الفصل السابع :

تغسيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله



إبليس يغريهم بترك تغسيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان بن عثمان ، عن الحارث بن يعلى بن مرة ، عن أبيه ، عن جده قال : قبض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فستر بثوب ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خلف الثوب ، وعلي «عليه‌السلام» عند طرف ثوبه وقد وضع خديه على راحته ، والريح يضرب طرف الثوب على وجه علي «عليه‌السلام» ، قال : والناس على الباب وفي المسجد ينتحبون ويبكون ، وإذا سمعنا صوتا في البيت : إن نبيكم طاهر مطهر ، فادفنوه ولا تغسلوه.

قال : فرأيت عليا «عليه‌السلام» حين رفع رأسه فزعا ، فقال : اخسأ عدو الله ، فإنه أمرني بغسله ، وكفنه ودفنه ، وذاك سنّة.

قال : ثم نادى مناد آخر غير تلك النغمة : يا علي بن أبي طالب ، استر عورة نبيك ، ولا تنزع القميص (١).

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٤١ و ٥٤٢ وتهذيب الأحكام ج ١ ص ١٣٢ و (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج ١ ص ٤٦٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٥٣ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢ ص ٤٦٨ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٦٧٢.


ونقول :

من الواضح أن إبليس لعنه الله إنما يريد إلقاء الشبهة في قلوب ضعفاء العقل والإيمان ، وقاصري المعرفة بالدين وأحكامه. فلعلّ الأمور تنتهي إلى الإختلاف بين المسلمين ، حتى لو أصر علي «عليه‌السلام» على تغسيله ، حيث سيكون هناك من يتهمه بأن هذا مجرد اجتهاد منه ، ولعله قد أخطأ فيه ، ولا سيما إذا لم يستطع أولئك الناس أن يفرقوا بين الملك والشيطان ، فيظنون أن الذي كلمهم ملك.

ولكن وصية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي ، قد مكنت عليا «عليه‌السلام» من إزالة الشبهة ، وإبعاد وسوسات الشيطان عنهم بأهون سبيل ..

تغسيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال ابن إسحاق : فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم الثلاثاء.

وروى ابن سعد عن علي ، وأبو داود ومسدد ، وأبو نعيم وابن حبان ، والحاكم والبيهقي ، وصححه الذهبي ، عن عائشة قالت : لما أرادوا غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اختلفوا فيه ، فقالوا : والله ما ندري كيف نصنع ، أنجرد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثيابه كما نجرد موتانا؟ أم نغسله وعليه وثيابه؟

فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم ، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعليه ثيابه.


فقاموا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعليه قميصه ، فغسلوه يفاض عليه الماء والسدر فوق القميص ، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم [فكانت عائشة تقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، ما غسله إلا نساؤه] (١).

وعن علي «عليه‌السلام» قال : لما أخذنا في جهاز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أغلقنا الباب دون الناس جميعا ، فنادت الأنصار : نحن أخواله ، ومكاننا من الإسلام مكاننا.

ونادت قريش : نحن عصبته.

فصاح أبو بكر : يا معشر المسلمين ، كل قوم أحق بجنازتهم من غيرهم ، فننشدكم الله ، فإنكم إن دخلتم أخرتموهم عنه ، والله لا يدخل عليه إلا من دعي (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢١ و ٣٢٢ عن أبي داود ج ٢ ص ٢١٤ وقال في هامشه : أخرجه الحاكم ج ٣ ص ٥٩ والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٤٢ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٦٧ وعون المعبود ج ٨ ص ٢٨٨ وكتاب الهواتف لابن أبي الدنيا ص ٢١ والمنتقى من السنن المسندة ص ١٣٦ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٤ ص ٤٠١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥١٧ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٦٩ وسبل السلام ج ٢ ص ٩٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٤٣٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢١ وقال في هامشه : أخرجه ابن سعد في الطبقات ج ٢ ص ٢١٣ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٧٨ وراجع : إمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٠ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٢٧.


وعن ابن عباس قال : اجتمع القوم لغسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وليس في البيت إلا أهله : عمه العباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، والفضل بن عباس ، وقثم بن عباس ، وأسامة بن زيد بن حارثة ، وصالح مولاه.

فلما اجتمعوا لغسله ، نادى مناد من وراء الناس ، وهو أوس بن خولي الأنصاري ، أحد بني عوف بن الخزرج ، وكان بدريا على علي بن أبي طالب ، فقال : يا علي ، ننشدك الله وحظنا من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال له علي «عليه‌السلام» : ادخل ، فدخل فحضر غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يل من غسله شيئا ، فأسنده علي إلى صدره ، وعليه قميصه ، وكان العباس ، والفضل ، وقثم يقلبونه مع علي ، وكان أسامة بن زيد ، وصالح مولاه يصبان الماء ، وجعل علي يغسله ، ولم ير من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شيئا مما يرى من الميت ، وهو يقول : بأبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا ، حتى إذا فرغوا من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكان يغسل بالماء والسدر جففوه ، ثم صنع به ما يصنع بالميت (١).

ونقول :

إن لنا على هذه النصوص ملاحظات عديدة ، نذكر منها ما يلي :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٤ عن أحمد ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨١ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٦٠ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٣ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٣٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥١٨ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٧٠٢.


متى أقبل الناس على جهاز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! :

إن ما زعمه ابن إسحاق ، من أن الناس أقبلوا على جهاز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد بيعة أبي بكر ، لا يصح للأسباب التالية :

أولا : ما روي من أن عليا «عليه‌السلام» قد جهز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وانتهى من دفنه قبل أن ينتهي أهل السقيفة من سقيفتهم ، وقال «عليه‌السلام» بعد انتهائه من إهالة التراب عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد اتكأ على مسحاته وسأل عن خبر أهل السقيفة ..

ثانيا : قد ذكرنا أن الأقوال حول وقت دفنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مختلفة ، ومن جملتها : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دفن ليلة الثلاثاء ، أو يوم الثلاثاء ، أو يوم الأربعاء ، ولا يتوافق أكثرها مع دعوى ابن إسحاق هذه ، من أن الناس بعد البيعة لأبي بكر قد أقبلوا على جهاز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأن السقيفة وإن كانت قد انتهت يوم الإثنين ، لكن البيعة العامة قد بدأت يوم الثلاثاء ، واستمرت عدة أيام.

ثالثا : لو سلمنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دفن يوم الأربعاء ، فالسؤال هو : إذا كان الناس قد بدأوا بتجهيزه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم الثلاثاء ، فلما ذا لم يدفن إلا في يوم الأربعاء؟! فإن تجهيزه ودفنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يحتاج إلى أكثر من ساعتين على أبعد تقدير!!

رابعا : إن عليا «عليه‌السلام» وبني هاشم لم يحضروا اجتماع السقيفة يوم الإثنين ، لأنهم كانوا مشغولين بجهاز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد صرحت رواياتهم : بأن الصحابة بمن فيهم المهاجرون والأنصار قد تركوا أمر تجهيز النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أهله ، فما معنى قولهم : «إن


الناس أقبلوا على جهازه يوم الثلاثاء»؟!

موقف عائشة من غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ولا ندري ما الذي دعا عائشة إلى الندم على عدم تصدي نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لغسله ، فهل وجدت عليا «عليه‌السلام» قد قصر في القيام بما يجب عليه في تغسيل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

أم أنها ندمت على فوات هذه الفضيلة منها ، واختصاص علي «عليه‌السلام» بهذا الفضل دونها؟!

أم أنها ترى نفسها أقرب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ابنته «عليها‌السلام» ، فتريد أن تستبدّ برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دونها؟!

وإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أوصى عليا «عليه‌السلام» بأن يتولى تغسيله ، فهل تستطيع هي أن تبطل هذه الوصية ، وتمنع من تنفيذها؟! وهل يرضى الصحابة منها بذلك؟!

أوس بن خولي شارك في الدفن لا في التغسيل :

وقد زعمت الرواية أيضا : أن عليا «عليه‌السلام» قد أدخل أوس بن خولي الأنصاري ، فحضر ، ولم يشارك في غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وكأن ثمة تعمدا من هؤلاء الرواة للإيحاء بأن دخول أوس قد كان بلا فائدة ولا عائدة ، مع أنه سيأتي : أنه شارك في حمل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى قبره ، ثم تناوله منه علي «عليه‌السلام» ..

بل يظهر من تلك الرواية : أن الأنصار إنما طلبوا المشاركة في دفن النبي


«صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا في تغسيله ..

ونحسب أن سبب تعمد هذا التضعيف لدور الأنصار : أن أحدا من المهاجرين الذين حضروا السقيفة ، واستأثروا بالأمر لم يكن له نصيب في شرف المشاركة في شيء من مراسم تجهيز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ودفنه ، فلم تطب أنفس محبي هؤلاء بالجهر بفوز أوس بن خولي الأنصاري بهذا الشرف دونهم ..

تجريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للغسل :

ولا مجال لقبول ما ذكرته عائشة من اختلاف الصحابة في تجريد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للغسل وعدمه.

فإنه لا مجال للاختلاف في ذلك بين أحد من الناس ، ما دام أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كلف خصوص علي «عليه‌السلام» بأن يغسله ، وهو «عليه‌السلام» لم يكن جاهلا بهذا الأمر ليحتاج إلى رأي غيره فيسألهم عنه ، ليقع الاختلاف بينه وبينهم.

مع العلم بأن الله قد أكمل دينه ، وأبلغ جميع الأحكام .. فلا مجال للحيرة ، والاختلاف ..

إلا إذا فرض أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أبلغ هذا الحكم لشخص بعينه ، وهو من سيقوم بهذه المهمة بوصية منه ، وهو خصوص علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، حيث لا بد أن يعرّفه بهذا الحكم الشرعي المتبقي من الشريعة ، لكي يطبقه على مورده.

ولا يعقل أن يتكتّم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على ما هو جزء من الشريعة ،


وقد حضر وقت العمل به ، لأن موته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سيبقي هذا الحكم مجهولا ، وتبقى الشريعة ناقصة ، وسوف لا ينزل جبرئيل على أحد بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وفي هذه الصورة يكفي أن يخبرهم علي بما عهد له به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا تبقى حاجة ولا مجال لرأي أبي بكر ، أو غيره ..

أما افتراض أن يكون تبليغ هذا الحكم من متكلم مجهول ، يسمعون صوته ، ولا يرون شخصه ، فهو لا يدفع الإشكال ، بل هو يؤكده ويقويه ، إذ لعل المتكلم المجهول كان شيطانا أيضا. لا سيما مع ما سمعناه آنفا عن إبليس ، حيث طلب منهم أن يدفنوا نبيهم من دون غسل أصلا ..

ولو لا أن عليا «عليه‌السلام» أعلمهم أن هذا صوت إبليس ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أوصاه بتغسيله لأطاعوا إبليس فيما دعاهم إليه ولو لزعمهم أنهم حسبوه ملكا!! ..

وإذا كان جبرئيل قد أمرهم حين غسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن لا يجردوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قميصه.

فقد يكون لأجل أن بعض الناس قد حاول الطعن بصحة فعل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فدافع جبرئيل عنه ، وصوّب فعله ، وقطع الطريق أمام عبث العابثين ، وكيد الخائنين.

على أن هذا النوم المفاجئ حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ، وسائر ما ذكرته عائشة ، لم يكن أمرا عاديا ، بل هو معجزة ظاهرة ، وكرامة باهرة ، وهي مما تتوفر الدواعي على نقله ، فلما ذا لم ينقله لنا أحد من الصحابة سوى عائشة؟!! مع أن المفروض : أن تكون عائشة في معزل عن هذا الأمر ،


مراعية لحجابها ، مع سائر نسائه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أبو بكر : كل قوم أحق بجنازتهم :

وعن نداء الأنصار : نحن أخواله ، ونداء قريش : نحن عصبته ، وتدخّل أبي بكر لحسم الأمر .. نقول :

إنه أيضا موضع شك وريب.

أولا : لأن المفروض : أن أبا بكر ، وعمر ، وأبا عبيدة وغيرهم من المهاجرين ، وكذلك سعد بن عبادة ، وأسيد بن حضير ، والحباب بن المنذر وغيرهم من الأنصار ، كانوا حين تجهيز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سقيفة بني ساعدة ، فما معنى قول الرواية : إن أبا بكر قد كلّم المهاجرين والأنصار بالكف عن المطالبة بالمشاركة في تجهيز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وأما إشراك أوس بن خولي الأنصاري ، ومطالبة الأنصار بالمشاركة فإنما كان حين وضع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما سنشير إليه في موضعه إن شاء الله تعالى.

ثانيا : إن أبا بكر وعمر قد اعترضا على علي «عليه‌السلام» بأنه لم يشهدهما أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فردّ عليهما بأن السبب في ذلك : أنه لم يرد أن يعرضهما للخطر ، لأنه ما من أحد يرى عورة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ والمراد ما يواريه قميصه ـ إلا ذهب بصره (١).

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٣٢٨ والخصال ج ٢ ص ١٧٧ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص ٦٤٨ والبحار ج ٢٢ ص ٤٦٤ وج ٤٠ ص ١٤٠ عنهما وعن الإحتجاج.


وقد حاول بعض الإخوة أن يصر على إرادة الصورة الحقيقية ، وأن المراد هو رؤيتها اتفاقا ، فإنه يوجب العمى إلا إن كان الرائي هو علي «عليه‌السلام» وقال : لو كان المراد بالعورة ما يواريه القميص لرخص عليا «عليه‌السلام» بأن يغسله مع التجريد من القميص مع ستر العورة ويؤيد ذلك : أن الرواية الآتية عن الإمام الكاظم تقول :

إن عليا «عليه‌السلام» أراد تجريد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قميصه ، فدل ذلك على أن حكم التجريد شيء ، وحكم رؤية العورة شيء آخر وسيأتي أن رواية عدم تجريد الميت من قميصه للغسل تدل على أن ذلك ليس من مختصات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع أن ظاهر الروايات الناهية عن تغسيل غير علي له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معااة بأن ما رأى أحد عورته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا عمي ، ظاهرها خصوصية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ونقول : إن ما ذكره هذا الأخ الكريم لا مجال لقبوله ، فإن عليا «عليه‌السلام» لا بد أن يبالغ في الإحتيلط في الستر ولن يسمح بأن تصبح عورة رسول الله في معرض رؤية أحد ، لا هو ولا غيره ، لا عمدا ولا اتفاقا .. ونهي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا عن تجريده من قميصه مع أنه يجوز لعلي «عليه‌السلام» أن يغسله مجردا منه إنما هو لإعلام الآخرين بخصوصية علي والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا الحكم الخاص ولعل رواية الإمام الكاظم «عليه‌السلام» الآتية تدل إلزامية هذا الحكم فلا مجال لإدعاء استحبابية هذا الحكم وبذلك يظهر الفرق بين النبي وبين غيره في هذا الحكم ، فإن تغسيل النبي في قميصه لازم ، وتغسيل غيره كذلك مندوب.


أمور أخرى تضمنتها الرواية :

وقد تضمنت الرواية المتقدمة أمورا أخرى ، لا مجال لقبولها أيضا ، وستأتي الإشارة إلى ما يبطلها ، ومن ذلك :

ألف : الإقتصار في حديث التغسيل على ذكر الماء والسدر ، من دون إشارة إلى الكافور ، مع أنهم يعتبرون أن الكافور مطلوب في تغسيل الميت.

ب : عد أسامة بن زيد ، وصالح مولاه من أهل بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وليس الأمر كذلك ، وإلا للزم عدّ غير هما من مواليه أيضا في جملة أهل بيته.

ج : حديث إسناد علي «عليه‌السلام» النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى صدره يكذب ما ادّعوه من أن الفضل بن العباس أخذ بحضن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعلي «عليه‌السلام» يغسله ..

د : حديث أن العباس والفضل وقثما كانوا يقلبون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ينافي حديث أنهم كانوا يناولون عليا «عليه‌السلام» الماء ، أو كان أحدهم يأخذ بالثوب ليظلل به ، أو أن أحدهم كان قاعدا ، وأن الملائكة هي التي كانت تقلبه لعلي «عليه‌السلام» .. أو نحو ذلك مما ورد في الروايات.

ه : حديث أن أسامة وصالحا كانا يصبان الماء أيضا ينافي سائر الروايات كما سنرى ..

علي عليه‌السلام يغسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده :

وقد ادّعوا : أن العباس وولديه الفضل وقثما كانوا يساعدون عليا «عليه


السلام» في تغسيل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وكان أسامة بن زيد وشقران يصبان الماء (٢).

وفي نص آخر ذكر بدل شقران صالح مولاهما ، أي مولى علي «عليه‌السلام» وأسامة (٣).

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ ص ٢٦٠ والثقات لابن حبان (ط حيدرآباد) ج ٢ ص ١٥٨ والرياض النضرة (ط الخانجي بمصر) ج ٢ ص ١٧٩ وشفاء الغرام (ط دار إحياء الكتب العربية) ج ٢ ص ٣٨٦ ومختصر سيرة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعبد الله بن عبد الله الحنبلي (ط المطبعة السلفية بالقاهرة) ص ٤٧٠ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٧٠٢ و ٧٠٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨١ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٦٩٨.

(٢) راجع المصادر في الهامش السابق. وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٨٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥١ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٦٣ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧١ وعيون الأثر ج ٢ ص ٤٣٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٧٠٣ وج ١٨ ص ١٩٢ وج ٢٣ ص ٥٠٦ و ٥٠٨ وتنقيح التحقيق في أحاديث التعليق للذهبي ج ١ ص ٣٠١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٦ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧٥.

(٣) مسند أحمد ج ١ ص ٢٦٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٦٩٨ وتلخيص الحبير ج ٥ ص ١١٦ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨١ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٤ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧٥.


ونص أيضا ذكر : «أسامة بن زيد وقثم» (١).

وفي نص آخر : «أسامة بن زيد ، وأوس بن خولة» (٢).

وفي نص آخر أيضا : «والفضل وقثم وأسامة وصالح يصبون عليه» (٣).

وفي نص آخر : «والعباس يصب الماء» (٤).

وفي نص : «غسله على والعباس والفضل بن العباس وصالح مولى رسول الله» (٥).

ونص آخر يقول : «غسله علي والعباس ، وابناه : الفضل وقثم» (٦).

__________________

(١) التمهيد لابن عبد البر ج ٢٤ ص ٤٠٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٦٦.

(٢) شرح مسند أبي حنيفة ص ٣٠٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢٣ ص ٥٠٨.

(٣) أسد الغابة ج ١ ص ٣٤.

(٤) السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧٥ وتلخيص الحبير ج ٥ ص ١١٦ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٦٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٥ وعون المعبود ج ٨ ص ٢٨٨ والمصنف للصنعاني ج ٣ ص ٣٩٧ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٥٩ و ٢٧٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٠ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٨٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٦٩٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٦٧.

(٥) بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني ج ١ ص ٣٠١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٧٨.

(٦) الأنس الجليل (ط القاهرة) ص ١٩٤ وراجع : فقه الرضا ص ٢٠ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٠٠ والوافي بالوفيات ج ١ ص ٦٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢٣ ص ٥٠٨ و ٥٠٩.


وراوية أخرى تقول : «كان العباس وأسامة يناولان عليا الماء من وراء الستر» (١).

وقال في رواية أخرى : «فغسله علي «عليه‌السلام» ، يدخل يده تحت القميص ، والفضل يمسك الثوب عنه ، والأنصاري يدخل الماء» (٢).

ونقول :

إن ذلك كله موضع شك وريب ، وذلك لما يلي :

١ ـ روي عن الإمام الكاظم «عليه‌السلام» أنه قال : قال علي «عليه‌السلام» : غسلت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنا وحدي وهو في قميصه ، فذهبت أنزع عنه القميص ، فقال جبرئيل : يا علي ، لا تجرد أخاك

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦١ عن البيهقي ، ومسند البزار ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٢ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٣٤٣ وج ١٤ ص ٥٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٤ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٧ ص ٣٠ وج ١٨ ص ١٩٢ وج ٢٣ ص ٥١١.

(٢) حياة الصحابة (ط دار القلم بدمشق) ج ٢ ص ٦٠٣ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ١٨ ص ١٨٧ و ١٨٨ عن المعجم الكبير ، ومناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه‌السلام» للكوفي ج ٢ ص ٨ ونهج السعادة للمحمودي ج ١ ص ٣٦ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ١٩٦ والمعجم الكبير ج ١ ص ٢٣٠ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٥٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٨٠ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٢.


من قميصه فإن الله لم يجرده ، فغسله في قميصه (١).

٢ ـ وفي حديث المناشدة : هل فيكم أحد غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غيري؟

قالوا : اللهم لا.

قال : هل فيكم أحد أقرب عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مني.

قالوا : اللهم لا.

قال فأنشدكم الله : هل فيكم أحد نزل في حفرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غيري؟!

قالوا : اللهم لا (٢).

٣ ـ روي عن علي «عليه‌السلام» قوله : «إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أوصى إليّ وقال : يا علي ، لا يلي غسلي غيرك ، أو لا يواري عورتي غيرك ، فإنه إن رأى أحد عورتي غيرك تفقأت عيناه ..

فقلت له : كيف؟ فكيف لي بتقليبك يا رسول الله.

فقال : إنك ستعان.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٩٨ والبحار ج ٢٢ ص ٥٤٤ و ٥٤٦ وج ٧٨ ص ٣٠٥ عن أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٧ و ٨ وعن الطرائف ص ٤٤ و ٤٥ و ٤٨ وراجع : شرح الأخبار ج ٢ ص ٤١٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٥٥ ومستند الشيعة للنراقي ج ٣ ص ١٥٠.

(٢) الأمالي للشيخ الطوسي ص ٧ و ٨ و (ط دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع ـ قم) ص ٥٥٥ والبحار ج ٢٢ ص ٥٤٤ وج ٣١ ص ٣٦٨ عنه ، وكتاب الولاية لابن عقدة ص ١٦٥.


فو الله ما أردت أن أقلب عضوا من أعضائه إلا قلب لي (١).

٤ ـ وعن علي «عليه‌السلام» : «أوصاني النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يغسله غيري ، فإنه لا يرى عورتي إلا طمست عيناه» (٢).

__________________

(١) البحار ج ٣١ ص ٤٣٤ وراجع ج ٢٢ ص ٥٠٦ والخصال ج ٢ ص ٥٧٣ و ٥٧٤ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للمير جهاني ج ٣ ص ١٦٧.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٥ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ٧ ص ٢٩ ـ ٣٢ عن الشفاء لعياض (ط العثمانية بإسلامبول) ج ١ ص ٥٤ ونهاية الإرب ج ١٨ ص ٣٨٩ وميزان الإعتدال (ط القاهرة) ج ١ ص ٣٥٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦١ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٥ ص ٢٨٢ عن البيهقي ومسند البزار ، وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٥ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧٦ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٤ وأخبار الدول (ط بغداد) ص ٩٠ وكنز العمال (ط الهند) ج ٧ ص ١٧٦ و (ط مؤسسة الرسالة) ج ٧ ص ٢٥٠ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦ والضعفاء للعقيلي ج ٤ ص ١٣ والخصائص للسيوطي (ط الهند) ج ٢ ص ٢٧٦ وعن المواهب اللدنية (ط بولاق) ص ٣١١ وشرح مسند أبي حنيفة ص ٣٠٦ وميزان الاعتدال للذهبي ج ٣ ص ٤١٧ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ٦٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٧٨ وينابيع المودة (ط إسلامبول) ص ١٧ ومشارق الأنوار للحمزاوي (ط الشرقية بمصر) ص ٦٥ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٢ عن ابن سعد ، والبزار ، والبيهقي ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٧٠ عن مغلطاي ، والشفاء لعياض ، وشامل الأصل والفرع للأباضي الجزائري ص ٢٧٨ والإتحاف للزبيدي ج ١٠ ص ٣٠٣ والأنوار المحمدية للنبهاني (ط الأدبية ببيروت) ص ٥٩١ وفقه الرضا ص ١٨٨ والبحار ج ٢٢ ص ٥٢٤ عن الإبانة لابن بطة ، وحواشي الشرواني ج ٣ ص ١٠٠.


٥ ـ وحينما اعترض أبو بكر وعمر على أمير المؤمنين «عليه‌السلام» بأنه لم يشهد هما أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رد عليهما بقوله : «أما ما ذكرتما أني لم أشهدكما أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فإنه قال : لا يرى عورتي أحد غيرك إلا ذهب بصره» فلم أكن لأؤذيكما به.

وأما كبي عليه فإنه علمني ألف حرف ، كل حرف يفتح ألف حرف ، فلم أكن لأطلعكما على سر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

٦ ـ روي عن ابن عباس ، وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن العباس لم يحضر غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : لأني كنت أراه يستحي أن أراه حاسرا (٢).

٧ ـ عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : يا علي ، تغسلني ، ولا يغسلني غيرك ، فيعمى بصره.

قال علي «عليه‌السلام» : ولم يا رسول الله؟.

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كذلك قال جبرئيل عن ربي : إنه لا يرى عورتي غيرك إلا عمي بصره.

إلى أن تقول الرواية : قلت : فمن يناولني الماء؟

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : الفضل بن العباس ، من غير أن ينظر إلى

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٣٢٨ والبحار ج ٢٢ ص ٤٦٤ و ٥٠٦ وج ٤٠ ص ١٤٠ والخصال ج ٢ ص ١٧٧ وعن الإحتجاج.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٣ عن ابن سعد ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٧٩ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٣٦ وج ١٤ ص ٥٦٦ و ٥٧١ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٧١.


شيء مني ، فإنه لا يحل له ولا لغيره من الرجال والنساء النظر إلى عورتي ، وهي حرام عليهم.

إلى أن قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : وأحضر معك فاطمة ، والحسن والحسين «عليهم‌السلام» ، من غير أن ينظروا إلى شيء من عورتي (١).

٨ ـ قد ذكرت الروايات : أنه لما أراد «عليه‌السلام» غسله استدعى الفضل بن عباس ، فأمره أن يناوله الماء بعد أن عصب عينيه (٢) إشفاقا عليه من العمى.

٩ ـ وفي نص آخر : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعلي «عليه‌السلام» : «جبرئيل معك يعاونك ، ويناولك الفضل الماء. وقل له : فليغطّ عينيه ، فإنه لا يرى أحد عورتي غيرك ، إلا انفقأت عيناه» (٣).

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٤٩٢ و ٤٩٣ وج ٧٨ ص ٣٠٤ عن الطرائف لابن طاووس ص ٤٢ وعن مصباح الأنوار ص ٢٧٠ وراجع : الصراط المستقيم ج ٢ ص ٩٤.

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٦٦ و ٢٠٠ وإعلام الورى ص ١٣٧ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٦٩ والبحار ج ٢٢ ص ١٨ و ٥٢٩ وج ٧٨ ص ٣٠٧ وعن الإرشاد للمفيد ص ٥٢٤ و ٥٢٩ و (ط دار المفيد) ج ١ ص ١٨٧ وعن المناقب لابن شهرآشوب ص ٢٠٣ ـ ٢٠٦ وعن إعلام الورى ص ١٤٣ و ١٤٤ ودعائم الإسلام ج ١ ص ٢٢٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٥٥ و ١٨١.

(٣) البحار ج ٢٢ ص ٥١٧ و ٥٣٦ و ٥٤٤ وراجع ص ٥٠٦ وج ٧٨ ص ٣٠٢ وفقه الرضا ص ٢٠ و ٢١ و (بتحقيق مؤسسة آل البيت) ١٨٨ والأمالي للشيخ الطوسي ج ٢ ص ٧ و ٨ و (نشر دار الثقافة ـ قم) ص ٦٦٠ وكفاية الأثر ص ٣٠٤ و (ط سنة ١٤٠١ ه‍) ص ١٢٥ وراجع : شرح الأخبار ج ٢ ص ٤١٩.


فاتضح مما تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد غسّل في قميصه ، وأن عليا «عليه‌السلام» قد عصب عيني الفضل بن العباس. وأن عليا «عليه‌السلام» هو الذي غسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من وراء الثياب. وأنه لم ير عورة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

واتضح أيضا : أن ما زعموه من أن العباس وابنيه كانوا يساعدون عليا «عليه‌السلام» في تقليب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غير ظاهر ، ولا سيما مع وجود روايات تقول : إن الملائكة هي التي كانت تساعد عليا «عليه‌السلام» على تغسيله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتقلّبه له.

يضاف إلى ذلك : اختلاف الروايات في المهمات التي أو كلت إلى هؤلاء الأشخاص ، فهل كان الفضل يساعد عليا «عليه‌السلام» في تقليب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

أم أنه كان يناوله الماء من وراء الستر وهو معصوب العينين؟

أم أنه كان يمسك الثوب عنه؟

وهل شارك العباس في تغسيله؟

أم في صب الماء؟

وهل كان أسامة يصب الماء؟

أم كان يناوله عليا «عليه‌السلام»؟

المقصود برؤية عورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد ذكرت بعض الروايات : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : لا يحل لمسلم أن يرى عورتي إلا علي «عليه‌السلام» ، أو نحو ذلك.


وليس المقصود بالعورة معناها المعروف.

بل المقصود بالعورة التي يجوز لعلي «عليه‌السلام» أن يراها منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، هو ما يواريه القميص من جسد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو الذي صرح العباس بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يستحي أن يراه حاسرا عنه.

وهذا كله يعطينا : أن عصب عيني الفضل ـ مع كون التغسيل مع وجود القميص ـ إنما هو لكي لا يرى شيئا من جسد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مما لم يكن كشفه مألوفا ، فإن هذا المقدار أيضا لا يجوز أن يراه أحد ، ولا بد أن يبقى مخفيا ، لأن حكمه حكم العورة من جهة حرمة رؤيته ، كما أن رؤيته توجب إصابة الرائي بالعمى ..

ولكن كان يجوز لعلي «عليه‌السلام» أن يرى هذا المقدار .. لأن ذلك من خصائص النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعلي «عليه‌السلام» : أن لا ينظر أحد إلى بدن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غير علي ، ولذلك لم يعصب علي «عليه‌السلام» عينيه عنه.

أما العورة الحقيقية نفسها ، فلم يرها علي «عليه‌السلام» ، لأن رؤيتها محرمة عليه وعلى غيره. ويشهد على ما ذكرناه أن عليا «عليه‌السلام» قد غسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قميصه.

تغسيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قميصه :

قد ورد في الروايات ما يدل على أنه لا يحل لأحد رؤية جسد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا علي «عليه‌السلام» ، وذلك مثل :


ألف : عن جابر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : لا يحل لرجل أن يرى مجردي إلا علي (١).

ب : عن السائب بن يزيد أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : لا يحل لمسلم يرى مجردي (أو عورتي) إلا علي (٢).

ج : وفي نص آخر : فكان العباس وأسامة يناولان الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين ، قال علي : فما تناولت عضوا إلا كأنما يقلّبه معي ثلاثون رجلا ، حتى فرغت من غسله (٣).

فلا بد أن يراد بهذه الروايات وأمثالها .. ما ينسجم مع روايات تغسيله

__________________

(١) مناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ٩٤ والعمدة لابن البطريق ص ٢٩٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٧ ص ٣٣ والإيضاح لابن شاذان ص ٥٣٤.

(٢) كنوز الحقائق للمناوي (ط بولاق) ص ١٩٣ ومناقب الإمام علي أبي طالب لابن المغازلي ص ٩٣ والعمدة لابن البطريق ص ٢٩٦ والطرائف لابن طاووس ص ١٥٧ والبحار ج ٣٨ ص ٣١٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ١٧ ص ٣٤١ والموضوعات لابن الجوزي ج ١ ص ٣٩٣.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٢ عن البزار والبيهقي ، وابن سعد ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦١ عن البيهقي والبزار ، ودلائل النبوة ج ٧ ص ٢٤٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢١٣ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٧٨ وراجع : كنز العمال ج ٧ ص ٢٥٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢٣ ص ٥٠٧ و ٥١٣ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٥ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٢٨٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٠ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧٦.


«صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو في قميصه ، أو ثيابه ، وهي كثيرة ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ الرواية المتقدمة عن الإمام الكاظم «عليه‌السلام» وقد تضمنت قول جبرئيل لعلي «عليه‌السلام» : يا علي ، لا تجرد أخاك من قميصه ، فإن الله لم يجرده (١) ، فغسله في قميصه.

٢ ـ عن بريدة : ناداهم مناد من الداخل : أن لا تنزعوا عن رسول الله قميصه (٢).

٣ ـ إن العباس «رحمه‌الله» قد علل عدم حضوره غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقوله : «لأني كنت أراه يستحي أن أراه حاسرا».

٤ ـ قد ورد أنه نادى مناد : يا علي بن أبي طالب ، استر عورة نبيك ، ولا تنزع القميص.

٥ ـ في حديث المناشدة : أنه «عليه‌السلام» غسله مع الملائكة ، وهم

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٩٨ عن الطرف ، والمصباح ، والبحار ج ٢٢ ص ٥٤٤ و ٥٤٦ وج ٧٨ ص ٣٠٥ عن أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٧ و ٨ وعن الطرائف ص ٤٤ و ٤٥ و ٤٨ وراجع : شرح الأخبار ج ٢ ص ٤١٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٥٥ ومستند الشيعة للنراقي ج ٣ ص ١٥٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٢ عن ابن ماجة ، وتلخيص الحبير ج ٥ ص ١١٧ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٦٦ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٧١ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٣٦٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٣٨٧ وعون المعبود ج ٨ ص ٢٨٨ وتهذيب الكمال ج ٢٢ ص ٣٠٠ وميزان الإعتدال للذهبي ج ٣ ص ٢٩٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥١٧.


يقولون : استروا عورة نبيكم ستركم الله (١).

٦ ـ ذكروا : أنه لما غسل النبيّ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليّ «عليه‌السلام» أسنده على صدره ، وعليه قمصيه يدلكه به من ورائه ، ولا يفضي بيده إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويقول : بأبي وأمي ، ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شيء يرى من الميت (٢).

٧ ـ في حديث عن علي «عليه‌السلام» : «وأما السادسة عشرة ، فإني أردت أن أجرده ، فنوديت : يا وصي محمد! لا تجرده ، فغسلته والقميص عليه ، فلا والله الذي أكرمه بالنبوة ، وخصه بالرسالة ، ما رأيت له عورة» (٣).

٨ ـ عن ابن عباس في حديث : «فغسله علي يدخل يده تحت القميص» (٤).

٩ ـ في نص آخر : «غسله علي ، والعباس وابناه : الفضل ، وقثم. وغسلوه وعليه قميصه لم ينزع» (٥).

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٤٣ عن أمالي الطوسي ج ٢ ص ٤ و ٦.

(٢) راجع : الثقات (ط حيدرآباد) ج ٢ ص ١٥٨ وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام للفاسي الحسيني (ط دار أحياء الكتب العربية بمصر) ج ٢ ص ٣٨٦ ومختصر سيرة الرسول لعبد الله بن عبد الله الحنبلي (المطبعة السلفية بالقاهرة) ص ٤٧٠ والرياض النضرة (ط الخانجي بمصر) ج ٢ ص ١٧٩ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٧٠٢ و ٧٠٣ عمن تقدم.

(٣) البحار ج ٣١ ص ٤٣٤ والخصال ج ٢ ص ٥٧٣ و ٥٧٤ والأمالي للطوسي ص ٥٤٧ والبحار ج ٢٢ ص ٥٤٣ وج ٣١ ص ٣٧٥.

(٤) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦.

(٥) الأنس الجليل (ط القاهرة) ص ١٩٤ وراجع : فقه الرضا ص ٢٠ ومستدرك ـ


١٠ ـ عن علي «عليه‌السلام» : أوصى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن لا يغسله أحد غيره ، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه.

قال علي «عليه‌السلام» : فكان العباس وأسامة يناولان الماء من وراء الستر.

١١ ـ عن محمد بن قيس مرسلا وفيه ضعف قال : قال علي : وما كنا نريد أن نرفع منه عضوا لنغسله إلا رفع لنا حتى انتهينا إلى عورته ، فسمعنا من جانب البيت صوتا : لا تكشفوا عن عورة نبيكم (١).

١٢ ـ في حديث آخر : أنهم «سمعوا صوتا في البيت : لا تجردوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واغسلوا كما هو في قميصه.

فغسله علي «عليه‌السلام» يدخل يده تحت القميص ، والفضل يمسك الثوب عنه ، والأنصاري يدخل الماء ، وعلى يد علي «عليه‌السلام» خرقة ، ويدخل يده» (٢).

١٣ ـ تقدم قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن الفضل بن العباس : «من غير أن ينظر إلى شيء مني».

__________________

الوسائل ج ٢ ص ٢٠٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٦٩٧.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٢ عن البيهقي ، وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢٣ ص ٥١١.

(٢) إحقاق الحق ج ١٨ ص ١٨٧ و ١٨٨ عن المعجم الكبير ، وحياة الصحابة للكاندهلوي (ط دار القلم بدمشق) ج ٢ ص ٦٠٣ ونهج السعادة للمحمودي ج ١ ص ٣٦ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ١٩٦ والمعجم الكبير ج ١ ص ٢٣٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ١٨ ص ١٨٧.


فاتضح أن المراد من قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا يرى عورتي غير علي إلا كافر» (١). هو ما لم تجر العادة على كشفه ، لا العورة بمعناها المعروف.

وكذلك الحال بالنسبة إلى سائر الروايات التي ذكرت أو أشارت إلى هذا المعنى بنحو أو بآخر.

إفتراؤهم على علي عليه‌السلام :

ولكننا نجد في مقابل ذلك ، أنهم رووا عن علي «عليه‌السلام» أنه قال : غسلت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فذهبت أنظر ما يكون من الميت ، فلم أر شيئا ، فكان طيبا حيا وميتا (٢) ، أو نحو ذلك.

وعن سعيد بن المسيب قال : التمس علي من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عند غسله ما يلتمس من الميت ، فلم يجد شيئا ، فقال : بأبي أنت وأمي طبت

__________________

(١) عن عيون أخبار الرضا ص ٦٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٤٨١ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» ج ١ ص ١٣١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٢ عن ابن سعد ، وأبي داود ، والبيهقي ، والحاكم وصححه ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ٢٤٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢١٤. والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٣٦٢ وج ٣ ص ٥٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٥٣ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٤٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٢ و ٥٧٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٦٩٩ وج ١٨ ص ١٩١ وج ٢٣ ص ٥١١ و ٥١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥١٩ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ٦٤ وعلل الدار قطني ج ٣ ص ٢١٩ وراجع : تلخيص الحبير ج ٥ ص ١١٦ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٥٦.


حيا وميتا (١).

وعن علباء بن أحمر قال : كان علي والفضل يغسلان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فنودي علي : ارفع طرفك إلى السماء (٢).

وعن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال : غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي ، والفضل ، وأسامة بن زيد وشقران ، وولي غسل سفلته علي ، والفضل محتضنه ، وكان العباس وأسامة بن زيد وشقران يصبون الماء (٣).

ونقول :

إننا لا نشك في أن المقصود بهذه التعابير الإساءة إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وإلى علي «عليه‌السلام» على حد سواء.

فأولا : إن الروايات الكثيرة المتقدمة قد تحدثت عن أنه قد غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من وراء الثوب ، أو القميص وفق التوجيه الإلهي ، فهل يطلب شيئا وراء ذلك أيضا؟! ولما ذا؟!

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٣ وفي هامشه عن : ابن سعد ج ٢ ص ٢١٥ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٨١ وعن ابن ماجة [ج ١ ص ٤٧١] (١٤٦٧) بسند صحيح ورجاله ثقات ، وراجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ١٣٣ وج ٨ ص ٥٧٦ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢ ص ١٦١ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٤٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢٣ ص ٥٠٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٣ عن البيهقي ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨١ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥١٩.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٣ عن الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢١٣ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٧٩ وراجع : إمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٠.


ثانيا : إن عليا «عليه‌السلام» كان أعرف الناس بالأنبياء وبكراماتهم ، ومقاماتهم عند الله تبارك وتعالى ، ولا يمكن أن يرد في وهمه ، أو أن يحتمل ولو احتمالا ضئيلا جدا بأن يكون ثمة ما يستكره ، فضلا عن أن يلتمس رؤية شيء من ذلك ..

ثالثا : إن ذكر أسامة بن زيد ، وشقران في جملة من شارك في تغسيل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من موجبات زيادة الشك في الرواية ، فقد عرفنا أن الذين تولوا ذلك منه هم أهله ، وهذان الرجلان ليسا من أهل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليشاركا في غسله ..

ولو عدّ هذان الرجلان من أهله للزم عدّ كثيرين آخرين من أهل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا ، فقد كان له من الموالي ما يعد بالعشرات ، فلما ذا لم يشاركوا في تجهيز النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

رابعا : روي عن الإمام الكاظم من قوله «عليه‌السلام» : أنه أراد أن ينزع القميص ، فقال له جبرئيل : يا علي ، لا تجرد أخاك من قميصه ، فإن الله لم يجرده.

خامسا : تقدم أن العباس لم يشارك في الغسل ، لأنه رأى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يستحي أن يراه حاسرا في حال الحياة ، فهل يمكن أن يسعى علي «عليه‌السلام» لرؤية ما وراء ذلك؟! وعلي أعلم ، وأعرف برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأشد مراعاة لشأنه من العباس.

سادسا : دلت الروايات على أنه «عليه‌السلام» أسند النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه ، ولا يفضي بيده إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».


هل تجريد الميت سنة :

وعن تجريد الميت عند تغسيله قال الباجي : يحتمل أن يكون ذلك خاصا به ، لأن السنة عند مالك وأبي حنيفة والجمهور : أن يجرد الميت ولا يغسل في قميصه انتهى (١).

ونقول :

قد ورد عن أهل البيت «عليهم‌السلام» ما دل على استحباب تغسيل الميت من تحت القميص (٢) ، فيدل ذلك على أن عدم تجريد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قميصه ليس من مختصات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

الوصي يغسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وعن عبد الله بن مسعود : قال : قلت للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا رسول الله ، من يغسلك إذا مت؟!

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٥ وتنوير الحوالك ص ٢٣٠.

(٢) الكافي ج ٣ ص ١٣٩ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢ ص ٤٧٩ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٦٨٠ و ٦٨٣ وتهذيب الأحكام ج ١ ص ٣٠ و ٨٥ و ١٢٦ و (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج ١ ص ١٠٨ و ٣٠٠ و ٤٤٦ والمعتبر للمحقق الحلي ج ١ ص ٢٧١ وتذكرة الفقهاء (ط. ج) ج ١ ص ٣٤٧ و (ط. ق) ج ١ ص ٣٨ ومختلف الشيعة ج ١ ص ٣٩٢ والحبل المتين (ط. ق) للبهائي العاملي ص ٥٩ و ٦٠ والحدائق الناضرة ج ٣ ص ٤٤١ و ٤٤٨ ورياض المسائل للطباطبائي ج ٢ ص ١٥٧ ومستند الشيعة للمحقق النراقي ج ٣ ص ١٤٨ وجواهر الكلام للشيخ الجواهري ج ٤ ص ١٤٨.


فقال : يغسل كل نبي وصيه.

قلت : فمن وصيك يا رسول الله؟!

قال : علي بن أبي طالب.

فقلت : كم يعيش بعدك يا رسول الله؟!

قال : ثلاثين سنة الخ .. (١).

وفي رواية أخرى : قال جبريل : يا محمد ، قل لعلي «عليه‌السلام» : إن ربك يأمرك أن تغسل ابن عمك ، فإن هذه السنّة ، لا يغسّل الأنبياء غير الأوصياء ، وإنما يغسل كل نبي وصيه من بعده (٢).

نصوص حول التجهيز والدفن :

عن عبد الله بن الحارث وابن عباس : أن عليا غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فجعل يقول : طبت حيا وميتا ، وقال : وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط (٣).

__________________

(١) البحار ج ١٣ ص ١٧ و ١٨ و ٣٦٧ وج ٢٢ ص ٥١٢ وج ٣٢ ص ٢٨٠ عن إكمال الدين ص ١٧ و ١٨ و (نشر مؤسسة النشر الإسلامي) ص ٢٧ وبشارة المصطفى للطبري ص ٤٢٨.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٥٤٦ وج ٧٨ ص ٣٠٤ عن الطرائف ص ٤٤ و ٤٥ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٩٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٥٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٢ عن الطبراني ، وعن ابن سعد ج ٢ ص ٢١٤ و ٢١٥ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٨٠ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٢ ونهج السعادة للمحمودي ج ١ ص ٣٦ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦ والمعجم الكبير ـ


ورووا : أن جبرئيل نزل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بحنوط ، وكان وزنه أربعين درهما ، فقسمه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثلاثة أجزاء : جزء له ، وجزء لعلي ، وجزء لفاطمة صلوات الله عليهم (١).

وعن هارون بن سعد قال : كان عند علي مسك فأوصى أن يحنط به ، وكان علي يقول : هو فضل حنوط رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

وعن علي «عليه‌السلام» قال : قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

__________________

ج ١ ص ٢٣٠ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٥٥ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٦٩٦ وج ١٨ ص ١٨٧.

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٤٤ و ٥٤٥ و ٥٠٤ وج ٧٨ ص ٣١٢ وعلل الشرائع ص ١٠٩ و (منشورات المكتبة الحيدرية) ج ١ ص ٣٠٢ وتهذيب الأحكام ج ١ ص ٢٩٠ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٣ و ١٤ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٧٣٠ و ٧٣١ والكافي (الفروع) ج ١ ص ٤٢ و (ط دار الكتب الإسلامية) ج ٣ ص ١٥١ وعن أمالي الشيخ ج ٢ ص ٤ و ٦ وعن الإحتجاج ص ٧٢ ـ ٧٥ ومختلف الشيعة ج ١ ص ٣٩٠ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ٢٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٢١٨ وسنن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للطباطبائي ص ٢٥١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٤ عن ابن سعد ، والحاكم في الإكليل ، وفي هامشه عن دلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ٢٤٩ ، وفقه السنة ج ١ ص ٥١٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٦ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ٦٠ ومعرفة السنن والآثار ج ٣ ص ١٣٨ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٠٧ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ١ ص ٢٣٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٨٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٠.


«إذا أنا مت فاغسلوني بسبع قرب من بئر غرس» (١).

وعن أبي جعفر محمد بن علي «عليهما‌السلام» قال : غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثلاثا بالسدر ، وغسل وعليه قميص ، وغسل من بئر يقال لها : الغرس [لسعد بن خيثمة بقباء] ، وكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يشرب منها (٢).

ونقول :

لا بأس بملاحظة ما يلي :

إحتضان فضل بن عباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد ذكرت روايات هؤلاء : أن عليا «عليه‌السلام» كان يغسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والفضل بن العباس آخذ بحضنه ، يقول : اعجل يا علي ، انقطع ظهري أو نحو ذلك.

ونقول :

١ ـ إن تغسيل الميت لا يحتاج إلى أن يأخذه أحد الناس بحضنه!! أو أن

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٣ عن ابن ماجة [ج ١ ص ٤٧١] (١٤٦٨) وانظر الكامل لابن عدي ج ٢ ص ٧٦٢ وكنز العمال [ج ١٥ ص ٥٧٣] (٤٢٢٩) ، وفتح الباري ج ٥ ص ٢٧٠ وتهذيب الكمال ج ٣ ص ١١٢.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٣ وفي هامشه عن ابن سعد ج ٢ ص ٢١٤ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٨٠ وعن دلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ٢٤٥ وراجع : تلخيص الحبير ج ٥ ص ١١٦ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٦٦ وعون المعبود ج ٨ ص ٢٨٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧١.


يأخذ بحضنه أحد من الناس!!

٢ ـ إن الملائكة هي التي كانت تساعد عليا «عليه‌السلام» على تقليب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما ورد في الروايات.

وفي بعضها قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» : جبرئيل معك يعاونك. فراجع ما قدمناه حين الحديث عن انفراد علي «عليه‌السلام» بغسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد أخبره النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه سيعان ، وروى ابن سعد عن عبد الواحد بن أبي عون قال : قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي : «اغسلني إذا مت».

فقال : يا رسول الله ، ما غسلت ميتا قط!

قال : إنك ستهيأ أو تيسر.

قال علي : فغسلته ، فما آخذ عضوا إلا تبعني ، والفضل آخذ بحضنه يقول : أعجل يا علي انقطع ظهري (١).

غير أن هذه الرواية قد عادت لتناقض نفسها وتقول : إن الفضل كان آخذا بحضن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فالصحيح هو الرواية التي رواها الصدوق «رحمه‌الله» ، وهي لم تذكر الفضل أصلا ، بل قالت : «فو الله ، ما أردت أن أقلب عضوا من أعضائه إلا قلب لي» (٢). ولم تزد على ذلك.

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٢ و ٣٢٣ وفي هامشه عن ابن سعد ج ٢ ص ٢١٥ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٨١ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٥٦ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٢ وشرح إحقاق الحق ج ٧ ص ٣٥ وج ٢٣ ص ٥٠٧.

(٢) الخصال ج ٢ ص ٥٧٣ و ٥٧٤ والبحار ج ٣١ ص ٤٣٤ وراجع ج ٢٢ ص ٥٠٦ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للمير جهاني ج ٣ ص ١٦٧ وذخائر ـ


٣ ـ ذكرت الروايات المتقدمة حين ذكر انفراد علي «عليه‌السلام» بغسله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حدد مهمة الفضل بن العباس بمناولة الماء.

٤ ـ قد صرحت بعض النصوص : بأن عليا «عليه‌السلام» قد أسند النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على صدره ، وعليه قميصه يدلكه به (١). ولم تذكر الفضل.

٥ ـ إن ثمة رواية تقول : إن عليا «عليه‌السلام» كان يغسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكان الفضل يمسك الثوب عنه (٢).

فكأن هؤلاء القوم متحيرون في الدور الذي يريدون إسناده للفضل بن العباس في قضية تغسيل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

__________________

العقبى ص ٧١ والبحار ج ٣١ ص ٤٣٤ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٤٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٣ ص ١٢٩ وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي «عليه‌السلام» لابن الدمشقي ج ١ ص ١٠٨ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٧ ص ٣٦ وج ١٨ ص ١٩٣ وج ٢٣ ص ٥٠٥ وراجع : مناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه‌السلام» للكوفي ج ١ ص ٣٣٧.

(١) قد ذكرنا هذه الرواية ومصادرها حين الحديث عن انفراد علي «عليه‌السلام» بغسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

(٢) إحقاق الحق ج ١٨ ص ١٨٧ و ١٨٨ عن المعجم الكبير ، وحياة الصحابة للكاند هلوي (ط دار القلم بدمشق) ج ٢ ص ٦٠٣ ونهج السعادة للمحمودي ج ١ ص ٣٦ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ١٩٦ والمعجم الكبير ج ١ ص ٢٣٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ١٨ ص ١٨٧.


غسّل ثلاثا بالسدر :

وقد ذكرت الرواية آنفا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غسّل ثلاثا بالسدر.

ومن الواضح : أن الميت يغسل بالماء القراح مرة ، وبالكافور مرة ، وبالسدر مرة ، فلما ذا اقتصر هؤلاء على ذكر السدر؟

ولا مجال للاعتذار عن ذلك بأن الكافور ربما لم يكن متوفرا ، فإن جبرئيل الذي جاء بالحنوط للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، سوف يكرمه بإحضار الكافور أيضا ، لو صح أنه كان مفقودا.

وسو سلم أن الكافور كان مفقودا فلما ذا أهمل الراوي ذكر الغسل بالماء القراح أيضا. فإن الماء كان متوفرا بلا شك ، وقد أرشدهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وحدده لهم في بئر غرس.

علي عليه‌السلام يمسح عين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلسانه :

وذكروا : أن عليا «عليه‌السلام» لما غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وفرغ من غسله نظر في عينيه ، فرأى فيهما شيئا ، فانكب عليه ، فأدخل لسانه ، فمسح ما كان فيهما ، فقال : بأبي وأمي يا رسول الله صلى الله عليك ، طبت حيا ، وطبت ميتا. قاله العالم «عليه‌السلام» (١).

وهذا هو الإيمان الخالص الذي يقدم للناس الأسوة والقدوة في التبرك

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥١٧ وج ٧٨ ص ٣١٨ وفقه الرضا ص ٢٠ و ٢١ و (تحقيق مؤسسة آل البيت) ص ١٨٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٥٥.


برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويسوقهم إلى حقائق الإيمان ، من خلال تجسيدها ممارسة وعملا ، ولا يبقيها في دائرة النظرية والتوجيه والإرشاد ..

غسل مس الميت :

روى محمد بن الحسن الصفار ، عن محمد بن عيسى ، عن القاسم الصيقل قال : كتبت إليه : جعلت فداك هل اغتسل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» حين غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عند موته؟

فأجابه : النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طاهر مطهر ، ولكن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» فعل ، وجرت به السنة (١).

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٤٠ وتهذيب الأحكام ج ١ ص ٣٠ و (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج ١ ص ١٠٨ وذكرى الشيعة في أحكام الشريعة ج ٢ ص ٩٧ والحدائق الناضرة ج ٣ ص ٣٣١ والإستبصار للشيخ الطوسي ج ١ ص ١٠٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١.



الفصل الثامن :

تكفين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة عليه



الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ورد في صحيحة أو حسنة الحلبي : عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» أنه قال : «أتى العباس عليا أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فقال : يا علي ، إن الناس قد اجتمعوا أن يدفنوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بقيع المصلى ، وأن يؤمهم رجل منهم.

فخرج أمير المؤمنين «عليه‌السلام» إلى الناس ، فقال : أيها الناس ، إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إمامنا حيا وميتا. وقال : إني أدفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في البقعة التي قبض فيها.

ثم قام على الباب فصلى عليه ، ثم أمر الناس عشرة عشرة يصلون عليه ويخرجون» (١). ولهذه الرواية نص آخر ورد في فقه الرضا «عليه‌السلام» لا يخلو من إشكال.

لكن ابن شهرآشوب ذكر في المناقب أن أبا جعفر «عليه‌السلام» قال : إنهم صلوا عليه يوم الإثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء حتى صلى

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٤٥١ وفقه الرضا «عليه‌السلام» ص ١٨٨ والبحار ج ٢٢ ص ٥١٧ و ٥٤٠ وج ٧٨ ص ٣٠٢ وجواهر الكلام ج ١٢ ص ١٠٢ والحدائق الناضرة ج ١٠ ص ٤٥١ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٣٤٨.


عليه الأقرباء والخواص ، ولم يحضر أهل السقيفة ، وكان علي «عليه‌السلام» أنفذ إليهم بريدة ، وإنما تمت بيعتهم بعد دفنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وروى سليم بن قيس أيضا ، عن سلمان قال : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما غسله علي «عليه‌السلام» وكفنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة وحسنا وحسينا «عليهم‌السلام» ، فتقدم علي عليه‌السلام وصففنا خلفه وصلى عليه ، وعائشة في الحجرة لا تعلم قد أخذ الله ببصرها. ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار ، فكانوا يدخلون ويدعون ويخرجون ، حتى لم يبق أحد شهد من المهاجرين والأنصار إلا صلى عليه (٢).

ونلاحظ على هاتين الروايتين :

أولا : أن قولهم : إنهم استمروا في الصلاة عليه يوم الإثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء لا يتلاءم مع ما ذكرته الرواية نفسها

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٦ والأنوار البهية ص ٤٨ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٦٣ و ٢٦٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٣٤٩ والدر النظيم ص ١٩٥ والبحار ج ٢٢ ص ٥٢٥.

(٢) كتاب سليم بن قيس (بتحقيق الأنصاري) ص ١٤٣ وراجع : الإحتجاج ج ١ ص ١٠٦ والبحار ج ٢٢ ص ٥٠٦ وج ٢٨ ص ٢٦٢ وج ٧٨ ص ٣٨٥ والأنوار البهية ص ٤٧ والحدائق الناضرة ج ١٠ ص ٤٥١ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٣٥٠ وجواهر الكلام ج ١٢ ص ١٠٣ وراجع : كشف اللثام (ط. ق) ج ١ ص ١٣٢ و (ط. ج) ج ٢ ص ٣٦٢ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ٨٣ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٧٧٩ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٧٠ والحدائق الناضرة ج ١٠ ص ٤٥١.


من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دفن قبل انتهاء أهل السقيفة من سقيفتهم ، وليس من المعقول أن تستمر السقيفة هذا المقدار من الوقت ، فإن غاية ما يمكن قوله هو أنها استمرت بضع ساعات لا أكثر ، ولم تستمر قطعا من يوم الإثنين إلى يوم الثلاثاء.

ثانيا : قول رواية سليم : إنه لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا صلى على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يتلاءم أيضا مع القول بأن أهل السقيفة لم يحضروا دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن بيعتهم قد تمت بعد دفنه.

وما ورد في آخر الرواية يوضح ذلك حيث يقول : «حتى لم يبق أحد شهد من المهاجرين والأنصار إلا صلى عليه».

وبذلك تنسجم هاتان الروايتان فيما بينهما ، وتنسجمان أيضا مع صحيحة أو حسنة أبان بن عثمان ، ويرتفع ما يظهر منه التنافي والإختلاف فيما بينها.

وفي نص آخر قال : حتى لم يبق أحد في المدينة ، حر ولا عبد إلا صلى عليه (١).

وكانوا يصلون عليه أرسالا (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٩ و ٣٣٠ عن أحمد ، وأبي يعلى ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٣ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٧١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٩ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ٣١ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٥٠ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٣٧ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٨ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٣٤٩ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٤ وتاريخ الأمم ـ


ولم يؤم الصلاة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحد (١).

وقال ابن كثير وأبو عمر : إن هذا مجمع عليه ، ولا خلاف فيه (٢).

وبعض الروايات تصرح : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أمرهم بذلك (٣).

__________________

والملوك ج ٢ ص ٤٥٢ و ٣٣٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣١ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٧٧ وكشاف القناع للبهوتي ج ٢ ص ١٣٠ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٥٢١ والجامع لأحكام القرآن ج ٤ ص ٢٢٥.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٩ و ٣٣٠ عن ابن إسحاق وغيره ، وأحمد وأبي يعلي ، ونيل الأوطار ج ٤ ص ٧٧ وكشاف القناع للبهوتي ج ٢ ص ١٣٠ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٥٢١ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٣٧ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٥٠ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ٣١ والجامع لأحكام القرآن ج ٤ ص ٢٢٥ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٨ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٣٤٩ والثمر الداني للآبي ص ٢٧٢ وتنوير الحوالك ص ٢٣٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٢ و ٣٣٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٦ و ٢٨٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٨ و ٥٣١ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٠ و ٣٣١ وتنوير الحوالك ص ٢٣٨ والثمر الداني للآبي ص ٢٧٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧٨.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٩ و ٣٣١ عن مسند أحمد ج ٥ ص ٨١ وعن ابن سعد ج ٢ ص ٢٢١ وعن الطبري ، وراجع : تلخيص الحبير ج ٥ ص ١٨٧ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٧٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٧ والإستيعاب (ط دار الجيل)


وعند مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس : صلوا عليه فنادى مناد : صلوا أفواجا بلا إمام (١).

قال المفيد : «ولما فرغ من غسله تقدم فصلى عليه وحده ، ولم يشركه معه أحد في الصلاة عليه.

وكان المسلمون يخوضون في من يؤمهم في الصلاة عليه ، وأين يدفن ، فخرج إليهم أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وقال لهم : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إمامنا حيا وميتا ، فيدخل عليه فوج بعد فوج منكم ، فيصلون عليه بغير إمام ، وينصرفون ..

إلى أن قال : فسلم القوم بذلك ، ورضوا به» (٢).

صلاة أهل السقيفة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد صرحت بعض الروايات المتقدمة : بأنه لم يبق في المدينة حر ولا عبد إلا صلى على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

__________________

ج ٤ ص ١٧١٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ٢٩٦ وأسد الغابة ج ٥ ص ٢٥٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٩١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٨.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٠. وراجع : التنبيه والإشراف ص ٢٤٥.

(٢) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٨٧ والبحار ج ٢٢ ص ٥١٧ وراجع ص ٥٢٤ و ٥٢٩ و ٥٣٦ عن فقه الرضا ص ٢٠ والأنوار البهية ص ٤٧ وينابيع المودة ج ٢ ص ٣٣٩ وعن كفاية الأثر ص ٣٠٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٩ و ٣٣٠ عن أحمد وأبي يعلى ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٣ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٧١.


وزعم حرام بن عثمان : أن أبا بكر قد أمّهم في الصلاة عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

قال محمد بن عمر الأسلمي : حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال : وجدت هذا في صحيفة بخط أبي فيها : أنه لما كفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ووضع على سريره دخل أبو بكر وعمر فقالا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت ، فسلموا كما سلم أبو بكر وعمر ، وصفوا صفوفا لا يؤمهم أحد ، فقال أبو بكر وعمر ـ وهما في الصف الأول حيال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ : اللهم إنا نشهد أنه قد بلغ ما أنزل إليه ، ونصح لأمته ، وجاهد في سبيل الله تعالى ، حتى أعز الله تعالى دينه وتمت كلماته ، فآمن به وحده لا شريك له ، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه ، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه ، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما ، لا نبتغي بالإيمان بدلا ، ولا نشتري به ثمنا أبدا.

فيقول الناس : آمين آمين!

ثم يخرجون ويدخل آخرون ، حتى صلى عليه الرجال ، ثم النساء ، ثم الصبيان (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣١ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٧٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٦ وتنوير الحوالك ص ٢٣٩ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٢٩٠ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٢٨ وراجع : إمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٣.


ونقول :

إننا لا نريد التحدث عن ضعف سند رواية حرام بن عثمان ، وانقطاعه ، وإنما نكتفي بالإشارة إلى ما يلي :

أولا : إنهم يقولون : ولم يحضر أهل السقيفة ، وكان علي أنفذ إليهم بريدة (١).

ثانيا : سؤال علي «عليه‌السلام» حين فرغ من دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن خبر أهل السقيفة (٢).

ثالثا : هناك خلاف في وقت دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، هل دفن ليلة الثلاثاء. أم بعد وفاته بساعات؟! أم دفن يوم الثلاثاء؟! مع تصريحهم بأن أهل السقيفة قد فرغوا من سقيفتهم في يوم الثلاثاء بالذات ، فراجع (٣).

رابعا : إن النص الذي ترويه لنا هذه الرواية ليس هو نص الصلاة على الميت ، لا عند السنة ولا عند الشيعة ، وإنما هو مجرد دعاء وشهادة.

كيفية الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

يستفاد من الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها أن الصلاة على النبي

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٥ و ٢٠٦ والأنوار البهية ص ٤٨ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٦٣ و ٢٦٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٣٤٩ والدر النظيم ص ١٩٥ والبحار ج ٢٢ ص ٥٢٥ وعن إعلام الورى ص ١٤٣ و ١٤٤.

(٢) راجع : الأمالي للسيد المرتضى ج ١ ص ١٩٨.

(٣) راجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.


«صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما كانت مجرد دعاء وشهادة ، وهذا هو ما تؤكده سائر النصوص الأخرى أيضا ، حيث دلت على أن عليا وأهل البيت «عليهم‌السلام» معه دون غيرهم هم الذين صلوا على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الصلاة المشروعة على الميت .. ويدل على ذلك أيضا ما يلي :

١ ـ صرح ابن سعد في رواية له عن علي «عليه‌السلام» بكيفية صلاتهم على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : فكان يدخل الناس رسلا رسلا ، فيصلون عليه صفا صفا ، ليس لهم إمام ، يقولون : سلام عليك أيها النبي ، ورحمة الله وبركاته (١).

٢ ـ وروى سالم بن عبد الله قال : قالوا لأبي بكر : هل يصلّى على الأنبياء؟!

قال : يجيء قوم فيكبرون ، ويدعون ، ويجيء آخرون ، حتى يفرغ الناس (٢).

ملاحظة : لعل الذي دعا أبا بكر إلى إنكار الصلاة على الأنبياء بعد موتهم هو تبرير عدم حضوره للصلاة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بسبب انشغاله بالسقيفة ..

٣ ـ قيل للإمام الباقر «عليه‌السلام» : كيف كانت الصلاة على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

فقال : لما غسله أمير المؤمنين كفنه وسجاه ، وأدخل عليه عشرة ، فداروا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٩ وراجع : تنوير الحوالك ص ٢٣٩ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٥٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٩١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٠ وتنوير الحوالك ص ٢٣٩ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٤ ص ٣٩٨.


حوله ثم وقف أمير المؤمنين في وسطهم ، فقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) ، فيقول القوم مثل ما يقول حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي (٢).

٤ ـ قال في «المورد» نقلت من خط شيخنا الحافظ الزاهد أبي عبد الله محمد بن عثمان المعروف بالضياء الرازي قال : قال سحنون بن سعيد : سألت جميع من لقيت من فقهاء الأمصار من أهل المغرب والمشرق ، عن الصلاة على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد وفاته : هل صلوا عليه؟ وكم كبر عليه؟ فكل لم يدر حتى قدمت المدينة ، فلقيت عبد الله بن ماجشون فسألته فقال : صلّي عليه اثنان وتسعون صلاة ، وكذلك صلّي على عمه حمزة.

قال : قلت : من أين لك هذا دون الناس؟

قال : وجدتها في الصندوق التي تركها مالك ، وفيه عميقات المسائل ، ومشكلات الأحاديث بخطه عن نافع عن ابن عمر.

قال الحافظ أبو الفضل العراقي في سيرته المنظومة :

وليس ذا متصل الإسناد

عن مالك في كتب النقاد (٣)

فهذا يعطي : أن أحدا من سائر المسلمين لم يصل على رسول الله «صلى

__________________

(١) الآية ٥٦ من سورة الأحزاب.

(٢) راجع : الكافي ج ١ ص ٤٥٠ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٦ والبحار ج ٢٢ ص ٥٣٩ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٣٤٨ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٦٣ و ٢٦٥ والحدائق الناضرة ج ١٠ ص ٤٥٠ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٣٠٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٢.


الله عليه وآله» ، ولا سيما مع كون ابن القصار حكى الخلاف : هل صلوا عليه الصلاة المعهودة ، أو دعوا فقط؟! وهل صلوا عليه أفرادا أو جماعة؟! (١).

وقد يؤيد ذلك : ما أوضحناه في الجزء الأول من هذا الكتاب من فشوّ جهل الناس آنئذ بأحكام الشريعة ، فلا نتوقع أن يكون كثير منهم وقتئذ يحسنون الصلاة على الميت ، بل لعل بعض من كان مشاركا في السقيفة لم يكن يحسنها أيضا.

٥ ـ قولهم : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أوصى بأن يصلّى عليه بدون إمام ، يقابله ما تقدم من أنه أوصى عليا «عليه‌السلام» بأن يصلي عليه. وقد فعل.

إلا إذا كان المقصود : أن الناس الآخرين ـ باستثناء علي «عليه‌السلام» وأهل بيته ـ إذا أرادوا الصلاة عليه ، فليصلوا عليه من دون إمام ، حتى لا يتخذ ذلك ذريعة لادّعاء : أن الإمام في الصلاة عليه هو الإمام للأمة.

ثم قد يدعي محبو ذلك الذي يتصدى لهذا الأمر : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أمره بذلك ، أو أوصى إليه به ، ليجعلوا ذلك إشارة إلى خلافته ..

وقد تنبه إلى ما ذكرناه المحقق البحراني أيضا حيث قال : «وأنت خبير بأنه ربما ظهر من التأمل في هذه الأخبار الواردة في صلاة الناس على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فوجا فوجا إنما هو بمعنى الدعاء خاصة ، وأنه لم يصل

__________________

(١) نيل الأوطار ج ٤ ص ٧٧ وتلخيص الحبير ج ٥ ص ١٨٧.


عليه الصلاة المعهودة إلا علي «عليه‌السلام» مع هؤلاء النفر الذين تضمنهم حديث الإحتجاج ، وإليه تشير أيضا صحيحة الحلبي أو حسنته.

وقوله فيها : «ثم قام علي «عليه‌السلام» على الباب فصلى عليه ثم أمر الناس الخ ..» فإن ظاهر صحيح أبي مريم الأول وقوله فيه : «فإذا دخل قوم داروا به وصلوا ودعوا له» أنهم يحيطون به من جميع الجهات ويدعون له ، وهكذا من يدخل بعدهم.

وكذا قوله في حديثه الثاني : «ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ـ يعني بعد ما صلى عليه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» كما دل عليه خبر الإحتجاج ـ ثم وقف أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في وسطهم فقال : .. الحديث». فإنه ظاهر في أن الصلاة كانت بهذه الكيفية كما يدل عليه قوله : «فيقول القوم كما يقول».

وإليه يشير قوله في حديث جابر : «إنه سمع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول في حال صحته : «أن هذه الآية نزلت عليه في الصلاة عليه بعد الموت» ولا ريب أن الصلاة في الآية إنما هي بمعنى الدعاء (١).

تكفين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن ابن عباس : إن مما أوصى به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» قوله : وكفني في طمريّ هذين ، أو في بياض مصر وبرد اليمان. ولا تغال في كفني (٢).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ج ١٠ ص ٤٥١.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٥٠٧ والأمالي للصدوق ص ٧٣٢ وروضة الواعظين للفتال ـ


وروي أن عليا «عليه‌السلام» غسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قميص. وكفنه في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين ، وثوب حبرة يمنية (١).

وعن زيد الشحام ، قال : سئل أبو عبد الله «عليه‌السلام» عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بما كفن؟

قال : في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين وبرد حبرة (٢).

__________________

النيسابوري ص ٧٢ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٠٦ و ٢٢٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٢٣١ و ٢٣٦ و ٢٤٠.

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥١٦ وج ٢٢ ص ٥٣٨ وج ٤٧ ص ٣٦٨ وج ٧٨ ص ٣١٨ و ٣٣٣ وفقه الرضا ص ٢٠ و (بتحقيق مؤسسة آل البيت) ص ١٨٣ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٠٥ و ٢٠٦ و ٢٠٧ وذكرى الشيعة في أحكام الشريعة للشهيد الأول ج ١ ص ٣٦١ وراجع : التحفة السنية (مخطوط) للسيد عبد الله الجزائري ص ٣٥٢ ورياض المسائل للطباطبائي ج ٢ ص ١٦٨ ومستند الشيعة للمحقق النراقي ج ٣ ص ١٨٠ وجواهر الكلام للشيخ الجواهري ج ٤ ص ١٩٦ والكافي ج ١ ص ٤٠٠ ودعائم الإسلام ج ١ ص ٢٣١ وتهذيب الأحكام ج ١ ص ٢٩١ و ٢٩١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ٧ و ٨ و ٩ و ١١ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٧٢٦ و ٧٢٧ و ٧٢٨ و ٧٢٩ والمصنف للصنعاني ج ٣ ص ٤٢١ والفايق في غريب الحديث ج ٢ ص ٢٣٧.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٥٣٨ عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٤٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٠ والمصنف للصنعاني ج ٣ ص ٤٧٤ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ١٤٥ والإستذكار لابن عبد البر ج ٣ ص ٣ و ٥٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣٨ وتفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٣٢٩ وقاموس الرجال ج ٩ ص ١٠٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٨٥ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٣٥١ ـ


وصحار : قرية باليمن.

وقيل : هو من الصحرة. وهي حمرة خفية كالغبرة ، يقال : ثوب أصحر ، وصحاري.

علي عليه‌السلام كفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده :

وقد تولى علي «عليه‌السلام» وحده تكفين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا ، فقد ورد في حديث المناشدة يوم الشورى قوله «عليه‌السلام» : فهل فيكم من كفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ووضعه في حفرته غيري (١).

ونقول :

حديث أهل البيت عليهم‌السلام هو الأصح :

إن إيمان أي إنسان لا يتم إلا إذا كان على يقين بأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يهتم بمراعاة أحكام الشريعة ، واختيار كل ما هو أفضل وأقرب إلى رضا الله تبارك وتعالى .. وكذلك كان علي «عليه‌السلام» الذي تولى تغسيل وتكفين وتجهيز ودفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

__________________

ـ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥١ والتنبيه والإشراف ص ٢٤٤ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٢٨٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٦٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٤.

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٤٣ والأمالي للشيخ ج ٢ ص ٤ و ٦ و (ط دار الثقافة) ص ٥٤٧.


فإذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أوصى عليا «عليه‌السلام» بأن يتولى ذلك كله ، وكان علي «عليه‌السلام» على علم تام بكل ما هو أفضل ، سواء أصرّحت النصوص بأنه «عليه‌السلام» قد سأل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن تفاصيل ما سيقوم به ، أو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه بادر إلى بيانها له ، أو لم تصرح بشيء من ذلك ، فالمتوقع هو أن ينفذ «عليه‌السلام» وصية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بكل دقة ، وأن يتوخى الأرجح والأفضل من ذلك كله عند الله تبارك وتعالى ..

ومن جهة أخرى ، فإننا إذا أردنا أن نتحرى الدقة والصحة في معرفة الحكم الشرعي ، والتوجيه الإلهي لما هو أفضل وأمثل ، فعلينا أن نتوجه إلى نفس ذلك الذي أوصانا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن يتولى ذلك منه ، وقد قام بالمهمة على أفضل وجه واتمه ، فنسأله عما فعل ، ونأخذ به على أنه هو الراجح والمرضي لله دون سواه.

وعلينا أن نعتبر ما يخالف ما يخبرنا به أنه قد حصل الوهم فيه ، أو تعرض للتلاعب والتزوير ..

وقد ذكرنا آنفا : أن عليا وأهل بيته «عليهم‌السلام» يقولون : إنه «عليه‌السلام» قد كفنه بثوبين صحاريين ، وبردة حبرة يمنية ..

وقد روى أبو داود عن جابر هذا المعنى أيضا (١).

فلا قيمة لكل ما رووه مما يخالف ذلك ، ومع ذلك نقول :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٦ عن أبي داود بإسناد حسن ، وقال في هامشه : أخرجه أبو داود (٣١٥). ونيل الأوطار ج ٤ ص ٧١ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ٦٥.


تناقض روايات أهل السنة :

إن تناقض الروايات الواردة من غير طريق علي وأهل بيته «عليهم‌السلام» يكفي للريب في صحتها ، ولإسقاطها عن درجة الإعتبار ، فكيف إذا كانت التناقضات قد ظهرت في روايات الراوي الواحد ، مثل الروايات عن عائشة وابن عباس مثلا؟! إذ لا ريب في أن هذا التناقض يدل على أن شيئا واحدا من هذه المتناقضات يحتمل في حقه الصحة ، ويحكم على الباقي بأنه ساقط ومكذوب بلا ريب.

وبذلك نعرف : أن ما رواه أبو داود مما يتوافق مع المروي عن علي وأهل البيت «عليهم‌السلام» هو الأقوى والأقرب إلى الإعتبار.

وللتدليل على صحة ما نقول نذكر من رواياتهم المتناقضة خصوص ما ذكره الصالحي الشامي ، ونكتفي به عما سواه ، وهو ما يلي :

روى الشيخان والبيهقي عن عائشة : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٦ وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ٣ ص ١٣٥ (١٢٦٤) و (ط دار الفكر) ج ٢ ص ٧٧ و ١٠٦ ومسلم ج ٢ ص ٦٤٩ (٤٥ / ٩٤١) ومالك في الموطأ ج ١ ص ٢٢٣ (٥) وأبو داود (٣١٥١ و ٣١٥٢) وابن سعد ج ٢ ص ٢١٥ وأحمد ج ٦ ص ٤٠ و ٩٣ و ١١٨ و ١٢٣ و ١٦٥ والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٤٦ والنسائي ج ٤ ص ٣٥ و ٣٦. وراجع : المعتبر للمحقق الحلي ج ١ ص ٢٧٩ وكتاب الأم للشافعي ج ١ ص ٣٠٣ والمبسوط للسرخسي ج ٢ ص ٦٠ و ٧٣ وبدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني ج ١ ص ٣٠٦


ورواه ابن ماجة : وزاد : فقيل لعائشة : إنهم كانوا يزعمون أنه قد كان كفن في حبرة.

فقالت : قد جاؤوا ببرد حبرة ، فلم يكفنوه فيها (١).

وفي رواية للشيخين وأبي داود : وأدرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حلة يمانية كانت لعبد الرحمن بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة.

وفي رواية أخرى لهما : أما الحلة فاشتبه على الناس فيها أنها اشتريت ليكفن فيها ، فتركت الحلة ، وكفن في ثلاث أثواب بيض سحولية ، فأخذها عبد الله بن أبي بكر ، فقال : احبسها حتى أكفن فيها.

ثم قال : لو رضيها الله تعالى لنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لكفنه فيها ، فباعها وتصدق بثمنها (٢).

__________________

والمغني لابن قدامة ج ٢ ص ٣٢٩ والشرح الكبير لابن قدامة ج ٢ ص ٣٣٩ والمحلى لابن حزم ج ٥ ص ١١٨ وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد ج ١ ص ١٨٦ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٧٠ وكتاب المسند للشافعي ص ٣٥٦ وسنن النسائي ج ٤ ص ٣٥. بالإضافة إلى مصادر كثيرة أخرى.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٦ وقال في هامشه : عن الدلائل للبيهقي ج ٧ ص ٢٤٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٩ و (ط دار الفكر) ج ٣ ص ٤٠١ وأبو داود (٣١٤٩). وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٧٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٦ وقال في هامشه : عن ابن ماجة ج ١ ص ٤٧٢ (١٤٦٩).

وراجع : صحيح مسلم ج ٣ ص ٤٩ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٥٧ والطبقات الكبرى لابن


إلى أن قال :

وروى ابن أبي شيبة ، بسند فيه عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن محمد بن علي عن أبيه : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كفن في سبعة أثواب.

وروى أبو يعلى ، عن الفضل بن عباس قال : كفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ثوبين أبيضين سحوليين (١).

وروى الإمام أحمد والبزار ، بسند حسن عن علي قال : كفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سبعة أثواب (٢).

__________________

سعد ج ٢ ص ٢٨٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٠ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٢٨٤ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٧٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٣.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٦ وقال في هامشه : أخرجه أبو يعلي ج ١٢ ص ٨٨ (٥ / ٦٧٢٠) وفيه سليمان الشاذكوني وضّاع ، وراجع : مسند أبي يعلى ج ١٢ ص ٨٨ والمعجم الكبير ج ١٨ ص ٢٧٥ والكامل لابن عدي ج ٧ ص ١٤٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٤ و ٢٨٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٦ وقال في هامشه : انظر المجمع ج ٣ ص ٢٦ في باب ما جاء في الكفن ، والمحلى لابن حزم ج ٥ ص ١١٩ وتلخيص الحبير ج ٥ ص ١٣٢ وسبل السلام ج ٢ ص ٩٥ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٧١ ومسند أحمد ج ١ ص ٩٤ و ١٠٢ ومجمع الزوائد ج ٣ ص ٢٣ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ٦٥ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ١٤٨ ونصب الراية ج ٢ ص ٣١٠ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ١ ص ٢٣١ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٥٦ و ٢٦٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٨٧ وكتاب المجروحين ج ٢ ص ٣ والكامل لابن عدي ج ٤ ص ١٢٩ وتاريخ بغداد ج ٣ ص ٢٧٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٠.


وروى البزار برجال الصحيح ، عن أبي هريرة قال : كفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ريطتين وبرد نجراني (١).

وروى الطبراني بسند حسن ، عن أنس : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كفن في ثلاثة أثواب ، أحدها قميص.

وروى ابن سعد عن ابن عمر قال : كفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ثلاثة أثواب بيض يمانية (٢).

وروى ابن سعد ، والبيهقي ، عن الشعبي قال : كفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ثلاثة أثواب سحولية ، برود يمانية غلاظ ، إزار ، ورداء ، ولفافة (٣).

وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجة بسند ضعيف ، عن ابن عباس : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كفن في ثلاثة أثواب ، قميصه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٧ وقال في هامشه : انظر المجمع ج ٣ ص ٢٦ وابن سعد ج ٢ ص ٢١٧ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٨٤. وراجع : عمدة القاري ج ٨ ص ٤٩ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٢ ص ١٤٠ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٧ وقال في هامشه : عن ابن سعد في الطبقات ج ٢ ص ٢١٦ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٨٢. وراجع : كنز العمال ج ٧ ص ٢٥٧.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٧ وفي هامشه : عن ابن سعد ج ١ ص ٢١٨ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٨٥ والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٤٩. وراجع : كنز العمال ج ٧ ص ٢٥٧ وسبل السلام ج ٢ ص ٩٤ وعمدة القاري ج ٨ ص ٤٩ وشرح سنن النسائي ج ٤ ص ٣٥ وحاشية السندي على النسائي ج ٤ ص ٣٥.


الذي مات فيه وحلة نجرانية (١).

وروي عنه قال : كفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ثوبين أبيضين وفي برد أحمر.

وروى ابن سعد من طرق صحيحة ، عن سعيد بن المسيب قال : كفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ريطتين وبرد نجراني.

وروى عبد الرزاق ، عن معمر عن هشام بن عروة ، قال : لف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في برد حبرة جعل فيه ثم نزع عنه (٢).

وبملاحظة هذه التناقضات يتضح : أن الرجوع إلى كتاب الله وعترة نبيه ، هو الذي يوجب الأمن من الضلال ، كما قرره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مرات ومرات في المواقف المختلفة ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٢٧ وقال في هامشه : أبو داود ج ١ ص ٢١٦ (٣١٥٣). وراجع : تلخيص الحبير ج ٥ ص ١٣٢ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٧٠ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٢٢ وعمدة القاري ج ٨ ص ٤٩ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ٦٥ وعون المعبود ج ٨ ص ٢٩٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ١٤٤ والمعجم الكبير ج ١١ ص ٣٢٠ والإستذكار لابن عبد البر ج ٣ ص ٥ و ١٦ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢ ص ١٦٣ وج ٢٢ ص ١٤٢ ونصب الراية ج ٢ ص ٣١٠ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ١ ص ٢٣٠ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٤ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٣٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٤.

(٢) جميع ما تقدم ذكره الصالحي الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد وأشير إليه في هوامشه ، فراجع : ج ١٢ ص ٣٢٦ و ٣٢٧. وراجع في المورد الأخير : نيل الأوطار ج ٤ ص ٧١ وفتح الباري ج ٣ ص ١٠٨.


تناقض موهوم :

وذكروا : أنهم حين أرادوا تكفينه شق علي «عليه‌السلام» قميصه من قبل جيبه ، حتى بلغ سرته (١).

ولا ينافي ذلك ما روي من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يجرد من قميصه (٢). فإن المقصود : أنه لم يجرد للغسل ، فلا ينافي تجريده للتكفين.

__________________

(١) علل الشرائع ج ١ ص ٣١٠ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٠٠ والبحار ج ٢٢ ص ٥١٨ و ٥٢٩ والإرشاد (ط دار المفيد) ج ١ ص ١٨٧ وإعلام الورى ص ١٤٣ و ١٤٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٦٩ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٥٥ وقصص الأنبياء للراوندي ص ٣٥٧.

(٢) الخصال ج ٢ ص ٥٧٣ و ٥٧٤ والبحار ج ٢٢ ص ٥٤٤ و ٥٤٦ وج ٣١ ص ٤٣٤ وج ٧٨ ص ٣٠٥. ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٩٨ والأمالي للشيخ الطوسي ج ٢ ص ٧ و ٨ وعن الطرائف ص ٤٤ و ٤٥ و ٤٨ وراجع : شرح الأخبار ج ٢ ص ٤١٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٥٥ ومستند الشيعة للنراقي ج ٣ ص ١٥٠.


الباب الثالث عشر

دفن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حدث .. وتحقيق

الفصل الأول : دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

الفصل الثاني : أبن دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

الفصل الثالث : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مات شهيدا

الفصل الرابع : جسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السماء



الفصل الأول :

دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله



دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحداث وتفاصيل :

ودخل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد ليتولوا دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فنادت الأنصار من وراء البيت : يا علي ، إنا نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يذهب ، أدخل منا رجلا يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال : ليدخل أوس بن خولي ، وكان بدريا فاضلا من بني عوف من الخزرج ، فلما دخل قال له علي «عليه‌السلام» : انزل القبر.

فنزل ووضع أمير المؤمنين رسول الله «عليهما‌السلام» على يديه ودلاه في حفرته ، فلما حصل في الأرض قال له : اخرج.

فخرج ، ونزل علي القبر ، فكشف عن وجه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ووضع خده على الأرض موجها إلى القبلة على يمينه ، ثم وضع عليه اللبن ، وأهال عليه التراب (١).

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥١٩ و ٥٢١ و ٥٣٠ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٨٨ وإعلام الورى ص ١٤٣ و ١٤٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٧٠ والأنوار البهية ص ٤٨ ومستدركات علم رجال الحديث ج ١ ص ٧٠٦ وجامع أحاديث


وكان ذلك في يوم الإثنين ، لليلتين بقيتا من صفر ، سنة عشر من هجرته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو ابن ثلاث وستين سنة.

ولم يحضر دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أكثر الناس لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة ، وفات أكثرهم الصلاة عليه لذلك ، وأصبحت فاطمة «عليها‌السلام» تنادي : وا سوء صباحاه.

فسمعها أبو بكر ، فقال لها : إن صباحك لصباح سوء.

واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فتبادروا إلى ولاية الأمر ، واتفق لأبي بكر ما اتفق ، لاختلاف الأنصار فيما بينهم ، وكراهية الطلقاء والمؤلفة قلوبهم من تأخر الأمر حتى يفرغ بنو هاشم ، فيستقر الأمر مقره ، فبايعوا أبا بكر لحضوره المكان (١).

ونذكر القارئ بما يلي :

١ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دفن قبل انتهاء أهل السقيفة من سقيفتهم ، وقد ذكرنا ذلك أكثر من مرة ، وقد صرح الشيخ المفيد بذلك

__________________

الشيعة ج ٣ ص ٤٢٥ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣٣٠ وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ١٥٢ والدر النظيم ص ١٩٦ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٤ وفي هامشه عن : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٣٢٨ وعن دلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ٢٥٢ وعن سنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٩٦.

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥١٨ و ٥١٩ و ٥٢٠ و ٥٢٩ و ٥٣٠ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٨٨ والأنوار البهية ص ٥٠.


أيضا ، فقال : «وقد جاءت الرواية : أنه لما تم لأبي بكر ما تم وبايعه من بايع ، جاء رجل إلى أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وهو يسويّ قبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمسحاة في يده ، فقال له : إن القوم قد بايعوا أبا بكر ، ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم ، وبدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفا من إدراككم الأمر.

فوضع طرف المسحاة في الأرض ويده عليها ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١)» (٢).

٢ ـ إننا لا ننكر ان يكون أناس من الأنصار وبعض من المهاجرين ممن لا حول لهم ولا قوة قد بقوا في المسجد ، أو على مقربة منه ، وأن يطلب هؤلاء أو أولئك من علي «عليه‌السلام» أن ينالوا شرف المشاركة في مراسم دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيشركهم «عليه‌السلام» في ذلك ..

في حين أن الطامحين والطامعين لم يكترثوا لموت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل تجمعوا واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لابتزاز هذا الأمر من صاحبه الشرعي على حين غفلة ، حيث كان مشغولا بتجهيز ودفن خير خلق الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

__________________

(١) الآيات ١ ـ ٤ من سورة العنكبوت.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٥١٨ ـ ٥٢٠ وج ٢٤ ص ٢٣٠ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ١٤٩ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٨٩.


٣ ـ قد صرح المفيد «رحمه‌الله» : بأن دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان في يوم الإثنين في الثامن والعشرين من شهر صفر ..

وهذا هو المؤيد بالشواهد العديدة ، وذلك في غياب أكثر المهاجرين والأنصار ، لا نشغالهم في السقيفة ..

أما دعوى تأخير دفنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يومين أو أكثر ، فلا مبرر لقبولها ، فإن من الواضح : أن تجهيز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ودفنه لا يحتاج إلى أكثر من ساعتين أو ثلاث على أبعد تقدير. فلما ذا يبقى النبي الأعظم بلا دفن ، مع أن التعجيل في دفن الموتى مستحب ، ولم يكن علي «عليه‌السلام» ليفرط في هذا المستحب من دون داع أهم ، أو سبب موجب.

٤ ـ ولا نريد التعليق على قول أبي بكر لفاطمة الزهراء «عليها‌السلام» : إن صباحك لصباح سوء ، بل نترك ذلك للقارئ الكريم المؤمن والمنصف ..

أبو طلحة يلحد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد وضع «عليه‌السلام» سرير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عند رجل القبر ، وسلّه سلّا (١).

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٤١ وفي هامشه عن تهذيب الأحكام ج ١ ص ٣٠ و (ط) ج ١ ص ٢٩٦ وراجع : مصباح الفقيه (ط. ق) ج ١ ق ٢ ص ٤١٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٨٤ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٥٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٢٣٠ ومنتقى الجمان ج ١ ص ٢٥٩.


وعن ابن عباس : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سلّ من قبل رأسه (١).

وروي : أن أبا طلحة لحد له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم خرج أبو طلحة ، ودخل علي «عليه‌السلام» القبر ، فبسط يده ، فوضع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأدخله اللحد (٢).

وعن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لحد له أبو طلحة الأنصاري (٣).

وعن ابن عباس قال : لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعا العباس رجلين فقال لأحدهما : اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح ، وكان يضرح لأهل مكة. وقال لآخر : اذهب إلى أبي طلحة ، وكان هو الذي

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٤ والمسند للشافعي ج ١ ص ٢١٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٥٤ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٥٠ و ٣٥١ وكتاب الأم للشافعي ج ١ ص ٣١١ ومختصر المزني ص ٣٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٩٢ وراجع : المعتبر ج ١ ص ٢٩٩ وتذكرة الفقهاء (ط. ج) ج ٢ ص ٩١ و (ط. ق) ج ١ ص ٥٢ ونهاية الإحكام للعلامة الحلي ج ٢ ص ٢٧٥.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٥١٦ ج ٧٨ ص ٣١٨ وعن فقه الرضا ص ٢٠ و (نشر المؤتمر العالمي للإمام الرضا) ص ١٨٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٠٠ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣١٦.

(٣) البحار ج ٢٢ ص ٥٣٨ عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٤٦ و (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج ٣ ص ١٦٦ وتهذيب الأحكام للطوسي ج ١ ص ٤٥١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٦٦ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٣٦ ورياض المسائل ج ٢ ص ٢١٨ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ١٠٠ ونهاية الإحكام للعلامة الحلي ج ٢ ص ٢٧٤ والمعتبر للمحقق الحلي ج ١ ص ٢٩٦.


يحفر لأهل المدينة ، وكان يلحد.

فقالوا : اللهم خر لرسولك ، فوجدوا أبا طلحة ، فجيء به ، ولم يوجد أبو عبيدة ، فلحد لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسط الليل من ليلة الأربعاء (١).

وفي نص آخر قالوا : نستخير ربنا ، ونبعث إليهما ، فأيهما سبق تركناه ، فارسلوا إليهما ، فسبق صاحب اللحد الخ .. (٢).

ونقول :

ألف : إذا كان الراجح والمستحب شرعا هو اللحد ، فلم يكن علي «عليه‌السلام» ليختار أو ليرضى بغير ما هو راجح شرعا.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٤ عن أبي يعلى وابن ماجة وفي هامشه عن : دلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ٢٥٢ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٩٦ وعن الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٢٨ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٩٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥١ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٣٤٩ وراجع : مسند أحمد ج ١ ص ٨ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٣٦ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٥٠ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ٣١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٧ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٦٦ وتنوير الحوالك ص ٢٤٠ والبحار ج ٢٢ ص ٥١٨ ـ ٥٢٠ والإرشاد للمفيد.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٦ وفي هامشه عن : الموطأ ج ١ ص ٢٣١ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٩٦. وراجع : نيل الأوطار ج ٤ ص ١٢٥ ومسند أحمد ج ٣ ص ١٣٩ وعمدة القاري ج ٨ ص ١٥٩ وعون المعبود ج ٩ ص ١٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٩ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ١ ص ٢٣٩ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٤٩.


ب : ليس اللحد فنا فريدا يحتاج إلى متخصص فيه ، بحيث لا يحسنه غيره ، بل هو أمر ميسور لكل أحد. ولا معنى لترك ذلك للصدف كما زعموا.

ج : إن أبا عبيدة حفار القبور كان في السقيفة ، يسعى في البيعة لأبي بكر ، فكيف يترك موقعه ، ويأتي لحفر قبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!.

د : إن عليا «عليه‌السلام» لم يكن ليؤخر دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، إذ إن التعجيل راجح ومستحب (١). ولا مانع من العمل به ، ولا ضرورة تلجئ إلى ما عداه ..

وقد ادّعى بعضهم : أن السبب في التأخير هو عدم اتفاقهم على موته (٢).

ويردّ هذه الدعوى : أن اختلافهم في موته لم يدم طويلا ، وقد حسم الأمر بمجيء أبي بكر من السنح ، الذي لم يكن يحتاج إلى أكثر من نصف ساعة ، إلا إذا كان أبو بكر قد تعمد أن يتأخر يومين ، أو أكثر ، لينجز مهمة كبيرة ، تحتاج إلى كل هذا الوقت الطويل ، فلنا أن نسأل عن طبيعة هذا العمل الذي هو عنده أهم من وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويحتاج إلى كل هذا الوقت.

فقد يقال : إن هذه المهمة هي جمع آلاف الرجال ، وإعدادهم في مواضع

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٣. راجع : الكافي ج ٣ ص ١٣٧ باب تعجيل الدفن.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٣ وتفسير القرطبي ج ٤ ص ٢٢٤.


معينة على مشارف المدينة ، ليدخلوها ليلا ، ليفرضوا هيمنتهم وقرارهم فيما يرتبط بالبيعة لأبي بكر ، ومنع الآخرين من أي تحرك. وهذا ما سوف نبينه فيما يأتي.

وفي جميع الأحوال نقول :

إنه لا معنى لتأخير دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى وسط ليلة الأربعاء كما يدّعون .. فالصحيح أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دفن في نفس يوم الإثنين كما هو واضح.

شقران .. والقطيفة الحمراء :

وعن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : ألقى شقران مولى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قبره القطيفة (١).

زاد بعضهم : أنها كانت حمراء ، وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يلبسها.

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٣٩ عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٥٤ و (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج ٣ ص ١٩٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٨٩ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٥٤ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٥ عن الترمذي (١٠٤٧) وانظر شرح السنة ج ٣ ص ٢٦٦ وذخيرة المعاد (ط. ق) ج ١ ق ٢ ص ٣٤٢ وكشف اللثام (ط. ج) ج ٢ ص ٤٠٧ و (ط. ق) ج ١ ص ١٣٨ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ١١٨ وغنائم الأيام ج ٣ ص ٥٤١ وجواهر الكلام ج ٤ ص ٣٣٣.


وقال : والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا (١).

ونقول :

أولا : إن ما يلبسه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يصبح بعد موته للورثة ، فلا يحق لشقران ، ولا لغيره أن يتصرف فيه إلا الإمام «عليه‌السلام».

وشقران إنما كان مولى لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وليس وارثا ، ولا كان هو الإمام المفترض الطاعة ، والنافذ الحكم كرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ثانيا : لما ذا خص شقران بقراره هذا هذه القطيفة الحمراء؟ ولما ذا لم يعممه لما سواها مما كان يلبسه أو يستعمله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ثالثا : قد روي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أمرهم بوضع القطيفة تحته في القبر ، معللا أمره هذا بقوله : فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء (٢).

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٤ و ٣٣٥ عن أبي يعلى وابن ماجة ، وفي هامشه عن : البيهقي في دلائل النبوة ، وعن مسلم ج ٢ ص ٦٦٥ (٩١ / ٩٦٧) وعن الترمذي ، وراجع : سنن ابن ماجة ج ١ ص ٥٢١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٣٠٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٨.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٥ و ٣٣٦ وفي هامشه عن ابن سعد ج ٢ ص ٢٢٩ وعن البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦٩ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٥ ص ٢٨٩ وعن كنز العمال (٤٢٢٤٥). وراجع : شرح سنن النسائي ج ٤ ص ٨٤ ـ


ولعله لأجل هذا قال ابن سعد : قال وكيع : هذا للنبي خاصة (١).

ولكن رواية أخرى عن الحسن تقول : إنه علل ذلك بقوله : وكانت أرضا ندية (٢).

لم ينزل في حفرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير علي عليه‌السلام :

ورد في حديث المناشدة يوم الشورى : أن عليا «عليه‌السلام» قال لهم : «فأنشدكم الله ، هل فيكم أحد نزل في حفرة رسول الله غيري».

قالوا : اللهم لا (٣).

__________________

وحاشية السندي على النسائي ج ٤ ص ٨٢ و ٨٤ والجامع الصغير ج ١ ص ١٨٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٩٩ وكنز العمال ج ١٥ ص ٥٧٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٥ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٩٣.

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٢٩٩ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٦ وشرح سنن النسائي ج ٤ ص ٨٢ وحاشية السندي على النسائي ج ٤ ص ٨٢ ومسند ابن الجعد ص ١٩٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٢٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣ وشرح سنن النسائي ج ٤ ص ٨٢ وحاشية السندي على النسائي ج ٤ ص ٨٢.

(٣) الأمالي للشيخ الطوسي ص ٧ و ٨ و (ط دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع ـ قم) ص ٥٥٥ والبحار ج ٢٢ ص ٥٤٤ وج ٣١ ص ٣٦٨ عنه ، وكتاب الولاية لابن عقدة ص ١٦٥.


قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن أبي البختري عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي «عليه‌السلام» : إن قبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رفع من الأرض قدر شبر ، وأربع أصابع ، ورش عليه الماء .. قال علي «عليه‌السلام» : والسنة أن يرش على القبر الماء (١).

وروى الكليني بسنده عن عقبة بن بشير ، عن أبي جعفر «عليه‌السلام» قال : قال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» : يا علي ، ادفني في هذا المكان ، وارفع قبري من الأرض أربع أصابع ، ورش عليه من الماء (٢).

وروي عن أبي جعفر «عليه‌السلام» : أن قبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رفع شبرا من الأرض (٣).

__________________

(١) قرب الإسناد (ط حجرية) ص ٧٢ و (ط مؤسسة آل البيت) ص ١٥٥ والبحار ج ٢٢ ص ٥٠٦ وج ٧٩ ص ٣٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٩٤ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٥٨ وسنن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للطباطبائي ص ٢٥٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٤١ والأنوار البهية ص ٤٩.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٥٣٩ عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٤٥٠.

(٣) البحار ج ٢٢ ص ٥٤١ عن تهذيب الأحكام ج ١ ص ١٣٢ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ١ ص ٤٦٩ وكشف اللثام (ط. ج) ج ٢ ص ٣٩٥ و (ط. ق) ج ١ ص ١٣٧ والتحفة السنية (مخطوط) ص ٣٥٦ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ١٢٥ ورياض المسائل ج ٢ ص ٢٣٣ وغنائم الأيام ج ٣ ص ٥٣٥ ومستند الشيعة ج ٣ ص ٢٧٥ وجواهر الكلام ج ٤ ص ٣١٤ ومصباح الفقيه (ط. ق) ج ١ ق ٢ ص ٤٢٣ وعلل الشرائع ج ١ ص ٣٠٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣


وذكروا أيضا : أن عليا «عليه‌السلام» قد رفع القبر (١).

وعن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : جعل علي «عليه‌السلام» على قبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبنا (٢).

وذكرت بعض الروايات : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أمرهم بنصب اللبن عليه (٣).

وعن علي بن الحسين «عليه‌السلام» : نصبت عليه في اللحد تسع لبنات (٤).

__________________

ص ١٩٤ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٥٧ والبحار ج ٢٢ ص ٥٤١ وج ٧٩ ص ١٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٤١.

(١) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٥٢ والبحار ج ٢٢ ص ٥٢١ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ٣٩٧ والدر النظيم ص ١٩٦.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٥٣٩ عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٥٤ و ٥٥ و (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج ٣ ص ١٩٧ والحبل المتين (ط. ق) للبهائي العاملي ص ٧٠ ورياض المسائل للطباطبائي ج ٢ ص ٢٢٩ وغنائم الأيام ج ٣ ص ٥٣٢ ومستند الشيعة ج ٣ ص ٢٧٢ وجواهر الكلام ج ٤ ص ٣٠٨ ومصباح الفقيه (ط. ق) ج ١ ق ٢ ص ٤٢٣ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٨٩ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٥٤ والأنوار البهية ص ٤٩ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٠٤.

(٣) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٥ و ٣٣٦ عن مسدد ، وعن مسلم وابن سعد ، والمطالب العالية ج ٤ ص ٢٥٨ ، والحاكم والبيهقي وابن ماجة عن إتحاف المهرة.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٥ وفي هامشه عن : ابن سعد ج ٢ ص ٢٢٧


وعنه «عليه‌السلام» قال : قبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» محصب حصباء حمراء (١).

وعن جابر قال : رش على قبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الماء رشا قال : وكان الذي رش على قبره الماء بلال بن رباح بقربة ، بدءا من قبل رأسه من شقه الأيمن ، حتى انتهى إلى رجليه. ثم ضرب الماء إلى الجدار ، ولم يقدر على أن يدور من الجدار (٢).

آخر الناس عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وروي برجال ثقات عن أبي عسيب : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما وضع في لحده ، قال المغيرة بن شعبة : إنه قد بقي من قبل رجليه

__________________

ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٥٢. وراجع : روضة الطالبين للنووي ج ٧ ص ٤٠٩ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٦ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ١ ص ٤٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٥.

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٣٩ عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٥٤ و ٥٥ و (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج ٣ ص ٢٠١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ٢٠٣ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٦٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٤٣ والأنوار البهية ص ٤٩ وتهذيب الأحكام ج ١ ص ٤٦١ والدعوات للراوندي ص ٢٧٣ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ١٣٧ ومستند الشيعة ج ٣ ص ٢٧٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٥ عن ابن سعد والبيهقي ، وفي هامشه عن ابن سعد ج ٢ ص ٢٣٣ وعن البيهقي ج ٧ ص ٢٦٤. وراجع : إمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٣٨.


شيء لم تصلحوه.

قالوا : فادخل فأصلحه.

فدخل فمسح قدميه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم قال : أهيلوا عليّ التراب!

فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه ، فخرج فجعل يقول : أنا أحدثكم عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وعن عروة بن الزبير قال : لما وضع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في لحده ألقى المغيرة بن شعبة خاتمه في القبر ، ثم قال : خاتمي.

فقالوا : ادخل فخذه.

قال : فدخل ثم قال : أهيلوا عليّ التراب.

فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف قدميه ، فخرج.

فلما سوّي على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : اخرجوا حتى أغلق الباب ، فإني أحدثكم عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : لعمري ، لئن كنت أردتها لقد أصبتها (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٣١ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٣٠٣. وراجع : مسند أحمد ج ٥ ص ٨١ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ٢٩٦ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٤ ص ١٧١٥ وأسد الغابة ج ٥ ص ٢٥٤ والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج ٧ ص ٢٢٩ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٣١ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٣٠٣ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٨.


وعن المغيرة بن شعبة قال : لأنا آخر الناس عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حضرنا ولحدنا ، فلما حضروا ودفنوا ألقيت الفأس في القبر ، فقلت : الفأس الفأس ، فأخذته ومسحت بيدي على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

رواه أبو يعلى بلفظ : ألقيت خاتمي ، فقلت : يا أبا الحسن ، خاتمي.

قال : انزل فخذ خاتمك.

ووضعت يدي على الكفن ثم خرجت ، فنزلت فأخذت خاتمي (١). في سنده مجالد وهو ضعيف.

وروى الطبراني برجال ثقات ـ غير مجالد ، وهو مختلف فيه ـ عن المغيرة بن شعبة قال : كنت فيمن حفر قبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قالوا : فلحدنا لحدا ، فلما دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» القبر طرحت الفأس ثم قلت : الفأس الفأس ، ثم نزلت فوضعت يدي على اللحد (٢).

وروى أيضا بإسناد قوي عن ابن أبي مرحب قال : نزل في قبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أربعة : أحدهم عبد الرحمن بن عوف ، وكان المغيرة بن

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٨ عن المطالب العالية ج ٤ ص ٢٦٣ (٤٣٩٦ و ٤٣٩٧) والآحاد والمثاني ج ٣ ص ٢٠١ وراجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٩٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٣٠٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٠ ص ٢٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٨ و ٣٣٩ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ٤١٤ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦٠ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٩٥.


شعبة يدّعي : أنه أحدث الناس عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويقول : أخذت خاتمي ، فألقيته ، وقلت : خاتمي سقط من يدي ، لأمسّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأكون آخر الناس عهدا به (١).

ونقول :

إن ما ادّعاه المغيرة لنفسه ، لا يصح ، كما أن ما ادّعوه لقثم بن العباس غير صحيح أيضا .. وإن صححه الحاكم ، أو غيره .. فلاحظ ما يلي :

١ ـ بالنسبة للمغيرة نقول :

قال الحاكم أصح الأقاويل : أن آخر الناس عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قثم بن العباس (٢).

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما وضع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في لحده ألقى المغيرة بن شعبة خاتمه في قبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال علي : إنما ألقيته لتنزل.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٩ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٦١ وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٤١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٩١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٧ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٩٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٩. وراجع : ذخائر العقبى ص ٢٣٨ والآحاد والمثاني ج ١ ص ٢٩٥ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١٣٠٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٤٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٣٠٤ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٩٧ وتهذيب التهذيب ج ٨ ص ٣٢٤ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٨٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٩٥.


فنزل فأعطاه إياه ، أو أمر رجلا فأعطاه (١).

وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل : أن نفرا من أهل العراق قالوا لعلي بن أبي طالب «عليه‌السلام» : يا أبا الحسن ، جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه.

قال : أظن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان أحدث الناس عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

قالوا : أجل ، عن ذلك جئنا لنسألك.

قال : أحدث الناس عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قثم بن العباس (٢).

٢ ـ قال ابن كثير : وقول من قال : إن المغيرة بن شعبة كان آخرهم عهدا ليس بصحيح ، لأنه لم يحضر دفنه ، فضلا عن أن يكون آخرهم عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٨ عن البيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٥٨ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ١١٢١. وراجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٩١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٨ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢٣ ص ٥١٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٨ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ٢٥٧.

وراجع : مسند أحمد ج ١ ص ١٠١ والكامل لابن عدي ج ١ ص ٤٧ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٩٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٩٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٧.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٩ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٤.


وقول الصالحي الشامي : فيه نظر ، إنما استند فيه إلى دعاوى المغيرة نفسه. وهو غير مأمون في ذلك.

يكفي أن نذكر أن عليا أمير المؤمنين «عليه‌السلام» قد وصفه بقوله : «فإنه والله دائما يلبس الحق بالباطل ، ويموه فيه ، ولم يتعلق من الدين إلا بما يوافق الدنيا» (١).

وقد تقدم في بعض المواضع من هذا الكتاب ما يشير إلى حال المغيرة ، ويمكن مراجعة ترجمته في كتاب قاموس الرجال للعلامة التستري «رحمه‌الله» ، وفي تنقيح المقال للعلامة المامقاني : ليقف الإنسان المنصف على حال هذا الرجل ، وما ارتكبه من موبقات ومآثم (٢).

٣ ـ هناك ما ينفي حضور كل من المغيرة وعبد الرحمن بن عوف دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فضلا عن أن يكون عبد الرحمن بن عوف دخل معهم القبر ، فقد قالوا : «ولي وضع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قبره هؤلاء الرهط الذين غسلوه : العباس ، وعلي ، والفضل ، وصالح مولاه. وخلّى أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين رسول الله وأهله ، فولوا إجنانه» (٣).

__________________

(١) راجع : الأمالي للمفيد ص ٢١٨ والبحار ج ٣٢ ص ١٢٥ وقاموس الرجال ج ١٠ ص ١٩٤.

(٢) راجع : قاموس الرجال ج ١٠ ص ١٩٤ ومستدركات علم رجال الحديث ج ٧ ص ٤٧٠ ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج ١٩ ص ٣٠٣.

(٣) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ق ٢ ص ٧٠ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٣٠١ عن البدء والتاريخ ، وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٧ وراجع : الغدير ج ٧ ص ٧٥.


٤ ـ في نص آخر : «ودخل القبر علي ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وشقران مولاه. ويقال : أسامة بن زيد. وهم تولوا غسله وتكفينه وأمره كله» (١).

٥ ـ في نص آخر : «وولي دفنه وإجنانه أربعة من الناس» ثم ذكر أنهم : علي ، والعباس ، والفضل ، وصالح (٢).

٦ ـ قال ابن سعد : «فلم يدفن حتى كانت العتمة ، ولم يله إلا أقاربه» (٣).

بل إن هذه النصوص نفسها تدل على عدم حضور أسامة بن زيد دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فضلا عن صالح ، وشقران ، فإن أسامة لم يكن من أقارب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا هو من أهله.

٧ ـ إن لدينا ما يدل على أن أحدث الناس عهدا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو علي «عليه‌السلام» .. فقد ورد في حديث المناشدة قول علي «عليه‌السلام» : «نشدتكم بالله ، أفيكم أحد كان آخر عهده برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى وضعه في حفرته غيري»؟!.

قالوا : اللهم لا (٤).

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٩.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٩ عن الطبراني ، وكنز العمال ج ٧ ص ٢٤٩ و (ط مؤسسة الرسالة) ج ٧ ص ٢٧٠. وراجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ٢٠٥ وج ٨ ص ٥٦٧.

(٣) راجع : الطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج ٢ ص ٣٠٤ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٤ ص ٣٩٦. وراجع : الغدير ج ٧ ص ٧٥.

(٤) راجع : المناقب للخوارزمي ص ٣١٥ وكتاب الولاية لابن عقدة الكوفي ص ١٧٨ ـ


ويدل على ذلك أيضا قول عتبة بن أبي لهب :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف

عن هاشم ، ثم منها عن أبي حسن

إلى أن قال :

وآخر الناس عهدا بالنبي ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن (١)

__________________

وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٤٣٣ و ٤٣٥ وكنز العمال ج ٥ ص ٧٢٦ وراجع : الأمالي للطوسي ص ٥٤٧ والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص ١١٨ والطرائف لابن طاووس ص ٤١٣ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٢٢٢ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٣٢٦ وكتاب الأربعين للشيخ الماحوزي ص ٤٣٣ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» ج ٥ ص ٤٥٤ ونهج السعادة ج ١ ص ١٣٣ و ١٤٠ وضعفاء العقيلي ج ١ ص ٢١٢ والموضوعات لابن الجوزي ج ١ ص ٣٨٠ ومناقب علي بن أبي طالب للأصفهاني ص ١٢٩ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٥٣٠ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج ٣ ص ١١٦ وغاية المرام ج ٥ ص ٧٩ وج ٦ ص ٦ وشرح إحقاق الحق ج ٥ ص ٣٠ و ٣٩ وج ٨ ص ٧٠١ و ٧٠٢ وج ١٥ ص ٦٨٤ و ٦٨٦.

(١) راجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٢٤ والغدير ج ٣ ص ٢٣٢ وج ٧ ص ٩٣ عنه ، وعن رسائل الجاحظ ص ٢٢ وأسد الغابة ج ٤ ص ٤٠ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٦٤ والإستيعاب لابن عبد البر ج ٣ ص ١١٣٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢١ وج ١٣ ص ٢٣٢ والصراط المستقيم ج ١ ص ٢٣٧ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٨٧ والبحار ج ١٢ ص ٣٣٧ وج ٢٨ ص ٣٥٢ ومناقب أهل البيت «عليه‌السلام» للشيرواني ص ٤٧ والتفسير الكبير للرازي ج ٢ ص ٢١٢ وج ١٨ ص ٢١٢ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري ص ١٢٢ والعثمانية للجاحظ ص ٢٩٣ والوافي بالوفيات ج ٢١ ص ١٨٣.


الزهراء عليها‌السلام ترثي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» قال : لما رمس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جاءت فاطمة «عليها‌السلام» ، فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينيها وبكت ، وأنشأت تقول :

ماذا على من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت عليّ مصائب لو أنها

صبت على الأيام عدن لياليا (١)

ونقول :

إننا نشير إلى أمرين :

أحدهما : أن هذا الشعر قد تضمن أنها «عليها‌السلام» قد واجهت مصائب كبيرة ، وعديدة ، وموت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس إلا إحدى المصائب ..

وهذا معناه : أنها قد قالت هذين البيتين بعد تعرضها للضرب ، وإسقاط الجنين ، واقتحام البيت ، وإشعال النار فيه ، وما إلى ذلك .. فإن هذه المصائب المتعددة يصح أن تصفها الزهراء «عليها‌السلام» بأنها لو صبت على الأيام

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٧ عن طاهر بن يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي ، وعن ابن الجوزي في الوفاء ، وراجع : المغني لابن قدامة ج ٢ ص ٤١١ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ١٦٩ والغدير ج ٥ ص ١٤٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ١٠ ص ٤٨٣ وج ٢٥ ص ٥٢٥ ونظم درر السمطين ص ١٨١ وروضة الواعظين للفتال النيسابوري ص ٧٥ وتفسير الآلوسي ج ١٩ ص ١٤٩ والفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ ج ١ ص ٦٧٢.


صرنا لياليا.

ويؤكد ذلك : أن عليا «عليه‌السلام» حين دفن الزهراء «عليها‌السلام» خاطب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : «فاحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج في صدرها لم تجد إلى بثه سبيلا ، وستنبؤك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها» (١).

فهناك إذن مصائب عديدة وردت على الزهراء «عليها‌السلام» لم تصل أخبارها إلينا ، ولم تحدث بها الزهراء «عليها‌السلام» أحدا ، وليس استشهاد أبيها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا أحدها ، فما هي هذه المصائب والبلايا يا ترى؟!

الفطن الذكي هو الذي يدري!!

الثاني : قد اتضح مما تقدم : أن ثمة تدليسا ظاهرا في طريقة عرض ما جرى ، لأنه أراد أن يوهم أن الهدف من هذا الشعر هو الإشارة إلى مصابها بموت رسول الله دون ما عداه ، فادّعى : أن ذلك قد حصل بمجرد فراغهم من دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقال ابن سيد الناس : ولما دفن «عليه‌السلام» قالت فاطمة ابنته «عليها‌السلام» :

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٤٥٩ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ١٣٩ والبحار ج ٤٣ ص ١٩٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٦٥ ودلائل الإمامة للطبري (الشيعي) ص ١٣٨ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ٣٢٥. وراجع : روضة الواعظين ص ١٥٢ ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٢ ص ١٨٢ وكشف الغمة ج ٢ ص ١٢٧.


اغبر آفاق السماء وكورت

شمس النهار وأظلم العصران

فالأرض من بعد النبي كئيبة

أسفا عليه كثيرة الرجفان

فليبكه شرق البلاد وغربها

ولتكبه مضر وكل يمان

وليبكه الطود المعظم جوه

والبيت ذو الأستار والأركان

يا خاتم الرسل المبارك ضوءه

صلى عليك منزل الفرقان

ويروى أنها تمثلت بشعر فاطمة بنت الأحجم :

قد كنت لي جبلا ألوذ بظله

فتركتني أمشى بأجرد ضاح

قد كنت ذات حمية ما عشت لي

أمشى البراز وكنت أنت جناحي

فاليوم أخضع للذليل وأتقى

منه وأدفع ظالمي بالراح

وإذا دعت قمرية شجنا لها

ليلا على فنن دعوت صباح (١)

ولها «عليها‌السلام» :

كنت السواد لمقلتي

يبكي عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أحاذر (٢)

وقد نسبت هذه الأشعار لآخرين تمقلوا بها في مناسبات أخرة ، ولا مانع من التعدد.

__________________

(١) عيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٤٣٤. وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٨ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ هامش ص ٢٨٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ١٩ ص ١٦١ وج ٢٥ ص ٥٢٣.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٨.


الزهراء عليها‌السلام تخاطب أنسا :

وتزعم بعض الروايات : أن السيدة فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» خاطبت أنسا بن مالك بعبارات مؤثرة ، لتعبر له عن عميق حزنها على أبيها ، فقد رووا عن أنس قال : لما دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قالت فاطمة «عليها‌السلام» : يا أنس ، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» التراب؟! (١).

ونقول :

١ ـ إن كلام الزهراء «عليها‌السلام» مع أنس مشكوك في صحته ، فأنس أجنبي عن الزهراء «عليها‌السلام» ، ولم تكن الزهراء لتكلم رجلا أجنبيا إلا لضرورة ، وليس هذا من مواردها.

وإذا كان وجود الأجنبي الأعمى مع النساء مرفوضا عندها ، لأنه يشم الريح ، فما بالك بشاب في مقتبل العمر ، وهو بكامل قواه ، وفي أوج فتوته؟! مع ما عرفناه عن أنس من عدم التزامه خط الإستقامة في تعامله ، وحديث

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٧ عن البخاري ، وابن سعد ، والمجموع للنووي ج ٥ ص ٣٠٨ ونيل الأوطار ج ٤ ص ١٦١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٤١٠ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٧٤ وفيض القدير ج ٥ ص ٤٧١ ورياض الصالحين للنووي ص ٧٥ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٥٩٢ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٤٠٣ ومسند ابن راهويه ج ٥ ص ١٤ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٣٨٢ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج ٥ ص ١٤٤ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٠٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٣١١ وتاريخ بغداد ج ٦ ص ٢٥٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٩٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٤٣.


الطائر المشوي ، وحديث عدم إقراره بحديث الغدير فدعا «عليه‌السلام» عليه ، واستجاب الله دعاءه فيه ليسا إلا شاهد صدق على ما نقول.

على أن نفس المضمون الذي نسب إليها «عليها‌السلام» لا يحمل أمرا ذا بال ، يستحق حتى أن تتفوه به السيدة الزهراء «عليها‌السلام» أمام رجل أجنبي كأنس؟! ..

ولو سلمنا أنها قالت ذلك بسبب حرقتها وشدة حزنها على أبيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما ذا تختار أنسا لخطابها هذا ، ولا تخاطب به عليا «عليه‌السلام» ، أو عباسا ، أو سلمان ، أو أبا ذر ، أو غير هؤلاء ممن تعرف أن فقد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوف يحزنهم حقا ، وبدرجة كبيرة؟!

إلا إذا فرض : أن الزهراء «عليها‌السلام» تتهم فريقا من الناس بأنهم يودّون موت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن دفنه يفرحهم ، فيكون سؤالها لأنس بمثابة اتهام له ، وإفهامه هو وغيره بأنها على علم بما يفكر به هؤلاء ، وأن إظهارهم الحزن مجرد تمثيل ، يهدف إلى خداع الناس ، والتعمية عليهم.

على أن أنسا كان معروفا بانحرافه عن علي «عليه‌السلام» ، وقضيته معه في حديث الطير ، وكتمانه لحديث الغدير ، وإصابة دعوة علي له مما لا يخفى على أحد.

الجزع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى المفيد بسنده إلى ابن عباس قال : لما توفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تولى غسله علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» والعباس معه ، والفضل


بن العباس ، فلما فرغ «عليه‌السلام» من غسله كشف الإزار عن وجهه ، ثم قال : بأبي وأمي ، طبت حيا ، وطبت ميتا ، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك ، من النبوة ، والأنبياء ، خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء.

ولو لا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك الشؤون ، ولكان الداء مما طلا ، والكمد محالفا ، وقلّا لك ، ولكنه ما لا يملك رده ، لا يستطاع دفعه.

ثم أكب عليه فقبل وجهه والإزار عليه (١).

والشؤون : هي منابع الدمع في الرأس.

ونقول :

قد يقال : إن عليا «عليه‌السلام» ذكر أن امتناعه عن إنفاذ ماء الشؤون عليه ، لأن ذلك يعد جزعا ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر بالصبر ، ونهى عن الجزع.

مع أن ثمة نصا آخر مرويا عنه «عليه‌السلام» يخالف هذا المعنى ويدل على أنه لا مانع من الجزع عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث يقول : «إن الصبر لجميل إلا عنك ، وإن الجزع لقبيح إلا عليك» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٢ ص ٢٢٨ والأمالي للمفيد ص ٦٠ و (نشر دار المفيد) ص ١٠٣ والبحار ج ٢٢ ص ٣٢٧ والبحار ج ٢٢ ص ٥٢٧ و ٥٤٢ والأنوار البهية ص ٤٥ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢ ص ١٦٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٤ وتمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني ص ٤٨٨.

(٢) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٤ ص ٧١ البحار ج ٧٩ ص ١٣٤ ودستور معالم ـ


وقد جزع الإمام الصادق «عليه‌السلام» على ابنه إسماعيل جزعا شديدا (١) ، وجزع آدم على ابنه هابيل (٢).

ونجيب :

أولا : إنه لا منافاة بين ذلك كله ، فإن للجزع مراتب ، بعضها محرم مطلقا ، حتى لو كان جزعا على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والوصي ، وهو ما يوجب اختلال الحال ، لمجرد كونه أبا أو قريبا ، أو لتخيله فوات أمر دنيوي بموته ، ومن دون أية فائدة أو عائدة ، لا على الإنسان في مزاياه وأخلاقه ، ولا على الدين ..

وهناك مرتبة من الجزع تحرم إذا كان المصاب بغير النبي والوصي ، وتحل إذا كان المصاب بهما «صلوات الله عليهما وآلهما». شرط أن يكون له فائدة على الإنسان في إيمانه وتقواه ، أو على نصرة الدين ، وحفظ المسلمين ، كجزع يعقوب على يوسف «عليهما‌السلام» ، الذي كان جزعا محبوبا لله

__________________

الحكم ص ١٩٨ وعيون الحكم والمواعظ للواسطي ص ١٥٠ وغرر الحكم ص ١٠٣ ونهاية الأرب ج ٥ ص ١٩٣ والبحار ج ٧٩ ص ١٣٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٩٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٩ ص ١٩٥.

(١) راجع : بحار الأنوار ج ٤٧ ص ٢٤٩ و ٢٥٠ ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٦٠.

(٢) البحار ج ١١ ص ٢٢٤ و ٢٣٠ و ٢٤٠ و ٢٦٤ وج ٢٣ ص ٥٩ و ٦٣ و ٦٤ وعلل الشرائع ج ١ ص ١٩ وتفسير العياشي ج ١ ص ٣٠٦ وتفسير القمي ج ١ ص ١٦٦ والتفسير الصافي ج ١ ص ٤١٦ وج ٢ ص ٢٩ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٤٣٢ و ٦١٦ وتفسير كنز الدقائق ج ٢ ص ٣٤١ وقصص الأنبياء للراوندي ص ٥٨.


ومطلوبا ، لأنه يعطيهم الإنطباع عن قيمة الإنسانية في الإنسان ، المتمثلة بما تجلى في يوسف «عليه‌السلام» من خصال الخير ، وحميد الصفات ، وفريد المزايا لدى أنبياء الله وأصفيائه ، وهو يؤكد عظم الخسارة بفقد هذا النوع من الناس.

بالإضافة إلى فوائد أخرى تعود على الجازع نفسه ، تكاملا ، وثباتا ، وصلابة في الدين ، وجهادا وصبرا في سبيل الله تعالى ، إلى الكثير من الفوائد الأخرى ..

فهذا الجزع المفيد جدا محبوب ومطلوب لله تعالى ، حتى لو أدى إلى العمى ، أو الخوف من أن يكون حرضا (١) أو أن يكون من الهالكين ..

وأما الجزع على الناس العاديين الذي لا دافع له إلا شدة التعلق العاطفي ، ولا فائدة منه ولا عائدة ، فهو مبغوض لله ، ومحرم على عباد الله تبارك وتعالى. لأنه إنما يعبر عن أنانية طاغية ، وحب عارم للدنيا ، وتعلق مقيت بها ، لأنه إنما يجزع على شيء فقده ، ولذة فاتته.

وربما يبلغ حدّ إظهار الإعتراض على قضاء الله تعالى وقدره.

وهذا يفسر لنا الروايات الصحيحة التي أكدت على استحباب الجزع على الإمام الحسين «صلوات الله وسلامه عليه» ، ويبين لنا المراد من قول علي «عليه‌السلام» وهو يرثي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن الجزع قبيح إلا عليك الخ ..».

__________________

(١) حرض حرضا من باب تعب : أشرف على الهلاك. راجع مجمع البحرين ج ١ ص ٤٨٩.


ثانيا : قد يشار هنا إلى جواب آخر أيضا ، وهو : أن الجزع ، وإن كان جائزا عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وله درجة من الثواب ، ولكن التجلد والصبر هو الأفضل ، والأكثر ثوابا لأن فيه المزيد من المشقة والجهد ، وهو أيضا يوجب ثبات الناس على دينهم ، وعدم السقوط أمام التحدي الكبير الذي ينتظرهم ، بل قد يتخذ منه بعض المغرضين ذريعة للتخلف عن جيش أسامة ، فأصبح بذلك مرجوحا ، وربما يكون محرما ، وإن كان لو لا ذلك لكان هو الأفضل والأرجح.

الخضر عليه‌السلام يعزي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن أنس قال : لما قبض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحدق به أصحابه ، فبكوا حوله واجتمعوا ، فدخل رجل أشهب اللحية ، جسيم صبيح ، فتخطى [رقابهم] فبكى ، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وعوضا من كل فائت ، وخلفا من كل هالك ، فإلى الله فأنيبوا ، وإليه فارغبوا ، ونظره إليكم في البلاء ، فانظروا ، فإن المصاب من لم يجبره.

فانصرف ، وقال بعضهم لبعض : تعرفون الرجل؟!

قال أبو بكر وعلي : نعم ، هو أخو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخضر «عليه‌السلام» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٤٠ عن ابن أبي الدنيا ، والحاكم ، والبيهقي ، ومسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص ١٠٩ والبحار ج ٧٩ ص ٩٧ وتفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٣٢٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٤٢٤ والبداية والنهاية ج ١ ـ


ونقول :

أولا : قال الصالحي الشامي عن هذا الحديث : قد ذكر في كتاب الموضوعات (١).

وقال البيهقي : هذا منكر بمرة (٢).

وقال الذهبي : عباد بن عبد الصمد ، منكر الحديث (٣).

ثانيا : روى محمد بن عمر برجال ثقات ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم عن علي «عليه‌السلام» : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما قبض وكانت التعزية به جاء آت ، يسمعون حسه ولا يرون شخصه ، فقال : السلام عليكم ، أهل البيت ورحمة الله بركاته (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٤) إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المحروم من حرم الثواب ، وإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله

__________________

ص ٣٨٧ وج ٥ ص ٢٩٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٦٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٥١ وقصص الأنبياء لابن كثير ج ٢ ص ٢٢٨.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٤٠.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ٢٦٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٤٢٤ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٢٩٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٦٤.

(٣) ميزان الإعتدال ج ٢ ص ٣٦٩ وراجع : التاريخ الكبير البخاري ج ٦ ص ٤١ وضعفاء العقيلي ج ٣ ص ١٣٧ والجرح والتعديل للرازي ج ٦ ص ٨٢ وبيان خطأ البخاري للرازي ص ٧٥ وكتاب المجروحين لابن حبان ج ٢ ص ١٧٠ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٢١٠ وج ٤ ص ٣٤٢.

(٤) الآية ١٨٥ من سورة آل عمران.


وبركاته ..

فقال علي : هل تدرون من هذا؟ هذا الخضر «عليه‌السلام» (١).

ولعل هذا أقرب إلى الصواب ، والله هو العالم بالحقائق.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٤٠ وفي هامشه عن : ابن سعد ج ٢ ص ٢١١ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٧٥ وانظر المطالب العالية ج ٤ ص ٢٥٩ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٥١ والمعجم الكبير ج ٣ ص ١٢٩ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٥ والإصابة ج ٢ ص ٢٦٦ و ٢٦٧ والدر المنثور ج ٢ ص ١٠٧ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤٤٤ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٩ ص ٣٠٧٦ وراجع : البحار ج ٢٢ ص ٥٠٥ و ٥١٥ وج ٣٩ ص ١٣٢ والأمالي للصدوق ص ١٦٦ وعن إكمال الدين ص ٢١٩ و ٢٢٠ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٨٤ وروضة الواعظين ص ٧٢ وتفسير كنز الدقائق ج ٢ ص ٣٠٨.



الفصل الثاني :

أين دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!



الإختلاف في موضع دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الصلاة عليه :

روى الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد عن الحلبي ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : أتى العباس أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فقال : يا علي ، إن الناس قد اجتمعوا أن يدفنوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بقيع المصلى ، وأن يؤمهم رجل منهم.

فخرج أمير المؤمنين «عليه‌السلام» إلى الناس فقال : أيها الناس ، إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إمام حيا وميتا.

وقال : إني أدفن في البقعة التي أقبض فيها.

ثم قام على الباب فصلى عليه ، ثم أمر الناس عشرة عشرة يصلون عليه ثم يخرجون (١).

واختلفوا أين يدفن ، فقال بعضهم : في البقيع.

وقال آخرون : في صحن المسجد.

فقال أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : إن الله لم يقبض نبيه إلا في أطهر البقاع ، فينبغي أن يدفن في البقعة التي قبض عليها.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٤٥١ والبحار ج ٢٢ ص ٥٣٩ و ٥٤٠ وراجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.


فاتفقت الجماعة على قوله ، ودفن في حجرته (١).

وروي أنه لما فرغ علي «عليه‌السلام» من غسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكفنه أتاه العباس ، فقال : يا علي ، إن الناس قد اجتمعوا على أن يدفنوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بقيع المصلى ، وأن يؤمهم رجل منهم [واحد].

فخرج علي «عليه‌السلام» إلى الناس ، فقال : يا أيها الناس ، أما تعلمون أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إمامنا حيا وميتا؟. وهل تعلمون أنه لعن من جعل القبور مصلى ، ولعن من جعل مع الله إلها ، ولعن من كسر رباعيته ، وشق لثته؟

قال : فقالوا : الأمر إليك ، فاصنع ما رأيت.

قال : وإني أدفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في البقعة التي قبض فيها (٢).

وعند المفيد وغيره أنه قال : «إن الله لم يقبض نبيا في مكان إلا وقد

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥٢٥ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٥٠٥ و ٥٠٦ و (نشر المطبعة الحيدرية) ج ١ ص ٢٠٦ وعن الكافي ج ١ ص ٤٥١ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ٣ وروضة الواعظين ص ٧١ والدر النظيم ص ١٩٦ وإعلام الورى للطبرسي ج ١ ص ٥٤ والمقنعة للمفيد ص ٤٥٧.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٥٢٥ و ٥٣٦ و ٥٣٧ و ٥٠٨ عن كفاية الأثر ص ٣٠٤ وعن فقه الرضا ص ٢٠ والمقنعة للمفيد ص ٤٥٧ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ٣ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٥٠٥ و ٥٠٦ و (نشر المطبعة الحيدرية) ج ١ ص ٢٠٦ والدر النظيم ص ١٩٦.


ارتضاه لرمسه فيه ، إني لدافنه في حجرته التي قبض فيها. فسلم القوم لذلك ورضوا به» (١).

الصدمة الكبرى لعائشة :

قال علي «عليه‌السلام» لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا رسول الله ، أمرتني أن أصيرك في بيتك إن حدث بك حدث؟

قال : نعم يا علي بيتي قبري.

قال علي «عليه‌السلام» : فقلت : بأبي وأمي ، فحد لي أي النواحي أصيرك فيه.

قال : إنك مسخر بالموضع وتراه.

قالت له عائشة : يا رسول الله فأين أسكن؟

قال : «اسكني أنت بيتا من البيوت ، إنما هي بيتي ، ليس لك فيه من الحق إلا ما لغيرك ، فقري في بيتك ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى ، ولا تقاتلي مولاك ووليك ظالمة شاقة ، وإنك لفاعلة».

فبلغ ذلك من قوله عمر ، فقال لابنته حفصة : مري عايشة لا تفاتحه في ذكر علي ولا تراده ، فإنه قد استهيم فيه في حياته وعند موته ، إنما البيت بيتك لا ينازعك فيه أحد ، فإذا قضت المرأة عدتها من زوجها كانت أولى ببيتها ،

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٥١٧ وراجع ص ٥٢٤ و ٥٢٩ و ٥٣٦ عن فقه الرضا ص ٢٠ و ٢١ وراجع المناقب ج ١ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٦ وإعلام الورى ص ١٤٣ و ١٤٤ وعن كفاية الأثر ص ٣٠٤ والأنوار البهية ص ٤٧.


تسلك إلى أي المسالك شاءت (١).

ونقول :

قد أثبتنا بما لا مجال معه للشك أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دفن في بيت فاطمة «عليها‌السلام» .. وقد يتخيل أن هذه الرواية لا تنسجم مع النتيجة التي أو صلتنا إليها تلك الأدلة ..

غير أننا نقول :

إن هذا خيال لا واقع له ، وذلك للأمور التالية :

١ ـ إن الرواية المتقدمة لم تذكر لنا متى جرت هذه المحاورة.

٢ ـ لقد كان للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيوت كثيرة. وقد أكدت الرواية المشار إليها على أن جميع البيوت هي للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومعنى ذلك : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يملّك زوجاته بيوت سكناهن ، بل هو أسكنهن فيها وحسب.

فقول عائشة حين جيء بجنازة الإمام الحسن «عليه‌السلام» : «نحوا ولدكم عن بيتي ، ولا تدخلوا بيتي من لا أحب» (٢). ليس له ما يبرره ..

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ٤٩٤.

(٢) راجع : الوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٣٥ والإرشاد للمفيد ج ٢ ص ١٨ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٢٤٢ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص ١٤٩ والبحار ج ٤٤ ص ١٥٣ و ١٥٤ و ١٥٧ والأنوار البهية ص ٩٢ والدرجات الرفيعة ص ١٢٥ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ٣٠٠ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٥٧٦ والجمل للمفيد ص ٢٣٤ وكشف الغمة ج ٢ ص ٢٠٩ مناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٢٠٤. وراجع : روضة الواعظين ص ١٦٨.


٣ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكذلك علي «عليه‌السلام» لم يحددا أي بيت من بيوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» موضعا لدفنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله». ولكن عائشة حددت : أن مدفنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سيكون في بيتها ، ولم يردعها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولا علي «عليه‌السلام» عن هذا الإعتقاد ..

ولكن ذلك لا يحتم الإلتزام بقولها.

٤ ـ إن عليا «عليه‌السلام» طلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يحدد له المكان بصورة أدق. وإذ بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلن أنه «عليه‌السلام» يرى الموضع ، فإن كان يعرف الموضع ويراه ، فلما ذا يسأل عنه؟!

ألا يدل ذلك على أن المقصود من هذا السؤال هو إسماع الغير ـ وهو عائشة بالتحديد ـ لكي لا يتهم علي «عليه‌السلام» بأنه قد تصرف من عند نفسه؟!

على أن هذه الكلمة النبوية قد أشارت إلى أنه «عليه‌السلام» إنسان إلهي ، مسدد ومؤيد منه تعالى ، ولا يحتاج حتى إلى أن يحدد له الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الموضع ، الأمر الذي يجعل الإعتراض عليه في هذا الأمر وفي سواه غير منطقي ولا واقعي ولا مقبول.

٥ ـ واللافت : أن اهتمام عائشة قد انصب على موضع سكناها ، لو دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في البيت الذي تسكن فيه ، مع أننا كنا نتوقع أن يكون اهتمامها بحياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أكثر وأكبر ، وأن تعلن أنها على استعداد لتقديم أي شيء فداء لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وطلبا لرضاه ..


٦ ـ من الذي أخبر عائشة أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يريد أن يدفن في بيت سكناها ، ومن الذي قال : إنه سوف لا يطلب الإنتقال عنه إلى بيت فاطمة «عليها‌السلام» في أيامه الأخيرة ليموت ويدفن فيه؟!

٧ ـ إن الرواية قد صرحت : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر عائشة بأن تقر في بيتها ، فأشار بذلك أنه سوف لا يدفن في ذلك البيت ، وأنه لن يؤخذ منها ، أو على الأقل لن تخرج منه ، بل ستبقى فيه ..

٨ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبرها أنها سوف لا تقر في بيتها ، بل سوف تحارب وليها ومولاها ظالمة له شاقة لعصا الطاعة.

٩ ـ ألا ترى معي : أن هذا الحوار بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعلي «عليه‌السلام» ، كان يهدف إلى استدراج عائشة للدخول في الحديث ، ثم توجيه هذا التحذير الشديد لها ، الذي هو من الأخبار الغيبية ، ومن أعلام النبوة؟!

١٠ ـ إن الأمر الأعظم والأهم لهذا الحوار هو ما نتج عنه من موقف جريء وقاس جدا لعمر بن الخطاب ، حيث رد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقرر لابنته حفصة : أن البيت بيتها .. ولا ينازعها فيه أحد ..

١١ ـ والأهم من ذلك اتهامه للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه استهيم بعلي «عليه‌السلام» حيا وميتا ، وكأنه يريد أن يقول : إن تصرفات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تجاه علي «عليه‌السلام» لا تستند إلى مبررات معقولة .. بل هي نتيجة هيام خارج عن دائرة التعقل والحكمة. وكأن قوله في هذه الحادثة ينسجم مع ما صدر عنه في حق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين اتهمه بأنه يهجر أو غلبه الوجع.


١٢ ـ إن عمر قد أمر عائشة بالإمتناع عن مفاتحة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشيء من أمر علي «عليه‌السلام» ، وأن لا تراده الكلام فيه ، ربما لأنه خشي أن يتسبب ذلك بتصريح النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمور تزيد من تعقيد الأمور أمام مشاريعهم الإستئثارية ..

١٣ ـ وأخيرا ، فإن هذا التوجيه العمري لعائشة يظهر مدى التنسيق بين أركان هذه الجماعة في موضوع إقصاء علي «عليه‌السلام» ، والإستئثار بالأمر ..

هل أشار أبو بكر بدفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته؟! :

وقد ادعوا : أن أبا بكر هو الذي أشار بدفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بيته ، فقد روي عن ابن عباس قال : لما فرغ من جهاز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه ، فقال قائل : ندفنه مع أصحابه بالبقيع.

وقال قائل : ادفنوه في مسجده.

فقال أبو بكر : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض».

فرفع فراش رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي توفي عليه ، فحفروا له تحته (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٣ و ٣٣٤ عن ابن سعد ، وابن ماجة ، وأبي يعلى ، وفي هامشه عن : ابن سعد ج ١ ص ٢٢٣ وابن ماجة (١٦٢٨) والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٦٠ ومن مسند أبي بكر ص ٧٨ وانظر نصب الراية ج ٢ ص ٢٩٨.

وراجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣١.


وعن عبد العزيز بن جريح : أن أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يدروا أين يقبروا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى قال أبو بكر : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : لم يقبر نبي قط إلا حيث يموت ، فأخذوا فراشه ، وحفروا تحته (١).

وقالوا عن هذا الحديث : هو منقطع ، لأن ابن جريح لم يدرك أبا بكر (٢).

وعن عائشة قالت : لما قبض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اختلفوا في دفنه ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : «ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه. ادفنوه في موضع فراشه» (٣).

قال ابن حجر الهيثمي : «.. وهذا أول اختلاف وقع بين الصحابة ، فقال بعضهم : ندفنه بمكة ، مولده ، ومنشئه.

وبعضهم : بمسجده.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٤ عن أحمد ، والترمذي بسند صحيح ، وقال في هامشه : أخرجه عبد الرزاق في المصنف [ج ٣ ص ٥١٦] (٦٥٣٤) وانظر الكنز [ج ٧ ص ٢٢٦] (١٨٧٣٥ و ٣٢٢٣٧). وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٣٤ عن الترمذي ، وأبي يعلى ، وقال في هامشه : أخرجه الترمذي (١٠١٨) وانظر الكنز [ج ٧ ص ٢٣٦] (١٨٧٦١ و ٣٢٢٣٦).

وراجع : الشمائل المحمدية للترمذي ص ٢٠٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٣٠.


وبعضهم : بالبقيع.

وبعضهم : ببيت المقدس ، مدفن الأنبياء ، حتى أخبرهم أبو بكر بما عنده من العلم (١).

قال ابن زنجويه : وهذه سنة تفرد بها الصديق من بين المهاجرين والأنصار ، ورجعوا إليه فيها» (٢).

وعن عائشة وهي تمجد علم أبيها : فما اختلفوا في لفظة إلا طار أبي بعبئها ، وفصلها ، وقالوا : أين ندفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! فما وجدنا عند أحد في ذلك علما.

فقال أبو بكر : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : ما نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه.

واختلفوا في ميراثه ، فما وجدنا عند أحد في ذلك علما ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة (٣).

ونقول :

إن ذلك لا يصح ، فلا حظ الأمور التالية :

١ ـ لو سلمنا أن أبا بكر قد عرف هذه المسألة دون غيره ، لأنه سمعها من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فذلك لا يجعل لأبي بكر أية ميزة خارقة

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ٣٤ والصوارم المهرقة ص ١٢٩ والغدير ج ٧ ص ١٨.

(٢) المصادر السابقة.

(٣) المصادر السابقة.


للعادة ، ولا يجعله متضلعا في العلوم والمعارف ، وكم من الناس يحفظون شيئا ، وتغيب عنهم أشياء ..

على أن هذا الذي حفظه أبو بكر ليس من الأمور الخطيرة والأساسية ..

٢ ـ إن سيرة أبي بكر قد أظهرت أن هناك مسائل كثيرة لم يكن يعرفها ، أو أنه أخطأ الصواب في بيانها ، وقد ذكر العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه «النص والاجتهاد» والعلامة الأميني في كتابه «الغدير» طائفة من هذه المسائل ، فراجعهما.

٣ ـ تقدم أن أبا بكر لم يحضر دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١) ، وأنه لما فرغ علي «عليه‌السلام» من دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : ما فعل أهل السقيفة؟! بالإضافة إلى نصوص أخرى دلت على ذلك. إلا أن يكون هذا الإختلاف ، قد حصل قبل ذهاب أبي بكر إلى السقيفة. ولم نر ما يدل على ذلك. بل مسار الأمور يظهر خلافه.

٤ ـ وقد رووا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لهم : «ضعوني على سريري في بيتي ، على شفير قبري» (٢).

__________________

(١) راجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٥٦٨ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٥٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣٩ وراجع : الخصائص الكبرى للسيوطي ج ٢ ص ٤٨٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣٠ و ٣٩ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٦٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٧٤ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٣٥ وكنز العمال ج ١١ ص ٤٦٨ وكتاب الدعاء ص ٣٦٧ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ٢٠٩ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٦٠ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ٢٣٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢


وهذا معناه : أن دفنه في البيت الذي قبض فيه كان بوصية منه ، فما معنى أن يختلفوا في موضع دفنه؟! إلا أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال ذلك لخصوص أبي بكر ، الذي يفترض أن يكون في أيام مرض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في جيش أسامة ، وأن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غاضبا من تخلفه عن ذلك الجيش ، فلا يخصه ولا يسر إليه بشيء ..

مع أنه قد يقال : إن ظاهر كلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه يخاطب جماعة كانوا حوله .. فما معنى قولهم : إن علم ذلك لم يوجد إلا عند أبي بكر؟!

٥ ـ إنه لا يصح قول أبي بكر : «ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه» ، أو نحو ذلك .. وذلك لأنهم يذكرون :

ألف : إن نوحا «عليه‌السلام» قد نقل جثمان آدم «عليه‌السلام» من جبل أبي قبيس بعد أن كان قد دفن فيه ، ودفنه في بيت المقدس ، كما يرويه أهل السنة (١).

أو إلى النجف الأشرف ، في ظاهر الكوفة كما هو مروي عن أهل البيت

__________________

ص ٢٥٧ وعن ابن منيع والطبراني في الأوسط من طريق ابن مسعود.

وراجع : الأمالي للصدوق ص ٧٣٣ وروضة الواعظين ص ٧٢ والطرائف ص ٢٩٠ والصراط المستقيم ج ٣ ص ١١٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٠٣ وكشف الغمة ج ١ ص ١٧ ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار لوالد البهائي العاملي ص ٨٢ والبحار ج ٢٢ ص ٥٠٧ و ٥٣١ والغدير ج ٧ ص ١٨٨.

(١) راجع : العرائس للثعلبي ص ٢٩ والغدير ج ٥ ص ٦٧ عنه ، وتاريخ الأمم والملوك ج ١ ص ١٠٩ والكامل في التاريخ ج ١ ص ٥٢ وقصص الأنبياء لابن كثير ج ١ ص ٦٨ والبداية والنهاية ج ١ ص ١١٠.


«عليهم‌السلام» (١).

وقد ورد في زيارة أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : «السلام على ضجيعيك آدم ونوح» (٢).

ب : إن النبي يوسف «عليه‌السلام» قد استأذن ملك مصر في نقل جثمان أبيه يعقوب «عليه‌السلام» من مصر ، ودفنه مع أهله في حبرون ، في المغارة المعدة لتلك الأسرة المباركة ، فأذن له ، فنقله إليها ، ودفنه فيها (٣).

ج : إن النبي موسى «عليه‌السلام» قد نقل جثمان النبي يوسف «عليه‌السلام» أيضا إلى فلسطين (الشام) ، ودفنه مع آبائه (٤).

__________________

(١) راجع : المزار للشيخ المفيد ص ٢١ وفرحة الغري لابن طاووس ص ١٠١ والرسائل العشر ص ٣١٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٣٨٥ و (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٣٢٥ وج ١٠ ص ٢٢٩ والبحار ج ١١ ص ٢٦٨ وج ٧٩ ص ٦٦ وج ٩٧ ص ٢٥٨ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣١٠ و ٣١٤ وج ١٠ ص ٢١٩ والغارات ج ٢ ص ٨٥٣ والمزار لابن المشهدي ص ٣٧.

(٢) راجع : المزار لابن المشهدي ص ١٩٢ و ٢٥٥ وإقبال الأعمال لابن طاووس ج ٣ ص ١٣٥ والمزار للشهيد الأول ص ٤٣ و ٩٨ والبحار ج ٥٣ ص ٢٧١ وج ٩٧ ص ٢٨٦ و ٣٣٢ و ٣٧٦ وج ٩٩ ص ٢١٢.

(٣) البداية والنهاية ج ١ ص ٢٥٣ والغدير ج ٥ ص ٦٨ وقصص الأنبياء لابن كثير ج ١ ص ٣٥٨ وفتوح مصر وأخبارها للقرشي المصري ص ٧٤.

(٤) راجع : شرح الشمائل للقاري ج ٢ ص ٢٠٨ وشرح الشمائل للمناوي بهامشه ج ٢ ص ٢٠٨ وراجع : فتح الباري ج ٣ ص ١٦٦ وج ٨ ص ١٤٩ ومنتقى الجمان ج ١ ص ٣١٩ وتفسير الآلوسي ج ٢٢ ص ٣٨ وفيض القدير ج ٥ ص ٦٤٠ وغنائم الأيام للميرزا القمي ج ٣ ص ٥٥١.


٦ ـ على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دلنا على موضع قبره في الحديث المشهور : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» (١).

فقد دل ذلك على أن قبره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قريب من المنبر ..

وقد أوضحت النصوص الأخرى : أن القبر سيكون في بيته ، حيث قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» أو نحو ذلك (٢).

__________________

(١) عن مسند أحمد ج ٣ ص ٤٧٢ ح (١١٢١٦) وشعب الإيمان ج ٣ ص ٤٩١ ومسند البزار ج ٤ ص ٤٤ والمعجم الكبير ج ١٢ ص ٢٢٧ والمعجم الأوسط ج ١ ص ٣٦٠ و ٤١٢ وحلية الأولياء ج ٩ ص ٣٢٤ وكنز العمال ج ١٢ ص ٢٦٠ و ٢٦١ عن عبد الرازق ، وسعيد بن منصور ، والخطيب ، والدار قطني وسمّويه ، وابن عساكر ، وغيرهم من طريق جابر والخدري ، وابن عمر وسعد بن أبي وقاص. ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٢٧ و ٤٢٨ وإرشاد الساري ج ٤ ص ٤١٣ وتاريخ بغداد ج ١١ ص ٢٢٨ و ٢٩٠ وشرح النووي لصحيح مسلم (هامش إرشاد الساري) ج ٦ ص ١٠٣ وتحفة الباري في ذيل إرشاد الساري ج ٤ ص ٤١٢ وفردوس الأخبار للديلمي ج ٣ ص ٥٣٨ من طريق عبيد الله بن لبيد ، ومعاني الأخبار للصدوق ص ٢٦٧ ومن لا يحضره الفقيه للصدوق ج ٢ ص ٥٦٨ وروضة الواعظين ص ١٥٢ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٣٤٥ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١٠ ص ٢٧٠ و ٢٨٩ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ١٣٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٢٤٦ وفتح الباري ج ٣ ص ٥٥ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٦ وعمدة القاري ج ٧ ص ٢٥٥ و ٢٦٢ و ٢٦٣ وج ٢٤ ص ١٨٤.

(٢) الجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٦٧٥ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ١٠٩ ومسند


٧ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أوصى عليا «عليه‌السلام» بتغسيله وتكفينه ، وبالصلاة عليه ودفنه ، وبغير ذلك ، فلما ذا لم يبين له أين يكون مدفنه ، إذا كان له حكم خاص ، وهو أنه لا يجوز نقله من موضع قبضه الله فيه ، وما معنى أن يدّخر ذلك لأبي بكر دون سائر الناس؟!

إن عائشة نفسها تقول : اختلفوا في دفنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال علي «عليه‌السلام» : إن أحب البقاع إلي مكان قبض فيه نبيه (١).

٨ ـ قد تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعلي : بيتي قبري .. وأن عائشة اعترضت على ذلك. فقال لها : اسكني أنت بيتا من البيوت.

٩ ـ وأما حديث : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، فقد

__________________

البزار ج ٤ ص ٤٤ والسنن الكبرى للنسائي ج ١ ص ٢٥٧ والمصنف لعبد الرزاق ج ٣ ص ١٨٢ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ٢٥٥ والمعجم الأوسط ج ١ ص ١٠١ والمعجم الصغير ج ٢ ص ١٢٢ وكنوز الدقائق ج ٢ ص ٨٢ وتيسير الوصول ج ٣ ص ٣٧٥ وتمييز الطيب من الخبيث ص ١٦١ وشرح صحيح مسلم ج ٩ ص ١٦١ وإرشاد الساري ج ٤ ص ٤٩٢ والجامع الصغير ج ٢ ص ٤٨٩ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٢٦ و ٤٢٧ و ٤٢٨ وكنز العمال ج ١٢ ص ٢٥٩ و ٢٦٠ و ٢٦١ وعن صحيح البخاري ج ١ ص ٣٩٩ وج ٢ ص ٦٦٧ وعن صحيح مسلم ج ٣ ص ١٧٩ وعن مسند أحمد ج ٢ ص ٤٦٩ و ٤٧٠ وج ٣ ص ٧١ و ٣٥٢ والكافي ج ٤ ص ٥٥٤ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٥ ص ٢٧٩ وج ١٤ ص ٣٤٥ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٣ ص ٥٤٣ وج ١٠ ص ٢٧٠.

(١) مجمع الزوائد ج ٩ ص ١١٢ والخصائص الكبرى للسيوطي ج ٢ ص ٤٨٦ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٢٧٩ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٣٩٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٣٩٤ والغدير ج ٧ ص ١٨٩ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٦٩٣.


كذبته الزهراء وعلي ، وابناهما «عليهم‌السلام» ، ولا يقبل أحد بأن يخفي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا الحكم عن جميع الناس حتى عن ابنته ، ويخص به أبا بكر. ويفسح المجال ـ من ثم ـ لتكذيب أبي بكر ، أو اتهامه ، بعد الإستدلال على بطلان ما جاء به بالآيات ، وتنشأ عن ذلك مشاحنات بلغت حد ضرب بنت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» التي يغضب الله لغضبها ، ويرضى لرضاها. ويبقى الخلاف في الأمة في ذلك إلى يوم القيامة.

ومع غض النظر عن ذلك نقول :

إن هؤلاء أنفسهم يدّعون : أن هناك من كان يعلم هذا العلم ، حيث زعموا ـ وإن كان ذلك من الأكاذيب ـ : أن عليا «عليه‌السلام» ، والعباس ، وعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وأمهات المؤمنين : كلهم كانوا يعلمون أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال ذلك ، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولا ، ثم استحضره الآخرون (١).

غير أننا نقول لهم :

إن هذا الترقيع لا يجديهم ، فإن الإستحضار السريع إنما يدل على سرعة بديهته ، وحفظه ، ولا يفيد زيادة في علمه ..

يضاف إلى ما تقدم : أن الصحيح هو أن أبا بكر ليس فقط استولى على إرث الزهراء «عليها‌السلام» من أبيها ، وإنما هو استولى حتى على فدك التي ملّكها إياها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حال حياته ، وقد كانت بيدها واستفادت منها عدة سنوات.

__________________

(١) راجع : الصواعق المحرقة ص ٣٤ و ٣٩ والغدير ج ٧ ص ١٩٠.


١٠ ـ واللافت هنا : أن أبا بكر قد كتب لفاطمة «عليها‌السلام» كتابا بفدك ، فدخل عمر بن الخطاب عليه فسأله : ما هذا؟

فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها.

فقال : مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثم أخذ عمر الكتاب فشقه (١).

ثم لما ولي عمر بن عبد العزيز رد فدكا إلى ورثة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»!! (٢).

ولهذا البحث مجال آخر ..

في مكة أو في المدينة؟! :

ولم يقتصر الأمر على توزع الآراء بين دفنه في البقيع ، أو في صحن المسجد ، أو في الموضع الذي قبضه الله فيه .. بل تعداه إلى الإختلاف في دفنه

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦٢ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٨ عن سبط ابن الجوزي ، والغدير ج ٧ ص ١٩٤ وشرح إحقاق الحق ج ٢٥ ص ٥٤٢.

(٢) الغدير ج ٧ ص ١٩٤ عن صحيح البخاري (كتاب الجهاد ، باب فرض الخمس) وصحيح مسلم كتاب الجهاد ، باب حكم الفيء. والأموال لأبي عبيد ص ١٨ ومعجم البلدان ج ٤ ص ٢٣٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٨ وتاج العروس ج ٧ ص ٣٤٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٣٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٣٠١. وشرح المقاصد في علم الكلام للتفتازاني ج ٢ ص ٢٩٢ وشرح نهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٧٧ و ٢٧٨ والخصال للصدوق ص ١٠٥ والمسترشد للطبري ص ٥٠٣ والبحار ج ٤٦ ص ٣٢٦ وج ٧٥ ص ١٨٢.


في المدينة ، أو في مكة عند جده إبراهيم الخليل (١).

وهذا الخلاف إن دل على شيء فهو يدل على أن الصحابة ، أو فريق منهم على الأقل لم يكن يرى محذورا في نقل جثمان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من بلد إلى آخر .. ولم يعترض عليه الفريق الآخر بأن ذلك غير جائز أو منهي عنه ، ولو نهي كراهة ..

وجواز ذلك هو ما أفتى به فقهاء المذاهب الأربعة ، فراجع (٢).

أين دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال ابن كثير : «قد علم بالتواتر : أنه عليه الصلاة والسلام دفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها ، شرقي مسجده ، في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة ، ثم دفن بعده أبو بكر ، ثم عمر ..» (٣).

وقضية دفنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بيت عائشة رواها في صحيح البخاري وغيره عن عائشة بصورة عامة .. وعن ابن أختها عروة بن الزبير ، كما يلاحظ في أكثر الروايات ..

أما نحن فنشك في ذلك كثيرا ، لأكثر من سبب :

السبب الأول :

أن بيت عائشة لم يكن في الجهة الشرقية من المسجد ، لأمرين :

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ٢٣ وشرح نهج البلاغة ج ١٠ ص ١٨٥ والصوارم المهرقة ص ١٢٩ وعن الصواعق المحرقة ص ٣٤.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٥٣٧ فما بعدها.

(٣) السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٤١ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٤٢.


أحدهما : أن خوخة آل عمر الموجودة في الجانب القبلي في المسجد ، وهي اليوم «يتوصل إليها من الطابق الذي بالرواق الثاني من أروقة القبلة ، وهو الرواق الذي يقف الناس فيه للزيارة أمام الوجه الشريف بالقرب من الطابق المذكور ..» (١) ـ هذه الخوخة ـ قد وضعت في بيت حفصة الذي كان مربدا ، وأخذته بدلا عن حجرتها حين توسيع المسجد ..

وقد كانت دار حفصة في قبلي المسجد (٢).

وكان بيت حفصة بنت عمر ملاصقا لبيت عائشة من جهة القبلة (٣).

«والمعروف عند الناس أن البيت الذي كان على يمين الخارج من خوخة آل عمر المذكورة هو بيت عائشة» (٤).

وعلى هذا .. فيكون بيت عائشة في قبلي المسجد ، لا في شرقيه ، حيث يوجد القبر الشريف ، أي أنه يكون في مقابله وبينه وبينه فاصل كبير ..

الثاني : مما يدل على أن بيت عائشة كان في جهة القبلة من المسجد من الشرق ، ما رواه ابن زبالة ، وابن عساكر ، عن محمد بن أبي فديك ، عن محمد بن هلال : أنه رأى حجر أزواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من جريد ، مستورة بمسوح الشعر ، فسألته عن بيت عائشة.

فقال : كان بابه من جهة الشام.

قلت : مصراعا كان أو مصراعين؟

__________________

(١) راجع كل ذلك في وفاء الوفاء ج ٢ ص ٧٠٦.

(٢) رحلة ابن بطوطة ص ٧٢.

(٣) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٣.

(٤) المصدر السابق ج ٢ ص ٧١٩.


قال : كان باب واحد (١).

وفي عبارة ابن زبالة : مستورة بمسوح الشعر ، مستطيرة في القبلة ، وفي المشرق ، والشام. ليس في غربي المسجد شيء منها الخ .. (٢).

وقال ابن عساكر : وباب البيت شامي (٣).

فيستفاد من ذلك :

ألف : ما قاله المحقق البحاثة السيد مهدي الروحاني «رحمه‌الله» :

«قوله في الحديث (فسألته عن بيت عائشة) في هذا دلالة على أن الحجرة التي دفن فيها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم تكن بيت عائشة ، إذ فيه دلالة على أن السائل يعلم أن بيتها لم يكن في الموضع الذي دفن فيه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ولذلك فهو يسأل عن موضع بيتها فيما عدا البيت الذي دفن فيه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليعرفه أين يقع ..» انتهى.

ب : إن من المعلوم أن الجهة الشامية للمسجد هي الجهة الشمالية منه ، كما صرحت به الرواية آنفا ، ويدل على ذلك أيضا قول ابن النجار :

«قال أهل السير : ضرب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الحجرات ما بينه وبين القبلة ، والشرق إلى الشام ، ولم يضربها في غربيه. وكانت خارجة عنه

__________________

(١) الأدب المفرد للبخاري ص ١٦٨ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٩٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٣٤٩ وج ١٢ ص ٥١ وراجع : وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٢ و ٤٥٩ و ٤٦٠.

(٢) نفس المصادر السابقة.

(٣) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٢ و ٤٥٩ و ٤٦٠.


مديرة به. وكان أبوابها شارعة في المسجد» (١).

وأيضا : «وجه المنبر ، ووجه الإمام إذا قام على المنبر بجهة الشام» (٢).

ومن المعلوم : أن الجالس على المنبر يكون ظهره إلى القبلة ، ووجهه إلى الجهة المقابلة لها ..

فإذا تحقق ذلك .. وإذا كان باب بيت عائشة يقابل الجهة الشمالية ، فإن ذلك معناه : أن بيتها كان في جهة القبلة من المسجد ..

وكان باب حجرتها يفتح على المسجد مباشرة ، حتى إنها تقول : إنها كانت ترجّل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو معتكف في المسجد ، وهي في بيتها ، وهي حائض (٣).

وقد حاول البعض توجيه ذلك : بأن المراد من الباب الذي لجهة الشام هو الباب الذي شرعته عائشة لما ضربت حائطا بينها وبين القبور ، بعد دفن عمر ..

__________________

(١) راجع : وفاء الوفاء ، ج ٢ ص ٤٣٥ و ٤٥٩ و ٥١٧ و ٦٩٣ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٨٩.

(٢) راجع : وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٣٥ و ٤٥٩ و ٥١٧ و ٦٩٣.

(٣) صحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ١ ص ٢٢٩ و ٢٢٦ و (ط دار الفكر) ج ٢ ص ٢٥٦ و ٢٦٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ، ج ٨ ص ١١٩ ، وفتح الباري ج ٤ ص ٢٣٦ عن أحمد والنسائي ، ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤١ و ٥٤٢ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٣٥٦ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٣٤ وعمدة القاري ج ١١ ص ١٤٤ و ١٥٨ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٢٦٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٣٩ وغير ذلك.


وأجاب السمهودي بقوله :

«وفيه بعد ، لأنه سيأتي ما يؤخذ منه أن الحائط الذي ضربته كان في جهة المشرق» (١).

وإذا كان في جهة المشرق ؛ فلا بد أن يكون الباب فيه مقابلا للمغرب ، لا لجهة الشام.

ج : ويدل على كون بيت عائشة في جهة القبلة : أن الحجر كانت تبدأ من بيت عائشة ، وتنتهي إلى منزل أسماء بنت حسن ، كما نص على ذلك من شاهدها (٢).

د : إن رواية ابن عساكر ، وابن زبالة المتقدمة تنص على أنه لم يكن لبيت عائشة إلا باب واحد ، بمصراع واحد ..

وهم يقولون : إنه قد صلّي على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو على شفير حفرته ، ودفن في حجرة لها بابان ..

فقد روى ابن سعد ، عن أبي عسيم ، قال : لما قبض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قالوا : كيف نصلّي عليه؟

قالوا : ادخلوا من ذا الباب ارسالا ارسالا ، فصلّوا عليه ، واخرجوا من الباب الآخر .. (٣).

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٢.

(٢) راجع : الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ١٨١ وج ٨ ق ٢ ص ١١٩ و (ط دار صادر) ج ١ ص ٤٩٩ وج ٨ ص ١٦٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٣٤٨ وج ١٢ ص ٥٠ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٥٩.

(٣) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٨٩ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٢ وسائر المصادر تقدمت ..


ويمكن المناقشة في الرواية التي كان السؤال فيها عن كون الباب فيه مصراعا أو مصراعين :

بأن الجواب لا بد أن يطابق السؤال ، فإذا كان السؤال عن مصاريع الباب ، لا عن عدد الأبواب ، فلا بد أن يكون الجواب عن ذلك أيضا .. ولا يدل ذلك على أنه لم يكن للحجرة باب آخر.

ه : سيأتي : أنهم يزعمون : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان في مرضه (أي قبل انتقاله إلى بيت فاطمة) في حجرة عائشة ؛ فكشف الحجاب ؛ فكاد الناس أن يفتنوا وهم في الصلاة لما رأوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. الأمر الذي يدل على أن حجرة عائشة كانت في طرف القبلة في مقابل المصلّين ..

وأما ما ذكرته الرواية من صلاة أبي بكر في الناس فقد كان ذلك بغير رضى من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقد جاء «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه رغم مرضه ، وأخّره ، وصلى مكانه. وقد بحثنا هذا الأمر في موضع آخر من هذا الكتاب ..

السبب الثاني :

قال ابن سعد : «واشترى (يعني معاوية) من عائشة منزلها بمئة وثمانين ألف درهم ، ويقال بمائتي ألف. وشرط لها سكناها حياتها. وحمل إلى عائشة المال ، فما رامت من مجلسها حتى قسمته.

ويقال : اشتراه ابن الزبير من عائشة ، بعث إليها ـ يقال ـ خمسة أجمال بخت تحمل المال ، فشرط لها سكناها ، حياتها ، فما برحت حتى قسمت ذلك


الخ ..» (١).

ولا ينبغي أن يتوهم : أن المقصود ببيت عائشة هنا هو البيت الذي أخذته من سودة ، التي توفيت في أواخر خلافة عمر ، إذ قد :

أسند ابن زبالة ، عن هشام بن عروة ، قال : إن ابن الزبير ليعتد بمكرمتين ما يعتد أحد بمثلها : إن عائشة أوصته ببيتها وحجرتها ، وإنه اشترى حجرة سودة (٢).

فعائشة إذن ، قد باعت بيتها وأكلت ثمنه ، فكيف يقولون : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دفن في حجرتها؟!

والمفروض : أن الحجرة كانت من الصغر بحيث لا تتسع لدفن ثلاثة أشخاص.

واحتمال أن يكون المقصود هو بيتها المستحدث ، لا يصح ، لأن سياق الكلام ناظر إلى حجر أزواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، التي خصّصت لهن من قبله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

كما أن معاوية لا يدفع هذا المال الكثير إلا لينال شرفا ، أو ليحرم الآخرين شرفا بزعمه .. وهذا الشرف هو الحصول على مكان ينسب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ ص ١١٨ و (ط دار صادر) ج ٨ ص ١٦٥ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٦٤ عنه ، وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٩٣ وليراجع : حلية الأولياء ج ٢ ص ٤٩.

(٢) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٦٤ وراجع : السنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٣٥ ومعرفة السنن والآثار ج ٤ ص ٤٢٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٨ ص ١٩٠.


إلا إن كان هدفه هو تعظيم شأن عائشة. ولم نشعر أنه يهتم لها كثيرا ، كما أظهره موقفه منها حين عارضت سياساته في قتل أخيها ، وحجر بن عدي ، وسواهما ..

السبب الثالث :

أنهم يقولون : إن الموضع قد ضاق حتى لم يعد فيه إلا موقع قبر واحد ، فدفن فيه عمر ..

فقد روى البخاري ، وغيره : أن عمر بن الخطاب لما أرسل إلى عائشة يسألها أن يدفن مع صاحبيه.

قالت : كنت أريده لنفسي ، فلأوثرنه اليوم على نفسي .. (١).

قال ابن التين : «كلامها في قصة عمر يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد» (٢).

وإن كان هذا يتناقض مع قولها حين دفن الإمام الحسن «عليه‌السلام» : أنه لم يبقى في حجرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا موضع

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ ص ١٥٩ وج ٢ ص ١٩١ و (ط دار الفكر) ج ٢ ص ١٠٧ وج ٤ ص ٢٠٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٥٨ وفتح الباري ج ٣ ص ٢٠٤ و ٢٠٥ وعمدة القاري ج ٨ ص ٢٢٨ وج ١٦ ص ٢٠٩ وأسد الغابة ج ٤ ص ٧٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٤ ص ٤١٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٣٣٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ١٨٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٧٦ ونيل الأوطار ج ٦ ص ١٥٩ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٥٧ والبحار ج ٣٣٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ١٨٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٧٦ ونيل الأوطار ج ٦ ص ١٥٩ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٥٧ والبحار ج ٣١ ص ٩٠ والغدير ج ٦ ص ١٨٩.

(٢) فتح الباري ج ٣ ص ٢٠٥ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٥٧.


قبر واحد (١).

ويؤيد ذلك : أنه «لما أرسل عمر إلى عائشة ؛ فاستأذنها أن يدفن مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأبي بكر فأذنت.

قال عمر : إن البيت ضيق ، فدعا بعصا ؛ فأتي بها ، فقدر طوله ، ثم قال : احفروا على قدر هذه» (٢).

ورووا : أنه جاف (٣) بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من شرقيه ، فجاء عمر بن عبد العزيز ، ومعه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، فأمر ابن وردان : أن يكشف عن الأساس ، فبينا هو يكشفه إلى أن رفع يده ، وتنحى واجما ، فقام عمر بن عبد العزيز فزعا ، فقال عبد الله بن عبيد الله : لا يروعنّك ، فتانك قدما جدك عمر بن الخطاب ، ضاق البيت عنه ، فحفر له في الأساس الخ ..

وفي الصحيح ، قال عروة : ما هي إلا قدم عمر (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهانى ص ٤٩ وشرح الأخبار ج ٣ ص ١٣٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٣ ص ٢٨٩ وتاريخ المدينة لابن شبة ج ١ ص ١١١ وترجمة الإمام الحسن «عليه‌السلام» لابن عساكر ص ٢١٨.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٣ ق ١ ص ٢٦٤ و (ط دار صادر) ج ٣ ص ٣٦٤ وكنز العمال ج ١٢ ص ٦٨٩.

(٣) جاف الشيء : قعّره.

(٤) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٥ و ٥٥٤ عن ابن زبالة ، ويحيى ، وكتاب الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٣٣٠ وعمدة القاري ج ٨ ص ٢٢٧ وليراجع : صحيح البخاري ج ١ ص ١٥٩ و (ط دار الفكر) ج ٢ ص ١٠٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ـ


وإذ قد عرفنا : أن الحجرة التي دفن فيها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ضاقت حتى دفن عمر في الأساس ..

فلننظر إلى بيت عائشة الذي كانت تسكن وتتصرف فيه .. فإننا نجد : أنه كان واسعا وكبيرا .. وبقيت تتصرف فيه في الجهات المختلفة ، فليلاحظ ما يلي :

١ ـ تقدم : أن عائشة قد باعت بيتها لمعاوية ، أو لابن الزبير.

٢ ـ إن عائشة قد عرضت على عبد الرحمن بن عوف أن يدفن مع النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. (١).

ومنع بنو أمية من دفن الإمام الحسن «عليه‌السلام» عند جده ، حينما ظنوا أن الحسين «عليه‌السلام» يريد دفنه هناك (٢).

__________________

(ط ليدن) ج ٣ ق ١ ص ١٦٨ و (ط دار صادر) ج ٣ ص ٣٦٩ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٢٩٣ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٦٠٤ والسيرة النبوية ج ٤ ص ٥٤٢.

(١) وفاء الوفاء ، ج ٢ ص ٥٥٧ وج ٣ ص ٨٩٩ عن ابن شبة ، وابن زبالة.

(٢) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج ٣ ص ٦٠ و ٦٢ و ٦٤ و ٦٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٣ ومقاتل الطالبيين ص ٧٤ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الحسن «عليه‌السلام») الحديث رقم ٣٣٧ فما بعده ، وج ٢١ ص ٣٨ وج ٦٤ ص ٩٩ كما ذكره المحمودي ، وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٢٠٤ وروضة الواعظين ص ١٦٨ والإرشاد للمفيد ج ٢ ص ١٨ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٢٤٢ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص ١٤٩ والبحار ج ٤٤ ص ١٥٤ و ١٥٧ والأنوار البهية ص ٩٢ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ٣٠٠ والجمل للشيخ المفيد ص ٢٣٤ وكشف الغمة ج ٢ ص ٢٠٩.


بل يقال : إن عائشة نفسها هي التي تزعّمت عملية المنع عن دفنه هناك .. (١) ، وإن ادّعى البعض : أنها قد أذنت في ذلك ، لكن بني أمية منعوا منه .. (٢).

كما أنهم يروون أن عيسى بن مريم سوف يكون رابع من يدفن هناك .. (٣).

ثم إن نفس عائشة تصف القبور الثلاثة ثم تقول : «وبقي موضع قبر» (٤).

وأما ما روي عنها من أنها استأذنت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إن عاشت بعده أن تدفن إلى جانبه ، فقال لها : وأنى لك بذلك وليس في ذلك الموضع إلا قبري ، وقبر أبي بكر ، وعمر ، وعيسى ابن مريم (٥).

فلا يصح لقول الحافظ : لا يثبت (٦) ، ولأنها كانت تريد أن تدفن في ذلك

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٧٥ وتاريخ اليعقوبي (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٢٥ وإعلام الورى للطبرسي ج ١ ص ٤١٥ وراجع المصادر السابقة.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٧٥ ووفاء الوفاء ، ج ٣ ص ٩٠٨ وج ٢ ص ٥٥٧.

(٣) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٥٧ عن يحيى وسنن الترمذي ، ومنتظم ابن الجوزي والطبراني ، وابن النجار ، والزين المراغي. وعمدة القاري ج ٨ ص ٢٢٥ وتحفة الأحوذي ج ١٠ ص ٦٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٧ ص ٥٢٣ وفتح الباري ج ٧ ص ٥٤ وكتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي ص ٣٥٤.

(٤) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٥٧.

(٥) تحفة الأحوذي ج ١٠ ص ٦٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٥٤ عمدة القاري ج ١٦ ص ٢١٢.

(٦) تحفة الأحوذي ج ١٠ ص ٦٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٥٤.


الموضع ، لكن منعها من ذلك أنها أحدثت بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أضف إلى ذلك : أن هذا لا يلتقي مع زعمهم أن المكان ضاق حتى حفروا لعمر في الأساس.

ثم إنهم يروون عنها أنها تقول : ما زلت أضع خماري ، واتفضل في ثيابي حتى دفن عمر ، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا (١).

وعن مالك قال :

قسم بيت عائشة قسمين : قسم كان فيه القبر ، وقسم تكون فيه عائشة ، بينهما حائط (٢).

وكل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن الحجرة التي تدعوهم أو تعدهم للدفن فيها ، أو تمنعهم من الدفن فيها كانت متسعة. والمفروض : أن الحجرة التي تدّعي أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دفن فيه قد ضاقت حتى دفن عمر ، فوضعت في الأساس. فهل هما حجرتان؟! أم حجرة واحدة؟!

أو يقال : إن عائشة قد استولت على بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، وأضافت عليه ما اتسع به. وصارت تجيز هذا وتمنع ذاك.

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ق ١ ص ٢٦٤ و (ط دار صادر) ج ٣ ص ٣٦٤ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٣ و ٥٤٤ عنه وعن ابن زبالة ، وتاريخ المدينة لابن شبة ج ٣ ص ٩٤٥.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٩٤ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٦٤ و ٥٦٥.

وراجع : عمدة القاري ج ٨ ص ٢٢٧.


وملاحظة أخيرة نذكرها : عن احتجاب عائشة حين دفن عمر وهي : أن هذه القضية قد حيرتنا أيضا.

وهل بلغ بها التقى أن صارت تتستر من الأموات وهم في قبورهم؟! ..

فكيف إذن لم تتستر من عشرات الألوف من الرجال الأحياء ، حينما خرجت لتحارب أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في حرب الجمل ، وغيرها؟!

وكيف توصي ابن الزبير بأن لا يدفنها مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأنها لا تحب ان تزكى (١).

أو لأنها قد احدثت بعده؟

فلم لم تعلل ذلك بوجود عمر؟

أليست جثة عمر لا تزال موجودة في ذلك الموضع؟! ..

وعلى كل حال .. فإنه بعد دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تلك الحجرة ، وهي حجرة فاطمة «عليها‌السلام» كما سيأتي .. أخليت من ساكنيها ، وأظهرت للناس .. واستولت عليها عائشة ، واستولت على غيرها .. وسكنت هناك ، مستفيدة من قوات السلطة وهيبتها ..

وكان أول من بنى على بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جدارا عمر بن الخطاب.

قال عبيد الله بن أبي يزيد : «كان جداره قصيرا ، ثم بناه عبد الله بن

__________________

(١) صحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ٤ ص ١٧٠ وفتح الباري ج ٣ ص ٢٠٤ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٥٧.


الزبير ..» (١).

وعن المطلب قال : كانوا يأخذون من تراب القبر ، فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم ، وكانت في الجدار كوّة ، فكانوا يأخذون منها ، فأمرت بالكوّة فسدّت (٢) :

أو أنهم سدوا أو ستروا على القبر بعد محاولة الحسين دفن أخيه الحسن هناك (٣) ، اتقاء منهم لمثل هذا الأمر ، حتى لا يتكرر بعد.

والسبب الرابع :

أن الأدلة تدل على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دفن في بيت ابنته فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» ، ثم استولت عليه عائشة ، واستقرت فيه ، وضربت جدارا بينها وبين القبور ، وبقيت تحتلّ هذا البيت الطاهر ـ كما قدمنا ـ الذي كان في وسط بيوت أزواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما ذكره ابن عمر (٤).

ونستند في ذلك إلى ما يلي :

١ ـ روى الصدوق في أماليه رواية مطوّلة ، عن ابن عباس ، جاء فيها :

«.. فخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وصلّى بالناس ، وخفف

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٩٤ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٤ عن ابن سعد ، وعمدة القاري ج ٨ ص ٢٢٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٣٤٩ وج ١٢ ص ٥١ وكنز العمال ج ٧ ص ١٨٦.

(٢) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ عن ابن سعد ، وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٤٥ عن ابن زبالة ، وأضواء البيان للشنقيطي ج ٨ ص ٣٥٢.

(٣) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ عن ابن سعد.

(٤) راجع : سفينة البحار ج ١ ص ١١٥.


الصلاة ، ثم قال : ادعوا لي علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد ، فجاءا ، فوضع «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يده على عاتق علي ، والأخرى على أسامة ، ثم قال : انطلقا بي إلى فاطمة.

فجاءا به ، حتى وضع رأسه في حجرها ، فإذا الحسن والحسين ..» ثم ذكر قضية وفاته هنا (١).

٢ ـ قال السمهودي : «أسند ابن زبالة ، ويحيى بن سليمان بن سالم ، عن مسلم بن أبي مريم ، وغيره : كان باب فاطمة بنت رسول الله في المربعة التي في القبر.

قال سليمان : قال لي مسلم : لا تنس حظّك من الصلاة إليها ، فإنها باب فاطمة «عليها‌السلام» ، الذي كان علي يدخل عليها منه» (٢).

وعن ابن أبي مريم : «إن عرض بيت فاطمة بنت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الاسطوانة التي خلف الاسطوانة المواجهة للزور قال : وكان بابه في المربعة التي في القبر.

وقد أسند أبو غسان ـ كما قال ابن شبة ـ عن مسلم بن سالم ، عن مسلم بن أبي مريم ، قال : عرس علي «عليه‌السلام» بفاطمة بنت رسول الله إلى الأسطوانة التي خلف الأسطوانة المواجهة للزور. وكانت داره في المربعة التي في القبر.

__________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق (ط النجف سنة ١٣٩١ ه‍.) المجلس الثاني والتسعون ص ٥٦٩ و (ط مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة) ص ٧٣٥ وروضة الواعظين ص ٧ والبحار ج ٢٢ ص ٥٠٩ ومجمع النورين للمرندي ص ٧٠.

(٢) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٥٠ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٣١.


وقال مسلم : لا تنس حظّك من الصلاة إليها ، فإنه باب فاطمة ، التي كان علي يدخل إليها منها ، وقد رأيت حسن بن زيد يصلّي إليها» (١).

فهل كان علي «عليه‌السلام» يدخل على زوجته من وسط حجرة عائشة؟

أم أن عائشة أو غيرها من زوجاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت من محارمه «عليه‌السلام»؟!

إن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن ذلك الموضع هو بيت فاطمة التي ظلمت في مماتها ، كما ظلمت في حياتها : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢) .. وليس هو بيت عائشة ، كما تريد أن تدعي هي ومحبوها!!

٣ ـ إن لدينا ما يدل على أن شرقي الحجرة كان في بيت فاطمة. وإذن .. فعائشة كانت تسكن في بيت فاطمة حينما ضربت الجدار!! ..

«قال ابن النجار : وبيت فاطمة اليوم حوله مقصورة ، وفيه محراب ، وهو خلف حجرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قلت (أي السمهودي) : الحجرة اليوم دائرة عليه ، وعلى حجرة عائشة ، بينه وبينه موضع تحترمه الناس ، ولا يدوسونه بأرجلهم ، يذكر أنه موضع قبر فاطمة «عليها‌السلام».

وقد اقتضى ما قدمناه : أن بيت فاطمة كان فيما بين مربعة القبر ،

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٦٧ و ٤٦٩ على الترتيب ، وأعيان الشيعة ج ١ ص ٣١٤.

(٢) الآية ٢٢٧ من سورة الشعراء.


وأسطوان التهجد» (١).

وعن مدفن فاطمة «عليها‌السلام» يرى ابن جماعة : «أن أظهر الأقوال هو أنها دفنت في بيتها». وهو مكان المحراب الخشب ، داخل مقصورة الحجرة الشريفة من خلفها. وقد رأيت خدام الحضرة يجتنبون دوس ما بين المحراب المذكور وبين الموضع المزور من الحجرة الشريفة الشبيه بالمثلث ، ويزعمون أنه قبر فاطمة (٢).

ومن الواضح : أن أسطوان التهجد يقع على طريق باب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مما يلي الزور (٣).

أي خلف بيت فاطمة (٤).

قال السمهودي عن موضع تهجد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

«قلت : تقدم في حدود المسجد النبوي ما يقتضي أن الموضع المذكور كان خارج المسجد ، تجاه باب جبريل قبل تحويله اليوم. وهو موافق لما سيأتي عن المؤرخين في بيان موضع هذه الاسطوانة» (٥).

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٣ ص ٤٦٩ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٣٦٤ وبهج الصباغة ج ٥ ص ١٩ ورحلة ابن بطوطة ص ٧٠ ومعاني الأخبار ص ٢٥٤ والبحار ج ٤٣ ص ١٨٥ والكافي (ط دار الإسلامية) ج ١ ص ٣٨٣ والوسائل ج ١٠ ص ٢٨٨ وفي هامشه عن التهذيب للشيخ الطوسي ، وعن من لا يحضره الفقيه للصدوق.

(٢) وفاء الوفاء ج ٣ ص ٩٠٦.

(٣) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٥١ و ٤٥٠ و ٤٥٢ و ٦٨٨.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.


وإذا كان كذلك : فإن بيت علي يقع بين باب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والحجرة الشريفة. وباب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو أول الأبواب الشرقية مما يلي القبلة ، وقد سد الآن ..

ويقولون : إنه سمي بذلك لا لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يدخل منه ، بل لأنه في مقابل حجرة عائشة ..

بل نجد ابن النجار يصرح : بأن هذا الباب هو نفسه باب علي «عليه‌السلام» (١).

وهذا يعني : أن ما بين الحجرة التي فيها القبر الشريف ، وباب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان من بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، وحيث دفنت.

ويدل عليه : أنها «عليها‌السلام» دفنت داخل مقصورة الحجرة من خلفها .. أي تماما حيث كانت عائشة مقيمة ، بعد أن ضربت الجدار على القبور التي كانت مكشوفة لكل أحد ، فتصرفت فيه عائشة بمساعدة السلطة ، بعد أن تركه أهله الذين حرموا منه كما حرموهم من إرث نبيهم ..

٤ ـ ويدل على ما ذكرناه أيضا : قول السمهودي في مقام بيان موضع باب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وباب جبريل : «الثاني : باب علي ، الذي كان يقابل بيته الذي خلف بيت النبي» (٢).

وقال أيضا : «ويحتمل أن بيت علي «عليه‌السلام» كان ممتدا في شرقي

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٤٥١ و ٤٥٠ و ٤٥٢ و ٦٨٨.

(٢) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٦٨٨ و ٦٨٩. وراجع : شرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٥ ص ٥٨٤ عن تحقيق النصرة (ط دار الكتب المصرية) ص ٧٦.


حجرة عائشة إلى موضع الباب الأول ، (يعني باب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله») فسمي باب علي بذلك ، ويدل له : ما تقدم عن ابن شبة في الكلام على بيت فاطمة ، من أنه كان فيما بين دار عثمان التي في شرقي المسجد ، وبين الباب المواجه لدار أسماء. ويكون تسميته الباب الثاني بباب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لقربه من بابه الخ ..» (١).

إذن .. فبيت فاطمة يكون ممتدا من شمالي الحجرة التي دفن فيها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى شرقيها ، وإذا صح كلام ابن شبة هذا ، فإنه يصل إلى قبليها أيضا ..

والمفروض هو أن باب فاطمة وعلي «عليهما‌السلام» كان شارعا في المسجد أيضا ..

فكيف استدار بيت فاطمة «عليها‌السلام» على بيت عائشة وطوقه بهذا الشكل العجيب ، من الشمال إلى الشرق .. ويحتمل إلى القبلة أيضا؟!.

عجيب!! وأي عجيب!! ..

وما معنى : أن تسكن عائشة في شرقي الحجرة ، وتضرب بينها وبين القبور جدارا؟

أوليس شرقي الحجرة كان جزءا من بيت فاطمة؟!

وكيف يكون باب بيت فاطمة «عليها‌السلام» في نفس حجرة عائشة؟!

وهل هناك مسافات شاسعة بين المسجد وبين باب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو باب جبريل ، تسع عدة بيوت وحجر؟!

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٦٨٨ و ٦٨٩ وليراجع : ص ٤٦٩ و ٤٧٠.


إن كل ذلك يدل على صحة رواية الصدوق المتقدمة ، وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دفن في بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، لا في بيت عائشة ..

ونعتقد : أنه قد انتقل من دار عائشة إلى دار فاطمة «عليها‌السلام» في نفس اليوم الذي توفي فيه ، وهو يوم الإثنين (١) ، وذلك لأنه في يوم الإثنين ، وحين صلاة الفجر كان لا يزال في بيت عائشة الذي كان لجهة القبلة ، إذ قد روى البخاري :

«أن المسلمين بيناهم في صلاة الفجر من يوم الإثنين ، وأبو بكر يصلي لهم ، لم يفجأهم إلا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كشف ستر حجرة عائشة ، فنظر إليهم ، وهم في صفوف الصلاة ..

إلى أن قال : وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم ؛ فرحا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..» (٢).

وبضم رواية الصدوق المتقدمة ، الدالة على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خرج فصلى بالناس ، وخفف الصلاة ، ثم وضع يده على عاتق علي «عليه

__________________

(١) راجع : قاموس الرجال ج ١١ (رسالة في تواريخ النبي والآل) للتستري ص ٣٦.

(٢) راجع : البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ٣ ص ٦١ وج ١ ص ٨٢ و (ط دار الفكر) ج ١ ص ١٨٣ وج ٢ ص ٦٠ وج ٥ ص ١٤١ والرواية وإن كانت قد ذكرت إقرار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأبي بكر على الصلاة لكن ذلك غير صحيح. ولهذا البحث مجال آخر. وراجع : البحار ج ٢٨ ص ١٤٤ وعمدة القاري ج ٦ ص ٣ وج ٧ ص ٢٨٠ وج ١٨ ص ٦٩ وصحيح ابن خزيمة ج ٢ ص ٤١ وج ٣ ص ٧٥ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٥٨٧ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٣٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢١٧ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٥.


السلام» والأخرى على عاتق أسامة ، ثم انطلقا به إلى بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، فجاءا به حتى وضع رأسه في حجرها ..

ثم يذكر قضية استئذان ملك الموت ، حيث كانت وفاته بعد مناجاته لعلي «عليه‌السلام» ؛ فراجع ..

فبضم هذه الرواية إلى ما تقدم نفهم أنه قد انتقل إلى بيت فاطمة «عليها‌السلام» في نفس اليوم الذي توفي فيه ، بعد أن صلى بالناس.

وأما أنه رفع الستر ثم عاد فأرخاه ؛ فلم يروه حتى توفي حسبما ذكرته رواية البخاري الآنفة الذكر .. فلا يصح ؛ لأن رواية ابن جرير تصرح بأنه عزل أبا بكر عن الصلاة في نفس اليوم الذي توفي فيه ، فراجع (١).

وبعد ذلك كله .. لا يبقى أي شك أو ريب في أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دفن في بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، لا في بيت عائشة. ولكن فاطمة قد ظلمت بعد مماتها كما ظلمت في حال حياتها ..

«وسيعلم الذين ظلموا آل محمد ، عن طريق تزوير الحقيقة والتاريخ ، فضلا عن مختلف أنواع الظلم الأخرى .. أي منقلب ينقلبون ..».

__________________

(١) راجع كنز العمال ج ٧ ص ١٩٨ عن ابن جرير ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ١٩٦ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٤٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٦٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٦٧.



الفصل الثالث :

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مات شهيدا



محاولات إغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد ذكرت عدة محاولات اغتيال إستهدفت حياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، نذكر منها :

١ ـ تهديدات قريش لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بدء الدعوة ، وعرضهم على أبي طالب أن يسلمهم إياه ليقتلوه ، مقابل أن يعطوه بعض فتيانهم.

وقد تقدمت هذه القصة ، فراجعها.

٢ ـ تقدم أيضا : أنه حين حصر المشركون المسلمين في شعب أبي طالب ، كان أبو طالب ينيم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في موضع يراه الناس ، حتى إذا هدأت الرجل يقيمه ، وينيم ولده عليا «عليه‌السلام» في مكانه. حتى إذا حدث أمر كان علي «عليه‌السلام» فداء لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٣ ـ محاولاتهم قتله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ليلة الهجرة ، على يد عشرة رجال ، كل رجل من قبيلة ، فأنجاه الله منهم بعلي «عليه‌السلام».


٤ ـ محاولة اغتياله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قبل بني النضير (١).

٥ ـ تنفيرهم الناقة به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليلة العقبة (٢).

بل لقد قال (ابن حزم) : إن حذيفة لم يصلّ على أبي بكر ، وعمر ، وعثمان .. «وكان لا يصلي على من أخبره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمرهم» (٣).

٦ ـ محاولة قتله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خيبر بالسم.

٧ ـ محاولة قتله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في المدينة بالسم أيضا ، وسنذكر النصوص المرتبطة بهذه الحادثة.

وبعد ما تقدم نقول :

إن استيفاء البحث هنا يفرض علينا إستعراض النصوص التي ذكرت هذه الحادثة ، ثم إيراد مواقع النظر فيها ، ولذلك ، فنحن نتابع الحديث على النحو التالي :

__________________

(١) راجع : ما قدمناه في هذا الكتاب. في غزوة بني النضير ج ٨ ص ٤٠ ـ ٥٠.

(٢) راجع : السيرة الحلبية (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٣ ص ١٤٣ وأسد الغابة ج ١ ص ٤٦٨ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٢٦٠ ـ ٢٦٢ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ١٠٤٢ ـ ١٠٤٥ وإمتاع الأسماع ص ٤٧٧ ومجمع البيان ج ٣ ص ٤٦ وإرشاد القلوب للديلمي ص ٣٣٠ ـ ٣٣٣ والمحلى ج ١١ ص ٢٢٥ ، وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ١٩٣ ، وكتاب سليم بن قيس ص ٢٧٢ والمسترشد ص ٥٩٣ والهداية الكبرى ص ٧٩ والبحار ج ٢٨ ص ٩٩ و ١٢٨ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٦٠٢ والدرجات الرفيعة ص ٢٩٨ والفوائد الرجالية ج ٢ ص ١٧٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٦٦ والكنى والألقاب ج ٢ ص ٢٣٥.

(٣) راجع : المحلى لابن حزم ج ١١ ص ٢٢٥.


نصوص مأثورة عامة :

إن ثمة نصوصا عديدة تفيد أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد مات شهيدا بالسم ، وهي التالية :

١ ـ عن ابن مسعود أنه قال : لأن أحلف تسعا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قتل قتلا أحب إلي من أن أحلف واحدة.

وذلك أن الله سبحانه وتعالى ، اتخذه نبيا ، وجعله شهيدا (١) ..

٢ ـ عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» عن آبائه : أن الإمام الحسن «عليه‌السلام» قال لأهل بيته : إني أموت بالسم ، كما مات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

قالوا : ومن يفعل ذلك؟

قال : امرأتي جعدة بنت الأشعث (٢).

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٠١ و (ط دار التحرير بالقاهرة سنة ١٣٨٨ ه‍) ج ٢ ق ٢ ص ٧ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ١٧٢ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٥٨ وصححه على شرط الشيخين ، هو والذهبي في تلخيص المستدرك (مطبوع بهامشه) ، وراجع : فيض القدير للمناوي ج ٥ ص ٤٤٨ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٨١ و ٤٠٨ و ٤٣٤ ومسند أبي يعلى ج ٩ ص ١٣٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٢٦٩ والمعجم الكبير ج ١٠ ص ١٠٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٤٩ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٣٧ وعن أنساب الأشراف ج ١ ص ٥٧٦.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ١٧٥ والبحار ج ٤٤ ص ١٥٣ وج ٤٣ ص ٣٢٧ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٢٤١.


٣ ـ عن الشعبي قال : لقد سم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسم أبو بكر الخ .. (١).

٤ ـ الأعمش عن إبراهيم قال : كانوا يقولون : إن اليهود سمت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وسمت أبا بكر (٢).

ومن أقوال العلماء نذكر :

قول الشيخ الطوسي «رحمه‌الله» : قبض «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مسموما يوم الإثنين لليلتين بقيتا من الهجرة سنة عشر الخ .. (٣).

وقال الشيخ المفيد : قبض بالمدينة مسموما (٤).

وراجع ما قاله العلامة الحلي «رحمه‌الله» حول ذلك أيضا (٥).

حديث سم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خيبر :

ذكر الصالحي الشامي حديث سم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خيبر ، فقال ما محصله :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٦٠ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٥٩ وج ٣ ص ٦٤ وتلخيص المستدرك للذهبي بهامشه.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٠٠.

(٣) البحار ج ٢٢ ص ٥١٤ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١ ، وشرح أصول الكافي ج ٧ ص ١٤٣ والأنوار البهية ص ٤١.

(٤) المقنعة ص ٤٥٦ ، الأنوار البهية ص ٤١ ، وكذا في روضة الواعظين ص ٧١.

(٥) منتهى المطلب ج ٢ ص ٨٨٧ والحدائق الناضرة ج ١٧ ص ٤٢٤ وجواهر الكلام ج ٢٠ ص ٧٩.


روى الشيخان عن أنس ، والإمام أحمد ، وابن سعد ، وأبو نعيم عن ابن عباس.

والدارمى ، والبيهقي عن جابر ، والبيهقي ـ بسند صحيح ـ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك.

والطبراني ، عنه ، عن أبيه.

والبزار ، والحاكم ، وأبو نعيم عن أبي سعيد.

والبيهقي عن أبي هريرة.

والبيهقي عن ابن شهاب : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما افتتح خيبر ، وقتل من قتل ، واطمأن الناس ، أهدت زينب ابنة الحارث ، امرأة سلام بن مشكم ـ وهي ابنة أخي مرحب ـ لصفية امرأة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شاة مصلية ، وقد سألت : أي عضو الشاة أحب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

فقيل لها : الذراع.

فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة.

فدخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على صفية ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، فقدمت إليه الشاة المصلية ، فتناول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الكتف.

وفي لفظ : الذراع ، وانتهس منها ، فلاكها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتناول بشر بن البراء عظما ، فانتهس منه (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٤ و ١٣٥ وفي هامشه عن : البخاري ج ٥ ـ


وذكر محمد بن عمر : أنه ألقى من لحم تلك الشاة لكلب ، فما تبعت يده رجله حتى مات (١).

وقال الصحابة السابق ذكرهم : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل إلى اليهودية ، فقال : «أسممت هذه الشاة»؟.

فقالت : من أخبرك؟

قال : «أخبرتني هذه التي في يديّ ، وهي الذراع.

قالت : نعم.

قال : «ما حملك على ما صنعت»؟.

قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكا استرحنا

__________________

ص ٢٧٢ (٢٦١٧) ومسلم ج ٤ ص ١٧٢١ (٤٥ / ٢١٩٠) ، وأحمد ج ٢ ص ٤٥١ وأخرجه البيهقي في الدلائل ج ٤ ص ٢٥٩ وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (٣١٦٩ و ٤٢٤٩ و ٥٧٧٧) وأبو داود في الديات (٦) ، وابن ماجة في الطبراني (٤٥) والدارمي في المقدمة ١١ وانظر المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٧٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٩٣ و (نشر مكتبة محمد علي صبيح وأولاده) ج ٣ ص ٨٠٠ وشرح المواهب ج ٢ ص ٢٣٩ وابن كثير في البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٨ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٤ ص ٢٤٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٤ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٣٩٩ وراجع : تفسير الثعلبي ج ٩ ص ٥٢ والبحار ج ٢١ ص ٦ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٧٠ وتفسير مجمع البيان للطبرسي ج ٩ ص ٢٠٤ وتفسير الميزان ج ١٨ ص ٢٩٨ وتفسير البغوي ج ٤ ص ١٩٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٣.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٤ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٢٠٢.


منه ، وإن كان نبيا فسيخبر.

فتجاوز ـ وفي لفظ ـ فعفا عنها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومات بشر من أكلته التي أكل ، ولم يعاقبها (١).

وذكر محمد بن عمر : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر بلحم الشاة فأحرق (٢).

ونقول :

إن لدينا شكوكا عديدة في هذا الذي ذكروه من روايات ، وفي بعض ما ذكر حولها أيضا ، ونلخص ذلك فيما يلي :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٤ وج ١٠ ص ١٥ وراجع : البحار ج ٢١ ص ٧ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٤ والميزان ج ١٨ ص ٢٩٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٣ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٣ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٣٤٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٠١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٧ وراجع : المجموع ج ١٨ ص ٣٨٦ والمحلى ج ١١ ص ٢٦ وفقه السنة ج ٢ ص ٥١٧ وعن سنن الدارمي ج ١ ص ٣٣ وعن سنن أبي داود ج ٢ ص ٣٦٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٤٦ وعون المعبود ج ١٢ ص ١٤٨ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ٣١٧ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٧٢ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٤٧ وعون المعبود ج ١٢ ص ١٤٨.


والله يعصمك من الناس :

زعم بعضهم : أن قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١) يدل على عدم صحة حديث سم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على يد اليهودية ..

ونقول :

هذا الزعم باطل بلا شك ، وذلك لما يلي :

أولا : قد أجيب عن ذلك : بأن حديث السم قد كان في خيبر ، والآية قد نزلت في سورة المائدة بعد ذلك بسنتين ، أي في عام تبوك (٢).

ثانيا : إن الآية قد نزلت سنة عشر يوم عرفة ، أو بعد ذلك ، لكي تمهد لنصب علي «عليه‌السلام» في حجة الوداع إماما للناس ، في يوم الغدير ، في الثامن عشر من ذي الحجة ، قبل وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بحوالي سبعين يوما.

ومفادها التهديد للذين يحاولون منع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تبليغ إمامة علي ، ويتصرفون مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» برعونة وجرأة ، فخبر الله تعالى نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنهم سوف لا يتمكنون من منع من ذلك بعد الآن ..

وليس للآية أي ارتباط بمنع الناس من سم رسول الله ، أو اغتياله ، في الظروف العادية الأخرى ..

__________________

(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٥٥ وراجع ج ١ ص ٤٣٤ والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ج ١ ص ٣١٧.


أما بالنسبة لقتل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بواسطة السم ، فقد صرحت الآيات : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس في مأمن من القتل ، أو الإغتيال بالسم أو بغيره في سائر الظروف ، قال تعالى :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (١).

ويشهد لذلك أيضا : أنه قد بذلت محاولات كثيرة لقتل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأنجاه الله منها ، فلاحظ ما يلي :

الروايات حول سم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وبعد ما تقدم نقول :

أما الروايات التي ذكرت محاولة اغتيال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالسم فهي مروية عند السنة والشيعة على حد سواء ، وهي تنقسم إلى قسمين :

أحدهما يقول : إن يهودية دست السم إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

والآخر يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استشهد بالسم على يد بعض زوجاته ..

ونحن نذكر هنا : نصوصا من هذا القسم ، ونصوصا من ذاك .. مع بعض المناقشة ، أو التوضيح ، أو التصحيح ، فنقول :

سم اليهودية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في روايات السنة :

فمن الروايات التي أوردها أهل السنة في مجاميعهم الحديثية والتاريخية ،

__________________

(١) الآية ١٤٤ من سورة آل عمران.


وتحدثت عن سم اليهودية له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نذكر ما يلي :

١ ـ عن عائشة وأبي هريرة : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال في مرضه الذي توفي فيه : إني أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر ، فهذا أوان انقطاع أبهري (١) من ذلك السم.

قال ابن شهاب : فتوفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شهيدا (٢).

__________________

(١) الأبهر : عرق مستبطن الصلب. والظاهر : أنه هو ما يعرف بالنخاع الشوكي.

(٢) المستدرك على الصحيحين للحاكم ج ٣ ص ٥٨ ، وتلخيص المستدرك للذهبي ، وصححاه على شرط الشيخين ، وذكر نحوه عن تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ١٦٩ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٤٣٢ والدرر لابن عبد البر ص ٢٦٩ وكنز العمال ج ١١ ص ٤٦٦ وراجع ص ٤٦٧ وراجع : المجموع للنووي ج ١٨ ص ٣٨٦ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٣٤٨ والطب النبوي لابن القيم الجوزي ص ٩٧ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٧١ ومجمع البيان ج ٩ ص ١٢١ و ١٢٢ وفيه : ما أزال أجد ألم الطعام .. وفي نص آخر : ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام ..

وراجع : البحار ج ٢١ ص ٦ و ٧ والمحلى ج ١١ ص ٢٥ و ٢٧ والمصنف للصنعاني ج ١١ ص ٢٩ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٤٣٤ وج ٥ ص ١٣٤ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٤٠٠ وج ٤ ص ٢٣٩ و ٢٤٠ والكامل لابن عدي ج ٣ ص ٤٠٢ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار التحرير بالقاهرة سنة ١٣٨٨ ه‍) ج ٢ ق ٢ ص ٣٢ و (ط دار صادر) ج ٨ ص ٣١٤ والسيرة النبوية لابن هشام المجلد الثاني ص ٣٣٨ سلسلة تراث الإسلام. وعن سنن أبي داود ج ٢ ص ٣٧٠ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ١٠ ص ١١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٣ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٩ و ٤٠٠.


٢ ـ عن أبي هريرة أنه حين فتحت خيبر ، أهديت له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شاة فيها سم ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إجمعوا من كان ههنا من اليهود ، فجمعوا ، فقال لهم : إني سائلكم عن شيء ..

إلى أن قال : أجعلتم في هذه الشاة سما؟

قالوا : نعم.

قال : فما حملكم على ذلك؟! ..

قالوا : أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك ، وإن كنت نبيا لم يضرك (١).

٣ ـ عن أنس : أن يهودية أتت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشاة مسمومة ، فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك ..

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما كان الله ليسلطك على ذلك. أو قال : علي ..

قالوا : ألا نقتلها؟

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا.

فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

__________________

(١) تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٤٣٥ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٣ ، والمجموع ج ١٨ ص ٣٧٦ ، وعن مسند أحمد ج ٢ ص ٤٥١ وصحيح البخاري ج ٧ ص ٢٠٣ و (ط دار الفكر) ج ٧ ص ٣٢ وعمدة القاري ج ٢١ ص ٢٩٠ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٥ ص ٤٣٥ وعن تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ١٢٣ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٧٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٧ و ٢٣٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٥ و ٣٩٨ وراجع : المجموع للنووي ج ١٨ ص ٣٨٦ وإمتاع الأسماع ج ٨ ص ٤٥.

(٢) تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٤٣٦ وصحيح البخاري ج ٥ ص ١٧٩ و (ط دار الفكر) ج ٣ ص ١٤١ والمحلى ج ١١ ص ٢٦ و ٤١٦ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٢١٩ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٤ و ١٥ وعن سنن أبي داود ج ٢ ص ٣٦٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٤٦ وج ١٠ ص ١١ وشرح مسلم للنووي ج ١٤ ص ١٧٨ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ٢٠٩ والأدب المفرد ص ٦١ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ٤٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٨ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ٣١٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٦ والأدب المفرد للبخاري ص ٦١ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٢١٥ والنهاية في غريب الحديث ج ٤ ص ٢٨٤ ولسان العرب ج ١٥ ص ٢٦٢ وتاج العروس ج ١٠ ص ٣٣٥ وراجع : الإنتصار للشريف المرتضى ص ٤٨٢ والمجموع للنووي ج ١٨ ص ٣٨٦ وعمدة القاري ج ١٣ ص ١٧١ وج ١٥ ص ٩١ وعون المعبود ج ١٢ ص ١٤٧ وجزء ابن عاصم ص ١٢٢ وإمتاع الأسماع ج ٨ ص ٤٦.


٤ ـ في سيرة ابن هشام : أن التي سمته هي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لاك من الشاة مضغة فلم يسغها ، فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ..

وكان معه بشر بن البراء بن معرور ، وقد أخذ منها وأساغها .. فسأل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تلك اليهودية عن ذلك ..

إلى أن قال : فتجاوز عنها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومات بشر من أكلته التي أكل (١).

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام (ط تراث الإسلام) ج ٣ ص ٣٣٧ و (نشر مكتبة محمد علي صبيح وأولاده) ج ٣ ص ٨٠١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٢ والبحار ج ٢١ ص ٧ وعن تفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٣


أضاف في نص آخر قوله : فلما مات بشر أمر بها فقتلت (١).

وقيل : صلبت ، كما في أبي داود.

وروى أبو داود : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قتلها (٢).

وفي كتاب شرف المصطفى : أنه قتلها وصلبها (٣).

وقيل : تركها لأنها أسلمت (٤) ، كما رواه عبد الرزاق.

فلما مات بشر دفعها إلى أوليائه ، فقتلوها به (٥). كما في الإمتاع ، وابن

__________________

والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٢١ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٥ وراجع : تفسير البغوي ج ٤ ص ١٩٧.

(١) السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٩ والشرح الكبير لابن قدامة ج ٩ ص ٣٢٨ ومعرفة السنن والآثار ج ٦ ص ١٦٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٤٦ والمغني لابن قدامة ج ٩ ص ٣٢٩ وعمدة القاري ج ١٥ ص ٩١.

(٢) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٣١٦ وراجع : البحار ج ٦٨ ص ٤٠٢ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٧٤.

(٣) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٣١٦ وعن مجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٩٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٤٧ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٥٥ وعمدة القاري ج ١٥ ص ٩١.

(٤) السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٩ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٨١ وعمدة القاري ج ١٥ ص ٩١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٥٥ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٩.

(٥) عمدة القاري ج ١٥ ص ٩١ وشرح أصول الكافي ج ٨ ص ٣٢١ والبحار ج ٦٨ ص ٤٠٢ وشرح مسلم للنووي ج ١٤ ص ١٧٩ وعون المعبود ج ١٢ ص ١٤٩ ـ


سعد ، وراجع : البيهقي ، والسهيلي ، والحافظ.

وفي صحيح مسلم : أنه لم يقتلها (١).

وعند ابن إسحاق وابن سخنون : أجمع أهل الحديث على ذلك (٢).

وقال مغلطاي : لم يقتلها (٣).

وعند الدارمي ، عن الزهري : أنه عفا عنها (٤).

٥ ـ زاد في بعض المصادر قوله : «فلما ازدرد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لقمته ازدرد بشر ما كان في فيه ، وأكل القوم.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ارفعوا أيديكم ، فإن هذه الذراع ، أو

__________________

وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٧٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٥٥ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٩.

(١) السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣١٦ وشرح مسلم للنووي ج ١٤ ص ١٧٩ وعون المعبود ج ١٢ ص ١٤٩.

(٢) شرح مسلم للنووي ج ١٤ ص ١٧٩ وعون المعبود ج ١٢ ص ١٤٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣١٦.

(٣) وراجع فيما تقدم : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٥ و ٥٦ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٢ والمحلى ج ١١ ص ٢٦ و ٢٧ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار التحرير) ج ٢ ق ٢ ص ٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٧٨. وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٠٠ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٢٢٢ وشرح أصول الكافي ج ٨ ص ٣٠٦.

(٤) مغني المحتاج ج ٤ ص ٧ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٣ وفقه السنة ج ٢ ص ٥١٧ والبحار ج ٦٨ ص ٤٠٢ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٧٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣١٦.


الكتف يخبرني : أنها مسمومة (أو إني نعيت فيها).

فقال له بشر : والذي أكرمك ، لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت ، فما منعني أن ألفظها إلا أن أنغص عليك طعامك ، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك ، ورجوت أن لا تكون ازدردتها ..

فلم يقم بشر من مكانه حتى عادلونه كالطيلسان [أي أسود]. وماطله وجعه سنة ، لا يتحول إلا ما حول ، حتى مات.

وطرح منها لكلب فمات (١).

قال الزهري : واحتجم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يومئذ على كاهله ، حجمه أبو هند مولى بني بياضة ، بالقرن والشفرة (٢).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٥ و (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٦ وعن سنن أبي داود ج ٤ ص ١٧٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٠٢ وج ٣ ص ٥٧١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٧٧ و ٦٧٨ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٢ عن الإكتفاء ، وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٤ وج ١٢ ص ٣٠٣ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٨ و ٢٣٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٧ و ٣٩٨ وراجع : سنن الدارمي ج ١ ص ٣٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٤٦ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٣٤٩.

(٢) راجع : الإصابة ج ٧ ص ٣٦٣ وعمدة القاري ج ١٢ ص ١٠٣ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٣ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٣٦٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٤٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٠٢ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٤٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٤ وج ١٢ ص ٣٠٣ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣١٧ وج ١٣ ص ٣٤٦ و ٣٥٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٧ والطب النبوي لابن القيم ص ٩٧.


٦ ـ وفي رواية : أنه بعد أن اعترفت اليهودية بتسميم الشاة ، بسط النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يده إلى الشاة ، وقال : كلوا باسم الله.

فأكلوا وقد سموا بالله ، فلم يضر ذلك أحدا منهم (١).

قال ابن كثير : فيه نكارة وغرابة شديدة (٢).

٧ ـ وفي المنتقى : ولاكها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلفظها ، فأخذها بشر بن البراء ، فمات من ساعته ، وقيل : بعد سنة (٣).

٨ ـ وعند ابن سعد ، والواقدي : أن اليهودية اعتذرت عن ذلك : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قتل أباها ، وزوجها ، وعمها ، وأخاها ، ونال من قومها. فأبوها الحارث ، وعمها يسار ، وأخوها مرحب ، وزوجها سلام بن مشكم.

فأرادت الانتقام لهم (٤).

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٦ و (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٧٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٥ عن البزار ، وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٠٠ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٣٤٥ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ١٠٩.

(٢) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٠٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٠.

(٣) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٢.

(٤) فتح الباري ج ١٠ ص ٢٠٨ و ٢١٠ وج ٧ ص ٣٨١ وعمدة القاري ج ١٥ ص ٩١ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٥ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٧٣ والبحار ج ١٧ ص ٣١٩ والتفسير المنسوب للإمام العسكري ص ١٧٨ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٢٠٢ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣١٦ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٩.


٩ ـ وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أكل من الشاة المسمومة ، هو وأصحابه ، فمات منهم بشر بن البراء ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر باليهودية فقتلت (١).

نظرة في النصوص المتقدمة :

إننا وإن كنا مطمئنين إلى صحة الحديث الذي يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استشهد بتأثير سم قد دسه إليه بعضهم.

وإلى أن الراجح هو : أن محاولة دس السم هذه قد تعددت ، وربما يكون قد شارك فيها أكثر من طرف ، غير أننا نقول :

إن ذلك لا يعني صحة ما ورد في الروايات المتقدمة ..

ولا نريد أن نناقش في أسانيد تلك الروايات ، فإن لنا فيه مقالا .. بل نكتفي بتسجيل الملاحظات التالية :

أولا : إن النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن من السذاجة بحيث يقبل هدية هذه اليهودية الموتورة ، ثم يأكل ، ويأمر أصحابه بالأكل منها .. وهو قد فرغ لتوه من تسديد الضربة القاضية لقومها ..

كما أنه كان قد قتل زوجها ، سلام بن مشكم ، وأخاها كعب بن الأشرف قبل ذلك ، وقتل عمها ، و .. و ..

كما أن كل أحد قد رأى غدر اليهود المتكرر بالمسلمين ، وتآمرهم أكثر من مرة على حياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلم يكن النبي «صلى الله

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار التحرير بالقاهرة سنة ١٣٨٨ ه‍) ج ٢ ق ٢ ص ٦ و ٧ و (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٧ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٧٣.


عليه وآله» ليغفل عن هذا الأمر ، ويتصرف بهذا الطريقة.

ولو فرض جدلا أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سكت عن هذا الأمر ، أو تغافل عنه لمصلحة رآها .. فإن من المتوقع جدا أن يبادر أحد المسلمين إلى الجهر بالاعتراض على الأكل من ذلك الطعام ، وإبداء مخاوفه من أن يكون مسموما.

ثانيا : إن من يقرأ الروايات المتقدمة ، ويقارن بينها ، يلاحظ : أنها غير منسجمة فيما بينها .. فلاحظ ما يلي :

١ ـ بعضها يصرح بأن الله تعالى ما كان ليسلط تلك المرأة عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

لكن بعضها الآخر يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مرض موته : قد وجد ألم الطعام الذي أكله في خيبر ، وأخبر أن مطاياه قد قطعت ، أو أن ذلك هو أوان انقطاع أبهره ..

٢ ـ يقول بعضها : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قتل تلك المرأة ، وبعضها الآخر يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عفا عنها .. وبعض ثالث يقول : إنه عفا عنها أولا. ثم قتلت بعد موت بشر بن البراء ..

٣ ـ بعضها يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يسغ ما تناوله من لحم الشاة ..

لكن البعض يقول : إنه قد أساغ ما أكله منها ..

٤ ـ وقالوا : إن الذي مات ، هو بشر بن البراء؟!.

وقيل : هو مبشر بن البراء؟! (١).

__________________

(١) راجع : مغازي الواقدي ج ٢ ص ٦٧٩ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٣٥٠.


وقد يجاب عن هذا : باحتمال أن يكون الرسم المتقارب للكلمتين هو الذي أوقع الرواة في الاشتباه في القراءة.

٥ ـ في بعض تلك الروايات : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اتهم جماعة من اليهود بالأمر ، فجمعهم ، وسألهم عنه ، فأقروا به ..

وفي بعضها الآخر : أن المتهم به هو خصوص تلك المرأة منهم ..

٦ ـ بعضها يقول : إن الذي أكل هو بشر بن البراء فقط ، وبعضها الآخر يضيف قوله : وأكل القوم .. وبعض ثالث يقول : كانوا ثلاثة ، وضعوا أيديهم في الطعام ، ولم يصيبوا منه.

٧ ـ بعضها يقول : إن الذي حجم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذه المناسبة هو أبو طيبة وقيل : بل حجمه أبو هند ..

٨ ـ بعض الروايات يقول : إنه بعد اعتراف اليهودية بما فعلت ، أمرهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالتسمية ، والأكل من الشاة ، فأكلوا فلم يضر ذلك أحدا منهم ..

وبعضها الآخر يقول : لم يأكلوا .. وتضرر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتضرر بشر بن البراء ..

ثالثا : كيف يحسّ بشر بن البراء بالسم ، ثم لا يخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالأمر ، ويتركه يمضغ ما تناوله ، ثم يبتلعه؟! ..

فهل كان يعتقد أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يموت؟! ..

أو أنه كان يعرف أنه يموت ، وأراد له ذلك؟!.

أو أنه لم يرده له .. ولكنه سكت عن إعلامه بالأمر؟!.

وكيف سكت؟!. ولما ذا؟!.


رابعا : يقول بشر : إنه خاف أن ينغص على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طعامه .. وهذا غريب حقا ، إذ كيف رضي من لا يحب أن ينغص على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طعامه : أن يتناول هذا النبي ذلك السم ، ويموت به؟! ..

وهل تنغيص الطعام على الرسول أعظم وأشد عليه من موته «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!.

خامسا : كيف أقدم بشر على ازدراد ما يعلم أنه مسموم؟!.

وما معنى هذه المواساة منه للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنفسه؟! ..

وهل يجوز له أن يقتل نفسه لمجرد المواساة؟!.

وما هي الفائدة التي توخاها من ذلك؟! ..

سادسا : هل الحجامة تنجي من السم حقا؟! .. ولو كانت كذلك ، فلما ذا لا يستفاد منها في معالجة من تلدغه الحية .. أو من يشرب سما خطأ ، أو عمدا؟! ..

ولما ذا أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذين وضعوا أيديهم في الطعام ولم يأكلوا منه أن يحتجموا؟!

سابعا : ما معنى قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هذا أوان انقطاع أبهري ، فهل تناول السم يقطع العرق الأبهر ، حتى بعد أن تمضي على تناول ذلك السم سنوات عدة؟! ..

وما هو الربط بين هذا العرق ، وبين ذلك السم؟! ..

وهل كل من تناول سما ينقطع أبهره؟!

ثامنا : إن زينب بنت الحارث اليهودية قد اعتذرت للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن فعلتها الشنعاء تلك ، بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قتل أباها ،


وعمها ، وزوجها ، وأخاها ..

وأخوها ـ كما يزعمون ـ هو مرحب اليهودي (١) ، الذي قتله الإمام علي «عليه‌السلام»

ونحن نشك في صحة كون مرحب أخا لتلك المرأة ..

فإن هناك من يقول : إنه عمها (٢).

تاسعا : إن بعض الروايات كما في شرف المصطفى تحدثت عن أن اليهودية قد قتلت وصلبت ، حين مات بشر.

غير أننا نعلم : أنه ليس في العقوبات الإسلامية الصلب للقاتل .. لا سيما إذا أخذنا بروايات العفو عنها من قبل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل ذلك .. حيث لا يحتمل أن تكون عقوبة قاتل غير النبي القتل والصلب ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٥ و ١٥٥ عن سنن أبي داود ، وبه جزم السهيلي وعن سنن أبي ج ٢ ص ٣٦٩ وشرح مسلم للنووي ج ١٤ ص ١٧٩ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٨١ والديباج على مسلم ج ٥ ص ٢٠٧ وعن عون المعبود ج ١٢ ص ١٤٨ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ١٢٨ وعمدة القاري ج ١٥ ص ٩١ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٨١.

(٢) راجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٠١ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٦ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٤٣٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٦٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣١٠ و ٣١٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٩٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٦٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٥٥ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٣. وفتح الباري (المقدمة) ص ٢٨٢ وج ٧ ص ٣٨١ والمعجم الكبير ج ٢ ص ٣٥ وكنز العمال ج ٧ ص ٣٧١ وراجع : البحار ج ٢١ ص ٦ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٤.


وأما آية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١) ، فإنما هو في المحارب شرط أن يكون قد شهر السلاح ، وأخذ المال ، وضرب وعقر ، ولم يقتل ..

هذا كله : مع غض النظر عن أن روايات العفو عنها تناقض الروايات القائلة بأن بشرا قد مات من ساعته ، ولم يبق إلى سنة ..

يضاف إلى ذلك : أنها إنما فعلت ما فعلت قبل أن تسلم ، فإسلامها يجبّ ما قبله ، فلا معنى لقتلها إذا كانت قد أسلمت ، حتى لو مات بشر بعد العفو عنها.

عاشرا : ما ذكره أنس من أنه ما زال يعرف فيها ـ أي آثار السم ـ في لهوات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»!! غريب ، إذ كيف يمكن أن يرى أنس ـ باستمرار ـ لهوات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!. فإن اللهاة لا تكون ظاهرة للناس ، إذ هي لحمة حمراء معلقة في أصل الحنك ..

ولو أنه كان يرى لهواته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فما الذي كان يراه فيها ، هل كان يرى السم نفسه ، أو يرى صفرة أو خضرة ، أو ما ذا؟

وهل كان غير أنس يرى لهوات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي الصفة التي كان أنس يراها فيها؟!

حادي عشر : ظاهر رواية المنتقى : أن بشرا قد التقط اللقمة التي لفظها

__________________

(١) الآية ٣٣ من سورة المائدة.


الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأكلها ، فمات منها ..

فلما ذا فعل ذلك يا ترى؟!. ألم يلتفت إلى أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد لفظها ، وأن ذلك قد كان لأمر غير محبب دعاه إلى ذلك؟!.

ولنفترض : أنه إنما أخذها ليتبرك بأثر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبريقه الشريف ، فإن السؤال هو : ألم يكن ينبغي أن ينهاه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أكلها ، بعد أن أحس بما فيها من سم قاتل؟! ..

أم تراه لم يره حين التقطها ، وأكلها!! وإذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعلن في نفس تلك اللحظة بأن الشاة أخبرته بأنها مسمومة ، ولفظ ما كان في فيه منها. فلما ذا يلتقطه بشر بعده؟!

هذا الحديث من طرق الشيعة :

أما ما رواه الشيعة في مصادرهم حول محاولة سم اليهودية له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فنذكر منه ما يلي :

١ ـ لقد جاء في التفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه‌السلام» ما ملخصه :

إنه لما رجع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خيبر ، جاءته امرأة من اليهود ـ قد أظهرت الإيمان ـ بذراع مسمومة ، وأخبرته أنها كانت قد نذرت ذلك له ..

وكان مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» البراء بن معرور ، والإمام علي «عليه‌السلام» ، فطلب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخبز ، فجيء به ، فأخذ البراء لقمة من الذراع ، ووضعها في فيه ..


فقال الإمام علي «عليه‌السلام» : لا تتقدم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال له البراء : كأنك تبخّل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

فأخبره الإمام علي «عليه‌السلام» : بأنه ليس لأحد أن يتقدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأكل ولا شرب ، ولا قول ولا فعل ..

فقال البراء : ما أبخّل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

فقال الإمام علي «عليه‌السلام» : ما لذلك قلت. ولكن هذا جاءت به يهودية ، ولسنا نعرف حالها ، فإذا أكلتها بدون إذنه وكلت إلى نفسك ..

هذا .. والبراء يلوك اللقمة ، إذ أنطق الله الذراع ، فقالت : يا رسول الله ، إني مسمومة ، وسقط البراء في سكرات الموت ، ومات.

ثم دعا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالمرأة فسألها ..

فأجابته بما يقرب مما نقلناه فيما تقدم من مصادر أهل السنة.

فأخبرها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن البراء لو أكل بأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لكفي شره وسمه ..

ثم دعا بقوم من خيار أصحابه ، فيهم سلمان ، والمقداد ، وأبو ذر ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وقوم من سائر الصحابة تمام العشرة ، والإمام علي «عليه‌السلام» حاضر ..

فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الله تعالى ، ثم أمرهم بالأكل من الذراع المسمومة ، فأكلوا حتى شبعوا ، وشربوا الماء.

وحبس المرأة ، وجاء بها في اليوم التالي .. فأسلمت ..

ولم يصلّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على البراء حتى يحضر الإمام علي «عليه‌السلام» ليحلّ البراء مما كلمه به حين أكل من الشاة .. وليكون


موته بذلك السم كفارة له ..

فقال بعض من حضر : إنما كان مزحا مازح به عليا ، لم يكن جدا فيؤاخذه الله عزوجل بذلك.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لو كان ذلك منه جدا لأحبط الله أعماله كلها. ولو كان تصدق بمثل ما بين الثرى إلى العرش ذهبا وفضة ، ولكنه كان مزحا وهو في حل من ذلك ، إلا أن رسول الله يريد أن لا يعتقد أحد منكم : أن عليا «عليه‌السلام» واجد عليه ، فيجدد بحضرتكم إحلالا ، ويستغفر له ، ليزيده الله عزوجل بذلك قربة ورفعة في جنانه .. الخ (١).

٢ ـ وفي رواية أخرى : أن امرأة عبد الله بن مشكم أتت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشاة مسمومة ، ومع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشر بن البراء بن عازب .. فتناول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذراع فلاكها ، ولفظها ، وقال : إنها لتخبرني أنها مسمومة.

أما بشر فابتلعها فمات ..

ثم سأل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اليهودية فأقرت (٢).

٣ ـ وفي رواية عن الأصبغ ، عن الإمام علي «عليه‌السلام» : أنه يقال

__________________

(١) راجع : البحار ج ١٧ ص ٣١٨ و ٣٢٠ و ٣٩٦ والتفسير المنسوب للإمام العسكري ص ١٧٧ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ١٢٨.

(٢) البحار ج ١٧ ص ٢٣٢ وراجع ص ٤٠٨ عن الخرائج والجرائح ، وقرب الإسناد ص ٣٢٦. وراجع : الخصائص الكبرى ج ٢ ص ٦٣ ـ ٦٥ وقرب الإسناد ص ٣٢٦ وقصص الأنبياء للراوندي ص ٣١١ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٢٧ و ١٠٩ وج ٢ ص ٥٠٩.


للمرأة اليهودية : عبدة.

وأن اليهود هم الذين طلبوا منها ذلك ، وجعلوا لها جعلا.

فعمدت إلى شاة فشوتها ، ثم جمعت الرؤساء في بيتها ، وأتت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقالت : يا محمد ، قد علمت ما توجّب لي من حق الجوار ، وقد حضر في بيتي رؤساء اليهود ، فزينّي بأصحابك ..

فقام «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومعه الإمام علي «عليه‌السلام» ، وأبو دجانة ، وأبو أيوب ، وسهل بن حنيف ، وجماعة من المهاجرين ..

فلما دخلوا ، وأخرجت الشاة ، سدت اليهود آنافها بالصوف ،

وقاموا على أرجلهم ، وتوكأوا على عصيهم ..

فقال لهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اقعدوا ..

فقالوا : إنا إذا زارنا نبي لم يقعد منا أحد ، وكرهنا أن يصل إليه من أنفاسنا ما يتأذى به.

وكذبت اليهود لعنهم الله ، إنما فعلت ذلك مخافة سورة السم .. ودخانه ..

ثم ذكرت الرواية : تكلّم كتف الشاة ، وسؤال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعبدة عن سبب فعلها ، وجوابها له .. وأن جبرئيل هبط إليه وعلّمه دعاء ، فقرأه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكذلك من معه ، ثم أكلوا من الشاة المسمومة ، ثم أمرهم أن يحتجموا (١).

__________________

(١) راجع : الأمالي للصدوق ص ٢٩٤ والبحار ج ١٧ ص ٣٩٥ و ٣٩٦ وج ٩٢ ص ١٤٠ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٨٠ وروضة الواعظين ص ٦١ ومستدرك الوسائل ج ١٦ ص ٣٠٧ والثاقب في المناقب ص ٨١ والجواهر السنية ص ١٣٩ وجامع أحاديث الشيعة ج ٢٣ ص ٥٤٢.


٤ ـ عن إبراهيم بن هاشم ، عن جعفر بن محمد ، عن القداح ، عن إبراهيم ، عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : سمت اليهودية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ذراع.

إلى أن قال : فأكل ما شاء الله ، ثم قال الذراع : يا رسول الله ، إني مسمومة.

فتركها ، وما زال ينتقض به سمه حتى مات «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

٥ ـ أحمد بن محمد ، عن الأهوازي ، عن القاسم بن محمد ، عن علي ، عن أبي بصير ، عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : سم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم خيبر ، فتكلم اللحم ، فقال : يا رسول الله ، إني مسموم.

قال : فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، عند موته : اليوم قطعت مطاياي الأكلة التي أكلت بخيبر ، وما من نبي ولا وصي إلا شهيد (٢).

نقد الروايات :

وكما لم نتعرض لمناقشة أسانيد روايات أهل السنة ، رغم ما فيها من هنات وهنات ، فإننا سوف نغض النظر عن الحديث عن مناقشة روايات الشيعة أيضا ، وإن كنا نجد من بينها ما هو معتبر من حيث السند ، ونكتفي بمناقشة متونها ، فنقول :

أولا : قد ذكرت الرواية الأولى : أن البراء بن معرور هو الذي أكل من

__________________

(١) البحار ج ١٧ ص ٤٠٦ وج ٢٢ ص ٥١٦ وبصائر الدرجات ص ٥٢٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ٢٣ ص ٣١٨.

(٢) بصائر الدرجات ص ٥٢٣ والبحار ج ٢٢ ص ٥١٦ وج ١٧ ص ٤٠٥ وإثبات الهداة ج ١ ص ٦٠٤ ومختصر بصائر الدرجات ص ١٥.


الشاة المسمومة فمات.

مع أن البراء بن معرور ، قد توفي قبل أن يهاجر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى المدينة بشهر (١).

ولم يحضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» موت البراء ، لكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين هاجر زار قبره.

ويقال : إنه قد صلى على قبره (٢).

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٣٠٨ أسد الغابة ج ١ ص ١٧٤ والإصابة ج ١ ص ١٤٤ و ١٤٥ و (ط دار الكتب العلمية) الإصابة ج ١ ص ٤١٥ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ١٣٦ و (ط دار الجيل) ج ١ ص ١٥٢ وفتح الباري ج ٥ ص ٢٧٦ وج ٧ ص ١٧٣ والثقات لابن حبان ج ١ ص ١٣٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٦٢٠ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ٢٣٩ وصحيح ابن حبان ج ١٥ ص ٤٧٤ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٨١ والبحار ج ١٩ ص ١٣٢ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٩١ وإعانة الطالبيين ج ٢ ص ١٢٣ وراجع : كنز العمال ج ١٣ ص ٢٩٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٦ ص ١٩.

(٢) راجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٣٠٨ أسد الغابة ج ١ ص ١٧٤ والإصابة ج ١ ص ١٤٤ و ١٤٥ و (ط دار الكتب العلمية) الإصابة ج ١ ص ٤١٥ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ١٣٦ و (ط دار الجيل) ج ١ ص ١٥٢ والثقات لابن حبان ج ١ ص ١٣٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٦٢٠ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٩١ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ٢٣٩ والبحار ج ١٩ ص ١٣٢ وإعانة الطالبيين ج ٢ ص ١٢٣ وراجع : كتاب الأم ج ١ ص ٣٠٩ وتلخيص الحبير ج ٥ ص ١٩٦ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ١١٢ وبغية الباحث ص ٩٨.


وقضية خيبر إنما كانت في السنة السابعة بعد الهجرة ، فكيف يكون البراء بن معرور قد مات من أكلة خيبر ، إذا كان قد مات قبلها بسبع سنوات؟!.

وقد يعتذر عن ذلك : بأن ثمة سقطا من الرواية.

وأن الصحيح هو : بشر بن البراء ..

غير أننا نقول :

إن تكرر كلمة البراء في الروايات مرات عديدة يأبى قبول هذا الإعتذار ، فإن السهو لا يتكرر في جميع الموارد عادة ، وهذا واضح.

ثانيا : إن هذه الروايات التي رواها الشيعة تختلف فيما بينها :

١ ـ فرواية التفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه‌السلام» ، تقول :

إن الضحية هو البراء بن معرور.

وروايات أخرى تقول : إنه بشر بن البراء بن معرور.

ورواية ثالثة تقول : إنه بشر بن البراء بن عازب ..

٢ ـ رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه‌السلام» تقول : إن الذي مات ، قد مات وهو يلوك اللقمة.

والرواية التي بعدها تقول : إنه قد ابتلع اللقمة.

وقد يجمع بينها : بأن الذي يلوك اللقمة كثيرا ما يبتلع بعضها. فلعل كل رواية تحدثت عن شيء من ذلك بخصوصه. ولم تلحظ الخصوصية الأخرى.

٣ ـ يظهر من بعض تلك الروايات : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يأكل من الذراع ، وهي وإن كانت لا تنافي الرواية الأخرى التي تقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد لاك اللقمة ولم يسغها ..


لكنها تناقض الرواية التي صرحت : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أكل منها ما شاء الله ، بعد أن علمه جبرئيل دعاء ..

٤ ـ بعض الروايات يقول : إن إخبار الذراع له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنها مسمومة كان قبل أن يسيغ اللقمة.

وغيرها يقول : إن الذراع تكلمت قبل أن يبدأ هو وأصحابه بالأكل منها.

وبعض آخر يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أكل منها ما شاء الله ، ثم أخبرته الذراع بأنها مسمومة ..

٥ ـ الروايات تصرح بأن اليهودية هي زوجة سلام بن مشكم.

لكن رواية الخرائج والجرائح تقول : إنها امرأة عبد الله بن مشكم ، ولا نعرف أحدا بهذا الاسم فيما بين أيدينا من مصادر .. فإن وجد ، فالروايتان متناقضتان من هذه الجهة ..

٦ ـ الروايات تقول : إن اسم اليهودية زينب.

ورواية الأصبغ عن الإمام علي «عليه‌السلام» تقول : إنها يقال لها : عبدة ..

٧ ـ رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه‌السلام» تقول : إن القضية كانت في المدينة.

وسائر الروايات تقول : في خيبر ..

٨ ـ الروايات تتحدث عن أن اليهودية جاءته بذراع أو شاة مسمومة.

لكن رواية الأصبغ تقول : إن اليهودية دعته للإجتماع مع الرؤساء في بيتها ، حيث قدمت له الشاة المسمومة.

إلا أن يدّعى : أنها قد جاءته بها بعد قدومه إلى بيتها ..


٩ ـ وأخيرا .. هل جاءته بذراع؟! أم جاءته بشاة؟! إن الروايات قد اختلفت في ذلك.

وقد يدّعى أيضا : أنه لا مانع من إطلاق اسم الجزء على الكل.

وهناك موارد أخرى يظهر فيها هذا الإختلاف ، لا نرى حاجة إلى تتبعها.

ثالثا : إذا كان الإمام علي «عليه‌السلام» قد صرح بأنه يشك في هدية تلك اليهودية ، كما ذكرته رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه‌السلام» ، معللا ذلك بقوله : «ولسنا نعرف حالها».

فلما ذا لم يشك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيها أيضا ، ولم يحذّر من معه من الأكل منها قبل التثبت من حالها .. بل بادر فأكل منها ما شاء الله ، أو أنه لاك ما تناوله منها ، ثم أساغه ، أو لم يسغه ، حسب اختلاف الروايات؟! ..

ولما ذا لم يحذر الإمام علي «عليه‌السلام» النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من الأكل منها ، كما حذر البراء بن معرور؟!

وإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حاضرا في المجلس ينتظر إحضار الخبز ، وكان يسمع الحوار بين الإمام علي «عليه‌السلام» ، وبين ابن معرور ، فلما ذا لم يأخذ تحذير الإمام علي «عليه‌السلام» بعين الإعتبار؟! ..

بل لما ذا لم يؤثر هذا التحذير في البراء نفسه أيضا؟! فلم يرتّب أي أثر على هذا التحذير ، ولو بأن يلفظ ما كان في فمه ، حتى لو مات بعد ذلك بقليل.

رابعا : قد ذكرت رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه‌السلام» : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعا قوما من خيار أصحابه .. ثم عددتهم ،


وذكرت من بينهم صهيبا. مع أن صهيب الرومي كما ذكرته الروايات والنصوص ، كان عبد سوء ، وهو ممن تخلف عن بيعة أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وكان من أعوان المعتدين على الزهراء «عليها‌السلام» ، والغاصبين لحق الإمام علي «عليه‌السلام» ، بل كان من المعادين لأهل البيت «عليهم‌السلام» (١).

خامسا : كيف يدعو النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خيار أصحابه ليأكلوا من الشاة ، فيأكلون إلى حد الشبع ، ثم لا يصيبهم أي شيء. ويبقون أحياء بعد موته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عشرين عاما ، وأكثر من ذلك .. لكنه هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحده الذي يصاب؟!

حيث تذكر الروايات الأخرى : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد ثلاث سنوات قد وجد ألم أكلته بخيبر ، وأن عرقه الأبهر قد انقطع ..

بل بعض الروايات تقول : فما زال ينتقض به سمه حتى مات «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

سادسا : إن رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه‌السلام» قد ذكرت أيضا أمرا خطيرا ، نجل عنه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كل الإجلال .. وهو :

أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يصلّ على البراء ، بانتظار حضور الإمام علي «عليه‌السلام» ، لكي يحلّه مما كلمه به. وليكون موته بذلك السم كفارة له ..

ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين اعترضوا عليه ، بأن البراء قد قال

__________________

(١) راجع : قاموس الرجال ج ٥ ص ١٣٥ ـ ١٣٧ وغيره من كتب التراجم.


ذلك مزاحا ، ولم يكن ليؤاخذه الله بذلك ، تراجع «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقال : «.. ولكنه كان مزحا ، وهو في حل من ذلك» ..

ثم اعتذر لهم عن موقفه الأول بأنه يريد أن لا يعتقد أحد منهم بأن الإمام عليا «عليه‌السلام» واجد عليه ، فأراد أن يجدد بحضرتهم إحلالا له ، ويستغفر له .. ليزيده الله بذلك قربة ورفعة في جنانه ..

وهذا معناه : أن هذه الرواية تنسب إلى رسول الله ـ والعياذ بالله ـ التدليس ، والإخبار بغير الحق .. ثم التراجع عن الموقف بعد ظهور الأمر .. و .. و .. الخ .. وحاشاه من ذلك كله ..

سابعا : هل صدّق رؤساء اليهود بنبوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى قالوا له : إذا زارنا نبي لم يقعد منا أحد؟!

وكيف صدقهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمون في قولهم هذا؟!. ألم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد زارهم قبل ذلك ، واجتمع بهم؟! فهل كانوا يقومون أيضا ، ويسدّون آنافهم بالصوف .. حتى لا يتأذى بأنفاسهم؟!.

وحين سدوا آنافهم بالصوف مخافة سورة السم ، هل تنفسوا من أفواههم بعد سد الآناف؟! ..

وهل التنفس من الفم يمنع من سورة السم حقا؟!

أم أنهم سدوها بالصوف ، والتزموا بأن يتنفسوا منها أيضا؟

إن الرواية لم توضح لنا ذلك!!

وإذا كان السم يؤثر إلى هذا الحد ، فلا حاجة بهم إلى إطعام الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الشاة ، بل يكفي أن يضعوها أمامه .. ويدخل السم


إلى بدنه الشريف عن طريق التنفس.

ثامنا : إذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد علم بالسم ، وقرأ الدعاء ، وأمرهم بأكل ما هو مسموم ، ليظهر المعجزة ، والكرامة بذلك ، فما معنى أمره لمن معه بالإحتجام بعد ذلك؟! ..

فهل أثّر الدعاء في حجب أثر السم ، أم لم يؤثر؟ فإن كان قد أثّر ، فما الحاجة إلى الحجامة؟!. وإن كان لم يؤثر ، فلما ذا كان الدعاء؟!

وكيف أقدم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على تناول سم يؤدي إلى الموت ، من دون تثبّت من تأثير الدعاء في منع تأثير السم؟! ..

تاسعا : إن بعض تلك الروايات يقول : إنه بعد أن أكل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما شاء الله ، كلمته الذراع ، وقالت : إني مسمومة .. فلما ذا أخرت الذراع كلامها إلى حين أكل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منها ما شاء الله؟!.

ولما ذا لم يمت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ذلك السم من ساعته ، إذا كان ذلك السم مؤثرا؟! .. بل تأخر أثره إلى ثلاث سنوات؟! ..

أوليس قد مات بعض المسلمين بسبب أكله من نفس السم الذي أكل منه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

هل سم المسلمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! ..

وبعد ما تقدم نقول :

إن أصابع الاتهام لا تتوجه في هذا الأمر إلى اليهود وحسب ، فإن هناك روايات تلمّح ، وأخرى تصرح بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد مات مسموما بفعل بعض نسائه .. فلاحظ ما يلي :


١ ـ إن من الروايات التي ربما يقال إنها تلمح إلى ذلك ، الرواية المتقدمة عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» ، وفيها : أن الإمام الحسن بن علي «عليهما‌السلام» قال لأهل بيته : إني أموت بالسم ، كما مات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ثم ذكر لهم : أن زوجته هي التي تسممه ..

فربما يقال : إنه «عليه‌السلام» يريد الإشارة إلى هذا الأمر بالذات ، وإلا فقد كان يكفيه أن يقول : إن امرأتي تقتلني بالسم .. ولكنه لم يكتف بذلك ، بل شبه ما يجري له بما جرى لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فكما أن زوجتيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سمتاه ، فإن زوجة الإمام الحسن «عليه‌السلام» سوف تدس له السم أيضا ..

وعهدة هذا الفهم للرواية على هذا النحو تبقى على مدّعيه .. إذا لم يرد أن يؤيد ذلك بالروايات الأخرى الآتية المصرحة بهذا الأمر.

٢ ـ ما روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» ، في تفسير قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (١).

حيث قال «عليه‌السلام» : «أتدرون ، مات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو قتل؟! إنهما سقتاه قبل الموت» ..

٣ ـ وروي أيضا عن عبد الصمد بن بشير ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» ، قال : «أتدرون مات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو قتل؟! .. إن الله

__________________

(١) الآية ١٤٤ من سورة آل عمران.


يقول : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ). فسم قبل الموت ، إنهما سمتاه» ، أو سقتاه (١).

٤ ـ وروي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : في حديث الحسين بن علوان الديلمي : «أنه حينما أخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إحدى نسائه ، لمن يكون الأمر من بعده ، أفشت ذلك إلى صاحبتها ، فأفشت تلك ذلك إلى أبيها ، فاجتمعوا على أن يسقياه سما ، فأخبره الله بفعلهما. فهمّ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتلهما ، فحلفا له : أنهما لم يفعلا ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) (٢)» (٣).

أي ذلك هو الصحيح؟!

ونحن ، رغم أننا قد ذكرنا بعض الإشكالات على الطائفتين المتقدمتين أولا ، عن السنة والشيعة ، حول سم اليهود له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فإننا لا نريد أن نتسرع في إصدار الحكم النهائي حتى مع وجود هذه الطائفة الثالثة المذكورة آنفا ، وذلك لأننا إذا نظرنا إلى الطوائف الثلاث من الروايات .. نجد

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢٨ ص ٢٠ وج ٢٢ ص ٥١٦ وج ٣١ ص ٦٤١ وتفسير العياشي ج ١ ص ٢٠٠ وتفسير البرهان ج ١ ص ٣٢٠ وتفسير الصافي ج ١ ص ٣٥٩ و ٣٨٩ و ٣٩٠ ونور الثقلين ج ١ ص ٣٣ و ٤٠١ وتفسير كنز الدقائق ج ٢ ص ٢٥١.

(٢) الآية ٧ من سورة التحريم.

(٣) البحار ج ٢٢ ص ٢٤٦ وج ٣١ ص ٦٤١ والصراط المستقيم ج ٣ ص ١٦٨ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٦٢٧.


أن في الطائفة الثانية روايات معتبرة ، لا ترد عليها الإشكالات في مضمونها ، إذا أخذت بمفردها ، وهي أيضا تتوافق مع بعض روايات أهل السنة في أصل المسألة.

ولأجل ذلك ، نقول :

إن النظرة المنصفة لهذه الطوائف الثلاث تدعونا إلى تقرير ما يلي :

إنه ربما يظهر من مجموع ما ذكرناه : أن المحاولات التي بذلها اليهود لقتله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تعددت ، ولعل بعضها قد حصل في خيبر ، وبعضها حصل بالمدينة ..

ولعل التي سمته في خيبر هي زينب بنت الحارث اليهودية ، والتي سمته في المدينة هي تلك اليهودية التي يقال لها : عبدة ..

وربما تكون الذراع قد كلمت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مرتين : إحداهما في خيبر ، والأخرى في المدينة.

ولعله أهديت له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذراع تارة ، وأهديت له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شاة مصليّة أخرى ..

ثم لعل الذي مات في إحداهما : هو مبشر بن البراء ، وأما أخوه بشر بن البراء أو بشر بن البراء بن عازب ، فمات في حادثة أخرى ..

وربما يكون بشر قد مات في إحداهما ، ولم يمت أحد من المسلمين في المحاولة الأخرى ..

ويمكن أن يقال أيضا : إن المحاولة التي جرت في المدينة ، ربما تكون قد جرت بالتواطؤ مع بعض نسائه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وربما تكون محاولة بعض نسائه قد جاءت منفصلة عن قصة اليهودية واليهود ..


وربما تكون محاولة بعض نسائه قد فشلت مرة ، وذلك في قضية إفشاء سره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في موضوع سورة التحريم ، إذ إن الرواية تقول :

إن الله تعالى أخبره بذلك ، ثم نجحت في المحاولة الثانية ، واستشهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بفعل السم الذي دسسنه له ..

وإنما فضح الله أمرهن في المرة الأولى ليعرف الناس : أنهن قد يقدمن على هذا الأمر الشنيع مرة أخرى ، حتى إذا فعلن ذلك ، وذلك حين وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فتصديق الناس بهذا الأمر يصبح أسهل وأيسر ..

كما أن تعريف الناس بحقيقة أولئك النسوة يحصّن الناس من الاغترار بهن ، بحجة كونهن زوجات له «صلى‌الله‌عليه‌وآله»!! ..

نعم .. إن ذلك كله .. وسواه محتمل في تلك الروايات ..

ونحن وإن لم نستطع الجزم بأي من تلك الوجوه .. ولكن لا شك في أنها وفق ما ذكرناه لا تكون متعارضة فيما بينها ولا متنافرة ، لأنها إنما تكون كذلك لو فرض أنها كلها تحكي عن قضية واحدة دون سواها ..

وكونها تحكي عن قضية واحدة مما لا سبيل إلى إثباته ..

وتعدد محاولات اغتياله حسبما تقدم في أوائل هذا البحث قد يؤيد هذا الأمر ..

وتبقى حقيقة واحدة لا مجال لإنكارها من أحد أيضا ، وهي : أنه في ظل هذا الذي ذكرناه ، لا بد أن تسقط كل الآراء التي تسعى لتبرئة هذا الفريق أو ذاك ..

وتبقى الشبهة تحوم حول الذين ذكرت أسماؤهم في الروايات في الطوائف الثلاث المتقدمة. لا سيما مع وجود نصوص صحيحة السند عند


الشيعة والسنة ..

بل إنه حتى أولئك الذين كانوا من المعروفين ، وتدعى لهم الكرامات الراسخة ، والمقامات الشامخة ، قد أثبت لنا التاريخ أنهم قد شنوا حربا ضارية ضد علي «عليه‌السلام» قتل فيها ألوف من المسلمين ، ولو استطاعوا قتل علي «عليه‌السلام» نفسه لقتلوه ، مع أنه وصي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأخوه ونفسه ، كما جاء في آية المباهلة ..

بل إنه حتى بالنسبة إلى النصوص التي لم توفق لسند صحيح ، فإنه لا يمكن دفع احتمالات صحتها ، خصوصا إذا لو حظت الظروف التي أحاطت برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أول بعثته ، وإلى حين وفاته.

مع علمنا بأن الجهر بالحقيقة كان يساوق المجازفة بالحياة ، وبالأخص بالنسبة لبعض الشخصيات التي كانت تحتل مكانة خاصة في قلوب بعض الفئات ، التي كانت هي الحاكمة عبر أحقاب التاريخ ..

ولتفصيل هذا الأمر ، محل ومجال آخر ..

ما من نبي أو وصي إلا شهيد :

وربما يمكن تأكيد استشهاد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالسم بالروايات التي تقول : ما من نبي أو وصي إلا شهيد ، فقد :

١ ـ روى محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن علي ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» ، قال :

سم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم خيبر ، فتكلم اللحم ، فقال : يا


رسول الله ، إني مسموم.

قال : فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عند موته : اليوم قطعت مطاياي الأكلة التي أكلت بخيبر ، وما من نبي ، ولا وصي إلا شهيد (١).

وقد أكدت النصوص المتقدمة صحة ذلك ، بالنسبة للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أما بالنسبة لأوصيائه الاثني عشر ، فقد وردت عدة روايات تفيد هذا المعنى أيضا ، وبعض هذه الروايات معتبر من حيث السند ، ونذكر منها ما يلي :

٢ ـ عن تميم القرشي ، عن أبيه ، عن أحمد بن علي الأنصاري ، عن أبي الصلت الهروي ، عن الإمام الرضا «عليه‌السلام» في نفي قول من قال : إن الإمام الحسين «عليه‌السلام» لم يقتل ، ولكن شبّه لهم ، قال «عليه‌السلام» :

والله ، لقد قتل الحسين «عليه‌السلام» ، وقتل من كان خيرا من الحسين ، أمير المؤمنين ، والحسن بن علي ، وما منا إلا مقتول ، وإني ـ والله ـ لمقتول بالسم الخ .. (٢).

ويمكن أن يستفاد من هذه الرواية ، وغيرها مما يأتي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا قد مات شهيدا ، إذ كان المقصود بكلمة منا هو أهل البيت ، وعلى رأسهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٥٢٣ ومختصر بصائر الدرجات ص ١٥.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٠٣ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ١ ص ٢٢٠ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» للعطاردي ج ١ ص ٨٧ وج ٢ ص ٤٠٥ والتفسير الصافي ج ١ ص ٥١٣ وتفسير كنز الدقائق ج ٢ ص ٦٦٠ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٥٦٥ والبحار ج ٤٤ ص ٢٧١ وج ٤٩ ص ٢٨٥ وج ٢٧ ص ٢١٣.


٣ ـ محمد بن موسى بن المتوكل ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهروي ، قال : سمعت الإمام الرضا «عليه‌السلام» يقول : «والله ، ما منا إلا مقتول شهيد».

وليس في سند هذه الرواية إشكال (١).

٤ ـ قال الصدوق «رحمه‌الله» : وفي حديث آخر : «.. وجميع الأئمة الأحد عشر بعد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قتلوا ، منهم بالسيف ، وهو أمير المؤمنين ، والحسين «عليهما‌السلام». والباقون قتلوا بالسم ، قتل كل واحد منهم طاغية زمانه ، وجرى ذلك عليهم على الحقيقة والصحة الخ ..» (٢).

٥ ـ روى الخزاز القمي : عن محمد بن وهبان البصري ، عن داود بن الهيثم ، عن إسحاق بن البهلول ، عن طلحة بن زيد ، عن الزبير بن باطا ، عن

__________________

(١) راجع : البحار ج ٤٩ ص ٣٢٠ وج ٥٠ ص ٢٣٨ وج ٩٩ ص ٣٢ وج ٢٧ ص ٢٠٩ والأمالي للصدوق (ط سنة ١٤١٧ مؤسسة البعثة ـ قم) ص ١٢٠ وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٥٦ و (ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات) ج ١ ص ٢٨٧ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٣٥١ و (ط مركز النشر الإسلامي) ج ٢ ص ٥٨٥ وروضة الواعظين ص ٢٣٣ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٥٦٨ و (ط دار الإسلامية) ج ١٠ ص ٤٤٦ والعقد النضيد والدر الفريد لمحمد بن الحسن القمي ص ٣٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٤١٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٢ ص ٥٩٦ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» ج ١ ص ١٤٩ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٥١.

(٢) عيون أخبار الرضا (ط سنة ١٤٠٤ ه‍ مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ١٩٣ والبحار ج ٢٥ ص ١١٨.


عمير بن هاني ، عن جنادة بن أميد : أن الإمام الحسن بن علي «عليهما‌السلام» قال في مرضه الذي توفي فيه :

«والله ، إنه لعهد عهده إلينا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماما من ولد علي «عليه‌السلام» وفاطمة «عليها‌السلام» ، ما منا إلا مسموم ، أو مقتول الخ ..» (١).

٦ ـ قال الطبرسي «رحمه‌الله» ، وكذلك الإربلي «رحمه‌الله» ، وهما يتحدثان عن الإمام العسكري «عليه‌السلام» : «ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه «عليه‌السلام» مضى مسموما ، وكذلك أبوه وجده ، وجميع الأئمة «عليهم‌السلام» ، خرجوا من الدنيا بالشهادة».

واستدل القائلون بذلك بما روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : والله ، ما منا إلا مقتول أو شهيد (٢).

٧ ـ وروى الحسين بن محمد بن سعيد الخزاعي ، عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي ، عن الجوهري ، عن عتبة بن الضحاك ، عن هشام بن محمد ،

__________________

(١) كفاية الأثر ص ٢٢٦ و ٢٢٧ والصراط المستقيم ج ٢ ص ١٢٨ والأنوار البهية (ط سنة ١٤١٧ ه‍) ص ٣٢٢ ونهج السعادة للمحمودي ج ٨ ص ٢٣٨ والبحار ج ٢٧ ص ٢١٧ و ٣٦٤ وج ٤٤ ص ١٣٩.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٥١ وكشف الغمة (ط سنة ١٣٨١ ه‍ المطبعة العلمية ـ قم) ج ٢ ص ٤٣٠ و (ط دار الأضواء) ج ٣ ص ٢٢٧ والفصول المهمة لابن الصباغ ج ٢ ص ١٠٩٣ والبحار ج ٢٧ ص ٢٠٩ وج ٥٠ ص ٣٨ عن إعلام الورى ، ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٤١٤ والأنوار البهية ص ٣٢٢ وأعلام الورى (ط سنة ١٣٩٠ ه‍.) ص ٣٦٧ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢ ص ١٣٢.


عن أبيه ، قال : خطب الإمام الحسن بن علي «عليهما‌السلام» بعد قتل أبيه ، فقال في خطبته :

«لقد حدثني حبيبي جدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن الأمر يملكه اثنا عشر إماما من أهل بيته وصفوته ، ما منا إلا مقتول أو مسموم» (١).

يضاف إلى ما تقدم : وجود نصوص روائية ، وتاريخية ، تتحدث عن كل إمام ، وتروي أنه قد مات بالسم أو القتل على يد طاغية زمانه ، مع وجود محاذير كبيرة ، وأخطار جسيمة تتهدد من يعلن هذا الأمر ، لأن إظهاره ليس في مصلحة أولئك الحكام ..

وبعد هذا .. فلا يصح نفي حصول هذا الأمر بصورة قاطعة ، أو استبعاده ..

المفيد رحمه‌الله ينكر حديث ما منا إلا مقتول :

وقد يسأل سائل هنا فيقول : إذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد مات شهيدا ، فما معنى أن ينكر ذلك الشيخ المفيد «رحمه‌الله» ، حسبما ذكره في بعض مؤلفاته؟! (٢).

ونقول في الجواب :

إنه لا ريب في أن الشيخ المفيد «رحمه‌الله» هو من أعاظم علماء الإمامية ،

__________________

(١) البحار ج ٢٧ ص ٢١٧ وج ٤٣ ص ٣٦٤ وكفاية الأثر ص ١٦٢ ومستدرك سفينة البحار (ط سنة ١٤٠٩ ه‍ مؤسسة البعثة) ج ١ ص ١٦٤ و (نشر مركز النشر الإسلامي) ج ١ ص ٢٠٠ ونهج السعادة للمحمودي ج ٨ ص ٥٠٦ والأنوار البهية ص ٣٢٢.

(٢) تصحيح إعتقادات الإمامية للشيخ المفيد ص ١٣١ و ١٣٢.


وله مكانته الرفيعة ، وأثره العظيم في حفظ المذهب ، وفي الذب عنه ، وفي ترويجه ، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير جزاء وأوفاه.

غير أن علينا أن لا ننسى أنه «رحمه‌الله» كان يعيش في بغداد ، عاصمة الخلافة العباسية. وكان أسلاف الحكام في بغداد ، هم الذي دبروا لارتكاب جرائم قتل الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم .. وسجل لنا التاريخ عنهم أمورا هائلة تظهر : أن العباسيين كانوا أشد على أهل البيت وشيعتهم من الأمويين. وفي كتابنا الحياة السياسية للإمام الرضا «عليهم‌السلام» ، نبذة صالحة لإعطاء الانطباع عن فظاعة هذا الأمر ، وعمقه ، ومداه.

وفي إلماحة إلى ذلك هنا نقول :

إن الإمام الحسين «عليهم‌السلام» ، لم يعش في زمن العباسيين ، ولا حاربهم ، بل هو قد قضى شهيدا مظلوما بسيوف أعدائهم الأمويين ، وقد حاول العباسيون أن يستفيدوا من مظلوميته هذه في حركتهم المناهضة لبني أمية ، فرفعوا شعار الأخذ بثاراتته «عليه‌السلام» ..

كما أن مما لا شبهة فيه : أن الإمام الحسين «عليه‌السلام» هو أقدس رجل مشى على وجه الأرض بعد جده النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأبيه علي وأخيه الحسن «عليهما‌السلام».

ومع ذلك ، فإن العباسيين قصدوا قبره «عليه‌السلام» بالهدم ، وحرثوه ، وقطعوا الشجر من حوله .. وهو ما فعله المنصور العباسي ، والرشيد والمتوكل و .. كما أنهم قد قطعوا السبل لمنع الناس من الوصول إلى كربلاء لزيارة القبر الشريف ، وعاقبوا زواره بأشد العقوبات ، حتى بالقتل ..

فإذا كان هذا هو موقفهم من قبر الحسين! «الشهيد»! ومن زوار ذلك


القبر الشريف ، فماذا سيكون موقفهم من الأئمة المعاصرين لهم؟! والذين تتعاظم هواجسهم ، وخوفهم منهم!!.

إن التاريخ يحدثنا : أن سيرتهم معهم ومع شيعتهم قد أنست الناس سيرة وسياسات بني أمية ، مع أهل البيت «عليهم‌السلام» ، ومع من يتشيع لهم ، ويتصل بهم .. حتى قال الشاعر :

تالله ما فعلت أمية منهم

معشار ما فعلت بنو العباس

وقال الآخر :

يا ليت جور بني أمية دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار

وإذا ما لمحنا أحيانا شيئا من التخفيف من وطأة هذه السياسة ، فقد كان ذلك استجابة لمقتضيات فرضت نفسها ، أو لانشغالهم بأمور حاضرة ، كان عليهم المبادرة لمعالجتها ، وتأجيل ما سواها ..

وفي جميع الأحوال ، نقول :

إن الشيخ المفيد «رحمه‌الله» كان يعيش في ظل حكم هؤلاء ، الذين ورثوا عن أسلافهم الحقد ، والضغينة ، على أهل البيت «عليهم‌السلام» وشيعتهم ، وقد كان الحديث عن قتل الأئمة يعنيهم مباشرة ، دون كل من سواهم ..

فهل تراهم سوف يسمحون وهم أصحاب السلطة والهيمنة السياسية والعسكرية والثقافية والأمنية الخ .. ـ هل سيسمحون للشيخ المفيد أو لغيره ـ بإثارة هذا الاتهام ضد أسلافهم؟! وأن يتداول الناس هذا الأمر؟! ويصبح جزءا من ثقافتهم ، وأن يدون في الكتب والأسفار لينتقل إلى الأجيال اللاحقة ، في جملة ما ينتقل من الأخبار؟!


أم تراهم سيمنعون منه ، لكي لا يصبح وسيلة طعن ، وسند إدانة يبرر للناس الذين يرتبطون بأهل البيت إيمانيا وعاطفيا بأن يكرهوهم ، وأن يزيد حبهم ، وتعاطفهم مع الخط المناوئ لهم ، والذي تراود هؤلاء الحكام الشكوك والهواجس تجاههم ، وتجاه كل حركة تصدر منهم وعنهم؟!

إن أسلافهم الأمويين قد قتلوا الحسين «عليهم‌السلام» ، وقتلوا زيدا ، ويحيى وغيرهم جهارا نهارا .. وحملوا النساء والأطفال سبايا ، وطافوا بهم البلاد .. ولكنهم لم يسمحوا للناس بأن يتداولوا الحديث عن تلك الجرائم بحرية ، وبصدقية ، ووضوح ..

فهل يسمح العباسيون بكشف وتداول أمر لا يمكنهم الاعتراف به؟! .. بل هم يظهرون للناس إدانتهم له ، ويجهدون لإقناعهم ببراءتهم منه؟! ..

فراجع ما سجله الحديث والتاريخ من مواقف لهم في هذا السياق تجاه الإمام الرضا ، والإمام الكاظم ، وسواهما من الأئمة «عليهم‌السلام» ، حيث كانوا يقتلونهم بالسم ، ثم يظهرون للناس بمظهر البريء ، ويمشون في جنازتهم ، ويكشفون أجسادهم للشهود ليشهدوا ببراءتهم من دمهم ، ومن سيجرؤ على أن يشهد بضد ما يريدون؟ وأن يقول خلاف ما يحبون؟!

وكل ذلك يوضح لنا : مدى صعوبة إظهار وإشاعة أخبار استشهاد الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، على أيدي أسلاف أولئك الحكام ، في تلك العصور الصعبة ، مثل عصر الشيخ المفيد ، أو عصر غيره.

ثانيا : لنفترض أن من الممكن تدوين ذلك ، ولكن السؤال هو : هل كان


الشيخ المفيد قادرا على أن يجمع مؤلفات السابقين عليه ، في عصر كان يصعب فيه التنقل في البلاد ، ولم يكن هناك وسائل ارتباط ، ولا كانت هناك وسائل لتكثير الكتب ، وتوزيعها .. أو وسائل لكشف مطالبها ومحتوياتها ، سوى القراءة المباشرة والشاملة؟! ..

كما أن الكتّاب والقراء في تلك العصور ، لم يكونوا من الكثرة بحيث يمكن مقايستهم بمن يقرأ ويكتب في عصرنا الحاضر .. بل كان الغالب على الناس هو الأمية ، والجهل ..

أما الحالة المادية للناس فلم تكن تفي بمتطلبات حياتهم ، ولا تلبي حاجاتهم .. فضلا عن أن يتمكنوا من شراء ما يحتاجون إليه من كتب ، والتفرغ لقراءتها ، والإطلاع على ما فيها ، فضلا عن شراء الكتب لأجل التجمل بها ، واقتنائها لمجرد الإقتناء.

إلى غير ذلك من عوامل قد توافرت وتضافرت ، كان من شأنها أن تقلل من فرص الحصول على النصوص التي تفيد في جلاء الحقيقة ، فكيف إذا كانت هذه النصوص مضطهدة من أكثر من فريق .. ومنها السلطة ، وتحاول التخفي في حنايا وثنايا الكتب المهجورة ، أو البعيدة عن الأنظار ، مما تقبع في زوايا الإهمال ، بانتظار الوقت الذي تسوق أحدهم الصدفة إليها ، وينشط أو يجد الوقت للاطلاع عليها ..

وبعد ما تقدم ، نعود إلى إثارة السؤال من جديد ، فنقول :

إلى أي حد كان الشيخ المفيد قادرا على جمع تلك المؤلفات ، ثم تصيد تلك الفرائد الشوارد من الأخبار ، من نوادر تلك الكتب والأسفار؟! ..

ثالثا : إن مما لا شك فيه أن العلماء المتأخرين. قد استطاعوا أن يجمعوا


مؤلفات كثيرة من مختلف البلاد ، وأن يقفوا حتى على كتب الفئات والأشخاص التي بقيت محظورة طيلة مئات السنين ، إما تقية من أصحابها ، أو بقرارات وسياسات من السلطة الغاشمة .. أو لغير ذلك من أسباب.

وهناك كتب تمكنت في هذا العصر من رؤية النور ، فظهرت وكان مؤلفوها قد اطلعوا على مصادر لم تصل إلينا أيضا .. لأن الوسائل الحديثة قد يسرت وصولها إلينا ، بل إلى كل إنسان. كما أنها قد يسرت الحصول على كل فكرة فيه .. مهما كان نوعها ، أو حجمها ، دون أن يحتاج ذلك إلى بذل أي جهد يذكر ..

وهذا ما يجعل أهل هذا العصر أقدر على الوصول إلى المعلومات المتنوعة ، من مصادرها المختلفة ، وأن يستفيدوا منها ، ويوظفوها في تحقيقاتهم وبحوثهم على أكمل وجه.

ولذلك ، فإننا نتوقع ظهور كثير من الحقائق التي نثبتها والدراسات ، مع أنها كانت طيلة العصور الخالية قاصرة عن نيلها ، وعن الوصول إلى الكثير مما يفيد في استجلائها ، والوقوف على وجه الصواب فيها ..

رابعا : إننا بعد كل هذا الذي قدمناه ، نقول :

إن الشيخ المفيد «رحمه‌الله» حين يقول : إنه لا طريق لإثبات استشهاد من عدا علي والحسنين ، والكاظم والرضا «عليهم‌السلام» .. وأن الخبر بالنسبة إليه في قتل أو سم من عدا هؤلاء يجري مجرى الإرجاف ، وليس إلى تيقنه سبيل .. وإذا استبعدنا شبح احتمال التقية في قوله هذا ـ فإنما يقول هذا بعد أن راجع ما توفر لديه من مصادر سيرة .. وظهر له أنه غير قادر على تحصيل اليقين منها بذلك ..


لكن هذا لا يعني أن يكون الآخرون الذين لديهم مصادر أكثر ، ونصوص أوفر. ولا يكلفهم استخراجها إلا اليسير من الوقت والجهد ـ نعم لا يعني أن يكون هؤلاء غير قادرين على تحصيل الأدلة ، أو امتلاك الحجة على أنهم «عليهم‌السلام» قد تعرضوا للسم أو للقتل ..

وببيان آخر نقول :

إنه يمكن للشيخ المفيد «رحمه‌الله» أن يقول : لم أجد .. وليس له أن يقول : لا سبيل إلى اليقين ، إلا إذا كان يقصد بذلك يقينه هو .. لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ..

وكل ذلك يعطينا : أن قوله «رحمه‌الله» في هذا المجال ليس ملزما للباحثين بعده .. ولا هو مما يصح الاحتجاج به على النفي ..

ولا نبالغ إذا قلنا : إن لدينا ما يصلح للإستدلال به على نقض كلامه «رحمه‌الله» .. سواء في ذلك النصوص العامة التي وردت في سياق : ما منا إلا مقتول أو مسموم. أو نحو ذلك مما تقدم ، أو النصوص الخاصة التي صرحت بأن كل إمام بخصوصه قد قتل بالسم ، أو بغيره ..

فراجع : ما قدمناه لتقف على حقيقة الحال ..



الفصل الرابع :

جسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السماء



جسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يرفع إلى السماء :

ثم إن رفع الأجساد إلى السماء ، ليس بالأمر الذي يصح التشكيك فيه ، بعد تصريح القرآن ، وتواتر الحديث به .. فإن معراج نبينا الأعظم بجسده وروحه ، ثابت بلا ريب ، وقد أشارت إليه آيات القرآن الكريم (١) ..

والأحاديث الشريفة المتواترة ..

وهذا دليل على الوقوع فضلا عن الإمكان ..

كما أن الله تعالى قد أشار إلى رفع النبي إدريس «عليه‌السلام» ، إلى السماء فقال : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٢).

وقد صرحت الروايات : بأن الله تعالى قد قبض روحه هناك (٣) ..

__________________

(١) الآية ١ من سورة الإسراء ، والآيات ٥ ـ ١٨ سورة النجم.

(٢) الآية ٥٧ من سورة مريم.

(٣) راجع : تفسير البرهان ج ٣ ص ١٧ وراجع : جامع البيان للطبري ج ١٦ ص ١٢١ والجامع لأحكام القرآن ج ١١ ص ١١٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ١٣٣ وتفسير الرازي ج ٢١ ص ٢٣٣ والبحار ج ١١ ص ٢٧٠ والبداية والنهاية ج ١ ص ١١٢ وقصص الأنبياء لابن كثير ج ١ ص ٧٢ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٧١.


كما أن النبي عيسى «عليه‌السلام» ، قد رفعه الله إليه ، كما صرحت به الآيات الكريمة. قال تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) وقال : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (١) والروايات قد أكدت ذلك أيضا (٢) ..

غير أن الكلام إنما هو في أن أجساد الأنبياء والأوصياء ، هل تبقى بعد موتهم في قبورهم؟!

أم أنها ترفع إلى السماء أيضا؟! ..

وعلى الثاني ، هل تبقى في السماء؟! أم أنها تعود بعد مدة إلى قبورهم في الأرض؟!

هذه هي الأسئلة المطروحة ..

وللإجابة عليها نقول :

قد نجد من يقول بأنها تبقى في القبور ، وإن كانت لا تفنى لأن الله سبحانه ، قد حرم لحومهم «عليهم‌السلام» على الأرض (٣) ..

__________________

(١) الآية ٥٥ من سورة آل عمران ، والآية ١٥٨ سورة النساء.

(٢) راجع : تفسير البرهان ج ١ ص ٢٨٥ والخصال ص ٥٢٩ وعيون أخبار الرضا «عليه‌السلام» ج ٢ ص ١٩٣ والبحار ج ١٤ ص ٣٣٨ وج ٢٥ ص ١١٨ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» للعطاردي ج ١ ص ١٠٣ وتفسير الميزان ج ٣ ص ٢١٨ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٤٧٤.

(٣) قد دلت الروايات على ذلك ، فراجع : بصائر الدرجات ص ٤٦٣ و ٤٦٤ والبحار ج ٢٢ ص ٥٥٠ وج ٢٧ ص ٢٩٩ وراجع : نيل الأوطار ج ٣ ص ٣٠٥ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٣٤٥ و ٥٢٤ وسنن أبي داود ج ١ ص ٢٣٦ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٢٩٦ وج ١١ ص ٦٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ١٣٣ وج ١٢ ص ٣٥٦


قال بعضهم : «وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وقد حرم الله تعالى أجسادهم عليها» (١).

ولكن قد ذكر الشيخ المفيد ، والكراجكي ، والفيض الكاشاني ، وغيرهم : أن فقهاءنا وعلماءنا متفقون على أن أجساد الأنبياء والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم ، ترفع بعد دفنها إلى السماء .. وذلك استنادا إلى روايات رأوا أنها دالة على ذلك ..

وأما أحاديث تحريم لحومهم على الأرض ، فلا تنافي هذه الروايات ، لأنها ساكتة عن أمر الرفع وعدمه ، فيمكن أن يكون عدم أكل الأرض للحومهم «عليهم‌السلام» ، بسبب عدم بقائهم فيها ، ويمكن أن يكون ذلك مع بقائهم ، وعدم فنائهم ..

وقد حاولنا تتبع هذه الروايات وجمعها ، فوجدنا منها طائفة صرح

__________________

و ٣٦٨ و ٤٤٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٩ والجامع لأحكام القرآن ج ١٧ ص ٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٦ و ٢٩٦ وميزان الإعتدال للذهبي ج ٢ ص ٩٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٥٢٢ وكشف الخفاء ج ١ ص ١٦٧ وفيض القدير ج ٢ ص ١١١ والجامع الصغير ج ١ ص ٣٨٠ وعون المعبود ج ٣ ص ٢٦١ وفضل الصلاة على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للجهضمي ص ١٦.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٥٥ عن جمال الدين الأردبيلي الشافعي في كتابه : الأنوار في أعمال الأبرار ، وعن التذكرة للقرطبي ، وعن عبد القاهر بن طاهر البغدادي في فتاويه .. وراجع : منهج الرشاد لمن أراد السداد للشيخ جعفر كاشف الغطاء ص ٥٦٥ عن القرطبي ، وتنوير الحلك للسيوطي ص ١٥.


العلماء بالاستناد إليها ، بالإضافة إلى بضع روايات أخرى يمكن أن يستدل بها على ذلك أيضا ..

ثم وجدنا طائفة أخرى من الروايات تدل على خلاف ذلك ، وهي كثيرة أيضا ..

ونحن نذكر هنا ما عثرنا عليه من هذه الطائفة وتلك ، ثم نعقب عليها بما يقتضيه المقام .. فنقول :

الطائفة الأولى :

إن الروايات التي تدل على أن أجساد الأنبياء تكون في قبورهم ، وهي كثيرة ، كاد بعضهم أن يصرح بتواترها ، ونذكر منها ما يلي :

١ ـ روي : أن الناس قحطوا في سر من رأى ، فأمر الخليفة بصلاة الإستسقاء ، فخرجوا ثلاثة أيام متتالية يستسقون ، فما سقوا ..

فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ، ومعه النصارى والرهبان ، وكان فيهم راهب ، فلما مد يده إلى السماء ، هطلت السماء بالمطر ، وفعل مثل ذلك في اليوم الثاني ..

فشك أكثر الناس ، وتعجبوا ، ومالوا إلى النصرانية ، فبعث الخليفة إلى الإمام الحسن العسكري ـ وكان محبوسا ـ فاستخرجه من حبسه ، وطلب منه حسم الأمر ..

فخرج الجاثليق في اليوم الثالث ، والرهبان معه ، وخرج الإمام «عليه‌السلام» في نفر من أصحابه ..

«فلما بصر بالراهب ، وقد مد يده ، أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده


اليمنى ، ويأخذ ما بين أصبعيه.

ففعل ، وأخذ من بين سبابته والوسطى عظما أسود. فأخذه الحسن «عليه‌السلام» بيده ، ثم قال له : استسق الآن ، فاستسقى ـ وكانت السماء متغيمة ـ فانقشعت ، وطلعت الشمس بيضاء ..

فقال الخليفة : ما هذا العظم يا أبا محمد؟! ..

فقال «عليه‌السلام» : هذا رجل مر بقبر نبي من أنبياء الله ، فوقع بيده هذا العظم ، وما كشف عن عظم نبي إلا هطلت السماء بالمطر ..» (١).

٢ ـ وروي أن الإمام الصادق «عليه‌السلام» ، قال للمفضل بن عمر : «إذا أردت زيارة أمير المؤمنين ، فاعلم أنك زائر عظام آدم ، وبدن نوح ، وجسم علي بن أبي طالب ..».

ثم يذكر أن الله تعالى أوحى إلى نوح «عليه‌السلام» ، أن استخرج من الماء تابوتا فيه عظام آدم ، وأن نوحا قد فعل ، وأن عظام آدم كانت مع نوح

__________________

(١) الخرائج والجرائح ج ١ ص ٤٤١ و ٤٤٢ وأشار في هامشه إلى المصادر التالية : كشف الغمة ج ٢ ص ٤٢٩ وإثبات الهداة ج ٦ ص ٣١٩ والبحار ج ٥٠ ص ٢٧٠ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٥٠٢ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٥٢٦ ومدينة المعاجز (ط حجرية) ص ٥٧٤ والصراط المستقيم ج ٢ ص ٢٠٧ و ٢٠٨ والفصول المهمة ص ٢٦٩ ونور الأبصار ص ١٨٤ والصواعق المحرقة ص ١٢٤ ومفتاح النجا ص ١٨٩ ورشفة الصادي ص ١٩٦ وجواهر العقدين ص ٣٩٦. وراجع : إحقاق الحق ج ١٢ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٦ عن بعض المصادر المتقدمة .. وراجع : الثاقب في المناقب ص ٥٧٥ وينابيع المودة ج ٣ ص ١٣١ و ١٩٠ و ٣٠٦ ووفيات الأئمة ص ٤٠٥.


في السفينة ، فلما خرج منها صير قبره تحت المنارة التي بمسجد الكوفة ..

إلى أن قال : «.. فإذا أردت جانب النجف ، فزر عظام آدم ، وبدن نوح ، وجسم علي بن أبي طالب» (١) ..

٣ ـ الحديث الذي يدل على نقل عظام النبي يوسف «عليه‌السلام» ، حيث روي أن الله سبحانه أوحى إلى النبي موسى بن عمران «عليه‌السلام» ، أن أخرج عظام يوسف بن يعقوب من مصر ، فأخرجه في صندوق من مرمر إلى الشام .. (٢).

__________________

(١) المزار للمفيد ص ٣٢ و ٣٣ وكامل الزيارات ص ٣٨ و ٩٠ وفرحة الغري ص ٧٣ و ٧٤ و ١٠١ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ٢٣ ووسائل الشيعة ج ١٤ ص ٣٨٥ (ط مؤسسة آل البيت) ، والغارات ج ٢ ص ٨٥٤ والأنوار العلوية ص ٤٣٠ ، والجواهر السنية ص ٤٦ والبحار ج ١١ ص ٢٦٨ و ٣٣٣ وج ١٣ ص ١٢٧ و ١٢٩ و ١٣٠ وج ٢٢ ص ٢٩٣ وج ٥٥ ص ١٧١ وج ٥٧ ص ٢٠٨ وج ٧٩ ص ٦٦ و ٦٧ وج ٩٧ ص ١٣١ و ٢٥٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ١٠٢ ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٦٣ و ٦٤ ومستند الشيعة ج ٣ ص ٢٨٦ جواهر الكلام ج ٤ ص ٣٤٤ ، ومستدرك وسائل الشيعة ج ٢ ص ٣١٠ وتفسير العياشي ج ٢ ص ١٤٥ و ١٤٦ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٩٣.

(٢) الخصال ص ٢٠٥ وعلل الشرائع للصدوق ج ١ ص ٢٩٦ وقصص الأنبياء للراوندي ص ١٣٨ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٢٩١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٦٢ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٣٤ والبحار ج ١٣ ص ١٢٧ وج ٥٥ ص ١٧٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ١٠٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٣٩٤ والذكرى ص ٦٥ وأمل الآمل ج ١ ص ١٢ وجامع المقاصد ج ١ ص ٤٠١ وروض الجنان ص ٢٢٠ ومجمع الفائدة والبرهان ج ٣ ص ٥٠٤ والمزار ص ٢٢١ ـ


٤ ـ قد ذكروا : أن إبراهيم الديزج قد نبش قبر الإمام الحسين «عليه‌السلام» ، بأمر من المتوكل ، فوجده طريا ، على بارية جديدة .. (١).

٥ ـ إنهم يقولون : إنهم حفروا في الرصافة بئرا ، فوجدوا فيها شعيب بن صالح (٢).

ويروى أن أبا هارون العبدي «المكفوف» دخل على الإمام الصادق «عليه‌السلام» وأنشده قوله في رثاء الإمام الحسين «عليه‌السلام» :

أمرر على جدث الحسين

وقل لأعظمه الزكية

يا أعظما لا زلت من

وطفاء ساكبة روية (٣)

ولم يعترض عليه الإمام «عليه‌السلام» في ذلك ، ولم يقل له : إن جسد الحسين ليس موجودا في ذلك الجدث ، بل هو في السماء.

مع ملاحظة : أن الحديث عن الأعظم الزكية من قبل الشاعر يراد به

__________________

ومصباح الفقيه (ط. ق) ج ١ ق ٢ ص ٤٣٠ والتفسير الصافي ج ٣ ص ٥١ وجواهر الكلام ج ٤ ص ٣٤٤ وراجع : جامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٣٩٤.

(١) الأمالي للطوسي ص ٣٢٦ والبحار ج ٤٥ ص ٣٩٤ والعوالم للشيخ عبد الله البحراني ص ٧٢٤ ، ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٣٨٦ وراجع : مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهانى ص ٣٩٦.

(٢) البحار ج ٩٧ ص ١٣١.

(٣) البحار ج ٤٤ ص ٢٨٧ و ٢٨٨ ، والعوالم ص ٥٤١ ، والغدير ج ٢ ص ٢٣٥ و ٢٣٦ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري ص ٤٨ ومثير الأحزان لابن نما الحلي ص ٦٤ والمجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة للسيد شرف الدين ص ١٤٦.


الحديث عن الجسد كله ، ولا يراد به الإشارة إلى فنائه.

فذلك كله يدل على أن أجساد الأنبياء والأوصياء موجودة في القبور ، ولم ترفع إلى السماء.

وقفات مع الروايات :

ولا بد لنا هنا من إلقاء نظرة على الروايات المذكورة ، لكي نرى إن كانت تكفي للدلالة على المدّعى أم لا ، فنقول :

ألف : حديث الإستسقاء بعظم نبي :

إن الحديث الذي ذكر : أن نصرانيا وجد عظم نبي فكان يكشفه للسماء ، فيهطل المطر ، لا يدل على أن الأنبياء لا بد أن يكونوا في قبورهم بالفعل ..

وذلك لعدة أسباب :

أولا : لقد دلت الروايات على أن الله تعالى قد حرم لحوم الأنبياء على الأرض. في حين أن هذه الروايات تقول : إن أجسادهم فنيت ، وبقيت عظام منها ..

وقد أثبتت الوقائع : أن أجساد بعض المؤمنين والشهداء ، ومنهم الحر بن يزيد الرياحي قد بقيت غضة طرية رغم توالي القرون والأحقاب.

وورد أن من يواظب على غسل الجمعة ، لا يفنى جسده ، كرامة من الله تعالى له.

إلا أن يقال : إن الحديث الوارد عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يقول :


«إن الله حرم لحومنا على الأرض ، الخ ..» (١) ، وليس بالضرورة أن يكون الضمير في هذا الخبر راجعا للأنبياء ، فلعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يتحدث عن نفسه ، وعن أهل بيته الطاهرين ..

ثانيا : إنه ليس بالضرورة أن يكون العظم الذي أخذه ذلك الراهب من الأجزاء المتصلة بالجسد ، فقد يكون عظما من قبيل الضرس ، أو السن ، أو الظفر المدفون مع الجسد ، حيث يستحب دفن هذه الأجزاء ، التي تؤخذ من الجسد حال الحياة ..

وربما يشير إلى ذلك ما أظهرته الرواية المشار إليها ، من صغر حجم ذلك العظم ، حتى إن الراهب قد وضعه بين إصبعيه : السبابة والوسطى ..

وإذا كان الأمر كذلك ، فإن الحصول على هذا العظم لا يتناقض مع النصوص القائلة : إن أجساد الأنبياء لا تفنى ، فلعل الجسد باق ، وقد بقي معه ما دفن من أجزاء منفصلة عنه .. كالظفر ، والسن ، وما إلى ذلك ..

بل إن الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة قد دلت على أن المجرمين والطغاة كانوا يقتلون النبيين بغير حق ، وكانوا يقطعون أجسادهم بالمناشير .. فلعل هذا الجزء من ذلك الجسد الطاهر قد قطع ثم دفن. وهو لم يفن بعد ..

__________________

(١) راجع : بصائر الدرجات ص ٤٦٣ و ٤٦٤ ومن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٩١ والبحار ج ٢٢ ص ٥٥٠ وج ٢٧ ص ٢٩٩ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٣٩٤ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ١٢٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٣ ص ٣٠٢ والذكرى للشهيد الأول ج ٢ ص ٩٠.


ب : حديث زيارة عظام آدم ويوسف :

وأما بالنسبة لحديث المفضل بن عمر ، حول زيارة عظام النبي آدم ، وبدن النبي نوح ، وجسم الإمام علي «عليه‌السلام» ، فنقول :

أولا : إن الحديث لا يصرح بموضع وجود تلك العظام ، وذلك البدن ، أو الجسد ، فلعله يزورها وهي في السماء ، لكن تكون زيارتها من ذلك الموضع الذي كانت قد دفنت فيه مطلوبة ، لأنها توجب وصول السلام والزيارة إلى المزور عن قرب (١) ، لخصوصية في موضع الدفن ..

ثانيا : قد يكون المراد بقوله : زر عظام آدم ، وبدن نوح ، وجسم علي ، هو التصريح بذلك في الكلام الذي يزورهم به ، فيقول مثلا : السلام على بدن نوح ، أو عظام آدم .. ونحو ذلك ..

وأما السبب في طلب هذا التصريح ، فيبقى سرا من الأسرار ، ليس لنا سبيل إلى معرفته ..

ثالثا : إننا حول نقل عظام النبي آدم والنبي يوسف «عليهما‌السلامه» ، نقول :

إنه لا بد من ثبوت ذلك بسند قابل للاحتجاج به ..

رابعا : لو سلمنا صحة الخبر بذلك ، فإننا نقول : قد صرحت الرواية بوجود عظام النبي آدم «عليه‌السلام» في تابوت تحت الماء ، وبأن عظام

__________________

(١) قد دلت على ذلك بعض الأحاديث ، فراجع الحديث الذي يصرح فيه برفع العظم ، واللحم ، والروح إلى السماء ، وهو الآتي في ضمن القسم الثاني من الأحاديث التي ذكرت رفع أجساد الأنبياء والأوصياء إلى السماء ..


النبي يوسف «عليه‌السلام» أيضا قد استخرجت في صندوق من مرمر ـ وذلك يشير إلى أن تلك الجثة لم تكن قد دفنت بعد ، وأنها كانت مودعة في ذلك الموضع .. ربما ليتولى دفنها نبي من أولي العزم ، تشريفا للنبي آدم ، وللنبي يوسف «عليهما‌السلام» ، وتكريما لهما ..

خامسا : إن نقل الميت من مكان إلى مكان ، يحتاج إلى مبرر وسبب ، ولا نجد سببا معقولا يسمح بنبش قبر النبي يوسف «عليه‌السلام» ، إلا إذا كان هو الآخر ، قد وضع على سبيل الإيداع ـ لا الدفن ـ إلى أن تحين الفرصة لنقله إلى المكان الذي أعده الله ، ورضيه له ، على يد نبي من أنبياء الله تعالى ..

بل لقد ذكر البحراني رحمه‌الله في الدرة النجفية : أن المستفاد من جملة الأخبار : أن دفن الميت إنما يقع في موضع تربته التي خلق منها .. وقد جاء في صحيحة محمد بن مسلم ، عن أحدهما «عليهما‌السلام» : قال : من خلق من تربة دفن فيها ..

وعن الصادق «عليه‌السلام» : إن النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله ملكا ، فأخذ من التربة التي يدفن فيها ، فماثها في النطفة. فلا يزال قلبه يحن إليها حتى يدفن فيها ..

فلعل نقل عظام النبي آدم ويوسف ، قد جاء على هذا السبيل ، أي أنه قد أودع أولا في غير المكان المعد له .. ثم نقل ليدفن في تربته الحقيقية ..

تذكير :

قد يظن البعض : أن التعبير بكلمة عظام النبي آدم ، يشير إلى فناء جسم هذا النبي الكريم «عليه‌السلام» ..


ونقول :

إنه بعد أن دلت الروايات على أن لحومهم محرمة على الأرض ، فإن ذلك يصلح قرينة على أنه «عليه‌السلام» ، قد أراد بالعظام جثة النبي آدم «عليه‌السلام» ..

لكنه عبر بهذه الكلمة ، لأنه بالعظام يكون قوام البدن ، فحملها ونقلها ، حمل ونقل للبدن كله ..

كما أن كون تلك العظام في التابوت المغمور بالمياه ، يشير إلى أن الأرض لم يكن لها مع بدنه «عليه‌السلام» ، صلة أو رابطة ، ولا طريق لها إليه لتأكل منه أو تترك ..

وأما ما ورد في الزيارة ، فالظاهر هو : أن المراد تخصيص العظام للنبي آدم بالزيارة ، والبدن للنبي نوح ، والجسم للإمام علي صلوات الله وسلامه عليهم ، لحكمة يعلمها الله تعالى ..

وربما يكون على طريقة التنويع في التعبير ، لغرض لا نعلمه ..

ج : إبراهيم الديزج وقبر الإمام الحسين عليه‌السلام :

أما فيما يرتبط بما يزعمونه من أن الديزج قد نبش قبر الإمام الحسين «عليه‌السلام» ، بأمر المتوكل ، فلا يصح الاحتجاج به أيضا ، وذلك لما يلي :

أولا : إن ذلك إنما يستند إلى إخبار الديزج نفسه ، وليس الديزج بمأمون ، بعد أن كان هو المتولي لحرث قبر الإمام الحسين ، وإجراء الماء عليه.

وقد أقر بأنه حتى بعد أن زعم أنه رأى جسد الإمام «عليه‌السلام» على بارية جديدة ، لم يرتدع عن إجراء الماء عليه ، وانتهاك حرمته بأمور أخرى.


ولعله بأقواله هذه يريد أن يخفف من انتقاد الناس ، ومقتهم له ، وأن يلطف الأمر ، وأن يتخلص من بعض ما لحق به من سوء السمعة بسبب فعله ذاك ..

ثانيا : لو سلمنا صحة ما قاله الديزج ، فمن الذي قال : إن الذي شاهده هو خصوص جسد الإمام الحسين «عليه‌السلام» ، وما الذي أدراه به ، فلعله جسد بعض الشهداء الآخرين أو غيرهم ممن دفن في تلك البقاع المباركة ..

ثالثا : لو سلمنا صدق الديزج فيما أخبر به ، فنقول :

إن ذلك لا يمنع من أن يكون الجسد قد تمثل له ، أو أنه عاد إلى ذلك المكان الطاهر في تلك اللحظات ، لحكمة بالغة أرادها الله سبحانه ..

د : شعيب بن صالح :

وأما فيما يرتبط بجثة شعيب بن صالح ، التي وجدت في بئر ، فإننا نقول :

أولا : من الذي قال : إن الجثة التي وجدوها هي جثة شعيب بن صالح ، فلعلها جثة رجل آخر مدفون هناك ..

ثانيا : من الذي حدد لهم مكان دفن شعيب بن صالح؟! .. وما مدى صدق من أخبرهم بمكان دفنه هذا؟! .. ومن أين استقى معلوماته حول هذا الموضوع؟! ..

الطائفة الثانية :

أما الروايات التي تشير إلى أن أجساد الأوصياء تكون في السماء مع أجساد الأنبياء ، وأن أجساد الأنبياء ترفع ، فنذكر منها :

١ ـ ما روي عن حذيفة بن اليمان ، أنه قال : قال رسول الله «صلى الله


عليه وآله» : «الأوصياء مع الأنبياء حيث كانوا. لو أن نبيا مات بالمغرب ، ومات وصيه بالمشرق ، لأمر الله تعالى الأرض أن تنقله إليه» (١).

٢ ـ روي : أن مما أوصى به الإمام علي ولده الإمام الحسن «عليهما‌السلام» ، قوله : «فإذا أردت الخروج من قبري ، فافتقدني ، فإنك لا تجدني ، وإني لا حق بجدك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

واعلم يا بني ، ما من نبي وإن كان مدفونا بالمشرق ، ويموت وصيه بالمغرب ، إلا ويجمع الله عزوجل بين روحيهما ، وجسديهما ، ثم يفرقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره ، إلى موضعه الذي حط فيه ، الخ ..» (٢).

٣ ـ عن سعد الإسكاف ، عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» ، قال : لما أصيب أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، قال للحسن والحسين «عليهما‌السلام» : غسلاني ، وكفناني ، وحنطاني ، واحملاني على سريري ، واحملا مؤخره تكفيا مقدمه ، فإنكما ستنتهيان إلى قبر محفور ، ولحد ملحود ، ولبن موضوع ، فالحداني ، واشرجا اللبن علي ، وارفعا لبنة مما يلي رأسي ، فانظرا ما تسمعان ..

فأخذا اللبنة من عند رأسه ، بعد ما أشرجا عليه اللبن ، فإذا ليس في القبر شيء ، وإذا هاتف يهتف : أمير المؤمنين كان عبدا صالحا ، فألحقه الله بنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكذلك يفعل بالأوصياء بعد الأنبياء ، حتى لو

__________________

(١) المزار للمفيد ص ١٩٣ و (دار المفيد) ص ٢٢٤ وعن كنز الفوائد للكراجكي ص ٢٥٨ حديث ١٦ والبحار ج ٩٧ ص ١٣١ وج ١٨ ص ٢٩٨.

(٢) البحار ج ٤٢ ص ٢٩٢ والأنوار العلوية ص ٣٨٦.


أن نبيا مات في المشرق ، ومات وصيه في المغرب ، لألحق الله الوصي بالنبي (١).

٤ ـ وفي نص آخر لوصية الإمام علي لولده «عليهما‌السلام» : «ثم ضع علي سبع لبنات كبار ، ثم انظر ، فإنك لن تراني في لحدي ..» (٢).

٥ ـ وفي حديث آخر عن أم كلثوم بنت علي ، تروي فيه حديث دفن أبيها الإمام علي «عليه‌السلام» :

«قالت أم كلثوم : فانشق القبر ، فلا أدري أغار سيدي في الأرض ، أم أسري به إلى السماء ..» (٣).

٦ ـ وروي عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أنه قال : أنا أكرم على الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث .. (٤).

٧ ـ عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : ما من نبي ولا وصي يبقى في

__________________

(١) المزار للمفيد ص ١٩٢ والبحار ج ٤٢ ص ٢١٤ و ٢٣٦ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٠٦ وإثبات الهداة ج ٥ ص ٢ وفرحة الغري (منشورات الرضي ـ قم ـ إيران) ص ٣٠ و (نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية) ص ٦٠ وعن المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٤٨٢ و ٤٨٣.

(٢) فرحة الغري (منشورات الرضي ـ قم ـ إيران) ص ٣٤ و (نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية) ص ٦٢ والبحار ج ٤٢ ص ٢١٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٠٣ والغارات للثقفي ج ٢ ص ٨٤٦ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣٣٢.

(٣) فرحة الغري ص ٣٥ و (نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية) ص ٦٤ والبحار ج ٤٢ ص ٢١٦ ح ١٧ وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٣٤٨.

(٤) البحار ج ١٨ ص ٢٩٨ وج ٢٦ ص ٣٠٣ وج ٩٧ ص ١٣١ وكنز الفوائد للكراجكي ص ٢٥٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٩ ص ٥١٧.


الأرض بعد موته أكثر من ثلاثة أيام حتى ترفع روحه وعظمه ، ولحمه إلى السماء. وإنما تؤتى مواضع آثارهم ، ويبلغهم السلام من بعيد ، ويسمعونه في مواضع آثارهم من قريب (١).

٨ ـ عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : لا تمكث جثة نبي ولا وصي في الأرض ، أكثر من أربعين يوما .. (٢).

٩ ـ عن عبد الله بن بكير ، بعد ما سأل الإمام الصادق «عليه‌السلام» عن مسائل عديدة ، قلت : جعلت فداك ، أخبرني عن الحسين «عليه‌السلام» ، لو نبش كانوا يجدون في قبره شيئا؟! ..

قال : يا ابن بكير ، ما أعظم مسائلك ، إن الحسين مع أبيه ، وأمه ، وأخيه الحسن ، في منزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يحيون كما يحيى ، ويرزقون كما يرزق ، فلو نبش في أيامه ، لوجدوا. وأما اليوم فهو حي عند ربه يرزق ،

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٦٧ والمزار للمفيد ص ١٨٩ و (ط دار المفيد) ص ٢٢١ وبصائر الدرجات ص ٤٦٥ وكامل الزيارات ص ٣٢٩ و ٣٣٠ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٣٤٥ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٠٦ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ١١٩ ومنتقى الجمان ج ١ ص ٣١٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٢ ص ٢٥٩ والبحار ج ١١ ص ٦٧ وج ٢٢ ص ٥٥٠ وج ٢٧ ص ٢٩٩ و ٣٠٠ وج ٩٧ ص ١٢٩ و ١٣٠ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١٠ ص ٢٥٤.

(٢) البحار ج ٩٧ ص ١٣٠ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٠٦ والمزار ص ١٨٩ و (ط دار المفيد) ص ٢٢٠ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ١١٩ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ١٢١.


وإنه لينظر إلى .. الخ .. (١).

وقفات مع الروايات :

إننا بغض النظر عن اعتبار أسانيد هذه الروايات وعدمه ، نقول : إن لنا مع هذه الروايات عدة وقفات ، يمكن أن نعرضها ضمن العناوين التالية :

إلحاق الوصي بالنبي بعد الموت :

هناك عدة روايات تحدثت عن لحوق الوصي بالنبي بعد الموت ، ويرد عليها :

أولا : إن رواية حذيفة قد ذكرت أن الأرض هي التي تنقل جسد الوصي إلى النبي ، وهذا يعني : أن اللقاء بينهما سوف يكون في الأرض ، لا في السماء .. إذ لو كان في السماء ، فلا بد من أن يكون الناقل لجسده هو ملك أو غيره ، وليس الأرض نفسها ..

ثانيا : لو سلمنا أنها لا تدل على ذلك ، فإننا نقول : إن الرواية لم تبين موضع هذا اللقاء بين النبي والوصي .. فلا بد من دليل آخر يثبت : أنه سيكون في السماء ..

__________________

(١) كامل الزيارات ص ٤٣٨ و ٢٠١ والبحار ج ٢٧ ص ٣٠٠ وج ٤٤ ص ٢٩٢ ومقاتل الطالبيين ص ٤٢٨ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١٠ ص ٣٩٧ ومستدرك الوسائل ج ١٠ ص ٢٣٠ ومدينة المعاجز ج ٤ ص ٢١٧ والعوالم (المجلد الخاص بالإمام الحسين) ص ٥٣٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٢ ص ٢٦١ و ٥٥٥.


وكذلك الحال بالنسبة للرواية الثانية ، وهي وصية الإمام علي «عليه‌السلام» ، لولده الإمام الحسن «عليه‌السلام» ، فإنها صريحة في أن النبي والإمام يرجعان إلى موضع قبريهما ، حيث قالت : ما من نبي ، وإن كان مدفونا بالمشرق ، ويموت وصيه بالمغرب ، إلا ويجمع الله عزوجل بين روحيهما ، وجسديهما ، ثم يفرقان ، فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره ، إلى موضعه الذي حط فيه ..

ثالثا : بالنسبة لرواية سعد الإسكاف حول موت أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وفقدانه من قبره بعد وضعه فيه ، بعد ما أشرجا عليه اللبن ، وأن الله تعالى ألحقه بنبيه ، نقول : إنها لم تبين لنا : إلى أين لحق به ، بل يظهر من التعبير بأنه يلحقه من المغرب إلى المشرق ، أن ذلك في الأرض ، لا في السماء ..

وبذلك يتضح : أن الرواية التي تقول : إنه «عليه‌السلام» ، قال للإمام : ثم انظر ، فإنك لن تراني في لحدي ..

وكذلك رواية أم كلثوم ، لا تدلان على أنه «عليه‌السلام» قد رفع إلى السماء أيضا ، بل هما ساكتتان عن ذلك ..

رواية الثلاثة أيام :

أما ما روي من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قال : أنا أكرم على الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث ..

وحديث : لا تمكث جثة نبي ، ولا وصي في الأرض ، أكثر من أربعين يوما .. فقد حاول البعض أن يسجل احتمال أن يكون المراد بقاءها على


الأرض قبل أن تدفن .. وقد يؤيد هذا الاحتمال : بأن الرواية لم تصرح بإصعاد الجثمان إلى السماء ..

كما وقد ورد في الروايات : أن بدن الإمام الكاظم ، وكذلك الإمام الهادي «عليهما‌السلام» ، قد بقيا ثلاثة أيام بلا دفن ..

بل لقد روي : أن بدن الإمام الهادي «عليه‌السلام» قد بقي عشرة أيام بلا دفن أيضا ..

ويروي أهل السنة أيضا مثل ذلك بالنسبة للرسول أيضا ، وأن كنا نعتقد أنه دفن بعد ساعات من استشهاده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما تدل عليه الشواهد القوية والحاسمة ..

غير أننا نقول :

إن جميع هذه المؤيدات لا تفيد ، إذ إن ظاهر الرواية يأبى ذلك ، فقد قالت : لا يدعني في الأرض ، وكلمة «في» تشير إلى الظرفية ، ولو كان المراد هو ما ذكروه لكان الأنسب أن يقول : على الأرض ..

إلا أن يقال : إن المقصود هو أن يتركه في الأرض مقابل السماء فتكون «في» بمعنى «على» كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (١).

رفع الروح ، واللحم ، والعظم :

وأما الرواية التي صرحت برفع روح النبي والوصي ، وعظمه ولحمه

__________________

(١) الآية ٨٤ من سورة الزخرف.


إلى السماء ، فلا بد من رد علمها إلى أهلها ، لأنها قالت : إن حال الروح حال العظم ، واللحم في ذلك .. مع أن الروح تصعد إلى بارئها ، بعد أن يقبضها ملك الموت ، فما معنى بقائها في الأرض مدة ثلاثة أيام؟! ..

إلا أن يقال : إن الروح بعد خروجها من الجسد تبقى قريبة منه طيلة هذه المدة ، وإن لم تكن حالة فيه ..

جسد الإمام الحسين عليه‌السلام :

وحول ما نقله ابن بكير ، عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» ، حول جسد الإمام الحسين «عليه‌السلام» ، نقول :

ألف : قد يقال : إن الجهر بالقول بأن الإمام «عليه‌السلام» قد رفع إلى السماء ، ربما يؤدي إلى إثارة جو من التشكيك والإتهام ، وله سلبيات لا بد من تحاشيها ، والتزام جانب الحكمة ، في الإجابة على الأسئلة المرتبطة به ..

ب : إن ابن بكير لم يسأل الإمام عن رفع جسد الإمام الحسين «عليه‌السلام» إلى السماء ، بل سأله عن أن جسده هل فني وبلي ، وصار ترابا ، كسائر الأبدان؟! أم أنه باق على حاله؟! ..

فأجابه الإمام على حسب ما يليق بحاله ، أو بحسب الظروف المحيطة به ، فأكد له : أنه لو نبش القبر في الأيام الأولى لوجد الجسد على حاله .. وأما بعد مضي عشرات السنين ، فهو حي عند ربه يرزق ..

ج : إن قوله «عليه‌السلام» : إنه حي عند ربه يرزق ، لا يثبت رفعه إلى السماء ، ولا ينفيه ، بل هو يتلاءم مع حالتي النفي والإثبات على حد سواء.

د : إنه لا يثبت أيضا فناء الجسد ولا ينفيه ، بل هو إجابة فيها مراعاة


لحال السائل ، الذي سوف يتفاجأ حتى لمجرد سماعه لخبر عدم فناء الجسد الطاهر ، فكيف لو أخبره بما هو أبعد من ذلك ، مثل رفعه إلى السماء مطلقا ، أو لفترة محدودة ..

ه : إن الأخبار قد دلت على أنه ليس للأرض في أبدانهم حقا ، وأن الله قد حرم لحومهم عليها .. ولكن الإمام «عليه‌السلام» لم يرد أن يجيب ابن بكير حتى بذلك ، بل ترك الأمر بدون بيان .. ولعل هذا يؤيد أن لا تكون أجسادهم «عليهم‌السلام» موجودة في قبورهم ..

النتيجة :

وبعد ما تقدم نقول :

قد ظهر أن أكثر الروايات المتقدمة لا يمكن الاستدلال بها على أن أجساد الأنبياء ترفع إلى السماء ، سوى رواية : أنا أكرم على الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث .. ورواية : أكثر من أربعين يوما ..

مع احتمال أن يكون المراد بكلمة «في» في قوله : «في الأرض» ، ليس هو الظرفية ، بل الكينونة عليها بعد الموت قبل الدفن ، على حد قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (١) ..

كما أنه يمكن أن يستدل برواية رفع الروح ، واللحم ، والعظم ، إذا قبلنا بالتوجيه الذي يقول : إن الروح تبقى قريبة من الجسد إلى أن ترفع معه إلى السماء ..

__________________

(١) الآية ٨٤ من سورة الزخرف.


الثلاثة أيام والأربعون :

ولكن يبقى أنه لا بد من الجمع بين رواية الثلاثة أيام ، ورواية الأربعين ..

ولم نجد في النصوص ما يصلح قرينة للجمع بين هذين النصين ، ولو بأن نحملهما على اختلاف درجات ومقامات الأنبياء ، سوى قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الرواية نفسها : أنا أكرم على الله من أن يدعني .. الخ ..

فإنه قد اعتبر ذلك من الكرامة الإلهية له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وليس في الأنبياء من يدانيه في ذلك ، فيكون إبقاؤه لمدة ثلاثة أيام فقط خاصا به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتمييزا له عن غيره من الأنبياء «عليهم‌السلام» ..

أما سائر الأنبياء ، حتى أولو العزم ، فإن الله أكرمهم برفعهم صلوات الله وسلامه عليهم وعلى نبينا وآله ، غير أنهم إنما يرفعون بعد مضي أيام قد تصل إلى الأربعين ..

وإنما قلنا ذلك لأن لحن الكلام ، يقتضي أن يكون رقم «الأربعين يوما» قد جاء لتحديد الغاية القصوى .. فلا مانع من أن يرفع بعضهم بعد موته بشهر ، أو أقل ، أو أكثر ، بحسب ما له من مقام عند الله تعالى ..


الباب الرابع عشر

السقيفة .. عرض وتحليل

الفصل الأول : ممهدات

الفصل الثاني : ما جرى في السقيفة

الفصل الثالث : الأنصار .. ضحية حنكة أبي بكر

الفصل الرابع : السقيفة .. انقلاب مسلح!!

الفصل الأخير : استدراكات لا بد منها

الخاتمة



الفصل الأول :

ممهدات



قريش والخلافة :

والحقيقة هي : أن قريشا كانت تفهم الخلافة بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أنها مجرد حكم وسلطان ، يجلب لها المكاسب ، ويعزز نفوذها ، ويؤكد عظمتها وهيبتها ، ويعيد إليها احترامها في نفوس الناس ، ليصبح الخضوع والإنقياد لها على أساس من التدين ، لا لمجرد هيبة السلطان ، وأبهة الملك ..

أما النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكذلك علي «عليه‌السلام» ، فيرون أن المقام الذي أعطاه الله تعالى لعلي «عليه‌السلام» هو مقام الإمامة بمفهومها الإيماني العميق والدقيق. وما الخلافة إلا شأن من شؤونها ، مع إدراك عميق لمدى تأثير مبادرة قريش إلى إغتصاب الخلافة في تضييع قدر كبير من جهد الإمامة في العديد من جهات إمامته «عليه‌السلام» في الواقع العملي ..

أجواء دعت إلى السقيفة :

١ ـ لقد رأى الأنصار بأم أعينهم كيف تعامل المهاجرون مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيما يرتبط بولاية علي «عليه‌السلام» بعد وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا سيما محاولتهم قتله حين التنفير به في العقبة.

ثم ما جرى في حجة الوداع في عرفات ومنى.


ثم العصيان شبه المعلن للأمر بالمسير في سرية أسامة.

والعصيان الأكثر وضوحا وظهورا وإعلانا في قضية كتابة الكتاب الذي لن يضلوا بعده.

ثم جرأتهم على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وإيذاءه باتهامه في عقله ، وقولهم : غلبه الوجع ، أو إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليهجر.

ثم ما جرى في قضية صلاة أبي بكر ، وغير ذلك.

٢ ـ والأنصار يعلمون : أن أهل مكة حديثوا عهد بالإسلام ، كما أن أكثر المسلمين إنما أعلنوا إسلامهم أو استسلامهم في سنة تسع وعشر ..

٣ ـ ثم إنهم يعلمون أن قريشا كانت تعتبر أن الأنصار هم السبب في ظهور محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليهم ، وقد نصروه وآزروه ، وشاركوا في قتل صناديد العرب ، وفرسان قريش. وكانت مراجل حقدهم تغلي وتفور على الأنصار ، ولا تجد متنفسا لها مقبولا أو معقولا ..

٤ ـ إنهم كانوا يعلمون أيضا : أن قريشا وأكثر المهاجرين ، وسائر من يدور في فلكهم ، وما أكثرهم ، مصممون على عدم تمكين علي «عليه‌السلام» من الوصول إلى مقام الخلافة بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مهما كلفهم الأمر .. وها هم يلمحون بوادر نجاحهم في مشروعهم الإستئثاري بالأمر ، والإقصائي للخليفة الشرعي تظهر بوضوح في ثنايا في الأحداث الأخيرة ..

٥ ـ ومن جهة أخرى فإنهم كانوا يخشون من انتقام قريش وأعوانها منهم ، إذا وصلت إلى الحكم والسلطان ، وأن تأخذ بثاراتها بصورة قاسية وشرسة.


وقد صرحوا بخوفهم هذا في يوم السقيفة بالذات ، فقد قال الحباب بن المنذر : «ولكنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم ، وآباءهم ، وإخوانهم» (١).

٦ ـ وإذا كانت الأمور تسير باتجاه إبعاد الأمر عن صاحبه الشرعي ، فإن في الأنصار من يملك هذا الطموح إلى تولي أمر الخلافة ، ويرى أن الساعين لإبعاد الأمر عن علي «عليه‌السلام» ليسوا بأفضل منه .. فلما ذا لا يتصدى هو لهذا الأمر ، ويبادر إليه؟!

وتاريخ الأنصار في نصرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والتضحية في سبيل الدين لا يقل عن تاريخ المنافسين ، إن لم يكن هو الأكثر إشراقا وتألقا .. فلم يروا حرجا في استباق الأحداث ، والإجتماع في سقيفة بني ساعدة ، لينجزوا هذا الأمر ، وليجعلوا الآخرين أمام الأمر الواقع ..

التناقض في الموقف من الخلافة :

ثم إن شيعة أهل البيت «عليهم‌السلام» لا ينكرون وصول أبي بكر وعمر وعثمان إلى الخلافة ، ولكنهم يقولون : إنهم قد استولوا على هذا الأمر من صاحبه الشرعي المنصوب من قبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في غدير خم ، ولو أنهم لم يفعلوا ذلك ، وتركوا الأمور تسير بالإتجاه الذي

__________________

(١) راجع : حياة الصحابة ج ١ ص ٤٢٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٥٣ والبحار ج ٢٨ ص ٣٢٦ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ١٠٨ وفتح الباري ج ١٢ ص ١٣٥ والسقيفة للمظفر ص ٩٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ١٨٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٧٥.


يريده الله ورسوله لتغير وجه التاريخ بلا ريب ..

ويقولون أيضا : إن المشروعية تنشأ من النص .. فما قرره النص الصحيح من الله ورسوله هو الأساس.

ولكن هناك من يقول : إن الخلفاء لم يخالفوا فيما فعلوه ما أمر الله به ورسوله .. بل كان عملهم مشروعا ..

ولكنهم حين يريدون تحديد سبب هذه المشروعية ، فإنهم لا يكادون يستقرون على رأي ، وقد بدأ هذا الإضطراب في التبرير من الساعة الأولى. بل قبل بيعة عمر وأبي عبيدة لأبي بكر في السقيفة ، لأن أبا بكر وعمر قد استدلا على الأنصار بالقرابة من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وادعيا أنهما أمس برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ورحمه (١) ، وأنهم أولياؤه وعشيرته (٢) ، وأنهم عترة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأصله ، والبيضة

__________________

(١) راجع : نهاية الإرب ج ٨ ص ١٦٨ وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢٣٣ والعقد الفريد (ط دار الكتاب العربي) ج ٤ ص ٢٥٨ والأدب في ظل التشيع ص ٢٤ نقلا عن البيان والتبيين للجاحظ.

(٢) راجع : تاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٢٢٠ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٥٧ والإمامة والسياسة (ط الحلبي بمصر) ص ١٤ و ١٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٣٨ وج ٦ ص ٧ و ٨ و ٩ و ١١ والإمام الحسين للعلايلي ص ١٨٦ و ٢٩٠ وغيرهم .. وراجع : الإحتجاج ج ١ ص ٩٢ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ١٩٤ والبحار ج ٢٨ ص ١٨١ و ٣٢٥ و ٣٤٥ وج ٤٤ ص ٥٥ و ٦٤ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٩ و ٣٣٠ والامامة والسياسة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ١٤ و ١٥ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٢٤ و ٢٥ وكتاب الفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ٢٨٥.


التي تفقأت عنه (١).

واستدل أبو بكر على أهل السقيفة بأن الأئمة من قريش بعد حذف صدره ، هو قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : الأئمة اثنا عشر (٢) ، وأصبح كون الأئمة من قريش في جملة عقائد أهل السنة المعترف بها ، وقد اعترف ابن خلدون على ذلك بالإجماع ، ولم يخالف أبو بكر هذا الأصل ، لأنه حين شارف على الموت ، أوصى بالخلافة لعمر بن الخطاب ، ولكن من دون مراعاة لعنصر القرابة .. لا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا قرابته من نفسه.

لكن قول عمر : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته (٣) ، يعد خروجا

__________________

(١) راجع : العثمانية للجاحظ ص ٢٠٠ والمجموع للنووي ج ١٥ ص ٣٥٣ والشرح الكبير لابن قدامه ج ٦ ص ٢٣٢ وكشاف القناع للبهوتي ج ٤ ص ٣٤٧ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٣١٨ والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص ١٩ والسنن الكبرى لبيهقي ج ٦ ص ١٦٦ وغريب الحديث لابن قتيبة ج ١ ص ٤٧ و ٢٥٦ ولسان العرب ج ٤ ص ٥٣٨ وتاج العروس ج ٧ ص ١٨٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٤١٦ والفايق في غريب الحديث ج ١ ص ١٥٠

(٢) راجع : الصواعق المحرقة ص ٦ والطرائف لابن طاووس ص ٤٠٠ والصوارم المهرقة ص ٥٩ و ١٩٠ والبحار ج ٣٤ ص ٣٧٧ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٣١٣ وج ٩ ص ٣٢٥ وفتح الباري ج ١٢ ص ١٣٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٨٦ والتفسير الكبير للرازي ج ٣ ص ١٤٧ والإحكام لابن حزم ج ٧ ص ٩٨٨ والمحصول للرازي ج ٢ ص ٣٥٧ وج ٤ ص ٣٢٢ و ٣٦٨ و ٣٨٣ وج ٦ ص ٥١ والإحكام للآمدي ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢١١ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٣٣٩.

(٣) راجع : تفسير البحر المحيط ج ٤ ص ٣١٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ١ ـ


على هذا الأصل لعدم كون سالم قرشيا ، وقد أحرج ذلك ابن خلدون ، وغيره من علماء أهل السنة وأوقعهم في حيص بيص (١).

كما أن ابن الأثير يقول وهو يتحدث عن البيعة لمحمد بن الشعث :

«.. والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة وليس من قريش ، وإنما هو كندي من اليمن ، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش ، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك ، حتى إن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين ، فأبى الصديق عليهم ذلك ، ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة الذي دعا إلى ذلك أولا ثم رجع عنه» (٢).

لكن ليت شعري متى رجع سعد عن ذلك. إنه أصر عليه إلى أن اغتالته يد السياسه بالشام على يد خالد بن الوليد ، ثم اتهموا الجن في ذلك ،

__________________

ص ١٩٤. وراجع : الطرائف ص ٤٨٣ والصوارم المهرقة ص ٧٣ والبحار ج ٢٨ ص ٣٨٣ وج ٢٩ ص ٣٧٨ وج ٣١ ص ٧٦ و ٨١ والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص ٣٩١ والغدير ج ٥ ص ٣٦٤ وج ٧ ص ٢٣١ وج ١٠ ص ٩ وعمدة القاري ج ١٦ ص ٢٤٦ وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ١١٥ و ٢٨٥ والإستيعاب لابن عبد البر ج ٢ ص ٥٦٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٦٥ والمحصول للرازي ج ٤ ص ٣٢٢ وأسد الغابة ج ٢ ص ٢٤٦ والأعلام للزركلي ج ٣ ص ٧٣ والعثمانية للجاحظ ص ٢١٧ والوافي بالوفيات ج ١٥ ص ٥٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٨٦.

(١) راجع : العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ١ ص ١٩٤.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٩ ص ٥٤. و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٩ ص ٦٦.


ثم جاء الأمويون فادعوا لأنفسهم الخلافة بالإستناد إلى القربى النسبية ، حتى لقد حلف عشرة من قواد أهل الشام ، وأصحاب النعم والرياسة فيها ـ حلفوا للسفاح ـ على أنهم إلى أن قتل مروان لم يكونوا يعرفون أقرباء للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية (١).

وقد قال الكميت :

وقالوا : ورثناه أبانا وأمنا

وما ورثتهم ذاك أم ولا أب (٢)

وقالت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب لمعاوية : «فوليتم علينا من بعده ، تحتجون بقرابتكم من رسول الله ونحن أقرب إليه منكم» (٣).

وكانت القربى النسبية هي الحجة التي استند إليها العباسيون في طلبهم للخلافة.

وخلاصة الأمر : أن أبا بكر وعمر استدلا على الأنصار بالقربى النسبية من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) راجع : النزاع والتخاصم ص ٢٨ و (ط أخرى) ص ٧١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٩ ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٣ والفتوح لابن أعثم ج ٨ ص ٩٥ و (ط دار الأضواء) ج ٨ ص ٣٣٩ ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج ٦ ص ١٠٢ وسير أعلام النبلاء ج ٦ ص ٧٩.

(٢) راجع : العقد الفريد ج ٢ ص ١٢٠ الروضة المختارة (شرح القصائد الهاشميات) للكميت ص ٣٢ والدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة ص ٥٦٦.

(٣) راجع : الطرائف ص ٢٨ والغدير ج ١٠ ص ١٦٧ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ١٨٣ وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي «عليه‌السلام» لابن الدمشقي ج ٢ ص ٢٤٩.


ولكن أتباعهما يقولون : إن سبب مشروعية بيعة أبي بكر هو بيعة أهل الحل والعقد له.

ويبقى موضوع النص يراود أحلامهم ، فلا يصرفون النظر عنه بسهولة ، فيدّعون تارة : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نص على أبي بكر ، وأنه أشار إليه تارة أخرى ، ولو في موضوع صلاة أبي بكر بالناس ، إبان مرض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وقد حاول عمر بن الخطاب التسويق لهذا المنطق ، حيث ادّعوا أنه قال : «لقد أقامه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مقامه ، واختاره لدينهم على غيره ، وقال : يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».

وقد قلنا : إن هذا الكلام غير صحيح ، لا في مبناه ، ولا في معناه ..

أما عمر بن الخطاب نفسه فقد اعتمد مبدأ الشورى المفروضة بالقوة على بضعة أشخاص اختارهم هو بعناية. ومن دون أن يقدم مبررا لاستثناء جميع من عداهم ـ لقد اختارهم ـ بعد أن قرر أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستخلف أحدا ..

وكل هذه التبريرات والإدعاءات لا يمكن القبول بها ، ولا الإعتماد عليها ، وقد روي أن عليا «عليه‌السلام» قال :

فإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقرب

وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيب (١)

__________________

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٤ ص ٤٣ والتعجب للكراجكي ص ٥٤ والبحار ج ٢٩ ص ٦٠٩ وج ٣٤ ص ٤٠٦ والمراجعات للسيد شرف الدين ص ٣٤٠


دعوى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف :

ثم إن هؤلاء الناس قد حشدوا روايات مجعولة ، زعموا أنها تصلح لرد النصوص المتواترة في إمامة علي «عليه‌السلام» ، أو أنها توجب الريب والشبهة فيها ، لدى من لا خبرة له بالأمر ، فقد ذكر الصالحي الشامي هنا ما يلي :

١ ـ حديث عن عمر بن الخطاب أنه قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني : أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ، وهو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

__________________

والنص والإجتهاد ص ٢١ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٣٨٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٤١٦ وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص ١١١.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٩ وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ١٣ ص ٢١٨ (٧٢١٨) والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٢٢ ومسلم في الإمارة باب الإستخلاف ج ٣ ص ١٤٥٤ (١١). وراجع : الإقتصاد للطوسي ص ٢٠٨ والرسائل العشر للطوسي ص ١٢٣ والكافئة للمفيد ص ٤٦ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٥٦٦ والبحار ج ٣٠ ص ١٤٣ وج ٣١ ص ٣٨٦ والغدير ج ١٠ ص ٩ ومسند أحمد ج ١ ص ٤٣ وصحيح البخاري ج ٨ ص ١٢٦ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٩٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٤٨ وعمدة القاري ج ٢٤ ص ٢٧٩ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٤٢ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٣٣١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١ ص ١٨٥ وج ١٧ ص ٢٢٠ وكنز العمال ج ٥ ص ٧٣٤ وتمهيد الأوائل للباقلاني ص ٥٠٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٣٤٣ والكامل لابن عدي ج ٥ ص ٣٧ وعلل الدارقطني ج ٢ ص ٧٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٤٢٨ وج ٤٤ ص ٤٣٢ و ٤٣٤ و ٤٣٥ وسير أعلام النبلاء ج ٩ ص ٢٦٧ وميزان الإعتدال ج ٣ ص ٢١١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٩٢


٢ ـ عن علي «عليه‌السلام» أنه قال «يوم الجمل» : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا ، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر ، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله ، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر ، فأقام واستقام حتى ضرب بالدين بجرانه ، ثم إن أقواما طلبوا هذه الدنيا ، فكانت أمور يقضي الله عزوجل فيها (١).

٣ ـ عن ابن عباس : «أن عليا خرج من عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في وجعه الذي توفي فيه ، فقال الناس : يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

فقال : أصبح بحمد الله بارئا.

قال : فأخذ بيده العباس ، فقال له : أنت والله بعد ثلاث عبد العصا.

__________________

والكامل في التاريخ ج ٣ ص ٦٥ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٧٠ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ١ ص ٢١٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٩٧ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٩ والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج ٢ ص ١١٥ وج ٣ ص ١٠٢.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٩ عن البيهقي وقال في هامشه : أخرجه البيهقي ج ٧ ص ٢٢٣. وراجع : الغدير ج ٥ ص ٣٦٥ وج ٨ ص ٤٠ ومسند أحمد ج ١ ص ١١٤ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٠٤ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ١٧٥ وتحفة الأحوذي ج ٦ ص ٣٩٦ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٥٥ وضعفاء العقيلي ج ١ ص ١٧٨ وعلل الدارقطني ج ٤ ص ٨٦ و ٨٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٩١ و ٢٩٢ وكتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي ص ٤٦ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٧١.


وإني والله لأرى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوف يتوفاه الله من وجعه هذا ، إني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت ، فاذهب بنا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلنسأله فيمن هذا الأمر ، فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا كلمناه ، فأوصى بنا.

قال علي : إنا والله لئن سألناها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فمنعناها ، لا يعطيناها الناس بعده أبدا. وإني والله ، لا أسألها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

٤ ـ عن إبراهيم بن الأسود قال : قيل لعائشة : إنهم يقولون : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أوصى إلى علي.

قالت : بما أوصى إلى علي؟! وقد رأيته دعا بطست ليبول فيها ، وأنا مسندته إلى صدري ، فانخنس ، أو قال : فانحنث ، فمات ، وما شعرت. فيم يقول هؤلاء : إنه أوصى إلى علي؟! (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٩ عن البخاري ، وابن جرير ، والبيهقي ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري في المغازي حديث (٤٤٤٧) والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٢٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٩ عن البخاري ، والبيهقي ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري في الوصايا وفي مرض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومسلم ج ٣ ص ١٢٥٧ (١٩) وأحمد ج ٦ ص ٣٢ والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٢٦. وراجع : ذخائر العقبى ص ٢٠٤ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج ٥ ص ١٤١ والسنن الكبرى ج ٨ ص ١٤٩ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٦٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٤٥ والتاريخ الكبير للبخاري ج ٥ ص ١٧٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٤٢٣ و ٤٢٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢


٥ ـ عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال : خطبنا علي فقال : من زعم أن عندنا كتابا نقرؤه ، ليس إلا كتاب الله وهذه الصحيفة صحيفة معلقة في سيفه ، فيها أسنان الإبل ، وأشياء من الجراحات ، فقد كذب (١).

٦ ـ عن أبي حسان أن عليا «عليه‌السلام» قال : ما عهد إلي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شيئا خاصة دون الناس إلا شيئا سمعته منه في صحيفة في قراب سيفي الخ .. (٢).

__________________

ص ٤٣٦ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٧ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٨٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٥٠ والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٧٧.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٩ و ٣١٠ عن البخاري ، والبيهقي ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري ، باب ذمة المسلمين ، وفي باب إثم من عاهد ثم غدر ، وعن أحمد ج ١ ص ٨١ وعن أبي داود في المناسك ج ٢ ص ٢١٦ والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٢٧ و ٢٢٨. وصحيح البخاري ج ٨ ص ١٤٤ وصحيح مسلم ج ٤ ص ١١٥ و ٢١٧ وسنن الترمذي ج ٣ ص ٢٩٧ وعمدة القاري ج ٢٥ ص ٣٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٣٩١ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ٢٢٨ ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ج ٧ ص ٣٣ ورياض الصالحين للنووي ص ٦٩٥ وتنقيح التحقيق في أحاديث التعليق للذهبي ج ٢ ص ٣٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٠ عن أبي داود في المناسك ج ٢ ص ٢١٦ (٢٠٣٥).

وراجع : المحلى لابن حزم ج ١٠ ص ٣٥٤ ومسند أحمد ج ١ ص ١١٩ وسنن النسائي ج ٨ ص ٢٤ وفتح الباري ج ٤ ص ٧٣ وعمدة القاري ج ١٠ ص ٢٣٢ وعون المعبود ج ٦ ص ١٣ والسنن الكبرى للنسائي ج ٤ ص ٢٢٠ ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ج ٤ ص ٢٠٤ وكنز العمال ج ١٤ ص ١٢٩ وإمناع الأسماع ج ١٤ ص ٤٨٣.


ونقول :

إنه لا يمكن قبول ذلك كله ، لأسباب عديدة :

١ ـ إن بيعة الغدير حجة دامغة تكذب كل هذه الأباطيل ، يضاف إلى ذلك عشرات النصوص الصريحة والصحيحة في إمامة علي «عليه‌السلام» ، ووصايته لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٢ ـ ما جرى على الزهراء «عليها‌السلام» ، من ضرب ، وإسقاط جنين ، وإهانة ، وكذلك عليها وعلى علي «عليهما‌السلام» حين أرادوا إحراق بيتهما على من فيه ، حتى إن عليا «عليه‌السلام» لم يبايع حتى رأى الدخان يخرج من بيته .. بل هو لم يبايع إلا مكرها ، حتى بعد استشهاد السيدة الزهراء «عليها‌السلام». إن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم صحة تلك الروايات عن علي «عليه‌السلام» وغيرها مما ذكر آنفا ..

٣ ـ ما ذا يصنع هؤلاء القوم بالنصوص التي امتلأت بها كتبهم ، والتي تتحدث عن امتناع كثيرين من كبار صحابة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومن جملتهم علي «عليه‌السلام» والهاشميون ، من القبول بخلافة أبي بكر ، كما أن الكثير منهم إنما بايعوا تحت وطأة التهديد والوعيد ، بل والضرب والإهانة ..

٤ ـ ما ذا يصنع هؤلاء أيضا بما رووه عن علي «عليه‌السلام» وأبنائه من بعده من خطب ورسائل ، وكلمات ، واحتجاجات ، تدل على عدم رضاهم بأبي بكر ، وتبين أنه غاصب لحقهم ، متصد لما ليس له ..

٥ ـ إن خطبة علي «عليه‌السلام» ، وقوله فيها : من زعم أن عندنا كتابا نقرؤه إلا كتاب الله ، وهذه الصحيفة ، إنما هي رد على اتهامهم إياه بأنه يدعي


أن عند أهل البيت «عليهم‌السلام» كتابا سوى القرآن ، كانوا يتداولونه فيما بينهم.

ولعل هناك من نسب إليهم أنهم يدعون وجود كتاب لهم من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمر الخلافة ، فيطالبهم بإخراجه لهم.

مع أن الثابت هو : أن عمر بن الخطاب قد منع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من كتابة ذلك الكتاب ، واتهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما اتهمه به ، مما نربأ بأنفسنا عن التفوه به إلا على سبيل الحكاية لما جرى.

٦ ـ إن حديث قول علي «عليه‌السلام» يوم الجمل لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا .. مكذوب على علي «عليه‌السلام» ، فإن أهل السقيفة لم يستشيروا عليا «عليه‌السلام» ولا أشركوه في شيء من أمرهم ، بل استبدوا بالأمر ، ثم هو جم بيت علي «عليه‌السلام» ، وضربت زوجته ، وأسقط جنينها لإجباره على البيعة ، ثم لم يبايع إلا جبرا بعد أن استشهدت «عليها الصلاة والسلام» ، فقد روي عن عائشة : لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة ، وصرحت بذلك نصوصهم ، فراجع (١).

ولم يكن علي «عليه‌السلام» ليقول في حرب الجمل ما يكذب به حديث البيعة له في يوم الغدير ، ولا غيره من الأحاديث الثابتة والصريحة.

__________________

(١) راجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٧٩ وراجع : الفصول المختارة للشريف المرتضى ص ٥٦ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٥٤ والبحار ج ١٠ ص ٤٢٧ وج ٢٨ ص ٣١٢ و ٣٤٩ و ٣٥٨ و ٣٩١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٢ وج ٦ ص ١٢ والإمامة والسياسة لابن قتيبة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ٢٠ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٣١.


٧ ـ دعوى عمر : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستخلف ، إنما جاءت ممن يجر النار إلى قرصه ، ويريد تبرئة نفسه.

٨ ـ حديث العباس وعلي «عليه‌السلام» لا يصح أيضا ، إذ هو يتضمن الإتهام لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» بعدم مراعاته لجانب التقوى والدين ، لرفضه «عليه‌السلام» سؤال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن حكم شرعي ، يرتبط بأمر الخلافة بعد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، طمعا منه في الدنيا ، وحبا منه لها ، وهذا ما نجله «عليه‌السلام» عنه ، ولا يرضى مسلم بأن ينسبه إليه.

٩ ـ إن ما يقولونه هنا يكذب ما يدّعونه من دلالة صلاة أبي بكر على استخلاف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له ، بالإضافة إلى روايات أخرى مزعومة في هذا المجال.

١٠ ـ حديث العباس وعلي «عليه‌السلام» لا يمكن أن يصح ، وإن رواه البخاري ، فإن حديث الغدير المتواتر بأسانيد صحيحة يكذبه.

١١ ـ من أين عرف العباس أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سيموت بعد ثلاث ، أو أنه سوف يموت من وجعه ذاك؟ هل أطلعه الله على غيبه؟ أم أن ملك الموت أخبره؟!

١٢ ـ لقد كان بإمكان العباس أن يسأل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أي شيء ، من دون حاجة إلى أخذ علي «عليه‌السلام» معه.

ولو صح ، فلما ذا لم يأخذ معه أي رجل آخر غير علي «عليه‌السلام».

١٣ ـ ما معنى أن يطلب العباس من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يوصي خليفته أو الناس ببني هاشم ، إن كان الخليفة من غيرهم؟! فهل لم


يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعرف واجباته ، ولا يميز ما ينبغي له أن يفعله ، مما لا ينبغي؟! فإن كانت هناك حاجة لهذه الوصية ، فسيفعلها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإن لم يكن لها حاجة فلا معنى لطلبها منه.

١٤ ـ إن العباس لم يكن يريد من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يخبره بالغيب ، بل هو يريد منه أن يخبره بالحكم والشرع الإلهي. مما يعني : أن الأمر بنظر العباس يدور بين أمرين ، لا ثالث لهما ، فهو إما في بني هاشم ، ولا يحق لغيرهم التصدي له ، أو في غيرهم ، ولا يحق لبني هاشم التصدي له. مع أن أحدا لم يدّع ذلك سوى عمر بن الخطاب .. ومن زعم عمر أنهم من قريش ، وأنهم يوافقونه عليه ، حين قال : لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد ، أو نحو ذلك مما ذكرناه في موضع آخر من هذا الكتاب ..

ولكن الفرق هو : أن عمر بن الخطاب لم يدّع أن ذلك من القرارات الشرعية الإلهية ، بل ادّعى أن قريشا لا ترضى بذلك ، ولم ينسبه لا إلى الله ولا إلى رسوله.

ولكن العباس يقول : إن ذلك من القرارات الإلهية.

١٥ ـ بناء على ما تقدم : فإن رواية العباس وعلي «عليه‌السلام» تدعونا إلى مطالبة من ينكر استخلاف علي «عليه‌السلام» بالنص الذي يعين غير علي «عليه‌السلام» للخلافة ، ويصرح بإبطال خلافة بني هاشم من أساسها ..

فإذا سلّم هذا الفريق بضرورة وجود هذا النص ، استنادا إلى تلك الرواية ، انحلت المشكلة ، لأن النصوص التي لا مجال لإحصائها لكثرتها وتنوعها تعيّن خلافة علي «عليه‌السلام» وتؤكدها ، وهم أنفسهم لا يدّعون النص على أبي بكر ، بل يثبتون خلافته ببيعة أهل الحل والعقد له ..


١٦ ـ وأما حديث عائشة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مات على صدرها ، ولم يوص لأحد .. فيكذبه :

أولا : إنه قد مات على صدر علي «عليه‌السلام» ، والروايات في ذلك كثيرة (١).

ثانيا : إن الوصية لعلي «عليه‌السلام» لا تنحصر بلحظة الوفاة ، بل يمكن

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٦١ عن الشيخين ، وعن ابن سعد ، وراجع : صحيح البخاري ج ٥ ص ١٤١ وفتح الباري ج ٨ ص ١٠٦ و ١٠٧ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٦٦ و ٧٠ و ٧١ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ٣٢ وضعفاء العقيلي ج ٢ ص ٢٥٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٦ ص ٣٠٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦٠ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٩٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٧٥ الأمالي للمفيد ص ٢٣ ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٢ ص ١٧٢ و ١٨٢ والبحار ج ٢٢ ص ٥٤٠ و ٤٥٩ و ٥٤٢ وج ٣٢ ص ٥٩٥ وج ٣٤ ص ١٠٩ و ١٤٧ وج ٣٨ ص ٣٢٠ وج ٤٣ ص ١٩٣ وج ٧٤ ص ٣٩٧ والمراجعات للسيد شرف الدين ص ٣٢٩ و ٣٣٠ والكافي ج ١ ص ٤٥٩ وروضة الواعظين ص ١٥٢ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للمير جهاني ج ٢ ص ٢١٥ والغدير ج ٩ ص ٣٧٤ ودلائل الإمامة للطبري (الشيعي) ص ١٣٨ وشرح نهج للمعتزلي ج ١٠ ص ١٧٩ و ١٨٢ و ٢٦٥ و ٢٦٦ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ٣٢٤ وكشف الغمة ج ٢ ص ١٢٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ١٠ ص ٤٨١ وج ٢٥ ص ٥٥١ وج ٣٣ ص ٣٨٥ وعلل الشرائع للصدوق ج ١ ص ١٦٨ وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص ٥١ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٩٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٤٦ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ١١٧ وينابيع المودة ج ٣ ص ٤٣٦.

والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٦٣ وراجع : ومجمع الزوائد ج ١ ص ٢٩٣.


أن يوصي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له قبل ذلك بسنوات ، أو بأشهر ، أو بأيام ، ويمكن أن يوصي له في بيته ، وفي مسجده ، وفي سفره وحضره و .. الخ ..

ثالثا : إن كون علي «عليه‌السلام» هو الوصي لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من بديهيات التاريخ ، والنصوص في ذلك كثيرة ، ويكفي أن نشير إلى بعض ما قيل في ذلك في عهد علي «عليه‌السلام» نفسه.

قال عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

ومنا علي ذاك صاحب خيبر

وصاحب بدر يوم سالت كتائبه

وصي النبي المصطفى وابن عمه

فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

وقال عبد الرحمن بن جعيل :

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة

على الدين معروف العفاف موفقا

عليا وصي المصطفى وابن عمه

وأول من صلى أخا الدين والتقى

وقال أبو الهيثم بن التيهان ، وكان بدريا :

إن الوصي إمامنا وولينا

برح الخفاء ، وباحت الأسرار

وقال عمر بن حارثة الأنصاري ، وكان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل ، وقد لامه أبوه «عليه‌السلام» لما أمره بالحملة ، فتقاعس :

أبا حسن أنت فصل الأمور

يبين بك الحل والمحرم

إلى أن قال :

فأعجلته والفتى مجمع

بما يكره الرجل المحجم

سمي النبي وشبه الوصي (١)

ورايته لونها العندم

__________________

(١) أي أن محمد بن الحنفية يشبه أباه الذي هو الوصي.


وقال رجل من الأزد يوم الجمل :

هذا علي وهو الوصي

آخاه يوم النجوة النبي

وقال : هذا بعدي الولي

وعاه واع ونسي الشقي

وخرج يوم الجمل غلام من بني ضبة ، شاب معلم ، من عسكر عائشة وهو يقول :

نحن بن ضبة أعداء علي

ذاك الذي يعرف فينا بالوصي

وفارس الخيل على عهد النبي

ما أنا عن فضل علي بالعمي

وقال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل ، وكان في عسكر علي «عليه‌السلام» :

أية حرب أضرمت نيرانها

وكسرت يوم الوغى مرّانها

قل للوصي أقبلت قحطانها

فادع بها تكفيكها همدانها

هم بنوها وهم إخوانها

وقال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل ، وكان من أصحاب علي «عليه‌السلام» :

كيف ترى الأنصار في يوم الكلب

إنا اناس لا نبالي من عطب

ولا نبالي في الوصي من غضب

وإنما الأنصار جدّ لا لعب

هذا علي وابن عبد المطلب

ننصره اليوم على من قد كذب

من يكسب البغي فبئسا اكتسب

وستأتي أبيات حجر بن عدي أيضا :

وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري ، ذو الشهادتين ـ وكان بدريا ـ في يوم


الجمل أيضا :

يا وصي النبي قد أجلت الحر

ب الأعادي وسارت الأضعان

واستقامت لك الأمور سوى الشام

وفي الشام يظهر الأذعان

وقال خزيمة أيضا في يوم الجمل :

أعائش خلي عن علي وعيبه

بما ليس فيه إنما أنت والدة

وصي رسول الله من دون أهله

وأنت على ما كان من ذاك شاهدة

وقال ابن بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الجمل أيضا :

يا قوم للخطة العظمى التي حدثت

حرب الوصي وما للحرب من آسي

الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت

تلك القبائل أخماسا لأسداس

وقال عمرو بن أحيحة يوم الجمل ، في خطبة الحسن بن علي «عليه‌السلام» بعد خطبة عبد الله بن الزبير :

حسن الخير يا شبيه أبيه

قمت فينا مقام خير خطيب

إلى أن قال :

وأبى الله أن يقوم بما قام

به ابن الوصي ، وابن النجيب

ان شخصا بين النبي لك الخير

وبين الوصي غير مشوب

وقال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضا :

أضربكم حتى تقروا لعلي

خير قريش كلها بعد النبي

من زانه الله وسماه الوصي

إن الولي حافظ ظهر الولي

كما الغوي تابع أمر الغوي

ذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف ، لوط بن يحيى ، في كتاب :


وقعة الجمل. وأبو مخنف من المحدثين ، وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار ، وليس من الشيعة ولا معدودا من رجالها.

ومما رويناه من أشعار صفين ، التي تتضمن تسميته «عليه‌السلام» بالوصي ما ذكره نصر بن مزاحم المنقري ، في كتاب «صفين» ، وهو من رجال الحديث.

قال زحر بن قيس الجعفي : «ونسبها في موضع آخر إلى جرير بن عبد الله البجلي» (١) :

فصلى الإله على أحمد

رسول المليك تمام النعم

رسول المليك ومن بعده

خليفتنا القائم المدّعم

عليا عنيت وصي النبي

نجالد عنه غواة الأمم

قال نصر : ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قيس :

أتانا الرسول رسول الإمام

فسرّ بمقدمه المسلمونا

رسول الوصي وصي النبي

له السبق والفضل في المؤمنينا

ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث أيضا :

أتانا الرسول رسول الوصي

علي المهذب من هاشم

وزير النبي وذو صهره

وخير البرية والعالم

وقال جرير بن عبد الله البجلي شعرا ، بعث به إلى شرحبيل بن السمط ، من أصحاب معاوية ، وقد جاء فيه :

__________________

(١) راجع : شرح نهج البلاغة ، (ط دار مكتبة الحياة) ج ١ ص ٥٥٣.


مقال ابن هند في علي عضيهة

ولله في صدر ابن أبي طالب أجل

وما كان إلا لازما قعر بيته

إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل

وصي رسول الله من دون أهله

وفارسه الحامي به يضرب المثل

وقال النعمان بن عجلان الأنصاري :

كيف التفرق والوصي أمامنا

لا كيف إلا حيرة وتخاذلا

لا تغبنن عقولكم لا خير في

من لم يكن عند البلابل عاقلا

وذروا معاوية الغويّ وتابعوا

دين الوصي لتحمدوه آجلا

وقال عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي :

ألا ابلغ شر حبيل بن حرب

فما لك لا تهش إلا الضراب

فإن تسلم وتبق الدهر يوما

نزرك بجحفل عدد التراب

يقودهم الوصي إليك حتى

يردك عن ضلال وارتياب

ويقول المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب :

فيكم وصي رسول الله قائدكم

وصهره وكتاب الله قد نشرا

ويقول عبد الله بن العباس بن عبد المطلب :

وصي رسول الله من دون أهله

وفارسه إن قيل : هل من منازل

قال المعتزلي : «والأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثيرة جدا ، ولكننا ذكرنا منها ها هنا بعض ما قيل في هذين الحزبين. فأما ما عداهما ، فإنه يجل عن الحصر ، ويعظم عن الإحصاء والعدد. ولو لا خوف الملالة والإضجار ،


لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة» (١).

وقد ذكر المعتزلي نفسه في نفس الكتاب موارد أخرى ، نذكر منها ما يلي :

قال عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط :

وإن ولي الأمر بعد محمد

علي وفي كل المواطن صاحبه

وصي رسول الله حقا وصنوه

وأول من صلى ، ومن لان جانبه

وقال خزيمة بن ثابت في هذا :

وصي رسول الله من دون أهله

وفارسه مذ كان في سالف الزمن

وأول من صلى من الناس كلهم

سوى خيرة النسوان والله ذو منن (٢)

وقال زفر بن بن يزيد بن حذيفة الأسدي :

فحوطوا عليا وانصروه فإنه

وصي وفي الإسلام أول أول (٣)

وقال النعمان بن العجلان ، مخاطبا عمرو بن العاص ، وذلك بعد بيعة السقيفة ، في جملة قصيدة له :

وكان هو انا في علي وإنه

لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى

وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر

__________________

(١) جميع ما تقدم قد ذكره المعتزلي في شرح نهج البلاغة (ط دار مكتبة الحياة ـ سنة ١٩٦٣ م) ج ١ ص ١٢٨ و ١٣٣ والبحار ج ٣٨ ص ٢٠ و ٢٦ عنه.

(٢) شرح نهج البلاغة ج ٤ ص ٢٢٧ و ٢٢٨ (ط دار مكتبة الحياة سنة ١٩٦٤).

(٣) المصدر السابق ج ٤ ص ٢٢٨.


وصي النبي المصطفى وابن عمه

وقاتل فرسان الضلالة والكفر (١)

وقال حسان بن ثابت :

ألست أخاه في الهدى ووصيه

وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن (٢)

وقال حجر بن عدي الكندي في يوم الجمل أيضا :

يا ربنا سلم لنا عليا

سلم لنا المهذب التقيا

المؤمن المسترشد الرضيا

واجعله هادي أمة مهديا

احفظه رب حفظك النبيا

لا خطل الرأي ولا غبيا

فإنه كان لنا وليا

ثم ارتضاه بعده وصيا (٣)

وقال المنذر بن أبي خميصة الوداعي مخاطبا عليا :

ليس منا من لم يكن لك في الله

وليا يا ذا الولا والوصية (٤)

بل إن عليا أمير المؤمنين «عليه‌السلام» نفسه قد ذكر الوصية له في الشعر ، فقال : في أمر بيع عمرو بن العاص دينه لمعاوية :

يا عجبا! لقد سمعت منكرا

كذبا على الله يشيب الشعرا

يسترق السمع ويغشى البصرا

ما كان يرضى أحمد لو أخبرا

__________________

(١) المصدر السابق ج ٢ ص ٢٨٠.

(٢) المصدر السابق ج ٢ ص ٢٨٣.

(٣) المصدر السابق ج ٢ ص ٨٢٨ وج ١ ص ١٢٩ و ١٣٠.

(٤) المصدر السابق ج ٢ ص ٨٢٨.


أن يقرنوا وصيه والأبترا

شاني الرسول واللعين الأخزرا

كلاهما في جنه قد عسكرا

قد باع هذا دينه فأفجرا

من ذا بدنيا بيعه قد خسرا

بملك مصران أصاب الظفرا

الخ .. (١).

واللافت هنا : أن ابن أبي الحديد نفسه قد قرر هذه الوصاية في شعره ، فقال :

وخير خلق الله بعد المصطفى

أعظمهم يوم الفخار شرفا

السيد المعظم الوصي

بعل البتول المرتضى علي

وابناه ، الخ .. (٢).

ولو أردنا استقصاء ذلك في مصادره لا حتجنا إلى وقت طويل ولنتج عن ذلك ما يملأ عشرات الصفحات ..

أما في غير الشعر ، فالأمر أعظم وأعظم .. ولعل ما ذكرناه يكفي لمن ألقى السمع وهو شهيد.

__________________

(١) المصدر السابق ج ١ ص ٣٢٤ و ١٣٢.

(٢) المصدر السابق ج ٣ ص ٦٤٥.



الفصل الثاني :

ما جرى في السقيفة



روايتهم لأحداث السقيفة :

ثم إن أتباع الخلفاء يروون أحداث السقيفة بطريقتهم الخاصة ، متجاهلين الكثير من الأمور الهامة والحساسة التي وردت في مصادرهم ، ونحن نذكر هنا النص الذي اورده الصالحي الشامي ، فنقول :

روى ابن إسحاق والإمام أحمد والبخاري وابن جرير عن ابن عباس : أن عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر : إنه قد بلغني أن فلانا ، وفي رواية البلاذري عن ابن عباس : أن قائل ذلك الزبير بن العوام ، قال : والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا (١).

وفي رواية البلاذري عن ابن عباس : «بايعت عليا» لا يغرن امرءا أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٢٧ وج ١٢ ص ٣١١ عن ابن إسحاق ، وأحمد ، والبخاري ، وابن جرير. وراجع : صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٥ وفتح الباري (المقدمة) ص ٣٣٧ وعمدة القاري ج ١٧ ص ٦٢ وج ٢٤ ص ٦ وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ١٥٤ وأضواء البيان للشنقيطي ج ٥ ص ٣٦٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١١. وراجع : خلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ـ


[والله ما كانت بيعة أبي بكر فلتة ، ولقد أقامه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مقامه ، واختاره لدينهم على غيره ، وقال : «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» فهل منكم أحد تقطع إليه الأعناق كما تقطع إلى أبي بكر؟ فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين ، فإنه لا بيعة له ، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وإن الأنصار خالفونا ، واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة ، وتخلف عنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ، ومن معهما.

واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان : عويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي (١).

إلى أن قال :

فذكر لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين؟

__________________

ص ٣٠٥ وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ١٥٥ و ١٥٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٨١ و ٢٨٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٨٧.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١١. وراجع : البحار ج ٢٨ ص ٣٣٨ ومسند أحمد ج ١ ص ٥٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٣ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٨١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦٦ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٧ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٣ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٣٠٨ و ٣١١ و ٣١٥ وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ١٤٨ و ١٥٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٨٧.


قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار.

قالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم.

قال : قلت : والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل ، فقلت : من هذا؟

فقالوا : سعد بن عبادة.

فقلت : ما له؟

فقالوا : وجع. فلما جلسنا تشهّد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد .. فنحن الأنصار ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا ، وقد دفت إلينا دافة من قومكم.

قال : وإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ، وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الجد ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر ، فكرهت أن أعصيه ، فتكلم. وكان هو أعلم مني ، وأوقر ، فو الله ما ترك من كلمة أعجبتني كنت زورتها في نفسي إلا قالها في بديهته أو مثلها أو أفضل منها ، حتى سكت (١).

إلى أن قال :

فتشهد أبو بكر ، وأنصت القوم ، ثم قال : بعث الله محمدا بالهدى ، ودين

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٢. وراجع : شرح نهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٤ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٧ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٣٠٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٣.


الله حق ، فدعى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الإسلام ، فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا ، إلى ما دعانا إليه ، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ، ونحن عشيرته ، وأقاربه ، وذوو رحمه ، فنحن أهل النبوة ، وأهل الخلافة ، وأوسط الناس أنسابا في العرب ، ولدتنا كلها ، فليس منا قبيلة إلا لقريش فيها ولادة ، ولن تعترف العرب ولا تصلح إلا على رجل من قريش.

هم أصبح الناس وجوها ، وأبسطهم لسانا ، وأفضلهم قولا ، فالناس لقريش تبع ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، وهذا الأمر بيننا وبينكم قسمة إلا بثلمة.

وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله ، وشركاؤنا في الدين ، وأحب الناس إلينا ، وأنتم الذين آووا ونصروا ، وأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم لفضيلة ما أعطى الله إخوانكم من المهاجرين ، وأحق الناس ألا تحسدوهم على خير آتاهم الله إياه.

وأما ما ذكرتم فيكم من خير ، فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر ، إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا (١).

إلى أن قال :

فقال عمر وأبو عبيدة : ما ينبغي لأحد بعد رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٢ و ٣١٣. وعن الرياض النضرة ج ١ ص ٢١٣.


وآله» أن يكون فوقك يا أبا بكر ، أنت صاحب الغار مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وثاني اثنين ، وأمرك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين اشتكى ، فصليت بالناس ، فأنت أحق بهذا الأمر.

قالت الأنصار : والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، وما خلق الله قوما أحب إلينا ، ولا أعز علينا منكم ، ولا أرضى عندنا هديا منكم ، ولكنا نشفق بعد اليوم ، فلو جعلتم اليوم أصلا منكم ، فإذا مات أخذتم رجلا من الأنصار فجعلناه ، فإذا مات أخذنا رجلا من المهاجرين فجعلناه ، فكنا كذلك أبدا ما بقيت هذه الأمة ، بايعناكم ، ورضينا بذلك من أمركم ، وكان ذلك أجدر أن يشفق القرشي ، إن زاع ، أن ينقض عليه الأنصاري.

فقال عمر : لا ينبغي هذا الأمر ، ولا يصلح إلا لرجل من قريش ، ولن ترضى العرب إلا به ، ولن تعرف العرب الإمارة إلا له ، ولن يصلح إلا عليه ، والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه (١).

وعند الإمام أحمد : قال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ، منا أمير ، ومنكم أمير يا معشر قريش.

قال : فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى خشينا الإختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٣.

(٢) مسند أحمد ج ١ ص ٥٦ وصحيح البخاري ج ٨ ص ٢٧ وعمدة القاري ج ٢٤ ص ٨ وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ١٥٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٨٣ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٦ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٧ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٧.


وعند ابن عقبة : فكثر القول حتى كادت الحرب تقع بينهم ، وأوعد بعضهم بعضا ، ثم تراضى المسلمون ، وعصم الله لهم دينهم ، فرجعوا وعصوا الشيطان.

ووثب عمر فأخذ بيد أبي بكر ، وقام أسيد بن حضير الأشهلي ، وبشير بن سعد أبو النعمان بن بشير يستبقان ليبايعا أبا بكر ، فسبقهما عمر فبايع ، ثم بايعا معا (١).

وعند ابن إسحاق في بعض الروايات ، وابن سعد : أن بشير بن سعد سبق عمر (٢).

إلى أن قال :

ووثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة ، وسعد بن عبادة مضطجع يوعك ، فازدحم الناس على أبي بكر ، فقال رجل من الأنصار : اتقوا سعدا ، لا تطأوه ، فتقتلوه.

فقال عمر ، وهو مغضب : قتل الله سعدا ، فإنه صاحب فتنة.

فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد ، فقعد على المنبر ، فبايعه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٣. وراجع : شرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٤٨٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٣. وراجع : الكافي ج ٨ ص ٣٤٣ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٤٨٨ والإحتجاج ج ١ ص ١٠٦ والبحار ج ٢٨ ص ٢٦٢ و ٣٢٥ و ٣٢٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٠ و ١٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٣٠ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٠٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ١٨٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٠ ص ٢٩٢ وج ٣٠ ص ٢٧٥.


الناس حتى أمسى ، وشغلوا عن دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

إلى أن قال :

روى ابن إسحاق ، والبخاري ، عن أنس بن مالك قال : لما بويع أبو بكر في السقيفة ، وكان الغد جلس أبو بكر ، فقام عمر فتكلم ، وأبو بكر صامت لا يتكلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : ..

إلى أن قال :

.. وإن الله قد جمع أمركم على خيركم ، صاحب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثاني اثنين إذ هما في الغار ، فقوموا فبايعوه ، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة ، ثم تكلم أبو بكر فحمد الله ، وأثنى عليه بالذي هو أهله (٢).

وفي رواية البلاذري ، عن الزهري أنه قال :

الحمد لله ، أحمده وأستعينه على الأمر كله ، علانيته وسره ، ونعوذ بالله

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٦٤ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٩ وعمدة القاري ج ١٦ ص ١٨٦ والبحار ج ٢٨ ص ٣٣٦ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٤. وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٠ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦٩ وج ٦ ص ٣٣٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٥ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٤٠٦ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٠١ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٧ والصوارم المهرقة ص ٦٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٩٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٣.


من شر ما يأتي بالليل والنهار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا ، قدام الساعة ، فمن أطاعه رشد ، ومن عصاه هلك ، انتهى (١).

ثم قال : أما بعد أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم. وقد كانت بيعتي فلتة ، وذلك أني خشيت الفتنة ، وأيم الله ما حرصت عليها يوما قط ، ولا طلبتها ، ولا سألت الله تعالى إياها سرا ولا وعلانية ، وما لي فيها من راحة (٢).

وقال : «واعلموا أن لي شيطانا يعتريني ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ، لا أوثّر في أشعاركم وأبشاركم» (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٤ والعثمانية للجاحظ ص ٢٣١.

(٣) راجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٢١٢ والإمامة والسياسة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ٢٢ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٣٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٢٤ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٦٠ وصفة الصفوة ج ١ ص ٢٦١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٠ وج ١٧ ص ١٥٦ و ١٥٩ وكنز العمال ج ٥ ص ٥٨٩ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٥. وراجع : الفصول المختارة للشريف المرتضى ص ١٢٤ والإحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ١٥٢ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٤٣٠ والبحار الأنوار ج ١٠ ص ٤٣٩ وج ٤٩ ص ٢٨٠ وج ٩٠ ص ٤٥ والغدير ج ٧ ص ١١٨ وراجع : تخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٤٨١ و ٤٨٢ وتمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني ص ٤٧٦ و ٤٩٣ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٣٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٣٠٣ و ٣٠٤.


وروى البلاذري والبيهقي ـ بإسناد صحيح ـ من طريقين ، عن أبي سعيد : أن أبا بكر لما صعد المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير الزبير ، فسأل عنه ، فقام ناس من الأنصار فأتوا به ، فقال أبو بكر : قلت : ابن عمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحواريه ، أردت أن تشق عصا المسلمين؟!

فقال : لا تثريب يا خليفة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقام فبايعه ، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا ، فسأل عنه ، فقام ناس من الأنصار فأتوا به ، فجاء ، فقال أبو بكر : قلت : ابن عم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وختنه على ابنته ، أردت أن تشق عصا المسلمين؟!

قال : لا تثريب يا خليفة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فبايعه (١).

قال أبو الربيع : وذكر غير ابن عقبة : أن أبا بكر قام في الناس بعد مبايعتهم إياه ، يقيلهم في بيعتهم ، ويستقيلهم فيما تحمله من أمرهم ، ويعيد ذلك عليهم ، كل ذلك يقولون : والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فمن ذا يؤخرك (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٦. وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٧٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦٩ وج ٦ ص ٣٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٩٤ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٧٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٤٣ وكنز العمال ج ٥ ص ٦١٣ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ١٠ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٧. وراجع : والامامة والسياسة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ٢٢ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٣٣ والعثمانية للجاحظ ص ٢٣٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٤ ص ٣٤٥ وطبقات المحدثين بأصبهان لابن حبان ج ٣


قال العلامة الأميني : اكتفى عمر بن الخطاب بقوله : «من له هذه الثلاث؟ : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (١).

وبقوله له : إن أولى الناس بأمر نبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وأبو بكر السباق المسن.

وبقوله يوم بيعة العامة : إن أبا بكر صاحب رسول الله. وثاني اثنين إذ هما في الغار (٢).

ولما قال سلمان للصحابة : أصبتم ذا السن منكم ، ولكنكم أخطأتم أهل بيت نبيكم (٣).

وقال عثمان : إن أبا بكر الصديق أحق الناس بها ، إنه لصديق ، وثاني

__________________

ص ٥٧٦ وأضواء البيان للشنقيطي ج ١ ص ٣١ والغدير ج ٨ ص ٤٠.

(١) الآية ٤٠ من سورة التوبة.

(٢) عن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٣١١ والرياض النضرة ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٣٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٧ و ٢٤٨ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٥ ص ٢٦٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٩٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٥٩. وراجع : صحيح ابن حبان ج ١٥ ص ٢٩٨ ومسند الشاميين ج ٤ ص ١٥٦ وموارد الظمآن ج ٧ ص ٨١.

(٣) الغدير ج ٧ ص ٩٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٤٩ وج ٦ ص ٤٣ والبحار ج ٢٨ ص ٣١٤ والسقيفة وفدك للجوهري ص ٤٦ و ٦٩ والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج ٣ ص ٢٢٥.


اثنين ، وصاحب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات عديدة. مع تذكيرنا بأن هذا العرض للأحداث غير سليم ، بل هو مصنوع بعناية ، وقد اختزل ، وحرّف ، وزادوا وتصرفوا فيه ، حسبما رأوا أنه يخدم عقيدتهم ، وميولهم ، ونذكر من هذه الوقفات :

توضيح بضع كلمات :

السقيفة : مكان مستطيل مسقوف ، يستظل به.

وبنو ساعدة : بطن من الأنصار. وكانت السقيفة لهم وفي محلتهم.

جذيلها : تصغير جذل ، عود ينصب للإبل الجربى ، تحتك به ، فتشفى .. والتصغير هنا للتعظيم. أي أنا من يستشفى برأيه :

والمحكك : الذي كثر به الحك حتى صار أملسا.

عذيق : تصغير عذق ـ بفتح العين ـ للتعظيم. وهو هنا النخلة. وأما بالكسر فهو العرجون.

المرجب : من الرجبة ـ بضم الراء وسكون الجيم ـ الذي يحاط به النخلة الكريمة مخافة أن تسقط. وإما من رجبت الشيء أرجبه رجبا. عظمته. وقد شدد مبالغة فيه (٢).

__________________

(١) كنز العمال ج ٥ ص ٦٥٣ والغدير ج ٧ ص ٩٢ وحديث خيثمة ص ١٣٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٧٦.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٩.


عمر ينكر موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وفور انتقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الرفيق الأعلى ، بادر عمر بن الخطاب إلى إنكار موته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال : ما مات رسول الله ، ولا يموت ، حتى يظهر دينه على الدين كله. وليرجعن وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته. لا أسمع رجلا يقول : مات رسول الله إلا ضربته بسيفي.

واستمر على هذا الحال يحلف للناس على صحة ما يقول حتى ازبد شدقاه ، إلى أن جاء أبو بكر من السنح ، وهو موضع يبعد عن المسجد ميلا واحدا ، فكشف عن وجه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم خرج فقال لعمر الذي ما زال يحلف : أيها الحالف على رسلك .. وأمره ثلاث مرات بالجلوس ، فلم يفعل.

ثم قام خطيبا في ناحية أخرى ، فترك الناس عمر وتوجهوا إلى أبي بكر ، فقال : من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا قوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (١).

وأظهر عمر أنه سلم وصدق ، قائلا : كأني لم أسمع هذه الآية (٢).

__________________

(١) الآية ١٤٤ من سورة آل عمران.

(٢) راجع : كنز العمال (ط الهند) ج ٣ ص ٣ و ١٢٩ وج ٤ ص ٥٣ و (ط مؤسسة الرسالة) ج ٧ ص ٢٤٤ وعن البخاري ج ٤ ص ١٥٢ وعن شرح المواهب للزرقاني ج ٨ ص ٢٨٠ وذكرى حافظ للدمياطي ص ٣٦ وتاريخ الأمم والملوك


وروى ابن إسحاق والبخاري عن أنس قال : لما بويع أبو بكر في السقيفة ، وكان الغد جلس أبو بكر فقام عمر فتكلم ، وأبو بكر صامت.

فقال : أيها الناس ، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي ، وما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». ولكن كنت أرجو أن يعيش رسول الله فيدبرنا ، ويكون آخرنا موتا ، وإن الله أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله ورسوله ، فإن اعتصمتم هداكم الله كما هداكم به (١).

وقد أشار حافظ إبراهيم إلى هذه الحادثة فقال :

__________________

ج ٣ ص ٢٠١ وعن الكامل في التاريخ ج ٢ ص وعن السيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٣٧١ ـ ٣٧٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٧٨ وج ٢ ص ٤٠ والإحكام لابن حزم ج ٤ ص ٥٨١ والطرائف لابن طاووس ص ٤٥٢ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٤ والمعجم الكبير ج ٧ ص ٥٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٢ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٥٦ والمواهب اللدنية ج ٤ ص ٥٤٤ و ٥٤٦ وروضة المناظر لابن شحنة (مطبوع بهامش الكامل) ج ٧ ص ٦٤ وإحياء العلوم ج ٤ ص ٤٣٣. وراجع : إحقاق الحق (الأصل) ص ٢٣٨ و ٢٨٧ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٥٤٧

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٥. وراجع : الفصول المختارة للشريف المرتضى ص ٢٤٣ والبحار ج ٣٠ ص ٥٩٢ وتخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ج ٢ ص ٤٠٦ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٠٠ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٠ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٢٦٨ وج ٦ ص ٣٣٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٩٢.


يصيح من قال : نفس المصطفى قبضت

علوت هامته بالسيف أبريها (١)

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات ، هي التالية :

أسئلة تحتاج إلى جواب :

إن ثمة أسئلة تحتاج إلى إجابات مقنعة ومقبولة ، وهي التالية :

١ ـ من الذي أخبر عمر : أن القول بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد مات محرم وممنوع ، ويستحق قائل ذلك العقوبة؟!

٢ ـ من أين جاء عمر بهذا الخبر ، الذي يقول : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوف يرجع؟!.

٣ ـ هل المقصود : أنه سوف يرجع من سفر ، فإلى أين كان ذلك السفر ، ليقال : إنه سيرجع منه؟!

أم المقصود : إنه سيرجع بعد الموت ، فإن هذا الأمر توقيفي ، لا يعلمه الله إلا إلى رسول من رسله أطلعه على غيبه.

ويبدو لنا : أنه يقصد المعنى الأول ، فقد أشارت بعض النصوص إلى أن عمر قد أشار إلى أن غيبته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كغيبة موسى بن عمران .. وغيبة موسى هو عبارة عن سفر رجع منه موسى في الوقت المناسب .. ولكن الوقائع أظهرت على كل حال أن هذا الخبر الذي جاء به عمر غير صحيح.

٥ ـ إذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سيرجع ويعاقب من أرجف بموته

__________________

(١) ديوان حافظ إبراهيم ج ١ ص ٨١.


بقطع الأيدي والأرجل ، فلما ذا يتهددهم عمر بالضرب بالسيف؟!

فهل لهذا الذنب عقوبتان هما : الضرب بالسيف تارة ، وقطع الأيدي والأرجل أخرى؟!

٦ ـ من الذي خول عمر إجراء عقوبة الضرب بالسيف على الناس؟!

٧ ـ من أين علم عمر أن النبي لم يمت؟!

٨ ـ من أين علم عمر أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله.

٩ ـ ولما ذا وعلى أي شيء اعتمد عمر حين كان يحلف للناس ، ليقنعهم بصحة أقواله ، وبأنه على يقين مما يقول؟!

السنح على بعد ميل واحد :

وقد ذكروا : أن السنح يبعد عن المسجد بمقدار ميل واحد (١).

ولكنهم يقولون مقابل ذلك : أن السنح عالية من عوالي المدينة (٢). وأدنى العوالي كما يقول ياقوت الحموي يبعد أربعة أميال أو ثلاثة (٣) ، فلما ذا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٤٦ و ٣٠٢ وراجع : زهر الربي على المجتبى ج ١ ص ٢٥٣ و ٢٥٤ وعون المعبود ج ٢ ص ٧٧ وشرح مسلم للنووي ج ٥ ص ١٢٢ وإرشاد الساري ج ١ ص ٤٩٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٤٦ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٦١.

(٣) راجع : معجم البلدان ج ٤ ص ١٦٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٢٦٠ وراجع : السنن الكبرى ج ١ ص ٤٤٠ وعمدة القاري ج ٥ ص ٣٧ عنه ، وصحيح البخاري ج ٤ ص ١٧٠ وفتح الباري ج ٢ ص ٢٣ ووفاء الوفاء ج ١٢٦١.


اختار أبو بكر لزوجته أن تسكن بعيدة عنه هذا المقدار؟!

وهل كانت أعرابية الهوى والمشرب ، وترفض السكنى في الحضر؟!

أم أن أبا بكر هو الذي اختار لها هذا المكان ليكون خلوة له كلما احتاج إلى أن يختلي بنفسه؟!

أم أن له صداقات وارتباطات يريد أن يحفظها ولا يقطعها؟!

أم ماذا؟!!

صدمة محسوبة :

إن الناس كانوا ـ بلا شك ـ حين موت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على حالة لا يحسدون عليها من الخوف والوجل ، والترقب ، والضياع والحيرة ، فإن وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها مساس مباشر بمصيرهم ، وبمستقبلهم ، فإذا جاءهم من هو مثل عمر بمثل هذه المقالة ، وأطلقها بصورة صارمة وحازمة ، مع تهديد ووعيد ، وحلف أيمان ، فإن حالة من البلبلة الفكرية والمشاعرية سوف تنتابهم ، وتهيمن على كل كيانهم ووجودهم بما تحمله معها من كتل من الأوهام والخيالات التي تزيدهم حيرة وضياعا ..

ولا شك في أن هذا سوف يصرفهم عن التفكير بالمستقبل ، وبآثار وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ويعطي مهلة لمن يريد إضاعة بعض الوقت ، بانتظار أمر ما ليتدبر أمره ، وليجد المخرج المناسب من مأزق يعاني منه.

أفإن مات أو قتل :

وحين قرأ أبو بكر الآية الشريفة (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى


أَعْقابِكُمْ) (١). اقتنع عمر مباشرة بموت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكأنه لم يسمع هذه الآية من قبل.

غير أننا نقول :

أولا : إن عمرو بن زائدة كان قد قرأ هذه الآية في مسجد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الصحابة وعلى عمر قبل مجيء أبي بكر ، وقرأ عليهم أيضا قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٢)» (٣).

فلما ذا بقي عمر مصرا على موقفه أولا ، ثم تراجع عنه ثانيا حين سمع الآية من أبي بكر؟!

ثانيا : إن عمر لم يكن منكرا لموت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولكنه كان يدعي : أنه إنما يموت بعد أن يظهر الله دينه على الدين كله ..

والآية الشريفة التي تلاها أبو بكر لم تقل : إنه سوف يموت قبل ظهور الدين أو بعده ..

فكيف اقتنع عمر بها يا ترى؟!

ثالثا : إن عمر قد رد كتابة الكتاب الذي لن يضلوا بعده بقوله : حسبنا كتاب الله ، أي أنه بعد موت الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تكون هدايتنا

__________________

(١) الآية ١٤٤ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ٣٠ من سورة الزمر.

(٣) البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٣ و (نشر دار الكتب العلمية ـ بيروت) ج ٥ ص ٢١٣ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٥ ص ٢٦٣ وشرح المواهب للزرقاني ج ٨ ص ٢٨١ والغدير ج ٧ ص ١٨٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٨١ وراجع : كنز العمال ج ٧ ص ٢٤٥.


منوطة بالكتاب ، ولا تحتاج إلى شيء آخر.

وهذا التقرير يستبطن القبول بأن الناس هم الذين سوف يتولون استفادة الهداية من كتاب الله ، وذلك لا يكون إلا إذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ارتحل إلى الرفيق الأعلى.

وتكون النتيجة هي : أن عمر كان يعرف قبل ذلك بمدة أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يموت ، وأن الأمة سوف تهتدي بعده بكتاب الله ، فلا ذا أنكر موته هذه الساعة على النحو الذي ذكرناه؟!

ثلاثة احتمالات لا تفيد عمر :

وقد يقال : إن أمر عمر في هذه القضية يدور بين ثلاثة احتمالات :

الأول : أن يكون جاهلا حقا في أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يموت.

ويقال في الجواب : إن من يجهل مثل هذا الأمر البديهي ، لا يصلح للإمامة والخلافة. ومن يكون جهله مركبا إلى حد أنه يواصل إصراره ، ويتبرع بالأيمان على صحة ما يقول .. لا يمكن أن تقنعه حجة أبي بكر ، لأنها لا تدل على موت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فعلا ، فلعله سيرجع كما يقول عمر!!

ولما ذا أقنعته الآية حين تلاها أبو بكر ، ولم تقتعه حين تلاها غيره؟!

وإذا كان قد تراجع اعتمادا على قول أبي بكر ، فلما ذا لم يتراجع عند قول غيره؟!

ولما ذا صار قول أبي بكر حجة دون سواه؟!

الثاني : أن يكون قد دهش لموت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى حد أنه فقد توازنه ، واختل تفكيره ..


قال ابن سيد الناس : خبل عمر في وفاة النبي ، فجعل يقول : إنه والله ما مات ولكن ذهب إلى ربه (١).

وقال التفتازاني : إن ذلك لتشوش البال ، واضطراب الحال ، والذهول عن جليات الأحوال (٢).

ويجاب عن ذلك : بأن من دهش بالمصيبة ، إلى حد الخبل ، فإنه حين يتيقن وقوعها سيكون أكثر اختلالا ، وأشد خبلا .. مع أن الأمور قد سارت في الإتجاه المعاكس.

الثالث : أن يكون ذلك قد جاء على سبيل كسب الوقت إلى حين مجيء أبي بكر ، لأنه خشي أن يكون أمام مأزق يحتاج فيه إلى أبي بكر دون سواه ، لأنه هو الذي يساعده على الخروج منه. ألا وهو مأزق طرح اسم من يقوم مقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإعلان تولي علي «عليه‌السلام» لهذا الأمر مباشرة ، فلما تحقق له ما أراد ، وهو مجيء أبي بكر كان المخرج له من هذا الجو هو أن يتظاهر بلباقة يتقنها : أنه صعق إلى الأرض حين عرف بالحقيقة.

وعمر هو الذي يقول : إنه كان على اتفاق تام مع أبي بكر ، فكان إذا أراه أبو بكر الشدة أراه هو اللين ، وكذلك العكس.

شجاعة أم عدم اكتراث لموت الرسول؟! :

وإذا أردنا أن نجعل الدهشة وعدمها معيارا للحزن ، فلا بد أن نحكم

__________________

(١) عيون الأثر ج ٢ ص ٤٣٣ والغدير ج ٧ ص ١٨٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٤.

(٢) شرح المقاصد ج ٥ ص ٢٨٢.


على أبي بكر أنه لم يكن مهتما لاستشهاد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويؤيد هذا : ما ورد من أن أبا بكر اعترض على علي «عليه‌السلام» في ظهور حزنه على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : ما لي أراك متحازما؟!

فقال له علي «عليه‌السلام» : إنه قد عناني ما لم يعنك.

فاضطر أبو بكر إلى إنكار ذلك ، والتظاهر بالإهتمام والحزن على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فراجع (١).

وقد يحاول البعض أن يؤيد صحة ذلك أيضا بإهمال أصحاب السقيفة جنازة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وانصرافهم إلى السعي للحصول على الخلافة ، وقد دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يحضروه لانشغالهم بهذا الأمر ، ثم إنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء حتى إخبار علي «عليه‌السلام» ، وبني هاشم بما يفعلونه ويدبرونه ..

شجاعة أبي بكر :

وبذلك كله يعلم عدم صحة ما يدعيه بعضهم ، من أن موقف أبي بكر هنا أدل دليل على شجاعته وجرأته ، معللا ذلك بقوله : «فإن الشجاعة والجرأة حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ، ولا مصيبة أعظم من موت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فظهرت عنده شجاعته وعلمه ، وقال الناس : لم يمت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، منهم : عمر ، وخرس

__________________

(١) راجع : كنز العمال ج ٧ ص ١٥٩ و (ط مؤسسة الرسالة) ج ٧ ص ٢٣٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٣١٢ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٨٤.


عثمان ، واستخفى علي ، واضطرب الأمر ، وكشفه الصديق بهذه الآية» (١).

ونقول :

إن هذا الكلام غير صحيح.

أولا : إن القرطبي يقول : استخفى علي «عليه‌السلام» ، والحلبي يقول : أقعد علي ، فأيهما هو الصحيح؟! (٢).

ثانيا : إن الحديث عن خبل عمر ، لمجرد احتمال موت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غير صحيح أيضا ، إذ لما ذا أفاق حين تيقن موته ، وكأن شيئا لم يكن؟! ثم ذهب إلى السقيفة ، وتصرف على ذلك النحو المعروف والموصوف.

ثالثا : إن أبا بكر لم يزد على أن استدل بالآية على موت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأي ربط لهذا الأمر بالشجاعة؟!

رابعا : لقد كان عمرو بن زائدة قد استدل على موت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذه الآية ، وبآية أخرى في المسجد ، فلما ذا لا يعدونه من الشجعان أيضا؟!

خامسا : إذا أخذ بالرواية المتقدمة التي ذكرت أن عليا «عليه‌السلام» قال لأبي بكر : إنه قد عناني ما لم يعنك ، فهي تدل على عدم اكتراث أبي بكر لموت الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا تدل على شجاعته.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ج ٤ ص ٢٢٢ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٤ والغدير ج ٧ ص ٢١٣. وراجع : الفتح المبين لدحلان (بهامش سيرته النبوية) ج ١ ص ١٢٣ ـ ١٢٥ والوافي بالوفيات ج ١ ص ٦٦.

(٢) راجع : الجامع لأحكام القرآن ج ٤ ص ١٤٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٤.

وراجع : الوافي بالوفيات ج ١ ص ٦٦.


سادسا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بكى عثمان بن مظعون ، وكانت الدموع تسيل على وجنتيه ، وله شهيق. وبكى على حمزة ، وجعفر ، وزينب ، وإبراهيم ، ورقية و .. و .. فهل يمكن اعتبار أبي بكر أشجع من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأن النبي بكى وشهق على الأحباب والأصحاب ، أما أبو بكر فلم يتأثر ، ولم يبك حتى لموت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

الشيخان إلى السقيفة :

وقد ذكر العلامة المظفر «رحمه‌الله» : أنه بعد أن اجتمع الرجلان : أبو بكر وعمر ، وانتهت مهزلة إنكار موت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لم يطل مقامهما «حتى جاء اثنان من الأوس مسرعين إلى دار النبي ، وهما : معن بن عدي وعويم بن ساعدة ، وكان بينهما وبين سعد الخزرجي المرشح للخلافة موجدة قديمة ، فأخذ معن بيد عمر بن الخطاب ، ولكن عمر مشغول بأعظم أمر ، فلم يشأ أن يصغي إليه ، لو لا أن يبدو على معن الإهتمام ، إذ يقول له : «لا بد من قيام» ، فأسرّ إليه باجتماع الأنصار ففزع أشد الفزع ، وهو الآخر يصنع بأبي بكر ما صنع معن معه ، فيسر إلى أبي بكر بالأمر ، وهو يفزع أيضا أشد الفزع. فذهبا يتقاودان مسرعين إلى حيث مجتمع الأنصار ، وتبعهما أبو عبيدة بن الجراح ، فتماشوا إلى الأنصار ثلاثتهم.

أما علي ومن في الدار ، وفي غير الدار من بني هاشم ، وباقي المهاجرين والمسلمين ، فلم يعلموا بكل الذي حدث ، ولا بما عزم عليه أبو بكر وعمر.

ألم تكن هذه الفتنة التي فزع لها أشد أبو بكر وعمر أشد الفزع ـ على حد تعبيرهم ـ تعم جميع المسلمين بخيرها وشرها ، وأخص ما تخص عليا


«عليه‌السلام» ، ثم بني هاشم؟

أو ليس من الجدير بهما أن يوقفاهم على جلية الأمر ، ليشاركوهما في إطفاء نار الفتنة الذي دعاهما إلى الذهاب إلى مجتمع الأنصار مسرعين؟

ثم لما ذا يخص عمر أبا بكر بالإسرار إليه دون الناس ، ثم أبا عبيدة»؟ (١).

إجتماع المهاجرين إلى أبي بكر :

وقد ذكرت رواية البلاذري ، عن ابن عباس : أن عمر قال : «اجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : إنطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار الخ ..».

فانطلقوا إليهم ، فالتقوا بعويم بن ساعدة ورفيقه.

ونقول :

إن ذلك غير صحيح ، فإن المهاجرين لم يجتمعوا إلى أبي بكر ، وإنما ذهب إلى الأنصار ثلاثة أو أربعة أشخاص فقط ، وهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة.

قيل : وسالم ، وربما يذكر أيضا خالد معهم .. ولا نكاد نطمئن إلى صحة ذلك.

كما أن عويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي ، قد جاءا إلى عمر وأبي بكر وأصرا عليهما ليقوما معهما .. (٢).

__________________

(١) السقيفة للشيخ محمد رضا المظفر «رحمه‌الله» (نشر مكتبة الزهراء ـ قم ـ إيران) ص ١٢٠ و ١٢١.

(٢) راجع : أنساب الأشراف (ط دار المعارف) ج ١ ص ٥٨١ و (ط دار الفكر) ج ٢ ص ٢٦٢ ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ١٨٣ عنه.


استدلالات أبي بكر على أن الخلافة لقريش :

وقد استدل أبو بكر على أن قريشا هي الأحق بالخلافة بثلاثة أمور هي :

١ ـ أنهم أصبح الناس وجوها.

٢ ـ أنهم أبسطهم لسانا.

٣ ـ أفضلهم قولا.

ولم يشر إلى نص نبوي ، ولا إلى آية قرآنية ، ولا إلى تقدم لقريش على غيرها في علم ، أو تقوى أو جهاد ، أو غير ذلك مما يفيد في سياسة الناس ، وحفظ دينهم ، وتدبير أمورهم ..

وما ذا تنفع صباحة الوجه ، وبسط اللسان ، وحسن القول ، في حفظ الدين ، وفي الذب عن حياض المسلمين ، وتدبير شؤونهم ، وتسيير أمورهم ، ونشر المعارف فيهم ، أو في بسط العدل ، وإشاعة الأمن فيهم ، إذا لم يكن هناك دين ، وزهد ، وتقوى ، وعلم ، وأمانة و .. و .. الخ ..؟!

على أن هذه الإستدلالات نفسها من شأنها أن تبعد هذا الأمر عن أبي بكر بالذات ، فقد تقدم في هذا الكتاب : أنه ليس فقط لم يكن أصبح الناس وجها ، وإنما كان على النقيض من ذلك ..

كما أنه لم يعرف عنه بلاغة ولا فضل في قول ، ولا بسطة في لسان ، ولا غير ذلك .. بل عرف عنه خلاف ما ذكر .. بل كان بنو هاشم هم القمة والمتميزون في ذلك كله ، بالإضافة إلى العلم الغزير ، والفضل الكثير ، والتقوى والحلم ، والسياسة والتدبير ، والجهاد والتضحية في سبيل الله ، وغير ذلك من صفات تفيد في حفظ الدين وأهله.


بماذا استحق أبو بكر الخلافة؟! :

لقد استدل أبو بكر وعمر بن الخطاب على تقديم أبي بكر للخلافة بأمور يمكن تلخيصها في النقاط التالية :

١ ـ إنه أول من أسلم.

٢ ـ إنه صدّيق.

٣ ـ إنه صاحب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٤ ـ إنه صاحب الغار مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وثاني اثنين.

٥ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمره أن يصلي بالناس ..

٦ ـ وفي بعض النصوص : إنه أكبرهم سنا ..

فلو كان هناك نص على أبي بكر لبادرا إلى الإحتجاج به ، ولو كانت لأبي بكر أية فضيلة أخرى لم يتوانيا عن ذكرها ، والتأكيد عليها ، فقد كانوا أحوج الناس إلى ذلك في تلك الساعة ، ولا يفيد نسبة الفضائل والكرامات إليه في غير هذا الموقف ، إذ لا عطر بعد عروس ..

بل إن عدم ذكر شيء من ذلك في مناسبة السقيفة يثير ألف سؤال وسؤال حول صحة تلك الفضائل ، ويقوي احتمال كونها منحولة ومصنوعة في وقت متأخر ، حينما احتاجوا إليها في احتجاجاتهم ودفاعاتهم.

وحتى هذه الأمور الثلاثة التي استدلوا بها في السقيفة ، لا تفيد أبا بكر في شيء ، بل هي في غير صالحه ، لو أن العقول كانت هي الحكم والمرجع ، وهي التي تهيمن وتتصرف ..

ونستطيع أن نبين خطلها وفسادها على النحو التالي :


١ ـ كبر سن أبي بكر :

بالنسبة لاستدلالهم على أحقية أبي بكر بالخلافة : بأنه الأكبر سنا في أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

حتى لقد رووا : أنه هو وسهيل بن عمرو بن بيضاء كانا أسن الصحابة (١).

نقول :

١ ـ لو كان المعيار في استحقاق الخلافة هو كبر السن ، وصغره لكانت نبوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» باطلة ، لأن الكثيرين في طول البلاد وعرضها كانوا أكبر منه ، ومنهم أعمامه ، أبو طالب ، والعباس أكبر سنا ..

٢ ـ إن أبا قحاقة كان حين وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يزال حيا ، وهو أكبر سنا من ولده أبي بكر ، فهو إذن أولى منه بالخلافة.

كما أن العباس عم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان موجودا أيضا ، وهو أكبر سنا من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن أبي بكر ..

وهناك عشرات وربما مئات من الصحابة المهاجرين والأنصار وغيرهم كانوا أكبر سنا من أبي بكر ، وقد عدّ العلامة الأميني «رحمه‌الله» أربعين صحابيا كلهم كان أسن من أبي بكر ، وهم :

أماناة بن قيس ، أمد بن أبد الحضرمي ، أنس بن مدرك ، أوس بن

__________________

(١) الإستيعاب ج ١ ص ٥٧٦ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٧٠ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٦٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٤١٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٥ والمجموع للنووي ج ٥ ص ٢١٢ والإصابة ج ٢ ص ٨٥ وتاريخ الخلفاء ص ١٠٠ عن ابن سعد والبزار.


حارثة ، ثور بن كلدة ، الجعد بن قيس المرادي ، حسان بن ثابت ، حكيم بن حزام ، حمزة بن عبد المطلب ، حنيفة بن جبير ، حويطب بن عبد العزى ، حيدة بن معاوية ، خنابة بن كعب ، خويلد بن مرة ، ربيعة بن الحارث ، سعيد بن يربوع ، سلمة السلمي ، سلمان الفارسي ، أبو سفيان ، صرمة بن أنس ، صرمة بن مالك ، طارق بن المرقع ، الطفيل بن زيد ، عاصم بن عدي ، العباس بن عبد المطلب ، عبد الله بن الحارث ، عدي بن حاتم ، عدي بن وداع ، عمرو بن المسبح ، فضالة بن زيد ، قباث بن أشيم ، قردة بن نفاثة ، لبيد بن ربيعة ، اللجلاج الغطفاني ، المستوعز بن ربيعة ، معاوية بن ثور ، منقذ بن عمرو ، النابغة الجعدي ، نوفل بن الحارث ، نوفل بن معاوية. وأبو قحافة (١).

٣ ـ بماذا استحق عمر بن الخطاب التقديم على سائر الناس ، الذين كانوا أكبر منه سنا ، حتى أوصى إليه أبو بكر بالخلافة دونهم!!.

٤ ـ إن كبر السن لا يعطي للإنسان قدرات جسدية ولا فكرية ، ولا يجعله متحليا بفضائل الأخلاق ، وبالمزايا الحميدة ، ولا يعطيه أهلية لقيادة الأمة ، لأن ما يوجب ذلك هو العلم والتقوى ، والشجاعة والسياسة ، والتدبير والعقل الراجح و .. و .. ولم يذكر كبر السن في جملة صفات القائد والخليفة والحاكم.

ومجرد كبر السن لا يعني أن أبا بكر كان حائزا على شيء من ذلك.

٥ ـ ولو أغمضنا النظر عن جميع ذلك ، فإننا نقول :

إنهم يدّعون : أن أبا بكر كان مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سفره إلى

__________________

(١) الغدير ج ٧ ص ٢٨١ ـ ٢٨٥.


الشام ، حيث نزلوا على بحيرا الراهب ، الذي عرف أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو النبي الموعود ، وطلب من أبي طالب أن يعيده إلى مكة ، فأرسل معه أبو بكر بلالا (١).

وكان عمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تسع سنين كما قاله الطبري ، والسهيلي ، أو اثنا عشر سنة كما قاله آخرون (٢).

فالمفروض : أن يكون أبو بكر آنئذ في سن العشرين فما فوقها .. وهذا معناه : أنه أكبر من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بحوالي عقد من الزمن.

ويدل على ذلك : قولهم في حديث الهجرة : كان أبو بكر شيخا يعرف ، والنبي شاب لا يعرف. وكان يسألون أبا بكر : من هذا الغلام بين يديك؟!

وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم في الفقرة : «عاش أبو بكر وعمر ثلاثا

__________________

(١) الجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٥٥٠ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٦١٦ ودلائل النبوة لأبي نعيم ج ١ ص ٥٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٢٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٤ و ٨ ومختصر تاريخ دمشق ج ٢ ص ٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٧٨ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨٤ عن الخرائطي وغيره ، وعيون الأثر ج ١ ص ٦٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٨٧.

(٢) الروض الأنف ج ١ ص ٢٢١ وإمتاع الأسماع ج ٨ ص ١٨٢ وعيون الأثر ج ١ ص ٦٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٢١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٧٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٩ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨٥ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٢ ص ٢٨٩ وج ٦ ص ٣١١ وشرح المواهب اللدنية ج ١ ص ١٩٦ والبحار ج ١٥ ص ٣٦٩ وعيون الأثر ج ١ ص ٦١ وأسد الغابة ج ١ ص ١٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٧ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ١ ص ٣٤.


وستين» فراجع.

ويؤيد ذلك أيضا : روايتهم عن يزيد الأصم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لأبي بكر : «أنا أكبر أو أنت»؟!

قال : لا ، بل أنت أكبر مني وأكرم ، وخير مني ، وأنا أسن منك» (١). فكيف يدّعون : أن أبا بكر عاش ثلاثا وستين سنة فقط؟! (٢).

وإذا كان أبو بكر أكبر من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سنا ، وكان كبر السن يوجب التقدم في المقامات والمناصب الإلهية ، فالمفروض أن يكون أبو بكر هو النبي.

مع الإشارة إلى أن ما يشبه هذه الرواية ينقل عن العباس مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا (٣).

__________________

(١) الرياض النضرة ج ١ ص ١٦٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٥ وتاريخ الخلفاء ص ٩٩ وعن تاريخ خليفة بن خياط ، وأحمد ، وابن عساكر ، والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٢ ص ٢٢٦ والغدير ج ٧ ص ٢٧٠. وراجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.

(٢) راجع : المعارف لابن قتيبة ص ١٧٢ والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٥٦٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢١٦ وج ٢ ص ١٥٥ والإستيعاب ج ١ ص ٣٣٥ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٢٠٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٧٥ وأسد الغابة ج ٣ ص ٢٢٣ وعيون الأثر ج ١ ص ٦٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦٧ والإصابة ج ٢ ص ٣٤١ و ٣٤٤ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٦٠ ومرآة الجنان ج ١ ص ٥٦ و ٦٩.

(٣) راجع : تهذيب الكمال للمزي ج ١٤ ص ٢٢٧ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٩٧ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٢٨٢.


٢ ـ ثاني اثنين إذ هما في الغار :

وأما بالنسبة لكون أبي بكر ثاني اثنين إذ هما في الغار ، فنقول :

١ ـ قد تقدم : أن هذا ليس من فضائل أبي بكر ، لأن الآية قد جاءت في سياق الذم والإدانة ، فراجع ما ذكرناه حين الحديث عن الهجرة.

٢ ـ إن كون أبي بكر ثاني اثنين في الغار لا يدل على أن أبا بكر كان متميزا في علم أو تقوى ، أو شجاعة ، أو تدبير وسياسة ، أو عقل ، أو ما إلى ذلك مما لا بد منه في الخليفة ..

٣ ـ أول من أسلم :

وأما كون أبو بكر أول من أسلم ، فلا يصح أيضا ، فراجع ما ذكرنا حول ذلك في أوائل هذا الكتاب ..

كما أن ذلك لا يدل على جامعيته لصفات الحاكم والخليفة.

٤ ـ صلاة أبي بكر بالناس :

وأما الإستدلال بصلاة أبي بكر على الخلافة ، فقد ذكرنا : أن صلاته مشكوكة الوقوع ، ولو ثبت أنه صلى ، فالصلاة أيضا لا تدل على فضيلة لأبي بكر ، خصوصا وكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عزله عنها.

وحتى لو لم يعزله ، وكان هو الذي نصبه للصلاة ، فذلك لا يدل على استحقاقه للإمامة والخلافة ، ولا على حيازته لشرائطها.

والذي يبدو لنا هو : أن عمر بن الخطاب حين أشار إلى هذه الصلاة كان مطمئنا إلى أن أكثر الناس كانوا لا يعرفون أن أبا بكر قد تصدى


للصلاة من دون علم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عزله عنها ، لأن العزل جاء بنحو عملي ، ومن دون تصريح قولي بالعزل ..

وقد أشاع أنصار أبي بكر بين الناس : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقصد العزل ، بل هو قد وجد من نفسه خفة ، فأحب أن لا يفوته ثواب الصلاة جماعة.

٥ ـ صاحب رسول الله وصديق :

وأما أن أبا بكر صاحب رسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهو لا يفيد أيضا ، إذ ما أكثر الصحابة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وليست الصحبة من المؤهلات للخلافة.

وأما صديقيته ، فقد تقدم : أن الصديق هو علي «عليه‌السلام» دون سواه ، فراجع.

لا يخالفنا أحد إلا قتلناه :

وحين صرح الأنصار بأنهم خائفون مشفقون من تولي المهاجرين ، ويريدون ضمانات لكي لا يتعرضوا لسوء ، ولو بأن يكون منهم أمير ، حتى يشفق القرشي من أنه لو زاغ أن ينقض عليه الأنصاري ، فاستغل عمر نقطة الضعف هذه ، وتقدم إلى الأمام في خطوة حاسمة ، فاستنصر بالعرب قائلا : «لن ترضى العرب إلا به ، ولن تعرف العرب الإمارة إلا له ، ولن يصلح إلا عليه».

ثم أطلق قراره الحاسم والجازم الذي أكده بالقسم ، فقال : «والله لا


يخالفنا أحد إلا قتلناه».

فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى كادت الحرب تقع ، وأوعد بعضهم بعضا ، وبايع أبا بكر عمر وأبو عبيدة ، وبشير بن سعد ، وأسيد بن حضير .. ولعل عويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي ، اللذين جاءا بأبي بكر وعمر إلى السقيفة قد بايعا أيضا.

ولم يسمّ أحد لنا غير هؤلاء ، سوى خالد بن الوليد ، وسالم مولى أبي حذيفة ، مع الشك في حضورهما في السقيفة ، فلعلهما لحقا بعض ما جرى.

وإذا كان الإختلاف قد نما حتى كادت الحرب أن تقع ، ومع توعد بعضهم بعضا ، ومع هذا التهديد والوعيد من عمر كيف يقال : إن البيعة لأبي بكر كانت عن رضى ، وإجماع؟!!

ويبدو أن أبا بكر وحزبه الذين ذكرنا أسماءهم ، تركوا الأنصار في سقيفتهم يتلاومون ، ويتجادلون ، ويتهم بعضهم بعضا ، وخرجوا إلى المسجد ، ليفاجئوا عليا «عليه‌السلام» بالأمر الواقع ، وليتدبروا الأمر قبل أن يصل الخبر إلى مسامع علي «عليه‌السلام» وبني هاشم ، فيقع ما لم يكن بالحسبان ..

رواية مكذوبة :

وبعد .. فقد روي عن حميد بن عبد الرحمن : أن أبا بكر قال لسعد بن عبادة : لقد علمت يا سعد أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال وأنت قاعد : «قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم».


قال : صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء (١).

ونقول :

إننا لا نشك في كذب هذه الرواية ، وذلك لما يلي :

أولا : إن الذي قال : «نحن الأمراء ، وأنتم الوزراء». هو أبو بكر نفسه ، وليس سعد بن عبادة ، وقد تقدم ذلك في خطبة أبي بكر.

ثانيا : إن سعدا لم يبايع أبا بكر إلى أن قتله خالد بن الوليد غيلة في حوران من بلاد الشام. ثم زعموا أن الجن قتلته!!

ثالثا : إن ذلك يتلاءم مع قول عمر : «اقتلوا سعدا قتل الله سعدا ، فإنه صاحب فتنة ..».

رابعا : إنه لا معنى لأن يقول في الحديث المنسوب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فاجرهم تبع لفاجرهم» وذلك لما يلي :

ألف : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يمكن أن يؤيد ولاية الفاجر ، ولا أن يطلب من الفاجر الآخر الإنقياد له ..

ب : لا يمكن أن يجعل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حاكمين للناس بأن يقول : قريش وولاة هذا الأمر الخ .. بل هو يجعل لهم حاكما واحدا .. فالصحيح هو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «الناس تبع لقريش : برهم تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٣ عن أحمد ، ومجمع الزوائد ج ٥ ص ١٩١ ومسند أحمد ج ١ ص ٥ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٣٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٧٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٩١ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٢.


وهذا لا ربط له بأمر الولاية ، بل هو يقرر : أن قريشا محط أنظار الناس ، وأنهم يقتدون بها ، ويقلدونها فيما تقول وتفعل .. فما على قريش إلا أن تلتزم جادة الحق والصواب ، وتكف عن السير في طريق الغي والإنحراف ..

حضور علي عليه‌السلام في السقيفة :

وعلي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وإن لم يحضر اجتماع السقيفة ، بل هم قد عقدوا اجتماعهم من دون أن يعلموه ، خوفا من أية كلمة يقولها ، أو موقف يتخذه ..

ولكنه كان حاضرا بشخصيته المعنوية ، وبهيبته الإلهية ، ولم يغب عن ذهن الفرقاء في ذلك الإجتماع ، فكانوا بين مؤمل به ، وخائف وجل من عاقبة إقصائه عن أمر هو له .. وقد تمثل حضوره «عليه‌السلام» هذا في اتجاهين :

أحدهما : يسعى إلى إقصائه عن دائرة الإحتمال ، ولو بإطلاق الشائعات والنقل الكاذب عنه ، فقالوا للناس : إن عليا «عليه‌السلام» قد عزف عن طلب هذا الأمر ، فلا معنى للتفكير فيه ، ولا موجب لتعلّق الآمال به ..

الثاني : إن هذه الشائعات لم تفلح في اقتلاعه من نفوس الناس ، بل بقوا يفكرون فيه ، ويعتبرونه الملاذ ، والمنقذ ، والأمل التي تسكن إليه نفوسهم.

وقد أشار إلى الإتجاه الأول ، ما ورد من أنه بعد أن اتجهت الأمور نحو ترجيح كفة أبي بكر ، قال بعض الأنصار : «إن فيكم لرجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد». يعني عليا «عليه‌السلام» (١).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢٠ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٢٣ وعن والموفقيات للزبير بن بكار ص ٥٧٩.


فقد دلت هذه الكلمة على أن ثمة من قال لهم : إن عليا «عليه‌السلام» لا يطلب هذا الأمر ، ولا يريده ..

وكأنهم يريدون أن يقولوا لهم : إننا إنما تصدينا لهذا الأمر ، لأن صاحبه الشرعي الذي بايعناه نحن وأنتم في يوم الغدير ، قد تخلى عن مسؤولياته فيه ، فلكي لا تضيع الأمة ، ولا يقع الخلاف بادرنا إلى طلب هذا الأمر ، لحفظ الدين ، ومنع الفتنة ..

وقد كان الأنصار لا يملكون التجربة السياسية الكافية ، بل يرى البعض : أنهم كانوا على درجة من البساطة ، وسلامة النية ، وحسن الطوية ، وهم إنما يفهمون النصوص الدينية ، بسطحية وسذاجة ، فلم يدركوا أنه لا يحق لعلي «عليه‌السلام» أن يتخلى عن هذا الأمر ، فإنه إذا قضى الله ورسوله أمرا ما كان له ولا لغيره الخيرة من أمرهم .. فكيف إذا كان التخلي عن هذا الأمر من شأنه أن يثير الفتن ، وأن يضعف الدين وأهله ، ويصبح أسيرا بأيدي المبطلين والظالمين ، والجهلة والحاقدين ، وطلاب اللبانات ، وأهل الأهواء والمفسدين؟!!

ومما أشار إلى الإتجاه الثاني ما ورد من : أنه بعد أن ضاعت الفرصة من يد الأنصار هتف فريق منهم : لا نبايع إلا عليا (١). فذلك يدل على أنهم يرون أن تصدّيهم لأمر الخلافة كان من غير حق ـ وأنه من التجني على علي «عليه

__________________

(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٣ والبحار ج ٢٨ ص ٣١١ و ٣٣٨ والغدير ج ٧ ص ٧٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٥ وشرح نهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٢ والإكمال في أسماء الرجال ص ٨٢.


السلام» ، بما تضمنه من إفساح في المجال لتضييع حقه.

لكنهم كانوا على يقين من أن هذا الظلم لا يدفع عليا «عليه‌السلام» إلى التخلي عن واجبه الديني والأخلاقي تجاههم ، أو إلى معاملتهم بالمثل ، بل هو الإنسان الصفوح العدل ، الحكيم الحليم ، الذي لا يحيد عن الحق قيد شعرة .. أما منافسوه ، ومناوؤوه ، فكانوا يثيرون الخوف في نفوسهم ، ويتوقعون منهم كل بلية ورزية ..

لكن هيهات ، فقد فات الأوان ، وضاعت الفرصة ، وقديما قيل : «في الصيف ضيعت اللبن».

الإفتئات على أمير المؤمنين عليه‌السلام :

وروى ابن عقبة ـ بأسناد جيد ـ عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : أن رجالا من المهاجرين غضبوا في بيعة أبي بكر ، منهم علي والزبير ، فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومعهما السلاح ، فجاءهما عمر بن الخطاب في عصابة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان ، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ، فكلموهما حتى أخذ أحدهم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره.

ثم قام أبو بكر فخطب الناس ، واعتذر إليهم ، وقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة ، ولا سألتها الله تعالى قط سرا ولا علانية. ولكني أشفقت من الفتنة وما لي في الإمارة من راحة ، ولكني قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ، ولا يدان إلا بتقوية الله تعالى ، ولوددت أن


أقوى الناس عليها مكاني اليوم.

فقبل المهاجرون منه ما قاله ، وما اعتذر به ، وقال علي والزبير : ما غضبنا إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإنه لصاحب الغار ، وثاني اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه ، ولقد أمره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالصلاة بالناس وهو حي (١).

ونقول :

١ ـ إن هذا النص يصوّر عليا «عليه‌السلام» ، وكأنه قد تمرد على الشرعية وأعلن العصيان المسلح ، ويظهر أبا بكر على أنه ذلك الرجل المظلوم ، الزاهد بالمناصب ، غير الحريص على الإمارة ، الذي أراد درء الفتنة .. وأنه يود لو يجد من هو أقوى منه ليتخلى له عن ذلك المقام ، ثم يعود ليظهر تفاهة تفكير علي والزبير ، وأنهما إنما غضبا لأنفسهما ، لأنهما أخرا عن المشورة ، ولم يغضبا لله سبحانه وتعالى.

ثم يقدم عليا «عليه‌السلام» ، وهو يعترف بأحقية أبي بكر ، ويقدم الأدلة عن ذلك ..

٢ ـ لكن هؤلاء المفتئتين على الحق والحقيقة ، لم يذكروا : أن عليا «عليه‌السلام» لم يحضر السقيفة ، بل كان في بيته الذي يفتح بابه إلى المسجد ، حيث دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيه لتوه ، ولم يحضر أهل السقيفة جنازته ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٧. وراجع الرياض النضرة ج ١ ص ٢٤١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٦٩ وراجع : المسترشد للطبري ص ٣٧٩ و ٣٧٨ وإثبات الهداة ج ٢ ص ٣٨٣.


ولا دفنه ، بل رجع أهل السقيفة إلى المسجد ، وطرقوا الباب على علي «عليه‌السلام» ، بعد فراغه من دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكانت زوجته فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» وراء الباب عند القبر ، وكأنها تودع أباها بدموعها وبكلماتها الأخيرة ، فسألت : من الطارق؟! وإذ بهم يقتحمون عليها الباب بعنف ، فعصروها بين الباب والحائط ، فصرخت ، وأسقطت جنينها ..

فسمع علي «عليه‌السلام» صوتها ، فبادر المهاجمين ، فهربوا ، وخلوها ، وكل ذلك قد جصل في ثوان معدودة. وانصرف علي «عليه‌السلام» لإسهاف سيدة النساء ، وبقي معها إلى الصباح ، وهم مكتنفون باب داره ، وجاء أبو بكر في الصباح إلى المسجد ، وجلس على المنبر ، وصار الناس يبايعونه.

ولعل الزبير تسلل في هذه الفترة إلى داخل بيت علي «عليه‌السلام» ..

وجاء عمر ، وخالد ، وأسيد بن حضير ، ومعاذ بن جبل ، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ، وسلامة بن وقش ، وقنفذ ، والمغيرة في عصابة آخرين إلى بيت الزهراء وعلي «عليهما‌السلام». وجاؤوا بالحطب ، وأضرموا النار بباب فاطمة «عليه‌السلام».

ولعل الزبير خرج إليهم في تلك اللحظة ، فأخذوا سيفه فضربوا به الحجر فكسروه. ثم اقتحموا البيت على علي «عليه‌السلام» ، وحاولت «عليها‌السلام» أن تدفعهم مرة أخرى ، فضربوها ، ودخلوا وأخرجوه ملببا ، لكي يبايع ، فخرجت خلفه ، فضربوها أيضا ، وأرجعها سلمان إلى البيت بأمر من علي «عليه‌السلام». ثم ترك علي «عليه‌السلام» .. فعاد إلى البيت.


وبعد ثمانية أيام أخذت منها فدك ، وتعرضت للضرب مرة أخرى أيضا ..

وكانت قد دخلت إلى المدينة ليلة الثلاثاء بعد دفن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مباشرة ، وهي بلد صغير الحجم ، قليل عدد السكان ـ دخلت إليها عدة ألوف من المقاتلين ، من قبائل النفاق التي كانت حول المدينة ، ولا سيما قبيلة أسلم ، فقوي بهم جانب أبي بكر ، وأيقن عمر بالنصر ، واختبأ المؤمنون في بيوتهم ، وهم قلة قليلة جدا ، وصار عمر وجماعة معه يدورون على البيوت ، والناس يدلونهم عليهم ، فيقولون لهم : في هذا البيت يوجد اثنان. وفي ذاك يوجد ثلاثة ، أو واحد أو أكثر ، فيقتحمون عليهم البيوت ، ويخرجونهم بالقوة ، ويسحبونهم إلى المسجد للبيعة ..

ولم يكن مع علي «عليه‌السلام» في بيته من يصول به على المهاجمين ، أو من ينتصر به. ولو أنه أبدى أدنى مقاومة لهم ، لم يبق مؤمن في المدينة على قيد الحياة ، لأن السكك كانت مشحونة بالمقاتلين ، ولا يستطيع أحد أن يظهر رأسه منها ، فضلا عن أن يتمكن من الإلتحاق بعلي «عليه‌السلام» لنصرته ، أو ليقاتل معه .. ولو أن تلك الثلة القليلة من المؤمنين قتلت فعلى من سيتأمر علي «عليه‌السلام»؟!

٣ ـ قال أبو بكر : إنه أشفق من الفتنة ، مع أن الحقيقة هي : أنه لو ترك هذا الأمر ، لكي يعمل فيه وفق توجيهات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لم يبق مكان للفتنة.

ولو أنهم لم يتهموا رسول الله بالهجر ، ولو أطاعوه في الخروج في جيش أسامة ، ولو تركوه يكتب لهم الكتاب الذي لن يضلوا بعده ، ولو أنهم تركوه ينصب لهم أمير المؤمنين «عليه‌السلام» يوم عرفة .. ولو لم يستأثر أبو بكر


بالأمر لنفسه ، فلما ذا تضرب الزهراء «عليها‌السلام» ، ويسقط جنينها ، وهي التي يغضب الله لغضبها؟!

وقد قالت الزهراء «عليها‌السلام» ردا على هذه المقالة : «أزعمتم خوف الفتنة؟! ألا في الفتنة سقطوا» (١).

٤ ـ إن أبا بكر يقول : إنه كان يودّ أن يكون من هو أقوى منه على حمل مسؤولية الأمارة مكانه.

والسؤال هو : من أين علم أبو بكر أنه هو الأقوى من سائر الصحابة على حمل هذه المسؤولية؟! ولما ذا لا يكون الأقوى هو الذي نصبه الله ورسوله لها ، وهو الجامع للصفات المطلوبة فيها دون سواه ، وهو علي «عليه‌السلام» ، فإنه هو الأعلم ، والأتقى ، والأشجع والأقوى ، والأزهد الخ ..

٥ ـ وأما الإستدلال على أحقية أبي بكر بالخلافة بما زعموه من أنه صلى بالناس في مرض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبأنه صاحب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الغار فهو مكذوب بلا ريب ، وقد ذكرنا ذلك أكثر من مرة فلا نعيد.

التدليس غير المقبول :

قال ابن إسحاق : ولما قبض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، واعتزل علي بن

__________________

(١) راجع : دلائل الإمامة ص ١١٦ والإحتجاج ج ١ ص ١٣٧ والطرائف لابن طاووس ص ٢٦٥ والبحار ج ٢٩ ص ٢٢٥ و ٢٣٨ و ٢٧٥ ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٤١٧ والسقيفة وفدك للجوهري ص ١٤٣.


أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل.

فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال : إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، وقد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم. ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بيته لم يفرغ من أمره ، قد أغلق دونه الباب أهله.

قال عمر : فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء حتى ننظر ما هم عليه (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١١ وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٢٩ وابن كثير في البداية ج ٥ ص ٢٥٢ وانظر ترجمة حماد في الميزان ج ١ ص ٥٩٨ والبخاري في التاريخ ج ٣ ص ٢٨ والضعفاء للعقيلي ج ١ ص ٣٠٨ والمجروحون لابن حبان ج ١ ص ٢٥٢ وأنساب الأشراف للبلاذري (ط دار المعارف) ج ١ ص ٥٨٣ و (ط دار الفكر) ج ٢ ص ٢٦٤ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧١ وراجع : صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٧ ومسند أحمد ج ١ ص ٥٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٤٢ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٦ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٨٢ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٤ وشرح نهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٨٨ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٤٤٢ وعمدة القاري ج ٢٤ ص ٧ والصوارم المهرقة ص ٥٦ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٣٠٢ و ٣٠٨.


ونقول :

لقد صوّر النص المتقدم لنا مشهدا لا حقيقة له ، فإن عليا «عليه‌السلام» وطلحة والزبير لم يعتزلوا أهل السقيفة في بيت فاطمة «عليها‌السلام» ، بل كان علي «عليه‌السلام» في داخل الدار مشغولا بتغسيل وتجهيز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولعل بعض أهله مثل العباس ، والفضل ، وغيرهما ، كانوا بالقرب منه «عليه‌السلام» ، يلبون طلباته ، ويقضون له بعض حاجاته.

أما الذين كانوا في السقيفة فهم طائفة من زعماء الأوس والخزرج ، ولحق بهم أربعة ، أو ربما خمسة أشخاص من المهاجرين. فعقد هؤلاء البيعة لأحدهم بعد أخذ ورد.

أما الباقون من سائر الناس فكانوا إما في بيوتهم ، أو في المسجد ، أو بالقرب منه ، بما فيهم طلحة والزبير وسواهما ، وكان أكثرهم يعيش لحظات الحزن والأسى ، والترقب ، والوجل ، والإنتظار ، فما معنى : أن يدّعي ابن إسحاق اعتزال علي «عليه‌السلام» والزبير في بيت فاطمة «عليها‌السلام»؟!

بل إن كلامه هذا يوحي بأن عليا «عليه‌السلام» لم يكن عند النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتولى غسله وتجهيزه .. بل كان هناك أناس آخرون ، سماهم ابن إسحاق أهله ، وقد أغلقوا الباب دونه ..

وهذا تدليس ظاهر ، وافتئات على الحقيقة والتاريخ ، لا مجال لإغماض النظر عنه.

أبو بكر يختار أحد الرجلين :

وبالنسبة لقول أبي بكر لأهل السقيفة : إنه يختار لهم أحد الرجلين : عمر


وأبا عبيدة للخلافة ..

نسجل هنا ما يلي :

ألف : عدم وجود نص يدل على حصر الخلافة بأحد ممن ذكرهم ..

ب : من الذي وكل أبا بكر ليختار له هذا أو ذاك ، ليكون واليا أو خليفة عليه؟!

وإذا كان أهل السقيفة قد وكلوه ، فهل وكله غيرهم من الصحابة ، ومن غيرهم؟!

ج : هل كان أبو بكر يعتقد بأفضلية عمر وأبي عبيدة عليه ، ولذلك اختار للناس أحدهم؟! أو أنه كان يرى رأي معتزلة بغداد. وهو جواز تولية المفضول مع وجود الفاضل؟!

وقد يؤيد الإحتمال الأول بقوله : «وليت عليكم ولست بخيركم».

إلا أن يقال : إنه قال ذلك على سبيل هضم النفس والتواضع ، أو لأنه كان يراهما مساويين له .. أو لأنه كان لا يستطيع أن يفضل نفسه على كثير من الصحابة من أمثال علي «عليه‌السلام» ، وكثيرين آخرين.



الفصل الثالث :

الأنصار ضحية حنكة أبي بكر



ما تنعقد به الإمامة :

قال عضد الدين الإيجي حول ما تنعقد به الإمامة : الواحد والإثنان من أهل الحل والعقد كاف ؛ لعلمنا بأن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك ، كعقد عمر لأبي بكر ، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ، ولم يشترطوا اجتماع من في المدينة ، فضلا عن اجتماع الأمة (١).

وينقل الماوردي عن طائفة من العلماء : أن أقل ما تنعقد به الإمامة هو خمسة ، استنادا إلى أمرين :

أحدهما : أن بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة ، اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس ، وهم : عمر ، وأبو عبيدة ، وأسيد بن حضير ، وبشير بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.

الثاني : أن عمر جعل الشورى في ستة ، وهذا قول أكثر فقهاء المتكلمين

__________________

(١) المواقف الإيجي ج ٣ ص ٥٩٠ و ٥٩٤ وكتاب الإرشاد للجويني ص ٣٥٧ والجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ١٨٦. وراجع : كتاب الأربعين للشيرازي ص ٣٩١ وشرح المواقف للقاضي الجرجانى ج ٨ ص ٣٥٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢ ص ٣٣٩ والبحار ج ٢٨ ص ٣٦٣ والغدير ج ٧ ص ١٤١.


من أهل البصرة (١).

فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هؤلاء الخمسة قد بايعوا أبا بكر ، ثم خرجوا به ، وتركوا الأنصار في خصام وتنازع حتى جاءتهم بنو أسلم ومن معها وأجبروهم على البيعة.

لو لا الأنصار :

والحقيقة هي : أن هذا التكفير وهذه المبادرة من قبل الأنصار ـ أعني الخزرج منهم ، وسعد بن عبادة بالذات ـ هو الخطيئة الكبرى ، والخطأ القاتل الذي أسهم في تمكين الفريق الآخر من تحقيق ما كان يصبو إليه ، وهيأ له الفرصة ، وأعطاه المبرر العملي للمبادرة إلى الإمساك بالسلطة بصورة فعلية ، في اللحظة الحرجة ، حيث كان علي «عليه‌السلام» وبنو هاشم مشغولين بتجهيز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وكان سائر الناس في غفلة عما يراد بهم ، وفي شغل عن تفاصيل ما يحاك ، ويدبر في الخفاء ، ليستعلنوا به بعد نضوجه ، وفي الوقت المناسب.

ولو أن الأنصار تركوا سقيفتهم ، وعملوا بواجبهم الديني ، وانتصروا

__________________

(١) الأحكام السلطانية ج ٢ ص ٦ و ٧. وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٩ ص ٤٩ وتفسير الآلوسي ج ٢٨ ص ٢٤ والجمل للمفيد ص ٩٢ وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩ وصول الأخيار إلى أصول الأخبار لوالد البهائي العاملي ص ٧٤ وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٤٧٢ والإرشاد للمفيد ج ٢ ص ٢٥٩ ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني ص ٣٧٥ ومستدرك الوسائل ج ١٣ ص ١٤١ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٣٩٦ وروضة الواعظين ص ٢٢٥.


للحق ، وأصروا على الإلتزام بتوجيهات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكانوا إلى جانب علي «عليه‌السلام» وبني هاشم ، وسائر أهل الإيمان لم يمكن لمناوئي علي «عليه‌السلام» أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه بهذه السهولة ..

ولكن حب بعض الأنصار للرياسة ، وانقياد الآخرين له بلا روية ، ووقوعهم تحت وطأة الوساوس والأوهام ، وضعف شخصيتهم ، وفيال رأيهم ، وسوء تدبيرهم قد أوقع الإسلام وأهله في مأزق ، لم يكن وقوعه فيه حتميا ولا ضروريا ..

نقاط ضعف في موقف الخزرج :

وقد كان الأنصار فريقين هما : الأوس والخزرج ، وكانت بينهما حروب قبل أن يدخلوا في الإسلام ، ولا زال بينهما تنافس وتحاسد ، يخفى تارة ، ويظهر أخرى ، كما أن هذا التحاسد والتنافس كان قائما بين شخصيات الخزرج أنفسهم ، وكذلك الحال بالنسبة لشخصيات الأوس أيضا ، وكان أول ضعف واجهه سعد فيما أقدم عليه هو موقف الأوس أنفسهم منه ، فإنهم بادروا إلى بيعة أبي بكر ، كرها وحسدا له ، «فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم» (١).

ولو أن البيعة تمت لسعد بن عبادة قبل أن يداهمهم أبو بكر ومن معه ، لأصبح الأمر أكثر صعوبة على أبي بكر وسائر المهاجرين ، ولكن تباطؤ الخزرج في الإستجابة لسعد حتى دهمهم هؤلاء النفر قد أدخل عنصرا

__________________

(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٣١.


جديدا زاد في تعقيد الأمور على سعد.

ثم إن وجود بعض الحاسدين لسعد داخل الخزرج أنفسهم قد زارد من ضعف موقفه.

ويكفي أن نذكر : أن مسارعة بشير بن سعد الخزرجي لبيعة أبي بكر ، سعيا منه في نقض أمر ابن قبيلته سعد ابن عبادة قد قلب الأمور رأسا على عقب ، حيث لم يعد ثمة من حرج على الأوس إذا مالوا إلى أبي بكر ، وخذلوا سعدا ، فإن الخذلان قد جاء أولا من قبل الخزرجيين أنفسهم.

وقال بعضهم لبعض : لئن وليتموها سعدا عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر (١).

يضاف إلى ذلك : أن أسيد بن حضير ، وهو من سادات الأوس ، وكان أبوه حضير الكتائب قائد الأوس ضد الخزرج في حرب بعاث التي كانت فيما يقال قبل الهجرة بست سنين ، إن أسيد بن حضير هذا كان يمت إلى أبي بكر بصلة القرابة ، فقد كان ابن خالته يرى في خلافته حظا له. وقد كان أبو بكر يكرمه ، ولا يقدم أحدا من الأنصار عليه (٢) ، وكان له في بيعة أبي بكر أثر عظيم (٣).

__________________

(١) راجع : الإمامة والسياسة لابن قتيبة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ١٦ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٢٦ والبحار ج ٢٨ ص ٣٥٤.

(٢) راجع : أسد الغابة ج ١ ص ٩٢ والإصابة ج ١ ص ٤٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٢٩٢.

(٣) راجع : أسد الغابة ج ١ ص ٩٢ والغدير ج ١١ ص ١٠٨.


الجرأة والمفاجأة :

وإنها لجرأة ظاهرة وكبيرة أن يأتي ثلاثة رجال ، هم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة ، ليفاجئوا جماعة في عقر دارهم ، كانوا يعقدون اجتماعا سريا ، يريدون به إبطال سعي نفس هؤلاء الثلاثة ، وأن ينتزعوا من أيديهم نفس الأمر الذي يكافحون من أجل الحصول عليه.

ولا بد أن يكون وقع هذه المفاجأة كبيرا ، ويجعلهم في موقع الضعف ، والتبرير ، وأن تتغير لغتهم ولهجتهم ، وأن يشعروا بالحرج الشديد ، والخذلان ، والخوف من فوات الفرصة ، والإنتقال من حالة الهجوم إلى الدفاع ، فقد أصبح هناك من يشاركهم في القرار ، ويقوي أمر الحاسدين والمناوئين على الإعتراض والرفض.

ثلاثة أشخاص يبتزونهم :

ثم إن الذين وردوا على الأنصار في سقيفتهم كانوا ثلاثة أشخاص من المهاجرين ، وهم :

١ ـ أبو بكر بن أبي قحافة.

٢ ـ عمر بن الخطاب.

٣ ـ أبو عبيدة.

وأضاف بعضهم : سالما مولى أبي حذيفة ، وربما أضيف خالد بن الوليد أيضا ، ولعلهما جاءا متأخرين عن أولئك.

واللافت هنا : أن ثلاثة أشخاص يقتحمون على الأنصار في عقر دارهم ، ويبتزونهم ما كانوا يرون أنه في أيديهم ، وهذا إن دل على شيء ،


فيدل على ضعف الأنصار ، وسطحية تفكيرهم ، وقلة تجربتهم ، وضآلة شخصيتهم بصورة عامة ..

نعم ، لقد دخلوا عليهم ، وأعلنوا خلافة أبي بكر ، ثم بايع عمر وأبو عبيدة ، وبشير بن سعد ، وأسيد بن حضير أبا بكر ، وأضاف البعض : سالم بن أبي حذيفة ، وعويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي. ثم خرجوا من بينهم ، وتركوهم يتلاومون ، أو يتشاتمون ، وأقبلوا بأبي بكر يزفونه إلى المسجد كما تزف العروس (١).

ولم يكلفهم تحقيق هذا الإنجاز سوى بضع كلمات تفوه بها أبو بكر وحده ، هي لا تتجاوز بضعة أسطر ، كان لها كل هذا الأثر السحري ، فقد قال :

«إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس ، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج ، وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى ، وجراح لا تداوى.

فإن نعق منكم ناعق جلس بين لحيي أسد ، يضغمه المهاجري ، ويجرحه الأنصاري.

وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلكم في الدين ، ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصارا لدينه ولرسوله ، وجعل إليكم هجرته ، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه ، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا

__________________

(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٩ عن الموفقيات ص ٥٧٨ والرياض النضرة ج ١ ص ١٦٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ١٨٨.


بمنزلتكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء» (١).

توضيح خطبة أبي بكر :

وهذه الكلمات كانت هي الرشوة الشكلية التي قدموها للأنصار ، حين ذكروا سابقتهم وفضلهم ، واعتبروهم أول من آمن ونصر ، وجعلهم الله موضع هجرة نبيهم ، وفيهم جلة أزواجه واصحابه ، فأرضوا بذلك غرور الأنصار واستمالوهم به.

ولكنهم فضلوا المهاجرين عليهم ، فهم في الدرجة التي تلي درجة المهاجرين.

ثم تحاشوا أي تعبير يدل على استبعادهم ، بل هم أزاحوهم عن موقعهم بطريقة تفيد أن لهم نصيبا في هذا الأمر ، حيث أعطوا الأمارة للمهاجرين والوزارة للأنصار.

وأوقعوا بين الأنصار الخلاف ، وأسالوا لعاب الكثيرين منهم ، وأذكوا طموحهم للتوثب على هذا الأمر ، ومنافسة سعد بن عبادة فيما يرشح نفسه له.

وحركوا عصبياتهم القبلية (التي وصفها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالنتنة).

وذكروهم بما كان بينهم في الجاهلية من حروب وترات ، وجراح وآلام ، وأذكوا نيران الحقد والإحن في قلوبهم ، وادّعوا لهم : أنها لا تنسى ، ولا تداوى ، مع أن الإسلام قد أخمدها ، وكان البلسم الشافي لها ، لو التزموا

__________________

(١) راجع : البيان والتبيين ج ٣ ص ١٨١ وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٧ والبحار ج ٢٨ ص ٣٣٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٩.


بأحكامه وتعاليمه.

ثم هددوهم ..

وأهانوهم ، وأهانوا سيدهم ، الذي يرشح نفسه لهذا الأمر ، واعتبروه ناعقا ، بل اعتبروا كل من يطلب منهم هذا الأمر ناعقا أيضا ..

وتحاشوا أن يفضلوا المهاجرين بصورة مطلقة على الأنصار ، لأن ذلك لن يكون مقبولا ، مع وجود كثير من المهاجرين ممن لا يحسن ذكر أفاعيلهم ، لأنها ستكون مخجلة ومضرة ، فاكتفوا بالإشارة إلى تقدم خصوص المهاجرين الأولين على من عداهم.

وجعلوا أنفسهم حكاما في هذا الأمر ، فهم الذين يقررون لأنفسهم ولغيرهم ..

وأثبتوا لأنفسهم الأحقية في هذا الأمر .. فإنهم هم أولياء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعشيرته .. وأسقطوا حجة الأنصار فيه ، وجعلوهم مبطلين.

وأعادوا الحكم إلى شريعة الجاهلية ، واستبعدوا حكم الإسلام فيه.

وأخرجوا موقف الأنصار عن دائرة التدبير الحكيم.

وجعلوه من أعمال الفتنة ، بهدف إثارة الخوف والشك لدى كل من يريد أن يشاركهم في مشروعهم ، فربما يكون عمله إسهاما في مشروع الفتنة.

وأدخلوا بذلك اليأس إلى قلوب الأنصار من أن يخضع لهم الناس ، فإن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ..

وكان أبو بكر يسوق ذلك كله ، وكأنه من الأمور البديهية والمسلمة.

ثم جاء عمر بن الخطاب ليؤكد ذلك التهديد والوعيد ، وسائر المضامين التي سجلها أبو بكر ، فقال مجيبا على مقولة : منا أمير ومنكم أمير.


«لا يجتمع اثنان في قرن ، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ، وولي أمورهم منهم.

ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة ، والسلطان المبين.

من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل ، أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة» (١).

وبعد أن أظهر بشير بن سعد اقتناعه بحجة أبي بكر وعمر ، وتسليمه بأن لا نصيب للأنصار في الحكم والحاكمية ، بادر أبو بكر إلى إظهار زهده في هذا الأمر ، والتحدث بطريقة توحي أنه ينأى بنفسه عن هذا المقام ، وأنه إنما كان يتكلم لمجرد إحقاق الحق ، فقال مشيرا إلى عمر ، وإلى أبي عبيدة : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فأيهما شئتم فبايعوا.

لقد قال هذا مع علمه بأن هذين الرجلين سيردان الأمر إليه ، ربما لأنهم كانوا متفقين على ذلك.

وربما لعلمه بعدم جرأتهما على القبول بالتقدم عليه لأكثر من سبب ..

وهكذا كان ، فبايعاه وسبقهما بشير بن سعد بالبيعة ، وبايعه أيضا أسيد بن حضير ، وعويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي ، وسالم مولى أبي حذيفة فيما قيل.

__________________

(١) راجع : الإحتجاج للطبرسي ج ١ ص ٩٢ والبحار ج ٢٨ ص ١٨١ و ٣٤٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٩ والسقيفة وفدك للجوهري ص ٦٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٧ والإمامة والسياسة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ١٥ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٢٥ والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج ٣ ص ١٨٨.


وترك هؤلاء سقيفة أولئك ، ليواصلوا فيها نزاعاتهم ، وخرجوا إلى المسجد لمعالجة امر علي وبني هاشم ، وذلك بوضعهم أمام الأمر الواقع ، ومواجهتهم بأمر قد قضي ، ولا مجال للنقاش فيه ولا للعودة عنه.

الذين لم يبايعوا أبا بكر :

وقد تخلف عن بيعة أبي بكر جماعة منهم : بنو هاشم ، وعلي ، والعباس ، والفضل بن العباس ، وعتبة بن أبي لهب ، وسعد بن عبادة ، وسلمان ، وعمار ، والمقداد ، وأبو ذر ، وأبي بن كعب ، وسعد بن أبي وقاص ، والزبير ، وطلحة ، والبراء بن عازب ، وخزيمة بن ثابت ، وفروة بن عمرو الأنصاري ، وخالد بن سعيد بن العاص (١).

والذين بايعوه إنما بايعوه كرها (٢).

ومن المقولات المشهورة قول أبي بكر : «إن بيعتي كانت فلتة وقى الله

__________________

(١) مروج الذهب ج ٢ ص ٣٠١ والعقد الفريد ج ٤ ص ٢٥٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٣١ وأسد الغابة ج ٣ ص ٢٢٢ وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٢٠٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٥ و ٣٣١ وتاريخ اليعقوبي (ط الغري) ج ٢ ص ١٠٣ و ١٠٥ وسمط النجوم العوالي ج ٢ ص ٢٤٤ والسيرة الحلبية (ط البيهة بمصر) ج ٣ ص ٣٥٦ والمختصر لأبي الفداء ج ١ ص ١٥٦.

وراجع : الرياض النضرة ج ١ ص ١٦٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ١٨٨ وابن عبد ربه ج ٣ ص ٦٤ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٥٦ وابن شحنة (بهامش الكامل) ج ١١ ص ١١٢ والجوهري حسب رواية ابن أبي الحديد ج ٢ ص ١٣٠ ـ ١٣٤.

(٢) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢١٩ وج ٦ ص ٩ و ١١ و ١٩ و ٤٠ و ٤٧ و ٤٨ و ٤٩.


شرها ، وخشيت الفتنة» (١).

وسمع عمر ، وهو في مسيره إلى الحج أن الزبير قال : لو قد مات عمر لقد بايعت عليا.

فلما بلغ المدينة صعد المنبر وقال : إنه قد بلغني أن فلانا قال : لو قد مات عمر لقد بايعت عليا ، لا يغرن امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقى الله شرها ، فتمت والله.

أو قال : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقى الله شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (٢).

__________________

(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٥٠ وج ٦ ص ٤٧ وأنساب الأشراف البلاذري ج ١ ص ٥٩٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٤ عنه. وراجع : كتاب الأربعين للشيرازي ص ١٥٤ والمراجعات للسيد شرف الدين ص ٣٣٧ والسقيفة وفدك للجوهري ص ٤٦.

(٢) راجع : صحيح البخاري (كتاب الحدود ، باب رحم الحبلى من الزنا إذا أحصنت) (ط محمد علي صبيح) ج ٨ ص ٢٠٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٣ و ٢٦ و ٢٩ وج ٦ ص ٤٧ والسيرة النبوية لابن هشام (ط دار الجيل) ج ٤ ص ٢٢٦ والنهاية لابن الأثير ج ٣ ص ٤٦٦ وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف بمصر) ج ٣ ص ٣٠٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٧ ولسان العرب ج ٢ ص ٣٧١ وتاج العروس ج ١ ص ٥٦٨ والصواعق المحرقة (ط المحمدية) ص ٨ و ١٢ و ٣٤ و ٣٦ وتاريخ الخلفاء ص ٦٧ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦٠ و ٣٦٣ ومسند أحمد ج ٦ ص ٥٥ وأنساب الأشراف ج ٥ ص ١٥ والرياض النضرة ج ١ ص ١٦١ وتيسير الوصول ج ٢ ص ٤٢ و ٤٤ وتمام المتون للصفدي ص ١٣٧ والملل والنحل (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٢٢ والتمهيد للباقلاني ج ١ ص ١١٦.


و «الفلتة» : بفاء ، فلام ، فمثناة فوقية.

والفجأة : ما وقع من غير إحكام ، وذلك أنهم لم ينظروا في بيعة أبي بكر بإجماع الصحابة ، وإنما ابتدرها عمر مخافة الفرقة.

وقيل : يجوز أن يريد بالفلتة الخلسة بمعنى : أن الإمامة يوم السقيفة مالت إلى توليتها الأنفس ، ولذلك كثر فيها التشاجر ، فما قلدها أبو بكر إلا انتزاعا من الأيدي ، واختلاسا. ومثل هذه البيعة جديرة أن تكون مثيرة للفتن ، فعصم الله من ذلك ، ووقى شرها (١).

أبو بكر لم يدع النص :

والأهم من ذلك : أن أبا بكر نفسه لم يكن يدعي النص عليه بالخلافة ، ولم يكن يدّعيها له أيضا أبو عبيدة ، وعمر ، وعائشة ، فضلا عن غيرهم ..

ويشهد لذلك : أن أبا بكر لم يستطع أن يلمح لشيء من هذا القبيل في اجتماع السقيفة ، وقد كان بأمس الحاجة إلى التلميح فضلا عن التصريح ..

فلم يقل مثلا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد انتدبني للصلاة بالناس في مرض موته .. كما أنه لم يشر إلى أي شيء آخر في هذا السياق ، بل اكتفى بالإستدلال على الأنصار بقوله : «لن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، أوسط العرب نسبا ودارا» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٨. والفايق في غريب الحديث للزمخشري ج ٣ ص ٥٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٢. وراجع : الطرائف لابن طاووس ص ٤٨٣ ومسند أحمد ج ١ ص ٥٦ وصحيح البخاري ج ٨ ص ٢٧ والسنن الكبرى ـ


وقال : «ونحن عشيرته ، وأقاربه ، وذوو رحمه» (١).

كما أنه قال لأهل السقيفة : إنه قد رضي لهم أحد الرجلين : عمر ، وأبا عبيدة حسبما تقدم ، فلو كان هناك نص عليه لم يصح له التخلف عنه ، ولا الإجتهاد في مخالفته.

وعمر بن الخطاب لم يستدل على الأنصار بالنص أيضا في السقيفة ، بل قال : من ينازعنا سلطان محمد ، ونحن أولياؤه وعشيرته (٢).

بل إن أبا بكر نفسه قد أعلن في مرض موته عن عدم وجود نص أصلا ، فقد روي بسند صحيح : أنه تحدث عن ثلاثة أشياء ، فعلها ودّ أنه لم يفعلها ، وثلاثة أشياء لم يفعلها ودّ أنه فعلها ، وثلاثة أشياء ودّ أنه سأل عنها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

__________________

للبيهقي ج ٨ ص ١٤٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٤ وج ١٢ ص ١٣٥ و ١٣٦ وعمدة القاري ج ٢٤ ص ١١ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٤٤٣ وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ١٥٠ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٤٦ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٨٢ و ٢٨٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٦ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٨٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٠.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٢. وراجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.

(٢) البحار ج ٢٨ ص ٣٢٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٣٨. وراجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.


فكان مما قال : «وددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا أغلقوه على الحرب! (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٣٧ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ١ ص ١١٧ و ١١٨ وإثبات الهداة ج ٢ ص ٣٥٩ و ٣٦٧ و ٣٦٨ والعقد الفريد ج ٤ ص ٢٦٨ والإيضاح لابن شاذان ص ١٦١ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨ وسير أعلام النبلاء (سير الخلفاء الراشدين) ص ١٧ ومجموع الغرائب للكفعمي ص ٢٨٨ ومروج الذهب ج ١ ص ٤١٤ وج ٢ ص ٣٠١ وشرح النهج للمعتزلي الشافعي ج ١ ص ١٣٠ وج ١٧ ص ١٦٨ و ١٦٤ وج ٦ ص ٥١ وج ٢ ص ٤٧ و ٤٦ وج ٢٠ ص ٢٤ و ١٧ وميزان الإعتدال ج ٣ ص ١٠٩ وج ٢ ص ٢١٥ والإمامة (مخطوط ، توجد نسخة مصورة منه في مكتبة المركز الإسلامي للدراسات في بيروت) ص ٨٢ ولسان الميزان ج ٤ ص ١٨٩ وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٤٣٠ وكنز العمال ج ٣ ص ١٢٥ وج ٥ ص ٦٣١ و ٦٣٢ والرسائل الإعتقادية (رسالة طريق الإرشاد) ص ٤٧٠ و ٤٧١ ومنتخب كنز العمال (مطبوع بهامش مسند أحمد) ج ٢ ص ١٧١ والمعجم الكبير للطبراني ج ١ ص ٦٢ وضياء العالمين (مخطوط) ج ٢ ق ٣ ص ٩٠ و ١٠٨ عن العديد من المصادر ، والنص والإجتهاد ص ٩١ والسبعة من السلف ص ١٦ و ١٧ والغدير ج ٧ ص ١٧٠ ومعالم المدرستين ج ٢ ص ٧٩ وعن تاريخ ابن عساكر (ترجمة أبي بكر) ، ومرآة الزمان ، وراجع : زهر الربيع ج ٢ ص ١٢٤ وأنوار الملكوت ص ٢٢٧ والبحار ج ٣٠ ص ١٢٣ و ١٣٦ و ١٣٨ و ١٤١ و ٣٥٢ ونفحات اللاهوت ص ٧٩ وحديقة الشيعة ج ٢ ص ٢٥٢ وتشييد المطاعن ج ١ ص ٣٤٠ ودلائل الصدق ج ٣ ق ١ ص ٣٢ والخصال ج ١ ص ١٧١ ـ ١٧٣ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٤ والشافي للمرتضى ج ٤ ص ١٣٧ و ١٣٨ والمغني لعبد الجبار ج ٢٠ ق ١ ص ٣٤٠ و ٣٤١ ونهج الحق ص ٢٦٥ والأموال لأبي عبيد ص ١٩٤ (وإن لم


ووددت أني لم أكن حرقت النحام (الفجاءة. ظ) السلمي ، وأني قتلته شديخا أو خليته نجيحا!

ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قدمت (قلدت. أو قذفت ظ) الأمر في عنق أحد الرجلين ، ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميرا وكنت له وزيرا».

إلى أن قال : «وددت أني أسأل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عنهن ، فإني وددت أني سألته لمن هذا الأمر من بعده؟ فلا ينازعه أحد!

وأني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ فلا يظلموا نصيبهم منه!

ووددت أني سألته عن بنت الأخ والعمة ، فإن في نفسي منهما شيئا» (١).

موقفنا من حديث أبي بكر :

ولنا على هذا الحديث حول ندم أبي بكر حين موته مؤاخذات عديدة ، نكتفي بالإشارة إلى بعضها ، وهي التالية :

__________________

يصرح بها) ، ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٢٠٣ وتلخيص الشافي ج ٣ ص ١٧٠ وتجريد الإعتقاد لنصير الدين الطوسي ص ٤٠٢ وكشف المراد ص ٤٠٣ ومفتاح الباب (أي الباب الحادي عشر) للعربشاهي (تحقيق مهدي محقق) ص ١٩٩ وتقريب المعارف ص ٣٦٦ و ٣٦٧ واللوامع الإلهية في المباحث الكلامية للمقداد ص ٣٠٢ ومختصر تاريخ دمشق ج ١٣ ص ١٢٢ ومنال الطالب ص ٢٨٠.

(١) راجع : الأموال ص ١٧٤ والعقد الفريد ج ٤ ص ٩٣ ومروج الذهب ج ٢ ص ٣١٧ والإمامة والسياسة ج ١ ص ٢٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٤٢٩ وراجع : ضعفاء العقيلي ج ٣ ص ٤٢٠ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٣٢٤.


أولا : إنه يريد أن يوهم أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم ينص على أحد حتى على علي «عليه‌السلام» ، مع أنه كان قد بايعه هو وعشرات الألوف من المسلمين في يوم الغدير ، وقال له : بخ بخ لك يا علي ، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

بالإضافة إلى عشرات أو مئات النصوص على إمامته «عليه‌السلام» ، وفضلا عن نزول الآيات القرآنية في ذلك ، كقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١).

ثانيا : إن كلامه عن بيت فاطمة «عليها‌السلام» فيه إيحاء بأنهم كانوا محاربين ، وهو إنما أراد بمهاجمته لهم وأد الفتنة. مع أن مهاجمته لهم قد حصلت فور فراغهم من دفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يكونوا قد جمعوا الرجال ، ولا أعدوا السلاح بعد ، بل إن أنصار الخلافة أنفسهم كانوا هم المهاجمين ، والضاربين ، والمشعلين للنيران ، ليحرقوا بها بيوت الأنبياء والأوصياء ، وأبناء الأنبياء «عليهم‌السلام» على من فيها. وفيها وصي الأوصياء ، وخير النساء ..

ثالثا : إنه حتى وهو يظهر هذا الندم قد بقي مصرا على إبعاد الأمر عن صاحبه الشرعي ، وعلى مخالفة أمر الله تعالى ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيه.

رابعا : إنه قد أبقى لنفسه شراكة مهمة ، وهي أن يصبح وزيرا لأبي عبيدة ، ولعمر ، وشريكا لهما في الأمر ..

__________________

(١) الآية ٥٥ من سورة المائدة.


وهذا معناه : أنه لم يقل ذلك لأنه ندم على تصديه للأمر ، خوفا من أن يكون قد وقع في خلاف ما يريده الله تبارك وتعالى.

خامسا : إنه قد أقر بارتكابه أمرا خطيرا من دون أن يكون مطمئنا لحكم الله فيه ، وهو إحراقه للفجاءة. ثم هو يندم على أنه لم يقتل الأشعث لمجرد أنه يتخيل أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه. مع أنه لا يصح قتل الناس استنادا إلى تخيلات وأوهام.

ومع غض النظر عن هذا وذاك!! فإن كلامه هذا يتضمن اعترافا بالخطأ في أحكامه وسياساته.

سادسا : إنه يقر بأنه لم يكن له معرفة ببعض الأحكام الشرعية الفقهية ، التي يكثر الإبتلاء بها ، فكيف يصلح للإمامة من كان هذا حاله؟!

سابعا : قوله : لو أنه سأل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمن هذا الأمر ، يدل على أن النبي هو الذي يعين صاحب هذا الأمر .. ولا يصح الإجتهاد فيه .. ولا هو من موارد الشورى ، ولا من صلاحيات أهل الحل والعقد كما يدعون ، فلما ذا لم يتريث ويسأل سائر الصحابة ، فلعل أحدا سمع من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يحل له هذه المشكلة؟!

ولما ذا صار يهدد ويتوعد ، ويضرب الناس حتى بنت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويسقط جنينها .. و .. و ..

مع أن رأي عمر المعلن في هذا الأمر ، هو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستخلف ، فقد روى البخاري والبيهقي عنه أنه قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ، يعني أبا بكر ، وإن أترك فقد ترك من هو خير


مني ، وهو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ثم جعلها شورى في ستة أشخاص.

كما أن عائشة نفسها قد أنكرت أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أوصى إلى أحد ، مدعية أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» انخنث في حجري .. فمتى أوصى لعلي أو لغيره؟! (٢).

وهذا الإختلاف الظاهر في مواقف هؤلاء الذين استولوا على الخلافة من صاحبها الشرعي ، يدل على أنها كلها تأويلات جاءت بعد الوقوع ، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الإعتراف بالحق ، والتنازل عن الحق لأهله بعد اغتصابه منهم.

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٠٩ وفي هامشه عن : البخاري ج ١٣ ص ٢١٨ (٧٢١٨) والبيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٢٢ ومسلم في الإمارة ، باب الإستخلاف ج ٣ ص ١٤٥٤ (١١) ، وراجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.

(٢) راجع : سنن ابن ماجة ج ١ ص ٥١٩ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٨٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٦١ وعمدة القاري ج ١٤ ص ٣١ وشرح مسلم للنووي ج ١١ ص ٨٨ وصحيح مسلم ج ٥ ص ٧٥ وصحيح البخاري ج ٣ ص ١٨٦ ومسند أحمد ج ٦ ص ٣٢ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٢٨٦ وشرح أصول الكافي ج ٦ ص ١١٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٧ ص ٣٦١.


الفصل الرابع :

السقيفة .. انقلاب مسلح



الإكراه في بيعة أبي بكر :

وقد رسم العلامة الأميني «رحمه‌الله» صورة للعنف الذي رافق بيعة أبي بكر ، نحاول أن نلخصها على النحو التالي : لقد رأينا كيف جرت الأمور في السقيفة ، حيث بلغت الأمور فيها حدا جعل عمر بن الخطاب يقول : «اقتلوا سعدا قتل الله سعدا ، إنه منافق أو صاحب فتنة».

وقد قام الرجل (عمر) على رأسه وقال له : «لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك ، أو عيونك» (١).

فيتلقاه قيس بن سعد بقوله : «لئن حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ، أو جارحة» (٢).

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ ص ٥٦ والعقد الفريد ج ٤ ص ٨٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٢٢ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٥٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٣٣٩ والرياض النضرة ج ١ ص ١٦٢ و ١٦٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٩ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٢. وراجع : البحار ج ٢٨ ص ٣٣٦.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٢٢ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٥٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٩ والشافي في الامامة للشريف المرتضى ج ٣ ص ١٩٠ وسفينة النجاة للسرابي التنكابني ص ٦٨ والغدير ج ٥ ص ٣٦٩ وج ٧ ص ٧٦.


ثم قال عمر : «والله ما يخالفنا أحد إلا قتلناه ..» حسبما ورد.

وارتفعت الأصوات حتى كادت الحرب أن تقع ..

وينتضي الحباب بن المنذر سيفه ويقول : «والله لا يرد علي أحد ما أقول إلا حطمته بالسيف».

فيقال له : إذن يقتلك الله.

فيقول : بل إياك يقتل (١).

فأخذ ووطئ في بطنه ، ودس في فيه التراب (٢).

وآخر ينادي : «أما والله أرميكم بكل ما في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي» (٣).

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ ص ٥٦ والبيان والتبيين ج ٣ ص ١٩٨ والعقد الفريد ج ٤ ص ٨٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٣٩ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٥ وعن صحيح البخاري ج ٦ ص ٢٥٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٢٠ و ٢٢٣ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٥٧ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٣٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٣٣٩ والرياض النضرة ج ١ ص ٢٠٢ و ٢٠٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٦ وج ٧ ص ١٤٢ وعن صفة الصفوة ج ١ ص ٢٥٦ وتيسير الوصول ج ٢ ص ٤٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٣٨ وج ٦ ص ٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٨ والبحار ج ٢٨ ص ٣٢٥

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٤٠ والغدير ج ٧ ص ٧٦.

(٣) الإمامة والسياسة لابن قتيبة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ١٧ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٢٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٢٢ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٣١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٣٩ والغدير ج ٧ ص ٧٦ والسيرة


ويسمع آخر يقول : «إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم» (١).

ويستل الزبير سيفه ، ويقول : «لا أغمده حتى يبايع علي».

فيقول عمر : «عليكم بالكلب».

فيؤخذ سيفه من يده ، ويضرب به الحجر فيكسر (٢).

كما أن المقداد يدفع في صدره (٣) ، ويضرب أنف الحباب بن المنذر ويكسر (٤).

والأمر الأدهى من ذلك كله أن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى بيت الزهراء «عليها‌السلام» وقال له : إن أبوا فقاتلهم.

فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيته فاطمة فقالت :

__________________

الحلبية ج ٣ ص ٣٥٩ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٣ والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج ٣ ص ١٩١.

(١) الغدير ج ٣ ص ٢٥٣ وج ٧ ص ٧٦ والسقيفة وفدك للجوهري ص ٣٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٢١ وج ٢ ص ٤٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٩ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٦.

(٢) الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٠٣ والرياض النضرة ج ١ ص ٢٠٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٧٤ وج ٢ ص ١٥٦ وج ٦ ص ١١ و ٤٧ والأمالي للمفيد ص ٤٩ والإحتجاج للطبرسي ج ١ ص ٩٥ والبحار ج ٢٨ ص ١٨٤.

(٣) الصوارم المهرقة ص ٥٨ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٤٦ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ٢٦٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٧٤.

(٤) الغدير ج ٥ ص ٣٦٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٧٤ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ٢٦٦.


«يا بن الخطاب ، أجئت لتحرق دارنا»؟!

قال : «نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة» (١).

وقال لهم عمر : «لتخرجن إلى البيعة ، أو لأحرقنها على من فيها».

فقيل له : «إن فيها فاطمة».

فقال : «وإن» (٢).

ثم إنهم ضربوا الزهراء «عليها‌السلام» ، وأسقطوا جنينها في هذا السبيل (٣) ،

__________________

(١) العقد الفريد ج ٤ ص ٨٧ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٥٦ وأعلام النساء ج ٤ ص ١١٤ وراجع : روضة المناظر ج ١ ص ١٨٩ حوادث سنة ١١ والطرائف لابن طاووس ص ٢٣٩ والبحار ج ٢٨ ص ٣٣٩ والغدير ج ٧ ص ٧٧ ونهج السعادة للمحمودي ج ٥ ص ٢٧٢ ومجمع النورين للمرندي ص ٢٤٦ ونهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ص ٢٧١ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢٢٨ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢٥ ص ٥٤٤. وراجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٥٠ وسير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) ص ٢٦ والرياض النضرة ج ١ ص ٢٤١.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٠٢ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٤٣ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٥٦ وج ٦ ص ٤٨ وأعلام النساء ج ٤ ص ١١٤ والسقيفة وفدك للجوهري ص ٥٣ و ٧٣ والطرائف للسيد ابن طاووس ص ٢٣٨ وبناء المقالة الفاطمية لابن طاووس ص ٤٠٢ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٥١ و ١٥٥ والبحار ج ٢٨ ص ٣١٥ و ٣٢١ والغدير ج ٥ ص ٣٦٩ و ٣٧١ وج ٧ ص ٧٧ و ٨٦.

(٣) راجع كتابنا : مأساة الزهراء ج ٢ ص ١٣٢ ـ ١٤٣.


ولم يبايع علي «عليه‌السلام» حتى رأى الدخان يخرج من بيته (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٣٧ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ١ ص ١١٧ و ١١٨ وإثبات الهداة ج ٢ ص ٣٥٩ و ٣٦٧ و ٣٦٨ والعقد الفريد ج ٤ ص ٢٦٨ والإيضاح لابن شاذان ص ١٦١ والإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨ وسير أعلام النبلاء (سير الخلفاء الراشدين) ص ١٧ ومجموع الغرائب للكفعمي ص ٢٨٨ ومروج الذهب ج ١ ص ٤١٤ وج ٢ ص ٣٠١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٣٠ وج ١٧ ص ١٦٨ و ١٦٤ وج ٦ ص ٥١ وج ٢ ص ٤٧ و ٤٦ وج ٢٠ ص ٢٤ و ١٧ وميزان الإعتدال ج ٣ ص ١٠٩ وج ٢ ص ٢١٥ والإمامة ص ٨٢ (مخطوط) توجد نسخة مصورة منه في مكتبة المركز الإسلامي للدراسات في بيروت. ولسان الميزان ج ٤ ص ١٨٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٤٣٠ (ط المعارف) وكنز العمال ج ٣ ص ١٢٥ وج ٥ ص ٦٣١ و ٦٣٢ والرسائل الاعتقادية (رسالة طريق الإرشاد) ص ٤٧٠ و ٤٧١. ومنتخب كنز العمال (مطبوع بهامش مسند أحمد) ج ٢ ص ١٧١ والمعجم الكبير للطبراني ج ١ ص ٦٢ وضياء العالمين (مخطوط) ج ٢ ق ٣ ص ٩ و ١٠٨ عن العديد من المصادر والنص والإجتهاد ص ٩١ والسبعة من السلف ص ١٦ و ١٧ والغدير ج ٧ ص ١٧٠ ومعالم المدرستين ج ٢ ص ٧٩ وعن تاريخ ابن عساكر (ترجمة أبي بكر) ومرآة الزمان. وراجع زهر الربيع ج ٢ ص ١٢٤ وأنوار الملكوت ص ٢٢٧ والبحار ج ٣٠ ص ١٢٣ و ١٣٦ و ١٣٨ و ١٤١ و ٣٥٢ ونفحات اللاهوت ص ٧٩ وحديقة الشيعة ج ٢ ص ٢٥٢ وتشييد المطاعن ج ١ ص ٣٤٠ ودلائل الصدق ج ٣ ق ١ ص ٣٢. والخصال ج ١ ص ١٧١ و ١٧٣ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٤ والشافي للمرتضى ج ٤ ص ١٣٧ و ١٣٨. والمغني لعبد الجبار ج ٢٠ ق ١ ص ٣٤٠ و ٣٤١. ونهج الحق ص ٢٦٥ والأموال لأبي عبيد ص ١٩٤ (وإن لم يصرح بها). ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٢٠٣ وتلخيص الشافي ج ٣ ص ١٧٠


ثم يذكر «رحمه‌الله» ما لاقاه علي والزهراء «عليهما‌السلام» من ظلم واضطهاد في هذا السبيل (١) ، فراجع كلامه.

كبس الناس في بيوتهم :

ونعود إلى ذكر بعض النصوص التي لا تبتعد عن تلك النصوص التي ذكرناها آنفا. بل تأتي مؤكدة لمضمونها الصريح بإجبار الناس على البيعة ، فنقول :

١ ـ روي عن عبد الله بن عبد الرحمن قال :

«إن عمر احتزم بإزاره ، وجعل يطوف بالمدينة ، وينادي : ألا إن أبا بكر قد بويع له ، فهلموا إلى البيعة ، فينثال الناس عليه فيبايعون. فعرف أن جماعة في بيوت مستترون ، فكان يقصدهم في جمع كثير ويكبسهم ، ويحضرهم المسجد ، فيبايعون ، حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» .. الخ ..».

ثم تذكر الرواية إحضارهم الحطب لإحراق باب علي والزهراء «عليهما‌السلامه» على من فيه .. (٢).

__________________

وتجريد الإعتقاد لنصير الدين الطوسي ص ٤٠٢ وكشف المراد ص ٤٠٣ ومفتاح الباب (أي الباب الحادي عشر) للعربشاهي (تحقيق مهدي محقق) ص ١٩٩ وتقريب المعارف ص ٣٦٦ و ٣٦٧ واللوامع الإلهية في المباحث الكلامية للمقداد ص ٣٠٢ ومختصر تاريخ دمشق ج ١٣ ص ١٢٢ ومنال الطالب ص ٢٨٠.

(١) الغدير ج ٧ ص ٧٧ ـ ٨٢.

(٢) راجع : الإحتجاج ج ١ ص ٢٠١ ـ ٢٠٢ والبحار ج ٢٨ ص ٢٠٤.


٢ ـ ذكر الطبرسي أنه قد جيء بعلي «عليه‌السلام» ملببا يعتل ـ أي يجر بعنف ـ إلى أبي بكر «وعمر قائم بالسيف على رأسه ، ومعه خالد وأبو عبيدة ، وسالم ، والمغيرة ، وأسيد بن حضير ، وبشير بن سعد. وسائر الناس قعود ، ومعهم السلاح».

ثم تذكر الرواية : أنهم مدّوا يد علي «عليه‌السلام» وهو يقبضها ، حتى وضعوها فوق يد أبي بكر ، وصيح في المسجد : بايع بايع (١).

٣ ـ وقد جاء في حديث الإثني عشر ، الذين احتجوا على أبي بكر ، ونصحوه بالتراجع عما أقدم عليه ، ما يلي :

«فنزل أبو بكر من المنبر ، فلما كان يوم الجمعة المقبلة ، سل عمر سيفه ، ثم قال : لا أسمع رجلا يقول مثل مقالته تلك إلا ضربت عنقه ، ثم مضى هو وسالم ، ومعاذ بن جبل ، وأبو عبيدة ، شاهرون سيوفهم حتى أخرجوا أبا بكر وأصعدوه المنبر» (٢).

وقال الصدوق بعد ذكره لاحتجاجات الإثني عشر رجلا المشار إليها :

«فأخبر الثقة من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن أبا بكر جلس في بيته ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الثالث أتاه عمر بن الخطاب ، وطلحة ، والزبير ، وعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو

__________________

(١) الإحتجاج ج ١ ص ٢١٢ ـ ٢١٣ فما بعدها ، والبحار ج ٢٨ ص ٢٧٠ ـ ٢٧٦ وكتاب سليم بن قيس ج ٢ ص ٥٨٧ وراجع : تخريج الحديث ج ٣ ص ٩٦٥ ـ ٩٦٦ فإنه أشار إلى العديد من المصادر.

(٢) كتاب الرجال للبرقي ص ٦٦ ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج ١٩ ص ٢٠٣.


عبيدة بن الجراح ، مع كل واحد منهم عشرة رجال من عشائرهم ، شاهرين السيوف ، فأخرجوه من منزله ، وعلا المنبر ، وقال قائل منهم :

«والله ، لإن عاد منكم أحد فتكلم بمثل الذي تكلم به لنملأن أسيافنا منه. فجلسوا في منازلهم ، ولم يتكلم أحد بذلك» (١).

وذكر الزبير في هذه الرواية : إما أن يكون سهوا من الرواة ، بسبب الارتكاز والربط الذهني بينه وبين طلحة ، بحيث إذا ذكر أحدهما سبق الذهن إلى الآخر أيضا .. وإما ذكر عمدا ، ويكون قد عاد إلى موالاة القوم بعد أن فرغت يده من علي «عليه‌السلام» ، ونحن نرجح الاحتمال الأول ، لأن الزبير كان في بداية أمره مواليا لعلي «عليه‌السلام» .. ومن البعيد أن ينقلب عليه بهذه السرعة ..

ويشير إلى ذلك : أنه في حديث الشورى التي كونها حينما طعن وأراد تدبير الأمر لعثمان ، جعل الزبير أمره إلى علي «عليه‌السلام».

ومهما يكن من أمر : فإن هذا الحديث مروي بعدة طرق .. وقد رواه ابن طاووس عن أحمد بن محمد الطبري ، المعروف بالخليلي ، وعن محمد بن جرير الطبري ، صاحب التاريخ ، في كتاب مناقب أهل البيت «عليهم‌السلام» (٢) ، وقال : «إعلم أن هذا الحديث روته الشيعة متواترين .. الخ ..» (٣).

__________________

(١) الخصال ج ٢ ص ٤٦٥ وراجع البحار ج ٢٨ ص ٢١٣ ـ ٢١٩.

(٢) راجع : اليقين ص ١٠٨ وو (ط مؤسسة دار الكتاب ـ الجزائري) ص ٣٣٥ والبحار ج ٢٨ ص ٢١٤.

(٣) اليقين في إمرة أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ص ١٠٨ و ١١٣ و (ط مؤسسة دار الكتاب ـ الجزائري) ص ٣٣٥ وراجع البحار ج ٢٨ ص ٢١٤ و ٢١٥.


وقد ذكر السيد هذه الرواية لكنه قال : «فجلس أبو بكر في بيته ثلاثة أيام ، فأتاه عمر وعثمان ، و .. و ..

إلى أن قال : فأتاه كل منهم متسلحا في قومه حتى أخرجوه من بيته ، ثم أصعدوه المنبر ، وقد سلوا سيوفهم ، فقال قائل منهم : والله ، لئن عاد أحد منكم بمثل ما تكلم به رعاع منكم بالأمس لنملأن سيوفنا منه ، فأحجم ـ والله ـ القوم ، وكرهوا الموت» (١).

أربعة آلاف مقاتل :

٤ ـ إن نصا آخر للحديث الآنف الذكر نفسه ، يذكر رقما محددا للمقاتلين الذين استفادوا منهم في إرعاب الناس من الأنصار وغيرهم ، وخصوصا في مواجهة علي «عليه‌السلام» ومن معه ..

فقد روى الطبرسي «رحمه‌الله» وغيره ، حديث احتجاج الاثني عشر صحابيا على أبي بكر عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» وفيه : أنهم بعد ان تكلموا بما أفحم أبا بكر ، أخذ عمر بيده «وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل ، فخرجوا شاهرين بأسيافهم ، يقدمهم عمر بن الخطاب ، حتى وقفوا بمسجد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال عمر : والله يا أصحاب علي ، لئن ذهب منكم رجل يتكلم ، بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه

__________________

(١) اليقين ص ١١٣ و (ط مؤسسة دار الكتاب ـ الجزائري) ص ٣٤٢ والبحار ج ٢٨ ص ٢١٩.


عيناه» (١).

وعلى كل حال : فإن النصوص الدالة على أن فريق أبي بكر قد استخدم أسلوب القهر والإكراه للناس ، لحملهم على البيعة لأبي بكر ، كثيرة ، ومتنوعة المصادر .. ونذكر نموذجا من ذلك ، خصوصا ما يرتبط منه بدور بني أسلم ، فنقول :

٥ ـ «قال هشام : قال أبو مخنف : فحدثني أبو بكر بن محمد الخزاعي : أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايقت بهم السكك ، فبايعوا أبا بكر ، فكان عمر يقول : ما هو إلا أن رأيت أسلم ، فأيقنت بالنصر» (٢).

٦ ـ قال ابن الأثير : «وجاءت أسلم فبايعت» (٣).

٧ ـ وعند المعتزلي : «جاءت أسلم فبايعت ، فقوي بهم جانب أبي بكر» (٤).

٨ ـ عن أبي مخنف ، عن محمد بن السائب الكلبي ، وأبي صالح ، عن

__________________

(١) الاحتجاج ج ١ ص ٢٠٠ والبحار ج ٢٨ ص ٢٠٢ عنه والصراط المستقيم ج ٢ ص ٨٢ عن كتاب إبطال الإختيار ، بسنده عن أبان بن عثمان ، عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» ، وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٢٤٣ والبحار ج ٢٨ ص ٢٠٢ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٥٨٦ والفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم ج ٢ ص ٣٣٤.

(٢) تاريخ الأمم والملوك (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) ج ٣ ص ٢٢٢ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٥٨ وتلخيص الشافي ج ٣ ص ٦٦ والبحار ج ٢٨ ص ٣٣٥ والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج ٣ ص ١٩٠.

(٣) الكامل في التاريخ ج ٣ ص ٣٣١ وراجع : البحار ج ٢٨ ص ٣٢٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٤٠.

(٤) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ٢ ص ٤٠ والبحار ج ٢٨ ص ٣٢٦ عنه.


زائدة بن قدامة : أن قوما من الأعراب دخلوا المدينة ليمتاروا منها ، فأنفذ إليهم عمر ، فاستدعاهم وقال لهم :

«خذوا بالحظ والمعونة على بيعة خليفة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فمن امتنع ، فاضربوا رأسه وجبينه.

قال : فو الله ، لقد رأيت الأعراب قد تحزموا ، واتشحوا بالأزر الصنعانية ، وأخذوا بأيديهم الخشب ، وخرجوا حتى خبطوا الناس خبطا ، وجاؤوا بهم مكرهين إلى البيعة» (١).

ومن المعلوم : أن الأعراب الذين كانوا حول المدينة هم أسلم ، وجهينة ، وغفار ، وأشجع.

٩ ـ روى المعتزلي وغيره ، عن البراء بن عازب : أنه فقد أبا بكر وعمر حين وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، «وإذا قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة ، وإذا قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر فلم ألبث ، وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ، ومعه عمر ، وأبو عبيدة ، وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية ، لا يمرون بأحد إلا خبطوه ، وقدموه ، ومدوا يده ، ومسحوها على يد أبي بكر ، شاء ذلك أو أبى» (٢).

فهذا النص يقترب جدا إلى سابقه ، إلى حد التطابق ، وهما معا يقتربان ـ بنحو أو بآخر ـ من النصوص المتقدمة حول بني أسلم ..

__________________

(١) الجمل للشيخ المفيد ص ١١٩ و (ط مكتبة الداوري) ص ٥٩.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١ ص ٢١٩ والبحار ج ٢٨ ص ٢٨٦ وكتاب سليم بن قيس (نشر الهادي) ج ٢ ص ٥٧٢ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٤٧ والسقيفة وفدك للجوهري ص ٤٨.


ولنا مع النصوص المتقدمة وقفات هي التالية :

بنو أسلم والإكراه على البيعة :

وقد يثار هنا سؤالان :

أولهما : إن أبا بكر كان حين وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالسنح ، ولم يعلم بوفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فما معنى اتهامه بأنه كان يجمع الناس ، وخصوصا بني أسلم ، ليستعين بهم على اغتصاب الخلافة من صاحبها الشرعي؟!

الثاني : إن بريدة الأسلمي كان مواليا لعلي «عليه‌السلام» ، ولم يكن ليرضى من قومه بأن يعينوا أبا بكر على علي «عليه‌السلام» ، ولا سيما بعد ما سمعه من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حقه «عليه‌السلام» ..

بل الرواية عن بريدة تقول : إن بني أسلم قد أبوا البيعة لأبي بكر ، حتى يبايع بريدة بن الخصيب الأسلمي ، وهذه الرواية منقولة في البحار (١) وفي الشافي (٢) وتنقيح المقال (٣) وبهجة الآمال (٤).

ونقول :

إننا نعالج هذا الموضوع ضمن النقاط التالية :

__________________

(١) البحار ج ٢٨ ص ٣٩٢.

(٢) الشافي ج ٣ ص ٢٤٣.

(٣) تنقيح المقال ج ١ ص ١٦٦.

(٤) بهجة الآمال ج ٢ ص ٢٩٤.


١ ـ بريدة في بني أسلم :

إنه لم يكن لبريدة ـ فيما يظهر ـ نفوذ على جميع بني أسلم ، ويشير إلى ذلك.

ألف : إنه في فتح مكة قد حمل أحد لوائي أسلم (١).

ب : إنه خرج مع عمر إلى الشام ، لما رجع من سرغ «موضع بين المغيثة وتبوك» أميرا على ربع أسلم (٢).

٢ ـ بريدة كان غائبا :

ثم إنهم يذكرون : أن بريدة لم يكن في المدينة ، حينما توفي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبويع أبو بكر. بل كان غائبا : إما في الشام (٣) ، أو في بعض طريق الشام (٤).

وقد صرح بغيبته هذه حديث احتجاج بريدة على أبي بكر مع الاثني

__________________

(١) تاريخ دمشق ج ١٠ ص ١٢٣ وج ٢٣ ص ٤٥٢ والبحار ج ٢١ ص ١٠٧ والفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم ج ٢ ص ١٢٨ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥١٠ والإصابة ج ١ ص ٦١١ وأمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٦٩ وج ٧ ص ١٦٩ و ١٧٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٩.

(٢) تاريخ دمشق ج ١٠ ص ١٢٣ وتهذيب الكمال ج ٤ ص ٥٤ والوافي بالوفيات ج ١٠ ص ٧٨ وج ١٤ ص ٤٦.

(٣) راجع : بهجة الآمال للعليّاري ج ٢ ص ٣٩٤ وتنقيح المقال ج ١ ص ١٦٦ والصراط المستقيم ج ٢ ص ٥٣ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٩٠.

(٤) راجع : تنقيح المقال ج ١ ص ١٦٦ عن حذيفة ، والبحار ج ٢٨ ص ٩٣.


عشر صحابيا ، الذين كانوا غائبين أيضا عن المدينة حينما بويع أبو بكر (١).

٣ ـ بريدة في بني سهم :

إن بريدة قد كان من بني سهم الأسلميين .. وكان يعيش معهم ، وحين هاجر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مرّ به فتلقاه بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم ، فقال له : ممن أنت؟!

قال : من أسلم.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : سلمنا.

ثم قال له : من بني من؟!

قال : من بني سهم.

قال : خرج سهمك (٢).

ويذكر نص آخر : أن بريدة أسلم هو ومن معه حينما مرّ بهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مهاجرا ، وكانوا ثمانين بيتا. فصلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» العشاء الآخرة ، فصلوا خلفه.

__________________

(١) راجع : الإحتجاج ج ١ ص ١٩٠ و (ط دار النعمان) ج ١ ص ١٠١ والبحار ج ٢٨ ص ٩٣ و ٣٧٤ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٢٥٣ والصراط المستقيم ج ٢ ص ٥٣ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٩٠ و ١٦٣ و ٢٤٨.

(٢) الإستذكار لابن عبد البر ج ٨ ص ٥١٤ أسد الغابة ج ١ ص ١٧٦ وتاريخ دمشق ج ١٠ ص ١٢٣ وبهجة الآمال ج ٢ ص ٣٩٢ وسنن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للطباطبائي ص ١٤٢ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٤ ص ٧٣ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ١ ص ١٨٥ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٢٧٣ وج ٧ ص ١٦٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٣٥٦.


وبقي بريدة مع قومه ، ولم يهاجر إلى المدينة إلا بعد سنوات (١) ..

وبعد ما تقدم نقول :

قد يمكن الجمع بين ما دل على أن قبيلة أسلم ساعدت أبا بكر ، وبين الرواية التي تقول : إن أسلم أبت أن تبايع أبا بكر حتى يبايعه بريدة ، بأن يقال :

لو صحت رواية امتناع أسلم من البيعة ، وهي رواية يتيمة ، فيكون المقصود بامسلمين الذين أبوا البيعة لأبي بكر حتى يبايع بريدة ، هم خصوص بني سهم ، ولعلهم هم أيضا الذين يقال : إن بريدة قد ركز فيهم رايته ، وقال : لا أبايع حتى يبايع علي ..

واحتمال أن يكون قوله : لا أبايع حتى يبايع علي ، قد جاء على سبيل التحريض لخصومه ، وفتح الباب أمامهم لإكراه علي «عليه‌السلام» على البيعة. لا يلتفت إليه ، لأن ظاهر الأمر أنه كان مواليا لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» متابعا له.

أما سائر بني أسلم ، وهم قبيلة كبيرة ، فإنهم أعانوا أبا بكر على خصومه ، وقوي بهم جانبه ، كما يظهر من النصوص ..

التشكيك غير المقبول في رواية الخزاعي :

قد حاول بعضهم التشكيك في صحة نقل الخزاعي فقال :

«إن أسلم بطن من خزاعة ، وليسوا بأكثر العرب فرسانا ، ولا

__________________

(١) راجع : أسد الغابة ج ١ ص ١٧٥ ، والبحار ج ٢٨ هامش ص ١٩٧ وبهجة الآمال ج ٢ ص ٣٩٢ وقاموس الرجال ج ٢ ص ١٧٤ وتاريخ دمشق ج ١٠ ص ١٢٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٧٢.


بأشجعهم ، وأعزهم.

وكيف أيقن بالنصر عند بيعتهم ، ولم يتيقن حينما صفقت الأنصار بالبيعة لهم؟

نعم قد يكون الراوي ، وهو أبو بكر بن محمد الخزاعي أراد أن يباهي بقومه ، ويكتسب لهم نوالا بذلك» (١).

ونقول :

إن هذا الكلام لا يمكن قبوله ، وذلك لما يلي :

أولا : لم يدّع أحد أن بني أسلم كانوا أكثر العرب فرسانا ، وأشجعهم ، وأعزهم ، بل قالت الرواية : إن حضورهم قد أعطى جانب أبي بكر قوة في الموقف ، حتى أيقن عمر بالنصر على أولئك الممتنعين عن البيعة لأبي بكر ، أو يتوقع امتناعهم عنها ، ممن يعيشون في المدينة من الأنصار ، أو من بني هاشم.

ولم يكن إخضاع المخالفين لأبي بكر في داخل المدينة يحتاج إلى أن تكون القبيلة اكثر العرب فرسانا ، أو أشجعهم ، وأعزهم .. لا سيما مع علم أبي بكر وعمر بوصية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» ، بأن لا يقاتل المعتدي على حقه ، إلا إذا وجد أنصارا يقدرون على إنجاز النصر ..

بل كان يكفي أبا بكر بضعة مئات من الرجال لفرض إرادته على المدينة بأسرها .. وهي البلد الصغير ، والمنقسم على نفسه.

علما بأن الكثرة تغلب الشجاعة .. فكيف إذا كان مناصروه من الكثرة

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢٨ هامش ص ٣٣٥ و ٣٣٦.


بحيث تضايقت بهم سكك المدينة؟!

بل سيأتي : أنه استطاع أن يحشد بضعة ألوف من حملة السلاح كما لإكراه الناس على هذا الأمر.

أما السؤال الذي يقول : كيف عرفوا أن عليا «عليه‌السلام» موصى بعدم القتال في ظرف كهذا؟!

فيجاب عنه بما يلي :

الظاهر هو : أن معرفتهم بذلك قد جاءت عن طريق عائشة وحفصة اللتين نبأتا بالسر الذي أسره النبي لهما وقد تظاهرتا عليه .. وكان تظاهر هما خطيرا جدا إلى حد أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» احتاج إلى أن يكون الله مولاه ، وجبريل ، وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير ..

ولو لا الخطورة البالغة للسر الذي أفشتاه لما احتاج الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للخلاص من الخطر المتوجه إليه منهما إلى هذه المعونة الكاملة ، والشاملة ، والعظيمة.

ولهذا البحث مجال آخر ..

ثانيا : إن إيقان عمر وأبي بكر بالنصر ، عند ما جاءت قبيلة أسلم .. إنما هو لأنه قد أصبح لديه جيش قادر على مواجهة أصحاب سعد بن عبادة ، والهاشميين ، وغيرهم من أصحاب علي «عليه‌السلام». وبهذا يتم حسم الأمر لصالحه.

أما بيعة الأنصار لأبي بكر في السقيفة ، فإنها لم تكن قادرة على حسم الأمور لصالحه .. لأن عليا «عليه‌السلام» ومن معه ، قد يكون لهم تأثير سلبي على الذين بايعوا أبا بكر في السقيفة ، فإن الأنصار ، الذين تخلوا عن


سعد ، هم أنفسهم قد هتفوا في السقيفة بالذات باسم علي «عليه‌السلام» ، وقالوا : لا نبايع إلا عليا .. أو قالوا : إن فيكم لرجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد ..

كما أن من الممكن أن يعرف الناس بأن ما أشاعوه عن علي «عليه‌السلام» من أنه قد انصرف عن هذا الأمر ، كان مكذوبا عليه ، فيكون ذلك سببا في تراجع الكثيرين عن قرارهم بالبيعة لأبي بكر ، وذلك يحمل في طياته أخطارا جساما فيما يرتبط بحسم الأمور لصالح أبي بكر ..

فكان مجيء قبيلة أسلم ضمانة قوية لنجاح مشروع أبي بكر ، ولذلك قال عمر : لما أن رأيت أسلم أيقنت بالنصر.

ثالثا : إن عامة الأنصار لم يبايعوا أبا بكر في السقيفة .. وإنما بايعه عمر وأبو عبيدة من المهاجرين ، وبضعة أفراد من الأنصار ، قد لا يصل عددهم إلى عدد أصابع اليد الواحدة ، وكان منهم مثل : أسيد بن حضير ، وبشير بن سعد ، ثم خرج أبو بكر وفريقه إلى المسجد لحسم الأمر مع علي «عليه‌السلام» وبني هاشم وتركوا بقية الأنصار في سقيفتهم يتلاهون ويتلاومون ، ويتهم بعضهم بعضا ، وكان أبو بكر لا يزال بحاجة إلى حشد التأييد للتقوي على الآخرين .. وليأمن غائلة أي أمر قد يحدث.

وفي رواية سليم بن قيس عن سلمان : أن عليا «عليه‌السلام» قال : يا سلمان ، وهل تدري من أول من بايعه على منبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

قلت : لا ، إلا أني رأيته في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار ، وكان أول من بايعه المغيرة بن شعبة ، ثم بشير بن سعيد ، ثم أبو عبيدة


الجراح ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم سالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل (١).

رابعا : أما قوله : إن قبيلة أسلم بطن من خزاعة ، وأن الخزاعي أراد بهذا الخبر أن يباهي بقومه.

فغير ظاهر الوجه .. فإن أسلم ليست بطنا من خزاعة ، وإن كانا يجتمعان في الأزد ، واجتماعهما في الأزد غير مفيد ؛ فإن خزاعة من ربيعة بن حارثة ، وأسلم من أفصى بن حارثة (٢).

المدينة .. وسكانها :

وواضح : أن المدينة على ساكنها وآله [أفضل الصلاة والسلام] ، كانت بلدا صغيرا جدا ، كما أو ضحناه أكثر من مرة ، فقد كان عدد سكانها ممن يقدر على حمل السلاح لا يتجاوز بضع مئات .. أما عدد مجموع سكانها فقد لا يصل إلى ألفي نسمة بمن فيهم النساء والرجال ، والكبار ، والصغار ، ومن السكان الأصليين ، أو من غيرهم من الوافدين ..

ولعل مما يدل على ذلك : ما ذكروه من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب منهم أن يكتبوا له كل من تلفظ بالإسلام .. فكتب له حذيفة ألفا وخمس مئة رجل.

__________________

(١) راجع : كتاب سليم بن قيس (بتحقيق الأنصاري) ص ١٤٤ والكافي ج ٨ ص ٣٤٣ والإحتجاج ج ١ ص ١٠٦ والبحار ج ٢٨ ص ٢٦٢.

(٢) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٨ وقاموس الرجال (ط مركز النشر الإسلامي ١٤١٠ ه‍) ج ٢ ص ٢٨٩. وراجع : الإنباه على قبائل الرواة لابن عبد البر ص ٨٢.


وفي رواية أخرى : ونحن ما بين الست مئة إلى السبع مئة (١).

مع أن الذين تلفظوا بالإسلام لا ينحصرون بمن هم في المدينة ، بل يشمل ذلك القبائل التي حول المدينة من الأعراب ، وغيرهم من سائر القبائل ، ويشمل مهاجري الحبشة أيضا.

ويشير إلى ذلك أيضا : أن الذين بايعوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحت الشجرة كانوا ـ كما قيل ـ ألفا وأربع مئة ، أو ألفا وخمس مئة ، وقيل : كانوا ألفا وثمان مئة رجل.

وكان من بين هؤلاء أيضا جماعات من غير أهل المدينة ممن أسلم من القبائل القريبة منها .. وكان من بينهم المهاجرون ، وهم يعدون بالمئات أيضا ..

وذلك كله يشير إلى أن تجنيد أبي بكر المئات والألوف إلى حد أربعة آلاف مقاتل ، لا يمكن أن يكون من سكان المدينة وحسب .. إذ المدينة لا يمكن أن تجند ، ولو ربع هذا العدد ، كما أن أكثر الأنصار ، وبني هاشم ، وكثيرين غيرهم ، ما كانوا على رأي أبي بكر ، ولا هم من حزبه .. ولا يستطيع أبو بكر أن يجندهم ضد علي ومن معه ، وضد سعد بن عبادة ومن معه ، وضد جماعات من المهاجرين والأنصار الآخرين.

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ٢ ص ١١٦ وصحيح مسلم (مشكول) ج ١ ص ٩١ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٨٤ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١٣٣٧ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٥١ و ٢٥٢ وج ١ ص ٢٢٠ ـ ٢٢٣ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٦١٩ وشرح مسلم للنووي ج ٢ ص ١٧٩ وعمدة القاري ج ١٤ ص ٣٠٦ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ١٧١ وكنز العمال ج ١١ ص ٢٢٨ وإمتاع الأسماع ج ٩ ص ٣٤٦.


وذلك كله يحتم عليه أن يستعين بالأعراب من خارج المدينة ..

فإنهم هم الذين يمكن جمع المئات والألوف منهم ، وهم الذين يمكن أن يبادروا لهتك حرمة أشراف الناس ، طمعا بالمال والنوال. فإن جهلهم وجفاءهم وأعرابيتهم ، تجعلهم يتجاوزون كل الحدود .. وهم الذين قال الله تعالى عنهم : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١).

ولعل هذا الذي كان من هؤلاء الأعراب حين وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أرادت الآية القرآنية أن تلمح إليه ، حيث صرحت بنفاق الأعراب الذين هم حول المدينة ، ولكي تعرّف الناس بالدور الذي سيضطلعون به في ضرب أساس هذا الإسلام العزيز بعد وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

كما أنه سيكون هناك دور لمنافقي أهل المدينة أنفسهم في هذا السبيل ، فقد قال تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٢).

فإن عذابهم مرتين ربما يشير إلى خيانتهم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مرة ، وخيانتهم لوصيه أخرى ، فاستحقوا العذاب مرتين بذلك في الدنيا ، ثم يردون إلى عذاب عظيم في الآخرة.

__________________

(١) الآية ٩٧ من سورة التوبة.

(٢) الآية ١٠١ سورة التوبة.


بنو أسلم في هذه الآية :

وبعد ، فقد قالوا حول الآية المباركة المذكورة آنفا : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ).

قال عكرمة والكلبي : جهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار (١). ومزينة (٢) وعصية ولحيان (٣).

ولعل التركيز على خصوص قبيلة أسلم في تقوية موقف أبي بكر وعمر ضد علي «عليه‌السلام» وبني هاشم إنما هو لأن أكثرية ذلك الجيش الذي اقتحم المدينة كان منها ، أو بقيادتها ، وزعامتها.

ثلاثة أشخاص لا يجبرون مائة ألف :

وقد يقال :

كيف يجبر ثلاثة أشخاص من المهاجرين ، هم : أبو عبيدة ، وأبو بكر ، وعمر ، ولنفرض : أن معهم أسيد بن حضير ، وبشير بن سعد ، كيف يجبرون

__________________

(١) وتفسير النسفي ج ٢ ص ١٠٧ والتفسير الكبير الرازي ج ١٦ ص ١٧٣.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧١ عن ابن المنذر ، البحار ج ٢٢ ص ٤١ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ١١٤ وتفسير مقاتل بن سليمان ج ٢ ص ٦٨ وأسباب نزول الآيات للواحدي النيسابوري ص ١٧٤ وتفسير البيضاوي ج ٣ ص ١٦٨ وتفسير أبي السعود ج ٤ ص ٩٧ وفتح القدير للشوكاني ج ٢ ص ٤٠١ وتفسير الآلوسي ج ١١ ص ٩.

(٣) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج ٣ ص ٧٥ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٩٧ وتفسير الثعالبي ج ٣ ص ٢٠٨.


من حضر في السقيفة ، وهم رجال الأوس والخزرج على البيعة لأبي بكر؟! ..

بل كيف يجبر هؤلاء الثلاثة ، مئة وعشرين ألفا كانوا قد حضروا الغدير ، وبايعوا الإمام عليا «عليه‌السلام» هناك؟! ..

ونقول في الجواب :

أما بالنسبة إلى المئة وعشرين ألفا الذين بايعوا الإمام عليا «عليه‌السلام» ، في الثامن عشر من ذي الحجة في غدير خم بحضور رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإنهم لم يكونوا في المدينة حين وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل كانوا قد رجعوا إلى بلادهم المنتشرة في شرق الجزيرة العربية وغربها ..

وقد كان القائمون بالانقلاب لا يحتاجون إلى أكثر من إعلام أهل تلك البلاد ، بأنه قد استجدت أمور فرضت على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» العدول عما كان قرره .. وسارت الأمور باتجاه جديد ، وفقا لإرادته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتوجيهاته ..

وأما بالنسبة لأهل المدينة أنفسهم ، الممثلين بمن له رأي وموقع من رجال الأوس والخزرج ، فنقول :

أولا : قلنا : إن المدينة كانت قرية صغيرة قد لا يصل عدد سكانها بجميع أصنافهم وانتماءاتهم الدينية ، وغيرها .. إلى ألفين أو ثلاثة آلاف ، كبارا وصغارا ، شيوخا وشبانا ، ورجالا ونساء ..

والمسلمون البالغون من جميع هذه الأصناف ، قد لا يصلون إلى الألف في أكثر التقديرات تفاؤلا ..

وقد تقدم : أن حذيفة كتب للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كل من تلفظ


بالإسلام ، فكانوا ألفا وخمس مئة رجل .. وفي رواية أخرى : ونحن ما بين الست مئة إلى السبع مئة.

ولعل هذه الرواية الأخيرة تقصد أهل المدينة ، والرواية الأولى تعم جميع من أسلم ، ولو من غير أهل المدينة ..

كما أن الذين بايعوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، تحت الشجرة قد كانوا ألفا وأربع مئة أو خمس مئة ، أو ألفا وثمان مئة رجل ، على أبعد التقادير ..

وكان من بينهم المهاجرون ، وهم يعدون بالمئات أيضا ، وكان من بينهم أيضا جماعات من القبائل القريبة أو البعيدة من المدينة ..

ثانيا : إن هؤلاء الثلاثة لم يجبروا أهل السقيفة على البيعة لأبي بكر ، بل ما حصل هو أن أبا بكر قد أوقع الخلاف بين الأوس والخزرج ، بتذكيرهم بإحن الجاهلية ، وخوّف بعضهم من بعض ، ثم بايعه عمر وأبو عبيدة ، وأسيد بن حضير ، وربما بلغ الأمر إلى ثمانية أشخاص ، كما تشير إليه بعض الروايات .. ثم تركوا الأوس والخزرج مختلفين متلاومين ، وخرجوا مسرعين إلى بيت أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، في المسجد ، ليفرضوا عليه البيعة ، قبل أن يبلغه الخبر ، ويتكلم بما يفسد عليهم أمرهم ..

وجرى لهم معه ومع السيدة الزهراء «عليها‌السلام» ما جرى ، وكانوا قد هيأوا بني أسلم ، ليخرجوا على الناس فجأة في لك الليلة ، ويفرضوا البيعة لأبي بكر بالقوة والقهر ، وصار الناس يسحبون إلى البيعة لأبي بكر في أجواء من الرعب والخوف والإهانة ، لا يحسدون عليها ..

وقد غاب عن هذه البيعة بنو هاشم ، وكثيرون غيرهم .. وقام بها لأبي بكر جماعة من المهاجرين الحاقدين على الإمام علي «عليه‌السلام» ، وأهل بيته ..


فإجبار الأوس والخزرج على البيعة ، لم يحصل في اجتماع السقيفة ، وإنما حصل ذلك في اليوم التالي ، حينما حضر الألوف من بني أسلم وغيرهم فجأة ، كما ذكرنا.

ولهذا البحث وبيان تفصيلاته المثيرة مجال آخر ..



الفصل الأخير :

استدراكات لا بد منها



بداية :

وبعد .. فإننا لا ندّعي أننا قد استقصينا الكلام في السيرة النبوية الشريفة ، أو أننا وفينا ما أوردناه منها حقه ..

وشاهدنا على ذلك ، نفس عقدنا لهذا الفصل ، الذي أردنا أن نورد فيه بعض ما فاتنا إلحاقه بمواضعه المناسبة ، وهو أربعة مباحث هي التالية :

١ ـ ووجدك ضالا فهدى.

٢ ـ شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد.

٣ ـ لما ذا ولد علي «عليه‌السلام» في الكعبة؟!

٤ ـ أهل الكتاب ليس عندهم علم الكتاب.

مع اعتذارنا من القارئ الكريم على هذا الخلل ، الذي قد لا يروق له ..

فإلى ما يلي من استدراكات ، وما تضمنته من مطالب.

١ ـ ووجدك ضالا فهدى :

هناك سؤال لا يزال يطرح حول المراد من قوله تعالى :

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (١).

__________________

(١) الآيات ٦ ـ ٨ من سورة الضحى.


فمتى كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ضالا فهداه الله تعالى؟! وهل يصح القول بأنه قد كان ضالا قبل بعثته ، ثم هداه الله تعالى بالبعثة؟!

الجواب :

قال تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى).

هذه ثلاث آيات ، تضمنت إحداها ، وهي الوسطى ذكر هذه الحقيقة ، التي تحتاج إلى بعض التوضيح ، والبيان ، والإجابة على السؤال المتقدم تستدعي الحديث عن كل آية منها على حدة ، وقد آثرنا البدء بالحديث عن الآية الأولى ، ثم الثالثة ، ثم عدنا إلى الحديث عن الثانية التي هي مورد السؤال .. لأن طبيعة البيان الذي توخيناه اقتضت ذلك.

فجاء الحديث كما يلي :

أولا : بالنسبة لقوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.)

نقول :

إن ظاهر هذه الآية المباركة :

١ ـ أن الله تعالى قد وجد نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتيما.

٢ ـ إنه بمجرد أن وجده كذلك آواه.

ونحن نتحدث عن هذين الأمرين هنا ، فنقول :

أما بالنسبة لوجدان الله تعالى للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتيما ، فنقول :

إن من الواضح : أن وجدان الله سبحانه لأمر ، يختلف عن وجداننا نحن له .. فإن الوجدان بالنسبة إلينا إنما يكون بعد الفقدان. حيث يكون الشيء غائبا عنا ، ثم نجده ..


وأما بالنسبة لإيواء الله تعالى لنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمجرد أن وجده يتيما ، فإنه تعالى لا يغيب عنه شيء ، بل كل شيء حاضر لديه ، منذ أن أوجده. فلا فصل بين وجود الشيء ، وبين وجدان الله تعالى له ..

وبعبارة أخرى : إن التقدم تارة يكون من قبيل تقدم الصباح على المساء ، أو تقدم ولادة الوالد على ولادة ولده ..

وتارة يكون من قبيل تقدم حركة اليد على حركة المفتاح حينما يدار في قفل الباب. فإن التفريق والسبق بين الحركتين في هذه الصورة ، إنما هو في الذهن. وليس زمانيا ..

وتقدم وجود الشيء على وجدان الله تعالى له من هذا القبيل ، فإن الله تعالى حين أمات عبد الله والد الرسول ، قد وجد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتيما. ولم يغب عنه في أي ظرف أو حال.

فلا يوجد أي فصل زماني بين هذين الأمرين.

فهو على حد قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١).

وقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٢).

أي ليتجسد ذلك على صفحة الوجود ، ليكون وجوده العيني عين وجوده العلمي .. وإن اختلفا من حيث التحليل العقلي ، فيما. يرتبط بالإدراك

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة الكهف.

(٢) الآية ٣١ من سورة محمد.


والتعقل بالنسبة لنا.

وكذلك الحال في الإيواء في قوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.) فإنه قد جاء مصاحبا لوجدان الله تعالى له يتيما. فلم يتركه سبحانه ، مدة ثم آواه ..

وذلك لأنه تعالى قد عبر هنا بالفاء الدالة على التعقيب بلا فصل ، فقال : (فَآوى). لا بكلمة «ثم» الدالة على التعقيب مع المهلة .. فلم يقل «ثم» (آوى).

ثانيا : بالنسبة لقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى.)

نقول :

المراد بالعائل : الفقير ذو العيلة من غير جدة .. في إشارة إلى تنوع الحاجات ، وإلى عظم المسؤوليات الملقاة على عاتقه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سواء فيما يرتبط بنفسه ، أو فيما يرتبط بالآخرين. وخصوصا مسؤوليات هداية البشر منذ خلق الله آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام ..

وقد ذكرت هذه الآية المباركة : أن الله تعالى قد وجد نبيه عائلا محتاجا إلى النعم والألطاف ، والعون. سواء في ذلك ما يرجع لنفسه أو لغيره (١) ، من خلاله .. فأفاض عليه منها ما يليق بمقامه الأسمى والأقدس. وما يناسب حاجته ، وموقعه ، ومسؤولياته في جميع مراحل وجوده ، حتى حينما كان نورا معلقا بالعرش.

__________________

(١) إن الذي يرجع لنفسه يرجع لغيره أيضا بنحو وبآخر .. فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أسوة وقدوة ، ومثل أعلى ، ثم هو ملجأ ووسيلة إلى الله .. احتاج الأنبياء إليه ، وتوسلوا به منذ آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام .. فلا بد أن تتجلى كمالاته ومزاياه منذئذ ..


ولسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بأنه تعالى قد وجده ، واطلع على حاجاته وعلى فقره على كونه عائلا ، بمجرد حدوثها ، ولم يغب عنه ذلك لحظة واحدة.

ثم أفاض تعالى نعمه عليه بمجرد وجدانه كذلك ، ومن دون أي فصل زماني ، أو مهلة ، وذلك من خلال التعبير بالفاء الدالة على التعقيب بلا فصل في قوله : (فَأَغْنى) ، ولم يأت ب «ثم» الدالة على التعقيب مع المهلة ، فلم يقل : «ثم» (أغنى) ..

ثالثا : بالنسبة لقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى.)

نقول :

إنه تعالى بمجرد أن خلق نبيه روحا أولا ، ثم روحا وجسدا تاليا قد وجده في جميع مراحل وجوده محتاجا إلى أنواع كثيرة من الهدايات ، فأفاضها عليه مباشرة ، ومنذ اللحظة الأولى ، وبلا مهلة ، كما دل عليه التعبير بالفاء في قوله : (فَهَدى) حيث لم يقل : «ثم» (هدى) ..

فأعطاه الهداية التكوينية ، بمجرد ظهور حاجته إلى هذه الهداية ..

وأعطاه أيضا هداية الفطرة ..

وأعطاه هداية العقل ..

وأعطاه هداية التشريع والإلهام والوحي ..

وأعطاه هداية الحكمة ..

ويتجلى أثر هذه الهدايات في موقع الحاجة في نطاق سعيه الدائب ، وتطلبه المستمر للوصول إلى مواضع القرب ، والحصول على مواقع الزلفى ..

فاتضح أنه تعالى يجد حاجة نبيه إلى الهداية من دون حاجة إلى الزمان ، لأنه لا يمكن أن يغيب عنه تعالى شيء .. ثم هو يفيض الهدايات عليه مباشرة أيضا ،


وبلا فصل ولا مهلة. فذلك يعني أن الله سبحانه قد منحه هداية لم يسبقها ضلال ، ولو للحظة واحدة.

ويكون هذا الترتيب البياني بين الضلال والهدى ، لا يستبطن التدرج في الوجود الخارجي ، بمعنى أن يتجسد ضلال ، ثم تأتي الهداية فتزيله ..

بل هو ترتيب قد جاء في دائرة تمكين الناس من إدراك معنى الهدايات ، والنعم ، والتفضلات الإلهية على النبي الأقدس «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

أي أنه ترتيب نشأ عن السعي الذهني إلى التجزئة بين المدركات ، وتلمّس الحدود القائمة فيما بينها ، بالإستناد إلى التحليل العقلي ، بهدف تيسير إدراك الحقائق بصورة أعمق وأتم.

من نتائج ما تقدم :

وهكذا .. فإنه بإمكاننا بعد هذا البيان أن نقول :

إن هذه الآية المباركة هي أحد الأدلة الظاهرة على أن الله سبحانه منذ خلق نبينا الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد أعطاه جميع الهدايات التي يحتاجها ، والتي توصله إلى الغايات الإلهية .. ولا بد أن يكون من بينها هداية الإلهام والوحي والتشريع وغيرها. وذلك هو ما يفرضه إطلاق قوله تعالى : (فَهَدى).

بل ربما يحاول البعض استفادة ذلك أيضا من قوله تعالى ، خطابا للمشركين (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا


وَحْيٌ يُوحى) (١). من حيث أن الآية قد نفت عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الضلال مطلقا ، وفي مختلف الحالات والأزمان.

وذلك يؤكد لنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان نبيا منذ ولد (٢).

بل كان نبيا وآدم بين الماء والطين أو بين الماء والجسد (٣). كما دلت عليه

__________________

(١) الآيات ٢ ـ ٤ من سورة النجم.

(٢) البحار ج ١٨ ص ٢٧٧ إلى ص ٢٨١ وقد تقدمت مصادر ذلك.

(٣) راجع : الاحتجاج ج ٢ ص ٢٤٨ والفضائل لابن شاذان ص ٣٤ والبحار ج ١٥ ص ٣٥٣ وج ٥٠ ص ٨٢ والغدير ج ٧ ص ٣٨ وج ٩ ص ٢٨٧ ومسند أحمد ج ٤ ص ٦٦ وج ٥ ص ٥٩ و ٣٧٩ وسنن الترمذي ج ٥ ص ٢٤٥ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٦٠٩ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٢٣ وتحفة الأحوذي ج ٧ ص ١١١ وج ١٠ ص ٥٦ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٤٣٨ والآحاد والمثاني ج ٥ ص ٣٤٧ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص ١٧٩ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ٢٧٢ والمعجم الكبير ج ١٢ ص ٧٣ وج ٢٠ ص ٣٥٣ والجامع الصغير ج ٢ ص ٢٩٦ وكنز العمال ج ١١ ص ٤٠٩ و ٤٥٠ وتذكرة الموضوعات للفتني ص ٨٦ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٢٩ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٩ ص ٢٦٤ عن ابن سعد ، ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٣٩٢ و ٥٢٢ عن كتاب النكاح ، وعن فيض القدير ج ٥ ص ٦٩ وعن الدر المنثور ج ٥ ص ١٨٤ وفتح القدير ج ٤ ص ٢٦٧ والطبقات الكبرى ج ١ ص ١٤٨ وج ٧ ص ٥٩ والتاريخ الكبير للبخاري ج ٧ ص ٢٧٤ وضعفاء العقيلي ج ٤ ص ٣٠٠ والكامل لابن عدي ج ٤ ص ١٦٩ وج ٧ ص ٣٧ وعن أسد الغابة ج ٣ ص ١٣٢ وج ٤ ص ٤٢٦ وج ٥ ص ٣٧٧ وتهذيب الكمال ج ١٤ ص ٣٦٠ وسير أعلام النبلاء ج ٧ ص ٣٨٤ وج ١١ ص ١١٠ وج ١٣ ص ٤٥١ ومن له رواية في مسند أحمد ص ٤٢٨ وتهذيب التهذيب ج ٥ ص ١٤٨ وعن الإصابة ج ٦ ص ١٨١


الروايات الشريفة.

وبذلك نستطيع أن نفهم بعمق الإشارة الخفية ، التي تضمنتها كلمات أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في نهج البلاغة ، حيث يقول :

«.. ولقد قرن الله به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من لدن أن كان فطيما ، أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره!!.» (١).

ولا بد من لفت النظر إلى التنصيص على واقع هذا الملك الذي قرنه الله سبحانه وتعالى ، برسوله حيث وصفه «عليه‌السلام» بأنه أعظم ملائكته في إشارة منه «عليه‌السلام» إلى أن هذه المهمة قد بلغت في أهميتها وخطرها حدا جعلت من هذا الإختيار ضرورة لا بد منها.

وأن هذه الضرورة قد فرضت نفسها في وقت مبكر من حياته «صلى

__________________

والمنتخب من ذيل المذيل ص ٦٦ وتاريخ جرجان ص ٣٩٢ وذكر أخبار إصبهان ج ٢ ص ٢٢٦ وعن البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٧٥ و ٢٧٦ و ٣٩٢ وعن الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ١٦٦ وعن عيون الأثر ج ١ ص ١١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ و ٣١٧ و ٣١٨ ودفع الشبه عن الرسول ص ١٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٧٩ و ٨١ و ٨٣ وج ٢ ص ٢٣٩ وعن ينابيع المودة ج ١ ص ٤٥ وج ٢ ص ٩٩ و ٢٦١.

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٢ ص ١٥٧ واليقين للسيد ابن طاووس ص ١٩٦ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ٦٨ والبحار ج ١٤ ص ٤٧٥ وراجع : مصادر نهج البلاغة ج ٣ ص ٥٧ و ٥٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ١٩٧ والغدير ج ٣ ص ٢٤٠ وسنن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للطباطبائي ص ٤٠٣.


الله عليه وآله» ، أي منذ كان «عليه‌السلام» فطيما.

توضيح وبيان :

وبعد ما تقدم نقول : إن من يراجع الآيات القرآنية يجد : أنها في بياناتها لبعض القضايا الحساسة تعتمد أسلوبا مميزا وفريدا ، من حيث أنها تورد الحديث عن تلك القضايا بطريقة يحتاج معها نيل تلك المعاني إلى الخروج من حالة الغفلة والاسترخاء الفكري ، لكي يتمكن من تلمّس تلك الإشارات القوية حين تضطره إلى استنفار كل قواه العقلية ، وتفرض عليه مستوى من التعمق ، والإحاطة الواعية بدقائق وحقائق مختلفة ، ونيل معان عالية ودقيقة ، تعطيه درجة من المناعة والحصانة عن التأثر بالشبهات ، التي تجد فرصتها في حالات الغفلة والسطحية ، والإستسلام البريء.

إنه تعالى يريد للإنسان أن يأخذ الفكرة بوعي ، وبعمق ، وشمولية ، وبحساسية فائقة ، لتخرج ـ من ثم ـ عن مستوى التصور ، وتدخل في دائرة التصديق واليقين المستند إلى البرهان.

ولتتغلغل ـ من ثم ـ في قلب الإنسان ، وتصبح فكره ، وعقيدته ، ووجدانه ، وضميره. ويكون ذلك هو الضمانة القوية ، والحصن الحصين.

٢ ـ شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد :

قد يسأل سائل ويقول :

هل هناك أدلة صحيحة السند على حادثة شق الكعبة لفاطمة بنت أسد لكي تلد أمير المؤمنين «عليه‌السلام» فيها؟!


ونجيب :

بأنه لا شك في ولادة علي «عليه‌السلام» في الكعبة ، لأن الإجماع قائم على ذلك كما صرح به الحاكم في المستدرك وغيره.

واللافت هنا : أن حديث شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد «رضوان الله تعالى عليها» ، لتضع مولودها في داخلها ، قد روي عن أناس حارب بعضهم عليا «عليه‌السلام» ، وسعى إلى قتله ، أو كان يكرهه ، ولا يرضى بالإقرار بفضيلة له ..

فقد رواه : سفيان بن عيينة عن الزهري ، عن عائشة (١).

ورواه : أبو داود ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن عباس بن عبد المطلب (٢).

ورواه : ابن شاذان ، عن إبراهيم ، بإسناده عن جعفر بن محمد «عليه‌السلام» (٣).

ورواه : الحسن بن محبوب عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» (٤).

ورواه : علي بن أحمد الدقاق ، عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن موسى بن عمران النخعي ، عن الحسين بن يزيد النوفلي ، عن الحسن بن علي

__________________

(١) الأمالي للطوسي ص ٧١٥ و ٧١٦ و (ط دار الثقافة للطباعة) ص ٧٠٧ والبحار ج ٣٥ ص ٣٥ و ٣٦ و ١٧ و ١٨ عن المناقب لابن شهرآشوب ، وحلية الأبرار ج ٢ ص ٢٠ ومدينة المعاجز ج ١ ص ٤٥.

(٢) نفس المصادر السابقة.

(٣) نفس المصادر السابقة.

(٤) البحار ج ٣٥ ص ١٧ و ١٨ وج ٤١ ص ٢٧٤ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ١٢٠.


بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (١).

ورواه : علي بن أحمد الدقاق ، عن محمد بن جعفر الأسدي ، عن موسى بن عمران ، عن النوفلي ، عن محمد بن سنان ، عن المفضل بن عمر ، عن ثابت بن دينار ، عن ابن جبير ، عن يزيد بن قعنب (٢).

فظهر مما تقدم : أن أكثر الذين رووا هذه القضية هم من غير الشيعة ، بل فيهم من عرف بعدائه لعلي «عليه‌السلام» ، وبغضه له.

وظهر أيضا : أن الرواية به مستفيضة ..

وظهر : أن هذه الرواية قد جاءت عن :

١ ـ عائشة بنت أبي بكر.

٢ ـ العباس بن عبد المطلب.

٣ ـ عبد الله بن عباس.

٤ ـ يزيد بن قعنب.

٥ ـ الإمام جعفر الصادق «عليه‌السلام».

__________________

(١) الأمالي للصدوق (ط مؤسسة الأعلمي سنة ١٤١٠ ه‍) ص ٩٩ و (ط مؤسسة البعثة) ص ١٧٦ ومعاني الأخبار ص ٦٢ وغاية المرام ج ١ ص ١٧٠.

(٢) الأمالي للصدوق (مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة) ص ١٩٤ وكتاب التوحيد للصدوق ص ٦٢ وعلل الشرايع (ط سنة ١٤٠٨ ه‍) ج ١ ص ١٦٤ و (منشورات المكتبة الحيدرية) ص ١٣٥ والجواهر السنية للحر العاملي ص ٢٢٩ ومعاني الأخبار ص ٦٢ وروضة الواعظين ص ٧٦ و ٧٧ والبحار ج ٣٥ ص ٨ و ٩ عنهم ، وعن كشف اليقين ص ٣١ و ٣٢ وعن كشف الحق ، وبشارة المصطفى ص ٢٦ وراجع : الخرايج والجرايح ج ١ ص ١٧١.


فإذا أخذنا بقول الزرقاني الذي صرح بأن : «من القواعد : أن تعدد الطرق يفيد : أن للحديث أصلا» (١).

وقول الخفاجي عن حديث رد الشمس : «إن تعدد طرقه شاهد صدق على صحته» (٢).

وإذا أخذنا بقاعدة : «والفضل ما شهدت به الأعداء».

حتى إن عائشة لم تكن تطيب نفسها بذكر علي «عليه‌السلام» بخير أبدا ..

وإذا أكدنا ذلك بوجود أثر هذا الشق في جدار الكعبة إلى يومنا هذا ، وقد جهدوا ليخفوه ، فلم يمكنهم ذلك ..

نعم .. إننا إذا أخذنا بذلك كله ، فلما ذا لا نأخذ بهذه الرواية أيضا؟!

بل إنه حتى لو كان رواة حديث ما ينسبون للكذب والوضع ، فإن ذلك لا يعني أن لا تصدر عنهم كلمة صدق أصلا.

بل قد يكون الصدق هو الغالب عليهم ، ولو لا ذلك لما استطاعوا التسويق للأمر الذي كذبوا فيه.

والحاصل : أن الكاذب قد يقول الصدق ، والوضّاع قد يعترف بالحق ، مع أن الأمر في رواة هذه الحادثة ليس كذلك كما يعلم بالمراجعة ..

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية ج ٦ ص ٤٩٠ وراجع : فيض القدير ج ٥ ص ٤٦٧ والغدير ج ٣ ص ١٣٨.

(٢) نسيم الرياض ج ٣ ص ١١ وراجع : شرح معاني الآثار ج ١ ص ٤٦ والغدير ج ٣ ص ١٣٦ ورسائل في حديث رد الشمس للمحمودي ص ١٩ و ٣٤ و ٦٤.


٣ ـ لما ذا ولد علي عليه‌السلام في الكعبة؟! :

وهناك سؤال يقول :

كيف نستطيع أن نفسر اختصاص أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، بكرامة الولادة في الكعبة ، دون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ونقول في جوابه ما يلي :

إننا قبل كل شيء ، نحب التذكير بأن بين النبوة والإمامة ، والنبي والإمام ، فرقا ، فيما يرتبط بترتيب الأحكام الظاهرية على من يؤمن بذلك وينكر ، ومن يتيقن ويشك ، ومن يحب ويبغض ..

فأما بالنسبة للنبوة والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن أدنى شك أو شبهة بها ، وكذلك أدنى ريب في الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوجب الكفر والخروج من الدين ، كما أن بغض الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأي مرتبة كان ، يخرج الإنسان من الإسلام واقعا ، وتلحقه وتترتب عليه أحكام الكفر ، في مرحلة الظاهر أيضا ، فيحكم عليه بالنجاسة ، وبأنه لا يرث من المسلم ، وبغير ذلك ..

وأما الإمامة والإمام «عليه‌السلام» ، فإن الحكمة ، والرحمة الإلهية ، وحب الله تعالى للناس ، ورفقه بهم ، قد اقتضى : أن لا تترتب الأحكام الظاهرية على من أنكر الإمامة ، أو شك فيها ، أو في الإمام «عليه‌السلام» ، أو قصر في حبه .. ولكن بشرطين ..

أحدهما : أن يكون ذلك الإنكار ، أو الشك ، أو التقصير ناشئا عن شبهة ، إذ مع اليقين بثبوت النص أو في دلالته ، يكون المنكر أو الشاك مكذبا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، رادا على الله سبحانه ، ومن كان كذلك


فهو كافر جزما ..

الثاني : أن لا يكون معلنا ببغض الإمام ، ناصبا العداء له ، لأن الناصب حكمه حكم الكافر أيضا ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقتل أحدا ؛ لما ذا؟

وبعد ما تقدم نقول :

لا ريب في أن قيام الإسلام وحفظه يحتاج إلى جهاد وتضحيات ، وأن في الجهاد قتل ويتم ، ومصائب ومصاعب ، ولم يكن يمكن لرسول الله أن يتولى بنفسه كسر شوكة الشرك ، وقتل فراعنته وصناديده .. لأن ذلك يوجب أن ينصب الحقد عليه ، وأن تمتلئ نفوس ذوي القتلى ومحبيهم ، ومن يرون أنفسهم في موقع المهزوم بغضا له ، وحنقا عليه ..

وهذا يؤدي إلى حرمان هؤلاء من فرصة الفوز بالتشرف بالإسلام ، وسيؤثر ذلك على تمكّن بنيهم ، وسائر ذويهم ومحبيهم من ذلك أيضا .. فقضت الرحمة الإلهية أن يتولى مناجزتهم من هو كنفس الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، ألا وهو أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ..

واقتضت هذه الرحمة أيضا رفع بعض الأحكام الظاهرية ـ دون الواقعية ـ المرتبطة بحبه وبغضه ، وبأمر إمامته «عليه‌السلام» ، تسهيلا من الله على الناس ، ورفقا بهم ـ رفعها ـ عن منكر امامته «عليه‌السلام» ، وعن المقصر في حبه ، ولكن بالشرطين المتقدمين وهما : وجود الشبهة وعدم نصب العداء له ، لأنه مع عدم الشبهة يكون من قبيل تعمد تكذيب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ،


ومع نصب العداء يتحقق التمرد والرد على الله سبحانه ، كما قلنا ..

معالجة قضايا الروح والنفس :

ثم إن معالجة قضايا الحب والبغض ، والرضا والغضب ، والإنفعالات النفسية ، تحتاج إلى اتصال بالروح ، وبالوجدان ، وإلى إيقاظ الضمير ، وإثارة العاطفة ، بالإضافة إلى زيادة البصيرة في الدين ، وترسيخ اليقين بحقائقه ..

وهذا بالذات هو ما يتراءى لنا في مفردات السياسة الإلهية ، في معالجة الأحقاد التي علم الله سبحانه : أنها سوف تنشأ ، وقد نشأت بالفعل ، كنتيجة لجهاد الإمام علي «عليه‌السلام» ، في سبيل هذا الدين ..

ونحن نعتقد : أن قضية ولادة الإمام علي «عليه‌السلام» في جوف الكعبة ، واحدة من مفردات هذه السياسة الربانية ، الحكيمة ، والرائعة ..

ولادة علي عليه‌السلام في الكعبة صنع الله :

ويمكن توضيح ذلك بأن نقول :

إن ولادته «عليه‌السلام» ، في الكعبة المشرفة ، أمر صنعه الله تعالى له ، لأنه يريد أن تكون هذه الولادة رحمة للأمة ، وسببا من أسباب هدايتها .. وهي ليست أمرا صنعه الإمام علي «عليه‌السلام» لنفسه ، ولا هي مما سعى إليه الآخرون ، ليمكن اتهامهم بأنهم يدبرون لأمر قد لا يكون لهم الحق به ، أو التأييد لمفهوم اعتقادي ، أو لواقع سياسي ، أو الانتصار لجهة أو لفريق بعينه ، في صراع ديني ، أو اجتماعي ، أو غيره ..

ويلاحظ : أن الله تعالى قد شق جدار الكعبة لوالدته «عليه‌السلام» حين دخلت ، وحين خرجت ، بعد أن وضعته في جوف الكعبة ـ وقد جرى


هذا الصنع الإلهي له ـ حيث كان «عليه‌السلام» لا يزال في طور الخلق والنشوء في هذا العالم الجديد .. ليدل دلالة واضحة على اصطفائه تعالى له ، وعنايته به ..

وذلك من شأنه أن يجعل أمر الاهتداء إلى نور ولايته أيسر ، ويكون الإنسان في إمامته أبصر ..

ويتأكد هذا الأمر بالنسبة لأولئك الذي سوف تترك لمسات ذباب سيفه «ذي الفقار» آثارها في أعناق المستكبرين والطغاة من إخوانهم ، وآبائهم ، وعشائرهم ، أو من لهم بهم صلة أو رابطة من أي نوع ..

الرصيد الوجداني آثار وسمات :

إن هذا الرصيد الوجداني ، الذي هيأ الله لهم ليختزنوه في قلوبهم وعقولهم من خلال النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد فضل علي «عليه‌السلام» وإمامته ، ثم جاء الواقع العلمي ليعطيها المزيد من الرسوخ والتجذر في قلوبهم وعقولهم من خلال مشاهداتهم ، ووقوفهم على ما جاء الله به من ألطاف إلهية به ، وإحساسهم بعمق وجدانهم بأنه وليد مبارك ، وبأنه من صفوة خلق الله ومن عباده المخلصين ، أن ذلك سيجعلهم يدركون : أنه «عليه‌السلام» ، لا يريد بما بذله من جهد ، وجهاد في مسيرة الإسلام ، إلا رضا الله سبحانه ، وإلا حفظ مسيرة الحياة الإنسانية ، على حالة السلامة ، وفي خط الاعتدال .. لأنها مسيرة سيكون جميع الناس ـ بدون استثناء ـ عناصر فاعلة ومؤثرة فيها ، ومتأثرة بها ..

وبذلك يصبح الذين يريدون الكون في موقع المخاصم له «عليه


السلام» ، أو المؤلب عليه ، أمام صراع مع النفس ومع الوجدان ، والضمير ، وسيرون أنهم حين يحاربونه إنما يحاربون الله ورسوله .. ويسعون في هدم ما شيده للدين من أركان ، وما أقامه من أجل سعادتهم ، وسلامة حياتهم ، من بنيان ..

ولادة علي عليه‌السلام في الكعبة لطف بالأمة :

فولادة الإمام علي «عليه‌السلام» ، في الكعبة المشرفة ، لطف ، بالأمة بأسرها ، حتى بأولئك الذين وترهم الإسلام ، وسبيل هداية لهم ولها ، وسبب انضباط وجداني ، ومعدن خير وصلاح ، ينتج الإيمان ، والعمل الصالح ، ويكف من يستجيب لنداء الوجدان ، عن الامعان في الطغيان ، والعدوان ، وعن الانسياق وراء الأهواء ، والعواطف ، من دون تأمل وتدبر ..

وغني عن البيان ، أن مقام الإمام علي «عليه‌السلام» وفضله ، أعظم وأجل من أن تكون ولادته «عليه‌السلام» ، في الكعبة سببا أو منشأ لإعطاء المقام والشرف له .. بل الكعبة هي التي تتشرف به وتعتز ، وتزيد قداستها ، وتتأكد حرمتها بولادته فيها صلوات الله وسلامه عليه ..

وأما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن معجزته الظاهرة التي تهدي الناس إلى الله تعالى ، وصفاته ، وإلى النبوة وتدلهم على النبي ، وتؤكد صدقه ، وتلزم بالإيمان به ، وتأخذ بيدهم إلى التسليم باليوم الآخر ـ إن هذه المعجزة ـ هي هذا القرآن العظيم ، الذي يهدي إلى الرشد من أراده ، والذي لا بد أن يدخل هذه الحقائق إلى القلوب والعقول أولا ، من باب الاستدلال ، والانجذاب الفطري إلى الحق بما هو حق .. من دون تأثر


بالعاطفة ، وبعيدا عن احتمالات الإنبهار بأية مؤثرات أخرى معهما كانت ..

إذ إن القضية هي قضية إيمان وكفر ، وحق وباطل ، لا بد لإدراكهما من الكون على حالة من الصفاء والنقاء ، وتفريغ القلب من أي داع آخر ، قد يكون سببا في التساهل في رصد الحقيقة ، أو في التعامل مع وسائل الحصول عليها ، والوصول إليها ..

فالله لا يريد أن تكون مظاهر الكرامة ، سببا في إعاقة العقل عن دوره الأصيل في إدراك الحق ، وفي تحديد حدوده ، وتلمّس دقائقه ، وحقائقه والتبيّن لها إلى حد تصير معه أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس ..

ولذلك فإن الله تعالى لم يصنع لرسوله ، ما يدعوهم إلى تقديسه كشخص ، ولا ربط الناس به قبل بعثته بما هو فرد بعينه ، لا بد لهم من الخضوع والبخوع له ، وتمجيد مقامه ، لأن هذا قد لا يكون هو الأسلوب الأمثل ، ولا الطريقة الفضلى ، في سياسية الهداية الإلاهية إلى الأمور الإعتقادية ، التي هي أساس الدين ، والتي تحتاج إلى تفريغ النفس ، وإعطاء الدور ، كل الدور ، للدليل وللبرهان ، وللآيات والبينات ، وإلى أن يكون التعاطي مع الآيات والدلائل بسلامة تامة ، وبوعي كامل ، وتأمل عميق ، وملاحظة دقيقة ..

وهذا هو ما نلاحظه في إثارات الآيات القرآنية لقضايا الإيمان الكبرى ، خصوصا تلك التي نزلت في الفترة المكية للدعوة. فإنها إثارات جاءت بالغة الدقة ، رائعة في دلالاتها وبياناتها ، التي تضع العقل والفطرة أمام الأمر الواقع الذي لا يمكن القفز عنه ، إلا بتعطيل دورهما ، وإسقاط سلطانهما ، لمصلحة سلطان الهوى ، ونزوات الشهوات ، والغرائز ..


وهذا الذي قلناه ، لا ينسحب ولا يشمل إظهار المعجزات والآيات الدالة على الرسولية ، وعلى النبوة ، فإنها آيات يستطيع العقل أن يتخذ منها وسائل وأدوات ترشده إلى الحق ، وتوصله إليه .. وتضع يده عليه .. وليست هي فوق العقل ، ولا هي من موجبات تعطيله ، أو اضعافه.

٤ ـ أهل الكتاب ليس عندهم علم الكتاب :

وثمة سؤال يورده البعض ، مفاده : أنه لا يصح أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب في قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١) عليا «عليه‌السلام» ، لأن عليا «عليه‌السلام» ، قد آمن بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو بالتالي طرف في النزاع بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمشركين.

فلا يعقل أن يحيل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المشركين إلى علي «عليه‌السلام» وأن يستشهد به على صدق نبوة نفسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأنهم لن يقبلوا شهادته.

فكيف يأمره الله تعالى بأن يجعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شهيدا بينه وبين أهل الكتاب؟! والحال أن رفعهم لشهادته أمر بديهي ، وقد كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلم ذلك أيضا؟

أليس ذلك من قبيل الإحالة على محال؟

ومع صحة هذا الإشكال العقلي ، تسقط كل الروايات التي تفسر من

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة الرعد.


عنده علم الكتاب بعلي «عليه‌السلام».

ونقول في الجواب :

أولا : إن الروايات المتواترة ، وكثير منها صحيح السند قد دلت على أن المقصود ب (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أمير المؤمنين علي ، والأئمة من ذريته عليه وعليهم‌السلام. وهي تقطع دابر كل تخرص ورجم بالغيب في هذا المجال ؛ فإنهم «عليهم‌السلام» عدل القرآن ، وأحد الثقلين اللذين أمرنا الله بالتمسك بهما.

ولا يمكن تكذيب هذا العدد الكبير من الروايات الصحيحة ، فكيف إذا كانت متواترة من طرق الشيعة .. كما أنها مروية من طرق أهل السنة ..

ونذكر من هذه الروايات ثلاثا فقط ، هي التالية :

١ ـ عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» ، قال : الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين «عليه‌السلام».

وسئل عن الذي عنده علم من الكتاب ، أعلم؟! أم الذي عنده علم الكتاب؟!

فقال : ما كان علم الذي كان عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة من ماء البحر .. (١).

٢ ـ وعن الإمام الباقر «عليه‌السلام» في تفسير الآية : إيانا عنى ، وعلي

__________________

(١) تفسير القمي ج ١ ص ٣٦٧ والتفسير الصافي ج ٣ ص ٧٧ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٥٢٣ وج ٤ ص ٨٨ والبحار ج ٢٦ ص ١٦٠ وينابيع المعاجز ص ١٤.


أولنا ، وأفضلنا ، وخيرنا بعد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

٣ ـ وعن ابن بكير ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» ، قال : كنت عنده ، فذكروا سليمان وما أعطي من العلم ، وما أوتي من الملك.

فقال لي : وما أعطي سليمان بن داود؟ إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم ، وصاحبكم الذي قال الله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٢). وكان ـ والله ـ عند علي «عليه‌السلام» ، علم الكتاب.

فقلت : صدقت والله جعلت فداك (٣).

فإذا جاء الخبر اليقين المتواتر عنهم «عليهم‌السلام» ، وكان عدد كثير منه صحيح السند ، فلا بد من البخوع له والانتهاء إليه ، وليس لأحد ـ بعد

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٣٥ و ٢٣٦ والكافي ج ١ ص ٢٢٩ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٥٠٤ والبحار ج ٢٣ ص ١٩١ وج ٣٥ ص ٤٣٣ وج ٣٩ ص ٩١ وبشارة المصطفى للطبري ص ٢٩٩ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٥٢٢ والتفسير الصافي ج ٣ ص ٧٧ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٦٠٩ وتفسير مجمع البيان ج ٦ ص ٥٤ وتفسير جوامع الجامع ج ٢ ص ٢٦٩ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٢٢٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ١٦٠ ودعائم الإسلام ج ١ ص ٢٢ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٧ ص ١٨١ و (ط دار الإسلامية) ج ١٨ ص ١٣٤ وشرح أصول الكافي ج ٥ ص ٣١٥ ومستدرك الوسائل ج ١٧ ص ٣٣٤.

(٢) الآية ٤٣ من سورة الرعد.

(٣) بصائر الدرجات ص ٢٣٣ وينابيع المعاجز ص ١٥ والبحار ج ٢٦ ص ١٧٠ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٥٢٤.


ثبوته ـ أم يثير الشكوك بكلامهم. استنادا إلى حدسيات وآراء الرجال .. بل لا بد أن تزول الشبهة بكلامهم صلوات الله وسلامه عليهم .. ورحم الله امرءا عرف حده فوقف عنده.

ثانيا : إن الآية نفسها تكاد تكون صريحة في أن المقصود لا يمكن أن يكون غير علي «عليه‌السلام» ، لا عبد الله بن سلام ، ولا غيره من أهل الكتاب.

وحيث إن هناك سعيا حثيثا من قبل البعض لصرف الآية عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وتخصيصها بعبد الله بن سلام اليهودي ، فلا بد لنا من توجيه الكلام بحيث يحسم مادة النزاع في هذا الأمر ، فنقول :

إن الآية التي هي مورد البحث تقول :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١).

ونحن في سياق بيان ما نرمي إليه نشير إلى عدة نقاط ترتبط بهذه الآية الشريفة .. فنقول :

١ ـ إن الشاهد بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبين الذين كفروا ، إن كان من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول ، وينكرون نبوته ، فإن شهادته لا تجعلهم يعترفون بالحق ، بل هم سوف يغتنمونها فرصة لإسقاط دعوته وتضعيف أمره ..

وليس لنا أن نتوقع منهم أن يبادروا إلى إبطال دينهم ، وإثبات حقانية هذا الدين الجديد الذي يعارضه ، ويناقضه ، وينفيه ..

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة الرعد.


وإن كان الشاهد هو عبد الله بن سلام بعد إسلامه ، فمن جهة ، ليس ثمة ما يطمئن ـ بحسب العادة ـ إلى أن ابن سلام سوف يقول الصدق ، ولا يكتم الشهادة ، فقد تدفعه أهواؤه إلى ذلك ، فإنه ليس بمعصوم.

بل إن الوقائع التي رافقت حياة هذا الرجل بعد إسلامه قد أثبتت أنه لم يكن وفيا للحق ، بل اتبع هواه ، وعاند الإمام الحق ، واتبع سبيل الذين لا يعلمون ..

كما أن أهل الكتاب قد كتموا الشهادة بالحق لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، في غير هذا المورد ، وقد تحدث الله عنهم في ذلك ، وأنبهم عليه ، واتهمهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، فراجع تفسير قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).

وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (٢).

فمن كان كذلك كيف تجعل شهادته عدلا لشهادة الله وشهيديته؟!

وكيف يسجل ذلك في القرآن ليقرأه الناس وليستفيدوا منه خلفا عن سلف؟! ..

ألا يعد هذا من الإغراء للناس بما لا يصح الإغراء به؟

بل إن إصرار أهل الكتاب على البقاء على دينهم في هذه الحال لهو من أعظم مظاهر كتمان الشهادة بالحق ، كما هو ظاهر لا يخفى ..

مع أن سياق الآية والتعبير بكفى ، وجعل شهيدية العالم بالكتاب

__________________

(١) الآية ٩٣ من آل عمران.

(٢) الآية ٤٦ من سورة النساء ، وراجع الآيتان ١٣ و ١٤ من سورة المائدة.


مقرونة بشهيدية الله تعالى يفيد : أن هناك ضمانة حقيقية ، وطمأنينة شديدة إلى أمانة الشاهد وصدقه ، وأنه لن يكتم الشهادة فضلا عن أنه لن يشهد إلا بالحق والصدق ، لا على سبيل الإعجاز في الإخبار عن الغيب ، ولا على سبيل الإعجاز بإجبار ابن سلام على ذلك تكوينا.

بل الأمر يجري وفق السنن ، من حيث أنه يستند إلى أن الشاهد هو ذلك الإنسان العالم بمواطن الحق والباطل ، المعصوم عن أن ينقاد لهواه ، وعن أن ينساق مع تيار الإنحراف ، في أي من الظروف والأحوال ..

٢ ـ إن الحديث إنما هو مع المشركين والكفار ، وهم كما لا يعترفون برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فإنهم لا يعترفون أيضا باليهود ، وإلا لكانوا تابعوهم ، ودخلوا معهم في دينهم ، فما معنى إلزامهم بشهادة ابن سلام الذي كان يهوديا فأسلم. وهم يخطئونه في ذلك ويضللونه؟!

وما معنى أن تقرن شهادة اليهود بشهادة الله سبحانه ، في مقام التحدي؟!

٣ ـ إنه بعد أن دخل ابن سلام في الإسلام لم يعد هناك أي فرق بنظر الكفار بينه وبين علي «عليه‌السلام» ، فهذا خصم لهم مدع عليهم ، وذاك أيضا كذلك بنظرهم ..

٤ ـ إن الآية قد تحدثت عن الشهيد ، لا عن الشاهد .. والتعبير الطبيعي عن الذي يؤدي الشهادة في موارد الترافع والاختلاف هو كلمة «شاهد» ، فيقال فلان شاهد ، لا شهيد ، التي هي من صيغ المبالغة ..

٥ ـ أضف إلى ما تقدم : أنه لا يقال ـ في العادة ـ : فلان شاهد بيني وبينكم ، بل يقال فلان شاهد على فلان ، أو شاهد على الأمر.


وقد ذكر بعضهم : أنه يمكن أن يكون التعبير بكلمة (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) للإشارة إلى توسط الشاهد بين الطرفين ، وتساويهما عنده بحيث لا يميل إلى أحدهما على حساب الآخر. وهذا يعطيه الوثاقة والأمانة والعدالة في الشهادة ، إلى حد أن تصبح شهادته هي الفيصل في الأمر ، فيكون شاهدا حاكما ، قاطعا للنزاع.

والتعبير بكلمة شهيدا للإلماح إلى شدة اطلاعه وحضوره ، الأمر الذي يحتم إطاعته والقبول منه.

ونقول :

إننا نتفق مع هذا الأخ الكريم ، على أن المراد بالشهيدية هو الحضور المباشر والقوي من حيث شدة انتباهه لما يجري على صفحة الواقع ، وتدقيقه فيه .. ولكننا لا نوافقه على أن المراد بالآية الشهادة بين متخاصمين على حد الشهادات الأخرى. بل هو شهيدية ، وحضور حاكم ، وفاصل للأمر ، من دون أن يكون هناك شهادة.

لأن معرفة الصدق ، خصوصا في أمر يتعذر فيه الإطلاع إلى درجة الحضور ، كمجيء جبرئيل «عليه‌السلام» للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أمر غير ميسور للبشر العاديين وذلك معناه أن هذا الشهيد يملك وسائل عالية جدا ، تمكنه من الحضور المباشر حتى في مثل هذه الأمور الخفية جدا ، وذلك لا يتناسب إلا مع ما هو أرقى من هذا الذي نعيشه ونألفه .. وهو شهيدية الإمام ، والإمامة التي ستظهر آثارها في يوم القيامة ..

وهذا يؤيد ويؤكد المعنى الذي نسوق الكلام إليه .. وهو أنها شهيدية بمعنى الحضور ، لا بمعنى أداء الشهادة.


٦ ـ إن من الواضح : أن الإكتفاء بشهيدية الله ، ومن عنده علم الكتاب ليس معناه أن الذي عنده علم الكتاب سيكون قادرا ـ بما أوتي من علم ـ على إلزامهم بالحجة ، بعد أن عجز الرسول نفسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن إلزامهم بها. بل المراد أن ذلك العالم بالكتاب سيكون هو حجة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، عليهم.

٧ ـ ليس في الآية أية إشارة إلى أن المقصود بالكتاب فيها ، هو كتاب التوراة أو الإنجيل ، فتطبيق الآية عليهما ما هو إلا تخرص ، ورجم بالغيب ، ومن دون مبرر.

بل قد وجدنا في الروايات الواردة عن المعصومين «عليهم‌السلام» ما يشير إلى أن المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي يكون للعالم به القدرة على التأثير في عالم التكوين ، والهيمنة على الموجودات ، ففي بعضها ما يدل على أن هذا الكتاب هو نفس الكتاب الذي كان آصف بن برخيا يعلم بعضه ، فتمكن به من الإتيان بعرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) (١).

والمراد بالكتاب : القرآن .. الذي هو تبيان كل شيء ، وقال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٢) فمن كان عنده حقيقته ، فإنه سيكون متمكنا ومهيمنا على الأشياء بأعظم هيمنة. ويمكّن من ذلك أيضا آصف بن برخيا

__________________

(١) الآية ٤٠ من سورة النمل.

(٢) الآية ٣٨ من سورة الأنعام.


والأنبياء السابقين لأنهم إنما يملكون بعضا من علوم القرآن ، وعلي «عليه‌السلام» ، يعرف كل ما في هذا القرآن.

فالمراد بعلم الكتاب إذن هو ذلك العلم القاهر لهم ، الذي يعطي العالم به السلطة والقدرة على التصرف ، وإراءة الخوارق التي تسقط استكبارهم ، وتعرفهم بمدى ضعفهم ، وبأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.

٨ ـ وإذا تحقق ذلك ، فإن ملاحظة أنه تعالى قد عبر بكلمة «شهيد» ثم نسبها لله سبحانه ، وللعالم بالكتاب في سياق واحد تعطينا : أن صيغة المبالغة «شهيدا» قد جاءت للتعبير عن الشهادة التي تكون هي الأشد حضورا ، والأكثر إحاطة وهيمنة وإشرافا ، والأبعد أثرا في التمكين من الإطلاع على دقائق الأحوال وخفاياها ، وعلى كل خصوصياتها وحقائقها ومزاياها. بحيث تكون ـ بملاحظة تعدد المنكشفات ـ ، بمثابة معاينات ومشاهدات متعددة ، ومباشرة حسية لذلك كله ..

فتعددها يوجب تعدد المشاهدات والشهادات ، فيصح المبالغة ـ والتكثير ـ بلحاظ ذلك.

ولذلك قال : «شهيدا».

كما أن نيل حقائقها ووقائعها قد أوصلها إلى درجة المحسوس المشاهد ، حتى لو كانت من الأمور التي لا تنالها الحواس الظاهرية.

فهل لأحد من أهل الكتاب هذه الإحاطة ، وهذا الإشراف ليصح أن يقال عنه : إنه شهيد ، وأن تقرن شهيديته بشهيدية الله تعالى؟!

٩ ـ إن الشهيدية في مورد الآية قد تعلقت بأمر لا تناله الحواس الظاهرة ، بل يعرف بالأدلة العقلية ، وبالبصيرة الهادية ، وبقضاء الفطرة ، والوجدان


المستند إلى الدليل والبرهان ـ حتى لو كان هذا الدليل هو المعجزة ـ في مقام التحدي.

ونيل العلم بالنبوة لا ينحصر بأهل الكتاب ، ولا بعبد الله بن سلام ، بل البشر جميعا يشاركونهم في ذلك ..

ولكن الأمر الذي تحدثت عنه الآية هنا هو شهيدية بالنبوة ، وإشراف على حقائقها ودقائقها ، مستند إلى العلم المأخوذ من الكتاب .. لا إلى العلم من خلال ظهور المعجزات .. مما يعني : أن دلائل هذه النبوة التي يعاينها ذلك العالم بالكتاب كثيرة جدا .. ومتعددة ، فالشهادة بالنبوة بمثابة شهادات بتلك الدلائل التي نالها ذلك العالم بعلمه ..

١٠ ـ كما أن شهيديته لا تكون بمجرد الإعلان بنعم ، أو بلا .. كما هو الحال في أية شهادة على أمر مختلف فيه .. بل هي شهادة فيها إظهار لخفيات مكّن العلم بالكتاب من إظهارها. وذلك بطريقة إعجازية ..

خصوصا : وأن الذين كفروا قد حسموا الأمر ، وأعلنوا رفضهم لنبوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بصورة جازمة وقالوا : (لَسْتَ مُرْسَلاً) فلم يكن هناك مجال للحوار ، ولا للأخذ والرد معهم ..

فجاء هذا الموقف ليواجه عنادهم هذا ، وليتحدى غطرستهم واستكبارهم ، وليكون بمثابة وعيد لهم بالانتقام ، وبعدم النجاة ، ما دام أن الأمور تعود إلى الله سبحانه ، وسيكون من عنده علم الكتاب هو الآخذ بكظمهم ، والمتولي لأمرهم.

فلا غرو إذا قلنا بعد ذلك كله : إن المقصود بالشهيدية هو مقام الشهادة على الخلق ، التي تختزن معنى الإحاطة والهيمنة ، والإشراف التام على كل الحالات والخصوصيات. والتي قرنت بشاهدية وشهيدية الله سبحانه ..


الذي هو مصدر الفيض والعطاء والتمكين لهذه الشهيدية للعالم بالكتاب المرتبطة به ، والمنتهية إليه أيضا ، لأن علمه به إنما هو بتعليم منه تعالى ..

فشهيدية هذا العالم بالكتاب مساوقة لشهيدية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١) (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢) (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) (٣).

ويكون هذا الشهيد معصوما ، لا مجال لاحتمال أي إخلال في حقه ، وقويا في ذات الله ، لا يدعوه إلى كتم الشهادة رغب ولا رهب.

عليم بالحقائق ، مطلع على أسرار الكائنات ، يمتلك ـ بتمليك الله سبحانه له ـ القدرة على حسم الأمور في الاتجاه الصحيح ..

وتكون الآية تتجه إلى ردّ التحدي ، والتصدي للإستكبار وأهله حيث تواجهه وتواجههم بالوعيد الحازم ، حيث يتولى الله ، ومن عنده علم الكتاب ـ ومن موقع العلم ، والقوة ، والقدرة على التصرف ـ مواجهتهم بما يناسب عنادهم ، وجحودهم ، واستكبارهم ، حيث سيكون علي «عليه‌السلام» هو الذي له مقام الشهيدية ، وهو المتولي لأمر الصراط ، فلا يمر عليه إلا من عنده جواز من علي «عليه‌السلام» (٤).

__________________

(١) الآية ١٤٣ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٤١ من سورة البقرة.

(٣) الآية ٧٨ من سورة الحج.

(٤) راجع : الإعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص ٧٠ والبحار ج ٨ ص ٧٠ وج ٣٩ ص ٢١١ وعيون أخبار الرضا «عليه‌السلام» ج ٢ ص ٢٧٢ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» للعطاردي ج ١ ص ١٢٣.


والذي يعطيه علي «عليه‌السلام» هذا الجواز هو من التزم الحق ، والصدق وتجنب الجحود عن علم ، وسمع كلمة الحق. ولم يتول مستكبرا عنها كأن لم يسمعها ..

وستكون معاملة علي «عليه‌السلام» معهم معاملة العارف بهم عن مشاهدة ومعاينة ، لمكان شهيديته ، وإشرافه على الكتاب ، وعلمه ومعرفته الدقيقة بحقائقه ودقائقه ، سواء في مجال التشريع أو في التكوين ، والهيمنة على السنن الإلهية .. في سياق العمل على تطبيق السياسة الربانية في الكون كله ، وفي الحياة كلها ..


الخاتمة



خاتمة الكتاب :

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد وآله ..

وبعد ..

١ ـ فقد انتهيت من تأليف هذا الكتاب ، كتاب «الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله». في هذه الأيام الصعبة والأليمة ، حيث الصدور حرى ، والعيون عبرى مما يجري على أهلنا وقرانا ، وكل جبل عامل الجريح ، وفي العديد من المناطق اللبنانية الأخرى ، وخصوصا الضاحية الجنوبية لبيروت ، وبعلبك ، والهرمل ، وسائر المناطق في البقاعين وسواهما .. على أيدي اليهود الذين اغتصبوا فلسطين وشردوا أهلها .. حيث كانت آلة حقدهم تصب حممها على شيعة أهل البيت «عليهم‌السلام» ، فتزهق أرواحهم ، وتمزق أجسادهم بما في ذلك أجساد النساء والرجال ، شيوخا وأطفالا ، وكبارا وصغارا ، وتهدم بيوتهم على رؤوسهم ، فيموت من يموت ، ويجرح من يجرح ، وتندر الأيدي ، وتقطع الأرجل ، وتتحطم العظام ، وتمزق الأجساد ، وتبقر البطون .. فإنا لله وإنا إليه راجعون ..

أما المشردون والتائهون في مختلف البلاد ، وهم مئات الألوف ، فالله أعلم بحقيقة معاناتهم ، وما يجري عليهم ، حتى إن منهم من يصعب عليه


حتى أن يجد الملاذ والمأوى ، فافترش الأرض ، والتحف السماء.

ولعل أقسى ما يؤلمهم هو شماتة الأعداء بهم ، بالإضافة إلى ما يعانونه من شظف العيش ، وفقدان أدنى مقومات الحياة ، فلا وطاء ، ولا غطاء ، ولا طعام ولا ماء ، ولا حتى دواء ، فضلا عما سوى ذلك ..

على أن هناك ثلة من أهلنا من أصحاب النفوس الأبية ، والأرواح القدسية ، قد بقيت متشبثة بأرضها وبيوتها ، تؤثر الموت فيما تهدّم منها ، على الهجرة عنها ، رغم أنها تعيش في أقسى ظروف يمكن أن يواجهها البشر ، حيث يقتلون على أيدي اليهود أحفاد قتلة الأنبياء ، وأعداء الصلحاء ، وإخوان القردة والخنازير ، ومردة الشياطين ، فكانت تحوم فوق رؤوسهم الطائرات ، المحملة بقنابل الحقد ، المشحونة بآلة الدمار ..

فلا تكاد تفارقهم لحظة واحدة ، وكل همها هو أن تتخير منهم من تشاء من أهل العفاف والتقوى ، ليكونوا أهدافا لها ، ترميهم بسهام الحقد في أية لحظة تشاء.

هذا ، بالإضافة إلى المدمرات والزوارق الحربية التي تتربص بهم ، والمدافع الثقيلة والدبابات التي تصب حممها فوق رؤوسهم ، مع احتمال أن يجتاحهم عدوهم بجنوده في كل ساعة ، وأية لحظة .. ليتفنن بالفتك بهم ..

هذا عدا عن أن الكثيرين منهم قد لا يجدون ما يدفعون به سورة الجوع والعطش عن أنفسهم .. فهم يأكلون الجشب ، ويشربون الكدر .. فيا لها من مصيبة ما أعظمها ، ومن جرح ما أشد ألمه ..

٢ ـ على أن كل هذا الحزن والأسى قد جاء متمازجا بشعور الكرامة والعزة والإباء ، ما دام أن تلك الوحوش الكاسرة إنما فتكت بهؤلاء الآمنين


من النساء ، والأطفال والمسنين ، بعد أن أذاقها أولئك الأشاوس ، عشاق علي والحسين والزهراء «عليهم‌السلام» مرارة الخزي والهوان ، والذل والخسران في ساحات الوغى ، فلاذت بالفرار ، وتوارت خلف الأسوار ، وصبت جام غضبها على الصغار والكبار ، وباءت بغضب العزيز الجبار ..

٣ ـ وكان مما امتحنني الله به ، هو تدمير مكتبتي ، التي كانت في بيتي في الضاحية الجنوبية لبيروت. واحتراق غرفة كانت تحوي شطرا من مكتبتي في عيثا الجبل أيضا .. وكانت تحوي بالإضافة إلى بعض المخطوطات القديمة جميع ما خطته يدي طيلة حياتي ، وما أكثره ، وقد التهمته النار ، وأتت عليه ، ولم يسلم لي حتى سطر واحد.

ولكن كل ذلك يهون ويرخص أمام ما عايناه من ألطاف إلهية ، شملت أهل الإيمان تمثلت بنصر قل نظيره ، وبعنايات ربانية مكنت محبي علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وشيعته الأوفياء ، ومواليه الصفياء من إذلال أعداء الله سبحانه ، فأبار الله كيدهم. وأظهر خزيهم ، وذلهم.

٤ ـ إن قسما كبيرا ، أو القسم الأكبر من آخر جزء من هذا الكتاب ، قد كتب في أجواء هذه الحرب ، وفي أماكن فرضت علينا المخاطر اللجوء إليها ، لأننا ظننا أنها أكثر أمنا ..

فربما لم نتمكن من إعطائها حقها ، ولو بمقدار ما حظيت به سائر أقسام هذا الكتاب ، وربما نكون قد غفلنا عن أمور كثيرة كان يحسن بنا ذكرها ، أو الإلماح إليها ، بنحو أو بآخر ..

فنحن نعتذر إلى القارئ الكريم عن أي تقصير يمكن أن يلاحظ فيها ..


٥ ـ وبالنسبة لعملنا في هذا الكتاب نود أن نعترف ونعتذر ، فنعترف بما يلي :

ألف : إننا بسبب تباعد أوقات عملنا فيه ، لم نستطع في مراجعاتنا لمصادر النصوص أن نعتمد على طبعة واحدة منها ، فاختلفت الطبعات لكثير من تلك المصادر ، حتى في الفصل الواحد ، وربما بين صفحة وأخرى ، بل بين مورد وآخر .. مثل : كنز العمال ، طبقات ابن سعد ، تاريخ الطبري ، الإصابة ، مسند أحمد ، البداية والنهاية ، السيرة النبوية لابن هشام ، تاريخ اليعقوبي ، صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، الكافي ، البحار ، وعشرات المصادر الأخرى ..

ب : قد يلمس القارئ الكريم بعض الإختلاف في طريقة التعاطي مع النصوص فيما بين الثلث الأول من أجزاء هذا الكتاب ، وبين الأجزاء التي تلتها ، حيث آثرنا في الأجزاء العشرين الأخيرة أن نعتمد طريقة حشد طائفة من النصوص أولا ، ثم نبدأ بمناقشتها ، أو بالتحليل لنصوصها. أو بتسجيل تحفظات ، أو إثارة تساؤلات حولها .. ضمن عناوين لا حقة .. حيث وجدنا في هذه الطريقة بعضا من السهولة علينا ، وإن كانت قد توجب حالة من التوزع للمطالب ، والتباعد بين موقع النص ، وموضع مناقشته ، أو تحليل نصوصه ..

الأمر الذي قد يتسبب بحدوث توهمات لدى القارئ الذي لم يطلع على طريقتنا التي ألمحنا إليها ، فيتوهم موافقتنا على مضمون النص ، مع أن الأمر على خلاف ذلك ..


ج : ثم إننا نريد أن نعتذر عن تقصيرنا في استقصاء النصوص ، وعن عزوفنا في أحيان كثيرة عن استقصاء المصادر ، فيؤدي ذلك الى إغفال بعض النصوص ، وإهمال نقاشها ، أو الإكتفاء بأقل القليل من ذلك.

وهذا ولا شك تقصير نستغفر الله فيه ، ونعتذر للقارئ الكريم عنه.

د : علينا أن نعتذر أيضا عن بعض الإستطرادات الطويلة ، التي قد يتضايق القارئ منها ، ويرى أنها فرضت عليه ، ربما لمبرر لا يعنيه ..

ه : ونعتذر أخيرا عن عدم مراعاتنا الضوابط الفنية المقررة في طريقة تسجيل النصوص ، وكيفية وضع الهوامش ، فقد يحمل ذلك بعض من يتقيد بهذه الأمور على إصدار أحكام قاسية ضدنا ، ونحن سوف نتلقاها بصدر رحب ، وسنعطيه كل الحق في ذلك.

وليكن هذا الإعتراف شافعا لنا عنده ، ووسيلتنا إليه ، ليقبل منا هذا الإعتذار.

و: وقبل الختام أحب أن أشير إلى أنه مهما قيل في قيمة هذا الجهد ، وفي مستواه .. فإنني أقدمه للقراء الأعزاء على أنه مجرد خطوة متواضعة ومحدودة ، معترفا بأنه لم يستطع أن يوفي السيرة النبوية حقها .. فتبقى الحاجة ملحة إلى كثير من الخطوات التي تكون أكثر ثباتا ، وأشد رسوخا في مجال التحقيق والتمحيص للنصوص ، وفي مجال استفادة المناهج الصحيحة ، والعبر الصريحة منها ..

ز : وبعد .. فإنني أزجي شكري الجزيل لإخوتي الأعزاء الذين لم يدخروا وسعا في مساعدتي ، وتذليل الصعاب التي كانت تواجهني ، فشكر الله سعيهم ، وتقبل عملهم هذا بأحسن القبول ، وأثابهم بما يثيب به المجاهدين في سبيله ، إنه


ولي قدير.

وأخيرا ، فإنني أهدي ثواب هذا الجهد المتواضع إلى والديّ ، وإلى شهداء هذه الهجمة الشرسة والحاقدة .. سائلا المولى الكريم أن ينصر عباده ، ويعز أولياءه ، إنه ولي قدير ..

جعفر مرتضى العاملي

لبنان ـ ٢٩ جمادى الثانية ١٤٢٧ للهجرة.

الموافق : ٢٥ تموز ٢٠٠٦ للميلاد.


الفهارس

١ ـ الفهرس الإجمالي

٢ ـ الفهرس التفصيلي



١ ـ الفهرس الإجمالي

الفصل السابع : تغسيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله..................................... ٥ ـ ٤٢

الفصل الثامن : تكفين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة عليه............................ ٤٣ ـ ٦٤

الباب الثالث عشر : دفن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حدث .. وتحقيق

الفصل الاول : دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.................................... ٦٧ ـ ١٠٠

الفصل الثاني : أين دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!.................................. ١٠١ ـ ١٤٠

الفصل الثالث : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مات شهيدا........................... ١٤١ ـ ١٩٢

الفصل الرابع : جسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السماء............................. ١٩٣ ـ ٢١٦

الباب الرابع عشر : السقيفة عرض وتحليل ..

الفصل الأول : ممهدات.............................................. ٢١٩ ـ ٢٤٤

الفصل الثاني : ما جرى في السقيفة.................................... ٢٤٥ ـ ٢٩٢

الفصل الثالث : الأنصار .. ضحية حنكة أبي بكر...................... ٢٩٣ ـ ٣١٢

الفصل الرابع : السقيفة .. انقلاب مسلح!!............................ ٣١٣ ـ ٣٤٠

الفصل الأخير : إستدراكات لا بد منها................................ ٣٤١ ـ ٣٧٢

الخاتمة.............................................................. ٣٧٣ ـ ٣٨٠

الفهارس :.......................................................... ٣٨١ ـ ٣٩٢



٢ ـ الفهرس التفصيلي

الفصل السابع : تغسيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

إبليس يغريهم بترك تغسيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :.......................................... ٧

تغسيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :......................................................... ٨

متى أقبل الناس على جهاز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! :.................................... ١١

موقف عائشة من غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :........................................... ١٢

أوس بن خولي شارك في الدفن لا في التغسيل :................................... ١٢

تجريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للغسل :................................................ ١٣

أبو بكر : كل قوم أحق بجنازتهم :............................................. ١٥

أمور أخرى تضمنتها الرواية :.................................................. ١٧

علي عليه‌السلام يغسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده :........................................... ١٧

المقصود برؤية عورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :............................................... ٢٥

تغسيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قميصه :................................................ ٢٦

إفتراؤهم على علي عليه‌السلام :.................................................... ٣١

هل تجريد الميت سنة :........................................................ ٣٤

الوصي يغسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :.................................................... ٣٤

نصوص حول التجهيز والدفن :................................................ ٣٥

إحتضان فضل بن عباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :.......................................... ٣٧


غسّل ثلاثا بالسدر :......................................................... ٤٠

علي عليه‌السلام يمسح عين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلسانه :...................................... ٤٠

غسل مس الميت :........................................................... ٤١

الفصل الثامن : تكفين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة عليه

الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :................................................ ٤٥

صلاة أهل السقيفة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :.......................................... ٤٩

كيفية الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :............................................... ٥١

تكفين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :..................................................... ٥٥

علي عليه‌السلام كفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده :............................................. ٥٧

حديث أهل البيت عليهم‌السلام هو الأصح :......................................... ٥٧

تناقض روايات أهل السنة :................................................... ٥٩

تناقض موهوم :............................................................. ٦٤

الباب الثالث عشر : دفن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : حدث .. وتحقيق

الفصل الأول : دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحداث وتفاصيل :........................................ ٦٩

أبو طلحة يلحد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :............................................. ٧٢

شقران .. والقطيفة الحمراء :................................................... ٧٦

لم ينزل في حفرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير علي عليه‌السلام :.................................... ٧٨

قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :........................................................ ٧٩

آخر الناس عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :............................................ ٨١

الزهراء عليها‌السلام ترثي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :............................... ٨٩


الزهراء عليها‌السلام تخاطب أنسا :................................................... ٩٢

الجزع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :.................................................. ٩٣

الخضر عليه‌السلام يعزي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :.......................................... ٩٧

الفصل الثاني : أين دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! ..

الإختلاف في موضع دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الصلاة عليه :......................... ١٠٣

الصدمة الكبرى لعائشة :................................................... ١٠٥

هل أشار أبو بكر بدفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته؟! :................................ ١٠٩

في مكة أو في المدينة؟! :.................................................... ١١٨

أين دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :...................................................... ١١٩

الفصل الثالث : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مات شهيدا

محاولات إغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :.................................... ١٤٣

نصوص مأثورة عامة :...................................................... ١٤٥

حديث سم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خيبر :............................................ ١٤٦

والله يعصمك من الناس :................................................... ١٥٠

الروايات حول سم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :.............................................. ١٥١

سم اليهودية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في روايات السنة :............................... ١٥١

نظرة في النصوص المتقدمة :................................................. ١٥٩

هذا الحديث من طرق الشيعة :.............................................. ١٦٥

نقد الروايات :............................................................. ١٦٩

هل سم المسلمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! :........................................ ١٧٦

أي ذلك هو الصحيح؟! :.................................................. ١٧٨


ما من نبي أو وصي إلا شهيد :.............................................. ١٨١

المفيد رحمه‌الله ينكر حديث ما منا إلا مقتول :.................................. ١٨٥

الفصل الرابع : جسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السماء ..

جسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يرفع إلى السماء :.......................................... ١٩٥

الطائفة الأولى :......................................................... ١٩٨

وقفات مع الروايات :....................................................... ٢٠٢

ألف : حديث الإستسقاء بعظم نبي :...................................... ٢٠٢

ب : حديث زيارة عظام آدم ويوسف :.................................... ٢٠٤

تذكير :................................................................ ٢٠٥

ج : إبراهيم الديزج وقبر الإمام الحسين عليه‌السلام :.............................. ٢٠٦

د : شعيب بن صالح :................................................... ٢٠٧

الطائفة الثانية :......................................................... ٢٠٧

وقفات مع الروايات :.................................................... ٢١١

إلحاق الوصي بالنبي بعد الموت :........................................... ٢١١

رواية الثلاثة أيام :.......................................................... ٢١٢

رفع الروح ، واللحم ، والعظم :............................................ ٢١٣

جسد الإمام الحسين عليه‌السلام :.............................................. ٢١٤

النتيجة :............................................................... ٢١٥

الثلاثة أيام والأربعون :...................................................... ٢١٦


الباب الرابع عشر : السقيفة عرض وتحليل ..

الفصل الأول : ممهدات ..

قريش والخلافة :........................................................... ٢٢١

أجواء دعت إلى السقيفة :.................................................. ٢٢١

التناقض في الموقف من الخلافة :............................................. ٢٢٣

دعوى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف :.......................................... ٢٢٩

الفصل الثاني : ما جرى في السقيفة ..

روايتهم لأحداث السقيفة :.................................................. ٢٤٩

توضيح بضع كلمات :...................................................... ٢٥٩

عمر ينكر موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :............................................. ٢٦٠

أسئلة تحتاج الى جواب :.................................................... ٢٦٢

السنح على بعد ميل واحد :................................................. ٢٦٣

صدمة محسوبة :........................................................... ٢٦٤

أفإن مات أو قتل :......................................................... ٢٦٤

ثلاثة احتمالات لا تفيد عمر :.............................................. ٢٦٦

شجاعة أم عدم اكتراث لموت الرسول؟! :..................................... ٢٦٧

شجاعة أبي بكر :......................................................... ٢٦٨

الشيخان إلى السقيفة :..................................................... ٢٧٠

إجتماع المهاجرين إلى أبي بكر :.............................................. ٢٧١

استدلالات أبي بكر على أن الخلافة لقريش :.................................. ٢٧٢

بماذا استحق أبو بكر الخلافة؟! :............................................. ٢٧٣


١ ـ كبر سن أبي بكر :................................................... ٢٧٤

٢ ـ ثاني اثنين إذ هما في الغار :............................................ ٢٧٨

٣ ـ أول من أسلم :...................................................... ٢٧٨

٤ ـ صلاة أبي بكر بالناس :............................................... ٢٧٨

٥ ـ صاحب رسول الله وصديق :.......................................... ٢٧٩

لا يخالفنا أحد إلا قتلناه :................................................... ٢٧٩

رواية مكذوبة :............................................................ ٢٨٠

حضور علي عليه‌السلام في السقيفة :.............................................. ٢٨٢

الإفتئات على أمير المؤمنين عليه‌السلام :........................................... ٢٨٤

التدليس غير المقبول :...................................................... ٢٨٨

أبو بكر يختار أحد الرجلين :................................................ ٢٩٠

الفصل الثالث : الأنصار .. ضحايا حنكة أبي بكر

ما تنعقد به الإمامة :....................................................... ٢٩٥

لو لا الأنصار :............................................................ ٢٩٦

نقاط ضعف في موقف الخزرج :.............................................. ٢٩٧

الجرأة والمفاجأة :........................................................... ٢٩٩

ثلاثة أشخاص يبتزونهم :.................................................... ٢٩٩

توضيح خطبة أبي بكر :.................................................... ٣٠١

الذين لم يبايعوا أبا بكر :.................................................... ٣٠٤

أبو بكر لم يدع النص :..................................................... ٣٠٦

موقفنا من حديث أبي بكر :................................................ ٣٠٩


الفصل الرابع : السقيفة .. انقلاب مسلح!!

الإكراه في بيعة أبي بكر :................................................... ٣١٥

كبس الناس في بيوتهم :..................................................... ٣٢٠

أربعة آلاف مقاتل :........................................................ ٣٢٣

بنو أسلم والإكراه على البيعة :............................................... ٣٢٦

التشكيك غير المقبول في رواية الخزاعي :....................................... ٣٢٩

المدينة .. وسكانها :........................................................ ٣٣٣

بنو أسلم في هذه الآية :.................................................... ٣٣٦

ثلاثة أشخاص لا يجبرون مائة ألف :......................................... ٣٣٦

الفصل الأخير : إستدراكات لا بد منها

بداية :................................................................... ٣٤٣

١ ـ ووجدك ضالا فهدى :................................................ ٣٤٣

من نتائج ما تقدم :...................................................... ٣٤٨

توضيح وبيان :.......................................................... ٣٥١

٢ ـ شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد :.................................. ٣٥١

٣ ـ لما ذا ولد علي عليه‌السلام في الكعبة؟! :..................................... ٣٥٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقتل أحدا ؛ لما ذا؟.......................................... ٣٥٦

معالجة قضايا الروح والنفس :............................................. ٣٥٧

ولادة علي عليه‌السلام في الكعبة صنع الله :...................................... ٣٥٧

الرصيد الوجداني آثار وسمات :............................................ ٣٥٨

ولادة علي عليه‌السلام في الكعبة لطف بالأمة :.................................. ٣٥٩


٤ ـ أهل الكتاب ليس عندهم علم الكتاب :................................ ٣٦١

الخاتمة :

خاتمة الكتاب :............................................................ ٣٧٥

الفهارس :

١ ـ الفهرس الإجمالي..................................................... ٣٨٣

٢ ـ الفهرس التفصيلي.................................................... ٣٨٥

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ٣٣

المؤلف:
الصفحات: 392