـ وهو منصوب أو مجرور ـ يجوز تقدمه على عامله ؛ نحو : (طلبا للنزهة ـ ركبت الباخرة). (انتفاعا ـ شاهدت تمثيل المسرحية). والأصل : ركبت الباخرة ، طلبا للنزهة ـ شاهدت تمثيل المسرحية ؛ انتفاعا. وقول الشاعر :

فما جزعا ـ وربّ الناس ـ أبكى

ولا حرصا على الدنيا اعترانى

والأصل : فما أبكى جزعا.

٤ ـ ومنها : جواز حذف عامله ؛ لوجود قرينة تدل عليه ؛ نحو : بعدا عن الضوضاء ؛ فى إجابة من سأل : لم قصدت الضواحى؟ ...

٥ ـ ومنها : أنه لا يتعدد (٢) ؛ سواء أكان منصوبا أم مجرورا ؛ فيجب الاقتصار على واحد للعامل الواحد ـ ولا مانع من العطف عليه أو البدل منه (٣) ـ لهذا قالوا فى الآية الكريمة : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ؛ لِتَعْتَدُوا.) أن كلمة : «ضرارا» مفعول لأجله ، والجار والمجرور : (لتعتدوا) متعلق بها ، ولا يصلح أن يكون متعلقا بالفعل إلا عند إعراب : «ضرارا» حالا مؤولة ؛ بمعنى : مضارّين.

__________________

(١) من أمثلة حذفه ـ كما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٢٢٥ ـ قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) والأصل : كراهة أن تضلوا. أى : كراهة ضلالكم ؛ فالمصدر المؤول مفعول له ـ كما نص على ذلك صاحب : «المغنى» عند الكلام على الحرف : لا ـ.

والمفهوم أن المفعول لأجله (وهو كلمة : كراهة) مضاف إلى المصدر المؤول بعدها ، ثم حذف المضاف ؛ فقام المضاف إليه مقامه ، وأعرب إعرابه.

(٢) لأن العلة فى وجود الشىء لا تكون إلا واحدة. والسبب الواحد لا يوجد إلا مسببا عنه واحدا.

(٣) ومن أمثلة العطف عليه قول على رضى الله عنه فى بعض الأشرار : «لا تلتقى بذمهم الشفتان ؛ استصغارا لقدرهم ، وذهابا عن ذكرهم» ، ومن أمثلة البدل قول أحد الباحثين : (ما تأملت الكون إلا تجلت لى عظمة الله ، وعجائب قدرته ؛ فأطأطئ الرأس إخباتا ، خشوعا ، وتواضعا ...) فالخشوع هو الإخبات بدل كل من كل ـ.


المسألة ٧٨ :

ظرف الزمان ، وظرف المكان (١)

فى مثل : جاءت السيارة صباحا ، ووقفت يمين الطريق ؛ ليركب الراغبون ـ تدل كلمة : «صباحا» على زمن معروف ؛ هو أول النهار وتتضمن فى ثناياها معنى الحرف : «فى» الدال على الظرفية (٢) ، بحيث نستطيع أن نضع قبلها هذا الحرف ، ونقول : جاءت السيارة فى صباح ، ووقفت يمين الطريق ؛ فلا يتغير المعنى مع وجود «فى» ، ولا يفسد صوغ التركيب. فهو حرف عند حذفه هنا ملاحظ كالموجود ، يراعى عند تأدية المعنى ، ولأن كلمة : «صباحا» ترشد إليه ، وتوجه الذهن لمكانه ؛ وهذا هو المقصود من أن كلمة «صباحا» تتضمنه (٣).

ولو غيّرنا الفعل : «جاء» ، ووضعنا مكانه فعلا آخر ؛ مثل : وقف ـ ذهب ـ تحرك ... ـ لبقيت كلمة : «صباحا» على حالها من الدلالة على الزمن المعروف ، ومن تضمنها معنى : «فى». وهذا يدل على أن تضمنها معنى : «فى» مطرد (٤) مع أفعال كثيرة متغيرة المعنى.

__________________

(١) يسمى الظرف بنوعيه : «المفعول فيه» وهو نوع من شبه الجملة ، وكذا من شبه الوصف ـ كما سيجىء فى رقم ١ من هامش الصفحة الآتية.

(٢) أى : «على أن شيئا فى داخل شىء آخر» ؛ فالغلاف الخارجى هو الظرف ، وما فى داخله هو : المظروف ؛ نحو : الماء فى الكوب. وفى مثل : السفر اليوم ، يكون الظرف هو اليوم ، والمظروف هو السفر.

(٣) فالمراد من تضمنها : أنها تشير إلى معنى «فى» من غير أن تتضمن لفظ ، أو تنوب عنه فى أداء معنا ، أو عمله ، أو تكتسب شيئا بهذا التضمن. ولو لا ذلك لوجب بناء هذه الظروف ؛ (لما يسميه النحاة : «السبب التضمنى ، أو : المعنوى» ؛ وهو يمنع غالبا ، ظهور الحرف. (وقد سبق بيانه فى الجزء الأول ، ص ٦٠ م ٧ ـ وهو يزيد الأمر هنا وضوحا) ـ مع أن أكثر الظروف معرب ؛ برغم تضمنه معنى : «فى».

(٤) أى : مستمر فى مختلف الأحوال ، ومع كل الأفعال ومشتقاتها العاملة. غير مقصور على نوع معين منها. لكن يجب ملاحظة أمور ثلاثة. أولها : أن كلمة : «فى» لا يصح التصريح بها مع الظروف التى لا تتصرف ـ كما سيجىء فى رقم ٤ من ص ٢٤٧ و «د» من ص ٢٥٤ ـ بخلاف المتصرفة.

وثانيها : أن نوعين من الظروف المكانية لا ينصبهما إلا أفعال معينة خاصة ، أو مشتقاتها ؛ ـ


بخلاف ما لو قلنا : الصباح مشرق ـ صباح الخميس معتدل ، ... فإن كلمة : «الصباح» فى المثالين ، وأشباههما تدل على الزمن المعروف ، ولكنها لا تتضمن معنى «فى». فلو وضعنا هذا الحرف قبلها لفسد الأسلوب والمعنى ؛ إذ لا يصح أن يقال : فى الصباح مشرق ـ ولا فى صباح الخميس معتدل ؛ ومن أجل هذا لا يصح ـ اصطلاحا ـ تسمية كلمة : «الصباح» فى هذين المثالين ظرف زمان ؛ لعدم وجود شىء مظروف فيها ، بالرغم من أنها تدل على الزمان فيهما.

وتدل كلمة : «يمين» فى المثال الأول على المكان ؛ لأن معناها وقفت السيارة فى مكان هو : جهة اليمين. وهى متضمنة معنى : «فى» ، إذ نستطيع أن نقول : وقفت فى جهة اليمين ؛ فلا يتغير المعنى. ولو غيّرنا الفعل ، وجئنا بآخر ، فآخر ... لظلت كلمة : «يمين» على حالها من الدلالة على المكان ، ومن تضمنها معنى «فى» باطّراد.

بخلاف قولنا : اليمين مأمونة ـ إن اليمين مأمونة ـ خلت اليمين ... فإنها فى هذه الأمثلة ـ وأشباهها ـ لا تتضمن معنى الحرف : «فى» ويفسد الأسلوب والمعنى بمجيئه ؛ إذ لا يقال : فى اليمين مأمونة. وكذا الحال فى باقى الأمثلة وأشباهها ؛ لهذا لا يصح تسميتها فى هذه الأمثلة ظرف مكان ، لعدم وجود شىء مظروف فيها ... فكلمة : «صباحا» فى المثال الأول ـ ونظائرها ـ تسمى : ظرف «زمان». وكلمة «يمين» ونظائرها ، تسمى : «ظرف مكان».

فالظرف (١) هو : (اسم منصوب يدل على زمان أو مكان ، ويتضمن معنى :

__________________

ـ فلا يتضمنان ـ فى الأعم الأغلب ـ معنى : «فى» باطراد ـ كما سيجىء فى رقم ٣ من هامش ص ٢٤٠ ، فالظروف الدالة على المقادير لا تنصبها إلا أفعال السير ومشتقاتها ، والظروف التى تلاقى فعلها فى الاشتقاق إنما ينصبها ما تجتمع معه فى حروف مادته من فعل ، أو وصف يعمل عمله.

ثالثها : أن أسماء الزمان التى تلاقى فعلها فى الاشتقاق ، ينصبها ما تجتمع معه فى حروف مادته من فعل ، أو وصف يعمل عمله ... (انظر «ج» من ص ٢٤١).

(١) يسمى الظرف بنوعيه : «المفعول فيه ـ كما سبق فى رقم ١ من هامش الصفحة الماضية ـ وقد يطلق الظرف فى كلام الأقدمين ـ أحيانا ـ مرادا منه الجار مع مجروره. لأن كلمة : «الظرف» عندهم قد تشمل «شبه الجملة» بنوعيه ؛ وتطلق على كل منهما. صرح بهذا «المغنى» و «الهمع ح ١» ـ فى مبحث : «كيف». وكذا الخضرى ـ وغيره. ـ فى ج ١ باب : «المبتدأ والخبر» عند بيت ابن مالك : «وفى جواب كيف زيد؟ قل دنف ...» وانظر النحو الوافى (ج ١ م ٣٩ ص ٤٦٢ من الطبعة الثالثة ـ وشبه الجملة يسمى أيضا : «شبه المشتق ، أو : شبه الوصف» للسبب المدون فى رقم ٤ من هامش ص ٣٤٧).


«فى» باطراد (١) ...) وينقسم إلى ظرف زمان ، وظرف مكان (٢).

أحكام الظرف بنوعيه ـ أشهرها :

١ ـ أنه منصوب (٣) على الظرفية (٤) ، فلو كان مرفوعا ، أو منصوبا لداع آخر غير الظرفية ، أو مجرورا (٥) ولو كان الجار هو «فى» الدالة على الظرفية ـ فإنه لا يسمى ظرفا ، ولا يعرب ظرفا ، ولو دلّ على زمان أو مكان.

وناصبه ـ ويسمى : عامله ـ إما مصدر ؛ نحو : المشى يمين الطريق أسلم ، والجرى وراء السيارات يعرض للأخطار. وإما فعل (٦) لازم أو متعد ، نحو : أنجزت عملى مساء ، ثم قعدت أمام المذياع ، أتمتع به. وإما وصف (٧) حقيقى عامل ، (اسم فاعل ، اسم مفعول ...) ، نحو الطيارة مرتفعة فوق السحاب ، والسحاب مركوم تحتها لا يعوقها. وإما وصف تأويلا ؛ ويراد به الاسم الجامد المقصود منه الوصف بإحدى الصفات المعنوية ، مثل : أنا عمر عند الفصل فى قضايا الناس ، وأنت معاوية ساعة الغضب ، فالظرف : «عند» منصوب بكلمة : «عمر» ، والمراد منها : «العادل». وكلمة : «ساعة» منصوبة بكلمة : «معاوية» والمراد منها : الحليم (٨).

__________________

(١) أى : بأن يتعدى إليه كل الأفعال مع بقاء تضمنه فى المعنى لذلك الحرف الدال على احتواء الظرف لمعنى عامله. إلا الظروف التى أشرنا إليها (فى رقم ٤ من هامش ص ٢٢٩) ومنها نوعان لا يتضمنان معنى «فى» إلا فى حالات معينة يكون فيها الفعل العامل أو مشتقاته من نوع معين ؛ فهما بسبب هذا التعيين لا يتضمنان معنى «فى» باطراد.

(٢) وفى هذا يقول ابن مالك :

الظّرف وقت أو مكان ضمّنا :

«فى» ، باطّراد ؛ «كهنا» امكث «أزمنا»

والأحسن فى : «ضمنا» أن تكون ألفه للتثنية المراد منها الوقت والمكان. وكلمة : «أو» للتنويع ، بمعنى الواو.

(٣) إما مباشرة ؛ لأنه معرب ، وإما مبنى فى محل نصب.

(٤) انظر «ا» من ص ٢٤٤ حيث الكلام على الظرف المتصرف.

(٥) كالصور التى يجب فيها جره بالحرف : «فى» وإعرابهما بعد ذلك خبرا للمبتدأ ـ وقد سبقت فى باب المبتدأ والخبر ، ج ١ م ٣٥ ـ.

(٦) تام أو ناقص ، جامد أو مشتق ... (وسيجىء الكلام على سبب التعلق فى ص ٢٣٦ وفى باب حروف الجر ، ص ٤٠٥ ب).

(٧) أى : مشتق.

(٨) وقد يكون ناصبه هو العامل فى المنادى ؛ كقول الشاعر :

يا دار بين النّقا والحزن ما صنعت

يد النّوى بالألى كانوا أهاليك؟

وسيجىء بيان هنا ، وفى باب المنادى ، ج ٤ م ١٢٧ ـ


ولا بد أن يتعلق (١) الظرف بناصبه (أى : بعامله) وليس من اللازم أن يكون عامله متقدما عليه ؛ كالأمثلة السالفة ، فقد يكون متأخرا عنه ؛ كقولهم : «الحرّ عند الحميّة لا يصطاد ، ولكنه عند الكرم ينقاد ، وعند الشدائد تذهب الأحقاد». والمشهور أنه لا يتعلق بعامله المباشر إن كان هذا العامل حرفا من حروف المعانى (٢).

__________________

(١) معنى التعلق موضح فى «ب» ص ٢٥١ وفيها أن التعلق قد يكون بعامل معنوى ، هو : «الإسناد».

(٢) المراد من حروف المعانى موضح ، فى صدر الجزء الأول (م ٥) عند الكلام على «الحرف» ونزيد هنا ما يقوله صاحب «المفصل» ـ فى ج ٨ ص ٧ ـ من أنها حروف جاءت عوضا عن الجمل ، ومفيدة معناها ، بأوجز لفظ ، فكل حرف منها يفيد فائدتها المعنوية مع الإيجاز والاختصار ؛ فحروف العطف جىء بها عوضا عن : «أعطف» وحروف الاستفهام جىء بها عوضا عن : «أستفهم». وحروف النفى إنما جاءت عوضا عن : «أجحد» ، أو : «أنفى» ، وحروف الاستثناء جاءت عوضا عن : «أستثنى» ، أو : «لا أقصد» ، وكذلك لام التعريف نابت عن : «أعرّف» ، وحروف الجر جاءت لتنوب عن الأفعال التى بمعناها ؛ فالباء نابت عن : ألصق ـ مثلا ـ والكاف نابت عن أشبه ، وكذلك سائر حروف المعانى : كأحرف النداء والتمنى ...

وقد عقد صاحب المغنى ـ فى الجزء الثانى من كتابه ـ فصلا عن شبه الجملة بنوعيه (الظرف ، والجار مع مجروره) ؛ عنوانه : «هل يتعلقان بأحرف المعانى»؟ ملخصه : أن هناك ثلاثة آراء : أولها : المنع مطلقا ، وهو المشهور. ثانيها : الجواز مطلقا. ثالثها : التفصيل ؛ فإن كان حرف المعنى نائبا عن فعل حذف جاز ذلك على طريق النيابة ، لا الأصالة ، وإلا فلا ؛ فنحو «يا لمحمد» يكون الجار والمجرور متعلقين بالحرف : «يا» ؛ لنيابته عن «أدعو» ، أو : «أنادى».

وأما الذين قالوا بالجواز مطلقا فمثلوا له بقول الشاعر :

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحول

فالظرف : «غداة» ظرف للنفى ، أى : انتفى كونها فى هذا الوقت إلا كأغن ، ولا يصح تعلقه بما بعد «إلا» لأن معمول المستثنى لا يتقدم عليهما ـ كما سيجىء فى بابه ص ٣٠٣ م ٨١ ـ. ومثل : ما ضربت الغلام للتأديب. فإن قصدت نفى ضرب معلل بالتأديب فالجار والمجرور متعلقا بالفعل ، والمنفى ضرب مخصوص ، وللتأديب تعليل للضرب المنفى. أما إذا قصدت نفى الضرب على كل حال فالجار والمجرور متعلقان بالنفى ، والتعليل له. أى : أن انتفاء الضرب كان لأجل التأديب ، لأنه قد يؤدب بعض الناس بالصفح عنه ، وتركك إياه دون أن تضربه.

ومثله فى التعلق بحرف النفى عندهم : ما أكرمت المسىء لتأديبه ، وما أهنت المحسن لمكافأته ؛ إذ لو علق هذا بالفعل لفسد المعنى المراد. ومثل هذا قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ؛) فالباء متعلقة بالنفى ؛ إذ لو علق الجار والمجرور بكلمة : «مجنون» ولم يتعلقا بالنفى ـ لأفاد نفى جنون خاص ؛ هو الجنون الذى يكون من نعمة الله. وليس فى الوجود جنون هو نعمة ، ولا المراد نفى جنون خاص ... و... ثم قال صاحب المغنى تعليقا على هذا الرأى ما نصه : ـ


٢ ـ أن عامله قد يحذف جوازا ، أو وجوبا ؛ فيحذف جوازا حين يدل عليه دليل ؛ كأن يقال : متى حضرت؟ فيجاب : يوم الجمعة ؛ أى : حضرت يوم الجمعة. ومتى وصلت يوم الجمعة؟ فيجاب : مساء. أى : وصلت مساء ، ومثل : كم ميلا مشيت؟ فيجاب : ميلين ؛ أى : مشيت ميلين ، ويسمى الظرف الذى ذكر عامله أو حذف جوازا لوجود قرينة تدل عليه : «الظرف اللغو». أما الذى حذف عامله وجوبا فيسمى : «الظرف المستقر» (١). ويجب حذف هذا العامل فى ستة مواضع :

أن يقع خبرا ، أو حالا ، أو صفة ، أو صلة ، أو مشتغلا (٢) عنه ، أو لفظا مسموعا عن العرب محذوفا فى أكثر استعمالهم. فمثال الخبر : الأزهار أمامنا ، والزروع حولنا. ومثال الحال : هذا الأسد أمام مروضه كالفأر. ومثال الصفة : إن شهادة زور أمام القضاء قد تحفر هوة سحيقة تحت أقدام شاهدها ، ومثال الصلة : احتفيت بالصديق الذى معك. ومثال الاشتغال : يوم الأحد سافرت فيه (٣). ومثال المسموع : حينئذ الآن.

__________________

ـ «هذا كلام بديع. إلا أن جمهور النحويين لا يوافقون على صحة التعلق بالحرف ، فينبغى على قولهم أن يقدر التعلق بفعل دل عليه النافى ... و...» اه.

وإذا كان الكلام السالف بديعا «كما يقول ـ بحق ـ صاحب المغنى» فكيف لا يوافق عليه جمهرة النحاة بعد ما بدا له من تلك الآثار المعنوية الهامة التى كشفها أصحابه ، وأبانوا جليل قدرها؟

لهذا لم يكن بد من الاطمئنان إلى ذلك الكلام والاقتصار عليه ، وإن خالفه الجمهور بغير حجة واضحة. اللهم إلا إن كان القصد أن التعلق بالفعل أظهر وأبين. فهذا صحيح.

(١) تكلمنا بإسهاب عن الظرف «اللغو» ، والظرف «المستقر» ، ـ بفتح القاف ـ وعن سبب التسمية ؛ وما يصحبها من أحكام مختلفة ؛ فى الجزء الأول (فى ص ٢٧١ م ٢٧ و ٣٤٦ م ٣٥) وهى أحكام هامة (منها : أن الظرف اللغو لا يقع بنفسه خبرا ، ولا صلة ... و... وإنما الذى يقع هو عامله المذكور ، أو المحذوف جوازا لقرينة ـ كما سيجىء ، فى ص ٢٣٦ ـ) وبعضها يؤدى إلى تيسير محمود. ثم عدنا إلى الكلام المفصل مرة أخرى فى هذا الجزء الثانى بمناسبة الكلام على حروف الجر ، وتعلقها بعامل محذوف ـ وغيره ـ وآثاره من النواحى المختلفة (ص ٤١٣). والموضوع كله جدير بالإطلاع عليه.

(٢) تقدم باب الاشتغال فى هذا الجزء ص ١٢١.

(٣) القياس فى الاشتغال بمعناه العام أن نقول : سافرته ، إلا أن الضمير العائد على الظرف يغلب جره بفى. وقد تحذف تيسيرا وتوسعا ؛ ـ كما قالوا ـ على تخيل أن الفعل اللازم متعد بنفسه. وبناء على هذا التخيل يكون الضمير المتصل به مباشرة ، مفعولا به ، لا ظرفا ـ بالرغم من أنه عائد على الظرف ـ ، ـ


والعامل المحذوف فى الثلاثة الأولى يصح أن يكون وصفا أو فعلا ؛ فالتقدير على اعتباره وصفا هو : (مستقر ، أو موجود ، أو كائن ، أو حاصل ... وأشباه هذا مما يناسب.) وعلى اعتباره فعلا هو : (استقر ـ وجد ـ كان ؛ بمعنى : وجد ـ حصل ... وأشباه هذا مما يناسب). أما مع الصلة فيجب أن يكون فعلا (١) ؛ لأن الصلة لغير «أل» لا بد أن تكون جملة فعلية ، والوصف مع مرفوعه ليس جملة (٢). والأحسن فى «المشغول عنه» هنا وفى «المسموع» أيضا أن يكون فعلا ، فأصل المشغول عنه : سافرت يوم الأحد سافرت فيه. وأصل المسموع : حينئذ الآن. أى :

__________________

ـ ويصير الفعل متعديا بنفسه. (راجع الصبان فى هذا الموضع ، ثم المفصل ج ٢ ص ٤٦). وهذا التخيل يؤدى إلى اللبس والخلط بين المتعدى واللازم. فالخير فى إبقاء حرف الجر وجوبا كما يرى كثرة النحاة. أما عند حذفه فالأنسب إعراب الضمير ظرفا لأنه راجع إلى الظرف ـ (انظر رقم ١ من هامش ص ٢٣٩) ومما فيه إشارة إلى التخيل السالف كلام «أبى على القالى» فى كتابه : «ذيل الأمالى والنوادر» ـ ص ٣ ـ عند عرضه قصيدة الأبيرد الرياحى فى رثاء أخيه ، ومطلعها :

تطاول ليلى لم أنمه تقلبا

كأن فراشى حال من دونه الجمر

قال : أبو على ، بعد الفراغ منها ما نصه : (قال أبو الحسن ـ يريد : أبا الحسن على بن سليمان الأخفش ـ من روى : «لم أنمه» جعله مفعولا به على السعة ، كما قالوا : «اليوم صمته». والمعنى : لم أنم فيه ، وصمت فى اليوم. جعله مثل : زيد ضربته) اه. ومثل هذا فى كتاب : «الكامل للمبرد» ـ ص ٢٧ ـ فقد نقل فى باب عنوانه : «من كلام العرب الاختصار» حذف كلمة «فى» من قول العرب : «أقمت ثلاثا ما أذوقهن طعاما ولا شرابا» ، وقول الراجز : «فى ساعة يحبها الطعام» ـ ببناء المضارع للمجهول ـ ثم قال بعد ذلك : (يريد فى ساعة يحب فيها الطعام. وكذلك الأول معناه ما أذوق فيهن ... وذلك أن ضمير الظرف تجعله العرب مفعولا به على السعة كقولهم يوم الجمعة سرته ، ومكانكم قمته ، وشهر رمضان صمته ... فهذا يشبه فى السعة بقولك : «زيد ضربته» ، وما أشبهه ، فهذا بيّن). اه.

(١) وكذلك العامل المحذوف فى ـ القسم ، لأن القسم والصلة ـ لغير أل ـ ، لا يكونان إلا جملتين ، ولن يتحقق هذا إلا بتقدير العامل المحذوف فعلا ، وليس اسما مشتقا يشبهه ـ كما سيجىء فى باب حروف الجر ص ٤٦٠ ـ أما صلة «أل» فصفة صريحة ؛ فيجب أن يكون المحذوف اسما مشتقا يصلح أن يكون صلة لها على الوجه الذى تقدم بيانه عند الكلام عليها فى باب الموصول والصلة (ج ١ ص ٢٥٣ م ٢٦ و ٢٧١ م ٢٧).

(٢) إذا كان المحذوف فى الصلة وغيرها هو متعلق الظرف فهل يجوز أن نقول إن الظرف نفسه هو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ، أو الخبر ، ونستريح من التقدير؟

الجواب ؛ نعم ، (وتفاصيل هذا وأدلته قد سبقت فى ج ١ ص ٢٧٢ ، م ٢٧ وفى باب باب المبتدأ والخبر شبه الجملة. م ٣٥ وسيجىء تلخيصها فى الزيادة (ص ٢٣٦) ، وفى باب حروف الجر (هامش ص ٤١٣).


كان ذلك حينئذ ، واسمع الآن (١).

__________________

(١) هذا مثل يقال لمن ذكر أمرا تقادم عهده ، أى : حصل ووقع ما تقوله حين إذا كان كذا وكذا ، واسمع الآن كلامى ؛ فهما جملتان. والمقصود منعه من ذكر ما سبق ، وأمره بسماع ما يقال له الآن.

وفى نصب الظرف وحذف عامله جوازا أو وجوبا يشير ابن مالك بقوله :

فانصبه بالواقع فيه مظهرا

كان ، وإلّا فانوه مقدّرا

وكلّ وقت قابل ذاك ، وما

يقبله المكان إلّا مبهما

نحو : الجهات ، والمقادير ، وما

صيغ من الفعل ؛ كمرمى من رمى

الظرف يقع فيه المعنى إما من المصدر المجرد ، أو من الفعل ، أو من الوصف العامل. وهو هنا يقول : انصب الظرف بالعامل الذى معناه يقع فى هذا الظرف. فالمراد : انصبه بواحد من الأشياء السالفة إن كان موجودا ، وإلا فقدره. ثم بين أن كل وقت ، ـ أى : ظرف للزمان ـ يقبل النصب على الظرفية ؛ مبهما كان أم مختصا. أما ظرف المكان فلا ينصب منه إلا ما ذكره من الجهات ، والمقادير ، وما صيغ من الفعل. (وسيأتى شرح هذا فى ص ٢٣٩).


زيادة وتفصيل :

إذا كان عامل الظرف محذوفا وجوبا فى بعض المواضع (١) ، فما الداعى إلى ملاحظته عند الإعراب ، ووجوب تقديره فى تلك المواضع ، واعتباره هو الخبر أو الصفة ، أو الحال ، أو الصلة ، أو ... دون الظرف نفسه؟ لم لا يكون الظرف نفسه هو الخبر ، أو الصفة ، أو الحال ، أو الصلة ، أو ... فى تلك المواضع ما دام متعلقه المحذوف واجب الحذف ، ولا يصح ذكره بحال؟ وإذا كان كلام العرب خاليا منه دائما فكيف عرفنا أنه محذوف؟ إن الحكم بالحذف يقتضى علما سابقا ومعرفة من اللغة بأن هذا المحذوف ـ أو نظائره ـ قد وجد حقيقة فى الكلام العربىّ ، ثم حذف لسبب طارئ. وهذه المعرفة لم توجد حقّا. فكيف حكمنا ـ إذا ـ بأنه محذوف؟ ... إلى غير هذا مما يحتج به المعارضون ، وينتهون منه إلى أن الظرف نفسه هو الخبر ، أو الصفة ، أو ... أو ... وليس من اللازم فى رأيهم أن يكون هذا الظرف منصوبا بالعامل المحذوف ، فقد يكون منصوبا بشىء آخر فى الجملة ، أو بعامل معنوى كالحذف ... أو بغير عامل ... ولا ضرر فى هذا عندهم.

وفريق منهم يقول إن خصائص العامل ـ ومنها : معناه ، وتحمّله للضمير ـ قد انتقلت للظرف ؛ فلا ضرر أن يكون الظرف نفسه بعد هذا هو الخبر ، أو : الصفة ... أو ... (وقد أشرنا لهذا الرأى فى ص ٤١٣ ، وسبق إيضاحه فى الجزء الأول (هامش ص ٢٧١ م ٢٧ وص ٣٤٦ م ٣٥) ، وأنه رأى مقبول عند بعض القدامى المحققين).

أما الذين يحتمون أن يكون العامل المحذوف هو الخبر ، أو الصفة ... أو ... دون الظرف ، ويشترطون أن يكون للظرف فى تلك المواضع متعلقا هو الخبر أو الصفة ... فلهم حجة منطقية قوية. ولكنها على قوتها تتسع للتيسير والتخفيف بغير ضرر ، وتنتهى إلى ما يقوله المعارضون ؛ هى : أن الزمان المجرد لا وجود له ؛ فمن المستحيل أن يوجد زمان لا يقع فيه حادث جديد ، أو لا يستمر فيه حادث موجود ، فخلو الزمان من أحداث جديدة أو مستمرة ـ محال. وبتعبير أدقّ : لا بدّ من اقتران كل حادث بزمان ، ويستحيل أن يوجد حادث فى غير زمان. ولهذا سمى

__________________

(١) سبق بيانها فى ص ٢٣٣.


الزمان ظرفا ؛ تشبيها بالظرف الحسى ـ كالأوانى والأوعية التى توضع فى داخلها الأشياء. وإذا كان الأمر هكذا فكل زمان مقرون ـ حتما ـ بالحادث المتصل به الواقع فيه ، وكثير من هذه الحوادث أمر عام يدل على مجرد «الوجود المطلق» من غير زيادة معنوية عليه. فهو معروف ، فلا داعى لذكره ؛ إذ لا فرق فى المعنى بين : قولنا : «السفر حاصل غدا» ، وقولنا : «السفر غدا» لأنه هو والزمان متلازمان كما سلف ؛ فذكر الثانى كاف فى الدلالة على وجود المحذوف ؛ فهو مع حذفه ملاحظ وكأنه موجود. هذا من الناحية العقلية المحضة(١).

وهناك شىء آخر يقولونه فى شبه الجملة الواقع خبرا ـ أو غير خبر ـ من الأشياء التى سلفت ؛ هو : أن اللفظ الدال على الزمان لا يكمل وحده ـ بغير متعلقه ـ المعنى الأساسى للجملة ، ولا يستقل بنفسه فى تحقيق فائدة تامة ، وإنما يجىء لتكملة معنى آخر فيما يسمى : «العامل» ؛ فليس من شأن اللفظ الزمانى أن يتمم المعنى الأساسى المراد بغير ملاحظة العامل المحذوف ؛ فلو لا ملاحظته فى مثل : «السفر يوم الخميس» لكان المعنى : السفر زمان ، وهذا الزمان يوم الخميس ، وبعبارة أخرى : السفر هو يوم الخميس نفسه ، ويوم الخميس هو السفر ، والمعنى ـ لا شك ـ فاسد ، لأن الثابت المقرر من استقراء كلام العرب يوجب أن يكون الخبر هو المبتدأ فى المعنى ، والمبتدأ هو الخبر فى المعنى كذلك.

ومثل هذا يقولون فى ظرف المكان ؛ فالمكان المجرد لا وجود له ؛ فمن المستحيل أن يوجد مكان لا تقع فيه أحداث جديدة ، أو تستمر فيه أحداث قديمة ؛ فالحوادث والأماكن مقترنان متلازمان على الدوام ، فذكر الثانى فى الكلام كاف فى الدلالة على وجود المحذوف الملاحظ حتما ، فيتساوى المعنى بين : «علىّ موجود فى البيت» و «على فى البيت». هذا إلى أن ظرف المكان وحده بغير ملاحظة عامله المحذوف لا يتمم المعنى الأساسى المراد ، ولا يكمل القصد ؛ فالمكان إنما يجىء لتكملة معنى ، ولا يمكن

__________________

(١) بل إن الظرف بنوعيه لا بد أن يدل فى أصله على : «الوجود المطلق» ثم يمتاز «اللغو» بدلالته ـ فوق هذا ـ على معنى خاص آخر كالأكل أو الشرب أو غيرهما مما يزاد عليه فيجعله خاصا مقيدا بعد أن كان عاما مطلقا. وسيجىء للموضوع بيان فى باب : «حروف الجر». عند الكلام على شبه الجملة ـ رقم ٢ من هامش ص ٤١٣ ـ.


أن يستقل بإيجاد معنى أساسى جديد. وإذا ثبت أن لكل حادثة زمنا فلا بد لها من مكان أيضا. وإذا استحال أن يخلو زمان من حادثة استحال أن يخلو مكان من حادثة أيضا. ولو لا ملاحظة المحذوف لكان المبتدأ فى مثل : «الجلوس فوق» هو نفس الخبر ، أى : أن : الجلوس هو «فوق» ، «وفوق» هو الجلوس ذاته. وهذا معنى فاسد ، لما تقدم من أن المبتدأ هو الخبر فى المعنى ، والخبر هو المبتدأ فى المعنى فى غير هذه المواضع.

ومثل هذا يقولون فى الجار مع مجروره (١).

تلك هى الأدلة القوية ولا حاجة لغير المتخصصين بمعاناتها. وحسبنا أن نساير الرأى القائل بأن شبه الجملة هو الخبر ، أو الحال ، أو ... على الوجه المدون فى الجزء الأول فى الصفحات المشار إليها.


٣ ـ أن أسماء الزمان الظاهرة (١) كلها تصلح للنصب على الظرفية ، يتساوى فى هذا ما يدل على الزمان المبهم (٢) وما يدل على الزمان المختص (٣) ، فمثال الأول : عملت حينا ، واسترحت حينا ، ومثال الثانى : قضيت يوما سعيدا فى الضواحى ، وأمضيت يوم الخميس فى الريف. كما يتساوى فى هذا ما كان منها جامدا ؛ مثل : يوم ، وساعة ... وما كان مشتقّا مرادا به الزمان ؛ كصيغتى : «مفعل ، ومفعل» ـ بفتح العين وكسرها ـ القياسيتين الدالتين على «الزمان» ، بشرط أن تكون الصيغ القياسية المشتقة جارية على عاملها (أى : مشتركة معه فى مثل حروفه الأصلية) ، مثل : قعدت مقعد الضيف ، أى : زمن قعود الضيف (٤).

أما أسماء المكان فلا يصلح منها للنصب على الظرفية إلا بعض أنواع :

__________________

(١) بخلاف المضمرة كضمير الظرف ـ فى مثل : يوم الجمعة سرت فيه ـ فإنه ظرف يجر بالحرف ، «فى» وجوبا ؛ فلا يقال : سرته ، إلا على رأى يبيح التوسع بحذف حرف الجر قبله ، وإعرابه مفعولا به.

(وقد سبق البيان والتفصيل فى رقم ٣ من هامش ص ٢٣٣).

(٢ و ٢) اسم الزمان المبهم هو : النكرة التى تدل على زمن غير محدود ، (أى : غير مقدر بابتداء معين ونهاية معروفة) ؛ مثل : حين ، وقت ، مدة ، زمن. أو : تدل على وجه من الزمان دون وجه ، مثل : صباح ، ـ عشية ـ غداة. (كما سيجىء فى ص ٢٧٩ م ٧٩ أما الإيضاح الأنسب فى باب الإضافة ج ٣ م ٩٤) والمختص عكسه ؛ ومنه المقدر المعلوم ؛ لتعريفه بالعلمية ؛ كرمضان ، أو بالإضافة مثل : زمن الشتاء ، أو بأل ، مثل : اليوم ... ومنه أيضا : المقدر غير المعلوم كالنكرة المعدودة غير المعينة نحو : سرت يوما أو يومين ، والنكرة الموصوفة كسرت زمنا طويلا.

وهناك فرق آخر يترتب على ما سبق ؛ هو : أن الظرف الزمانى المبهم بمنزلة التأكيد المعنوى لزمن عامله. لأن معنى : سار الرجل ، هو : حصول سير من الرجل فى زمن فات ، فإذا قلنا : «سار الرجل زمنا» كان المعنى أيضا : حصول سير الرجل فى زمن فات. فالظرف الزمانى لم يفد إلا التأكيد المعنوى للزمن ؛ كما قلنا. ومنه (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) فكلمة : «ليلا» ظرف زمان يؤكد زمن الفعل. «أسرى» ؛ لأن الإسراء لا يكون إلا ليلا.

أما الظرف المختص فيفيد التأكيد المعنوى مع الزيادة الدالة على الاختصاص. وعلى هذا يكون من الظروف الزمانية ما يؤكد عامله كما يقع تأكيد العامل بالمصدر والحال ، ومنها ما يؤكده مع زيادة أخرى ؛ كالشأن فى المصدر المبين للنوع أو للعدد ، ـ وقد سبق ـ وسيجىء الكلام على الظرف المؤكد والمؤسس فى «ب» من ص ٢٤٣.

وظرف الزمان المبهم غير الأسماء المبهمة التى سبق الكلام عليها فى ج ١ ص ٢٤١ م ٢٦.

وبمناسبة الكلام على الظرف الزمانى المضاف تردد كتب اللغة (أن العرب لم تضف كلمة : «شهر» إلا إلى «رمضان» والربيعين).» لكن لا مانع من إضافتها إلى الشهور الأخرى. ولا مانع كذلك من ترك الإضافة إلى رمضان والربيعين وغيرها ؛ كما نص على ذلك النحاة.

(٣) انظر رقم ١ من هامش ص ٢٤١ ـ (راجع أول «باب الظرف» فى ج ١ ـ من حاشيتى الخضرى والصبان).


(ا) منها : المبهم (١) وملحقاته ؛ نحو : الجهات الستّ ، فى مثل : وقف الحارس أمام البيت ـ وطار العصفور فوقه ... فإن كان المكان مختصّا لم يصح نصبه على الظرفية ، ووجب جره بالحرف : «فى» إلا فى حالتين :

الأولى : أن يكون عامل الظرف المكانى المختص هو الفعل : «دخل» أو : «سكن» أو : «نزل» فقد نصب العرب كل ظرف مختص مع هذه الثلاثة ؛ نحو : دخلت الدار ، وسكنت البيت ... ونزلت البلد ... والأحسن فى إعراب هذه الصور وأشباهها أن يكون كل من «الدار» ، و «البيت» ، «والبلد» مفعولا به ـ لا ظرفا ـ ويكون الفعل قبلها متعديا (٢) إليها بنفسه مباشرة.

الثانية : أن يكون الظرف المكانى المختص هو كلمة : «الشام» وعامله هو الفعل : «ذهب». فقد قال العرب : «ذهبت الشام» ويعرب هنا ظرفا ـ ومثله الظرف المختص : «مكة» مع عامله الفعل : «توجّه» فقد قال العرب أيضا : توجهت مكة. فنصب ظرفا مع هذا الفعل وحده. و «الشام» و «مكة» ظرفان مكانيّان على معنى : «إلى».

(ب) ومنها : المقادير (٣) ، نحو : غلوة (٤) ـ ميل ـ فرسخ ـ بريد ...

__________________

(١) المراد به : ما ليس له هيئة ولا شكل محسوس ، ولا حدود تحصره وتحدد جوانبه ؛ مثل : الجهات الست ـ وما يشبهها فى الشيوع ـ وهى (أمام ـ خلف ـ يمين ـ شمال ـ فوق ـ تحت) والمختص : عكسه ؛ مثل : بيت ـ دار ـ غرفة ـ

وقد ألحق بالجهات الست ألفاظ ستجىء ؛ فى «أ» من ص ٢٤٣ منها : عند ، ولدى ... و...

وهناك تفصيل آخر فى باب الإضافة ج ٣ م ٩٤.

(٢) لنستريح من النصب على نزع الخافض ، ومن اعتراضات أخرى على إعرابه ظرفا منصوبا. (٣) ويلاحظ ما سبقت الإشارة إليه (فى رقم ٤ من هامش ص ٢٢٩ ورقم ١ من هامش ص ٢٣١) وهو أن الظروف الدالة على المقادير لا تتضمن معنى : «فى» باطراد ؛ وإنما تتضمنها أحيانا قليلة لأن ناصبها لا بد أن يكون من أفعال السير ، أو مشتقاتها ؛ فلا توجد : «فى» مع ناصب آخر. وكذلك النوع الآتى : وهو ما صيغ من مادة فعله وحوى حروفه ، فإن هذا الظرف لا يتضمن معنى «فى» باطراد لأن ناصبه من فعل أو وصف يعمل عمله ، لا بد أن يكون مشتركا معه فى حروف صيغته فلا توجد «فى» مع غيره. ففى هذين النوعين لا تطرد «فى» ؛ إذ توجد مع بعض الأفعال المعينة ومشتقاتها دون بعض آخر لا يمكن أن يتضمنها معنويا ؛ لأنه غير صالح للعمل فى النوعين السالفين.

هذا ، وقد اختلف النحاة فى المقادير ؛ أهى من المبهم ، أم قسم قائم بذاته ، أم شبيهة بالمبهم ... ولسنا فى حاجة إلى العناء ؛ فاعتبارها قسما مستقلا أنسب ؛ وليست من المبهم ؛ لأنها معلومة المقدار ، ولكنها مختلفة الابتداء ، والانتهاء ، والبقعة ، بحسب الاعتبار ؛ فليس لها جهة ثابتة مستقرة فيها ، فالميل قد يكون فى بلد ، وقد يكون فى غيرها ... ، يكون فى صحراء ، وقد يكون فى حضر ، وقد يكون فى الشرق بالنسبة لشىء آخر ، أو فى الغرب ، وهكذا.

(٤) الغلوة : مائة باع تقريبا ، أو : هى أبعد مسافة يقطعها السهم. والميل : ألف باع ، والفرسخ : ثلاثة أميال ، والبريد : أربعة فراسخ ...


و... و... مثل : مشيت غلوة ، ثم ركبت ميلا ، ثم سرت فرسخا.

(ح) ومنها : ما صيغ. على وزن (١) : «مفعل» ، أو «مفعل» للدلالة على المكان ، بشرط أن يكون الوزن جاريا على عامله ، (أى : مشتركا معه فى مثل حروفه الأصيلة ، ومشتملا عليها) (٢) ، مثل : وقفت موقف الخطيب ، وجلست مجلس المتعلم ـ صنعت مصنع الورق ، وبنيت مبناه ... فلو كان عامله من غير لفظه لوجب الجر بالحرف : «فى» ؛ نحو : جلست فى مرمى الكرة (٣).

ومن ثم كان هذا النوع غير متضمن معنى «فى» باطراد ، ومستثنى من التضمن (٤) المطرد.

وهذا القسم يكون مختصّا كالأمثلة السالفة ، ومبهما ؛ نحو : وقفت موقفا ـ جلست مجلسا (٥).

__________________

(١) ـ كما سبق فى ص ٢٣٩ ـ ويكون اسم الزمان والمكان من الثلاثى على وزن : مفعل (بفتح العين) إن كان مضارع فعله مفتوح العين ، أو مضمومها (مثل : يلعب ـ يقعد) أو : كان مضارعه معتل اللام ؛ نحو : يرمى. ويكون على وزن مفعل (بكسر العين) إن كان مضارع فعله مكسور العين ، مثل : يجلس ، أو : معتل الفاء فى أصلها مع سلامة اللام ، بشرط أن تكون الفاء واوا تحذف فى مضارعه ؛ مثل : يعد ، من : وعد.

أما من غير الثلاثى فيكون على وزن مضارعه ، مع إبدال أوله ميما مضمومة وفتح ما قبل الآخر ؛ مثل : «مستخرج» ومضارعه : «يستخرج» (وفى ج ٣ ص ٢٤٢ م ١٠٦ تفصيل الكلام عليهما وعلى أحكامها).

(٢) وكذلك ما سبقت إليه الإشارة (فى رقم ٣ ص ٢٣٩) وهو المشتق من مصدر الفعل للدلالة على الزمان ـ وتحقق فيه هذا الشرط ـ وكان منصوبا ؛ فإنه يصلح أن يعرب ظرف زمان ؛ كالمثال : قعدت مقعد الضيف ؛ أى : زمن قعود الضيف.

(٣) وردت ألفاظ مسموعة بالنصب لا يصح القياس عليها. مثل قولهم : فلان يجلس من الباب مقعد القابلة (أى : المولدة) كناية عن قربه من الباب. وفلان مزجر الكلب ، ومتناط الثريا. كناية عن البعد فيهما.

(٤) كما سبق فى رقم ٤ من هامش ص ٢٢٩ وفى رقم ٣ من هامش ص ٢٤٠. وهذا والظروف المكانية الثلاثة : (المبهم ـ المقدار ـ ما صيغ من الفعل) هى التى أشار إليها ابن مالك فيما سبق ـ رقم ١ من هامش ص ٢٣٥ ـ بقوله :

 ... وما

يقبله المكان إلّا مبهما

(٥) وإلى هذا أشار ابن مالك (وهو يسرد الأشياء التى تصلح للنصب على الظرفية المكانية ؛ ومنها ما صيغ من الفعل كمرمى من رمى ،) بقوله :

وشرط كون ذا مقيسا أن يقع

ظرفا لما فى أصله معه اجتمع


ومما يلاحظ أن هذه الصيغة : (مفعل ـ مفعل) صالحة للزمان والمكان ويكون التمييز بينهما بالقرائن ؛ كأن يقال : متى حضرت؟ فيجاب : حضرت محضر القطار ؛ أى : زمن حضور القطار ؛ لأن «متى» للاستفهام عن الزمن. بخلاف : أين حضرت؟ فيجاب : حضرت محضر المجتمعين حول الخطيب ؛ لأن «أين» أداة استفهام عن المكان.

٤ ـ أنه يجوز تعدد الظروف المنصوبة على الظرفية لعامل واحد بغير إتباع (١) ، بشرط اختلافها فى جنسها ؛ (أى : اختلافها زمانا ومكانا) ؛ مثل : استرح هنا ساعة ـ أقم عندنا يوما. أما إذا اتفقت فى جنسها فلا تتعدد إلا فى صورتين ؛ إحداهما : الإتباع ؛ بجعل الظرف الثانى بدلا (٢) من الأول ، نحو : أقابلك يوم الجمعة ظهرا. فكلمة : «ظهرا» بدل بعض من كلمة : يوم.

والأخرى ، أن يكون العامل اسم تفضيل ؛ نحو : المريض اليوم أحسن منه أمس. (فاليوم وأمس ؛ ظرفان عاملها أفعل التفضيل : أحسن) وقد تقدم عليه واحد ، وتأخر واحد.

٥ ـ أنه يجوز عطف الزمان على المكان وعكسه ؛ مسايرة للرأى القائل بذلك ، توسعا وتيسيرا ؛ نحو : أعطيت السائل أمامك ويوم العيد ـ قرأت الكتاب هنا ويوم السبت الماضى.

٦ ـ إذا وقع الظرف خبرا فإنه يستحق أحكاما خاصة يستقل بها ، وقد سبق تسجيلها فى مكانها الأنسب. وهو باب : «المبتدأ والخبر» (٣) ومن تلك الأحكام أن يكون فى مواضع معينة باقيا على حالته من النصب ، وفى مواضع أخرى يكون مرفوعا أو مجرورا ولا يسمى فى هاتين الحالتين ظرفا ... إلى غير هذا من الأحكام الهامّة المدونة فى الموضع المشار إليه.

__________________

(١) أى : بغير أن يكون واحد منها تابعا للآخر ، (نعتا له ، أو عطفا ، أو توكيدا ، أو بدلا).

(٢) ولا يبدل الأكثر من الأقل ـ على الصحيح ـ ففى نحو : كتبت الرسالة يوم الخميس سنة كذا ... يعرب الظرف الثانى (سنة) حالا من الأول ، وليس بدلا (راجع أول باب السادس من المغنى). وهذا رأى البصريين. لكن جاء فى «الهمع» ، ما يرده حيث قال ـ فى ج ٢ ص ١٢٧ باب بدل ما نصه : (المختار ـ خلافا للجمهور ـ إثبات بدل الكل من البعض ، لوروده فى الفصيح ...) اه وسرد أمثلة من القرآن والشعر تؤيد رأيه ، وقد ذكرناها فى باب البدل ـ ج ٣ م ١٢٣.

(٣) ج ١ م ٣٥ ص ٤٣٧.


زيادة وتفصيل :

(ا) عرفنا (١) «المبهم» من ظروف المكان ، وأنه يشمل أنواعا منها : «الجهات الست». وقد ألحقوا بهذه الجهات ألفاظا أخرى ، منها : عند ـ ـ لدى ـ وسط ـ بين ـ إزاء ـ حذاء ... واختلفوا فى مثل (٢) : داخل ـ خارج ـ ظاهر ـ باطن ـ جوف الدار ـ جانب ، وما بمعناه (مثل : جهة ـ وجه ـ كنف) فى مثل : قابلته داخل المدينة أو خارجها ، أو ظاهرها ... ؛ فكثير من النحاة يمنع نصب هذه الكلمات على الظرفية المكانية ؛ لعدم إبهامها ، ويوجب جرّها بالحرف : «فى». وفريق يجيز ، ويرى أنّ هذا هو الأنسب (٣) ، لما فيه من تيسير ، لأن تلك الكلمات الدالة على المكان لا تخلو من إبهام ، فهى شبيهة بالمبهم ، وملحقة به. وكان الجدير بكل فريق أن يستند فى تأييد رأيه على موقفه من المسموع المأثور ، ويعتمد عليه وحده فى الاستدلال ، واستنباط الحكم ، فمن نصره السماع الكثير فرأيه هو الأقوى دون غيره. ولكنهم لم يفعلوا. ومن ثمّ يكون الرأى المجيز أولى بالاتباع ، وإن كانت المبالغة فى الدقة والحرص على سلامة الأسلوب وسمّوه تقتضى البعد عن الخلاف باستعمال الحرف «فى» ؛ لاتفاق الفريقين على صحة مجيئه ؛ فيجرى التعبير اللغوى على سنن موحد.

(ب) من أنواع الظرف ما يكون مؤسّسا ؛ وما يكون مؤكّدا ، فالمؤسّس هو الذى يفيد زمانا أو مكانا جديدا لا يفهم من عامله ؛ نحو : صفا الجو اليوم ، فقضيته حول المياه المتدفقة ، وبين الأزاهر والرياحين. فكل من الظروف : (اليوم ـ حول ـ بين ـ ...) يسمى : ظرفا مؤسسا ، أو تأسيسيّا ؛ لأنه أسّس ـ أى : أنشأ ـ معنى جديدا لا يفهم من الجملة بغير وجوده.

والمؤكّد هو الذى لا يأتى بزمن جديد ، وإنما يؤكد زمنا مفهوما من عامله. ومن أمثلة قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً.) فالظرف : «ليلا» لا جديد معه إلا التوكيد لزمن الإسراء ؛ لأن الإسراء لا يكون إلّا ليلا ...

ومثله : سرت حينا ومدة ، لأن الظرف لم يزد زمنا جديدا غير الزمن الذى دل عليه الفعل (٤)

__________________

(١) فى ص ٢٣٩.

(٢) من كل ما لا يدل على حقيقته بنفسه ، وإنما تعرف بما تضاف إليه ؛ مثل : مكان ـ ناحية ـ أمام ـ وراء ـ جهة ... فيقال مثلا : مكان على ـ ناحية محمود ...

(٣) راجع حاشية الخضرى ، باب الظرف ـ ج ١ ـ ففيها تلخيص الرأيين ، وبيان الأنسب منهما ، وأنه المفهوم من كلام صاحب الهمع فى هذا الباب.

(٤) انظر رقم ٢ من هامش ص ٢٣٩.


المسألة ٧٩ :

الظرف المتصرف وغير المتصرف ، وأقسام كلّ

الظرف بنوعيه قد يكون متصرفا ، وقد يكون غير متصرف.

(ا) فالمتصرف هو الذى لا يلازم النصب على الظرفية ، وإنما يتركها إلى كل حالات الإعراب الأخرى التى لا يكون فيها ظرفا ؛ كأن يقع مبتدأ ، أو خبرا ، أو فاعلا ، أو مفعولا به ، أو مجرورا بالحرف : «فى» المذكور قبله ... أو ... فمثال الزمان المتصرف : يومكم مبارك ، ونهاركم سعيد. إن يومكم مبارك ، وإن نهاركم سعيد. جاء اليوم المبارك ... إنّا نرقب مجىء اليوم المبارك ـ فى يوم العيد يتزاور الأهل والأصدقاء.

ومثال المكان المتصرف : يمينك أوسع من شمالك ـ العاقل لا ينظر إلى الخلف إلا للعبرة ؛ وإنما وجهته الأمام. ومثل : الفرسخ ثلاثة أميال ، ونعرف أن الميل ألف باع (١).

وقد سبق (٢) أن الظرف بنوعيه إذا ترك النصب على الظرفية إلى حالة أخرى غير النصب على الظرفية ـ ولو إلى الجر «بفى» أو غيرها ـ فإنه لا يسمى ظرفا ، ولا يعرب ظرفا ، ولو دل على زمان أو مكان.

حكم الظرف المتصرف :

١ ـ إما معرب منصرف ؛ مثل : يوم ـ شهر ـ يمين ـ مكان (٣).

٢ ـ وإما معرب غير منصرف مثل : غدوة (٤) ؛ وبكرة (٥) ؛ وضحوة ؛

__________________

(١) وفى الظرف المتصرف يقول ابن مالك :

وما يرى ظرفا وغير ظرف

فذاك ذو تصرّف فى العرف

أى : فى عرف النحاة واصطلاحهم.

(٢) فى ص ٢٣١.

(٣) انظر ما يختص بهذه الكلمة فى ص ٢٤٧ ،

(٤) الوقت من طلوع الفجر إلى شروق الشمس. وفى ص ٥١١ كلام يختص بهذه الكلمة.

(٥) الوقت من طلوع الشمس إلى الضحوة ، أى : الضحا ، وهو وقت ارتفاع الشمس فى الأفق.


بشرط أن تكون كل واحدة علم جنس (١) على وقتها المعين المعروف ؛ سواء أكان هذا الوقت مقصودا ومحددا من يوم خاص بعينه ، أم غير مقصود ولا محدد من يوم معين. فهذه الثلاثة ـ وأشباهها ـ متصرفة ؛ تستعمل ظرفا وغير ظرف ، وفى الحالتين تمنع من الصرف. وسبب منعها من الصرف : «العلمية والتأنيث اللفظى». فإن فقدت العلمية لم تمنع من الصرف ؛ وذلك لعدم التعيين (لأنها فقدت تعيين الزمن وتحديده ؛ وصارت دالة على مجرد الوقت المحض الخالى من كل أنواع التخصيص إلا بقرينة أخرى للتعيين) ؛ مثل : غدوة وقت نشاط ، يسرنى السفر غدوة والقدوم فى ضحوة ، بشرط أن يراد بهما مطلق زمن بغير تعيينه. ومن هذا قوله تعالى فى أهل الجنة : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(٢).

٣ ـ وإما مبنى. والمبنى قد يكون مبنيّا على السكون ، مثل : «إذ» الواقعة «مضافا إليه» والمضاف زمان ، نحو : لاح النصر ساعة إذ أخلص المجاهدون ـ كان النصر يوم إذ جاهد المخلصون. أو مبنيّا على الكسر ، مثل الظرف : «أمس» عند الحجازيين ؛ فى نحو : اعتدل الجوّ أمس.

* * *

(ب) أما غير المتصرف (٣) : فمنه الذى لا يستعمل إلا ظرفا ، ومنه ما يستعمل

__________________

(١) سبق إيضاحه فى مكانه المناسب (ج ١ ص ٢٠٠ م ٢٢ و ٢٠٨ م ٢٣).

(٢) لزيادة الإيضاح نسوق ما قاله الصبان فى هذا الموضع من الجزء الثانى آخر باب الظرف. قال : عن «غدوة وبكرة» ـ ومثلهما : ضحوة ـ ما نصه : «إنهما علمان جنسيان ؛ بمعنى أن الواضع وضعهما علمين جنسيين لهذين الوقتين ؛ أعم من أن يكونا من يوم بعينه ، أو لا. وهذا معنى قولهم : قصد بهما التعيين أو لم يقصد ، كما وضع لفظ : أسامة علما للحقيقة الأسدية ، أعم من أن يقصد به واحد بعينه أو لا. فالتعيين المنفى قصده هو التعيين الشخصى ، لا النوعى ؛ إذ هو لا بد منه. فلا اعتراض بأن عدم قصد التعيين يصيرهما نكرتين منصرفتين. ويؤيد ما ذكرناه قول الدمامينى : كما يقال عند قصد التعميم : أسامة شر السباع ، وعند التعيين هذا أسامة فاحذره ـ يقال عند قصد التعميم غدوة أو بكرة وقت نشاط ، وعند قصد التعيين لأسيرنّ الليلة إلى غدوة أو بكرة قال : وقد يخلوان من العلمية فينصرفان ، ومنه قوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا ،) وحكى الخليل : جئتك اليوم غدوة ، وجئتنى أمس بكرة. والتعيين فى هذا لا يقتضى العلمية حتى يمنع الصرف ؛ لأن التعيين أعم من العلمية ، فلا يلزم من استعمالهما فى يوم معين أن يكونا علمين ؛ لجواز أن يشار بهما إلى معين مع بقائهما على كونهما من أسماء الأجناس النكرات بحسب الوضع ، كما تقول : رأيت رجلا وأنت تريد شخصا معينا ، فيحمل على ما أردته من المعين ، ولا يكون علما» اه. ما نقله الصبان. ثم انظر الكلام عليهما فى ج ١ ص ١١٠ م ٢٢.

(٣) ستجىء له أمثلة أخرى فى «الزيادة والتفصيل» ، ص ٢٥٠ وما بعدها.


ظرفا ، وقد يترك الظرفية ـ ولا يسمى ظرفا ـ إلى شبهها ، وهو الجر بالحرف : «من» ـ غالبا (١) ـ فمثال الذى لا يستعمل إلا ظرفا : «قطّ» (٢) ، و «عوض» (٣) و «بدل» ؛ بمعنى : مكان (مثل : خذ هذا بدل ذاك) ، و «مكان» بمعنى بدل. (أما «مكان» بمعناه الأصلى فظرف متصرف) «وسحر» (٤) ؛ إذا أريد به سحر يوم معين محدد ؛ نحو : أزورك سحر يوم السبت المقبل ؛ وإلا فهو ظرف متصرف ؛ نحو : تمتعت بسحر منعش ؛ فهل يساعفنى سحر مثله؟

ومثال ما يلازم النصب على الظرفية وقد يتركها إلى شبهها : (عند ، ولدن ، وقبل ، وبعد ... و...) مثل : مكثت عندك ساعة ، ثم خرجت من عندك إلى بيتى ـ سأقصد الحدائق لدن الصبح حتى الضحا ، ثم أعود من لدنها ـ ـ حضرت قبل الميعاد ، ولم أحضر بعده. أو : حضرت من قبل الميعاد ، ولم أحضر من بعده (٥).

__________________

(١) قلنا : «غالبا» لأن الظرف : «أين» قد يخرج عن النصب على الظرفية إلى الجر بالحرف : «من» أو : «إلى». وكذلك الظرفان : «ثم» و «هنا» ـ بلغاتهما المختلفة ـ وهما فى الوقت نفسه من أسماء الإشارة ؛ فيخرجان إلى الجر بأحد الحرفين : «من» أو «إلى» (راجع الصبان ج ١ باب اسم الإشارة عند الكلام على : ثمّ ـ وسبق لهذا بيان فى ج ١ باب اسم الإشارة م ٢٥). وكذلك الظرف : «متى» قد يخرج إلى الجر بالحرف : «إلى» أو : حتى.

(٢ ، ٣) سبق الكلام عليهما فى هذا الجزء ص ١١٤ م ٦٨ وملخصه : أن «قط» ظرف زمان لاستغراق الماضى ، ولا يستعمل ـ فى الغالب ـ إلا بعد نفى أو شبهه. والأفصح فى ضبطه : فتح القاف وضم الطاء مع تشديدها ، وفيها لغات أخرى ـ وهو ظرف مبنى على الضم ، مثل : ما خدعت أحدا قط («وقطّ» غير : «فقط» التى سبق الكلام عليها فى رقم ١ من هامش ص ١١٤ ـ وقلنا هناك إن إيضاحها ، وبيان حكمها فى ج ١ م ٣٠ عند بيت ابن مالك فى المعرف «بأل» : «أل» حرف تعريف ... وأنها بمعنى : «حسب» والفاء زائدة لتزيين اللفظ) ...

وعوض : ظرف لاستغراق الزمان المستقبل ، ـ غالبا ـ ولا يكاد يستعمل إلا بعد نفى أو شبهه. وهو مبنى على الضم ، أو الفتح ، أو الكسر ، إن لم يضف. فإن أضيف أعرب ؛ نحو : لن أخادع عوض العائضين.

(٤) الثلث الأخير من الليل.

(٥) لهذه الظروف وملازمتهما النصب على الظرفية أحكام تفصيلية موضع الكلام عليها باب : «الإضافة» ج ٣ ص ١١٤ وما بعدها.

وغر ذى التصرف : الذي لزم ظرفية ،

أو شبهها ـ من الكلم

يريد : أن الظرف غير المتصرف من الكلمات ، هو : الذي لزم الظرفية وحدها ، أو : لزم الظرفية وقد يتركها إلى شبها أحيانا. وفي البيت تقصير في صيافته ، لقوله : وغيرصاحب التصرف. بدل قوله : وغير المتصرف. وكما الحذف في الشطر الأخير حيث الواجب : ظرفية فقط ، أو ظرفية وشبها.


حكم الظرف غير المتصرف :

١ ـ إما معرب ممنوع من الصرف ؛ مثل : سحر ـ عتمة (١) ـ عشية (٢) بشرط أن يقصد بكل واحدة التعيين الدال على وقت خاص ، فتكون علم جنس عليه ؛ لدلالتها على زمن معين محدد دون غيره من الأزمان المبهمة الخالية من التعيين ، نحو : استيقظت ليلة الخميس سحر ـ حضرت يوم الجمعة عشيّة ـ سهرت يوم السبت عتمة.

فإن فقدت هذه العلمية صارت نكرة لا تدل على وقت مخصص من يوم بذاته ، وخرجت من نوع الظرف غير المتصرف ودخلت فى نوع المتصرف المنصرف فتصير مبتدأ ، وخبرا ، وفاعلا و... وغير ذلك ، مع التنوين فى كل حالة ؛ نحو سحر خير من عشيّة ، وربّ عتمة خير من سحر (٣).

٢ ـ وإما معرب مصروف مثل : «بدل» و «مكان» السالفين (٤).

٣ ـ وإما مبنى على السكون أو غيره ، مثل : لدن ، ومذ ، ومنذ (٥) وقطّ ، ... وغيرها (مما سيجىء (٦) فى الزيادة والتفصيل).

٤ ـ جميع الظروف غير المتصرفة لا يصح التصريح قبلها بالحرف : «فى» بخلاف المتصرفة ، وإذا ظهرت «فى» قبل الظرف ـ مطلقا ـ فإنه يصير اسما محضا مجرورا بها ، ولا يصح تسميته ظرف زمان أو ظرف (٧) مكان.

__________________

(١) الثلث الأول من الليل. (وعى ممنوعة من الصرف ، على رأى راجح).

(٢) آخر النهار.

(٣) فتمنع كلمة : «سحر» للعلمية والعدل عن السّحر ؛ لأنها تدل على معين كما تدل عليه الكلمة المقرونة بأل التى للتعريف ؛ فكان حقها التصدير بكلمة «أل» التى للتعريف ، ولكن العرب عدلوا عن هذا ؛ فاجتمع فى الكلمة العلمية والعدل ، وبسبب اجتماعهما تحقق ما يوجب منع الصرف ـ كما يقول النحاة ـ.

وتمنع كلمتا : «عتمة وعشية» للعلمية والتأنيث اللفظى. (وقد يوضح العلمية هنا ما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٢٤٥) ويشترط لمنع الثلاثة من الصرف الخلو من «أل» ومن الإضافة فإن نكرت نونت وتصرفت ؛ كقوله تعالى : (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) وكذلك مع أل أو الإضافة ؛ نحو : سافر الرجل يوم الجمعة السحر منه ، أو فى سحره. (ولهذا الكلام صلة بما سيجىء عنها فى ص ٥١١).

(٤) فى ص ٢٤٦.

(٥) لا يكون «مذ ومنذ» غير متصرفين إلا على الرأى الذى يمنع وقوعهما مبتدأ ، أو شيئا آخر غير الظرفية (كما يجىء فى رقم ٣ هامش ص ٢٥٤).

(٦) فى ص ٢٥٠.

(٧) كما سبق فى ص ٢٤٤ و ١ من ص ٢٣١.


ما ينوب عن الظرف :

(ا) يكثر حذف الظرف الزمانىّ المضاف إلى مصدر ، وإقامة المصدر مقامه (١). فينصب مثله باعتباره نائبا عنه ، وذلك بشرط أن يعيّن المصدر الوقت ويوضحه ، أو يبين مقداره ، وإن لم يعينه ؛ فمثال الأول : أخرج من البيت شروق الشمس ، وأعود إليه غروبها ـ أزوركم فى العام الآتى قدوم الراجعين من الحج. (تريد : أخرج من البيت وقت طلوع الشمس ، وأعود إليه وقت غروبها ـ ووقت قدوم الراجعين). فحذف الظرف الزمانى : «وقت». وقام مقامه المصدر ، وهو : (شروق ـ غروب ـ قدوم ، فأعرب ظرفا بالنيابة).

ومثال الثانى : أمكث عندك كتابة صفحة ؛ (أى : مدة كتابة صفحة) ، وأنتظرك لبس الثياب ، (أى : مدة لبسها) ، وأغيب غمضة عين ، (أى : مدة غمضها).

وقد يحذف الظرف وينوب عنه مصدر مضاف إلى اسم عين (٢) ثم يحذف هذا المصدر المضاف أيضا ، ويحل محله اسم العين. باعتباره نائبا عن النائب عن الظرف الزمانى. ويعرب ظرفا بالإنابة. نحو : لا أكلم السفيه النّيّرين ـ أى : مدة طلوع النيرين ؛ (وهما : الشمس والقمر) : فحذف الظرف الزمانى ؛ وهو «مدة» ، وقام مقامه المصدر المضاف : «طلوع» ، ثم حذف المصدر المضاف وحل محله المضاف إليه ؛ وهو : كلمة : «النيرين». وتعرب ظرفا بالإنابة ـ كما قلنا ـ ومن أمثلتهم : لا أجالس ملحدا الفرقدين (٣) ، ولا أماشيه القارظين (٤) ؛ يريدون : مدة ظهور الفرقدين ، ومدة غياب القارظين.

هذا ، والإنابة فى كل ما سبق قياسية إذا تحقق ما شرحناه.

(ب) أما نيابة المصدر عن ظرف المكان فقليلة حتى قصروها على المسموع دون غيره ـ مثل كلمة : قرب ـ ؛ نحو : جلست قرب المدفأة ، أى : مكان قرب المدفأة. فكلمة : «قرب» مصدر بالنيابة.

__________________

(١) والمصدر قد يقع ـ أحيانا ـ ظرفا دون تقدير مضاف ؛ مثل : أحقا أنك مكافح ، أى : أفى حق ... (وسيجىء فى ه من ص ٢٥٦) ...

(٢) اسم ذات ، أى : شىء حسى مجسم.

(٣) اسم نجمين.

(٤) رجلان خرجا يجمعان القرظ (وهو : ثمر شجر السنط ، ويستخدم فى الدباغة) فلم يعودا.


(ح) وهناك أشياء أخرى غير المصدر تصلح للإنابة ـ قياسا ـ عن الظرف بنوعيه بعد حذفه ، وتعرب ظرفا بالنيابة.

منها : صفته ؛ نحو : صبرت طويلا من الدهر ـ جلست شرقىّ المنزل ؛ أى : صبرت زمنا طويلا ... ـ جلست مجلسا شرقىّ المنزل. أو جلست مكانا شرقىّ المنزل.

ومنها : عدده ؛ بشرط أن يوجد ما يدل على أنه عدده : كالإضافة إلى زمان ، أو مكان نحو : مشيت خمس ساعات قطعت فيها ثلاثة فراسخ.

ومنها كل أو بعض ، وغيرهما مما يدل على الكلية والجزئية ، بشرط الإضافة إلى زمان أو مكان (١) ؛ نحو : نمت كل الليل. وقول الشاعر :

أكلّ الدهر حلّ وارتحال

أما يبقى علىّ ، وما يقينى

ومثل : استمر الحفل بعض الليل ... مشت القافلة كل الأميال ـ أو بعض الأميال(٢) ...

__________________

(١) كما سيجىء فى باب الإضافة ج ٣ ص ٥٨ م ٩٤.

(٢) وفيما سبق يقول ابن مالك :

وقد ينوب عن مكان مصدر

وذاك فى ظرف الزمان يكثر


زيادة وتفصيل :

(ا) الظروف من حيث التصرف وعدمه ، ودرجته ، أربعة أقسام :

قسم يمتنع تصرفه أصلا ؛ مثل : «قطّ» ، «عوض» ـ وقد سبقا ـ ومثل : «بعين» إذا اتصلت بها الألف أو «ما» فصارت : «بينا أو بينما» ، فإنها عندئذ تلازم الظرفية تماما ـ كالتى فى ص ٢٦٠ و ٢٦٧ أيضا ـ

ويلحق بهذا القسم : «عند ، وفوق ، وتحت» (١) وأشباهها مما لا يخرج عن الظرفية إلا إلى الجر بالحرف : «من» ـ غالبا (٢) ـ.

وقسم ثان : يتصرف كثيرا ، كيوم ، شهر ، يمين (٣) ، شمال ، ذات اليمين ، ذات الشمال (٤).

وثالث : متوسط فى تصرفه ؛ وهو : أسماء الجهات (إلا ما سبق حكمه فى القسمين السالفين ؛ من مثل : فوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وذات اليمين ، وذات الشمال ...).

ومن هذا القسم المتوسط : «بين» التى لم يتصل بآخرها : «الألف» أو «ما» فإن اتصلت بها : «الألف» أو : «ما» وصارت : (بينا ـ بينما) ... فهى ممنوعة التصرف ، كما أسلفنا.

ورابع : تصرفه نادر فى السماع ، لا يقاس عليه ، مثل : الآن ، وحيث ، ودون ، التى ليست بمعنى ردىء ـ ووسط ؛ بسكون السين فى الغالب. أما بفتحها فاسم متصرف فى الغالب أيضا. وفى غير الغالب يجوز فى كليهما التسكين والفتح ،

__________________

(١) هناك رأى يقول : «فوق ، وتحت» ـ يتصرفان نادرا. ولا داعى للأخذ به ، وسيجىء فى ص ٢٦٥. الكلام على حالات بنائهما وإعرابهما.

(٢) انظر رقم ١ من هامش ص ٢٤٦.

(٣) كل من الظرفين : «يمين» و «شمال» قد يكون معربا ـ كما فى ص ٢٤٤ ـ ، وقد يكون مبنيا. بالتفصيل الذى فى رقم ٥ من ص ٢٦٥) أما تفصيل الكلام على معناهما وإضافتهما ففى ج ٣ ص ٣٦ م ٩٣.

(٤) بشرط إضافة : «ذات» إلى : «اليمين» أو : «الشمال».

(كما سيأتى فى ص ٢٥٦ من هذا الجزء ، وفى ج ٣ ص ٣٦ م ٩٣ ، هذا ، إلى أن لكلمة : «ذو» و «ذات» أحكاما أخرى فى ج ١ ص ٧٠ م ٨ ، باب : «الأسماء الستة» ، وص ٢٥٤ م ٢٦ باب : «الموصول»).


والأفضل اتباع الغالب ؛ ليقع التفاهم بغير تردد. وقد وضعوا علامة للتمييز المعنوى بين الكلمتين ؛ فقالوا : إن أمكن وضع كلمة : «بين» مكان : «وسط» واستقام المعنى فهى ظرف ؛ نحو : جلست وسط القوم ، أى : بينهم. وفى هذه الحالة يحسن تسكين السين ؛ مراعاة للغالب. وإن لم تصلح كانت اسما ، نحو : احمرّ وسط وجهه. وفى هذه الصورة يحسن تحريك السين بالفتح ، مراعاة للغالب.

(ب) إذا كان الظرف منصوب اللفظ أو المحل على الظرفية ، وجب ـ عند الأكثرين ـ أن يكون متعلقا بالعامل الذى عمل فيه النصب (١) ، وهذا العامل يكون ـ فى الغالب ـ فعلا (٢) ، أو مصدرا ، أو شيئا يعمل عمل الفعل (٣) كالوصف ؛ نحو : سافرت يوم الجمعة فوق درّاجة بخارية. أو : أنا مسافر يوم الجمعة فوق درّاجة بخارية ... فالظرفان «يوم» و «فوق» متعلقان بعاملهما «سافر» أو : «مسافر» ... و... ومعنى أنهما متعلقان به : مرتبطان ومستمسكان به ، كأنهما جزءان منه لا يظهر معناهما إلا بالتعلق به. فاستمساكهما بالعامل كاستمساك الجزء بأصله ، ثم هما فى الوقت نفسه يكملان معناه.

بيان هذا أن العامل يؤدى معناه فى جملته ، ولكن هذا المعنى لا يتم ولا يكمل إلا بالظرف الذى هو جزء متمم ومكمل له ؛ ففى مثل : جلس المريض ... قد نحس فى المعنى نقصا يتمثل فى الأسئلة التى تدور فى النفس عند سماع هذه الألفاظ ؛ ومن الأسئلة : أين جلس؟ أكان فوق السرير ، أم أمامه ، أوراء

__________________

(١) سبق (فى رقم ٢ من هامش ص ٢٣٢ ثم فى ص ٢٣٦ م ٧٨) كلام هام يتصل بهذا الموضوع ، ويتممه ؛ من ناحية التعلق بحروف المعانى ، والحكمة فى وجوب التعلق. وسيجىء فى ص ٤١٣ باب حروف الجر عند الكلام على (شبه الجملة م ٨٩) ما يزيده توفية واكتمالا.

(٢) والرأى الشائع القوى أن شبه الجملة بنوعيه (وهما الظرف ، وحرف الجر الأصلى مع مجروره) لا يجوز أن يتقدم على عامله الفعل المؤكد بالنون ـ طبقا للبيان الذى سبق فى رقم ١ من هامش ص ١٠٠.

(٣) وقد يكون تعلقهما بعامل معنوى ، ـ إذا لم يوجد عامل آخر يصح التعلق به ـ وهذا العامل المعنوى هو : الإسناد (أى : النسبة) على الوجه المشروح فى آخر هامش ص ٣٣١ ورقم ٢ من ص ٤٠٩ أما تعلقه بأحرف المعانى فقد سبق بيانه فى رقم ٢ من هامش ص ٢٣٢ م ٧٨.


النافذة ، ... أيمين الداخل ... أم شمال الخارج ...؟ متى جلس؟ أصباحا ، أم ظهرا ، أم مساء ...؟ وهكذا ... فإذا جاء الظرف الزمانى أو المكانى فقد أقبل ومعه جزء من الفائدة ينضم إلى الفائدة المتحققة من العامل ؛ فيزداد المعنى العام اكتمالا بقدر الزيادة التى جلبها معه ؛ فمجيئه إنما هو لسبب معين ، ولتحقيق غاية مقصودة دعت إلى استحضاره ، هى عرض معناه ، مع تكملة معنى عامله. فلهذا وجب أن يتعلق به.

والاهتداء إلى هذا العامل قد يحتاج فى كثير من الأحيان إلى فطنة ويقظة ، ولا سيما إذا تعددت فى الجملة الواحدة الأفعال أو ما يعمل عملها ؛ حيث يتطلب استخلاص العامل الحقيقى من بينها أناة وتفهما ؛ خذ مثلا لذلك : أسرعت الطائرة التى تخيرتها بين السحب ... فقد يتسرع من لا دراية له فيجعل الظرف «بين» متعلقا بالفعل القريب منه ، وهو الفعل : «تخير» فيفسد المعنى ؛ إذ يصير الكلام : تخيرت الطيارة بين السحب ، إنما الصحيح : أسرعت بين السحب ، وهذا يقتضى أن يكون الظرف متعلقا بالفعل «أسرع» ، فيزداد معناه ، ويكمل بعض نقصه ، كما لو قلنا : تخيرت الطيارة فأسرعت بين السحب.

مثال آخر : قاس الطبيب حرارة المريض ، وكتبها تحت لسانه ، فلا يصح أن يكون الظرف «تحت» متعلقا بالفعل «كتب» ؛ لئلا يؤدى التعلق إلى أن الكتابة كانت تحت اللسان ؛ وهذا معنى فاسد لا يقع. أما إذا تعلق الظرف «تحت» بالفعل : «قاس» فإن المعنى يستقيم ، وتزداد به الفائدة ، أى : قاس الطبيب حرارة المريض تحت لسانه. فالقياس تحت اللسان. وهكذا يجب الالتفات لسلامة المعنى وحدها دون اعتبار لقرب العامل أو بعده من الظرف.

(ح) الزمان أربعة أقسام (١) :

أولها : المعيّن (٢) المعدود (٣) معا ، مثل رمضان ـ المحرّم (من غير أن يذكر قبلهما كلمة : شهر) ـ الصيف ـ الشتاء. وهذا القسم يصلح جوابا

__________________

(١) من ناحية استغراق المعنى. (راجع الهمع ج ١ ص ١٩٧ والصبان ج ٢ ص ٩٥ وبينهما اضطراب ظاهر تداركناه بمعونة مراجع أخرى).

(٢) أى : المعين بالعلمية.

(٣) الدال بلفظه على عدد محدود.


لأداتى الاستفهام : «كم ـ ومتى» ، نحو : كم شهرا صمت؟ متى رجعت من سفرك؟ والجواب : صمت رمضان ـ رجعت الصيف ...

ثانيا : غير المعيّن وغير المعدود ؛ فلا يصلح جوابا لواحد منهما ؛ مثل : حين ـ وقت.

ثالثها : المعيّن غير المعدود ؛ فيقع جوابا لأداة الاستفهام : «متى» فقط ؛ نحو : يوم الخميس ، وكلمة : «شهر» المضاف إلى اسم بعده من أسماء الشهور ، مثل : شهر صفر ـ شهر رجب ... وذلك جوابا فيهما عن قول القائل : متى حضرت؟ متى تغيبت؟

رابعها : المعدود غير المعين ؛ فيقع جوابا لأداة الاستفهام : «كم» فقط ، نحو : يومين ، ثلاثة أيام ، أسبوع ـ شهر ـ حول.

١ ـ فالذى يصلح جوابا للأداتين : «كم» ، و «متى» (وهو القسم الأول) ، أو يصلح جوابا للأداة : «كم» (وهو القسم الرابع) يستغرقه الحدث (المعنى) الذى تضمنه ناصبه ـ سواء أكان الجواب نكرة أم معرفة ـ بشرط ألا يوجد ما يدل على أن الحدث مختص ببعض أجزاء ذلك الزمان. فإذا قيل : كم سرت؟ فأجبت : «شهرا» ، وجب أن يقع السير فى جميع الشهر كله ، ليله ونهاره ـ إلا إن قامت قرينة تدل على أن المقصود المبالغة والتجوز ـ وكذا إن كان الجواب : المحرم ، مثلا. وكذا يقال فى الأبد والدهر ، مقرونين بكلمة : «أل» فالحدث الواقع من ناصبهما يستغرقهما ليلا ونهارا (١).

فإن كان حدث الناصب (أى : معناه) مختصّا ببعض أجزاء الزمان. استغرق بعضها الذى يختص به ، وانصب عليه وحده دون غيره من الأجزاء الأخرى. فإذا قيل : كم صمت؟ فكان الجواب : «شهرا» ، انصبّ الصوم على الأيام دون الليالى ، لأن الصوم لا يكون إلا نهارا. وإذا قيل : كم سريت؟ فكان الجواب : «شهرا» ـ انصب السّرى على الليالى دون الأيام ، لأن السرى لا يكون

__________________

(١) أما كلمة ؛ «أبدا» بغير «أل» فلاستغراق الزمن المستقبل وحده ؛ فإذا قلت : صام الرجل الأبد ، كان معناه : صام كل زمن من أزمنة عمره ، القابلة للصوم ـ عادة ـ إلى حين وفاته. ولا تقول صام أبدا ؛ وإنما تقول : لأصومن أبدا.


إلا ليلا. وكذا يقال : فى الليل والنهار معرفين ، فالحدث الواقع على كل منهما مقصور على زمنه الخاص.

٢ ـ وغير ما سبق يجوز فيه التعميم والتبعيض ؛ كيوم ، وليلة ، وأسماء أيام الأسبوع ، وأسماء الشهور ؛ بشرط أن يذكر قبلها المضاف وهو كلمة : شهر ؛ كشهر رمضان ـ شهر المحرم.

وهناك رأى آخر من عدة آراء فى هذا البحث ؛ هو : أن ما صلح جوابا لأداة الاستفهام : «كم» أو : «متى» يكون الحدث (المعنى) فى جميعه تعميما أو تقسيطا ، فإذا قلت : سرت يومين ؛ فالسير واقع فى كل منهما من أوله إلى آخره ، وقد يكون فى كل واحد من اليومين ، وإن لم يشمل اليوم كله من أوله إلى آخره. ولا يجوز أن يكون فى أحدهما فقط. ومن التعميم : صمت ثلاثة أيام ، ومن التقسيط أذّنت ثلاثة أيام ، ومن الصالح لهما : تهجدت ثلاث ليال.

وعلى كل فهذه ـ كما قالوا ـ ضوابط تقريبية. والقول الفصل للقرائن الحاسمة ، ولا سيما العرف الشائع ؛ فتلك القرائن هى التى توضح أن المراد التعميم أو التبعيض.

(د) قلنا (١) إن الظرف غير المتصرف إما معرب منصرف ، وإما معرب غير منصرف ، وإما مبنى ، وقد تقدمت الأمثلة. وهو فى حالاته الثلاث لا يجوز أن تسبقه «فى» (٢). فالمبنى قد يكون مبنيّا على السكون مثل : مذ (٣) ، ولدن ... أو على الضم مثل : منذ (٤) ، أو على فتح الجزأين ؛ مثل ظروف الزمان أو المكان المركبة ؛ (نحو : صباح مساء ـ يوم يوم ـ صباح صباح. والمعنى : كلّ صباح ومساء «أى : كل صباح ، وكل مساء» ـ وكلّ يوم ـ وكلّ صباح). (ومثل : بين بين وستأتى) (٥).

فإن فقدت التركيب ، أو أضيف أحد الجزأين للآخر ، أو عطف عليه ـ امتنع البناء ، ووجب إعرابها وتصرفها ... لكن أيبقى المعنى فى الجميع مع فقد التركيب ،

__________________

(١) فى ٢٤٧ م ٧٩.

(٢) كما سبق فى رقم ٤ من هامش ص ٢٢٩ وفى رقم ٤ من ص ٢٤٧.

(٣ و ٣) لا يكون «مذ ومنذ» غير متصرفين إلا فى الرأى الذى يقصرهما على الظرفية وحدها ، ويمنع وقوعهما مبتدأ ، (كما سبق فى رقم ٥ من هامش ص ٢٤٧).

(٤) فى ص ٢٥٥ و ٢٦٠ و ٢٦٧.


بسبب وجود العطف ، أو الإضافة كما كان مع التركيب أم يختلف؟

اتفقوا على أنه باق فى الجميع ، إلا صباح مساء عند الإضافة ، مثل : أنت تزورنا صباح مساء ، ففريق يرى أنها كغيرها من الظروف المركبة التى تتخلى عن التركيب وتضاف ، فيظل المعنى الأول باقيا بعد الإضافة (وهو هنا : كل صباح وكل مساء) ، وفريق يرى أن المعنى مع الإضافة يختلف ؛ فيقتصر على الصباح وحده كما فى المثال السالف ، حيث تقتصر الزيارة فيه على الصباح فقط ؛ اعتمادا على أن المعنى منصب على المضاف ، (وهو الصباح). أما المضاف إليه فهو مجرد قيد له ؛ أى : صباحا لمساء.

والحق أن الأمرين محتملان فى المثال ، إلا عند جود قرينة تحتم هذا وحده ، أو ذاك ، فوجودها ضرورىّ لمنع هذا الاحتمال.

ومن الظروف المركبة المبنية على فتح الجزأين والتى لا تتصرف : «بين بين» (١) بمعنى : التوسط بين شيئين ، مثل : درجة حرارة الجو أو الماء : بين بين ، أى : متوسطة بين المرتفعة والمنخفضة. ـ ثروة فلان بين بين ، أى : بين الكثيرة القليلة ... فإن فقد الظرف : «بين» التركيب جاز أن يكون معربا متصرفا ومنه قوله تعالى : (... مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ،) وقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) فى قراءة من قرأه مرفوعا ، أمّا من قرأه بالنصب بدل الرفع فقد جرى على أغلب أحواله (٢) ومثله الظرف : «دون» فى قوله تعالى : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ.)

ومن الظروف غير المتصرفة (٣) : «ذا» ، و «ذات» ، بشرط إضافتهما إلى الزمان دن غيره ، فيلتزمان النصب على الظرفية الزمانية فلا يجوز جرّهما ب «فى» ولا وقوعهما فى موقع إعرابىّ آخر ، إلا على لغة ضعيفة لقبيلة «خثعم» تبيح فيهما التصرف. وقد رفضها جمهرة النحاة (٤) ؛ نحو : قابلت الأخ ذا صباح ، أو ذا مساء ، أو ذات يوم ، أو ذات ليلة ، أى : وقتا ذا صباح ، ووقتا ذا

__________________

(١) ستجىء إشارة إليها فى ص ٢٦٠ بمناسبة الكلام على : «إذا» كما سيجىء بعض أحكامها الهامة فى ص ٢٦٧.

(٢) يجوز إعرابه ظرفا منصوبا مباشرة ، والفاعل محذوف ، ويجوز اعتباره اسما مبنيا على الفتح فى محل رفع فاعل ... وهناك إعرابات أخرى ... وانظر كلاما يختص به فى ص ٢٦٠ و ٢٦٧.

(٣) لهذه الظروف أمثلة أيضا فى ص ٢٤٦ و ٢٥٠ م ٧٩.

(٤) راجع الهمع ج ١ ص ١٩٧.


مساء ، ومدة ذات يوم ، ومدة ذات ليلة ، أى : وقتا صاحبا لهذا الاسم ، ومدة صاحبة لهذا الاسم (١).

قد تضاف «ذات». إلى كلمة : «اليمين» أو : «الشمال» ـ وهما من الظروف المكانية كما سبق (٢) ـ فتصير ظرف مكان متصرفا ؛ نحو : تتحرك الشجرة ذات اليمين وذات الشمال ، نحو : دارك ذات اليمين والحدائق ذات الشمال. (وقد سبقت الإشارة إلى «ذا» و «ذات» من ناحية إفرادهما وجمعهما فى الجزء الأول ، باب الأسماء الستة م ٨ ص ٦٩٩ وفى آخر هامش ص ٣٢١ منه إشارة إلى استعمال : «ذات» استعمال الأسماء المحضة المستقلة ، وأن النسب إليها هو : «ذووى ، أو ذاتى» طبقا للبيان التفصلى فى باب النسب ج ٤ م ١٧٨ وص ٥٥٤)

ومن غير المتصرف أيضا : حوال ـ حوالى ـ حول ـ حولى ... ـ أحوال ـ أحوالى ... وليس المراد ـ فى الغالب ـ حقيقة التثنية والجمع وإنما المراد المعنى المفهوم من الكلمة المفردة ، وهو : الإحاطة والالتفاف ـ وقد يستعمل «حواليك» مصدرا : مثل : لبّيك (٣) ؛ لأن الحول ، والحوال يكونان بمعنى «جانب الشىء المحيط به» كما يكونان بمعنى : «القوة».

ومن الظروف التى لا تتصرف «شطر» بمعنى : ناحية أو جهة ؛ كقوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ،) ومنها : زنة الجبل ، أى : إزاءه ، ومثله : وزن الجبل أى : الناحية التى تقابله ؛ سواء أكانت قريبة أم بعيدة.

ومنها ـ فى رأى ـ : صددك وصقبك ، تقول : بيتى صدد بيتك ، بنصبه على الظرفية ؛ أى : قربه وقبالته ، وبيتى صقب بيتك ، أى : قربه كذلك ، والصحيح أن هذين الظرفين يتصرفان ؛ فيستعملان اسمين.

(ه) هناك ألفاظ مسموعة بالنصب ، جرت مجرى ظرف الزمان والمكان ،

__________________

(١) سبقت الإشارة لهذه الظروف فى ص ٢٥٠ أما إيضاح معناها وحكم إضافتها مفصلة فيجىء فى ج ٣ ص ٣٦ م ٩٣.

(٢) فى ص ٢٥٠.

(٣) سبق الكلام عليه فى ص ٢٢٠ م ٧٦.


وكانت مجرورة بحرف الجر : «فى» فأسقطوه توسعا ، ونصبوها على اعتبارها متضمنة معناه. فمن أمثلة الزمان كلمة «حقّا» فى مثل : أحقّا أنك مسرور؟ فحقّا ظرف زمان منصوب خبر مقدم ، والمصدر المؤول بعده مبتدأ والأصل : أفى حق سرورك (١)؟ وقد نطقوا بالحرف «فى» احيانا فقالوا :

«أفى حقّ مواساتى أخاكم ...» وقالوا : «أفى الحق أنى مغرم بك هائم ...» وهذا الاستشهاد قد يصلح دليلا على أن كلمة : «حقّا» السالفة ظرف زمان .. ومثلها : غير شك أنك مسرور ، أو : جهد رأيى أنك محسن ، أو : ظنّا منى أنك أديب فغير ، وجهد ، وظنّا ـ كلمات منصوبة هنا على الظرفية الزمانية (٢) توسعا بإسقاط حرف الجر : «فى» والأصل : فى غير شك ـ فى جهد رأيى ـ فى ظنى ـ والظرف فيها جميعا خير مقدم والمصدر المؤول بعده مبتدأ مؤخر. ومن أمثلة ظروف المكان السماعية : مطرنا السّهل والجبل ، وضربت الجاسوس الظّهر والبطن. وإنما كانت هذه الظروف سماعية مقصورة عليه لأنها لا تدخل فى أنواع الظروف المكانية القياسية.

(و) قد ينزل بعض الظروف منزلة الشرط ؛ فيحتاج لجملة بعدها جملة أخرى بمثابة الجواب ، وقد تقترن بالفاء كقوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ ..) وعلى هذا قول ابن مالك فى حكم «خلا وعدا» ، فى باب «الاستثناء» :

(وحيث جرّا فهما حرفان ...) (٣).

(ز) هل يجوز عطف الزمان على المكان وعكسه؟ سيجىء الجواب فى مكانه

__________________

(١) والظرفية هنا زمانية مجازية. ـ كما فى الخضرى والتصريح آخر باب : «الظرف» وقد سبق الكلام عليه مفصلا فى ج ١ ص ٤٨٧ م ٥١ عند الكلام على فتح همزة «أن». وسبقت الإشارة إليه فى رقم ١ هامش ص ٢٤٨.

(٢) والمعنى : سرورك حاصل فى زمن لا شك فى وقوع السرور فيه ، وإحسانك متحقق فى زمن سجلت فيه هذا قدر جهدى واستطاعتى ، وأدبك حاصل فى زمن أظن وقوعه فيه.

(٣) راجع الصبان والخضرى عند شرح البيت. ويجىء الإيضاح فى هامش ص ٣٣١ وانظر الكلام على الظرف «بين» فى ص ٢٦٧ وما يليها من رقم ٣ هامش ص ٢٦٨) وهامشها لصلته لموضوع.


الأنسب ، من باب العطف آخر الجزء الثالث (١).

(ح) الظروف الزمانية والمكانية متعددة الأنواع ، والأحكام ، جديرة أن تستقل برسالة توفيها حقها من البسط ، والإيضاح ، والتهذيب ، وجمع شتاتها المتناثر فى المطولات ، والمراجع الكبيرة ، واستصفاء ما يجدر الأخذ به ، واستبعاد ما يغشيه مما لا يناسب. وتحقيق هذا كله غرض جليل هام يقتضى بحثا مستقلّا ؛ لا تزحمه البحوث الأخرى ؛ فتضغطه ، أو تطغى عليه.

على أن هذا لا يحول دون استخلاص موجز ، مركّز ، دقيق ؛ قد يفيد القانع ، أو يسعف المضطر ، ولكنه لا يغنى المستقصى ، الذى لن يرضى بغير التوفية بديلا. ومثل هذا لا يجد طلبته إلا فى بطون المراجع الواسعة ؛ كالمغنى ، وشرح المفصل ، والجزء الأول من همع الهوامع : للسيوطى ؛ فقد ـ حوى أو كاد ـ من شأن «الظرف» بنوعيه ـ ولا سيما الظرف المبنى ـ ما لم يهيأ لسواه ، وجمع فى فصل : «الظروف المبنية» ما وصفه صادقا بقوله (٢) : «إنى أوردت ما لم أسبق إلى جمعه واستيفائه من مبنىّ ظروف الزمان والمكان ، مرتبا على حروف المعجم ...».

وفيما يلى الموجز :

الذى استخلصناه من تلك المراجع ، ورتبناه على حسب الحروف الهجائية ، مع ترك ما سبق الكلام عليه (٣).

١ ـ إذ (٤) ـ ظرف للزمن الماضى فى أكثر استعمالاتها ، وقد تكون للمستقبل بقرينة (٥) ، وهى مبنية على السكون ، غير متصرفة (٦) فى الأغلب ـ وتكون أحيانا

__________________

(١) ج ٣ م ١٢٢ ص ٥٢٤ وقد عرض الصبان لهذا البحث فى آخر باب الظرف من الجزء الثانى من حاشيته على الأشمونى.

(٢) فى ص ٢٠٤.

(٣) مما يمكن الاكتفاء به.

(٤) سيجىء الكلام على «إذ» و «إذا» بمناسبة أخرى فى ج ٣ باب : «الإضافة» ص ٦٣ ، ٧٠ ، و ٧٢ م ٩٤ ويجىء كلام آخر مفيد على «إذا» فى ج ٤ باب : «عوامل الجزم» ، ص ٣٣٣ م ٥٦

(٥) بيان هذا فى رقم ٦ الآتى.

(٦) جاء فى المغنى ـ ج ١ ـ عند الكلام عليها ما يفيد أنها متصرفة ؛ حيث يقول فى الوجه الثانى من أوجه استعمالها ما نصه : (أن تكون مفعولا به ، نحو قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ.) والغالب على المذكورة فى أوائل القصص فى التنزيل أن تكون مفعولا به بتقدير : «اذكر» ؛ نحو قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ... ـ) وقوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ ...) ـ وقوله : (وَإِذْ فَرَقْنا ـ


مضافا إليه ، والمضاف اسم زمان ؛ نحو : حينئذ ـ يومئذ ... فتتحرك «الذال» بالكسر عند التنوين. وإذا كانت ظرفا التزمت الإضافة إلى جملة (١) ؛ إمّا اسمية ليس عجزها فعلا ماضيا ، نحو قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ...) وقوله تعالى : (... إِذْ هُما فِي الْغارِ) وإما فعلية نحو : جئتك إذ دعوتنى. ويشترط فى الجملة الفعلية أن تكون ماضوية لفظا ومعنى أو معنى فقط ـ كأن يكون فعلها مضارعا قصد به حكاية الحال الماضية ـ وألا تكون شرطية ، ولا مشتملة على ضمير يعود على المضاف ؛ فلا يصح : أتذكر اذ إن تأتنا نكرمك ..

__________________

ـ بِكُمُ الْبَحْرَ ...) وبعض المعربين يقول فى ذلك إنه ظرف للفعل : «اذكر» محذوفا ـ وليس مفعولا به ـ وهذا وهم فاحش لاقتضائه حينئذ الأمر بالذكر فى ذلك الوقت ، مع أن الأمر للاستقبال ، وذلك الوقت قد مضى قبل تعلق الخطاب بالمكلفين منا ، وإنما المراد ذكر الوقت نفسه ـ أى : تذكره ـ لا الذكر فيه) اه. كلام المغنى.

وقال صاحب الهمع (ج ١ ص ٢٠٤) فى دلالتها الزمنية ، وفى تصرفها. ما نصه : (أصل وضعها أن تكون ظرفا للوقت الماضى. وهل تقع للاستقبال؟ قال الجمهور : لا. وقال جماعة منهم ابن مالك : نعم. واستدلوا بقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) والجمهور جعلوا الآية ونحوها من باب قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) أى : من تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة ما قد وقع. قال ابن هشام : ويحتج لغيرهم ـ أى : لغير الجمهور ـ بقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ؛ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ... ؛) فإن : «يعلمون» مستقبل لفظا ومعنى : لدخول حرف «التنفيس» عليه ، وقد عمل فى «إذ» فيلزم أن يكون بمنزلة «إذا» لأن «إذا» للمستقبل.

وتلزم «إذ» الظرفية ؛ فلا تتصرف بأن تكون فاعلة أو مبتدأة ... إلا أن يضاف اسم الزمان إليها : نحو : «حينئذ» ـ «يومئذ» ... وجوز الأخفش ، والزجاج ، وابن مالك وقوعها مفعولا به ، نحو قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً ...) وبدلا منه ؛ نحو : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ ...). والجمهور لا يثبتون ذلك ، ووافقهم أبو حيان ، قال :

«لأنه لا يوجد فى كلام العرب : «أحببت إذ قدم زيد ، ولا كرهت إذ قدم». وإنما ذكروا ذلك مع الفعل : «اذكر» لما اعتاص ـ أى : التوى ، وصعب ـ عليهم ما ورد من ذلك فى القرآن. وتخريجه مهل ، وهو أن تكون «إذ» معمولة لمحذوف يدل عليه المعنى. أى : اذكروا حالتكم ، أو : قضيتكم ، أو أمركم ... وقد جاء بعض ذلك مصرحا به ؛ قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ...) «فإذ» ظرف معمول لقوله : «نعمة الله». وهذا أولى من إثبات حكم كل بمحتمل ، بل بمرجوح». اه. كلام أبو حيان)» اه. ما دوّنه الهمع.

(١) وفى هذه الحالة يشترط فى «إذ» الظرفية المحضة ألا تكون مختومة بما الزائدة ـ نص على هذا المبرد فى كتابه المقتضب ، ج ٢ ص ٥٤ ـ.


وقد يحذف شطر الجملة الاسمية أحيانا مع ملاحظة وجوده ؛ كقول الشاعر :

هل ترجعنّ ليال قد مضين لنا

والعيش منقلب إذ ذاك أفنانا

والتقدير عندهم : العيش منقلب أفنانا إذ ذاك كذلك ، لأنها لا تضاف ـ فى الأغلب ـ (١) إلى مفرد (٢). ومثله قول الآخر :

كانت منازل ألّاف عهدتهمو

إذ نحن إذ ذاك دون الناس إخوانا

أى : إذ ذاك كذلك.

وقد تحذف الجملة التى تضاف إليها ، ويعوض عنها التنوين (٣) ؛ نحو : أقبل الغائب وكنتم حينئذ مجتمعين ، أى : حين إذ أقبل ...

وقد تزاد للتعليل ؛ كقوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ؛) أى : لأجل ظلمكم فى الدنيا ... وهى حرف بمنزلة لام التعليل ... وقيل : ظرف ، والتعليل مستفاد من قوة الكلام ، لا من اللفظ ؛ وقد تكون حرفا للمفاجأة ، أو زائدة لتأكيد معنى الجملة كلها ؛ وذلك بعد كلمة : «بين» (٤) المختومة «بالألف» الزائدة ، أو «ما» الزائدة ؛ نحو : بينا نحن جلوس إذ أقبل صديق ... ومثل : فبينما العسر إذ دارت مياسير (٥).

هذا ، واستعمال «إذ» قياسىّ فى جميع الصور ، والحالات المختلفة التى سردناها فى الكلام عليها.

٢ ـ إذا ـ الصحيح أنها اسم ؛ بدليل وقوعها خبرا مع مباشرتها الفعل ؛ نحو : الهناء إذا تسود المحبة الأهل ، ووقوعها بدلا من الاسم الصريح ، نحو : المقابلة غدا إذا تطلع الشمس.

__________________

(١) راجع الخضرى والصبان (باب : «إن» ـ مواضع كسر الهمزة وجوبا ، وهل منها : «حيث»؟)

(٢) قد يبدو هذا التقدير غريبا ، ولكن تزول غرابته ـ كما يجىء فى ج ٣ ص ٦٥ م ٩٤ ـ بأمثلة أخرى توضحه وتؤيده. كأن نقول : المنافق منقلب أحوالا إذ هذا ـ المنافقان منقلبان أحوالا إذ هذان ـ المنافقون منقلبون أحوالا إذ هؤلاء. ففى كل هذه التراكيب وأشباهها ـ وما أكثرها ـ لا يتم المعنى إلا بالتقدير السالف.

(٣) كما سبق فى ج ١ ص ٢٦ م ٣.

(٤) لها بيان فى ص ٢٦٧ وما يليها.

(٥) ولا يشترط فيها غير هذا ، بخلاف «إذا» الفجائية التى سيجىء الكلام عليها فى ص ٢٦٣.


(ا) وهى ظرف للمستقبل فى أكثر استعمالاتها ، وتكون للماضى بقرينة ؛ نحو قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ...) لأن الآية نزلت بعد انفضاضهم.

وقد تكون للحال بعد القسم ؛ نحو قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) لأن الليل والغشيان مقترنان. وهل «إذا» فى الآية متعلقة بفعل القسم وفعل القسم للحال (١)؟

ومثل قوله تعالى تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ؛ ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ....)

(ب) والغالب فى استعمالها أن تتضمن مع الظرفية معنى الشرط بغير أن تجزم إلا فى ضرورة الشعر ، وتحتاج بعدها إلى جملتين ، الأولى تحتوى على فعل الشرط ، والثانية هى الجواب. نحو قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ـ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ....)

وقد تتجرد للظرفية المحضة الخالية من الشرط (٢) ؛ كقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ...،) وقوله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ...،) وقوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(٣). وقد

__________________

(١) هذا رأى فريق من النحاة. ولم يوافق عليه آخرون ؛ لما يلزم عليه من أن يكون القسم فى وقت غشيان الليل ، وأنهما يحصلان معا فى زمن واحد. وارتضى هؤلاء أن تكون «إذا» ظرفا متعلقا بمضاف يدل عليه القسم ؛ إذ لا يقسم بشىء إلا لعظمته. والتقدير : وعظمة الليل إذا يغشى. (راجع الصبان ، ج ٢. باب الإضافة عند الكلام على «إذا»).

(٢) جمهزة النحاة فى هذه الحالة توجب نصبها على الظرفية دون غيرها ، فلا تكون فاعلا ولا مفعولا به ، ولا غيرهما. أما قوله عليه السّلام لعائشة : «إنى لأعلم إذا كنت عنى راضية ...» فيؤولونه بأن المراد : إنى لأعلم شأنك إذا كنت عنى راضية ، ولا يوافقون على أن تكون مفعولا به ، لئلا يفسد المعنى إذ المراد ليس العلم بالزمن ، وإنما المراد العلم بالحال والشأن.

وهذا صحيح فى الحديث السالف أما فى غيره فقد يكون المراد وقوع الأثر على الزمن نفسه وعندئذ لا يمنع مانع من أن تكون «إذا» مفعولا به ، نزولا على ما يقتضيه المعنى.

(٣) لو كانت «إذا» فى الآية شرطية لاشتمل جوابها (هم يغفرون) على الفاء الرابطة أو ما ينوب عنها فى الربط ، لأن هذا الجواب جملة اسمية تحتاج للرابط ، ولا داعى للتمحل بأن الرابط قد يحذف أحيانا.

(انظر ج ٤ ص ٣٣٣ م ١٥٦ لأهميته).


اجتمع النوعان ـ الظرفية المحضة ، والظرفية الشرطية مع حذف فعل الشرط ـ فى قول الشاعر :

إذا أنت لم تترك أخاك وزلّة (١)

 ـ إذا زلّها ـ أوشكتما (٢) أن تفرّقا (٣)

وإذا كانت للشرط فإنها لا تدل على التكرار ؛ ففى مثل إذا خرجت أخرج معك. يتحقق المراد بالخروج مرة واحدة. وهى أيضا لا تفيد الشمول والتعميم ـ فى الرأى الشائع ـ فلو حلف رجل على أن يتصدق بمائة ـ مثلا ـ إذا رجع ابن من أبنائه الغائبين ؛ فرجع ثلاثة ، لم يجب عليه إلا مائة ، وتسقط عنه اليمين بعدها.

وتستعمل «إذا» الظرفية الشرطية فى التعليق إذا كان الشرط محقق الوقوع (٤) ، نحو : إذا أقبل الشتاء أقيم عندكم ، أو مرجّح الوقوع ، نحو : إذا دعوتمونى أيها الإخوان أحضر.

(ح) «وإذا» الظرفية الشرطية تضاف دائما إلى جملة فعلية خبرية ، غير مشتملة على ضمير يعود على المضاف ، والأكثر أن تكون ماضوية. وقد اجتمع النوعان فى قول الشاعر :

والنفس راغبة إذا رغّبتها

وإذا تردّ إلى قليل تقنع

والماضى فى شرطها أو جوابها مستقبل الزمن (٥) ؛ فإن وليها اسم مرفوع بعده فعل

__________________

(١) هفوة.

(٢) اقتربتما.

(٣) الأصل : تتفرقا. حذفت إحدى التاءين تخفيفا.

(٤) وهى بهذا تختلف عن «إن» الشرطية وأخواتها ؛ مما يكثر فى الأمر المحتمل ، أو المشكوك فى تحقيقه. وقد تدخل على المستحيل ، كقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ...) وقد تدخل على الأمر المحقق إن كان غير متيقن الزمان : كقوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟) فالموت محقق ، ولكن زمنه مبهم. (وفى الجزء الرابع ص ٣٢٧ م ١٥٥ وص ٣٣٣ م ١٥٦. ـ باب الجوازم ـ البيان الشامل لهذه الأدوات كلها).

(٥) سواء أكان ماضى اللفظ والمعنى معا ، (وهو الماضى الحقيقى بصيغته وزمنه) أم كان ماضيا معنى وحكما دون لفظ ، وهو المضارع المسبوق بحرف الجزم : «لم» فإن هذا الحرف الجازم يقلب ـ فى الغالب ـ زمنه للمضى ـ كما هو موضح فى باب «الجوازم» ـ ج ٤ ـ فإذا وقع الماضى الحقيقى ، أو المعنوى (وهو المضارع المسبوق بالحرف «لم») فعل شرط للأداة : «إذا» الشرطية ، أو لأداة جازمة تخلص زمنه للمستقبل : المحض ؛ كقول الشاعر :

إنّ السماء إذا لم تبك مقلتها

لم تضحك الأرض عن دان من الثمر


فالاسم ـ فى الغالب ـ فاعل لفعل محذوف (١) مثل : (إذا السماء انشقت ...) وحين تقع شرطية ظرفية تكون مضافة إلى الجملة الشرطية المكونة من فعل الشرط ومرفوعه ، ومنصوبة بما يكون فى جملة الجواب من فعل أو شبهه (٢).

(د) وقد تكون «إذا» للمفاجأة (٣) ـ والأحسن فى هذه الحالة اعتبارها حرفا (٤) ـ ؛ فتدخل وجوبا ؛ إما على الجمل الاسمية ، نحو : اشتدت الريح ، فإذا البحر هائج ، وإما على الجمل الفعلية المقرونة بقد ، لأن «قد» تقرب زمن الفعل من الحال ـ نحو : اشتدت الرياح ؛ فإذا قد لجأت السفن إلى الموانى ـ يضطرب البحر فإذا قد يتألم ركاب البواخر. كما يجب فى كل حالاتها أن يسبقها كلام قبلها تقع عليه المفاجأة ، وأن تكون المفاجأة فى الزمن الحالىّ (٥) حتما ـ لا المستقبل ، ولا الماضى ـ وأن تقترن بها الفاء الزائدة للتوكيد (٦). وأن تخلو من جواب بعدها. وقد تليها الباء الزائدة التى تدخل سماعا فى مواضع ؛ منها بعض أنواع معينة من المبتدأ ، كالمبتدأ الذى بعدها ، نحو نظرت فإذا بالطيور مهاجرة (٧).

٣ ـ الآن ـ وهو اسم للوقت الحاضر جميعه ، وهو الوقت الذى يستغرقه نطق

__________________

(١) أو نائب فاعل أحيانا ـ ولهذا الرأى توضيح واف سبق فى باب الاشتغال من هذا الجزء ص ١٣٩ وما بعدهما.

(٢) ولا يمنع من هذا العمل أن يكون الجواب مشتملا ـ أحيانا ـ على الفاء الرابطة ، أو ما ينوب عنها ، لأن هذه الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فى غير هذا الموضع الذى يكون فيه العامل واقعا فى جواب الشرط.

(٣) أى : مفاجأة ما بعدها ، بمعنى : هجومه.

(٤) ويجوز اعتبارها ظرف زمان أو مكان أيضا ، بمعنى : (ففى الوقت أو ففى المكان) ـ راجع ج ١ ص ٤٩٢ م ٥٢.

(٥) المقصود بالزمن الحالى : الزمن الذى يتحقق فيه المعنيان فى وقت واحد ؛ المعنى الذى بعدها والمعنى الذى قبلها ؛ بحيث يقترنان معا فى زمن تحققهما ، ولو كان الزمن ماضيا ؛ كالذى فى نحو : خرجت أمس فإذا المطر فياض.

(٦) وقد سبقت الإشارة لهذا فى ج ١ ص ٤٩٢.

(٧) راجع المغنى ج ١ عند الكلام على «الباء» ، وص ٤٥٥ الآتية ؛ حيث الكلام على حرف الجر الباء ، والبيان الأنسب.


الإنسان بهذه الكلمة ؛ نحو : أنارت الشمس الآن ، أو الحاضر بعضه فقط ، مثل : الملّاح يحرك سفينته الآن. فإن تحريكه السفينة لا يعم ولا يشمل كل وقته الحاضر عند النطق. وقد يقع على الماضى القريب من زمن النطق ، أو على المستقبل القريب منه ؛ تنزيلا للقريب فى الحالتين منزلة الحاضر.

وهو ظرف ، مبنى على الفتح ، وظرفيته غالبة ، لازمة ، أى : لا يخرج عنها إلا فى القليل المسموع الذى لا يقاس عليه. ويرى بعض النحاة أنه معرب منصوب على الظرفية ـ وليس مبنيّا ـ وله أدلة تدعو إلى الاطمئنان والاستراحة لرأيه الأسهل (١).

٤ ـ أمس ـ اسم ، معرفة ، متصرف ، وهو اسم زمان لليوم الذى قبل يومك مباشرة ، أو ما فى حكمه عند إرادة القرب. ويستعمل مقرونا بأل لزيادة التعريف ، أو غير مقترن بها فلا يفقد التعريف.

وللعرب فيه لهجات ولغات مختلفة ، تعددت بسببها آراء النحاة فى استنباط حكمه. وخير ما يستصفى منها أنه : إذا كان مقرونا بأل فإعرابه وتصرفه هو الغالب ، ولا يكون ظرفا ؛ نحو كان الأمس طيبا ـ إن الأمس طيب ، أسفت على انقضاء الأمس. وإذا لم يكن مقترنا بأل فالأحسن عند استعماله ظرفا أن

__________________

(١) فى الجزء الأول من : «همع الهوامع» (باب : الظرف ص ٢٠٧) عرض واف للآراء المختلفة المتعددة التى تدور حول الظرف : «الآن» من ناحية الحكم عليه بالبناء ، أو بالإعراب ، وأدلة كل رأى. وجميعها أدلة جدلية محضة لا قيمة لها فى إثبات المراد ، لأن إثباته القاطع إنما يكون بعرض الأمثلة الصحيحة الواردة عن العرب التى تكفى فى تأييد هذا أو ذاك ، لا فى مجرد الجدل المحض الذى لا تسايره الشواهد الكثيرة. على أن صاحب الهمع بعد فراغه من عرض الآراء أدلى برأيه. فقال ما نصه :(«المختار عندى القول بإعرابه ؛ لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة ؛ فهو منصوب على الظرفية ، وإن دخلته «من» جرّ. وخروجه عن الظرفية غير ثابت ، ولا يصلح الاستدلال له بالحديث السابق لما تقرر غير مرة») اه. ثم قال بعد ذلك ما نصه :

(وفى شرح الألفية لابن الصائغ : إن الذى قال بأن أصله «أوان» يقول بإعرابه ، كما أن «أوانا» معرب) اه.

أما الحديث المشار إليه فقد ذكره قبل رأيه هذا قائلا ما نصه : (وقال ابن مالك : ظرفيته «أى : الآن» غالبة لازمة ؛ فقد يخرج عنها إلى الاسمية ، كحديث «فهو يهوى فى النار ، الآن حين انتهى إلى قعرها ...» ف «الآن» فى موضع رفع بالابتداء ، «وحين انتهى» خبره. و «حين» مبنى لإضافته إلى جملة صدرها ماض) اه.

وإنما كان الحديث السالف غير صالح عنده للاستدلال به لأن صاحب الهمع من طائفة ترى أن الحديث ـ


يكون مبنيّا على الكسر دائما فى محل نصب ، نحو : أتممت الكتابة أمس. وإن لم يستعمل ظرفا فالأحسن بناؤه على الكسر أيضا فى جميع أحواله. نحو : انقضى أمس بخير ـ إن أمس كان حسنا ـ لم أشعر بانقضاء أمس.

ومما يتصل باستعمال «أمس» ما جاء فى كتاب : «لسان العرب» وغيره وهو أنك تقول : ما رأيت الصديق مذ أمس ؛ إذا كان ابتداء عدم الرؤية هو اليوم الذى قبل يومك الحالىّ مباشرة. فإن لم تره يوما قبل أمس قلت : ما رأيته مذ أول من أمس (١). فإن لم تره مذ يومين قبل أمس قلت : ما رأيته مذ أول من أول من أمس ، ولا يقال إلا ليومين قبل أمس ، أى : لا يصح ذكر «أمس» لما قبلهما (٢).

٥ ـ بعد ـ أول ـ قبل ـ أمام ـ قدّام ـ وراء ـ خلف ـ أسفل ـ يمين ـ شمال ـ فوق ـ تحت ـ عل (٣) ـ دون ـ ... (٤)

من الظروف المبنية حينا ، والمعربة حينا آخر : «بعد» وهو زمان ملازم للإضافة.

ا ـ غير أن المضاف إليه قد يذكر ، نحو : صفا الجو بعد المطر ، وفى هذه الحالة يتعين أن يكون الظرف معربا منصوبا بغير تنوين ؛ لأنه مضاف ، ويجوز جره بالحرف : «من».

ب ـ وقد يحذف المضاف إليه وينوى وجود لفظه بنصّه الحرفى ؛ فيبقى المضاف

__________________

ـ النبوى لا يستشهد به فى اللغويات ، لاحتمال أن يكون مرويا بالمعنى دون حرص على النص اللفظى الذى نطق به الرسول عليه السّلام ، ولأن بعض رواة الحديث أجنبى لا يحسن النطق بالكلام العربى الصحيح.

وهذا رأى له معارضون لا يوافقون عليه. وللفريقين أدلة وبحوث طويلة فى هذا الشأن عرضها مختصرة صاحب : «خزانة الأدب» فى أولها ، وكذلك عرض لها بشىء من البسط صاحب كتاب : «المواهب الفتحية» فى الجزء الثانى.

(١) هذا التركيب مثل قولهم : ما رأيته أول من أمس. (راجع ما يتصل به فى الصفحة الآتية).

(٢) راجع الكلام على كلمة «أول» فى الصفحة التالية ثم إيضاح آخر عنها فى ح ٣ ص ٦٢٣ ، ١٢٥ م ٩٤ ـ باب الإضافة.

(٣) فى الظرف «عل» لغات مختلفة أوضحناها فى باب الإضافة ج ٣ منها : علا (على وزن : عصا) وبعض العرب يجيز إضافته ولكنه يوجب قلب ألفه ياء عند إضافته لياء المتكلم طبقا للبيان الخاص به فى باب الإضافة.

(٤) فى باب الإضافة من ج ٣ ص ١١٥ م ٩٥ تفصيل الكلام على هذه الظروف ، وعرض أحكامها مستوفاة.


على حاله معربا منصوبا غير منوّن ؛ كما كان قبل حذف المضاف إليه ؛ نحو : لما انقطع المطر صفا الجو بعد ، أى : بعد المطر. وحكم الظرف هنا كسابقه.

ح ـ وقد يحذف المضاف إليه ، ويستغنى عنه نهائيّا كأن لم يكن ؛ مثل : صفا الجو بعدا ... والظرف فى هذه الحالة معرب ، منصوب ، منون ...

د ـ وقد يحذف وينوى معناه. (أى : ينوى وجود كلمة أخرى تؤدى معنى المحذوف من غير أن تشاركه فى نصّه وحروفه) وفى هذه الصورة يلتزم الظرف المضاف : البناء على الضم ؛ مثل : لما انقطع المطر صفا الجو بعد ، أى : بعد انقطاعه ، أو بعد ذلك ...

فالأحوال أربعة (١) تعرب فى ثلاثة منها ، وتبنى فى حالة واحدة هى : التى يحذف فيها المضاف وينوى معناه. وتلك الأحوال الأربعة تنطبق على باقى الظروف التى وليت : «بعد».

غير أن هناك بعض الأمور تتصل بلفظ : «أوّل» الذى ليس ظرفا (٢). منها : اعتباره اسما مصروفا معناه ابتداء الشىء المقابل لنهايته ، ولا يستلزم أن يكون له ثان ؛ فقد يكون له ثان ، وربما لا يكون ؛ تقول : هذا أول ما اكتسبته ، فقد تكتسب بعده شيئا ، أولا تكتسب. وقيل : يستلزم كما أن الآخر يستلزم أولا. والحق الرأى الأول. وللقرائن دخل كبير فى توجيه المعنى إلى أحد الرأيين. ومنه قولهم : ما له أول ولا آخر (٣)

ومنها : أن يكون وصفا مؤولا ، أى : أفعل تفضيل بمعنى : «أسبق» ، فيجرى عليه حكمه ؛ من منع الصرف وعدم التأنيث بالتاء. ووجوب إدخال «من» على المفضّل عليه ... ؛ نحو : هذا أول من هذين ، ولقيته عام أول من عامنا (٤).

ومنها : أن يكون اسما معناه : «السابق» ؛ فيكون مصروفا ؛ نحو لقيته عاما أولا ، أى : سابقا.

__________________

(١) تفصيل أحكامها وأحوالها فى ج ٣ ص ٥٣ م ٥٩ باب الإضافة.

(٢) تقدم له بيان آخر فى الصفحة السابقة. وكذلك فى ج ١ ص ١٤٦ م ١٧ باب النكرة والمعرفة وستجىء إشارة مهمة إليه فى ج ٣ باب الإضافة.

(٣) راجع الكلام عليه مع الظرف «أمس» فى الصفحة الماضية وله بيان آخر فى ج ٣ باب الإضافة ص ١٢٥.

(٤) ويصح لقيته عاما أول من عامنا. جاء فى الهمع (ج ١ ص ٥٤ باب «النكرة والمعرفة») ما نصه : (من الأسماء ما هو معرفة معنى ، نكرة لفظا ، نحو : كان ذلك عاما أول ـ وأول من أمس ؛ فمدلولهما معين لا شيوع فيه بوجه ، ولم يستعملا إلا نكرتين ، وقد سبق بيان هذا ـ فى ج ١ م.


أما «أول» الظرف الزمانى فمعناه : «قبل» نحو : رأيت الهلال أول الناس.

هذا ، وأصل أول ـ فى الأرجح ، بنوعيه : الظرف ، والاسم ـ ، هو : أو أل بوزن : أفعل ؛ قلبت الهمزة الثانية واوا ، ثم أدغمت الواو فى الواو ، بدليل جمعه على أوائل (١).

٦ ـ بين (٢) ـ بدل ـ فأما : «بين» فأصله ظرف للمكان ، وقد يكون للزمان أيضا والكلمة فى الحالتين مضافة إلا عند التركيب ـ كما سبق (٣) ـ وتتخلّل شيئين (٤) ، أو ما فى تقدير شيئين (٥) أو أشياء (٦) ، وتصرفها متوسط ، وكذلك وقوعها معربة ، مثل قوله تعالى فى الزوجين : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ ، وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ...) ، فقد وقعت اسما معربا مضافا إليه ، مجرورا بالكسرة الظاهرة ؛ كشأنها فى قوله تعالى : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ،) وقوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) فى قراءة من رفع الظرف ، وقوله : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ).

ولا تضاف إلّا إلى متعدد ، كقول الشاعر :

شوقى إليك نفى لذيذ هجوعى

فارقتنى فأقام بين ضلوعى

فإن أضيفت لمفرد وكان ضميرا لا يدل على تعدد ، وجب تكرارها مع عطف

__________________

(١) انظر ما يتعلق به فى ص ٥٢١ وفى ج ٣ ـ باب الإضافة ـ

(٢ و ٢) سبقت الإشارة إلى بعض أحكامها (لتركيب) ، فى ص ٢٥٥ وإشارة أخرى فى ص ٢٦٠. بمناسبة الكلام على : «إذ».

(٢ و ٢) سبقت الإشارة إلى بعض أحكامها (لتركيب) ، فى ص ٢٥٥ وإشارة أخرى فى ص ٢٦٠. بمناسبة الكلام على : «إذ».

(٣) كقوله تعالى : (... وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.)

(٤) كقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ،) أى : بين الجهر والمخافتة.

(٥) كقول امرئ القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

ومما يصلح لتقدير شيئين ، أو أشياء قول الشاعر :

قدّر الهجر بيننا فافترقنا

وطوى البين عن جفونى غمضى


المكررة بالواو ، كالآية السابقة ، (هذا فراق بينى وبينك ..) وإن كان اسما ظاهرا فالكثير أنها لا تتكرر ؛ إذ يكتفى بالعطف بالواو على الاسم الظاهر المضاف إليه ؛ مع جواز التكرار ، وإن كان الأول هو الأكثر (١) ؛ مثل : تضيع الغاية بين التردد واليأس. وقولهم : شتان بين رويّة وتسرّع.

وقد يتصل بآخرها «الألف» الزائدة أو «ما» (٢) الزائدة ، فتصير زمانية غير متصرفة ، وفى هذه الحالة يضاف الظرف وجوبا إلى جملة (اسمية ، أو فعلية) ، وبعدها كلام مترتب على هذه الجملة ، يعتبر بمنزلة الجواب (٣).

__________________

(١) تكرارها بين المتعاطفين الضميرين واجب أما بين المتعاطفين الظاهرين فجائز للتوكيد ؛ فيصح أن يقال : المال بين محمود وبين على ، بزيادة : «بين» الثانية ، للتأكيد كما قاله ابن برى وغيره ، وبذلك يرد على منع الحريرى تكرارها. (راجع حاشية ياسين على شرح التصريح ج ٢ وكذا «الصبان» أول باب عطف النسق فيها عند الكلام على واو العطف). ويؤيد ما سبق ورودها مكررة فى بعض الأحاديث الشريفة ، التى نقلها وشرحها صاحب المواهب الفتحية (ح ٢) وفى كلام آخر لعمر بن عبد العزيز وهو ممن يحتج بكلامهم. وكذلك وردت فى شعر يحتج به نقله «الطبرسى (فى كتابه مجمع البيان ج ١ ص ٤٥) ونصه : قال عدى بن زيد :

وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به

بين النهار ، وبين الليل قد فصلا

 ـ المصر : الحاجز ـ وقول أعشى همدان :

بين الأشج وبين قيس باذخ

بخ بخ لوالده وللمولود

(٢) وقوع «ما» الزائدة بعد الظرف : «بين» يوجب وصلهما فى الكتابة.

(٣) يكون الظرف مضافا للجملة التى بعده مباشرة ، ومنصوبا لعامل فى الكلام المتأخر عنها المترتب عليها ، كأنه جواب لها ، معلق عليها كتعليق الجواب على الشرط (على الوجه الذى سبق فى «و» ص ٢٥٧ وكما يجىء فى ص ٣٣١). وما سبق هو رأى الجمهور. وهناك آراء أخرى أيسرها أنها ـ بعد اتصال «ما» الزائدة ، أو : الألف الزائدة بها ، تصير ظرف زمان غير مضاف ، لأن الحرف الزائد قد كفها عن العمل. ويصير الظرف «بين» منصوبا بالعامل الذى فى الجملة التى تليه والجملة التى تليها بمنزلة الجواب. وهذا رأى حسن وفيه تيسير.

ومن المفيد الذى يوضح ما سبق أن نسجل هنا ما جاء فى حاشية الأمير على المغنى ، وما جاء فى الصبان عن هذه المسألة. جاء فى المغنى ؛ ج ١ فى الكلام على «إذ» وأنواعها ، ما نصه : (تكون للمفاجأة ، نص على ذلك سيبويه ، وهى الواقعة بعد «بينا» ، أو «بينما» ... و...) وقد علق على هذا : الأمير فى حاشيته ، قائلا ما نصه : ـ


للظرف ، فمثال الفعلية : بينما أنصفتنى بالودّ ظلمتنى بالمنّ ، وقول الشاعر :

__________________

ـ (أصل : «بين» مصدر بان ، إذا تفرق ، ثم استعملت استعمال الظروف ؛ زمانية ومكانية. ولا تضاف إلا لمتعدد ؛ فأصل قولك : جلست بين زيد وعمرو ، وأتيت بين الظهر والعصر ، جلست مكان تفرق زيد وعمرو ، أى : المكان الواقع بينهما ، وأتيت زمن تفرق الظهر والعصر ، أى : الزمن الذى يفصل بينهما ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. ثم لما أرادوا أن يضيفوها إلى الجملة مع كونها لازمة للإضافة للمفرد ـ أى : لغير الجملة ـ وكانت الإضافة إلى الجملة كلا إضافة ؛ لعدم تأثيرها فى لفظ المضاف إليه ـ وصلوها ـ بأحد الأمرين ؛ «ما» التى شأنها الكف ؛ فكأنها كفتها عن الإضافة ، أو الألف مشبعة عن الفتحة ؛ لأنها أيضا تفيد قطع ما قبلها فى الوقف ، مبدلة عن تنوين إثر فتح ؛ كالظنونا ـ فى قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ـ.) ثم هى بعد ظرف زمان فقط ؛ لأنه ليس لنا مكان يضاف للجملة غير «حيث». وإن تأملت ما سبق أغناك عن إضمار «أزمان» بعدها إذا أضيفت للجملة كما قيل») اه. وهذا الرأى أحسن من التالى.

وقال الصبان فى الجزء الثانى ـ باب الإضافة عند الكلام على قول ابن مالك :

وألزموا إضافة إلى الجمل

حيث وإذ ...

ما نصه :

(اعلم أن أصل : «بين» أن تكون مصدرا بمعنى : الفراق ، فمعنى جلست بينكما : جلست مكان فراقكما. ومعنى أقبلت بين خروجك ودخولك : أقبلت زمان فراق خروجك ودخولك ؛ فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. فتبين أن : «بين» المضافة إلى المفرد ـ أى : الذى ليس جملة ـ تستعمل فى الزمان والمكان. فلما قصدوا إضافتها إلى الجملة ، اسمية أو فعلية ـ والإضافة إلى الجملة كلا إضافة ـ زادوا عليها تارة : «ما» الكافة : لأنها تكف المقتضى عن اقتضائه ، وأشبعوا تارة أخرى الفتحة ؛ فتولدت «ألف» لتكون الألف دليل عدم اقتضائه للمضاف إليه ، لأنه حينئذ كالموقوف عليه ، لأن الألف قد يؤتى بها للوقوف كما فى : «أنا» والظنونا ـ يشير إلى أن الأصل فى «أنا» خلوها من الألف ، وإلى قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) وتعين حينئذ ألا تكون إلا للزمان ؛ لما تقرر أنه لا يضاف إلى الجمل من المكان إلا حيث. وإضافة : «بينما» أو «بينا» فى الحقيقة إلى زمان مضاف إلى الجملة ؛ فحذف الزمان المضاف ، والتقدير : بين أوقات زيد قائم ، أى : بين أوقات قيام زيد ـ كذا قرره الرضى.

(وقد يضاف «بينا» إلى مفرد مصدر دون «بينما» على الصحيح ، كذا فى الدمامينى والهمع ، وتقدير : «أوقات» ؛ لأن «بين» إنما تضاف لمتعدد. وناقش أبو حيان بأن : «بين» قد تضاف للمصدر المتجزئ ؛ كالقيام ، مع أنهم لا يحذفون المضاف إلى الجملة فى مثل هذا.

(قال فى الهمع : وما ذكر من أن الجملة بعد : «بينا» و «بينما» مضاف إليها هو قول الجمهور. وقيل : «ما» و «الألف» كافتان ؛ فلا محل للجملة بعدهما. وقيل «ما» كافة دون الألف بل هى مجرد إشباع».

وعلى عدم إضافتهما يكون عاملهما ما فى الجملة التى تليهما كما فى المغنى) اه. كلام الصبان.


فبينا نسوس الناس ـ والأمر أمرنا ـ

إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف (١)

ومثال الاسمية :

استقدر الله خيرا (٢) ، وارضينّ به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

وبينما المرء فى الأحياء مغتبطا

إذ صار فى الرّمس (٣) تعفوه الأعاصير

وقد ورد فى السماع الذى لا يقاس عليه إضافة «بينا» للمصدر دون : «بينما» ـ على الصحيح ـ ...

وقد تركب «كخمسة عشر» فتبنى على فتح الجزأين مثل :

نحمى حقيقتنا وبع

ض القوم يسقط بين بين

الأصل : بيننا وبين الأعداء ، أى : بين المقاتلين. فأزيلت الإضافة من الظرفين ، وركب الاسمان تركيب خمسة عشر. فإن أضيف صدر : «بين إلى عجزها جاز بقاء الظرفية فى الصدر ، وجاز زوالها. فمن الأول قولهم : المنافق بين بين ؛ بنصب الأولى على الظرفية مباشرة. ومن الثانية قولهم : المنافق بين بين. أما إذا وقعت مضافا إليه فيتعين زوال الظرفية.

وأما : «بدل» فقد سبق الكلام عليه فى ص ٢٤٦.

٦ ـ حيث ـ من الظروف المكانية الملازمة للبناء ، برغم أنها مضافة (٤).

والأكثر أن تبنى على الضم ، وتضاف للجمل (٥) الاسمية والفعلية ، وإضافتها للفعلية أكثر نحو : قعدت حيث الجوّ معتدل ، وبقيت حيث طاب المقام ؛ وقول الشاعر :

وما المرء إلا حيث يجعل نفسه

ففى صالح الأخلاق نفسك فاجعل

__________________

(١) نطلب الإنصاف.

(٢) اسأله أن يقدره ويهيئه لك.

(٣) القبر.

(٤) سيجىء الكلام عليها من ناحية إضافتها للجملة أو المفرد (فى ج ٣ م ٩٣ ص ٦٨) وبناء الظروف مع إضافتها شائع ، كما ترى فى هذا الباب.

(٥) بشرط أن تكون «حيث» غير مختومة بما الزائدة عند إضافتها إلى الجملة. وقد نص على هذا الشرط فيها وفى «إذ» الظرفية المحضة المبرد فى كتابه : «المقتضب» ج ٢ ص ٥٤.


ومن القليل إضافتها للمفرد ، ومع قلته جائز ، ولكن لا داعى لترك الكثير إلى القليل. ومثله دلالتها على الزمان (١).

٧ ـ ريث ـ أصله : مصدر راث ، يريث ؛ إذا أبطأ. ويجوز أن يترك المصدرية ويستعمل فى معنى ظرف الزمان فيكون مبنيّا على الفتح ، ومضافا إلى جملة فعلية ؛ نحو : بقيت معك ريث حضر زميلك ، أى : قدر بطء حضور زميلك. وقد تقع بعدها «ما» الزائدة أو المصدرية فاصلة بينها وبين الجملة الفعلية ، نحو : فلان يمنح المحتاج ريث ما (٢) يسمع.

٩ ـ عند ـ ظرف يبين أن مظروفه إما حاضر حسّا ، أو : معنى ، وإما قريب حسّا ، أو : معنى ، فالأول ، نحو : قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ...) والثانى : نحو قوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ...) والثالث : نحو قوله تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى،) والرابع : نحو قوله تعالى : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ،) وقوله : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.)

وهى ظرف مكان معرب ، لا يكاد يستعمل إلا منصوبا على الظرفية المكانية ، كالأمثلة السابقة ، أو مجرورا بالحرف : «من» ـ دون غيره من حروف الجر ـ مثل : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ؛ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) وقد وردت للزمان قليلا فى

__________________

(١) فقد قالوا إن الأصل فيها أن تكون للمكان ، وقد تكون للزمان ؛ كقول الشاعر :

للفتى عقل يعيش به

حيث تهدى ساقه قدمه

(أى : حين تهدى ...) كما قالوا : إنها لا تستعمل فى الغالب إلا ظرفا ، وندر جرها بالباء ، نحو : تلاقينا بحيث صافح أحدنا الآخر. وكذلك جرها بالحرف «إلى» ، كقول الشاعر :

«إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم». و «فى» نحو : أصبحنا فى حيث التقينا. ونص ابن مالك على أن تصرفها نادر. وقال ابن هشام فى المغنى : الغالب كونها فى محل نصب على الظرفية ، أو خفض بمن. وقد تخفض بغيرها ، كقول الشاعر : إلى حيث ... إلخ. والأحسن الأخذ برأى ابن هشام ؛ لما فيه من تيسير وإن كان الجر قليلا.

(٢) إن كانت «ما» زائدة فالأحسن وصلها بالظرف : «ريث» وإن كانت مصدرية فالأحسن فصلها.


قولهم : الصبر عند الصدمة الأولى. ويجوز محاكاته عند قيام قرينة ، بشرط إضافته للزمان (١).

وتشترك : «عند» (٢) مع «لدى» ـ و «لدن» فى أمور ، وأهمها : الدلالة على ابتداء غاية مكانية أو زمانية (٣). وتخالفهما فى أمور أخرى يجىء الكلام عليها مع الكلام عليهما.

__________________

(١) جاء فى المصباح المنير فى مادة : «عند» ما نصه :

(الأصل فى استعمال هذا الظرف أن يكون فيما حضرك من أى قطر «ناحية» من أقطارك ، أو دنا منك. وقد استعمل فى غيره ؛ فتقول : عندى مال ؛ لما هو بحضرتك ، ولما غاب عنك ؛ فقد ضمّن معنى الملك والسلطان على الشىء ، ومن هنا استعمل فى المعانى فيقال : عنده خير ، وما عنده شر ، لأن المعانى ليس لها جهات ...) اه. ويقول أيضا :(«عند» ظرف مكان. ويكون ظرف زمان إذا أضيف إلى الزمان ؛ نحو : عند الصبح ، وعند طلوع الشمس ، ويدخل عليه من حروف الجر «من» لا غير ؛ تقول : جئت من عنده. وكسر العين هو اللغة الفصحى وتكلم بها أهل الفصاحة ... وحكى الفتح والضم) اه.

(٢) سيجىء الكلام على : (لدن ولدى فى ص ٢٧٤) وأيضا على (عند ، ولدن) فى باب الإضافة ، ج ٣ ص ١٠١ م ٩٥.

(٣) قال صاحب المفصل ـ ج ٤ ص ٨٥ ـ ما نصه فى معنى ظروف الغايات : (قيل لهذا الضرب من الظروف غايات لأن غاية كل شىء ما ينتهى به ذلك الشىء ، وهذه الظروف إذا أضيفت كانت غايتها آخر المضاف إليه ؛ لأن به يتم الكلام ، وهو نهايته. فإذا قطعت عن الإضافة وأريد معنى الإضافة صارت هى غايات ذلك الكلام ؛ فلذلك من المعنى ، قيل لها : غايات).

وتوضيحا لما سلف نسوق بعض الأمثلة التى تجلى المراد ، منبهين إلى أن الغاية لها معان أخرى تختلف باختلاف الموضوعات والمناسبات ـ (منها : ما سيجىء فى رقم ١ من هامش ص ٤٢٦ ورقم ٢ من هامش ص ٤٣٣) (ومنها ما سيجىء فى ص ١٠١ و ١٢١ م ٩٥ من الجزء الثالث وفيه هذه الأمثلة التى نسوقها لمناسبة دعت إليها هناك):.

ا ـ فى مثل : سافرت من لدن بيتنا إلى الضاحية ـ تشتمل هذه الجملة على الفعل : «سافر» ، والسفر يقتضى الانتقال من مكان إلى آخر. فلا بد لتحققه من نقطة معينة يبتدئ منها ، وأخرى ينتهى إليها. أى : لا بد له من مكان ابتداء ، ومكان انتهاء ، محددين ، مضبوطين ؛ كاللذين هنا ، وهما : البيت والضاحية. وبين نقطتى الابتداء والانتهاء مسافة محصورة بينهما ، لا محالة. ويطلق على مجموع الثلاثة اسم اصطلاحى ، هو : «الغاية المكانية» أى : «المسافة المكانية» أو : «المقدار المكانى» ، وهى تشمل كما نرى مكانا محدودا ، محصورا ، له بداية ونهاية معينتان ، ومسافة تصل هذه بتلك. وقد دخل لفظ «لدن» على كلمة هى بداية الغاية ؛ فدخوله على هذه الكلمة ـ وعلى نظائرها ـ يرشد إلى أنها أول ـ


١٠ ـ ١١ ـ عوض ـ قطّ ـ سبق الكلام عليهما فى ص ١١٤ و ٢٤٦

__________________

ـ جزء من أجزاء الغاية ، أو أنها نقطة البداية.

ولو قلت : سافرت من لدن الصبح إلى العصر ، لدل الفعل : «سافر» على أنه استغرق زمنا محددا معينا ، له بداية زمنية معروفة ، ونهاية زمنية معروفة كذلك ؛ فله نقطتا ابتداء وانتهاء ، زمنيتان ، مضبوطتان ، وينحصر بينهما مقدار زمنى يصلهما. ويتكون من مجموع الثلاثة (أى : من نقطة البداية ، ونقطة النهاية ، وما بينهما) ما يسمى فى الاصطلاح : «الغاية الزمانية» بمعنى : «المقدار الزمانى» ودخول لفظ «لدن» على الكلمة التى بعده يرشد إلى أن هذه الكلمة نفسها هى نقطة البداية ، أى : أول جزء من أجزاء الغاية.

ويفهم مما سبق أن «لدن» ، و «عند» اسمان يدلان على ما بعدهما من بدء الغاية ... فسمى كل منهما «نقطة البداية» نفسها ، وليس الابتداء الذى هو أمر معنوى. ولهذا كانا اسمين ـ عند النحاة ـ دون «من» ، «ومنذ» الحرفين اللذين معناهما الابتداء المعنوى. فإضافة «لدن» ، و «عند» إنما هى من إضافة الاسم إلى مسماه. (هذا وقد أطلنا الكلام ـ فى ج ١ ص ٥٦ م ٦ ـ عن سبب تفرقتهم بين كلمة : «ابتداء» واعتبارها اسما ، وكلمة : «من» الجارة المفيدة للابتداء واعتبارها حرفا).

لكن قد يخطر على البال السؤال الآتى : إذا كان لفظ «لدن» للدلالة على بداية الغاية فما الداعى لمجىء الحرف «من» قبله ، ومعناه الابتداء أيضا؟ أجاب النحاة عن هذا إجابة غير مقنعة ؛ فقالوا : إن دلالة «لدن» على بداية الغاية ليست مألوفة فى الأسماء ؛ فجاء الحرف «من» ليكون بمنزلة الدال على ذلك ، ولهذا يكون فى الأعم الأغلب موجودا. (راجع حاشية ياسين على شرح التصريح فى هذا الموضع). والسبب الحق هو استعمال العرب القدامى لهما مجتمعين ، دون تعليل آخر.

ب ـ ما سبق يقال فى الظرف : «عند» ؛ فلو وضعناه مكان «لدن» فى الأمثلة السالفة ـ وأشباهها ـ لم يتغير الأمر ؛ ففى مثل : قرأت الكتاب من عند المقدمة إلى الخاتمة ، نجد الفعل : «قرأ» لا يتحقق كاملا إلا بنقطة مكانية معينة تبتدئ منها القراءة ؛ هى المقدمة ، ونقطة أخرى محددة تنتهى إليها ؛ هى الخاتمة ، وبين النقطتين المكانيتين مسافة مكانية تصل بينهما هى المسافة الأخرى المكتوبة ، ومن اجتماع الثلاثة : (أى من نقطة البداية المكانية ، ونقطة النهاية المكانية ، وما بينهما) يتكون ما يسمونه : «الغاية المكانية» التى يجىء الظرف «عند» ليدل على أن المضاف إليه هو نقطة البداية فيها.

وإذا قلت : قرأت الكتاب من عند العصر إلى المغرب نشأت الغاية الزمانية التى تتكون من اجتماع تلك الثلاثة ، والتى يدخل الظرف «عند» على أول جزء منها ؛ فيكون وجوده دليلا على أن ما بعده (وهو المضاف إليه) نقطة البداية الزمانية ...

مما تقدم يتضح الفرق بين «الغاية» ، ومبدأ الغاية الذى يدل عليه «لدن» أو «عند» ؛ فالغاية تشمل الأجزاء الثلاثة ، أما مبدأ الغاية فهو الجزء الأول منها ، دون الجزأين الآخرين. وكذلك يتضح المراد من قولهم : (إن معنى : «لدن» ، و «عند» هو الدلالة على مبدأ الغايات الزمانية أو المكانية). وأنه ـ


١٢ ـ لدن ـ يكون ظرفا دالا على مبدأ الغايات ، أى : أنه لابتداء غاية زمان أو مكان بالمعنى الذى سبق (١) شرحه فى «عند» ـ ، ويلازم البناء ، وبناؤه على السكون هو الأغلب ، مثل : تذكر فضل والديك لدن أنت صغير. والكثير فى استعماله أن يكون مسبوقا «بمن الجارة» (٢) مثل : هذا فضل من لدن المولى الكريم. ومثل : بقيت هنا من لدن الظهر إلى الغروب. وأن يكون مضافا لمفرد كالأمثلة السالفة ، أو مضافا للجملة ؛ نحو : فلان مولع بالعلم لدن شبّ إلى أن شاب ـ أو : مولع بالعلم لدن هو يافع.

ويكون بمعنى : «عند» كثيرا ولكن يخالفها فى أمور ؛ منها : أن «لدن» ملازم للإضافة للمفرد ، أو للجملة ، ويجوز استغناؤه عن الإضافة إذا وقعت بعده كلمة : «غدوة» ؛ منصوبة (٣) مثل قضيت الوقت لدن غدوة حتى غروب الشمس. أما «عند» فيصح أن تترك الإضافة. وتصير اسما مجردا ؛ كأن يقول شخص : عندى مال ؛ فيجاب : وهل لك عند؟ «فعند» هنا مبتدأ. أو يقال : الكتاب عندى. فيجاب : أين عندك :

ومنها : أنه لا يكون إلا فضلة ولو ترك الظرفية ؛ ففى مثل السفر من عند البيت

__________________

ـ يصح وضع أحدهما مكان الآخر ؛ فيقال : جئت من عند الصديق ، أو : من لدن الصديق. وفى القرآن الكريم : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ؛) فلو وضع أحد الظرفين مكان الآخر لجاز ، ولم يمنع منه مانع إلا كره التكرار اللفظى بغير داع بلاغى.

ح ـ إذا دخل «لدن» ، أو : «عند» على بداية الغاية فليس من اللازم أن يذكر معها اللفظ الدال على النهاية ، إذ يكفى أن يشتمل الكلام على البداية وحدها ما دام المقام يكتفى به.

د ـ ليس الأمر فى كل ما سبق مقصورا على الأفعال التى تعمل فى الظرف ، وتحتاج فى تحقيق معناها إلى غاية زمانية أو مكانية ، وإنما الأمر يشمل كل عامل آخر لا يتحقق معناه كاملا إلا بذكر الغاية ؛ يتساوى فى هذا أن يكون العامل فعلا ، أو شبه فعل ، أو اسم فاعل ، أو اسم مفعول ، أو غير ذلك مما يعمل ...

(١) فى رقم ٣ من هامش ص ٢٧٢.

(٢) وفى حالة جرّه لا يكون ظرفا. وكذلك كل حالة أخرى لا يكون فيها منصوبا على الظرفية.

(٣) على اعتبار : «غدوة» تمييزا ، أو : اعتبارها خبرا لكان المحذوفة ، والتقدير : لدن كانت الساعة غدوة ، ويجوز فى «غدوة» الرفع عند الكوفيين ، على اعتبارها فاعلا لكان التامة المحذوفة ، والتقدير : لدن كانت غدوة ، أى : ظهرت ووجدت غدوة ، ويجوز فى غدوة الجر بالإضافة ؛ وهو القياس.


لا يصح : السفر من لدن البيت. فكلمة : «عند» مجرورة ، والجار والمجرور خبر ، والخبر عمدة. وقد اشتركت «عند» فى تكوينه ؛ فهى عمدة بسبب اشتراكها ، ولهذا لا يصح : «من لدن البيت» لكيلا تشترك : «لدن» فى تكوين العمدة ، وهى لا تكون إلا فضلة خالصة دائما.

١٣ ـ لدى ـ ظرف معرب ملازم للنصب على الظرفية. ومعناه : «عند» ويخالفها فى أمور :

منها : أن «لدى» لا تجر أصلا ، أما «عند» فتجر بالحرف «من».

ومنها : أن «عند» تكون ظرفا للأعيان (أى : للأشياء المجسمة) وللمعانى ، أما «لدى» فلا تكون إلا للأعيان فى الصحيح ؛ تقول : هذا الرأى عندى صائب ، ولا تقول : لدىّ.

ومنها : أنك تقول : عندى مال ، وإن كان غائبا ، ولا تقول : لدىّ مال ، إلا إذا كان حاضرا.

هذا ، وبإضافة «لدى» للضمير تنقلب ألفها ياء ، نحو : لديك ـ لديه ... (١) أما عند إضافتها للاسم الظاهر فلا تنقلب.

١٤ ـ لمّا (٢) ـ ظرف زمان (٣) ، بمعنى : حين. ويفيد وجود شىء لوجود آخر. والثانى منهما مترتب على الأول ؛ فهو بمنزلة الجواب المعلّق وقوعه على وقوع شىء آخر. نحو : لما جرى الماء شرب الزرع. ولهذا لا بد لها من جملتين ، بعدها ، تضاف ـ وجوبا ـ إلى الأولى منهما ؛ لأنها من الأسماء الواجبة الإضافة

__________________

(١) ويراعى فى الإعراب ما سبق تفصيله فى ج ١ م ١٦ ص ١٧٨. (آخر الكلام على الاسم المعتل الآخر).

(٢) «لما» أنواع متعددة ، منها : «لما» الظرفية ، والكلام عليها هنا ، (ولها إشارة فى باب الإضافة ، ج ٣) ومنها : التى بمعنى «إلا» الاستثنائية (وستجىء فى «د» من ص ٣٣٦) ومنها : «لما» الجازمة (وستجىء فى ج ٤ م ١٥٣ ص ٣١٤).

(٣) على المشهور ؛ (لأن بعض النحاة يعتبرها حرفا بمعنى : حين) وتسمى : «لما الحينية» ويسميها بعض النحاة : «لما الوجودية» ، لأنها الرابطة لوجود شىء بوجود غيره ؛ أو : «لما التوقيتية» ، لأنها بمعنى وقت.


للجملة ، وتكون ثانيتهما متوقفة التحقق على الأولى. وعامل النصب فى : «لمّا» هو الفعل أو ما يشبهه فى الجملة الثانية.

والأغلب الأكثر شيوعا فى الجملتين ـ ولا سيما (١) الثانية ـ أن تكونا معا ماضيتين لفظا ومعنى ؛ نحو : قوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ.) أو معنى فقط (٢) كقول المعرى يصف خيلا سريعة :

ولمّا لم يسابقهن شىء

من الحيوان سابقن الظّلالا

وقول المتنبى :

عرفت الليالى قبل ما صنعت بنا

فلما دهتنى لم تزدنى بها علما

وقد ورد فى القرآن الكريم وقوع الجملة الثانية مضارعية فى قوله تعالى : (فَلَمَّا

__________________

(١) قال الأشمونى فى الجزء الثالث ، أول باب : «إعراب الفعل» عند الكلام على أنواع : «أن» ومنها الزائدة ، ما نصه : (الزائدة هى التالية «لما» ؛ نحو قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ ...) اه كلام الأشمونى. وهنا قال الصبان : (قوله : نحو : فلما أن جاء البشير ... وتقول : «أكرمك لما أن يقوم زيد ، برفع المضارع. فارضى). اه. كلام الصبان نقلا عن الفارضى.

وهذا النص صريح فى أنها قد تدخل على المضارع قياسا إذا كان مسبوقا بأن الزائدة والعجيب أن الصبان يأتى به هنا جليا واضحا ، ليكمل ما فات الأشمونى ثم ينسى هذا فى الجزء الرابع ـ أول باب الجوازم ـ عند الكلام على : «لما» الجازمة حيث يصرح «الأشمونى» بأنه استغنى ـ كبعض من سبقوه ـ بقوله : «لما» أخت «لم» عن أن يقول : «لما» الجازمة ، وأنه احترز بكلمة : «أختها» من «لما» الحينية ، ومن «لما» الاستثنائية ؛ لأن هاتين لا يليهما المضارع ، فيقول «الصبان» تعليقا على هذا ، وتأييدا له ما نصه : (أى : كلامه فيما يليه المضارع ، فلا حاجة إلى الاحتراز منهما). اه. فهو يكتفى بهذا ساكتا عما قيل من أن المضارع لا يجىء بعد «لما» الحينية ، و «لما» الاستثنائية. وكما نسى هذا فى «باب الجوازم» نسيه أيضا فى باب «جمع التكسير» ـ ج ٤ ـ عند الكلام على صيغة : «فعول» واطّرادها ، حيث قال الأشمونى عنها فى ذلك الباب (ظاهر كلام المصنف هنا موافقة التسهيل فإنه لم يذكر فى هذا النظم غالبا إلا المطرد ، ولما يذكر غيره يشير إلى عدم اطراده غالبا بقد ، أو نحو : قلّ ، أو ندر ...) اه وهنا قال الصبان ما نصه :

(قوله : ولما يذكر غيره ... إلخ) تركيب فاسد لأن «لما» الحينية لا تدخل إلا على ماض ... اه كلام الصبان.

فبأى الرأيين نأخذ؟

بالأول ؛ لأنه نص صريح ، فيه تيسير. ولكن حظه من القوة والسمو البلاغى أقل كثيرا من الآخر الذى منعه أكثر النحاة ـ حتى الصبان فى بعض تصريحاته ـ (وستأتى إشارة أخرى للظرف «لما» فى ج ٤ ص ٣١٤ م ٥٣. ونص للكلام السالف فى ج ٤ ، فى النواصب م ١٤٨ ص ١٢٢). ومن الخير ترك الأول الضعيف

(٢) بأن يكون الفعل مضارعا مجزوما بالحرف «لم» الذى يخلصه للماضى.


ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى ـ يُجادِلُنا ...) كما ورد فيه وقوعها جملة اسمية مقترنة بالفاء ، أو إذا ، حيث يقول : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ...) ويقول : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ.) وقد تأول النحاة هذه الآيات ؛ بتقدير حذف الجواب أو بغير هذا. ولا داعى للتأول فى القرآن بغير حاجة شديدة ، وإذا كنا نقبل التأول فى القرآن فلم لا نقبله فى كلام من يحاكى القرآن؟ نعم نقبل محاكاته ، وندع التأول لمن يتخذه شرطا للقبول ؛ فالنتيجة الأخيرة واحدة ، هى صحة الاستعمال ، وصحة تأليف الأسلوب على نسق القرآن. وقد جاء فى كتاب : «مجمع البيان لعلوم القرآن» للطبرسىّ ـ ج ٣ ص ١٥٥ ـ فى إعراب قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ ...) ما نصّه ، (إذا ، بمنزلة «الفاء» فى تعليقه الجملة بالشرط) اه ، يريد : ربط جملة جواب «لما» بشرطها. وهذا يؤيد ما قلناه.

هذا «ولا مانع أن يتقدم جواب «لمّا» عليها كما ورد فى بعض المراجع اللغوية (١).

__________________

(١) فقد جاء فى : «تاج العروس ، شرح القاموس» عند الكلام عليها ما نصه :

«(قد يتقدم الجواب عليها فيقال : استعد القوم للقاء العدو لما أحسوا بهم. أى : حين أحسوا بهم)» اه ومن هذا قول حافظ إبراهيم فى قصيدته العمرية :

أمنت لمّا أقمت العدل بينهمو

فنمت نوم قرير العين هانيها

والتقدير : لما أقمت العدل بينهم أمنت ...

لكن إذا تقدم جوابها عليها أيظل محتفظا باسمه وبعمله ، فيسمى جوابها ، ويعمل فيها النصب ، مع مخالفة هذا للحكم العام الذى يمنع تقدم الجواب على كل أداة من أدوات التعليق ...؟ أم هى مستثناة من هذا الحكم العام؟

المفهوم من كلام «تاج العروس» هو احتفاظ جوابها باسمه وبعمله بالرغم من تقدمه عليها مع أنها أداة تعليق. غير أن المفهوم من كلام للصبان فى مسألة أخرى كهذه يخالف ما هنا. فقال فى «لما» التى تقدم عليها عاملها إنها ظرف بمعنى «حين» متعلقة بالعامل الملفوظ المتقدم عليها ، ثم قال ما نصه :

(والظاهر أنها على هذا القول خالية من معنى الشرط). اه ـ راجع الصبان ج ٢ باب الإضافة عند بيت ابن مالك :

وألزموا «إذا» إضافة إلى

جمل الأفعال ... إلخ ـ


١٥ ـ مذ ومنذ (١) ـ قد يكونان ظرفين للزمان (٢) متصرفين ، مبنيين ، وقد يكونان اسمين مجردين من الظرفية ، وقد يكونان حرفى جر.

فيصلحان للظرفية إذا وقع بعدهما جملة اسمية ، أو فعلية ماضوية ؛ فيعربان ظرفين مبنيين فى محل نصب ، مع إضافة كل منهما إلى الجملة التى بعده. وعامل النصب فيهما لا بد أن يكون فعلا ماضيا ؛ وكذلك الفعل فى الجملة الفعلية التى يضافان إليهما لا بد أن يكون ماضيا. نحو : جئت مذ أو منذ الوالد حاضر ـ جئت مذ أو منذ حضر الوالد.

ويتجردان للاسمية الخالصة (٣) إذا لم تقع بعدهما جملة ، ووقع بعدهما اسم مرفوع (٤) نحو : غادرت البلد مذ ، أو : منذ يومان. «فمذ» أو «منذ» مبتدأ و «يومان» خبره. أو العكس (٥). ولا بد من تقدمهما فى الحالتين (أى : عند إعرابهما مبتدأ وخبرا). والمعنى : غادرت البلد ، أمد المغادرة يومان.

ويكونان حرف جر إذا وقع الاسم بعدها مجرورا.

١٦ ـ مع ـ ظرف لا يتصرف. وهو معرب منصوب على الظرفية ـ فى الرأى

__________________

ـ وهو يريد بخلوها من معنى الشرط أنها ظرف محض لا يفيد تعليقا : فلا يصح تسمية عامله جوابا إذا تقدم عليه ، وعلى هذا لا يكون فى الكلام أداة شرط.

سواء أبقيت «لما» مفيدة للتعليق مع تقدم الجواب أم غير مفيدة ، وسواء أكان هذا الرأى هو الأوضح أم ذاك ، فالخلاف لفظى شكلى ؛ لا يعنينا منه إلا أن الاستعمال صحيح على الرأيين ، وأن الأسلوب خال من العيب اللفظى والمعنوى.

(١) سبق الكلام عليهما فى ج ١ ص ٢٦٦ م ٣٧ وص ٣٧٠ م ٣٨. وسيجىء فى حروف الجر ص ٤٧٨ م ٩٠. مناسبة أخرى لهما. والكلام عليهما متشعب النواحى ، متعدد الأحكام. ولقد خصهما ببحث واف مستقل أحد أعضاء مجمع اللغة العربية القاهرى ، ودوّن بحثه المستفيض بمجلة المجمع (ج ٣ ص ٢٥٤) واستطاع أن يعرض فيه كل ما يختص بهما عرضا مفيدا كاملا. (وقد أثبتناه آخر الكتاب ص ٥٠٧).

(٢) معناهما : زمن ، أو : أمد.

(٣) أى : بغير ظرفية.

(٤) فإن كان مجرورا فهما حرفا جر ، كما سيجىء هنا. أما التفصيل ففى ص ٤٧٨ م ٩٠ ، مبحث حرف الجر ، وفى البحث المستقل الخاص بهما ص ٥٠٧.

(٥) فيكون «مذ ومنذ» ظرفين متعلقين بمحذوف هو الخبر.


الشائع ـ ويدل على زمان اجتماع اثنين ـ غالبا ـ أو مكانهما. وإضافته هى الكثيرة. فإن انقطع عن الإضافة نوّن ، وصار حالا. وقد يصير خبرا ـ طبقا لما سيجىء (١) من كلام وتفصيل هام ، عليه وعلى ظروف تقدمت ، فى المكان المناسب من باب الإضافة ـ

* * *

بناء أسماء الزمان المبهمة ، وشبيهتها الأسماء الأخرى المبهمة التى ليست بزمان.

تبنى على الفتح أسماء الزمان المبهمة كلها (٢) ، ظروفا وغير ظروف ، جوازا ـ لا وجوبا ـ فى حالتين :

الأولى إذا أضيفت إلى الجمل جوازا لا وجوبا (٣) ، والمراد بالمبهمة هنا : النكرة التى تدل على الزمان دلالة غير محدودة بمبدأ ولا نهاية ، مثل : حين ـ زمان ـ وقت ، أو تدل على وجه من الزمان دون وجه ؛ مثل : نهار ـ صباح ـ عشية ـ غداة. بخلاف أسماء الزمان المختصة بتعريف أو غيره ـ مما سبق بيانه فى رقم ٢ من هامش ص ٢٣٩ ـ ، فإنها لا تضاف إلى الجمل ، ومثلها : الزمان المحدود ، كأمس ، وغد ، والمعدودة كيومين ـ ليلتين ـ أسبوع ـ شهر ـ سنة ؛ فكل هذه الأزمنة (٤) لا يضاف منها شىء للجمل.

فإذا أضيفت تلك الأسماء الزمانية المبهمة إلى الجمل فإنها تبنى جوازا ـ كما أسلفنا ـ ويكون بناؤها على الفتح (٥). ويجوز فيها الإعراب ؛ ولكن البناء على الفتح

__________________

(١) ج ٣ ص ١٠٧ م ٩٥.

(٢) سبقت الإشارة إليها فى ص ٢٣٩ ويجىء تفصيل الكلام على أحكامها فى ج ٣ باب الإضافة ص ٢١ و ٥٤ و ٧٠ و ٧٣.

(٣) لأن الإضافة الواجبة إلى الجمل تحتم البناء ـ كما سيجىء فى ج ٣ ص ٦٣ ، ٦٥ و ٦٧ م ٩٤ ـ وإذا أضيفت أسماء الزمان إلى جملة وجب أن تكون جملة خبرية ، ولا تصلح الجملة الشرطية المقترنة «بإن» أو بغيرها من أدوات التعليق ، ولا الجملة الإنشائية على اختلاف أنواعها ... ، إلى غير هذا من بقية الشروط التى ستذكر فى الموضع السالف.

(٤) سبق الكلام عليها أيضا فى ص ٢٣٩ م ٧٨.

(٥) راجع الخضرى ـ وغيره ـ فى باب الإضافة حيث عقد «تنبيها» مستقلا للنص على الفتح فقط.


أفضل إذا أضيفت لجملة فعلية ، فعلها مبنى ـ ولو كان مضارعا مبنيّا ـ ، مثل : عاد المسرف فقيرا كيوم جاء إلى الدنيا ، ومثل : أشرف أيام الأمهات حين يحرصن على تربية أولادهن. والإعراب أفضل إذا أضيفت لجملة مضارعية مضارعها معرب ، أو لجملة اسمية (١) ؛ مثل قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ،) ومثل : أن تسمع من يقول «الشجاعة مطلوبة» فتقول : هذا يوم الشّجاعة مطلوبة.

الثانية : إذا أضيفت لمبنى مفرد (غير جملة) ، نحو : يومئذ ـ حينئذ ... وألحق النحاة بأسماء الزمان المبهمة ، ما ليس زمانا من كل اسم معرب ناقص الدلالة بسبب توغله (٢) فى الإبهام ؛ مثل : غير ـ دون ـ بين ـ مثل ... ونحوها مما يسمونه : «متوغلا فى الإبهام» (٣) ومن الأمثلة : (ما قام أحد غيرك) ـ والآيات : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ،) فى قراءة من قرأ «مثل» بفتح اللام ـ

__________________

(١) سواء أكانت الجملة الاسمية مصدرة بما الحجازية ، أو : «لا» أختها ، أو : «لا» العاملة عمل : «إن» ـ أم غير مصدرة.

(٢) أى : تعمقه وتغلغله فى داخله.

(٣) المراد به : اللفظ الذى لا يتضح معناه إلا بما يضاف إليه. وستجىء إشارة له (فى الجزء الثالث باب الإضافة ص ٢١ وص ٤٥ م ٩٣) ومنها نعلم أن اللفظ المتوغل فى الإبهام قد يكتسب البناء من المضاف إليه ـ مع إيضاح هذا مفصلا ـ وأنه فى أكثر أحواله لا يقع نعتا ، ولا منعوتا ، ـ إلا «غير ، وسوى» ، فيصلحان للنعت ـ ومن ألفاظه : قبل وبعد ... و... ـ كما سيجىء فى باب النعت ص ٣٤٦ م ١١٤ من الجزء الثالث ـ وأنه فى أكثر أحواله لا يستفيد التعريف من المضاف إليه المعرفة إلا بأمر خارج عن الإضافة ؛ كوقوع كلمة : «غير» بين ضدّين معرفتين ـ كما نص على هذا «العكبرى» فى صدر كتابه المسمى : «إملاء ما منّ به الرحمن ...» أول سورة البقرة ـ فى مثل : رأيت العلم غير الجهل ، وعرفت العالم غير الجاهل ، وكقوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فوقوع كلمة : «غير» بين ضدين معرفتين أزال إبهامها ؛ لأن جهة المغايرة تتعين. بخلاف خلوها من ذلك فى مثل : أبصرت رجلا غيرك. وكذلك الشأن فى كلمة : «مثل» إذا أضيفت إلى معرفة بغير وجود قرينة تشعر بمماثلة خاصة ، فإن الإضافة لا تعرفها ، ولا تزيل إبهامها. أما إن أضيفت لمعرفة وقارنها ما يشعر بمماثلة خاصة فإنها تتعرف ؛ نحو : راقنى هذا الخط ، وسأكتب مثله ؛ وهذا معنى قولهم ؛ إذا أريد بكلمة : «غير» و «مثل» مغايرة خاصة ومماثلة خاصة حكم بتعريفهما. وأكثر ما يكون ذلك فى «غير» إذا وقعت بين متضادين ؛ أما قوله تعالى : (أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) حيث وقعت كلمة : «غير» المضافة للمعرفة صفة للنكرة فالحقيقة أنها لا تعرب هنا صفة ولكن تعرب بدلا ؛ لعدم مطابقتها.


(وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ـ (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ...) بالبناء على الفتح جوازا فى هذه الأمثلة ، وأشباهها. فالإضافة تجوّز البناء على الفتح ـ وحده ـ فى الأنواع الثلاثة السالفة.

وذهب ابن مالك إلى أنه لا يبنى مضاف بسبب إضافته إلى مبنى أصلا ، لا ظرفا ولا غيره ؛ وأن الفتحة فى الأمثلة السابقة حركة إعراب لابناء ؛ إما على الحالية ، أو على المصدرية ، أو ... أو (١) ...

وهذا الرأى قد يكون أنسب للأخذ به اليوم والاقتصار عليه ، بالرغم من صحة الأول وقوته ، وشيوعه قديما ـ ، منعا للاضطراب ، وتحديدا للغرض.

__________________

(١) راجع فى كل ما سبق الهمع ج ١ ص ٢١٨ والأشمونى والصبان أول باب الإضافة ؛ عند الكلام على الإضافة غير المحضة ؛ وبيت ابن مالك :

وذى الإضافة اسمها لفظية

 ...

بقى أن نذكر ما قرره النحاة بشأن تلك الألفاظ إذا لم تستفد التعريف من المضاف إليه. فسيبويه والمبرد يقولان : إن الإضافة غير محضة : فائدتها التخفيف ، وما يتبعه من مزايا تلك الإضافة. وغيرهما يقول : إنها محضة ومعنوية تفيد «التخصيص» ، وإن كانت لا تفيد «التعيين» ـ كما سيجىء فى باب الإضافة ، ج ٣ ـ.


المسألة ٨٠ :

المفعول معه (١)

(ا) إذا سأل مسترشد : أين دار الآثار القديمة؟ فقد يكون الجواب : تسير مع طريقك هذا ؛ فينتهى بك إليها.

ليس المراد أنه يسير ، والطريق يسير معه حقيقة ، وإلا كان المعنى فاسدا ، لأن الطريق لا يمشى ، وإنما المراد أن يباشر السير فى هذا الطريق ، ويقرن المشى به حتى يصل.

ولو كان الجواب : تسير وطريقك هذا ... لكان التعبير سليما ، والمراد واحدا فى الجوابين.

فإن كان السؤال : أين محطة (٢) القطر؟ فإن الجواب قد يكون : تمشى مع الأبنية التى أمامك ؛ فتنتهى بك إلى ميدان فسيح ، فيه المحطة. ليس المراد أن يمشى ، وتمشى معه الأبنية فعلا : وإلا فسد المعنى ؛ إذ الأبنية لا تمشى. وإنما المراد أن يلتزم المشى الذى يقارنها ويلابسها حتى يصل إلى غايته. ولو كان الجواب تمشى والأبنية التى أمامك ... لصحّ الأسلوب ، وما تغير المراد.

(ب) وإذا قلنا : أكل الوالد مع الأبناء ... فإن الجملة تفيد أن الأبناء شاركوا والدهم ـ فعلا فى الأكل حين كان يأكل ؛ بسبب وجود كلمة تفيد المشاركة المعنوية الحقيقية ، وهى : «مع» ولا يفسد المعنى بهذا الاشتراك الحقيقى. وكذلك لو قلنا أكل الوالد والأبناء ؛ فإن المعنى يبقى على حاله ، ولا فساد فى التركيب.

ومثل هذا : جلس الأب مع الأسرة ، فإن هذه الجملة تفيد اشتراك الأسرة فى الجلوس اشتراكا واقعا فى زمن واحد ؛ بسبب وجود كلمة تفيد هذا ؛ وهى : «مع». ولا شىء يحول دون هذا المعنى أو يؤدى إلى فساد الصياغة لو قلنا : جلس الأب والأسرة.

__________________

(١) أى : المفعول الذى وقع معه فعل الفاعل.

(٢) هذه كلمة عربية صحيحة.


نعود إلى الجمل التى فيها : «الواو» بدلا من كلمة : «مع» وهى :

تسير وطريقك ـ تمشى والأبنية ـ أكل الوالد والأبناء ـ جلس الأب والأسرة ـ .. فنلحظ أن كل كلمة وقعت بعد الواو مباشرة هى : اسم ، مسبوق بواو بمعنى : «مع» ، وهذه الواو تدل على أن ما بعدها قد لازم اسما قبلها ، وصاحبه زمن وقوع الحدث (١) ، وقد يشاركه ، فى الحدث ـ كالمثالين الأخيرين فى «ب» ـ أو لا يشاركه ؛ كالمثالين الأولين. وهذا الاسم الذى بعدها هو ما يسمى : «المفعول معه». ويقولون فى تعريفه :

إنه : اسم مفرد (٢) ، فضلة ، قبله واو بمعنى : «مع» ، مسبوقة بجملة فيها فعل أو ما يشبهه فى العمل ، وتلك الواو تدل نصّا (٣) على اقتران الاسم الذى بعدها باسم آخر قبلها فى زمن حصول الحدث ، مع مشاركة الثانى للأول فى الحدث ، أو عدم مشاركته (٤).

__________________

(١) معنى الفعل ، أو ما يشبهه.

(٢) ليس جملة ولا شبهها.

(٣) إن لم يمكن التنصيص بها على المصاحبة ـ بسبب أن الاسم السابق منصوب ، وأن العامل يصح أن يتسلط على الاسم الذى بعدها مباشرة ـ فهى للعطف قطعا ؛ نحو : قرأت المجلة والصحيفة. (كما سيجىء فى رقم ١ من هامش ص ٢٨٨).

أما إذا كان الاسم السابق مرفوعا أو مجرورا والاسم بعد الواو منصوبا منطبقا عليه تعريف المفعول معه فإن نصبه يقطع بأن المراد هو المعية نصا ، إذ لو كان المراد العطف لوجب جر المعطوف أو رفعه تبعا للمعطوف عليه.

(٤) انظر «ا» من ص ٢٩١.


زيادة وتفصيل :

من التعريف السابق نعلم أن كل جملة مما يأتى لا تشتمل على المفعول معه : أقبل القطار والناس منتظرون ، لأن الذى وقع بعد الواو (١) جملة ، وليس اسما مفردا.

اشترك محمود وحامد ؛ لأن الذى بعد الواو عمدة ، لا فضلة ، إذ الفعل : «اشترك» يقتضى أن يكون فاعله مثنى أو جمعا ؛ لأنه لا يقع إلا من اثنين أو أكثر فلا بدّ من التعدد ، ولو بطريق العطف كالمثال المذكور ؛ «فحامد» معطوف على الفاعل : «محمود» فهو فى حكم الفاعل ، وعمدة مثله.

خلطت القمح والشعير ؛ لأن الواو لم تفد : «معية» وإنما فهمت المعية من الفعل : «خلط».

نظرت عليّا وحليما قبله ، أو بعده ـ شاهدت الليل والنهار ، لأن الواو فيهما ليست للمعية ، وإلا فسد المعنى.

شاهدت الرجل مع زميله ـ اشتريت الحقيبة بكتبها ؛ فالمعية هنا مفهومة واضحة ، ولكن لا توجد الواو.

كل زارع وحقله ، بشرط أن يكون خبر المبتدأ : «كل» محذوفا فى آخر الجملة ؛ والتقدير : كل زارع وحقله مقترنان ؛ فلا تكون الواو للمعية ؛ لعدم وقوعها بعد جملة. أما إذا كان الخبر مقدرا قبل الواو (أى : كل زارع موجود وحقله) فالواو للمعية.

لا تتناول الطعام وتقرأ ؛ لأن الذى وقع بعد الواو فعل (٢).

__________________

(١) هذه الواو تسمى : واو الحال ، وهى من جهة المعنى تفيد المعية ، لأنها تفيد المقارنة ـ فى الغالب ـ والمقارنة نوع من المعية ، لكن لا تسمى اصطلاحا واو المعية.

(٢) يصح فى هذا الفعل أن يكون مجزوما بالعطف ، أو مرفوعا على الاستئناف فلا تكون الواو للمعية. ويجوز أن يكون منصوبا بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية ؛ فيكون المصدر المؤول مفعولا معه (فى رأى راجح) كما صرح بهذا الخضرى وغيره فى هذا الباب. ولهذا الرأى ما يعارضه. (وتفصيلهما فى مكانهما من الجزء الرابع فى باب النواصب عند الكلام على نصب المضارع بعد واو المعية).


هذا المال لك وأباك ـ ما الرجل فرح والشريك ، لعدم وجود ناصب يعمل النصب فيهما (١) ؛ فلا يصح النصب ؛ إذ لا مفعول معه.

__________________

(١) سيجىء عند الكلام على الحكم الأول من أحكامه ـ بعض أمثلة مسموعة خالية من عامل ظاهر ؛ فيقدر لها عامل.


أحكامه :

له عدة أحكام ، منها :

١ ـ النصب. والناصب له : إما الفعل الذى قبله كالأمثلة السالفة ـ أول الباب ـ ، وإما ما يشبه الفعل فى العمل (١) ، كاسم الفاعل ، فى نحو : الرجل سائر والحدائق ـ وكاسم المفعول ؛ فى نحو : السيارة متروكة والسائق ، وكالمصدر ؛ فى نحو : يعجبنى سيرك والطّوار (٢) ، واسم الفعل فى مثل : رويدك والغاضب (٣) ، بمعنى : أمهل نفسك مع الغاضب.

وقد وردت أمثلة مسموعة ـ لا يصح القياس عليها لقلّتها ـ وقع فيها المفعول معه منصوبا بعد : «ما» ، أو : «كيف» الاستفهاميتين ، ولم يسبقه فعل أو ما يشبهه فى العمل. مثل : ما أنت والبحر؟ كيف أنت والبرد؟ فالبحر والبرد ـ ـ وأشباههما ـ مفعولان معه ، منصوبان بأداة الاستفهام. وقد تأول النحاة هذه الأمثلة. وقدّروا لها أفعالا مشتقة من الكون وغيره (٤) ، مثل : ما تكون والبحر؟ كيف تكون والبرد؟ فالكلمتان مفعولان معه ، منصوبان بالفعل المقدر (٥) عندهم.

__________________

(١) إن كان الشبيه من المشتقات وجب أن يكون مما ينصب المفعول به ، ولهذا لا تصلح الصفة المشبهة ، ولا أفعل التفضيل ؛ ولا ما لا يعمل.

(٢) الرصيف. «والرصيف» : كلمة صحيحة.

(٣) بشرط أن تكون الواو للمعية ، وبعدها المفعول معه ، وليست للعطف وبعدها معطوف ؛ (لأن هناك حالات تصلح فيها للمعية والعطف كما سيجىء فى ص ٢٨٨).

(٤) مثل : تصنع ـ تفعل ... وكل ما يصلح له الكلام ـ كالمثالين ـ لبيان مضمون المعنى ... (٥) والحق : أنه لا داعى لهذا التقدير ؛ فقد كان بعض العرب ينصب المفعول معه بعد الأداتين السالفتين ، ولن نقيس عليهما أدوات استفهام أخرى ؛ إذ التقدير فى مثل هذه الحالات معناه إخضاع لغة ولهجة ، للغة ولهجة أخرى ، من غير علم أصحابهما. وليس هذا من حقنا ـ (كما يرى بعض المحققين ، ومنهم «ابن جنى» فى بحثه الذى عنوانه : «باب ، اختلاف اللهجات» بكتابه : «الخصائص» ونقله عنه «المزهر» ـ ج ١ ص ١٤٨) ـ وبعض النحاة يجيز أن يقيس عليهما الأدوات الاستفهامية الأخرى.

ا ـ وإذا كان أصل الكلام : ما تكون والبحر؟ وكيف تكون والبرد؟ فإن «تكون» فى المثالين ـ


٢ ـ لا يجوز أن يتقدم على عامله مطلقا ، ولا أن يتوسط بينه وبين الاسم

__________________

ـ ناقصة ، وأداة الاستفهام خبرها متقدما. أما اسمها ـ أنت ـ فضمير المخاطب ، كان مستترا فيها. فلما حذفت برز ، وصار منفصلا.

ب ـ ويجوز اعتبار «تكون» تامة ، وفاعلها الضمير المستتر ، ويصير بعد حذفها بارزا منفصلا ، و «كيف» الاستفهامية حال مقدم و «ما» الاستفهامية مفعول مطلق متقدم ، بمعنى : أى وجود توجد مع البحر ... و... وهذا أسهل كسهولة : تصنع ، أو تعمل ، بدلا من «كان» الناقصة.

ج ـ المبرد رأى آخر ـ لا بأس به ـ فى إعراب تلك الأمثلة ، وما شابهها ، فقد جاء فى كتابه : «الكامل» للمبرد ج ١ ص ٢٣٥ عند ذكره لكتاب على بن أبى طالب إلى معاوية المطالب بدم عثمان رضى الله عنه ، يقول على : (وبعد ، فما أنت وعثمان؟) قال المبرد ما نصه :

(ما أنت وعثمان؟ فالرفع فيه الوجه ، لأنه عطف اسما ظاهرا على اسم مضمر منفصل ، وأجراه مجرا ، وليس هنا فعل ، فيحمل على المفعول ؛ فكأنه قال : فما أنت؟ وما عثمان؟ هذا تقديره فى العربية. ومعناه : لست منه فى شىء. وقد ذكر سيبويه ـ رحمه الله ـ النصب ، وجوزه جوازا حسنا ، وجعله مفعولا معه ، وأضمر : «كان» من أجل الاستفهام ؛ فتقديره عنده «ما كنت وفلانا؟» اه. ثم سرد المبرد أمثلة أخرى قال بعدها ما نصه :

(فإن كان الأول مضمرا متصلا كان للنصب ... و... تقول مالك وزيدا ؛ فكأنه فى التقدير : وملابستك زيدا ، وفى النحو تقديره : مع زيد) اه كلام المبرد.

* * *

وإلى ما سبق يشير ابن مالك بقوله :

ينصب تالى الواو مفعولا معه

فى نحو : سيرى والطّريق مسرعه

(أى : سيرى مع الطريق) يقول : ما يجىء بعد الواو فى مثل : سيرى والطريق مسرعة ـ ينصب على اعتباره مفعولا معه. ولم يوضح هذا المفعول ، ببيان أوصافه ، وشروطه ؛ مكتفيا بالمثال ، والتعريف بالمثال نوع من أنواع التعريف المنطقى ، ولكنه لا يناسب ما نحن فيه مما يحتاج إلى شروط وقيود ... ثم قال :

بما من الفعل وشبهه سبق

ذا النّصب. لا بالواو فى القول الأحق

يريد : هذا النصب للمفعول معه يكون بشىء سبق ؛ كالفعل وشبهه ، ولا يكون بالواو فى الرأى الأحق باتباع (فكلمة : «ما» بمعنى : شىء. والجار والمجرور ـ بما ـ خبر متقدم للمبتدأ المتأخر : ؛ «ذا». والجملة من الفعل : «سبق» وفاعله فى محل نصب حال من كلمة ؛ الفعل) ... والتقدير : هذا النصب بشىء من الفعل وشبهه حالة كون الشىء سبق ، وتقدم على المفعول معه وعلى الواو ، ويصح أن تكون : «ما» موصولة ، والجملة الفعلية صلة ...

ثم أشار بعد ذلك إلى المفعول معه المنصوب بعد «ما» و «كيف الاستفهاميتين ، فقال :

وبعد «ما» استفهام أو «كيف» نصب

بفعل كون مضمر بعض العرب

وقد نسب النصب بعد الأداتين السالفتين لبعض العرب للدلالة على أنه سماعى فقط وهذا صحيح. ولكن العرب لا دخل لها بفعل الكون المقدر وغيره من المصطلحات النحوية المحضة.


المشارك له والمقارن ... ففى مثل : مشى الرجل والحديقة ؛ لا يصح أن يقال : والحديقة مشى الرجل ، ولا : مشى والحديقة الرجل.

٣ ـ لا يجوز أن يفصل بينه وبين واو المعية فاصل ، ولو كان الفاصل شبه جملة كما لا يجوز حذف هذه الواو مطلقا.

٤ ـ إذا جاء بعده تابع أو ضمير أو ما يحتاج إلى المطابقة وجب أن يراعى عند المطابقة الاسم الذى قبل الواو وحده ؛ نحو : كنت أنا وزميلا كالأخ ؛ أحبّه وأعطف عليه. ولا يصح كالأخوين ...

* * *

حالات الاسم الواقع بعد الواو :

له حالات أربع :

أولها : جواز عطفه على الاسم السابق ، أو نصبه مفعولا معه (١). والعطف أحسن ، مثل : بالغ الرجل والابن فى الحفاوة بالضيف. فكلمة : «الابن» ، يجوز رفعها بالعطف على الرجل ، أو نصبها مفعولا معه ، ولكن العطف أحسن من النصب على المعية ؛ لأنه أقوى فى الدلالة المعنوية على المشاركة والاقتران (٢) ولا شىء يعيبه هنا. ومثله : أشفق الأب والجدّ على الوليد ـ أضاء القمر والنجوم ...

ثانيها : جواز الأمرين ، والنصب على المعية أحسن ؛ للفرار من عيب لفظى أو معنوى. فمثال اللفظى : أسرعت والصديق ؛ فكلمة : «الصديق» يجوز فيها الرفع عطفا على الضمير المرفوع المتصل ، ويجوز فيها النصب على المعية ، وهذا أحسن ؛ لأن العطف على الضمير المرفوع المتصل يشوبه بعض الضعف إذا كان بغير فاصل بين المعطوف والمعطوف عليه ؛ كهذا المثال (٣). والفرار من الضعف أفضل من

__________________

(١) إلا فى الحالة المشار إليها فى رقم ٣ من آخر هامش ص ٢٨٣.

(٢) لأن العطف يقتضى إعادة العامل تقديرا قبل المعطوف ، فكأن العامل مكرر. فيقع به التأكيد اللفظى الذى يقوى المعنى. (انظر ما يتصل بهذا فى «ا» من ص ٢٩١).

(٣) كما هو موضح فى مكانه من باب العطف ـ ج ٣ ـ عند الكلام على العطف على الضمير المرفوع المتصل.


الإقبال عليه بغير داع (١).

ومثال العيب المعنوى قولهم : «لو تركت الناقة وفصيلها (٢) لرضعها». فلو عطفنا كلمة : «فصيل» على كلمة : «الناقة» لكان المعنى : لو تركت الناقة وتركت (٣) فصيلها ـ لرضعها ، وهذا معنى غير دقيق ، يحتاج تصحيحه إلى تأويل وتقدير لا داعى لهما. وعيبه آت من أن تركهما لا يستلزم تلاقيهما المؤدى إلى حصول الرضاعة. وقد نتركهما ؛ لا نحول بينهما ، ولكن الأم تنفر منه ، ولا تمكنه من الرضاعة ، أو ينفر منها ...

ثالثها : وجوب العطف ، وامتناع المعية (٤) : وذلك حين يكون الفعل أو ما يشبهه مستلزما تعدد الأفراد التى تشترك فى معناه اشتراكا حقيقيّا. وكذلك حين يوجد ما يفسد المعنى مع المعية. فمثال الأول : تقابل النمر والفيل ـ اختصم العادل والظالم ـ اتفق التاجر والصانع ... فكل فعل من هذه الأفعال : (تقاتل ـ اختصم ـ اتفق ـ وأشباهها) لا يتحقق معناه إلا بالفاعل المتعدد فيشترك الأفراد فى معنى العامل ؛ فلا بد من وجود اثنين أو أكثر يشتركان حقيقة فى التقاتل ، والاختصام ، والاتفاق ... وهذا يتحقق بالعطف دائما ؛ لأنه يقتضى الاشتراك المعنوى الحقيقى (٥). بخلاف المعية ؛ فإنها تقتضى الاشتراك الزمنى ؛ أما المعنوى فقد تقتضيه حينا ، ولا تقتضيه أحيانا ؛ كما عرفنا (٦).

ومثال الثانى : أشرف القمر وسهيل قبله أو بعده ... فتفسد المعية بسبب وجود : «قبل» ، أو «بعد».

__________________

(١) وفى الحالتين السابقتين يقول ابن مالك :

والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق

والنّصب مختار لدى ضعف النّسق

النسق هو العطف بالحرف ؛ كالعطف بالواو ، أو الفاء ، أو ثم ...

(٢) الفصيل : ابن الناقة الذى يفصل عنها.

(٣) لأن العطف على نية تكرار العامل. ـ انظر رقم ٢ من هامش الصفحة السالفة ـ

(٤) من هذا القسم المسألة المشار إليها فى رقم ٢ من هامش ص ٢٨٣.

(٥) أما الاشتراك فى الزمن فقد يقتضيه أو لا يقتضيه ؛ فمثل : أكلت خالدة وأختها ، قد يقع أكلهما فى زمن واحد أو مختلف (كما يتضح فى «ا» من ص ٢٩١).

(٦) فى ص ٢٨٢ ، ٢٨٣.


رابعها : امتناع العطف ووجوب النصب ـ فى الأصح ـ ، إمّا على المعية ، إن استقام المعنى عليها. وإما على غيرها إن لم يستقم ؛ (كنصب الكلمة مفعولا به لفعل محذوف) ؛ وذلك منعا لفساد لفظى أو معنوى. فمثال وجوب النصب على المعية لمانع لفظى يمنع العطف : نظرت لك وطائرا ؛ لأن الأصل ـ الغالب ـ فى العطف على الضمير المجرور أن يعاد حرف الجر مع المعطوف ؛ كما فى قول الشاعر :

فما لى وللأيّام ـ لا درّ درّها

تشرّق بى طورا ، وطورا تغرّب

فقد أعاد اللام مع المعطوف (١) ، ومثال النصب لمانع معنوى يمنع العطف : مشى المسافر والصحراء. بنصب كلمة : «الصحراء» على المعية ؛ إذ لو رفعت بالعطف على كلمة : «المسافر» لكان المعنى : مشت الصحراء. وهذا فاسد. ومثال النصب على غير المعية بتقدير فعل محذوف ينصب الكلمة مفعولا به : دعينا لحفل ساهر فأكلنا لحما ، وفاكهة ، وخضرا ، وماء عذبا ، وغناء ساحرا ـ فيجب نصب كلمة : «ماء» وكلمة : «غناء» بفعل محذوف يناسب كلا منهما. والتقدير : وشربنا ماء عذبا ، وسمعنا غناء ساحرا ... ولا يصح النصب على المعية ، ولا على العطف (٢) وإلا فسد المعنى. ومثله قول الشاعر:

تراه كأنّ الله يجدع أنفه

وعينيه إن كان مولاه له وفر (٣)

يريد : ويفقأ عينيه ؛ لأن الجدع ـ خاص بالأنف ، فلا يكون للعينين ... (٤)

__________________

(١) سيذكر هذا البيت لمناسبة أخرى فى باب العطف ج ٣ ـ م ١١٦.

(٢) لأن الماء لا يؤكل ، وكذا الغناء ، ولأن سماع الغناء فى الحفل الساهر يكون بعد الأكل ـ عادة ـ لا معه فى زمنه.

وعند تقدير فعل محذوف مناسب. تنشأ جملة فعلية تكون معطوفة بالواو على الجملة الفعلية الأولى ؛ فالعطف ـ على الأصح ـ عطف جمل. والممنوع عطف المفردات ، إذ لا يجوز عطف «ماء» ولا غناء على : لحما. لكن يصح عطف جملة : «شربنا» وجملة : «سمعنا» على الجملة الأولى ؛ وهى : «أكلنا». (وستجىء مناسبة أخرى لهذا فى ج ٣ باب العطف عند الكلام على العطف بالواو).

(٣) الوفر الزيادة. والبيت يذم حقودا بأنه يحزن لنعمة تبدو على جاره أو صاحبه ، ويتألم كمن جدع أنفه ، أو فقئت عيناه.

(٤) وإلى شطر من هذه الحالة يشير ابن مالك قائلا :

والنّصب ـ إن لم يجز العطف ـ يجب

أو اعتقد إضمار عامل نصب


زيادة وتفصيل :

(ا) فى كل حالة يجوز فيها الأمران ؛ (العطف والمعية) ، لا بد أن يختلف المعنى فى كل أمر منهما ؛ ذلك أن العطف يقتضى المشاركة الحتمية بين المعطوف والمعطوف عليه فى معنى الفعل ، من غير أن يقتضى المشاركة الزمنية الحتمية ؛ فقد يقتضيها أو لا يقتضيها ، ففى مثل : «آنسنى محمود وصالح فى السفر» لا بد أن يشترك الاثنان فى مؤانسة المتكلم ، وأن تتناولهما المؤانسة ؛ لأن العطف على نية تكرار العامل ؛ فكأنك قلت : آنسنى محمود ، وآنسنى صالح. لكن ليس من اللازم أن تكون هذه المؤانسة قد شملتهما ، وشملت المتكلم فى زمن واحد ؛ فقد تكون فى وقت واحد أو لا تكون (١). والأمر فى هذه المشاركة الزمنية وعدمها ، متروك للقرائن والدلائل.

أما المفعول معه فلا بد فيه من المشاركة الزمنية الحتمية. أما المشاركة المعنوية فقد يقتضيها أو لا يقتضيها (٢) ؛ ففى مثل : سافر الرحالة والصحراء ، تتعين المشاركة الزمنية وحدها دون المعنوية ؛ فإنها تفسد المعنى ؛ لأن الصحراء لا تسافر ... وفى مثل : سار القائد والجنود ، تصح المشاركة المعنوية مع المشاركة الزمنية المحتومة فجواز الأمرين فى كل حالة يجوز فيها أمران ليس معناه أن المراد منهما واحد. وإنما معناه أن هذا الضبط صحيح إن أردت المعنى المعين المختص به ، وأن ذاك الضبط صحيح أيضا إن أردت المعنى المختص به كذلك. وإن شئت فقل : إن كل ضبط صحيح منهما لا بد أن يؤدى إلى معنى يخالف ما يؤديه الضبط الآخر.

(ب) قد يقتضى المقام ذكر أنواع مختلفة من المفاعيل. وفى هذه الحالة يحسن ترتيبها بتقديم المفعول المطلق ، فالمفعول به الذى تعدى إليه العامل مباشرة. فالمفعول به الذى تعدى إليه العامل بمعونة حرف جرّ ، فالظرف الزمانى ، فالمكانى ، فالمفعول له ، فالمفعول معه. وهذا الترتيب هو ما ارتضاه كثير من النحاة. والحق أن الذى يجب مراعاته عند الترتيب هو تقديم ما له الأهمية.

__________________

(١) كما سبق فى رقم ٥ من هامش ص ٢٨٩.

(٢) كما سبق فى ص ٢٨٣.


المسألة ٨١ :

الاستثناء (١).

تمهيد :

يتردد فى هذا الباب كثير من المصطلحات الخاصة به ، والتى لا بدّ من معرفة مدلولاتها ـ قبل الدخول فى مسائله وأحكامه. ومن تلك المصطلحات :

المستثنى منه ـ المستثنى ـ أداة الاستثناء ـ التّام ـ الموجب ـ المفرّغ ـ المتصل ـ المنقطع ـ ... وفيما يلى بيانها.

(ا) (المستثنى منه ـ المستثنى ـ أداة الاستثناء).

هذه الثلاثة تنكشف مدلولاتها على أكمل وجه إذا عرفنا أن أسلوب الاستثناء فى أكثر حالاته ، هو أسلوب أهل الحساب فى عملية : «الطّرح». فالذى يقول : أنفقت من المال مائة إلا عشرة ، إنما يعبر عما يقوله أهل الحساب : (١٠٠ ـ ١٠) والذى يقول : اشتريت تسعة كتب إلا اثنين ؛ إنما يعبر عن قولهم : (٩ ـ ٢) ... وهكذا ...

والتعبير الحسابى يشتمل على ثلاثة أركان مهمة ؛ هى : المطروح منه (مثل ١٠٠ ومثل ٩ ... وأشباههما ...) والمطروح (مثل ١٠ ومثل ٢ ...) وعلامة الطرح ويرمزون لها بشرطة أفقية قصيرة : (ـ)

ولهذه المصطلحات الحسابية الثلاثة ما يقابلها تماما فى الأسلوب الاستثنائى ؛ ولكن بأسماء أخرى ؛ فالمطروح منه يقابله : «المستثنى منه». والمطروح يقابله : «المستثنى». وعلامة الطرح يقابلها الأداة : «إلا» ، أو إحدى أخواتها ، أى : ثلاثة إزاء ثلاثة.

ولما كانت عملية الطرح بمصطلحاتها شائعة ، بل أوّلية ـ كان ربط أسلوب

__________________

(١) المراد به هنا الاستثناء فى اصطلاح النحاة ، فله تعريف خاص عندهم ، وأدوات وأحكام نحوية يتميز بها. ومن الممكن تأدية المعنى الاستثنائى بوسائل مختلفة تخالف الاستثناء النحوى ، ولكنها لا تسمى : «استثناء» فى اصطلاحهم ؛ لعدم انطباق تعريفه وأحكامه عليها.


الاستثناء بها كفيلا بإيضاح مصطلحاته الثلاثة السالفة ، وفهمه فى سهولة ويسر واستقرار(١).

وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم قول النحاة فى تعريف الاستثناء الاصطلاحى : (إنه الإخراج «بإلا» أو إحدى أخواتها لما كان داخلا فى الحكم السابق عليها) (٢). فليس هذا الإخراج إلا «الطرح» ؛ بإسقاط ما بعدها مما قبلها ، ومخالفته إياه فيما تقرر من أمر مثبت أو منفى ...

(ب) الاستثناء التام :

ما كان فيه المستثنى منه مذكورا ؛ كالأمثلة السالفة ، ومثل : ركبت الطائرة عشرين ساعة إلا خمسة. وكان معى زملائى إلا ثلاثة. فكلمة «عشرين» هى المستثنى منه. وكذا كلمة : «زملاء». وبسبب وجود كل منهما فى الكلام سمى الاستثناء : «تامّا».

(ح) الاستثناء الموجب ، وغير الموجب :

فالأول ما كانت جملته خالية من النفى ؛ وشبهه ـ وشبه النفى هنا : النهى ؛ والاستفهام الذى يتضمن معنى النفى (٣) ـ كالأمثلة السابقة ، وكقول الشاعر :

قد يهون العمر إلا ساعة

وتهون الأرض إلا موضعا

__________________

(١) أى : بقائه مفهوما.

(٢) وهذا يشمل الدخول الحقيقى ؛ كالأمثلة السالفة ، والدخول التقديرى الملاحظ فى النفس كالمفرّغ ؛ وكالمستثنى المنقطع ، ـ وسيجىء إيضاحهما فى ص ٢٩٤ و ٢٩٥ و ٢٩٨ و ٣٠٨ ـ ؛ فإنهما لا يدخلان فى الحكم السابق حقيقة ، وإنما يندمجان فيه تقديرا.

(٣) وهذا يشمل أنواعا ؛ منها الاستفهام الإنكارى : (ويسمى أيضا : الإبطالى) ويعرفونه بأنه الذى يسأل به عن شىء غير واقع ، ولا يمكن أن يحصل. فمدعيه كاذب. وهذا النوع يتضمن معنى النفى ؛ لأن أداة الاستفهام فيه بمنزلة أداة النفى فى أن الكلام الذى تدخل عليه منفى المعنى ؛ نحو قوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً؟.) (راجع : المغنى ج ١ عند الكلام على الهمزة. وكذلك حاشية الأمير عليه عند الكلام على : «أم»).

ومنها : الاستفهام التوبيخى ؛ وهو : ما يسأل به عن أمر حاصل واقع ، ومن يدعى وجوده يكون صادقا فى إخباره عن أمر موجود ذميم. وفاعله ملوم يستحق التوبيخ بسببه ؛ مثل قولنا للأوصياء : أتأكلون أموال اليتامى بالباطل؟

وفى الجزء الثانى من «المغنى» عند الكلام على : «هل» أن أنواع الإنكار ثلاثة ؛ منها النوعان السالفان ، أما الثالث فمعناه النفى المجرد ، والسلب المحض. بحيث يمكن وضع أداة النفى مكان أداة الاستفهام فلا يتغير المعنى. والأكثر أن تكون أداة الاستفهام هى : «هل» نحو : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، أى : ما جزاء الإحسان إلا الإحسان.


والثانى : ما كان مشتملا على نفى أو شبهه ؛ نحو : ما تأخر المدعوون للحفل إلا واحدا ـ هل تأخر المدعوون إلا واحدا (١)؟

ومن النفى ما هو معنوى (يفهم من المعنى اللغوى للكلمة ، دون وجود لفظ من ألفاظ النفى). مثل : يأبى الله إلا أن يتم نوره ، فمعنى «يأبى» : لا يريد. ومثل : قلّ رجل يفعل ذلك ، لأن معنى : «قلّ» فى هذا الأسلوب المسموع ، هو : النفى ؛ أى : لا رجل يقول ذلك.

أما «لو» فى مثل : لو حضر الضيوف إلا واحدا ، لأكرمتهم ، فإنه نفى ضمنىّ غير مقصود ، فلا ينظر إليه من هذه الناحية ، فكأنه غير موجود.

(د) الاستثناء المفرغ (٢) ، هو : ما حذف فيه المستثنى منه والكلام غير موجب ؛ (فلا بد من الأمرين معا) (٣) نحو : ما تكلم ... إلا واحد ـ ما شاهدت ... إلا واحدا ـ ما ذهبت ... إلا لواحد والأصل ـ مثلا ـ قبل الحذف : ما تكلم الناس إلا ... ـ ما شاهدت الناس إلا ... ـ ما ذهبت للناس إلّا (٤) ... ثم حذف المستثنى منه ، كحذفه فى قول الشاعر :

لا يكتم السرّ إلا كلّ ذى شرف

والسّرّ عند كرام الناس مكتوم

والأصل : لا يكتم الناس السرّ إلا كل ذى شرف.

فالاستثناء المفرّغ يقتضى أمرين مجتمعين حتما (٥) ؛ أن يكون الكلام غير تام ، وغير موجب. وهذا أمر يجب التنبه له. وإلى أن أداة الاستثناء الفعلية لا يصح استخدامها فيه. ـ لأنها لا تستخدم إلا فى الاستثناء التام المتصل (٦) ـ

__________________

(١) من النحاة من يرى أن هذا النوع لا تستخدم فيه أدوات الاستثناء الفعلية ، ورأيه ضعيف يجب إهماله ؛ أخذا بصريح ما جاء فى المفصل ـ ح ٢ ص ٧٧ و ٧٨ ـ. وفى الخضرى والصبان ـ وسيجىء هذا فى رقم ١ من هامش ص ٢٢٨ ـ.

(٢) انظر رقم ٢ من هامش ص ٢٩٣ أما سبب التسمية ففى ص ١٩٨.

(٣) ومن القليل الذى لا يلتفت إليه وقوع التفريغ فى الإيجاب ، إذا كان المحذوف فضلة حصلت مع حذفه فائدة. لكن هذه القلة لا اعتبار لها ، ويجب إهمالها ـ كما نصوا على ذلك ـ راجع الصبان ـ

(٤) يوضح هذا المثال ما يجىء فى رقم ١ من هامش ص ٢٩٩.

(٥) انظر ص ٣٢٨ وقد ورد النص الخاص بمنع استخدام أداة الاستثناء الفعلية فى غير التام المتصل فى حاشية الخضرى ، وبالجزء الثانى من الصبان عند الكلام على الأدوات الفعلية ، وكذا المفصل ج ٢ ص ٧٧.


(ه) الاستثناء المتصل والمنقطع :

فالأول : ما كان فيه المستثنى بعضا (١) من المستثنى منه ؛ نحو : سقيت الأشجار إلا شجرة ـ فحص الطبيب الجسم إلا اليد.

والثانى : ما لم يكن فيه المستثنى بعضا من المستثنى منه ؛ نحو حضر الضيوف إلا سياراتهم ـ اكتمل الطلاب إلا الكتب. ومثل قوله تعالى عن أهل الجنّة : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً،) فاللغو هو : ردىء الكلام وقبيحه ، والسّلام ليس بعضا منه. وكذلك قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً.)

وليس معنى انقطاعه أنه لا صلة له بالمستثنى منه ، ولا علاقة تربطهما ارتباطا معنويّا ، وإنما معناه انقطاع صلة «البعضية» بينهما ؛ فليس «المستثنى» جزءا حقيقيّا من «المستثنى منه» ، ولا فردا من أفراده. ومع انقطاع هذه الصلة على الوجه السالف لا بد أن يكون هناك نوع اتصال معنوى يربط بينهما. ولهذا تؤدى أداة الاستثناء فيه معنى الحرف : «لكن» (ساكن النون أو مشددها) الذى يفيد الابتداء والاستدراك معا (٢) ؛ وبالرغم من إفادته الابتداء والاستدراك معا لا يقطع الصلة المعنوية بين ما بعده وما قبله ، ومن ثمّ كان من المحتوم فى كل «استثناء منقطع» صحة وقوع الحرف : «لكن» ـ الساكن النون ، أو مشددها ـ موقع أداة الاستثناء فيه مع استقامة المعنى. (على التفصيل الذى سيجىء فى الزيادة) (٣) ولا يجوز فى الاستثناء المنقطع أن تكون أداته فعلا ؛ لأن هذه الأداة الفعلية لا تستخدم إلا فى التامّ المتصل ، كما تقدم.

والآن نبدأ الكلام فى أحوال الاستثناء ، وأحكامه ، وهى متعددة (٤) يتعدد أدواته

__________________

(١) لهذا صورتان ؛ الأول : أن يكون المستثنى منه متعدد الأفراد ، والمستثنى أحد تلك الأفراد المتماثلة ؛ نحو : تناولت الكتب إلا كتابا. فالمستثنى منه ـ وهو الكتب ـ متعدد الأفراد ، والمستثنى واحد منها. الثانية : أن يكون المستثنى منه فردا واحدا ، ولكنه ذو أجزاء ، والمستثنى جزء من تلك الأجزاء ؛ مثل : غطيت الجسم إلا الوجه. وفى الحالتين يكون ما بعد «إلا» مخالفا فى المعنى لما قبلها. ولا مانع فى الرأى الأحسن أن يكون المستثنى المتصل جملة ـ وسيجىء البيان فى رقم ٣ من هامش ص ٣٠٥ ورقم ٢ من هامش ص ٣٠٧ ـ

(٢) راجع «و» من ص ٣٠٧.

(٣) فى : «و» من ص ٣٠٧.

(٤) هذا الباب من أكثر الأبواب تعددا فى الأحكام ، واختلافا فيها. ومنها المردود والضعيف. وقد حاولنا جاهدين تصفيته مما يشوه الحقائق الناصعة.


الثمانية التى منها الحرف المحض ، والاسم المحض ، والفعل المحض ، وما يصلح فعلا وحرفا.

* * *

الكلام على أحكام المستثنى الذى أداته حرف خالص ، وهى : «إلّا» (١) :

(ا) إذا كانت أداة الاستثناء «إلّا» ، ولم تتكرر (٢) فللمستثنى بها ثلاثة أحكام :

الأول : وجوب النصب ـ فى الأغلب (٣) ـ ، بشرط أن يكون الكلام تامّا موجبا (٤) ؛ سواء أكان «المستثنى» متأخرا بعد «المستثنى منه» ، أم متقدما (٥) عليه ، «متصلا» ، أم «منقطعا» فمتى تحقق الشرط كان النصب واجبا ـ فى الأغلب (٦) ـ ، وعامّا يشمل كل الأحوال. وعند الإعراب يقال : «إلا» أداة استثناء حرف. والمستثنى : منصوب على الاستثناء كالأمثلة الآتية. ولا بد أن تتقدم «إلا» على المستثنى فى كل الحالات (٧) ، سواء أكان متقدما على المستثنى منه أم متأخرا عنه :

(امتلأت الجداول إلا جدولا كبيرا). (امتلأت ـ إلا جدولا كبيرا ـ الجداول).

(كتبت الرسائل إلا رسالة واحدة). (كتبت ـ إلا رسالة واحدة ـ الرسائل).

(تمتعت بالصحف إلا صحيفة تافهة). (تمتعت ـ إلا صحيفة تافهة ـ بالصحف).

(أعدّت ملابس الرحلة إلا الحقائب). (أعدت ـ إلا الحقائب ـ ملابس الرحلة).

(تناولت الطعام إلا الماء). (تناولت ـ إلا الماء ـ الطعام).

(أضأت المصابيح إلا غرفة). (أضأت ـ إلا غرفة ـ المصابيح).

__________________

(١) ومثلها : «لمّا» التى تشبهها فى الحرفية ، وفى الدلالة على الاستثناء. وإفادته ؛ (طبقا للبيان الخاص بها فى «ا» من «الزيادة» ص ٣٠٣ وفى «د» من ص ٣٣٦ ـ) وهى غير «لما» الظرفية التى سبق الكلام عليها فى ص ٢٧٥ وتجىء لها إشارة فى باب الإضافة ، ج ٣ م ٩٤ ص ٨١ ، وهما كذلك غير لما الجازمة التى سيجىء الكلام عليها فى ح ٤ م ١٥٣ ص ٣١٤ هذا ، و «إلا» التى للاستثناء كلمة واحدة ، وليست مركبة ، وهى حرف ، وقد تترك الحرفية والاستثناء وتصير اسما محضا (كما سيجىء البيان فى «ج» من ص ٣٢٥) بخلاف : «إلا» التى فى مثل : إلا تجامل زملاءك يكرهوك ، فإنها مركبة من «إن» الشرطية المدغمة فى : «لا» النافية.

(٢) أما المكررة فيجىء حكمها فى ص ٣١٣.

(٣ و ٣) وهذا هو الشائع وهناك رأى آخر لا يوجب النصب ، سيجىء بيانه فى «د» من ص ٣٠٤.

(٤) سيجىء شرط آخر فى «ه» من ص ٣٠٦ هو ألا يكون المستثنى نكرة محضة ... و...

(٥) فى ص ٣٠٤ أحكام خاصة بتقديم المستثنى وبيان العامل الذى يعمل فيه النصب ...

(٣ و ٣) وهذا هو الشائع وهناك رأى آخر لا يوجب النصب ، سيجىء بيانه فى «د» من ص ٣٠٤.

(٦) انظر ما يختص بهذا فى «ب» من ص ٣٠٣.


الثانى : إما نصب «المستثنى» (والإعراب كالحالة السابقة). وإما ضبطه على حسب حركة «المستثنى منه» ، (فيكون مثله ؛ مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا) ويعرب : «بدلا» (١). ولا بد فى الحالتين أن يكون الكلام تامّا غير موجب (٢). ولا فرق بين المتصل والمنقطع (٣). ومن الأمثلة :

ما تخلف السباقون إلا واحدا ـ أو : واحد.

ما جهلت السباقين إلا واحدا ـ أو : واحدا (٤).

هل تأخرت عن السباقين إلا واحدا ـ أو : واحد.

ويجوز أن يتقدم «المستثنى» (٥) وهو منصوب ، على المستثنى منه مباشرة ويبقى كلّ شىء كما كان ، فلا يتغير الإعراب كالأمثلة الآتية :

ما تخلف ـ إلا واحدا ـ السباقون.

ما جهلت إلا واحدا ـ السباقين (٦).

هل تأخرت إلا واحدا ـ عن السباقين.

أما لو تقدم وهو بدل فى الأصل ؛ فإن الأمر يتغيّر تغيّرا كليّا (٧) فيعرب «المستثنى» المتقدم على حسب حاجة الكلام قبله ، ويزول عنه اسم المستثنى ؛ كما يزول عن «المستثنى منه» المتأخر ، اسمه ، ويعرب بدلا من الاسم الذى تقدم ، وتابعا له فى حركة

__________________

(١) بدل بعض من كل ، والمبدل منه هو المستثنى منه. والبدل هنا لا يحتاج لرابط ؛ لأن وجود «إلا» يغنى عنه ؛ لدلالتها على أن ما بعدها بعض مما قبلها ـ وستجىء إشارة لهذا فى البدل ج ٣ ص ٤٨٧ ـ.

(٢) إذا انتقض النفى بسبب وجود «إلا» المكررة لم يجز البدل ، واقتصر الأمر على النصب وحده ؛ نحو : ما شرب أحد شيئا إلا الماء إلا محمودا ؛ لأن الكلام هنا بمنزلة المثبت ؛ إذ معناه. شربوا الماء إلا محمودا. وفى «د» من ص ٣٠٤ أمثلة مسموعة للبدل فى كلام تام موجب. وفى «ز» من ص ٣٠٩ الرأى فى تفريعات البدل التى يعرضها النحاة.

(٣) فى «و» من ص ٣٠٧ أحوال وأحكام هامة تختص بالمنقطع.

(٤) فى هذا المثال نصبت كلمة : «واحدا» فى الصورتين ، ولكن النصب فى إحداهما على البدلية ، وفى الأخرى على الاستثناء.

(٥) بشرط أن تتقدم معه «إلا» وتسبقه ، لأن تقدمها عليه شرط عام فى كل الحالات التى يتقدم فيها على المستثنى منه أو يتأخر عنه ، كما أسلفنا ، وكما يجىء فى «ب» من الزيادة والتفصيل» ص ٣٠٣.

(٦) سيذكر هذا المثال فى الحالة التالية التى يتقدم فيها البدل ؛ لأنه ـ وأشباهه ـ صالح للحالتين

(٧) فى هذه الحالة سيعتبر من القسم الثالث الآتى ، وهو قسم : «المفرغ».


إعرابه ، وتصير «إلا» ملغاة (١). ومن الأمثلة :

ما تخلف إلا واحد ـ السباقون.

ما جهلت إلا واحدا ـ السباقين (٢).

هل تأخرت إلا عن واحد (٣) ـ السباقين.

ففى مثل : ما تخلف ـ إلا واحد ـ السباقون ... تعرب كلمة «إلا» ملغاة. وتعرب كلمة : «واحد» فاعلا للفعل : «تخلّف» وتعرب كلمة :

«السباقون» بدلا منها (٤) ، بدل كل من كل ، وهذا إعرابها فى باقى الأمثلة المعروضة (٥).

الثالث : أن يعرب ما بعد «إلا» على حسب العوامل قبلها ؛ بشرط أن يكون الكلام «مفرّغا (٦)». وهذه الصورة لا تعدّ من صور الاستثناء ؛ لعدم وجود «المستثنى منه» (٧). لهذا تعرب «إلا» ملغاة. ويعرب ما بعدها فاعلا ، أو مبتدأ ، أو مفعولا ، أو خبرا ، أو غير ذلك ... فكأن كلمة : «إلا» غير موجودة من هذه الناحية الإعرابية (٨) فقط دون المعنوية. ويسمّون الكلام : «مفرّغا» ؛ لأن ما قبل «إلا» تفرغ للعمل الإعرابى فيما بعدها. ولم يشتغل بالعمل فى غيره. ومن الأمثلة : ما أخطأ إلا واحد متسرع ـ ما العدل إلا دعامة الحكم الصالح. ما سمعت إلا بلبلا صدّاحا ـ ليس العمل إلا سلاح الشريف.

__________________

(١ و ١) لأن ما بعدها يكون خاضعا فى إعرابه لحاجة ما قبلها ؛ فكأنها غير موجودة لكنها من ناحية المعنى تفيد استثناء ما بعدها من حكم ما قبلها.

(٢) هذا المثال لا يتعين فيه التفريغ عند تقديم البدل المنصوب ؛ إذ يصح ـ كما قلنا فى رقم ٦ من هامش الصفحة السابقة ـ اعتبار الكلام تاما غير موجب تقدم فيه المستثنى المنصوب الذى ليس بدلا ؛ ويكون حكمه حكم الأمثلة التى قبل هذا مباشرة.

(٣) ما يأتى فى رقم ١ من هامش ص ٢٩٩ يوضح أصل هذا المثال ، وما جرى فيه.

(٤) البدل هنا : بدل كل من كل ، لأن المتأخر عام أريد به خاص ؛ فصح لذلك إبداله من المستثنى الذى تقدم ، وكان قبل تقدمه بدل بعض ؛ ـ كما سبق فى رقم ١ من هامش ص ٢٩٧ ـ فانقلب المتبوع تابعا ، كما فى قولهم : ما مررت بمثلك أحد.

(٥) إلا المثال الثانى فلا يتعين فيه التفريغ لما سبق فى رقم ٢.

(٦) من التفريغ النوع الآتى فى ص ٣٠٢.

(٧) انظر البيان فى رقم ٢ من هامش ص ٢٩٣.


ما ذهبت إلا للنابغ (١) ـ ما سعيت إلا فى الخير.

ونحو :

يأبى الحرّ إلا العزة ـ يأبى الله إلا أن يتم نوره (٢).

وأصل الكلام ـ مثلا ـ : قبل حذف المستثنى منه :

ما أخطأ المتكلمون إلا واحدا متسرعا ـ أو : واحد.

ما العدل دعامة إلا دعامة الحكم الصالح ـ أو دعامة الحكم الصالح.

ما سمعت طيورا مغردة إلّا بلبلا صدّاحا ـ أو : بلبلا صدّاحا.

ليس العمل سلاحا إلّا سلاح الشريف ـ أو : سلاح الشريف.

ما ذهبت لأحد إلا النابغ ـ أو : النابغ

ما سعيت فى أمر إلا الخير ـ أو : الخير.

يأبى الحرّ كلّ شىء ، إلّا العزة ـ أو : العزة.

يأبى الله كل شىء إلا إتمام نوره ـ أو : إتمام ...

فهو فى أصله كلام تام غير موجب ، يجوز فيه الأمران السالفان ؛ إما النصب على الاستثناء ، وإما الإتباع على البدلية ، فلما حذف المستثنى منه صار الكلام نوعا

__________________

(١) أصل الكلام : ما ذهبت لأحد إلا النابغ. فلما حذف المستثنى منه ـ وهو : أحد ، ـ بقيت لام الجر منفردة تحتاج لشىء بعدها تجره ؛ إذ لا يمكن أن تستقل بنفسها ؛ فتأخرت إلى ما بعد «إلا» ؛ لتجره ؛ لأنه خاضع فى إعرابه لما قبلها ، ولا يمكن تقديمه وحده دون «إلا». (وهذا التفسير هو الذى أحلنا عليه فى رقم ٣ من هامش الصفحة السابقة ومن ص ٢٩٤).

(٢) الكلام هنا مفرغ ؛ لأن المستثنى منه محذوف ، ولوجود نفى معنوى فى كلمة «يأبى» ؛ لأن معناها دائما هو : لا يريد ـ كما سبق ، فى ص ٢٩٤ ـ (هذا تأويلهم ، وفيه مجال للتوقف والرفض).


جديدا ؛ هو : المفرغ (١) ، وصار له حكم جديد خاص ، تبعا لذلك ...

ويمكن تلخيص كل ما تقدم من أحكام المستثنى ب «إلا» الواحدة (٢) فيما يأتى :

(ا) النصب صحيح فى جميع أحوال المستثنى «بإلا» التى لم تتكرر ، ما عدا حالة : «التفريغ» ؛ فإنه يعرب فيها على حسب حاجة الجملة ، وتعرب «إلا» ملغاة.

(ب) يزاد على النصب البدلية حين يكون الكلام «تامّا» غير موجب ، بشرط ألا يتقدم المستثنى على المستثنى منه مباشرة ؛ فإن تقدم وهو منصوب بقى على حاله منصوبا على الاستثناء ، وإن تقدم وهو «بدل» تغير الأمر ؛ فزال اسمه

__________________

(١) يجوز التفريغ لجميع المعمولات ، إلا المفعول معه ، والمصدر المؤكد لعامله ، وكذا الحال المؤكد لعامله ؛ فلا يقال : ما سرت إلا والأشجار ـ ما زرعت إلا زرعا ـ لا تعمل إلا عاملا ـ وسبب المنع وقوع التناقض بذكر المعنى مثبتا أو منفيا قبل : «إلا» ثم مخالفته بعد : «إلا». وأما قوله تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) فالقرائن تدل على أن المراد : إن نظن إلا ظنا عظيما ، فهو مصدر مبين للنوع. ويجوز أن يقع «التفريغ» فى غير ما سبق منعه ؛ فمن التفريغ للمبتدأ قوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ومن التفريغ للفاعل قول الشاعر:

ما المجد زخرف أقوال تطالعه

لا يدرك المجد إلا كلّ فعال

وللظرف قول الشاعر :

لم يضحك الورد إلا حين أعجبه

حسن الرياض ، وصوت الطائر الغرد

وللجار مع مجروره قول الشاعر يمدح الخليفة باحتمال التعب لراحة الرعية :

بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها

تنال إلا على جسر من التعب

وقول الآخر :

ما القرب إلا لمن صحّت مودته

ولم يخنك ، وليس القرب للنسب

ثم انظر «ا» الآتية فى «الزيادة والتفصيل» ـ ص ٣٠٢ ـ حيث النوع من التفريغ المشتمل على جملة فعلية قسمية ... ويشيع فى الأساليب الأدبية المسموعة ، وهو نوع يخالف ما سبق.

(٢) أى : التى لم تتكرر.


عنه ، وصار معربا على حسب حاجة الجملة ، لأن الكلام يصير : «مفرّغا». أما المستثنى منه الذى تأخر فيزول عنه اسمه أيضا ، ويعرب «بدل كلّ من كلّ» من المستثنى الذى تقدم وتغير حاله (١).

__________________

(١) وفيما سبق من الأحوال الثلاثة وأحكامها يقول ابن مالك :

ما استثنت «الّا» مع تمام ينتصب

وبعد نفى أو كنفى انتخب :

إتباع ما اتّصل ، وانصب ما انقطع

وعن تميم فيه إبدال وقع

يريد : ما استثنته «إلا» (أى : كانت أداة استثنائه) وكان تاما ، فإنه ينصب. ولم يذكر الإيجاب مع شرط التمام ؛ لأنه مفهوم من المقابلة الواردة فى الشطر الثانى من البيت ، حيث نص على أنه بعد النفى وشبه النفى يكون المختار هو الإتباع مع المستثنى المتصل ، والنصب وحده مع المنقطع. إلا عند تميم فإنهم يجوزون فى المنقطع الإبدال أيضا. ففهم من هذا أن الأول لا بد أن يكون موجبا. وهذه تفريعات لا داعى لها ؛ والحكم المستصفى يتلخص فيما قلناه من أن المستثنى التام فى الكلام الموجب ينصب فى جميع صوره ، وأن المستثنى فى الكلام التام غير الموجب يجوز فيه أمران : النصب ، والإبدال. ولا أهمية لكثرة أحد الأمرين على الآخر كثرة نسبية (أى : بالنسبة لذلك الآخر ، بحيث لا تنزل القلة إلى حد القلة الذاتية) أو لاستعمال قبيلة دون الأخرى ، ما دام الضبط صحيحا وكثيرا فى نفسه ، دون أن تكون قلته ذاتية.

ثم عرض بعد ذلك لحالة المستثنى المتقدم حين يكون الكلام تاما غير موجب فبين أن غير النصب ـ وهو : «البدل» ـ قد يجوز ، ولكن النصب هو المختار. فالأمران جائزان ، قياسيان ، ولكن أحدهما أكثر فى الاستعمال من الآخر كثرة نسبية ؛ يقول :

وغير نصب سابق فى النّفى قد

يأتى. ولكن نصبه اختر إن ورد

ثم انتقل للكلام على الاستثناء المفرغ فقال :

وإن يفرّغ سابق «إلّا» لما

بعد يكن كما لو الّا عدما

أى : إذا كان الكلام قبل إلا مفرغا (متجها للعمل فيما بعدها) فإن تأثيره فيما بعدها يقوم على افتراض أنها غير موجودة. وعلى هذا الفرض نضبط ما بعدها ؛ فقد يكون فاعلا ، أو مفعولا ، أو مبتدأ ، أو خبرا ... على حسب حاجة ما قبلها.


زيادة وتفصيل :

(ا) يتردد فى فصيح الأساليب الواردة أسلوب مطّرد ، يحوى نوعا آخر من التفريغ ، يخالف ما سبق. وضابط هذا النوع : أن يكون الكلام مشتملا على جملة قسميّة ، ظاهرها مثبت ، ولكن معناها منفى ، وجواب القسم جملة فعلية ماضوية لفظا ، مستقبلة معنى ، مصدّرة «بإلا» ؛ نحو : سألتك بالله إلّا نصرت المظلوم ـ ناشدتك الله إلّا تركت الإساءة ... حلفت بربى إلا عاونت الضعيف ، وقول الشاعر :

بالله ربك إلّا قلت صادقة

هل فى لقائك للمشغوف من طمع

فالاستثناء فى الأمثلة السابقة ـ ونظائرها ـ مفرغ يقتضى أن يكون للكلام فى معناه غير تام ، وغير موجب ، فالمراد : (ما سألتك بالله ... إلا نصرك) ـ (ما ناشدتك الله ... إلا ترك الإساءة ...) ـ (ما حلفت بربى ... إلا على معاونة الضعيف). ـ (ما حلفت بالله ربك ... إلا على قولك صادقة ...) فقد اجتمع فى الكلام الأمران معا تقديرا ؛ (وهما عدم التمام وعدم الإيجاب) واجتمع معهما أمر ثالث ؛ هو : أن الفعل ـ مع فاعله ـ به «إلا» مؤول بمصدر منسبك بغير سابك ، ليمكن إعراب هذا المصدر على حسب ما تحتاج إليه الجملة قبل «إلا» ، أى : على حسب ما يقتضيه «التفريغ» ؛ ـ تطبيقا لحكم «الاستثناء المفرغ». فيكون مفعولا به فى المثال الأول ، (وهو : سألتك بالله إلا نصرت الضعيف) ، أى : ما سألتك بالله إلا نصرك الضعيف ، ويكون شيئا آخر غير مفعول به ـ إذا اقتضى الكلام غيره ؛ لعدم صلاحية المفعول به ويجرى هذا التأويل والسبك فى بقية الأمثلة ، وأشباهها مما يطرد صوغه على النمط الوارد الموافق للمأثور (١).

__________________

(١) جاء فى الدرر اللوامع ، شرح همع الهوامع ـ ج ٢ ص ٤٦ ـ بمناسبة البيت السالف ، وهو : (بالله ربك إلا قلت صادقة ... إلخ) ما ملخصه : أن البيت المذكور يذكر شاهدا على تصدير جواب القسم بالحرف «إلا» ، وأن التقدير فيه : أسألك بالله إلا قلت ، والاستثناء مفرغ. والمعنى : ما أسألك إلا قولك ، فالمثبت لفظا ، منفى معنى ، ليتأتى التفريغ. والفعل ـ مع فاعله ـ مؤول بالمصدر ليتأتى فيه المفعولية ... فإن قام الاعتراض بأن تأويل الفعل ـ مع فاعله ـ بالمصدر من غير سابك هو تأويل شاذ غير قياسى ، وأنه ـ


وبهذه المناسبة نذكر «لمّا» ـ التى سبقت الإشارة إليها (١) ـ وهى التى تماثل «إلّا» فى الحرفية ، وفى الدلالة على الاستثناء ، ولكنها لا تدخل إلا على جملة اسمية ؛ (كقوله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) ـ ، فى قراءة من شدّد الميم ، واعتبر «إن» التى فى صدر الجملة ، نافية ـ) أو على جملة فعلية ماضوية لفظا لا معنى ؛ (بأن يكون الفعل ماضيا فى لفظه ، مستقبلا فى معناه) ، نحو : أنشدك الله لمّا فعلت ؛ أى : أنشدك بالله ، وأستحلفك به إلا فعلت. والمعنى : ما أسألك إلا فعلك ؛ على تقدير : إلا أن تفعل كذا ... ؛ ليكون الفعل الماضى مستقبل الزمن ؛ تطبيقا لما تقرر من أن الماضى الذى يليها يكون ماضيا فى لفظه ، مستقبلا فى معناه (٢) ـ وسيجىء (٣) تفصيل الكلام على جواب القسم ، وأنواعه ، وأحكامه.

(ب) نعود لذكر ما قرره النحاة خاصّا بتقديم المستثنى بإلا. قالوا : لا يصح ـ مطلقا ـ تقديمه وحده عليها (٤) ولا يجوز أن يتقدم على المستثنى منه ، وعلى عامله معا ؛ فلا يصح : إلا التفاح أكلت الفواكه. أما تقدمه على أحدهما وحده فجائز ؛ وقد تقدمت الأمثلة لتقدمه على المستثنى منه دون العامل. وأما تقدمه على العامل وحده فنحو : الفواكه إلا التفاح أكلت. حيث تقدم المستثنى على عامله

__________________

ـ مقصور على ما ورد السماع به من مثل : «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه» ... كان دفع الاعتراض بأن تأويل الفعل بالمصدر من غير سابك أمر قياسى فى بعض الحالات ؛ كالتى نحن فيها ، دون بعض ؛ فيحكم عليه بالشذوذ فى كل باب لم يطرد فيه السبك عن العرب. أما إذا اطرد السبك فى باب واستمر فيه ، فإنه لا يكون شاذا ؛ كالأساليب التى نحن بصددها حيث التزمت فيها العرب ذلك النسق ، وكإضافة بعض أسماء الزمان إلى الجملة فى مثل : جئت حين ركب الأمير ، أى : فى حين ركوب الأمير. وفى مثل قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ،) أى : يوم نفع الصادقين ... فهذا وأمثاله مطرد. ومثل : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، فإنك إذا نصبت «تشرب» فإنما تنصبه بأن مضمره ؛ فيصير اسما معطوفا فى الظاهر على فعل ، وهذا العطف ممتنع إلا عند التأويل ؛ فتحتاج إلى أن تتصيد من الفعل مصدرا من غير سابك ، ولا يعد هذا شاذا ، لاطراده فى بابه. وكذلك مثل : سواء على أقمت أم قعدت. أى : قيامك وقعودك ، فهذا مؤول بالمصدر بدون أداة سبك ؛ لاطراده فى باب التسوية ... اه الملخص.

(١) فى رقم ١ من هامش ص ٢٩٦ وتجىء لها إشارة أيضا فى : «د» من ص ٣٣٦.

(٢) راجع الأشمونى والصبان ـ ج ٤ ـ أول باب : «الجوازم» عند الكلام على : «لما» الجازمة.

(٣) فى ص ٤٦٠.

(٤) كما سبق فى رقم ٥ من هامش ص ٢٩٧.


بعد أن سبقهما معا المستثنى منه. وإذا كان المستثنى منه اسم موصول لم يجز تقديمه على الصلة ، لأنه لا يصح الفصل بين الموصول وصلته بالمستثنى.

وإذا كان للاسم الواقع بعد إلا ـ مباشرة ـ أو لغيره مما بعدها معمول ؛ فإنه لا يجوز تقديمه عليها ؛ ففى مثل : ما أنا إلا طالب علما ـ لا يصح : ما أنا علما إلا طالب. وإذا كان قبلها عامل له معمول ، فإنه لا يجوز تأخير هذا المعمول عنها ؛ ففى مثل ما يجيد الناشئون الخطابة إلا الأديب ـ أو مثل : ما يحرص على الأدب إلا الأديب ... لا يصح أن يقال : ما يجيد الناشئون إلا الأديب الخطابة ـ ولا ما يحرص إلا الأديب على الأدب. وبعض النحاة يجيز تأخير هذا المعمول إذا كان شبه جملة ، أو حالا ، ويؤيد رأيه بأمثلة كثيرة فصيحة تجعله مقبولا ؛ فيصح أن يقال : يتكلم الخطباء ـ إلا المريض ـ واقفين ... يعترف الإجانب ـ إلا بعضهم ـ بعظمة العرب ... تتصافى النفوس إلا الخبيثة ـ أمام الخطر.

ويصح تقديم المستثنى على صفة المستثنى منه ؛ ففى مثل : ما كرّمت الأمة المتحضرة إلا النابغين ... يصح أن يقال : ما كرّمت الأمة إلا النابغين المتحضرة.

(ح) تعددت الآراء فى الناصب للمستثنى ؛ فقيل : «إلا» ، وقيل : العامل الذى قبلها بمساعدتها. وقيل فعل محذوف تقديره : أستثنى ... و... ولا أثر لهذا الخلاف النظرى فى أحكام المستثنى ، وضبطه ؛ فالخير فى إغفاله ؛ اكتفاء بأن نقول فى الإعراب : المستثنى منصوب على الاستثناء. ولعل أقوى الآراء أنه منصوب بالفعل قبلها ، أو بغيره مما يعمل عمله (١). إلا المستثنى المنقطع فعامله هو : «إلا». ونحن فى غنى عن التّعرض لأقواها وغيره إلا حين يعرض أمر يختص بالعامل ـ وهذا قليل ـ وعندئذ يرجح الفعل أو ما يعمل عمله كالحالات السالفة التى يجوز فيها تقدم المستثنى على عامله أو عدم تقدمه.

(د) وردت أمثلة مسموعة وقع فيها المستثنى غير منصوب ، مع أن الكلام تام موجب ؛ ومنها قوله تعالى : (فشربوا منه إلا قليل منهم) فى قراءة كلمة :

__________________

(١) فإن لم يوجد قبلها فعل أو غيره مما يعمل ـ نحو : الزملاء أخوة إلا الغادر ـ أمكن تأويله بما يعمل ، أى : الزملاء منتسبون للأخوة إلا الغادر.


«قليل» بالرفع. ومنها : تغير المنزل إلا باب (١) ... و... و...

وقد كلف النحاة أنفسهم عناء التأويل والتقدير ؛ ليجعلوا الكلام تامّا غير موجب ؛ فيصلوا من هذا إلى جواز البدل ، وإلى أن الأمثلة مسايرة للقاعدة عندهم. فقالوا فى الآية : إن نصها ـ على لسان طالوت ـ هو : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ... (فشربوا منه إلا قليل منهم) فمعنى : «شربوا منه» : لم يكونوا منى ولا من أنصارى. فهى فى تأويل كلام منفى فى تقديرهم. وقالوا : فى المثال الثانى وأشباهه : إنّ : «تغيّر» معناها لم يبق على حاله. فالكلام يتضمن نفيا فى المعنى ...

ولا شك أن كلامهم مردود ، وتأويلهم بعيد ، لسببين :

أولهما : أن كل كلام مثبت لا بد له من نقيض غير مثبت ، ويستحيل الحكم على شىء بالإثبات دون أن يتصور العقل له ضدّا منفيّا. فمعنى «نام الرجل» لم يتيقظ. ومعنى «تيقظ» ليس بنائم. ومعنى «تحرك الطفل» : لم يسكن. ومعنى «سكن» : لم يتحرك ... ومعنى «شرب» : لم يفقد الماء ويظمأ. ومعنى «فقد الماء» : ما شرب ... و... و...

وهكذا ، فلو أخذنا برأيهم وفتحنا باب التأويل لم يبق فى الكلام العربى أسلوب مقصور على «التمام مع الإيجاب» دون أن يصلح للنوع الثانى (وهو : التام غير الموجب) وهذا غير مقبول.

وثانيهما : وهو الأهم ـ أن الآية والمثال وغيرهما مما وقع فيه المستثنى غير منصوب فى الكلام التام الموجب ـ إنما ورد صحيحا مطابقا للغة بعض القبائل العربية ، التى تجعل الكلام «التّامّ الموجب ، والتام غير الموجب» متماثلين فى الحكم (٢) ؛ يجوز فيهما : إما النصب على الاستثناء ، وإما البدل من المستثنى منه ، وإما الرفع على الابتداء (٣) ... و... فلا معنى للتأويل بقصد إخضاع لغة قبيلة للغة

__________________

(١) نص المثال الوارد فى «التصريح» ـ وفى حاشية ياسين أمثلة متنوعة أخرى ـ ؛ :

وبالصّريمة منهم منزل خلق

عاف تغيّر إلا النّؤى والوتد

(٢) وقد ورد النص على هذا فى كثير من المراجع النحوية ، ومنها : حاشية ياسين على «التصريح ، شرح التوضيح» ، ففيها البيان والأمثلة من القرآن والحديث وغيرهما مما سرده فى أول «الاستثناء». ـ وكذا الصبان ـ

(٣) من يرفع الاسم بعد : «إلا» فى الكلام التام الموجب فعل اعتبار ذلك الاسم مبتدأ ، خبره ـ


نظيرتها. وإذا كان التأويل معيبا وواجبنا الفرار منه جهد استطاعتنا ، فإن الأنسب لنا اليوم أن نتخير ـ عند الضبط ـ اللغة الضاربة فى الفصاحة ، الغالبة الشائعة بين اللغات المتعددة ؛ لنقتصر عليها فى استعمالنا تاركين غيرها من اللغات واللهجات القليلة ، توحيدا للتفاهم ، وفرارا من البلبلة الناشئة من تعدد اللهجات واللغات بغير حاجة ماسة ؛ فعلينا أن نعرف تلك اللغات فى مناسباتها ، ويستعين بها المتخصصون على فهم النصوص الواردة بها ، دون محاكاتها فى الضبط ، أو القياس عليها ـ كما أشرنا لهذا كثيرا ـ على الرغم من أنها صحيحة يجوز محاكاتها (١).

(ه) إذا كان الكلام تامّا موجبا (٢) فلا يكون المستثنى منه ـ فى الفصيح ـ نكرة ، إلا إن أفادت (٣). فلا يقال جاء قوم إلا رجلا ، ولا قام رجال إلا محمدا ، لعدم الفائدة ، بسبب أن النكرة محضة. فإن أفادت جاز ؛ نحو قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) ـ وقام رجال كانوا فى بيتك إلا واحدا. أما الكلام التام غير الموجب فالفائدة تحقق فيه بالنفى وشبهه ؛ لدلالة النكرة معه ـ غالبا ـ على العموم نحو : ما جاءنا أحد إلا رجلا ، أو إلا عليّا ...

__________________

ـ مذكور أو محذوف ، ويجعل المستثنى حينئذ هو الجملة فى محل نصب على الاستثناء. ويجرى هذا فى المتصل والمنقطع (راجع الصبان ، أول باب الاستثناء ، وكذلك حاشية «الأمير» على المغنى ج ٢ ، بعد الجملة السابعة من باب الجمل التى لها محل من الإعراب ؛ حيث الأمثلة المتعددة الواردة برفع المستثنى فى الكلام التام الموجب والتى لا تحتمل تأويلا ، وحيث النص الصريح من كلام ابن مالك وغيره بأن النصب جائز لا واجب ، مؤيدا رأيه بالشواهد الفصيحة المتنوعة التى سردها ...) (وانظر رقم ٢ من هامش ص ٣٠٧)

والخير فى ترك هذه اللغات القليلة ؛ بالرغم من أنها صحيحة قياسية.

(١) لأن كل قراءة صحيحة قرئ بها القرآن يصح محاكاتها فى غيره ، والقياس عليها ، وكذلك كل لغة سليمة لإحدى القبائل ؛ كما نص على هذا الأئمة ، وعرضنا له بأدلته وتفاصيله فى بحث مستفيض ؛ عنوانه «القياس». بكتابنا المسمى : (اللغة والنحو بين القديم والحديث).

(٢) راجع فى الحكم الآتى فى كتاب : همع الهوامع ج ١ ص ٢٢٣ أول باب الاستثناء ، (وفى رقم ٤ من هامش ص ٢٩٦ ، إشارة لما يأتى.)

(٣) إفادتها تكون بزيادة تطرأ عليها ؛ كوصف ، أو إضافة ، أو غيرها مما يفيدها تخصيصا.


كذلك لا يكون المستثنى منه معرفة ، والمستثنى نكرة لم تخصص ؛ فلا يقال : قام القوم إلا رجلا ، فإن تخصصت جاز ؛ نحو : خرج القوم إلا رجلا منهم.

(و) عرفنا (١) أن المستثنى المنقطع ليس بعضا من المستثنى منه ، فليس فردا من أفراد نوعه ـ أى : من أفراد صنفه ـ ، وليس جزءا من أجزاء الفرد ؛ ـ كما سبق (٢) ـ فكيف يكون مستثنى وبينه وبين المستثنى منه هذا التخالف والتباين؟ كيف يكون المطروح مباينا جنس المطروح منه؟

قال النحاة :

١ ـ إن كان المستثنى المنقطع جملة (٣) ؛ مثل قوله تعالى : (فَذَكِّرْ ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ...) أعربت هذه الجملة (٤) ، فى موضع نصب على الاستثناء ، و «إلا» أداة استثناء حرف ؛ بمعنى : «لكن» (الساكنة النون ، التى تفيد الاستدراك والابتداء معا ، وتقتضى أن تسبقها جملة ، وتدخل على جملة جديدة ـ اسمية أو فعلية ـ) (٥) ، فهى متوسطة بين جملتين ؛ فكأن التقدير ؛ لست عليهم بمسيطر ، لكن من تولى وكفر فيعذبه الله ...

__________________

(١) فى ص ٢٩٤.

(١) فى ص ٢٩٤.

(٢) يجوز وقوع المستثنى المنقطع جملة بنوعيها ، ويكون لها محل من الإعراب ـ كما سبق فى رقم ٣ من هامش ص ٣٠٥ ـ ، ولا داعى لاشتراط أن يكون الاستثناء مفرغا ، وأن يكون الفعل إما مضارعا ، وإما ماضيا مسبوقا بقد ، أو بماض قبل «إلا». فهذا الشرط الذى نص عليه «ياسين» فى حاشيته على «التصريح» عند الكلام على : «غير» التى للاستثناء ـ خالفه فيه الأكثرون ، ولعله غالب ، لا شرط لازم ؛ (كما سيجىء فى «ب» من ص ٣٢٤). فإن كان المستثنى متصلا جاز ـ فى القول الصحيح ـ وقوعه جملة ، برغم ما فى حاشية ياسين ج ١ ، الباب الخامس من أبواب النيابة ، عند الكلام على جر الممنوع من الصرف بالكسرة لإضافته ـ.

(٣) هى جملة اسمية ، المبتدأ «من» اسم موصول بمعنى الذى ، مبنى على السكون فى محل رفع ـ «تولى» ، فعل ماض ، الفاعل ، ضمير مستتر تقديره : هو. والجملة لا محل لها من الأعراب صلة الموصول ... «فيعذبه» ؛ الفاء زائدة ، داخلة على جملة الخبر. «يعذبه الله» جملة من مضارع وفاعله ومفعوله فى محل رفع ؛ خبر المبتدأ ، والجملة من المبتدأ وخبره فى محل نصب على الاستثناء ـ وقد سبق بيان المواضع التى تزاد فيها الفاء فى الخبر ، ج ١ م ٤١ ص ٤٨٧ آخر باب المبتدأ والخبر ـ.

(٤) فهى تقتضى ـ بعد الجملة السابقة عليها ـ الدخول على جملة جديدة ، زيادة على ما تفيده من الاستدراك (وقد مر شرح الاستدراك وتفصيل أحكامه فى ج ١ ص ٤٧٢ م ٥١).


٢ ـ إن كان المستثنى المنقطع مفردا منصوبا فأداة الاستثناء : «إلا» تكون ـ عند أكثر النحاة ـ بمعنى : لكنّ (المشددة النون) التى تفيد الابتداء ، والاستدراك ، وتعمل عمل : «إنّ» ، نحو : نام أصحاب البيت إلا عصفورا مغردا. فكلمة : «إلا» بمعنى : «لكنّ» المذكورة ، التى تقتضى بعدها جملة اسمية الأصل تنصب فيها المبتدأ وترفع الخبر ؛ سواء أكان خبرها مذكورا أم محذوفا. ولا بدّ ـ على هذا الرأى ـ من جملة اسمية بعدها ، ولا بدّ من ذكر جملة أخرى قبلها ؛ فكأن التقدير : نام أصحاب البيت لكنّ عصفورا مغردا يقظ ، أو : لم ينم ...

ويرى سيبويه أن المستثنى المنقطع المنصوب بعد «إلا» إنما هو منصوب بعامل قبلها ؛ شأنه فى هذا شأن المستثنى المتصل. فما بعد «إلّا» عند سيبويه ـ مفرد سواء أكان متصلا أم منقطعا. وهى بمعنى : «لكن» العاطفة التى لا يقع المعطوف بها إلا مفردا غير أن «إلّا» ليست حرف عطف. والأخذ برأى سيبويه فى اعتبار المستثنى المنقطع أسهل وأيسر.

٣ ـ وإن كان المستثنى المنقطع مفردا مرفوعا ـ ؛ كما فى حالة البدلية .. عند من يجيزها ، والابتداء عند من لا يجيزها (١) ـ فى نحو ؛ ما سهر أصحاب البيت إلا عصفور مغرد ـ كانت أداة الاستثناء «إلا» بمعنى : لكن (ساكنة النون) فأصل التقدير ، ما سهر أصحاب البيت لكن عصفور مغرد سهر.

والسبب فى كل هذه التقديرات ـ كما يبدو ـ هو إدخال كل ضبط من تلك الضبوط تحت قاعدة نحوية عامة ، أما المعنى فلن يتغير فى المستثنى ، ولا المستثنى منه ، ولا غيرهما ، وسيظل المستثنى منصوبا على الاستثناء إن كان جملة أو مفردا منصوبا ، فإن كان مفردا غير منصوب فهو بدل. ويجوز فى الاسم المرفوع اعتباره مبتدأ خبره مذكور أو محذوف ، كما تقدم ـ والجملة منصوبة على الاستثناء.

بالرغم من أن المنقطع ليس بعضا من المستثنى منه فإنه لا يجوز أن يكون منقطع المناسبة والعلاقة بينه وبين المستثنى منه انقطاعا كليّا فى المعتاد ـ كما سبق (٢) ـ

__________________

(١) راجع رقم ٣ من هامش ص ٣٠٥.

(٢) فى ص ٢٩٤ «ه».


فلا يصح : أقبل الجمع إلا ثعبانا. كذلك لا يصح أن يسبقه ما هو نص صريح فى خروجه وفقد تلك العلاقة ، فلا يجوز : صهلت الخيل إلا الإبل ، لأن الصهيل نص قاطع فى صوت الخيل وحدها ؛ فلا صلة بين المستثنى والمستثنى منه مطلقا ؛ فيصير الكلام خلطا وبترا. بخلاف صوّتت الخيل إلا الإبل.

(ز) تقدم ـ فى الحكم الثانى (١) ـ أن المستثنى فى الكلام التام غير الموجب يجوز فيه النصب والبدل. ويقول النحاة فى تفريع هذا البدل كلاما مرهقا غير مقبول ، والخير فى إهماله ؛ ومنه :

إذا تعذر البدل على اللفظ أبدل على الموضع. فمثل : ما جاءنى من أحد إلا البائع ... لا يجوز إعراب «البائع» بدلا مجرورا من لفظ : «أحد» ، لزعمهم أن كلمة : «أحد» مجرورة اللفظ بالحرف الزائد : «من» وهو حرف لا يزاد ـ غالبا ـ إلا فى كلام منفى ؛ كالمثال السالف ، وأن كلمة : «البائع» معناها مثبت ؛ (لأن الكلام الذى بعد «إلا» مناقض لما قبلها فى النفى والإثبات ، كما هو معروف) فإذا كان معناها مثبتا فكيف تكون بدلا من كلمة : «أحد» المنفية ، المجرورة لفظا بالحرف الزائد ، والبدل على نية تكرار العامل الذى يعمل فى المبدل منه؟ فكأنهم يقولون :

إنّ كلمة : «البائع» قبلها فى التقدير الحرف «من» الزائد الذى عمل الجر فى المبدل منه «أحد». ويترتب على هذا ـ عندهم ـ دخول «من» الزائدة الجارة فى كلام مثبت بعد «إلّا» ، وهى ـ فى الغالب ـ لا تكون إلا فى كلام منفىّ ، كما سبق. وفرارا من هذا الذى يرونه محظورا منعوا البدل بالجر من لفظة : «أحد» وأجازوا البدل بالرفع من محلها ؛ لأنها مجرورة بمن «لفظا» وفى محل رفع فاعل للفعل : جاء ، فالتقدير : جاء البائع.

ومثل : ليس اللص بشىء إلا رجلا تافها ، فقالوا لا يجوز إعراب كلمة : «رجلا» بالجر على اعتبارها بدلا من كلمة : «شىء» المجرور لفظها ؛ وإنما يجوز النصب على اعتبارها بدلا من محل كلمة : «شىء» ، وذلك للوهم السالف أيضا ؛ وهو أن المبدل منه (وهو كلمة : شىء) مجرور بالباء الزائدة ، وهذه

__________________

(١) ص ٢٩٧.


الباء لا تزاد إلا فى جملة منفية ، والمستثنى «بإلا» مثبت بعد الكلام المنفى ، فلو أبدلنا كلمة : «رجلا» من كلمة : «شىء» لكان هذا البدل مستلزما فى التقدير وقوع الباء ـ وهى العامل فى المبدل منه ـ قبل البدل أيضا ؛ لأن البدل على نية تكرار العامل ؛ فيترتب على هذا دخول «باء» الجر الزائدة على مثبت ؛ وهو عندهم ممنوع. فللفرار من هذا أبدلوا كلمة : «رجلا» من كلمة : «شىء» مع مراعاة محلها ، لا لفظها ، لأن محلها النصب ؛ فهى مجرورة لفظا ، منصوبة محلا ، باعتبارها خبر : «ليس»!!

ومثل : لا ساهر هنا إلا حارس. لا يجوز عندهم أن تكون كلمة : «حارس» بدلا منصوبا من محلّ كلمة ؛ «ساهر» المبنية على الفتح لفظا فى محل نصب. وحجتهم أن كلمة : «ساهر» ... اسم «لا» واسم «لا» منفى ، أما المستثنى هنا فموجب ، لوقوعه بعد «إلّا». (وما بعدها مخالف لما قبلها نفيا وإثباتا ، كما تقدم) ـ ولما كان العامل فى المستثنى منه : هو : «لا» النافية للجنس وجب عندهم أن تكون عاملة أيضا فى المستثنى ؛ لأن العامل فى الاثنين لا بد ـ فى الرأى المشهور ـ أن يكون واحدا ، ثم يقولون : كيف تعمل «لا» فى المستثنى الموجب وهى لا تعمل إلا فى منفى؟ وللفرار من هذا قالوا : إن البدل هو من محل اسم «لا» قبل دخولها ، وليس من محل اسمها بعد دخولها ، فاسمها قبل كان مبتدأ (١) فالبدل مرفوع مثله ، ولا عمل للناسخ فيه إذ ذاك.

ومثل : ما الخائن شيئا إلا رجل حقير ؛ فقد منعوا أن تكون كلمة : «رجل»

__________________

(١) يجوز فى هذا المثال من الأوجه الإعرابية ما يجوز فى أشباهه التى عرضوها فى باب «لا» النافية للجنس ـ آخر الجزء الأول ـ ؛ ومنها : «لا إله إلا الله». فقد جوزوا فى كلمة : «الله» ما يأتى : ا ـ الرفع على البدلية ؛ مراعاة لمحل «لا مع اسمها ؛ لأن محلها رفع على الابتداء عند سيبويه.

ب ـ أو : الرفع على البدلية مراعاة لمحل اسم «لا» باعتباره فى الأصل مبتدأ مرفوعا قبل دخول الناسخ.

ج ـ أو : الرفع على البدلية من الضمير المستتر فى خبر «لا» المحذوف ؛ فأصل الكلام لا إله موجود ؛ أى : هو.

د ـ أو : النصب على الاستثناء من هذا الضمير المستتر ؛ لأن الجملة تامة غير موجبة ؛ فيجوز فى المستثنى أمران كما عرفنا : البدلية ، أو : النصب على الاستثناء.


بدلا منصوبا من كلمة : «شيئا» المنصوبة. وحتموا أن تكون بدلا مرفوعا من كلمة : «شيئا» باعتبار أصلها ؛ فقد كانت خبرا مرفوعا للمبتدأ قبل مجىء «ما» الحجازية التى تعمل عمل : «ليس». وسبب المنع أن المستثنى منه منفى ، والمستثنى موجب ، والعامل فى الاثنين واحد ؛ هو : «ما» الحجازية ، فتكون «ما» الحجازية قد علمت فى الموجب ، وهى لا تعمل إلا فى المنفىّ.

ذلك رأيهم ودليلهم (١) فى كل ما سبق من الأمثلة الممنوعة ، وهو رأى غريب (إذ ما الحكمة ـ كما قال بعض آخر (٢) من النحاة ـ فى ارتكاب هذا التكلف (٣)؟ مع أن القاعدة : أنه يغتفر فى التابع ما لا يغتفر فى المتبوع (٤). ومثلوا له بقوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ـ) حيث لا يمكن تسليط العامل على المعطوف (٥) ـ فهلا جاز هنا فى البدل الجر أو النصب تبعا للفظ المبدل منه بناء على هذه القاعدة ...) (٦).

وشىء آخر له الأهمية الأولى ، ولا أعرف أنهم ذكروه ؛ هو كلام العرب فى مثل ما سبق ، والمأثور من أساليبهم ، أجاء خاليا من إتباع المستثنى للفظ المستثنى منه ، أم لم يجئ؟ وفى الحالتين لا يقوم دليل على المنع ؛ لأن عدم المجىء ليس معناه التحريم ، فالأمر السلبى لا يكفى فى انتزاع حكم قاطع مخالف للمألوف فى نظرائه التى يتبع فيها البدل حركة المبدل منه اللفظية ، كما أن المجىء قاطع فى الصحة.

__________________

(١ و ١) راجع الأشمونى ، وحاشية الصبان ج ٢ أول باب : «الاستثناء» ، عند الكلام على البدل ، فى الكلام التام غير الموجب.

(٢) عرضنا صورا من تطبيقه فى آخر الجزء الثالث عند الموازنة بين عطف البيان وبدل الكل.

(٣) وقد يعبرون عن هذه القاعدة بتعبيرات مختلفة الألفاظ متحدة المعانى ؛ منها : (يغتفر كثيرا فى الثوانى ما لا يغتفر فى الأوائل) ـ كما جاء فى الصبان ، فى باب الإضافة ، عند الكلام على : «أى» ومنها : (يغتفر فى الثوانى ما لا يجوز فى الأوائل) ـ كما جاء فى الهمع ج ١ ص ٢١٥ عند الكلام على الظرف : «لدن» ـ انظر ما يتصل بهذا فى رقم ١ من هامش ص ٦٧ وص ٤٩٠.

(٤) لأن فعل الأمر لا يرفع اسما ظاهرا. ومثل هذا ما يقال فى الحرف : «ربّ» من صحة عطف المعرفة على الاسم المجرور بها مع أن «رب» لا يجر إلا النكرة ـ كما سيجىء فى حروف الجر ـ.

(٥) وقد ردوا كلامه بأن الأخذ بتلك القاعدة إنما يكون فى بعض المواضع دون بعض وليست مطردة. وهذا غريب أيضا.


الحق أن هذا كله ـ وأشباهه ـ هو الجانب المعيب فى : «نظرية العامل» ، إذ يمنحه سلطانا قويّا يتحكم به فى صياغة الأسلوب ، أو فى ضبطه ، بغير سند يؤيده من فصيح الكلام. وقد سبق أن امتدحنا هذه النظرية البارعة التى لم تصدر إلا عن عبقرية ، وذكاء لماح ، وقلنا (١) إنها لا عيب فيها إلا ما قد يشوبها فى قليل من الأحيان من مثل هذه الهنوات.

(ح) فى مثل : ما أحد يقول الباطل إلا الدنىء ، يجوز فى كلمة : «الدنىء» أن يكون بدلا مرفوعا من كلمة : «أحد» أو : من ضميره المستتر الواقع فاعلا للمضارع. ويجوز نصبه على الاستثناء. فللرفع ناحيتان ، وللنصب واحدة.

أما فى مثل : ما رأيت أحدا يقول الباطل إلا الدنىء ، فيجوز فى كلمة : «الدنىء» النصب على الاستثناء ، أو : على البدلية من كلمة : «أحدا» المنصوبة ويجوز فيها الرفع على البدلية من الفاعل المستتر فى الفعل المضارع ؛ فللنصب ناحيتان وللرفع ناحية.

* * *

__________________

(١) ج ١ ص ٤٥ م ٦.


(ب) إذا كانت أداة الاستثناء هى «إلا» ، المكررة (١) :

(ا) قد يكون تكرارها بقصد التوكيد اللفظىّ المحض ، وتقوية «إلا» الأولى الاستثنائية ، بغير إفادة استثناء جديد. ولهذه الحالة صورتان :

الأولى : أن تقع «إلا» التى تكررت للتوكيد اللفظى المحض ، بعد «الواو» العاطفة ـ ولا يصح أن تقع بعد غيرها من حروف العطف ـ نحو : أحب ركوب السفن إلا الشراعية ، وإلا الصغيرة. فالواو حرف عطف. «إلا» الثانية : للتوكيد اللفظىّ ، ولا تفيد استثناء. و «الصغيرة» معطوفة على «الشراعية» ؛ فهى مستثنى ، بسبب العطف ، لا بسبب «إلا» المكررة (٢). ولهذا يكون المستثنى المعطوف تابعا للمعطوف عليه فى ضبطه.

الثانية : ألّا تقع «إلا» التى جاءت للتكرار بعد حرف عطف ، ولكن يكون اللفظ الواقع بعدها مباشرة متفقا مع المستثنى الذى قبلها فى المعنى والمدلول. برغم اختلاف اللفظين فى الحروف الهجائية ، ويكون ضبط اللفظ بعد المكررة مبنيّا على افتراض أنها غير موجودة ؛ فوجودها وعدمها سواء من ناحية الحكم الإعرابى الذى يخصه. مثال ذلك رجل يقال له : هارون الرشيد ، أو : محمد الأمين ... أو ... نحو : جاء القوم إلا هارون إلا الرشيد ، اشتهر الخلفاء إلا محمدا إلا الأمين. فكلمة : «إلا» الثانية فى المثالين لا تفيد استثناء جديدا ، لأن «الرشيد» المقصود ، هو : «هارون» ، و «الأمين» هو : «محمد». وإنما أفادت الثانية توكيدا لفظيّا

__________________

(١) سبق الكلام على : «إلا» غير المكررة فى ص ٢٩٦.

(٢) وهذا الحكم ينطبق على جميع أنواع المستثنى الثلاثة إذا تكررت «إلا» وقد سبق مثال «التام الموجب» أما مثال «التام غير الموجب» فنحو : لا أحب ركوب السفن إلا البواخر ، وإلا الكبيرة. وأما مثال «المفرغ» فقول الشاعر :

لا يمنح النفس ما ترجوه من أرب

إلا الطموح ، وإلا الجدّ ، والعمل

وقول الآخر :

وما الفضل إلا أن تجود بنائل

وإلا لقاء الخلّ ذى الخلق العالى

فالمصدر المؤول بعد «إلا» ، الأولى خبر. أما الثانية فلمجرد التوكيد اللفظى ، والمصدر الصريح بعدها معطوف بالواو على المصدر المؤول.


لكلمة : «إلا» الأولى ، ولا تأثير لها فى ضبط كلمتى : «الرشيد والأمين» ، فكل واحدة منهما تعرب هنا بدل كل من كل (١) ، أو : عطف بيان من المستثنى الأول. ولو حذفنا كلمة : «إلا» التى جاءت للتكرار ما تغير الضبط ولا الإعراب ، فوجودها لا أثر له من هذه الناحية.

ولو قلنا : ما جاء القوم إلا هارون إلا الرشيد لصحّ فى كلمة : «الرشيد» الرفع أو النصب ، تبعا لكلمة : «هارون» التى يجوز فيها الأمران ، بسبب أن الاستثناء تام غير موجب. وكذلك ما جاء القوم إلا محمدا ، أو محمد ، إلّا الأمين ؛ فيجوز فى كلمة : «الأمين» الأمران للسبب السابق. فكأن «إلا» المكررة غير موجودة : إذ لا أثر لها فى الحكم الإعرابىّ.

ولو قلنا : ما اشتهر إلا هارون إلا الرشيد ، لوجب رفع كلمة «الرشيد» إتباعا لكلمة : «هارون» التى يجب رفعها ؛ بسبب أن الاستثناء مفرّغ. وكذلك الحال فى المثال الثانى (٢).

* * *

(ب) وقد يكون تكرارها لغير التوكيد اللفظىّ وإنما الغرض استثناء جديد : بحيث لو حذفت لم يفهم الاستثناء الجديد ، ولم يتحقق المراد منه ؛ فهى فى هذا الغرض كالأولى تماما ؛ كلتاهما تفيد استثناء مستقلا ؛ وفى هذه الحالة تتعدد الأحكام على الوجه الآتى :

١ ـ إن كان تكرارها فى كلام تام موجب فالمستثنيات كلها منصوبة فى كل الأحوال ؛ نحو ظهرت النجوم إلا الشمس ـ إلا القمر ـ إلا المرّيخ.

__________________

(١) البدل فى هذا المثال بدل كل من كل ، وفى غيره قد يكون بدل بعض ، أو : اشتمال ، أو : إضراب ؛ مثل : ما أعجبنى أحد ، إلا الطبيب الرحيم ، إلا وجهه ، أو : إلا عطفه ، أو : ما أعجبنى أحد ، إلا الطبيب الرحيم ، إلا المهندس المبتكر.

(٢) وفى «إلا» المكررة للتوكيد يقول ابن مالك :

وألغ إلّا ذات توكيد ؛ كلا

تمرر بهم ، إلّا الفتى إلّا العلا

يريد : اعتبر «إلا» ملغاة ، أى : غير موجودة ، إذا كانت للتوكيد ، وأردت أن تضبط ما بعدها.

ومثل لها بمثال هو : لا تمرر بهم إلا الفتى إلا العلا. والعلا أو العلاء ، هو اسم الفتى. فالفتى هو : العلاء ، والعلاء هو الفتى. وهو بدل كل ، أو عطف بيان من كلمة : «الفتى». ولو حذفت «إلا» المكررة ما تغير الإعراب ؛ فوجودها وعدمها سيان من هذه الوجهة الإعرابية ، ـ كما شرحنا ـ.


٢ ـ إن كان الكلام تامّا غير موجب والمستثنيات متقدمة نصبت جميعا ؛ نحو : ما غاب إلا الشمس ـ إلا القمر إلا المرّيخ ـ النجوم. فإن تأخرت نصبت أيضا. ما عدا واحدا منها ـ أىّ واحد ـ فيجوز فيه أمران ؛ إما النصب على الاستثناء كغيره ، وإما البدل من المستثنى منه ؛ مثل : ما غابت النجوم ، إلا الشمس (بالرفع أو النصب) إلا القمر ـ إلا المرّيخ.

٣ ـ إن كان الكلام مفرغا وجب إخضاع احد المستثنيات (١) لحاجة العامل الذى قبل «إلا» «الأولى» ، ونصب باقى المستثنيات ، نحو ما نبت إلا قمح جيد ـ إلا شعيرا غزيرا ـ إلا قصبا قويّا ...

وإذا كانت «إلا» التى جاءت للتكرار تفيد استثناء جديدا ـ كما سبق ـ فلا بد أن يجىء بعدها مستثنى ، ولا بد أن يكون له مستثنى منه. فأين هذا المستثنى منه؟ أهو المستثنى منه الأول السابق ، أم هو المستثنى الذى قبل «إلا» المكررة مباشرة ، فيكون المستثنى الذى بعدها خارجا ومطروحا من المستثنى الذى قبلها مباشرة؟ وبعبارة أخرى : أين «المستثنى منه» بعد «إلا» المكررة لغير توكيد فى مثل : بكّر العاملون إلا صالحا ، إلا محمودا ، إلا حسينا؟ فكلمة : «محمودا» مستثنى ثان ، فأين المستثنى منه؟ أهو : «العاملون» المستثنى منه الأول ، أم هو «صالحا» المستثنى الذى قبله مباشرة؟

وكذلك : «حسينا» مستثنى ثالث ... فأين المستثنى منه؟ أهو العاملون أم (محمودا) ، أم ما ذا؟

إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض ـ كهذا المثال ـ كان المستثنى منه هو الأول حتما ، وهو هنا : العاملون. أما إذا أمكن استثناء كل واحد مما قبله مباشرة ـ كالأعداد ـ فيجوز الأمران ، أى : استثناء كل واحد مما قبله مباشرة ، أو استثناء المجموع من المستثنى منه الأول ؛ ففى مثل : أنفقت عشرة ، إلا أربعة ، إلا اثنين ، إلا واحدا ، يجوز إسقاط المستثنيات كلها من العشرة ، فنجمع أربعة ، واثنين ، وواحدا ، ونطرح المجموع من العشرة ؛ فيكون الباقى الذى أنفق هو ثلاثة. أى : ١٠ ـ (٤+ ٢+ ١) ـ ٣ كما يجوز إسقاط المستثنى

__________________

(١) ليس من اللازم أن يكون الأول ، وإن كان هو المستحسن.


الأخير مما قبله مباشرة. ثم نسقط الباقى من المستثنى الذى قبله ... وهكذا ، فما بقى آخر الأمر يكون هو المطلوب ، ففى المثال السابق : نطرح ١ من ٢ فيكون الباقى : ١ ثم نطرح ١ من ٤ فيكون الباقى : ٣ ثم نطرح ٣ من ١٠ فيكون الباقى : ٧ وهو المبلغ الذى أنفق.

والأحسن فى الطريقة الثانية جمع الأعداد التى فى المراتب الفردية ، ومنها المستثنى منه الأول ، ثم جمع الأعداد التى فى المراتب الزوجية ، وطرح مجموعها من مجموع الفردية ، فباقى الطرح هو المطلوب.

ويلاحظ أن الطريقتين جائزتان ولكن نتيجتهما مختلفة ، ولهذا كان اختيار إحداهما خاضعا للقرائن ؛ فهى التى تعين إحداهما فقط مراعاة للمعنى.

* * *

ولو أردنا تلخيص كل ما تقدم من الأحكام الخاصة بكلمة : «إلا» المكررة (١)

__________________

(١) وفى أحكام «إلا» المكررة لغير التوكيد يقول ابن مالك :

وإن تكرّر لا لتوكيد فمع

تفريغ ـ التأثير بالعامل دع

فى واحد ممّا بإلّا استثنى

وليس عن نصب سواه مغنى

(التقدير : إن تكررت «إلّا» لتوكيد فدع التأثير بالعامل فى واحد مما استثنى بإلا ـ مع التفريغ.

أى : فى حالة التفريغ ...) يريد : إذا تكررت «إلا» لغير التوكيد فإن كان الكلام مفرغا فاترك واحدا من المستثنيات ليخضع لتأثير العامل الذى فى الجملة السابقة ، وانصب باقى المستثنيات ، فليس عن نصبها غنى ، أى : مفر. ثم انتقل إلى الحالات الأخرى التى ليس فيها تفريغ ؛ فقال :

ودون تفريغ مع التّقدّم

نصب الجميع احكم به والتزم

يريد فى الحالات التى ليس فيها تفريغ ـ وهى حالة التام الموجب ، وحالة التام غير الموجب ـ إن تقدمت المستثنيات وجب نصبها جميعا فى مختلف أحوالها. أما إن تأخرت فقال فيها :

وانصب لتأخير ، وجئ بواحد

منها ؛ كما لو كان درن زائد

كلم يفوا إلّا امرؤ إلّا على

وحكمها فى القصد حكم الأوّل

أى : تنصب المستثنيات كلها فى حالة التأخير ؛ فإن كان الكلام تاما غير موجب ، صح اختيار واحد منها ، وضبطه بما كان يستحقه من الضبط لو لم تتكرر إلا ، وهذا الضبط هو البداية أو النصب كما وضحه مثاله ؛ وهو : (لم يفوا إلا امرؤ إلا على) فيجوز فى «على» الرفع على البدلية من «امرؤ» ، أو النصب. ثم بين أن المستثنيات كلها مقصودة كالمستثنى الأول. فما تكرر من المستثنيات حكمه فى المعنى حكم الأول ؛ فيثبت له ما يثبت للأول من الخروج مما قبله إثباتا أو نفيا.


المفيدة لاستثناء جديد ـ أى : التى ليست للتوكيد المحض ـ لكان التلخيص الموجز هو :

١ ـ إذا تكررت «إلا» لغير التوكيد نصبت بعدها المستثنيات فى جميع الأحوال ، وفى مختلف الأساليب ، إلا فى حالة : «التفريغ» فيجب ـ حتما ـ تخصيص مستثنى واحد يخضع فى إعرابه لحاجة العامل ، ونصب ما عداه.

٢ ـ ويجوز فى حالة الكلام التام غير الموجب إذا تأخرت المستثنيات اختيار واحد منها ليكون بدلا من المستثنى منه الأول ، ويجوز نصبه مع باقيها.


المسألة ٨٢ :

أحكام المستثنى الذى أدواته أسماء (١) : (غير ، وسوى ، بلغاتها المختلفة)

من أدوات الاستثناء ما هو اسم صريح ؛ أشهره : غير ، وسوى (وفيها لغات مختلفة : سوى ، سوى ، سواء ، سواء) وهذه الأسماء الصريحة ـ عند استعمالها أداة استثناء ـ تشترك فى المعنى وفى الحكم.

فأما «غير» ـ ومثلها نظيراتها ـ فمعناها إفادة المغايرة ... أى : الدلالة على أن ما بعدها مغاير ومخالف لما قبلها فى المعنى الذى ثبت له ، إيجابا أو نفيا ؛ فمعنى : «أسرع المتسابقون غير سعيد» ، أنهم أسرعوا مغايرين ومخالفين فى هذا سعيدا ؛ فهو لم يسرع ، فكان مخالفا ومغايرا لهم أيضا. وكذلك : «ما ضحك الحاضرون غير صالح». فالمعنى : أنهم لم يضحكوا ، مغايرين مخالفين صالحا فى هذا ، أى : فى عدم الضحك ؛ لأنه ضحك دونهم ، فكان مخالفا ومغايرا أيضا. ومثل هذا يقال فى بقية أسماء الاستثناء.

وأما حكم تلك الأسماء فينحصر فى أمرين (٢) ؛ أولهما : ضبط المستثنى الواقع بعد كل اسم منها ، وطريقة إعرابه.

وثانيهما : ضبط أداة الاستثناء الاسمية ، وطريقة إعرابها ، (لأنها اسم لا بد له من موقع إعرابىّ ؛ فيكون مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، على حسب موقعه من الجملة ؛ كشأن جميع الأسماء).

__________________

(١) من هذه الأسماء : بيد ، وسيجىء الكلام عليها وعلى الفرق بينها وبين «غير» وأخواتها فى : «ا» «من» الزيادة ، ص ٣٢٤.

(٢) لا بد قبل النظر فى تحقق هذين الأمرين معا ، من أن يكون الكلام جاريا على ما يقتضيه ويتطلبه أسلوب الاستثناء ؛ بحيث لا يستقيم المعنى إلا على أساس الاستثناء. والسبب فى هذا الشرط أن كل اسم من أدوات الاستثناء الاسمية يصلح فى ذاته لأشياء كثيرة ، منها الاستثناء ، وغيره ؛ فلا يتعين للاستثناء إلا إذا اقتضى السياق ذلك ، وتحققت أركان الاستثناء بوجود المستثنى منه ، أو بعدم وجوده إن كان الكلام «مفرغا» فلا بد من النظر لحاجة السياق أولا ـ انظر رقم ٢ وما بعدها ص ٣٢٤.


ا ـ فأما ضبط المستثنى وإعرابه فليس له إلا ضبط واحد ، وإعراب واحد ، هو : ضبطه بالجر ، ويعرب «مضافا إليه» ، إليه دائما ، ـ ولا بد أن يكون مفردا (١) ـ والأداة الاسمية هى المضاف. كما فى الأمثلة الآتية :

أ ـ

أسرع

المتسابقون

غير

سعيد.

فرح

الفائزون

غير

واحد.

ظهرت

النجوم

غير

نجم.

ب ـ

ما أسرع

المتسابقون

غير سعيد ،

أو : غير سعيد.

ما رأيت

الفائزين

غير سعيد ،

أو : غير سعيد.

ما

نظرت للنجوم غير

نجم ، أو :

غير نجم.

ح ـ

ما أسرع

 ...

غير سعيد.

ما رأيت

 ...

غير سعيد.

ما نظرت

 ...

لغير سعيد.

ففى كل هذه الأمثلة ـ وأشباهها ـ لا يكون المستثنى إلا مضافا إليه مجرورا ، مفردا (٢) ، وأداة الاستثناء الاسمية هى : المضاف.

ب ـ وأما ضبط أداة الاستثناء وإعرابها فيختلف باختلاف حالة الكلام ، فحين يكون الكلام تامّا موجبا ، تنصب على الاستثناء (٣) كما فى «ا» من الأمثلة السالفة ، وكقول الشاعر :

كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى

وتهون ، غير شماتة الحسّاد

وحين يكون الكلام تامّا غير موجب يجوز نصبها على «الاستثناء» ، ويجوز إتباعها للمستثنى منه ؛ كما فى «ب» من الأمثلة السالفة ، وقولهم : أين الأقوال من الأفعال ، فلن تتحقق بالكلام الغايات الجليلة غير بعض منها ، وما أقلّه؟

وحين يكون الكلام مفرغا تضبط وتعرب على حسب حاجة الجملة ؛ فقد

__________________

(١) أى : ليس جملة ولا شبهها

(٢) فى الأخذ بهذا الرأى راحة وسهولة ؛ لأنه يساير فى إعرابه إعراب المنصوب من المستثنيات الأخرى. ولأن الاعتراض عليه أخف من الاعتراض على الرأى القائل بإعرابها حالا مؤولة ؛ بمعنى : «مغاير» ، وعلى الرأى القائل إنها منصوبة على التشبيه بظرف المكان فى الإبهام (انظر الحالة الثانية التى تشتمل على ما ألحق بأسماء الزمان المبهمة ـ ص ٢٨٠) ، ولسنا بحاجة إلى الإثقال بعرض الأدلة ؛ لأنها جدلية محضة ؛ ولا أثر لها فى الأمر الهام. وهو : ضبط الكلمة.


تكون فاعلا ، أو مفعولا ، أو غيرهما ، كما فى «ج» من الأمثلة السالفة ، وكقولهم : لا ينفع المرء غير عمله.

يفهم من كل ما تقدم : أنه يطبق عليها عند ضبط صيغتها الخاصة كل الأحكام التى تجرى على المستثنى بإلا عند إرادة ضبطه (١) بالتفصيلات المختلفة التى سبقت هناك. ولا فرق فى هذا بين : «غير» وباقى أخواتها الأسماء (٢).

لكن بينها وبين أخواتها (٣) بعض فروق فى نواح أخرى ؛ منها : أن المضاف إليه بعد الأداة «غير» (٤) قد يحذف إذا دلت عليه قرينة : مثل : عرفت خمسين ليس غير (٥) ، أى : ليس غير الخمسين. ولا يصح : عرفت خمسين ليس سوى. لأن «سوى بلغاتها المختلفة واجبة الإضافة لفظا ومعنى ، ولا يصح قطعها عن هذه الإضافة اللفظية (٦).

__________________

(١) ويجوز بناؤها على الفتح فى كل الحالات بشرط أن تكون مضافة إلى مبنى. شأنها فى ذلك شأن الأسماء المتوغلة فى الإبهام ـ وقد سبقت الإشارة إلى المراد منها فى باب الظرف ص ٢٧٩ ـ (ومنها : غير ، ومثل ، وبعض الظروف التى عرضناها ...)

(٢) وفيما سبق يقول ابن مالك :

واستثن مجرورا بغير ، معربا

بما لمستثنى بإلّا نسبا

ولسوى ، سوى ، سواء ـ اجعلا

على الأصح ما لغير جعلا

(التقدير : استثن بكلمة : غير ، مجرورا ، أى : مستثنى مجرورا. حالة كون لفظ : «غير» معربا بمثل ما نسب للمستثنى بإلا. أى : معربا مثل إعرابه فى الحالات المختلفة). يريد : أن المستثنى «بغير» مجرور دائما. وأن كلمة «غير» نفسها تضبط بالضبط الذى يكون للمستثنى «بإلا» فيما لو حذفت «غير» ، وحلت محلها : «إلا» وجاء بعد «إلا» مستثناها. ـ كما شرحنا ـ. ثم بين أن مثل «غير» فى ذلك كلمات أخرى ؛ منها : سوى ـ وسوى ـ سواء. وأن الأصح أنها تشبهها فى الاستثناء. وليست ظرفا إلا عند فريق.

(٣) أما الفرق بين «غير» و «إلا» و «بيد» فيجىء فى «ب» من ص ٣٢٤.

(٤) وبعض أدوات سيجىء ذكرها فى مكانها الخاص من باب الإضافة ج ٣.

(٥) يصح ضبط «غير» هنا بأوجه متعددة ؛ (كما سبق فى باب الظروف ص ٢٦٥) ، والتقدير مثلا : كالبناء على الضم ؛ باعتبارها اسم «ليس» والخبر محذوف ؛ ويكون المضاف إليه محذوفا مع نية معناه ليس غيرها معروفا. ويجوز فى : «غير» أن تكون مبنية على الفتح لإضافتها إلى مبنى (وهو : الضمير) فى محل رفع اسم «ليس» أيضا والخبر محذوف كالسابق. ويجوز أن تكون مرفوعة منونة باعتبارها اسم «ليس» ، والمضاف إليه محذوف ، ولم ينو لفظه ولا معناه ، والخبر محذوف أيضا ، أى : ليس غير ... معروفا. ويجوز نصبها مع تنوينها باعتبارها خبر «ليس» واسمها محذوف ؛ والتقدير : عرفت خمسين ليس المعروف غيرا ، أى : غيرها ـ وسيجىء الكلام على : «غير» فى باب الإضافة ـ ج ٣ م ٩٥ ـ.

(٦) بيان هذا فى مكانه المناسب من باب الإضافة (ج ٣) عند الكلام على : «غير».


ومنها : أن «غير» لا تكون ظرفا. أما «سوى» فتقع ظرف مكان فى مثل : جاء الذى سواك ، عند من يرى ذلك ، وجعلها صلة الموصول ؛ (لأن الصلة لا تكون إلا جملة أو شبه جملة) ، والتقدير عنده : جاء الذى استقر فى مكانك عوضا عنك ، ثم توسعوا فى استعمال «سواك» ومكانك ، فجعلوهما ـ مجازا ـ بمعنى : «عوضك» من غير ملاحظة حلول بالمكان.

ومنها : أن استعمال «غير» فى الاستثناء ليس هو الأكثر ، وإنما الأكثر أن تكون :

١ ـ نعتا لنكرة ؛ فتفيد مغايرة مجرورها للمنعوت ، إما فى ذاته المادية ؛ نحو : أقبلت على رجل غير (١) علىّ ، وإما فى وصف طارئ على ذاته المادية ، نحو : خرج البرىء من المحكمة بوجه غير الذى دخل به ، ذلك أن وصف الوجه مختلف فى الحالتين ... أما ذات الوجه ، ومادته التى يتكون منها ، فلم تتغير. وكقول الشاعر :

تحاول منى شيمة غير شيمتى

وتطلب منى مذهبا غير مذهبى

«فالشيمة ، أو المذهب» وصف طارئ على الذات ، وأمر عرضىّ لاحق بها ، وليس جزءا أساسيّا من تكوينها المادىّ الأصيل.

٢ ـ أو نعتا لشبه النكرة : وهو المعرفة المراد منها الجنس (٢) ، نحو قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فكلمة «غير» مجرورة ، وهى لذلك نعت لكلمة : «الذين» المراد بها جنس لأقوام معيّنين (٣) ، وليست للاستثناء ؛ إذ لو كانت للاستثناء لوجب نصبها

__________________

(١) ليست هنا أداة استثناء لما هو مقرر من وجوب أن يكون المستثنى منه ـ فى الأغلب ـ أعم من المستثنى ، بحيث يشمله.

(٢) كاسم الموصول ؛ فإنه مبهم باعتبار عينه ، من غير اعتبار صلته معه ؛ فإنها تزيل إبهامه ، وتجعله معينا. (كما سيجىء فى «ج» من ص ٣٢٥).

(٣) كيف تقع «غير» نعتا لاسم الموصول وأشباهه مع أنها نكرة وهو معرفة؟

والجواب : أن منعوتها وحده ـ من غير الصلة ـ بمنزلة النكرة ؛ فهى مطابقة له فى التنكير ، أو : أن إبهامها وتنكيرها ضعيفان ـ بسبب وقوعها بين ضدين ـ فهى قريبة من المعرفة ؛ فتقع نعتا للمعرفة. بالإيضاح الذى : كر عنها فى ج ٣ باب الإضافة. والرأى الحق هو أن العرب استعملت فى كلامها «غير» نعتا للنكرة أحيانا ، وللمعرفة التى تشبهها حينا ؛ كما فى الآية المعروضة.


وإذا وقعت نعتا ـ كما فى الحالتين السالفتين ـ فإنها تكون مؤولة بالمشتق بمعنى : مغاير (١).

٣ ـ يلى هاتين فى الكثرة أن تقع موقعا إعرابيّا آخر مما تصلح له الأسماء الجامدة ؛ كالمبتدأ فى قول الشاعر :

وغير تقىّ يأمر الناس بالتقى

طبيب يداوى والطبيب مريض

وكالخبر ـ ومنه خبر النواسخ ـ فى قول الشاعر :

وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم

إذا كانت الأعمال غير حسان

وكالفاعل ونائبه ، والمفعول به ... و... ، وكل هذا قياسى فصيح.

أما «سوى» فالأكثر فيها أن تكون للاستثناء ؛ كالأمثلة السالفة ؛ ولغير الاستثناء فى نحو : سواك متسرع ـ رأيت سواك متسرعا ـ القوة بسوى الحق مهزومة ... ـ لا ينفع سوى الصبر عند معالجة المشكلات ، وكقول الشاعر :

وإذا تباع كريمة أو تشترى

فسواك بائعها ، وأنت المشترى

وقول الآخر :

أأترك ليلى ليس بينى وبينها

سوى ليلة؟ إلى إذا لصبور

وقد تكون نعتا لنكرة ، أو لشبه نكرة كما تكون «غير» ... وهكذا (٢).

* * *

حكم تابع المستثنى «بغير» وأخواتها :

مما يلاحظ أن المستثنى «بغير وأخواتها» مجرور دائما ؛ لأنه مضاف إليه لكن إذا جاء بعده تابع (٣) له جاز فى التابع أمران :

أحدهما : الجر مراعاة للفظ المستثنى المجرور ؛ نحو : قدمت المنح للفائزين غير محمود وحسن.

ثانيهما : ضبطه بمثل ضبط المستثنى «بإلّا» ، لو حذفت «غير» وحل محلها : «إلا». وذلك بأن نتخيل حذف : «غير» ، ووقوع «إلا» موقعها ؛

__________________

(١) لأن النعت لا يكون إلا مشتقا ، أو مؤولا به.

(٢) سيجىء فى : ه من ص ٣٣٦ أن «سوى» قد تكون ـ أحيانا ـ بمعنى : (ولا سيما) ؛ طبقا للبيان الشامل الذى سبق تفصيله فى ج ١ م ٢٨ ص ٣٦٦ ـ باب : «الموصول».

(٣) سبق أن التوابع أربعة : النعت ـ العطف ـ التوكيد ـ البدل. (وفى الجزء الثالث باب خاص بكل واحد).


وضبط المستثنى بغير على حسب ما تقتضيه الحالة الجديدة بسبب : «إلا» ، ثم نضبط تابعه بمثل حركته الجديدة ، ففى المثال السابق : قدمت المنح للفائزين غير محمود ـ يصير : قدمت المنح للفائزين إلا محمودا ، فصار المستثنى منصوبا مع «إلا» بعد أن كان مجرورا مع الأداة : «غير» ، فيصح فى تابعه أن يكون منصوبا مع «غير» أيضا على تخيل «إلا» المقدرة والملحوظة ، وأن المستثنى بها ـ على فرض وجودها فى الكلام ـ منصوب ؛ فنقول : غير محمود ، وحسن أو : غير محمود وحسنا ؛ بافتراض أن كلمة : «محمود» مجرورة فى ظاهرها ؛ لأنها مستثنى للأداة «غير» ، ومنصوبة فى التقدير والتوهم ؛ لأنها مستثنى للأداة: «إلا» المقدرة ، ولهذا يصح النصب والجر فى كلمة : «ضرب» من قول الشاعر :

ليس بينى وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى ، وضرب الرقاب

ومثل : ما جاء الفائزون غير محمود وحسن ، أو : حسنا ، أو : حسن ؛ لأننا لو وضعنا الأداة «إلا» مكان الأداة «غير» لجاز فى المستثنى ، الذى كان مجرورا بعد «غير» أمران بعد مجىء «إلا» هما النصب على الاستثناء ، والرفع على البدلية ، هكذا : ما جاء الفائزون إلا محمودا ـ أو محمود ، فيجوز فى تابعه الأمران : النصب والرفع ؛ وهذا يجرى أيضا فى تابع المستثنى بكلمة : «غير» التى تجىء فى مكان : «إلا» فيجوز فيه الأمران زيادة على جرّه. ومعنى هذا أن كلمة «حسن» وهى المعطوفة فى المثال السالف ، يجوز فيها الجر ، والنصب ، والرفع.

والنحاة يسمون الضبط الناشئ من التخيل السالف : «الإعراب على التوهم» (١) أو : «على المحل» وهو مقصور ـ فى باب الاستثناء ـ على المستثنى «بغير» وأخواتها الأسماء. ولا يجوز فى غيرها. ومع جوازه المشار إليه يحسن البعد عنه ، وعن التوهم عامة ؛ حرصا على أهم خصائص اللغة ، وتمسكا بسلامة البيان.

__________________

(١) انظر البيان فى رقم ٤ من هامش ص ٤٠١ وله إشارة فى ص ٤٩٣.


زيادة وتفصيل :

(ا) من أخوات «غير» الاستثنائية كلمة بمعناها ، هى : «بيد» (١) (وقد يقال فيها : «ميد») ، ولكنها تختلف عن «غير» فى أمور :

منها : ملازمة «بيد» للنصب دائما ، على اعتبارها حالا مؤولة ، بمعنى : «مغاير» ، أو على اعتبارها منصوبة على الاستثناء ؛ فلا تكون صفة ، ولا تكون مرفوعة ، ولا مجرورة ، ولا تكون منصوبة إلا على الاعتبار السابق.

ومنها : أنها لا تكون أداة استثناء إلا فى الاستثناء المنقطع.

ومنها : أنها مضافة دائما إلى مصدر مؤول من : «أنّ ومعموليها». ولا يجوز قطعها عن الإضافة.

ومن الأمثلة : فلان غنىّ ، بيد أنه جشع ، وأخوه فقير بيد أنه عزيز النفس.

(ب) تختلف الأداتان «غير» و «إلا» فى أمور (٢) ، أهمها :

١ ـ أن «إلا» تقع بعدها الجمل بنوعيها الاسمية والفعلية ، (وقد سبق (٣) القول بأنه لا داعى للأخذ بما اشترطه بعض النحاة : لوقوع الجمل بعدها وهو : ألا يكون الاستثناء متصلا ، وأن يكون الكلام مفرغا ـ وأن يكون الفعل فى الجمل الفعلية إما مضارعا ، نحو : ما النبيل إلا يعمل الخير ، وإما ماضيا مقترنا بالحرف «قد» نحو : ما النبيل إلا قد قام بالواجب ، وإما ماضيا مسبوقا بماض آخر قبل «إلا» ، نحو : ما أرسلت رسالة إلا تمنيت أن ترضى صاحبها ... ؛ فالظاهر أن ما سبق ليس بالشروط المحتومة ، وإنما هو الصور الكثيرة) (٤) أما «غير» فلا تقع بعدها الجمل ، لأنها لا تضاف إلا للمفرد.

٢ ـ يجوز أن يقال : عندى درهم غير جيد ، على النعت ، ولا يجوز : عندى درهم إلا جيد ـ لأن الكثير فى وقوع «إلا» نعتا أن يكون ذلك فى أسلوب

__________________

(١) وهى التى سبقت لها الإشارة فى رقم ١ من هامش ص ٣١٨.

(٢) سبق (فى ص ٣٢٠) بيان الفوارق بين «غير» وأخواتها الأخرى.

(٣ و ٣) فى رقم ٢ من هامش ص ٣٠٧ البيان والإيضاح.


يصح فيه الاستثناء. وهنا لا يصح الاستثناء ؛ لمخالفته الكثير (١) ...

٣ ـ يجوز أن يقال : قام غير واحد. ولا يجوز : قام إلا واحد ؛ لأن حذف المستثنى منه لا يكون فى الكلام الموجب.

٤ ـ يجوز أن يقال : أقبل الإخوان غير واحد وزميلة ، أو زميلة ، بجر «زميلة» مراعاة للفظ المعطوف عليه ، أو نصبها حملا على المعنى المتخيل ـ كما شرحناه ، وأبدينا فيه رأينا من قبل (٢) ـ ولا يجوز مع «إلا» تخيل سقوطها ، وإحلال «غير» محلها ...

٥ ـ يجوز أن يقال : ما جئتك إلا ابتغاء علمك ، ولا يجوز مع الأداة : «غير» إلا الجر ، أى : ما جئتك لغير ابتغاء معروفك ؛ لأن المفعول لأجله يجب أن يكون مصدرا. و «غير» ليست مصدرا.

(ح) قد يقتضى المعنى أن تخرج «إلا» عن الحرفية ، وعن أن تكون أداة استثناء ، لتكون اسما بمعنى : «غير» وتعرب صفة ـ بشرطين (٣).

أولهما : أن يكون الموصوف نكرة أو ما شبهها من معرفة يراد بها الجنس ـ كما سبق (٤) ـ مثل المعرف بأل الجنسية ...

وثانيهما : أن يكون جمعا أو شبه جمع ، والمراد بشبه الجمع : ما كان مفردا فى اللفظ ، دالا على متعدد فى المعنى ؛ مثل : كلمة : «غير» ... فى نحو : جاء غير الغريب. فغير الغريب ـ وأشباهه ـ متعدد حتما (٥).

__________________

(١) يوضح هذا ما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٣١٨. وما سيجىء فى «ج».

(٢) ص ٣٢٢ و ٣٢٣ ـ عند الكلام على تابع المستثنى ب «غير».

(٣) زاد بعض النحاة شرطا ثالثا ؛ هو : أن تكون فى الأسلوب الذى تقع فيه نعتا صالحة لأن تكون للاستثناء. والتحقيق أن هذا الشرط مردود بدليل أن سيبويه يمثل لها بقوله : (لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا) بل إن المبرد يصرح ـ فى أحد رأييه ـ بأن سيبويه يشترط ألا تكون صالحة للاستثناء ، ويذكر مثاله السالف. فالصحيح أن هذا الشرط مرفوض ـ كما تقدم ـ.

(٤) انظر رقم ٢ و ٣ من ص ٣٢١.

(٥) ومن الشرطين السالفين تنشأ صور أربع : (أن يكون الموصوف جمعا حقيقيا ونكرة حقيقية.) ـ (وأن يكون شبيها بالجمع ونكرة حقيقية) ـ (وأن يكون جمعا حقيقيا وشبيها بالنكرة الحقيقية). وللصور الثلاث السالفة أمثلة معروضة. (أما الرابعة : فأن يكون شبيها بالجمع ، شبيها بالنكرة ، كالمفرد المعروف بأل الجنسية).


فمثال «إلا» الواقعة صفة لجمع حقيقى هو نكرة حقيقية : سينهزم الأعداء ، فقد خرج لملاقاتهم جيش كبير ، إلا القواد والرماة. فلا يصح أن تكون «إلا» هنا حرف استثناء ؛ خشية أن يفسد المعنى ؛ إذ الاستثناء ـ كما شرحنا أول الباب ـ يقتضى أن يكون المعنى : خرج لملاقاتهم جيش كبير طرحنا ونقصنا منه القواد والرماة ، ولا يعقل أن يخرج جيش كبير دون قواده ورماته. ومثل : تتسع قاعة المحاضرة لجموع كثيرة إلا المحاضر ، فهى هنا ـ كما فى المثال السابق ـ بمعنى : غير. ولا يصح أن تكون بمعنى «إلا» الاستثنائية ؛ لئلا يترتب على ذلك أن يكون المعنى : تتسع قاعة المحاضرة لجموع كثيرة طرحنا ونقصنا منهم المحاضر ، إذ لا يعقل أن تتسع قاعة المحاضرة للسامعين ، ولا تتسع للمحاضر ، فلا يمكن أن يجتمعوا لسماع محاضرة من ليس له مكان عندهم ، ومثل هذا قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما)(١) آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، فلو كانت «إلا» حرف استثناء لكان المعنى : لو كان فيهما آلهة ، ليس من ضمنها الله لفسدتا. (أى : لو كان فيهما آلهة أخرجنا وطرحنا منها الله ، لفسدتا) وهذا معنى باطل ؛ إذ يوحى بأنهما لا تفسدان إذا كان الله من ضمن الآلهة ولم يخرج ولم يطرح. وهذا واضح البطلان. بخلاف ما لو كانت «إلا» اسما بمعنى : «غير» ، نعتا للنكرة قبلها ؛ فإن المعنى يصح ويستقيم.

ومثال : «إلا» الاسمية الواقعة نعتا لشبه الجمع الذى هو نكرة حقيقية أن تقول للخائن : غيرك إلا الخائن يستحق الصفح ، فكلمة «إلا» اسم بمعنى : «غير» ولا تصلح أن تكون استثناء لئلا يكون المعنى : غيرك من الخائنين يستحقّ الصفح إلا الخائن ، وفى هذا تناقض ظاهر. أو غيرك من الأمناء مطروحا وخارجا منهم الخائن يستحقون الصفح. والخائن ليس من الأمناء ، ولا علاقة له بهم حتى يستثنى منهم (٢). فإذا جعلنا : «إلا» بمعنى : «غير» صح المعنى واستقام وتعرب صفة لكلمة «غير» الأولى ، ولا يصح أن تكون حرف استثناء لفساد المعنى وتناقضه ...

ومثالها نعتا للجمع الحقيقىّ الشبيه بالنكرة : يخشى عقاب الله العصاة إلا الصالحون

__________________

(١) فى السماء والأرض.

(٢) ولا يصح هنا جعل الاستثناء منقطعا ؛ لعدم وجود نوع من العلاقة أو الارتباط بين المستثنى والمستثنى منه. (طبقا لما يقتضيه الاستثناء المنقطع ، كما سبق فى ص ٢٩٥ و ٣٠٨).


فالعصاة شبه نكرة لوجود «أل» (١) الجنسية. و «إلا» بمعنى «غير» صفة. ولو كان حرفا لفسد المعنى ؛ إذ يكون : يخشى عقاب الله العصاة ، والصالحون لا يخشونه.

أما شبه الجمع الشبيه بالنكرة فكالمفرد المعرف «بأل الجنسية» نحو : الرجل إلا المريض يحتمل الأثقال.

وإذا كانت «إلا» الاسمية نعتا فكيف نعربها؟ أتكون هى ـ وحدها ـ النعت : مباشرة ؛ مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرور بحركات مقدرة على آخره. على حسب المنعوت ، وبعدها ما أضيفت إليه مجرورا؟ أم تكون هى النعت ـ أيضا ـ ، مرفوعة ، أو منصوبة ، أو مجرورة ، على حسب المنعوت ، ولكن صورتها كصورة الحرف ، فالحركات لا تقدّر عليها ، وإنما تنتقل إلى المضاف إليه الذى بعدها مباشرة ؛ فتكون «إلا» نعتا مضافا ، واللفظ بعدها هو المضاف إليه ، وهو مجرور بكسرة مقدرة منع من ظهورها الحركة المنقولة إليه من «إلا»؟

رأيان ، وكلاهما معيب ، معترض عليه. وأولهما أقرب إلى القبول ، ومن الخير ألا نلجأ فى أساليبنا إلى استعمال «إلا» الاسمية ما استطعنا لذلك

__________________

(١) سبقت أحكامها مفصلة ـ ولا سيما من ناحية أثرها فى التعريف والتنكير ـ فى ج ١ ص ٣٠٨ م ٣.


المسألة ٨٣ :

أحكام المستثنى الذى أدواته أفعال (١) خالصة ،

والذى أدواته تصلح أن تكون أفعالا (٢) وحروفا ...

(ا) فأما الأدوات التى هى أفعال خالصة فتنحصر فى فعلين ناسخين (٣) جامدين ؛ هما : «ليس» و «لا يكون». (بشرط وجود «لا» النافية قبل هذا الفعل المضارع ، الذى للغائب ، دون غيرها من أدوات النفى) ، ولا يصلح من أفعال «الكون» أداة للاستثناء إلّا هذا المضارع الجامد ، المنفى بالحرف : «لا» ، الدال على الغائب ؛ مثل : زرعت الحقول ليس حقلا ، أو : زرعت الحقول لا يكون (٤) حقلا. ومثل : ما تركت الكتب ليس كتابا ، أو لا يكون كتابا ...

وحكم المستثنى بهما وجوب النصب ، باعتباره خبرا لهما ، لأنهما ناسخان جامدان ، من أخوات : «كان» (٥). أما الاسم فضمير مستتر وجوبا تقديره : هو ؛ يعود على «بعض» مفهوم من «كل» يرشد إليه السياق ، ويدل عليه المقام ضمنا (٦) ؛

__________________

(١ و ١) إذا كانت أداة الاستثناء فعلا ـ خالصا ، أو غير خالص ـ وجب أن يكون جامدا ، وأن يكون الكلام تاما متصلا ؛ موجبا أو غير موجب ؛ فلا تصلح الفعلية للاستثناء المنقطع ، ولا المفرغ ـ كما سيجىء هنا ـ (وقد نص «الصبان ، والخضرى» على هذا عند الكلام على الاستثناء بالأدوات الفعلية ، وكذلك صاحب «المفصل» ص ٧٧ ج ٢) وسبقت الإشارة له فى رقم ١ من هامش ص ٢٩٤.

(٢) أحكامهما الخاصة بالنّسخ مدونة فى باب «النواسخ» ح ١ م ٤٢.

(٣) الفعل هنا مضارع زمنه للحال ، أو للاستقبال ؛ فيبدو غريبا متناقضا مع الفعل الماضى قبله فى هذا المثال أو ما يشبهه. وقد قالوا إن المراد : لا تعد ولا تحسب حقلا ؛ فلا منافاة بين زمن المضارع والماضى على هذا التفسير. ومثل هذا يقال فى الفعل : «ليس» إذا سبقه الماضى الصريح ، مع أن «ليس» لنفى المعنى فى الزمن الحالى ، أو يقال : إنه لنفى المعنى فى الزمن الحالى عند عدم قرينة تعينه للماضى ـ كالتى هنا ـ أو تعينه للمستقبل ؛ على الوجه المبين فى مكانه المناسب ج ١ ص ٤١١ م ٤٢ باب «كان» وأخواتها.

(٤) إذا كان المستثنى ضميرا منصوبا وجب فصله ؛ نحو : الرجل قام القوم ليس إياه ، أو لا يكون إياه ، لما تقدم (فى ج ١ م ٢٠ باب الضمير) من أن «ليس ولا يكون» فعلين للاستثناء ، ناسخين أيضا ؛ فلا يجوز : «ليسه ولا يكونه» كما لا يجوز : «إلاه» ، فكما لا يقع الضمير المتصل بعد «إلا» ـ لا يقع بعد ما هو بمعناها. ـ لكن انظر رقم ٤ من هامش ص ٣٣٣ ـ.

(٥) الكلام على مرجع الضمير فى ج ١ ص ١٨١ م ١٩.


فمعنى «زرعت الحقول ليس حقلا» : ليس هو من المزروع ؛ أى : ليس بعض الحقول المزروعة حقلا. فالمزروع «كلّ» استثنى (١) بعضه.

ولا بد أن يكون هذا النوع من الاستثناء تامّا متصلا ، موجبا أو غير موجب كما فى الأمثلة المذكورة ... وتعرب الجملة المشتملة على الناسخ واسمه وخبره فى محل نصب حالا (٢) ، أو تعتبر جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب ، ولا علاقة لها بما قبلها من الناحية الإعرابية فقط ؛ أما من الناحية المعنوية فبينهما ارتباط (٣).

(ب) وأما الأدوات التى تكون أفعالا تارة ، وحروفا تارة أخرى ـ فهى ثلاثة : عدا ـ خلا ـ حاشا (وفى الأخيرة لغات (٤) أشهرها : حاشا ـ حشا ـ حاش ...). ومعنى كل أداة من هذه الأدوات الفعلية : «جاوز». ويتعين عند استعمالها أفعالا أن يكون الاستثناء بها تامّا متصلا ، موجبا أو غير موجب ؛ كالشأن فى جميع أدوات الاستثناء إذا كانت أفعالا ؛ فإنها لا تصلح للمفرّغ ، ولا المنقطع. ١ ـ فإن تقدمت على كل منها «ما» المصدرية وجب اعتبارها أفعالا ماضية خالصة ـ ولا تكون هنا إلا ماضية جامدة ؛ (فهى جامدة فى حالة استعمالها أدوات استثناء) مثل : أحب الأدباء ما عدا الخدّاع ـ وأقرأ الصحف ما خلا التافهة ، وأشاهد تمثيل المسرحيات ما حاشا السوقية ، غير أن تقدّم «ما» المصدرية على «حاشا» قليل ؛ حتى قيل إنه ممنوع. ويحسن الأخذ بهذا الرأى.

وحكم المستثنى فى الصور السالفة التى تتقدم فيها «ما» المصدرية وجوب النصب ، باعتباره مفعولا به لفعل الاستثناء المذكور فى الجملة ، وفاعله ضمير مستتر وجوبا تقديره : «هو» ، يعود على «بعض» مفهوم من «كل» يدل عليه المقام ـ كما سبق ـ أمّا المصدر المؤول من «ما» المصدرية والجملة

__________________

(١) إذا لم يكن فى الكلام فعل ملفوظ أو مشتق يشبهه فى الإرشاد إلى ما يرجع إليه الضمير ، أمكن تصيده من فحوى العبارة ؛ ففى مثل : القوم إخوتك ليس عليا ـ يكون التقدير : ليس هو عليا ؛ أى : ليس المنتسب إليك بالإخوة عليا.

(٢) ولا تجىء «قد» المشروطة ـ عند كثير من النحاة ـ فى الجملة الماضوية المثبتة الواقعة حالا ؛ لأن هذا الشرط فى غير الجمل الماضوية التى أفعالها جامدة ، ومنها الأفعال الواقعة فى الاستثناء ، مثل : ليس خلا ـ عدا ـ حاشا (كما سيجىء فى رقم ٢ من هامش ص ٣٧٢) لهذا لا يصح مجىء «قد» هنا.

(٣) يصح إعراب آخر على اعتبار مخالف لما سبق. والبيان يجىء فى الزيادة والتفصيل ص ٣٣٣.

(٤) ولها أنواع تجىء فى ص ٣٣٥.


الفعلية التى بعدها (١) ، فهو فى محل نصب حال (٢) مؤولة بالمشتق ، أو ظرف زمان. والتقدير على الأول : (أحب الأدباء مجاوزين الخداع ... مجاوزة التافهة ... و... مجاوزة السوقية).

والتقدير على الثانى : (وقت مجاوزتهم الخداع ... وقت مجاوزتها التافهة ... وقت مجاوزتها السوقية) (٣) ... وكلا التقديرين حسن ، ولا يكاد يختلف فى الدلالة عن الآخر.

٢ ـ أما إذا لم تتقدم «ما» المصدرية على الكلمات الثلاث السابقة فيجوز اعتبارها أفعالا ماضية جامدة تنصب المستثنى ، مفعولا لها ، وفاعلها ضمير مستتر وجوبا تقديره : «هو» ـ كما سلف ـ والجملة فى محل نصب حال ، أو لا محل لها من الإعراب ، مستأنفة. ويجوز اعتبارها حروف جر ، والمستثنى مجرور بها ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما أو بما يشبهه. أو أنهما ليسا فى حاجة ـ إلى تعلق. على اعتبار الثلاثة حروف جر شبيهة بالزائد (٤) ، (وحرف الجر الشبيه بالزائد لا يحتاج إلى تعليق) ، ففى الأمثلة السابقة يجوز : أحب الأدباء عدا الخداع ، أو : الخداع ـ وأقرأ الصحف خلا التافهة ، أو التافهة ـ وأشاهد تمثيل المسرحيات حاشا السوقية أو السوقية. فكلمات : (الخدّاع ، التافهة ، السوقية) ـ يجوز فى كل منها النصب ، فيكون المستثنى مفعولا به ، والعامل فعلا ماضيا جامدا. ويجوز فيها الجر والعامل حرف جرّ (٥) ...

__________________

(١) فعل الاستثناء جامد لا يدخل بنفسه فى صياغة المصدر المنسبك ؛ وإنما يدخل الفعل الذى بمعناه ؛ وهو : جاوز. هذا ، والحرف المصدرى لا يدخل على فعل جامد إلا على هذه الأفعال ؛ لأنها مستثناة من القاعدة السالفة ، أو لأنها متصرفة فى أصلها ـ وقد أشرنا لهذا فى ج ١ م ٢٩. ـ

(٢) الحال هنا جائزة ، بالرغم من أن الحال لا تكون مصدرا مؤولا ؛ لاشتماله على ضمير يجعلها معرفة. ولكنها هنا معرفة مؤولة بالنكرة ، أى : مجاوزين ـ مثلا ـ (كما سيجىء فى : «ه» من ص ٣٤٦ ورقم ٣ من هامشها).

(٣) طريقة صوغ المصدر المؤول من «ما» وصلتها وكل ما يتصل بها ـ مدونة فى ج ١ ص ٢٩٦ م ٢٩ آخر باب الموصول.

(٤) ـ كما سيجىء فى ص ٤١٧ ـ ولا داعى للأخذ بهذا الرأى ، لأنه معقد ، وحجة أصحابه واهية

(٥) «ملاحظة» ـ : قالوا إنما يجوز الأمران ـ النصب والجر ـ بعد تلك الأفعال الثلاثة فى غير الحالة التى يكون المستثنى بها ياء المتكلم. فإن كان المستثنى بها ضميرا للمتكلم (الياء) ولم توجد «ما» المصدرية تعيّن اعتبار الأداة ـ


وقد وردت أمثلة مسموعة وقعت فيها «ما» قبل الكلمات الثلاث : (خلا ـ عدا ـ حاشا) (١) ووقع فيها المستثنى مجرورا وهى ؛ أمثلة شاذة لا يصح

__________________

ـ حرف جر إن لم يوجد قبل ياء المتكلم نون الوقاية ؛ نحو : أطال الخطباء حاشاى ، أو : عداى ، أو خلاى. والمستثنى مبنى على الفتح فى محل جر. ولا يصح هنا اعتبار الأداة فعلا ينصب المستثنى (الياء) إذ لو كانت الأداة فعلا لوجب ـ على المشهور ـ الإتيان بنون الوقاية قبل ضمير المتكلم «الياء» (تطبيقا لما سبق فى باب الضمير ، ج ١ ص ١٩٢ م ٢١) ، بخلاف ما لو قلنا : حاشانى ، أو عدانى ، أو خلانى حيث يجب اعتبار الأداة فعلا محضا ، والياء مفعوله ، بسبب وجود نون الوقاية التى تلزم آخر الفعل عند اتصاله بياء المتكلم ؛ طبقا للرأى الغالب.

هذا كلامهم. وهو مدفوع بأن نون الوقاية إنما تجىء فى آخر الفعل عند اتصاله بياء المتكلم لتقيه وتحفظه من الكسر الذى يجىء فى آخره لمناسبة الياء التى تلحق بآخره. ولما كانت هذه الأدوات لا يلحقها الكسر عند اتصالها بالياء امتنع الداعى لمجىء نون الوقاية مجيئا حتميا ، وصار الاستغناء عنها جائزا ؛ فيصح أن يقال : حاشاى ، أو : عداى ، أو خلاى ... وفى هذه الصور يصح اعتبار الأداة فعلا أو حرفا ، لعدم وجود ما يعينها لأحدهما دون الآخر.

نعم ، لو قلنا : حاشانى ، أو : عدانى ، أو : خلانى ... لكان وجود نون الوقاية ـ ووجودها هنا جائز لا واجب ، كما أسلفنا ـ مرجحا قويا لاعتبار الأداة فعلا ، لكثرة هذه النون فى الأفعال ... وقلتها فى الحروف ؛ مثل : منّى وعنّى ...

(١) وفيما سبق من أدوات الاستثناء التى تكون أفعالا فقط ، أو : التى تصلح لأن تكون أفعالا وحروفا يقول ابن مالك ، وقد خلطها :

واستثن ـ ناصبا ـ «بليس وخلا»

«وبعدا» ، «وبيكون» بعد : «لا»

أى : استثن بالأدوات التى ذكرها ، (وهى : ليس ـ خلا ـ عدا ـ يكون ؛ بشرط وقوع «يكون» بعد «لا» النافية). ناصبا المستثنى بها ، وفى هذه الحالة التى تنصب فيها المستثنى يتعين أن تكون أفعالا خالصة. ثم أردف قائلا :

واجرر بسابقى «يكون» إن ترد

وبعد : «ما» انصب ، وانجرار قد يرد

يقول : جر المستثنى بالأداتين السابقتين على «يكون». إن شئت ؛ وهما : «خلا وعدا» وإن شئت فانصبه بعدهما بشرط أن تسبقهما. «ما» ولم يذكر نوع «ما» وأنها المصدرية. ثم أشار إلى رأى ضعيف مردود ؛ هو أنهما قد يجران المستثنى أحيانا مع وجود : «ما» قبلهما ـ على اعتبارها زائدة ـ وأوضح بعد ذلك أنهما فى حالة جرهما المستثنى يعتبران حرفى جر ، وأنهما فى حالة نصبه يعتبران فعلين :

وحيث جرّا فهما حرفان

كما هما إن نصبا فعلان

(ويلاحظ أنه أدخل «الفاء» على جملة : «هما حرفان» تنزيلا للظرف : «حيث» منزلة الشرط على الوجه الذى شرحناه فى موضعه المناسب ص ٢٥٧ «و» و ٢٦٨ وهامشها). أو على اعتبار : «حيث» شرطية بغير اتصالها «بما» الزائدة ، تبعا لرأى الكوفيين ، أما الظرف : «حيث» فمتعلق بعامل معنوى ، هو : الإسناد (أى : بالنسبة الواقعة بين ركنى جملة) تطبيقا لما دونوه من أن شبه الجملة يتعلق ـ


القياس عليها. وقد أوّلها النحاة ليصححوها ؛ فقالوا : إن «ما» التى وقعت قبلها ليست مصدرية ، ولكنها زائدة. ولا خير فى هذا التأويل ، لأن العربى الذى نطق بتلك الأمثلة لا يعرف «ما» المصدرية ، ولا الزائدة ، ولا شيئا من هذه المصطلحات التى ظهرت أيام تدوين العلوم ، وجمعها ، وتأليفها ، ولا شأن له بها. هذا إلى أن التأويل السابق ـ كشأن كثير من نظائره ـ قد يخضع لغة قبيلة ولهجتها لأخرى تخالفها من غير علم أصحابها. وهذا غير سائغ ؛ كما أشرنا مرارا.

__________________

ـ بما فى الجملة من فعل أو غيره مما يصح التعلق به ، فإن لم يوجد ما يصلح فقد يتعلق بالنسبة (الإسناد) وذلك كالنسبة المأخوذة من قول ابن مالك «فهما حرفان» فالظرف «حيث» متعلق بالنسبة. أى تثبت حرفيتهما حيث جرا ... ـ وسيجىء إشارة لهذا فى باب حروف الجر عند الكلام على التعلق فى رقم ٢ من هامش ص ٤٠٩ كما سيجىء فى ج ٤ م ١٥٧ ص ٣٥١ إشارة لإجراء الظرف مجرى الشرط ـ.

ثم بين أن الأداة : «حاشا» شبيهة بالأداة : «خلا» فى كل أحكامها. لكن لا تجىء : «ما» ، قبل : «حاشا» وأن فيها لغات أشهرها «حاش» ، و «حشا» ، حيث يقول :

وكخلا : حاشا ، ولا تصحب «ما»

وقيل : «حاش» ، «وحشا» ؛ فاحفظهما


زيادة وتفصيل :

(ا) هل تقع الجملة المكونة من فعل الاستثناء وفاعله نعتا؟

ننقل هنا رأيين مفيدين ، وإن كان بينهما نوع تعارض ...

أولهما : ما جاء فى الهمع (١) ونصه (٢) :

(من أدوات الاستثناء : «ليس» ، «ولا يكون» ، ـ وهذه هى الناقصة ، وليست أخرى ارتجلت للاستثناء ـ. وينصبان المستثنى على أنه خبر لهما ، والاسم ضمير مستتر ، لازم الاستتار ـ كما تقدم فى مبحث الضمير (٣) ـ نحو : قام القوم ليس محمدا ، وخرج الناس لا يكون عليّا. ولفظ : «لا» قيد فى كلمة : «يكون» فلو نفيت بما ، أو : لم ، أو : لمّا ، أو : لن ... لم تقع فى الاستثناء. ومن شواهد «ليس» قول الشاعر :

عددت قومى كعديد الطيس

إذ ذهب القوم الكرام ليسى (٤)

وقوله عليه السّلام : يطبع المؤمن على كل خلق ، ليس الخيانة والكذب.

(وقد يوصف ب «ليس ، ولا يكون» ، حيث يصح الاستثناء ؛ بأن يكون ـ أى : المستثنى منه ـ نكرة منفية (٥). قال ابن مالك : أو معرفا بلام الجنس. نحو : ما جاءنى أحد ليس محمدا ، وما جاءنى رجل لا يكون بشرا. وجاءنى القوم ليسوا إخوتك. قال أبو حيان : ولا أعلم فى ذلك خلافا ، إلا أن المنقول هو اختصاصه بالنكرة ، دون المعرف بلام الجنس.

(ولا يجوز فى النكرة المؤنثة : نحو : أتتنى امرأة لا تكون فلانة ، إذ لا يصح الاستثناء منها ، ولا فى المعرفة ؛ نحو جاء القوم ليسوا إخوتك. بل يكونان فى موضع نصب على الحال.

(وإذا وصف بهما رفعا ضمير الموصوف المطابق له ؛ فيبرز (٦) ؛ نحو : ما جاءتنى

__________________

(١) ج ١ ص ٢٣٣.

(٢) مع بعض تيسير فى بضع كلمات.

(٣) ج ١ م ١٨ ص ٢٠٧ باب : «الضمير» ، وكذلك هنا فى ص ٣٢٨.

(٤) قد وقع المستثنى هنا ضمير متصلا يخالف الأكثر الذى سبق حكمه. فى رقم ٤ من هامش ٣٢٨.

(٥) ولا بد أن تكون أعم من المستثنى ؛ ليمكن استثناؤه منها ـ كما هو معلوم.

(٦) إلا عند ابن مالك ـ كما سبق ـ.


امرأة ليست أو لا تكون فلانة ، وما جاءنى رجال ليسوا زيدا ، أو نساء لسن الهندات.

(قال السيرافى : أجازوا الوصف «بليس ، ولا يكون» لأنهما نص فى نفى المعنى عن الثانى. وهذا معنى الاستثناء ، وليس ذلك فى «عدا وخلا» ، إلا بالتضمن ، فلم يوصف بهما ؛ لأنهما ليسا موضعى جحد ؛ فلا يقال : ما أتتنى امرأة عدت هندا ، أو : خلت دعدا) اه. همع ـ بتيسير.

ثانيهما : ما جاء فى المفصّل (١) ونصه :

«قد يكون : «ليس ، ولا يكون» وصفين لما قبلهما من النكرات ، تقول : أتتنى امرأة لا تكون هندا ، فموضع «لا تكون» رفع ؛ بأنه وصف لامرأة. وكذلك تقول فى النصب والجر : رأيت امرأة ليست هندا ، ولا تكون هندا ، ومررت بامرأة ليست هندا ، ولا تكون هندا.

ولا يوصف «بخلا وعدا» كما وصف ب «ليس ، ولا يكون» فلا تقول : أتتنى امرأة خلت هندا ، وعدت جملا. وذلك أن : «ليس ولا يكون» لفظهما جحد ، فخالف ما بعدهما ما قبلهما ؛ فجريا فى ذلك مجرى «غير» ، فوصف بهما كما يوصف «بغير». وأما «خلا وعدا» فليسا كذلك ، وإنما يستثنى بهما على التأويل ، لا لأنهما جحد. ولما كان معناهما المجاوزة والخروج عن الشىء فهم منهما مفارقة الأول ، فاستثنى بهما لهذا المعنى ، ولم يوصف بهما ؛ لأن لفظهما ليس جحدا ؛ فليس جاريّا مجرى «غير») ا. ه.

ويلاحظ : أن صاحب «المفصّل» لم يقيد وقوعهما نعتا بالموضع الذى يصلحان فيه للاستثناء ، كما قيّده صاحب الهمع ، وأن الأمثلة التى ذكرها صاحب المفصل صالحة للنعت هى التى نصّ صاحب الهمع على عدم صلاحها نعتا. فكيف ذلك؟

لا مفر من إعراب الجملة الفعلية فى هذه الأمثلة نعتا خالصا لا يصلح للاستثناء ؛ لأن النكرة التى قبل الفعلين ليست عامة ؛ فلا تصلح «مستثنى منه» يتسع لإخراج المستثنى فالجملة نعت محض ـ كالشأن فى كل الجمل الواقعة بعد النكرات المحضة ـ وبهذا يتلاقى الرأيان ويتفقان.

__________________

(١) ج ٢ ص ٧٨.


(ب) ليست : «حاشا» مقصورة على الاستثناء ؛ وإنما هى ثلاثة أنواع : أولها : الاستثنائية ؛ وهى فعل ماض جامد ، وقد سبق ما يختص بها (١).

وثانيها : أن تكون. فعلا ماضيا متعديا متصرفا ؛ بمعنى : «استثنى» ، مثل : (حاشيت مال غيرى أن تمتد له يدى ـ حين نتخير موضوعات الكلام نحاشى الموضوعات الضارّة ـ إذا دعوت لحفل فحاش من لا يحسن أدب الاجتماع) (٢).

ثالثها : أن تكون للتنزيه وحده (٣) أى : للدلالة على تنزيه ما بعدها من العيب (٤) وهى اسم مرادف لكلمة : «تنزيه» التى هى مصدر : نزّه. وتنصب على اعتبارها مصدرا قائما مقام فعل من معناه ، محذوف وجوبا ، ويغنى هذا المصدر عن النطق بفعله المحذوف (٥) ؛ نحو : حاشا لله ، أى : تنزيها لله من أن يقترب منه السوء. فكلمة : «حاشا» ـ بالتنوين ـ مفعول مطلق ، منصوب بالفعل المحذوف ـ وجوبا ، الذى من معناه ، وتقديره : «أنزه». والجار والمجرور متعلقان بها. ويصح أن يقال فيها : حاش لله ، بغير تنوين ؛ فتكون «حاش» مفعولا مطلقا ، ولكنه مضاف ، واللام بعده زائدة (٦) ، وكلمة «الله» مضاف إليه مجرور ، كما يصح أن يقال فيها : حاش الله ، بغير اللام الزائدة بين المضاف والمضاف إليه.

__________________

(١) فى ص ٣٢٩.

(٢) إذا كانت فعلا ماضيا متصرفا كهذا النوع ، فإن ألفها الأخيرة تكتب ياء ، هكذا : «حاشى». بخلافها فى النوعين الآخرين ؛ فتكتب ألفا.

(٣) أى : التنزيه الخالص الذى لا يشوبه معنى آخر ؛ كالاستثناء أو غيره ، ذلك أن «حاشا» الاستثنائية والمتصرفة ـ لا تخلوان من تنزيه ؛ ولكنه مختلط بمعنى آخر.

(٤) وهذا يشمل ما يكثر الآن حين يريدون تنزيه شخص من العيب ، فيبتدئون بتنزيه الله تعالى : ثم ينزهون من أرادوا. يريدون أن الله منزه عن ألا يطهر ذلك الشخص من العيب.

(٥) سبق فى باب المفعول المطلق تفصيل الكلام على المصدر القائم بدلا من التلفظ بفعله ص ٢٠٧ ، وفى ص ٢٢٢ إشارة إليها.

(٦) كزيادتها فى قوله تعالى : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ.) ولهذا قال بعض النحاة إن «حاش» اسم فعل بمعنى : برئ. أو تنزه. فتكون اسم فعل ماض مبنى على الفتح ، واللام بعدها زائدة و «الله» مجرور باللام الزائدة فى محل رفع ، فاعل اسم الفعل.


(ح) هل يحذف المستثنى؟ وهل تحذف أداة الاستثناء؟

أما حذف الأداة فالأصح أنها لا تحذف. وأما حذف المستثنى فيجوز بشروط ثلاثة : فهم المعنى ، وأن تكون الأداة هى : «إلا» أو : «غير» وأن تسبقهما كلمة : «ليس» (١). نحو : قبضت عشرة ليس إلا ، أو : ليس غير. أى ليس المقبوض إلا العشرة. وليس المقبوض غير العشرة ... ومن القليل أن يحذف المستثنى بعد : «لا يكون». بشرط فهم المعنى أيضا ، نحو : قبضت عشرة. لا يكون ... أى لا يكون غيرها ... لا يكون المقبوض غيرها.

(د) من أدوات الاستثناء «لمّا» بمعنى «إلا» وقد وردت فى أمثلة مسموعة إما فى كلام منفى ؛ مثل قوله تعالى : (إِنْ)(٢) كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) وإما فى كلام مثبت ولكنه مقصور على بضعة أساليب سماعية ؛ أشهرها : نشدتك الله لما فعلت كذا. وعمرك الله لمّا فعلت كذا.

وإذا كانت للاستثناء وجب إدخالها على الجملة الاسمية أو على الماضى لفظا لا معنى كالمثالين السالفين (٣) إذا المعنى فيهما «إلا أن تفعل كذا» ويستحسن النحاة الاقتصار على المسموع.

(ه) يذكر بعض النحاة فى آخر باب الاستثناء تفصيل الكلام على «لا سيما» من ناحية تركيبها ؛ ومعناها ، وعلاقتها بالاستثناء ، وضبط الاسم الذى بعدها ، وإعرابهما ... ويذكرها فريق آخر فى باب الموصول ، بحجة أن «ما» المتصلة بها قد تكون موصولة ... وقد آثرنا ذكرها فى باب الموصول (٤) ؛ لأنه أسبق ، وصلتها به أقوى.

ونزيد هنا أن بعض الرواة نقل لها أخوات مسموعة (٥) ، منها : «لا مثل ما» ... ـ لا سوى ما (٦) ... ـ فهذان يشاركان : «لا سيما» فى معناها وفى

__________________

(١) أجاز بعضهم أن يكون النافى هو : «لا» إذا كانت أداة الاستثناء هى : «غير» ؛ كما سيجىء فى الجزء الثالث باب الإضافة عند الكلام على : «غير».

(٢) «إن» حرف نفى.

(٣) نص على هذا «الأشمونى» فى الجزء الرابع ـ باب الجوازم ؛ عند الكلام على «لما» الجازمة.

(انظر ما يتصل بالمسألة ويوضحها فى : «ا» من الزيادة ، ص ٣٠٢ و ٣٠٣).

(٤) ج ١ ص ٣٦٦ م ٢٩.

(٥ و ٥) أشرنا لهذه فى ص ٦٠ وفى رقم ٢ من هامش ص ٣٢٢ ، أما البيان الكامل ففى ج ١ م ٢٨ ص ٣٦٦.

(٥ و ٥) أشرنا لهذه فى ص ٦٠ وفى رقم ٢ من هامش ص ٣٢٢ ، أما البيان الكامل ففى ج ١ م ٢٨ ص ٣٦٦.


أحكامها الإعرابية التى فصلناها فيما سبق (١).

ومنها : «لا تر ما ...» ، و «لو تر ما» ... ، وهما بمعناها ـ كما قلنا فى الموضع المشار إليه ـ ولكنهما يخالفانها فى الإعراب ؛ فهذان فعلان لا بد من رفع الاسم بعدهما ؛ ولا يمكن اعتبار «ما» زائدة مع جر الاسم بعدها بالإضافة ، لأن الأفعال لا تضاف. والأحسن أن تكون «ما» موصولة وهى مفعول للفعل : «تر» وفاعله ضمير مستتر وجوبا تقديره : أنت. والاسم بعدها مرفوع على اعتباره خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة.

وإنما كان الفعل مجزوما بعد «لا» لأنها للنهى. والتقدير فى «قام القوم لا تر ما علىّ» : لا تبصر (أيها المخاطب الشخص) الذى هو علىّ ؛ فإنه فى القيام أولى منهم. أو تكون «لا» للنفى ، وحذفت الألف من آخر الفعل سماعا ، وشذوذا.

وكذلك بعد «لو» سماعا. والتقدير : لو تبصر الذى هو علىّ لرأيته أولى بالقيام.

والجدير بنا أن نقتصر فى استعمالنا ، على : «ولا سيما» لشيوعها قديما وحديثا.

__________________

(١) ح ١ ص ٣٦٦ م ٢٨.


المسألة ٨٤ :

الحال (١)

ظهر البدر كاملا ـ نجا الغريق شاحبا

أبصرت النجوم متوهجة ـ أرسل التاجر البضاعة ملفوفة

فحص الطبيب مريضه جالسين ـ صافح المضيف ضيفه واقفين

البرد ـ قارسا ـ ضارّ ـ الشمس ـ شديدة ـ مؤذية

النزول من القطار ـ متحركا ـ خطر ـ ركوب السيارة ـ ماشية ـ وخيم العاقبة ،

تعريفه :

وصف (٢) ، منصوب (٣) ، فضلة (٤) ، يبين هيئة ما قبله ؛ ـ من فاعل ، أو مفعول به

__________________

(١) أبيات ابن مالك ـ كما وردت فى هذا الباب من «ألفيته» ـ لا تساير تسلسل المسائل ، ولا ترتيبها المنهجى على الوجه الذى ارتضيناه. لهذا وضعنا كل بيت عقب القاعدة التى يناسبها ، ويتصل بها اتصالا منطقيا. وفى الوقت نفسه وضعنا بجانب كل بيت رقما يميزه ، ويدل على ترتيبه بين أبيات الباب كما رتبها ابن مالك.

وكلمة : الحال ـ بغير تاء التأنيث فى آخرها ـ صالحة لأن تكون مذكرة أو مؤنثة ؛ نحو : الحال طيب ، أو : طيبة. إن هذا الحال حسن ، أو هذه الحال حسنة. أما إذا ختمت بتاء التأنيث فهى مؤنثة فقط ، نحو : الحالة طيبة ، وإن هذه الحالة حسنة. والكثير فى اللفظ التذكير ؛ بخلو آخره من التاء ، والكثير فى المعنى التأنيث.

(٢) اسم مشتق. وقد تكرر تعريف المشتق وأنواعه ـ ولكل منها باب خاص فى الجزء الثالث ـ.

(٣) فى بعض المراجع المطولة ـ كهامش التصريح ـ معركة جدلية بسبب أن «النصب» ليس جزءا من التعريف ؛ وإنما هو حكم ، والدفاع عن هذا ، أو مقاومته. ولا يعنينا مثل هذا الجدل الذى لا خير فيه. والنصب قد يكون ظاهرا ، كما فى الأمثلة المعروضة ، أو : مقدرا مثل : تغدو الطيور شتى ، أو : محليا ، كقولهم : جاءت الخيل بداد ، فكلمة : «بداد» علم جنس ، وهى حال ، مبنية على الكسر فى محل نصب.

(٤) الفضلة : ما يمكن أن يستغنى عنه ـ فى الأغلب ـ المعنى الأساسى للجملة. وهى خلاف العمدة.


أو منهما معا ، أو من غيرهما (١) ـ وقت وقوع الفعل (٢). كالكلمات التى تحتها خط فى الأمثلة المعروضة.

وتعرف دلالته على الهيئة بوضع سؤال كهذا : كيف كان شكل البدر حين ظهر؟ أو : كيف كانت صورته؟ فيكون الجواب : هو لفظ الحال السابقة ؛ أى : كاملا ، أو : مستديرا ... و... و... وكذا الباقى.

وليس من اللازم أن تكون الحال فى كل الاستعمالات وصفا ، وإنما هذا هو الغالب (٣) ، ولا أن تكون فضلة ؛ فهذا غالب أيضا ، إذ تكون بمنزلة العمدة أحيانا فى إتمام المعنى الأساسى للجملة ، أو فى منع فساده ؛ فالأولى ؛ كالحال التى تسدّ مسد الخبر (٤) ، فى مثل : امتداحى الغلام مؤدّبا ؛ فإن المعنى الأساسى ـ هنا لم يتم إلا بذكر الحال. وكالحال فى قوله تعالى : (... وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) وقوله تعالى : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ،) وقول الشاعر :

__________________

(١) أى : يبين هيئة صاحبه ، كالفاعل ، وكالمبتدأ ، أو الخبر ، أو اسم النواسخ. ولا قيمة للاعتراض على مجىء الحال من المبتدأ ، أو من اسم الناسخ ، أو مما ليس فاعلا ، أو مفعولا ، أو نحوهما ؛ ذلك لأن من يرفضونه لا يرفضونه للسبب القويم الصحيح ، وهو عدم الاستعمال العربى الأصيل ، وإنما يرفضونه لأنه لا يتفق مع مظهر من مظاهر السلطان الذى وهبوه للعامل ، كأن يقولوا فى منع مجىء الحال من المبتدأ : إن العامل فى المبتدأ هو : «الابتداء» ، فلو جاءت الحال من المبتدأ لكان المبتدأ هو عاملها ؛ فيختلف العاملان وأحدهما عامل فى الحال ، والآخر عامل فى صاحبها. مع أن العامل ـ عندهم ـ فى الحال لا بد أن يكون هو نفسه العامل فى صاحبها أيضا ـ طبقا للبيان الآتى فى رقم ٣ من هامش ص ٣٥٤ ـ والغريب أن المأثور الكثير من كلام العرب الخلّص لا يوافقهم ، ولا يؤيدهم ، مع كثرته ـ بدليل صحة قولهم : أعجبنى عطاء المحسن مبتسما ، وسرنى صوت القارئ خاشعا. ولهذا يخالفهم ـ بحق ـ «سيبويه» وفريق معه.

وإن ما يرفضونه ظاهرا صريحا ، يقبلونه على نية التأويل ؛ فكأن مجرد النية يبيح المحظور ؛ بالرغم من أن اللفظ الذى يؤولونه لن يتغير فى ظاهره ، وصريح الأسلوب لن يطرأ عليه تبديل. وهذا موضع من مواضع الشكوى. ولعله السبب الذى حمل بعض النحاة المحققين ؛ ـ كالرضى ـ على رفض اعتراضهم ، ونبذ رأيهم المخالف رأى سيبويه (كما جاء فى الخضرى ج ١ والصبان وغيرهما ـ فى باب الحال عند بيت ابن مالك : «وعامل ضمن معنى الفعل ، لا ...») وعلى أن يقول : «إن رأى سيبويه هو الحق ، ولا ضرورة تدعو للرأى المخالف».

وإذا كان المحظور يباح بمثل هذه النية وجب ترك الناس أحرارا فى محاكاة الكثير المأثور من الكلام العربى الصحيح ، وفى القياس عليه. ومن شاء بعد ذلك أن يتأول فليفعل. فالمهم هو ترك اللفظ على حاله الظاهر الموافق للوارد. ومن حمل نفسه بعد ذلك مشقة التأويل فهو حر وإن كانت المشقة بغير فائدة.

(٢) هذا هو الغالب. وقد يكون زمن الحال مقدرا (أى : مستقبلا ، وسيجىء البيان فى ص ٣٦٤).

(٣) كما سيجىء فى ص ٣٤٢.

(٤) سبق شرحه فى ج ١ ص ٣٨٥ م ٣٩ باب المبتدأ والخبر.


ولست ممن إذا يسعى لمكرمة

يسعى وأنفاسه بالخوف تضطرب

فالمعنى الأساسى لا يتم لو حذفت الحال : «كسالى» أو : «جبارين» أو : «أنفاسه تضطرب»؟ والثانية (وهى الحال التى يفسد معنى الجملة بحذفها) ؛ مثل : ليس الميت من فارق الحياة ، إنما الميت من يحيا خاملا لا نفع له ؛ فلو حذفنا الحال ، وقلنا : الميت من يحيا ـ لوقع التناقض الذى يفسد المعنى. ومثل كلمة : «لاعبين» فى قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ.) فلو حذفت الحال (لاعبين) لفسد المعنى أشد الفساد (١) ...

هذا ، وما يبين الحال هيئته من فاعل ، أو مفعول به ، أو : منهما معا ؛ أو : غيرهما ، يسمى : «صاحب الحال» (٢).

والتعريف السابق مقصور على الحال «المؤسّسة» دون «المؤكدة» ، لأن المؤسسة هى التى تبين هيئة صاحبها ، أما المؤكدة فلا تبين هيئة. ومثال الأولى : ارتمى السارق صارخا. ومثال الثانية : ولّى الحزين منصرفا ، وسيجىء بيانهما وتفصيل الكلام عليهما قريبا(٣).

* * *

أقسام (٤) الحال ، والكلام على كل قسم :

تتعدد أقسام الحال بتعدد الاعتبارات المختلفة التى ينبنى عليها التقسيم. وفيما يلى أشهر هذه الاعتبارات ، وما تؤدى إليه.

الأول : انقسام الحال باعتبار ثبات معناها انقسام الحال باعتبار ثبات معناها وملازمته (٥) شيئا (٦) آخر ، أو عدم ذلك ـ إلى «منتقلة» ، وهى الأكثر ، «وثابتة» ، وهى الأقل.

فالمنتقلة : هى التى تبين هيئة شىء (٧) مدة مؤقتة ، ثم تفارقه بعدها ، فليست دائمة الملازمة له : مثل : أقبل الرابح ضاحكا ـ أسرع البرق مشتعلا ـ شاهدت

__________________

(١) انظر رقم ٣ من ص ٣٨٠.

(٢) يجىء الكلام عليه مفصلا فى ص ٣٧٤ م ٨٥.

(٣) فى ص ٣٦٥.

(٤) يسميها بعض النحاة أقساما ، ويسميها آخرون أوصافا ، ويسميها فريق ثالث : نواحى الحال ... و... ولا أهمية لاختلاف التسمية ما دام المراد واحدا ؛ وهو الكلام على الحال بحسب الاعتبارات المتصلة بها.

(٥) وسبب هذه الملازمة وجود علاقة مبعثها العقل ، أو الطبع ، أو العادة ، ولو لم تكن الملازمة دائمة فى بعض الأحيان ـ كما جاء فى حاشية ياسين فى هذا الموضع ـ.

(٦ و ٦) وهو : صاحبها.


كتائب النمل مهاجرة ـ ... و... فكل حال من الثلاثة : (ضاحكا ـ مشتعلا ـ مهاجرة ...) غير دائم ، وإنما يوجد مدة تقصر أو تطول ، ثم ينقطع. «فالضحك» لا يلازم صاحبه إلا مدة محددة ، وكذلك : «الاشتعال» ، أو «المهاجرة».

والثابتة : هى التى تبيّن هيئة شىء تلازمه ـ غالبا ـ ولا تكاد تفارقه ، وتتحقق الملازمة فى إحدى صور ثلاث :

(ا) أن يكون معناها التأكيد. وهذا يشمل :

١ ـ أن يكون معناها مؤكّدا مضمون جملة قبلها ، بشرط أن يكون هذا المضمون أمرا ثابتا ملازما فى الغالب ، فيتفق معنى الحال ومضمون الجملة ؛ ويترتب على هذا أن تكون الحال ثابتة ملازمة صاحبها تبعا لذلك ؛ نحو : خليل أبوك رحيما ، «فرحيما» حال من «أب» الذى هو صاحبها الملازمة له. ومعناها ـ وهو : «الرحمة» ـ يوافق المعنى الضمنى للجملة التى قبلها. وهو : «أبوة خليل» ، لأن هذه الأبوة لا تتجرد من الرحمة ، كما أن المعنى الضمنى للجملة هو معنى الحال ، إذ مضمون : «خليل أبوك» أنه رحيم ؛ بداعى الأبوة التى تقتضى الرحمة والشفقة ـ كما سلف ـ فلهذا كان معنى الحال مؤكدا مضمون الجملة التى قبلها. والحال فيها ملازمة صاحبها.

ويشترط فى هذه الجملة التى قبلها أن تكون اسمية ، وأن يكون طرفاها (وهما : المبتدأ والخبر) معرفتين ، جامدتين (١). ولا بد أن تتأخر الحال عنهما معا وعن عاملها ، وأن يحذف عاملها وصاحبها (٢) وجوبا ؛ طبقا للتفصيل الذى سيأتى ...

__________________

(١) اشترط بعض النحاة أن يكون هذا الجمود محضا ، بحيث لا يتأول الجامد بالمشتق ؛ احترازا من مثل : «على الأسد مقداما» ؛ لأن «الأسد» مؤول بالشجاع ؛ فيكون الجامد المؤول بالمشتق هو العامل فى الحال ، وتصير الحال مؤكدة لعاملها ، لا لمضمون الجملة. أما الجامد الذى لا يتأول عندهم فمثل : «على أخوك رحيما» ، بزعم أن الأخوة لا تستلزم الرحمة ، بخلاف الأبوة. هذا رأيهم وتحقيقه عسير ؛ إذ لا يكاد يوجد جامد لا يمكن تأويله ـ كما يقول كثير من النحاة ـ انظر رقم ٣ من هامش ص ٣٤٧ ـ حتى المثال الذى عرضوه ـ ونظائره ـ ولعل هذا كان السبب فى أن شرطهم ورأيهم لم يذكره بل لم يوافق عليه ـ فريق آخر من النحاة ، كصاحب التوضيح ؛ كما يدل عليه مثاله وهو : (زيد أبوك عطوفا) وكما يصرح شارحه بأنه مخالف للرأى السالف. (راجع التوضيح وشرحه عند تقسيمه الحال إلى مؤسسة ومؤكدة) وقد ذكر الأشمونى وغيره مثال التوضيح أيضا فى أول باب الحال ، ثم فى الحال المؤكدة.

(٢) وهذا على اعتبار أنها حال من الضمير المحذوف مع العامل كما سيجىء فى ص ٣٥٧ و ٣٦٥ و ٣٧٠.


٢ ـ وكذلك يشمل أن تكون مؤكدة لعاملها ؛ إما فى اللفظ والمعنى معا ، نحو قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً،) وإما فى المعنى فقط ، نحو قوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ، وَيَوْمَ أَمُوتُ ، وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا،) فكلمة : «حيّا». حال من فاعل المضارع : أبعث ، أى : من الضمير المستتر (أنا). ومعناها : الحياة ، وهو معنى الفعل : أبعث ؛ لأن البعث هو الحياة بعد الموت. فمعناها موكّد لمعنى عاملها. والرسالة صفة ملازمة للرسول ، وكذا حياة المبعوث ؛ فكلاهما وصف حلّ بصاحبه لا يفارقه.

٣ ـ ويشمل أيضا أن تكون مؤكّدة بمعناها معنى صاحبها مع ملازمتها صاحبها ؛ نحو : اختلف كل الشعوب جميعا. فكلمة : «جميعا» حال مؤكدة معنى صاحبها ، وهو : «كلّ» ، لأن معنى الجمعية هو معنى الكلية ، لا يفترقان وسنعود للكلام على أنواع من المؤكدة بمناسبة أخرى (١).

(ب) أن يكون عاملها دالّا على تجدّد صاحبها ؛ بأن يكون صاحبها فردا من نوع يستمر فيه خلق الأفراد وإيجادها على مر الأيام ، أى : أن لذلك الفرد أشباه ونظراء توجد وتخلق بعد أن لم تكن. ويتكرر هذا الخلق والإيجاد طول الحياة ؛ نحو : خلق الله جلد النمر منقّطا ، وجلد الحمار الوحشىّ مخطّطا ؛ فكلمة «منقطا» حال ، وكذا كلمة «مخططا» ، وعاملهما : ، «خلق» ، وهو يدل على تجدّد هذا المخلوق ، أى : إيجاد أمثاله ، واستمرار الإيجاد فى الأزمنة المقبلة.

(ح) أحوال مرجعها السماع ، وتدل على الدوام بقرائن خارجية ؛ مثل ؛ «قائما» فى قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ـ قائِماً بِالْقِسْطِ،) فكلمة «قائما» حال ، وعاملها الفعل : «شهد» ، وصاحبها : «الله». ودوام القيام بالقسط معروف من أمر خارجى عن الجملة ؛ هو : صفات الخالق. ومثل : «مفصّلا» فى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً)(٢).

* * *

الثانى : انقسامها بحسب الاشتقاق والجمود (٣) إلى : «مشتقة» ـ وهى الغالبة ؛

__________________

(١) فى ص ٣٥٧ و ٣٦٥ و ٣٧٠.

(٢) مبينا فيه الحق والباطل بحيث لا يلتبس أحدهما بالآخر ، ولا يختلط به.

(٣) وفيما سبق من تعريف الحال ، وبيان المنتقل منها والثابت ، والجامد والمشتق ، وأن المنتقل غالب ولكنه ليس مستحقا ، أى : ليس واجبا ـ يقول ابن مالك :

الحال : وصف ، فضلة ، منتصب

مفهم فى حال : (كفردا أذهب) ـ ١

 ـ
كالأمثلة السالفة ـ وإلى «جامدة» وهى القليلة ، ولكنها مع قلتها قياسية فى عدة مواضع
(١) ؛ سواء أكانت جامدة مؤولة بالمشتق ، أم غير مؤولة (٢). وأشهر مواضع المؤولة بالمشتق أربعة :

(ا) أن تقع الحال «مشبّها به» فى جملة تفيد التشبيه إفادة تبعيّة غير مقصودة لذاتها. نحو : ترنم المغنّى بلبلا ـ سارت الطيارة برقا ـ هجم القط أسدا. فالكلمات الثلاث : (بلبلا ـ برقا ـ أسدا) أحوال منصوبة مؤولة بالمشتق ، أى : سارّا ـ سريعة ـ جريئا. وكل حال من الثلاث يعدّ بمنزلة المشبه به. (أى : كالبلبل ـ كالبرق ـ كالأسد) ، ولا يعتبر مشبها به مقصودا حقيقة ، لأن التشبيه ليس المقصود الأول هنا ؛ إنما المقصود الأول هو المعنى الحادث عند التأويل بالمشتق.

(ب) أن تكون الحال دالة على مفاعلة : (بأن يكون لفظها أو معناها جاريا على صيغة «المفاعلة» ؛ وهى صيغة تقتضى ـ فى الأغلب ـ المشاركة من جانبين أو فريقين فى أمر) ، نحو ؛ سلمت البائع نقوده مقابضة ؛ أو سلمت البائع النقود يدا بيد ؛ فكلمة : «مقابضة». حال جامدة ، ولفظها على صيغة : «المفاعلة» مباشرة ، ومعناها : «مقابضين» وهذا يستلزم اشتراك البائع والمتكلم فى عملية القبض. ولهذا كانت الحال هنا مبينة هيئة الفاعل والمفعول به معا ، أى : أن صاحب الحال هو الأمران.

__________________

ـ أراد : مفهم فى حال كذا ... فكلمة : «حال» هنا لا تنون ؛ لأنها مضاف ، والمضاف إليه محذوف على نية الثبوت ، أى : فى حال كذا ـ كما سبق ـ. ذلك أن قولك : جاء محمود راكبا ، يفيد المعنى الذى فى : جاء محمود فى حال الركوب ، وهو بيان هيئة صاحبه. وهذا معنى قولهم : الحال على معنى : «فى». ثم قال بعد ذلك :

وكونه منتقلا ، مشتقّا

يغلب. لكن ليس مستحقّا ـ ٢

أى : هذا الكون الذى سرده ووصفه بالانتقال والاشتقاق ـ ليس مستحقا. فهو كثير لا واجب

(١) لأنها ليست قلة ذاتية مردها قلة استعمال العرب لها ، وإنما مردها أنها قلة بالنسبة للمشتقة.

فهى كثيرة فى ذاتها بغير نظر لقسيمتها. (انظر معنى «القلة» فى الأشمونى ج ٢ «باب الإضافة» عند بيت ابن مالك : «وربما أكسب ثان أولا ...» وستجىء إشارة لها فى ص ٤٢٢ ويجىء الإيضاح فى ح ٣ رقم ١ من هامش ص ٧٤ م ٩٤).

(٢) الأهمية الأولى إنما هى لصحة وقوع الحال جامدة فى هذه المواضع ، أما التأويل وعدمه فلا أهمية له.


ومثلها : يدا بيد (١) ، إذ معنى الكلمتين ـ لا لفظهما ـ جاريا على صيغة : «المفاعلة» غير المباشرة ؛ لأن معناهما : «مقابضة» وتأويلها : «مقابضين» أيضا. والأسهل عند الإعراب أن تقول : «يدا» حال من الفاعل والمفعول به معا. و: «بيد» جار ومجرور متعلقان بمحذوف ، صفة للحال. فمن مجموع الصفة والموصوف ينشأ معنى الحال ، وهو : «المفاعلة» المقتضية للمشاركة. فهذه المشاركة لا تتحقق إلا باجتماع الصفة والموصوف فى المعنى. أما فى الإعراب فكلمة : «يدا» وحدها هى الحال. وهى أيضا الموصوف ، و «بيد» صفة.

ومثل هذا يقال فى : «كلّمت المنكر عينه إلى عينى (٢) ـ أى : مواجهة أو مقابلة ؛ بمعنى مواجهين ... فكلمة «عين» حال (٣) من الفاعل والمفعول به معا. وهى مضاف ، «والهاء» مضاف إليه. و «إلى عينى» جار ومجرور ، ومضاف إليه. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة ؛ والتقدير ؛ عينه المتجهة إلى عينى ... ومجموع الصفة والموصوف هو الذى يوجد صيغة : «المفاعلة» برغم أن الإعراب يقتضى التوزيع على الطريقة السالفة ؛ فتكون : «عين» الأولى وحدها هى الحال والموصوف معا ، وما بعدها صفة ...

ومثل هذا أيضا : كلمت الصديق فاه إلى فىّ (أى : فمه إلى فمى) ، بمعنى مشافهة ؛ المؤولة بكلمة : مشافهين.

ومثل : ساكنته غرفته إلى غرفتى ؛ بمعنى : ملاصقة ، التى تؤول بكلمة : ملاصقين ، وجالسته جنبه إلى جنبى ، كذلك ... وكل هذا قياسى فى الرأى الأحسن.

(ح) أن تكون دالة على سعر ؛ نحو : بع القمح. كيلة بثلاثين ، أى : مسعّرا. فكلمة «الكيلة» حال منصوبة ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف ، صفتها. ومن مجموع الصفة والموصوف يكون المشتق المؤول.

__________________

(١ و ١) من الحال الجامدة المسموعة بنصّها بعض أمثلة ، منها قولهم (... يدا بيد) وقولهم (... فاه إلى فىّ) ... فهل يجوز القياس على تلك الأمثلة فنقول مثلا : كلمت المنكر عينه إلى عينى؟ قالوا لا يجوز القياس إلا عند بعض الكوفيين. وحجة المانعين جدلية لا تثبت على الفحص. والأنسب الرأى الكوفى.

(٢) يصح فيها وفى أمثالها الرفع ؛ فتكون مبتدأ. والجار مع مجروره خبرها ، والجملة فى محل نصب ، حال. ولا يحسن فى كلمة : «عين» أن تكون بدلا ؛ لأن البدل ـ فى القول الشائع ـ يكون على نية تكرر العامل. ولا يستقيم المعنى هنا على تكراره ، إذ لا يقال : كلمت عينه.


(د) أن تكون الحال دالة على ترتيب ؛ نحو ادخلوا الغرفة واحدا واحدا (١). أو : اثنين اثنين ، أو : ثلاثا ثلاثا ... والمعنى : ادخلوها : مترتّبين. وضابط هذا النوع : أن يذكر المجموع أوّلا مجملا ، مشتملا ـ ضمنا ـ على جزأيه المكررين ، ثم يأتى بعده تفصيله مشتملا ـ صراحة ـ على بيان الجزأين المكررين.

ومن أمثلته : يمشى الجنود ثلاثة ثلاثة. أو أربعة أربعة ... ينقضى الأسبوع يوما يوما ، وينقضى الشهر أسبوعا أسبوعا. وتنقضى السنة شهرا شهرا ، وهكذا (٢).

ومن مجموع الكلمتين المكررتين تنشأ الحال المؤولة ؛ الدالة على الترتيب ولا يحدث الترتيب من واحدة فقط. لكن الأمر عند الإعراب يختلف ؛ إذ يجب إعراب الأولى وحدها هى الحال من الفاعل ـ كما فى الأمثلة السالفة ـ أو من المفعول به ، أو من غيره على حسب الجمل الأخرى التى تكون فيها.

أما الكلمة الثانية المكررة فيجوز إعرابها توكيدا لفظيّا للأولى ، كما يجوز ـ وهذا أحسن ـ أن تكون معطوفة على الأولى بحرف العطف المحذوف «الفاء» أو : «ثمّ» ـ دون غيرهما من حروف العطف (٣) ـ ، فالأصل : ادخلوا الغرفة

__________________

(١) يكثر اليوم أمثال هذه الأساليب المشتملة على التكرار العددى المفيد للترتيب ، وقد منعها بعض النحاة ، تبعا للحريرى فى كتابه : «درة الغواص» حيث صرح بأنه لا يجوز : جاءوا واحدا واحدا ، ولا اثنين اثنين ، لأن العرب ـ فى رأيه ـ عدلوا عن ذلك إلى : «أحاد ، ومثنى ؛ وأخواتهما» ، وهجروا المعدول عنه.

وقد تعقبه الشهاب الخفاجى ، وعلق على ذلك الرأى ، مثبتا بالأدلة والشواهد القاطعة ابتعاده عن الصواب ، وأن رأى الحريرى هو الخطأ الذى لا سند يؤيده ، وأن ذلك التكرير كثير فى كلام العرب ، فهو قياسى. وكذلك صرح بعض شراح «الكافية» بأن أسماء العدد المستعملة للتكرير المعنوى بلفظها مطردة.

مما سبق يتبين أنه لا داعى لمنع تلك الأساليب ، ولا للجدل حول قياسيتها. (كما ستجىء الإشارة فى ج ٤ ص ١٧٢ م ١٤٦).

(٢) فالمجموع المجمل هو : (واو الجماعة ـ الجنود ـ الأسبوع ـ الشهر ـ السنة ...) ولهذه الأساليب صلة بما يشبهها من نحو : ثناء ومثنى ، وثلاث ومثلث و... و... مما سيجىء بيانه فى ج ٤ ص ١٧١ م ١٤٦ عند الكلام على منع الصرف للوصفية والعدل.

(٣) لأن هذين الحرفين هما اللذان يدلان على الترتيب ، دون باقى حروف العطف.


واحدا فواحدا ، أو : ثم واحدا ـ يمشى الجنود ثلاثة فثلاثة ، أو : ثم ثلاثة ... (١) ويصح أن يقال : ادخلوا الأول فالأول (٢) ... و... و... فيكون حرف العطف ظاهرا ، وما بعده معطوف على الحال التى قبله. ولكن الحال هنا ـ مع صحتها ـ فقدت الاشتقاق والتنكير معا.

(ه) أن تكون مصدرا صريحا (٣) متضمنا معنى الوصف (أى : المشتق) ؛ بحيث تقوم قرينة تدل على هذا ؛ نحو اذهب جريا لإحضار البريد ؛ أى : جاريا ـ تكلم الخطيب ارتجالا ، أى : مرتجلا (٤) ـ حضر الوالد بغتة. أى : مفاجئا ...

لا تثق بالكذوب ، واعلم يقينا

أن شرّ الرجال فينا الكذوب

أى : متيقنا.

وقد ورد ـ بكثرة ـ فى الكلام الفصيح وقوع المصدر الصريح المنكّر حالا ؛ ولكثرته كان القياس عليه مباحا فى رأى بعض المحققين ، وهو رأى ـ فوق صحته ـ فيه تيسير ، وتوسعة ، وشمول لأنواع من المصادر أجازها فريق ، ومنعها فريق. ولا معنى لتأويل المصادر الكثيرة المسموعة تأويلا يبعدها عن المصدر ، كما فعل بعض النحاة من ابتكار عدة أنواع من التأويل بغير

__________________

(١) وقد يكون الغرض من التكرار الاستيعاب لا الترتيب ؛ فقد جاء فى كتاب الإقليد : (إن العرب تكرر الشىء مرتين فتستوعب جميع جنسه) ؛ مثل : ستمر بك أبواب الكتاب مفصلة بابا بابا. (راجع ص ٨٠ من حاشية الألوسى على شرح القطر).

(٢) «الأول» السابقة «حال» منصوبة ، والثانية معطوفة عليها بالفاء التى تفيد الترتيب. وزيدت فيهما «أل» شذوذا. كما تزاد فى النظم للضرورة. والأصل : ادخلوا أول فأول ؛ أى : ادخلوا مترتبين (وقد سبق هذا عند الكلام على «أل» الزائدة ـ ج ١ م ٣١ ص ٣٩٨ «ب» ـ) انظر ما يتصل بهذا فى ص ٣٥٠.

(٣) أما المصدر المؤول فلا يكون حالا ؛ لأنه يشتمل على ضمير يجعل الحال معرفة ، فتخالف الأغلب فيها ؛ وهو : التنكير. وبالرغم من هذا يصح وقوعها مصدرا مؤولا بشرط أن تكون أداة السبك هى : «ما» المصدرية ، وبعدها فعل من أفعال الاستثناء الثلاثة ، ـ «خلا» أو «عدا» أو «حاشا» لأن المصدر المؤول هنا يؤول بنكرة. (انظر رقم ٢ من هامش ص ٣٣٠. وفى ج ١ ص ٢٩١ م ٢٩ إشارة لبعض ما تقدم).

(٤) من غير إعداد سابق للخطبة.


داع (١) ؛ إذ لم يراعوا للكثرة حقها الذى يبيح القياس (٢).

* * *

وأشهر مواضع الحال الجامدة التى لا تتأول بالمشتق سبعة :

(ا) أن تكون الحال الجامدة موصوفة بمشتق (٣) أو بشبه (٤) المشتق ؛ نحو (ارتفع السعر قدرا كبيرا ـ وقفت القلعة سدّا حائلا) ـ (تخيل العدو القلعة جبلا فى طريقه ـ عرفت جبل المقطم حصنا حول القاهرة).

والنحاة يسمون هذه الحال الموصوفة : «بالحال المؤطّئة» ، أى : الممهّدة لما بعدها ؛ لأنها تمهد الذهن ، وتهيئه لما يجىء بعدها من الصفة التى لها الأهمية

__________________

(١) غريب ـ كما يقول بعض النحاة ـ أن يكثر ورود الحال مصدرا منكرا ، فى فصيح الكلام المأثور ، بل فى أفصحه ؛ وهو : القرآن ، ثم نسمع من يقول : إنه بالرغم من تلك الكثرة مقصور على السماع. فمما جاء فى القرآن قوله تعالى : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) وقوله : (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) وقوله : (إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) وقوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً.)

هذا بعض ما جاء فى الكتاب العزيز من الأحوال ، وما أكثر ما جاء فى غيره مما يستشهد به. وتأويلها بالمفعول المطلق الذى حذف عامله ضعيف ؛ لأن حذف عامل المؤكد فى مثل هذا معيب ـ كما سبق فى ص ١٧٢ ـ وكذا كل تأويل آخر يشبهه. فما الذى يقاس عليه إن لم تكن هذه الشواهد كلها داعية للقياس عليها؟ ولماذا يوافق بعضهم على القياس فى المصدر إذا كان نوعا لعامله ؛ نحو جاء السائق سرعة ، أى : سريعا؟ ولماذا يقصره كثير منهم على أنواع ثلاثة من المصدر؟ هى :

ا ـ المصدر الدال على بلوغ نهاية الشىء ؛ نحو : أنت الرجل شجاعة ، وأخوك الرجل علما. وأمثال هذا المصدر الذى قبله خبر مقرون «بأل» الدالة على الوصول إلى نهاية الشىء ؛ حسنا أو قبحا.

ب ـ والمصدر الذى قبله مبتدأ وخبر والمبتدأ مشبه بالخبر ، أنت عمر عدلا ـ وهى الخنساء شعرا. ح ـ والمصدر الواقع بعد : «أما» فى نحو : أما بلاغة فبليغ ، من كل مصدر وقع بعد «أما» فى مقام قصد فيه الرد على من وصف شخصا بوصفين ، أو سلبه أحدهما ، وأنت تعتقد اتصافه بواحد منهما. والحق أنه لا داعى لشىء من هذا كله. فالقياس مباح.

(٢) يقول ابن مالك :

ومصدر منكّر حالا يقع

بكثرة ؛ كبغتة زيد طلع ـ ٦

ـ وسيعاد هذا البيت لمناسبة أخرى فى ص ٣٥٠ ـ

(٣) يرى كثير من النحاة أن هذه مؤولة بالمشتق أيضا ، وأنه لا وجود لحال جامدة لا تؤول بالمشتق. ـ كما سبق فى رقم ١ من هامش ص ٣٤١ ـ والخلاف شكل لا أثر له.

(٤) شبه المشتق هو الظرف والجار مع مجروره ، وإنما كان شبه الجملة شبيها بالمشتق لإمكان تعلق كل منهما بمحذوف مشتق ، تقديره : كائن ، أو : موجود ، أو : حاصل ... ولأن الضمير قد انتقل من المشتق بعد حذفه إلى شبه الجملة (كما سيجىء البيان فى رقم ١ من هامش ص ٣٥٦ وفى هامش ص ٤١٧ م ٨٩).


الأولى دون الحال ، فإن الحال غير مقصودة ؛ وإنما هى مجرد وسيلة وطريق إلى النعت ؛ ولهذا يقسم النحاة الحال قسمين : أحدهما : «المؤطّئة» ، وتسمّى أيضا : «غير المقصودة» ، وهى التى شرحناها ، وثانيهما : «المقصودة مباشرة» ؛ وهى المخالفة للسالفة.

(ب) أن تكون دالة على شىء له سعر ؛ نحو : اشتريت الأرض قيراطا بألف قرش ، وبعتها قصبة بدينار ـ رضيت بالعسل رطلا بعشرة قروش ، وبعته أقة بثلاثين ... فالكلمات : (قيراطا ـ قصبة ـ رطلا ـ أقة ـ) حال جامدة. وهى من الأشياء التى تسعّر ؛ كالمكيلات ، والموزونات ، والمساحات ...

(ح) أن تكون دالة على عدد ؛ نحو : اكتمل العمل عشرين يوما ، وتم عدد العاملين فيه ثلاثين عاملا. فكلمة : «عشرين» و «ثلاثين» ، .... حال.

(د) أن تكون إحدى حالين ينصبهما أفعل التفضيل ، متحدتين فى مدلولهما ، وتدل على أن صاحبها فى طور من أطواره مفضّل (١) على نفسه أو على غيره ، فى الحال الأخرى ، نحو : هذا الخادم شبابا أنشط منه كهولة ، فللخادم أطوار مختلفة ؛ منها طور الشباب ، وطور الكهولة ، وهو فى طور الشباب مفضل على نفسه فى طور الكهولة ، وناحية التفضيل هى النشاط.

ومثل : الشتاء بردا أشد منه دفئا. فللشتاء أطوار ، منها طور البرودة ، وطور الدفء. وهو فى ناحية البرد أشد منه فى ناحية الدفء. ومثل : الحقل قصبا أنفع منه قمحا.

ومن الأمثلة : الولد غلاما أقوى من الفتاة غلامة (٢) ـ المنزل سكنا أحسن من الفندق إقامة ...

وكلتا الحالين منصوبة بأفعل التفضيل. والأكثر أن تتقدم إحداهما عليه ، وهى المفضّلة ، وتتأخر الثانية (٣).

__________________

(١) ليس المراد بالتفضيل الحسن ، أو عدم العيب ، أو قلته ... وإنما المراد الزيادة فى الشىء مطلقا ؛ حسنا أو قبحا. (كما سيجىء فى باب التفضيل ، ج ٣).

(٢) مؤنث غلام.

(٣) كما يجىء فى رقم ٢ من هامش ٥ ، ٣ وفى «د» من ص ٣٥٨ ، ثم انظر الملاحظة التى فى ص ٣٥٩ حيث يجوز تأخرهما.


(ه) أن تكون نوعا من أنواع صاحبها المتعددة ؛ نحو : هذه أموالك (١) بيوتا ؛ فكلمة : «بيوتا» حال ، وصاحبها ـ وهو : أموال ـ له أنواع متعددة (منها : البيوت ، والزروع ، والمتاجر ، والثياب ...) ونحو : هذه ثروتك كتبا وهذه كتبك هندسة ...

(و) أن يكون صاحبها نوعا معينا وهى فرع منه ؛ نحو : رغبت فى الذهب خاتما ـ انتفعت بالفضة سوارا ـ تمتعت بالحرير قميصا ... و... فكل من الذهب ؛ والفضة ، والحرير ، نوع ، والحال فرع منه (٢).

(ز) أن تكون هى النوع وصاحبها هو الفرع المعين ؛ نحو : رغبت فى الخاتم ذهبا ـ انتفعت بالسوار فضة ـ تمتعت بالقميص حريرا (٣) ...

* * *

الثالث : انقسامها من ناحية التنكير والتعريف :

لا تكون الحال إلا نكرة (٤) ، كالأمثلة السالفة. وقد وردت معرفة فى ألفاظ مسموعة لا يقاس عليها ، ولا يجوز الزيادة فيها. ومنها كلمة «وحد» فى قولهم : جاء الضيف وحده ـ سايرت الزميل وحده. فكلمة : «وحد» حال ، معرفة ؛

__________________

(١) المال : كل شىء يمكن امتلاكه ، من عقار ، ونقود ، وغيرهما.

(٢) ضابط هذا القسم : أن يكون الفرع جزءا من أصله ، وحين يتفرع منه يكتسب اسما جديدا ، وهذا الاسم الجديد لا يمنع من إطلاق اسم الأصل عليه.

(٣) وفى الحال الجامدة يقول ابن مالك :

ويكثر الجمود فى سعر ، وفى

مبدى تأوّل بلا تكلّف ـ ٣

أى : فى الأشياء التى تسعر ، وفى كل ما يظهر قبول التأويل السهل :

كبعه مدّا بكذا ، يدا بيد

وكرّ زيد أسدا ، أى : كأسد ـ ٤

المد : مكيال يختلف باختلاف الجهات ؛ فهو فى بعضها مقدار رطل وثلث ، وفى بعض آخر مقدار رطلين ... و... وقد يكون ملء الكفين المعتدلتين مع امتدادهما.

(٤) أو ما هو بمنزلة النكرة ، كالجملة الواقعة حالا ؛ لما رددناه من أن الجملة نكرة أو بمنزلة النكرة (راجع رقم ٢ من هامش ص ٣٦٨).


بسبب إضافتها للضمير ؛ وهى جامدة مؤولة بمشتق من معناها ، أى : منفردا ، أو متوحدا(١).

ومنها : رجع المسافر عوده على بدئه ، فكلمة : «عود» حال ، وهى معرفة ؛ لإضافتها للضمير ، ومؤولة بالمشتق ، على إرادة : رجع عائدا ، أو راجعا على بدئه. والمعنى : رجع عائدا فورا ، أى : فى الحال : أو : رجع على الطريق نفسه.

ومنها : ادخلوا الأول فالأول (٢) ، أى : مترتبين ، ومنها : جاء الوافدون الجمّاء الغفير (٣) ، أى : جميعا.

ومنها قولهم فى رجل أرسل إبله أو حمره الوحشية إلى الماء ، مزاحمة غيرها ومعاركة : أرسلها العراك ، أى : معاركة ، مقاتلة (٤).

* * *

__________________

(١) كلمة : «وحد» ملازمة للإضافة دائما. ويدور الجدل حول إعرابها وإضافتها ؛ أهى ملازمة للنصب دائما ، أم تتركه إلى غيره؟ أهى مضافة للضمير وجوبا ، أم يجوز إضافتها إلى غيره؟ بيان هذا كله مسجل فى «باب الإضافة» ح ٣ م ٩٤ ص ٦٦.

(٢) انظر ما يوضح هذا فى رقم ٢ من هامش ص ٣٤٦.

(٣) الجماء : مؤنث الأجمّ ، بمعنى : الكثير. و «الغفير» : الكثير الذى يغفر وجه الأرض ، أى : يغطيه بكثرته. والغفير ـ فى المثال ـ صفة للجماء ، مع أن «الغفير» هنا مذكرة ، والجماء مؤنثة فلم تطابق الصفة موصوفها الحقيقى. وقد تلمس النحاة لهذا تأويلات ؛ منها ؛ أن «فعيلا» هنا وإن كان بمعنى فاعل ، قد حمل على «فعيل» بمعنى «مفعول» حيث تحذف التاء منه غالبا عند ذكر الموصوف ـ وهذا وأشباهه ـ مردود. والسبب الذى لا يرد هو : أن العرب نطقوا بها هكذا من غير تعليل ...

(٤) يقول بعض النحاة إن الأحوال المذكورة ليست معارف ؛ لأن «وحد» و «عود» ألفاظ مبهمة لا تكتسب التعريف ، ولأن «أل» زائدة فى الأحوال الباقية المبدوءة بها ـ وهذا رأى فيه تكلف وضعف. يقول ابن مالك :

والحال إن عرّف لفظا فاعتقد

تنكيره معنى ، كوحدك اجتهد ـ ٥

ومصدر منكّر حالا يقع

بكثرة ؛ كبغتة زيد طلع ـ ٦

وقد سبق هذا البيت فى هامش ص ٣٤٧ لمناسبة أخرى.


زيادة وتفصيل :

من الألفاظ التى وقعت حالا مع أنها معرفة بالإضافة ، قولهم : تفرق المهزومون أيادى سبإ. على تأويل : متبدّدين ، لا بقاء لهم. أو على تأويل «مثل أيادى سبإ» (١). وحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ؛ فأعرب حالا مثله (٢).

ومنها : طلبت الأمر جهدى ، أو : طاقتى. على تأويل ، جاهدا ، ومطيقا (٣).

ومنها : العدد من ثلاثة إلى عشرة ، مضافا إلى ضمير المعدود ؛ نحو : مررت بالإخوان ثلاثتهم ... أو خمستهم ... أو سبعتهم ... على تأويل مثلّثا إياهم ، أو مخمّسا ، أو مسبعا ...

ويجوز إتباعه لما قبله ؛ فلا يعرب حالا ، وإنما يعرب توكيدا معنويّا : بمعنى جميعهم. ويضبط لفظ العدد بما يضبط به التوكيد.

والصحيح أن هذا ليس مقصورا على العدد المفرد ؛ بل يسرى على المركب ؛ نحو : جاء القوم خمسة عشرهم ؛ بالبناء على الفتح (٤) فى محل نصب ، أو محل غيره على حسب حاجة الجملة.

* * *

__________________

(١) يلاحظ أن كلمة : «مثل» هى من الألفاظ المبهمة فى أغلب استعمالاتها ـ كما سبق فى ص ٢٨٠ ـ ولهذا لا تكتسب التعريف إذا أضيفت لمعرفة.

(٢) سيجىء هذا فى ج ٣ م ٩٦ ص ١٣٦.

(٣) ستجىء الإشارة لهذه الألفاظ فى باب الإضافة (ج ٣ ص ٢٤ م ٩٣).

(٤) بالرغم من أن العدد المركب مبنى هنا فهو مضاف للضمير ـ (وستجىء إشارة لهذا فى باب «التوكيد» ج ٣ م ١١٦ ص ٤١٣ ، وكذلك فى ج ٤ باب : «العدد» عند الكلام على تمييز العدد م ١٦٤ ص ٣٩٧ ـ).


الرابع : انقسامها من ناحية أنها هى نفس صاحبها فى المعنى أو ليست كذلك.

والغالب أنها هى نفسه ؛ كالحال المشتقة فى نحو : صالح المتألم صارخا.

ـ شاهدت الطيور مبكرة ... فالصارخ فى الجملة ـ هو المتألم ، والمتألم هو الصارخ ؛ والمبكرة هى الطيور ، والطيور هى المبكرة.

وغير الغالب أن تكون مخالفة له ، كالحال الواقعة مصدرا صريحا فى نحو : خرج الولد جريا ، وجاء القادم بغتة ، وأشباههما ؛ فإن الجرى ليس هو الولد ، والولد ليس هو الجرى. والبغتة ليست هى القادم ، والقادم ليس هو البغتة. وقد سبق (١) الكلام على صحة وقوع المصدر حالا ، وهذه المخالفة لا تؤثر فى المعنى مع القرينة.

* * *

الخامس : انقسامها بحسب تأخيرها عن صاحبها ، أو تقديمها عليه ، وبحسب تأخيرها عن عاملها أو تقديمها عليه ـ إلى ثلاثة أقسام فى كل (٢). هى : وجوب تأخيرها ، ووجوب تقديمها ، وجواز الأمرين.

ترتيبها مع صاحبها :

(ا) يجب تأخيرها عن صاحبها إذا كانت محصورة (٣) ، نحو قوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.) فلا يصح تقديم الحال وحدها ، لأن تقديمها يفسد سلامة التركيب ، ويزيل الحصر ، فيفوت الغرض البلاغى منه. ولو تقدمت معها «إلا» فالإحسن المنع أيضا ، مجاراة للنهج الصحيح الشائع.

وكذلك يجب تأخيرها إن كان صاحبها مجرورا بالإضافة (أى : أنه مضاف إليه) (٤) ، نحو : أعجبنى شكل النجوم واضحة ؛ فلا يجوز تقديم الحال : (واضحة) على صاحبها : (النجوم) لئلا تكون فاصلة بين المضاف والمضاف

__________________

(١) فى : «ه» من ص ٣٤٦.

(٢) أحكام التقديم والتأخير الآتية مقصورة على الحال المؤسسة. أما المؤكدة فالرأى الأنسب عدم تقديمها.

(٣) سبقت الإشارة إلى الحصر ومعناه وطريقته فى الجزء الأول ص ٣٦٤ م ٣٧.

(٤) بشرط أن يصلح لمجىء الحال منه ، وسيجىء بيان ذلك فى ص ٣٧٦.


إليه. والفصل بها لا يصح. كما لا يصح ـ فى الرأى الأنسب ـ تقديمها على المضاف (ولا فرق فى الحالتين بين الإضافة المحضة وغيرها).

أما إذا كان صاحبها مجرورا بحرف جر أصلى ؛ نحو : جلست فى الحديقة ناضرة ، فالأحسن الأخذ بالرأى القائل بجواز تقديمها ؛ لورود أمثلة كثيرة منها فى القرآن وغيره ، تؤيده (١). ولا داعى لتكلف التأويل والتقدير (٢).

فإن كانت مجرورة بحرف جر زائد ، جاز التقديم ؛ نحو : ما جاء متأخرا من

__________________

(١) ومنها قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ ـ إِلَّا كَافَّةً ـ لِلنَّاسِ.) أى : وما أرسلناك إلا للناس كافة. وقول الشاعر :

تسلّيت ـ طرّا عنكمو ـ بعد بينكم

بذكراكمو حتى كأنكمو عندى

البين : الفراق. طرا : جميعا. أى : تسليت عنكم طرا.

وبمناسبة الكلام على : «كافة» يذكر أكثر اللغويين والنحاة ألفاظا لا تستعمل إلا منصوبة على «الحال» ، ومنها : «كافة» و «قاطبة». غير أن «الصبان» سجل فى باب : «الحال» ـ ج ٢ ـ عند الكلام على الآية السابقة استعمال «كافة» مجرورة ومضافة فى كلام عمر بن الخطاب ونصه :

«قد جعلت لآل بنى كاكلة على كافة المسلمين لكل عام مائتى مثقال ذهبا إبريزا». وعرض الصبان بعد ذلك لتفصيلات أخرى تختص بهذه الكلمة ، وباستعمالها.

وعلى هامش القاموس المحيط ـ ج ٣ ـ مادة : «كف» نص منقول عن شرح القاموس يجيز استعمال هذه الكلمة مقرونة بأل ، أو مضافة ، وأن رفض هذين الاستعمالين لا مسوغ له. ونص كلامه : (ما رفضوه رده الشهاب فى شرح الدرة ، وصحح أنه يقال ، وإن كان قليلا». اه.

أما : «قاطبة» فقد استعملها «الجاحظ» غير حال فى أول رسالته التى موضوعها : «تفضيل النطق على الصمت» حيث يقول : «وإن حجته قد لزمت جميع الأنام ، ودحضت حجته قاطبة أهل الأديان». وتردد الأدباء فى محاكاته. ولكن هذا التردد يزول بما جاء فى كتاب : «الأمالى ، للقالى» ـ ج ١ ص ١٧٠ طبعه المطبعة الأميرية بالقاهرة ـ فقد قال مؤلفه عند الكلام على مادة : «قطب» ومعناها ما نصه :

(قال يعقوب بن السكيت : يقال : قطب ، يقطب ، قطوبا ، وهو قاطب ... إذا جمع ما بين عينيه ، واسم ذلك الموضع : «المقطب» ومنه قيل : الناس قاطبة أى : الناس جميع) اه. فقد استعملها خبرا. ومن كل ما سبق يتبين أن الكلمتين ليستا ملازمتين للحال.

(٢) فى هذه الصورة يقول ابن مالك :

وسبق حال ما بحرف جرّ قد

أبوا. ولا أمنعه فقد ورد ـ ٩

أى : أن النحاة أبوا أن يوافقوا على تقديم حال صاحب قد جر بحرف جر (أى : أصلى). ثم أوضح رأيه الخاص قائلا : إنه لا يوافقهم ، ولا يمنع تقديم الحال وسبقها على صاحبها المجرور بالحرف ؛ لأن هذا ورد فى الكلام الفصيح. وإذا كان واردا فيه بقدر كاف فكيف يمنع؟ لكنه لم يذكر التفصيل.


أحد. وهذا بشرط أن يكون حرف الجر الزائد مما لا يمتنع حذفه ، أو مما لا يقل حذفه ؛ فالأول كالباء الداخلة على صيغة : «أفعل» الخاصة بأسلوب التعجب ؛ نحو : أجمل بالنجوم (١) طالعة. والثانى كالباء فى فاعل : «كفى» بمعنى : «يكفى» ، مثل : كفى بالزمان مرشدا. فإن كان حرف الجر الزائد مما يمتنع حذفه أو يقل لم يجز تقديم الحال عليه.

وزاد بعض النحاة مواضع أخرى يمتنع فيها تقديم الحال على صاحبها ، منها أن يكون صاحبها منصوبا بالحرف الناسخ : «كأنّ» أو : «ليت» ، أو : «لعل» أو بفعل تعجب ، أو بصلة الحرف المصدرى فى نحو : أعجبنى أن ساعدت الفقيرة عاجزة ـ أو أن يكون ضميرا متصلا بصلة «أل» ، نحو : الود أنت المستحقه صافيا (٢).

(ب) ويجب تقديمها على صاحبها إذا كان محصورا ؛ نحو : ما فاز خطيبا إلا البليغ ، ولا انتصر مدافعا إلا الصادق.

أو كان صاحبها مضافا إلى ضمير يعود على شىء له صلة وعلاقة بالحال ، نحو : جاء زائرا هندا أخوها ـ جاء منقادا للوالد ولده.

(ح) ويجوز التقديم والتأخير فى غير حالتى الوجوب السالفتين ، نحو دخل الصديق مبتسما ، أو : دخل ـ مبتسما ـ الصديق.

ترتيبها مع عاملها (٣) :

(ا) يجب أن تتأخر عنه إن كان فعلا جامدا كفعل التعجب ؛ نحو :

__________________

(١) تفصيل الكلام على هذه «الباء». فى باب التعجب ، ج ٣ م ١٠٨. ص ٢٧٩.

(٢) على اعتبار أن صاحب الحال : «هاء» الضمير ، لا المبتدأ.

(٣) «ملاحظة هامة» تختص بالعامل فى الحال ، وفى صاحبها : الحال منصوبة ، وعامل النصب إما لفظى ؛ كالمصدر ، وكالفعل المشتق ، وكالوصف الذى يعمل عمله ، وكاسم الفعل ... وإما معنوى ؛ كأسماء الإشارة ، وألفاظ الاستفهام ، وبعض الحروف والأدوات التى سيجىء ذكرها هنا ، ومنها شبه الجملة. والعامل فى الحال هو ـ فى أكثر الصور ـ العامل فى صاحبها ، فعاملهما واحد ولو اختلف نوع عمله فى كل منهما. وهناك صور أخرى يختلف فيها العاملان ـ عامل الحال ، وعامل صاحبها ـ كالحال التى صاحبها المبتدأ ، حيث يكون المبتدأ هو العامل فى الحال ، ويكون الابتداء هو العامل فى المبتدأ ـ وكالحال التى صاحبها اسم لناسخ ... وكثرة النحاة تشترط أن يكون العامل فى الحال وفى صاحبها واحدا فى كل الصور ، إلا سيبويه وفريق معه فإنه يرفض هذا الشرط ـ كما سبق البيان فى رقم ١ من هامش ص ٣٣٩ ـ ورأيه هو الحق ؛ لما سلف هناك مفصلا.


ما أحسن الصديق وفيّا ، أركان مشتقّا يشبه الجامد ، كأفعل التفضيل (١) ؛ نحو : أنت أفصح الناس متكلما (٢).

أو كان عاملها مصدرا صريحا يمكن تقديره بأن والفعل والفاعل ، نحو : من الخير إنجازك العمل سريعا ، فكلمة : «سريعا» حال من الكاف ، والعامل هو المصدر الصريح (٣) : «إنجاز» ومن الممكن أن يحل محله مصدر مؤول من أن والفعل والفاعل فتكون الجملة : من الخير أن تنجز العمل سريعا. ومثله أن تقول : يعجبنى إنجاز الصانع عمله سريعا ؛ فكلمة : «سريعا» حال من «الصّانع» والعامل هو : «إنجاز» أيضا. فإن كان المصدر الصريح غير مقدّر بهما جاز تقديم الحال وتأخيره ؛ نحو : معتذرا لك صفحا عن المسىء ... ، أو : صفحا عن المسىء معتذرا لك.

أو كان العامل اسم فعل ؛ نحو : نزال مسرعا ؛ أى : انزل مسرعا ؛ لأن معمول اسم الفعل لا يتقدم عليه.

أو كان العامل معنويّا ؛ (وهو الذى يتضمن معنى الفعل دون حروف الفعل كألفاظ الإشارة ، والاستفهام ، وأحرف التمنى والتشبيه ، وكشبه الجملة ـ الظرف ،

__________________

(١) كان شبيها بالجامد ، لأنه فى كثير من أحواله لا يقبل علامة التأنيث ، ولا علامة التثنية ، أو الجمع ؛ فخالف بهذا المشتقات الأصيلة ؛ كاسم الفاعل ، واسم المفعول. واقترب من الجامد الذى لا تتغير صورته.

(٢) يستثنى من أفعل التفضيل صورتان ؛ إحداهما : أن يكون عاملا فى حالين لاسمين ، متحدين فى مسماهما ، وإحداهما مفضلة على الأخرى ؛ فالأحسن تقديم المفضلة عليه ، وتأخير الأخرى عنه. نحو : هذا الأديب ناثرا أبرع منه شاعرا. فكلمة : «أبرع» أفعل تفضيل ، نصبت حالين ؛ هما : «ناثرا» و «شاعرا» والاسمان لمسمى واحد ، وإحداهما مفضلة ، وهى : «ناثر» فتقدمت على العامل ؛ وتأخرت الثانية.

والصورة الثانية كالسابقة ؛ إلا أن الحالين لشيئين مختلفين فى مسماهما ؛ نحو ؛ المتعلم منفردا أنفع من الجاهل مستعينا بغيره. (راجع د من ص ٣٤٨ ود من ص ٣٥٨ وانظر الملاحظة التى بعدها حيث يجوز تأخيرهما).

(٣) إذا كان العامل مصدرا نائبا عن فعله المحذوف وجوبا جاز تقديم الحال ، نحو : إكراما هندا متعلمة. فيصح : متعلمة إكراما هندا (كما فى ج من ص ٣٥٨). وقد سبقت مواضع المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا فى ص ١٧٨ م ٧٦.


أو الجارّ مع مجروره ـ الواقع خبرا ، أو نعتا كذلك) (١) ، نحو : هذا كتابك جميلا ، فكلمة : «جميلا» حال من الخبر : (كتاب) والعامل هو اسم الإشارة. ومعناه : أشير ؛ فهو يتضمن معنى الفعل ، دون أن يشتمل على حروفه. ومثل : ليت الصانع ـ متعلما ـ حريص على الإتقان. فكلمة : «متعلما» حال من الصانع ، والعامل «هو : ليت» ، وهو حرف معناه : «أتمنّى» ، فيتضمّن معنى الفعل دون حروفه ... ومثل : كأن الباخرة ـ واسعة ـ فندق كبير. ومثل : الزروع أمامك ناضرة ، أو : الزروع فى حديقتك ـ ناضرة ...

والاستفهام المقصود به التعظيم ؛ نحو : يا جارتا ، ما أنت جارة؟ ... وهكذا كل ما يتضمن معنى الفعل دون حروفه غير ما سبق ، كأدوات التنبيه ، والترجى ، والنداء ...

لكن بعض النحاة يستثنى من العامل الذى يتضمن معنى الفعل دون حروفه ، شبه الجملة بنوعيه (الظرف والجار مع مجروره) فيجيز أن يتقدم عليهما الحال أو يتأخر ، نحو : الحارس عند الباب واقفا ، و: الحارس ـ واقفا ـ عند الباب ، ونحو : القطّ فى الحديقة قابعا ، أو : القطّ ـ قابعا ـ فى الحديقة. وإنما يجيز تقدم هذه الحال بشرط أن تتوسط بين مبتدأ متقدم وخبره شبه الجملة المتأخر عنه وعن الحال معا. ولا يصح تقدم الحال عليهما معا ، فلا يقال : واقفا ـ الحارس عند الباب ، ولا قابعا القط فى الحديقة. فإن تقدمت الحال والخبر معا ، وكانت الحال هى الأسبق جاز ؛ نحو : واقفا عند الباب الحارس ، وهذا رأى مقبول(٢).

ويصح عند أكثر النحاة تقديم الحال على عاملها «شبه الجملة» إن كانت

__________________

(١) لأن شبه الجملة قد يكون متعلقا بفعل أو بوصف محذوف ، وينتقل إليه الضمير الذى يكون فى المتعلق بعد حذفه. وبهذا يصير شبه الجملة متضمنا معنى الفعل ، لاشتماله على المتعلق المحذوف ، فوق اشتماله على ضميره على (الوجه المفصل فى ج ١ ص ٣٤٦ م ٣٥ ورقم ٤ من هامش ص ٣٤٧ فى هذا الباب وص ٣٥٠ م ٩٨).

(٢) برغم قلته بالنسبة إلى الأول. وحجة أصحابه ورود أمثلة فصيحة تكفى للحكم بقياسيته ؛ منها قراءة من قرأ قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) بنصب : «مطويات» ـ وقول الشاعر :

رهط ابن كوز محقبى أدراعهم

فيهم ، ورهط ربيعة بن حذار ـ


هى شبه جملة أيضا ؛ نحو : الخير عندك أمامك ـ أو الخير فى الدار أمامك ... على اعتبار الظرف (عند) والجار مع مجروره (فى الدار) حالين من الضمير المستكن فى شبه الجملة بعدهما (١).

أو كانت الحال مؤكدة معنى الجملة (٢) ؛ نحو : على جدّك شفيقا ، وتقدير العامل : علىّ جدّك أعرفه ، (أو : أعلمه ، أو : أحقه ...) شفيقا. فعامل الحال وصاحبها (باعتباره الضمير) محذوفان وجوبا قبل الحال.

أو كان العامل قد عرض له ما يمنع من تقدم معموله عليه ، كالماضى المبدوء بلام الابتداء (٣) أو بلام جواب القسم (٤) ، فإن المعمول لا يتقدم على هذه اللام نحو : إنى لقد تحملت ـ صابرا ـ هفوة القريب. أو : والله لقد تحملت ـ صابرا ـ هفوة القريب.

وكالعامل الواقع فى صلة حرف مصدرى مطلقا ؛ نحو : لك أن تتنقل راكبا. أو الواقع صلة «أل» (٥) ، نحو : أنت السائق بارعا ، لأن معمولهما لا يتقدم عليهما ـ فى الرأى الراجح.

أو كانت الحال مقترنة بالواو ؛ نحو : اقر الكتاب والنفس صافية (٦).

(ب) يجب أن تتقدم عليه إذا كان لها الصدارة ، نحو : كيف أنقذت الغريق؟ فكلمة : «كيف» اسم ـ على الأرجح ـ مبنى على الفتح فى محل نصب ، حال (٧).

__________________

ـ فكلمة : «محقبى» حال ، تقدمت على عاملها شبه الجملة : (فيهم) ... والمخالفون لهذا الرأى يؤلونه بغير داع مقبول.

(١) ومما يصلح مثالا لهذا شبه الجملة «من الله» فى قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ ...) (راجع الصبان ، وكذا حاشية الأمير على «المغنى» أول المقدمة).

(٢) سبق الكلام عليها فى ص ٣٤١ وسيجىء بمناسبة أخرى فى ص ٣٦٥ و ٣٧٠.

(٣) سبق الكلام عليها فى ج ١ ص ٤٩٧ م ٥٣.

(٤) الكلام عليها سيأتى ـ ٤٦١ ـ فى حروف القسم ، باب : حروف الجر.

(٥) بخلاف صلة غيرها : فيجوز : من الذى راكبا جاء ، لجواز تقديم معمول الصلة عليها لا على الموصول.

(٦) يحسن الاقتصار على هذا الرأى ، دون الرأى الذى يجيز التقديم والتأخير بتأول.

(٧) تقدم فى ج ١ ص ٣٦٧ م ٣٩ إعراب «كيف» فى صورها المختلفة ، وأشرنا لهذا فى رقم ٣ من هامش ص ٥٨ وفى هامش ص ٦٤ و ١١١.


(ح) يجوز الأمران فى غير الحالتين السالفتين ، مثل : واقفا أنشد الشاعر القصيدة. وأشباه هذا مما يكون فيه عامل الحال فعلا متصرفا ، أو مشتقّا يشبه الفعل المتصرف ، أو مصدرا نائبا عن فعله المحذوف وجوبا (كما سبقت الإشارة إليه) (١). والمراد بالذى يشبه الفعل ما يتضمن معنى الفعل وحروفه ، ويقبل علامات التأنيث ، والتثنية ، والجمع (٢). فمثال الحال المتقدمة على عاملها الفعل المتصرف ـ غير ما سبق ـ راغبا أقبلت على زيارتك. ومثال المتقدمة على اسم فاعل : مسرعة الطائرة مسافرة ، ومثال المتقدمة على صفة مشبهة : الإنسان ـ قانعا ـ غنىّ ، ومثال اسم المفعول : الحاكم ـ ظالما ـ محطّم ... ومثال المتقدمة على المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا : متعلمة إكراما هندا (٣).

(د) إذا كان العامل هو أفعل التفضيل الذى يقتضى حالين (٤) إحداهما تدل على أن صاحبها فى طور من أطواره أفضل من نفسه أو غيره فى الحال الأخرى ـ فالأحسن أن تتقدم إحداهما على أفعل التفضيل ، وتتأخر الثانية ـ كما سبق ـ (٥) نحو : الحقل قطنا أنفع منه قمحا ـ الفدان عنبا أحسن منه قطنا ـ المتعلم تاجرا أقدر منه زارعا. المصباح الكهربىّ منفردا أقوى من عشرات الشموع مجتمعة (٦) ، ومثل قول علىّ ـ رضى الله عنه ـ لأنصاره ، وهم يعرضون عليه الخلافة

__________________

(١) فى رقم ٣ من هامش ص ٣٥٥.

(٢) خرج اسم الفعل ؛ فإنه قد يتضمن معنى الفعل وحروفه ولكنه غير مشتق ، ولا يقبل تلك العلامات ؛ كاسم الفعل : «نزال» بمعنى : انزل. وخرج أفعل التفضيل كذلك ، لأنه مشتق ، ولكن لا يقبل تلك العلامات فى حالات كثيرة (كما سبق فى رقم ١ من هامش ص ٣٥٥).

(٣) كما سبقت الإشارة فى رقم ٣ من هامش ص ٣٥٥.

(٤) ولا مانع أن تكون الحالان أو إحداهما جامدة ، غير مؤولة بالمشتق ؛ طبقا لما سبق فى «د» من ص ٣٤٨ عند سرد مواضع الحال الجامدة غير المؤولة بالمشتق.

(٥) فى «د» من ص ٣٤٨ وكما فى رقم ٢ من هامش ص ٣٥٥.

(٦) وإلى مواضع تقديم الحال على عاملها وعلى صاحبها يشير ابن مالك بإيجاز ومزج بين مواضعهما ؛ فيقول :

والحال إن ينصب بفعل صرّفا

أو صفة أشبهت المصرّفا ـ ١٢

 ـ


أول الأمر : (أنا لكم وزيرا ، خير لكم منى أميرا ...)

ملاحظة :

أجاز فريق من النحاة ما يشيع اليوم فى بعض الأساليب ، من تأخير الحالين معا عن أفعل التفضيل ، بشرط أن تقع بعده الحال الأولى مفصولة من الثانية بالمفضل عليه ؛ نحو : المتعلم أقدر تاجرا منه زارعا ـ المصباح الكهربىّ أقوى متفردا من عشرات الشموع مجتمعة ـ هذه الفاكهة أطيب ناضجة منها فجّة ـ.

* * *

السادس : انقسامها بحسب التعدد ـ الجائز والواجب ـ وعدمه ، إلى واحدة وإلى أكثر :

قد تكون الحال واحدة لواحد ؛ نحو : يقف الشرطىّ متيقظا ، وهذه تطابق : صاحبها الحقيقى فى الإفراد وفروعه ، وفى التأنيث والتذكير (١) ، نحو : هبط

__________________

 ـ فجائز تقديمه كمسرعا

ذا راحل. ومخلصا زيد دعا ـ ١٣

يريد : أن الحال المنصوبة بفعل متصرف أو وصف يشبهه ـ يجوز تقديمها وتأخيرها عن عاملها ؛ وذكر مثالين : أحدهما لحال تقدمت على عاملها الفعل المصرف ، (وهو مخلصا زيد دعا) ، والآخر لحال تقدمت على عاملها الوصف الذى يشبه الفعل المتصرف ، (وهو : مسرعا ذا راحل). ثم انتقل إلى الكلام على الحال التى لا يجوز تقديمها على عاملها المعنوى فقال :

وعامل ضمّن معنى الفعل لا

حروفه ـ مؤخّرا لن يعملا ـ ١٤

كتلك ، ليت ، وكأنّ ، وندر

نحو : سعيد مستقرّا فى هجر ـ ١٥

أى : أن العامل المعنوى (وهو الذى يتضمن معنى الفعل دون حروفه) لا يعمل النصب إذا كان متأخرا عن الحال. وبين أمثلة من العامل المعنوى ، هى : تلك ؛ ليت ، كأن ... وأوضح أن تقديم الحال على عاملها المعنوى شبه الجملة نادر عنده. وضرب له مثلا هو : سعيد مستقرا فى هجر. (بلد باليمن) ثم ثم تكلم على جواز تقديم أحد الحالين المنصوبين بأفعل التفضيل :

ونحو : زيد مفردا أنفع من

عمرو معانا ، مستجاز ، لن يهن ـ ١٦

مستجاز : أجازه النحاة. لن يهن : لن يضعف مثل هذا الأسلوب فى نظر العارفين.

(١) كل هذا بشرط أن تكون الحال حقيقية (وهى : الدالة على هيئة صاحبها مباشرة ، لا هيئة شىء آخر يتصل به. فالدالة على هيئة صاحبها الحقيقى نحو : يقف الشرطى متيقظا ، والدالة على هيئة شىء ـ


الطيار هادئا ـ هبط الطياران هادئين ـ هبط الطيارون هادئين ـ هبطت الطيارة هادئة ... و...

وقد تكون الحال واحدة ولكن يتعدد ما تصلح له ، من غير أن توجد قرينة تعين واحدا مما يصلح ؛ نحو : قابلت الأخ راكبا. والأنسب فى هذا النوع أن تكون للأقرب. ومنع بعض النحاة هذا الأسلوب ، لإبهامه ، وخفاء الصاحب الحقيقى ، ورأيه سديد.

والمتعددة (١) قد تكون متعددة لواحد ، فتطابقه فى الأمور السالفة ، نحو : هبط الطيار هادئا ، مبتسما ، لابسا ثياب الطيران. ونزل مساعده نشيطا مبتهجا حاملا بعض معداته ، وخرجت المضيفة مسرعة قاصدة حجرتها ... ولا يجوز وجود حرف عطف بين الأحوال المتعددة ـ ما دامت أحوالا ـ فإن وجد حرف العطف صحّ ، وكان ما بعده معطوفا ، ولا يصح أن يعرب حالا (٢).

وقد تكون متعددة لأكثر من واحد ؛ فإن كان معنى الأحوال ولفظها واحدا وجب تثنيتها أو جمعها على حسب أصحابها من غير نظر للعوامل ، أهى متحدة فى عملها وألفاظها ، ومعانيها ، أم غير متحدة فى شىء من ذلك؟ نحو : عرفت النحل والنمل دائبين على العمل. والأصل : عرفت النحل دائبا ... والنمل دائبا ... والحالان متفقان لفظا ومعنى (٣) ، وهما يبيّنان هيئة شيئين ؛ فوجب تثنيتهما تبعا لذلك ، فرارا من التكرار. ونحو : أبصرت فى الباخرة الرّبّان ، والبحّار والمهندس منهمكين فى إدارتها. والأصل : أبصرت الرّبّان منهمكا ، والبحار منهمكا ، والمهندس منهمكا. فالحال هنا متعددة. وهى متفقة الألفاظ والمعانى ، وأصحابها ثلاثة ؛ فجمعت وجوبا تبعا لذلك ، استغناء عن التكرار.

__________________

ـ آخر يتصل به بسبب. (وتسمى : الحال السببية ، ولا تشترط فيها المطابقة التامة لصاحبها ، وسيجىء حكمها فى ص ٣٧٣) نحو يقف الشرطى مفتحة عيناه طول الليل.

(١) وتسمى : المترادفة. وقد تسمى : المتداخلة ، طبقا للبيان الموضح فى «ا» من ص ٣٦٣.

(٢) كما فى رقم من ص ٤٠٠.

(٣) ولا يضر الاختلاف تذكيرا ، وتأنيثا ؛ نحو قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أى : سخر لكم الشمس دائبة والقمر دائبا.


ونحو : بنيت البيت وأصلحت السّور جميلين. ووقفت سعاد وشاهدت أمّها متكلمتين (١).

هذا ، والتكرار الممنوع فى التثنية والجمع هو تعدد الأحوال متوالية ، كل واحدة وراء الأخرى مباشرة. أما وقوع كل واحدة بعد صاحبها مباشرة فليس بممنوع. وإن تعددت لمتعدد وكانت مختلفة الألفاظ أو المعانى وجب التفريق بغير عطف ؛ بحيث تكون كل حال بعد صاحبها مباشرة ، وهو الأحسن ؛ منعا للغموض. ويجوز تأخير الأحوال المتعددة كلها وتكون الأولى منها للاسم الأخير ، والحال الثانية للاسم الذى قبله ، والحال الثالثة للاسم الذى قبل هذا ... وهكذا ترتب الأحوال مع أصحابها ترتيبا عكسيّا. فأول الأحوال لآخر الأصحاب ، وثانى الأحوال للصاحب الذى قبل الأخير ... ومراعاة هذا واجبة. إلا إن قامت قرينة تدل على غيره. فمثال مراعاة الترتيب السابق : كنت أسوق السيارة فأبصرت زميلى فى سيارته قاصدا الريف ، مقبلا من الريف. فكلمة : «قاصدا» حال من «زميل» بإعطاء أول الحالين لآخر الاسمين. وكلمة : «مقبلا» حال من التاء فى : «أبصرت» ؛ بإعطاء ثانى الحالين للاسم الذى قبل السابق ... و... ومثال مخالفة هذا الترتيب لقرينة تدعو للمخالفة : لقى التّرجمان جماعة السياح باحثا عنهم ، سائلة عنه. فكلمة : «باحثا» حال من : «الترجمان» وكلمة : «سائله» حال من «جماعة» ولو روعى الترتيب هنا لاختلّت المطابقة الواجبة بين الحال وصاحبها فى التذكير والتأنيث. فالذى ربط بين الحال وصاحبها ، وعيّن لكل حال صاحبها هو قرينة التذكير فيهما معا ، أو التأنيث فيهما معا. ومثل : حدث المحاضر طلابه واقفا جالسين ؛ فكلمة : «واقفا» حال من : «المحاضر» ، و «جالسين» حال من : «الطلاب». ولم يراع الترتيب ؛ لأن اللبس مأمون ؛ بسبب وجود المطابقة التى تقضى بأن يكون صاحب الحال المفردة مفردا ، والمجموعة جمعا (٢).

__________________

(١) من الكلام النظرى المحض ما يقوله النحاة : (إن العامل فى الحال عند تعدد العامل هو مجموع العوامل. لا كل واحد مستقلا. لئلا يجتمع عاملان على معمول واحد!! وانظر «ا» من» ٣٦٣). ولا فائدة من تناسى الأمر الواقع من غير داع ؛ فالواقع أن كل عامل قد اشترك فى العمل برغم ما سبق.

(٢) اقتصر ابن مالك فى الكلام على الحال المتعددة على البيت الآتى :

والحال قد يجىء ذا تعدّد

لمفرد ـ فاعلم ـ وغير مفرد ـ ١٧


والجدير فى هذه المسألة ـ وفى غيرها ـ الاعتماد على القرينة ؛ فلها الاعتبار الأول دائما.

وإذا وقعت الحال بعد : «إمّا» التى للتفصيل ، أو بعد : «لا» النافية وجب تعدد الحال ، نحو قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ؛ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ونحو : يقفز الطيار ؛ لا خائفا ، ولا مترددا. أما فى غير هذين الموضعين فالتعدد جائز على حسب الدواعى المعنوية.

* * *


زيادة وتفصيل :

(ا) إذا تعددت الحال لواحد سميت : «مترادفة» ؛ أى : متوالية ، (تتلو الواحدة الأخرى). ويجوز أن تكون الحال الثانية حالا من الضمير المستتر فى الأولى ؛ وعندئذ تسمى الثانية : «متداخلة». وهذا يجرى فى كل حال متعددة ، فيجوز أن تكون حالا من ضمير التى قبلها مباشرة.

ويمنع جماعة من النحاة ترادف الحالين ؛ بزعم أن العامل الواحد لا ينصب إلا حالا واحدة. وله حجة جدلية مردودة ، لأنها من نوع الجدليات التى تسىء إلى النحو من غير أن تفيده (١).

(ب) عرفنا أنه يجوز أن تتعدد الحال من غير أن يتعدد صاحبها ؛ نحو : مشيت بين الرياحين هانئا ، مستنشقا أريجها ، متمليا جمالها ... ، ولكن لا يجوز أن تتعارض الأحوال ، فلا يقال : حضر القطار سريعا بطيئا ، ولا وقف الحارس متيقظا غافلا. نعم يجوز هذا عند إرادة الوصول إلى معنى واحد يؤخذ من الحالين معا ، ولا يؤديه أحدهما دون الآخر ؛ نحو : أكلت الطعام ساخنا باردا ، تريد : معتدلا فى حرارته ، ونحو : ركبت السيارة مسرعة بطيئة ؛ أى : متوسطة فى سرعتها ، ومثل : لا تأكل الفاكهة ناضجة فجّة ، أى : متوسطة النضج.

ونحو : اترك الطعام ممتلئا جائعا ، أى : متوسطا فى الشبع. ونحو : تخير ثيابك واسعة ضيقة ، أى : معتدلة السعة. وهكذا.

بالرغم من أن المعنى المقصود لا يتحقق إلا من اللفظين معا فإن الإعراب يقضى أن يكون كل لفظ منهما ـ حالا.

* * *

__________________

(١) انظر رقم ١ من هامش ص ٣٦١.


السابع : انقسامها بحسب الزمان إلى : مقارنة ، ومقدّرة (١) (مستقبلة) ... فالمقارنة هى التى يتحقق معناها فى زمن تحقق معنى عاملها ، وحصول مضمونه ؛ بحيث لا يتخلف وقوع معنى أحدهما عن الآخر ، نحو : (أقبل البرىء فرحا ، ـ هذا يسوق السيارة الآن محترسا) ـ فزمن الفرح ، والاحتراس ، هو زمن وقوع معنى الفعلين : أقبل ـ يسوق.

والمقدّرة ، أو المستقبلة (٢) : هى التى يتحقق معناها بعد وقوع معنى عاملها ، أى : بعد تحقق معناه بزمن يطول أو يقصر ؛ فحصول معنى الحال هنا متأخر عن حصول مضمون عاملها ؛ نحو : سيسافر بعض الطلاب غدا إلى البلاد الغربية ؛ موزّعين فيها ، متدرّبين فى مصانعها. ثم يعودون عاملين فى مصانعنا ؛ فزمن التوزع والتدرب متأخر عن السفر ، الذى هو زمن حصول العامل ، ومستقبل بالنسبة له. وكذلك العمل متأخر عن العودة. وكقوله تعالى فى الإنسان : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) فكلمة «شاكرا» حال ، وزمن وقوعه متأخر ـ حتما ـ عن زمن عامله (وهو الفعل : هدى) ، وكلمة : «كفورا» معطوف عليه ، وهو حال مثله. وكذلك قوله تعالى للصالحين أهل الجنة : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) ، وقوله تعالى : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ،) فكلّ من الأمن والخلود متأخر فى زمنه عن زمن الدخول لا محالة (٣) ...

__________________

(١) سيجىء ـ فى رقم ٣ من هذا الهامش ـ نوع ثالث يذكره بعض النحاة ويعارض فيه آخرون.

(٢) وهى التى أشرنا إليها فى رقم ٢ من ص ٣٣٩.

(٣) أما النوع الثالث الذى يسميه بعض النحاة : «الحال المحكية» فحال وقع معناها قبل النطق بها ؛ نحو : نزل المطر أمس فياضا ، واندفع فى طريقه جارفا. وقد عارض ـ بحق ـ كثرة النحاة فى هذا القسم وفى أمثلته بحجة قوية ؛ هى أن العبرة إنما تكون بمقارنة الحال وقت تحقق معناها وحين وقوعها ووجودها ـ لزمن العامل وتحقق معناه ـ كالتى هنا ، وليست لزمن المتكلم. هذا إلى أن الأمثلة المعروضة (وأشباهها) وقد جاءت فيها «الأحوال» مشتقات نوعها اسم فاعل ، واسم الفاعل حقيقة فى الزمن الحالى ، عند عدم القرينة التى توجهه لزمن غير الحال. فالتعبير به عن الماضى ، يعتبر مجازا ويسمى «حكاية حال ماضية».

وهذه الحجة صحيحة ، وبرغم صحتها لا أهمية للخلاف. لأن الغرض المطلوب هو الحكم على مثل تلك «الأحوال» بالصحة والبعد عن الخطأ. وقد ثبت أن ذلك الاستعمال صحيح والأسلوب سليم ، فلا أهمية بعد ذلك لأن يكون الاستعمال الصحيح حقيقيا أو مجازيا وإن كانت قلة الأقسام ـ من غير ضرر ـ أمرا محمودا.


والحال المقارنة أكثر استعمالا وورودا فى الكلام ، ولا تحتاج إلى قرينة كالتى يحتاج إليها غيرها.

* * *

الثامن : انقسامها بحسب التأسيس والتأكيد إلى مؤسّسة ومؤكّدة. فالمؤسّسة ، وتسمى المبيّنة (١) : هى التى تفيد معنى جديدا لا يستفاد من الكلام إلا بذكرها ، نحو : وقف الأسد فى قفصه غاضبا ، ثم هدأ حين رأى حارسه مقبلا ، فكلمة : «غاضبا» حال مؤسّسة : لأنها أفادت الجملة معنى جديدا لا يفهم عند حذفها. وكذلك كلمة : «مقبلا» وأشباههما من الأحوال التى لا يستفاد معناها من سياق الكلام بدون ذكرها.

والمؤكّدة : هى التى لا تفيد معنى جديدا ، وإنما تقوّى معنى موجودا فى الجملة قبل مجيئها (٢) ، ولو حذفت الحال لفهم معناها مما بقى من الجملة. نحو : لا تظلم الناس باغيا ، ولا تتكبر عليهم مستعليا ، «فالبغى» هو الظلم ، و «الاستعلاء» هو الكبر. ولو حذف كل من الحالين فى المثال (وهما يؤكدان عاملهما) ما نقص المعنى ، ولا تغير ، ولفهم معناه من بقية الكلام. ومثلهما باقى الأحوال التى يستفاد معناها بغير وجودها. وقد سبق ـ فى مناسبة أخرى (٣) ـ الإشارة إلى المؤكدة ، وأنها قد تكون مؤكدة لمضمون الجملة ؛ نحو : خليل أبوك عطوفا ، أو مؤكدة لعاملها لفظا ومعنى ؛ نحو : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) أو معنى فقط : نحو : (... وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ...) لأن البعث يقتضى الحياة ، أو مؤكدة لصاحبها ؛ نحو قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً.) فكلمة : «جميعا» حال من الفاعل «من» وهذا الفاعل اسم موصول يفيد العموم ، والحال ـ هنا ـ تفيد العموم ، فهى مؤكدة له.

وأشرنا هناك إلى أن الجملة التى تؤكّد الحال مضمونها لا بد أن تكون جملة اسمية ، طرفاها معرفتان ، جامدتان (٤) ؛ ولا بد أن تتأخر الحال عنهما معا ،

__________________

(١) لأنها تبين هيئة صاحبها ـ أما المؤكدة فلا تبين هيئة ـ كما فى ص ٣٣٩ و ٣٤٠ ـ.

(٢) سواء أكان المعنى الذى تؤكده هو معنى عاملها أم معنى صاحبها ، أم معنى الجملة التى قبلها. ـ كما سبق فى ص ٣٤١ وما بعدها وله إشارة فى ص ٣٧٠.

(٣) ص ٣٤١ وما بعدها.

(٤) إذا كان فى الجملة فعل أو ما يعمل عمله كان عاملا فى الحال ؛ فلا يعتبر العامل مضمرا ، ـ


وعن عاملها أيضا. وأن العامل فى هذه الحال محذوف وجوبا ، وكذلك صاحبها. ففى المثال السابق : «خليل أبوك عطوفا» ، يكون التقدير : أحقه ، أو : أعرفه ، أو : أعلمه ، أو نحو ذلك. وهذا التقدير حين يكون المبتدأ كلمة غير ضمير المتكلم ، فإن كان ضميرا للمتكلم وجب اختيار الفعل أو العامل المقدر مناسبا له ، أى : أحقّنى ـ أعرفنى ـ أعلم أنى ... ولا بد أن تكون هذه الحال متأخرة عنه أيضا.

أما الغرض (١) من التوكيد بالحال فقد يكون بيان اليقين نحو : أنت الرجل معلوما ، أو الفخر ، نحو : أنا فلان بطلا ، والتعظيم ؛ نحو : أنت العالم مهيبا ، أو التحقير ؛ نحو : هو الجانى مقهورا ؛ أو التصاغر ؛ نحو : ربّ أنا عبدك فقيرا إليك ؛ أو التهديد والوعيد ، نحو : فلان قاهر للأبطال قادرا على الفتك بك (٢) ...

* * *

التاسع : انقسامها بحسب الإفراد وعدمه إلى مفردة ، وجملة ، وشبه جملة. ثم الكلام على ما تحتاج إليه الجملة الحالية من رابط :

فالمفردة : ما ليست جملة ولا شبهها ، نحو : أشرب الماء صافيا (٣) ـ

__________________

ـ ولا تكون الحال مؤكدة لمضمون الجملة. وقد قلنا فى رقم ١ من هامش ص ٣٤١ إن بعض النحاة اشترط الجمود المحض ؛ ليخرج : هو الأسد مقداما ؛ فإنها مؤكدة لعاملها ؛ وهو : «الأسد» ؛ لتأوله بالشجاع ، وليست مؤكدة لمضمون الجملة ، لأن هذه الحال ليست جامدة محضة ، كما يشترط. وقد آثرنا هناك إهمال رأيه ، والأخذ بالرأى الذى يكتفى بمجرد الجمود للأسباب التى أوضحناها.

(١) يتبين هذا الغرض بالقرائن المنضمة للكلام

(٢) فيما سبق يقول ابن مالك :

وعامل الحال بها قد أكّدا

فى نحو : لا تعث فى الأرض مفسدا ـ ١٨

بها : أى : بالحال. ثم قال فى الحال المؤكدة لمضمون الجملة :

وإن تؤكّد جملة فمضمر

عاملها ولفظها يؤخّر ـ ١٩

أى : أن العامل مضمر (أى : محذوف) إذا كانت الحال مؤكدة للجملة ، وأن لفظ الحال يؤخر وجوبا عن الجملة ، وعن عاملها المحذوف ، هو وصاحبها.

(٣) ومن الحال المفردة بعض ألفاظ مركبة سماعا (فلا يجوز القياس عليها) وهى ألفاظ وردت عن العرب مركبة ، ومبنية : ـ على الأصح ـ على فتح الجزأين فى محل نصب ، باعتبارها حالا ، ولا تكون غير حال. ومنها : تفرق الأعداء شغر بغر ، أى : متفرقين. وكذلك شذر مذر ، بمعنى : متفرقين أيضا ـ


سر فى الطريق حذرا (١) ، ... ومثل كلمة : «جاهدا» فى قول الشاعر :

ومن يتتبّع ـ جاهدا ـ كل عثرة

يجدها ، ولا يسلم له الدهر صاحب

وشبه الجملة هو الظرف والجار مع مجروره. نحو : كنت فى الطائرة فأبصرت البيوت الكبيرة فوق الأرض صغيرة. والسفن الضخمة بين الأمواج محتجبة ـ إن دار الآثار فى القاهرة مليئة بالنفائس ـ تشكلت الثلوج على الغصون أشكالا بديعة.

ولا بد فى شبه الجملة أن يكون تامّا ؛ أى : مفيدا. وإفادته قد تكون بالإضافة ، أو بالنعت ، أو بالعدد ، أو بغير ذلك مما يكون مناسبا له ، ويجعله مفيدا (على الوجه الذى تكرر شرحه من قبل) (٢) فلا يصح : هذا إبراهيم عنك ، ولا هذا إبراهيم اليوم ...

وإذا كانت الحال جملة أو شبه جملة فلا بد أن يكون صاحبها معرفة (٣) محضة ؛ (أى : معرفة لفظا ومعنى) ؛ مثل : وقف جارى يكلمنى. فإن لم يكن معرفة خالصة ؛ (بأن كان معرفة فى اللفظ دون المعنى ؛ كالمبدوء «بأل الجنسية

__________________

ـ ومثل : تركت الصحراء حيث بيث ، أى : مبحوثا عن أهلها ، مطلوبا إخراجهم منها ـ ومثل : فلان جارى بيت بيت ، أى : مقاربا ، أو ملاصقا ـ ومثل : لاقيتهم كفّة كفّة ، أى : مواجها ... وهكذا ...

ويلاحظ أن الجزء الثانى من تلك المركبات ـ ونظائرها ـ (مثل : بغر ـ مذر ـ بيث ـ إلخ) هو مجرد لفظ عرضى ، أى : صوت ليس له معنى مستقل ، ولا كيان ذاتى يستقل به عن الكلمة التى يتبعها ، ولا يجلب أو معنى يكمله (كما سيجىء فى باب النعت ح ٣) وإنما يجىء عرضا بعد الأول ، ولهذا يذكر فى إعرابه أنه تبع للأول ، فهو داخل فيما يسمى : الأتباع (بفتح الهمزة) وليس من التوابع الأربعة المشهورة (النعت ـ ـ التوكيد ـ العطف ـ البدل) ولا يعرب إعرابها ما لم يؤد معنى جديدا ، وإنما يكتفى فى إعرابه بأن يقال : إنه تبع للأول ، أو من الأتباع ؛ فمثله مثل الثانى من قولهم : (حسن بسن) و (شيطان فيطان) و (عفريت نفريت) ... ولا شىء فى هذه الثوانى وأشباهها داخلا فى التوابع الأربعة المذكورة. لأنه لا يأتى بمعنى من معانيها.

(١) قد يجب اقتران الحال المفردة «بالفاء» ، أو : «ثم» العاطفتين فى صورة واحدة هى الصورة الثالثة التى تجىء فى ص ٣٨٢ والكوفيون يجيزون : «واو العطف» أيضا ـ كما سيجىء ـ.

(٢) فى باب الموصول «ج ١ ص ٣٤٧ م ٢٧) والمبتدأ والخبر (ج ١ ص ٤٣١ م ٣٥ وج ٢ ص ١٠٠ م ٦٨). وفى المواضع السالفة بيان عن شبه الجملة من ناحية تعلقه.

(٣) يصح أن يكون صاحب الحال نكرة فى بضعة مواضع تجىء فى ص ٣٧٤. عند الكلام عليه.


أو كان نكرة مختصة ، بسبب نعت أو غيره ...) (١) ، جاز فى الجملة وشبهها أن تكون حالا ، وأن تكون نعتا ؛ نحو : أعرف الطائرات تفوق غيرها فى السرعة. وقد عرفنا طائرات سريعة تطوف بالكرة الأرضية فى دقائق ، ونحو : تهدر الطائرات فى الجو كقصف الرعود ... وهذه طائرة كبيرة أمامنا تهدر كالرعد. والجملة (٢) قد تكون اسمية أو فعلية ؛ نحو : لازمت البيت والمطر هاطل ـ لازمت البيت وقد هطل المطر وقد اجتمعت الجملتان فى قول الشاعر:

كأن سواد الليل ـ والفجر ضاحك

 ـ يلوح ويخفى ، أسود يتبسم

ويشترط فى الجملة الواقعة حالا أن تكون خبرية ، غير تعجبية (على القول بأن الجملة التعجبية خبرية) فلا تصح الإنشائية بنوعيها (٣) الطلبى ، وغير الطلبى. وأن تكون مجردة من علامة تدل على الاستقبال (٤) كالسين وسوف ، ولن ، وأداة

__________________

(١) كما سيجىء فى رقم ٤ من هامش ص ٣٧٤ وقد سبق بيان النكرة المحضة وغير المحضة بإسهاب ، وكذا المعرفة بنوعيها ـ فى الجزء الأول ، باب النكرة والمعرفة ، ص ١٩٤ م ١٧ ويجىء فى الجزء الثالث (باب النعت. م ١١٤ ص ٣٩٠) إشارة له أيضا.

(٢) إذا وقعت الجملة حالا فإنما تسمى جملة باعتبار أصلها السابق قبل الحالية حين كانت تؤدى فيه معنى مفيدا مستقلا. أما بعد وقوعها حالا فإنها تؤدى معنى غير مستقل ، وهى لذلك لا تسمى جملة ولا كلاما ، شأنها فى هذا كشأن الجملة الواقعة خبرا ونعتا وغيرهما ؛ (طبقا للبيان الشامل الذى سبق فى ج ١ هامش ص ١٥ م ١ وفى رقم ٣ من هامش ص ٢٢٦ م ٢٧).

وإذا وقعت الجملة حالا أو نعتا أو موقعا إعرابيا آخر ، فهى نكرة ، وقيل : فى حكم النكرة ، ـ (كما سبق فى رقم ٤ من هامش ص ٤٩) ٣. وقد تردد هذا فى كثير من المراجع النحوية ، ومنها حاشية ياسين على شرح التوضيح (أول باب النكرة والمعرفة) حيث قال : «وأما الجمل والأفعال فليست نكرات ، وإن حكم لها بحكم النكرات. وما يوجد فى عبارة بعضهم أنها نكرات فهو تجوز». وهذا الخلاف لا أهمية له ؛ إذ الأهمية فى أنها تقع فى كل موقع لا يصلح فيه إلا النكرة ، كوقوعها خبر «لا» النافية للجنس ، ونعتا للنكرة المحضة.

(٣) سبق توضيح المراد من الجملة الإنشائية ملخصا فى رقم ٣ من هامش ص ٢٠٩ وفى ج ١ ص ٢٦٨ م ٧٢.

(٤) فى هذا الشرط وفى تعليله خلاف ، وجدل كلامى ... أما مثل : لأمدحن المخلص ؛ إن حضر وإن غاب : حيث وقعت الجملة الشرطية حالا مع أنها إنشائية ، ومشتملة على علامة استقبال ـ وهى حرف الشرط : «إن» ـ فالمسوغ عندهم أنها شرطية لفظا لا معنى ؛ إذ التقدير : لأمدحنه على كل حال.

ونشير إلى ما جاء فى «المغنى» ، و «الهمع» خاصا بأن : «لا» النافية تخلص المضارع للاستقبال إذا سبقته ، خلافا لابن مالك ـ ومن معه ـ محتجا بإجماع النحاة على صحة «جاء محمد لا يتكلم» مع الإجماع أيضا على أن الجملة الحالية لا تصدر بعلامة استقبال. ونقول : الرأى الأنسب هو أن «لا» تخلصه للاستقبال عند عدم قرينة تمنع. (وقد سجلنا كلام المغنى والهمع ج ١ م ٤ ص ٥٦).


الشرط ... و ... وأن تكون مشتملة على رابط يربطها بصاحبها ليكون المعنى متصلا بين الجملتين ؛ فيتحقق الغرض من مجىء الحال جملة ، ولو لا الرابط (١) لكانت الجملتان منفصلتين لا صلة بينهما ، والكلام مفككا (٢) ...

والرابط قد يكون واوا مجردة تسمى : واو (٣) الحال ، نحو : احترست من الشمس والحرارة شديدة. وقد يكون الضمير (٤) وحده ؛ نحو : تركت البحر أمواجه عنيفة. وقد يكون الواو والضمير معا ، نحو : لا آكل الطعام وأنا شبعان. ولا أشرب الماء وهو غير نقى وكقول الشاعر :

إن الكريم ليخفى عنك عسرته

حتى تراه غنيّا وهو مجهود

وقد يستغنى عن الرابط أحيانا ـ كما سيجىء (٥).

لكن هناك موضعان تجب فيهما الواو ، ومواضع أخرى تمتنع ؛ فتجب فى الجملة الحالية الخالية من الضمير لفظا وتقديرا (٦) ؛ نحو : تيقظت وما طلعت الشمس. وفى الجملة المضارعية المثبتة ، المسبوقة بالحرف : «قد» ؛ نحو قوله تعالى : (لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ.)

__________________

(١) وقد يكون الرابط محذوفا ، كما سيجىء فى ص ٣٨٣.

(٢) يقول ابن مالك فى الحال التى تقع جملة من غير تفصيل لأنواعها ، ولا بيان لشروطها الكاملة :

وموضع الحال تجىء جمله

كجاء زيد ، وهو ناو رحله ـ ٢٠

أى : تجىء الجملة موضع الحال المفردة ؛ بمعنى أنها تكون حالا مثلها وعرض لها مثالا جملة اسمية هى قوله : (وهو ناو رحلة).

(٣) وهى فى الوقت نفسه للاستئناف ؛ لوجوب دخولها على جملة. كما أنها تفيد الاقتران والمعية ، ولكنها لا تسمى اصطلاحا واو معيّة (انظر رقم ١ من هامش ص ٢٨٤).

(٤) إذا كان المبتدأ ضميرا للمتكلم ، والحال جملة فعلية رابطها الضمير ـ جاز فى الضمير الرابط أن يكون للمتكلم أو للغائب ؛ نحو : أنا الصادق أحب الحق ، أو يحب الحق ، وكذلك إن كان المبتدأ ضميرا للمخاطب جاز فى الضمير الرابط أن يكون للمخاطب أو للغائب ؛ نحو : أنت الصادق تحب الحق ، أو يحب الحق. ومراعاة التكلم والخطاب أحسن فى الصورتين (كما سبق فى ج ١ م ٣٥ ص ٤٢٥ ـ هامشها ـ).

(٥) فى ص ٣٨٣.

(٦) ذلك أن الضمير قد يجوز حذفه لفظا لا تقديرا ـ إذا عرف من السياق ـ كما سيجىء فى ص ٣٨٣ ـ نحو : ارتفع سعر القمح ؛ كيلة بخمسين قرشا. أى : كيلة منه.


والمواضع التى تمتنع فيها هى :

١ ـ أن تكون جملة الحال اسمية واقعة بعد عاطف يعطفها على حال قبلها ، نحو : سيجىء المتسابقون مشاة ، أو هم راكبون (١) السيارات ؛ فلا يصح أن يكون الرابط هنا واو الحال ؛ لوجود حرف العطف : «أو». وواو الحال لا تلاقى حرف عطف.

٢ ـ أن تكون جملة الحال مؤكدة لمضمون جملة قبلها (٢) ؛ كالقول عن القرآن : (هو الحق لا شك فيه) وقوله تعالى عنه : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ،) وليس من اللازم أن تكون جملة الحال المؤكدة اسمية ، فقد تكون فعلية أيضا ؛ نحو : هو الحق لا يشك فيه أحد ..

أما المؤكدة لعاملها فقد تقترن بالواو ؛ نحو : قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.)

٣ ـ الجملة الفعلية الماضوية بعد «إلا» التى تفيد الإيجاب (أى : المسبوقة بكلام غير موجب فيكون المعنى بعدها موجبا) ؛ نحو : ما تكلم العظيم إلا قال حقّا. ويرى بعض النحاة : أنه يجوز فى هذا الموضع الربط بالواو ، محتجّا بأمثلة فصيحة متعددة (٣). وحجته مقبولة. ولكن من يريد الاقتصار على الأعم الأفصح لا يساير هذا الرأى. ويجيز بعض آخر صحة الربط بالواو بشرط أن تقع بعدها «قد» مباشرة (٤) وهذا رأى حسن وفيه تيسير.

٤ ـ الجملة الماضوية المعطوفة على حال ، بالحرف العاطف : «أو» ؛ نحو : أخلص للصديق ؛ حضر (٥) أو غاب.

__________________

(١) الأحسن فى إعراب مثل هذا المثال : أن تكون : «أو» حرف عطف ، والجملة بعدها فى محل نصب حال ، وهذه الحال المنصوبة معطوفة على «مشاة».

(٢) سبق تفصيل الكلام عليها فى ص ٣٤١ ، ٣٥٤ ، ٣٦٥.

(٣) منها قول الشاعر :

نعم امرؤ هرم لم تعر نائبة

إلا وكان لمرتاع بها وزرا

(٤) قال «الصبان» ما نصه : (فى الرضى أنهما قد يجتمعان بعد «إلا» نحو : ما لقيته إلا وقد أكرمى) اه.

(٥) الجملة من الفعل «حضر» وفاعله فى محل نصب حال من الصديق وبعدها : «أو» فلا يجوز أن يكون الرابط فى الجملة السابقة الواو ، لأن الكلام العربى خال من الواو فى مثل هذا الأسلوب. أما التعليلات الأخرى للمنع فمردودة.


٥ ـ الجملة المضارعية المسبوقة بحرف النفى : «لا» ؛ نحو : ما أنتم ؛ لا تعملون (١). ومن القليل الذى لا يقاس عليه أن تقع الواو رابطة فى الجملة الفعلية (مضارعية ، أو ماضوية) إذا كانت مسبوقة بالحرف النافى «لا».

٦ ـ الجملة المضارعية المسبوقة بحرف النفى : «ما» (٢) ؛ نحو : عرفتك ما تحب العبث ، وعهدتك ما تسعى للإيذاء.

٧ ـ الجملة المضارعية المثبتة المجردة من «قد» ؛ نحو : شهدت الطالب الحريص يسرع إلى المحاضرة ، يتفرغ لها. وقد وردت أمثلة مسموعة من هذا النوع ، وكان الرابط فيها الواو ، منها قولهم : قمت وأصكّ عين العدو ، ومنها :

فلما خشيت أظافيرهم

نجوت ، وأرهنهم مالكا

ومنها :

«علّقتها (٣) عرضا وأقتل قومها» ... وأمثلة أخرى.

وقد تأول النحاة هذه الأمثلة ليدخلوها فى نطاق القاعدة ، ويخرجوها من مجال الشذوذ. ولا داعى لهذا التأول (٤) الذى لم يعرفه ولم يقصد إليه الناطقون بتلك الأمثلة. والخير أن نحكم عليها بما تستحقه من القلة والندرة التى لا تحاكى ، ولا يقاس عليها.

__________________

(١) مثل هذا التركيب يتضح معناه ويزول ما قد يكون فيه من غموض إذا عرفنا أن «لا» النافية تقدر فيه بكلمة : «غير» المنصوبة على الحال ، المضافة ، وأن المضارع بعدها يقدر باسم فاعل ، هو : «المضاف إليه» ، أى : ما أنتم غير عاملين؟ أى : ما أنتم وما أمركم فى الحالة التى لا تعملون فيها؟ وهو مثل الآية الكريمة : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ ....) التقدير : ما لنا غير مؤمنين؟ ما أمرنا ، وما شأننا فى الحالة التى نكون فيها غير مؤمنين؟ (ثم راجع رقم ٤ من هامش ص ٣٦٨ خاصا بالحرف : «لا» النافية).

(٢) «إن» : النافية ، مثل : «ما» فيقال فى حرف النفى : «ما» وفى المضارع بعده ما قيل فى سابقه مما هو مدون قبل هذا مباشرة فى رقم ١.

(٣) أحببتها.

(٤) قالوا فى التأويل : إن الواو واو الحال حقيقة. ولكنها لم تدخل على الجملة المضارعية مباشرة ؛ وإنما دخلت على مبتدأ محذوف ؛ خبره الجملة المضارعية المذكورة بعده ، والجملة من المبتدأ وخبره فى محل نصب حال. فالحال هو الجملة الاسمية لا الفعلية. والواو داخلة على جملة اسمية عندهم.

فما الداعى لهذا؟ إن كان دخول الواو على الجملة المضارعية المثبتة المجردة من «قد» غير مقبول وغير صحيح وجب التصريح بهذا ، والحكم على ما يخالفه بأنه يحفظ ولا يقاس عليه. وإن كان دخول الواو صحيحا وجب التصريح بهذا أيضا من غير تأويل. وإن كان التأويل يبيح الممنوع وجب السماح بالواو لكل من شاء. ومن أراد بعد ذلك أن يحمل نفسه مشقة التأويل فهو حرفيما يرتضيه لها. ولا شك أن التأول على هذه الصورة لا خير فيه. وأن الخير فى منع الواو فى مثل هذه المواضع.


فى غير هذه المواضع التى تمتنع فيها الواو يكون الربط بالواو وحدها ، أو بالضمير وحده ، أو بهما معا. وقد سبقت الأمثلة لكل هذا (١).

وإذا كانت جملة الحال ماضوية مثبتة وفعلها متصرف ورابطها الواو وحدها وجب مجىء «قد» بعد الواو مباشرة (٢) ؛ نحو : انصرفت وقد انتزى ميعاد العمل ، فإن كان الرابط هو الضمير وحده ، أو الواو والضمير معا فالأحسن مجىء «قد» أيضا.

وتمتنع «قد» مع الماضى الممتنع ربطه بالواو ـ وقد سبق بيانه ـ كالماضى التالى «إلا» الاستثنائية التى تفيد الإيجاب عند من يمنع ربطه بالواو (٣) ، أو الذى بعده : «أو».

* * *

__________________

(١) اقتصر ابن مالك على حالة واحدة من الحالات التى تمتنع فيها الواو ، سجلها بقوله :

وذات بدء بمضارع ثبت

حوت ضميرا ، ومن الواو خلت ـ ٢١

يريد : أن الجملة المضارعية المثبتة الواقعة حالا تحوى الضمير الرابط وتخلو من الواو المستعملة فى الربط ؛ لأن هذه الواو لا تصلح للربط هنا. ثم بين أن الجملة المضارعية الحالية المسبوقة بالواو ينوى ويقدر لها بعد هذه الواو مبتدأ محذوف ، خبره الجملة المضارعية ؛ فتكون مسندة له. يقول :

وذات واو بعدها انو مبتدا

له المضارع اجعلنّ مسندا ـ ٢٢

وما عدا هذه الحالة التى اقتصر عليها يجوز فيه الربط بالواو فقط ، أو بالضمير فقط ، أو بهما معا ؛ فيقول :

وجملة الحال سوى ما قدّما

بواو ، أو بمضمر ، أو بهما ـ ٢٣

(٢) لتقرب زمنها من الحال ، وهذا هو الرأى المختار. ويرى فريق آخر من النحاة لزوم : «قد» مع الماضى المثبت ؛ سواء أكان الرابط هو الواو ، أم الضمير ، أم هما معا.

لكن يقول «أبو حيان» م نصه :

(الصحيح جواز وقوع الماضى حالا بدون قد» ولا يحتاج لتقديرها ؛ للكثرة. وردّ ذلك ، وتأويل الكثير ، ضعيف جدا ، لأنا إنما نبنى المقاييس العربية على وجود الكثرة) اه. ـ راجع «الهمع» ح ١ ص ٢٤٧ آخر باب الحال ـ

وهذا الرأى حسن ، وفى الأخذ به تيسير تؤيده النصوص الكثيرة المسموعة كما يقول أبو حيان ـ ومن وافقه ـ ومن تلك النصوص قوله تعالى : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) وقوله تعالى : (... أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ....)

هذا ، ولا تدخل «قد» على الجملة الماضوية التى فعلها جامد ؛ كأفعال الاستثناء (ليس. ـ خلا ـ عدا ـ حاشا) ـ كما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٣٢٩. ـ

(٣) انظر ما يختص بهذا فى رقم ٥ من هامش ص ٣٧٠.


العاشر : انقسامها باعتبار جريانها على صاحبها أو عدم جريانها إلى قسمين ؛ حقيقية وسببيّة (١).

فالحقيقية : هى التى تبين هيئة صاحبها مباشرة ؛ كالأمثلة التى مرت فى أكثر الموضوعات السالفة ، ومثل : فزع العصفور من المطر مبتلّا. فكلمة «مبتلّا» حال. تبين هيئة صاحبها نفسه ؛ وهو : «العصفور» وقت فزعه. ولا تبين هيئة شىء آخر غير العصفور نفسه ، ـ كعشه ، أو شجرته ، أو صاحبه ، أو طيور أخرى ـ ومثل : وقف المصلى خاشعا. فكلمة : «خاشعا» حال تبين هيئة صاحبها مباشرة ؛ وهو : المصلى ، ولا شأن لها بغيره ...

ولا بد أن تطابق الحال الحقيقية (٢) صاحبها فى التذكير ، والتأنيث والإفراد ، والتثنية والجمع.

والسببية : هى التى تبين هيئة شىء له اتصال وعلاقة بصاحبها الحقيقى ، أىّ علاقة ، دون أن تبين هيئة صاحبها الحقيقى مباشرة ؛ مثل : فزع العصفور من المطر مبتلا عشّه ، ومثل : وقف المصلى خاشعا قلبه. فكلمة : «مبتلا» حال ، كما كانت ، وصاحبها هو : «العصفور» كما كان ، أيضا. ولكن الحال هنا لا تبين هيئة صاحبها الحقيقى : «العصفور» ، وإنما تبين هيئة : «العش» وللعش صلة وعلاقة بصاحبها ؛ فهو مسكن العصفور ومأواه. كذلك المثال الثانى ، فكلمة : «خاشعا» حال ، وصاحبها الحقيقى هو : المصلى. ولكنها لا تبين هيئته ، وإنما تبين شيئا له صلة وعلاقة به ؛ هو : قلبه ؛ فإن قلبه جزء منه.

ومن أمثلة السببية : كتبت الصفحة مستقيمة خطوطها ، سمعت المغنية عذبا صوتها ، وسمعت القارئ واضحة نبراته.

ولا بد فى الحال السببية أن ترفع اسما ظاهرا مضافا لضمير يعود على صاحب الحال كالأمثلة السالفة ، وأن تكون مطابقة لهذا الاسم المرفوع بها ، فى التذكير والتأنيث ، والإفراد ، دون التثنية والجمع ، إذ الأحسن أن تلتزم معهما الإفراد ؛ نحو : سكنت البيت جيدا هواؤه ، واسعة غرفه ، جميلا مدخلاه ، نظيفة مسالكه ... (٣)

__________________

(١) وهذا الموضوع هو الذى سبقت له الإشارة العابرة فى رقم ١ من هامش ص ٣٥٩ وتفصيل الكلام على صاحب الحال يجىء فى الصفحة التالية.

(٢) ما لم يمنع من وجوب المطابقة مانع لغوىّ ، مما سيجىء فى موضعه ؛ ولمطابقة الحال لصاحبها موضوع مستقل ؛ فى ص ٣٧٧.

(٣) وكما فى «ب» من ص ٣٧٨.


المسألة ٨٥ :

صاحب الحال

عرفنا (١) أن الحال قد تبين هيئة الفاعل فى مثل : ينفع الصانع متقنا ، أو هيئة المفعول به فى مثل : يحترم الناس العامل مخلصا ، أو هيئة الفاعل والمفعول به معا فى نحو : استقبل الأخ أخاه مسرورين ، أو هيئة المبتدأ (٢) فى نحو : (الصحف ـ ماجنة ـ ضارة) ... أو غير ذلك مما تبين الحال هيئته ؛ كالمضاف والمضاف إليه (٣) ... وهذا الذى تبين الحال هيئته يسمى : صاحب الحال ؛ كالذى فى الأمثلة السالفة : (الصّانع ـ العامل ـ الأخ ـ أخاه ـ الصحف ...)

والأكثر فى صاحب الحال أن يكون معرفة. وقد يكون نكرة بمسوّغ من المسوغات الآتية :

١ ـ أن تكون النكرة متأخرة والحال متقدمة عليها ، نحو :

(يمشى ـ حزينا ـ مدين). (يدعو ـ متألما ـ مظلوم) (٤) ...

٢ ـ أن تكون النكرة متخصصة (٥) ؛ إما بنعت بعدها ؛ نحو : أشفقت على

__________________

(١) فى ص ٣٣٨ م ٨٤.

(٢) مجىء الحال من المبتدأ صحيح ، (طبقا للبيان المدون فى رقم ١ من هامش ص ٣٣٩ ورقم ٣ من هامش ص ٣٥٤)

(٣) لمجىء الحال من المضاف إليه شروط ذكرناها فى ص ٣٧٦.

(٤) من الجائز أن يكون أصل الجملتين السالفتين هو : يمشى مدين حزين ـ يدعو مظلوم متألم ... ومن المقرر أن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا ؛ كالمثالين المذكورين ، ما لم يمنع مانع من إعرابه حالا ؛ ذلك أن المنعوت النكرة قد يكون ـ أحيانا ـ كالمنعوت المعرفة ، من جهة أن النعت المتقدم عليه يعرب على حسب العوامل ، والمنعوت المتأخر يعرب بدلا منه أو عطف بيان ، نحو : مررت بقائم رجل ، واستمعت إلى خطيب غلام. ومما تقدم نعلم أن نصب نعت النكرة المتقدم عليها باعتباره حالا هو أمر غالب ، لا واجب على الأصح ؛ لتخرج الصور السالفة ، ويخرج النعت فى مثل : جاءنى رجل أحمر ، ونحوه من الصفات الثابتة ـ (راجع ج ٣ من حاشية الصبان آخر باب النعت).

(٥) ولهذا يصح أن تكون الجملة ـ وشبهها ـ بعد النكرة المتخصصة حالا إذا لاحظنا تخصصها ـ كما سبق عند الكلام على الحكم التاسع (وفى ص ٣٦٨) ـ ويصح أن تكون نعتا إذا لم نلاحظه. وقد أوضحنا هذا فى مواضع متعددة ؛ منها : باب النكرة والمعرفة فى الجزء الأول.


طفلة صغيرة تائهة ، وإما بإضافة ؛ نحو : حافظت على أثاث الغرفة منسّقا ، وإما بعمل ؛ نحو : أفرح بناظم شعرا مبتدئا ، وإما بعطف معرفة عليها ، نحو : ذهب فريق ومحمود مسرعين.

٣ ـ أن تكون النكرة مسبوقة بنفى ، أو شبهه (وهو هنا : النهى والاستفهام) ؛ نحو : ما خاب عامل مخلصا ـ لا تشرب فى كوب مكسورا ـ هل ترضى عن أمّ قاسيا قلبها؟

٤ ـ أن تكون الحال جملة مقرونة بالواو ؛ نحو : استقبلت صديقا وهو راجع من سفر.

٥ ـ أن تكون الحال جامدة ، نحو : هذا خاتم ذهبا (١).

وقد وردت أمثلة مسموعة من فصحاء العرب وقع فيها صاحب الحال نكرة بغير مسوغ ؛ منها : صلى رجال قياما. ومنها : فلان يستعين بمائة أبطالا. وللنحاة فى هذا كلام وجدل. والذى يعنينا أن فريقا منهم يبيح مجىء صاحب الحال نكرة بغير مسوغ (٢) وفريقا آخر (٣) يمنعه ، ويقصره على السّماع ، ويؤول الأمثلة القديمة ، أو يحكم عليها بالشذوذ الذى لا يصح القياس عليه. وفى الأخذ بالرأى الأول توسعة ومحاكاة نافعة ، ولكن يحسن ألا نسارع إليه قدر الاستطاعة ، ذلك أن صاحب الحال النكرة بغير مسوغ ـ قليل فى فصيح الكلام. نعم هذه القلة ليست مطلقة ؛ وإنما هى نسبية (أى بالنسبة لصاحب الحال المعرفة أو النكرة ، المختصة) (٤). لكن هذا لا يمنعنا أن نختار الأكثر استعمالا فى المأثور الفصيح ، وإن كان غيره مقبولا (٥).

* * *

__________________

(١) فى هذا المثال حين يكون صاحب الحال نكرة ، وفرعا من الحال ـ يرتضى النحاة إعراب الأصل تمييزا.

(٢) من هؤلاء سيبويه ، وحجته : أن الحال جاءت لتقييد العامل ؛ فلا معنى لاشتراط المسوغ ، وهذه الحجة يؤيدها ويقويها السماع الذى يكفى للقياس عليه.

(٣) كالخليل ويونس.

(٤) فهى قلة نسبية (كالتى شرحناها فى رقم ١ من هامش ص ٣٤٣ و ٤٢٢ والبيان فى ج ٣ رقم ١ من هامش ص ٧٤ م ٩٤).

(٥) وفى صاحب الحال النكرة يقول ابن مالك :

ولم ينكّر ـ غالبا ـ ذو الحال إن

لم يتأخّر ، أو يخصّص ، أو يبن ـ ٧

من بعد نفى ، أو مضاهيه ؛ كلا

يبغ امرؤ على امرى مستسهلا ـ ٨ ـ


صاحب الحال إذا كان مضافا إليه :

يصح أن يكون صاحب الحال مضافا إليه ، نحو : تمتّعت بجمال الحديقة واسعة ، ـ ونعمت برائحة الزهر متفتحا ناضرا ـ ، وأكلت نادر الفاكهة ناضجة. ويشترط أكثر النحاة (١) فى صاحب الحال إذا كان مضافا إليه :

(ا) أن يكون المضاف إما جزءا حقيقيّا منه ؛ نحو : أعجبتنى أسنان الرجل نظيفا ، وراقتنى أظفاره باسطا أنامله. «فالأسنان» مضاف وهى جزء حقيقى من المضاف إليه ؛ أى : من صاحب الحال ؛ (وهو : «الرجل») و «الأظفار» مضاف ، وهى جزء حقيقى من المضاف إليه صاحب الحال ؛ (وهو : الضمير العائد على الرجل ، ويعتبر فى حكم الرجل). ومن هذا قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً؛) فكلمة : «إخوانا» حال من الضمير : «هم» المضاف إليه. والمضاف بعض حقيقى منه. ومن الأمثلة قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ...،) فكلمة : «ميتا» حال من المضاف إليه (وهو : «أخ») والمضاف (وهو : «لحم») بعض منه.

(ب) وإما بمنزلة الجزء الحقيقى ، (حيث يصح حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ؛ فلا يتغير المعنى) كما فى الأمثلة الأولى : (تمتعت بجمال الحديقة واسعة ، ونعمت برائحة الزهر ، متفتحا ناضرا ... و...) فيصح أن يقال : تمتعت بالحديقة واسعة ، ونعمت بالزهر متفتحا ... و... ومن هذا قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً؛) حيث يصح : أن اتّبع إبراهيم حنيفا ...

(ح) وإما عاملا فى المضاف إليه ، كأن يكون المضاف مصدرا عاملا

__________________

ـ يريد : أن الغالب على صاحب الحال ألا يكون نكرة ، إلا إذا تأخر عنها صاحب الحال ، أو : خصص ، أو : بان (أى : ظهر) بعد نفى أو ما يضاهى النفى (يشابهه ، وهو هنا النهى والاستفهام) وساق مثالا هو : لا يبغ امرؤ على امرئ مستسهلا ، والمسوغ فيه النهى.

(١) ويخالفهم سيبويه بحق ، وإن كان رأيه ـ مع صحته ـ ليس الأفصح فيما اشترطوه ، كما سيجىء البيان فى رقم ٣ من هامش الصفحة التالية : (٣٧٧).


فيه ؛ نحو : عند الله تقدير العاملين مسرورين ، ونحو : (إليه مرجعكم (١) جميعا) أو أن يكون وصفا عاملا فيه (٢) ، نحو : هذا رافع الراية عالية فى الغد (٣) ... (٤)

* * *

مطابقة الحال ـ بنوعيها (٥) ـ لصاحبها :

(ا) الأصل أن تطابق الحال «الحقيقية» صاحبها ـ وجوبا ـ فى التذكير والتأنيث ، وفى الإفراد وفروعه. كالأمثلة السالفة. لكن يستثنى من هذا الأصل بعض حالات لها أحكام أخرى تتلخص فيما يلى :

__________________

(١) «مرجع» ، مصدر ميمى ، أى : رجوعكم.

(٢) كاسمى الفاعل والمفعول بالشروط الواجبة لإعمالهما ، ومنها أن يكونا بمعنى الحال أو الاستقبال ... و...

(٣) جاء فى «الخضرى» فى هذا الموضع خاصا بالأمور الثلاثة ما نصه :

(وإنما اشترط أحد الأمور الثلاثة لوجوب اتحاد عامل الحال وصاحبها عند الجمهور ؛ كالنعت والمنعوت ، وصاحبها إذا كان مضافا إليه هو معمول للمضاف. وهو ـ أى : المضاف ـ لا يعمل فى الحال إلا إذا أشبه الفعل ؛ بأن كان مصدرا ، أو صفة «أى : وصفا مشتقا» وحينئذ فالقاعدة موفاة. فإن كان المضاف جزءا أو كالجزء من المضاف إليه ، صار هو كأنه صاحب الحا ل ؛ لشدة اتصال الجزء بكله ؛ فيصح توجه عامله للحال. بخلاف غير ذلك. وذهب سيبويه إلى جواز اختلاف الحال وصاحبها فى العامل ؛ لأنه أشبه بالخبر من النعت ، وعامل الخبر غير عامل صاحبه ، وهو : المبتدأ على الصحيح. ومقتضى ذلك صحة مجيئه من المضاف إليه مطلقا ، فليحرر. ثم رأيت فى الصبان التصريح به) اه.

(٤) وفى مجىء الحال من المضاف إليه يقول ابن مالك :

ولا تجز حالا من المضاف له

إلّا إذا اقتضى المضاف عمله ـ ١٠

أى : إلا إذا استوفى المضاف عمله فى الحال ، وهذا يدل على اشتراط أن يكون المضاف مما يعمل.

أو كان جزء ما له أضيفا

أو مثل جزئه ؛ فلا تحيفا ـ ١١

يريد : أن الحال يجىء من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا مما أضيف إليه ، (أى : إذا كان المضاف جزءا من المضاف إليه) ، أو مثل الجزء كما شرحناه. أما قوله : «فلا تحيفا» ، فأصلها : تحيفن ، بنون التوكيد الخفيفة التى تنقلب ألفا عند الوقف. والجملة معناها : لا تظلم نفسك ، أو اللغة بمخالفة هذا. وهو حشو لم يذكر إلا لتكملة البيت.

(٥) انظر ص ٣٧٣ حيث الكلام : على الحال «الحقيقية» ، وعلى قسيمتها : «السببية».


١ ـ إذا كان صاحب الحال الحقيقية جمعا مفرده مذكر لغير العاقل (١) ، جاز فى الحال أن تكون مفردة مؤنثة ، وجمع مؤنث سالما ، وجمع تكسير (٢) ؛ نحو : سرتنى الكتب نافعة ، أو : نافعات ، أو : نوافع.

٢ ـ إذا كان لفظ الحال الحقيقية من الألفاظ التى يغلب استعمالها بصورة واحدة للمذكر والمؤنث ـ ككلمة : صبور ـ بقى على صورته ؛ نحو : عرفت المؤمن صبورا عند الشدائد ، وعرفت المؤمنة صبورا كذلك (٣).

٣ ـ إذا كان لفظ الحال الحقيقية أفعل التفضيل المجرد من «أل» والإضافة ، أو المضاف إلى نكرة ، لزم الإفراد والتذكير ـ على الأرجح ، كما سيجىء فى بابه (٤) ـ ؛ نحو : عرفت العصامىّ أنشط وأنفع ، أو : أنشط عامل ، وأنفع رجل.

٤ ـ إذا كانت الحال الحقيقية مصدرا فإنه يلازم صورة واحدة ؛ نحو : حضر القطار سرعة. وإذا اشتهر المصدر صح تثنيته وجمعه ـ كالنعت ـ ؛ نحو : عرفت الوالى عدلا ، والواليين عدلين ، والولاة عدولا.

٥ ـ إذا كانت الحال كلمة : «أىّ» (٥) فإنها ـ فى الغالب ـ تقع حالا من معرفة مع إضافتها إلى نكرة ؛ نحو : استمعت إلى علىّ أىّ خطيب.

(ب) أما الحال «السببية» فتطابق الاسم الظاهر المرفوع بها ـ وجوبا ـ فى التذكير والتأنيث والإفراد ، دون التثنية والجمع ، إذ الأحسن أن تلتزم معهما الإفراد

__________________

(١) يدخل فى هذا الجمع نوعان ، أحدهما : جمع التكسير الذى مفرده مذكر غير عاقل. والآخر : ما ألحق بجمع المذكر السالم. وكان مفرده مذكرا غير عاقل أيضا : مثل : وابلون» ، جمع : وابل للمطر الغزير ، وعلّيون ، جمع : علّىّ ؛ للمكان المرتفع. ولا يدخل جمع المذكر السّالم الأصيل ؛ لأن مفرده ـ فى الأغلب ـ مذكر عاقل.

(٢) يصح فى جمع التكسير هذا أن يكون للمؤنث ، وأن يكون للمذكر ، بملاحظة مفرده المذكر غير العاقل مثل قرأت الكتب نوافع ، سرتنى الكتب أحاسن (جمع : أحسن) ـ (راجع رقم ١ من هامش ص ٣٦٢ م ١١٤ ج ٣ ـ ثم حاشية ياسين ج ٢ أول باب النعت حيث النص الشامل).

(٣) لهذه الصورة فروع تتضح من نظائرها فى النعت ـ ج ٣ ص ٣٣٧ ـ.

(٤) ج ٣ م ١١٢ ص ٣٢٧ و ٣٣٨.

(٥) الكلام على : «أى» وأنواعها ، وأحكامها المختلفة ، مفرق فى أجزاء الكتاب المختلفة على حسب الأبواب التى تستعمل فيها ؛ كصفحة ٢٠٤ السابقة ، والصفحة ٢٦٢ م ٢٦ ج ١ ـ باب الموصول ، وكبابى الإضافة والنعت فى ج ٣.


ـ كما سبق (١) ـ نحو : سكنت البيت جيدا هواؤه ، واسعة غرفه ، جميلا مدخلاه ، نظيفة مسالكه.

* * *

__________________

(١) انظر ص ٣٧٣.


المسألة ٨٦ :

حكم الحال ، وعاملها ، وصاحبها ، ورابطها ، من ناحية الذّكر والحذف.

(ا) الأصل فى الحال أن تكون مذكورة ؛ لتؤدى مهمتها المعنوية ؛ وهى : بيان هيئة الفاعل ، أو المفعول به ، أو غيرهما ، مما سبق تفصيله (١). لهذا يجب ذكرها فى كثير من المواضع ، ويجوز حذفها فى أخرى. فمن المواضع التى يجب أن تذكر فيها ما يأتى :

١ ـ أن تكون محصورة ؛ نحو : ما أحب العالم إلا نافعا بعلمه.

٢ ـ أن تكون نائبة عن عاملها المحذوف سماعا ؛ نحو : هنيئا لك (٢) ، بمعنى : ثبت لك الخير هنيئا ، أو : هنأك الأمر هنيئا (٣) ، أو نحو هذا التقدير الدّال على الدعاء بالهناءة.

٣ ـ أن يتوقف على ذكرها المعنى المراد ، أو يفسد بحذفها ... ـ كما أشرنا أول الباب (٤) ـ ؛ نحو قوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ.)

ومن هذا الموضع أن تكون سادّة مسدّ الخبر (٥) فى مثل : سهرى على المزرعة نافعة.

٤ ـ أن تكون جوابا. مثل : كيف حضرت؟ فيجاب : راكبا.

ويصح حذف الحال إذا دل عليها دليل. وأكثر حذفها حين يكون لفظها مشتقّا من مادة «القول» ويكون الدليل عليها بعد الحذف هو : المقول (٦) ؛ نحو : جلست فى حجرتى ؛ فإذا صديقى الغائب يدخل : «السّلام عليكم» ، أى : يدخل قائلا : السّلام عليكم. فكلمة : «قائلا» هى الحال المحذوفة ، وهى

__________________

(١) فى ص ٣٣٨.

(٢) ونحو قولهم : «هنيئا لأرباب البيان بيانهم ...»

(٣) ستجىء إشارة لهذا فى ص ٣٨٣ والحال فى هذا المثال مؤكدة لعاملها كنظائرها التى سبقت : فى ص ٣٤١ و ١٦٥ و... ومنها : ولا تعث فى الأرض مفسدا ـ (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) ـ (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) ـ.

(٤) ص ٣٣٩.

(٥) فى ج ١ ص ٣٨٥ م ٣٩ تفصيل الكلام على الحال التى تسد مسد الخبر.

(٦) الشىء الذى قيل.


مشتقة من مادة : «القول». وقد دل عليها الكلام الذى قيل ؛ وهو : «السّلام عليكم». ومثل : هل دار بينك وبين المسافر كلام؟ نعم. لما قابلنى فى الصباح حيّانى : «صباح الخير» ، وحدثنى عن رحلته المنتظرة ؛ ثم أسرع إلى القطار بعد أن صافحنى ومد يده : «الوداع». أى : قائلا صباح الخير ؛ قائلا : الوداع. ومن هذا قوله تعالى فى أهل الجنة : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ،) أى : قائلين : سلام عليكم. وقوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا،) أى : قائلين ربنا تقبل منا.

* * *

(ب) والأصل فى عامل الحال ـ وغيرها ـ أن يكون مذكورا ؛ ليحقق غرضا معينا ، هو : إيجاد معنى جديد ، أو تقوية معنى موجود. وقد يحذف جوازا أو وجوبا ؛ لدواع تقتضى الحذف ، أى : أن عامل الحال قد يذكر وجوبا ، وقد يحذف وجوبا ، وقد يجوز ذكره وحذفه.

فيجب ذكره إن كان عاملا معنويّا (وقد سبق شرحه) (١) كأسماء الإشارة ؛ وحروف التنبيه ، والتمنى ؛ وكشبه الجملة ... و... و...

ويجوز حذفه إذا كان عاملا غير معنوى ، ودل عليه دليل مقالىّ (٢) ، أو حالىّ فمثال المقالىّ أن يقال : أتستطيع الصعود إلى قمة الجبل؟ فيجيب المسئول : مسرعا. أى : أصعد مسرعا ـ أتعتنى بخط رسائلك؟ فيجاب : واضحا جميلا أى : أعتنى به واضحا جميلا.

ومثال الحالىّ : أن ترى مسافرا فتقول له : «سالما». أى : تسافر سالما ، وأن ترى من يشرب الدواء فتقول : «شافيا» ، أى : تشرب الدواء شافيا. وأن تقول لمن يبنى بيتا : «معمورا» ، أى : تبنى البيت معمورا ...

__________________

(١) ص ٣٥٥.

(٢) سبق ـ فى رقم ١ من هامش ص ٥٣ م ٦٣ وفى ج ١ ص ٣٦٢ م ٣٧ ـ أن الدليل المقالى هو : ما يكون قائما على كلام مذكور صريح ، وأن الدليل الحالىّ ، هو : ما يكون أساسه القرائن والمناسبات المحيطة بالمتكلم من غير استعانة بكلام أو ألفاظ ...


ويجب حذفه فى مواضع ، أهمها :

١ ـ أن تكون الحال سادّة مسدّ الخبر (١) ، نحو : إنشادى القصيدة محفوظة ، فكلمة : «محفوظة» حال ؛ سدت مسدّ خبر المبتدأ المحذوف وجوبا ؛ والأصل : إنشادى القصيدة إذ كانت ، أو : إذا كانت محفوظة.

٢ ـ أن تكون الحال مفردة مؤكدة مضمون جملة (٢) قبلها. ـ نحو : الجدّ أب راحما.

٣ ـ أن تكون الحال مفردة دالة بلفظها على زيادة تدريجية ، أو نقص تدريجى ؛ نحو : تصدّق على المحتاج بدرهم ؛ فصاعدا ـ لا تتعرض للشمس عند شروقها إلا عشرين دقيقة ؛ فنازلا ... فكلمة : «صاعدا» حال. وعاملها وصاحبها محذوفان. والتقدير : فاذهب بالعدد صاعدا. والجملة المحذوفة هنا إنشائية ، معطوفة بالفاء على نظيرتها الفعلية الإنشائية (٣). وكلمة : «نازلا» حال. وعاملها وصاحبها محذوفان : والجملة منهما إنشائية معطوفة بالفاء على نظيرتها. ولا بد من اقتران هذه الحال المفردة «بالفاء» العاطفة ، أو «ثم» العاطفة (٤) ؛ ومن الأمثلة : تدرب على الحفظ خمسة أسطر ، فستة ، فسبعة ، فصاعدا. لا تتناول فى اليوم أكثر من ثلاث وجبات ؛ فنازلا ...

٤ ـ أن تكون الحال مسبوقة باستفهام يراد به التوبيخ ؛ نحو : أنائما وقد أشرقت الشمس؟ أعاطلا والعمل يطلبك؟ أسفيها وهو كريم النشأة؟ أى : أتوجد نائما؟ ـ أتوجد عاطلا؟ ـ أيوجد سفيها؟ ...

__________________

(١) سبق إيضاحها وتفصيل الكلام عليها فى ج ١ ص ٣٨٥ م ٣٩ آخر باب المبتدأ والخبر.

(٢) ورد ذكرها فى مواضع ، منها : (ص ٣٤١ و ٣٥٧ و ٣٦٥ و ٣٧٠).

(٣) ليس من اللازم أن تكون الجملتان إنشائيتين ، إنما الأحسن ـ فى رأى جمهرة النحاة ـ اتحادهما خبرا أو إنشاء.

(٤) كما أشرنا فى رقم ١ من هامش ص ٣٦٧. والكوفيون يجيزون واو العطف أيضا ، (كما جاء فى مجالس ثعلب ، ج ٤ ص ٢١٥ من القسم الأول).


٥ ـ عوامل حذفت سماعا. من ذلك قولهم لمن ظفر بشىء ؛ هنيئا لك ما أدركت. أى : ثبت هنيئا (١).

والحذف فى المواضع الأربعة الأولى قياسى (٢).

* * *

(ح) والأصل فى صاحب الحال أن يكون مذكورا فى الكلام ؛ لتتحقق الفائدة من ذكره. وقد يحذف جوازا فى مثل قوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً،) أى : بعثه الله.

ويجب حذفه فى الصورة التى يحذف فيها عامله وجوبا حين تؤكد الحال مضمون جملة قبلها ، على الوجه الذى سبق (٣) شرحه. وكذلك يجب حذفه مع عامله حين تدل الحال على زيادة تدريجية ، أو نقص تدريجى ـ وهى الصورة الثالثة من الصور التى فى الصفحة المتقدمة.

* * *

(د) والأصل فى الرابط أن يكون مذكورا ؛ ليعقد الصلة المعنوية بين جملة الحال والجملة التى قبلها المشتملة على صاحب الحال ، فيمنع التفكك. لكن يجوز حذف الرابط لفظا ، لا تقديرا (٤) ، إذا كان ضميرا مفهوما من السياق. نحو : ارتفع سعر القمح ، كيلة بخمسين قرشا ، أى : كيلة منه ...

وكذلك يصح حذفه إن كان الحال جملة خالية من الرابط لكن عطف عليها «بالفاء» ، أو : «الواو» ، أو : «ثم» جملة تصلح أن تكون حالا مع اشتمالها على الرابط ؛ نحو : عرفت الوالى العادل تشكو الرعية ، فيزيل أسباب

__________________

(١) سائغا مقبولا. والفعل هنئ. (وقد سبقت الإشارة لهذا فى رقم ٢ ص ٣٨٠).

(٢) وفى حذف العامل يقول ابن مالك :

والحال قد يحذف ما فيها عمل

وبعض ما يحذف ، ذكره حظل ـ ٢٤

يريد : أن الحال قد يحذف ما يعمل فيها النصب (أى : يحذف عاملها) وأن بعض ما يحذف من هذه العوامل محظول ذكره ، أى : ممنوع (حظل : منع) لأنه واجب الحذف.

(٣) ص ٣٤١ و ٣٥٧ و ٣٦٥ و ٣٧٠

(٤) كما سبق فى رقم ٦ من ص ٣١٢.


الشكوى (١) ـ أقبل الفائز ، يصفق الناس ، ويشرق وجهه ـ تداوى المريض يشير الأطباء ثم يستجيب للمشورة.

__________________

(١) راجع الصبان ، ج ١ باب المبتدأ ، عند الكلام على الخبر الجملة ، ورابطه. وكذا التصريح ج ٢ باب العطف عند الكلام على الفاء العاطفة. وقد اقتصر فى الرابط عليها لأنها الأصل وخالفه الصبان وغيره ...


المسألة ٨٧ :

التمييز

(ا) كيل

عندى إردبّ ...

 ـ

عندى إردبّ شعيرا ، أو : أردبّ شعير ، أو : إردبّ من شعير.

وهبت كيلة ...

 ـ

وهبت كيلة قمحا ، أو كيلة قمح ، أو : كيلة من قمح.

خلطت غذاء الفرس بقدح ...

 ـ

خلطت غذاء الفرس بقدح فولا ، أو : بقدح فول ، أو : بقدح من فول

(ب)

وزن

خلطت غذاء الفرس بقدح ...

 ـ

خلطت غذاء الفرس بقدح فولا ، أو : بقدح فول ، أو : بقدح من فول

اشتريت أوقيّة ...

 ـ

اشتريت أوقية ذهبا. أو : أوقية ذهب ، أو : أوقية من ذهب

وزن الإناء رطل ...

 ـ

وزن الإناء رطل نحاسا ، أو :

رطل نحاس ، أو رطل : من نحاس.

دفعت ثمن أقة ...

 ـ

دفعت ثمن أقة تفاحا. أو : أقة تفاح ... أو أقة من تفاح.

(ح)

مساحة

جنيت محصول فدان ...

 ـ

جنيت محصول فدان قطنا ، أو فدان قطن ، أو : فدانا من قطن

حرثت قيراطا ...

 ـ

حرثت قيراطا برسيما. أو :

قيراط برسيم ، أو : قيراطا من برسيم.

سقيت قصبة ...

 ـ

سقيت قصبة خضرا ، أو قصبة خضر ، أو : قصبة من خضر.

(د)

عدد

عندى خمسة ...

 ـ

عندى خمسة أقلام.

رأيت عشرين ...

 ـ

رأيت عشرين سائحا.

أخذت مائة ...

 ـ

أخذت مائة جنيه مكافأة.


(ه) نسبة أو :

جملة (١)

ازداد المتعلم ...

 ـ

ازداد المتعلم أدبا.

أعجبنى الخطيب ...

 ـ

أعجبنى الخطيب كلاما.

فاضت البئر ...

 ـ

فاضت البئر نفطا (٢).

(ا) فى جملة مثل : «عندى إردب» من أمثلة القسم : «ا» نجد كلمة غامضة مبهمة هى : «إردب» ، لأن مدلولها يحتمل عدة أنواع مختلفة ، لا نستطيع تخصيص واحد منها بالقصد دون غيره ، فقد يكون هذا الإردب : قمحا ، أو : شعيرا ، أو : فولا ، أو : غيرها ، ولا ندرى النوع المراد من تلك الأشياء الكثيرة ، إذ لا دليل يدل عليه وحده ، لهذا كانت كلمة : «إردب» مبهمة ، غامضة ، لعدم تحديد المراد منها وتعيينه. لكن إذا قلنا : عندى إردبّ شعيرا ـ زال الغموض والإبهام ، وتعين المراد بسبب اللفظ الذى جاء ؛ وهو : «شعيرا».

كذلك الشأن فى كلمة : «كيلة» ، فإنها غامضة ، مبهمة ، لا تعيين فيها ؛ لاحتمال أن تكون الكيلة : قمحا ، أو : ذرة ، أو : فولا ، أو : عدسا ... فإذا قلنا : كيلة قمحا ، تعين المراد ، وزال الاحتمال. ومثل هذا يقال فى كلمة : «قدح» فى المثال الأخير من قسم «ا» ، وفى غيرها من كل كلمة عربية تدل فى العرف الشائع على شىء يقع به الكيل ؛ مثل : ويبة ، ربع ، ملوة (٣) ...

(ب) وفى جملة مثل : اشتريت أوقيّة (من أمثلة القسم : «ب») ، نصادف هذا الإبهام والغموض فى كلمة : «أوقيّة» ؛ لاحتمالها عدة أنواع ، لا نستطيع تخصيص واحد منها بالمراد دون غيره ، فقد تكون الأوقية ذهبا ، أو : فضة ، أو عنصرا آخر من العناصر التى توزن ... لكن إذا قلنا : أوقية ذهبا ـ اختفى الإبهام ، وحل محله التعيين الموضح للمطلوب. ومثل هذا يقال فى كلمة : رطل ، وأقّة ، فى المثال الثانى والثالث (من أمثلة : قسم ب) وفى نظائرها من

__________________

(١) لهذا النوع أمثلة أخرى فى «ب» من ص ٣٩٣.

(٢) هو المسمى : زيت البترول.

(٣) من المكاييل الشائعة فى مصر : الإردب ؛ وهو يساوى اثنتى عشرة كيلة ، ومقدار الكيلة : ربعان ، والربع : أربعة أقداح ـ والويبة كيلتان. والكيلة أيضا أربع ملوات.


الكلمات العربية التى يجرى فى العرف اعتبارها من الموازين ، ومنها : قنطار ، ودرهم ، وحبّة ...

(ح) وفى جملة مثل : جنيت محصول فدان (من أمثلة : «ج») نجد الكلمة الغامضة المبهمة هى كلمة : «فدان» فإنها تحتمل أن يكون مدلولها فدان قصب ، أو فدان عنب ، أو قمح ، أو غيره. فإذا قلنا : ... «فدان قطن» ـ انقطع الاحتمال ، وزال الغموض والإبهام ، وتحدد القصد. ومثل هذا يقال فى كلمة : «قيراط» ، وقصبة (من أمثلة القسم : «ج») ، وغيرها من الألفاظ العربية التى تستعمل فى المساحات (١) ، (ومنها : السهم (٢) ، والذراع ، والباع ، والشبر ، والفتر ...)

(د) ومثل هذا يقال فى كل عدد من جمل القسم : «د» أو ما شابهها مما يشتمل على أحد الأعداد ؛ نحو : عندى خمسة ، فإن كلمة : «خمسة» ـ وهى عدد حسابىّ ـ غامضة ، مبهمة ؛ لا يزول غموضها وإبهامها إلا بلفظ آخر يحدد المراد منها ؛ مثل : أقلام ، أو غيرها مما ورد فى هذا القسم وفى نظائره.

(ه) ننتقل بعد ذلك إلى نوع آخر من الغموض والإبهام يختلف عما سبق ؛ ففى مثل : «ازداد المتعلم» ، لا يقع الغموض على كلمة واحدة كالتى سلفت ، وإنما ينصبّ على الجملة كلها ؛ أى : على معنى جزأيها الأساسيين معا. فقد نسبنا الازدياد للمتعلم. فأى ازدياد هذا الذى نسبناه له ، أهو فى علمه؟ أم فى أدبه ، أم فى ماله؟ أم فى جسمه ، أم فى حسن معاملته ...؟ فالأمر المنسوب للمتعلم غامض مبهم ، وهذا الأمر الغامض ليس منصبّا على كلمة واحدة كما قلنا ؛ وإنما يشمل معنى جملة كاملة ؛ لأن الجملة هى التى تحوى فى طرفيها نسبة شىء (٣) لشىء آخر. فإذا قلنا : ازداد المتعلم أدبا ـ ارتفع الغموض عن النسبة ، واتضح المراد من

__________________

(١) هى الأشياء التى يجرى تقديرها بالقياس ويدخلها العرف الشائع فى المقاييس.

(٢) فى مصر ينقسم الفدان إلى أربعة وعشرين قيراطا. والقيراط أربعة وعشرون سهما.

(٣) فى هامش الصفحة الأولى من صفحات الجزء الثالث ، بيان مستفيض عن معنى : «النسبة» وأنواعها ، وما يتصل بها.


الجملة. ومثل هذا يقال فى المثالين الأخيرين من أمثلة القسم : «ه» وفى غيرهما من كل جملة يقع فيها الغموض على النسبة الناشئة من طرفيها.

ومن كل ما تقدم يتضح ما يأتى :

(ا) أن فى اللغة ألفاظا مبهمة ، غامضة ، تحتاج إلى تبيين وتوضيح.

(ب) وأن هذه الألفاظ قد تكون كلمات منفردة ، كالكلمات المستعملة فى العدد ، أو فى المقادير الثلاثة الشائعة ، ـ وهى : الكيل ، والوزن ، والمساحة (١) ـ وقد تكون جملا كاملة تقع النسبة فى كلّ واحدة منها موقع الغموض والإبهام المحتاج إلى تفسير وإيضاح (٢).

(ح) وإذا تأملنا الكلمات التى أزالت الغموض والإبهام فى الأمثلة السالفة ـ وأشباهها ـ وجدنا كل كلمة منها : نكرة (٣) ، منصوبة ـ فى الأكثر (٤) ـ ، فضلة ، تبين جنس ما قبلها أو نوعه ، أو : توضح النسبة فيه ، فهى ـ كما يقولون ـ بمعنى : «من» (٥) البيانية ـ غالبا ـ والكلمة التى تجتمع فيها هذه الأوصاف تسمى : «التمييز» (٦) ، كما يسمى ما تفسره وتزيل الإبهام عنه : «المميّز» ، أى :

__________________

(١) وكذلك بعض الضمائر (كما سيجىء فى «ح» من الزيادة ص ٣٩٧) ثم انظر المراد من «المقادير» فى رقم ٣ من هامش الصفحة الآتية.

(٢) وقد يكون تمييز النسبة لمجرد التوكيد ؛ كقول أبى طالب عم النبى عليه السّلام :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

(راجع الصبان والخضرى فى باب : «نعم ، وبئس» عند الكلام على اجتماع فاعلهما ، وتمييزهما) وهذا يختلف عما فى رقم ٧ من هامش ص ٤٠٠.

(٣) النكرة هنا : لا بد أن تكون اسما صريحا ، لأن التمييز لا يكون جملة ولا لفظا مؤولا.

(٤) إذا كانت الكلمة التى تزيل الإبهام مجرورة بالإضافة أو بالحرف ـ كما فى بعض الأمثلة المعروضة هنا ـ فإنها لا تسمى فى الاصطلاح «تمييزا» إلا مع التقييد بأنه مجرور ، لأن كلمة : «تمييز» عند إطلاقها بغير تقييد لا تنصرف إلا للنوع المنصوب. أما غيره مما يفيد فائدته فى هذا الباب فلا يسمى تمييزا اصطلاحا وقد يسمى تمييزا ولكن مع تقييده بأنه مجرور ؛ لكيلا ينصرف الذهن إلى النوع المنصوب. والأحسن مراعاة الاصطلاح (كما فى رقم ٢ من هامش ص ٣٩١).

(٥) أى : «من» التى تبين جنس ما قبلها ، أو نوعه ، والمجرور بها هو عين الشىء الذى تبينه. ـ وستجىء معانيها فى ص ٤٧٥ ـ وليس المراد أنه يمكن دائما تقدير «من» قبلها. فإن هذا لا يمكن فى بعض الأساليب.

(٦) ويسمى أحيانا : التبيين ، أو : التفسير ، أو : المفسّر ، أو : المميّز ، أو : المبيّن.


أن التمييز : (نكرة ، منصوبة ـ فى الأغلب ـ فضلة ، بمعنى «من» التى للبيان (١))

أقسام التمييز :

ينقسم التمييز بحسب المميّز إلى قسمين :

أولهما : تمييز المفرد ، أو : الذات (٢) وهو الذى يكون مميّزه لفظا دالّا على العدد ، أو على شىء من المقادير (٣) الثلاثة : (الكيل ـ الوزن ـ المساحة). أى : أنه الذى يزيل إبهام لفظ من ألفاظ الكيل ، أو : الوزن ، أو : المساحة ، أو : العدد (٤). فتمييز المفرد أو الذات أربعة أنواع ـ غالبا ـ (٥).

__________________

(١) غالبا ـ كما سبق ـ. ويقول ابن مالك فى تعريف التمييز ، وبيان عامله ، والتمثيل لبعض أقسامه ما يأتى :

اسم بمعنى : «من» ، مبين ، نكره

ينصب تمييزا بما قد فسّره

كشبر ارضا ، وقفيز برّا ،

ومنوين عسلا وتمرا

يريد بالمبين : أن التمييز يبين إبهام ما قبله ، أى : يوضحه ويزيل غموضه. ثم يقول : إن التمييز منصوب ، وناصبه هو الشىء المبهم الذى جاء التمييز لتفسيره وإيضاحه. ومعنى هذا عنده أن تمييز النسبة منصوب ـ فى رأيه ـ بالجملة التى يوضح النسبة فيها. وسيجىء الرأى فى كل ذلك. (رقم ٢ من ص ٣٩٣ و ٣ من ص ٣٩٥).

«البر» : القمح. «القفيز» إذا كان مكيلا فإنه يختلف باختلاف الأقطار ؛ فهو فى بعضها نحو : ٣ / ٢ / ١٨ قدحا ، وفى بعض آخر نحو : ثمان وأربعين قدحا ـ «منوين» تثنية : «منا» وهو فى بعض الأقطار من مقادير الوزن المقدرة برطلين.

(٢) سمى تمييز مفرد : لأنه يزيل الإبهام عن كلمة واحدة ، أو ما هو بمنزلتها ، ويسمى أيضا : تمييز «ذات» لأن الغالب فى تلك الكلمة التى يزيل إبهامها أن تكون شيئا محسوسا مجسما. فمعنى ذات ؛ أنها جسم. وليس فى هذا النوع من التمييز تحويل ـ كما سيجىء فى الصفحة التالية عند الكلام على تمييز الجملة ـ.

(٣) المقادير هنا : جمع مقدار ، وهو : ما يقدر به غيره. ويشمل كل شىء يستعمل فى تقدير الكيل ، أو الوزن ، أو المساحة ، من غير تقيد بلفظ خاص ، أو بزمن معين. وبهذا يدخل كل لفظ عربى عرف العمل به فى تقدير واحد من الثلاثة المذكورة. ولا يدخل العدد فى المقادير ـ على المشهور ـ لأن العدد فى المعنى هو المعدود ؛ كما فى مثل : هنا خمسة رجال ؛ فالخمسة التى هنا هى الرجال ، والرجال هى الخمسة ، بخلاف المقادير.

(٤) العدد المقصود فى هذا الباب هو العدد الصريح ؛ أى : العدد الحسابى : مثل ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦ ... و... أما العدد المبهم (أى : الكنائى) مثل : «كم» ، ... فله ـ فى الجزء الرابع ـ باب خاص بأحكامه المختلفة ، هو : باب كنايات العدد.

(٥) غالبا ؛ لأن هناك نوعا خامسا ـ كما أشرنا فى رقم ١ من هامش ص ٣٨٨ ـ هو تمييز الضمير «المبهم» ، وسيجىء الكلام عليه فى «ج» من الزيادة ، ص ٣٩٧.


ثانيهما : تمييز الجملة وهو الذى يزيل الغموض والإبهام عن المعنى العام بين طرفيها ، وهو المعنى المنسوب فيها لشىء من الأشياء ، ولذلك يسمى أيضا : «تمييز النسبة» ، وقد سبقت الأمثلة للنوعين.

تقسيم تمييز الجملة بحسب أصله :

ينقسم تمييز الجملة (دون تمييز المفرد) إلى ما أصله فاعل فى الصناعة (١) وإلى ما أصله مفعول به كذلك. ويرى أكثر النحاة أنّ تمييز الجملة لا يخرج ـ فى الغالب ـ عن واحد من هذين ، (ولو تأويلا) (٢) ؛ مثل : زادت البلاد سكانا ـ اختلف الناس طباعا ـ قوى الرجل احتمالا ، ومثل : أعددت الطعام ألوانا ـ وفيت العمال أجورا ـ نسقت الحديقة أزهارا.

فالأصل : زاد سكان البلاد ـ اختلفت طباع الناس ـ قوى احتمال الرجل. فتغير الأسلوب ؛ بتحويل الفاعل تمييزا. وقد كان الفاعل مضافا ؛ فأتينا بالمضاف إليه ، وجعلناه فاعلا ، بعد أن صار الفاعل تمييزا بالصورة السالفة.

والأصل فى الأمثلة الباقية : أعددت ألوان الطعام ـ وفيت أجور العمال ـ نسقت أزهار الحديقة ؛ فتغير الأسلوب ؛ بتحويل المفعول به تمييزا ، وقد كان هذا المفعول مضافا ، فأتينا بالمضاف إليه ، وجعلناه مفعولا به ، بعد أن صار المفعول به السابق تمييزا.

أما تمييز المفرد فلا تحويل فيه مطلقا.

__________________

(١) أى : فاعل لفعل أو ما يشبه الفعل مما يحتاج لفاعل بمقتضى الأصول النحوية وصناعتها. والتقييد بأن الفاعل المعنوى أصله فاعل فى الصناعة تقييد ضرورى ؛ لإبعاد ما هو فاعل فى المعنى دون الصناعة ؛ نحو : لله درّك فارسا ، وأبرحت جارا (أى : أعجبت ؛ يقال : أبرح الرجل ، إذا جاء بالبرج ـ بسكون الراء ـ أى : بالعجب). فإن معناهما : عظمت فارسا ، وعظمت جارا ، ولكنهما غير محولين أصلا عن الفاعل الصناعى ، ولهذا يجوز جرهما بالحرف : «من» ؛ نحو : لله درك من فارس. ونحو : أبرحت من جار ، فى حين التمييز المحول عن الفاعل الصناعى يجب نصبه ، ولا يجوز جره بمن. ـ انظر «ج» من ص ٣٩٧ ـ وكذلك : ما أحسن المهذب رجلا ، فإنه مفعول فى المعنى. لكنه غير محول ؛ لأنه عين ما قبله ، ولهذا يصح جره أيضا بمن. انظر ما يتصل بفعل التعجب فى هامش ص ٣٩٤.

أما نحو : نعم رجالا الزراع ، فقد رأى بعض النحاة فى التمييز أنه محول عن الفاعل الصناعى ؛ فيجب نصبه. ورأى آخرون أنه غير محول فيجوز فيه النصب أو الجر بمن ، والرأى الأول أقوى. (راجع : «ج» من ص ٣٩٧).

(٢) راجع «ا» ، و: «ب» من الزيادة والتفصيل (ص ٣٩٧) حيث الكلام على التأويل ، ونوع من التفضيل.


المسألة ٨٨ :

أحكام التمييز

(ا) يختص تمييز المفرد (أو : الذات) بالأحكام التالية :

١ ـ إن كان تمييزا للكيل ، أو : الوزن ، أو : المساحة ، جاز فيه ثلاثة أشياء ، إما نصبه على أنه التمييز مباشرة ـ وهذا هو الأحسن (١) ـ وإما جره (٢) على أنه مضاف إليه ، والمميّز هو المضاف ، وإما جره بالحرف «من» ، ومن الأمثلة غير ما سبق : (اشتريت كيلة أرزا ـ اشتريت كيلة أرز ـ اشتريت كيلة من أرز). (اشتريت درهما ذهبا ـ اشتريت درهم ذهب ـ اشتريت درهما من ذهب). (بعت محصول فدان قصبا ـ بعت محصول فدان قصب ـ بعت محصول فدان من قصب).

وإنما يجب جر التمييز على اعتباره مضافا إليه بشرط ألا يكون المقدار ـ وهو المميّز ـ قد أضيف لغيره ؛ فإن أضيف المقدار لغير التمييز وجب نصب التمييز ، أو : جره «بمن» ، نحو : ما فى الإناء قدر راحة دقيقا (٣) ، أو :من دقيق.

__________________

(١) لأنه يدل على المقصود نصّا من غير احتمال شىء آخر معه ؛ ففى مثل : «اشتريت رطلا عسلا» ... يدل النصب على أن المتكلم يريد أن الرطل مملوء بالعسل ، ولا يريد الوعاء نفسه ، وفى أمثلة أخرى لأنواع التمييز المفرد يمنع النصب احتمالات معنوية أخرى ؛ كالصنجة الموزون بها ، وكالمكيال الذى يكال به ، وكالمقياس الذى يمسح به (يقاس به).

(٢) ومع جره يسمى : «تمييزا» مجرورا أيضا ؛ فالجر لا يمنع من هذه التسمية المقيدة (انظر رقم ٤ من هامش ص ٣٨٨). والإضافة هنا على معنى : «من» البيانية التى سبق الكلام عليها (فى رقم ٥ من هامش ص ٣٨٨) وهذا هو الشأن فى إضافة المقادير إلى الأشياء المقدرة ، نحو : بعت فدان قصب ، وفى إضافة الأعداد إلى معدوداتها ؛ نحو : خمسة أقلام ، وفى إضافة العدد إلى عدد آخر ، نحو عندى من الكتب أربعمائة ـ (وسيجىء البيان فى ج ٣ م ٩٣ ص ١٨ حيث الأوجه الإعرابية المختلفة فيما سبق).

(٣) فى هذا يقول ابن مالك :

وبعد ذى وشبهها اجرره إذا

أضفتها ؛ كمدّ حنطة ، غذا

يريد : «بذى» ... الأشياء التى سبق أن عرض لها أمثلة فى البيت السابق ؛ (وهى ثلاثة : المساحة ، الكيل ، الوزن) فإن التمييز بعدها مجرور بالإضافة ، أما «شبهها» فهو : كل لفظ عربى جرى العرف على ـ


وإن كان تمييز المفرد خاصّا بالعدد الصريح ، والعدد ثلاثة ، أو عشرة ، أو ما بينهما ... ، وجب جرّ التمييز ؛ بإعرابه مضافا إليه ، والمضاف هو العدد (أى : المميّز) ، والغالب فى هذا التمييز المجرور أن يكون جمع تكسير للقلة.

فإن كان العدد لفظا دالّا على المائة أو المئات ، أو الألف أو الألوف ـ وجب أن يكون التمييز مفردا مجرورا ، لأنه يعرب مضافا إليه ، والمضاف هو العدد (١).

وإن كان العدد غير ما سبق وجب نصب التمييز مباشرة ، وأن يكون مفردا ، وفيما يلى أمثلة لما سبق :

(قرأت فى العطلة ثلاثة كتب ، كل كتاب مائة صفحة ، وعدد السطور ألف سطر).

(قضينا فى الرحلة خمسة أيام ، قطعنا فيها مائة ميل مشيا ، وأنفق كل منا ألف قرش). (الأسبوع سبعة أيام بلياليها ، كل منها أربع وعشرون ساعة ،

__________________

ـ استعماله فى واحد من الثلاثة. و «المد» : يقدر فى بعض الأقاليم بنحو ١٢ / ٧ من القدح ، وفى بعض آخر بنحو : رطل وثلث رطل. «حنطة» : قمح. غذا : غذاء.

ثم قال إن الجر بالإضافة إنما يكون حين إضافة المميّز للتمييز مباشرة. أما إذا أضيف المميز لغير التمييز فيجب نصب التمييز :

والنّصب بعد ما أضيف وجبا

إن كان مثل : «ملء الأرض ذهبا»

وسيذكر بعد بيتين أنه يجوز جر التمييز بالحرف «من» بشرط ألا يكون التمييز للعدد ولا للنسبة. فيقول فى ص ٣٩٤ :

واجرر «بمن» إن شئت غير ذى العدد

والفاعل المعنى ؛ كطب نفسا تفد

«ذى العدد» أى : صاحب العدد ، يريد التمييز الذى للعدد الصريح ؛ فإنه لا يجوز جره بالحرف «من» أما العدد غير الصريح ؛ مثل : «كم» فيجوز جر تمييزه ـ بالتفصيل الوارد فى بابه ، ج ٤ ـ نحو : كم من كتاب عندك ، كما أن التمييز الذى كان أصله فاعلا ، لا يجوز جره بمن ، ومثل له بمثال هو : طب نفسا تفد ، أى : تستفد. وإنما كان أصل التمييز هنا فاعلا لأن أساس الكلام : لتطب نفسك ؛ ثم حول الكلام فصار الفاعل تمييزا. ومثله طاب الورع نفسا ؛ أصله : طابت نفس الورع ؛ ثم حول الكلام على الوجه السالف. (وقد وفينا الكلام على أصل التمييز ، وستجىء الإشارة للبيت السالف لمناسبة أخرى فى ص ٣٩٤).

(١) والإضافة على معنى : «ومن» طبقاً البيان الذي سلف في رقم ٢ من هامش الصفحة السابقة.


والساعة ستون دقيقة). (الستة اثنا عشر شهراً ، الشهر ثلاثون يوماً ـ غالباً ـ السنة ثلاثمائة يوم وأربعة وستون يوماً ، في الغالب) (١) ـ.

٢ ـ وعامل النصب أو الجر بالإضافة فى «التمييز المفرد» ، هو اللفظ المبهم ، أى : المميّز. أما عند الجرّ بالحرف : «من» فإن هذا الحرف يكون هو العامل.

٣ ـ ولا بد من تقدم العامل على التمييز فى جميع الأنواع الخاصة بتمييز الذات (المفرد) (٣).

٤ ـ وإذا تعدد تمييز المفرد فالأحسن العطف بين المتعدد (٤). وإذا كان التمييز مخلوطا من شيئين جاز تعدده بعطف وغير عطف ، نحو : عندى رطل سمنا عسلا ، أو : سمنا وعسلا.

* * *

(ب) يختص تمييز «الجملة» أو : «النسبة» بالأحكام الآتية :

١ ـ يجب نصبه إن كان محوّلا عن الفاعل أو المفعول الصناعيين (٥) ؛ نحو : ارتفع المخلص درجة ، وعلا الأمين منزلة ، ومثل : رتبت الحجرة أثاثا ـ نظمت الكتب صفوفا. والأصل : ارتفعت درجة المخلص ـ علت منزلة الأمين ـ رتبت أثاث الحجرة ـ نظمت صفوف الكتب.

ومن تمييز الجملة الواجب النصب ما يكون واقعا بعد أفعل التفضيل ، نحو : المتعلم أكثر إجادة. وإنما يجب نصبه بشرط أن يكون سببيّا (٦) ؛ أى : فاعلا فى المعنى ، كالمثال المذكور ، وإلا وجب جره بالإضافة. وعلامة التمييز الذى هو فاعل فى المعنى ألّا يكون من جنس المفضّل الذى قبله ، وأن يستقيم المعنى بعد جعله فاعلا مع جعل أفعل التفضيل فعلا (٧) ؛ ففى المثال السابق نقول : المتعلم

__________________

(١ و ١) لتمييز العدد أحكام كثيرة ، ، متشعبة ، وتفصيلات متعددة ـ ولا سيما تقدمه ـ ؛ مكانها : «باب العدد» فى الجز الرابع. (م ٩٤ ص ٣٩٤) وقد اقتصرنا هنا على ما يناسب موضوعنا.

(٢) والذى بعد العاطف لا يسمى تمييزا ـ وإنما يعرب معطوفا ، برغم أنه يؤدى معنى التمييز. ـ كما سيجىء فى رقم ٤ من هامش ص ٣٩٥ ـ

(٣) انظر رقم (١) من هامش ص ٣٩٠. و «ب» من ص ٣٩٧.

(٤) معناه الأصيل فى هامش ص ٣٩٧.

(٥) لهذا إيضاح يجىء فى «ب» من الزيادة والتفصيل ص ٣٩٧ ، وبيان مفيد آخر فى باب أفعل التفضيل ـ ج ٣ م ١١٢ ص ٣٣٨ ـ


كثرت إجادته وفى مثل : أنت أحسن خلقا ، نقول : أنت حسن خلقك ... وهكذا. ومثال التمييز الذى ليس بفاعل فى المعنى : علىّ أفضل جندىّ ، وميّة أفضل شاعرة. وضابط هذا النوع أن يكون أفعل التفضيل بعضا من جنس التمييز ؛ فيصح أن يوضع مكان أفعل التفضيل كلمة : «بعض» مضافة ، والمضاف إليه جمع يقوم مقام التمييز ويحل فى مكانه ؛ فلا يفسد المعنى ، ففى المثال السابق نقول : علىّ بعض الجنود ، وميّة بعض الشاعرات. وإذا لم يصح أن يكون فاعلا فى المعنى وجب جره بالإضافة ـ كما قلنا ـ ، لوجوب إضافة أفعل التفضيل إلى ما هو بعضه (١) (متابعة للرأى الأشهر).

وإنما يجب الجر بالإضافة بشرط أن يكون أفعل التفضيل غير مضاف لشىء آخر غير التمييز. فإن كان مضافا وجب نصب التمييز ؛ نحو : علىّ أفضل الناس إخوة ـ وميّة أفضل النساء أشعارا.

ومما تقدم نعلم أن تمييز أفعل التفضيل يجب نصبه فى حالتين وجره فى واحدة. ومن تمييز الجملة الذى يجب نصبه ، ولا تصح إضافته (٢) : ما يقع بعد التعجب القياسىّ ، أو السماعى (٣) ؛ فالأول ، نحو : ما أحسن الغنىّ مشاركة فى الخير ـ أحسن بالغنىّ مشاركة فى الخير ـ والثانى نحو : لله در العالم مخترعا (٤) ـ حسبك به

__________________

(١) كما سيجىء فى بابه بالجزء الثالث م ١١٢ ص ٣٣٨. وفى هذه الصورة يقول ابن مالك :

والفاعل المعنى انصبن بأفعلا

مفضّلا ؛ كأنت أعلى منزلا

(٢) فيمتنع جره بالإضافة حتما ، دون جره بمن فى بعض الصور ـ كما سيجىء فى رقم ٤ من هذا الهامش.

(٣) القياسى يكون بإحدى الصيغتين المخصصتين له ، وهما : ما أفعله ، وأفعل به. (وسيجىء الكلام المفصل عليهما فى مكانه من الجزء الثالث باب : «التعجب»). أما التعجب بغيرهما فمقصور على السماع ، ويقال له : التعجب العرضى. وفى هذه الصورة يقول ابن مالك :

وبعد كلّ ما اقتضى تعجّبا

ميّز ، كأكرم بأبى بكر أبا

وذكر بعد هذا البيت بيتا سبق أن نقلناه وشرحناه بمناسبة أخرى فى ص ٣٩٢ ؛ هو :

واجرر بمن إن شئت غير ذى العدد

والفاعل المعنى ؛ كطب نفسا تفد

(٤) يجوز فيه وفيما بعده جره بمن بملاحظة ما سبق فى رقم ١ من هامش ص ٣٩٠ وما سيجىء فى «ح» من الزيادة ص ٣٩٧ ـ والدر : اللبن ، أى : أن اللبن الذى ارتضعه هذا الرجل ونشأ عليه ، لبن غير معتاد ولا مألوف ، إنما هو لبن موضع العجب ، إذ أنشأ هذا الرجل الذى لا مثيل له ؛ فهو لبن خاص من عند منشىء العجائب. ومبدعها الأول وهو : الله. (راجع رقم ٢ من هامش ص ٢١ و ٣١ ح من ص ٣٩٧ من هذا الجزء ، ثم الجزء الأول ص ٤٥٨ م ٣٨. من الطبعة الثالثة).


رجلا ـ كفى به نافعا ـ يا جارتا ما أنت جارة (١) حسبك بالصادق رجلا ، وقول الشاعر :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة (٢)

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ (٣)

٢ ـ لا يجوز تعدده بغير عطف ؛ نحو : نما الغلام جسما وعقلا (٤) ...

٣ ـ عامل النصب فى هذا التمييز هو ما فى الجملة من فعل ، أو : شبهه (٥).

٤ ـ لا يجوز تقديم هذا التمييز على عامله إذا كان جامدا. كأفعل فى التعجب ؛ وكنعم وبئس (٦) ـ وأخواتهما ـ من أفعال المدح والذم ، نحو : ما أنفع الطبيب إنسانا ، ونعم المغيث رفيقا ، وبئس القاسى رجلا ، أو كان فعلا متصرفا يؤدى معنى الجامد ؛ نحو : كفى بالطبيب إنسانا ، فإن الفعل : «كفى» متصرف ولكنه بمعنى فعل غير متصرف ، وهو فعل التعجب ، فمعنى قولنا : كفى بالطبيب إنسانا : ما أكفاه إنسانا : أما فى غير هاتين الصورتين الممنوعتين فالأحسن عدم تقديم التمييز (٧). وأما توسط هذا التمييز بين العامل ومعموله فجائز بشرط أن يكون

__________________

(١) «يا جارتا» : أصلها : يا جارتى ، منادى منصوب ، لأنه مضاف لياء المتكلم ، المنقلبة ألفا. وهذا الأسلوب تتعدد فيه الصور الإعرابية بتعدد المعانى ، فقد تكون «ما» حرف نفى خرج عن معناه للتعجب ، والجملة بعدها اسمية ؛ (مبتدأ وخبر) خالية من التمييز ، ويكون المعنى : لست جارة ، وإنما أنت شىء أكثر منها ؛ فأنت أم ، أو أخت ، أو إحدى القريبات الحميمات ، أى : بمنزلة واحدة من هؤلاء ؛ إعلانا للتعجب من عملها الذى لا يصدر من جارة ، وإنما يصدر من واحدة ممن سبقن. وقد تكون «ما» استفهامية ، خبرا مقدما ، و «الضمير» مبتدأ مؤخر ، و «جارة» : تمييز ، والجملة تفيد التعجب بسبب أداة الاستفهام الدالة على الاستعظام ؛ فقد خرج عن معناه الحقيقى إلى التعجب. ويصح فى هذه الصورة أيضا أن تكون : «جارة» حال مؤولة ، بمعنى : ملاصقة ... ويصح أن تكون «ما» نافية ، والجملة بعدها منفية ، أى : أنت لست أهلا أن تكونى جارة ... و...

(٢) شدة امتلاء المعدة بالطعام.

(٣) القطعة من الجلد الجاف غير المدبوغ.

(٤) وما بعد العاطف يعرب معطوفا ولا يسمى فى الاصطلاح تمييزا ؛ مع أنه يؤدى معنى التمييز ـ كما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٣٩٣ ـ.

(٥) وهذا عند غير ابن مالك ، وقد سجلنا رأيه فى رقم ١ من هامش ص ٣٨٩.

(٦) انظر رقم ١ من هامش ص ٣٠١ م ١١٠ ج ٣ ـ باب «نعم وبئس» ـ ففيه أحكام خاصة بتمييزهما ، ومنها : أنه لا يصح تأخيره عن المخصوص بالمدح أو الذم.

(٧) فى حكم تقديم التمييز وعدم تقديمه يقول ابن مالك :

وعامل التّمييز قدّم مطلقا

والفعل ذو التّصريف نزرا سبقا ـ


العامل فعلا أو وصفا يشبهه ؛ نحو : صفا نفسا الورع ، وقول المتنبى :

فهنّ أسلن ـ دما ـ مقلتى

وعذّبن قلبى بطول الصدود

__________________

ـ يريد : أن عامل التمييز يجب تقديمه ؛ سواء أكان التمييز تمييز مفرد أم تمييز نسبة. ثم بين أن التمييز إن كان عامله فعلا متصرفا ـ وهذا لا يكون إلا فى تمييز الجملة ـ فقد يتأخر هذا العامل ويتقدم بالتمييز عليه فى حالات نادرة. والأحسن عدم القياس هنا.


زيادة وتفصيل :

(ا) تمييز النسبة قد يكون غير محوّل إلا بتأويل لا داعى له ، نحو : امتلأ الإناء ماء ؛ إذ لا يقال امتلأ الماء.

(ب) عرفنا (١) أن التمييز الواجب النصب بعد «أفعل التفضيل» هو السببىّ (٢) ، وأنه نوع من تمييز الجملة ؛ إذ أصله : «فاعل» ، وأصل «أفعل» هو : الفعل ، ومن الممكن إرجاعهما إلى أصلهما ؛ فتعود الجملة الفعلية للظهور ، وترجع لأصلها الذى تركته ، وتحولت عنه إلى أسلوب آخر ...

لكن كيف يتحقق هذا؟ ففى مثل : أنت أكثر مالا ، وأعلى منزلا ، ـ ونظائرهما ـ لا يمكن تحويل أفعل إلى فعل يؤدى المعنى الأصلى الأساسى لصيغة التفضيل (وهو الكثرة ، والعلوّ ـ مثلا.) مزيدا عليه الدلالة على التفضيل.

يرى بعض النحاة فى هذا النوع التفضيلىّ أنه محول عن مبتدأ مضاف ، والأصل ، مالك أكثر ؛ ومنزلك أعلى ... فصار المبتدأ تمييزا ، وصار الضمير المتصل المضاف إليه مبتدأ مرفوعا منفصلا. وفى هذه الحالة وأمثالها يجىء التمييز محولا عن المبتدأ ، ويرى آخرون ؛ أن المراد معروف من السياق ، وهو : أنه كثر كثرة زائدة ، وملأ علوّا زائدا ، فلا يفوت التفضيل بتحويله عن الفاعل ، أو : أن فوات معنى التفضيل غير ضار ؛ إذ لا يجب بقاؤه فى الفعل الموضوع مكان أفعل التفضيل فى هذا الباب ، قياسا على عدم بقائه فى بعض أبواب أخرى.

وكلا الرأيين حسن. ولعل الرأى الثانى ـ بوجهتيه ـ أحسن ؛ لأن فيه تخفيفا من غير ضرر ، وتقليلا للأقسام بحصرها فى الفاعل والمفعول به.

(ح) من الأساليب المسموعة فى التمييز : لله در خالد فارسا (٣). فكلمة :

__________________

(١) فى ص ٣٩٣.

(٢) هو المتصف فى المعنى بالشىء الجارى فى اللفظ على غير ذلك المتصف به ؛ فإن المنزل ـ فى مثل : أنت أعلى منزلا ـ هو المتصف فى المعنى بالعلو ، مع أن العلو جار فى اللفظ على المخاطب.

(٣) سبق شرحها وبيان حكمها فى رقم ١ من هامش ص ٣٩٠ ولها شرح مع غيرها فى رقم ٤ من هامش ص ٣٩٤. وكذا فى رقم ٢ من هامش ص ١٨ ـ وكذا فى ص ٤٥٨ ج ١ م ٣٨ من الطبعة الثالثة.


«فارسا» وأشباهها (مما يحل محلها فى هذا التركيب ويكون مشتقّا) يصح إعرابها حالا ؛ لاشتقاقها ، ولأن المعنى يتحمل الحالية ، ويصح إعرابها تمييزا للنسبة ؛ والمعنى على هذا التمييز أوضح ، وبه أكمل. وإنما يكون التمييز فى مثل : «لله در خالد فارسا» من تمييز النسبة إذا كان المتعجب منه (وهو المميّز) ، اسما ظاهرا مذكورا فى الكلام كهذا المثال ، أو كان ضميرا مرجعه معلوم ؛ نحو : سجل التاريخ أبدع صور البطولة لخالد بن الوليد ؛ لله درّه بطلا. أو : يا له رجلا ، أو : حسبك به فارسا ... فالضمير هنا معروف المرجع : فإن جهل المرجع وجب اعتبار التمييز من تمييز المفرد (١) ، لأن الضمير مبهم ، فافتقاره إلى التمييز ليكون مرجعا يبين ذات صاحبه ؛ ويوضح حقيقته ـ أشد من افتقاره إلى بيان نسبة التعجب إليه (أى : إلى صاحب الضمير). أما الضمير المعلوم فبالعكس كما ذكرنا (٢). ومثل هذا يقال فى الضمير المتصل بالصيغتين القياسيتين فى التعجب ، وهما «ما أفعله وأفعل به».

أما تمييز الضمير المستتر فى : «نعم» و «بئس» فى مثل : الفارس نعم رجلا ـ الجبان بئس جنديّا ـ فالأحسن اعتباره من تمييز المفرد ، برغم أن مرجعه مذكور دائما : وهو : التمييز. ومثله : ربّه رجلا ، أما تمييز : «كم» فى مثل : كم رجلا شاركتهم ؛ فإنه مفرد من نوع تمييز العدد ، لأن «كم» كناية عنه.

(د) تجب مطابقة تمييز الجملة للاسم السابق فى مواضع ، ويجب ترك المطابقة فى أخرى. وقد تترجح المطابقة أو عدمها فى ثالثة. وفيما يلى البيان :

فتجب المطابقة :

١ ـ إن كان كل من التمييز والاسم السابق عليه فى الجملة لشىء واحد ، أى : أن مدلول كل منهما هو مدلول الآخر ؛ نحو : كرم علىّ رجلا ، (فالرجل هو :

__________________

(١) كأن ينظر شخص قائدين. أحدهما راكب ، والآخر راجل ، ثم يقول عن غير إعلان ولا تصريح باسم أحدهما : لله دره فارسا. أو : يقرأ نصين ؛ أحدهما نثر ، والآخر شعر ، وهما لأديب واحد ، ثم يقتصر على أن يقول : لله دره شاعرا.

(٢) هذا النوع هو الذى أشرنا إليه فى رقم ٥ من هامش ص ٣٨٩.


علىّ ، وعلىّ هو : الرجل). وكرم العليان رجلين ، وكرم العليون رجالا ، وكرمت عبلة فتاة ، وكرمت العبلتان فتاتين ، وكرمت العبلات فتيات ... و...

٢ ـ إن كان مدلول التمييز غير مدلول الاسم السابق ، ولكن هذا الاسم السابق جمع ، والتمييز مصدر فإنه يجمع إذا اختلفت أنواعه باختلاف الأفراد التى يدل عليها الاسم السابق ، وتنطبق عليها تلك الأنواع ، وتنصبّ عليها ، نحو : خسر الأشقياء أعمالا ، فقد جمع التمييز «أعمالا» بقصد معيّن : هو بيان أن هذه الأعمال مختلفة الأنواع ، وأن كل نوع منها يصيب شقيّا ، وهو فرد من أفراد الاسم السابق المجموع : (الأشقياء).

٣ ـ إن كان التمييز غير الاسم السابق ، ولكن الاسم السابق جمع ، والتمييز جمع متعدد ، غير مصدر ، فيجمع لإزالة لبس محتمل ؛ نحو : كرم الأولاد آباء ، فقد جمع التمييز: «آباء» ليدل جمعه على أن لكل ولد أبا ، وليسوا إخوة. ولو لم نجمعه وقلنا : كرم الأولاد أبا ، لقوى احتمال أنهم إخوة من أب واحد.

ويجب ترك المطابقة :

١ ـ إن كان معنى التمييز واحدا ليس له أفراد متعددة ومعنى الاسم السابق متعددا ؛ نحو : كرم الأولاد أبا (إذا كانوا إخوة لأب).

٢ ـ أو كان التمييز غير الاسم السابق ، ولكن الاسم السابق مفرد ، والتمييز جمع متعدد غير مصدر ، وقصد بجمعه إزالة لبس محتمل ؛ نحو : نظف المتعلم أثوابا ، وكرم الشريف آباء ، فلو طابق التمييز الاسم السابق لوقع فى الوهم أن المقصود ثوب واحد ، وأب واحد. ولإزالة هذا الاحتمال جمع التمييز.

٣ ـ أو كان التمييز مصدرا لا يقصد أن تختلف أنواعه ، نحو : أحسن الجنود عملا.

وتترجح المطابقة فى مثل ؛ حسنت الفتاة عينا ؛ لأن احتمال اللبس يكاد يكون معدوما ؛ إذ لا يكاد يخطر على البال أن الحسن مقصور على عين ، واحدة. ويترجح تركها فى : حسن الفتيان ، أو الفتية وجها ، للسبب السالف.


(ه) يتفق الحال والتمييز فى أمور ، ويفترقان فى أخرى. وأهم ما يتفقان فيه خمسة أمور :

كلاهما : اسم ، نكرة ، منصوب ، فضلة ، رافع للإبهام.

وأهم ما يختلفان فيه سبعة :

١ ـ التمييز لا يكون إلا مفردا (١) ، أما الحال فقد تكون جملة ، أو شبه جملة.

٢ ـ التمييز لا يكون إلا فضلة ، أما الحال فقد يتوقف عليها المعنى الأساسى ـ كما سبق فى بابها (٢) ـ.

٣ ـ التمييز مبين للذوات أو للنسبة ، والحال لا تكون إلا مبينة للهيئات.

٤ ـ تمييز الجملة لا يتعدد إلا بالعطف ؛ نحو : ارتفع النبيل خلقا ، وعلما ، وجاها. والأحسن فى التمييز المتعدد للمفرد أن يكون تعدده بالعطف.

إلا إن كان المراد من التمييز المتعدد المفرد معنى واحدا ، مثل عندى رطل عسلا سمنا ؛ فيجوز التعدد مع العطف ، وبدونه (٣) ـ أما الحال فتتعدّد بعطف وبغير عطف ؛ نحو أقبل المنتصر ، فرحا ، مسرعا ، مصافحا رفاقه ، أو فرحا ومسرعا ، ومصافحا ... ـ وعند وجود العاطف لا تسمى فى الاصطلاح «حالا» وإنما تعرب معطوفا ، برغم أنها تؤدى معنى الحال (٤) ، وكذلك التمييز ـ.

٥ ـ لا يصح تقديم تمييز المفرد على عامله. والأحسن عدم تقديم تمييز الجملة على عامله ، إذا كان فعلا مشتقّا ، أو وصفا يشبهه. أما الحال فيجوز.

٦ ـ التمييز فى الغالب يكون جامدا ، أما الحال فتكون مشتقة وجامدة.

٧ ـ التمييز لا يكون مؤكدا لعامله ـ فى الصحيح (٥) ـ والحال قد تكون مؤكّدة.

__________________

(١) ليس جملة ، ولا شبهها.

(٢) فى ص ٣٣٩ ، وفى رقم ٣ من ص ٣٨٠.

(٣) سبق فى ص ٣٣٩.

(٤) راجع ما يختص بهذا فى ص ٣٦٠ من باب الحال. حيث التفصيل.

(٥) يلاحظ الفرق الكبير بين هذا الحكم والذى سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٣٨٨.


المسألة ٨٩ :

حروف الجر (١)

يتناول الكلام عليها الأمور الآتية : (وأكثرها دقيق هامّ)

(عددها ، وبيانها) ـ (عملها) ـ (تقسيمها من ناحية هذا العمل ، والأصالة فيه ، أو عدمها ؛ وما يترتب على ذلك من التعلق بالعامل ، وآثار التعلق ...) ـ (معانى كل حرف ، ووجوه استعماله) ـ (حذف حرف الجر وحده مع إبقاء عمله ، وحذفه مع مجروره) ـ (نيابة حرف جر عن آخر).

(ا) فأما عددها وبيانها فالمشهور منها عشرون (٢) ؛ هى : من ـ إلى ـ حتى ـ خلا ـ عدا ـ حاشا ـ فى ـ عن ـ على ـ مذ ـ منذ ـ ربّ ـ اللام ـ كى ـ الواو ـ التاء ـ الكاف ـ الباء ـ لعل ـ متى ـ.

(ب) وأما عملها فهو جرّ آخر الاسم (٣) الذى يليها مباشرة فى

__________________

(١) يسميها بعض القدماء : «حروف الإضافة». (لما يأتى فى رقم ٣ من هامش ص ٤٠٦) وقد يطلقون عليها أحيانا. «الظرف» لأن «الظرف» يشمل «شبه الجملة» بنوعيه المعروفين وهما : الظرف والجار مع مجروره. (انظر رقم ١ من هامش ص ٢٣٠ حيث بيان المراجع) وقد يطلق على كل واحد منهما : «شبه الوصف» للسبب المبين فى رقم ٤ من هامش ص ٣٤٧.

(٢) لم ندخل فى عدادها الحرف : «لو لا» الداخل على ضمير غير مرفوع (عند من يقول بأنه حرف جر شبيه بالزائد ـ كما سيجىء فى ص ٤١٧ ـ ، فما بعده مجرور لفظا مرفوع محلا ، على أنه مبتدأ) لأن فى هذا تعقيدا.

(٣) ليست حروف الجر وحدها هى السبب أو العامل فى جر الاسم ؛ فأسباب جره أو عوامله الأصيلة ثلاثة.

«أولها» : حروف الجر ؛ فكل حرف منها لا بد له من اسم يجره على الوجه المبين فى هذا الباب.

«ثانيها» : أن يكون الاسم مضافا إليه. «ثالثها» : أن يكون تابعا لمتبوع مجرور ؛ فالنعت.

والعطف ، والتوكيد ، والبدل ـ مجرورة حتما إذا كان المتبوع مجرورا.

بقى سببان آخران للجر ؛ «أحدهما» : الجر على «التوهم» ، ومن صواب الرأى إهماله ، وعدم الاعتداد به (كما قلنا فى ص ٣٢٣ وفى ج ١ ص ٤٤١ م ٤٩ بعد أن أوضحناه وتناولناه بالبيان فى الموضعين وفى ج ٣ م ٩٣ ص ٨). والآخر الجر على : «المجاورة» والواجب التشدد فى إغفاله ، وعدم الأخذ به مطلقا (كما أشرنا فى الموضع السابق) ، أما الداعى لاتخاذه سببا للجر عند القائلين به فورود أمثلة قليلة ـ وبعضها خطأ ، أو ـ


الاختيار (١) جرّا محتوما (٢) ؛ ظاهرا ، أو مقدرا ، أو محليّا (٣). فالظاهر كالذى فى قول الشاعر :

إنى نظرت إلى الشعوب فلم أجد

كالجهل داء للشعوب ، مبيدا

__________________

ـ مشكوك فى صحة نقله عن العرب ـ قد اشتملت على جر الاسم من غير سبب ظاهر لجره ، إلا مجاورته لاسم مجرور قبله مباشرة ؛ منها : هذا جحر ضب خرب ؛ بجر كلمة : «خرب» مع أنها صفة لكلمة : «جحر» ولا تصلح صفة لكلمة : «ضب» ؛ لأن الضّب لا يوصف بأنه خرب.

ومنها قول الشاعر : «يا صاح بلغ ذوى الزوجات كلّهم ...» ؛ بجر كلمة : «كل» مع أنها توكيد لكلمة : «ذوى» المنصوبة ؛ إذ لو كانت توكيدا لكلمة : «الزوجات» لقال : كلهن. ـ وقد تأول النحاة المثال الأول بأن أصله : هذا جحر ضبّ خرب الجحر منه ، أو خرب جحره ، ثم حذف ما حذف ؛ وبقى ما بقى. واشتد الجدل فى نوع المحذوف وصحته وعدم صحته ، على الوجه المبين فى المطولات (ومنها الهمع ج ٢ ص ٥٥).

وقالوا فى المثال الثانى ؛ إنه خطأ أو ضرورة.

واتفق كثير من الأئمة على أن الجر بالمجاورة ضعيف ، أو ضعيف جدا. وعلى هذا لا يصح القياس عليه وإنما يقتصر على الوارد فيه ، المسموع عن العرب ، ـ كما جاء فى خزانة الأدب للبغدادى ج ٢ ص ٣٢٤ ـ بل جاء فى كتاب : «مجمع البيان ، لعلوم القرآن» (ج ٣ ص ٣٣٥) ما نصه : (إن المحققين من النحويين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزا فى كلام العرب) اه.

(وقد أعدنا ما سبق ـ لأهميته ـ فى أول الجزء الثالث ص ٨).

(١) مباشرة : أى : بغير أن يفصل بينهما فاصل فى الاختيار ، لكن يجوز الفصل ـ أحيانا ـ ب «كان» الزائدة التى سبق الكلام عليها فى باب «كان» ج ١ م ٤٤.

أما فى حالة الضرورة الشعرية فقد يجوز ـ مع القبح ـ الفصل بينهما بالظرف ، أو بالجار مع مجروره ، أو بالمفعول به ، كقول الشاعر :

إن عمرا لا خير فى ـ اليوم ـ عمرو

إنّ عمرا مكثّر الأحزان

وقول الآخر :

وإنى لأطوى الكشح من دون ما انطوى

وأقطع بالخرق الهبوع المراجم

والأصل : وأقطع بالهبوع المراجم الخرق ، (الهبوع : الجمل الذى يمشى مشية حمار الوحش.

والمراجم : الذى يرجم الأرض بأخفافه. ـ ويروى : المزاحم بالزاى ـ والخرق : المكان الواسع الذى تصفر فيه الريح).

(٢) ولا يجوز إلغاء عمله الجر.

(٣) الجر المحلى فرع من الإعراب المحلى المختص بالكلمات المبنية ؛ كالضمائر ، وكأكثر أسماء الإشارة والموصول ... فيكون لفظ الكلمة مبنيا ؛ لكنه فى محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، على حسب ما يقتضيه العامل. ويختص كذلك بالجمل المحكية ، وغيرها من الجمل الأخرى التى لها موقع إعرابى ؛ ـ


والمقدّر كالذى فى قولهم : ما من فتى يستجيب لدواعى الغضب إلا كانت استجابته بلاء وخسرانا.

والمحلى كالذى فى قولهم : لا أتألم ممن يسعى بالوقيعة بين الناس قدر تألمى من الذين يعرفونه ، وهم ـ إلى ذلك ـ يستجيبون لما يقول ...

(ح) وتنقسم هذه الحروف من ناحية الاسم الذى تجرّه إلى قسمين ، قسم لا يجر إلا الأسماء الظاهرة ، وهو : عشرة.

مذ ـ منذ ـ حتى ـ الكاف ـ الواو ـ ربّ (١) ـ التاء ـ كى ـ لعلّ ـ متى.

وقسم يجر الأسماء الظاهرة والمضمرة ؛ وهو : العشرة الأخرى (٢). وسيأتى الكلام (٣) على معنى كل حرف من القسمين ، وعمله.

وتنقسم من ناحية الأصالة وعدمها إلى ثلاثة أقسام ، حروف أصلية ـ وما قد

__________________

ـ كجملة النعت ، أو الحال ... كما يكون فى المصادر المنسبكة ، وفى آخر الكلمة المجرورة بحرف جر زائد ، أو شبيه بالزائد ـ كما سيأتى فى هذا الباب ـ

وما سبق مبنى على الرأى القائل : إن الإعراب المحلى نوع يختلف عن الإعراب التقديرى (وقد عرض لهما الصبان فى الجزء الثانى من حاشيته ، أول باب الفاعل ، عند الكلام على حكمه : «الرفع» وأوضحنا هذا مفصلا فى المكان المناسب من الجزء الأول ؛ باب المعرب والمبنى ... ص ٥٤ م ٦ وص ١٣٢ م ١٧ و ٢٢٠ م ٢٣.)

(١) ومن القليل الذى لا يقاس عليه جره الضمير ـ وسيجىء البيان فى ص ٤٨٣.

(٢) فى بيان حروف الجر ، والمختص منها بالظاهر دون غيره ، يقول ابن مالك :

هاك حروف الجرّ ، وهى : من ، إلى

حتى ، خلا ، حاشا ، عدا ، فى ، عن ، على

مذ ، منذ ، ربّ ، اللّام ، كى ، واو ، وتا

والكاف ، والبا ، ولعلّ ، ومتى

بالظّاهر اخصص منذ ، مذ ، وحتّى

والكاف ، والواو ، وربّ ، والتّا

وقد اقتصر على سبعة أحرف تجر الظاهر ، وترك ثلاثة ؛ هى : كى ، لعل ، متى. ويقول أيضا :

واخصص بمذ ، ومنذ وقتا ، وبرب

منكّرا. والتّاء لله ، ورب

وما رووا من نحو : ربّه فتى

نزر ، كذا كها ، ونحوه أتى

أى : أن الكاف قد تجر المضمر شذوذا.

(٣) فى ص ٤٢٢.


يشبهها (١) ويلحق بها أحيانا ـ وحروف زائدة (٢) ، وحروف شبيهة بالزائدة.

* * *

القسم الأول : الحرف الأصلى ـ وشبهه (٣) ، وهو الذى يؤدى معنى فرعيّا جديدا فى الجملة ، ويوصّل بين العامل والاسم المجرور (٤) ؛ فله مهمتان يؤديهما معا. وفيما يلى إيضاحهما :

(ا) فأما من ناحية إفادته معنى فرعيّا جديدا لا يوجد إلا بوجوده فيتجلى فى مثل : «حضر المسافر» ؛ فإن هذه الجملة تبعث فى النفس عدة أسئلة ، قد يكون منها : أحضر المسافر من القرية أم من المدينة؟ أحضر من بلد أجنبى ، أم غير أجنبى؟ أحضر فى سيارة ، أم فى طيارة ، أم فى باخرة ، أم فى قطار؟ أحضر إلى بيته ، أم إلى مقر عمله؟ ... و... و.. ففى الجملة نقص معنوى فرعىّ فإذا قلنا : «حضر المسافر من القرية» وأتينا بحرف الجر الأصلى «من» ، وبعده مجروره ـ فإن بعض النقص يزول ، ويحل محله معنى فرعىّ جديد ، بسبب وجود «من» ، فإنها بينت أن ابتداء المجىء هو : «القرية». ولم يوجد هذا المعنى إلا بوجود «من» ؛ فهى لبيان : «الابتداء» ، وقد ظهر هذا المعنى الفرعى الجديد على المجرور بها.

وإذا قلنا : حضر المسافر من القرية إلى مقر عمله ، فإنّ نقصا آخر معنويّا يزول ، ويحل محله معنى فرعىّ جديد ، هو : «الانتهاء» ؛ بسبب وجود «إلى» ، فقد دلت على أن نهاية السفر هى مقر العمل ، ولو لا وجود : «إلى» ما فهم هذا المعنى الفرعىّ الجديد ، فهى لبيان الانتهاء ، وقد ظهر على المجرور بها (٥).

ولو قلنا : حضر المسافر من القرية إلى مقر عمله فى سيارة ـ لزال نقص معنوى آخر ، وحل محله معنى فرعىّ جديد ؛ هو : «الظرفية» بسبب وجود حرف الجر الأصلىّ «فى» الذى يدل على أن المسافر كان خلال حضوره ـ فى سيارة تحويه

__________________

(١) انظر رقم ١ من هامش الصفحة الآتية.

(٢) فى الجزء الأول (م ٥ ص ٦٢ و ٦٥) بيان مفيد عن المراد من اللفظ الزائد ، سواء أكان حرفا أم غير حرف.

(١) انظر رقم ١ من هامش الصفحة الآتية.

(٣) إلا الحرف : «على» إذا كان معناه الإضراب ؛ فإنه لا يتعلق بعامل ؛ كما سيجىء فى ص ٣٩١.

(٤) طبقا للبيان الخاص بمعنى الحرف ، والغرض منه. (وقد تقدم فى ج ١ م ٥ ص ٦٢).


كما يحوى الظرف المظروف ، أى : كما يحوى الوعاء الشىء الذى يوضع فيه وهكذا بقية حروف الجر الأصلية كلها ـ وكذا الشبيهة بالأصلية (١) ـ ؛ فإن كلّا منها لا بد أن يحمل معه للجملة معنى فرعيّا جديدا من المعانى (٢) التى يختص بتأديتها ، ولا يتكشف هذا المعنى الجديد إلا بعد وضع الحرف مع مجروره فى الجملة. وعندئذ يتكشف ويتحقق مدلوله على الاسم المجرور به ـ كما سبق (٣) ـ.

أما وجود الحرف وحده أو مع مجروره بغير وضعهما فى جملة ، فلا يفيد شيئا.

هذا من ناحية إفادته معنى فرعيّا جديدا لم يكن له وجود قبل مجيئه.

(ب) وأما من ناحية وصله بين عامله والاسم المجرور ـ وهو ما يسمى : «التعلق بالعامل» ـ فالنحاة يقولون : إن الداعى القوى لاستخدام حرف الجر الأصلى مع مجروره ، هو الاستفادة بما يجلبه من معنى جديد ـ وهذا المعنى الجديد ليس مستقلا بنفسه ، وإنما هو تكملة فرعية لمعنى فعل أو شبهه. ويوضحون هذا بما يشبه الكلام السابق. ففى مثل : حضر المسافر من القرية ـ نجد الجار مع مجروره قد أكملا بعض النقص البادى فى معنى الفعل : «حضر» ؛ فلولاهما لتواردت علينا الأسئلة السالفة ، لكن بمجيئهما انحسم الأمر. فلهذا يقال : الجار والمجرور متعلق بالفعل : «حضر» ، أى : مستمسك ومرتبط به ارتباطا معنويّا كما يرتبط الجزء بكله ، أو الفرع بأصله ؛ لأن المجرور يكمل معنى هذا

__________________

(١) حرف الجر الشبيه بالأصل هو : «لام الجر الزائدة» زيادة غير محضة ؛ لأنها تجىء لتقوية عاملها الضعيف ، ومن الممكن الاستغناء عنها : فإذا لوحظ أنها تفيد عاملها «التقوية» كان هذا معنى جديدا جلبته معها ، وأفادته عاملها ؛ فيجب تعلقها مع مجرورها به. وإن لوحظ أنه يجوز حذفها فلا تتأثر الجملة بحذفها كانت زائدة زيادة غير محضة ، لأن الحرف الزائد زيادة محضة لا يفيد شيئا إلا توكيد معنى الجملة كلها ، لا بعضها ـ وسيجىء البيان عند الكلام على لام الجر الزائدة المحضة التى للتقوية ص ٤٣٩ ـ.

(٢) لكل حرف من حروف الجر الأصلية أو الشبيهة بالأصلية ، عدة معان ، ولكل معنى مقام يناسبه ، وسياق يقتضيه. (وسيجىء فى ص ٤٢٢ تفصيل هذا).

(٣) وقد أسهبنا القول فى إيضاح معنى الحرف مطلقا ، وأن معناه لا يعرف من لفظه فقط ؛ وإنما يعرف بعد وضعه فى جملة. وأن هذا المعنى يظهر على ما بعده ... و... كل هذا فى ج ١ ص ٦٢ م ٥.


الفعل ، بشرط أن يوصله به حرف الجر الأصلى ـ ، أو ما ألحق به ـ. والنحاة يسمون هذا الفعل (١) «عاملا». ويقولون أيضا :

إن حرف الجر الأصلى (٢) ـ وما ألحق به ـ بمثابة قنطرة توصل المعنى بين العامل والاسم المجرور ، أو بمثابة رابطة تربط بينهما ؛ ولا يستطيع العامل أن يوصل أثره إلى ذلك الاسم إلا بمعونة حرف الجر الأصلى ـ وما ألحق به ـ ؛ فهو وسيط ، أو وسيلة للاتصال بينهما (٣) ومن أجل هذا كان حرف الجر الأصلى ـ وملحقه ـ مؤديا معنى فرعيّا وهو فى الوقت نفسه أداة من أدوات تعدية الفعل اللازم لمفعول به معنى (أى : حكما). مثال آخر : قعد الرجل ... ، أقعد فى البيت ، أم فى السفينة ، أم فى الحقل ...؟ فمعنى الفعل : «قعد» فى حاجة إلى تكملة فرعية تدعو للإتيان بالجار الأصلى مع مجروره ؛ فإذا قلنا : قعد الرجل فى السفينة ... انكشف المعنى الكامل للفعل : «قعد» بسبب اتصاله بالسفينة ، وكان هذا الاتصال بمساعدة حرف الجر الأصلىّ ، إذ ليس من الممكن أن نقول : قعد الرجل السفينة ؛ بإيقاع المعنى على السفينة مباشرة بغير حرف الجر ؛ لأن الاستعمال العربى الصحيح يأبى ذلك ؛ برغم شدة احتياج العامل ـ وهو هنا الفعل : «قعد» ـ إلى كلمة : «السفينة» ليوقع عليها أثره المعنوى. لكنه عاجز عن أن يوصله إليها بنفسه ؛ فجاء حرف الجر الأصلى وسيطا للجمع بينهما ، ومعينا على تذليل تلك الصعوبة ، ووصل بين معنى الفعل والاسم المجرور بعده. فهو ـ بحق ـ أداة اتصال بينهما ؛ ولذا يعدّ وسيلة من وسائل تعدية الفعل اللازم إلى مفعول به تقديرا ، زيادة على ما يجلبه معه من معنى فرعى

__________________

(١) وكذا ما يشبهه.

(٢) إلا الحرف : «على» الذى للإضراب (كما سيجىء فى رقم ٤ من هامش ص ٤٠٧ ـ و ١ من هامش ص ٤١٢ وص ٤٧٢).

(٣) ولهذا يسميها بعض النحاة : «حروف الإضافة» ، ـ كما أشرنا فى رقم ١ من هامش ص ٤٠١ ـ لأنها إذا كانت أصلية (كما جاء فى بعض المطولات ومنها : المفصل ج ٢ ص ١١٧) تضيف إلى الأسماء المجرورة بها معانى الأفعال وشبهها من كل ما يقع عليه التعلق به ، ولو لم يوجد الحرف الأصلى ما تحققت الفائدة الفرعية التكميلية ، ولا صح الأسلوب بعد حذفه وحده وإبقاء مجروره السابق ـ فى غير المواضع التى يصح فيها حذفه ، ويظل ملحوظا بالرغم من حذفه ، ومعتبرا كالمذكور ـ ، بخلاف غير الأصلى ؛ فإن حذفه وحده لا يفسد الأسلوب ، وفائدته إما جديدة مستقلة لا يقصد منها أن تتمم نقصا فى غيرها ، وهذا هو الشبيه بالزائد ، وإما مؤكدة لمعناه وهذا هو الزائد ـ كما سيجىء فى ص ٤١٧ ـ لهذا كان ما يسمونه : «التعلق» بالعامل مقصورا على حرف الجر الأصلى مع مجروره ـ وكذا ما ألحق به ـ.


مثال ثالث : نام الوليد. فمعنى الفعل : «نام» معروف ، ولكنه معنى يشوبه بعض النقص الفرعىّ ؛ إذ لا يدل ـ مثلا ـ على المكان الذى وقع فيه النوم.

فالعامل ؛ (وهو هنا الفعل : نام) بحاجة إلى إتمام المعنى بذكر المكان الذى وقع فيه أثره. فهل نقول : نام الوليد السرير؟ لا نستطيع ذلك ؛ لأن الأساليب السليمة تأباه ، فالفعل عاجز عن إيصال معناه المباشر إلى تلك الكلمة ، فنلجأ إلى الوسيط المساعد ؛ وهو حرف الجر الأصيل ، ـ وشبهه ـ ليوصّل بين الاثنين ؛ ويعدّى الفعل اللازم إلى مفعول به معنى ، (حكما) ؛ فنقول : نام الوليد فى السرير. ومثل هذا يقال فى الفعلين : «دعا» ، و «ذم» من قول الشاعر :

ومن دعا الناس إلى ذمّه (١)

ذموه بالحق وبالباطل ...

وهكذا ...

من كل ما سبق نفهم أن حرف الجر الأصلى (٢) مع مجروره إنما يقومان بمهمة مشتركة ومزدوجة ، كانت السبب القوىّ فى مجيئهما ؛ وهى : إتمام معنى عاملهما ، واستكمال بعض نقصه (٣) بما يجلبانه معهما من معنى فرعىّ جديد ؛ وأحدهما ـ وهو حرف الجر الأصلى (٤) ـ يقوم بمنزلة الوسيط الذى يصل بين معنى العامل والاسم المجرور ، ويجعل عامله اللازم متعديا حكما وتقديرا ويعبر النحاة عن كل هذا تعبيرا اصطلاحيّا ؛ هو : «أن الجار الأصلىّ ـ وشبهه ـ مع مجروره متعلّقان بالعامل» (٥). فالمراد من تعلقهما به هو : اتصالهما وارتباطهما به ؛ لتكملة معناه الفرعىّ على الوجه الذى سلف.

كما نفهم أيضا ما يقولونه من : أن الاسم المجرور بالحرف الأصلى ـ وشبهه ـ هو بمنزلة «المفعول به» لذلك العامل ؛ لوقوع معنى العامل عليه ؛ كما يقع على «المفعول به» ؛ فكلا الاسمين يقع عليه معنى عامله ، وكلاهما يتمم معنى العامل ، والمتعلّق به. إلا أن المفعول به منصوب ، ويصل إليه معنى ذلك العامل مباشرة ، أما الاسم الآخر فمجرور بحرف الجر الأصلى (٦) ، ولا يصل إليه معنى عامله «وهو المتعلّق به» إلا بوسيط ، ولا يصح تسميته مفعولا به حقيقيّا ، بالرغم من أنه

__________________

(١) بأن يفعل ما يستدعى أن يذموه بسبه.

(٢ و ٢) وكذا ما ألحق به

(٣) لتجلية هذه المسألة أيضا والسبب فى وجوب التعلق تراجع ص ٢٣٦.

(٤) إلا الحرف : «على» إذا كان معناه الإضراب ـ كما أشرنا فى رقم ٢ من هامش ص ٤٠٦ و ١ من هامش ص ٤١٢ ويجىء البيان فى ص ٤٧٢.


بمنزلته (١) ، كما لا يصح إعرابه فاعلا ، ولا مفعولا به ، ولا مبتدأ ، ولا بدلا (٢) ولا غير ذلك ... ، وإنما يقتصر فى إعرابه على أنه «اسم مجرور بالحرف» ، وكفى (٣) ...

أنواع العامل (أى : المتعلّق به) ومواضع ذكره وحذفه :

ليس من اللازم أن يكون العامل (أى : المتعلّق به) فعلا ؛ فقد يكون شيئا آخر يشبهه ؛ كاسم الفعل فى مثل : نزال فى الباخرة ، بمعنى : انزل فى الباخرة ، وحيّهل على داعى المروءة ، بمعنى : أقبل على داعى المروءة ، وكالمصدر الصريح (٤) فى قولهم : السكوت عن السفيه جواب ، والإعراض عنه عقاب ..

ومثل : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر دعامة من أقوى الدعائم لإصلاح المجتمع ، وكالمشتق الذى يعمل عمل الفعل ؛ نحو : أنا محبّ لعملى ، فرح به ، مرتاح لرفاقى فيه. وقول الشاعر :

يموت المداوى للنفوس ولا يرى

لما فيه من داء النفوس مداويا

وكذلك المشتق الذى لا يعمل (٥) ؛ كاسم الزمان ، واسم المكان ... نحو : انقضى مسعاك لتأييد الحق ، وعرفنا مدخلك إلى أعوانه.

وقد يكون العامل لفظا غير مشتق ، ولكنه فى حكم المؤول به (أى :

__________________

(١) إذا كان بمنزلة المفعول به حكما ومعنى ، فهل يجوز فى توابعه النصب؟

الإجابة الصحيحة : لا. (راجع «ب» من ص ١٢٢ ثم رقم ٣ من هامش ص ١٤٥ ثم ص ١٥٣).

(٢) يستثنى من هذا الحكم صورة خاصة يصح فيها عند فريق من النحاة إعراب الاسم المجرور بالحرف «بدلا» ؛ طبقا للبيان التفصيلى فى باب «البدل» ـ ج ٣ ص ٥٣٨ م ١٢٣.

(٣) «ملاحظة» : ما المراد الدقيق مما نقرؤه فى بعض المراجع اللغوية ، وغيرها ، أن فعلا معينا لازما ، ثم يردفونه تصريحا أو تمثيلا ؛ بأنه يتعدى بحرف جر معين؟ الجواب فى ص ١٥٣.

(٤) وهو يشمل المصدر الدال على المرة ، أو الهيئة ، كما يشمل المصدر الميمى ، والصناعى.

(٥) هذا هو الراجح ؛ لأن المشتق غير العامل لا يخلو من رائحة الفعل. راجع حاشيتى : الخضرى والصبان ، أول باب : «إعمال اسم الفاعل» عند قول ابن مالك :

 .............

إن كان عن مضيّه بمعزل

حيث علق الجار والمجرور : «عن مضيه» بكلمة : «معزل» التى هى اسم مكان. (وستجىء الإشارة لهذا فى ج ٣ ص ٢٠٤).


يؤدى معنى المشتق) ؛ مثل : أنت عمر فى قضائك ، فالجار مع مجروره متعلّقان بكلمة : «عمر» الجامدة ؛ لأنها مؤولة بالمشتق ؛ فهى هنا بمعنى : عادل. ومثل قولهم : قراءة كلام السفهاء علقم على ألسنتنا. فالجار والمجرور متعلقان «بعلقم» الجامدة ؛ لأنها هنا بمعنى : صعب ، أو شاق ، أو مؤلم ، أو : مرّ ...

والمشهور : أن حرف الجر الأصلى ومجروره لا يتعلقان بأحرف المعانى ، ولكن هذا المشهور مخالف لما نقلناه عن بعض المحققين (١).

وقد يخلو الكلام من ذكر العامل (٢) ؛ لأنه إما محذوف جوازا لوضوحه ؛ بسبب اشتهاره فى الاستعمال قبل الحذف وأمن اللبس بعد الحذف ، أو بسبب وجود دليل يدل عليه ؛ فمثال الأول : «بأبى» فى قول المتنبى :

بأبى من وددته فافترقنا

وقضى الله بعد ذاك اجتماعا

وقول الآخر :

بنفسى تلك الأرض ؛ ما أطيب الرّبا

وما أحسن المصطاف (٣) والمتربعا (٤)

يريد : أفدى بأبى ، ـ أفدى بنفسى. ومثال الثانى : أزورك فى مساء الخميس أما أخوك ففى مساء الجمعة ، أى : فأزوره فى مساء الجمعة.

وإما محذوف وجوبا إذا كان دالا على مجرد الكون العام ، أى : الوجود المطلق ؛ وذلك فى مسائل ؛ أشهرها سبعة :

أن يقع صفة ، نحو ؛ هذه رسالة فى يد صديق عزيز. أو : حالا ؛ نحو : قرأت الرسالة من صديق عزيز. أو : صلة ، نحو : استمتعت بالأزهار التى فى الحديقة ؛ أو : خبرا لمبتدأ أو لناسخ ، كقول الشاعر :

جسمى معى ، غير أن الروح عندكمو

فالجسم فى غربة ، والروح فى وطن

فليعجب الناس منى ؛ أنّ لى بدنا

لا روح فيه ، ولى روح بلا بدن

__________________

(١) راجع إيضاح هذا وتفصيله الكامل فى باب : «الظرف» ـ رقم ٢ من هامش ص ٢٣٢ م ٧٨ ـ.

(٢) قد يكون تعلق شبه الجملة بالإسناد (أى : بالنسبة الواقعة بين ركنى الجملة ، وهذا إذا لم نتوصل إلى فعل أو شبهه مما يصح التعلق به ؛ كقول ابن مالك فى باب الاستثناء خاصّا بالأداتين «خلا وعدا» : «وحيث جرافهما حرفان ...» فالظرف «حيث» متعلق بالنسبة المأخوذة من قوله : «فهما حرفان» أى : تثبت حرفيتهما حيث جرا. (وقد سبق تفصيل وإيضاح لهذا فى هامش ص ٣٣١ ، وتسمية الإسناد بالعامل المعنوى).

(٣) المكان المختار لقضاء فصل الصيف فيه.

(٤) المكان المختار لقضاء فصل الربيع فيه.


أو : أن يلتزم العرب حذفه فى أسلوب معين ؛ كقولهم لمن تزوج : «بالرّفاء (١) والبنين» ، أى : تزوجت ... فلا يجوز فى مثل هذا الأسلوب ذكر العامل ؛ لأنه أسلوب جرى مجرى الأمثال ، والأمثال لا تغير.

أو يكون حرف الجر هو «الواو» أو «التاء» المستعملتين فى القسم ، نحو : والله لا أبتدئ بالأذى ، وقول الشاعر :

فو الله لا يبدى لسانى حاجة

إلى أحد حتى أغيّب فى القبر

تالله لأصنعن المعروف. التقدير : أقسم والله ، أقسم بالله.

أو أن يرفع الجار مع مجروره الاسم الظاهر عند من يقول بذلك ؛ (٢) بشرط اعتمادهما على استفهام ، أو نفى ؛ نحو : أفى الله شك؟ : ما فى الله شك.

وإذا كان العامل محذوفا جاز تقديره فعلا ، (مثل : استقر ـ حصل ـ وجد ـ كان بمعنى : وجد ... و...) وجاز تقديره وصفا يشبهه ؛ (مثل : مستقر ـ ـ حاصل ـ كائن ...). إلا فى القسم والصلة لغير «أل» الموصولة ؛ فيجب تقديره فيهما فعلا ، لأن جملتى (٣) القسم والصلة لغير «أل» ، لا تكونان هنا إلا جملتين فعليتين ، ولن يتحقق هذا إلا بتعلق شبه الجملة بفعل محذوف ، لا بغيره. وقد سبق أن أوضحنا جواز القول ـ تيسيرا ـ بأن الجار والمجرور إذا وقعا صفة ، أو صلة ، أو خبرا ، أو حالا ـ. هما الصفة ، أو الصلة ، أو الخبر ، أو الحال ، من غير نظر للعامل ، ولا اعتباره واحدا من تلك الأشياء (٤).

ولما كانت العلاقة بين العامل (المتعلّق به) ، والجار مع مجروره على ما ذكرنا من الارتباط المعنوى الوثيق ـ وجب أن نتنبه عند التعليق ؛ فنميز العامل الذى يحتاج إلى الجار مع المجرور لتكملة معناه ، من غيره الذى لا يحتاج ؛ فنخص الأول بتعلقهما به ، ونعطيه ما يناسبه ، دون سواه من العوامل التى لا يصلح لها التّعلق ؛ إما

__________________

(١) الرفاء (بكسر الراء المشددة) هو : التوافق ، والالتئام ، وعدم الشقاق.

(٢) وهو رأى يحسن اليوم إغفاله قدر الاستطاعة. لما يوقع فيه من بلبلة.

(٣) كما فى ص ٤١٣.

(٤) سبق هذا فى ج ١ ص ٢٧٢ ، ٣٤٦ وسيجىء فى رقم ٢ من هامش ص ٤١٣ كلام هام فى هذا.


بسبب الاكتفاء بمعنى العامل دون احتياج إلى الجار مع مجروره ، وإما بسبب فساد المعنى المراد من العامل إذا تعلقا به.

بيان ذلك : أن الكلام قد يشتمل على عدة أفعال أو غيرها مما يشبهها ؛ فيتوهم من لا فطنة له أن التعلق بكل واحد منها جائز ؛ فيسارع إلى التعليق غير متثبت من حاجة العامل له ، فى استكمال المعنى أو عدم حاجته ، وغير ملتفت إلى ما يترتب عليه من فساد المعنى أو عدم فساده ؛ كما يتضح من الأمثلة التالية :

«جلست أقرأ فى كتاب تاريخى» ... فلو تعلق الجار والمجرور : «فى كتاب» بالفعل : «جلس» لكان المعنى : جلست فى كتاب ... ، وهذا واضح الفساد. لكن يستقيم المعنى لو تعلقا بالفعل : «أقرأ».

«قاس الطبيب حرارة المريض ، وكتبها ، بمقياس الحرارة». فلو تعلق الجار والمجرور بالفعل : «كتب» لكان المعنى : كتب الطبيب حرارة المريض بمقياس الحرارة. وهذا غير صحيح ؛ لأنه لا يقع ، وإنما يصح المعنى بتعلقهما بالفعل : «قاس» ؛ إذ يكون الأصل : قاس الطبيب بمقياس الحرارة ـ حرارة المريض. وهذا معنى سليم.

ويقول الرّصافى :

جهلت كجهل الناس حكمة خالق

على الخلق طرّا بالتعاسة حاكم

وغاية جهدى أننى قد علمته

حكيما ، تعالى عن ركوب المظالم

فلو تعلق الجار والمجرور : (على الخلق) بالفعل : «جهل» لأدى هذا التعلق إلى فساد شنيع فى المعنى ؛ إذ يكون التركيب : جهلت على الخلق جميعا أى : تكبرت عليهم ، وأسأت إليهم. وهذا غير المراد ، وكذلك لو تعلقا بالمصدر : «جهل» أو : «حكمة» ... أما لو تعلقا بالوصف المشتق : «حاكم» فإن المعنى يستقيم ، ويتحقق به المراد ، إذ يكون التركيب ... حاكم على الخلق طرّا بالتعاسة ... ومثل هذا يقال فى الجار والمجرور : «بالتعاسة». ويقول الشاعر :

عداتك منك فى وجل وخوف

يريدون المعاقل والحصونا ...

فلو تعلق الجار ومجروره (منك) بكلمة : «عداة» (١) لفسد المعنى ، بخلاف

__________________

(١) جمع : عاد ، بمعنى ظالم. (فهو عامل مشتق).


تعلقهما بكلمة : «وجل» فإن المعنى معه يكون : عداتك فى وجل منك ... وهو معنى مستقيم.

ومن الأمثلة السالفة يتبين أن متعلّقهما قد يكون متأخرّا عنهما ، أو متقدما عليهما ؛ فليس من اللازم أن يتقدم عليهما العامل الذى يتعلقان به. وقد اجتمع الأمران فى قول الشاعر :

بالعلم والمال يبنى الناس ملكهمو

لم يبن ملك على جهل وإقلال

وفى قول الآخر :

لئن لم أقم فيكم خطيبا فإننى

بسيفى إذا جدّ الوغى لخطيب ...

فالمراد : يبنى الناس ملكهم على العلم والمال ... ـ لم يبن الناس ملكهم على جهل وإقلال ـ لئن لم أقم فيكم خطيبا فإننى لخطيب بسيفى ...

فالواجب يقتضى ـ فى كل الأحوال ـ أن نبحث لحرف الجر الأصلى (١) مع مجروره عن «العامل» المناسب لهما ـ ولا سيما إذا تعددت حروف الجر ومجروراتها ، وتعددت معها الأفعال وأشباهها (٢) ـ وأن نميزه ونستخلصه من غير المناسب ؛ ولا نتأثر فى اختياره بقربه من الجار والمجرور ، أو بعده عنهما ، أو تقدمه عليهما أو تأخره ، أو ذكره ، أو حذفه. وإنما نتأثر بشى واحد ؛ هو ما يكون بين العامل وبينهما من ارتباط معنوى يحتم اتصالهما به بطريقة تعلقهما به مع ملاحظة الرأى المشهور ؛ وهو : أن شبه الجملة بنوعيه لا يتقدم على عامله المؤكد بالنون (٣).

__________________

(١) وشبهه ، إلا الحرف «على» الذى للإضراب فإنه لا يتعلق ، (كما سبق فى رقم ٢ من هامش ٤٠٦ ورقم ٤ من هامش ٤٠٧ طبقا للبيان الآتى فى ص ٤٧٢).

(٢) الكثير ألا يتعلق حرفان للجر بعامل واحد إذا كانا بمعنى واحد ، نحو : مررت بالوالد بالأخ ؛ حتى لقد منع بعض النحاة هذا التعليق منعا باتا.

أما عند اختلاف معنى الحرفين فيجوز تعلقهما بعامل واحد ؛ نحو : مررت بالعربى بالبادية. والحق أن المنع القاطع المطلق مخالف لظاهر كلام الزمخشرى فى قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) فإنه يفيد الجواز مع كون معنى الحرفين : (من» الأولى والثانية) واحدا ؛ ذلك لأن الحرف الثانى إنما يتعلق بالفعل بعد تقييده بالأول ، والأول إنما تعلق به فى حال الإطلاق (راجع شرح التصريح وحاشية ياسين ج ١ باب الحال عند الكلام على الحال مع صاحبها).

(٣) انظر البيان فى ١ من هامش ص ١٠٠.


وفى هذه الحالة التى يتمم فيها الجار والمجرور المعنى مع عاملهما يسميان «شبه الجملة (١) التام» فإن لم يكمل بهما المعنى (وقد يكون ذلك لعدم اختيار «المتعلّق به» المناسب) سميّا : «شبه الجملة الناقص» ، نحو : محمد عنك ـ الشمس حتى اليوم ـ النهر بك ... و... فهذه تراكيب فاسدة ، بخلاف : محمد فى البيت ـ الشمس على خط الاستواء ـ النهر لنا (٢).

__________________

(١) شبه الجملة قسمان : الظرف ، والجار مع مجروره. وفى باب الصلة. خاصة ـ يعتبر الوصف الواقع صلة «أل» بمنزلة شبه الجملة. (وقد تقدم إيضاح هذا فى الجزء الأول عند الكلام على أنواع الصلة. وسيجىء فى الهامش بعد هذا مباشرة بيان العلامة التى تميز شبه الجملة التام المفيد مما ليس تاما ولا مفيدا).

(٢) من المستحسن أن نلخص ما سبق متناثرا هنا فى ص ٢٣٦ وفى ج ١ فى بابى «الموصول» ، و «المبتدأ والخبر» خاصا يشبه الجملة ؛ من ناحية التعلق ، ووجوب حذف العامل أو جوازه ، وشبه الجملة اللغو والمستقر ... و... وما يصحب كل هذا من أحكام هامة. وإنما نعيده بمناسبة الكلام على حروف الجر ، لأن الجار مع مجروره أحد الشطرين اللذين يسميان : «بشبه الجملة» ، والشطر الآخر هو : «الظرف» ـ ويطلقه بعض القدماء على الشطرين ـ ويزاد عليهما صلة «أل» خاصة (كما سبق فى رقم ١) فأنسب مكان لتسجيل كل ما يختص بشبه الجملة هو : «باب الظرف» ، و «باب حروف الجر». وإلى هذين البابين ـ قبل غيرهما ـ يتجه نظر الباحث فى «شبه الجملة» ؛ حيث يجب أن يتجمع ويتركز فى كل باب ما يناسبه من أحوال شبه الجملة ، وأحكامه ، دون الاعتماد على المتفرق فى الأبواب الأخرى ، لمناسبات طارئة.

الأصل المتفق عليه بين النحاة أن العامل فى الظرف ، وفى الجار مع مجروره يقع بنفسه فى مواقع إعرابية مختلفة ؛ منها : الصلة ، والصفة ، والخبر ، والحال ... و... فهل يقع شبه الجملة نفسه فى تلك المواقع الإعرابية بدلا من عامله ، ويحل محله؟ لا مانع من هذا فى رأى حسن لفريق من قدامى النحاة. بشرط أن يكون العامل فى شبه الجملة بنوعيه محذوفا ، وبشرط أن يكون كل منهما مفيدا بعد حذف العامل الذى يتعلقان به ـ مع ملاحظة أن الذى يتعلق من أنواع الجار مع مجروره هو حرف الجر الأصلى مع مجروره وشبه الأصلى ، دون حرف الجر الزائد وشبهه مع مجرورهما وأوضح علامة تدل على وجود الفائدة المطلوبة من الظرف ومن الجار مع مجروره هو أن يفهم متعلقهما المحذوف بمجرد ذكرهما : ويتحقق هذا فى صورتين : الأولى : أن يكون هذا المتعلق المحذوف شيئا يدل على مجرد الوجود العام ، أى : الوجود المطلق دون زيادة معنى آخر. وهذا يسمى : «الاستقرار العام» أو : «الكون العام» ومعناهما : مجرد الوجود ؛ ففى نحو : (تكلم الذى عندك) لا يفيد الظرف : «عند» شيئا أكثر من الدلالة على وجود الشخص وجودا مطلقا من غير زيادة شىء آخر على هذا الوجود ؛ كالأكل ، أو الشرب ، أو القراءة ، أو سواها ... وهذا هو «الاستقرار العام» أو «الكون العام» كما قلنا ، ولا يحتاج فى فهمه إلى قرينة ، أو غيرها. وكذلك نحو : (سكت الذى فى الحجرة) أى : الموجود فى الحجرة وجودا مطلقا غير مقيد بزيادة شىء آخر ؛ كالنوم ، أو الضحك ، أو المشى. وكذلك غيرهما من الأمثلة.

ولأن هذا الكون العام واضح «ومفهوم» بداهة ـ طبقا للبيان الهام الذى سبق فى ص ٢٣٦ ـ وجب حذفه فى مسائل ؛ منها ما ذكرناه ، وهو : أن يقع صلة ، أو صفة ، أو خبرا ، أو حالا ... إذ لا داعى للإطالة بذكره من غير حاجة إليه. ـ


ملاحظة :

المشهور أن شبه الجملة التام بنوعيه (الظرف ، والجار مع مجروره) إذا وقع بعد نكرة محضة وجب إعراب متعلّقه (عامله) نعتا. وإذا وقع بعد معرفة محضة

__________________

ـ الثانية : أن يكون متعلقهما أمرا خاصا محذوفا جوازا لوجود ما يدل عليه. ويظهر المتعلق الخاص فى المثالين السابقين بأن نقول : تكلم الذى وقف عندك ، وسكت الذى نام فى الحجرة. فكلمة : «وقف» أو : «نام» تؤدى معنى خاصا هو : الوقوف ، أو : النوم. ولا يمكن فهمه إلا بذكر كلمته فى الجملة ، والتصريح بها. فليس هو مجرد حضور الشخص ، ووجوده المطلقين ؛ وإنما هو الوجود والحضور المقيدين بالوقوف أو بالنوم. ولهذا لا يصح حذف المتعلق الخاص إلا بدليل يدل عليه وعندئذ يجوز حذفه ؛ مثل : قعد صالح فى البيت ومحمود فى الحديقة ؛ فتقول : بل صالح الذى فى الحديقة. تريد : بل صالح الذى قعد فى الحديقة ؛ فإن حذف المتعلق الخاص بغير دليل كان الظرف والجار مع مجروره غير تامين ؛ فلا يصلحان للصلة ، ولا لغيرها مما سبق ؛ مثل : هذا الذى أمامك ، أو : منك. تريد هذا الذى غضب أمامك ، أو : غضب منك. ومثل : غاب الذى اليوم ... أو : الذى بك. تريد غاب الذى حضر اليوم ، والذى استعان بك. فالمتعلق العام المطلق قد زيد عليه هنا ما جعله خاصا مقيدا.

وظرف المكان هو الذى يكون متعلقه فى الصلة كونا عاما واجب الحذف ، أو كونا خاصا واجب الذكر إلا عند وجود قرينة ؛ فيجوز معها حذفه أو ذكره. أما ظرف الزمان فلا يكون متعلقه إلا خاصا ؛ فلا يجوز حذفه إلا بقرينة ، وبشرط أن يكون الزمن قريبا من زمن الكلام ، نحو : نزلنا المنزل الذى البارحة ، أو : أمس ، أو آنفا ، (أى : فى أقرب ساعة ووقت منا). تريد : الذى نزلناه البارحة ، أو أمس ، أو آنفا. فإن كان زمن الظرف بعيدا من زمن الإخبار بمقدار أسبوع مثلا ، لم يحذف العامل ؛ فلا تقول يوم الأربعاء : نزلنا المنزل الذى يوم الخميس أو يوم الجمعة.

ولم أطلع على تحديد النحاة للزمن القريب أو البعيد ؛ ولكن قد يفهم من أمثلتهم أن القريب ما لم يتجاوز يومين ، وأن البعيد ما زاد عليهما. وربما كان عدم التحديد مقصودا منه ترك الأمر للمتكلم والسامع. وشبه الجملة بنوعيه يسمى : «مستقرا» (بفتح القاف ، والمراد : مستقر فيه) حين يقع متعلقه «كونا عاما» يفهم بدون ذكره. ويسمى : «لغوا» حين يقع متعلقه «كونا» مذكورا أو محذوفا لقرينة تدل عليه. وإنما سمى «مستقرا» لأمرين ـ سبقت الإشارة إليهما فى ص ٢٣٦ ـ ؛ لاستقرار معنى عامله فيه ؛ أى : فهمه منه ، ولأنه حين يصير خبرا ـ مثلا ـ ينتقل إليه الضمير من عامله المحذوف ، ويستقر فيه ، وبسبب هذين الأمرين استحق عامله الحذف وجوبا. وسمى «اللغو» لغوا لأن وجوده ضئيل الأثر مع وجود عامله ؛ إذ لا يستقر فيه معنى عامله ، ولا يتحمل ضميره. وفى هذه الحالة يكون العامل الملفوظ به فى الجملة هو الخبر ، أو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ... أو ... ويجب ذكره ، ولا يجوز حذفه إلا لقرينة. ولو حذف لوجودها لكان ـ مع حذفه أيضا ـ هو الخبر أو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ... فلا يصح ـ فى رأى الكثرة ـ فى حالتى ذكر الكون الخاص أو حذفه أن يكون الظرف أو الجار مع مجروره خبرا ، أو نعتا ، أو واحدا مما سبق. وهذا نوع من التشدد لا داعى له ؛ إذ لا مانع هنا أن نعرب شبه الجملة بنوعيه هو الخبر ، أو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ، أو غيرها. وذلك عند ما ـ


وجب إعرابه حالا. أما إذا وقع بعد نكرة غير محضة ، أو معرفة غير محضة فيجوز إعرابه فى كلّ صورة من الصورتين ، حالا ، أو نعتا. لكن يقول بعض المحققين إن متعلّق شبه الجملة يصلح أن يكون حالا أو نعتا فى جميع الصوّر ؛ سواء

__________________

ـ يحذف جوازا عامله المعروف ، لأن هذا الإعراب جائز فى شبه الجملة الذى حذف عامله العام وجوبا ـ كما سيجىء ـ فلم لا يجوز هنا؟

ويتضح مما سبق أن شبه الجملة بنوعيه لا بد أن يدل فى أصله على : «الوجود المطلق» ، ثم يمتاز اللغو بدلالته ـ فوق هذا ـ على معنى خاص ؛ كالمشى ، والحركة ، وغيرهما مما يزاد عليه فيجعله خاصا مقيدا بعد أن كان عاما مطلقا ويتضح أيضا أن الكون العام واجب الحذف مع شبه الجملة ؛ إذ لا فائدة من ذكره ؛ ولا خفاء ، ولا لبس بحذفه ، ولانتقال الضمير منه إلى شبه الجملة. وأن الكون الخاص يجب ذكره حتما ؛ لعدم وجود ما يدل عليه عند حذفه ـ فإن وجدت قرينة تدل عليه وتعينه صح حذفه ـ مثل : الفارس فوق الحصان ، أى : راكب فوق الحصان ، ومن لى بفلان؟ أى : من يتكفل لى بفلان؟ والبحترى من الشعراء ؛ أى : معدود منهم. ومثل قوله تعالى فى القصاص : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) على تقدير : الحر مقتول بالحر ؛ لأن تقدير الكون العام فى الأمثلة السابقة لا يؤدى المعنى المراد. والمتعلق الخاص المحذوف لوجود قرينة تدل عليه هو الذى يعرب عندهم ـ كما سبق ـ خبرا ، أو صفة ، أو صلة ، أو حالا ... لا شبه الجملة. وبالرغم من حذفه فإنه لا يخرج شبه الجملة ـ فى رأيهم ـ عن اعتباره : «لغوا». ولا يتنافى مع ما هو ثابت له من أنه : «كون خاص». فالمعول عليه عندهم فى الحكم باللغو راجع إلى خصوص الكون ، وأنه ليس بعام ؛ سواء أذكر الكون الخاص أم حذف لقرينة ، وفى الحكم بالاستقرار إلى عموم الكون ، وأنه ليس بخاص. وينتقلون بعد هذا إلى تقسيمات وتفريعات شاقة ، وأدلة جدلية مرهقة فى إثبات تلك الأقسام والفروع ، وفى المفاضلة بين أن يكون المتعلق المحذوف فعلا أو اسما ، وغير هذا مما لا حاجة إليه اليوم ، ولا ضرر من إهماله ، بل الخير فى إهماله ، وفى الاقتصار ـ عند حذف العامل ـ على إعراب الظرف ، والجار مع مجروره هو الخبر ، أو الصفة ، أو الصلة ، أو الحال ... وهو رأى لبعض السابقين ، ولا داعى للتشدد فى البحث عن نوع العامل المحذوف مع عدم الحاجة إليه ، ولا للتمسك بأنه هو الخبر ، أو الصفة ... أو ... ولا خير فى ركوب الشطط لإظهار آثاره ، لأن المعنى جلى كامل بدونه. إن ذلك التشدد هو صورة من الجانب المعيب فى نظرية العامل النافعة الجميلة. ولم الإعنات وفى استطاعتنا التخفيف والتيسير بغير إفساد؟

وقد دعا لهذا بعض القدامى ـ كما أشرنا ـ ، وكما ورد فى كثير من المراجع الكبيرة ، كالمفصل وغيره. يقول صاحب المفصل (ج ١ ص ٩٠) عند الكلام على أقسام الخبر ما نصه :

(اعلم أنك لما حذفت الخبر الذى هو : «استقر» أو : «مستقر» ، وأقمت الظرف مقامه ـ على ما ذكرنا ـ صار الظرف هو الخبر ، والمعاملة معه [يريد أن الآثار اللفظية والمعنوية فى الجملة قد انتقلت إليه] وهو مغاير المبتدأ فى المعنى. ونقلت الضمير الذى كان فى الاستقرار إلى الظرف ، وصار مرتفعا به ؛ كما كان مرتفعا بالاستقرار ؛ ثم حذفت الاستقرار ، وصار أصلا مرفوضا لا يجوز إظهاره ؛ للاستغناء عنه بالظرف. وقد صرح ابن جنى بجواز إظهاره. والقول عندى أنه بعد حذف الخبر الذى هو الاستقرار ، ونقل الضمير إلى الظرف ـ لا يجوز إظهار ذلك المحذوف لأنه قد صار أصلا مرفوضا فإن ذكرته أولا وقلت زيد استقر عندك ـ لم يمنع منه مانع. ـ


أكانت النكرة والمعرفة محضتين أم غير محضتين ، ما عدا صورة واحدة يتعين أن يكون شبه الجملة فيها نعتا ، هى : أن تكون النكرة محضة. ورأيه حسن. وقد سبق

__________________

ـ واعلم أنك إذا قلت ؛ «زيد عندك فعندك ظرف منصوب بالاستقرار المحذوف ؛ سواء أكان فعلا : أم اسما ، وفيه ضمير مرفوع ، والظرف وذلك الضمير فى موضع رفع بأنه خبر المبتدأ. وإذا قلت : زيد فى الدار ، أو : من الكرام ، فالجار والمجرور فى موضع نصب بالاستقرار على حد انتصاب. «عندك» إذا قلت : زيد عندك. ثم الجار والمجرور والضمير المنتقل فى موضع رفع بأنه خبر المبتدأ ...) اه.

وهو يشير بقوله : «الجار والمجرور فى موضع نصب بالاستقرار ...» إلى ما هو معروف فى الاصطلاح النحوى من أن المجرور بحرف جر أصلى وشبهه هو «مفعول به» فى المعنى ، وحرف الجر أداة لتوصيل أثر الفعل إليه ـ (كما شرحنا أول الباب ، ص ٤٠٨ وفيما سبقه من ص ١٤٥ و ١٥٣ و...).

وعلى هذا يكون ما يدور على الألسنة اليوم عند الإعراب من أن الظرف ، أو الجار مع مجروره هو الصلة ، أو الصفة ، أو الخبر ، أو الحال ... أمرا سائغا مقبولا ، ورأيا لبعض القدامى يحمل طابع التيسير والاختصار.

فإن وقع أحدهما فى تلك المواضع فقد يتعلق بشىء مذكور يصلح للتعلق ، كالفعل ونحوه ... وقد يتعلق بفعل محذوف أو بمشتق ، أو غيره مما يصح التعلق به. ولا يتحتم أن يكون المحذوف فعلا إلا حين يقع صلة ، ـ لغير «أل» ـ لأن الصلة لا تكون إلا جملة (والوصف المشتق مع مرفوعه ليس جملة ، ولا يكون صلة لغير «أل» ، كما عرفنا فى باب الموصول) ، وكذلك يتحتم أن يكون فعلا فى حالة القسم الذى حذف عامله ؛ لأن جملة القسم أيضا لا بد أن تكون فعلية ـ كما سبق فى ص ٤١٠ ـ.

ومما تجدر ملاحظته أن شبه الجملة بنوعيه (الظرف ، والجار الأصلى مع مجروره) إذا تعلق بفعل مؤكد بالنون لم يجز أن يتقدم على هذا الفعل فى الرأى المشهور دون الرأى الآخر ـ طبقا للبيان الذى سبق فى رقم ١ هامش ص ١٠٠ ، وأشرنا إليه فى رقم ٣ من هامش ٤١٢ ـ.

وإذا أخذنا بهذا الرأى السهل اليسير كانت تسمية الظرف والجار مع مجروره «شبه جملة» إنما هى من قبيل الإبقاء على التسمية القديمة ، ومراعاة أصلها السابق ، أو : لأن كلا من الظرف والجار مع مجروره ليس مفردا فى الحقيقة ، بل هو مركب ؛ إذ يحمل معه الضمير المستتر الذى انتقل إليه من العامل المحذوف على الوجه الذى بسطناه.

أما التسمية القديمة وأصلها السابق فقد أوضحناهما من قبل بما ملخصه :

أن الظرف أو الجار مع المجرور ليس هو الخبر ، ولا الصفة ، ولا الصلة ، ولا الحال و... و... فى رأى جمهورتهم. وإنما الخبر وغيره فى الحقيقة لفظ آخر محذوف يتعلق به الظرف والجار الأصلى مع مجروره ؛ إذ لا مهمة لشبه الجملة إلا إتمام المعنى فى غيره ، لهذا لا بد لنوعيه أن يتعلقا بفعل أو بما يشبهه ؛ ليتم بهما المعنى ـ للأسباب الموضحة فى أول هذا الباب ، وفى باب الظرف ـ ، والمحذوف قد يكون فعلا فقط (أما فاعله الضمير فقد تركه واستقر فى شبه الجملة) وقد يكون ـ فى غير الصلة والقسم ـ شيئا آخر ، فإن لم يوجد فى الكلام ما يصلح أن يقع عاملا يتعلق به الظرف أو الجار الأصلى مع مجروره كما فى مثل : الغزال فى الحديقة ، فأين العامل؟ فلما كان التعلق واجبا وكان شبه الجملة غير صالح لأن يكون هو المبتدأ فى المعنى ـ كالشأن فى الخبر ـ ، وكان العامل غير موجود ؛ وجب تقديره ـ


إيضاحه التام وتفصيله (١).

وحروف الجر السابقة كلها أصلية إلّا أربعة ؛ هى : «من». و «الباء» و «اللام» و «الكاف» فهذه الأربعة تستعمل أصلية حينا ، وزائدة حينا آخر ، وإلا «لعل» و «ربّ» ؛ فإنهما حرفا جر شبيهان بالزائد ، وكذا : «لو لا» فى رأى أشرنا إليه من قبل (٢). ومن النحاة من يجعل : خلا ، وعدا ، وحاشا ، من حروف الجر الشبيهة بالزائدة. لكن لا داعى للعدول عن اعتبارها حروفا أصلية ؛ ـ كما سبق (٣) فى باب الاستثناء ـ. وسيجىء تفصيل الكلام عن معانى حروف الجر وعملها فى الموضع الخاص بهذا من الباب (٤).

* * *

القسم الثانى : حرف الجر الزائد (٥) زيادة محضة (٦) وهو الذى لا يفيد معنى

__________________

ـ محذوفا ؛ إما فعلا مع فاعله (أى : جملة فعلية ، مثل : استقر ، أو : ثبت ، أو : حصل ، أو : كان ، بمعنى : وجد ، (وهى التامة) ... وإما اسما مشتقا ؛ مثل : «مستقر» ، أو : «كائن» المشتقة من «كان» التامة ، وإما اسما آخر يصلح عاملا. وإما بالنسبة (أى : الإسناد طبقا لما هو مشروح فى رقم ٢ من هامش ص ٤٠٩). فليس الخبر ـ أو غيره ... ـ عندهم هو الظرف نفسه ، أو الجار مع مجروره مباشرة ؛ إنما الخبر هو المحذوف ، ويتعلق به كل واحد من هذين. ولما كان كل منهما صالحا لأن يتعلق بالفعل المحذوف ، ويدل عليه وعلى فاعله بغير خفاء ولا لبس ـ كان شبه الجملة بمنزلة النائب عنهما ، والقائم مقامهما ، والفعل مع فاعله جملة ، فما ناب عنها وقام مقامها ـ شبيه بها ، لذلك أسموه : «شبه الجملة».

وأصحاب هذا الرأى يقولون إن الضمير الذى كان فاعلا للعامل المحذوف قد انتقل بعد ذلك كله إلى شبه الجملة ، أى : بعد أن تمت المشابهة. وبسبب انتقال الضمير إلى شبه الجملة ، وصحة تعلقه بالمشتق سموه : «شبه الوصف» أيضا ـ كما سبق فى رقم ٤ من هامش ص ٣٤٧ وفى رقم ١ من هامش ص ٣٥٦ ـ

وقد أوضحنا سبب تعلق الظرف ، وطريقته وما يتصل بهذا فى بابه من هذا الجزء ـ ص ٢٣٦ وكذا فى ج ١ م ٣٥ ص ٤٣١ ـ كما أوضحنا هنا فى هذا الباب أمرهما مع الجار والمجرور.

(١) فى ج ١ ص ١٩٢ و ١٩٤ حيث البيان الكامل.

(٢) رقم ٢ من هامش ص ٤٠١ م ٨٩ وتفصيل هذا فى الجزء الأول عند الكلام على الحرف ص ٤٣ وما بعدها م ٥.

(٣) فى رقم ٤ من هامش ص ٣٣٠.

(٤) ص ٤٢٢ وما بعدها.

(٥) أشرنا فى رقم ٢ من هامش ص ٤٠٤ إلى الموضع الذى يشتمل على بيان المراد من «اللفظ الزائد» ـ سواء أكان اللفظ حرفا أم غير حرف ـ وأن ذلك الموضع هو : ج ١ م ٥ ص ٦٢ و ٦٥.

(٦) هناك «اللام الجارة» قد تكون زيادتها لتقوية عاملها فتكون زيادتها شبيهة بالمحضة ـ (كما سبق فى رقم ١ من هامش ص ٤٠٥).


جديدا ، وإنما يؤكد المعنى العامّ فى الجملة كلها ، فشأنه شأن كل الحروف الزائدة ؛ يفيد الواحد منها توكيد المعنى العام للجملة كما يفيده تكرار تلك الجملة كلها. سواء أكان المعنى العام إيجابا أم سلبا ، ولهذا لا يحتاج إلى شىء يتعلق به ، ولا يتأثر المعنى الأصلى بحذفه ، نحو : كفى بالله شهيدا ، بمعنى : يكفى الله شهيدا ؛ فقد جاءت «الباء» الزائدة لتفيد تقوية المعنى الموجب وتأكيده ؛ فكأنما تكررت الجملة كلها لتوكيد إثباته وإيجابه. ومثل : ليس من خالق إلا الله. أى : ليس خالق إلا الله ، فأتينا بالحرف الزائد : «من» : لتأكيد ما تدل عليه الجملة كلها من المعنى المنفى ، وتقوية ما تتضمنه من السلب. ولو حذفنا الحرف الزائد فى المثالين ما تأثر المعنى بحذفه.

ولا فرق فى إفادة التأكيد بين أن يكون الحرف الزائد فى أول الجملة ، أو فى وسطها ، أو فى آخرها ؛ نحو : بحسبك الأدب ـ كفى بالله شهيدا ـ الأدب بحسبك ... وقد تكون زيادة الحرف واجبة لا غنى عنها كزيادة «باء الجر» بعد صيغة «أفعل» للتعجب القياسىّ ؛ نحو : أكرم بالعرب (١).

وإنما لم يتعلق الجار الزائد مع مجروره بعامل لأن التعلّق والزيادة متعارضان ، إذ الداعى للتعلق هو الارتباط المعنوى بين عامل عاجز ، ناقص المعنى ، واسم يكمله لا يصل إليه أثر ذلك العامل إلا بمساعدة حرف جرّ أصلىّ ـ وشبهه ـ ، أما الزائد فلا يدخل الكلام ليعين على الإكمال ، وإيصال الأثر من العامل العاجز إلى الاسم المجرور ، وإنما يدخل الكلام لتأكيد معناه القائم ، وتقويته كله ، لا للربط.

طريقة إعراب المجرور بالحرف الزائد :

لا بد من أمرين فى الاسم المجرور بالحرف الزائد ؛ أن يكون مجرورا فى اللفظ ، وأن يكون ـ مع ذلك ـ فى محل رفع ، أو نصب ، أو جر ؛ على حسب مقتضيات العوامل. فله إعراب لفظىّ ، وآخر محلى معا. ففى مثل. «كفى بالله شهيدا» تعرب «الباء» حرف جر زائدا ـ «الله» مجرور بها ، فى محل رفع ، لأنه فاعل ، إذ الأصل : كفى الله ...

__________________

(١) بشرط دخولها على اسم صريح ، لا مؤول من أن وأن وصلتهما ـ كما سيجىء عند الكلام على «الباء» فى حروف الجر ص ٤٥٥. وانظر ص ١٣٥ وهامشها ، ثم رقم ٣ من هامش ص ٤٩١ للأهمية.


وفى مثل : «بحسبك الأدب». «الباء» : حرف جرّ زائد ، «حسب» مجرورة بها ، فى محل رفع ؛ لأنها تصلح مبتدأ ؛ إذ الأصل : حسبك الأدب ... وهكذا.

فحرف الجر الأصلى والزائد يشتركان فى أمر واحد ، هو : أن كلا منهما لا بد أن يجر الاسم بعده. ويختلفان فى ثلاثة أمور :

فى أن الحرف الأصلى لا بد أن يأتى بمعنى فرعىّ جديد لم يكن فى الجملة قبل مجيئه. أما الحرف الزائد فلا يأتى بمعنى جديد. وإنما يؤكد ويقوى المعنى العامّ الذى تتضمنه الجملة كلها من قبل مجيئه.

والحرف الأصلى مع مجروره لا بد أن يتعلقا (١) بعامل محتاج إليهما فى تكملة معناه ، أما الحرف الزائد ومجروره فلا يتعلقان. والحرف الأصلى يجر الاسم بعده لفظا دون أن يكون لهذا الاسم محل آخر من الإعراب (٢). وتوابعه مجرورة اللفظ مثله ، ولا محل لها. أما الزائد فلا بد أن يجر الاسم لفظا ، وأن يكون له مع ذلك محل من الإعراب. وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز فيه أمران ؛ إما الجر مراعاة للفظ المتبوع ، وإما حركة أخرى يراعى فيها محل المتبوع لا لفظه ؛ ففى مثل : كفى بالله القادر شهيدا. يصح فى كلمة : «القادر» الجر تبعا للفظ «الله» المجرور لفظا ، ويجوز الرفع تبعا لمحله باعتباره فاعلا. ومثل هذا يجرى فى سائر التوابع.

وأشهر حروف الجر الزائدة هو الأربعة السالفة (من ـ الباء ـ اللام ـ الكاف ...) وسيأتى معنى كل وعمله فى المكان الخاص بذلك (٣).

* * *

القسم الثالث : حرف الجر الشبيه بالزائد ، وهو الذى يجر الاسم بعده لفظا فقط ، ويكون له مع ذلك محل من الإعراب (٤) ـ فهو كالزائد فى هذا ـ ويفيد الجملة معنى جديدا مستقلا ، لا معنى فرعيّا مكملا لمعنى موجود ، ولهذا لا يصح

__________________

(١) إلا الحرف : «على» الذى للإضراب ـ (انظر ص ٣٩١).

(٢) أى : أنه ليس له إعراب محلى.

(٣) ص ٤٢٢ وما بعدها.

(٤) سبقت الإشارة فى ص ٣٣٠ و ٤١٧ إلى أن الأفضل إهمال الرأى الذى يدخل : «خلا وعدا وحاشا» فى حروف الجر الشبيهة بالزائدة ، لما فيه من تضييق وتعقيد لا داعى لهما. فاعتبارها حروف جر أصلية أيسر وأوضح.


حذفه ؛ إذ لو حذفناه لفقدت الجملة المعنى الجديد المستقل الذى جلبه معه. لكنه لا يحتاج ـ مع مجروره ـ لشىء يتعلق به ، لأنّ هذا الحرف الشبيه بالزائد لا يستخدم وسيلة للربط بين عامل عاجز ناقص المعنى ، واسم آخر يتمم معناه. ومن أمثلته : ربّ ـ لعلّ (وكذا «لو لا» ، عند فريق من النحاة). نحو : ربّ غريب شهم كان أنفع من قريب ـ رب صديق أمين كان أوفى من شقيق. فقد جر الحرف : ربّ ، الاسم بعده فى اللفظ. وأفاد الجملة معنى جديدا مستقلا هو : التقليل. ولم يكن هذا المعنى موجودا. (وسيجىء تفصيل الكلام على هذا الحرف من ناحية معناه وعمله وكل ما يتصل به فى موضعه الخاص) (١).

طريقة إعراب الاسم المجرور بحرف الجر الشبيه بالزائد :

حرف الجر الشبيه بالزائد يجر الاسم بعده لفظا فقط ، ويكون لهذا الاسم محل من الإعراب ؛ فهو فى هذا شبيه بالحرف الزائد ـ كما أسلفنا ـ ففى المثالين السابقين ؛ تعرب «ربّ» حرف جر شبيه بالزائد. وكلمة : «غريب» أو : «صديق» ـ مجرورة بها فى محل رفع ، لأنها مبتدأ. وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز الجرّ مراعاة للفظ المتبوع. وجاز ضبطه بحركة تناسب محله. ففى المثالين السابقين نقول : رب غريب شهم كان أنفع من قريب ـ ربّ صديق مهذب كان أوفى من شقيق ؛ بجر كلمتى : «شهم» و «مهذب» مراعاة للفظ المنعوت ، أو رفعهما مراعاة لمحله.

مما سبق نعلم أن الشبيه بالزائد يشبه الأصلى فى أمرين ؛ هما : جر الاسم بعده ، وإفادة الجملة معنى جديدا مستقلّا لم يجئ ليتمم معنى عامله. ويخالفه فى أمرين ؛ هما : عدم تعلقه هو ومجروره بعامل ، وأن لمجروره محلا من الإعراب فوق إعرابه اللفظى بالجر.

وأن الشبيه بالزائد يشارك الزائد فى أمور ثلاثة : هى : جر الاسم لفظا ، واستحقاق هذا الاسم للإعراب المحلىّ فوق إعرابه اللفظى بالجر ، وعدم حاجة الجار مع مجروره إلى متعلّق.

__________________

(١) انظر الكلام على : «رب» ص ٤٨٢ وما بعدها. وفى ص ٤٨٤ رأى آخر يجعل الحرف «رب» من حروف الجر التى تتعلق بعامل.


ويخالفه فى أمر واحد ؛ هو : إتيانه بمعنى جديد مستقل ـ كما أسلفنا ـ أما الزائد فلا جديد معه وإنما يستخدم لتأكيد معنى الجملة كلها.

وتتلخص أوجه المشابهة والمخالفة بين الأنواع الثلاثة فيما يأتى :

نوع الحرف

الأحكام الخاصة بكل نوع

حرف الجر الأصلى ، وشبهه

يأتى بمعين جديد يكمل معنى عامله

يجر الاسم بعده لفظا فقط.

لا يكون للمجرور محل إعرابى آخر

يحتاج مع مجروره لمتعلق

حرف الجر الزائد زيادة (١) محضة

لا يأتى بمعنى جديد ـ

يجر الاسم بعده لفظا.

يكون للمجرور محل إعرابى آخر مع ذلك الجر

لا يحتاج مع مجروره لمتعلق.

حرف الجر الشبيه بالزائد

يأتى بمعنى جديد مستقل

يجر الاسم بعده لفظا.

يكون للمجرور محل إعرابىّ آخر مع ذلك.

لا يحتاج مع مجروره لمتعلق

__________________

(١) أما الذى زيادته غير محضة فإيضاحه فى رقم ١ من هامش ص ٤٠٥ ، وكذلك فى رقم ٦ من هامش ٤٤٩ حيث الكلام على «لام الجر» الزائدة للتوكيد ، أى للتقوية.


المسألة ٩٠ :

د ـ معانى (١) حروف الجر ، ووجوه استعمالها

المشهور من حروف الجر ـ عشرون ، سردنا ألفاظها (٢) ، وأنواعها الثلاثة ونشير إلى أمرين :

أولهما : أن كل حرف من هذه العشرين ، قد يتعدد معناه ، وقد يشاركه غيره فى بعض هذه المعانى ، أى : أن المعنى الواحد قد يؤديه حرفان أو أكثر. وللمتكلم أن يختار من الحروف المشتركة فى تأدية المعنى الواحد أو غير المشتركة ، ما يشاء مما يناسب السياق. غير أن الحروف المشتركة فى تأدية المعنى الواحد قد تتفاوت فى هذه المهمة ، فبعضها أقوى على إظهاره من غيرها ، لكثرة استعمالها فيه ، ، وشهرتها به. وهذه الكثرة والشهرة ، تختلف باختلاف العصور والطبقات ومن ثمّ كان من المستحسن ـ بلاغة ـ اختيار الحرف الأوضح والأشهر وقت الكلام ، دون الحرف الغريب ، أو غير المألوف ، برغم صحة استعمال الاثنين استعمالا قياسيّا.

ثانيهما : أن بعض حروف الجر يكثر استعماله فى الجر حتى يكاد يقتصر عليه ؛ مثل : من ، إلى ، عن ، ربّ ... وبعضا آخر يقل استعماله فيه ، وهذا ستة أحرف ؛ خلا ـ عدا ـ حاشا ـ كى ـ لعلّ ـ متى.

غير أن الذى يكثر استعماله فى الجر والذى لا يكثر ـ سيان ، من ناحية أن استخدامهما فى الموطن المناسب للمعنى قياسىّ ، لا يمنع منه مانع ؛ حتى القلة المشار إليها ؛ فإنها ليست من النوع الذى يمنع القياس والمحاكاة ، إذ هى قلة نسبية لا ذاتية (٣) (أى : أنها تعتبر قليلة إذا قيست بالنوع الآخر الكثير ،

__________________

(١) سبقت إشارة إلى معنى الحرف ، فى رقم ٢ و ٣ من هامش ص ٤٠٥.

(٢) فى ص ٤٠١ م ٨٩.

(٣) انظر الأشمونى ج ٣ أول باب الإضافة عند بيت ابن مالك : «وربما أكسب ثان أولا ...» وقد أشرنا إلى هذا المعنى فى مواضع مختلفة من أجزاء الكتاب ، (ومنها رقم ٢ من هامش ص ٢٩٠ ، ومنها مع الإيضاح ج ٣ رقم ١ من هامش ص ٥٧ م ٩٣ ورقم ١ من هامش ص ٦٩ م ٩٤).


وليست قليلة فى ذاتها ، بل كثيرة بغير تلك الموازنة).

فأما الثلاثة الأولى من القسم القليل القياسى فقد سبق إيفاؤها حقها من الإبانة والتفصيل فى باب الاستثناء (١).

وأما «كى» فحرف جر أصلىّ للتعليل لا يجر إلا أحد ثلاثة أشياء :

الأول : «ما» الاستفهامية التى يسأل بها عن سبب الشىء وعلته ؛ كأن يقول شخص : قد لازمت البيت أسبوعا. فيسأله آخر : كيمه (٢)؟ بمعنى : لمه؟ أى : لماذا؟. ومثل : أقصد الريف كل أسبوع ؛ فيقال : كيمه؟ أى : لمه؟. و «كى» هذه تسمى : «كى التعليلية» ، لأنها تدخل على استفهام يسأل به عن العلة والسبب ـ كما سبق ـ فهى بمنزلة اللام الجارة التى تسمى : «لام التعليل» فى معناها وعملها.

الثانى : «ما» المصدرية مع صلتها (٣) ؛ فتجر المصدر المنسبك منهما معا ؛ مثل : أحسن معاملة الناس كى ما تسلم من أذاهم ، أى : لسلامتك من أذاهم. وتسمى : «كى المصدرية» : لجرها المصدر المنسبك من الحرف المصدرى مع صلته ؛ فهى مثل «لام التعليل» معنى وعملا.

الثالث : «أن المصدرية» مع صلتها (٤) ؛ فتجر المصدر المنسبك منهما معا ؛ والغالب فى هذه الصورة إضمار «أن» بعد «كى» ؛ مثل : أحسن السكوت كى تحسن الفهم ، والأصل : كى أن تحسن الفهم ، فالمصدر المنسبك من «أن» المضمرة وصلتها فى محل جر بالحرف : «كى» (٥) ، وهى أيضا مثل «لام التعليل» ، معنى وعملا. أى : أنها فى المواضع الثلاثة السابقة تؤدى معنى

__________________

(١) ص ٣٧٨ م ٨٣ وأن الأفضل اعتبارها حروف جر أصلية ، لا شبيهة بالزائدة (كما أشرنا قريبا فى رقم ٢ من هامش ص ٤١٩).

(٢) أصلى الكلام : كيما؟ أى : لما؟ .. ومن المعروف أن «ما» الاستفهامية إذا جرّت تحذف ألفها ويحل محل الألف «هاء السكت» الساكنة ، بشرط أن تكون هذه الزيادة فى حالة الوقف على «ما» دون حالة اتصالها بما بعدها من الكلام.

(٣ و ٣) سبق تفصيل الكلام على «ما» المصدرية بنوعيها ، ومعناها ، وطريقة استعمالها ، وصوغ المصدر منها ، وكذا أن ، فى ج ١ باب الموصول ص ٢٦٩ م ٢٧.

(٣ و ٣) سبق تفصيل الكلام على «ما» المصدرية بنوعيها ، ومعناها ، وطريقة استعمالها ، وصوغ المصدر منها ، وكذا أن ، فى ج ١ باب الموصول ص ٢٦٩ م ٢٧.

(٤) هناك مذهب ؛ يجعل «كى» هى الناصبة المصدرية ، وقبلها لام التعليل مقدرة فى هذا المثال وغيره مما لا يظهر فيه «أن» الناصبة ، (كما سيجىء فى رقم ١ من هامش الصفحة التالية) ولا مانع من الأخذ به. وهو ملخص لما فى ج ٤ باب إعراب الفعل : (قسم النواصب).


واحدا وعملا واحدا (١) ...

ومما تقدم نعلم أن : «كى» الجارّة لا تجر اسما معربا ، ولا اسما صريحا.

وأما لعل (٢). فحرف جر شبيه بالزائد ، ومعناه الكثير هو : الترجى والتوقع ؛ (٣) نحو : لعل الغائب قادم غدا ، فكلمة : «لعل» حرف جر شبيه بالزائد «الغائب» مجرور بها لفظا فى محل رفع مبتدأ ، «قادم» خبره. غدا ظرف زمان منصوب على الظرفية.

وأما «متى» فحرف جرّ أصلى (٤) ومعناه : الابتداء ـ غالبا ـ نحو : قرأت الكتاب متى الصفحة الأولى حتى نهاية العشرين. أى : من ابتداء الصفحة الأولى ...

إلى هنا انتهى الكلام على الحروف التى تستعمل قليلا فى الجر ، مع قياس استعمالها.

__________________

(١) يكثر فى الأساليب الفصيحة القياسية إما وقوع لام الجر قبل : «كى» مباشرة ؛ مثل : تنقلت فى البلاد ؛ لكى أستفيد خبرة. وإما وقوع «أن» المصدرية بعدها ، دون أن تسبقها لام الجر ، مثل : أتجنب السهر الطويل ؛ كى أن أحتفظ بقوتى ونشاطى ، وإما أن تقع قبلها لام الجر وبعدها «أن» المصدرية (وهذه الصورة قليلة بالنسبة للسابقتين) مثل : أواظب على نوع من الرياضة البدنية ؛ لكى أن أفيد جسمى. فإن وجدت «لام» الجر وحدها قبل : «كى» وجب اعتبار «كى» حرفا مصدريا ناصبا بنفسه ؛ فيكون مثل «أن» المصدرية ؛ معنى وعملا ؛ لأن حرف الجر لا يدخل ـ فى الغالب ـ على مثله إلا لتوكيد لفظى. وإن وقعت بعدها : «أن» المصدرية ولم تسبقها «لام» الجر وجب اعتبارها حرف جر ك «لام» التعليل معنى وعملا ـ لأن الحرف المصدرى ـ لا يدخل على نظيره إلا لتوكيد لفظى ـ فى الغالب ـ وإن توسطت بينهما ـ وهذا قليل قياسى كما سبق ـ فالأحسن اعتبارها جارة للمصدر المنسبك بعدها مع تأكيدها للام الجر قبلها. ويجوز أن تكون مصدرية مؤكدة «بأن» بعدها ، والمصدر المنسبك مجرور باللام التى قبلها.

فإن لم توجد «لام» الجر قبلها ، ولا «أن» بعدها جاز اعتبارها مصدرية بتقدير «اللام» قبلها ، أو حرف جر بتقدير : «أن» بعدها. ـ راجع أحكامها فى ج ٤ باب النواصب ـ.

(٢) تكثر فيها لغات أربع : إثبات اللام الأولى مفتوحة ، مع تشديد الثانية مفتوحة أو مكسورة ، وحذف الأولى مع تشديد الثانية مفتوحة أو مكسورة ؛ فهذه اللغات الأربع هى التى تستعمل بكثرة فى الجر دون غيرها من باقى اللهجات. واستعمالها حرف جر مقصور على قليل من العرب. وهو ـ مع جوازه وقياسيته ـ غير خفيف على الأسماع ، ولا سائغ اليوم ، لغرابته.

(٣) سبق (فى الجزء الأول ، باب : «إن») أن الترجى أو التوقع ، هو : انتظار حصول شىء مرغوب فيه ، ميسور التحقيق ، ولا يكون إلا فى الأمر الممكن. «ولعل» قد تكون أحيانا للتعليل ، أو : الظن ...

(٤) يستعمله قليل من العرب دون كثرتهم. ومع جواز استعماله وقياسيته لا ترتاح له الأذن اليوم ، لغرابته ـ


وننتقل إلى الكلام على الحروف الكثيرة الاستعمال فيه فنوضح المعانى القياسية لكل واحد ، وما قد يتصل بعمله.

ويلاحظ ما سبق (١) ، وهو أن حرف الجر الأصلى حين يؤدى معنى فرعيّا من المعانى التى ستذكر لا بد أن يقوم فى الوقت نفسه بتعدية عامله اللازم إلى مفعول به معنى (٢) ...

من : حرف يجر الظاهر والمضمر ، ويقع أصليّا وزائدا ... ويتردد بين أحد عشر معنى:

١ ـ التبعيض ، أى : الدلالة على البعضية. وعلامتها : أن يكون ما قبلها ـ فى الغالب ـ جزءا من المجرور بها ، مع صحة حذفها ووضع كلمة : «بعض» مكانها ؛ نحو : خذ من الدراهم. وكقولهم : ادّخر من غناك لفقرك ، ومن قوّتك لضعفك ؛ فالمأخوذ بعض الدراهم ، والمدّخر بعض الغنى والقوة. ويصح وضع كلمة : «بعض» مكان كلمة : «من». ومثل هذا قول الشاعر :

وإنك ممن زيّن الله وجهه

وليس لوجه زانه الله شائن

فالمخاطب جزء من الاسم المجرور بها ؛ وهو : «من» الموصولة التى بمعنى «الّذين» ، وقد يكون ذلك الجزء متأخرا عنها وعن الاسم المجرور بها ، فى اللفظ دون الرتبة ؛ كقولهم : «إنّ من آفة المنطق الكذب ، ومن لؤم الأخلاق الملق» فالكذب والملق متأخران فى الترتيب اللفظى وحده ، ولكنهما متقدمان فى درجتهما ؛ لأن كلا منهما هو : «اسم إنّ» ، والأصل فى «اسم إنّ» تقدمه فى الرتبة على خبرها.

٢ ـ بيان (٣) الجنس ، وعلامتها : أن يصح الإخبار بما بعدها عما (٤) قبلها ؛

__________________

(١) فى ص ٤٠٧.

(٢) انظر رقم ١ من هامش ص ٤٣٨.

(٣) أى : بيان أن ما قبلها ـ فى الغالب ـ جنس عام يشمل ما بعدها. فما قبلها أكثر وأكبر ؛ كالمثال الأول الآتى ، وقد يكون العكس ، نحو : هذا السوار من ذهب ، وهذا الباب من خشب.

(٤) له علامة أخرى : أن يصح حذف. «من» ووضع اسم موصول مكانها مع ضمير يعود على ما قبلها. هذا إن كان ما قبلها معرفة ، فإن كان نكرة فعلامتها أن يخلفها الضمير وحده ؛ نحو : اساور من ذهب ، أى : هى ذهب.


كقولهم ؛ اجتنب المستهترين من الزملاء. فالزملاء فئة من جنس عام هو : المستهترون ؛ فهى نوع يدخل تحت جنس «المستهترين» الشامل للزملاء وغير الزملاء. وكقولهم : تخير الأصدقاء من الأوفياء ... أى : الأصدقاء الذين هم جنس ينطبق على فئة منهم لفظ : «الأوفياء». وهذا الجنس عامّ ، يشمل بعمومه الأوفياء وغيرهم. ٣ ـ ابتداء الغاية (١) فى الأمكنة كثيرا ، وفى الأزمنة أحيانا ـ وهى فى الحالتين قياسيّة ـ وهذا المعنى أكثر معانيها استعمالا ؛ فمثال الأولى قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ...،) ونحو : جاءتنى رسالة من فلان. ومثال الثانية قولهم : فلان ميمون الطالع من يوم ولادته ، راجح العقل من أول نشأته ...

٤ ـ التوكيد ، (ولا تكون معه إلا زائدة) وزيادتها إما للنص على عموم المعنى وشموله كلّ فرد من أفراد الجنس ، وإما لتأكيد ذلك العموم والشمول إذا كانا مفهومين من الكلام قبل دخولها. فالأول مثل : ما غاب من رجل. وأصل الجملة : ما غاب رجل. وهى جملة قد يفهم منها أن نفى المعنى منصبّ على رجل واحد دون ما زاد عليه. أى : أن رجلا واحدا لم يغب ، وأنّ من الجائز غياب رجلين أو رجال.

والسبب فى اختلاف الفهم أن كلمة : «رجل» النكرة ، ليست من النكرات الملازمة للوقوع بعد النفى ، (وهى النكرات القاطعة فى الدلالة على العموم والشمول بعد ذلك النفى ، ويتحتم أن ينصبّ النفى الذى قبلها على كل فرد من أفراد مدلولها ؛ وأن يمتنع معه الخلاف فى الفهم ؛ مثل : كلمة : أحد ، وديّار ، وعريب). وإنما كلمة «رجل» من النكرات التى قد تقع بعد النفى ، أو لا تقع وإذا وقعت بعده لم تفد العموم والشمول الإفادة القاطعة التى تشمل كل فرد ـ إلا بقرينة ـ وإنما تفيدهما مع احتمال خروج بعض الأفراد من دائرة المعنى المنفى كما أوضحنا. فإذا

__________________

(١) معنى الغاية هنا ـ كما سيجىء فى رقم ٢ من هامش ص ٤٣٣ ـ : المسافة والمقدار. وليس المراد معناها الحقيقى الذى هو آخر الشىء ؛ فالتسمية هنا من تسمية الكل باسم الجزء. ومعناها هنا قد يختلف شيئا عنه فى الظروف على حسب ما هو مبين فى رقم ٣ من هامش ص ٢٧٢ م ٧٩.


أردنا إزالة هذا الاحتمال ، وجعل المعنى نصّا فى العموم والشمول على سبيل اليقين ـ أتينا بالحرف الزائد : «من» ووضعناه قبل هذه النكرة مباشرة ، وقلنا : ما غاب من رجل ؛ وعندئذ لا يختلف الفهم ، ولا يتنوع ؛ إذ يتعين أن يكون المراد النص على عدم غياب فرد وما زاد عليه من أفراد الرجال ، ومن ثمّ لا يصح أن يقال : ما غاب من رجل ، وإنما غاب رجلان أو أكثر ، منعا للتناقض والتخالف ، فى حين يصح هذا قبل مجىء «من» الزائدة ، لأن الأسلوب قبل مجيئها قد يحتمل أمرين ؛ نفى الواحد دون ما زاد عليه ؛ ونفيه مع ما زاد عليه معا ـ كما أسلفنا ـ وهذا معنى قولهم : («من الزائدة» تفيد النص على عموم الحكم وشموله كلّ فرد من أفراد الجنس إذا دخلت على نكرة منفية لا تقتضى وجود النفى الدائم الشامل قبلها اقتضاء محتوما). وعلى ضوء ما سبق تتبين فائدة «من» فى قول الشاعر :

ما من غريب وإن أبدى تجلّده

إلا تذكّر عند الغربة الوطنا

وأما الثانى وهو التأكيد فمثل : ما غاب من ديّار ؛ من كل كلام مشتمل على نكرة لا تستعمل ـ غالبا ـ إلا بعد النفى أو شبهه (مثل : أحد ـ عريب ـ ديّار ... و...) فإنها بعده تدل دلالة قاطعة على العموم والشمول ، أى : أنّ كل نكرة من هذه النكرات ونظائرها لا يراد منها فرد واحد من أفراد الجنس ينتفى عنه المعنى ، وإنما يراد أن ينتفى المعنى عن الواحد وما زاد عليه. ففى المثال السابق قطع ويقين بأمر واحد ؛ هو : عدم غياب فرد أو أكثر من أفراد الرجال ؛ فكل الأفراد حاضرون : ولا مجال لاحتمال معنى آخر ، فإذا أتينا بحرف الجر الزائد «من» وقلنا : ما غاب من ديّار ـ لم يفد الحرف الزائد معنى جديدا ، ولم يحدث دلالة لم تكن قبل مجيئه ، وإنما أفاد تقوية المعنى القائم وتأكيده ، وهو النص على شمول المعنى المنفى وتعميمه ؛ بحيث ينطبق على الأفراد كلها فردا فردا.

والفصيح الذى لا يحسن مخالفته عند استعمال «من» الزائدة أن يتحقق شرطان : وقوعها بعد نفى (١) وشبهه (وهو هنا :

__________________

(١) فلا تزاد فى الإثبات إلا فى تمييز «كم» الخبرية إذا كان مفصولا منها بفعل متعد ؛ نحو قوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.) وقد وردت زيادتها فى قول زهير :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس ـ تعلم ـ


النهى (١) وبعض أدوات الاستفهام) وأن يكون الاسم المجرور بها نكرة. وهذا الاسم يكون مجرورا فى اللفظ لكنه مرفوع المحل ـ إما لأنه مبتدأ ، أو أصله مبتدأ ؛ فى مثل قولهم : هل للواشى من صديق؟ وما من صاحب للنمام ، وإما لأنه فاعل ؛ فى مثل قولهم : ما سعى من أحد فى الشرّ إلا ارتد إليه سعيه ـ وقد يكون مجرورا فى اللفظ منصوب المحل (إما لأنه مفعول به ، كقولهم : تأمل هذا الكون العجيب هل ترى من نقص أو قصور؟ وهل تظن من أحد يقدر على هذا الإبداع إلا الله؟ وإما لأنه مفعول مطلق ، نحو قوله تعالى : ([ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ] ،) أى : من تفريط).

ومن النادر الذى لا يقاس عليه ، زيادتها فى غير هذه المواضع الأربعة التى يكون الاسم فيها مجرورا لفظا كما سبق ، لكنه فى محل رفع مبتدأ ، (الآن أو بحسب أصله) ، أو : فاعل ، أو فى محل نصب ؛ لأنه مفعول به ، أو مفعول مطلق ... و...

وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز فى التابع أمران (٢) ؛ الجر مراعاة للفظ المتبوع ، والرفع أو النصب مراعاة لمحله ؛ نحو : ما للواشى من صديق مخلص ، بجر كلمة : «مخلص» ، أو برفعها ؛ باعتبارها نعتا لكلمة : «صديق» ، وكذا بقية التوابع ، وباقى الأمثلة المختلفة ، وأشباهها.

٥ ـ أن تكون بمعنى كلمة : «بدل» بحيث يصح أن تحل هذه الكلمة محلها. كقوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ،) أى : بدل الآخرة.

٦ ـ أن تكون دالة على الظرفية (٣). (أى : على أن شيئا يحويه آخر ، كما

__________________

ـ فقد أجاز النحاة أن تكون : «من» زائدة بعد : «مهما» ـ (وسيجىء هذا فى ج ٤ ص ٣٢٦ م ١٥٥ باب الجوازم وص ٣٨١ ل م ١٦١ باب «أما»).

(١) مثال النهى : لا تظلم من أحد. ومثال الاستفهام (ولا يكون هنا إلا «بالهمزة» أو : هل») هل جاءك ... ، أو : أجاءك ، .. من بشير؟

(٢) فى هذا الحكم تفصيل هام سبق بيانه فى رقم ١ من هامش ص ٦٧. واستيفاء الحكم يقتضى الرجوع إليه.

(٣) فتكون بمعنى : «فى» التى للظرفية. ويدخل فى هذا النوع «من» الداخلة على : «قبل وبعد ... والغالب فى الداخلة على الظروف غير المتصرفة أن تكون للسببية ، أى : بمعنى : «فى» الدالة ـ


يحوى الإناء ما فى داخله ، أو : كما يحوى الظرف ـ وهو الغلاف ـ المظروف ، (وهو الشىء الذى يوضع فيه) ، نحو : ماذا أصلحت من حقلك ، وغرست من جوانبه؟ أى : فى حقلك ... فى جوانبه.

٧ ـ إفادة التعليل. فتدخل على اسم يكون سببا وعلة فى إيجاد شىء آخر ، نحو : لا تقوى العين على مواجهة قرص الشمس ، من شدة ضوئها ، ونحو : من كدّك ودأبك أدركت غايتك. أى : بسبب شدة ضوئها ... وبسبب كدّك ...

٨ ـ إفادة المجاوزة (١) ، فتدخل على الاسم للدلالة على البعد الحسى أو المعنوى بينه وبين ما قبله ... نحو قوله تعالى : (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا،) أى : عن هذا ، بمعنى بعيدين عنه ، وقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ...) أى : عن ذكر الله.

ومثل : كلام الحمقى بمعزل من الصواب ، أى : عن الصواب ...

٩ ـ إفادة الاستعانة (٢) فتدخل على الاسم للدلالة على أنه الأداة التى استخدمت فى إنفاذ أمر من الأمور ؛ نحو : ينظر العدو إلى عدوه من عين ترمى بالشرر ، أى : بعين ...

__________________

ـ على السببية. أما مجيئها لابتداء الغاية فقليل ؛ نحو : جئت من عندك ـ هب لى من لدنك وليا ـ (راجع حاشية الألوسى على القطر ص ٣٤) وقد شرحنا معنى الغاية فى رقم ٢٧٢ وفى رقم ١ من هامش ص ٤٢٦.

(١) المجاوزة ـ كما قالوا ـ ابتعاد شىء مذكور ، أو غير مذكور ، عما بعد حرف الجر ؛ بسبب شىء قبله ؛ فالأول ، نحو : رميت السهم عن القوس. أى : جاوز السهم القوس بسبب الرمى. والثانى نحو : رضى الله عنك : جاوزتك المؤاخذة ؛ بسبب الرضا. ثم المجاوزة قد تكون حقيقية كهذين المثالين ، وقد تكون مجازية ؛ نحو أخذت العلم عن العالم. كأنه ـ لما علمت ما يعلمه ـ قد جاوزه العلم بسبب الأخذ. (الصبان فى باب حروف الجر ـ عند الكلام على الحرف : «عن» وهو الحرف الذى يكثر استعماله فى المجاوزة. وأما غيره فلا يبلغ درجته ؛ فكأنه شبيه به فى الأداء).

وقد يراد بالمجاوزة الابتعاد عن الشىء بسبب العجز عن الوصول إليه كقول أحد الشعراء :

هديتى تقصر عن همتى

وهمتى تقصر عن حالى

وخالص الود ومحض الثنا

أحسن ما يهديه أمثالى

(راجع معجم الشعراء ، للمرزبانى ـ حرف الميم ـ ص ٣٧٢).

(٢) فتشبه «الباء» فى هذا.


١٠ ـ إفادة الاستعلاء. فتدخل على الاسم للدلالة على أن شيئا حسيّا أو أو معنويّا وقع فوقه ؛ نحو قوله تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا.) أى : على القوم(١) ...

١١ ـ إفادة معنى القسم. ذلك أن بعض العرب يستعملها (مضمومة الميم أو مكسورتها) حرف قسم ، ولا يكاد يجرّ إلا كلمة : «الله» ؛ نحو ؛ من الله لأقاومنّ الباطل (٢) ، ويجب معه حذف الجملة القسمية ، (فعلها وفاعلها).

(وسيجىء (٣) الكلام على بقية أدوات القسم بنوعيه وأحكامه).

هذا ، وقد تتصل «ما» الزائدة بالحرف : «من» فلا تخرجه عن معناه ولا عن عمله ، بل يبقى له كل اختصاصه كما كان قبل مجىء الحرف الزائد (٤) ؛ نحو : مما أعمال المسىء يلاقى جزاءه. أى : من أعمال المسىء ؛ وبسببها (٥) ...

__________________

(١) وقد اقتصر ابن مالك على خمسة من المعانى السابقة : حيث يقول :

بعض ، وبيّن ، وابتدئ فى الأمكنه

بمن ، وقد تأتى لبدء الأزمنه ...

وزيد فى نفى وشبهه ؛ فجر

نكرة كما لباغ من مفر

فقد ضمن البيتين : البعضية ، وبيان الجنس ، وابتداء الغاية الزمانية أو المكانية ، والزيادة بعد نفى أو شبهه مع جر النكرة. وهذه المعانى أربعة. أما الخامس ـ وهو البدلية ـ فإنه سيذكره (فى ص ٤٥٠) بقوله : «ومن» و «باء» يفهمان بدلا.

(٢) ويجوز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها على حاله من الجر ، كالشأن فى جميع حروف القسم حين تجر لفظ الجلالة ـ انظر رقم ٣ من ص ٤٩١ ـ.

(٣) فى رقم ١ من هامش ص ٤٤١ و ٤٥٩ وما بعدها :

(٤) انظر «ا» من الزيادة الآتية وقواعد رسم الحروف تقتضى وصلهما كتابة.

(٥) وسيشير ابن مالك إلى زيادة «ما» بعد «من» و «عن» و «الباء» ببيت سيجىء آخر الباب نصه : فى هامش ص ٤٥٦ و ٤٧٦ و ٤٨٨.

وبعد «من» ، و «عن» و «باء» زيد «ما»

فلم يعق عن عمل قد علما

أى : لم يمنع.


زيادة وتفصيل :

(ا) من الأساليب الواردة المأثورة : «ممّا» كالتى فى حديث لابن عباس نصه :

«كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة إذا نزل عليه الوحى ، وكان مما يحرّك لسانه وشفتيه».

وكقول الشاعر :

وإنا لمما يضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقى اللسان من الفم

و... و...

وقد قيل إن معنى «مما» هنا : «ربما» ، طبقا لما بينه سيبويه فى كتابه (ج ١ ص ٧٦) وملخصه : أن «من» الجارّة المكفوفة بالحرف «ما» ـ قد تكون بمعنى «ربما» ، واستشهد بالبيت السالف.

وقال ابن هشام فى «المغنى» عند الكلام على : «من» وعلى معناها العاشر : إنها تكون بمعنى «ربما» وذلك إذا اتصلت بما ؛ كالبيت السالف. ثم أردف هذا بقوله : والظاهر : أن «من» فى البيت ابتدائية و «ما» مصدرية ، وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب (١) ...

(ب) إذا كان الاسم المجرور بالحرف : «من» مبدوءا بالأداة : «أل» التى ليست معدودة فى حروفه الأصلية ، فالأشهر فتح النون ؛ مثل : قد نعرف من الإذاعة ما لا نعرفه من الصحف ، وغيرها (٢). والأحسن ألا تحذف النون إن

__________________

(١) تفصيل هذا البحث مدون فى المجلد التاسع من مجلة المجمع اللغوى القاهرى ص ١١٦ وهو بحث مفيد. وقد اكتفينا بتقديم ملخص مهم له فى الجزء الأول م ٤٢ ص ٥٠١ ومن تمام الاستفادة الرجوع إلى ذلك البحث أو إلى ملخصه ، وما فيهما من أمثلة وأساليب تتصل بما نحن فيه.

(٢) بعض القبائل يحذف النون فى هذه الصورة ، وبها جاء قول النابغة الجعدى : ـ


وقع حرف مشدد بعد «أل» السالفة ؛ نحو : لا تعجب من الشعوب إذا انتقمت من الظالم.

وإن وقع بعد : «من» حرف ساكن آخر تحركت النون بالكسر ـ غالبا ـ نحو : عجبت من استهانة الإنسان بحقوق أخيه ومن استبداده به.

* * *

__________________

 ـ ولقد شهدت عكاظ قبل محلّها

فيها وكنت أعدّ ملفتيان

أى : من الفتيان وقول عبد الرحمن بن حسان فى مدح آل سعيد بن العاص :

أعفّاء تحسبهم ملحيا

مرضى تطاول أسقامها

أى : من الحياء. وكذلك المتنبى حيث يقول :

نحن ركب ملجنّ فى زىّ ناس

فوق طير لها شخوص الجمال

أى : من الجن ، وليس من المستحسن اليوم ـ وإن كان ليس بممنوع قياسا ـ محاكاة هذه اللهجات القليلة فى رفيع الكلام.


إلى : حرف جرّ أصلىّ (١) يجر الظاهر والمضمر ، ويتنقل بين معان أشهرها ستة :

١ ـ انتهاء الغاية (٢) مطلقا ؛ (أى : سواء أكانت نهاية الغاية فى زمان أم مكان ؛ وسواء أكانت» هى الآخر الحقيقىّ لما قبل «إلى» أم ليست الآخر الحقيقى ، ولكنها متصلة به اتصالا قريبا أو بعيدا). وهذا المعنى أكثر استعمالات الحرف إلى ؛ فمثال انتهاء الغاية الحقيقية الزمانية : نمت الليلة إلى طلوع النهار. ومثال انتهاء الغاية الزمانية المتصلة بالآخر اتصالا قريبا : نمت الليلة إلى سحرها (٣) ومثال انتهاء الغاية الزمانية البعيدة من الآخر نمت الليلة إلى نصفها أو ثلثها و... و...

ومثال انتهاء الغاية المكانية الحقيقية : عبرت الطريق إلى الجانب الآخر محترسا. ومثال انتهاء الغاية المكانية المتصلة بالآخر : قرأت الكتاب إلى خاتمته. ومثال انتهاء الغاية المكانية البعيدة من الآخر : قرأت الكتاب إلى ثلثه.

والغالب أن نهاية الغاية نفسها لا تدخل فى الحكم الذى قبل «إلى» ما لم توجد قرينة تدل على دخوله. فإذا قلت : قرأت الكتاب إلى الصفحة العاشرة ، فالمقصود ـ غالبا ـ فى مثل هذا الاستعمال أن الصفحة العاشرة لم تقرأ ، فهى خارجة من الحكم الذى ثبت لما قبل «إلى». وكذلك لو قلت : صمت الأسبوع الماضى إلى يوم الخميس ؛ فإن يوم الخميس لا يدخل فى أيام الصيام. فإذا وجدت قرينة تدل على دخولها كانت داخلة ؛ مثل : صمت الشهر المفروض من أوله إلى اليوم الأخير ، ومثل : أكملت قراءة الكتاب كله من أوله إلى الصفحة الأخيرة ... لأن صيام الشهر المفروض يقتضى صوم اليوم الأخير منه ، وإكمال الكتاب كله يقتضى قراءة الصفحة الأخيرة منه ... (٤)

__________________

(١) سيجىء فى الزيادة ـ ص ٤٦٣ ـ أن بعض النحاة يجيز زيادته ، وأن رأيه مردود.

(٢) سبق فى رقم ١ من هامش ص ٣٥٧ ـ أن الغاية فى هذا الباب ، هى : المسافة والمقدار ، وأنها تختلف عن الغاية فى الظروف ـ وقد سبق بيانها فى رقم ٣ من هامش ص ٢٧٢. والمراد بانتهاء الغاية أن المعنى قبل : «إلى» ينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور بعدها ، واتصاله به. وبين حروف الجر ثلاثة تشترك فى انتهاء الغاية ؛ (هى : إلى ـ اللام فى ص ٤٣٧ ـ حتى فى ص ٤٤٦) وسيجىء البيان الخاص بكل حرف.

(٣) السحر : الثلث الأخير من الليل.

(٤) انظر الفرق بين «إلى» و «حتى» فى هذا وفى غيره (رقم ٥ من هامش ص ٤٤٥).


٢ ـ المصاحبة (١) ، كقولهم : من قعد عن طلب الرزق أساء أهله إلى نفسه ، وعذّبهم إلى عذابه ، أى : مع نفسه ... ومع عذابه ...

٣ ـ التبيين ، (فتبين أن الاسم المجرور بها فاعل فى المعنى لا فى الصناعة النحوية ، وما قبلها مفعول به فى المعنى لا فى الصناعة كذلك. وذلك بشرط أن تقع بعد اسم التفضيل ، أو : فعل التعجب ، المشتقين من لفظ يدل على الحب أو : البغض وما بمعناهما ، كالود والكره ...) ، كقولهم : «احتمال المشقة أحبّ إلى النفس الكريمة من الاستعانة بلئيم الطبع. فما أبغض الاستعانة به إلى نفوس الأحرار!!» فكلمة : «نفس» ، هى الفاعل المعنوى ـ لا النحوىّ ـ لاسم التفضيل (أحب) لأنها ـ فى الواقع ـ هى فاعلة الحب ، أو : هى التى قام بها الحب. وكذلك كلمة «نفوس». فإنها الفاعل المعنوى (لا النحوى) لفعل التعجب : (أبغض) ؛ إذ هى فاعلة البغض حقيقة ، أو : هى التى قام بها البغض ، والذى قطع فى الحكم بفاعليتهما المعنوية ومنع كل احتمال آخر هو وقوعهما بعد حرف الجر : «إلى» الذى من وظيفته القطع فى مثل هذا الأسلوب الذى يحتاج إلى تيقظ ، لدقته (٢) ، ولأنه قد يلتبس بما يقع فيه حرف «اللام» مكان «إلى» ، (وسيأتى الكلام عليه فى اللام) (٣).

٤ ـ الاختصاص (أى : قصر شىء على آخر ، وتخصيصه به) كقولهم :

__________________

(١) انضمام شىء لآخر انضماما يقتضى تلازمهما فى أمر يقع عليهما معا ، أو يقع منهما معا على غيرهما ، أو يتصل بهما بنوع من أنواع الاتصال. وعلامة المصاحبة : أن يصح حذف حرف الجر ووضع كلمة : «مع» مكانه ؛ فلا يتغير المعنى.

(٢) ضابط ذلك : أن نجعل مكان اسم التفضيل أو فعل التعجب فعلا من مادتهما ومعناهما ، يكون فاعله النحوى هو الاسم المجرور بالحرف «إلى» ، ومفعوله هو الكلام السابق على التفضيل أو اللاحق لفعل التعجب. فإن صح المعنى واستقام كان مجىء «إلى» ملائما ، وإلا وجب العدول عنها. ففى المثال المذكور نقول : تحب النفس الكريمة احتمال المشقة ... تبغض نفوس الأحرار الاستعانة ...

وما سبق من معنى «التبيين» فى «إلى» يختلف عن معناه فى «اللام» الجارة» وسيجىء فى ص ٤٤٢ وكلاهما يوضح المراد من الآخر.

(٣) ص ٤٤٢.


الأب راعى الأسرة ؛ وأمرها إليه ، والحاكم راعى المحكومين ، وأمرهم إليه ... فليتق الله كلّ راع فى رعيته.

٥ ـ الظرفية (١) : كقولهم : سيجمع الله الولاة إلى يوم تشيب من هوله الولدان ...

أى : فى يوم.

٦ ـ البعضية ، (وهذا قليل فى المسموع) (٢) ، نحو : شرب العاطش فلم يرتو إلى الماء ، أى : من الماء.

__________________

(١) سبق شرحها فى رقم ٦ من ص ٤٢٨.

(٢) فلا يحسن القياس عليه.


زيادة وتفصيل :

(ا) جعل بعض النحاة من معانى : «إلى» أن تكون بمعنى : «عند» (١) مستدلا بمثل قول القائل :

أم لا سبيل إلى الشباب ، وذكره

أشهى إلى من الرحيق السلسل

وأن تكون زائدة ؛ مستدلا بقراءة من قرأ قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ،) ـ بفتح الواو ـ ، أى : تهواهم ... وقد دفع ذلك الرأى بأن الشاهد الأول وقعت فيه «إلى» للتبيين ؛ لأن ما بعدها ـ وهو ياء المتكلم ـ فاعل معنوى على الوجه المشروح فى الحالة الثالثة السالفة ، وأن الشاهد الثانى : (الآية) وقع فيه الفعل ، «تهوى» مضمّنا ، معنى : «تميل» فلا تكون «إلى» زائدة. وهذا رأى حسن يقتضينا أن نأخذ به.

(ب) يجب قلب ألفها (٢) ياء إذا كان المجرور بها ضميرا. نحو : تقصد الوفود إلينا من بلاد بعيدة ، فنقدم إليهم ضروب المجاملة الكريمة.

فإن كان الضمير ياء المتكلم أدغمت الياءان ؛ نحو : إلىّ يتجه الخائف.

* * *

__________________

(١) سبق الكلام على «عند» فى باب الظرف مع نظائرها من الظروف ـ ص ٢٧١ من هذا الجزء.

(٢) وهى المكتوبة ياء ؛ تبعا لقواعد رسم الحروف.


اللام : حرف يجر الظاهر والمضمر ، ويقع أصليّا وزائدا. ويؤدى عدة معان قد تجاوز العشرين.

١ ـ انتهاء الغاية (١) (أى : الدلالة على أن المعنى قبل اللام ينتهى وينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور بها). نحو : صمت شهر رمضان لآخره ، وقرأت الكتاب لخاتمته .. واستعمالها فى هذا المعنى قليل بالنسبة لباقى معانيها ، ولكنه ـ مثل كل معانيها المختلفة ـ قياسىّ (كما سبق).

٢ ـ الملك ؛ وتقع بين ذاتين ، الثانية منهما هى التى تملك حقيقة ، نحو : المنزل لمحمود ، وهذا المعنى أكثر استعمالاتها.

٣ ـ شبه الملك ؛ وتقع إما بين ذاتين ، الثانية منهما لا تملك ملكا حقيقيّا ؛ وإنما تختص بالأولى ، وتقتصر الأولى عليها ، دون تملّك حقيقى من إحداهما للأخرى ؛ نحو : السرج للحصان ـ المفتاح للباب ـ الباب للبيت ، وإما قبلهما نحو : للصديق ولد نبيه ، حيث تقدمت «اللام» على الذاتين ... وإما بين معنى وذات ؛ نحو الحمد للأمهات ، والشكر للوالدين ... وتسمى هذه اللام بصورها الثلاثة : لام الاستحقاق ، أو : لام الاختصاص.

٤ ـ الدلالة على التمليك ؛ نحو : جعلت للمحتاج عطاء ثابتا. فالعطاء الذى يأخذه المحتاج يصير ملكا له ، يتصرف فيه تصرف المالك الحر كما يشاء.

٥ ـ الدلالة على شبه التمليك ؛ نحو : جعلت لك أعوانا من أبنائك البررة ، فالأعوان هنا بمنزلة الشىء المملوك ، ولكنه ليس ملكا حقيقيّا تقع عليه التصرفات المختلفة ، وإنما يشبهه من بعض الوجوه دون بعض.

٦ ـ الدلالة على النسب ؛ نحو : لفلان أب يقول الحق ، ويفعل الخير. أى : ينتسب فلان لأب (٢) ...

__________________

(١) فهذا الحرف مثل : «إلى» فى هذا المعنى الذى سبق إيضاحه فى رقم ١ من هامش ٤٢٦ وفى رقم ٢ من هامش ص ٤٣٣ ، ومثل «حتى» فيه ، وسيجىء الكلام عليها. فى ص ٤٤٥ والثلاثة مشتركة فى هذا المعنى دون بقية حروف الجر ، ـ كما قلنا ـ.

(٢) الحق أن المعانى الثلاثة الأخيرة (التمليك ـ شبهه ـ النسب) متقاربة ، ويمكن الاستغناء عنها بعد إلحاقها بحروف أخرى. ولكنها مع اللام أوضح ؛ فنسبت إليها. ولقد قيل : إن كل معنى من المعانى الثلاثة يستفاد من الجملة كلها ، لا من اللام وحدها وهذا صحيح. وقد أجابوا بأن فهم هذا المعنى من التركيب متوقف على «اللام» فنسب إليها.


٧ ـ التعدية (١) المجردة ؛ نحو : ما أحبّ العقلاء للصمت المحمود ، وما أبغضهم للثرثرة.

٨ ـ التعليل ؛ بأن يكون ما بعدها علة وسببا فيما قبلها. نحو : الاكتساب ضرورى ، لدفع الفاقة وذل الحاجة (٢).

٩ ـ التوكيد المحض ، وتكون فى هذه الحالة زائدة زيادة محضة لتأكيد معنى الجملة كلها ، لا معنى العامل وحده ـ كما شرحنا (٣) ـ ، ويجرى عليها ما يجرى على حرف الجر الزائد (٤). وأكثر ما تكون زيادتها بين الفعل ومفعوله ؛ نحو قول الشاعر :

وملكت ما بين العراق ويثرب (٥)

ملكا أجار (٦) لمسلم ومعاهد

أى : أجار مسلما ومعاهدا (٧). وقول الشاعر فى الغزل :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لى ليلى بكل سبيل

فالفعل : «أريد» متعد يحتاج للمفعول به ، ومفعوله الذى يكمل المعنى هو المصدر المؤول بعد «لام التعليل» الجارة. والأصل : أريد أن أنسى. واللام زائدة

__________________

(١) إذا كانت لمجرد التعدية فما بعدها فى حكم المفعول به معنى ، وإن كان مجرورا ـ كما سبق فى أول هذا الباب ، ص ٤٠٧ ، وفى باب : «التعدى واللزوم» ، ص ١٤٥ ـ

وكونها هنا للتعدية المجردة لا ينافى أنها فى بقية مواضعها للتعدية أيضا مع إفادتها شيئا آخر فى الوقت نفسه ، ـ كما جاء فى حاشية الصبان ـ.

(٢) ما بعدها هو السبب هنا ؛ لأن السبب لا بد أن يظهر فى الوجود قبل المسبب. والرغبة فى دفع الفاقة سابقة على وجود الاكتساب.

(٣) فى ص ٤١٧ ، ومنه يعلم : أن حرف الجر الزائد زيادة محضة لا يفيد إلا توكيد المعنى العام فى الجملة كلها ، وأنه لا يتعلق بعامل ، وأنه يمكن الاستغناء عنه ، دون أن يتأثر الكلام بحذفه. و... و...

(٣) فى ص ٤١٧ ، ومنه يعلم : أن حرف الجر الزائد زيادة محضة لا يفيد إلا توكيد المعنى العام فى الجملة كلها ، وأنه لا يتعلق بعامل ، وأنه يمكن الاستغناء عنه ، دون أن يتأثر الكلام بحذفه. و... و...

(٤) اسم للمدينة المنورة.

(٥) أجاره : نصره وحماه.

(٦) يستدل النحاة بالبيت السالف على زيادة «اللام» ـ كما قلنا ـ لكن البيت للشاعر «ابن ميّادة» من أبيات يمدح بها أمير المدينة وبعده :

ماليهما ودميهما من بعد ما

غشى الضعيف شعاع سيف المارد

وهذا يجعل الحكم بزيادة اللام غير مقطوع به ، إذ يصح أن يكون «المفعول به» هو «ماليهما» ...

إلا إن أعربنا هذه الكلمة «بدلا» من «مسلم» ... فالاستشهاد بالبيت السالف استشهاد بما يقبل الاحتمال من غير داع ، ولا يصلح للقطع.


بينهما. أو بين المتضايفين ؛ كقولهم : لا أبا لفلان ، على الرأى الذى يعتبرها زائدة (١).

وقد أجازوا زيادتها (٢) للضرورة الشعرية بين المنادى المضاف والمضاف إليه ، كقول الشاعر (٣) فى فتاة :

لو تموت لراعتنى ، وقلت ألا

يا بؤس للموت. ليت الموت أبقاها

وقول الآخر (٤) :

يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام ...

ومن المستحسن اليوم الاقتصار فى الزائدة على المسموع ؛ مبالغة فى الاحتياط ١٠ ـ التقوية. وهى التى تجىء لتقوية عامل ضعيف ؛ إما بسبب تأخره عن معموله. نحو قوله تعالى: (... إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ)(٥) وقوله تعالى : (... لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ،) وإما بسبب أنه فرع مأخوذ من غيره. كالفروع المشتقة ؛ مثل قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ.) وقوله : (... مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) وقول علىّ رضى الله عنه : «لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له ، والناهين عن المنكر العاملين به» ، فأصل الكلام فى الآيتين الأوليين : إن كنتم تعبرون الرؤيا ـ يرهبون ربّهم ... فلما تقدم كل من المفعولين على فعله ضعف الفعل بسبب تأخيره عن معموله (مفعوله) ؛ فجاءت اللام لتقويته (٦). وأصل الكلام فى الآيتين الأخيرتين وفى كلام علىّ : فعّال

__________________

(١) وهو أحد الأوجه التى أوضحناها ، وشرحنا معها الأسلوب ، والمراد منه ، فى ج ١ باب : «الأسماء الستة» م ٨ ص ٩٩.

(٢) كما سيجىء فى ج ٣ باب : «الإضافة» وفى ج ٤ باب : «النداء».

(٣) هو أبو جنادة العذرى من الشعراء الذين أدركوا الدولة الأموية.

(٤) هو النابغة الذبيانى ، وصدر البيت :

قالت بنو عامر خالوا بنى أسد ... إلخ : خالى فلان قبيلته : تركها ، والمراد : اتركوا بنى أسد ...

(٥) الرؤيا هنا : الحلم المنامى. وتعبيره : تفسيره.

(٦) أشرنا باختصار فى رقم ١ من هامش ص ٤٠٥ إلى أن اللام التى تفيد التقوية زائدة زيادة غير محضة ، (أى : أنها زائدة شبيهة بالأصلية) لأنها تفيد عاملها ـ لا الجملة ـ معنى جديدا ؛ هو : «التقوية» ومن أجل هذا المعنى تتعلق بعاملها فأشبهت حرف الجر الأصلى فى جلب معنى جديد يكمل ـ


ما يريد ـ مصدقا ما معهم ، التاركينه ... فكلمة : «فعال» صيغة مبالغة متعدية ، تعمل عمل فعلها ، ولكنها أضعف منه ، فجاءت اللام لتقويتها.

وكذلك كلمة : «مصدّقا» ، وكلمة «التاركين» وكلاهما اسم فاعل (١) ...

__________________

ـ العامل ، وفى التعلق بهذا العامل. ولكنها من ناحية أخرى يمكن حذفها فلا يتأثر المعنى بحذفها. لكل ما سبق لم تكن زيادتها محضة (راجع الصبان والتصريح عند كلامهما على «لام الجر» ثم «المغنى»)

ومما تجب ملاحظته أن لام التقوية لا تدخل على مفعولى عامل ينصب مفعولين مذكورين بشرط أن يتقدما عليه معا ، أو يتأخرا عنه معا ، فمتى وجد المفعولان كذلك فلن يصح دخولها عليهما معا ، ولا على أحدهما ، وإذا حذف أحدهما أو تقدم ، صح دخولها على الذى لم يحذف ، وكذا على المتقدم منهما ، كما فى الصبان ، ومقدمة «المغنى» التى جاء فيها على لسان ابن هشام ما نصه :

(وها أنا بائح بما أسررته ، مفيد لما قررته وحررته) فقال العلامة الأمير تعقيبا عليه ما نصه :

(اللام فى قوله : «لما» مقوية ؛ إذ مادة الإفادة تتعدى بنفسها. لا يقال : إنها تتعدى لمفعولين ؛ تقول أفدت محتاجا مالا ؛ وما يتعدى لمفعولين لا يقوى باللام ... لأنا نقول محل ذلك إذا كان المفعولان مذكورين ، مقدمين ، أو مؤخرين عن العامل ، كما يفيده كلام ابن مالك فى تعليل منع ذلك ؛ لأن اللام إما أن تزاد فيهما ؛ فيلزم تعدى عامل واحد بحرفى جر متحدين ـ وهذا ممنوع فى الأغلب ـ وإما أن يزاد فى أحدهما ؛ فيلزم الترجيح بلا مرجح. فإن كان أحدهما محذوفا كما هنا ... فإن «اللام» تدخل على المذكور ، لأن المحذوف حينئذ قطع النظر عنه ، سواء نزلت العامل بالنظر للمحذوف منزلة اللازم أو لا. وكذلك إذا تقدم أحدهما دخلت عليه اللام ؛ لأن العامل عن المتقدم أضعف. أو ناب أحدهما عن الفاعل ، نحو : محمود مفاد مالا ، دخلت على المنصوب. لأن طلبه المرفوع أقوى) اه.

هذا ، ومما يصلح أن تكون اللام فيه للتقوية قولهم فى الدعاء :

«سقيا للمحسن ، ورعيا له» ، ولهذا الأسلوب ـ وأمثاله ، تفصيلات معنوية ، وأحكام إعرابية مختلفة ، أوضحناها كاملة فى ج ١ م ٣٩ ص ٤٦٨.

(١) هذا كلام النحاة. ويزيدون أن حرف الجر أصلى هنا ؛ فهو مع مجروره متعلقان بالعامل الضعيف ... وكلامهم مردود بما سردناه فى ١ من هامش ص ١٧٣ «د» وبما نسرده هنا : فما معنى التقوية إذا كان من الممكن الصحيح حذف هذه اللام ، وتعدية الفعل أو المشتق إلى المفعول به مباشرة من غير حاجة إليها ، ما دام العامل معدودا فى اللغة من العوامل المتعدية بنفسها ؛ فنقول ؛ إن كنتم الرؤيا تعبرون ـ ربهم يرهبون ـ مصدقا ما معهم ـ فعال ما يريد ... فيصل بنفسه الفعل أو المشتق إلى المفعول به بغير حاجة إلى هذه الواسطة ؛ سواء أكان هذا العامل متقدما أم متأخرا؟ وكيف تكون اللام للتقوية مع أن الاسم قبلها كان مفعولا به منصوبا. فلما جاءت جرته ؛ فصار مفعولا به فى المعنى دون اللفظ. ولا شك أن العامل الذى يؤثر فى مفعوله لفظا ومعنى أقوى من العامل الذى يؤثر فيه معنى فقط ... وكان الأولى بالنحاة أن يقولوا إن هذه اللام تزاد جوازا فى المفعول به إذا تقدم على عامله الفعل ، كما تزاد فى المفعول به إذا كان عامله وصفا ينصب المفعول به متقدما أو متأخرا. وأن الجار والمجرور لا يتعلقان ـ لأن حرف الجر زائد وأن المجرور لفظا منصوب محلا.


١١ ـ الدلالة على القسم (١) والتعجب معا ، بشرط أن تكون جملة القسم محذوفة ، وأن يكون المقسم به هو لفظ الجلالة ؛ كقولهم : «لله!! لا ينجو من الزمان حذر». يقال هذا فى معرض الحديث عن رجل حريص يتوقى أسباب الضرر جهد استطاعته ، ولكنه بالرغم من ذلك يصاب.

وقولهم : «لله!! انتصرت الفئة القليلة المؤمنة بحقها على الفئة الكبيرة المختلفة».

وهذا يقال فى معرض الكلام عن قلة متوحدة ، مؤتلفة ، لم يكن أحد ينتظر لها الفوز والغلبة ، على كثرة تفوقها عدّة وعديدا. فلا بد من قرينة تدل على معنى القسم والتعجب المجتمعين فى «اللام». وبغير القرينة لا يتضح هذا المدلول.

ومن الجائز أن تحذف هذه اللام ويبقى المقسم به على حاله من الجر بشرط أن يكون لفظ الجلالة.

١٢ ـ الدلالة على التعجب بغير قسم ، بشرط القرينة أيضا ؛ ويكون بعد النداء كثيرا ؛ نحو : يا للأصيل (٢) وما به من روعة ـ يا للكشف العلمى وما انتهى إليه. ويكون بعد غيره ، نحو : لله درّ فلان شجاعا فى الحق ـ لله أنت معوانا فى الخير (٣) ...

__________________

(١) حروف القسم المشهورة هى : (الباء ـ التاء ـ الواو ـ اللام). إلا ان اللام تنفرد بأنها تدل على التعجب مع القسم. أما غيرها فمعناه مقصور على القسم وحده. وسيأتى تفصيل الكلام على كل واحد من الأربعة ، وأوجه الشبه والمخالفة بينه وبين إخوته. وهناك حرف خامس سبقت الإشارة إليه فى ص ٤٣٠ هو : «من» ، فقليل من العرب يستخدم هذا الحرف (بكسر ميمه أو ضمها) أداة قسم ، قد حذف فعل القسم وفاعله وجوبا ، فيقول : من الله لأناصرن النزيه. أى : والله. ولا يكاد يكون القسم معه بغير الله.

وأندر من هذا الحرف استعمال القدماء الحرف «ها» للقسم بعد «إى» التى بمعنى : «نعم» وبدونها .... جاء فى الأمالى (ج ١ ص ١٧٢) أن أعرابيا قال لآخر : أنشدنا ـ رحمك الله ، وتصدق على هذا الغريب بأبيات ... فقال : إى : ها الله إذا ... (انظر البيان الخاص بها فى رقم ٣ من هامش ص ٤٦٨).

(٢) الوقت بعد العصر إلى المغرب. ويجوز فى اللام هنا الفتح أو الكسر إذا كان المنادى مقصودا به التعجب (انظر ج ٤ ص ٦٦ م ١٣٤).

(٣) ويصح أن يكون من هذا ما يرد فى بعض النصوص القديمة ، من مثل قول الشاعر :

لاه ابن عمك لا أفضلت فى حسب

عنّى ، ولا أنت ديّانى فتخزونى

والأصل : الله ابن عمك ، بحذف لام الجر قبل لفظ الجلالة.


١٣ ـ الدلالة على العاقبة المنتظرة ، (أى : على النتيجة المرتقبة أو : الصيرورة). نحو : سأتعلم للحياة السعيدة ، وأتنقل فى جنبات المعمورة لتحصيل أنفع التجارب. ونحو : ربّيت النمر للهجوم علىّ. يقول هذا من صادف نمرا صغيرا فأشفق عليه وتعهده ، وخدع فيه ، ثم غدر به النمر ، فكأنه يقول ساخطا متألما متهكما : ربيته ، فكانت عاقبة التربية ونتيجتها الهجوم علىّ. ونحو : أربى هذ الولد الضال ليسرقنى ، ويفر كأخيه. يقول هذا من يؤوى إليه شريدا ، ويحسن إليه ، وهو يتوقع أن يغافله ، ويسرقه ، ويهرب ، كما فعل أخوه من قبل. وتسمى اللام فى الأمثلة السابقة وأشباهها : لام «الصيرورة» ، أو : «العاقبة» لأنها تبين ما صار إليه الأمر ، وتوضح عاقبته (١) ...

١٤ ـ الدلالة على التبليغ ؛ وهى الدالة على إيصال المعنى إلى الاسم المجرور بها ؛ نحو : قابلت صديقك ، ونقلت له ما تريد أن أقوله ... (وقد يسميها لذلك بعض النحاة «لام التعدية» يريد : إيصال المعنى وتبليغه).

١٥ ـ الدلالة على التبيين ؛ أى : إظهار أن الاسم المجرور هو فى حكم المفعول به معنى ، وما قبلها هو الفاعل فى المعنى كذلك ، بشرط أن تقع بعد اسم تفضيل أو فعل تعجب ، مشتقين من لفظ يدل على الحب ، أو البغض ، وما بمعناهما ؛ كالودّ ، والكره ، ونظائرهما ... ، نحو : السكون فى المستشفى أحبّ للمرضى ، وإطالة زمن الزيارة أبغض لنفوسهم. فالمجرور باللام فى المثالين ـ وأشباههما ـ فى حكم المفعول به من جهة المعنى (لوقوع أثر الكلام السابق عليه) لا من جهة الإعراب. فكلمة «السكون» هى الفاعل المعنوى ـ لا النحوى ـ الذى أوجد الحب ، وكان سببا فيه. وكلمة : «المرضى» هى المفعول به المعنوى ـ لا النحوى ـ الذى وقع عليه الحب ، وانصبّ عليه أثره. ومثل هذا يقال فى كلمتى : «إطالة ، ونفوس» فالأولى هى الفاعل المعنوى ـ لا النحوى ، والأخرى هى المفعول به المعنوى كذلك.

ومثل : البدوى الصميم أحبّ للصحراء ، وأبغض للحضر ، وما أكرهه

__________________

(١) ومنها قوله تعالى فى موسى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ؛ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً.)


للاستقرار ، ودوام الإقامة فى مكان واحد (١).

ومن هنا يتبين الفرق الدقيق بين : «إلى» التى تفيد التبيين ، و «اللام» التى تفيده أيضا (٢). ويتركز فى أن ما بعد «إلى» التبيينية «فاعل» فى المعنى لا فى اللفظ ؛ وما قبلها مفعول به فى المعنى كذلك. أما «اللام التبيينية» فبعكسها ؛ فما بعدها مفعول به معنوى لا لفظى ؛ وما قبلها فاعل معنوى كذلك ، فإذا قلت : الوالد أحب إلى ابنه. كان الابن هو المحب ، والوالد هو المحبوب ، أى : أن الابن هو فاعل الحب معنى ، والوالد هو الذى وقع عليه المحب ؛ فهو بمنزلة المفعول به معنى. أما إذا قلت : الوالد أحب لابنه ، فإن المعنى ينعكس ؛ فيصير الابن هو المحبوب ؛ فهو بمنزلة المفعول به معنى ، والأب هو المحبوب ، فهو بمنزلة الفاعل معنى. وقد سبق (٣) القول بأن مثل هذا الأسلوب دقيق يتطلب يقظة فى استعماله وفهمه (٤).

١٦ ـ أن تكون بمعنى : بعد (٥) ، كقولهم : كان الخليفة يقصد المسجد لأذان الفجر مباشرة ، ويصلى الصبح بالناس إماما ، ثم ينظر قضاياهم ، ولا يغادر المسجد إلا للعصر ، وقد فرغ من صلاته ، ونظر شئون رعيته. أى : بعد أذان الفجر مباشرة ، وبعد العصر. ومن هذا النوع ما كان يؤرخ به الأدباء رسائلهم ؛ فيقولون : كتبت هذه الرسالة لخمس خلون من «شوّال» يريدون : بعد خمس ليال مررن من شوال. ومثل قول الشاعر :

فلما تفرقنا كأنى ومالكا

لطول (٦) اجتماع لم نبت ليلة معا

__________________

(١) فالمراد : يحب البدوى الصحراء ... ـ يبغض البدوى الحضر ـ يكره البدوى الاستقرار.

(٢) راجع ما سبق فى ص ٤٣٤. حيث الإيضاح والضابط الذى يبين الفاعل والمفعول به المعنويين.

(٢) راجع ما سبق فى ص ٤٣٤. حيث الإيضاح والضابط الذى يبين الفاعل والمفعول به المعنويين.

(٣) من أمثلة اللام التبيينية : سقيا لك ـ رعيا لك ـ تبّا للخائن ... وفى هذه الأمثلة وأشباهها تفصيلات لغوية دقيقة ، لها آثار معنوية هامة تتصل باعتبارها جملة واحدة حينا ، وجملتين حينا آخر. وقد وفيناها حقها من الإبانة ، والإيضاح ، وعرض أقوم الطرائق لاستعمالها الصحيح ـ فى الجزء الأول ص ٣٨٠ ، م ٣٩ فى قسم الزيادة والتفصيل الخاص بمواضع حذف المبتدأ ، ولا مناص للباحث المستقصى من الرجوع إليها.

(٤) بعد ، من الظروف التى سبق الكلام عليها فى باب الظروف بهذا الجزء ص ٢٦٥.

(٥) جعلها بعضهم هنا بمعنى : مع ـ كما أشرنا فى ج ٣ ـ باب الإضافة م ٩٥ ص ١٠٩ ـ والأول أنسب.


١٧ ـ أن تكون بمعنى : «قبل» ، كقولهم فى التاريخ : كتبت رسالتى لليلة بقيت من رمضان. أى : قبل ليلة.

١٨ ـ أن تفيد الظرفية (١) نحو : قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ.) وقوله تعالى فى أمر الساعة : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ.) وقولهم فى التاريخ : كتبت هذه الرسالة لغرة شهر رجب ، وقولهم : مضى فلان لسبيله (أى : فى يوم القيامة ـ فى وقتها ـ فى غرة شهر رجب ـ فى سبيله ـ)

١٩ ـ أن تكون بمعنى : «من البيانية (٢)» كقول الشاعر يخاطب عدوّه :

لنا الفضل فى الدنيا وأنفك راغم

ونحن لكم يوم القيامة أفضل

أى : نحن أفضل منكم يوم القيامة.

٢٠ ـ أن تكون للمجاوزة (٣). (مثل : عن) كقول الشاعر :

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا وبغضا إنه لذميم

أى : عن وجهها ... ويرى بعض النحاة أنها هنا بمعنى الظرفية (أى مثل : «فى». وأنها لا تكون بمعنى : «عن» ، ولا بمعنى : «على» ، المفيدة للاستعلاء) (٤). والرأى السديد أنها إن دلت فى السياق على المجاوزة ، أو : الاستعلاء دلالة واضحة كالتى فى الأمثلة الواردة ـ جاز أن تكون من حروفهما ، وإلا طلبنا لها معنى آخر يظهر فيه الوضوح والإبانة.

٢١ ـ أن تكون لتوكيد النفى ، وهى الداخلة فى ظاهر الأمر ـ دون حقيقته ـ على المضارع المسبوق بكون منفىّ ؛ وتسمى : «لام الجحود» (٥) ؛ لسبقها بالنفى دائما. نحو : ما كان الحق لينهزم ، ولم يكن الباطل لينتصر.

٢٢ ـ أن تكون بمعنى : «مع» كقوله تعالى فى اليتامى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ،) أى : مع أموالكم.

__________________

(١) فتكون بمعنى : «فى».

(٢) سبق الكلام عليها (فى ص ٤٢٥).

(٣) سبق فى رقم ٢ من هامش ٤٢٩ تعريفها وبيان أقسامها.

(٤) جعلها بعضهم للاستعلاء الحسى فى مثل قوله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ...) وقول الشاعر : (فخر صريعا لليدين وللفم) ... وللاستعلاء المعنوى (وهو المجازى) فى مثل قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أى : إن أسأتم فعليها. والأمر متوقف على موضوع معناها فى السياق.

(٥) تفصيل الكلام عليها فى باب النواصب من الجزء الرابع.


حركة لام الجر :

تتحرك لام الجر بالكسرة إن دخلت على اسم ظاهر غير المستغاث (١) فى ، نحو : يا للقادر للضعيف ؛ وتتحرك بالفتحة إن دخلت على ضمير ، إلا على ياء المتكلم ؛ فتكسر فى نحو : رب اغفر لى ...

* * *

حتى (٢) : حرف جرّ أصلى ، وهو نوعان :

(ا) نوع لا يجر إلا الاسم الظاهر الصريح (٣) ، ومعنى : «حتى» فى هذا النوع الدلالة على انتهاء الغاية (٤) ولهذا تسمى فيه : «حتى الغائية» نحو : تمتعت بأيام الراحة حتى آخرها. والأكثر أن يكون الوصول إلى نهاية الغاية تدرجا وتمهلا ، أى : دفعات لا دفعة واحدة. والغالب كذلك أن يجرّ الآخر ، أو ما يتصل بالآخر مما يكون قبله مباشرة. نحو : شربت الكوب كله حتى الصّبابة ، وأتممت الصفحة حتى السطر الأخير. ونحو : سهرت الليلة حتى السّحر ، وتنقلت فى الحديقة حتى الباب الخارجىّ. والغالب أيضا أن تدخل نهاية الغاية فى الحكم (٥) الذى قبل «حتى». إلّا إذا قامت قرينة على عدم الدخول ؛ نحو : قرأت الكتاب كله

__________________

(١) وغير المنادى المقصود به التعجب ؛ كالذى سبق فى رقم ١٢ من ص ٤٤١ فإن اللام فيه صالحة للفتح والكسر.

(٢) سيجىء فى ج ٤ م ١٤٩ ص ٢٥٢ تلخيص مفيد لجميع أنواع «حتى» وتفصيل هام عن نوعها الجار.

(٣) المراد بالظاهر ما ليس ضميرا ، وبالصريح ما ليس مصدرا مؤولا من «أن المصدرية» والجملة المضارعية بعدها.

(٤) أى : على أن المعنى قبله ينتهى وينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور به ـ كما سبق ـ وعلامته. صحة وقوع : «إلى» الدالة على انتهاء الغاية مكانه.

«وحتى» أحد حروف ثلاثة تدل على انتهاء الغاية ـ وقد سبق الحرفان الآخران : «إلى» فى ص ٤٣٣ و «اللام» فى ص ٤٣٧ ـ وإذا كانت «حتى» لانتهاء الغاية اقتضت أن ينقضى ما قبلها شيئا فشيئا ، لا دفعة واحدة ، ولا سريعا ؛ فلا بد فى انقضائه من التدرج والتمهل ـ كما سيجىء ـ.

(٥) وهذا أحد الأوجه التى تخالف فيها : «إلى». ومنها أيضا ؛ أنه يجوز أن نقول : كتبت إلى الأخ رسالة ، ولا يصح : كتبت حتى الأخ رسالة ، لأن «حتى» الغائية تتطلب ـ كما سبق ـ أن ينقضى المعنى قبلها شيئا فشيئا ، وعلى عدة دفعات حتى يصل إلى نهاية الغاية ؛ بخلاف «إلى» والكناية لا تحتاج إلى هذا ، فناسبها «إلى» ـ كما يجوز أن تقول : انتقلت من البادية إلى الحاضرة ، ولا يحسن أن تقول : «حتى» الحاضرة ؛ لأن الأساليب الصحيحة المأثورة التزمت ـ أو كادت ـ مجىء : «إلى» الدالة على النهاية بعد : «من» الدالة على البداية. ـ


حتى الفصل الأخير ؛ فنهاية الغاية داخلة بقرينة تدل على الشمول والعموم ؛ هى كلمة «كل» ، بخلاف : كدت أفرغ من الكتاب ؛ فقد قرأته حتى الفصل الأخير ، لأن كلمة : «كدت» التى معناها : «قاربت» تدل على أنّ بعضه الأخير لم يقرأ ... وعلى هذا لا يستحسن الإتيان «بحتى» فى مثل : قرأت الكتاب حتى ثلثه أو نصفه ، وإنما يجىء مكانها «إلى».

(ب) نوع لا يجر إلا المصدر المنسبك من «أن» المضمرة وجوبا وما دخلت عليه من الجملة المضارعية. وأشهر معانى هذا النوع ثلاثة : الدلالة على انتهاء الغاية ، كالنوع ، السابق ، أو الدلالة على التعليل (١) أو الدلالة على الاستثناء إن لم يصلح أحد المعنيين السابقين.

وهذا النوع ـ كما قلنا ـ لا يجر إلا المصدر المنسبك من «أن» الناصبة المقدرة وجوبا ، ومن صلتها الفعلية المضارعية (٢) ؛ نحو : أتقن عملك حتى تشتهر ـ اجتنب الكسب الخبيث حتى تسلم ثروتك ـ التاجر الحصيف يحرص على الأمانة حتى يزداد ربحه ... ولا يصح أن تكون فى هذه الأمثلة لانتهاء الغاية ؛ لأن انتهاء الغاية يقتضى انقطاع ما قبل : «حتى» وانتهاءه بمجرد وقوع

__________________

ـ ومنها : أن «حتى» قد تجر المصدر المنسبك من : (أن المضمرة وجوبا ، والفعل المضارع وفاعله ،) نحو : أسرعت حتى أدرك القطار ، أى : أن أدرك ، ولا يصح أسرعت إلى أدرك القطار ؛ إذ لا تدخل «إلى» على الفعل مطلقا إلا مع «أن» الظاهرة.

فملخص الفروق خمسة :

أن : «إلى» تجر الظاهر والمضمر ، أما : «حتى» فلا تجر إلا الظاهر فى أصح الآراء ، ويجب الاقتصار عليه. وأن : «نهاية الغاية» لا تدخل مع «إلى» إلا بقرينة ، والأمر بالعكس مع «حتى» فالغاية النهائية معها داخلة ، ولا تخرج إلا بقرينة. وأن «إلى» تقتضى انقضاء ما قبلها ـ غالبا ـ بغير تمهل أو انقطاع. بخلاف «حتى». ولهذا آثار فى التعبير. وأن «إلى» لا تدخل على المضارع بدون «أن» الظاهرة التى تنصبه بخلاف «حتى» فإنها تدخل عليه إذا كان منصوبا بأن المقدرة بعدها فتجر المصدر المنسبك : وأن : «إلى» تجىء للدلالة على النهاية حين توجد : «من» الدالة على البداية ولا يصح مجىء : «حتى».

(١) الدلالة على أن ما قبلها علة وسبب فيما بعدها. فهى مخالفة للام التعليل وامثالها مما يكون ما بعده هو العلة (انظر رقم ٨ من ص ٤٣٨).

(٢) ل «حتى» الجارة للمصدر المنسبك من «أن» الناصبة للمضارع وصلتها ، عدة أحكام أخرى مكانها المناصب الذى ستذكر فيه تفصيلا هو الجزء الرابع ، باب : «إعراب الفعل» حيث الكلام على : «النواصب» ...


ما بعدها وحصوله ، ولا يتحقق هذا فى الأمثلة السالفة إلا بفساد المعنى ؛ إذ ليس المراد أن يتقن المرء عمله حتى يشتهر ؛ فإذا اشتهر ترك الإتقان ... ولا أن يجتنب الكسب الخبيث حتى تسلم ثروته ، فإذا سلمت لا يجتنبه ... ، ولا أن يحرص على الأمانة حتى يزداد ربحه ، فإذا ازداد تركها ؛ ليس المقصود شيئا من هذا لفساده. فهى فى تلك الأمثلة للتعليل.

ومثال الدلالة على انتهاء الغاية : أقرأ الكتاب النافع حتى تنتهى صفحاته ـ يمتد الليل حتى يطلع الفجر ...


زيادة وتفصيل :

(ا) قلنا فيما سبق : إن «حتى» الجارة نوعان : يجر الاسم الصريح ، ومعنى هذا النوع الدلالة على الغائية ، أى : على نهاية الغاية ، فيجر الآخر ، أو ما يتصل بالآخر. ونوع يجر المصدر المنسبك من «أن» المضمرة وجوبا وما دخلت عليه من الجملة المضارعية. ومعنى هذا النوع ، إما نهاية الغاية (١) وإما التعليل ، وإما الاستثناء.

فمن معانى «حتى» : الدلالة على الاستثناء وهذا أقل ـ استعمالاتها ، ولا يلجأ إليه إلا بعد القطع بعدم صحة واحد من المعنيين السابقين ـ ولا تجر فيه إلا المصدر المنسبك من «أن» الناصبة المستترة وجوبا ومن صلتها الفعلية المضارعية. وتكون «حتى» فى هذه الحالة بمعنى «إلا» الاستثنائية. والغالب أن يكون الاستثناء منقطعا ، فتكون «إلا» فيه بمعنى «لكن» أى : يصح أن يحل محلها : «لكن» التى تفيد الابتداء والاستدراك معا ؛ (فيكون الاستثناء منقطعا) (٢) ؛ نحو :

__________________

(١) يفهم من هذا أن «حتى» لا بد أن تكون لنهاية الغاية إذا كان المجرور بها اسما صريحا ، ولا عكس ؛ فلا يلزم من كونها للغاية أن يكون المجرور بها اسما صريحا. لا يلزم هذا ؛ لجواز أن يكون مصدرا مؤولا من أن المصدرية وصلتها الجملة المضارعية.

(٢) قد تكون : «حتى» مع «أن» المستترة بمعنى : (إلا أن) ؛ فيكون الاستثناء منقطعا ، مع ملاحظة أن أداة الاستثناء ، هنا مقصورة على : «إلا» وحدها. أما الحرف : «أن» الذى يليها فلا شأن له بالاستثناء ، وإنما جىء به لمجرد التفسير والإيضاح.

وقد يكون الاستثناء ـ أحيانا ـ متصلا كما فى بعض الأمثلة التى عرضت ، وكما فى نحو : لا أجيب الصديق حتى يدعونى لمزاملته ؛ أى : لا أجيبه وقتا إلا وقت دعوتى. ببقاء النفى الذى قبل «حتى» على حاله بعد تأويلها ـ كما هو الأغلب ـ. فالاستثناء متصل مفرغ للظرف ، ولا تصلح «حتى» غائية ، لأن عدم الإجابة لا يقع تدريجا على دفعات ؛ إذ الإجابة لا تمتد ولا تتطاول إلى زمن الدعوة ، بل إنها لا تكون قبل الدعوة ، ولا تصلح أن تكون «تعليلية» ؛ لأن عدم الإجابة ليس سبب الدعوة. فلم يبق إلا أن تكون بمعنى الاستثناء ، وهو صالح هنا أن يكون متصلا ؛ فلا يعدل إلى الانقطاع. ومثله قوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ... ،) أى : ما يعلمان من أحد وقتا (أى : فى وقت) إلا وقت أن يقولا ... ولهذه المسألة بيان أشمل ، يستوعب جوانبها الهامة المختلفة ، وهو فى ج ٤ م ١٤٩ باب النواصب ص ١٤٩.


لا يذهب دم القتيل هدرا حتى تثأر (١) له الحكومة. أى : إلّا أن تثأر له الحكومة ، بمعنى : لكن تثأر له الحكومة ؛ فلا يذهب هدرا. والغالب فى هذا المثال ـ وأشباهه ـ أن يبقى النفى الذى قبل «حتى» على حاله بعد تأويلها بالحرف «إلا».

ولا يصح فى المثال أن تكون : «حتى» للغاية ؛ لأن «حتى» الغائية ـ كما عرفنا ـ إذا وقع ما بعدها وتحقق معناه توقف المعنى الذى قبلها ، وانقطع.

على هذا فالحكومة حين تثأر للقتيل ، ينقطع عدم ذهاب دمه هدرا ؛ وانقطاعه وتوقفه يؤدى ـ حتما ـ إلى وقوع ضده وحصوله ؛ أى : إلى أن دمه يذهب هدرا. وهذا فاسد.

وشىء آخر يمنع أن تكون «حتى» غائية فى المثال ؛ هو : أن ما قبلها لا ينقضى شيئا فشيئا.

وكذلك لا تصح أن تكون : «حتى» «تعليلية» ، لأن ما قبلها ـ هنا ـ ليس علة وسببا فيما بعدها ؛ إذ عدم ذهاب دمه هدرا بالفعل ليس هو السبب فى انتقام الحكومة له ؛ لأنّ هذا يناقض المراد ، وإنما الانتقام له فعلا واقعا هو السبب فى عدم ذهاب دمه هدرا ، إذ السبب لا بد أن يسبق المسبّب ، ويوجد قبله ؛ ليجىء بعده ما ينشأ عنه ، ويترتب عليه ، وهو : المسبب ، فأخذ الثأر لا بد أن يوجد أوّلا. ليوجد بعده عدم ذهاب الدم هدرا ، لا العكس.

وإذا كانت «حتى» فى المثال السابق وأشباهه لا تصلح أن تكون غائية ولا تعليلية فلا مفرّ بعدهما من أن تكون بمعنى : «إلا» الاستثنائية ، فى استثناء منقطع ؛ أى : أنها بمعنى : «لكن» التى تفيد الابتداء والاستدراك معا ـ كما أسلفنا ـ ومن الأمثلة : ١ ـ كل مولود يولد جاهلا بالشرّ حتى يتعلّمه من أسرته وبيئته. بمعنى إلا أن يتعلمه. أى : لكن يتعلمه. فلا تصلح أن تكون «غائية» ؛ لأن ما قبلها هنا لا يقع متدرجا متطاولا بحيث يمتد إلى ما بعدها. بل يقع دفعة واحدة. ولا تصلح أن تكون «تعليلية» ، لأن ولادة الجاهل بالشر ليست هى العلة المؤثرة فى أمر

__________________

(١) تثأر ؛ أى : تأخذ بثأره ، وتقتص له من الجانى.


التعلم ، ولا السبب المباشر فيه ؛ إذ العلة لا يتخلف أثرها ؛ فلا بد أن يتحقق بتحققها المعلول ، ويوجد بوجودها ؛ لأن العلة لا يتأخر عنها المعلول ، فلم يبق إلا أن تكون «حتى» ، بمعنى : «إلا» فى استثناء منقطع ، أى : بمعنى : «لكن» المشار إليها.

(٢) ناديتك حتى نحصد القمح بعد ساعات ؛ فالنداء ليس فيه تمهل وتدرج يمتدان إلى وقت الحصد ، وليس سببا مباشرا فى الحصد.

٣ ـ افتح نوافذ الحجرة نهارا حتى يشتد (١) البرد ليلا ... ويقال فيه ما سبق.

(ب) من الأمثال : «ما سلّم القادم العزيز حتى (٢) ودّع». (وهو مثل يقال فيمن قصرت مدّة زيارته). أى : ما سلّم فى زمن ؛ لكن ودّع فيه ، أو : ما سلّم فى زمن إلّا زمنا ودّع فيه (٣).

__________________

(١) وفى معانى الحروف الثلاثة : (حتى ـ اللام ـ إلى) يقول ابن مالك :

للانتها : «حتّى» ، و «لام» ، و «إلى»

و «من» ، و «باء» يفهمان بدلا

واللّام للملك وشبهه ، وفى

تعدية أيضا ، وتعليل ، قفى

[وزيد ...]

(قفى ، أى : نسب وعرف).

سرد ابن مالك فى هذين البيتين وكلمة من أول الثالث ـ عدة معان لعدد من الحروف ؛ فبين أن : «حتى» و «اللام» و «إلى» تشترك فى تأدية معنى واحد ؛ هو : الانتهاء. وأن «من» و «الباء» يتركان فى معنى واحد ؛ هو : البدلية. وأن اللام ـ بعد ذلك ـ تفيد معنى الملك وشبهه ، والتعدية ، والتعليل ، وقد تقع زائدة. واكتفى بهذه المعانى القليلة التى سردها لعدد من حروف الجر سردا مختلطا مبتورا ومن أسبابه ضيق الأوزان الشعرية وقيودها التى لا تتسع لما يتسع له النثر. وقد تداركنا الأمر بالشرح والترتيب المناسبين.

(٢) ويلاحظ أن «حتى» فى هذا المثال حرف ابتداء ؛ لوقوع الماضى بعدها ؛ فليست حرف جر ؛ إذ الجارة لا بد من دخولها ـ كما عرفنا ـ على اسم صريح أو على مصدر منسبك من «أن» وصلتها الجملة المضارعية.

(٣) ففيه نوع شبه بما مر فى رقم ٢ من هامش ص ٤٤٨ برغم الاختلاف فى نوع : «حتى».


ومن المستحسن التخفف من استعمال «حتى» التى بمعنى «إلّا» قدر الاستطاعة ؛ لأن فهم المراد منها ، والتمييز بينها وبين نوعيها الآخرين ـ لا يخلو من صعوبة ، ولأن كثيرا من النحاة لا يوافق على أنها تكون بمعنى «إلا» ويتأول الوارد منها.

(ح) وضح مما تقدم أن «حتى» الجارّة بنوعيها لا تدخل على جملة ، لأن التى تدخل على الجملة (الاسمية أو الفعلية) نوع آخر ، يسمى : «حتى الابتدائية» (١) وسيجىء تفصيل الكلام عليها فى موضعها المناسب (٢) ...

* * *

__________________

(١) وهى الداخلة على جملة مضمونها غاية (أى : نهاية) لشىء قبلها (كما جاء فى الخضرى ـ ج ٢ باب «العطف» عند الكلام على «حتى»).

(٢) باب النواصب ، ج ٤ ص ٢٥٢ م ١٤٩.


الواو والتاء : حرفان أصليان للجر ، ومعناهما القسم (١) ـ غير الاستعطافىّ (٢) ـ ولا يصح أن يذكر معهما جملة القسم ، وهما لا يجران إلا الاسم الظاهر. والتاء لا تجر من الأسماء الظاهرة إلا ثلاثة : (الله ـ رب ـ الرحمن) ومن الشذوذ أن تجر غير هذه الثلاثة.

فمن أمثلة واو القسم قول الشاعر :

فلا وأبيك ما فى العيش خير

ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

ومن أمثلة تاء القسم قوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ ...)

ويجرى على الحرفين السابقين ما يجرى على كل حروف القسم من جواز الحذف (٣) مع بقاء المقسم به مجرورا بشرط أن يكون هو لفظ الجلالة (أى : الله).

* * *

الباء : حرف يجر الظاهر والمضمر ، ويقع أصليّا وزائدا (٤) ، ويؤدى عدة معان ، أشهرها خمسة عشر :

١ ـ الإلصاق حقيقة أو مجازا ؛ نحو : أمسكت باللّص ، ومررت بالشرطىّ. فمعنى أمسكت به : قبضت على شىء من جسمه ، أو مما يتصل به اتصالا مباشرا ؛ كالثوب ونحوه. وهو ـ عند كثير من النحاة ـ أبلغ من : أمسكت اللص ؛ لأن معناه مع «الباء» ، المنع من الانصراف منعا تامّا.

ومعنى مررت به : ألصقت مرورى بمكان يتصل به ...

٢ ـ السببية أو التعليل (بأن يكون ما بعدها سببا وعلة فيما قبلها). نحو :

__________________

(١) أشرنا فى رقم ١ من هامش ص ٤٤١ إلى أن أحرف القسم المشهورة أربعة : «اللام» وقد سبق الكلام عليها هناك ، وكذلك «الواو والتاء والباء» ، وسيجىء الكلام على الثلاثة هنا. والصحيح أن «الواو» و «التاء» أصيلان فى القسم ، وليسا نائبين فيه عن «الباء» وليست الباء بعدهما مقدرة تجر الاسم ؛ لأن هذا تعقيد لا داعى له. وقد أشرنا أيضا فى تلك الصفحة إلى أن بعض العرب يستعمل الحرف «من» (بكسر الميم أو ضمها) حرف قسم ، ولا يكاد يجر به إلا كلمة : «الله». نحو : من الله لأصاحبنك. وأندر من هذا استعمال كلمة : «ها» حرف قسم بعد كلمة : «إى» : ، بمعنى : نعم أو بدونها. ولا داعى اليوم لاستعمال هذه اللغات النادرة.

(٢) إيضاحه فى ص ٤٥٩ و ٤٦٠.

(٣) لحذف حروف الجر ـ ومنها حروف القسم ـ موضوع مستقل يجىء فى ص ٤٩١.

(٤) وأحسن لغاته أن يتحرك بالكسر فى جميع أحواله.


كل امرئ يكافأ بعمله ، ويعاقب بتقصيره. أى : بسبب عمله ، وبسبب تقصيره .. وقول الشاعر :

إنما ينكر الديانات قوم

هم بما ينكرونه أشقياء

وقول الآخر :

جزى الله الشدائد كل خير

عرفت بها عدوى من صديقى ...

والمراد : هم أشقياء بسبب ما ينكرونه ـ وعرفت بسببها ... (١)

٣ ـ الاستعانة ، (بأن يكون ما بعد الباء هو الآلة لحصول المعنى الذى قبلها) (٢) ؛ نحو : سافرت بالطيارة ـ رصدت الكوكب بالمنظار ، وهذا المعنى هو والإلصاق أكثر معانيها استعمالا.

٤ ـ الظرفية ؛ نحو قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ....) أى : فى بدر.

٥ ـ التعدية ، أو : النقل (وهى التى يستعان بها ـ غالبا ـ فى تعدية الفعل اللازم إلى مفعول به ، كما تعديه همزة النقل) ، نحو : ذهبت بالمريض إلى الطبيب ، بمعنى : أذهبته. وقعدت بفلان همته عن الطموح ، بمعنى : أقعدته ...

٦ ـ أن تكون بمعنى كلمة : «بدل» ، (بحيث يصح حلول هذه الكلمة محل «الباء» من غير أن يتغير المعنى) ، مثل : ما يرضينى بعملى عمل آخر ـ أرتضى بالملاكمة رياضة أخرى. أى : ما يرضينى بدل عملى عمل آخر ، ـ أرتضى رياضة أخرى بدل الملاكمة (٣).

__________________

(١ و ١) الفرق بين باء الاستعانة وباء السبب ، أن «باء» السببية داخلة على السبب الذى أدى إلى حصول المعنى الذى قبلها ، وتحققه سلبا ، وإيجابا ؛ نحو : مات الرجل بالمرض ، أى : بسبب المرض ، وأن «باء» الاستعانة داخلة على أداة الفعل وآلته التى هى الواسطة بين الفاعل ومفعوله ؛ نحو : فتحت الباب بالمفتاح ـ قطعت اللحم بالسكين ـ كتبت الرسالة بالقلم.

(٢) إذا كانت الباء بمعنى : «بدل» فالأكثر دخولها على المتروك ؛ (أى : على الشىء الذى لم يؤخذ للاستغناء عنه بأخذ غيره ، بدلا منه). ويصح دخول «الباء» على المأخوذ لا المتروك ، فقد جاء فى المصباح مادة : «بدل» ما نصه : «(أبدلته بكذا إبدالا ، نحيت الأول ، وجعلت الثانى مكانه)» اه وفى مختار الصحاح ، مادة : «بدل» ما نصه : «(الأبدال قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم ، إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر)» اه وجاء فى تاج العروس ـ مادة : «بدل» ـ ما نصه : ـ


ومنه قول الشاعر :

إن الذين اشتروا دنيا بآخرة

وشقوة بنعيم ، ساء ما فعلوا

٧ ـ العوض (١) (أو : المقابلة) ؛ نحو : اشتريت الكتاب بعشرة دراهم واشتراه أخى بأحد عشر ...

٨ ـ المصاحبة (٢) ؛ نحو قوله تعالى : (اهْبِطْ بِسَلامٍ،) ونحو : سافر برعاية الله ، وارجع بعنايته. أى : مع سلام ـ مع رعاية الله ـ مع عنايته.

٩ ـ التبعيض ، أو : البعضيّة ، (بأن يكون الاسم المجرور بالباء بعضا من شىء قبلها). نحو قوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ،) أى : منها ،

__________________

ـ (قال ثعلب ، يقال : أبدلت الخاتم بالحلقة ، إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه ، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته ، وسويته حلقة. وبدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما. قال : وحقيقته أن التبديل تغيير الصورة إلى صورة أخرى والجوهرة بعينها. والإبدال : تنحية الجوهرة واستئناف جوهرة أخرى.

وقال أبو عمرو : فعرضت هذا على المبرد فاستحسنه ، وزاد فيه فقال : وقد جعلت العرب أبدلت مكان بدلت ..) اه.

وجاء فى تفسير الألوسى لقوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) مثل ما سبق من كلام ثعلب ، وزاد شاهدا آخر لدخول الباء على المأخوذ ، هو قول الطفيل لما أسلم :

«وبدّل طالعى نحسى بسعد» اه

ولا فرق فى هذا بين أن يكون ما تعلق به الجار والمجرور هو الفعل : «بدل» وفروعه ، وما تصرف منه ، أم غيره ـ بقرينة ـ. ومن الأمثلة الأخرى قول عروة بن الورد :

فلو أنى شهدت أبا سعاد

غداة غدا بمهجته يفوق

فديت بنفسه نفسى ومالى

ولا آلوك إلا ما أطيق

(يفوق : يجود بها ويلفظها ساعة الاحتضار) ، يريد : فديت بنفسى ومالى نفسه. أى : قدمتهما فداء له ، وبدلا منه.

(١) المراد بالعوض : دفع شىء من جانب ، فى نظير أخذ شىء يقابله من جانب آخر. والفرق بين العوض والبدل ، أن العوض هو دفع شىء فى مقابلة آخر. أما البدل فهو اختيار أحد الشيئين وتفضيله على الآخر من غير مقابلة من الجانبين كأن يكون أمامك شيئان لتختار أحدهما ؛ فتقول آخذ هذا بدل الآخر من غير أن يكون هناك تعويض. وهذا هو الشائع ، وقيل : البدل أعمّ مطلقا ؛ فهو الدال على اختيار شىء وتفضيله على آخر ؛ سواء أكان هناك مقابلة وعوض أم لا. والحكم فى هذا للقرينة ؛ فهى التى تعين المراد وتوجه الذهن إليه.

(٢) سبق توضيحها فى رقم ١ من هامش ص ٤٣٤ عند الكلام على : «إلى».


وقولهم : حفلت المائدة ؛ فتناولت بها شهى الطعام ، ولذيذ الفواكه. أى : تناولت منها(١) ...

١١ ـ المجاوزة (٢) ؛ نحو قوله تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً.) أى : عنه. وقوله تعالى فى وصف المؤمنين يوم القيامة : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ؛ وَبِأَيْمانِهِمْ) أى : عن أيمانهم ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ،) أى : عن الغمام ...

١٢ ـ الاستعلاء ؛ كقولهم : من الناس من تأمنه بدينار فيخون الأمانة ، ومنهم من تأمنه بقنطار من الذهب فيصونه ويؤديه كاملا ، أى : على دينار ، وعلى قنطار.

١٣ ـ أن تكون بمعنى : «إلى» ، نحو قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ....) بمعنى أحسن إلىّ.

١٤ ـ التوكيد (٣) ؛ (وهى الزائدة) ؛ نحو : قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ...) ونحو : بحسبك البراعة الفنية ، ونحو : ليس المال بمغن عن التعلّم (٤) ...

ويجوز زيادتها فى المبتدأ الواقع بعد «إذا الفجائية» ؛ نحو : نزلت البحر فإذا بالماء بارد (٥). وتزاد وجوبا فى الاسم بعد صيغة «أفعل» المستعملة فى التعجب القياسى ؛ نحو : أعظم بالمحسن (٦) ـ بشرط ألا يكون الاسم مصدرا مؤولا من «أنّ وأن» وصلتهما (٧) ـ فإن كان المصدر مؤولا من إحداهما ومعها

__________________

(١) ومثل قول المتنبى يمدح :

فإن نلت ما أمّلت منك فربما

شربت بماء يعجز الطير ورده

(٢) سبق إيضاح معناها وأقسامها فى رقم ٢ من هامش ص ٤٢٩.

(٣) سبق معنى التوكيد المستفاد من الحرف الزائد ، فى أول هذا الباب ص ٤١٧ ، وكذلك فى الجزء الأول (م ٥ ص ٦٥). أما مواضع زيادة الباء. فتوضحها الأمثلة الآتية هنا ، وفى ص ٤٥٧.

(٤) ومثل هذا قول الشاعر :

أفسدت بالمنّ ما أسديت من حسن

ليس الكريم ـ إذا أعطى ـ بمنّان

(٥) سبقت الإشارة لهذا فى ص ٢٦٣.

(٦ ، ٦) لهذا إشارة فى ص ٩١ ؛ وانظر ـ للأهمية ـ رقم ٣ من هامش ص ٤٩١ وج ٣ ص ٢٧٩ م ١٠٨ باب : «التعجب».


صلتهما جاز حذف «الباء» وذكرها إلا فى الرأى الذى يوجب هنا ذكرها قبل «أنّ» المشددة ومعموليها ، وهو رأى يفرق بينهما فى هذه الصورة وحدها من غير داع ـ كما أشرنا (١) ـ.

* * *

وكذلك تزاد وجوبا فى مثل : «جاء القوم بأجمعهم» ـ بفتح الميم أو ضمها ـ فكلمة : «أجمع» هذه من ألفاظ التوكيد القليلة ، ولا بد أن تضاف إلى ضمير المؤكّد ، وأن تسبقها «الباء» الزائدة الجارة. وهى زائدة لازمة لا تفارقها. وتعرب كلمة : «أجمع» توكيدا مجرور اللفظ وله محل إعرابى على حسب الجملة ـ (كما سيجىء فى ج ٣).

اتصال ما «الزائدة بالباء» :

يصح زيادة : «ما» بعد «باء» الجر ؛ فلا يؤثر هذا الحرف الزائد فى معناها ، ولا فى عملها ؛ بل يبقى لها كل اختصاصها الذى كان قبل اتصالها بالحرف الزائد ؛ نحو قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ،) أى : فبرحمة من الله ، وبسببها (٢) ...

__________________

(١) فى رقم ٣ من هامش ص ٤٩١.

(٢) وسيشير إلى هذا ابن مالك ـ آخر الباب ـ فى هامش ص ٤٧٦ حيث يقول :

وبعد «من» ، و «عن» ، و «باء» زيد «ما

فلم يعق عن عمل قد علما

أى : زيدت «ما» بعد كل واحد من هذه الثلاثة فلم تعقه (لم تمنعه) عن العمل الذى عرفناه له.


زيادة وتفصيل :

تعددت هنا الأمثلة للباء الزائدة كى تدل على أنها تزاد فى الفاعل ، والمفعول به ، والمبتدأ ، وخبره ، وخبر الناسخ. وقد تزاد فى غير ذلك قليلا.

بقى أن نسأل : أزيادتها قياسية أم سماعية (١)؟ الأحسن الأخذ بالرأى القائل : إن الزائدة فى الفاعل تكون واجبة فى فاعل فعل التعجب الذى صيغته القياسية : «أفعل» ، مثل : أصلح بنفسك ، وأحسن بعملك ؛ بمعنى : ما أصلح نفسك!! وما أحسن عملك!!

وتكون جائزة ، فى فاعل : «كفى» ، مثل : كفى بالله شهيدا.

أما الزائدة فى المفعول به فغير مقيسة ، ولو كان مفعولا به للفعل : «كفى» نحو : كفى بالمرء عيبا أن يكون نمّاما.

وقول الشاعر :

كفى بالمرء عيبا أن تراه

له وجه وليس له لسان

ويستثنى من هذا زيادتها فى مفعول الأفعال الآتية : (عرف ـ علم بمعنى : عرف ـ جهد ـ سمع ـ أحسن). فإن هذه الزيادة جائزة.

والزائدة فى المبتدأ والخبر غير قياسية ؛ إلا فى مثل الأنواع المسموعة (٢) كثيرا منها ـ كالتى : بعد «كيف» و «إذا» وقبل : «حسب» ـ كقول الشاعر :

وقفنا ، فقلنا إيه عن أمّ سالم

وكيف بتكليم الديار البلاقع؟

__________________

(١) راجع فيما يأتى : المغنى ، حرف الباء ، وحاشية الصبان ـ ج ٢ ـ باب حروف الجر عند الكلام على الباء الجارة.

(٢) ما المراد هنا من المسموع؟ أهو عام بعد «كيف» يشمل إدخال الباء على المبتدأ الاسم الظاهر ، وعلى الضمير مطلقا ؛ (لمتكلم أو لمخاطب ، أو لغائب ، من غير تقيد بنوع الضمير المسموع ولا بلفظه) ، وكذلك إدخالها على المبتدأ الذى يلى «إذا» الفجائية بغير تقيد؟ ـ أم أن المراد هو الاقتصار على نص الضمير المسموع لفظا ونوعا بعد «كيف» وعلى الاسم الظاهر ، وكذلك على نص المبتدأ المسموع لفظا ونوعا بعد «إذا» الفجائية؟

الأحسن الأخذ بالرأى الأول الذى يفيد العموم فى هذين الموضعين ؛ فيبيح زيادة الباء فى صدر المبتدأ التالى : «كيف» و «إذا» الفجائية مطلقا من غير تقيد باسم ظاهر ، ولا ضمير ، ولا نوع من أحدهما. وهذا الرأى هو الأقوى الذى تؤيده الشواهد الكثيرة الفصيحة. أما زيادتها قبل «حسب» فمقصور على لفظها ذاته.


ونحو : كيف (١) بك إذا اشتد الأمر ـ أصغيت فإذا بالطيور (٢) مغردة ـ بحسبك علم نافع ، ومثل : منعكها بشىء يستطاع.

أما زيادتها فى خبر : «ليس» ، وخبر : «ما» النافية ، وخبر : «كان» المنفية ، فقياسية ؛ كزيادتها : فى كلمتى : النفس ، والعين ، عند استعمال لفظهما فى (٣) التوكيد ؛ مثل : اخترقت الطائرات السحاب نفسه أو بنفسه ، واجتازت الغلاف الهوائى عينه أو بعينه. قطعت السيارات نفسها أو بنفسها ، الصحراء.

__________________

(١) وأصل الجملة ـ كما سبقت الإشارة لهذا ج ١ ـ هامش رقم ٢ من ص ٤٠٥ م ٣٣. ـ كيف أنت؟ فلما زيدت الباء الجارة وجب تغيير الضمير : «أنت» ؛ لأنه ضمير للمخاطب مقصور على الرفع ؛ فأتينا بضمير يؤدى معناه ، ويصلح لدخول حرف الجر وهو «كاف الخطاب» فالكاف مجرورة لفظا فى محل رفع مبتدأ. ومثلها : «الباء» فى نحو : خرجت فإذا بالشمس طالعة. فالباء زائدة فى المبتدأ المجرور لفظا المرفوع محلا ، (كما سيأتى فى رقم ٢).

(٢) مثال للمبتدأ الواقع بعد «إذا» الفجائية وقد دخلته الباء الزائدة. ومثله ما سبق فى رقم ١.

(٣) إيضاح هذا فى باب التوكيد ج ٣ ص ٤٩ م ١١٦.


١٥ ـ الدلالة على القسم ؛ وهذا من أكثر استعمالاتها ، وهى الأصيلة فيه دون حروفه السابقة (اللام ، الواو ، التاء ، من ...) وتشاركها فى جواز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها على حاله ؛ بشرط أن يكون هذا الاسم هو لفظ الجلالة (الله) ولكنها تخالف تلك الحروف فى ثلاثة أمور تنفرد بها ، ولا يوجد واحد منها فى حرف آخر من حروف القسم ، غير الباء ؛ هى :

جواز إثبات فعل القسم وفاعله معها أو حذفهما ؛ نحو : أقسم بالله لأعاونن الضعيف ، أو بالله لأعاونن الضعيف. أما مع غيرها فيجب حذف فعل القسم وفاعله.

وجواز أن يكون المقسم به اسما ظاهرا ، أو ضميرا بارزا ؛ نحو : بربّ الكون لأعملنّ على نشر السّلام ـ بك لأنزلن عند رغبتك الكريمة. أما غيرها فلا يجر إلا الظاهر.

وجواز أن يكون القسم بها «استعطافيّا (١)» (وهو الذى يكون جوابه إنشائيّا) ؛ نحو : بالله ، هل ترحم الطائر الضعيف ، والحيوان الأعجم؟ بربك ، أموافق أنت على تأييد الضعفاء؟ وقول الشاعر (٢) :

بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا

 ـ على ما رأت عيناك ـ من هرمى مصر؟

أما سواها فمقصور ـ فى الرأى الغالب ـ على القسم غير الاستعطافى.

* * *

__________________

(١) سيجىء فى : «الزيادة والتفصيل» أن القسم نوعان : «استعطافى» ، و «غير استعطافى ، أو خبرى». وإيضاح كل ، وما يطلبه ... مع بسط الكلام على جواب القسم. ولهذا البحث مناسبة أخرى هامة فى ج ٤ م ١٥٨ ص ٤٦٢ ، ومن المفيد الاطلاع عليه ، توفية للموضوع.

(٢) سيعاد هذا البيت فى ص ٤٧١ لمناسبة أخرى.


زيادة وتفصيل :

(ا) كل حرف من حروف القسم الأربعة (١) ومجروره يتعلقان بالعامل : «أحلف» ، أو : «أقسم» أو : نحوهما من كل فعل يستعمل فى القسم ، ومن فعل القسم الصريح وفاعله تتكون الجملة الفعلية الإنشائية : التى هى : جملة القسم. ولا بد أن تكون فعلية ؛ سواء أذكر الفعل أم حذف. لكن ليس من اللازم أن يكون الفعل صريحا فى دلالته على القسم كالأفعال السابقة ؛ فهناك ألفاظ أخرى يسمونها : «ألفاظ القسم غير الصريح» وهو الذى لا يعرف منه بمجرد سماعه أن الناطق به حالف ؛ بل لا بد معه من قرينة ؛ ومن أمثلته الأفعال : شهد ـ علم ـ آلى ... ؛ نحو : أشهد لقد رأيت الغلبة للحقّ آخر الأمر ـ علمت لقد فاز بالسبق من أحسن الوسيلة إليه ـ والقرينة هنا «اللام ، وقد» الداخلان على الجواب ـ غير أنّ الجملة القسمية التى من هذا النوع خبرية لفظا.

ولا بد لجملة القسم من جملة بعدها تسمى : «جواب القسم». بيان ذلك أن الغرض من «جملة القسم» إما تأكيد المراد من جملة تجىء بعدها ، وإزالة الشك عن معناها ؛ بشرط أن تكون هذه الجملة الثانية خبرية (٢) ، وغير تعجبية (٣) ، نحو : أقسم بالله (لا أنقاد لرأى يجافى العدالة). فهذه الجملة الثانية هى «جواب القسم» ، ولا محل لها من الإعراب فى الأغلب (٤) ويسمى القسم فى هذه الحالة : «قسما خبريّا» أو : «غير استعطافىّ». وإما تحريك النفس ، وإثارة شعورها

__________________

(١) سبق فى ص ٤٣٠ وفى هامش ص ٤٤١ ... ، ... الإشارة إلى حرف خامس هو : «من» ومن المستحسن اليوم عدم استعماله لغرابته. وأغرب منه وأندر استعمال : «ها» حرف قسم ، بعد كلمة : «إى» ـ فى الغالب ـ التى معناها : نعم (طبقا لما سبق فى رقم ١ من هامش ص ٤٥٢).

(٢) فلا تصلح الجملة الشرطية ، ولا أنواع الإنشائية ، ومنها القسمية ـ كما سيجىء فى : «و» من ص ٤٦٥.

(٣) يرى كثير من النحاة أن جملة التعجب خبرية ، ولكنهم يوافقون غيرهم فى أنها لا تصلح جوابا للقسم.

(٤) الأغلب أن الجملة الواقعة جوابا للقسم لا محل لها ، وقد يكون لها محل ـ (كما سبق بيانه فى رقم ٣ من هامش ص ٣٩ وكما يأتى فى رقم ٢ من ص ٤٦٦).


بجملة إنشائية تجىء بعد جملة القسم. والفصيح أن تكون الأداة هى الباء ؛ نحو : بربك ، هل رحمت الثّكلى؟ بحياتك ، أعطفت على البائس ، وقول الشاعر :

بعينيك يا سلمى ارحمى ذا صبابة

أبى غير ما يرضيك فى السرّ والجهر

فالجملة الثانية هى جواب القسم ، ولا محل لها من الإعراب هنا ، ويسمى القسم فى هذه الحالة : «استعطافيّا» ، أو : «غير إنشائى». ولا بد أن يكون جوابه جملة إنشائية ، (كما أوضحنا) (١) وهى لا تحتاج لزيادة شىء عليها. بخلاف : القسم «غير الاستعطافى» فإن جوابه يتطلب إدخال بعض الزيادة على جملته ، بالتفصيل الآتى (٢) :

١ ـ إن كان الجواب جملة فعلية ... فعلها ماض ، متصرّف ، مثبت ـ فالكثير الفصيح اقترانها «باللام» و «قد» ، معا ، نحو : والله لقد أفاد الاعتدال فى ممارسة الأمور. ويجوز ـ بقلة ـ الاقتصار على أحدهما ، أو التجرد منهما ، مع ما فى الأمرين من ترك الكثير الفصيح. وتسمى هذه اللام المفتوحة : «لام جواب القسم ، أو : الداخلة على جوابه».

وإن كان الماضى غير متصرف فالكثير الفصيح اقترانه باللام فقط ؛ نحو : والله لنعم المرء يبتعد عن الشّبهات. إلا الفعل «ليس» فلا يقترن بشىء ؛ مثل : والله ليست قيمة المرء بالأقوال ، ولكن بالأفعال.

وإن كان الماضى غير مثبت لم يزد عليه شىء إلا حرف من حروف النفى الثلاثة التى يكثر دخولها على الجواب المنفىّ ؛ وهى : ما ـ لا ـ إن ـ ؛ نحو : والله ما مدحت أثيما ـ بالله لا رفضت عتاب الصديق ، ولا غضبت منه. تالله إن امتنعت عن مزاملتك فيما يرفع الشأن ، أى : بالله ما امتنعت. وغير هذا شاذ.

__________________

(١) مما سبق نفهم قول النحاة : القسم جملة إنشائية جاءت لتأكيد جملة خبرية بعدها. وهذا هو القسم غير الاستعطافى. فإن كانت الثانية إنشائية أيضا فالقسم استعطافى.

(٢) سيذكر هذا البيان فى ج ٤ م ١٥٨ ص ٣٦٢ عند اجتماع الشرط والقسم ومن المفيد الرجوع إليه أيضا.


٢ ـ إن كان الجواب جملة مضارعية مثبتة فالأغلب الأقوى اقتران مضارعها باللام ونون التوكيد معا (١) ؛ نحو : والله لأحبسن يدى ولسانى عن الأذى. ومن القليل الجائز الاقتصار على أحدهما.

فإن كانت الجملة مضارعية منفية ... لم يزد عليها شىء إلا أحد حروف النفى الثلاثة (٢) التى يكثر دخولها على الجواب المنفى (٣) (وقد سبقت لها الإشارة) مثل : والله ما أحبس يدى ولسانى عن محاربة المنكر ـ والله إن أحبس يدى ولسانى ... ـ الله لا أحبس يدى ولسانى. ومن هذا قول الشاعر :

رقىّ ، بعمركم لا تهجرينا

ومنّينا المنى ، ثم امطلينا

٣ ـ إن كان الجواب جملة اسمية مثبتة فالأحسن اقترانه بحرفين معا ، هما : «إنّ» ولام الابتداء فى خبرها (٤) ، نحو : والله إن الغدر لأقبح الطّباع.

__________________

(١) راجع ماله صلة بهذا فى ص ٢٩ و ٣٠.

(٢) ويزاد عليها هنا : «لن» فى رأى مقبول من آراء تعارضه. ومن أمثلته قول أبى طالب يعلن حمايته للرسول عليه السّلام من أعدائه المشركين القرشيين :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسّد فى التراب دفينا

(٣) قد يكون وجود حرف النفى قبل هذه الجملة المضارعية مقدرا غير ظاهر اللفظ : (بأن يكون ملحوظا غير ملفوظ) ومن أمثلته قوله تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ... ،) وقول ليلى الأخيلية فى رثاء توبة :

فأقسمت أبكى بعد توبة هالكا

وأحفل من دارت عليه الدوائر

أى : لا أبكى ولا أحفل. ومثل قول الآخر :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى

أى : لا أبرح. جاء فى أمالى أبى القاسم الزجاجى ص ٥٠. ما معناه : أن العرب تحذف النفى من جواب القسم فى مثل الصور السالفة لأمن اللبس فيها ، حيث لا يلتبس الجواب المنفى بالمثبت لوضوح المعنى ، ولأن الجواب لو كان مثبتا لوجب تأكيده باللام والنون معا. أو بأحدهما ، طبقا للقاعدة السالفة. فعدم اقترانه دليل آخر على أنه منفى بأداة مقدرة.

(٤) اللام الداخلة على جواب القسم لا تدخل على «إن» المشددة ولا على شىء من أخواتها ، إلا : «كأن». نحو : والله لكأن صدقة البخيل اقتطاع من جسده. أما اللام الداخلة على خبر «إن» فهى لام ابتداء سواء أكانت «إن» مسبوقة بقسم هى فى صدر جوابه ، أم غير مسبوقة به. (وقد تقدم فى الجزء الأول فى ص ٥٩٧ م ٥٣ تفصيل الكلام على لام الابتداء ، وفائدتها ، ومواضعها ...).


ويجوز الاقتصار على أحدهما ؛ نحو : والله إن عنوان المرء عمله ، أو : والله لعنوان المرء عمله. ولا يستحسن التجرّد من إحداهما إلا إذا طال القسم ، بأن ذكر معه تابع له ، أو : شىء آخر يتصل به ؛ نحو : بالله الذى لا إله سواه ، الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل. وقول الشاعر :

وربّ السموات العلا وبروجها

والأرض وما فيها ـ المقدر كائن

ولا يصح اقتران الجملة الاسمية الجوابية بالحرف : «إنّ» إذا كانت هذه الجملة مصدرة بحرف ناسخ من أخوات «إن» : كقولهم فى وجه جميل : والله لكأن جماله يقتاد العيون قسرا إليه ؛ فما تستطيع عنه تحولا.

فإن كان الجواب جملة اسمية منفية لم يزد عليه إلا أداة النفى فى أوله وهى إحدى الحروف الثلاثة السالفة (ما ـ لا ـ إن) ، نحو : والله ما هذه الدنيا بدار قرار ـ بالله لا المال ولا الجاه بنافع إلا بسياج من الفضيلة ... ـ والله إن هذه الدنيا بدار قرار ...

مما سبق يتبين أن الجواب المنفى ، فى جميع أحواله لا يتطلب زيادة شىء إلا أداة النفى قبله ، مع اشتراط أن تكون إحدى الأدوات الثلاث (١) ، سواء أكان الجواب جملة فعلية ماضوية ، أم مضارعية ، أم جملة اسمية.

«ملاحظة» :

قد يكون الكلام مشتملا على جملة قسمية ، ظاهرها مثبت ، ولكن معناها منفىّ ، وجواب القسم جملة فعليّة ماضوية لفظا ، مستقبلة معنى ، مصدرة «بإلّا» أو : «لمّا» التى بمعناها ، نحو : سألتك بالله إلا نصرت المظلوم ـ بالله ربّك لما قلت الحق .. وأمثال هذا مما يعدّ نوعا خاصّا من «الاستثناء المفرغ ...» (وقد سبق بيان هذا النوع ، وتفصيل الكلام ـ بإسهاب ـ على معناه ، وحكمه ، وطريقة إعرابه) (٢)

(ب) قد يقع القسم بين أداتى نفى ، بقصد تأكيد النفى فى المحلوف عليه ؛ كقول الشاعر :

أخلّاى ، لا تنسوا مواثيق بيننا

فإنى لا ـ والله ـ ما زلت ذاكرا

__________________

(١) ويزاد عليها : «لن» فى الجملة المضارعية فى رأى أشرنا إليه فى رقم ٢ من هامش ص ٤٦٢.

(٢) له إشارة فى آخر هامش ص ٣٠٠ وبيان فى : «ا» من الزيادة والتفصيل ، ص ٣٠٢.


(ح) قد تتكرر أداة القسم ـ ومعها مجرورها ـ ، مبالغة فى التأكيد. غير أن المستحسن ألّا يتكرر حرف من حرف القسم إلا بعد استيفاء الأول جملة جوابه ، نحو : بالله لأطيعن الوالدين ، بالله لأطيعنهما ، والله لأطيعنهما (١) ...

(د) تحذف جملة القسم وجوبا إن كان حرف القسم «الواو» ، أو : «التاء» ، أو : «اللام» (٢). وجوازا إن كان حرف القسم الباء ـ كما سبق عند الكلام على الحروف الأربعة (٣) ـ ومن أوضح الدلائل المرشدة إلى جملة قسمية محذوفة ، (ومعها أداة القسم) وجود واحد من الألفاظ الآتية بعدها ؛ وهى : (لقد ـ لئن (٤) ـ المضارع المبدوء باللام المفتوحة المختوم بنون التوكيد). فإن وجد أحد هذه الثلاثة بغير أن يسبقه جملة قسم فهى ـ مع القسم وأداته ـ مقدرة قبله ، ومن الأمثلة قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ...،) أى : أقسم بالله لقد صدقكم الله وعده (٥). ومثله قوله تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ،) وقوله تعالى : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ...) وهذه اللام المفتوحة فى المواضع السالفة هى الداخلة على الجواب بعد حذف جملة القسم ، وأداته. ولا يصح فيها ، وفى أمثالها أن تكون لام ابتداء أو غيره ؛ لأن أنواع اللام الأخرى لها مواضع محدودة معينة ، ليس منها هذه.

(ه) يجوز أن تحذف أداة القسم وحدها مع بقاء الاسم المجرور بها على حاله ، بشرط أن يكون لفظ الجلالة (الله) طبقا للرأى الأرجح (٦) مثل : الله لأساعدنّ الضعيف ، أى : والله .. ويجوز حذف أداة القسم والمقسم به معا لوضوحهما بكثرة

__________________

(١) يصح ذكر الجملة الواقعة بعد القسم المقصود به التوكيد اللفظى. على اعتبارها توكيدا أيضا للجملة الجوابية الأولى ، ويصح حذفها لعدم الحاجة إلى استخدامها توكيدا لفظيا ؛ فهى مختلفة عن الجمل الجوابية الأخرى التى يجب حذفها.

(٢) وكذا : «من» عند من يعتبرونها أداة قسم ، كما فى ص ٤٣٠.

(٣) فى ص ٤٣٠ و ٤٤١ و ٤٥٢.

(٤) انظر «و» الآتية.

(٥) ومن هذا قول الشاعر :

إذا اغرورقت عيناى قال صحابتى

لقد أولعت عيناه بالهملان

(٦) وهو رأى سيبويه ومن وافقه. (وسيأتى فى رقم ١ من ص ٤٩٢).


الاستعمال ؛ نحو أقسم إن الحرية لغالية ـ أشهد إنّ الوطن لعزيز. أى : أقسم بالله ـ أشهد بالله ـ ومنه قول الشاعر :

فأقسم ما تركى عتابك عن قلى

ولكن لعلمى أنه غير نافع

(و) ما نوع «اللام» فى مثل : والله لئن أخلصت لى لأخلصنّ لك؟ وهى «اللام» التى قبلها قسم ، وبعدها أداة شرط ؛ كالمثال السابق وأشباهه ، والتى سبقت فى : «د»؟

يسميها بعض النحاة «لام الشرط» ، ويسميها آخرون : «اللام الموطّئة» للقسم ؛ أى : الممهدة له ، لأنها التى تهيئ الذهن لمعرفته. وتدل على أن الجملة المتأخرة المصدّرة بلام أخرى ، هى جواب للقسم وليست جوابا للشرط. فاللام الأولى «الموطّئة» هى التى أعلمت بذلك ، وبينت أن اللام الثانية هى «اللام» الداخلة على جواب القسم ، وأن الجملة بعد هذه اللام الثانية هى جملة جواب القسم. ولا يصح أن تكون «اللام» الأولى وما دخلت عليه جوابا للقسم ؛ لأن القسم ـ كما أسلفنا (١) ـ لا يكون جوابه جملة شرطية ، ولا جملة قسمية. ويجب التنبه إلى الفرق بين «لام القسم» ، و «لام الابتداء» ، وقد أوضحناه فى مكانه المناسب من الجزء الأول عند الكلام على : «لام الابتداء» (٢).

وحين يجتمع أداتا قسم وشرط فالجواب يكون ـ فى الأغلب ـ للمتقدم منهما (٣). أما المتأخر فيحذف جوابه ؛ لوجود الجواب السابق الذى يدل عليه. وبسبب أن الجواب ـ فى الأغلب ـ للمتقدم لم تحذف النونان فى المضارع من قوله تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ.) وهو السبب ـ أيضا ـ فى عدم مجىء الفاء قبل «إنّ» فى قول الشاعر :

لئن كنت محتاجا إلى الحلم إننى

إلى الجهل (٤) فى بعض الأحايين أحوج

__________________

(١) فى رقم ٢ من هامش ص ٤٦٠.

(٢) ص ٥٩٨ وهامشها م ٥٣.

(٣) هذا هو الأغلب. والتفصيل المناسب لهذه المسألة مدون فى البحث الخاص بها ؛ وهو : بحث اجتماع الشرط والقسم ـ ج ٤ باب الجوازم ـ ص ٣٦٢ م ١٥٨.

(٤) الغضب والانتقام. وسيعاد البيت فى الجزء الرابع فى الموضع السالف من الجوازم.


(ز) تحذف جملة الجواب وجوبا فى إحدى حالات ثلاث :

١ ـ أن يتأخر القسم ويتقدم عليه جملة تغنى عن جوابه ـ لدلالتها عليه ـ نحو : تسعد الأمة وتشقى بأبنائها ، والله. ويلاحظ أن جملة الجواب نفسها لا يصح تقديمها على القسم.

٢ ـ أو أن يحيط بالقسم جملة تغنى عن الجواب كذلك ؛ نحو : سعادة الأمة ـ والله ـ رهن بعمل أبنائها. فجواب القسم فى هذه الحالة ـ كالتى قبلها ـ جملة محذوفة لا يصح ذكرها ؛ لوجود ما يغنى عنها ؛ فلا داعى للتكرار فيهما بقولنا : «تسعد الأمة وتشقى بأبنائها ، والله تسعد الأمة وتشقى بأبنائها» وقولنا : «سعادة الأمة رهن بعمل أبنائها ، والله سعادة الأمة رهن بعمل أبنائها».

أما فى مثل : الغضب والله إنه وخيم ، أو الغضب والله إنه لوخيم ـ حيث يكون المتأخر عن القسم جملة ـ فيصح فى هذه الجملة المتأخرة أن تكون جوابا للقسم ، وجملة القسم مع جملة جوابه فى محل رفع خبر السابق (١) (وهذا من المواضع التى يكون فيها لجملة القسم مع جملة جوابه محل من الإعراب) (٢). كما يصح أن تكون الجملة المتأخرة خبرا للمتقدم فى محل رفع وجواب القسم محذوف لوجود ما يغنى عنه ويدل عليه.

٣ ـ أو أن يجتمع أداتا شرط وقسم ويتأخر القسم عن الشرط وهذه الحالة فى الأغلب كما سبق فى : «و».

وتحذف جملة الجواب جوازا فى غير الحالات السالفة ، لدليل أيضا ؛ نحو قوله تعالى : (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ،) فجواب القسم محذوف تقديره : «إنك لمنذر» ، أو نحو هذا ؛ بدليل قوله تعالى بعد ذلك : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.) ومثله قوله تعالى : (ص ، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ.) فجملة الجواب محذوفة ، تقديرها : «إنّك لمنذر» ؛ بدليل قوله تعالى بعد ذلك :

__________________

(١) يراجع الجزء الثانى من «المغنى» فى موضوع حذف جواب القسم ، وفى موضوع الجمل التى لا محل لها من الإعراب ، والملخص أن جملة القسم مع جملة جوابه قد يكون لهما ـ أحيانا ـ معا موضع من الإعراب ؛ لأنهما متماسكتان بمنزلة جملة واحدة ولا محل لإحداهما بدون الأخرى ـ فى الرأى المشهور ـ. وقد سبق لمناسبة أخرى بيان هام يختص بهذا الحكم (فى رقم ٣ من هامش ص ٢٩).

(٢) سبقت الإشارة لهذا فى رقم ٣ هامش ص ٢٩ ـ كما قلنا ـ. وفى رقم ٤ من هامش ص ٤٦٠.


(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ...،) أو : نحو هذا مما يكون فيه دلالة على المحذوف. كأن يقال : أتقسم على أنّك أديت الشهادة الصادقة؟ فتقول : أقسم والله.

ومن مواضع الحذف الجائز لدليل أن يكون القسم مسبوقا بحرف جواب عن سؤال سابق ؛ كقوله تعالى : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا.) فالأصل : بلى وربّنا ؛ إنّ هذا هو الحق ، ومثله أن يسألك سائل : أتعاهد على تأييد الملهوف؟ فتقول : إى ، والله ، أو : نعم ، والله ، أو : أجل ، والله ... أو غير هذا من حرف الجواب التى تسبق القسم مباشرة.

(ح) جواب القسم لا يكون إلا جملة ؛ فلا يكون مفردا ، ولا شبه جملة ، غير أن النحاة عرضوا حالة وقع فيها الجار والمجرور سادّا مسدّ جواب القسم ، ومغنيا عنه ـ وليس جوابا أصيلا ـ ، وهى التى سبقت (١) عند الكلام على جواز فتح همزة «إن» وكسرها ؛ حيث قالوا يجوز فتح همزة «إن» وكسرها إذا وقعت فى صدر جواب القسم ، وفعل القسم مذكور قبلها ، وليس فى خبرها اللام ؛ نحو : أقسم بالله أن الإحسان نافع ، فقد جوزوا عند فتح الهمزة أن يكون التقدير ؛ أقسم بالله نفع الإحسان ، أى : أقسم بالله على نفع الإحسان ؛ فيصح فى المصدر المؤول الجر بحرف الجر المحذوف ، والجار مع مجروره يسدّ مسد الجواب مباشرة. أو : أن المصدر المؤول منصوب على نزع الخافض (٢) ؛ فهو مفعول به تأويلا. وهذا المفعول به سادّ مسدّ الجواب (٣).

والإعراب الأول أحسن. وهناك إعرابات أخرى لا تتصل بموضوعنا الحالى.

(ط) من الألفاظ التى قد تستعمل ـ أحيانا ـ فى القسم ـ : «جير» ، كقول الشاعر :

قالوا قهرت. فقلت : جير ؛ ليعلمن

عمّا قليل أينا المقهور

__________________

(١) فى ج ١ م ٥٢ ص ٥٩٢ من الطبعة الثالثة.

(٢) سبق إيضاح معنى «النصب» على نزع الخافض فى ج ١ م ٥٢ ص ٥٩٢.

(٣) راجع الأشمونى والصبان فى الموضع السالف من باب «إن وأخواتها» عند بيت ابن مالك : «بعد إذا فجاءة أو قسم ...»


والأحسن فى إعرابها : أن تكون حرف قسم مبنيّا على الكسر لا محل له من الإعراب(١).

ومنها : «لا جرم» فى مثل : لا جرم إن الله يمهل الظالم ، حتى إذا أخذه لم يتركه بعد ذلك. وقد سبق أن قلنا (٢) : إذا كسرت همزة «إن» فالسبب إجراء : «لا جرم» مجرى اليمين عند بعض العرب ؛ بدليل وجود اللام بعدها فى مثل : لا جرم لأنا مكرمك. فالحرف «لا». ناف للجنس ـ «جرم» اسمه مع تضمنه القسم ، والجملة بعده من «إن ومعموليها» جواب القسم ، أغنت عن خبر «لا». أما مع فتح همزة «أن» فكلمة : «جرم» فعل ماض. بمعنى : «وجب» و «لا» زائدة ، والمصدر المؤول فاعل.

ومنها : «ها» التى للتنبيه فى مثل : ها الله ما فعلت كذا ... أى : والله ما فعلت كذا ... وقد سبقت الإشارة إليها (٣) ...

* * *

__________________

(١) وتصلح فى بعض الأساليب الأخرى أن تكون حرف جواب فقط.

(٢) ج ١ ص ٥٩٥ ، م ٥١ مواضع فتح همزة «إن» وكسرها.

(٣) فى رقم ١ من هامش ص ٤٤١ ـ وقد ورد فى الأحاديث النبوية ، وفى نصوص نصيحة أخرى استعمال هذا الحرف فى القسم ؛ قال الجوهرى : «ها» للتنبيه ، وقد يقسم بها ؛ يقال : لا ها الله ما فعلت كذا. قال ابن مالك : فى هذا شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه ، ولا يكون ذلك إلا مع كلمة : «الله» ، أى لم يسمع لا ها الرحمن ، كما سمع والرحمن ـ ثم قال : وفى النطق بها أربعة أوجه (كما جاء فى ص ٢٦٣ من كتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، فى الحديث ـ ج ٧ ـ باب السلب ، تأليف الشوكانى) أولها : ها الله ، باللام بعد الهاء فى النطق من غير إظهار شىء من الألفين. ثانيها : ظهور الألفين نطقا وكتابة مع قطع الهمزة ، فيقال : ها ألله. ثالثها : إظهار ألف واحدة من غير همزة ، فيقال : هالله. رابعا : حذف ألف «ها» وإظهار همزة القطع فى أول كلمة : «الله» فيقال : هألله. والمشهور من هذه الآراء هو الأول والثانى. اه. وقد تسبقها كلمة : «إى» التى بمعنى : نعم.


فى : حرف يجرّ الظاهر والمضمر ، والغالب فيه أن يكون أصليّا ، وأشهر معانيه تسعة:

١ ـ الظرفية حقيقة أو مجازا ؛ نحو : المعادن متراكمة فى جوف الأرض. والنّفط حبيس فى طبقاتها. ونحو : السعادة فى راحة النفس ، والغنى فى التعفف عما لا يملكه المرء ، وهذا المعنى أكثر استعمالاته.

٢ ـ السببية ؛ نحو : كان المحامى الشاب مغمورا ؛ فاشتهر فى قضية خطيرة تجرد لها ، وذاع اسمه فيها ، أى : اشتهر بسبب قضية ... وذاع اسمه بسببها ...

٣ ـ المصاحبة ؛ كقول أحد المؤرخين : «كان الخليفة العباسىّ يتخير يوما للراحة ، ولقاء بطانته ، ويدعو فيهم الشاعر الذى يؤنسهم ، فيستجيب فرحا ، ويسرع فى الداخلين ، فيستقبله الخليفة ، قائلا إلىّ فى بطانتى ؛ فلن يتم سرورنا إلا بك» ... أى : يدعو معهم ـ يسرع مع الداخلين ـ مع بطانتى ... ومن هذا قوله تعالى : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ...) أى : مع أمم.

٤ ـ الاستعلاء ؛ نحو : (غرد الطائر فى الغصن ، أى : على الغصن) ـ (يصيح الغراب فى المئذنة ، أى : عليها). ونحو : (بطل كأن ثيابه فى سرحة. (١) أى : على سرحة ، لأنه ضخم طويل).

٥ ـ المقايسة ، أو : الموازنة (٢) ؛ نحو : قوله تعالى : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ.) أى : بالنسبة للآخرة ، وموازنته بمتاعها.

٦ ـ أن تكون بمعنى : «إلى» الغائية ؛ نحو : دعوت الأحمق للسداد ؛ فرد يده فى أذنيه ، ـ أى : إلى أذنيه ، كى لا يسمع النصح ـ. ومنه قوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ،) كناية عن عدم الردّ ، وعن ترك الكلام. وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً.)

__________________

(١) شجرة عظيمة.

(٢) معناهما : ملاحظة شىء بالقياس إلى شىء آخر ، والحكم عليه بعد هذا القياس بأمر ما ، كالحسن ، أو القبح ، والزيادة ، أو النقص ... و... ويغلب هنا أن تكون الموازنة بين شىء سابق على الحرف : «فى» وشىء لاحق بعده. وهذا اللاحق أفضل أو أكثر من السابق. ولا مانع من العكس أحيانا.


٧ ـ أن تكون بمعنى «من» التبعيضية ـ غالبا ـ ؛ نحو : أخذت فى الأكل قدر ما أشار الطبيب ، أى : من الأكل. (بعض الأكل).

٨ ـ أن تكون بمعنى «الباء» التى للإلصاق (١) ؛ نحو : وقف الحارس فى الباب ، أى : ملاصقا له.

ومثل قولهم : من لم يكن بصيرا فى ضرب المقاتل لم يكن آمنا على حياته. أى : بضرب المقاتل.

٩ ـ التوكيد (بسبب زيادتها) ، والرأى الراجح أن زيادتها غير قياسية ، فيقتصر فيها على المسموع ؛ مثل قول الشاعر :

أنا أبو سعد إذا الليل دجا

يخال فى سواده يرندجا (٢)

أى : يظنّ سواده يرندجا (٣).

* * *

على : حرف جرّ أصلى يجر الظاهر والمضمر ، وأشهر معانيه ثمانية :

١ ـ الاستعلاء ؛ وهو أكثر معانيه استعمالا. ويدل على أن الاسم المجرور به قد وقع فوقه المعنى الذى قبل «على» وقوعا حقيقيّا أو مجازيّا. نحو : سيعود السائحون إما على القطر ، وإما على السيارات ، أو على الطائرات ، أو على البواخر. ونحو قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.)

__________________

(١) حقيقة أو مجازا. (ويوضح معنى الإلصاق ما سبق فى «الباء» ، رقم ١ ص ٤٥٢).

(٢) اليرندج : الجلد الأسود ، أو الطلاء الأسود.

(٣) فيما سبق من معانى «الباء» و «فى» يقول ابن مالك مقتصرا على بعض المعانى :

 ... والظّرفيّة استبن «ببا»

و «فى». وقد يبيّنان السّببا

أول البيت كلمة لم نذكرها ، هى : «وزيد» ؛ لأنها مختصة بمعنى حرف سبق ؛ هو اللام التى من معانيها التوكيد ؛ فتكون معه زائدة. ومعنى استن : «ببا» الظرفية ، أى : صير الظرفية واضحة بها ؛ لأنها معنى من معانيها ، ومعانى «فى». فكلا الحرفين يدل على الظرفية ، كما يدل على السببية. ثم بين معانى الباء فقال :

«بالبا» استعن ، عدّ. عوّض ، ألصق

ومثل مع ، ومن ، وعن ، بها انطق

أى : أنها تكون للاستعانة ؛ وللتعدية ، وللعوض ، وللإلصاق ، وبمعنى «مع» (أى : للمصاحبة) ، وبمعنى : «من» (أى : التبعيض) وبمعنى : «عن» (أى : للمجاوزة) وقد شرحنا هذا كله فيما سبق.


وليس من الاستعلاء المجازى قولهم : توكلت على الله ، واعتمدت عليه ؛ لأن الله لا يعلو عليه شىء حقيقة أو مجازا ، وإنما هى بمعنى الإستناد له ، والإضافة (أى : النسبة) إليه ؛ تريد : أسندت توكلى واعتمادى إلى الله ، وأضفتهما (أى : نسبتهما) إليه.

٢ ـ الظرفية (١) ؛ نحو قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها،) أى : فى حين غفلة.

٣ ـ المجاوزة (٢) ؛ نحو : إذا رضى علىّ الأبرار غضب الأشرار ، أى : رضى عنى.

٤ ـ التعليل ؛ نحو : اشكر المحسن على إحسانه ، وكافئه على صنيعه ، أى : لإحسانه ، ولصنيعه.

٥ ـ المصاحبة ؛ نحو : البرّ الحق أن تبذل المال على حبك له ، وحاجتك إليه ، أى : مع حبك له ... ومثل قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ.) أى : مع ظلمهم (٣) وقول الشاعر (٤) :

بعيشك ، هل أبصرت أحسن منظرا

 ـ على ما رأت عيناك ـ من هرمى مصر؟

٦ ـ أن تكون بمعنى من ، نحو قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ؛ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ.) أى : من الناس. ونحو قوله عليه السّلام : (بنى الإسلام على خمس) ... أى : من خمس موادّ.

٧ ـ أن تكون بمعنى «الباء» ؛ نحو : سمعت من الوالد نصحا ، وحقيق عليه أن يقول ما ينفع ، أى : حقيق به ، بمعنى : جدير به.

__________________

(١) إذا جرّت : «على» الظرف كانت بمعنى : «فى» وقد نص «الخضرى» على هذا فى باب الإضافة عند بيت ابن مالك :

وابن أو اعرب ما كإذ قد أجريا

(٢) سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٤٢٩ تعريفها ، وبيان أقسامها.

(٣) ومن أمثال العرب : لاقرار على زأر من الأسد. ـ أى : مع زأر ـ يريدون : لا أمان ولا استقرار فى مكان يسمع فيه زئير الأسد.

(٤) سبق البيت التالى لمناسبة أخرى فى ص ٤٥٩.


٨ ـ الإضراب. والمراد به هنا : إبعاد المعانى الفرعية التى تخطر على البال من كلام سابق ، وإبطال ما يرد على النفس منها ؛ (فهو كالاستدراك المستفاد من كلمة : «لكن»). ومن أمثلته قولهم : «هفا الصديق فاحتملت هفوته ؛ على أنّ احتمالها مرّ أليم ، وجفا ؛ فقبلت جفوته. على أن الرضا بها كالرضا بالطعنة المسدّدة ؛ كلّ نفس لها كارهة ...» فقد بين المتكلم أنه احتمل الهفوة ، وهذا يوحى إلى النفس أن احتمالها سهل ، وأنه راض باحتمالها ، فأزال هذا الوحى بما ذكره من أنّ احتمالها مرّ وأليم ، كذلك بيّن أنه قبل جفوة صديقه. وهذا يشعر بأن قبولها كان عن رضا وارتياح ؛ فأزال هذا الوهم ، نافيا له ، مبينا أن الرضا به بغيض إلى النفس بغض الطعنة القاتلة ... وكانت وسيلته للإبانة هى كلمة : «على» التى بمنزلة : «لكن».

ومن ذلك قولهم : «الإسراف كالشحّ ؛ كلاهما داء وبيل ، يخشى عواقبه اللبيب ، على أن داء الشّح أخفّ ضررا ، وأهون خطرا من داء الإسراف ...» فقد بين أن كلاهما داء سيئ العاقبة ، وهذا يوحى إلى النفس أنهما فى الشر سواء ، ومنزلتهما من الضرر واحدة ، فأزال هذا المعنى الفرعى المتوهّم بكلمة : «على» ، وما بعدها ؛ فهى بمنزلة : «لكن» ، التى تجىء أول الجملة لإبطال المعانى الفرعية الناشئة مما قبلها.

ومن الأمثلة أيضا ما قاله الشاعر فى أمر قربه أو بعده عن ديار أخلائه ، وأنه يفيد أو لا يفيد :

بكلّ تداوينا ؛ فلم يشف ما بنا

على أنّ قرب الدار خير من البعد

على أنّ قرب الدار ليس بنافع

إذا كان من تهواه ليس بذى ودّ

فقد بيّن أولا أنه تداوى بالقرب وبالبعد فلم يفده واحد منهما. وعدم الإفادة بعد التجربة يوقع فى الوهم أنهما سيان من كل الوجوه. لكنه أبطل هذا التّوهم بتصريحه بعد ذلك حيث يقول : «على أن قرب الدار خير من البعد». فهذه الجملة تبطل ما سبق ، وتوحى بمعنى جديد ؛ هو : أن القرب مطلقا خير من البعد. ثم عاد فابطل هذا المعنى الذى أوحى به الوهم بجملة جديدة ؛


هى : «قرب الدار ليس بنافع» ... وكانت أداة الإضراب والإبطال هى كلمة : «على».

والأحسن فى كلمة : «على» إذا كانت للإضراب والإبطال عدم تعلقها هى ومجرورها بشىء ؛ (لأنها فى هذا الاستعمال بمنزلة : «لكن» التى تفيد الاستدراك) مع اعتبارها حرف ابتداء ، لوقوعها فى أول الجملة (١).

وقد تستعمل : «على» اسما بمعنى : «فوق» ويكثر هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف «من» فإنه لا يدخل إلا على الأسماء ، نحو : تمرّ من على بلدنا الطائرات. أى : من فوق بلدنا (٢) ، فقد خرجت من حرفيتها ، وصارت اسما بمعنى «فوق» ، كما نرى. وهذا قياسى كباقى استعمالاتها.

وإذا كان المجرور بها ضميرا وجب قلب ألفها ياء (٣) ؛ نحو : تقبل علينا وفود السائحين شتاء. وقول الشاعر :

إذا طلعت شمس النهار فإنها

أمارة تسليمى عليك ، فسلّمى

فإن كان الضمير ياء المتكلم ، وجب إدغام الياءين ؛ نحو : علىّ أن أسعى للخير جاهدا (٤) ...

* * *

عن (٥) : حرف جر أصلى ؛ يجر الظاهر والمضمر. وأشهر معانيه تسعة :

__________________

(١) ولا داعى للأخذ بالرأى الذى يقول : إنهما متعلقان بمحذوف هو خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : (التحقيق كائن على أن كذا وكذا) ؛ لأن هذا الرأى يحوى التعقيد ، والتكلف ، وكثرة المحذوف من غير داع. وقد ذكرنا ـ وأوضحنا الأسباب ـ أنه لا يصح الالتجاء إلى الحذف والتقدير والتعسير بغير ضرورة قاسية ؛ لا سبيل للتغلب عليها إلا من هذه الناحية. والرأيان فى حاشية الأمير على الشذور ص ١٥ عند الكلام على «ذى» إحدى الأسماء الستة.

(٢) وقد أشار إلى هذا ابن مالك فى بيت سيجىء فى هامش ص ٤٧٧ عند كلامه على «الكاف» التى قد تقع اسما.

(٣) وهى المكتوبة ياء ، تبعا لقواعد رسم الحروف.

(٤) «ملاحظة» : جاء فى «الكامل» للمبرد ـ ج ١ ص ٢٧٠ ـ أن بعض العرب يحذف من آخرها اللام والياء إذا كان المجرور بها مبدوءا «بأل» ، ويحذف معهما همزة «أل» كقول قطرى بن الفجاءة :

غداة طفت علماء بكر بن وائل

وعجنا صدور الخيل نحو تمم

يريد طفت على الماء القتلى من بكر ... وجاء على هامش الموضع السالف أن أولئك العرب تفعل ذلك كثيرا فى النثر والشعر اه ، لكن الأنسب اليوم عدم مجاراتهم ، لما فيه من لبس.

(٥) الغالب أن تتحرك النون بالكسر إذا وقع بعدها ساكن مطلقا : (أل ، أو غيرها) ، نحو : انصرف عن الأذى انصرافك عن استقبال البلايا.


١ ـ المجاوزة (١) ، وهى أظهر معانيه ، وأكثرها استعمالا ؛ نحو : جلوت عن بلد المظالم ، ورغبت عن الإقامة فيه. أى : ابتعدت وتركت.

٢ ـ أن تكون بمعنى : «بعد» (٢) ، كقولهم : دع المتكبر ؛ فعن قليل يؤدبه زمانه ، والمغرور ؛ فعن قريب تكشفه أيامه. أى : بعد قليل. وبعد قريب ...

٣ ـ الاستعلاء (فتكون بمعنى : «على»). نحو : من يبخل بخدمة وطنه فإنما يسىء لنفسه بما يبخل عنها ، ويمنع من إفادتها ... أى : بما يبخل عليها (٣). وكقولهم : العظيم من زادت خيراته عن المحتاج لها ، وفضلت عنه ... أى : على المحتاج لها ـ وفضلت عليه ، وقول الشاعر :

إذا رضيت عنى كرام عشيرتى

فما زال غضبانا علىّ لئامها

٤ ـ التعليل. (أن يكون ما بعدها علة وسببا فيما قبلها) ، نحو : لم أحضر إليك إلا عن طلب منك ، ولم أفارقك إلا عن ميعاد ينتظرنى ، أى : بسبب طلب ، وبسبب ميعاد.

٥ ـ الظرفية ؛ كقولهم : الزعيم لا يكون عن حمل الأعباء الثّقال وانيا ، ولا عن بذل التضحيات مترددا. أى : فى حمل ... وفى بذل.

٦ ـ الاستعانة (٤) ؛ نحو : رميت عن القوس ، أى : بالقوس ، إذا كانت القوس أداة الرمى.

٧ ـ أن تكون بمعنى : بدل ؛ نحو قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً.) ومثل : أديت العمل عن صديقى المريض ، أى : بدل نفس ، وبدل صديقى. وقول الشاعر يمدح محسنا :

وتكفّل الأيتام عن آبائهم

حتى وددنا أننا أيتام

__________________

(١) سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٤٢٩ عند الكلام على : «من» تعريفها ، وبيان أقسامها ، مع التمثيل والإيضاح.

(٢) «بعد» ظرف سبق الكلام عليه تفصيلا فى باب الظرف ، ص ٢٦٥.

(٣) ومن هذا قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)

(٤) سبق فى ص ٤٢٩ شرح معناها وما يتصل بها.


٨ ـ أن تكون بمعنى : «من» نحو قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ...،) أى : من عباده. (وهذا أوضح من اعتبارها للمجاوزة ؛ على معنى : الصادرة عن عباده ، ولا تقدير فيه).

٩ ـ أن تكون بمعنى الباء ، نحو قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى،) أى : بالهوى.

وقد ذكر لها بعض معان أخرى ، تركناها متابعة للمعترضين ـ بحق ـ عليها (١).

وتستعمل «عن» اسما بمعنى : «جانب». ويغلب أن يكون هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف : «من» ، نحو : يجلس القاضى ؛ ومن عن يمينه مساعده ، ومن عن يساره كاتبه. أى : من جانب يمينه ، ومن جانب يساره (٢) .. وهذا الاستعمال قياسىّ كباقى استعمالاتها السابقة.

اتصال «ما» الزائدة بالحرف : عن

إذا كانت «عن» جارّة جاز وقوع «ما» الزّائدة بعدها ، فلا تغير شيئا من عملها أو معناها ؛ وإنما يبقى لها كل اختصاصها السابق قبل مجىء الحرف

__________________

(١) منها أن تكون زائدة سماعا ـ ويجب الاقتصار فى زيادتها على المسموع وحده ـ ؛ نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) وهذه تصلح أصلية إذا كان السؤال لمعرفة شأن الأنفال ، وطلب الاستخبار عنها ، لا لطلب الاستعطاء وأخذ شىء منها. ومن زيادتها المسموعة ما نص عليه ابن هشام فى المغنى ـ ج ١ عند الكلام عليها ـ قائلا : (إنها تكون زائدة للتعويض من أخرى محذوفة ؛ كقول الشاعر :

أتجزع إن نفس أتاها حمامها

فهلّا التى عن بين جنبيك تدفع

قال ابن جنى : أراد ؛ فهلا تدفع عن التى بين جنبيك ، فحذفت «عن» من : أول الموصول ، وزيدت بعده) ... اه ... والبيت مذكور أيضا فى ذيل الأمالى ص ١٠٧.

وفيما سبق من معانى «على» ، و «عن» يقول ابن مالك باختصار :

«على» للاستعلا ، ومعنى «فى» و «عن»

بعن تجاوزا ، عنى من قد فطن

وقد تجىء موضع «بعد» و «على»

كما «على» ، موضع «عن» قد جعلا

يريد : أن «على» تكون للاستعلاء وتكون للظرفية ؛ مثل : «فى» ، وللمجاوزة مثل «عن» : التى تؤدى هذا المعنى إذا قصده من فطن ؛ لأنها تؤديه. ثم بين أن : «عن» قد تكون بمعنى : «بعد» ، وبمعنى : «على» المفيدة للاستعلاء. كما أن : «على» تكون بمعنى : «عن» المفيدة للمجاوزة.

(٢) وسيشير إلى هذا ابن مالك فى بيت يجىء فى هامش ص ٤٧٧ عند الكلام على : «الكاف».


الزائد ، نحو : عما قريب يتحقق المأمول (١).

* * *

الكاف : حرف يجر الظاهر ويقع أصليّا وزائدا. وأظهر معانيه أربعة :

١ ـ التشبيه : وهو ـ بنوعيه الحسّى والمعنوى ـ أكثر معانيه تداولا ، والأغلب دخول «الكاف» على المشبّه به ؛ نحو : الأرض كرة كالكواكب الأخرى. تستمد ضوءها من الشمس كبقية المجموعة الشمسية. ونحو : الذكاء كالكهربا ، كلاهما لا يدرك إلا بآثاره. ويقولون فى المدح : فلان كهربىّ الذكاء. يريدون : أنه فى سرعة فهمه واستنباطه كالكهربا ؛ فى سرعة تأثرها وتأثيرها (٢) ...

٢ ـ التعليل والسببيّة ؛ كقوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ.) أى : بسبب هدايته لكم. وقوله تعالى عن الوالدين : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ....) أى : بسبب تربيتهما إياى فى صغرى.

٣ ـ التوكيد (٣) ويختص بالزائدة ؛ نحو قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.) أى ليس شىء مثله ... (وهذا فى رأى من يرون زيادة الكاف هنا) (٤).

__________________

(١) وتقضى قواعد الكتابة باتصال الحرفين خطا. وسيشير ابن مالك آخر الباب ـ ص ٤٨٨ ـ إلى مسألة زيادة الحرف : «ما» بعد : «من» و «عن» و «الباء» ، وأن هذه الزيادة لا تعوق تلك الحروف عن عملها ، فيقول :

وبعد «من» «وعن» ، و «باء» ، زيد «ما»

فلم يعق عن عمل قد علما

(٢) ومن الأمثلة قول الشاعر :

ابنوا كما بنت الأجيال قبلكمو

لا تتركوا بعدكم فخرا لإنسان

اى كبناية الأجيال.

(٣) سبق فى أول هذا الباب ص ٤١٧ إيضاح للتوكيد الذى ينشأ من الحرف الزائد. كما سبق فى الجزء الأول ص ٤٣ م ٥.

(٤) وحجتهم أنها لو لم تكن زائدة الترتب على أصالتها الاعتراف بوجود مثل للمولى تعالى وهذا محال. والأسهل الموافقة على زيادتها فى هذا الموضع ونظائره ـ ومنها قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً .. ؛) لتجنب التأويلات الأخرى ، والآراء التى يشوبها التعقيد ، أما من يمنعون زيادتها فحجتهم أن القرآن ليس فيه زائد. لكن فاتهم أن الزائد هنا وفى فصيح الكلام العربى يؤدى توكيد معنى الجملة ؛ فلا عيب فى زيادته مع أدائه هذا الغرض ، إنما المعيب هو الزائد الذى لا فائدة معه ، فيكون وجوده كعدمه.


٤ ـ الاستعلاء ، كقولهم : كن كما أنت. أى : على الحال التى أنت عليها. واستعمالها فى هذا المعنى والذى قبله قليل ـ ولكنه قياسى.

ومن الاستعمالات القياسية أن تخرج عن الحرفية ؛ وتصير اسما بمعنى : مثل كقولهم : لن ينفع فى منع الإجرام كالعقوبات الرادعة. وقولهم : ما عاقب الحرّ الكريم كنفسه ، وقولهم :

وما قتل الأحرار كالعفو عنهمو

ومن لك بالحر الذى يحفظ اليدا؟

أى : مثل العقوبات ـ مثل نفسه ـ مثل العفو ؛ فالكاف فى الأمثلة السالفة فاعل ، مبنى على الفتح فى محل رفع ، وقد تكون خبرا لمبتدأ ؛ كقولهم : من حذّرك كمن بشّرك.

وقد تكون مفعولا به فى نحو قول الشاعر :

ولم أر كالمعروف ؛ أمّا مذاقه

فحلو ، وأما وجهه فجميل

وقد تكون فى محل جر فى نحو : يبتسم فلان عن كاللؤلؤ المكنون.

فهى بمعنى : «مثل» فى كل ذلك ، وفى كل موضع آخر تكون فيه اسما (١).

وإذا كانت «الكاف» أداة جر فقد تتصل بها «ما» الزائدة فتكفها عن العمل ـ

غالبا ـ وتزيل اختصاصها (وهو الدخول على الاسم لجرّه). فتدخل على الجمل الاسمية والفعلية ، نحو : الصحة خير النعم ؛ كما المرض شرّ المصائب. ونحو : الفقر يخفى مزايا المرء ، كما يزيل ثقة الناس

__________________

(١) وفى الكلام على معانى «الكاف» ، وعلى أنها تستعمل اسما بمعنى : «مثل» ، وكذلك : «عن» و «على» بدليل دخول «من» عليهما ـ وهى لا تدخل إلا على الأسماء ـ يقول ابن مالك أولا :

شبّه بكاف ، وبها «التّعليل» قد

يعنى ، وزائدا لتوكيد ورد

يريد : أن كلمة : «الكاف» تستعمل فى التشبيه ، وأن «التعليل» بها قد يعنى (أى : يقصد) وورد هذا الحرف زائدا للتوكيد.

واستعمل اسما ، وكذا : «عن» و «على»

من أجل ذا عليهما «من» دخلا

يريد : أن حرف «الكاف» استعمل اسما ، وكذلك «عن» و «على». ومن أجل استعمالها اسمين دخل عليهما الحرف الجار : «من» وهو لا يدخل إلا على الأسماء ـ كما سبق. فى ص ٤٧٣ ـ.


بصاحبه (١) ... وهذه هى «ما» الزائدة الكافة عن العمل ، ومن القليل ؛ الذى لا يقاس عليه أن يبقى لها اختصاصها الأول ، ؛ فتدخل على الاسم فتجره ؛ نحو : قول القائل :

وننصر مولانا ونعلم أنه

كما الناس مظلوم عليه وظالم

أى : كالناس ، وهذه هى «ما» الزائدة فقط ، وليست بكافة.

* * *

مذ ومنذ (٢) : يكثر استعمالهما اسمين ظرفين ، أو اسمين غير ظرفين ، كما يكثر استعمالهما حرفين أصليين للجر.

(ا) فيصلحان للاسمية المجردة من الظرفية إذا لم تقع بعدهما جملة ، وإنما وقع بعدهما اسم مرفوع ؛ نحو : ما سافرت مذ الشهر الماضى ، أو منذ ... فمذ ومنذ مبتدأ خبره الاسم المرفوع بعده (٣).

ويصلحان للظرفية إذا وقع بعدهما جملة اسمية ، وفعلية ماضوية ، ولا يصح أن تقع بعدهما المضارعية المستقبلة (٤) ؛ فمثال الجملة الاسمية : ما سافرت مذ الجوّ مضطرب ، أو منذ ... فكلاهما ظرف زمان للفعل «سافر» ، مبنىّ على

__________________

(١) وسيشير إلى هذا ابن مالك آخر الباب ـ ص ٤٨٨ ـ حيث يقول فى زيادتها بعد «الكاف» ، و «رب» ، وأنها تكفهما عن العمل أو لا تكفهما :

وزيد بعد «ربّ» والكاف فكفّ

وقد يليهما وجرّ لم يكفّ

أى : لم يمنع. يريد بقوله : «وزيد» الحرف : «ما» وأن هذا الحرف كفهما عن العمل ، وقد يليهما فلا يكفهما.

(٢) سبق كلام عليهما ـ فى باب الظرف ، ص ٢٧٨ ـ ولأهميتهما وتشعب أحكامها سيجىء لهما بحث شامل مستقل ، آخر هذا الجزء ـ ص ٥٠٢ ـ (وكذلك سبق الكلام عليهما فى ج ١ لمناسبات مختلفة فى ص ٣٥٧ م ٣٦ و ٣٦٦ م ٣٧ و ٣٧٠ م ٣٨).

(٣) هذا هو الأحسن. ويجوز إعراب كل منهما ظرفا خبرا مقدما بمعنى : «بين ، وبين» مضافين فمعنى ما سافرت مذ أو منذ الشهر الماضى : الشهر الماضى بينى وبين عدم السفر ـ راجع الصبان ـ و «الشهر» هو المبتدأ المؤخر.

ولا بد من تقدم «مذ ومنذ» عند إعرابهما مبتدأ أو خبرا. وشروط أخرى هى المشار لها فى رقم ٢ من هامش الصفحة الآتية.

(٤) فلا يصح : «مذ ، أو منذ» يفهم ؛ لأن عاملهما لا يكون إلا ماضيا ، فلا يجتمع مع المستقبل ـ كما سيجىء فى البحث الآتى (ص ٥٠٣) منقولا عن الصبان.


السكون أو الضم ، فى محل نصب ، وهو مضاف ، والجملة الاسمية بعدهما فى محل جر مضاف إليه. ومثال الجملة الفعلية الماضوية : أسرعت إليك مذ أو منذ دعوتنى ، وكلاهما ظرف زمان للفعل : «أسرع» مبنى على السكون والضم فى محل نصب. والظرف مضاف والجملة الماضوية بعده مضاف إليه فى محل جر. ومن هذا قول الشاعر :

بدا الصبح فيها (١) منذ فارقت مظلما

فإن أبت صار الليل أبيض ناصعا

«فمنذ» ظرف زمان للفعل : «بدا».

(ب) ويكونان حرفين أصليين للجر ، وهذا يوجب شروطا ؛ أهمها (٢) : أن يكون المجرور اسما ظاهرا ، لا ضميرا ، وأن يكون وقتا (٣) ، وأن يكون هذا الوقت متصرفا ، معينا لا مبهما ، ماضيا أو حاضرا لا مستقبلا. نحو : ما رأيته مذ يوم السبت الأخير ، أو مذ ساعتنا ، فلا يصح : مذه ، ولا مذ البيت ، ولا : مذ سحر ، (تريد : سحر يوم معين) ولا مذ زمن ، ولا مذ غد ، وكذلك «منذ» فى كل ما سبق.

ويشترط فى عاملهما أن يكون ماضيا ، إما منفيّا يصح أن يتكرر معناه ؛ نحو : ما رأيته مذ أو منذ يوم الجمعة ، وإمّا مثبتا ، معناه ممتدّ متطاول (٤) ؛ نحو : سرت مذ ، أو منذ يوم الخميس. فإن كان الاسم المجرور بهما معرفة ومدلول زمنه ماضيا ، كان معناهما الابتداء مثل : «من» الابتدائية ، نحو : ما رأيته مذ ، أو : منذ يوم الجمعة الماضى ، أى : من يوم الجمعة ؛ فابتداء عدم الرؤية هو يوم الجمعة. وإن كان معرفة ومدلول زمنه حاضرا كان معناهما ـ لا إعرابهما ـ

__________________

(١) فى الدار ، أو البلدة.

(٢) والراجح أن هذه الشروط تجرى على الاسم المنفرد المرفوع بعدهما أيضا إذا لم يكونا حرفى جر.

(٣) ومثل الوقت ما يسأل به عن الوقت ، بشرط أن يكون ظرف زمان ؛ نحو : منذكم يوما سافرت؟ أو منذ متى سافرت؟ أو منذ أى وقت سافرت؟ ومثلها : مذ.

ويقول النحاة ـ كما جاء فى الهمع ـ إنه يصح وقوع المصدر بعدهما ، نحو : ما رأيته مذ قدوم علىّ بالرفع والجر ، وهو على تقدير حذف زمان ؛ أى : مذ زمن قدوم على. ويجوز وقوع «أن وصلتها» ، بعدهما ؛ نحو : ما رأيته مذ أن الله خلقنى ، فيقدر قبل المصدر المؤول لفظ زمان (انظر ص ٤٨١ ورقم ٣ هامش ص٥٠٤).

(٤) فى ص ٥٠٧ بيان «المتطاول» وما يتصل بهذا.


الظرفية ، مثل «فى». نحو : ما رأيته مذ ساعتنا ، أو منذ يومنا. أى : فى ساعتنا وفى يومنا.

أما إن كان المجرور بهما نكرة معدودة (١) فمعناهما الابتداء والانتهاء معا ؛ فهما مثل «من» و «إلى» مجتمعين ؛ نحو : ما رأيته مذ أو منذ يومين. أى : ما رأيته من ابتداء هذه المدة إلى نهايتها.

ومما يجب التنويه به أن الاسم بعد «مذ» ، و «منذ» مع جواز جره على اعتبارهما حرفى جر ، وجواز رفعه على اعتبارهما اسمين محضين ـ قد يترجح فيه أحد الضبطين على الآخر ، وقد يقوى حتى يقترب من الوجوب كما يتبين مما يأتى :

إذا كان الزمن بعدهما للحاضر فالراجح أن يكونا حرفى جر ، والاسم بعدهما مجرورا بهما ، نحو : ما تركت الكتابة مذ أو منذ ساعتنا. وعلى هذا تجرى أكثر القبائل العربية ، وتكاد تلتزمه وتوجبه.

وإذا كان الزمن بعدهما للماضى فالأرجح اعتبار «منذ» حرف جر ، والاسم بعدها مجرور ، نحو : ما زرت الصديق منذ يومين. والعكس فى «مذ» ، نحو ما زرت الصديق مذ يومان (٢).

__________________

(١) لتكون معينة ؛ لأن المبهمة ـ أى : غير المعدودة ، مثل : برهة ، وحين ... ـ لا تصلح بعدهما ، كما سبق. ولا فرق فى المعدود بين أن يكون معدودا لفظا ومعنى ؛ نحو : يومين ، أو معنى فقط ؛ نحو : شهر.

(٢) وفى الكلام على مذ ومنذ واسميتهما وحرفيتهما وأحكامهما يقول ابن مالك :

و «مذ ومنذ» اسمان حيث رفعا

أو أوليا الفعل ، كجئت مذ دعا

يريد : أنهما يكونان اسمين حين يرفعان اسما بعدهما ؛ باعتبارهما مبتدأين ، وهو الخبر المرفوع بالمبتدأ ، أو حين يليهما ويجىء بعدهما الفعل وفاعله ؛ مثل : جئت مذ دعا. واكتفى بأن ذكر الجملة الفعلية وترك الاسمية لفهم القارئ ، أو لأنها ستعرب خبرا والخبر مرفوع ـ عندهم ـ بالمبتدأ فتدخل فى ضمن الحالة الأولى. ثم قال فى معناهما :

وإن يجرّا فى مضىّ «فكمن»

هما ، وفى الحضور معنى : «فى» ، استبن

أى : اطلب. بيان معنى «فى» وهو : الظرفية.


زيادة وتفصيل :

فى مثل : «ما رأيته مذ أو منذ أن الله خلقه» ـ بفتح همزة أنّ ، (أى : من زمن أن الله خلقه) يجوز اعتبارهما اسمين ، مبتدأين ، والمصدر المؤول خبرهما ، كما يجوز اعتبارهما حرفى جر والمصدر المؤول هو المجرور بهما. أما عند كسر همزة «إن» فيتعين اعتبارهما اسمين مبتدأين لوقوع جملة اسمية بعدهما هى الخبر (١).

* * *

__________________

(١) لهذا إشارة فى رقم ٣ من هامش ص ٤٧٩ وبيان فى رقم ٣ من هامش ص ٥٠٤.


«ربّ» : ليس بين حروف الجر ما يشبه هذا الحرف فى تعدد الآراء فيه ، واضطراب المذاهب النحوية واللغوية فى أحكامه ونواحيه المختلفة. (التى منها ناحية معناه ، وناحية حرفيته ، وناحية زيادته أو شبهها ، وتعلقه بعامل أو عدم تعلقه ، ونوع الفعل الذى يقع بعده ، والجملة التى يوصف بها مجروره ... و...) وكان من أثر هذا الاضطراب قديما وحديثا الحكم على بعض الأساليب بالخطأ عند فريق ، وبالصحة عند آخر ، وبالقبول بعد التأول والتقدير عند ثالث. وكل هذا يقتضينا أن نستخلص أفضل الآراء ، بأناة ، وحسن تقدير.

وخير ما نستصفيه من معناه ، ومن أحكامه النحوية هو ما يأتى :

(ا) أن معناه قد يكون التكثير وقد يكون التقليل ، وكلاهما لا بد فيه من القرينة التى توجه الذهن إليه. ولهذا كان الاستعمال الصحيح للحرف «ربّ» وما دخل عليه أن يجىء بعد حالة شك تقتضى النص على الكثرة أو القلة ، (كأن يقول قائل (١) : أظنك لم تمارس الصناعة. فتجيب : رب صناعة نافعة مارستها. فقد جاءت الأداة «ربّ» وجملتها لإزالة شك قبل مجيئها). فمثال دلالتها على الكثرة : ربّ محسود على جاهه احتمل البلاء بسببه ، وربّ مغمور فى قومه سعد بغفلة العيون عنه ... وقولهم : ربّ أمل فى صفاء الزمان قد خاب ، وربّ أمنية فى مسالمة الليالى قد بددتها المفاجئات.

ومثال القلة قولهم : ربّ منية فى أمنيّة تحققت ... ؛ ورب غصّة فى انتهاز فرصة تهيأت. وقولهم : ربّ غاية مأمولة دنت بغير سعى ، وربّ حظ سعيد أقبل بغير انتظار. والقرينة على القلة والكثرة فى الأمثلة السالفة هى : التجارب الشائعة التى يعرفها السامع ، ويسلم بها.

(ب) وأن أحكامه النحوية أهمها :

١ ـ أنه حرف جر شبيه (٢) بالزائد. وله الصدارة فى جملته ؛ فلا يجوز

__________________

(١) أو من هو فى حكم القائل ؛ بأن تدل هيئته على أنه فى حالة شك ، فليس من اللازم أن ينطق فعلا ، وإنما يكفى أن يقدر فيه ذلك (شرح المفصل ج ٨ ص ٢٧).

(٢) سبق الكلام فى ص ٤١٩ على حرف الجر الشبيه بالزائد ، وأوجه الاتفاق والمخالفة بينه وبين الأصلى والزائد.


أن يتقدم عليه شىء منها (١). لكن يجوز أن يسبقه أحد الحرفين : «ألا» الذى للاستفتاح و «يا» ، نحو : ألا ربّ مظهر جميل حجب وراءه مخبرا مرذولا. ـ يا ربّ عظيم متواضع زاده تواضعه عظمة وإكبارا.

٢ ـ وأنه لا يجر ـ غالبا ـ إلا الاسم الظاهر النكرة. وقد وردت أمثلة قليلة ـ لا يحسن القياس عليها ـ كان مجروره فيها ضميرا للغائب ، يفسره اسم منصوب ، متأخر عنه وجوبا ، يعرب : تمييزا ، نحو : ربّه شابّا نبيلا صادفته ، وفى تلك الأمثلة القليلة كان الضمير مفردا غائبا فى جميع أحواله ، يعود على التمييز الواجب التأخير. ويجب مطابقة هذا التمييز لمدلول هذا الضمير المسمى : «الضمير المجهول (٢)» لعدم عودته على متقدم. نحو : ربه شابين نبيلين صادفتهما ـ ربه شبابا نبلاء صادفتهم ـ ربه فتاة نبيلة صادفتها ... و... وهكذا.

٣ ـ وأن النكرة التى يجرها تحتاج فى أشهر الآراء ـ لنعت مفرد ، أو جملة ، أو شبه جملة. غير أن الأكثر الأفصح حين يكون النعت جملة أن تكون فعلية ، ماضوية لفظا ومعنى ، أو : معنى فقط ـ كالمضارع المسبوق بالحرف «لم» ـ (نحو : رب صديق وفىّ عرفته ـ رب صديق لازمك عرفته ـ رب صديق عندك عرفته ـ رب صديق فى الشدة عرفته ـ رب صديق لم يتغير عرفته). ومثال النعت بجملة اسمية ، ربّ ملوم لا ذنب له ، وقول الشاعر :

ذلّ من يغبط الذليل بعيش

ربّ عيش أخفّ منه الحمام (٣)

٤ ـ وأن «رب» مع مجرورها لا بد أن يكون لها فى أغلب الأحوال اتصال معنوىّ بفعل ماض يقع بعدها ، أو : بما يعمل عمله ويدل دلالته الزمنية ، (وهذا الفعل مع فاعله غير الجملة الماضوية التى قد تقع ـ أحيانا ـ صفة لمجرورها) ،

__________________

(١) ومن المسموع الذى لا يقاس عليه ـ لندرته ـ قول الشاعر :

وقبلك ربّ خصم قد تمالوا

علىّ فما هلعت ولا ذعرت

ـ تمالوا : أى : تمالئوا ، بمعنى : اجتمعوا واتفقوا ـ. الخصم : المخاصم. وقد يكون للاثنين ، وللجمع. وللمؤنث ...

(٢) وله أسماء متعددة ، منها : ضمير الشأن ، وضمير القصة ... (وقد سبق شرحه وتفصيل الكلام عليه فى باب «الضمير» ـ ج ١ م ١٩ ص ٢٢٦).

(٣) الموت.


ويكون الفعل ـ أو ما يعمل عمله ـ بمنزلة العامل الذى تتعلق به «رب» ومجرورها (١) بالرغم مما هو مقرر من أن حرف الجر الزائد وشبه الزائد لا يتعلق مع مجروره بعامل ـ كما سبق ـ نحو : رب كلمة طيبة جلبت خيرا ، ودفعت شرّا. وقول الشاعر :

فيا ربّ وجه كصافى النمير

تشابه حامله والنّمر ... (٢)

والأغلب فى هذا الفعل وما فى معناه أن يكون محذوفا مع فاعله ؛ لأنهما معلومان تدلّ عليهما قرينة لفظية أو معنوية ، (لما قدمنا من أن الاستعمال الصحيح للحرف «رب» وما دخل عليه أن يكون بعد حالة شك تستدعى النص على القلة أو الكثرة ، فيكون جوابا عن قول لقائل ، أو : من ه فى حكمه) ؛ فاللفظية نحو : ما أطيب العمل ، وما أبغض البطالة : فربّ عمل نافع ، وربّ بطالة ضارة. التقدير : فرب عمل نافع أحببته ، وربّ بطالة ضارة كرهتها. والمعنوية كأن تمرّ على قوم منهمكين فى العمل ، مشغولين به ، فتبتسم ابتسامة الرضا والانشراح ؛ ثم تنصرف عنهم قائلا : رب عمل نافع ، ورب بطالة ضارة ، فالتقدير : رب عمل نافع أحببته ، أو احترمت صاحبه ، أو أكبرته ... و... ورب بطالة ضارة كرهتها ، أو أنكرت أمرها ... أو ... ومن الجائز ذكر هذا الفعل وفاعله.

ويقول النحاة إن «ربّ» توصل معنى هذا الفعل وما فى حكمه إلى الاسم المجرور بها ، ففى مثل : «رب رجل عالم أدركت» أوصلت معنى الإدراك إلى

__________________

(١) راجع شرح المفصل (ج ٨ ص ٢٧ و ٢٩ ثم الصبان فى أول باب الإضافة عند الكلام على الإضافة اللفظية ، ومناقشته مثال ابن مالك : (ربّ راجينا عظيم الأمل ...)

ونص ما نقله الصبان : (إن الأكثرين يقولون بوجوب مضى ما تتعلق به «رب» ، بناء على أنها تتعلق ، ولا يقولون بوجوب مضى مجرورها ؛ وأن ابن السراج يجوز كونه حالا ، وابن مالك يجوز كونه حالا أو مستقبلا وقد قال فى التسهيل «ولا يلزم وصف مجرورها خلافا للمبرد ومن وافقه ، ولا مضى ما تتعلق به») اه ، هذا ، ولا يحسن الأخذ بالآراء الضعيفة إلا فى فهم ما ورد بها. أما المحاكاة والقياس فيجريان على الأعم الأشهر الذى لخصناه.

(٢) ومثل هذا قول الآخر :

رب ليل كأنه الدهر طولا

قد تناهى فليس فيه مزيد


الرجل (١) ، وكذلك فى الأمثلة السابقة. ومن ثمّ كان الأحسن عندهم فى مثل : «ربّ عالم لقيته» وقول الشاعر :

ربّ حلم (٢) أضاعه عدم الما

ل ، وجهل غطّى عليه النعيم

أن تكون الجملة الفعلية الماضوية المذكورة هى صفة للنكرة المجرورة بالحرف : «ربّ». وأن تكون هناك جملة أخرى ماضوية محذوفة ، تتصل بها «ربّ» ومجرورها اتصالا معنويّا. ولا يرتاحون أن تكون الجملة الماضوية المذكورة هى المرتبطة ارتباطا معنويّا بهما ؛ لأنها صفة للنكرة المجرورة «بربّ» وهذه النكرة قد تستغنى عن كل شىء أساسىّ أو غير أساسى بعدها إلا عن الصفة. ومثل هذا الفعل الداخل فى جملة الصفة ـ لا يصلح أن يكون هو الذى بمنزلة العامل فى : «ربّ» ومجرورها ؛ لأن الصفة لا تعمل فى الموصوف ؛ منعا للفساد المعنوى.

٥ ـ وأنه يجوز أن يتصل بآخرها «ما» الزائدة. والشائع فى هذه الحالة أن تمنعها من الدخول على الأسماء المفردة ، ومن الجرّ ، فتجعلها مختصة بالدخول على الجمل الفعلية والاسمية (٣) ، ولذا تسمى : «ما» الزائدة الكافة ؛ لأنها كفّتها ، أى : منعتها من عملها (وهو الجر) ومن اختصاصها (وهو الدخول على الاسم وحده ؛ لجره) ؛ نحو : ربما رأيت فى الطريق مستجديا وهو من الأغنياء. ونحو : ربما كان السائل أغنى من المسئول ، أو ربما السائل أغنى من المسئول. ولكن دخولها على الماضى هو الكثير. أما دخولها على المضارع الصريح (٤) وعلى الجملة الاسمية فنادر لا يقاس عليه ، إلا إن كان معنى المضارع محقق الوقوع قطعا ـ كما سيجىء ـ ومن العرب من يبقيها على حالها من الدخول على الأسماء المفردة. وجرها

__________________

(١) هذا المثال بنصه وبالكلام الخاص به ، منقول من الجزء الثامن ص ٢٧ من كتاب : «المفصل» عند البحث الخاص بالحرف : «رب» وهو كلام يجعل حرف الجر الزائد والشبيه بالزائد معديا للعامل. مع أن كثرة النحاة تجعل التعدية مقصورة على حرف الجر الأصلى ، دون الزائد وشبهه ـ كما سبق فى ص ٤٠٧ و ٤١٩ وما بعدها ويجىء فى رقم ١ من هامش ص ٤٨٩ ـ. إلا إن كان القصد الاتصال المعنوى المجرد ـ كما قلنا ـ وليس فى كلامه دليل عليه.

(٢) عقل.

(٣) أما معناها فيبقى على الوجه الذى سيجىء مشروحا فى الزيادة والتفصيل (ب ـ ص ٤٩٠).

(٤) وهو الذى يكون لفظه مضارعا وزمنه مستقبلا خالصا.


مع وجود «ما» الزائدة ؛ فيقول : ربّ ما سائل فى الطريق أزعجنى ، ولا تسمى فى هذه الحالة «كافة» ؛ وإنما تسمى : «زائدة» فقط. والأفضل الاقتصار على الرأى الأول الشائع (١).

٦ ـ والشائع أيضا أن «ربّ» بحالتيها العاملة والمكفوفة عن العمل ، لا تدخل إلا على كلام يدل على الزمن الماضى ، سواء أكان مشتملا على فعل ماض أم على غيره مما يدل على الزمن الماضى ، كالمضارع المقرون بالحرف : «لم» ، أو : الوصف الدال على الماضى ... و... نحو : رب معروف قدمته سعدت بفعله ـ رب علم لم ينفع صاحبه أحزنه ـ رب بئر متفجرة أمس نفعت بما فى داخلها.

وقد أشرنا إلى أنها تدخل على المضارع الصريح إذا كان معناه محقق الوقوع لا شك فى حصوله ؛ فكأنه من حيث التحقق بمنزلة الماضى الذى وقع معناه (٢) ، وصار أمرا مقطوعا به ، كقوله تعالى ، فى وصف الكفار يوم القيامة ، ـ ووصفه صدق لا شك فيه ـ : (رُبَما)(٣) يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ، أما فى غير ذلك فشاذ لا يقاس عليه (٤).

__________________

(١) وإذا كانت «ما» كافة ، و «رب» غير عاملة ، فالواجب وصلهما كتابة. أما إذا كانت «رب» عاملة فالواجب فصلهما.

(٢) وقد تدخل على مضارع فى لفظه ، ولكنه ماض فى زمنه ، بقرينه تدل على المضى الزمنى ، كقول الشاعر لها رب من حاكم توعده بالقتل فجاءه الخبر بموت ذلك الحاكم :

ربما تجزع النفوس من الأم

ر له فرجة كحلّ العقال

فهو يريد : ربما جزعت ... ولا يصلح زمن المضارع هنا إلا للمضى ، لأن الجزع لن يقع فى المستقبل بعد موت الحاكم الظالم ، وزوال سبب الخوف. ومثل هذا قول الشاعر :

وحديث ألذّه هو مما

يشتهى السامعون يوزن وزنا

منطق صائب ، وتلحن أحيا

نا وخير الكلام ما كان لحنا

أى : رب حديث ألذه ، فقد دخلت «رب» المحذوفة ، والتى تدل عليها الواو ، على أمر محقق عند المتكلم ، لا شك فى وقوع زمنه وانتهائه قبل الكلام ؛ فالمضارع ماضى الزمن. (تلحن : تشير إلى ما تريد بغير كلام).

(٣) «ربما» (بتخفيف الباء) ، مثل : «ربما» بتشديدها. كما سيجىء.

(٤) ومن أمثلة الشاذ ما جاء فى تفسير القرطبى لقوله تعالى فى سورة البقرة : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا ـ


وإنما كان الأكثر دخولها على الزمن الماضى لأن معناها التكثير والتقليل ، ولا يمكن الحكم بأحدهما إلا على شىء قد عرف (١) ...

٧ ـ أنه يجوز فى ضبطها لغات تقارب العشرين ، أشهرها ضم الراء أو فتحها مع تشديد الباء فى الحالتين ، أو تخفيفها بالفتح بغير تشديد. كما يجوز أن تلحقها تاء التأنيث المتسعة ـ فى المشهور ـ لتدل على تأنيث مجرورها ؛ نحو : ربّت عبارة موجزة أغنت عن كلام كثير. وتكون التاء إما ساكنة ويوقف عليها بالسكون ، وإما مفتوحة ويوقف عليها بالهاء.

حذف ربّ : يجوز حذف «ربّ» لفظا ، مع إبقاء عملها ومعناها كما كانت. وهذا الحذف قياسى بعد «الواو» ، و «الفاء» ، و «بل». ولكنه بعد الأولى أكثر ، وبعد الثانية كثير ، وبعد الثالثة قليل بالنسبة للحرفين الآخرين. نحو :

وجانب من الثّرى يدعى الوطن

ملء العيون ، والقلوب ، والفطن (٢)

ونحو : أن تسمع من يقول : ما أعجب ما قرأته على صفحات الوجوه اليوم! فتقول : فحزين قضى الليل همّا طلع النهار عليه بما بدّد أحزانه ، ومبتهج

__________________

ـ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ،) وهو قول بعض السلف : لا تكرهوا الملمات الواقعة ؛ فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ، ولرب أمر تحبه فيه عطبك ، قال الشاعر :

رب أمر تتقيه

جرّ أمرا ترتضيه

خفى المحبوب منه

وبدا المكروه فيه

والدليل على أن المضارع بعد «رب» فى المثال المنثور مستقبل الزمن وجود «لا» الناهية فى المضارع الذى قبله ؛ وهى تجعل زمنه مستقبلا خالصا.

وهناك قرينة أخرى عقلية فى المثال المنثور ، وفى البيتين ـ تدل على استقبال المضارع ؛ هى الحث والحض والترغيب ، وهذه الأمور لا تكون إلا فى شىء لم يقع.

(١) من كل ما تقدم يتبين نوع المضارع الذى يقصده النحاة بقولهم : إن المضارع يكون ماضى الزمن إذا وقع بعد «رب» (كما جاء فى الهمع ج ١ ص ٨).

(٢) ومن هذا قول الشاعر :

ومستعبد إخوانه بثرائه

لبست له كبرا أبرّ على الكبر

(أبر ـ زاد وتغلب).


نام ليله قريرا ، ثم أفاق على همّ وبلاء ، ونحو : بل حزين قد تأسّى (١) بحزين. أى : رب جانب ... ـ رب حزين قضى الليل ... ـ رب مبتهج ... ـ ربّ حزين قد تأسى ...

وكل حرف من هذه الثلاثة يسمى : العوض عن : «رب» (٢) ؛ أو النائب عنها ؛ لأنه يدل عليها ، وهو مبنى لا محل له من الإعراب ؛ والاسم المجرور بعده ، مجرور بربّ المحذوفة (٣). وليس مجرورا فى الصحيح بالعوض عنها أو النائب (٤).

* * *

__________________

(١) تسلى.

(٢) فعند الإعراب يقال : الواو ، واو «رب» ـ الفاء : فاء رب ـ بل : بل رب. أو يقال فى كل واحد إنه نائب عن : رب.

(٣) ويقول ابن مالك فى زيادة : «ما» بعد : «من» ، و «عن» و «الباء» وأن هذه الزيادة لا تعوقها عن العمل ـ كما شرحنا عند الكلام على كلّ :

وبعد «من» ، و «عن» ، و «باء» زيد «ما»

فلم يعق عن عمل قد علما

وقد تقدم هذا البيت ـ فى ص ٤٧٦ عند الكلام على «من» و «عن» و «الباء» للمناسبة الخاصة بكل. ويقول فى زيادتها بعد «رب» و «الكاف» ، وأنها قد تكفهما أو لا تكفهما :

وزيد بعد «ربّ» و «الكاف» فكفّ

وقد يليهما ، وجرّ لم يكفّ

ـ وقد سبق البيت فى هامش ص ٤٧٨ ـ ثم يقول فى حذف : «رب» بعد الحروف الثلاثة :

وحذفت «ربّ» ، فجرّت بعد : «بل»

و «الفا» وبعد : «الواو» شاع ذا العمل

(٤) رأى سيبويه أن الجر برب المحذوفة. أما الواو ، وثم ، وبل ، فحروف عطف مهملة هنا لا تعمل شيئا ، مع أنها نائبة عن : «رب» ودالة عليها. وكثير من النحاة يقول : إن العمل هو للحرف النائب وليس للمحذوف (راجع المفصل ج ٢ ص ١١٧ باب الإضافة) وهذا الخلاف شكل محض لا أثر له.


زيادة وتفصيل :

(ا) إذا كان الحرف : «ربّ» شبيها بالزائد (١) فمن الواجب أن يكون للاسم النكرة المجرور به ناحيتان ، ناحية الجر لفظا ، وناحية الإعراب محلا ؛ فيكون مجرورا فى محل رفع ، أو محل نصب على حسب حاجة الجملة ، ويعامل بما يعامل به عند عدم وجودها. ففى مثل : ربّ زائر كريم أقبل ـ تعرب كلمة : «زائر» مجرورة بربّ لفظا ، فى محل رفع : لأنها مبتدأ. وفى مثل : رب زميل وديع صاحبت ، تعرب كلمة : «زميل» مجرورة لفظا فى محل نصب ، لأنها مفعول به للفعل : «صاحبت». وفى مثل : رب مساعدة خفية ساعدت ، تعرب كلمة : «مساعدة» مجرورة لفظا فى محل نصب ؛ لأنها مفعول مطلق. وفى مثل : رب ليلة مقمرة سهرت مع رفاقى ، تعرب كلمة : «ليلة» مجرورة لفظا فى محل نصب ؛ لأنها ظرف زمان ... و... وهكذا ...

وخير مرشد لمعرفة المحل الإعرابى للاسم المجرور بها هو ما قلناه من تخيل عدم وجود «ربّ» ، وإعراب المجرور بها بما يستحقه عند فقدها ...

ويترتب على ما سبق من جر النكرة لفظا بها واعتبارها فى محل رفع أو نصب أن التابع لهذه النكرة (من نعت ، أو : عطف ، أو : توكيد ، أو : بدل) يجوز فيه الأمران ، مراعاة لفظ النكرة ، أو مراعاة المحل ، ففى مثل : رب زائر كريم

__________________

(١) هذا رأى أكثرية النحاة من أهل التحقيق. وخالف فيه غيرهم ـ كما أشرنا فى رقم ١ من هامش ص ٤٨٥ ـ ومن هذه الأكثرية المحققة «الخضرى» أحد نحاة القرن الثانى عشر الهجرى ، وصاحب الحاشية المشهورة على ابن عقيل ، وآخر أصحاب الحواشى على شرح : «ألفية ابن مالك» وغيرها حتى عصرنا هذا. وقد اطلع ـ بلا شك ـ على الآراء المخالفة ، ولم يعتدّ بها حين رأى شرح ابن عقيل فى أول باب حروف الجر ينص على أن الحرف : «لعل» حرف جر زائد ؛ فاستدرك الخضرى مصححا ومصرحا بما نصه :

(صوابه : شبيه بالزائد. ومثلها «لو لا» و «رب» ؛ لأن الزائد لا يفيد شيئا غير التوكيد ؛ وهذه ـ الحروف ـ تفيد الترجى ، والامتناع ، والتقليل. وإنما أشبهت الزائد فى أنها لا تتعلق بشىء ... اه) وهذا نص واضح المرمى. وله صلة أيضا بما سيجىء فى هذه الزيادة والتفصيل ...


أقبل ، يجوز فى كلمة : «كريم» الجر والرفع. وفى مثل : رب زميل وديع صاحبت ، يجوز فى كلمة : «وديع» الجر والنصب ... وهكذا.

ولا يتغير الحكم لو جاء تابع آخر ـ كالعطف ـ فقلنا : رب زائر كريم وسائح هنا ، فيجوز فى كلمة : «سائح» المعطوفة ، الأمران الجائزان فى المعطوف عليه ... ويجوز أن يكون المعطوف هنا معرفة ، نحو : رب زائر كريم وأخيه أقبلا ، مع أن المعطوف فى حكم المعطوف عليه ، فهو بمنزلة الاسم الذى دخلت عليه «رب» فحقه أن يكون نكرة كمجرورها ، إلا أن الأساليب العربية الفصحى تدل على أنه قد يجوز فى التابع ما لا يجوز فى المتبوع ، وهذا معنى قول النحاة : قد يغتفر فى الثوانى ما لا يغتفر فى الأوائل (١).

(ب) إذا دخل الحرف : «رب» على الجمل بنوعيها (٢) ، وهو مكفوف ـ بسبب اتصاله «بما» الكافة ـ فإن معناه يبقى على حاله من إفادة التكثير أو التقليل على حسب القرائن (كما أشرنا من قبل) (٣) ، ولكن التكثير أو التقليل فى هذه الحالة يكون منصبّا على النسبة التى فى الجملة ، وهى النسبة الدائرة بين طرفيها ؛ ففى مثل : ربما أتى الغائب ، أو ربما الغائب آت يكون التقليل والتكثير واقعا على نسبة الإتيان للغائب. وقيل : إن معنى «رب» المكفوفة ، هو : التحقيق.

* * *

__________________

(١) تكررت الإشارة لهذا فى أبواب مختلفة ، ولا سيما باب الاستثناء ، عند الكلام على حكم المستثنى بإلا إذا كان تاما غير موجب ـ ص ٣١١ وفى رقم ١ من هامش ٦٧.

(٢) انظر حكم دخولها على الجملة الاسمية والمضارعية فى رقم ٥ من ص ٤٨٥.

(٣) فى ص ٤٨٢ وفى رقم ٣ من هامش ص ٤٨٥.


المسألة ٩١ :

ه ـ حذف حرف الجر وحده ، مع إبقاء عمله ، وحذفه مع مجروره

يجوز أن يحذف حرف الجر ، ويبقى عمله كما كان قبل الحذف. ويطّرد هذا فى مواضع قياسية ، أشهرها أربعة عشر نذكرها كاملة هنا ـ وقد مرّ بعضها فى مواضع متفرقة(١).

١ ـ أن يكون حرف الجر هو «ربّ» بشرط أن تكون مسبوقة «بالواو» ، أو : «الفاء» ، أو «بل» ـ كما سبق قريبا عند الكلام عليها (٢) ـ نحو :

وعامل بالحرام ، يأمر بال

برّ ؛ كهاد يخوض فى الظّلم

٢ ـ أن يكون الاسم المجرور بالحرف مصدرا مؤولا من «أنّ» مع معموليها ، أو من «أن» والفعل والفاعل ؛ نحو : فرحت أنّ الصانع بارع ، أو : أفرح أن يبرع الصانع. والأصل : فرحت بأن الصانع بارع ـ أو : أفرح بأن يبرع الصانع. والتقدير فيهما : فرحت ببراعة الصانع ، أو : أفرح ... ولا بد من أمن اللبس قبل حذف حرف الجر على الوجه الذى شرحناه فى مكانه من باب : «تعدية الفعل ولزومه (٣)».

٣ ـ أن يكون حرف الجر حرفا من حروف القسم ، والاسم المجرور به هو

__________________

(١) بعضها فى ص ١٥٤ وفى هامش تلك الصفحة تفصيلات هامة. أما الداعى إلى ملاحظة حرف الجر المحذوف ، واعتباره كالموجود فهو المحافظة على سلامة المعنى ، أو على صحة التركيب.

(٢) ص ٤٨٧.

(٣) ص ١٥٧. وقلنا هناك إن الباء الجارة التى بعد صيغة «أفعل» فى التعجب يجوز حذفها إن كان المجرور بها مصدرا مؤولا من «أن والجملة الفعلية بعدها».

لكن النحاة لا يجيزون حذفها بعد تلك الصيغة إن كان المصدر مؤولا من «أن» ومعموليها. ولا داعى لهذه التفرقة فى مسألة التعجب لأن حذف الجار مطرد قبل أنّ وأن.

وإذا حذفت الباء فى التعجب أتقدر أم لا تقدر؟ رأيان كما أشرنا فى ج ٣ باب التعجب م ١٠٩ ص ٢٧٢.


لفظ الجلالة (الله) ؛ نحو : الله لأكثرنّ من العمل النافع ، أى : بالله ... (١)

٤ ـ أن يكون حرف الجر داخلا على تمييز «كم» الاستفهامية ، بشرط أن تكون مجرورة بحرف جر مذكور قبلها ؛ نحو : بكم درهم اشتريت كتابك؟ أى : بكم من درهم(٢) ...؟

٥ ـ أن يكون حرف الجر مع مجروره واقعين فى جواب سؤال ، وهذا السؤال مشتمل على نظير لحرف الجر المحذوف ؛ كأن يقال : فى أى بلد قضيت الأمس؟ فيجاب : القاهرة. أى : فى القاهرة.

٦ ـ أن يكون حرف الجر واقعا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف ، بغير فاصل بين الحرفين ، والمعطوف عليه مشتمل على حرف جر مماثل للمحذوف ؛ كقولهم : ألا تفكر فى تركيب جسمك لترى قدرة الله العجيبة ، والسموات ؛ لترى ما يحيّر العقول ، وخواصّ المادة ؛ لترى الإبداع والإعجاز ... أى : فى السموات ـ وفى خواص المادة ... ؛ وقد حذف الحرف : «فى» ؛ لأنه مع مجروره معطوف بالواو بغير فاصل بينهما. والمعطوف عليه وهو «تركيب» مشتمل على حرف جر قبله ؛ مماثل للمحذوف (٣).

٧ ـ أن يكون حرف الجر واقعا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف ، والمعطوف عليه مشتمل على حرف جر مماثل للمحذوف مع وجود «لا» فاصلة بين حرف العطف وحرف الجر ؛ نحو : ما للفتى سلاح إلا علمه النافع ، ولا

__________________

(١) طبقا للرأى الأرجح ، وهو رأى سيبويه ، ومن معه ، (كما سبقت الإشارة لهذا فى ص ٤٥٩ و ٤٦٤).

(٢) هذا هو الراجح ، وهناك رأى آخر يقول إن «كم» الاستفهامية مضافة إلى تمييزها. أما تمييز «كم» الخبرية فالمشهور أنه المضاف إليه وهى المضاف ، وقيل إنه مجرور ب «من» محذوفة كما سيأتى فى ج ٤ باب : «كم».

(٣) وليس من هذا النوع بيت ابن مالك فى باب : «المعرب والمبنى» وهو :

فارفع بضم ، وانصبن فتحا ، وجر

كسرا : كذكر الله عبده يسر

فأصل الكلام : ارفع بضم ، وانصبن بفتح ، وجر بكسر ؛ فحذف حرف الجر وهو الباء ونصب الاسم المجرور به على ما يسمى : نزع الخافض ، لوجود فاصل ممنوع (وقد سبق الكلام عليه فى هذا الجزء فى باب تعدية الفعل ولزومه ص ١٣٩ كما سبق الكلام على البيت السابق فى ج ١ ص ٦٨ م ٧). وليس من الجائز فى البيت أن يبقى الاسمان ـ فتح ، وكسر ـ مجرورين بعد حذف حرف الجر كما كانا قبل حذفه.


الفتاة إلا فنها العملىّ. أى : ولا للفتاة.

٨ ـ أن يكون حرف الجر كالسابق ولكن الحرف الفاصل هو : «لو» ؛ كقولهم : من تعوّد الاعتماد على غيره ، ولو أهله ؛ فقد استحق الخيبة والإخفاق. أى : ولو على أهله(١) ...

٩ ـ أن يكون حرف الجر واقعا هو ومجروره فى سؤال بالهمزة ، وهذا السؤال ناشئ من كلام مشتمل على نظير للحرف المحذوف ؛ كأن يقال : أعجبت بمحمود. فيسأل القائل : أمحمود النجار؟ أى : أبمحمود النجار؟

١٠ ـ أن يكون حرف الجر ومجروره واقعين بعد «هلّا» التى للتحضيض بشرط أن يكون التحضيض واردا بعد كلام مشتمل على مثيل لحرف الجر المحذوف ؛ كأن يقال : سأتصدق بدرهم ، فيقال : هلّا نقود ، أى : بنقود ، والمراد : هلا تتصدق بنقود.

١١ ـ أن يكون حرف الجر هو : «لام التعليل» الداخلة على : «كى» المصدرية ؛ نحو : يجيد الصانع صناعته كى يقبل الناس عليه. أى : لكى يقبل الناس عليه ، بمعنى : لإقبالهم عليه.

١٢ ـ أن يكون حرف الجر داخلا على المعطوف على خبر «ليس» أو خبر «ما» الحجازية ، بشرط أن يكون كل منهما صالحا لدخول حرف الجر عليه (٢) ؛ نحو : لست مرجعا فرصة ضاعت ، ولا قادر على ردّها. فكلمة «قادر» مجرورة لأنها معطوفة على خبر ليس : (مرجعا) وهذا الخبر يجوز جره بالباء فيقال : لست بمرجع. فكأنها موجودة توهما وتخيلا. وعلى أساس هذا الجواز الموهوم عطفنا عليه بالجر ؛ وهذا هو العطف الذى يسميه النحاة ؛ «العطف على التوهم». وقد سبق (٣) إبداء الرأى فيه تفصيلا ، وأنه لا يصح الالتجاء إليه ، ولا القياس على ما ورد منه.

__________________

(١) والذى يوجب تقدير حرف الجر هنا اختصاص «لو» بالدخول على الجمل ، لا على المفردات.

(٢) بأن يكون خبرهما اسما ، وأن يكون النفى المنصب عليه باقيا ، لم ينتقض بإلا ... على الوجه الذى سبق فى بابهما ، ج ١ ص ٤٥٢ المسألة : ٤٩ وما بعدها.

(٣) فى ص ٣٢٣ عند الكلام على «غير» الاستثنائية وفى رقم ٣ من هامش ص ٣٣٦ ج ١ ص ٤٥٤ م ٤٩.


١٣ ـ أن يكون حرف الجر مسبوقا «بإن» الشرطية ، وقبلهما كلام يشتمل على مثيل للحرف المحذوف ، نحو : سلّم على من تختاره ، إن محمد ، وإن علىّ ؛ وإن حامد. التقدير : إن شئت فسلم على محمد ، وإن شئت فسلّم على علىّ ، وإن شئت فسلم على حامد. وبالرغم من جواز هذا فالمحذوف فيه كثير ، والمراد قد يخفى. فمن المستحسن عدم محاكاته قدر الاستطاعة.

١٤ ـ أن يكون حرف الجر مسبوقا بفاء الجزاء الواقعة فى جواب شرط. نحو : اعتزمت على رحلة طويلة ؛ إن لم تكن طويلة فقصيرة ، أى : فعلى رحلة قصيرة. ويقال فى هذا الموضع ما قيل فى سابقه من ترك القياس عليه قدر الاستطاعة. ـ بالرغم من صحة القياس ـ

هذا وجميع التأويلات والتقديرات السابقة جائزة وليست محتومة ؛ بل إنّ الكثير منها يجوز فيه أوجه إعرابية أخرى ؛ قد تكون أيسر ، والمعنى عليها أوضح. واختيار هذه أو تلك متروك لمقدرة المتكلم والسّامع ، وخبرتهما بدرجات الكلام قوة ، وضعفا ، وحسنا ، وقبحا. مع التزام الصحة التزاما دقيقا ، والبعد عن الخطأ فى كل حالة. ومن الخير أن نترك ما فيه غموض وإلباس إلى ما لا خفاء فيه ولا إبهام ، لأن اللغة ليست تعمية وإلغازا ، وإلا فقدت خاصتها ، وعجزت عن أداء مهمتها. وهذا أساس يجب مراعاته عند استخدامها ، وفى كل شأن من شئونها.

تلك مواضع حذف حرف الجر حذفا قياسيّا مطردا مع إبقاء عمله. وهناك أمثلة مسموعة وقع الحذف فيها مخالفا ما سبق ، ولا شأن لنا بها ؛ فهى مقصورة على السماع ؛ لا يجوز محاكاتها ؛ لعدم اطرادها (١).

__________________

(١) وفيما سبق من حذف الجار ، وإبقاء عمله ومشابهته «رب» فى هذا ، وفى أن حذفه قد يكون مطردا أو غير مطرد ـ يقول ابن مالك :

وقد يجرّ بسوى : «ربّ» لدى

حذف ، وبعضه يرى مطّردا

أى : أن حروفا غير «رب» قد تجر الاسم بعدها مع حذفها. وأن بعض حالات الحذف والجر قد يكون مطردا.


أما حذف الجار والمجرور معا فجائز إذا لم يتعلق الغرض بذكرهما ، بشرط وجود قرينة تعينهما ، وتعين مكانهما ، وتمنع اللبس. ومن الأمثلة قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً،) أى : لا تجزى فيه ...

* * *


المسألة ٩٢ :

وـ نيابة حرف جر عن آخر

يتردد بين النحاة أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ؛ فيتوهم من لا دراية له أن المراد جواز وضع حرف مكان آخر بغير ضابط ، ولا توقّف على اشتراك بينهما فى المعنى ، ولا تشابه فى الدلالة. وهذا ضرب من الفهم المتغلغل فى الخطأ (١) ...

أما حقيقة الأمر فى نيابة حروف الجر بعضها عن بعض فتتلخص فى مذهبين : الأول (٢) : أنه ليس لحرف الجر إلا معنى واحد يؤديه على سبيل الحقيقة ، لا المجاز ؛ فالحرف : «فى» يؤدى معنى واحدا حقيقيّا هو : «الظرفية». والحرف : «على» يؤدى معنى واحدا حقيقيّا هو : «الاستعلاء». والحرف : «من» يؤدى : «الابتداء» ، والحرف : «إلى» يؤدى : «الانتهاء» ... و... وهكذا ... فإن أدّى الحرف معنى آخر غير المعنى الأصلى الخاص به وجب القول : بأنه يؤدى المعنى الجديد إما تأدية مجازية (أى : من طريق المجاز (٣) ، لا الحقيقة) ، وإما تأدية تضمينية (٤) (أى : بتضمين الفعل ، أو : العامل الذى

__________________

(١) جاء فى المغنى ـ ج ٢ الباب السادس فى التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين ، والصواب خلافها به. ما نصه فى الأمر الثالث عشر منها :

«قولهم : ينوب بعض حروف الجر عن بعض ، وهذا أيضا مما يتداولونه ؛ ويستدلون به ...

«وتصحيحه يكون بإدخال : قد على قولهم : ينوب ؛ وحينئذ يتعذر استدلالهم به ؛ إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك يقال لهم فيه : لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة. ولو صح قولهم لجاز أن يقال : مررت فى زيد ، ودخلت من عمرو ، وكتبت إلى القلم. على أن البصريين ومن تابعهم يرون فى الأماكن التى ادعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه ، وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف ؛ لأن التجوز فى الفعل أسهل منه فى الحرف». اه. وسيجىء الرأى البصرى كاملا مع غيره هنا.

(٢) وهو مذهب البصريين. أما الثانى فمذهب الكوفيين ، والكلام عليه فى ص ٤٩٨.

(٣) وفى هذه الحالة يجب أن يتحقق للمجاز ركناه الأساسيان ، وهما العلاقة والقرينة ـ انظر معناهما فى هامش الصفحة التالية ـ.

(٤) سبق شرح التضمين فى هذا الجزء ، ص ١٣٨ من «باب» «تعدية الفعل». ولأهميته سجلنا له بحثا شاملا مستقلا آخر هذا الجزء ص ٤٣٤.


يتعلق به حرف الجر الأصلى (١) ومجروره. معنى فعل أو عامل آخر يتعدّى بهذا الحرف) فحرف الجر مقصور على تأدية معنى حقيقىّ واحد يختص به ، ولا يؤدى غيره إلا من طريق المجاز فى هذا الحرف ، أو من طريق التضمين فى العامل الذى يتعلق به الجار الأصلى (٢) مع مجروره. ومن الأمثلة الحرف الأصلىّ : «فى» : فمعناه : الظرفية (أى : الدّلالة على أن شيئا يحوى بين جوانبه شيئا آخر ... و... كما سبق) ، فإذا قلنا : الماء فى الكوب ، فهمنا أن الكوب يحوى بين جوانبه الماء ؛ فيكون الحرف «فى» مستعملا فى تأدية معناه الحقيقى الأصيل. ولكن إذا قلنا : غرّد الطائر فى الغصن .. ، لم نفهم أن الغصن يحوى فى داخله وبين جوانبه الطائر المغرد ، لاستحالة هذا. وإنما نفهم أنه كان على الغصن وفوقه ، لا بين ثناياه. فالحرف : «فى» قد أدى معنى ليس بمعناه الحقيقى الأصيل. فالمعنى الجديد ؛ وهو : «الفوقية» ، أو «الاستعلاء» إنما يؤديه حرف آخر مختص بتأديته ؛ هو : «على» فلو راعينا الاختصاص وحده لقلنا : غرد الطائر على الغصن ، فالحرف : «فى» قد أدّى معنى ليس من اختصاصه. بل هو من اختصاص غيره. وهذه التأدية ليست على سبيل الحقيقة. وإنما على سبيل المجاز. واجتمع للحرف : «فى» الشرطان اللذان لا بد من تحققهما لصحة استعمال المجاز (٣) ؛ فالاستعلاء بما يقتضيه من تمكن وثبات شبيه بالظرفية التى تقتضى التمكن والثبات أيضا. فاستعملنا «الظرفية» مكان «الاستعلاء» ؛ بسبب التشابه الذى بينهما ، واستعملنا الحرف الدال على «الظرفية» مكان الحرف الدال على الاستعلاء ؛ تبعا لذلك. وكل هذا على سبيل المجاز. والقرينة الدالة على أنه مجاز (أى : على أن الحرف : «فى» مستعمل فى غير معناه الأصلى) وجود الفعل : «غرّد» ؛ إذ لا يقع التغريد فى داخل الغصن ؛ وإنما يكون فوقه ، فهذه القرينة هى المانعة من إرادة المعنى الأصلى.

ومن الأمثلة : «على» ؛ فهو حرف جر يقتصر عند أصحاب هذا الرأى على معنى حقيقى واحد ؛ هو : «الاستعلاء». فإذا قلنا : الكتاب على المكتب ، فهمنا هذا المعنى الحقيقى الدال على أن شيئا فوق آخر. فالحرف مستعمل فى معناه

__________________

(١ و ١) وملحقه.

(٢) هما : العلاقة بين المعنى المنقول منه والمعنى المنقول إليه ، والقرينة التى تصرف الذهن عن المعنى الأصلى إلى المعنى المجازى الجديد.


الأصيل. لكن إذا قلنا : اشكر المحسن على إحسانه ، لم نفهم الاستعلاء الحقيقى ، ولم يرد على خاطرنا أن الشكر قد حلّ واستقرّ فوق الإحسان ؛ لاستحالة هذا ، وإنما الذى يخطر ببالنا هو أن المراد : اشكر المحسن لإحسانه ، فالحرف : «على» قد جاء فى مكان : «اللام» التى معناها : «السببية» ، أو «التعليل». فأفاد ما تفيده اللام ، ولكن إفادته على سبيل المجاز ؛ ذلك أن لام التعليل تفيد التمكن والاتصال القوى بين السبب والمسبب ، أو بين العلة والمعلول ؛ والاستعلاء يشبهها فى أنه يفيد التمكن والاتصال بين الشيئين ؛ فلهذا التشابه صح استعمال الاستعلاء مجازا ، مكان السببية والتعليل. وتبع ذلك استعمال الحرف الدال على الاستعلاء مكان الحرف الدال على السببية. والقرينة الدالة على أن الحرف : «على» مستعمل فى غير حقيقته وجود الفعل : «اشكر» إذ لا يستقر الشكر فوق الإحسان ، ولا يوضع فوقه وضعا حقيقيّا.

ومثل ما سبق يقال فى بقية حروف الجر حين يؤدى الواحد منها معنيين أو أكثر.

أما أمثلة التضمين (١) فى العامل فمنها قول بعض الأدباء : «نأيت من صحبة فلان بعد أن سقانى بمر فعاله». والأصل : نأيت عن صحبة فلان ، بعد أن سقانى من مر فعاله. ولكنه ضمن الفعل : «نأى» الذى لا يتعدى هنا بالحرف «من» معنى فعل آخر يتعدى بها ؛ هو : بعد ، أو «ضجر» ؛ فالمراد : بعدت أو ضجرت من صحبة فلان. كما ضمّن الفعل : «سقى» الذى لا يتعدى هنا «بالباء» معنى فعل آخر يتعدى بها ؛ هو : «آذى» ، أو «تناول». فالمراد : «آذانى» أو تناولنى بمرّ فعاله ، وكذلك : شربت بماء عذب ؛ فإن الفعل شرب قد ضمّن معنى الفعل : «روى» فالأصل : رويت. وهكذا بقية حروف الجر.

* * *

والمذهب الثانى (٢) : أن قصر حرف الجر على معنى حقيقى واحد ، تعسف وتحكم لا مسوّغ له ، فما الحرف إلا كلمة ، كسائر الكلمات الاسمية والفعلية ، وهذه الكلمات الاسمية والفعلية تؤدى الواحدة منها عدة معان حقيقية (٣) ، لا مجازية ،

__________________

(١) بعض الأمثلة السابقة صالح «للتضمين فى الفعل مع بقاء حرف الجر على معناه الحقيقى». وكذا نظائرها.

(٢) وهو مذهب الكوفيين.

(٣) والمراد هنا ما يشمل الحقيقة اللغوية ؛ والحقيقة العرفية.


ولا يتوقف العقل فى فهم دلالتها الحقيقية فهما سريعا. فما الداعى لإخراج الحرف من أمر يدخل فيه غيره ، ولإبعاده عما يجرى على نظائره؟

إنه نظيرها ؛ فإذا اشتهر معناه فى العرف ، وشاعت دلالته ؛ بحيث يفهمها السامع بغير غموض ، كان المعنى حقيقيّا لا مجازيّا ، وكانت الدلالة أصيلة لا علاقة لها بالمجاز ، ولا بالتضمين ولا بغيرهما ، فالأساس الذى يعتمد عليه هذا المذهب فى الحكم على معنى الحرف بالحقيقة هو شهرة هذا المعنى وشيوعه ، بحيث يتبادر ويتضح سريعا عند السامع ؛ لأن هذه المبادرة علامة الحقيقة. وإن من يسمع قول القائل : (كنت فى الصحراء ، ونفد ما معى من الماء ، وكدت أهلك من الظمأ ، حتى صادفت بئرا شربت من مائها العذب ما حفظ حياتى التى تعرضت للخطر من يومين ...) سيدرك سريعا معنى الحرف : «من» وقد تكرر فى الكلام بمعان مختلفة : أولها : بيان الجنس. وثانيها : السببية ، وثالثها : البعضية. ورابعها : الابتداء ... و...

كذلك من يسمع قول القائل : «إنى بصير فى الغناء : يستهوينى ، ويملك مشاعرى إذا كان لحنه شجيّا ، وعبارته رصينة ؛ كالأبيات التى مطلعها :

ربّ ورقاء هتوف فى الضّحا

ذات شجو صدحت فى فنن

 .......».

فإن معانى الحرف : «فى» ستبتدر إلى ذهنه. فالأول : للإلصاق. والثانى : للظرفية. والثالث : للاستعلاء. وكل واحد من المعانى السالفة يقفز إلى الذهن سريعا بمجرد سماع حرف الجر خلال جملته. وهذا علامة الحقيقة ـ كما سبق ـ.

فإذا كان المعنى من الشيوع ، والوضوح وسرعة الورود على الخاطر ـ بالصورة التى ذكرناها ، ففيم المجاز أو التضمين أو غيرهما؟ إن المجاز أو التضمين أو نحوهما يقبلان ، بل يتحتمان حين لا يبتدر المعنى إلى الذهن ، ولا يسارع الذهن إلى التقاطه ؛ بسبب عدم شيوعه شيوعا يجعله واضحا جليّا ، وبسبب عدم اشتهاره شهرة تكفى لكشف دلالته فى يسر وجلاء. أما إذا شاع واشتهر وتكشف للذهن سريعا فإن هذا يكون علامة الحقيقة ـ كما قلنا ـ فلا داعى للعدول عنها ،


ولا عن قبولها براحة واطمئنان (١).

وهذا رأى نفيس أشار بالأخذ به ، والاقتصار عليه ؛ كثير من المحققين (٢).

* * *

__________________

(١) انظر الزيادة والتفصيل فى الصفحة التالية.

(٢) كصاحبى : المغنى ، والتصريح ، وكالصبان ، والخضرى فى باب «حروف الجر» عند الكلام على الحرف : «من» وشرح بيت ابن مالك الذى أوله :

«بعّض ، وبيّن ، وبتدئ فى الأمكنه ...»

فقد وصفوا المذهب الثانى وهو المذهب (الكوفى) بأنه أقل تكلفا وتعسفا.


زيادة وتفصيل :

لا شك أن المذهب الثانى (١) نفيس كما سبق ؛ لأنه عملىّ وبعيد من الالتجاء إلى المجاز ، والتأويل ، ونحوهما من غير حاجة. فلا غرابة فى أن يؤدى الحرف الواحد عدة معان مختلفة. وكلها حقيقى (٢) ـ كما قلنا ـ ولا غرابة أيضا فى اشتراك عدد من الحروف فى تأدية معنى واحد. لأن هذا كثير فى اللغة ، ويسمى : المشترك اللفظى (٣).

وهناك سبب آخر يؤيد أصحاب المذهب الثانى هو أن الباحثين متفقون على أنّ المجاز إذا اشتهر معناه ، وشاع بين الناطقين به ، انتقل هذا المجاز إلى نوع جديد آخر يسمى : «الحقيقة العرفية» (ولها بحث مستفيض فى مكانها بين أبواب البلاغة) ومن أشهر أحكامها : أنها فى أصلها مجاز قائم على ركنين : علاقة بين المشبه والمشبه به ، وقرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلى. فإذا اشتهر المجاز وشاع استعماله تناسى الناس أصله ، واختفى ركناه ، واستغنى عنهما وعن اسمه ، ودخل فى عداد نوع جديد يخالفه ، يسمى : «الحقيقة العرفية» فلو سلّمنا أن حرف الجر لا يؤدى إلا معنى واحدا أصليّا. وأن ما زاد عليه ليس بأصلى ، لكان بعد اشتهاره وشيوعه فى المعنى الجديد داخلا فى الحقيقة العرفية. وهى ليست بمجاز فى صورتها الواقعة.

__________________

(١) وهو الكوفى.

(٢) سواء أكانت الحقيقة لغوية أم عرفية ـ كما سبق فى رقم ٢ من هامش ص ٤٩٨.

(٣) الحق أنه لا سبيل للحكم على معنى من معانى المشترك اللفظى بأنه «مجازى» أو أن فى عامله «تضمينا» ؛ لأن هذا يقتضينا أن نعرف المعنى الأصلى الذى وضع له اللفظ أولا ، واستعمل فيه ، ثم انتقل منه بعد ذلك إلى غيره من طريق المجاز أو التضمين ، أى : أنه لا بد من معرفة أقدم المعنيين فى الاستعمال ؛ ليكون هذا الأقدم هو الأصلى ؛ والمتأخر عنه هو الحادث مجازا أو تضمينا. وهذا أمر لم يتحقق حتى اليوم فى أكثر المعانى التى يؤديها كل حرف من حروف الجر ، وهى معان مرددة فى أفصح الكلام العربى ـ قرآنا وغير قرآن ـ ولا سبيل للحكم القاطع بأن معنى معينا منها أسبق فى الاستعمال من معنى آخر ، وإذا لا سبيل للحكم الوثيق بأن واحدا من تلك المعانى هو وحده الحقيقى ، وأن ما عداه هو المجازى أو التضمينى. بل إن هذا يلاحظ فى كل معنى مجازى آخر يجرى فى غير الحرف. ولا يقال إن المعنى الحسىّ أسبق ـ فى الغالب ـ وجودا من العقلى المحض ؛ لا يقال هذا لأنه لا يصدق على حالات متعددة. وفوق هذا أيضا يكاد يكون الحكم بالأسبقية مستحيلا إذا كان المدلولان عقليين معا (أى : غير حسيين).

وقد رأى أحد المستشرقين ضرورة وضع معجم خاص يوضح أقدمية الكلمات وتاريخ ميلادها ، وتجرد لهذه المهمة ، ولكن منيته عاجلته فى أول مراحل العمل.


بحث مستقل

فى :

(مذ) و (منذ) من الوجهتين اللفظية ، والمعنوية (١)

قال الباحث :

طالما أنعمت النظر فى هاتين الكلمتين ، ورجعت إلى ما دوّنه فيهما النحاة واللغويون. فكنت أجد أحيانا عنتا ومشقة فى استخلاص حكم ، أو تلخيص خلاف ، أو دفع إشكال. ذلك بأن هذه المادة مبعثرة فى الكتب قديمها وحديثها ؛ فما فى هذا ليس فى ذاك ، مع كثرة الآراء ، واشتداد الخلاف ، وتباين التفسيرات والشروح.

فما زلت فى مراجعة وبحث ، حتى اجتمع لى من ذلك فصل صالح ، حاولت أن أذلل فيه ما استصعب ، وأن أشرح ما خفى ، بالموازنة والترجيح.

ولا أدعى أنى أحطت بالموضوع جميعه. فهذا ما لا سبيل إليه فى وجيز كهذا. ولكننى أرجو أن أكون قد عبّدت الطريق ، ومهدت السبيل للباحثين والمستفيدين. فأقول :

(ا) يقع مذ ومنذ (٢) اسمين :

١ ـ إن كان ما بعدهما اسما مرفوعا ، معرفة ، أو نكرة ، معدودة لفظا أو معنى كما سيأتى.

__________________

(١) هذا بحث واف ، سبق ـ فى ص ٢٧٨ و ٤٧٨ ـ أن وعدنا بتسجيله آخر هذا الجزء ؛ لعظيم أثره لدى المتخصصين ، وليكون للطلاب تدريبا على البحث ، والتحقيق ، والتمحيص. وقد جمع أكثر المفرق من مسائلهما ، وأحكامهما ، وتميز بآراء صائبة استقل بها صاحبه ، وإن كان بعضها مختلطا ، أو مفتقرا لمزيد تحقيق ، أو قوة استدلال تحمل على الإقناع. وقد نقلناه كاملا بشروحه وهوامشه ـ وربما أبدينا تعليقا على بعضها ـ عن الجزء الثالث من مجلة المجمع اللغوى القاهرى ، (ص ٣٥٤ وما بعدها) حيث سجلته لعضو جليل من أعضاء المجمع السابقين ، هو : الأستاذ أحمد العوامرى ، رحمة الله عليه.

(٢) قال فى الهمع : وكسر ميمهما لغة اه ، وفى الخضرى ؛ والراجح أن أصل (مذ): (منذ) ، حذفت النون تخفيفا ؛ بدليل ضمها لملاقاة ساكن ، كذ اليوم. ولو لا هذا لكسرت فى أصل التخلص. وبعضهم يضمها بلا ساكن أصلا. اه.


٢ ـ أو كان ما بعدهما فعلا ماضيا (١).

٣ ـ أو كان ما بعدهما جملة اسمية.

فالحالة الأولى (وفيها الأسماء المرفوعة نكرة معدودة) ، نحو : ما رأيته مذ أو منذ يومان ، أو عشرة أيام ، أو خمسة عشر يوما ، أو عشرون يوما ، أو مائة يوم ، أو ألف يوم ، أو ألفا يوم ، أو سنة ، أو شهر أو يوم (٢). ومثال المعرفة ما رأيته مذ أو منذ يوم الجمعة.

فمذ أو منذ اسم مبتدأ (٣). والخبر واجب التأخير معهما. وجوّز بعضهم أن يكونا خبرين لما بعدهما.

والحالة الثانية ، نحو : ركب أخى مذ أو منذ حضرت السيارة. فمذ أو منذ

__________________

(١) فلا يجوز : مذ يقوم ، لأن عاملهما لا يكون إلا ماضيا ، فلا يجتمع مع المستقبل اه ، صبان.

(٢) على أن يكون اليوم هو الفلكى المقسم ساعات ، لا الوقت من طلوع الشمس إلى غروبها ، كما سنفصله.

(٣) قال الخضرى عند قول ابن عقيل : (فمذ اسم مبتدأ إلخ) ما يأتى : وسوغه كونها معرفة فى المعنى ، لأنها إن كان الزمان ماضيا ، كما فى المثال الأول (وهو قول ابن عقيل : ما رأيته مذ يوم الجمعة) ، فمعناها : أول مدة عدم الرؤية كذا. وإن كان حاضرا ، كما فى المثال الثانى (وهو قول ابن عقيل : ما رأيته مذ شهرنا «وهو ما خالف فيه أكثر العرب ، كما سيمر بك») ، أو كان معدودا كما رأيته : «مذ يومان» ، فمعناه نفى المدة ، أى : مدة عدم الرؤية شهرنا ، أو يومان اه ، وفى تأويل خبريتهما كلام كثير وتكلف لا يعنينا ـ وفى الصحاح : ويصلح أن يكونا اسمين ، فترفع ما بعدهما على التاريخ ، أو على التوقيت. فتقول فى التاريخ : ما رأيته مذ يوم الجمعة. أى : أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة. وتقول فى التوقيت : ما رأيته مذ سنة. أى : أمد ذلك سنة. ولا تقع ها هنا إلا نكرة. لأنك لا تقول : مذ سنة كذا. اه.

وقوله : «ولا تقع ها هنا إلا نكرة» ، يريد بقوله : (ها هنا) حالة إرادة التوقيت ، لأنك لو قلت مثلا : «مذ أو منذ عشرين للهجرة» فمعناه على ما قرر الجوهرى : أمد ذلك سنة عشرين للهجرة ، وهو لغو.

أقول : ولا أرى ما يمنع أن ندخل نحو هذا المثال فى باب (التاريخ). فيكون معنى (ما حصل كذا مذ أو منذ سنة عشرين للهجرة ، مثلا) : أول انقطاع الحصول سنة عشرين للهجرة.

ولم يفرق (القاموس) بين التاريخ والتوقيت ، فقال : أرّخ الكتاب ، وأرّخه ، وآرخه : وقّته اه.

وفى شرحه للزبيدى : وقال الصولى : تاريخ كل شىء غايته ووقته الذى ينتهى إليه. ومنه قيل : فلان تاريخ قومه ، أى : إليه ينتهى شرفهم ، ورياستهم. اه.

وقال فى المصباح : (الوقت مقدار من الزمان مفروض لأمر ما. وكل شىء قدرت له حينا فقد وقّتّه توقيتا. اه.

فعل تعريف الصولى للتاريخ ، وتعريف المصباح للتوقيت يتضح المقام فى التفرقة بينهما.


اسم منصوب المحل على الظرفية. والعامل فيه (ركب). وهو مضاف إلى الجملة بعده. وهذا هو المشهور. وقيل : هما مبتدآن (١).

والحالة الثالثة نحو :

فما زلت أبغى الخير مذ أنا يافع

وليدا وكهلا حيث شبت ، وأمردا

فمذ هنا ظرف لمضمون ما قبله ، ومضاف إلى الجملة بعده ، على المشهور.

(ب) وتقعان حرفين (٢).

١ ـ بمعنى : (من) الابتدائية ، إن كان المجرور ماضيا معرفة ؛ نحو : ما قابلت صديقى مذ أو منذ يوم الأربعاء ، أى : من يوم الأربعاء (٣).

٢ ـ بمعنى : (فى) ، إن كان المجرور حاضرا معرفة ، نحو ما قرأت مذ أو منذ اليوم ، أو عامنا ، أو شهرنا ، أو أسبوعنا ـ أو منذ هذا الأسبوع ـ أو هذا الشهر ، أو هذه السنة ، مثلا. ولا يجوز فى الحاضر بعدهما إلا الجر عند أكثر العرب.

٣ ـ بمعنى من وإلى معا ، فيدخلان على الزمان الذى وقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه. ويشترط حينئذ :

أولا : أن يكون الزمان نكرة ، معدودا لفظا ؛ كمذ يومين.

ثانيا : أو أن يكون معدودا معنى ، كمذ شهر.

__________________

(١) وكذا قيل فى الحالة الثالثة الآتية أيضا : قال الخضرى : والجملة بعدهما خبر ، بتقدير زمن مضاف إليها (أى : إلى الجملة). والتقدير فى : (جئت مذ دعا) وقت المجىء هو زمن دعائه. وفى البيت المار ، (فما زلت أبغى الخير إلخ) : أول وقت طلبى الخير هو وقت كونى يافعا : فجملة مذ إلخ مستأنفة كما مر. اه.

(٢) قال فى الهمع : ومذ ومنذ لا يجران إلا الظاهر من اسم الزمان أو المصدر ... وأجاز المبرد أن يجرا مضمر الزمان ؛ نحو : يوم الخميس ما رأيته منذه ، أو مذه. ورد بأن العرب لم تقله. اه.

وكونهما حرفين فى هذه الأحوال الثلاثة هو مذهب الجمهور. وقيل : هما ظرفان فى موضع نصب بالفعل ـ قبلهما ـ ورد هذا المذهب بما لا محل له هنا.

(٣) قال فى الهمع : ويجوز وقوع المصدر بعدهما ، نحو : ما رأيته مذ قدوم زيد ، بالرفع والجر وهو على حذف زمان ، أى : مذ زمن قدوم زيد. ويجوز وقوع (أن) وصلتها بعدهما ، نحو :ما رأيته مذ أن الله خلقنى. فيحكم على موضعها بما حكم به للفظ المصدر ، من رفع أو جر. وهو على تقدير زمان أيضا. اه ، قال الشاطبى : أما إن كسرت (أى : إن) فالاسمية متعينة. اه. (وقد سبقت الإشارة لهذا فى رقم ٣ من هامش ص ٤٧٩ وفى ص ٤٨١).


لأنهما لا يجان المبهم. أى : ما عملت كذا من ابتداء هذه المدة إلى انتهائها ، وما عملت كذا من ابتداء شهر إلى انتهائه.

والمراد بالمبهم هنا الوقت النكرة غير المعدودة لفظا أو معنى ، نحو : (برهة) ولا ينافيه قول زهير بن أبى سلمى :

لمن الديار بقنّة الحجر

أقوين مذ حجج ومذ دهر (١)

لأن الدهر متعدد فى المعنى (٢).

ويأتون بهذا البيت أيضا شاهدا على قلة الجر بعد (مذ) فى الماضى. أما (منذ) فما بعده يترجح جره فى الماضى (٣).

__________________

(١) المراد بالحجر : حجر ثمود ، وقوله : أقوين ، أى : خلون.

(٢) نقلنا هذا التعليل عن الصبان ؛ وهو أيضا فى غيره من كتب المتقدمين.

(٣) ما قاله الباحث هنا فى تعريف : «الظرف المبهم» لا يشمل أنواعا كثيرة نص عليها النحاة فى تعريفهم الدقيق ، الذى عرضناه فى هامش ص ٢٣٩ ، وبه تزول بعض الشبهات التى اعترضت الباحث.


تنبيهات وإيضاحات

(ا) قد رأيت فى الأحوال الثلاث التى يقع فيها مذ ومنذ حرفين.

١ ـ أن المجرور وقت (١). ٢ ـ وأن هذا الوقت متصرف (٢).

__________________

(١) ما يسأل به عن الوقت كالوقت ، بشرط أن يكون مما يستعمل ظرفا. فتقول : مذ كم؟ ومنذ متى؟ ومنذ أى وقت؟ ولا تقول : منذ ما ، لأن (ما) لا تكون ظرفا. اه ، صبان ـ أى : فتقول مثلا : [١] منذ كم يوما ركبت البحر؟ كما يجوز أن تقول : منذ كم ركبت البحر ، بحذف التمييز للعلم به. وفى حالة ذكر التمييز هنا يجوز نصبه وجرّه بمن مضمرة ـ وقال فى الهمع عند الكلام على وقوع الاسم مجرورا بعدهما ما يلى : والجمهور على أنهما حينئذ حرفا جر ، لإيصالهما الفعل إلى (كم) كما يوصل حرف الجر. تقول : منذ كم سرت ، كما تقول : بكم اشتريت. اه.

وتقول : [٢] منذ متى نمت؟ ـ [٣] وتقول : منذ أى وقت طار أخوك؟

وتقول فى الإجابة عن [١] : ركبت منذ أو مذ ليلتين ـ وعن [٢] : نمت منذ أو مذ مساء اليوم الماضى ـ وعن [٣] : طار أخى منذ أو مذ طلوع الفجر ، مثلا.

ومعنى الإجابة الأولى : ركبت من ابتداء الليلتين إلى انتهائهما ـ ومعنى الإجابة الثانية : نمت من مساء اليوم الماضى ، بوضع (من) الابتدائية فى مكان مذ أو منذ ـ ومعنى الإجابة الثالثة : طار أخى منذ زمن طلوع الفجر ، على تقدير (زمن) مضاف إلى المصدر. فمنذ أو مذ ، بمعنى (من) الابتدائية هنا أيضا ـ ويجوز فى هذا المثال رفع (طلوع) ، ويكون المعنى حينئذ : أول طيرانه وقت طلوع الفجر.

وقد جازت هذه الإجابات الثلاث فى الإثبات ، لأن العامل متطاول فيها جميعا ، وسيمر بك معنى (التطاول) والتمثيل له.

(٢) فلا تقول : ما رأيته منذ سحر ، تريد سحر يوم بعينه. وقال ابن عقيل : ... نحو : سحر إذا أردته من يوم بعينه. فإن لم ترده من يوم بعينه فهو متصرف ، كقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ.) اه ، فقال الخضرى : «قوله نحو سحر» : ، مثال لما لزم الظرفية فقط فلا يخرج عنها أصلا ، إذا كان معينا. واعتراضه (يقصد العلامة الصبان) بأنه متصرف ، بدليل : «نجيناهم بسحر» فيه نظر ظاهر ؛ لأن هذا غير معين ، كما هو صريح الشرح ، والكلام فى المعين. اه.

وفى اللسان ... ولقيته سحرا ، وسحر ، بلا تنوين. ولقيته بالسحر الأعلى (أى : فى أعلى السحرين ، وهما سحر مع الصبح وسحر قبله. اه ، من الأساس) ... ولقيته سحر يا هذا ، إذا أردت به سحر ليلتك لم تصرفه ، لأنه معدول عن الألف واللام ، وهو معرفة. وقد غلب عليه التعريف بغير إضافة ولا ألف ولام ... وإذا نكرت «سحر» صرفته كما قال تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ.) أجراه ، (أى : صرفه) لأنه نكرة ، كقولك : نجيناهم بليل. قال : فإذا ألقت العرب منه الباء لم يجروه ، فقالوا : فعلت هذا سحر يا فتى ... وقال الزجاج ، وهو قول سيبويه : سحر : إذا كان نكرة ؛ يراد ـ


٣ ـ وأنه معين لا مبهم. وقد فسرنا معنى الإبهام آنفا.

٤ ـ وأنه ماض أو حاضر ، لا مستقبل ، لما تقدم.

(ب) وقد رأيت فى عاملهما فى هذه الأحوال الثلاث :

١ ـ أنه فعل ماض.

٢ ـ وأنه منفى يصح تكرره.

وقد يأتى مثبتا بشرط أن يكون متطاولا ، نحو : سرت منذ يوم الخميس. والمراد بالتطاول : أن يكون فى طبيعة الحدث معنى الاستمرار كالسير ، فإن من شأنه التطاول. وكالنوم ، والمشى ، والكلام ؛ وهكذا ... وتوفية للمقام ، نذكر عبارة الخضرى فى هذا الموضوع ، قال :

«شرط عاملهما كونه ماضيا ، إما منفيّا يصح تكرره ، كما رأيته منذ يوم الجمعة ، أو مثبتا متطاولا ، كسرت منذ يوم الخميس. بخلاف : قتلته ، أو ما قتلته منذ كذا ، فإن قلت : ما قتلت منذ كذا ، بلا هاء ، صح. لأن القتل المتعلق بمعين لا يكرر ، بخلاف غيره. ما لم يتجوز بالقتل عن الضرب. فتدبر». اه.

فقوله : (بخلاف : قتلته ... إلخ) ، كأن تقول مثلا : قتلته ، أو ما قتلته مذ أو منذ يوم الجمعة ، مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى (من) الابتدائية ـ وكأن تقول : مثلا : قتلته ، أو ما قتلته مذ أو منذ سنتين ، مثلا. مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى من وإلى معا. فكل هذا غير جائز.

أقول : فهبنا قلنا مثلا : قتلته مذ أو منذ يومنا ، مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى (فى) ـ فعلى مقتضى إطلاق كلامهم لا يجوز مثل هذا ، لبقاء السبب ، وهو : عدم تطاول العامل فى حالات الإثبات. ولكنى أرى أنه سائغ. إذ ما الذى يمنعنا أن نقول مثلا : قتلته اليوم ، أو فى هذا اليوم الحاضر؟

وواضح أنه يجوز لك أن تقول أيضا : ما قتلت مذ أو منذ يومنا ، وما قتلته

__________________

ـ سحر من الأسحار ، انصرف. تقول ... أتيت زيدا سحرا من الأسحار. فإذا أردت سحر يومك قلت : أتيته سحر يا هذا ... وتقول : سر على فرسك سحر يا فتى. اه.

بقى (سحر) المنصرف. فهل يجوز أن تقول : ما رأيته مذ أو منذ سحر؟ والجواب : لا. لأنهما لا يجران المبهم ، كما مر بك.


مذ أو منذ يومنا ـ فكلامهم فى (التطاول) و (صحة التكرر) مجمل يفتقر إلى تفصيل وتوضيح (١).

هذا ، ولم أجد فيما لدىّ من المراجع مثالا للحدث غير المتطاول إلا (القتل).

وإنى مورد أمثلة له فيما يلى للإيضاح ، لا للحصر فأقول :

أولا : أومض ، أو ـ ومض ـ وفسر الزمخشرى الإيماض بأنه لمع خفى ، قال : وشمت ومضة برق كنبضة عرق. اه.

فالإيماض غير متطاول كالقتل ، لأنه عبارة عن لمع خاطف كرجع البصر ، أو نبضة العرق ـ فلا يصح أن نقول مثلا : ومض البرق مذ أو منذ يوم الخميس ، أى : من يوم الخميس. كما لا يجوز أن نقول مثلا : أومض البرق مذ أو منذ ليلتين : من ابتدائهما إلى انتهائهما (٢).

ولكن يصح أن تقول مثلا : أومض البرق مذ أو منذ ليلتنا ، أى : فى ليلتنا ـ كما صح أن تقول مثلا : قتلته مذ أو منذ يومنا ، كما قررته آنفا ـ كما يصح أن تقول مثلا : ما أومض البرق مذ أو منذ يوم الجمعة ، أى : من يوم الجمعة ، وما أومض البرق منذ أو منذ ليلتنا ، أى : فى ليلتنا ، وما أومض البرق مذ أو منذ ليلتين ، لأن الحدث هنا يصح تكرره.

ثانيا : شرق ، أى بدا وظهر ، يقال : شرقت الشمس ، إذا بدت من المشرق. وكذا القمر ، أو النجم. فالشروق غير متطاول ، لأنه مجرد الظهور ، وهو ملامسة الأفق. وهو لا يستغرق من الوقت إلا ما لا يكاد يذكر. فلا يقال مثلا فى الإثبات : شرقت الشمس مذ أو منذ ساعتين ، أى : من ابتدائهما إلى انتهائهما. كما أوضحنا مثل هذا من قبل. كما لا يصح أن يقال فى النفى مثلا : ما شرقت الشمس مذ أو منذ دقيقتين (٣) ، لأن شروق الشمس لا يمكن تكرره فى

__________________

(١) ردا على الباحث أقول : إن التطاول متحقق فى المثال الأخير المنفى ؛ فكلامهم واضح ، وهو الصحيح ، وتؤيده النصوص المسموعة الدالة على أنهما بمعنى : «فى». بشرط التكرر ، أو التطاول ، لا مجرد «فى».

(٢) قد فسر ابن الأعرابى الوميض بأن يومض إيماضة ضعيفة ، ثم يختفى ، ثم يومض ... فهذا التكرر المتعاقب قد ينزل منزلة الفعل المتطاول فيما يظهر لى. فيصح أن تقول مثلا : أومض البرق مذ أو منذ يوم الخميس ، أى استمر هذا منه ، على هذا التفسير.

(٣) هذا وما حمل عليه ـ مما ينفرد به الباحث ـ ، مفتقر لتأييد.


أثناء دقيقتين بالنسبة لأفق واحد. وكذا يقال فى سائر الكواكب ؛ لأنها كلها بحسبان. فهب نجما بعينه يتم دورته فى ثلاث سنين مثلا ، فإنه لا يجوز أن يقال : ما شرق هذا النجم مذ أو منذ ثلاث سنين. لأنه لا يمكن أن يتكرر شروقه فى هذه المدة ـ ويجوز أن يقال : ما شرق نجم مذ أو منذ ساعتنا. وذلك لأنه شروق متعلق بغير معين ، فيجوز تكرره.

ولا تقول : شرق هذا النجم ، أو نجم مذ أو منذ السبت ـ ولكنك تقول فى الإثبات ، على ما استظهرت آنفا : شرق هذا النجم ، أو نجم ، أو منذ ساعتنا أو ليلتنا ، مثلا.

ثالثا : سنح ـ قال فى الأساس : من المجاز : سنح له رأى ، أى عرض له. اه ، وفى المصباح : وسنح لى رأى فى كذا : ظهر. وسنح الخاطر به : جاد. اه.

فأنت ترى أن عروض الرأى حدث غير متطاول ، لأنه طروء فاجئ. فإذا حصلت الفكرة فقد انقطع السنوح. وذلك لا يستغرق إلا وقتا يسيرا ؛ لا يمكن أن يوصف بالتطاول. فلا تقول مثلا : سنحت لى فكرة كذا مذ أو منذ يوم الخميس ، أى : من يوم الخميس ، ولا : سنحت لى فكرة كذا منذ ساعتين. ولكنك تقول ، على ما استظهرت آنفا : سنحت لى فكرة كذا منذ يومنا ، أو مذ هذه الساعة ، أو الدقيقة ، مثلا.

وتقول أيضا ، مثلا : ما سنحت لى هذه الفكرة مذ أو منذ ساعتين لأن سنوح فكرة بعينها يمكن تكرره فى أثناء ساعتين ـ ولكن لا يمكن أن تقول : ما سنحت لى فكرة مذ أو منذ ساعتين ، مثلا : أو مذ أو منذ يومنا. لاستحالة مثل هذا عادة ، فى حال الإنسان الطبيعية.

فقد رأيت فى الأفعال الثلاثة المتقدمة ، وما فرّعنا عليها من الأمثلة أنها ليست كلها سواء (١). فقد يجوز فى استعمال أحدها مع مذ أو منذ ما لا يجوز فى الآخر. فالمسألة إذا راجعة لمعنى الفعل الخاص عند استعماله مع مذ أو منذ ، فى الإثبات أو النفى ، وما قد يلابسه من تطاول أو تكرر أو عدمهما.

__________________

(١) فى كلام الباحث ما يحتاج إلى التمحيص.


(ج) ما اشترط فى مجرور مذ ومنذ وفى عاملهما ، يشترط فى حالة رفع ما بعدهما.

(د) لا تدخل (من) على مذ أو منذ ، ولا يصح العكس أيضا.

وقد وقعت (إلى) بعدهما ، حيث لا مانع من وقوعها (١). فقد جاء فى اللسان : قال سيبويه : أما (مذ) فيكون ابتداء غاية الأيام والأحيان. كما كانت (من) فيما ذكرت لك. ولا تدخل واحدة منهما على صاحبتها. وذلك قولك : ما لقيته مذ يوم الجمعة إلى اليوم ، ومذ غدوة إلى الساعة. وما لقيته مذ اليوم إلى ساعتك هذه. فجعلت اليوم أول غايتك ، وأجريت فى بابها كما جرت (من) حيث قلت : من مكان كذا إلى مكان كذا ـ وتقول : ما رأيته مذ يومين ، فجعلته (٢) غاية ، كما قلت أخذته من ذلك المكان ، فجعلته (٣) غاية : ولم ترد منتهى. هذا كله كلام سيبويه. اه عبارة اللسان.

فقد وضع سيبويه (إلى) بعد (مذ). ولم أر ذلك فى أمثلة غيره من النحويين فيما بين يدى من المراجع. أما فى كلام البلغاء فكثير. ففى كتاب «الأوراق» للصولى ، فى أخبار الراضى بالله : وكان (الراضى) يقول : أنا مذ (٤) حبسنى القاهر عليل إلى وقتى هذا. اه ، وفى البخلاء للجاحظ : أعلم أنى منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها ... اه ، إلى غير ذلك.

وقول سيبويه : (ما رأيته مذ يوم الجمعة إلى اليوم) مذ فيه بمعنى (من). وقوله : (ما لقيته مذ اليوم إلى ساعتك هذه) ، مذ فيه بمعنى (من) الابتدائية أيضا. لأن عدم اللقاء وقع فى الماضى واتصل بالحال. كما يجوز أن تقول ، فيما أرى : ما حدث كذا من اليوم إلى هذه الساعة (٥).

__________________

(١) احترازا من نحو : ما عملت كذا مذ أو منذ لحظتنا ، فإنه لا يجوز أن تقع (إلى) هنا بعدها ، كما هو ظاهر.

(٢) انظر المراد من الغاية فى ص ٥١١ وأنه ابتدا الغاية ...

(٣) يلاحظ أن «مذ» فى هذا المثال الذى أورده الباحث. ليست حرف جر ، أى : ليست مما نحن فيه. ولم يوضح الباحث المراد الدقيق من «الغاية» وقد سبق أن عرضنا لمعناها وأنه يختلف ـ كما فى رقم ١ من هامش ص ٤٢٦ وفى رقم ٢ من هامش ص ٤٣٣ ... و... ـ

(٤) سبق أن (مذ ومنذ) يقعان حرفين بمعنى (فى) إن كان المجرور (معرفة) حاضرا. وقد مثل النحاة بنحو : ما رأيته مذ أو منذ يومنا ، أو اليوم. فقد يتوهم من مثال سيبويه هذا أن (منذ) فيه ـ


وقوله : (وتقول : ما رأيته مذ يومين ... إلخ) ، يريد من قوله : (فجعلته غاية) ، أى جعلت معنى : (مذ يومين) ابتداء الغاية لانقطاع الرؤية. وقوله : (ولم ترد منتهى) ، يريد أنك أردت ابتداء الغاية وحدها ، ولم تتعرض للمنتهى ـ ولكنا رأينا فيما سقناه آنفا لمعنى هذا المثال أنه يتضمن ابتداء الغاية ومنتهاها.

وقوله : (ومذ غدوة إلى الساعة) ، «مذ» فيه بمعنى (من) ، فيجب أن يكون ما بعدها معرفة. فيتعين أن تكون «غدوة» هنا من يوم بعينه. ولإيضاح المقام نورد ما جاء فى اللسان ، قال :

الغدوة ، بالضم ، البكرة ، ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. وغدوة من يوم بعينه غير مجراة (١) ، علم للوقت ... وفى التهذيب : وغدوة ـ معرفة ـ لا تصرف. قال النحويون : إنها لا تنون ، ولا يدخل فيها الألف واللام ... ويقال : أتيته غدوة ، غير مصروفة ، لأنها معرفة ؛ مثل : سحر. إلا أنها من الظروف المتمكنة. تقول : سير على فرسك غدوة وغدوة وغدوة وغدوة ، فما نوّن من هذه فهو نكرة ، وما لم ينوّن فهو معرفة. والجمع غدا (٢). اه ، ونحوه فى الصحاح.

وإذا رجعنا إلى عبارة اللسان هذه نجده يقول : (... لأنها «أى : غدوة» معرفة ، مثل سحر ، إلا أنها من الظروف المتمكنة) (٣) ...

فيلخص مما مر من الكلام على «غدوة وسحر» أنهما يجتمعان فى الامتناع من الصرف ، إذا أريدا من يوم بعينه. فأما (سحر) فلأنه معدول عن الألف

__________________

ـ بمعنى : (فى) لأن (أل) فيه تفيد الحضور. ولكن سيبويه لما أتى (بإلى) بعد (مذ) صار المعنى عليه : انقطع لقائى له من ابتداء هذا اليوم ، واستمر هذا الانقطاع إلى وقت التكلم. فالمضى فى المثال واقع ـ أما إذا قلت : ما لقيته مذ اليوم ، أو يومنا ، أو هذا اليوم ، مثلا ، ولم تزد ، فقد اعتبرت اليوم بأجمعه وقتا حاضرا. فتكون (مذ) بمعنى (فى). هذا ما ظهر لى. اه ، تعليق الباحث.

(١) يعنى أنها ممنوعة من الصرف ، وهو تعبير قديم للنحويين. ولهذا الكلام صلة وثيقة بما قيل عنها فى ص ٢٤٤.

(٢) قال فى اللسان : والغداة كالغدوة. وجمعها غدوات ... ويقال : آتيك غداة غد. والجمع الغدوات ، مثل قطاة وقطوات. اه.

(٣) راجع ما يتصل بالكلام على : «سحر» فى ص ٢٤٦.


واللام. وأما غدوة فللعلمية والتأنيث. كما يجتمعان فى أنهما كليهما من الظروف المتصرفة إذا لم يرادا من يوم بعينه.

ويفترقان فى أن (سحر) غير متصرف إذا أريد من يوم بعينه. فلا يرفع على الابتداء أو الخبر مثلا ، كأن تقول : سحر جميل ، أو هذا سحر ـ ولكنك تقول مثلا : بين أسحار الأسبوع الماضى سحر جميل. بخلاف غدوة ، فإنها متصرفة ، ولو أريدت من يوم بعينه. فتقول مثلا : غدوة جميلة. كما تقول : كان بين غدا هذا الأسبوع غدوة جميلة.

وقال الأشمونى : (ثم الظرف المتصرف منه منصرف نحو ... ومنه غير منصرف ، وهو غدوة ، وبكرة ، علمين لهذين الوقتين) فقال الصبان : «قوله علمين لهذين الوقتين» ، أى : علمين جنسيين ، بمعنى أن الواضع وضعهما علمين جنسيين لهذين الوقتين ، أعمّ من أن يكونا من يوم بعينه أولا. اه.

وإنما أطلنا القول فى (غدوة) و (سحر) ، وأكثرنا من الأمثلة فيهما ، لما يغشاهما من الإجمال والإبهام فى كلام اللغويين والنحويين ، حتى إن العلامة الصبان على جلال قدره أشكل عليه الأمر فى (سحر). وإليك البيان :

فقد قال الأشمونى : والظرف غير المتصرف ، منه منصرف وغير منصرف. فالمنصرف نحو : سحر ، وليل ، و... غير مقصود بها كلها التعيين. اه.

فقال الصبان : فيه أن سحرا ... متصرفة. ومن خروج سحر عن الظرفية وشبهها قوله تعالى : (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ.) فكيف جعلها من غير المتصرف. اه.

وقد مر بك ردّ العلامة الخضرى عليه ، (فراجعه فى رقم ٢ من هامش ص ٥٠٦).

(ه) قد تقدم (١) أنهم جوزوا أن يقال مثلا : ما قابلته مذ أو منذ دهر ، أو شهر ، على أن يكون مذ أو منذ بمعنى من وإلى معا. لأن الدهر والشهر فى حكم المعدود.

فيظهر على هذا أنه يجوز أن يقال أيضا : ما قابلته مذ أو منذ زمن ، لأن الدهر من معانيه الزمن ، فقد جاء فى المصباح : الدهر يطلق على الأبد. وقيل :

__________________

(١) فى ص ٥٠٥.


هو الزمان قل أو كثر. وقال الأزهرى : والدهر عند العرب يطلق على الزمان ، وعلى الفصل من فصول السنة ، وأقل من ذلك. اه.

ولكن بعض العلماء يعدون (الزمن) أو (الزمان) من المبهم. فقد جاء فى حاشية العلامة الخضرى على ابن عقيل ما يأتى : وشرط الزمان المجرور بهما كونه متعينا لا مبهما ، كمنذ زمن. اه. ولكن جاء فى الأشمونى أن (بعضهم يقول : مذ (١) زمن طويل) ، فلعله يعتبر الوصف نوعا من التعيين.

وكما يقال : مذ أو منذ دهر ، يقال أيضا : مذ أو منذ أدهر ، أو دهور (٢) ، ومذ أو منذ أزمن ، أو أزمان ، أو أزمنة ـ قال : (وربع عفت آياته منذ أزمان (٣)).

وكذا يقال : مذ أو منذ حقب ، أو حقوب ، أو حقب ، أو حقب (٤) أو حقاب ، أو أحقاب ـ إلى غير ذلك من كل متعدد لفظا ، أو ما هو فى حكم المتعدد.

وليت شعرى هل قال العرب مثلا : مذ أو منذ دهرين ، أو زمنين ، أو حقبين كما جمعوا ، فقالوا : أحقاب وأزمان ، مثلا؟ الظاهر أنهم لم يقولوا ذلك ، اكتفاء بالجمع عند المبالغة. على أن تثنيته لا مانع منها صناعة.

(و) يظهر أن ابن هشام لا يشترط التعريف فى مجرور (مذ) و (منذ) ، إذا كانا بمعنى (من). فيقول فى التوضيح : (ومعنى مذ ومنذ ابتداء الغاية ، إن كان الزمان ماضيا ، كقوله : «أقوين مذ حجج ومذ دهر» ، وقوله : «وربع عفت آياته منذ أزمان». فأقره شارحه الشيخ خالد بن عبد الله الأزهرى. فقال بعد «أقوين إلخ» : من حجج. وقال بعد : «وربع إلخ» : أى : من أزمان).

__________________

(١) بضم «مذ» فى بعض اللغات ، وإن لم يقع ساكن بعدها.

(٢) قال فى اللسان : وجمع الدهر أدهر ، ودهور.

(٣) قال الصبان : وقوله (منذ أزمان). قال قاسم : لعل هذا من العدد فيكون بمعنى (من) و (إلى) معا. اه.

(٤) قال فى اللسان : والحقب الدهر. والأحقاب الدهور ... وقوله تعالى : (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً :) معناه سنة. وقيل : معناه سنين اه.


وقد رأيت فيما ذكرناه آنفا أن مذ ومنذ ، إذا كانا بمعنى (من) ، كان مجرورهما معرفة. فقد قال ابن عقيل : (وإن وقع ما بعدهما مجرورا فهما حرفا جرّ بمعنى «من» ، إن كان المجرور ماضيا) ، فقال العلامة الخضرى : «قوله بمعنى من» ، أى : البيانية (١) هذا إذا كان المجرور معرفة كمثاله ، فإن كان نكرة فهما بمعنى (من) و (إلى) معا. ولا تكون النكرة إلا معدودة لفظا ، كمذ يومين ، أو معنى ، كمذ شهر ، لما مر من أنهما لا يجران المبهم. اه ـ ونحو ذلك فى الأشمونى ، قال : ... ثم إن كان ذلك (فى مضىّ فكمن هما) فى المعنى ، نحو : ما رأيته مذ يوم الجمعة. اه.

ويتضح من ذلك أن فى الموضوع مذهبين : أحدهما يشترط تعريف مجرور مذ ومنذ إذا كانا بمعنى (من) ، مع مضىّ الزمن. والثانى لا يشترط غير مضى الزمن (٢).

(ز) قال العلامة الشيخ ياسين بن زين الدين العليمى الحمصى فى حاشيته على شرح التوضيح ، عند قول المتن : (أحدهما أن يدخلا على اسم مرفوع ، نحو : ما رأيته مذ يومان) ، ما يأتى : «قوله مذ يومان» ، قال الزرقانى : قال الرضى : قال الأخفش : لا تقول : ما رأيته مذ يومان وقد رأيته أمس ـ ويجوز أن يقال : ما رأيته مذ يومان ، وقد رأيته أوّل من أمس ـ أما إذا كان وقت التكلم آخر اليوم فلا شك فيه ، لأنه يكون قد تكمّل لانتفاء الرؤية يومان ... قال : ويجوز أن يقال فى يوم الاثنين مثلا : ما رأيته منذ يومان : وقد رأيته يوم الجمعة ولا تعتدّ بيوم الإخبار ولا يوم الانقطاع. قال : ويجوز أن تقول : ما رأيته منذ يومان ، وأنت لم تره منذ عشرة أيام. قال : لأنك تكون قد أخبرت عن بعض ما مضى ـ أقول : وعلى ما بينا ، وهو أن منذ لا بد فيه من معنى الابتداء فى جميع مواقعه ، لا يجوز ذلك (٣).

__________________

(١) قال العلامة الصبان عند قول ابن مالك : (وإن يجرا فى مضى فكمن) ما يأتى : «قوله فكمن» ، أى : الابتدائية اه ، وهو أولى وأظهر من تسمية الخضرى إياها بالبيانية.

(٢) اللهم إلا إذا كان ابن هشام يريد النص على ابتداء الغاية عند مضى الزمن ، فسكت عن (إلى) فلا منافاة على هذا بين قوله هذا وقول سائر النحاة.

(٣) يظهر أن اسم الإشارة راجع إلى ما مثل به ، ابتداء من قوله : (ويجوز أن تقول فى يوم ـ


وقال : إنهم يقولون : منذ اليوم ولا يقولون : منذ الشهر ؛ ولا : منذ السنة. ويقولون : منذ العام. قال : وهو على غير القياس ـ قال : ولا يقال : منذ يوم ، استغناء بقولهم : منذ أمس ـ ولا يقولون : منذ الساعة ، لقصرها ـ فإن كان جميع ما قاله مستندا إلى السماع فبها ونعمت. وإلا فالقياس جواز الجميع. والقصر ليس بمانع. لأنه جوز : (منذ أقل من ساعة). اه. المراد من كلام الشيخ ياسين.

أقول : قد أسلفنا القول فى امتناع أن يقال مثلا : ما رأيته مذ أو منذ يوم ، لا لتلك العلة التى نقلها ياسين عن الأخفش ، بل لأن منذ ومذ لا يجران إلا النكرة المعدودة ، أو التى فى حكم المعدودة ، إذا كانا بمعنى من وإلى معا.

وقوله : (ولا يقولون : منذ الساعة ، لقصرها) ، هذا هو أحد معانيها ، وهو الوقت القليل. فقد جاء فى اللسان : والساعة الوقت الحاضر ... والساعة فى الأصل تطلق بمعنيين : أحدهما أن تكون عبارة عن جزء من أربعة وعشرين جزءا ، هى مجموع اليوم والليلة. والثانى أن تكون عبارة عن جزء قليل من النهار أو الليل. يقال : جلست عندك ساعة من النهار ، أى وقتا قليلا منه. اه.

فإذا قلت مثلا ، على القول بالجواز : طار العصفور مذ أو منذ الساعة ، فمعنى مذ أو منذ هنا (فى) ، أى : طار فى هذا الوقت الحاضر. وهذا واضح ، كما قال يس. والقصر ليس بمانع.

وأما ما قاله ياسين من أنه جوّز أن يقال : منذ أقل من ساعة ، فمعناه : منذ وقت أقل من ساعة. فمنذ فيه بمعنى (من) (على رأى ابن هشام ومن تابعه ، كما قررنا فى «و»). فتقول مثلا : حضر فلان مذ أو منذ أقل من ساعة ، أى : من زمن وجيز.

بقى المعنى الثانى للساعة ، وهى أنها جزء من أربعة وعشرين جزءا هى مجموع اليوم والليلة. فهذه الساعة محدودة ، لأنها مقسمة أيضا أقساما متساوية ؛ هى الدقائق الفلكية. والقصر الذى هو علة المنع فيما قال الأخفش ، منتف فيها.

__________________

ـ الاثنين مثلا ...) إلى قوله : (ما مضى). وذلك لأن عدم الاعتداد بيوم الانقطاع ، ينافى معنى الابتداء الذى يفيده مذ ومنذ. وكذا يقال فى المثال الثانى.


فتقول مثلا : ما كتبت مذ أو منذ الساعة ، أى : فى هذا الوقت المقدّر بستين دقيقة. كما تقول مثلا : كتبت مذ أو منذ الساعة ، فى الإثبات لأن الفعل متطاول ـ هذا ما نستظهره.

(ح) وهناك موضوع له شبه واتصال بما قررنا فى الفقرة السابقة. ذلك أنا قلنا آنفا : إن (يوما) من المبهم ؛ فلا يجوز : مذ أو منذ يوم. فهذا ما مثل به النحاة. ففى الصبان عند قول الأشمونى : (فإن كان المجرور بهما نكرة ... إلخ ما يأتى : «قوله نكرة» ، أى معدودة ، إذ لا يجوز : منذ يوم). اه. والظاهر أن النحاة لم يدخلوا (اليوم) فى باب ما هو فى حكم المعدود ، وألحقوه بالمبهم ، لاختلاف اللغويين فى معناه. فمنها أنه من طلوع الشمس إلى غروبها ، ومنها أنه مطلق الزمان ، إلى غير ذلك.

وأما المعنى الآخر الذى نقلناه عن اللسان فيما تقدم ، فقد حدث فى الحضارة الإسلامية. وهو فى حكم المعدود. ذلك أن تقول مثلا : ما كلمته مذ أو منذ يوم ، كما لك أن تقول : مذ أو منذ ليلة ، لهذا الاعتبار ، كما قالوا : مذ أو منذ شهر ، أو سنة.

وكذلك يقال فى الساعة والدقيقة الفلكيتين. فنقول مثلا : قرأ القارئ مذ أو منذ ساعة ، ما قرأ منذ أو مذ ساعة. وكلمنى صديقى مذ أو منذ دقيقة ، قياسا سائغا لا غبار عليه.

وقد خطر لى وأنا أكتب هذا ، لفظ : هنيهة أو هنيّة. ففى المصباح : الهن ـ خفيف النون ـ كناية عن كل اسم جنس. والأنثى : هنة ؛ ولامها محذوفة. ففى لغة هى هاء ؛ فيصغر على : هنيهة. ومنه يقال : سكت هنيهة أى : ساعة لطيفة. وفى لغة هى : واو ، فيصغر فى المؤنث على : هنيّة. وجمعها [أى : هنة] هنوات. وربما جمعت على هنات ، على لفظها ، مثل عدات ـ وفى المذكر : هنىّ. اه.

وإنما تعرضت لهذه الكلمة ، لكثرة دورانها على الألسن والأقلام فى مختلف شئون الحياة. فهى ليست من المعدود لفظا أو حكما. ولا يمكن ضبطها بقياس.


ومثل هنيهة أو هنيّة : «لحظة» ، للزمان اليسير ـ ففى الأساس : وفعل ذلك فى لحظة. اه. وفى شرح القاموس : ومما يستدرك عليه : اللّحظة المرة من اللّحظ ويقولون : جلست عنده لحظة ، أى : كلحظة العين (١) ، ويصغرونه لحيظة. والجمع لحظات. اه.

وهذه الكلمة أيضا شائعة جدّا. وحكمها حكم الهنيهة أو الهنيّة ، لما قررنا من انبهامها ، وأنها ليست من المعدود ولا ما هو فى حكمه. وهل ثنّوا هنيهة أو هنيّة (للوقت اليسير) ، ولحظة ، فقالوا مثلا : جلس هنيهتين أو هنيتين؟ لعلهم لم يفعلوا. لأنه لا معنى لقولك مثلا : جلست وقتين لطيفين (٢). ولو أنهم فعلوا لجاز ؛ نحو قولك : جلست مذ أو منذ لحظتين أو هنيهتين ، كما تقرر آنفا.

وهل جمعوا هنيهة أو هنيّة (للوقت اليسير) ، فقالوا مثلا : جلس هنيهات ، أو هنيّات. الغالب أنهم لم يفعلوا ، على ما وصل إليه اطلاعى. ولو أنهم فعلوا لجاز أن تقول مثلا : جلست أو ما جلست عنده مذ أو منذ هنيهات.

أما اللحظة فلعلهم لم يثنوها. والغالب أنهم جمعوها.

على أن تثنية كل أولئك وجمعه جائز صناعة فلا كلام فى هذا (٣).

(ط) وقد كنت أرجع فى أثناء كتابة هذه العجالة إلى شرح الإمام موفق الدين أبى البقاء يعيش بن على بن يعيش النحوى المتوفى سنة ٦٤٣ ه‍. لمفصل الزمخشرى ـ ورجعت أيضا إلى شرح كتاب سيبويه للإمام أبى سعيد الحسن

__________________

(١) أى : فهو من باب نيابة المصدر عن الزمن. والأصل : جلست عنده مقدار لحظة عين.

(٢) إلا إذا قلت مثلا : جلست هنيهتين ، عند محمد هنيهة ، وعند على هنيهة ـ وكذا يقال فى الجمع ، وفى لحظة إذا استعملنا مثناها وجمعها هذا الاستعمال.

(٣) هناك أسماء أخرى كثيرة مبهمة تدل على الزمان بذاتها ، أو بالنيابة عن المصدر : فحكمها ما قررنا.

ومن ذلك ـ وهو شائع ـ وقت ، وبرهة ، وعهد ، فيغلط الناس ويقولون : مذ أو منذ برهة ، أو عهد أو وقت. اللهم إلا إذا قالوا : مذ أو منذ عهد طويل. أو برهة طويلة مثلا. فقد يجوز أن يلحق ذلك بما هو فى حكم المعدود. (راجع تعليقنا على كلام الأشمونى فى ص ٥١٣ آخر «ه») وليس لى فى ذلك جزم فليحرر.


ابن عبد الله بن المرزبان السيرافى المتوفى ٣٦٨ ه‍ ، فوجدت فيهما تعليقات طريفة تتصل بموضوع هذا البحث. آثرت أن أتحف القارئ بنتف منهما ، ليرى كيف كان يكتب هذان الإمامان ، ولتكمل بها الفائدة.

قال الإمام ابن يعيش :

(١)

وأما الفرق بينهما [أى : «مذ ومنذ» الحرفيتين والاسميتين] من جهة المعنى ، فإن «مذ» إذا كانت حرفا دلت على أن المعنى ـ الكائن فيما دخلت عليه ، لا فيها نفسها ، نحو قولك : زيد عندنا مذ شهر ؛ على اعتقاد أنها حرف ، وخفض ما بعدها. فالشهر هو الذى حصل فيه الاستقرار فى ذلك المكان ، بدلالة مذ على ذلك.

وأما إذا كانت اسما ورفعت ما بعدها ، دلت على المعنى الكائن فى نفسها. نحو قولك : ما رأيته مذ يوم الجمعة. فالرؤية متضمنة «مذ» وهو الوقت الذى حصلت فيه الرؤية ، وهو يوم الجمعة. كأنك قلت : الوقت الذى حصلت (١) فيه الرؤية يوم الجمعة. اه.

وقال :

(٢)

والصواب ما ذهب إليه البصريون من أن ارتفاعه بأنه خبر. والمبتدأ منذ ومذ. فإذا قلت : ما رأيته منذ يومان ، كأنك قلت : ما رأيته مذ ذلك يومان. فهما جملتان ، على ما تقدم. وإنما قلنا : إن «مذ» فى موضع مرفوع بالابتداء ، لأنه مقدّر بالأمد. والأمد لو ظهر لم يكن إلا مرفوعا بالابتداء. فكذلك ما كان فى معناه. اه.

وقال :

(٣)

وله [مذ أو منذ] فى الرفع معنيان : تعريف ابتداء المدة ، من غير تعرض إلى الانتهاء. والآخر تعريف المدة كلها.

__________________

(١) هذا نقل الباحث. فهل حصلت الرؤية؟


فإذا وقع الاسم بعدهما معرفة ، نحو قولك ، ما رأيته مذ يوم الجمعة ونحوه ، كان المقصود به ابتداء غاية الزمان الذى انقطعت فيه الرؤية وتعريفه. والانتهاء مسكوت عنه. كأنك قلت : وإلى الآن. ويكون فى تقدير جواب (متى).

وإذا وقع بعده نكرة ، نحو : ما رأيته منذ يومان ، ونحو ذلك ، كان المراد منه انتظام المدة كلها ، من أولها إلى آخرها ، وانقطاع الرؤية فيها كلها.

فإن خفضت ما بعدهما ، معرفة كان أو نكرة ، كان المراد الزمان الحاضر ، ولم تكن الرؤية قد وقعت فى شىء منه. اه.

ويظهر أن أبا البقاء أراد بالمعرفة فى قوله : (فإن خفضت ما بعدها ... إلخ) نحو يومنا أو اليوم ، فى قولك مثلا : ما رأيته مذ أو منذ يومنا ، أو اليوم.

ولم يرد نحو قولك : ما رأيته مذ أو منذ يوم الأربعاء (١) ، أى من يوم الأربعاء ، كما تقدم. وذلك لأن أبا البقاء يرفع (يوم) فيه وجوبا. بدليل قوله آنفا فى فقرة (٣) : (فإذا وقع الاسم بعدها معرفة ، نحو قولك : ما رأيته مذ يوم الجمعة ... إلخ).

أما الدلالة على الزمن الحاضر فى حال جر مذ ومنذ للنكرة ، فقد سلف لك أنك إذا قلت مثلا : ما كلمته مذ أو منذ شهرين (مما هو معدود) ، أو شهر (مما هو فى حكم المعدود) ، كان المعنى أن الحدث انتفى من ابتداء هذه المدة إلى انتهائها. فأنت إذ تقول مثلا : ما كلمته مذ أو منذ شهر ، تتكلم فى نهاية الشهر. أى : ما وقع الكلام فى هذا الشهر الحاضر ، من أوله إلى آخره.

هذا شرح الفقرة الأخيرة من كلام أبى البقاء ، كما قدرت أن أوجهها.

وقال الإمام السيرافى :

(١)

اعلم أن منذ ومذ جميعا فى معنى واحد. وهما يكونان اسمين وحرفين ، غير أن الغالب على منذ أن تكون حرفا ، وعلى مذ أن تكون اسما. اه.

__________________

(١) قد سبق أن نحو هذا المثال يجوز فيما بعد مذ أو منذ فيه الرفع أو الجر.


(٢)

... تقول : ما رأيته منذ يوم الجمعة ، وما رأيته منذ اليوم. وإذا قلت : ما رأيته منذ يوم الجمعة : كان معناه : انقطعت رؤيتى له من يوم الجمعة. فكان يوم الجمعة لابتداء غاية انقطاع الرؤية. فمحل ذلك من الزمان كمحل (من) فى المكان ، إذا قلت : ما سرت من بغداد ، أى : ما ابتدأت السير من هذا المكان. فكذلك : ما وقعت رؤيتى عليه من هذا الزمان. اه.

(٣)

... وتقول : ما رأيته مذ يوم الجمعة ، وما رأيته مذ السبت ... فإن قال قائل : فما حكم «مذ» فى هذا الوجه ، وتقديرها؟ قيل له : حكمها أن تكون اسما ، وتقديرها أن تكون مبتدأة ، ويكون ما بعدها خبرها. كأنك قلت : ما رأيته ، مدة ذلك يوم السبت. فيكون على كلامين ... وذلك أنك إذا قلت : ما رأيته مذ يوم الجمعة فإنما معناه : انقطاع رؤيتى له ابتداؤه يوم الجمعة ، وانتهاؤه الساعة. فتضمنت (من) معنى الابتداء والانتهاء.

وإذا قلت ما رأيته مذ اليوم ، فليس فيه إلا معنى ابتداء الغاية وانقطاعها. وهو (فى) معنى ، وانخفض ما بعدها. اه.

(٤)

... وذلك أنك إذا قلت : لم أره مذ يومان ، أو مذ شهران ، أو نحو ذلك ، مما يكون جوابا لكم ، فتقديره : لم أره وقتا مّا. ثم فسرت ذلك فقلت : أمد ذلك شهران ، أو مدة ذلك شهران. فقولك مذ شهران جملة ثانية هى تفسير للوقت المبهم فى الجملة الأولى. فهذا أحد تقديرى مذ إذا رفعت ما بعدها.

والتقدير الآخر أن تقول : ما رأيته مذ يوم الجمعة فيكون تقديره : فقدت رؤيته وقتا ما ، أوله يوم الجمعة فمذ فى هذين الوجهين بمنزلة اسم مضاف : إما على تقدير : أمد ذلك ، أو أول ذلك. اه.


(٥)

تكميل

وفى المخصص : قال سيبويه : سألت الخليل رحمه الله عن قولهم ؛ مذ عام أوّل (١) ، ومذ عام أوّل. فقال : أول : ها هنا صفة. وهو أول من عامك. ولكن ألزموه ها هنا الحذف استخفافا. فجعلوا هذا الحرف بمنزلة (أفضل منك) قال : وسألته رحمه لله عن قول العرب ، وهو قليل : مذ عام أوّل. فقال : جعلوه ظرفا فى هذا الموضع ، وكأنه قال : مذ عام قبل عامك. اه.

* * *

قال الباحث :

إلى هنا وقف القلم ، وفى النفس شوق إلى المزيد ، وتطلع إلى الاستيفاء. ولعلى أكون قد وفقت إلى ما أردت من توضيح وتسهيل. والله تعالى المستعان.

__________________

(١) انظر ما يتصل بكلمة : «أول» فى ص ٢٦٧ وكذا فى ج ٣ م ٩٥ ص ١٣٠ حيث الإيضاح المفيد.


بحث التضمين (١)

أقوال العلماء فى التضمين

قال أبو البقاء فى كتابه «الكليات» : التضمين : هو إشراب معنى فعل لفعل ، ليعامل معاملته. وبعبارة أخرى : هو أن يحمل اللفظ معنى غير الذى يستحقه بغير آله ظاهرة.

ثم قال : قال بعضهم : التضمين هو أن يستعمل اللفظ فى معناه الأصلى ، وهو المقصود أصالة ، لكن قصد تبعية معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ ، أو يقدر له لفظ آخر ، فلا يكون التضمين من باب الكناية ، ولا من باب الإضمار ، بل من قبيل الحقيقة التى [فيها] قصد بمعناه الحقيقى معنى آخر يناسبه ويتبعه فى الإرادة.

وقال بعضهم : التضمين إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه لمعناه ، وهو نوع من المجاز. ولا اختصاص للتضمين بالفعل ، بل يجرى فى الاسم أيضا. قال التفتازانى فى تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ:) لا يجوز تعلقه بلفظة : الله ، لكونه اسما لا صفة. بل هو متعلق بالمعنى الوصفى الذى ضمنه اسم الله ، كما فى قولك : هو حاتم من طيئ ، على تضمين معنى : الجواد.

__________________

(١) هذا هو البحث الثانى الذى سبق أن وعدنا ـ فى رقم ٢ من هامش ص ١٥٩ ـ بتسجيله هنا ، لعظيم أثره عند المتخصصين ، وليكون صورة مرشدة من مسالك البحث العقلى الدقيق أمام كبار الطلاب ، بالرغم من تشعبه الخيالى بغير سداد ، وكثرة الخلاف والوهم كثرة معيبة تكشف عن نوع عنيف مرهق من البحوث الجدلية القديمة. وقد نقلناه كاملا من محاضر جلسات المجمع اللغوى القاهرى فى دور انعقاده الأول (ص ٢٠٩ ، وما بعدها) حيث سجلته تلك المحاضر. بقلم عضو جليل من أعضاء المجمع ، هو الأستاذ حسين والى ، رحمة الله عليه وقد ألقاه على الأعضاء قبل تسجيله. ونقلنا معه بعض مناقشات قصيرة دارت بشأنه بين الأعضاء ساعة عرضه على المجمع اللغوى ؛ لأهمية ذلك كله. وأردفناه برأى خاص موجز ، فى هامش الصفحة الأخيرة ص ٥٥٢.

ويلاحظ ما سبقت الإشارة إليه ـ فى رقم ٢ من هامش ص ١٥٩ باختصار فى باب : «تعدى الفعل ، ولزومه» وهو أن «الصبان» عرض للتضمين ـ ج ٢ ـ كما عرض له «ياسين» فى الجزء الثانى من حاشيته على التصريح ، باب : «حروف الجر» عرضا محمودا ، فى نحو : أربع صفحات.


وجريانه فى الحرف ظاهر فى قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ،) فإن «ما» تتضمن معنى «إن» الشرطية. ولذلك جزم الفعل.

وكل من المعنيين مقصود لذاته فى التضمين ، إلا أن القصد إلى أحدهما ـ وهو المذكور بذكر متعلقه ـ يكون تبعا للآخر وهو المذكور بلفظه ، وهذه التبعية فى الإرادة من الكلام ، فلا ينافى كونه مقصودا لذاته فى المقام. وبه يفارق التضمين الجمع بين الحقيقة والمجاز ، فإن كلا من المعنيين فى صورة الجمع مراد من الكلام لذاته ، مقصود فى المقام أصالة ، ولذلك اختلف فى صحته مع الاتفاق فى صحة التضمين.

والتضمين سماعى لا قياسى ، وإنما يذهب إليه عند الضرورة. أما إذ أمكن إجراء اللفظ على مدلوله فإنه يكون أولى. وكذا الحذف والإيصال ، لكنهما لشيوعهما صارا كالقياس ، حتى كثر للعلماء التصرف والقول بهما فيما لا سماع فيه. ونظيره ما ذكره الفقهاء من أن ما ثبت على خلاف القياس إذا ما كان مشهورا يكون كالثابت بالقياس فى جواز القياس عليه.

وجاز تضمين اللازم المتعدى ؛ مثل : «سفه نفسه» فإنه متضمن لأهلك.

وفائدة التضمين هى أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين ، فالكلمتان مقصودتان معا قصدا وتبعا ، فتارة يجعل المذكور أصلا والمحذوف حالا ، كما قيل فى قوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ، وتارة بالعكس ، كما فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أى : يعترفون به مؤمنين.

ومن تضمين لفظ معنى آخر قوله تعالى : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ،) أى : لا تفتهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ،) أى : لا تضموها آكلين. (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ،) أى : من ينضاف فى نصرتى إلى الله. (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى،) أى : أدعوك وأرشدك إلى أن تزكى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ،) أى : فلن تحرموه ، فعدى إلى اثنين. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ،) أى : لا تنووه ، فعدى بنفسه لا بعلى. (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى،) أى : لا يصغون ، فعدى بإلى ، وأصله يتعدى بنفسه. ونحو : «سمع


الله لمن حمده» ، أى : استجاب ، فعدى باللام. (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أى : يميز.

ومن هذا الفن فى اللغة شىء كثير لا يكاد يحاط به.

ومن تضمين لفظ لفظا آخر قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) إذ الأصل : أمن. حذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما فى «هل» فإن الأصل أهل؟ فإذا أدخلت حرف الجر فقدر الهمزة قبل حرف الجر فى ضميرك ؛ كأنك تقول : أعلى من تنزل الشياطين ، كقولك : أعلى زيد مررت. وهذا تضمين لفظ لفظا آخر(١).

لقد ذكر أبو البقاء عن بعض العلماء أن التضمين ليس من باب الكناية ، ولا من باب الإضمار ، بل من باب الحقيقة ، إذ قصد بمعناه الحقيقى معنى آخر يناسبه ويتبعه فى الإرادة.

ويؤخذ من هذا أنه لا بد من المناسبة ، وإنما يعرف المناسبة أهل العربية الذين لهم دراية بالعربية وأسرارها.

وذكر عن بعضهم أن التضمين إيقاع لفظ موقع غيره. لتضمنه معناه. وهو نوع من المجاز.

وقال : التضمين سماعى لا قياسى ، وإنما يذهب إليه عند الضرورة. أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله ، فإنه يكون أولى.

وذكر أمثلة لتضمين لفظ معنى لفظ آخر. ثم قال : «ومن هذا الفن فى اللغة شىء كثير لا يكاد يحاط به».

ويؤخذ من هذا أن التضمين قياسى.

* * *

وقال ابن هشام فى المغنى : قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه ، ويسمى ذلك تضمينا. وفائدته أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين. قال الزمخشرى : ألا ترى كيف رجع معنى (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) إلى قولك : ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. و (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ،) أى : ولا تضموها آكلين لها.

__________________

(١) هنا غموض فى العبارة التى سجلها البحث.


قال الدسوقى : قوله يشربون لفظا معنى لفظ ، هذا ظاهر فى تغاير المعنيين ، فلا يشمل نحو : (وقد أحسن بى) ، أى : لطف ، فإن اللطف والإحسان واحد.

فالأولى أن التضمين إلحاق مادة بأخرى لتضمنها معناها ولو فى الجملة ، أعنى باتحاد أو تناسب. قوله : «أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين» : ظاهر فى أن الكلمة تستعمل فى حقيقتها ومجازها. ألا ترى أن الفعل من قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) ضمن معنى : يمتنعون من نسائهم بالحلف ، وليس حقيقة الإيلاء إلا الحلف ، فاستعماله فى الامتناع من وطء المرأة إنما هو بطريق المجاز ، من باب إطلاق السبب على المسبب ؛ فقد أطلق فعل الإيلاء مرادا به ذانك المعنيان جميعا ، وذلك جمع بين الحقيقة والمجاز بلا شك. وهو ، أى : الجمع المذكور إنما يتأتى على قول الأصوليين : إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة. أما على طريقة البيانيين من اشتراط كونها مانعة من إرادة المعنى الحقيقى ، فقيل إن التضمين حقيقة ملوحة لغيرها.

وقدر (السعد) العامل مع بقاء الفعل مستعملا فى معناه الحقيقى ، فالفعل المذكور مستعمل فى معناه الحقيقى ، مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية. فقولنا أحمد إليك فلانا ، معناه : أحمده منهيّا إليك حمده. ويقلب كفيه على كذا : أى. نادما على كذا. فمعنى الفعل المتروك وهو المضمن معتبر على أنه قيد لمعنى الفعل المذكور.

وزعم بعضهم أن التضمين بالمعنى الذى ذكره (السعد) ـ وهو جعل وصف الفعل المتروك حالا من فاعل المذكور ـ يسمى تضمينا بيانيّا ، وأنه مقابل للنحوى (١).

وقيل إن التضمين من باب المجاز ، ويعتبر المعنى الحقيقى قيدا ، وهذا هو الذى اعتبره الزمخشرى. فعلى مذهب السعد يقال : ولا تأكلوا أموالهم ضامّيها إلى أموالكم. وعلى مذهب الزمخشرى نقول ولا تضموها إليها آكلين.

وقيل التضمين من الكناية ، أى لفظ أريد به لازم معناه.

__________________

(١) فى ص ٥٣٩ بيان النوعين.


فالأقوال خمسة ، وانظر ما بيان صحة الأخير منها. تأمل. اه. تقرير الدردير.

وقال الأمير : قوله : «وفائدته إلخ» ظاهر فى الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وقيل مجاز فقط ، وقيل حقيقة ملوحة بغيرها.

وقدر «السعد» العامل ، فزعم بعضهم أنه تضمين بيانى مقابل للنحوى. قول ابن هشام «قد يشربون لفظا معنى لفظ» لا يخفى أن «قد» فى عرف المصنفين للتقليل كما سيأتى. وعلى ذلك يكون التضمين قليلا. ولكنه سيذكر فى آخر الموضوع عن ابن جنى أنه كثير ، حتى قال الدسوقى : هذا ربما يؤيد القول بأن التضمين قياسى.

وقد أشار الدسوقى إلى أن قول ابن هشام : «وفائدته أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين» ظاهر فى أن الكلمة تستعمل فى حقيقتها ومجازها. والجمع بين الحقيقة والمجاز إنما يتأتى على قول الأصوليين إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة ، أما على قول البيانيين يشترط أن تكون القرينة مانعة ، فقيل التضمين حقيقة ملوحة لغيرها. وقدر السعد العامل مع بقاء الفعل مستعملا فى معناه الحقيقى إلخ ما تقدم.

وقيل : التضمين من باب المجاز ، وقيل من باب الكناية ، وسيأتى شرح المذاهب فى ذلك.

وذكر ياسين على التصريح أن التضمين سماعى كما هو المختار.

ثم قال : واعلم أن كلام المصنف فى المغنى فى تقريره التضمين فى مواضع يقتضى أن أحد اللفظين مستعمل فى معنى الآخر ؛ لأنه قال فى (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ،) أى : فلن تحرموه. وفى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أى : لا تنووا. وحينئذ فمعنى قوله : إنه إشراب لفظ معنى آخر ، أن اللفظ مستعمل فى معنى الآخر فقط. فإن هذا هو الموافق لذلك التقرير ، وإن احتمل أنه مستعمل فى معناه ومعنى الآخر.

وقول ابن جنى فى الخصائص : إن العرب قد تتوسع فتوقع أحد الحرفين (١)

__________________

(١) المراد : اللفظين مطلقا ، وليس المراد الحرف المقابل للاسم والفعل.


موقع الآخر ، إيذانا بأن هذا الفعل فى معنى ذلك الآخر ، فلذلك جىء معه بالحرف المعتاد ، مع ما هو بمعناه ـ صريح فى أنه مستعمل فى معنى الآخر فقط.

وعلى هذا فالتضمين مجاز مرسل ، لأنه استعمال اللفظ فى غير معناه لعلاقة بينهما وقرينة ، كما سيتضح ذلك. وهذا أحد أقوال فيه.

وقيل إن فيه جمعا بين الحقيقة والمجاز ، لدلالة المذكور على معناه بنفسه ، وعلى معنى المحذوف بالقرينة.

وهذا إنما يقول به من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز. وهو ظاهر قول المغنى «إن فائدته أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين». فظاهر تعريفه مخالف لما ذكره من فائدته. فليتنبه لذلك.

وعلى هذا القول جرى سلطان العلماء العز بن عبد السّلام ، فقال فى كتاب «مجاز القرآن» :

«الفصل الثانى والأربعون فى مجاز التضمين ، وهو أن يضمن اسم معنى اسم لإفادة معنى اسمين ، فتعديه تعديته فى بعض المواضع ، كقوله : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) فيضمن : خ خ حقيق معنى : خ خ حريص ، ليفيد أنه محقوق بقول الحق ، وحريص عليه. ويضمن فعل معنى فعل ، فتعديه أيضا تعديته فى بعض المواضع كقول الشاعر : خ خ قد قتل الله زيادا عنى ، ضمن : قتل ، معنى : صرف ، لإفادة أنه صرفه حكما بالقتل ، دون ما عداه من الأسباب ، فأفاد معنى القتل والصرف جميعا». اه ، المقصود منه.

وفيه تصريح بأن التضمين يجرى فى الأسماء بل صدر به.

وقول المغنى «إشراب لفظ» يشملها.

فاقتصار (السعد) و (السيد) على بيانه فى الأفعال ، جار مجرى التمثيل لا التقييد. ودعوى أصالته فى الأفعال مجردة عن الدليل.

وقيل إن المذكور مستعمل فى حقيقته ، لم يشرب معنى غيره ، وعليه جرى صاحب الكشاف. وعجيب للمصنف فى المغنى حيث نقل كلامه بعد تعريف التضمين بما مر ، فأوهم أنه يرى بما يقتضيه ذلك التعريف فتفطن له. وقال السعد


فى تقرير كلام الكشاف ، وبيان أنه لا يرى أن فى التضمين مجازا ، ولا الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وأنه مع استعماله فى المذكور يدل على المحذوف ما نصه :

حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقى مع فعل آخر يناسبه. ثم قال : إن الفعل المذكور مستعمل فى معناه الحقيقى مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية ، نحو : أحمد إليك فلانا ، معناه أحمده منهيّا إليك حمده.

وقد يعكس ، كما يقال فى (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يعترفون به مؤمنين.

وفى قوله «مع فعل آخر» حذف مضاف أى مع حذف فعل.

فإن قلت : المناسبة إنما هى بين الفعل المحذوف ومتعلقه المذكور لا بين الفعلين ، قلت : لا بد من المناسبة بينهما ، فلا يقال : ضربت إليك زيدا ، أى منهيّا إليك ضربه ؛ ولا تكفى القرينة.

واعترض عليه بأن فى كلامه تناقضا ، لأن قوله : «مع فعل آخر يناسبه» غير ملائم لقوله : «مع حذف حال» ، فإن الثانى يدل على أن المحذوف اسم هو حال ، لا فعل ، بخلاف الأول.

وأجيب بأن فى كلامه تغليبا وإطلاقا للفعل عليه وعلى الاسم ، أو أراد بالفعل معناه اللغوى ، وكذا فى قوله : «أن يقصد بالفعل» ولا يخفى سقوطه على هذا الكلام وبعده عن المرام.

وذلك أن الداعى للسعد على ما قاله ، الفرار من الجمع بين الحقيقة والمجاز. والأصل تضمين الفعل لمثله ، فالملاحظة فى تضمين المذكور مثله ، وأشير بالحال عند بيان المعنى إلى ذلك التضمن ولو قدر نفس الفعل ، كان من الحذف المجرد ، ولم يكن المحذوف فى تضمن المذكور. وأيضا فى تقديره تكثير للحذف.

وبهذا يظهر أن من قال لا تنحصر طرق التضمين فيما قال ، وأن منها العطف ، نحو : (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ، أى : الرفث والإفضاء إلى نسائكم ، فقد غفل عن الباعث على هذا القول. على أنه لم يدع أحد الحصر. وقال السيد : ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل فى معناه الحقيقى فقط. والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ما هو من متعلقاته. فتارة يجعل المذكور أصلا فى


الكلام والمحذوف قيدا فيه ، على أنه حال ، كما فى قوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) كأنه قال : «لتكبروا الله حامدين على ما هداكم». وتارة يعكس ، فيجعل المحذوف أصلا والمذكور مفعولا ، كقوله : «أحمد إليك فلانا» كأنك قلت أنهى إليك حمده ، أو حالا كما يدل عليه قوله ، (يعنى الكشاف) ، عند الكلام على قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ،) أى : يعترفون به ، فإنه لا بد من تقدير الحال ، أى : يعترفون به مؤمنين ، إذ لو لم يقدر لكان مجازا عن الاعتراف لا تضمينا ، وقوله على «أنه حال» ، وقوله : «والمذكور مفعولا» بمعنى أن المذكور يدل على ذلك كما يفيده قول السعد مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر.

والظاهر أن السيد يوافقه على ذلك ، لأنه لم يشر للرد عليه ، كما هو دأبه عند مخالفته.

فاندفع قول بعضهم : إن فى جعله المذكور مفعولا للمحذوف نظرا ظاهرا ، لأن الفعل والجملة لا يقع واحد منهما مفعولا لغير القول والفعل المعلق.

فالصواب كون جملة : «أحمد» حالا من فاعل : أنهى ، والمعنى أنهى حمده إليك حال كونى حامدا له. ويرد عليه أنه إن أراد أن جملة : «أحمد» حال فى التركيب ففاسد أو فى المعنى ، فالذى وقع فيه حالا إنما هو اسم الفاعل المحذوف بدلالة الفعل المذكور عليه ، كما يشهد به قوله حال كونى حامدا. وقد ذكر السعد أن هذا التركيب مما حذف فيه الحال ، والظاهر أن السيد لم يقصد الرد عليه ، وإنما أراد بيان وجه آخر ، ليفيد أن ذلك أمر اعتبارى لا ينحصر فيما قاله السعد.

ومن العجب أن بعضهم بعد ذكر كلام السعد والسيد قال إنه لا ينحصر فيما قال السيد بل له طرق أخرى ، منها : أن يكون مفعولا ، كما فى قولهم : أحمد إليك الله ، أى : أنهى حمده إليك.

ومن العجب أيضا قوله فى الجواب عن كلام البعض المتقدم ، إن هذا من السبك بلا سابك كباب التسوية ، وأنت قد عرفت أن هذا حذف كما نص عليه السعد لاسبك.


هذا ، وقد اتفق هذان المحققان السعد والسيد ، على أن فى «أحمد إليك زيدا» تضمينا.

ووقع للمولى أبى السعود فى أول تفسيره الفرق بين الحمد والمدح ، بأن الحمد يشعر بتوجيه النعت بالجميل إلى المنعوت بخلاف المدح ، وأنه يرشد إلى ذلك اختلافهما فى كيفية التعلق بالمفعول فى حمدته ومدحته فإن تعلق الثانى تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها ، والأول مبنى على معنى الإنهاء كما فى قولك كلمته ، فإنه معرب عما تفيده لام التبليغ فى قولك قلت له.

ولا يخفى أن هذا مخالف لكلام القوم ، ولم يثبت بشهادة من معقول أو منقول.

فمن العجائب نقل شيخنا الدنوشرى له فى رسالة التضمين ، وقوله : وهو كلام حسن ربما يؤخذ منه أن الإنهاء من مفهوم الحمد فتعلق إلى به بالنظر لذلك ، فلا حاجة إلى ادعاء التضمين فيه ، فليتأمل ذلك. اه.

فإن أراد بكونه حسنا حسن تراكيبه ، فلا شك فى ذلك ، وإن أراد حسنه من جهة المعنى فلم يظهر ، فإنه وإن أطال الكلام كما يعلم بالوقوف عليه ، لم يأت فيه ببيان المرام.

بقى هنا أمران ؛ الأول : ما أشار إليه السعد والسيد من أخذ الحال من المحذوف أو المذكور ، لا شك أنهما وجهان متغايران عند من له فى التحقيق يدان ، وإنما الكلام فى أنهما : هل يستويان دائما أو يترجح أحدهما فى بعض الأحيان؟

والذى يقتضيه النظر وإليه يشير كلامهم ، رجحان أحدهما على الآخر بحسب المقام. بل تعينه كما لا يخفى على من له بالقواعد إلمام. فيترجح أخذها من المحذوف فى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وإن جرى السيد على خلافه كما مر ، فقد قال صاحب الكشاف : المعنى لتكبروا الله حامدين ، ولم يقل لتحمدوا الله مكبرين. قال بعضهم : لأن الحمد إنما يستحق ويطلب لما فيه من التعظيم. وكما فى حديث : (أن تؤمن بالقضاء ...) ، فالمعنى : أن تؤمن معترضا بالقضاء ؛ لا أن تعترف بالقضاء مؤمنا ، لأن «أن» والفعل يسبك بمصدر معرف ، وهو لا يقع حالا كما قاله الرضى فى الكلام على أن (إنّ)


تكسر وجوبا إذا وقعت حالا ، وإن كان لا يخلو عن نظر ؛ لعدم وجوب كون المصدر المسبوك معرفة كما يأتى ، ولما يدلان عليه من اسم الفاعل حكمهما. وفى بعضها يترجح أخذها من المذكور كما إذا ضمن العلم معنى القسم ، نحو : علم الله لأفعلن ، فالمعنى : أقسم بالله عالما لأفعلن لا عكسه ، لأن «أقسم» جملة إنشائية لا تقع حالا إلا بتأويل. واسم الفاعل الواقع حالا قائم مقامها فيعطى حكمها ، ونحو : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ، لأن التقدير : ألبثه الله مائة عام مماتا ، لا أماته الله مائة عام ملبثا ، لأنه يلزم منه ألّا تكون الحال مقارنة بل مقدرة ، والأصل كونها مقارنة.

وأما ما توهمه بعضهم من أن صلة المتروك تدل على أنه المقصود أصالة ، فمردود بأنها إنما تدل على كونه مرادا فى الجملة ؛ إذ لولاها لم يكن مرادا أصلا. بل إن الصلة لا يلزم أن تكون للمتروك كما دل عليه كلام البيضاوى فى تفسير : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) فإنه فسر «انتبذت» باعتزلت. وذكر أنه متضمن معنى : أتت ، و «مكانا» ظرف أو مفعول. ولا شك أن قوله «من أهلها» حينئذ متعلق «بانتبذت» الذى بمعنى : اعتزلت ، لا بأتت.

ومما يتفطن له أن المراد بالصلة ما له دلالة على التضمن ؛ لارتباطه بالمحذوف الذى فى ضمن المذكور ، فيشمل ما إذا ضمن اللازم معنى المتعدى ، فإن التعدية حينئذ قرينة التضمين لا ذكر الصلة.

وأما إذا ضمن فعل متعد لواحد معنى متعد لاثنين وبالعكس ، كتضمن العلم معنى القسم كما مر ، فإن القرينة إنما هو الجواب.

الثانى : هل الخلاف فى كون التضمين سماعيّا أو قياسيّا ، مبنى على الخلاف فى أنه حقيقة أو مجاز إلى غير ذلك مما فيه من المذاهب؟ وهل ذلك فى المجاز مبنى على كون المجاز سماعيّا أولا؟

والذى يخطر بالبال أنه على القول بأنه حقيقة لا تتوقف على سماع. واشتراط المناسبة بين اللفظين لا يقتضى ذلك كما لا يخفى. وأنه يلزم من كون مطلق المجاز قياسيّا قياسية هذا المجاز الخاص ، خلافا لبعضهم.

قال فى التلويح : المعتبر فى المجاز وجود العلاقة المعلوم اعتبار نوعها فى استعمال


العرب ، فلا يشترط اعتبارها بشخصها ، حتى يلزم فى آحاد المجاز أن ينقل بأعيانها عن أهل اللغة. وذلك لإجماعهم على اختراع الاستعارات العربية البديعة التى لم تسمع بأعيانها من أهل اللغة ، وهى من طرق البلاغة وشعبها التى بها ترتفع طبقة الكلام. فلو لم يصح لما كان كذلك ، ولهذا لم يدونوا المجاز تدوينهم الحقائق. وتمسك المخالف بأنه لو جاز التجوز بمجرد وجود العلاقة لجاز : «نخلة» لطويل ، غير إنسان ، للمشابهة. و «شبكة» للصيد ، للمجاورة ، و «أب» ، لابن ، للسببية ، واللازم باطل اتفاقا.

وأجيب يمنع الملازمة ، فإن العلاقة مقتضية للصحة ، والتخلف عن المقتضى ليس بقادح ، لجواز أن يكون لمانع مخصوص ، فإن عدم المانع ليس جزءا من المقتضى. وذهب المصنف ـ رحمه الله ـ إلى أنه لم يجز نحو «نخلة» لطويل غير إنسان ، لانتفاء شرط الاستعارة. وهو المشابهة فى أخص الأوصاف ، أى : فيما له مزيد اختصاص بالمشبه به ، كالشجاعة للأسد.

فإن قيل : الطول للنخلة كذلك ، قلنا : لعل الجامع ليس مجرد الطول ، بل مع فروع وأغصان فى أعاليها ، وطراوة وتمايل فيها.

ولا شك أنه على القول بأن التضمين مجاز فهو لغوى علاقته تدور على المناسبة ، وهى ـ مع أنها ليست مما نصوا عليه فى العلاقات ـ أمر مشترك بين أفراده ، لكن الذكى يرجعها فى كل موضع إلى ما يليق به ، مما هو من العلاقات المعتبرة ، وبذلك يمتاز بعض الأفراد عن بعض آخر ، والتخلف فى بعض الأفراد ـ إن فرض ـ لا يضر ، كما علمت.

هكذا ينبغى أن يحقق المقام ، وقل من حققه مع إطالته الكلام.

فنتم الكلام على بقية الأقوال. تقدم ثلاثة.

والرابع : وهو الذى ارتضاه السيد ، أن اللفظ مستعمل فى معناه الأصلى ، فيكون هو المقصود أصالة ، لكن قصد بتبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ ويقدر له لفظ آخر. فلا يكون من الكناية ولا الإضمار ، بل من الحقيقة التى قصد منها معنى آخر يناسبها ويتبعها فى الإرادة ، وحينئذ يكون واضحا بلا تكلف.


وهذا مبنى على أن اللفظ يدل على المعنى ، ولا يكون حقيقة ، ولا مجازا ، ولا كناية.

والسيد جوزه ومثله بمستتبعات التراكيب ، وذلك أن الكلام قد يستفاد من عرضه معنى ليس دالا عليه بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة ، كما يفيد قولك «آذيتنى فستعرف» التهديد ، «وإن زيدا قائم» إنكار المخاطب.

و (السعد) وغيره جعلوا ذلك كناية.

والمراد من التبعية فى قوله : (لكن قصد بتبعيته) التبعية فى اللفظ ، كما يصرح به قوله فى حواشى المطول فى بحث الاستعارة عند الكلام فى قوله :

«أسد علىّ وفى الحروب نعامة» ـ لا ينافى تعلق الجار به إذا لوحظ مع ذلك المعنى ما هو لازم له ، ومفهوم منه ؛ من الجراءة والصولة.

والفرق بين هذا الوجه والتضمين ، أن فى التضمين لا بد أن يكون المعنى المقصود من اللفظ تبعا مقصودا فى المقام أصالة. وبه يفارق التضمين الكناية ، وفى هذا الوجه لا يكون المعنى الملحوظ تبعا مقصودا فى المقام أصلا. كيف والمقام مقام التشبيه بالأسد على وجه المبالغة. وذلك يغنى عن القصد إلى وصف الجراءة والصولة مرة أخرى.

وبذلك يندفع قول ابن كمال باشا فى رسالة التضمين : إن قيد : «يتبعه فى الإرادة» يخرج المعنى الآخر عن حد الأصالة فى القصد ، والأمر فى التضمين ليس كذلك ، بل قد تكون العناية إليه أوفر ، ومن العجب أنه نقل كلام حاشية المطول فى تلك الرسالة.

وأما الاعتراض على ما قاله (السيد) بأنه : كيف يعمل اللفظ باعتبار معنى لا يدل عليه ، فلا يرد ؛ لأن اللفظ دال عليه ، لكنه لم يستعمل فيه.

والخامس : أن المعنيين مرادان على طريق الكناية ، فيراد المعنى الأصلى توصلا إلى المقصود ، ولا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى.

قال السيد : وفيه ضعف ، لأن المعنى المكنى به قد لا يقصد ، وفى التضمين يجب القصد إلى كل من المضمّن والمضمن فيه. اه.

ولا يخفى أن «قد» علم القلة فى عرف المصنفين. وجعلها المناطقة سور الجزئية. فمن الغريب قول بعضهم : إن أراد أنه لا يقصد أصلا فممنوع ؛ لتصريحهم بخلافه ،


وإن أراد التقليل أو التكثير لم يثبت المطلوب ، لأن عدم إرادته فى بعض المواضع لا ينافى إرادته فى بعض آخر.

وحاصل ما أشار إليه السيد : أن الكناية فى بعض الأحيان لا يقصد منها المعنى الأصلى. ولو كان التضمين منها لا ستعمل استعمالها فى وقت ما.

ويجاب ـ كما قال العصام ـ : بأنه قد يجب فى بعض الكناية شىء لا يجب فى جنسها ، ولذلك سمى باسم خاص. اه.

فإن قيل : إذا شرط فى التضمين وجوب إرادة المعنيين ، نافى الكناية ، لأن المشروط فيها جواز إرادته.

أجيب : بأن المراد بالجواز الإمكان العام المقيد بجانب الوجود ، لإخراج المجاز ، لا الجواز بمعنى الإمكان الخاص ؛ لظهور أن عدم إرادة الموضوع له لا مدخل له فى خروج المجاز ، حتى لو وجب إرادته خرج أيضا. وأورد بعضهم على قول السيد : إن التضمين يجب فيه القصد إلى المعنيين ، أنه ممنوع ، وادعى أنه وارد على طريق الكناية. قال : ألا ترى أن معنى الإيمان جعلته فى الأمان ، وبعد تضمينه بمعنى التصديق لا يقصد معناه الأصلى. وأرأيتك بمعنى أخبرنى. (اه) وهو باطل ، لما أنه مفوت فائدة التضمين من أداء كلمة مؤدى كلمتين ، وجعل : «أرأيتك» بمعنى : أخبرنى من التضمين : غير ظاهر.

والسادس : أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز كما بيناه فى رسالتنا.

وذكر بعضهم فى التضمين قولا آخر لو صح كان (سابعا) وهو : أن دلالته غير حقيقية ؛ ولا تجوز فى اللفظ ، وإنما التجوز فى إفضائه إلى المعمول ، وفى النسبة غير التامة. ونقل ذلك عن ابن جنى وقال ألا ترى أنهم حملوا : النقيض على نقيضه ، فعدوه بما يتعدى به ، كما عدوا : «أسرّ» بالباء ، حملا : على «جهر» و «فضل» بعن حملا على «نقص» ، ولا مجاز فيه قطعا بمجرد تغيير صلته ، وإنما هو تصرف فى النسبة الناقصة. اه.

وهذا القول مخالف لما نص عليه ابن جنى فى الخصائص ، وقد تقدم كلامه فيها. ومن العجب أن هذ الناقل نقل كلامه فى الخصائص ، واستدل به المذهب فى التضمين جعله مغايرا لهذا ، وحمل النقيض على النقيض ليس من التضمين


ولا قريب منه ليقرب به ، ولهذا قابله بعضهم به ، فإنه قال فى المغنى فى بحث «على» وقد تكلم على قوله : «إذا رضيت علىّ بنو قشير» يحتمل أن يكون «رضى» ضمن معنى : «عطف». وقال الكسائى : حمل على نقيضه وهو سخط اه. نسأل الله تعالى الرضا بغير سخط ، بفضله وكرمه.

وبقى قول آخر ، إن ثبت كان (ثامنا) واختاره المولى ابن كمال باشا حيث قال : وبالجملة لا بد فى التضمين من إرادة معنيين من لفظ واحد على وجه يكون كل منهما بعض المراد ، وبه يفارق الكناية ، فإن أحد المعنيين تمام المراد ، والآخر وسيلة إليه ، لا يكون مقصودا أصالة. وبما قررناه اندفع ما قيل. والفعل المذكور إن كان فى معناه الحقيقى ، فلا دلالة له على الفعل الآخر ، وإن كان فى معنى الفعل الآخر ، فلا دلالة له على المعنى الحقيقى. وإن كان فيهما لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، ولا يمكن أن يقال ها هنا ما يقال فى الجمع بين المعنيين فى صورة التغليب ، لأن كلا من المعنيين ها هنا مراد بخصوصه. اه. المقصود منه.

ولا يخفى أنه لم يظهر اندفاع الجمع بين الحقيقة والمجاز فى التضمين ، لما اعترف به من أن كلا من المعنيين مراد بخصوصه. ثم قال : إن التضمين على المعنى الذى قررناه ، لا اشتباه بينه وبين المجاز المرسل ، لأنه مشروط بتعذر المعنى الحقيقى ، وهو فيه متعذر ، نعم يلزم اندراجه تحت مطلق المجاز ، وبين أن الحق أنه ركن مستقل من أركان البيان ، كالكناية والمجاز المرسل ، وأنه فيه مندوحة عن تكلف الجمع بين الحقيقة والمجاز. وفى قوله : «إن المعنى الحقيقى فى التضمين غير متعذر» ، نظر ؛ لأنه متعذر بواسطة القرينة كما عرف مما مر ، ولا بد من المصير إلى المجاز ، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز ؛ لأن القرينة فى المجاز إنما تمنع من إرادة الحقيقة فقط ، فاحفظه فإنه مما يقع فيه الغلط.

ثم إنه علم من كلامه أن فى المذهب الذى اختاره السلامة من الجمع بين الحقيقة والمجاز اللازم على بعض الأقوال ، وهو القول الثانى المتقدم ، كما عرفت تحقيقه مما مر. فدعوى أن شبهة الجمع فى التضمين مطلقا واهية ، دعوى باطلة ، ولم يرد بذلك على السيد ، كما لا يخفى على من راجع كلامه. وإن كلام السيد لا يتوهم


فيه ذلك الجمع. فمن قال إنه اعترض عليه بذلك فقد افترى.

فى كلام ياسين ثمانية أقوال فى التضمين :

الأول : أنه مجاز مرسل ، لأن اللفظ استعمل فى غير معناه لعلاقة وقرينة.

الثانى : أن فيه جمعا بين الحقيقة والمجاز لدلالة المذكور على معناه بنفسه ، وعلى معنى المحذوف بالقرينة.

الثالث : أن الفعل المذكور مستعمل فى حقيقته لم يشرب معنى غيره ، «كما جرى عليه صاحب الكشاف» ، ولكن مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر المناسب ، بمعونة القرينة اللفظية ، كما ذكر السعد.

وقال السيد : «ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل فى معناه الحقيقى. فقط ، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ما هو من متعلقاته». وفيما مثل به جعل المحذوف أصلا ، والمذكور مفعولا «كأحمد إليك فلانا» أى : أنهى إليك حمده. يعنى أن المذكور يدل على ذلك كما يدل على الحال. وقد أراد السيد بيان وجه آخر ، ليفيد أن ذلك أمر اعتبارى لا ينحصر فيما قاله السعد.

الرابع : أن اللفظ مستعمل فى معناه الأصلى ، فيكون هو المقصود أصالة ، ولكن قصد بتبعيته معنى آخر. فلا يكون من الكناية ولا الإضمار.

الخامس : أن المعنيين مرادان على طريق الكناية ، فيراد المعنى الأصلى ، توصلا إلى المقصود ، ولا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى.

السادس : أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز.

السابع : أن دلالته غير حقيقية ، ولا تجوّز فى اللفظ ، وإنما التجوز فى إفضائه إلى المعمول ، وفى النسبة غير التامة. ونقل ذلك عن ابن جنى. وقال : ألا ترى أنهم حملوا النقيض على نقيضه ، فعدوه بما يتعدى به ، كما عدوا : «أسر» بالباء حملا على : «جهر». «وفضل» بعن حملا على : «نقص».

وقد علق هذا القول على الصحة.

الثامن : أنه لا بد فى التضمين من إرادة معنيين فى لفظ واحد على وجه يكون كل منهما بعض المراد. وبذلك يفارق الكناية ، فإنه أحد المعنيين تمام المراد ،


والآخر وسيلة إليه لا يكون مقصودا أصالة» «وهذا اختيار ابن كمال باشا» وقد علق هذا القول على الثبوت.

وقال السيوطى فى الأشباه والنظائر : قال الزمخشرى فى شأنهم : يضمنون الفعل معنى فعل آخر ؛ فيجرونه مجراه ، ويستعملونه استعماله ، مع إرادة معنى المتضمن. قال : والغرض فى التضمين إعطاء مجموع معنيين. وذلك أقوى من إعطاء معنى. ألا ترى كيف رجع معنى (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) ، إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم ـ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ، أى : ولا تضموها إليها آكلين. اه.

قال الشيخ سعد الدين التفتازانى فى حاشية الكشاف : فإن قيل الفعل المذكور إن كان مستعملا فى معناه الحقيقى فلا دلالة على الفعل الآخر ، وإن كان فى معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقى. وإن كان فيهما جميعا لزم الجميع بين الحقيقة والمجاز.

قلنا : هو فى معناه الحقيقى مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية ؛ فمعنى يقلب كفيه على كذا : نادما على كذا ، ولا بد من اعتبار الحال ، وإلا كان مجازا محضا لا تضمينا. وكذا قوله (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) تقديره : معترفين بالغيب (انتهى).

وقال ابن يعيش : الظرف منتصب على تقدير «فى» وليس متضمنا معناها حتى يجب بناؤه لذلك ، كما وجب بناء نحو : «من وكم» فى الاستفهام. وإنما «فى» محذوفة من اللفظ لضرب من التخفيف ، فهى فى حكم المنطوق به. ألا ترى أنه يجوز ظهور «فى» معه. نحو قمت اليوم وقمت فى اليوم. ولا يجوز ظهور الهمزة مع من وكم فى الاستفهام ، فلا يقال أمن ولا أكم. وذلك من قبل أن «من وكم» لما تضمنا معنى الهمزة صارا كالمشتملين عليها. فظهور الهمزة حينئذ كالتكرار. وليس كذلك الظرف ، فإن الظرفية فيه مفهومة من تقدير «فى» ولذلك يصح ظهورها.

ثم ذكر أن ابن جنى قال فى التضمين : «ووجدت فى اللغة من هذا الفن شيئا كثيرا لا يكاد يحاط به ، ولعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابا ضخما.


وقد عرفت طريقه ، فإذا مر بك شىء منه فتقبله وأنس به ، فإنه فصل من العربية لطيف حسن».

وقال ابن هشام فى تذكرته : زعم قوم من المتأخرين ـ منهم خطاب الماردى ـ أنه قد يجوز تضمين الفعل المتعدى لواحد معنى : «صير» ويكون من باب : «ظن» فأجاز : حفرت وسط الدار بئرا ؛ أى : صيرت ، قال : وليس «بئرا» تمييزا ، إذ لا يصلح لمن. وكذا أجاز : بنيت الدار مسجدا. وقطعت الثوب قميصا. وقطعت الجلد نعلا ـ. وصبغت الثوب أبيض إلخ ...

قال : والحق أن التضمين لا ينقاس. وقال ابن هشام فى المغنى : قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه ، ويسمى ذلك تضمينا. وفائدته أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين ، ثم ذكر لذلك عدة أمثلة منها قوله تعالى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ضمّن معنى تحرموه. فعدّى إلى اثنين لا إلى واحد ، ومنها : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) ضمّن معنى : تنووه. فعدّى بنفسه لا بعلى. وقوله : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) ضمّن معنى «يصغون». فعدى بإلى ، وأصله أن يتعدى بنفسه. ومثل : سمع الله لمن حمده. ضمن معنى : استجاب ، فعدّى باللام ، ومثل : «والله يعلم المفسد من المصلح». ضمن معنى : يميز ؛ فجىء بمن.

وذكر ابن هشام فى موضع آخر : من المغنى : أن التضمين لا ينقاس. وكذا ذكر أبو حيان. ثم قال السيوطى :

«قاعدة» : المتضمن معنى شىء لا يلزم أن يجرى مجراه فى كل شىء. ومن ثم جاز دخول الفاء فى خبر المبتدأ المتضمن معنى الشرط ، نحو الذى يأتينى فله درهم. وكل رجل يأتينى فله درهم. وامتنع فى الاختيار جزمه عند البصريين. ولم يجيزوا : الذى يأتينى أحسن إليه ، أو : كل من يأتينى أحسن إليه ، بالجزم ، إلا فى الضرورة. وأجاز الكوفيون جزمه فى الكلام تشبيها بجواب الشرط ، ووافقهم ابن مالك. قال أبو حيان : ولم يسمع من كلام العرب الجزم فى ذلك إلا فى الشعر. اه.

قال ابن هشام فى المغنى : وهو كثير. قال أبو الفتح فى كتاب التمام : أحسب لو جمع ما جاء منه ، لجاء منه كتاب يكوّن مئين أوراقا. اه.


قال الدسوقى : قوله : وهو ـ أى التضمين ـ كثير ، وقوله : قال أبو الفتح ، دليل لقوله وهو كثير. «قوله قال أبو الفتح إلخ» هذا ربما يؤيد القول بأن التضمين قياسى ، وقيل البيانى فقط. وظاهر أنه ليس كل حذف مقيسا ، وكذا المجاز إذا ترتب عليه حكم زائد. اه.

وقال ابن هشام فى أوائل الباب الخامس من المغنى : وفائدة التضمين أن يدل بكلمة واحدة على معنى كلمتين ، يدلك على ذلك أسماء الشروط والاستفهام.

قال الأمير : قوله «على معنى كلمتين» ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وسبق الخلاف فى ذلك. قال ابن جنى : لو جمعت تضمينات العرب ملأت مجلدات ، فظاهره القول بأنه قياسى. قوله أسماء الشروط مثلا «من» معناها العاقل ، وتدل مع ذلك على معنى إن ، والهمزة. اه.

وقال ابن هشام فى معانى الباء من المغنى : (الثالث عشر) الغاية ، نحو : (وقد أحسن بى) ، أى : إلىّ. وقيل ضمن أحسن معنى : لطف. اه.

قال الأمير : ظاهره كقولهم التضمين إشراب الكلمة معنى آخر ، وأنه مجاز ، أو حقيقة ملوحة ، أو جمع بينهما ؛ يقتضى مغايرة المعنيين ، ولا يظهر فى الإنسان واللطف. فالأولى أن التضمين إلحاق كلمة بأخرى لاتحاد المعنى أو تناسبه ، ويأتى الكلام فيه ، وهل هو قياسى أو البيانى (١) لأنه مجرد حذف لدليل إن قلنا بمغايرته للنحوى. اه.

وقال الملوى على السلم : «وذللت فيه صعاب المشكلات على طرف الثمام». فقال : الصبان : «الثمام» بضم المثلثة : نبت ضعيف يشد به فرج السقوف ، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف : أى : ووضعتها ، فهو من باب حذف الواو مع ما عطفته لعدم اللبس ، أو : «بذللت» ، على تضمينه معنى «وضعت» تضمينا نحويّا. وقد نقل أبو حيان فى ارتشافه عن الأكثرين أنه ينقاس ، فهو من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز.

أو بحال محذوفة من فاعل ذللت ، أى : واضعا لها ، أو من مفعوله : أى : موضوعة ، فعلى هذين التضمين بيانى ، وهو مقيس. اه.

__________________

(١) سبق المراد من البيانى فى ٢٥٢.


وقال الصبان على الأشمونى : إن التضمين النحوى إشراب كلمة معنى أخرى ، بحيث تؤدى المعنيين ، والتضمين البيانى تقدير حال تناسب الحرف. وتمنع كون التضمين النحوى ظاهرا عن البيانى ، للخلاف فى كون النحوى قياسيّا ، وإن كان الأكثرون على أنه قياسى ، ـ كما فى ارتشاف أبى حيان ـ دون البيانى فاعرفه. اه. أى : فلا خلاف فى كونه قياسيّا ، كما أشار إليه قبل بقوله : «وهو مقيس».

وقال صاحب التصريح فى آخر الكلام فى المفعول معه : «واختلف فى التضمين : أهو قياسى أم سماعى ، والأكثرون على أنه قياسى. وضابطه أن يكون الأول والثانى يجتمعان فى معنى عام. قاله المرادى فى تلخيصه. اه». وكلامه فى النحوى. وقال ياسين على القطر فى أن «التضمين إشراب لفظ معنى لفظ آخر» هو أحد أقوال خمسة فى التضمين. والمختار منها عند المحققين أن اللفظ مستعمل فى معناه الحقيقى ، مع حذف حال مأخوذ من اللفظ الآخر ، بمعونة القرينة اللفظية. فمعنى «يقلب كفيه على كذا» : أى نادما على كذا. وقد يعكس كما فى (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، أى : يعترفون به مؤمنين ، وبهذا يتوقع أن اللفظ المذكور إن كان فى معناه الحقيقى فلا دلالة على الآخر ، وإن كان فى معنى الآخر فلا دلالة على المعنى الحقيقى ، وإن كان فيهما لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.

* * *

لقد ذكرنا طائفة من أقوال العلماء فى التضمين ، وذكرنا القول بأنه سماعى ، والقول بأنه قياسى ، ورأينا قوة فى القول بأنه قياسى ، ونقلنا فيما تقدم أن التضمين ركن من أركان البيان. فإن ذهبنا إلى القول بأنه قياسى ، قلنا إنما يستعمله العارف بدقائق العربية وأسرارها على نحو ما ورد. وإنك لتجد كثيرا فى عبارات المؤلفين فيها التضمين. فمن ذلك عبارة الملوى السابقة ، ومن ذلك قول ابن مالك «وأستعين الله فى ألفية» ، فقد جوز الأشمونى أنه ضمن أستعين معنى : أستخير ، ونحوه مما يتعدى بفى.

ذكرنا القول بأن التضمين سماعى. ومعناه أنه يحفظ ولا يقاس عليه. وذكرنا


قول القائلين إن التضمين النحوى قياسى عند الإكثرين. وأن التضمين البيانى قياسى بإجماع النحويين. وقد ذكر ابن جنى فى الخصائص أنه لو نقل ما جمع من التضمين عن العرب لبلغ مئين أوراقا.

والتضمين مبحث ذو شأن فى اللغة العربية. وللعلماء فى تخريجه طرق مختلفة فقال بعضهم : إنه حقيقة. قال بعضهم : إنه مجاز. وقال آخرون : إنه كناية ، وقال بعضهم : إنه جمع بين الحقيقة والمجاز على طريقة الأصوليين ، لأن العلاقة عندهم لا يشترط فيها أن تمنع من إرادة المعنى الأصلى ...

فإذا قررنا أن التضمين قياسى ، فقد جرينا على قول له قوة. وإذا قلنا إنه سماعى ، فقد يعترض علينا من يقول إن من علماء اللغة من يرى أنه قياسى. فلماذا تضيقون على الناس ، وما جئتم إلا لتسهلوا اللغة عليهم؟

فنحن نثبت القولين بالقياس وبالسماع ، ولكنا نرجح قياسيته ، والقول بجواز استعماله للعارفين بدقائق العربية وأسرارها. ولا يصح أن نحظره عليهم ، لأنه داخل فى الحقيقة ، أو : المجاز ، أو : الكناية. والبلغاء يستعملونه فى كلامهم بلا حرج ، فكيف نسد باب التضمين فى اللغة ، وهو يرجع إلى أصول ثابتة فيها؟

وأقول بعد هذا : لا بد من قيود نضبط بها استعمال التضمين. وقد رأى بعض الزملاء أن يقصر التضمين على الشعر. وفى هذا قصر للحقيقة ، أو للمجاز ، أو للكناية ؛ وهى الأصول التى يخرج عليها التضمين» على فن من الكلام دون آخر. وهذه الأمور الثلاثة تقع فى الشعر والنثر بلا قيد ولا شرط.

على أن الشعر من أكثر فنون القول ذيوعا. والناس يحفظون الشعر ويجرون على أساليبه فى الكتابة والخطابة. فإذا أجزنا التضمين فى الشعر وحده ، وقعنا فى الأمر الذى نفر منه. ونحن هنا نقرر الحقائق العلمية. ونرجح منها ما يستحق الترجيح تحقيقا لأغراضنا.

انتهى البحث

* * *

حضرة رئيس الجلسة : يتفضل الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين بتلاوة بحثه فى التضمين.


حضرة العضو المحترم الأستاذ الخضر حسين : للتضمين غرض هو الإيجاز. وللتضمين قرينة ، هى تعدية الفعل بالحرف وهو يتعدى بنفسه ، أو تعديته بنفسه وهو يتعدى بالحرف. وللتضمين شرط هو وجود مناسبة بين الفعلين. وكثرة وروده فى الكلام المنثور والمنظوم تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة فى وجه كل ناطق بالعربية ، متى حافظ على شرطه ؛ وهو : مراعاة المناسبة.

فإذا لم توجد بين الفعلين العلاقة المعتبرة فى صحة المجاز كان التضمين باطلا. فإذا وجدت العلاقة بين الفعلين ولم يلاحظها المتكلم ، بل استعمل فعل : «أذاع» مثلا ـ متعديا بحرف الباء على ظن أنه يتعدى بهذا الحرف لم يكن كلامه من قبيل التضمين ، بل كان كلامه غير صحيح عربية.

فالكلام الذى يشتمل على فعل عدى بحرف وهو يتعدى بنفسه ، أو عدى بحرف وهو يتعدى بغيره ، يأتى على وجهين :

الوجه الأول : ألا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به ، حتى تخرج الجملة على طريقة التضمين. ومثل هذا نصفه بالخطأ ، والخروج عن العربية ، ولو صدر من العارف بفنون البيان.

الوجه الثانى : أن يكون هناك فعل يصح أن يقصد المتكلم لمعناه مع معنى الفعل الملفوظ ، وبه يستقيم النظم ، وهذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية ومعرفة طرق استعمالها حمل على وجه التضمين الصحيح ، كما قال سعد الدين التفتازانى. «فشمرت عن ساق الجد إلى اقتناء ذخائر العلوم» والتشمير لا يتعدى بإلى ، فيحمل على أنه قد ضمن شمر معنى : «الميل» الذى هو سبب التشمير عن ساق الجد.

فإن صدر مثل هذا من عامى أو شبيه بعامى (١) ، أى : ممن يدلك حاله على أنه لم يبن كلامه على مراعاة فعل آخر مناسب للفعل الملفوظ ، كان لك أن تحكم

__________________

(١) تكرر هذا الكلام من الباحث وغيره. والنفس لا ترتاح إليه ؛ لجواز أن يكون العامى ـ بل غير اللغوى ـ مطلقا ـ مقلدا اللغوى ـ بقصد ، أو بغير قصد ـ فى هذا الاستعمال ، كالشأن فى كثير من أمور اللغة. وإنما الذى ترتاح له النفس ويجب أن يتجه إليه الحكم ويقتصر عليه دائما هو أن هذا التعبير أو ذاك صحيح لغويا أو غير صحيح.


عليه بالخطأ. فلا جناح عليك أن تحكم على قول العامة مثلا ـ أرجو الله قضاء حاجتى ، باللحن والخروج عن قانون اللغة الفصحى. لأن فعل الرجاء لا يتعدى إلى مفعولين. وليس لك أن تخرجه على باب التضمين. كأن تجعل «أرجو» مشربا معنى «أسأل» بناء على أن بين الرجاء والسؤال علاقة السببية والمسببية ، فإن هذا الوجه لم ينظر إليه أولئك الذين استعملوا فعل «أرجو» متعديا إلى المفعولين.

ومن هنا نعلم أن من يخطئ العامة فى أفعال متعدية بنفسها ، وهم يعدّونها بالحروف ، مصيب فى تخطئته ، إذ لم يقصدوا لإشراب هذه الأفعال معانى أفعال أخرى تناسبها ، حتى يخرج كلامهم على باب التضمين.

وليس معنى هذا أن التضمين سائغ للعارف بطرق البيان دون غيره ، وإنما أريد أن العارف بوجوه استعمال الألفاظ ، لا نبادر إلى تخطئته ، متى وجدنا لكلامه مخرجا من التضمين الصحيح. أما غيره كالتلاميذ ، ومن يتعاطى الكتابة من غير أن يستوفى وسائلها ، فإن قام الشاهد على أنه نحا نحو التضمين ، كما إذا اعترضت عليه فى استعمال الفعل المتعدى بنفسه متعديا بحرف ، فأجاب بأنه قصد التضمين ، وبين الوجه ، فوجدته قد أصاب الرمية ؛ فقد اعتصم منك بهذا الجواب المقبول ، ولم يبق لاعتراضك عليه من سبيل.

وإن قام شاهد على أن المتكلم لم يقصد التضمين ، وإنما تكلم على جهالة بوجه استعمال الفعل ، كان قضاؤك عليه بالخطأ قضاء لا مرد له. فمصحح ما يكتبه التلاميذ ونحوهم ، يجب عليه أن يرد الأفعال إلى أصولها ، ولا يتخذ من التضمين وجها لترك العبارة بحالها ، والكاتب لا يعرف هذا الوجه ، أو لم يلاحظه عند الاستعمال (١).

فللتضمين صلة بقواعد الإعراب من جهة تعدى الفعل بنفسه أو تعديه بالحرف ، وصلة بعلم البيان من جهة التصريف فى معنى الفعل ، وعدم الوقوف به عند حد ما وضع له ، ومن هذه الناحية لم يكن كبقية قواعد علم النحو ، قد يستوى فى العمل بها خاصة الناس وعامتهم.

__________________

(١) هذا الرأى مما يحتاج إلى قوة تأييد وإقناع ، فهو على حاله غير مقبول ـ انظر هامش الصفحة السالفة ـ


حضرة العضو المحترم الأستاذ الشيخ أحمد على الإسكندرى : رجعت إلى أقوال العلماء بعد المناقشة التى دارت أمس ، فوجدت أن القائلين بسماعية التضمين إنما يخشون أن يحدث فى اللغة فساد واضطراب فى معانى الأفعال. إذا أباحوه للناس ، مع أنهم يسلمون أن ما ورد من التضمين كثير يجمع فى مئين أوراقا.

وقد شرط القائلون بقياسية التضمين شرطين وهما : (١) وجود المناسبة. (٢) وجود القرينة. ثم تأملت فى وظيفة علوم البلاغة وخاصة علم المعانى ، فوجدت أن موضوعه إن هو إلا بيان الذوق المعبر عنه عندهم «بمقتضى الحال». وكذلك رأيت الشرطين اللذين اشترطهما العلماء قديما للتضمين غير كافيين. فرأيت أن نضيف إليهما قيدا ثالثا ، هو «موافقة العبارة التى فيها التضمين للذوق العربى» وذلك ما تنشده علوم البلاغة.

ثم قلت : هل للذوق حد؟ ففطنت إلى وجوب تقييد الذوق بالبلاغى ، وهو الذى وضعت علوم البلاغة العربية لتحديد ضوابطه.

وبعد ذلك رأيت أن ألخص مناقشات اللجنة والمجمع ومذكرتى (١) التى قدمتها فى القرار الآتى :

«التضمين : أن يؤدى فعل أو ما فى معناه فى التعبير ، مؤدى فعل آخر أو ما فى معناه ، فيعطى حكمه فى التعدية واللزوم. ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسى لا سماعى بشروط ثلاثة.

الأول : تحقق المناسبة بين الفعلين.

الثانى : وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر ، ويؤمن معها اللبس.

الثالث : ملاءمة التضمين للذوق البلاغى العربى».

حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والى : التضمين سواء أخرج على الحقيقة أم على المجاز أم على الجمع بين الحقيقة والمجاز ، لا يستعمله إلا البلغاء العارفون

__________________

(١) طبعت مذكرة حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد الإسكندرى فى التضمين ملحقة بمحضر هذه الجلسة.


بأسرار اللغة ، وإذا لا يستعمله العامة إلا إذا جارينا من يقول إن العامة لا يزال عندهم بقية من الذوق العربى والبلاغة.

وأرى أن نأخذ الرأى أولا على أن التضمين قياسى ، ثم نأخذ الرأى على الشروط التى نشترطها لإباحته.

حضرة العضو المحترم الدكتور منصور فهمى : أريد أن أعرف ما فائدة «التضمين» الذى نبحث فيه هذا البحث الطويل. إن كل ما فهمته من كلام فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين أن فائدته الإيجاز ، أى : أن تؤدى الكلمة معنى كلمتين. وفى اللائحة التى وضعناها نص يوجهنا إلى العمل لتيسير اللغة على الناس. والذى يريد أن ييسر اللغة على الناس لا يكلفهم العمل الشاق الطويل لمعرفة كلمات تؤدى الواحدة منها معنى كلمتين. ولعل هذه الكلمات لا تزيد على مائتى كلمة ، فلا أجد الفائدة كبيرة بتقسيم الناس إلى خاصة وعامة ، وطفل وبالغ ، وبليغ له ذوق العرب البلاغى ، وآخر ليس له هذا الذوق ، لأنه لم يدرس العلوم العربية التى تفيد الذوق على رأى الأستاذ الإسكندرى. قالوا إن القانون الرياضى والقانون الطبيعى أولى القوانين بالاحترام ، لأنه لا يتخلف. والعلوم المختلفة الآن تتجه اتجاه الرياضيات والطبيعيات ، فيحاول أصحابها أن يجعلوا قوانينها كقوانين الرياضيات فى الدقة والضبط وعدم الاستثناء.

وأريد أن نرقى باللغة العربية إلى مصاف العلوم ذات القوانين الثابتة التى يقل فيها الشذوذ والاستثناء.

الغرض من عملنا المحافظة على اللغة وتيسيرها. فهل نتحكم فى «تطور» اللغة وذوقها من أجل مائتى كلمة لطبقة خاصة. هذا عمل ـ على ما أرى ـ ليس من خدمة اللغة التى نسعى لخدمتها. نحن الآن نقرر الواقع الذى تقرر منذ أزمان طويلة. فنقول : إن التضمين قياسى أو سماعى. وكنت أظن أن المجمع يدرس الواقع ، ويسمو فوقه ، فيقرر ما من شأنه أن يحقق حاجات الرقى الحاضر.

قد يكون المثل الأعلى للبلاغة العربية ما يراه بعض الأعضاء فى علوم البلاغة وبعض نماذج معروفة ، والذى يخيل إلىّ أن التقدم لا ينبغى أن يقيد بمثل أعلى واحد. فإذا كان تقدم اللغة ينتهى عند معرفة ما قررته علوم البلاغة ، فليس هذا


عندى تقدما. واللغة تتطور مع العصور. وكل هذا يبيح لى ألا ألتزم أمرا إلا بمقدار ، وأرى أن هذا القرار لا يوصلنى إلى غايتى.

كل اللغات «تتطور». فلما ذا نريد أن نقف بلغتنا؟ ولو أن كاتبا فرنسيّا أو إيطاليّا اليوم أراد أن يرجع إلى أساليب القرن الخامس عشر مثلا ، تشبها بكاتب قديم ، لقيل إنه متحذلق. ونحن كأولئك. فلما ذا نتعمل ونجهد أنفسنا ونقول بالتضمين؟

والذى أراه أن نقر الماضى على أنه تاريخ ، ونتقدم نحن خطوة أخرى ، فنقرر أشياء جديدة لا تنافى تاريخ اللغة ، وهى مع ذلك تفى بحاجات العصر الحاضر.

وأنا لا أزال على رأيى. فلا أقبل التضمين إلا إذا اضطرنى إليه الشعر أو السجع. وفى غير ذلك نجرى الأفعال فى معانيها الأصلية.

حضرة العضو المحترم الدكتور فارس نمر : أرى أن كل واحد منا ينظر إلى المسألة من «زاوية» غير التى ينظر منها الآخر ، على حد تعبير الرياضيين ، وأرجو أن تسمحوا لى أن أورد بعض أمثلة خبرتها بنفسى.

فعند ما كنت أدرس الحروف واستعمالها ، عرفت أن «متى» تكون بمعنى «من» كما فى قول الشاعر :

شربن بماء البحر ثم ترفّعت

متى لجج خضر لهن نئيج

فأردت أن أبين لأستاذى أنى حفظت هذا الشاهد وأريد القياس عليه فى كتابتى ، فكتبت له هذه العبارة : «إن صديقى ينتظرنى فخرجت متى منزلى إلى السوق» فأنكر علىّ قولى. فقلت : إنه على حد قول القائل : أخرجها متى كمّه ، أى : من كمه ، فحار أستاذى ، ولم يدر أيمنعنى من استعمال الحرف أم يوافقنى عليه؟

والذى أريده من الأستاذ الشيخ الخضر حسين أن يجيبنى : هل يوافق على أن نستعمل مثل هذه العبارات فى العصر الحاضر؟

أنا أجل علماء اللغة ، وأحترم ما قالوه ، ولا أنازع فى قياسية التضمين أو سماعيته ، وإنما أريد أن نسهل اللغة على الناس عامة ، فنتخير اللغة السهلة الصريحة ، ونضع أساسا ، ونحكم حكما يلائم هذا العصر ، ونسهل على علمائنا وكتابنا الكتابة


والتأليف ، ليكون المجمع ثقة ومرجعا للناس.

حضرة العضو المحترم الأب أنستاس الكرملى : أوافق على ما قال الدكتور منصور فهمى ، والدكتور نمر ، وفى ذكر الشواهد وغيرها تطويل ، وقد اختصرت قرار المجمع ووضعته فى الصيغة لآتية :

«يعمل بالتضمين بنوع عام لوروده فى كثير من الآيات القرآنية ، وفى الشعر القديم والمخضرم والإسلامى ، بشرط ألا يقع فى التضمين لبس فى التعبير ، ولا إخلال بالمعنى».

حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد على الإسكندرى : كلام الأب المحترم يفيد قياسية التضمين ، وشرط عدم اللبس هو ما ذكرناه ، ونحن ما اخترنا البحث فى التضمين إلا لنسهل على الناس الكتابة والكلام ، لأنه إذا اتسع مجال القول ، كان فى ذلك رخصة وتيسير. وما قصدنا إلى هذا البحث إلا لأن بعض المتحذلقين من النقاذ يأخذون على بعض الشعراء والكتاب مآخذ ترجع إلى تعدية الأفعال بحروف لا تتعدى بها. ويردون استدلالهم إلى المعاجم دون القواعد اللغوية والنحوية. فإذا قلنا بترجيح قياسية التضمين ، فإنما نقصد بهذا توجيه مثل هؤلاء النقاد إلى أشياء غابت عنهم ، ونيسر فى الوقت ذاته على الكتاب والشعراء مجال القول والكتابة ، فنزيد الثروة اللغوية بتعدد أساليب التعبير وصوره. وإنى أقرر أن عمل المجمع لا يقف عند ذكر الآراء المختلفة ونصوص العلماء ، وإنما يذكرها ليوازن بينها ويرجح رأيا على رأى ، إذا رأى أن فى هذا الترجيح فائدة. والمجمع يقرر الجديد ، متى كان موافقا للذوق البلاغى والقواعد الصحيحة. ولا ينبغى أن يكون ذوق العامة حجة على أهل اللغة ، وقياس لغتنا على اللغات الأوربية قياس مع الفارق ، وفائدة التضمين لا تقتصر على مائة كلمة أو مائتين ، وإنما هو باب واسع يتعلق بجميع الأفعال فى اللغة العربية ، ولكننا لا نبيح التضمين على إطلاقه ، لأن هذا يجر إلى الفوضى والفساد فى اللغة. ولهذا نشترط له شروطا خاصة.

* * *

حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش : إذا قلنا إن التضمين قياسى ، فقد وافقنا القدماء. وإذا قلنا إنه سماعى فقد وافقناهم فى ذلك أيضا. أما إذا قلنا


إنه قياسى بشرط أن يسيغه الذوق ؛ فهذا تلفيق بين المذهبين. ونحن كمجمع ينبغى ألا نرجع المسألة إلى الذوق ، لأن ذلك رد إلى مجهول ، فلا بد إذا أن نضع ضوابط وأمثلة نقدمها للجمهور ليحتذيها.

حضرة العضو المحترم الأستاذ نلينو : استفدت كثيرا من المناقشة فى هذا الباب. وعلى الرغم من أنى أستحسن قرار الإسكندرى بقيوده التى وضعها ، فإنى أرى أن فتح باب التضمين فى عصرنا يجر إلى كثير من الخطأ ، لأننا لا نستطيع أن نميز الخاصة من العامة.

حضرة العضو المحترم الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف : (قدم اقتراحا مكتوبا طلب فيه أن توضع أمثلة للتضمين ليحتذيها الناس).

حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والى : قال بعض حضرات الأعضاء : ما أتت به اللجنة من الكلام فى التضمين معروف. والمجمع ألف لجنته للبحث فى التضمين ، وكتابة تقرير فيه. فبحثت اللجنة ، وكتبت التقرير ، وذكرت آراء العلماء ؛ ووجدت أن القول بقياسيته أقوى من القول بسماعيته ، ثم رفعت عملها إلى المجمع وهو صاحب الرأى فيه. فلا لوم علينا فى نقل كلام القدماء.

أما ما قاله حضرة الدكتور منصور فهمى من أن فائدة التضمين الإيجاز. وهو فائدة يسيرة. فلا نقره عليه ، لأن الإيجاز مقصد من مقاصد البلغاء : وأصل من أصول الأساليب اللغوية.

وأما القول بأن التضمين يفتح باب الخطأ والفساد فى اللغة ، فهذا صحيح ، ولكن علاج هذا أن يتعلم الناس قواعد لغتهم التى تعصمهم من الوقوع فى الخطأ. فكما أن إغفال الاشتقاق والتصريف يجر إلى الخطأ فيهما ، كذلك يجر إهمال قواعد التضمين وضوابطه إلى الخطأ فى الأسلوب. فإذا ثابرنا على تعليم قواعد اللغة فى المدارس مثلا ، انتشرت الأساليب الصحيحة وذاعت ، وفتح باب التضمين يسهل اللغة على الناس. أما القول بسماعيته فهو التضييق والحجر. وإذا قلنا بهذا فربما جاء زمان يقول فيه الناس كان باب التضمين مفتوحا بالقياس ، فسده مجمع اللغة العربية ، وأنه لا بد من سبب اضطره إلى هذا. فإذا قرأ الناس ما جاء فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية من التضمين ، توهموا أو ظنوا أن فيها شيئا حمل المجمع على حظر التضمين على الناس.


وأما قول حضرة الدكتور منصور إن فائدة التضمين محصورة فى مائتى كلمة ، فهذه مبالغة ، لأننا على أى وجه خرجناه فقد خرجنا على ما هو قياسى : من حقيقة أو مجاز ، أو كناية ، وهذه أمور مقيسة لا تحصر.

والقول بقصره على الشعر والسجع ـ مع أن شأنهما الشيوع ـ يوقعنا فيما نريد الفرار منه.

واللجنة قد أدّت عملها ، وهو البحث فى مسألة التضمين ، وبقى الكلام فى اتقاء الخطأ الذى يقع فيه العامة ، فإذا رأى المجمع أن اتقاء ذلك يكون بقصر استعمال التضمين على العارفين باللغة ودقائقها ، فإنى أوافق عليه. وإذا رأى المجمع أن يرجئ بت الكلام فى التضمين ، فله ما يرى.

حضرة رئيس الجلسة : لا بد أن نقر فيه اليوم قرارا.

حضرة العضو المحترم الأستاذ فيشر : أنا موافق على ما قال الدكتور منصور فهمى والأب الكرملى. وقولهما بالتقريب هو قول فقهاء اللغة الأوربيين العصريين فى حياة اللسان وتقدّمه وترقيه. حسن عندهم ما يرد فى الأشعار المشهورة وفى كتب الأدب الحسنة وما يسمع من ناس كثيرين. والسماع عندهم أولى من القياس.

حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد على الإسكندرى : أرى أن أضيف فى آخر القرار الذى اقترحته العبارة الآتية : «ويوصى المجمع ألا تستعمل هذه الرخصة فى كتابة المبتدئين ، ولا فى الكتابة العلمية».

حضرة العضو المحترم محمد كرد على (بك) : لا أرى ، وقد ضبطت اللغة وقررت قواعدها وأصولها بلاغتها ، أن نقر شيئا جديدا فى التضمين ، لأنى أخشى أن يفتح الباب لكل كاتب أو شاعر أن يخترع أمورا وتعابير تزيدنا اضطرابا ولا يقرها القدماء الذين عرفوا ضوابط اللغة برمتها ، وعللوا فى هذه المسألة مسألة التضمين التى نحن بصددها ، فقال قوم بقياسيتها وآخرون بسماعيتها إلخ. وإذا كان لا بد من التعرض لهذه المسألة التى قتلها زملائى بحثا كاد يخرجنا عن الغرض الذى نتوخاه ـ إذا كان لا بد من التعرض لهذه المسألة ، فأرى إجراء تعديل خفيف فى صورة القرار الذى اقترحه الأستاذ الإسكندرى ، أو نسكت الآن عن هذه المسألة وهو الأولى ، ونصرف جهدنا إلى العمليات لنخرج أولا للأمة ألفاظا وتعابير


تشتد الحاجة إليها من ألفاظ العلوم والفنون ، وبذلك نكون قد قمنا بالجزء العملى من واجب المجمع.

حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والى : قال بعض حضرات الأعضاء إن التضمين لا يقبل منه إلا ما يستسيغه الذوق البلاغى ، فبماذا تحدون الذوق البلاغى؟ حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد على الإسكندرى : وضعت كلمة الذوق البلاغى العربى ، اتقاء لحذلقة بعض الناس ، مثل كتاب البرازيل وغيرها ممن خرجوا على قواعد اللغة وأساليبها ، حتى صار كلامهم يشبه الرطانة ، فإذا جاءنا واحد من هؤلاء وقال إن هذا ذوقى الخاص ، قلنا له إنك تخالف الذوق العربى الذى لا يزال ثابتا بحكم الفطرة والسليقة فى البلاد العربية ، والذى يجرى على قواعد اللغة والبلاغة ولا ينفر منها.

حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والى : أنكتفى بعبارة الذوق البلاغى ، ويكون هذا مرجعنا عند الاختلاف ، أم نأتى بأمثلة ضوابط؟

حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش : نريد ألا يرد الأمر إلى الذوق ، بل نستخرج ضوابط بعد درس أمثلة.

حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد على الإسكندرى : المتقدّمون لم يدوّنوا قواعدهم إلا بعد الاستقصاء ، ولا نريد أن نبحث فى أصول القواعد من جديد ، فكل هذا قد فرغ منه العلماء قبلنا بأكثر من ألف سنة.

حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش : المجمع مكلف تقديم تراكيب صحيحة لتتبع ، وتراكيب فاسدة لتجتنب ، ورجع الناس إلى الذوق لا معنى له وكأننا لم نعمل شيئا ، وابن جنى وغيره لم يكلفوا تقديم تراكيب للأمة.

حضرة العضو المحترم الأستاذ على الجارم : هل ترى أن يقال ؛ الذوق العربى.

حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش : الذوق العربى يختلف.

حضرة رئيس الجلسة : أتريد أن نحذف كلمة «الذوق»؟

حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش : لا ، ولكننى أريد أن نضع ضوابط لنحدد ما الذوق؟


حضرة العضو المحترم الدكتور فارس تمر : التضمين صحيح ، وموضوعه عربى ، ولكن المجمع يجب أن يقدّم الحقيقة على اتباع التضمين إلا حيث تكون ضرورة.

حضرة العضو المحترم الدكتور منصور فهمى : نقول : «ويوصى المجمع ألا يستعمل التضمين فى الكتابة العامة».

حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد على الإسكندرى : أوافق على هذا ، والأصل ألا تخرج عن الحقيقة إلا لنكتة بلاغية.

حضرة العضو المحترم الأستاذ أحمد العوامرى (بك) أقترح أن يقال : «ويوصى المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغى».

فوافق أكثر الأعضاء على هذا.

وأمر رئيس الجلسة أن يقرأ نص القرار النهائى ، وهو :


القرار

«التضمين أن يؤدى فعل أو ما فى معناه فى التعبير مؤدى فعل آخر أو ما فى معناه ، فيعطى حكمه فى التعدية واللزوم».

ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسى لا سماعى ، بشروط ثلاثة.

الأول : تحقق المناسبة بين الفعلين.

الثانى : وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر ، ويؤمن معها اللبس.

الثالث : ملاءمة التضمين للذوق العربى.

ويوصى المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغى».

فوافق أكثر حضرات الأعضاء على هذا النص (١).

__________________

(١) الذى ألاحظه فى هذا القرار أن شروط التضمين المذكورة هى الشروط البلاغية المعروفة فى المجاز ، حتى الشرط الثالث ؛ فقد نص عليه القدامى لإبعاد المجاز عن القبح. وإلى المجاز ترتاح النفس وهو رأى كثير من أئمة القدماء ، فلم العناء ، والكد ، والجدل العنيف بين المذاهب المتعددة التى تضمنها البحثان المجمعيان؟

وشىء آخر أهم من اعتباره مجازا ، هو أن تلك المذاهب ـ على تشعبها وعنفها ـ لم تستطع أن ثبت فى جلاء ويقين ، أن اللفظ الذى جرى فيه التضمين ليس حقيقة لغوية أصيلة ، وأنه تضمن حقا معنى لفظ آخر ، فأدى التضمين إلى تعدية الأول أو لزومه من طريق العدوى الناشئة من الاتصال والمناسبة بينهما ، نعم لم تستطع نفى الحقيقة عنه ، وإثبات التضمين ، لأن تلك التعدية أو ذاك اللزوم الحادثين من العدوى لا يصلحان دليلا مقنعا على وقوع التضمين ؛ لأنها عدوى وهمية ، إذ قد يكون اللفظ الذى دخله التضمين فى وهمهم ـ هو فى أصله لازم أو متعد من غير علاقة له بلفظ آخر تؤثر فيه.

لقد ورد اللفظ لازما أو متعديا فى كلام كثير يحتج به ، فما الدليل القوى على أن تعديته أو لزومه ليست أصيلة ، وليست مجازا ، وإنما جاءت من الطريق الذى يسمونه : «التضمين»؟ ليس فى كلامهم مقنع فيما أرى. بل إن اللفظ اللازم أو المتعدى إذا ورد مسموعا بإحدى هاتين الحالتين فى كلام قليل ولكنه صحيح فصيح كان وروده هذا أصيلا فى الحقيقة ، ولا يخرجه عن أنه معنى حقيقى استعمال مسموع آخر يشيع فيه. لأن الحكم على اللفظ بالخروج عن معناه الحقيقى ليس راجعا إلى قلة استعماله فى صورة ، وكثرة استعماله فى صورة أخرى ، وإنما يرجع إلى وجود دليل على أن أحد الاستعمالين أسبق وجودا عند العرب وأقدم ميلادا ، فالأسبق هو الحقيقى ، وأنهم يريدون منه معنى محدودا دون غيره.

ثم ما هذا الذوق العربى الذى يريده المجمع؟ وكيف يحدد؟ ولم يقتصر التضمين على الفعل دون ما يشبهه كما جاء فى النص الذى أقره المجمع وارتضاه؟ اللهم إلا إذا كان يريد الفعل وما يشبهه ، كما يفهم من سياق البحث.؟!

وبعد : فما زالت أدلة التضمين واهية. ولم أجد فى الآراء السالفة كلها ، ولا فى أمهات المراجع التى ـ


__________________

ـ صادفتها ما يزيل الضعف. والرأى الأقوى فى جانب الذين يمنعونه ممن عرضنا أسماءهم فيما سبق ، أو لم نعرض. ومن هؤلاء الشهاب الخفاجى فى «طراز المجالس» ـ ص ٢١٩ ـ حيث يصرح بأنه سماعى. وكالدمامينى فى كتابه : «نزول الغيث» ـ ص ٥٦ ـ حيث يقرر أن تضمين فعل معنى آخر يأباه كثير من النحاة. وكأبى حيان فيما نقله السيوطى فى «الهمع» ـ ج ١ ص ١٤٩ ـ مصرحا بأنه قال : «التضمين لا ينقاس» وغير هؤلاء كثير. بل إن الذين يقصرونه على السماع لم يستطيعوا إثبات أنه ليس بحقيقة ، وليس بمجاز ، ولا بشىء مركب منهما ، وإنما هو نوع جديد اسمه : «التضمين» لم يستطيعوا ذلك ، لأن العرب الفصحاء نطقوا بالفعل ـ أو بما يشبهه ـ متعديا بنفسه مباشرة ، أو بمعونة حرف جر معين ؛ فكيف يسوغ لقائل بعد هذا أن يقول : إن هذا الفعل لم بتعد إلى معموله إلا من طريق التضمين بحجة أن هذا الفعل لا يعرف عنه التعدى بهذه الوسيلة!! كيف يقول هذا محتجا به مع أن الناطق بالفعل المتعدى ـ وشبهه ـ هو القرآن والعربى الفصيح الذى يحتج بكلامه من غير خلاف فى الاحتجاج؟

ما الدليل على أن الفعل وشبهه متعد أو غير متعد إلا من طريق التضمين ونحن نراه متعديا بواسطة أو غير واسطة ولا دليل معنا على أسبقية الفعلين فى الوجود ، والتعدى وعدمه؟ الحق أن إثبات التضمين أمر لا تطمئن له نفس المتحرى المتحرر. وبالرغم من تلك المعارك الجدلية لا أرى الأمر فى التضمين يخرج عن إحدى حالتين ، وفى غيرهما الفساد اللغوى ، والاضطراب الهدام.

الأولى : أن الألفاظ التى وصفت بالتضمين إن كانت قديمة فى استعمالها من عصور الاستشهاد فإن استعمالها دليل على أصالة معناها الحقيقى ، ما دمنا لم نعرف لها معنى ـ يقينا ـ سابقا تركته إلى المعنى الجديد.

الثانية : أن العصور المتأخرة عن عصور الاستشهاد غير محتاجة إلى التضمين لاستغنائها عنه بالمجاز وأنواعه المختلفة التى تتسع لكثير من الأغراض والمعانى الدقيقة البليغة.


بحث نفيس لابن جنى (١) ، عنوانه :

«باب فى اللغة المأخوذة قياسا»

هذا موضع كأن فى ظاهره تعجرفا ، وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة فضلا عن صدور الأشياخ ، وهو أكثر من أن أحصيه فى هذا الموضع لك ، لكنى أنبهك على كثير من ذلك ، لتكثر التعجب ممن تعجب منه ، أو يستبعد الأخذ به.

وذلك أنك لا تجد مختصرا من العربية إلا وهذا المعنى منه فى عدة مواضع ، ألا ترى أنهم يقولون فى وصايا الجمع : إن ما كان من الكلام على فعل فتكسيره على : أفعل ؛ ككلب وأكلب ، وكعب وأكعب ، وفرخ وأفرخ ... ، وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثى فتكسيره فى القلة على أفعال : نحو جبل وأجبال ، وعنق وأعناق ، وإبل وآبال ، وعجز وأعجاز ، وربع وأرباع ، وضلع وأضلاع ، وكبد وأكباد ، وقفل وأقفال ، وحمل وأحمال و... ؛ فليت شعرى هل قالوا هذا ليعرف وحده ، أو ليعرف هو ويقاس عليه غيره؟ ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة ، بل سمعته منفردا أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسّر عليه نظيره؟ لا ، بل كنت تحمله عليه للوصية التى تقدمت لك فى بابه ، وذلك كأن يحتاج إلى تكسير : «الرّجز» الذى هو العذاب ، فكنت قائلا ـ لا محالة ـ «أرجاز» ؛ قياسا على : «أحمال». وإن لم تسمع «أرجازا» فى هذا المعنى. وكذلك لو احتجت إلى تفسير عجر ، من قولهم : «وظيف عجر (٢)» لقلت : «أعجار» ؛ قياسا على يقظ (٣) وأيقاظ ، وإن لم تسمع «أعجارا». وكذلك لو احتجت إلى تكسير : «شيع» ، بأن توقعه على

__________________

(١) من كتابه : «الخصائص» ـ ج ١ ص ٤٣٩.

(٢) الوظيف : الجزء الدقيق من ساق الإبل والخيل ، وغيرها. والعجر هنا : الصلب.

(٣) جاء فى القاموس : اليقظة ـ محركة ـ نقيض النوم. وقد يقظ ـ مثل : كرم ، وفرح ـ يقاظة ، ويقظا محركة. وقد استيقظ ... ورجل يقظ ـ على وزن : ندس ، وكتف ـ والندّس : بفتح النون ، مع سكون الدال ، أوضمها ، أو كسرها ـ الرجل السريع الاستماع للصوت الخفى.


النوع ، لقلت «أشياع» ، وإن لم تسمع ذلك ، لكنك سمعت : «نطع وأنطاع» ، و «ضلع وأضلاع» ، وكذلك لو احتجت إلى تكسير : «دمثر (١)» لقلت : «دماثر» ؛ قياسا على : «سبطر وسباطر».

وكذلك قولهم : إن كان الماضى على «فعل» فالمضارع منه على يفعل : فلو أنك على هذا سمعت ماضيا على فعل ، لقلت فى مضارعه يفعل ، وإن لم تسمع ذلك ، كأن يسمع سامع ضؤل ، ولا يسمع مضارعه ؛ فإنه يقول فيه يضؤل ، وإن لم يسمع ذلك ، ولا يحتاج أن يتوقف إلى أن يسمعه ، لأنه لو كان محتاجا إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التى وضعها المتقدمون وعمل بها المتأخرون معنى يفاد ، ولا غرض ينتحيه الاعتماد ، ولكان القوم قد جاءوا بجميع المواضى والمضارعات ، وأسماء الفاعلين ، والمفعولين ، والمصادر ، وأسماء الأزمنة ، والأمكنة ، والأحادىّ والثنائى ، والجموع والتكابير ، والتصاغير (٢) ، ولما أقنعهم أن يقولوا : إذا كان الماضى كذا وجب أن يكون المضارع كذا ، واسم فاعله كذا ، واسم مفعوله كذا ، واسم مكانه كذا ، واسم زمانه كذا ؛ ولا قالوا : إذا كان المكبر كذا فتصغيره كذا ، وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا ـ دون أن يستوفوا كل شىء من ذلك ، فيوردوه لفظا منصوصا معينا ، لا مقيسا ولا مستنبطا كغيره من اللغة ؛ التى لا تؤخذ قياسا ولا تنبيها ؛ نحو : دار ، وباب ، وبستان ، وحجر ، وضبع ، وثعلب ، وخزز ، لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه ضربين : أحدهما ما لا بد من تقبله كهيئته لا بوصية فيه ، ولا تنبيه عليه ؛ نحو : حجر ، ودار ، وما تقدم ؛ ومنه ما وجدوه يتدارك بالقياس ، وتخف الكلفة فى علمه على الناس ، فقننوه وفصلوه ، إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب ، المغنى عن المذهب الحزن (٣) البعيد. وعلى ذلك قدم الناس فى أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات ، ثم أتبعوه ما لا بد له من السماع والروايات ، فقالوا : المقصور من حاله كذا ، ومن صفته كذا ؛ والممدود من أمره كذا ، ومن سببه كذا. وقالوا :

__________________

(١) الجمل الكثير اللحم.

(٢) أى : كان واجبا عليهم أن ينصوا على كل كلمة من هذه الجزئيات إذا كانت القواعد لا تغنى ـ كما قد يتوهم بعض الغافلين ـ.

(٣) الصلب الصعب من الأرض ؛ كالحجارة والصخور.


ومن المؤنث الذى فيه علامات التأنيث كذا ، وأوصافه كذا ، ثم لما أنجزوا ذلك قالوا : ومن المؤنث الذى روى رواية كذا وكذا ، فهذا من الوضوح على مالا خفاء به.

فلما رأى القوم كثيرا من اللغة مقيسا منقادا وسموه بمواسمه ، وغنوا بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز ، ثم لما تجاوزوا ذلك إلى ما لا بد من إيراده ، ونص ألفاظه التزموا وألزموا كلفته ؛ إذ لم يجدوا منها بدّا ، ولا عنها مصرفا.

ومعاذ الله أن ندعى أن جميع اللغة تستدرك بالأدلة وقياسا ، لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا به ، ونبهنا عليه ، كما فعله من قبلنا ، ممن نحن له متبعون ، وعلى مثله وأوضاعه حاذون. فأما هجنة الطبع ، وكدورة الفكر ، وجمود النفس ، وخيس (١) الخاطر ، وضيق المضطرب ، فنحمد الله على أن حماناه ، ونسأله سبحانه أن يبارك لنا فيما آتاناه ، ويستعملنا به فيما يدنى منه ، ويوجب الزلفة لديه ، بمنه) اه.

* * *

هذا البحث النفيس لابن جنّى يذكرنا بما له من آراء جليلة أخرى ، يتصل منها بموضوعنا قوله (٢) :

(حكى لنا أبو على عن ابن الأعرابى ، أظنه قال : يقال : درهمت الخبّازى ، أى : صارت كالدّرهم ، فاشتق من الدرهم ، وهو اسم أعجمى. وحكى أبو زيد : رجل مدرهم ، ولم يقولوا منه «درهم» إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل فى الكفّ (٣) ، ولهذا أشباه ...» اه.

ثم قال بعد ذلك (٤) :

__________________

(١) الخيس : الخطأ ، أو الضلال.

(٢) فى كتابه : «الخصائص» ـ ج ١ ص ٣٦٢ ـ باب : «أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب».

(٣) يريد : أنه ميسور ، كأنه فى يد من يريده ، لا يتعب فى البحث عنه ، ولا فى معرفة أنه مسموع ، أو غير مسموع ، بل يستعمله من غير تردد ولا رجوع إلى مراجع لغوية.

(٤) فى ص ٣٦٧ من الفصل نفسه.


«ليس كل ما يجوز فى القياس يخرج به سماع ؛ فإذا حذا إنسان على مثلهم ، وأمّ مذهبهم ، لم يجب أن يورد فى ذلك سماعا ، ولا أن يرويه رواية ...».

وكذلك قوله (١) : «إذا ثبت أمر المصدر الذى هو الأصل لم يتخالج شك فى الفعل الذى هو الفرع. قال لى أبو علىّ بالشام : إذا صحت الصفة فالفعل فى الكف. وإذا كان هذا حكم الصفة كان فى المصدر أجدر ؛ لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة ؛ ألا ترى أن فى الصفة نحو : مررت بإبل مائة ، وبرجل أبى عشرة أهلة ...». اه.

__________________

(١) ج ص ١٢٧ باب : «تعارض السماع والقياس» ...

النّحو الوافي - ٢

المؤلف:
الصفحات: 557