

الباب الرابع
حرب أوطاس .. وحصار
الطائف
الفصل
الأول : أوطاس في الحديث والتاريط
الفصل
الثاني : حصار الطائف
الفصل
الثالث : المنجنيق في الطائف
الفصل
الرابع : من أحداث أيام الحصار
الفصل
الخامس : نهايات حرب الطائف
الفصل السادس : حقائق تجاهلوها
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين
إلى قيام يوم الدين ..
وبعد
..
نتابع فيه
حديثنا عن هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الإسلام ، والتي انتهت بسقوط عنفوان الشرك
، في المنطقة بأسرها .. لتكون الهيمنة المطلقة للإسلام وللمسلمين ، باعتراف صريح
من رموز الشرك ، وعتاته ، وفراعنته ، وجباريه.
وتتمثل نهايات
هذه المرحلة بحسم الأمر بالنسبة لقبيلة هوازن في حنين وأوطاس .. وسقوط ثقيف وخثعم
في الطائف ..
ثم تبع هذه
المرحلة تداعيات طبيعية ، تمثلت بانثيال وفود قبائل العرب على المدينة ، ليعلنوا
ولاءهم ، وتأييدهم ، وقبولهم بالإسلام دينا ، واعترافهم بمحمد نبيا ..
والذي يعنينا
الحديث عنه في هذا الباب وفصوله هو عرض ما جرى في حنين ، وأوطاس ، والطائف ..
وأما الحديث عن
الوفود ، وعن سائر الأحداث الهامة ، فنأمل أن نوفق للتعرض له فيما سوى ذلك من
أبواب إن شاء الله تعالى ..
فنقول
.. ونتوكل على خير مأمول ومسؤول :
الفصل الأول :
أوطاس في الحديث
والتاريخ
رواياتهم عن أوطاس :
تتدرج
رواياتهم في تضخيم الأمور ، فتراها على النحو التالي :
١ ـ قالوا :
إنه «صلىاللهعليهوآله» بعث أبا عامر وجماعة معه في أثر فرّار هوازن يوم حنين
، فأدرك بعض المنهزمين فناوشوه القتال ، فرمي أبو عامر بسهم فقتل ، فأخذ الراية
أبو موسى ، ففتح الله عليه ، وهزمهم الله .
٢ ـ وقالوا :
إن هوازن لما انهزمت يوم حنين ذهبت فرقة منهما فيهما رئيسهم مالك بن عوف النصري ،
فلجأت إلى الطائف ، فتحصنت.
وفرقة
أخرى عسكرت بمكان يقال له : أوطاس ، فبعث رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى هذه سرية ، وأمّر عليهم أبا عامر الأشعري.
ثم سار رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» بنفسه الكريمة إلى الطائف فحاصرها.
قال
أبو موسى الأشعري : بعث رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أبا عامر الأشعري على جيش إلى أوطاس ، فلقي دريد بن
الصمة ، فقتل دريد ،
__________________
وهزم الله تعالى أصحابه .
٣ ـ وزعموا
أيضا : أن أبا عامر بارز تسعة فرسان يقال : إنهم إخوة ، فقتلهم واحدا بعد واحد ،
بعد أن كان يدعوهم إلى الإسلام. ثم برز أخوهم العاشر فقتل أبا عامر .
__________________
٤ ـ وعن أبي
موسى أيضا أنه قال : بعثني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مع أبي عامر ، قال سلمة بن الأكوع ، وابن هشام : لما
نزلت هوازن عسكروا بأوطاس عسكرا عظيما ، وقد تفرق منهم من تفرق ، وقتل من قتل ،
وأسر من أسر ، فانتهينا إلى عسكرهم ، فإذا هم ممتنعون ، فبرز رجل معلم يبحث للقتال
، فبرز له أبو عامر فدعاه إلى الإسلام ، ويقول : اللهم اشهد عليه.
فقال
الرجل : اللهم لا تشهد
علي.
فكف عنه أبو
عامر ، فأفلت ، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه.
فكان
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إذا
رآه يقول : «هذا شريد أبي
عامر» .
قتل أبي عامر :
وقال
ابن هشام : ورمى أبا عامر أخوان : العلاء ، وأوفى ، ابنا الحارث ، من بني جشم بن
معاوية ، فأصاب أحدهما قلبه ، والآخر ركبته فقتلاه .
__________________
قال
أبو موسى : رمي أبو عامر في ركبته ، رماه جشمي .
وفي
حديث سلمة : أن العاشر ضرب أبا
عامر فأثبته. قال سلمة : فاحتملناه وبه رمق.
وقال
أبو موسى : فانتهيت إلى أبي عامر ، فقلت له : يا أبا عامر ، من رماك؟
فأشار
إلى أبي موسى ، وقال : ذاكه قاتلي الذي رماني. (أي هو صاحب العصابة الصفراء).
قال
أبو موسى : فقصدت له فلحقته ، فلما رآني ولىّ ، فاتبعته ، وجعلت أقول له : ألا تستحي
، ألا تثبت؟
__________________
فكفّ ،
فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته.
ثم
قلت لأبي عامر : قتل الله صاحبك.
قال
: فانزع هذا
السهم فنزعته ، فنزا منه الماء.
فقال
: يا ابن أخي
أقرئ النبي «صلىاللهعليهوآله» السلام ، وقل له :
استغفر لي.
أبو موسى يخلف أبا عامر :
قال
أبو موسى : واستخلفني أبو عامر على الناس ، فمكث يسيرا ثم مات .
وفي
حديث سلمة : وأوصى أبو عامر إلى أبي موسى ، ودفع إليه الراية وقال : ادفع فرسي وسلاحي
إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
فقاتلهم أبو
موسى حتى فتح الله تعالى عليه ، وانهزم المشركون
__________________
بأوطاس ، وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا ، وقتل قاتل أبي عامر ، وجاء
بسلاحه وتركته وفرسه الى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وقال : إن أبا عامر أمرني بذلك.
دعاء النبي صلىاللهعليهوآله لأبي عامر ، وأبي موسى :
وفي حديث أبي
موسى : «فرجعت ، فدخلت على النبي «صلىاللهعليهوآله» في بيته ، وهو على سرير مرمل ، وعليه فراش قد أثر رمال
السرير بظهره وجنبيه ، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر ، وقال : قل له : استغفر لي.
فدعا
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بماء
فتوضأ ، ثم رفع يديه فقال : «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر».
ورأيت
بياض إبطيه ، ثم قال : «اللهم اجعله
يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس».
فقلت
: ولي ،
فاستغفر.
فقال
: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه ، وأدخله يوم القيامة
مدخلا كريما .
__________________
ونقول
:
إيضاحات :
أوطاس
: واد في ديار
هوازن ، وهو موضع قرب حنين إلى جهة الطائف. وكانت هوازن وثقيف في بادئ الأمر قد
عسكروا هناك ، ثم التقوا هم والمسلمون بحنين ـ اسم جبل ـ فانهزمت هوازن ومن معها ،
فصارت طائفة من المشركين إلى الطائف ، وأخرى إلى نخيلة ، وثالثة إلى أوطاس .
وسرير
مرمل : أي منسوج بحبل
ونحوه ، وهي حبال الحصر التي يضفر بها الأسرة.
أبو موسى بطل شجاع!! :
قال
أبو موسى الأشعري : لما هزم الله المشركين يوم حنين ، بعث رسول
__________________
الله «صلىاللهعليهوآله» على خيل الطلب أبا عامر الأشعري ، وأنا معه.
فقتل ابن دريد أبا عامر ، فعدلت إليه فقتلته ، وأخذت اللواء .
ونحن نشك في
صحة أقوال أبي موسى.
فأولا
: قد اختلفوا في
قاتل أبي عامر. هل هو سلمة بن دريد؟ أو اشترك فيه رجلان أخوان ، هما : العلاء ،
وأوفى ، ابنا الحارث ، من بني جشم؟! رماه أحدهما في قلبه ، والآخر في ركبته ،
فقتلاه .
ثانيا
: هل قتل أبو
موسى قاتل أبي عامر قبل أن يموت أبو عامر ، كما تقدم في حديث سلمة؟ أو قتله بعد
موت أبي عامر ، كما دلت عليه الرواية المتقدمة وسواها؟
وهل قتل رجلا
واحدا أم رجلين؟!
إن الروايات قد
اختلفت في ذلك ، فلا شك في أن بعضها مكذوب ، ويبقى البعض الآخر الذي لا بد من
التأكد من صدقه أيضا ..
ثالثا
: هل أخذ أبو
موسى اللواء بمبادرة منه ، بمجرد قتل ابن دريد ،
__________________
وذلك بعد موت أبي عامر ، كما صرحت به الرواية الآنفة الذكر ، التي هي محل
البحث؟ أو أن أبا عامر أوصى بدفع الراية إلى أبي موسى قبل موته ، وقال له : ادفع
فرسي وسلاحي إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟! الخ ..
رابعا
: تقدم أنهم
زعموا : أن أبا عامر قد لقي عشر إخوة ، فقتلهم واحدا بعد واحد ، حتى كان العاشر ،
فحمل عليه أبو عامر ، وهو يدعوه إلى الإسلام ، ويقول : اللهم اشهد عليه.
فقال
الرجل : اللهم لا تشهد
علي.
فكف عنه أبو
عامر ، ظنا منه أنه قد أسلم ، فقتله العاشر ثم أسلم بعد.
ثم
ذكروا أيضا : أن نفس هذا العاشر قد عاد إلى أبي عامر فقتله. ثم بقي هذا القاتل حيا ، وقد
أسلم بعد ، فحسن إسلامه ، فكان النبي «صلىاللهعليهوآله» يسميه : «شهيد أبي عامر» ، أو «شريد أبي عامر» .
فما
معنى قولهم : إن أخوين قتلاه؟! وإن أبا موسى قد قتل قاتله؟!
وإن
كان الصالحي الشامي قد شكك بهذه الرواية التي تقول : إن الأخ العاشر قد قتل أبا عامر ، زاعما : أنها من قول
ابن هشام لا من قول ابن إسحاق. وأن ما نقله عن ابن إسحاق ليس في رواية البكائي و..
و..
__________________
الخ .. .
غير
أننا نقول :
إن عدم وجودها
في رواية البكائي لا يعني أنها لا توجد في رواية غيره.
وجزم
ابن سعد ، والواقدي : بأن العاشر لم يسلم ، لا يدفع الشك الذي أو جدته الرواية التي تقول : إنه
قد أسلم ، وإنه لم يقتل .
من الذي ولى أبا موسى :
قد
تقدم : أن أبا موسى
قال : «واستخلفني أبو عامر على الناس ، فمكث يسيرا ثم مات» .
وفي
حديث سلمة ابن الأكوع : «ودفع إليه
الراية» .
غير
أن ذلك أيضا موضع شك ، فإن ابن هشام قال : «وولى الناس أبا موسى» .
__________________
أبو عامر على خيل الطلب :
ونحن لا ننكر
أن يكون أبو عامر قد قتل بعض المشركين ، كما أننا لا نريد أن نشكك في أن يكون «صلىاللهعليهوآله» قد كلفه بمهمة من نوع ما في حرب حنين .. غير أننا نقول
:
إنه
يظهر لنا : أن ثمة تضخيما للأمور أخرج قضية أبي عامر عن سياقها الطبيعي ، ولعل سبب
هذا التضخيم هو إرادة منح أبي موسى الذي خان الله ورسوله في التحكيم في صفين نصيبا
كان يرغب في الحصول عليه ..
ولعل
الذي حصل هو : أن من طبيعة الحروب أن تكون هناك بعض المجموعات التي تتولى ملاحقة
المهزومين ، لتفريق شملهم ، وتشتيتهم ، لمنعهم من التجمع مرة أخرى ، ثم العودة
لمباغتة الجيش المنتصر ، وإلحاق الأذى به.
وهذا
بالذات هو ما حصل فعلا ، فقد تقدم قول أبي موسى : «لما هزم الله المشركين يوم حنين ، بعث «صلىاللهعليهوآله» على خيل الطلب أبا عامر الأشعري ، وأنا معه الخ ..» .
ويشير
إلى ذلك أيضا قولهم : إنه «صلىاللهعليهوآله» بعث أبا عامر «في
__________________
آثار فرّار هوازن ، فأدرك بعض المنهزمين فناوشوه القتال الخ ..» . فلما ذا إذن يضخمون الأمور ، فيقولون : لما نزلت هوازن
عسكروا بأوطاس عسكرا عظيما ..
إلى
أن قال : فانتهينا إلى
عسكرهم ، فإذا هم ممتنعون.
ثم
تذكر الرواية : حديث المبارزة بين أبي عامر وعشرة إخوة من المشركين .. فإن قولهم : إنهم
كانوا قد أنشأوا معسكرا هناك بعد هزيمتهم ، لا يصح ، لأن من تقع عليهم الهزيمة ،
وتكون الخيل في أثرهم ، لا تكون لديهم فرصة لإنشاء عسكر عظيم ، ثم الإمتناع فيه.
على أن هذا
القائل لم يذكر لنا بأي شيء كانوا ممتنعين. إلا إن كان مقصوده بالإمتناع : أنهم
متيقظون حذرون ، لا أكثر ..
وإن
كان المراد : أن معسكر هوازن الذي أنشأوه قبل الهزيمة ، وقد قتل منه من قتل ، وسبي فيه
من سبي ، وتفرق من تفرق ، وبقيت بقية منه قد امتنعت في مواضعها ، ومعسكرها.
فذلك
أيضا لا يصح ، لأن المفروض : أن أبا عامر قد لحق بهم بعد هزيمتهم ، وكان يطاردهم على
الخيل ، فهم لم يبقوا في مواضعهم ، ليعسكروا ويمتنعوا ..
قتل دريد بن الصمة :
وأما
ما ذكر في النص السابق : من أن أبا عامر قد لقي دريد بن الصمة ،
__________________
فقتل دريد ، وهزم الله تعالى أصحابه .
فهو
أيضا : غير دقيق ،
فإن دريد بن الصمة كان أعمى ، وكان طاعنا في السن ، وكان محمولا في شجار له ، ولم
يرض بأن يوكل إليه أمر القيادة في ذلك الجيش ، لا عليه كله ، ولا على بعضه .. ولم
يكن معه جماعة يقاتل بهم ، أو معهم.
بل
تقدم : أن أحد
المقاتلين لقيه دريد بن الصمة ـ واسمه قنيع ـ فقتله ، وكان قد ظن في بادئ الأمر
أنه امرأة .
خيل الطلب ، والمبارزة ، وقتل أبي عامر :
وعن
الرواية التي تزعم : أن أبا عامر قد بارز عشرة من الرجال كلهم إخوة ، فقتل تسعة منهم ، ثم خدعه
العاشر ، وأفلت منه ، ثم عاد ذلك الذي
__________________
أفلت إلى أبي عامر ، فقتله ، نقول :
١ ـ إنه إذا
كان أبو عامر يقود خيل الطلب ، وهي الخيل التي تطارد فلول المنهزمين ، فلا تسنح
الفرصة لتلك الفلول للإصطفاف ، وطلب البراز ، بل تكون همة هؤلاء في النجاة بأنفسهم
، وهمة أولئك في الإمعان بتشتيتهم ، وأخذ من يمكن أخذه منهم.
٢ ـ على أن ما
تقدم في حرب حنين ، قد دل على أن جيش المشركين قد ملئ رعبا وخوفا ، بل إن
المنهزمين حسب تصريحهم قد أمعنوا في الهرب ، حتى دخلوا حصن ثقيف ، وهم يظنون أن
المسلمون خلفهم ، يطاردونهم ، ويوشكون أن يدخلوا معهم إلى الحصن ..
وهذا ما صنعه
الله تعالى لنبيه «صلىاللهعليهوآله» ، حيث إن رؤيتهم للجنود التي أنزلها الله له قد
أرعبتهم ، وقد رسخ هذا الرعب وضاعفه لديهم ما عانوه من سيف علي «عليهالسلام» ، الذي حصد منهم العشرات ، بل المئات حسبما تقدم. مع
العلم بأن أحدا غير علي «عليهالسلام» لم يطعن برمح ، ولم يرم بسهم ، ولم يضرب بسيف ، كما
صرحت به النصوص.
وقد
قلنا : إن ذلك يدل
على : أن جميع قتلى المشركين في حنين قد قتلوا بسيفه «عليهالسلام» ، ولا يمكنهم إثبات خلاف ذلك ، إلا على سبيل التحكم ،
والمكابرة
وقد
تقدم : أن راجعة
المسلمين ما رجعت من الهزيمة حتى وجدت الأسارى مكتفين عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وهم أكثر من ألف فارس ، وستة آلاف سبية ، وعشرات
الألوف من الإبل ، والمواشي المختلفة ..
٣ ـ على أنه قد
تقدم في حديث سلمة بن الأكوع : أن أبا موسى سأل
أبا عامر : من رماك؟ فدله عليه أبو عامر بالإشارة .. فلو أن أبا عامر قد
بارز الإخوة العشرة ، وقتل في المبارزة ، فلا بد أن يراه كل الناس ، ولا سيما
الفرسان المعروفون منهم ، والذين يقفون عادة في الصفوف الأولى ، ويشاهدون ما يجري.
إلا إن كان لم
يقتله حين المبارزة ، بل قتله بعد ذلك حين اختلط الناس.
إلا
أن ذلك يتعارض مع ما زعموه : من أنه قتل على يد رجلين ، ومن أن أبا موسى قد قتل
قاتله ، مع أن ذلك العاشر قد أسلم وحسن إسلامه وغير ذلك.
٤ ـ قولهم :
إنه حين نزع السهم نزا من جرحه الماء.
نقول
فيه : إن المفروض هو
: أن يسيل الدم وليس الماء ، إذ من أين يأتي الماء؟ سواء أكان قد أصاب السهم قلبه
، أو أصاب ركبته ، حسبما ورد في الروايات الأخرى.
دعاء النبي صلىاللهعليهوآله لأبي موسى :
وعن
دعاء النبي «صلىاللهعليهوآله» لأبي
موسى نقول :
إن الكلام حول
أبي موسى الأشعري واستقامته على جادة الحق يحتاج إلى فرصة أخرى.
غير
أننا نكتفي هنا بالقول : إن دعاء النبي «صلىاللهعليهوآله» مستجاب بلا شك ، ولا يصح لعن من دعا له النبي «صلىاللهعليهوآله» بأن يدخله الله يوم القيامة مدخلا كريما.
فكيف كان علي «عليهالسلام» ـ بعد قضية التحكيم ، التي خان فيها أبو
موسى الله تعالى ورسوله ـ يقنت في الفجر والمغرب ويلعن معاوية ، وعمرو بن
العاص ، والمغيرة ، والوليد بن عقبة ، وأبا الأعور ، والضحاك بن قيس ، وبسر بن أبي
أرطأة ، وحبيب بن مسلمة ، وأبا موسى الأشعري ، ومروان؟!
وكان هؤلاء
يقنتون عليه ، ويلعنونه .
وفيما كتبه
الإمام الرضا «عليهالسلام» للمأمون ، من محض الإسلام : أن البراءة من الذين ظلموا
آل محمد «صلىاللهعليهوآله» واجبة ، وذكر لعن معاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبي موسى
الأشعري .
وقال
أبو موسى لأبي ذر : يا أخي.
فطرده
أبو ذر عن نفسه ، وقال له : لست بأخيك ، إنما كنت أخاك قبل
__________________
أن تستعمل .
وقال له الأشتر
لما بعثه علي «عليهالسلام» لإخراج أبي موسى من الكوفة : «فو الله ، إنك لمن
المنافقين قديما» .
وقال
أبو عمر في الإستيعاب : روي فيه لحذيفة كلام كرهت ذكره.
قال
المعتزلي : مراد الإستيعاب : أن أبا موسى ذكر عند حذيفة بالدين ، فقال : أما أنتم
فتقولون ذلك ، وأما أنا فأشهد أنه عدو لله ولرسوله ، وحرب لهما في الحياة الدنيا
ويوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ولهم اللعنة ، ولهم سوء الدار
.
وكان حذيفة
عارفا بالمنافقين ، أسرّ إليه النبي «صلىاللهعليهوآله» أمرهم ، وعرفه أسماءهم .
__________________
وروي
أيضا : أن عمارا سئل
عن أبي موسى ، فقال : لقد سمعت فيه من حذيفة قولا عظيما ، سمعته يقول : صاحب
البرنس الأسود ، ثم كلح منه كلوحا علمت أنه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط .
وروي
عن النبي «صلىاللهعليهوآله» : أنه وصفه بالسامري .
__________________
محاولة اغتيال الرسول صلىاللهعليهوآله :
وقال
أبو بردة بن نيار : لما كنا بأوطاس ، نزلنا تحت شجرة ، ونظرنا إلى شجرة عظيمة ، فنزل رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» تحتها وعلق سيفه وقوسه ، وكنت أقرب أصحابي إليه ، فما
راعني إلا صوته : يا أبا بردة.
فقلت
: لبيك يا رسول
الله. فأقبلت سريعا ، فإذا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» جالس ، وعنده رجل جالس.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : إن هذا الرجل جاءني وأنا نائم ، فسل سيفي ، وقام به
على رأسى ، فانتبهت وهو يقول : يا محمد ، من يمنعك مني؟
فقلت
: الله تعالى.
قال
أبو بردة : فسللت سيفي.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : شم سيفك.
فقلت
: يا رسول الله
، دعني أضرب عنق عدو الله ، فإنه من عيون المشركين.
فقال
لي : «اسكت يا أبا بردة».
فما قال له
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» شيئا ، ولا عاقبه.
قال
: فجعلت أصيح به
في العسكر لأشهره للناس ، فيقتله قاتل بغير أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأما أنا فقد كفني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن قتله.
فجعل
النبي «صلىاللهعليهوآله» يقول
: «يا أبا بردة ، كف عن الرجل».
فرجعت
إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ،
فقال : «يا أبا بردة ، إن الله
مانعي وحافظي ، حتى يظهر دينه على الدين كله» .
ونقول
:
إن
علينا أن ننبه القاري الكريم هنا إلى ما يلي :
١ ـ تشابه الأحداث :
قد
يتبادر إلى ذهن القارئ هنا سؤال يقول : إن هذا الحادث قد ذكر في أكثر من غزوة ، وأكثر من مقام
.. فلما ذا كان ذلك؟!
وكيف يجب أن
نتعامل مع هذه الظاهرة؟!
ونجيب
: لعل أحدا لا
يستطيع أن يتيقن بعدم تكرار محاولات قتل النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ما دام أن الناس يتشابهون في تفكيرهم ، واندفاعاتهم
، حين تتوفر لهم عناصر ذلك ويرونها ماثلة أمام أعينهم ، وفي متناول يدهم ، كما هو
الحال في هذه الحوادث. فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» في جميع سفراته ، وتحركاته يأتي إليه الناس ، ويحضرون
مجالسه ، ويسيرون في ركابه ، وبالقرب منه ، وقد يراه بعض أعدائه وحده ، فتظهر لديه
رغبة في اغتنام الفرصة لقتله ، ويزين له الشيطان أنه قادر على ذلك ..
ولا سيما إذا
آنس منه غفلة عنه ، أو ظن أنه مستغرق في النوم ، أو أنه لا يراه ، فيبادر إلى فعل
مقدمات ذلك ، وإذ به يفاجأ بكرامة الله لنبيه ، ويكون ذلك برهانا لكل جاحد ، وحجة
على كل معاند ، وتثبيتا لأهل الإيمان على إيمانهم.
__________________
وقد
يقال : إن ذلك ، وإن
كان ممكنا في نفسه ، ولكن التحقيق في وقوعه يحتاج إلى وسائل إثبات تكفي لذلك ، وهي
لا تكاد توجد ، لأن نقلة هذه الأخبار ليسوا في المستوى المطلوب من حيث الوثاقة ،
والدقة والتحري. بل قد وجدنا في نقولاتهم الكثير من أسباب الشك والريب ، وفيها ما
يقطع بكذبه ، أو بتحريفه.
غير
أننا نقول :
إن
ذلك لا يعني : أنه يجب الحكم بسقوط هذه الأخبار عن الإعتبار ، ولزوم صرف النظر عنها
جميعها ، فإن الموقف العلمي منها يقضي : بلزوم تصفيتها ، وتنقيتها من كل ما هو
موهون ومشكوك ، ومكذوب ، ثم الأخذ بعصارتها ، وصفوتها ، حتى وإن عسر تحديد زمان
وقوعها ، أو لم يمكن تحديد الواقع منها. هل هو مرة؟ أو مرات؟ ما دام ان ذلك لا
يؤثر على أصل ما ينبغي أن يستفاد منها ، من عبرة أو فكرة ، أو مفهوم إيماني ، أو
تربوي ، أو ما إلى ذلك ..
٢ ـ لا يطاع الله من
حيث يعصى :
وقد
اظهرت الروايات السابقة : أن أبا بردة بن نيار يصر على مخالفة امر رسول الله «صلىاللهعليهوآله». بل هو يسعى في الناس ليجد من يبادر إلى القيام بعمل
ظهر له أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا يريده ..
فلما ذا أصبح
أبو بردة حريصا على قتل هذا الرجل إلى هذا الحد؟! وهل يريد أن يثبت للناس وللرسول
شدة حبه له بهذه الطريقة المؤذية لشخص الرسول ، من حيث إنه يريد أن يثبت أنه
يتفانى في حبه؟! وكيف جاز له أن
يخالف أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الذي أصدره إليه بالسكوت والكف ..
إن أبا بردة إن
كان أراد أن يطيع الله ، فهو قد عصاه بفعله هذا ، ولا يطاع الله من حيث يعصى ..
٣ ـ في حنين ، أم في
أوطاس؟! :
وقد
صرحت الرواية المذكورة آنفا : بأن هذه القضية جرت في أوطاس ، ومن الواضح : أن التجمع
الذي كان في أوطاس قد فضه ـ كما يزعمون ـ أبو عامر الأشعري بأمر من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. وإن كنا نعتقد : أن أمر أوطاس أيضا قد حسم على يد
علي «عليهالسلام» دون سواه.
إلا
أن يقال : لعل النبي «صلىاللهعليهوآله» قد مرّ من أوطاس حين عودته من الطائف إلى الجعرانة ..
كما ربما يشير إليه قول الراواية : لما كنا بأوطاس ، نزلنا تحت شجرة ، ونظرنا إلى
شجرة ، فنزل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» تحتها وعلق سيفه وقوسه ، وكنت أقرب أصحابي إليه الخ ..
فإنه ظاهر في أن ذلك كان حين المسير والإستطراق ، وليس حين نزل فيها لأجل الحرب.
٤ ـ أين الحرس؟!
إنهم
يزعمون : أن عباد بن
بشر ، ومحمد بن مسلمة ، وأبا نائلة كانوا يحرسون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأين كان هؤلاء عنه في هذه اللحظة
__________________
بالذات؟! وهل الحراسة تكون له «صلىاللهعليهوآله» إلا في هذه الحال؟!
بل أين علي بن
أبي طالب «عليهالسلام»؟ فإنه هو الذي كان يحرس رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في حضره وفي سفره ، كما هو معلوم.
٥ ـ أسئلة تحتاج إلى
أجوبة :
ثم
إن الرواية لم توضح لنا : كيف ولماذا عدل ذلك الرجل عن تصميمه على قتل رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟! ولماذا ومتى جلس ذلك الرجل إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟! مع العلم : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد نادى أبا بردة لحظة أخذ ذلك الرجل السيف بيده ،
ليقتل به رسول الله «صلىاللهعليهوآله». وهل كان سيف رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا يزال معه حين جلس إليه؟! أم أخذ منه قهرا ، أو
أعاده طائعا مختارا؟! وعلى هذا لماذا اختار أن يعيده؟!
وكيف
عرف أبو بردة : أن ذلك الرجل كان من عيون المشركين ، ولم لا يظن أنه كان من المنافقين
الحاقدين؟!
ولماذا يدافع
الرسول «صلىاللهعليهوآله» عن ذلك الرجل؟ هل لإنه كان قد اسلم؟! فإن كان الأمر
كذلك ، فلما ذا لم يخبر أبا بردة بإسلامه ليفرح بذلك؟ وليكف عنه من أجل إسلامه؟!
وإن لم يكن قد
أسلم ، فهل يدافع عنه لأنه يأمل إسلامه؟! أو لأنه كان قد أعطاه أمانا ، ولا يريد
أن ينقض ما أعطاه؟!
إن جميع هذه
الأسئلة وسواها يحتاج إلى جواب مقنع ومقبول ، وأين؟! وأنى؟!
الفصل الثاني :
حصار الطائف
غزوة الطائف بروايتهم :
الطائف بلد
كبير ، يقع على ثلاث مراحل ، أو على مرحلتين من مكة ، إلى جهة المشرق .
وقالوا
: إنه لما فتح
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حنينا لعشر ، أو لأحد عشر من شوال ، خرج إلى الطائف يريد
جمعا من هوازن وثقيف ، وكانوا قد هربوا من معركة حنين .
ويذكرون
في بيان ما جرى : أنه لما قدم فلّ ثقيف الطائف رمّوا حصنهم ، وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم ،
وتهيؤا للقتال.
وكانوا أدخلوا
فيه قوت سنة لو حصروا ، وجمعوا حجارة كثيرة ، وأعدوا سككا من الحديد ، ورتبوا عليه
المجانيق ، وأدخلوا معهم قوما من العرب من عقيل وغيرهم ، وأمروا بسرحهم أن يرفع في
موضع يأمنون فيه.
__________________
وقدّم رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» بين يديه خالد بن الوليد في ألف من أصحابه إلى الطائف
، فأتى خالد الطائف ، فنزل ناحية من الحصن ، وقامت ثقيف على حصنها بالرجال
والسلاح.
ودنا خالد في
نفر من أصحابه ، فدار بالحصن ، ونظر إلى نواحيه ، ثم وقف في ناحية من الحصن فنادى
بأعلى صوته : ينزل إلي بعضكم أكلمه ، وهو آمن حتى يرجع ، أو اجعلوا لي مثل ما جعلت
لكم ، وأدخل عليكم حصنكم أكلمكم.
قالوا
: لا ينزل إليك
رجل منا ، ولا تصل إلينا.
وقالوا
: يا خالد ، إن
صاحبكم لم يلق قوما يحسنون قتاله غيرنا.
قال
خالد : فاسمعوا من
قولي ، نزل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأهل الحصون والقوة بيثرب ، وخيبر ، وبعث رجلا واحدا
إلى فدك ، فنزلوا على حكمه.
وأنا أحذركم
مثل يوم بني قريظة ، حصرهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أياما ، ثم نزلوا على حكمه ، فقتل مقاتلتهم في صعيد
واحد ، ثم سبى الذرية ، ثم دخل مكة فافتتحها ، وأوطأ هوازن في جمعها ، وأنتم في
حصن في ناحية من الأرض ، لو ترككم لقتلكم من حولكم ممن أسلم.
قالوا
: لا نفارق
ديننا.
ثم رجع خالد بن
الوليد إلى منزله .
__________________
ونقول
:
إننا
نذكر القارئ الكريم بالأمور التالية :
١ ـ إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أبقى جيشه على نفس التعبئة التي خرج عليها من مكة ،
فأبقى خالدا على مقدمته التي كانت تتكون من أهل مكة ، ومن بني سليم ، وكانوا ألف
رجل كما يقولون.
والظاهر
: أنهم كان معهم
مائة فرس.
وقال
الحلبي : «وقدّم «صلىاللهعليهوآله» خالد بن الوليد على مقدمته ، أي وهي خيل بني سليم ،
مائة فرس ، قدّمها من يوم خرج من مكة ، واستعمل عليهم خالد بن الوليد الخ ..» .
أي أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يرد أن يغير في تعبئة الجيش لسببين :
أولهما
: أن المصلحة
التي اقتضت جعل خالد على مقدمته ، وقبول أهل مكة في المقدمة ، لا تزال قائمة ، بل
لعلها أصبحت أكثر إلحاحا من ذي قبل ، لأن الهزيمة التي وقعت على المسلمين. وكانت
قد جاءت أولا من المقدمة بالذات ربما تكون قد أعطت الإنطباع للمشركين : بأن حضور
أهل مكة في جيش المسلمين قد كان مجاراة منهم. وهذا يجعلهم غير مطمئنين ، ويثير
لديهم مخاوف تمنعهم من التفكير بدخول الإسلام ، لأنهم ربما يخشون من عودة فراعنة
الشرك إلى ملاحقة من يسلم بالتنكيل والأذى. فلا بد أن تنتهي الحرب ، وأهل مكة في
مواقعهم ، ولا بد أن يظهروا حرصا على دعوة الناس للدخول في هذا الدين ، وأن يبذلوا
جهدا في الذب عنه ، مهما
__________________
اختلفت أهواؤهم ، ودوافعهم. وتباينت ميولهم واتجاهاتهم.
الثاني
: لو أدخل «صلىاللهعليهوآله» أي تغيير على تركيبة جيشه ، لظن كثير من الناس : أن لا
لوم على الذين انهزموا ، لأن سبب الهزيمة هو الخطأ في التعبئة ، ووضع الأمور في
غير موضعها الصحيح ، ولبطل أثر الآيات الإلهية التي أنبت المنهزمين ولا متهم ،
وحملتهم المسؤولية ..
بل لعل زعماء
الهزيمة أنفسهم يثيرون في الناس هذه المعاني ، ويحملون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفسه مسؤولية الهزيمة ، ويصورون للناس البريء المجاهد
الصابر على أنه هو المذنب ، والقاصر والمقصر .. ويظهرون العاصي والمجرم على أنه
البريء ، بل هو المظلوم ..
٢ ـ لا ندري
مدى صحة قولهم : إنه لما قدم فلّ ثقيف من حنين رمّوا حصنهم ، فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد جاء في أثرهم ، وربما لم يفصل بين وصوله إلى حصنهم
، ووصول فلّ ثقيف إليه إلا اليسير من الوقت قد لا يتجاوز اليوم واحد .. وحتى لو
زاد على ذلك ، فإن ترميم الحصن قد يحتاج إلى وقت طويل ، وإلى جهد كبير ..
إلا
أن يقال : لعل ترميمه
كان لا يحتاج إلى وقت كبير ، لأنه كان جزئيا ويسيرا.
مع
أننا نعتقد : أن إدخال الأقوات لسنة ، وإعداد سكك الحديد ، وجمع الحجارة الكثيرة ،
وترتيب المجانيق ، الذي يقولون : إنه قد حصل في وقت سابق على حنين ، لا بد أن
يرافقه أو يسبقه ترميم للحصن أيضا ، إذ لا معنى لهذا الإعداد والإستعداد العظيم ،
إذا كان الحصن نفسه غير صالح لحمايتهم.
وهذا
معناه : أن التعبير
المتقدم قاصر عن إفادة المراد ، أو أن ثمة غفلة
عرضت لمنشئه ، فنتج عنها هذا الخطأ.
٣ ـ ونقرأ في
النص السابق قول ثقيف : إن صاحبكم لم يلق قوما يحسنون القتال غيرهم ..
هذه الكلمة
التي لم نزل نسمعها من كل مغرور بقوته ، معجب بعديده وعدته ، وقد سبقهم إليها مالك
بن عوف الذي هزم معهم بالأمس ، والتجأ إليهم اليوم ، وأنها شارة الغرور الذي يورد
صاحبه المهالك ، ويعمّي عليه السبل والمسالك.
وإنه
لمن أغرب الأمور : أن تقول ثقيف هذه الكلمة اليوم مع أنها لم تخلع ثياب الهزيمة في حنين عنها
بعد ، وكان الذي هزمها هو علي «عليهالسلام» وحده. فلما ذا لم يحسنوا القتال تحت راية مالك بن عوف؟!
وما الذي تغير بالنسبة إليهم؟! سوى أنهم أصبحوا يقاتلون في قرى محصنة ، ومن وراء
جدر؟! كما قال تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ
جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) .
أحداث جرت في مسيرة النبي صلىاللهعليهوآله إلى الطائف :
وسار رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» في إثر خالد ، ولم يرجع إلى مكة ، ولا عرّج بها على
شيء إلا على غزو الطائف ، قبل أن يقسم غنائم حنين وقد ترك السبي بالجعرانة ، وملئت
عرش مكة منهم.
وكان مسيره في
شوال سنة ثمان.
__________________
وقال شداد بن
عارض الجشمي في مسير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» :
لا تنصروا
اللات إن الله مهلكها
|
|
وكيف ينصر من
هو ليس ينتصر؟
|
إن التي حرقت
بالسّدّ فاشتعلت
|
|
ولم تقاتل
لدى أحجارها هدر
|
إن الرسول
متى ينزل بلادكم
|
|
يظعن وليس بها
من أهلها بشر
|
قال
ابن إسحاق : فسلك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ـ يعني من حنين إلى الطائف ـ على نخلة اليمانية ، ثم
على قرن ، ثم على المليح ، ثم على بحرة الرغاء من ليّة ، فابتنى بها مسجدا ، فصلى
فيه.
وأقاد يومئذ
ببحرة الرغاء حين نزلها بدم ، وهو أول دم أقيد به في الإسلام ، أتي برجل من بني
ليث قتل رجلا من هذيل فقتله به.
وأمر رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» وهو بليّة بحصن مالك بن عوف فهدم. وصلى الظهر بلية .
ثم
سلك في طريق يقال لها : الضيقة ، فلما توجه إليها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» سأل عن اسمها ، فقيل : الضيقة.
فقال
: «بل هي اليسرى».
فخرج
منها على نخب حتى نزل تحت سدرة يقال لها : الصادرة ، قريبا من مال رجل من ثقيف ، قد تمنع فيه ،
فأرسل إليه رسول الله «صلى الله عليه
__________________
وآله» : «إما أن تخرج ، وإما أن نحرق عليك حائطك».
فأبى أن يخرج.
فأمر رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» بإحراقه .
ونقول
:
ويثير
الإنتباه هنا عدة أمور ، نذكر منها :
بناء المسجد ، وهدم حصن مالك :
كان
من الطبيعي : أن يصلي النبي «صلىاللهعليهوآله» في أسفاره في أي بقعة يصل إليها ، ويحل فيها وقت
الصلاة ، وأما أن يتعمد بناء مسجد في هذه البقعة أو تلك ، فذلك أمر له دلالاته
وإيحاءاته بالنسبة للتخطيط لمستقبل المنطقة بأسرها .. لا سيما في هذه المرحلة التي
تجري فيها حروب خطيرة وحاسمة ، مع عتاة الكفر في ذلك المحيط.
والأهم
من ذلك : أن يكون هذا
المسجد في نفس المكان الذي كان فيه حصن مالك بن عوف رئيس الجيوش التي حاربته «صلىاللهعليهوآله» في حنين. ومحور الإرتكاز للطغيان والغطرسة والبغي ..
ويزيد
ذلك أهمية : إذا رافق بناء المسجد ، في خصوص هذا المكان هدم حصن ذلك العاتي الخاسر ،
مالك بن عوف. ليقطع بذلك أمله في أي شيء يمكن أن يثير فيه حالة الغطرسة ، والغرور
بالقوة ، ولكي لا يجد هو ولا
__________________
غيره في هذا المسجد نقطة ارتكاز تتجمع حولها ذكريات ، قد يشعر معها بشيء من
الزهو ، في حين لا بد أن يكون الخجل ، والشعور بالخزي هو المهيمن على كل وجوده ،
وكلما مرت هذه الذكريات في خياله ..
تغيير أسماء البقاع :
وليس بعيدا عن
هذا السياق أيضا أن نرى هذا الرسول الكريم ، والنبي العظيم «صلىاللهعليهوآله» يمارس الأمور ، ويتصرف في المنطقة بنحو يعطي الإنطباع
بأن قضية الحرب والسلم قد أصبحت محسومة ، وأن أمر البلاد والعباد قد عاد إلى موقعه
الطبيعي ، وهو موقع النبوة ، ولذلك صار «صلىاللهعليهوآله» يتصدى حتى لأعلام البقاع كما تصدى لمعالمها ، لتصبح
أسماءها متوافقة مع نهجه ، وملائمة لأطروحته ، ومفاهيمه ، وتوجهاته ..
فلا يرضى باسم
إحدى الطرق التي يمر بها ، فيبادر إلى تغيير اسم «الضيقة» ليصبح اسمها «اليسرى».
جيوب لا بد من اقتلاعها :
ومن
الطبيعي جدا : أن نراه «صلىاللهعليهوآله» يعمل على اقتلاع كل الجيوب التي يحتمل أن تكون مثار
قلق ، وريبة بالنسبة إليه ، إذ لا يمكن ان يرضى قائد مجرب ، وعاقل أريب ، بإبقاء
أي من الأعداء يسرح ويمرح خلف ظهره ، في وقت يكون هو منشغلا بحرب من هم أمامه ..
فإن فعل ذلك ، فسيكون في نظر العقلاء ، وأهل الحزم ، والتدبير ممعنا في السذاجة ،
والغباء ، والتغفيل ، إلى الحد الذي يسلبه الأهلية لأي موقع قيادي ، يمكن أن يحتاج
فيه الناس إلى قائد حكيم ، يقظ ، وحازم.
ولذلك
نرى : أنه «صلىاللهعليهوآله» حين رأى ذلك الثقفي مصرا على موقفه العدواني ، ويرى
نفسه : أنه قد تمنّع في الموقع الذي هو فيه ، ولم يستجب للإنذار الذي وجهه إليه ،
وأنه قد أخذ بأسباب الحذر ، وبادر إلى التفكير بإلحاق حرمان ذلك الرجل من مناعة
موقعه ، لكي يعود إليه صوابه ، وليفقد القدرة على أي نوع من أنواع الأذى بأهل
الإيمان ، وجيش الإسلام ..
الإقادة من قاتل :
وأما بالنسبة
للقود الذي أجراه «صلىاللهعليهوآله» في حق رجل من بني ليث ، فذلك أيضا يؤكد للناس كلهم :
أن مواجهة الأعداء ، وممارسة الحرب والقتال ، مهما كان ضاريا وشرسا ، وخطيرا ، لا
يعني : أن ثمة تهاونا في فرض النظام العادل ، وإقامة شرع الله ، أو تعني التهاون
بدماء الناس ، واسترخاص أرواحهم ، والإستخفاف بحقوقهم .. بل إن هذا القتال نفسه ،
إنما يأتي في سياق إرساء العدل وحفظ الكرامات ، وصيانة الأرواح ، وحقن الدماء ،
ورعاية الحقوق .. لأنه يراد الذب عن المبادئ ، وحفظ القيم ، التي ينبثق عنها ذلك
كله ..
ولذلك لم تشغله
«صلىاللهعليهوآله» تلك الحرب الضارية عن أخذ حق المظلوم من ظالمه ،
وإقادته منه ..
إن
على الجميع أن يعرف : أنه «صلىاللهعليهوآله» لا يقود حروبه ليسقط القيم ، والمبادئ ، بل ليؤكدها ،
ويقويها ، ويحفظها .. كما أنه لا يريد بها إشاعة الخوف والرعب ، بل يريدها أن تنتج
الشعور بالسكينة ، والسلام ، والأمن .. ولا يريد منها زرع الموت والدمار ، والفناء
، بل يريد أن تكون
ذلك الكوثر الذي يهب الحياة ، ويعطي شجرتها المزيد من الرواء ، والنماء ،
لتصبح جذورها قوية وراسخة ، وأغصانها غضة وباسقة .. تثمر الحب والرضا ، والسلامة
والسلام على الدوام ..
وليطمئن الناس
كلهم ، فإن الحكم لم يعد للأهواء ، ولا بيد العتاة والأشقياء ، بل الحكم لشرع الله
، بيد الأنبياء ، والأوصياء ، والأولياء.
قبر أبي رغال :
عن
عبد الله بن عمر : أنهم حين خرجوا مع رسول الله ، فمروا بقبر أبي رغال ، فقال «صلىاللهعليهوآله» : «هذا قبر أبي رغال ، وهو أبو ثقيف ، وكان من ثمود ،
وكان بهذا الحرم يدفع عنه ، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان
فدفن فيه ، وآية ذلك : أنه دفن معه غصن من ذهب ، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه».
قال
: فابتدره الناس
فنبشوه ، فاستخرجوا منه الغصن .
وقالوا
: إنه بقي بعد
قومه أربعين يوما وكان بالحرم ، فجاءه حجر ليصيبه في الحرم ، فقام إليه ملائكة
الحرم ، فقالوا للحجر : ارجع من حيث جئت ، فإن الرجل في حرم الله تعالى.
فرجع فوقف
خارجا من الحرم أربعين يوما بين السماء والأرض ، حتى
__________________
قضى الرجل حاجته ، وخرج من الحرم إلى هذا المحل أصابه الحجر ، فقتله ، فدفن
فيه .
ونقول
:
إن لدينا ما
يبعث على الشك في صحة هذا المضمون ، فلاحظ ما يلي :
أولا
: إن أبا رغال
هذا ـ كما يدّعون ـ قد عاش إلى زمن أبرهة ، وعبد المطلب. وقوم ثمود قد أهلكوا قبل
مئات السنين من ذلك ؛ لأنهم يذكرون : أن أبرهة حين قصد مكة مر بالطائف ، وتلقاه
أهله ، وأظهروا له الطاعة ، وقالوا له : نرسل معك من يدلك على الطريق ، فأرسلوا
أبا رغال معه .
فهل عاش هذا
الرجل هذه المئات والألوف من السنين كلها حتى أصبحت ذريته قبيلة تعد بالألوف ،
وصارت تنشئ الحصون ، وتؤلف الجيوش ، وتصبح بحيث ترى في نفسها القوة على حرب رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» دون حكمة ظاهرة تبرر هذا البقاء الطويل؟!
ثانيا
: إذا كان أبو
رغال من قوم ثمود ، وقد أنرل الله عذاب الإستئصال عليهم ، ولم يبق منهم أحد ، فكيف
بقي أبناء أبي رغال حتى تكونت قبيلة ثقيف؟! مع أن أبناءه هم من قبيلته أيضا ..
وإذا كان الله
تعالى قد أنزل العذاب على ثمود في مساكنهم. فهل يتعدى العذاب تلك الديار ، ليشمل
كل من كان غائبا عنها ، إذا كان ينتسب إليهم؟! وهل كان العذاب على نحو التطهير
العرقي الشامل؟!
__________________
وإذا كان أبو
رغال من هؤلاء القوم ، فلما ذا حين خرج من مكة لم يرجع إلى بلده ، الذي هو بالقرب
من تبوك إلى جهة الشام. بل ذهب بالإتجاه المخالف نحو الطائف؟!
ثالثا
: لماذا يدفنون
مع أبي رغال غصنا من ذهب ، وهو لم يكن من أهل الأموال ، لأن أهل الأموال كانت لهم
في تلك المجتمعات المنحرفة مكانة مرموقة في أقوامهم ، ومن كان كذلك فلا يرضى بأن
يعمل دليلا على طرقات البلاد ، لأي كان من الناس.
رابعا
: إذا كانت
الملائكة تنتظر أبا رغال إلى أن يخرج من الحرم ، فلما ذا صبرت عليه حتى ابتعد هذا
المقدار الكبير عنه؟!
أليس من واجبها
المبادرة إلى قتله بمجرد خروجه من حرم الله ، ليكون عبرة لسواه؟!
بدء حصار الطائف :
قال
ابن إسحاق : ثم مضى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حتى نزل قريبا من الطائف ، فضرب عسكره ، وأشرفت ثقيف
على حصنهم ـ ولا مثال له في حصون العرب ـ وأقاموا رماتهم ، وهم مائة رام ، فرموا
بالسهام والمقاليع من بعد من حصنهم ، ومن دخل تحت الحصن دلوا عليه سكك الحديد
محماة بالنار يطير منها الشرر ، فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا ، كأنه رجل جراد
حتى أصيب ناس من المسلمين بجراح ، وقتل منهم اثنا عشر
__________________
رجلا .
فارتفع «صلىاللهعليهوآله» إلى موضع مسجده اليوم ، الذي بنته ثقيف بعد إسلامها ،
بناه أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك ، وكانت فيه سارية لا تطلع عليها الشمس
صبيحة كل يوم ، حتى يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرات ، فكانوا يرون أن ذلك تسبيح.
وكان معه «صلىاللهعليهوآله» من نسائه أم سلمة وزينب ، فضرب لهما قبتين ، وكان يصلي
بين القبتين طول حصار الطائف كله.
وقال عمرو بن
أمية الثقفي ـ وقد أسلم بعد ذلك ، ولم يكن عند العرب أدهى منه ـ : لا يخرج إلى
محمد أحد ، إذا دعا أحد من أصحابه إلى البراز ، ودعوه يقيم ما أقام.
وأقبل
خالد بن الوليد ونادى : من يبارز؟
فلم يطلع إليه
أحد ، ثم عاد فلم ينزل إليه أحد ، ثم عاد فلم ينزل إليه أحد.
فنادى
عبد يا ليل : لا ينزل إليك أحد ، ولكنا نقيم في حصننا ، خبأنا فيه ما يصلحنا سنين ،
فإذا أقمت حتى يذهب هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت عن آخرنا .
فقاتلهم رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» بالرمي عليهم ، وهم يقاتلونه
__________________
بالرمي من وراء الحصن ، فلم يخرج إليه أحد ، وكثرت الجراحات له من ثقيف
بالنبل ، وقتل جماعة من المسلمين .
ونحن لا نناقش
في أكثر هذا الذي ذكر آنفا ، ولا نرى في أكثره ما يدعو إلى الريبة والشك.
أبو سفيان يرغب في الجنة :
قالوا
: وأصيبت عين
أبي سفيان ، فأتى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وعينه في يده ، فقال : يا رسول الله ، هذه عيني
أصيبت في سبيل الله.
فقال
النبي «صلىاللهعليهوآله» : إن شئت دعوت ، فردّت عليك ، وإن شئت فعين في الجنة.
قال
: في الجنة ..
ورمى بها من يده .
ونحن نتيقن
بعدم صحة هذه المزعمة ، فعدا عن أن التي تصاب بمثل هذا لا يمكن أن تبقى على حالها
بحيث يأخذها بيده ، فإن أبا سفيان ـ كما يقول أبو عمر في الإستيعاب ـ لم يزل كهفا
للمنافقين منذ أسلم .
كما أنه لم يزل
يبغي للإسلام شرا حسبما ورد عن أمير المؤمنين «عليه
__________________
السلام».
بل
هو القائل بعد أن ركل قبر حمزة برجله : إن الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا اليوم
يتلعبون به .
وهو
القائل لعثمان : تداولوها يا بني أمية تداول الولدان الكرة ، فو الله ما من جنة ولا نار .
والنصوص حول
سقطات أبي سفيان كثيرة ، وهي تشير إلى عدم صحة إيمانه ، وأنه كان يظهر الإسلام ،
ويبطن الكفر .. ولا حاجة إلى ذكر أكثر من ذلك ..
نفاق عيينة بن حصن :
وروي
: أنه لما حاصر
النبي «صلىاللهعليهوآله» أهل الطائف قال عيينة بن حصن : إئذن لي حتى آتي حصن
الطائف فأكلمهم.
فأذن
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ،
فجاءهم ، فقال : أدنو منكم وأنا آمن؟
قالوا
: نعم.
وعرفه
أبو محجن ، فقال : أدن.
فدخل
عليهم ، فقال : فداكم أبي وأمي ، والله ، لقد سرني ما رأيت منكم. وما في العرب أحد غيركم.
والله ، ما في محمد مثلكم ، ولقد قلّ المقام وطعامكم كثير ، وماؤكم وافر ، لا
تخافون قطعه.
__________________
وفي
نص آخر : تمسكوا
بمكانكم ، فو الله ، لنحن بأذل من العبيد. وأقسم بالله لو حدث به حدث ليملكن العرب
عزا ومنعة ، وإياكم أن تعطوا بأيديكم ، ولا يتكاثر عليكم قطع هذا الشجر .
فلما
خرج قال ثقيف لأبي محجن : فإنّا قد كرهنا دخوله ، وخشينا أن يخبر محمدا بخلل ، إن
رآه فينا ، أو في حصننا.
فقال
أبو محجن : أنا كنت أعرف به ، ليس أحد منا أشد على محمد منه ، وإن كان معه.
فلما
رجع إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال
: قلت لهم :
ادخلوا في الإسلام ، فو الله لا يبرح محمد من عقر داركم حتى تنزلوا ، فخذوا
لأنفسكم أمانا ، فخذلتهم ما استطعت.
فقال
له رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : لقد كذبت ، لقد قلت لهم : كذا .. وكذا ..
وعاتبه
جماعة من الصحابة ، وقال : أستغفر الله ، وأتوب إليه ، ولا أعود أبدا .
ونقول
:
١ ـ إن هذا
النص يدل دلالة واضحة على نفاق عيينة بن حصن ، وأنه إلى تلك الساعة كان لا يزال
على شركه ..
بل إن هذا
الرجل قد استمر على هذا الحال ، حتى إنه تبع طليحة بن
__________________
خويلد ، وآمن به ، ثم عاد إلى إظهار الإسلام.
٢ ـ قد صرحت
الرواية المذكورة : بأن عيينة كان أشد على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من أهل الطائف أنفسهم ، رغم أنه كان معه ، يظهر له
الولاء والمحبة ، وكان أهل الطائف يعلنون الشرك ، والبغض له ، والحرب معهم قائمة
على قدم وساق.
٣ ـ إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أعلن للملأ : بأن عيينة كاذب فيما ينقله .. ذلك
بحضور عيينة نفسه ، وفي مواجهة صريحة معه ..
ولعل
ذلك يرمي : إلى قطع الطريق على كل من يريد أن يسير في طريق النفاق والخيانة ، ويزرع
في داخل نفوس من يفكر بهذه الطريقة الخوف من افتضاح أمره بواسطة جبرئيل «عليهالسلام» .. حتى إذا حدّث أحدهم نفسه بالإقدام على عمل من هذا
القبيل ، فإنه يحتاج إلى أن يكون في منتهى الجرأة على الله وعلى رسوله ، وفي غاية
الصلف والوقاحة ، وعدم المبالاة بالنتائج التي سيكون أقلها الفضيحة ، التي قد
تأتيه على لسان جبرئيل «عليهالسلام» ..
٤ ـ إن هذه
القضية تظهر حقيقة أصحاب النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وإلى أي مدى يمكن لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يعتمد على جيش من هذا القبيل ، وهذا نموذج من
قيادات ذلك الجيش ، وعرض حي لمدى إخلاص تلك القيادات له «صلىاللهعليهوآله» ، وبينان لحقيقة إيمانها بالقضية التي يحارب من أجلها
..
خصوصا بعد أن
تنضم تلك القيادات إلى بعضها البعض ، وتتضامن فيما بينها ، وتتعاون ، وتتكاتف على
الوصول إلى ما ترمي إليه من أهداف ، ومنهم خالد بن الوليد ، وعيينة بن حصن ،
والأقرع بن حابس ، وأضرابهم ،
فضلا عن رجالات مكة وبني سليم وسواها ..
ولا ندري أين
كان عمر بن الخطاب عن عيينة هذا؟! فلما ذا لا نسمع له صوتا ، ولا نرى من هملجته
شيئا ، مثلما كنا نراه في مواقفه السابقة تجاه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في الحديبية وغيرها؟! ولماذا لم يقم ليقول : دعني
أقتله يا رسول الله ، كما كان يفعل في المواقف المشابهة؟!
ولذلك
نقول :
إن
من الطبيعي : أن نرى هؤلاء يتفقون على الفرار في أول لحظات المواجهة في حنين ، ويتبعهم
الجيش كله ، ويبقى في مواجهة العدو رجل واحد ، يأتي الله تعالى بالنصر على يديه ،
وهو علي بن أبي طالب «عليهالسلام» ..
ولعلك
تقول : إن أهداف
هؤلاء تختلف وتتفاوت ، وليس لهم لون واحد ، ولا كانت عصبياتهم متوافقة!
ونجيب
: بأن من
الطبيعي أن يختلف طلاب الدنيا فيما بينهم ، ولكنه يبقى اختلافا في الجزئيات
والتفاصيل. وتبقى لهم جامعة تربط بعضهم ببعض ، وتوحد جهدهم ، ووجهتهم إلا وهي
الإضرار بالأطروحة التي يظهرون الإلتزام بها نفاقا ، والقبول بكل أشكال السلوك
والمواقف التي تنشأ عن تلك الأطروحة ، ويقتضيها ذلك النهج.
ولكن
الحقيقة هي : أن كل همهم وجهدهم منصب على إفشال تلك الأطروحة ، وإسقاط ذلك النهج ..
وهذا ما حصل بالفعل في حرب حنين ولا يزال يتكرر في الطائف وفي غيرها ..
٥ ـ إن مصارحة
النبي «صلىاللهعليهوآله» لعيينة ، حتى اضطر عيينة للإعتراف والإستغفار ،
والتعهد بعدم العود قد صعّب عليه القيام بأي
عمل آخر من هذا النوع بعد ذلك ، لأن هذه المصارحة قد عزلته عن محيطه الذي
هو فيه ، وجعلت أي اتصال به مرصودا ومراقبا من كل الناس ..
٦ ـ إن ما جرى
يجعل أولئك الذين تآمروا على الفرار في حنين ، بهدف إلحاق الأذى بالنبي «صلىاللهعليهوآله» وبالمؤمنين ، يشكون في أنفسهم ، ويعيشون العقدة في أن
يكون جبرئيل «عليهالسلام» قد فضح أمرهم لرسول الله «صلىاللهعليهوآله». وفرض عليهم أن يتوقعوا إعلان هذه الخيانة عند ظهور
أول إخلال آخر منهم ..
وبذلك
يكون خيارهم الوحيد هو : الإنضباط التام ، وعدم القيام بأي شيء من شأنه أن يضعهم
أمام ذلك الإمتحان الصعب والخطير ، المتمثل بالفضيحة على أقل تقدير ..
ولسوف لن
تنفعهم التبريرات والإعتذارات في تلك الحال ، ولربما لا يصدقهم الناس حين يعلنون
توبتهم ، ويقدمون تعهداتهم بعدم العود. وسوف تلتهمهم باستمرار نظرات الريبة والشك
، ولن يكون ذلك سهلا عليهم ، بل هو سيعرقل الكثير من مشاريعهم ، ويفشل من خططهم ما
هو أدهى وأخطر ..
غير أن حرص بعض
أولئك على دنياهم قد دفعهم إلى تصرفات فضحت أمرهم ، مرة بعد أخرى .. فقد كتبوا
صحيفتهم الملعونة ، ونفروا برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليلة العقبة ، وتجرؤا عليه مرات ومرات بعد ذلك أيضا.
ثواب من رمي بسهم :
ورووا
: عن عمرو بن
عبسة أنه قال : حاصرنا قصر الطائف مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فسمعته يقول : «من بلغ بسهم فله درجة في الجنة».
فبلغت يومئذ ستة عشر سهما.
وسمعته
يقول : «من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر ، ومن شاب شيبة
في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة ، وأيما رجل أعتق رجلا مسلما ، فإن الله
سبحانه وتعالى جاعل كل عظم من عظامه وقاء ، كل عظم بعظم ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت
امرأة مسلمة فإن الله عزوجل جاعل كل عظم من عظامها وقاء كل عظم من عظامها في النار .
ونقول
:
إن
الحديث الثاني ، الذي أوله : من رمى بسهم في سبيل الله ، فهو عدل محرر ، قد يكون
عمرو بن عبسة سمعه من النبي «صلىاللهعليهوآله» في مناسبة أخرى غير مناسبة حصار الطائف.
غير
أننا لا ندري مدى صحة ما زعمه في ذيل الحديث الأول : من أن السهام التي بلغت كانت ستة عشر سهما. وتبقى عهدة
ذلك على مدّعيه.
__________________
نداء من نزل من العبيد فهو حر :
قال
اليعقوبي : إنه قد نزل من حصن ثقيف إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أربعون رجلا .
ولعل هؤلاء هم
الذين استجابوا للنداء الذي أطلقه النبي «صلىاللهعليهوآله» فيهم ، فقد قالوا :
نادى منادي
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» :
«أيما عبد نزل
من الحصن وخرج إلينا فهو حر».
فخرج
من الحصن بضعة عشر رجلا : ثم ذكروا أسماءهم على النحو التالي :
المنبعث ، وكان
اسمه المضطجع فسماه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المنبعث حين أسلم. وكان عبدا لعثمان بن عامر بن معتب ،
وكان جوادا روميا.
والأزرق بن
عقبة بن الأزرق. وكان عبدا لكلدة الثقفي ، ثم صار حليفا في بني أمية.
ووردان ، وكان
عبدا لعبد الله بن ربيعة الثقفي.
ويحنس ـ بضم
التحتية ـ النبال. وكان عبدا ليسار بن مالك الثقفي ، وأسلم سيده بعد ، فردّ رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» إليه ولاءه.
وإبراهيم بن
جابر ، وكان عبدا لخرشة الثقفي.
ويسار ، وكان
عبدا لعثمان بن عبد الله.
__________________
وأبو بكرة نفيع
ـ بضم النون ـ بن مسروح وكان عبدا للحارث بن كلدة ، وإنما كني بأبي بكرة لأنه نزل
في بكرة ـ وهي خشبة مستديرة في وسطها محز ، يستقى عليها ـ من الحصن.
ونافع أبو
السايب ، وكان عبدا لغيلان بن سلمة ، فأسلم غيلان بعد ، فرد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ولاءه إليه.
ونافع بن
مسروح.
ومرزوق غلام
لعثمان بن عبد الله .
وعن
ابن عباس قال : قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يوم الطائف : «من خرج إلينا من العبيد فهو حر».
فخرج عبيد من
العبيد ، فيهم أبو بكرة ، فأعتقهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
وفي
رواية : نزل إلى النبي
«صلىاللهعليهوآله» ثلاثة وعشرون من
__________________
الطائف ، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة ، واغتاظوا على
غلمانهم ، فأعتقهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ودفع «صلىاللهعليهوآله» كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين ، يمونه ، ويحمله.
فكان أبو بكرة إلى عمرو بن سعيد بن العاص ، وكان الأزرق ، إلى خالد بن سعيد بن
العاص ، وكان وردان إلى أبان بن سعيد بن العاص ، وكان يحنس النبال إلى عثمان بن
عفان ، وكان يسار بن مالك إلى سعد بن عبادة ، وكان إبراهيم بن جابر إلى أسيد بن الحضير.
وأمرهم رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أن يقرئوهم القرآن ، ويعلموهم السنن.
فلما أسلمت
ثقيف تكلمت أشرافهم في هؤلاء المعتقين ، منهم الحارث بن كلدة ، يردونهم إلى الرق ،
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أولئك عتقاء الله ، لا سبيل إليهم» .
ونقول
:
١ ـ قد ذكرت
الروايات المتقدمة : أن سعد بن أبي وقاص كان أول من رمى بسهم في سبيل الله. ولسنا
هنا بصدد تحقيق ذلك ، غير أننا نقول :
إن شانئي علي «عليهالسلام» يهتمون بتسطير الفضائل والكرامات
__________________
لمناوئيه «عليهالسلام» وقد عرفنا في فصل : في موقع الحسم ، في غزوة أحد : أن
سعدا كان أحد الستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم ، فجعل سعد حقه لعبد الرحمن بن
عوف .
كما أنه قعد عن
علي «عليهالسلام» في حروبه ، ولم يخرج معه .. وأبى أيضا أن يبايعه ،
فأعرض عنه علي «عليهالسلام» وقال : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) » .
وشكاه أهل
الكوفة بأنه لا يحسن يصلي .
وأخذ مالا من
بيت المال ولم يؤده ، وعزله عمر وقاسمه ماله كما عن أبي الفرج في الأغاني.
وحينما دعاه
عمار ليبايع عليا «عليهالسلام» أظهر الكلام القبيح .
وصارمه عمار .
__________________
وقطع علي «عليهالسلام» عطاءه .
رد الولاء :
وتقدم
: أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد رد ولاء بعض العبيد الذين نزلوا إليه من حصن الطائف
وأعتقهم .. إلى الذين كانوا يملكونهم ، ولكنه أمضى عتقهم. ولم يعدهم إليه ..
والمراد برد ولائه أن يجعل لسيده الحق في أن يرثه ، إذا لم يكن للعتيق قرابة قريبة
أو بعيدة.
وهذا تفضل من
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على أولئك الذين أسلم عبيدهم قبلهم ، حيث لم يجعل
إرثهم إليه «صلىاللهعليهوآله» في حياته ، ثم للإمام «عليهالسلام» بعد وفاته ..
إلا
أن يقال : إن نزولهم من
الحصن إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا يعني إسلامهم ، لكي يقال : إن المشرك لا يرث المسلم
، فلعلهم نزلوا طمعا بالحرية التي وعدهم «صلىاللهعليهوآله» بها ، ثم بقوا على شركهم ..
ويجاب
: بأنهم قد
أسلموا بلا ريب ، لتصريحهم : بأنه «صلىاللهعليهوآله» دفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين ، وأمرهم أن
يقرؤوهم القرآن ، ويعلموهم السنن. وهذا إنما يصح إذا كانوا قد أسلموا ..
وأما
الحديث عن : أن عتقهم إن كان قبل إسلامهم ، فعتقهم لا يقطع علاقة الولاء بينهم وبين
مواليهم .. فإن كلا الفريقين في تلك الحال كان على حال الشرك ..
__________________
وإن كانوا قد
أسلموا قبل عتقهم ، فإن إسلامهم قد أزال حكم الولاء ، لأن المشرك لا يرث المسلم.
وفي هذا البحث
تفصيلات ومناقشات ليس ها هنا محلها.
مغزى نداء الحرية :
وإذا تأملنا
هذا النداء ، أعني : «نداء الحرية» فسنرى : أن فيه سمات وآثارا هامة ، نشير إلى
بعض منها فيما يلي :
١ ـ إن العبيد
هم الطرف الأضعف والمستضعف في أي مجتمع كان ، فكيف بالمجتمع الجاهلي الذي يعيش
الإنحراف ، والظلم والتعدي ، بأجلى صوره ، وأوضح معانيه؟! ولم يكن يعرف معنى
للرأفة والرحمة ، حتى على الأب والأخ والولد ، فهل يرحم عبدا اشتراه بماله ، أو
قهره بسيفه؟!
إن من يدفن
ولده حيا لأنه لا يريد أن يشاركه في طعامه ، ولو بلقمة ، فهل تراه يسخى على عبده
بشيء من حطام الدنيا ، فضلا عمن سواه؟! إن من يراجع التاريخ سيجد : أن الناس كانوا
في ذلك المجتمع يمارسون سلطتهم على عبيدهم بأبشع صورها وأخبث أشكالها ..
٢ ـ إن الذين
كانوا يملكون العبيد هم الرؤساء والأعيان ، وأهل الحول والطول ، دون غيرهم من سائر
الناس .. وهؤلاء هم الذين يملكون قرار السلم والحرب وغير ذلك في قبائلهم ، فإذا
خرج حتى عبيدهم عن طاعتهم ، فإن الآخرين سوف يكونون أجرأ على الخروج من هذه السلطة
، وسوف ينظرون إلى أولئك الرؤساء والزعماء بشيء من المهانة والإستهانة ،
والإستخفاف ، وستهتز الأرض تحت أقدامهم ، وسيضعف موقفهم
القيادي بصورة كبيرة ، وهذا يمثل نكسة ، بل ضربة روحية كبرى لهم.
ولذلك
يقول المؤرخون ـ حسبما تقدم ـ : «فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة واغتاظوا على غلمانهم».
بل
تقدم : أن أولئك
الأسياد حتى بعد ان أسلموا قد بذلوا محاولة لإعادة أولئك العبيد إلى الرق ، فلم
يفلحوا في ذلك.
تعليم العبيد بعد عتقهم :
ومن
البديهي : أن الإسلام
لا يرضى باحتكار العلم على فريق من الناس دون سواه ، كما نجده لدى بعض الشعوب ، بل
طلب العلم في الإسلام فريضة على كل مسلم.
فطبيعي
إذن : أن يرتب «صلىاللهعليهوآله» لهؤلاء العبيد معلمين يعلمونهم القرآن والسنن فورا حتى
وهم في حال الحرب والحصار ، ولم يؤجل ذلك إلى أن تضع الحرب أوزارها .. لأنه يرى :
أن العلم ضروري كالطعام والشراب فمن ترك الطعام والشراب هلك ، لكن من ترك العلم
هلك وأهلك.
ولذلك
نرى : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد رتب لهم كلا هذين الأمرين في آن واحد ، فسلمهم لمن
يمونهم ويحملهم ، ولمن يعلمهم القرآن والسنن.
الفصل الثالث :
المنجنيق في الطائف
رمي الطائف بالمنجنيق :
قالوا
: وشاور رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أصحابه في أمر حصن الطائف ، فقال له سلمان الفارسي :
يا رسول الله ، أرى أن تنصب المنجنينق على حصنهم ، فإنّا كنّا بأرض فارس ننصب
المنجنيقات على الحصون. وتنصب علينا ، فنصيب من عدونا ويصيب منا بالمنجنيق ، وإن
لم يكن منجنيق طال الثواء.
فأمره رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ، فعمل منجنيقا بيده ، فنصبه على حصن الطائف. وهو أول
منجنيق رمي به في الإسلام .
وعن
مكحول : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوما .
__________________
ويقال
: قدم به يزيد
بن زمعة بن الأسود ، وبدبابتين.
ويقال
: بل قدم به
الطفيل بن عمرو ، لما رجع من سرية ذي الكفين .
ويقال
: إن خالد بن
سعيد قدم من جرش بمنجنيق ، وبدبابتين .
إجراءات حربية أخرى :
ونثر رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» الحسك ، شقتين من حسك من عيدان حول حصنهم ، ودخل
المسلمون من تحت الدبابة ، وهي من جلود البقر. وذلك اليوم يقال له : يوم الشدخة ،
لما شدخ فيه من الناس.
ثم زحفوا بها
إلى جدار الحصن ليحفروه ، فأرسلت ثقيف بسكك الحديد المحماة بالنار ، فحرقت الدبابة
، فخرج المسلمون من تحتها وقد أصيب منهم من أصيب ، فرمتهم ثقيف بالنبل ، فقتل منهم
رجال ، فأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بقطع أعنابهم ونخيلهم وتحريقها.
قال
عروة : أمر رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس نخلات ، وخمس حبلات ،
فقطع المسلمون قطعا ذريعا.
__________________
فنادت
ثقيف (أو فنادى سفيان بن عبد الله الثقفي) : لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا ، وإما
أن تدعها لله وللرحم.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : فإني أدعها لله وللرحم.
فتركها رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» .
وكان
رجل يقوم على الحصن ، فيقول : روحوا رعاء الشاء ، روحوا جلابيب محمد ، أتروننا نبتئس
على أحبل أصبتموها من كرومنا؟
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «اللهم روّح مروّحا إلى النار».
قال
سعد بن أبي وقاص : فأرميه بسهم فوقع في نحره ، فهوى من الحصن ميتا. فسر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بذلك .
ونقول
:
إننا
نتوقف هنا لنسجل ما يلي :
أعتدة حربية ، وأساليب قتالية :
قد
ظهر من النصوص المتقدمة : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد استفاد من وسائل حربية لم يكن المسلمون قد
استعملوها من قبل ، فقد استعملوا الدبابة لنقب الحصون ، فواجههم عدوهم بسكك الحديد
المحماة بالنار ،
__________________
التي تخترق تلك الدبابات ، وتصل إلى من فيها فتؤذيهم.
ونشروا الحسك
حول الحصون ، وهي أوتاد من الخشب تزرع في ساحة المعركة بكثافة ، فلا تتمكن الخيل
من الجولان فيها ، وهي بمثابة عراقيل وموانع مؤثرة في ردع العدو عن التفكير
بالمباغتة السريعة ، وتوجيه الضربات الخاطفة ، التي من شأنها أن تزعزع ثبات الطرف
الآخر ، وتشوش تفكيره وتشل حركته ، وتوزع اهتماماته ، وتؤثر عليه من الناحية
النفسية.
كما أنه قد
استفاد من المنجنيق الذي يجعل العدو حتى وهو في حصونه يترقب الكارثة ، ويخشاها ،
ليس على نفسه كمقاتل وحسب ، وإنما هو يخشى أن تصيبه في أهله ، وولده ونسائه ، وكل
ما ومن يتعلق به.
ويرى أن هذا
الحصن الذي وضع نفسه في داخله غير قادر على حمايته ، ولا يستطيع أن يتترس بأحد ،
ويصبح همّ كل مقاتل هو ان يجد لنفسه ولأهله موضعا آمنا.
وهذا يسقط
النظرية ، التي أطلقها أهل الطائف ، والخطة التي اعتمدوها في أول الأمر ، والتي
تقول :
إنهم قادرون
على تحمل الحصار لمدة سنة كاملة ، لأن أقواتهم معهم. فقد ظهر لهم : أن مجرد تحمل
الحصار شيء ، وتحمل الخطر الداهم ، والعيش في محيط الرعب والخوف الدائم شيء آخر ،
وهم قد خططوا للحصار ، لا لسواه ..
ولم تعد الحرب
سجالا بينهم وبين الطرف الآخر. بل أصبحت حربا من طرف واحد ، حيث لم يعد المسلمون
بحاجة للإقتراب من الحصن ، لتنالهم نبال أهله .. ولا كان أهل الحصن يقدرون على أية
مناورة من شأنها
أن تربك حركة المسلمين ، أو تشوش أفكارهم.
بل أصبح بإمكان
المسلمين الإستغناء عن طائفة من الجيش ، ليقوم بمهام أخرى تموينية أو غيرها ، مما
من شأنه أن يعزز صمود من بقي منهم. بل قد يمكنهم الإنطلاق في مهمات قتالية أو
غيرها في مواقع أخرى أيضا ..
أما أهل الطائف
فلا حول لهم ولا قوة. بل هم بانتظار قذائف المنجنيقات ، وليس لهم همّ إلا ترميم
الخراب ، ومداواة الجراح ، ودفن الأموات ..
ولعل هذا الأمر
كان من أهم أسباب سرعة استسلام أهل الطائف ، وإرسال الوفود إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ليعفوا عنهم ، ويقبل منهم ، ويرضى عنهم.
توضيحات :
المنجنيق
: آلة حربية
تصنع من جلود ، وخشب وحديد يقذفون الحجارة بها.
والدبابة
: آلة حربية
توضع الجلود عليها ، ويدخل فيها الرجال ، فيدبون إلى أسوار الحصن لينقبوها.
المنجنيق .. ومشورة سلمان :
تقدم
: أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد نصب المنجنيق على الطائف وضربهم به .
__________________
وقيل
: اكتفى بنصبه ،
ولم يرم به .
__________________
وقالوا
أيضا : إن هذا الذي
وضع على الطائف كان أول منجنيق رمي به في الإسلام .
وتقدم
قولهم : إن سلمان
الفارسي هو الذي أشار به ، وقال : إنهم كانوا بأرض فارس ينصبون المنجنيقات على
الحصون.
ومرّ
بنا قولهم : إن سلمان عمله لهم بيده.
وقد
حاول بعضهم أن يناقش في ذلك : بأنهم وجدوا في أحد حصون خيبر ، وهو حصن الصعب منجنيقات
ودبابات .. فما معنى أن يقال : إن سلمان قد صنعه لهم؟!
وأجيب
: بأن ما وجدوه
في حصن الصعب في خيبر ، لعله بقي في المدينة ، بل ذلك هو الراجح. وحين احتاجوا إليه في الطائف ،
فإنهم سيصنعون ما يكفيهم منه ، ولا يرسلون إلى المدينة من يأتيهم به ، ثم ينتظرون
الأيام والأسابيع من أجل ذلك ..
ولكن
قولهم : إن سلمان هو
الذي أرشدهم إليه ، قياسا على ما كانوا يصنعونه في بلاد فارس ، يبقى موضع ريب
أيضا.
إذ
قد تقدم : أنهم حين
حاصروا حصن الوطيح والسلالم في خيبر ، وطال الحصار ، همّ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يجعل عليهم المنجنيق .
__________________
بل
تقدم : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد نصب المنجنيق على حصن البراء فعلا .
إلا
أن يقال : إن نصبه لا
يستلزم الرمي به. فلعله لم يرم به إلا في حصن الطائف؟ .
ضرب العدو بما يعم إتلافه :
وقد
يقال : ما هو المبرر
لتجويز النبي «صلىاللهعليهوآله» لجيشه رمي حصن الطائف بالمنجنيق ، وهو قد يصيب الشيوخ
والأطفال والنساء ، وقد كان النبي «صلىاللهعليهوآله» في وصاياه لبعوثه وسراياه ينهى عن قتلهم ، كما أنه قد
يصيب بعض المسلمين ، إن كان في البلد أقلية مسلمة من سكان ، أو من تجار ، أو كان
فيه أسرى ، وأراد العدو أن يتخذ منهم دروعا بشرية؟!
وأين هي الرأفة
والرحمة ، التي لم يزل الإسلام يدعو إليها ، ويحث عليها؟!
ألا
يدل هذا : على عدم صحة
قولهم : إنه «صلىاللهعليهوآله» قد نصب المنجنيق على الطائف ، ورماهم به؟!
ونجيب
:
أولا
: أما بالنسبة
لقتل الشيوخ من المشركين ، فلا ريب في جواز قتل القادة منهم ، وكذا الحال بالنسبة
لأهل الرأي في الحرب ، وقتل دريد بن
__________________
الصمة في حنين خير شاهد على ذلك .
إلا
أن يقال : إنه لم يقتل
بأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» «صلىاللهعليهوآله».
ويجاب
: بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد رضي بقتله ، واعتبره من أئمة الكفر الذين لا محذور
في قتلهم كما تقدم ..
وكذا لا إشكال
في جواز قتل النساء ، إذا شاركن في القتال .
__________________
ومثله
: ما لو تترس
العدو بالأسرى ، ولم يمكن التحرز عن قتلهم ، وتوقف عليه تحقيق النصر ، وحفظ الدين
وأهله.
أما
بالنسبة للأطفال ، فقد دلت بعض الروايات : على جواز قتلهم أيضا .
__________________
ولكنها
ناظرة ـ كما هو صريح الروايات الأخرى ـ : إلى صورة إرادة تبييت العدو إذا توقف التخلص من معرته
على هذا التبييت ، وكذا لو احتاج الأمر إلى ضرب العدو بالمنجنيق ، حيث لا يمكن
التحرز عن قتل الأطفال في مثل هذه الأحوال ، فيما إذا كان لا يمكن حفظ الدين والإسلام والمسلمين
إلا بذلك.
وأما الإثم
والمؤاخذة ، فإنما يلحق من تترس بهم ، أو من اعتدى وظلم ، وساق الأمور إلى هذه
الحال ، حيث إنه بسوء اختياره قد وضع الإسلام وأهله في خطر ، واضطرهم إلى الدفاع
ودرء الخطر عن أنفسهم من دون أن يحترز على أطفاله ، وشيوخه ، ويهيء لهم الموضع
الآمن ، فهو الذي فرط فيهم ، وهيأ الظروف لقتلهم ، فهو الظالم والآثم لهؤلاء
الأطفال من خلال
__________________
تجنيه على الدين ، وظلمه لأهله ، والتبييت لاضطرارهم إلى الدفع عن أنفسهم
بهذه الطريقة.
ثانيا
: إنه لم يظهر
من أي نص على الإطلاق : أن أحدا من الشيوخ ، والأطفال ، والنساء ، والأسرى ، قد
أصيب في الطائف بسبب المنجنيق.
فلعل ضرب أهل
الطائف بالمنجنيق قد اقتصر على المواضع التي يؤمن فيها من إصابة غير المقاتلين ..
فلا
يصح قولهم : إن تجويز الضرب بالمنجنيق ينافي الرحمة ، أو أنه يستبطن تجويز ضرب
الأقليات المسلمة ، أو الأسرى منهم ، أو الأطفال ، أو الشيوخ والنساء ، فإن النصوص
التي توفرت لنا لم تصرح بشروط جواز الضرب بالمنجنيق ، ولا شرحت الظروف التي تم
فيها هذا الفعل ، كما أنها تذكر : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد صرح لهم بما دل على إلزامهم ، أو على الإذن لهم
بقتل أحد من غير المقاتلين ..
ثالثا
: إن الله
سبحانه ، قد أخذ بعض الأمم بعذاب الإستئصال ، فقال : (فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) .
وقال عن قوم
عاد : (بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ
بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) .
__________________
وقال تعالى على
لسان نبيه ، نوح عليه وعلى نبينا وآله السلام : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ
يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) . فتجويز قتل النساء والأطفال ، والشيوخ ليس بالأمر
المستهجن.
وقد
دلت بعض النصوص على : أن الله تعالى يقدر قبض أرواحهم في تلك اللحظة ، فلا يكون ما يحل بهم من
باب العذاب لهم ..
رابعا
: قال القاضي
النعمان : «ذكر أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نصب المنجنيق على أهل الطائف ، وقال : إن كان في حصنهم
قوم من المسلمين ، وأوقفوهم معهم ، فلا تتعمدوا إليهم بالرمي ، وارموا المشركين. وأنذروا
المسلمين ليتقوا ، إن كانوا أقيموا كرها ، ونكبوا عنهم ما استطعتم ، فإن أصبتم
أحدا ففيه الدية» .
ولعلك
تقول : لكن رواية حفص
بن غياث تقول : إنه لا دية ولا كفارة في قتل المسلمين والتجار ، إن أصيبوا بضرب
المنجنيق ، او غيره ، فقد قال :
سألت أبا عبد
الله «عليهالسلام» عن مدينة من مدائن الحرب ، هل يجوز
__________________
أن يرسل عليها الماء ، أو تحرق بالنار ، أو ترمى بالمنجنيق حتى يقتلوا ،
وفيهم النساء والصبيان ، أو الشيخ الكبير ، والأسارى من المسلمين والتجار؟!
فقال
: يفعل ذلك بهم
، ولا يمسك عنهم لهؤلاء ، ولا دية عليهم للمسلمين ، ولا كفارة .
ويمكن
أن يجاب : بأنه لا
منافاة بين رواية حفص بن غياث ، وبين رواية القاضي النعمان ، فإن رواية حفص بن
غياث قد تكون ناظرة إلى صورة ما لو لم يعلم الرامي بوجود مسلمين ، فصادف وجودهم ،
وإصابتهم ، فلا تجب عليه الدية.
أما
رواية الدعائم : فهي ناظرة إلى صورة علم الرامي بوجودهم ، فرماهم ، فتجب دية المسلمين
الذين أصيبوا منهم.
قطع شجر الطائف :
وتقدم
: أنه «صلىاللهعليهوآله» شرع بقطع نخيل وشجر الطائف ، وتحريقه. ووكل كل رجل من
أصحابه ، بقطع خمس نخلات ، ثم تركها لهم ، لأجل الله وللرحم ، حين ناشدوه ذلك.
مع أنه «صلىاللهعليهوآله» كان في وصاياه لسراياه وبعوثه ينهاهم عن ذلك ويقول : «ولا
تقطعوا شجرا إلا أن تضطروا إليها».
__________________
فإن كان «صلىاللهعليهوآله» قد اضطر إلى قطع الشجر ، من أجل تمكين جيشه من التحرك
في ساحات القتال ، ومنع العدو من الإستفادة من ذلك الشجر ، ومنعه من وضع كمائن قتالية
في بعض المواضع .. فلما ذا عاد فترك قطعها حين ناشدوه الله والرحم؟!
وإن كان قد
قطعها من غير ضرورة ، بل تشفيا وإمعانا في أذى أعدائه ، فكيف يفعل ما كان هو ينهى
عنه بعوثه وسراياه؟!
ويمكن
أن يجاب : بأنه من
الجائز أن يكون النبي «صلىاللهعليهوآله» قد احتاج لمنع تسلل أعدائه إليه ، أو لإعطاء قدر أكبر
من حرية الحركة وسهولتها حلى جيشه ـ احتاج ـ إلى قطع طائفة من الأشجار ، لأنها
كانت في مواضع يشكل بقاؤها خطرا على جيش المسلمين ، لإمكان استفادة العدو منها ،
أو لأنها كانت تعيق حركة الجيش ، أو لغير ذلك .. فظن أهل الطائف ، وكذلك بعض
المسلمين أو كلهم ، أنه «صلىاللهعليهوآله» يريد قطع جميع نخيلهم ، وأعنابهم وشجرهم ، فناشدوه أن
يترك ذلك ، فترك استكمال قطعها ، مكتفيا بما قطع منها ، وآثر أن يتحمل قسطا من
الجهد بالنسبة لما بقي ، تعظيما لله ، وصلة للرحم.
لأجل الله والرحم :
والغريب
في الأمر هنا : أن تلجأ ثقيف في مطالبتها النبي «صلىاللهعليهوآله» بترك قطع الأشجار إلى أمر لم تزل هي تنقضه ، وتحارب
النبي «صلىاللهعليهوآله» من أجله.
فثقيف هي التي
أعلنت الحرب على الله ورسوله ، وتسعى في قتل النبي
والمسلمين ، وقد بدأت بجمع الجموع لحربهم قبل سنة ، من غير ذنب أتوه إليها.
إلا
أنهم يقولون : ربنا الله ، وهي تريد منعهم من ذلك.
وثقيف هي التي
قطعت رحمه «صلىاللهعليهوآله» ، ولا تزال تجهد في تأكيد هذه القطيعة ، وهذا الوضع
الذي أوجدته هي لنفسها هو من أجلى ذلك.
فما
معنى : أن تناشده
الله والرحم ، من أجل نخلات اضطر إلى قطعها ليدفع الخطر عن نفسه ، ويحفظ أرواح
أصحابه ، وليتمكن من إنهاء الحرب بأقل الخسائر في الأرواح؟! ولعل ذلك يوفر على
ثقيف نفسها أيضا الكثير من الخسائر ، إذا أمكن حسم أمر الحرب ، وسقطت مقاومة ثقيف
بسرعة ، فإنه «صلىاللهعليهوآله» لم يكن يريد استئصالها ، بل كان يريد لها الحياة ،
والكرامة ، والسعادة ..
وقد أثبت «صلىاللهعليهوآله» ذلك بالأفعال لا بالأقوال .. كما أظهرته الوقائع ، حتى
حين أراد تقسيم غنائم حنين ، وتعيين مصير الأسرى والسبايا فيها ، حيث عمل على
إطلاق سراحهم جميعا ، واكتفى بتقسيم الغنائم ، لا على أصحابه المؤمنين ، وإنما على
الذين نابذوه وحاربوه في الفتح وفي حنين .. ليتألّفهم بها ، وليطفئ نار حقدهم ،
وليطمئنهم على أنه لا يريد بهم سوءا .. وليمنعهم من مواصلة مؤامراتهم ، والعبث
بأرواح الناس ، والتلاعب بمصائرهم ، وبأمنهم.
ولم تكن مناشدة
ثقيف إياه الله والرحم ، إلا لأنهم يعرفون صدقه في دعوته ، والتزامه بشعاراته ،
ووقوفه عند تعهداته ، وانسجامه مع قناعاته ، لا
يحيد عنها قيد شعرة في أي من الظروف والأحوال.
ولعل هذه
الإستجابة منه «صلىاللهعليهوآله» لثقيف كانت من جملة المحفزات لها أيضا على ترك الحرب ،
وإرسال وفودها إليه ، لتعلن إسلامها ، وذلك بعد أيام يسيرة من هذه الوقائع.
ليس المطلوب أكثر من الحصار :
قال
ابن إسحاق : وبلغني أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال لأبي بكر : «إني رأيت أنى أهديت لي قعبة مملوءة
زبدا ، فنقرها ديك ، فهراق ما فيها».
فقال
أبو بكر : ما أظن أن
تدرك منهم يومك هذا ما تريد.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «وأنا لا أرى ذلك» .
وعن
جابر «رضياللهعنه» قال : «قال : يا رسول الله ، أحرقتنا نار ثقيف ، فادع الله تعالى عليهم ، فقال :
اللهم اهد ثقيفا ، وأت بهم» .
__________________
ونقول
:
أبو بكر وتعبير الرؤيا :
بالنسبة للرؤيا
التي يزعمون أن أبا بكر قد عبرها لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» نقول :
أولا
: إننا لا
نستطيع أن نؤكد صحة روايتها ، فإن ابن إسحاق لم يذكر لنا من الذي أبلغه بها ،
فلعله ممن لا يصح الإعتماد على روايته ، ممن كان ابن إسحاق يتحرج من ذكر اسمه ،
خوفا من أن ينسب إليه : أنه يأخذ عن غير الموثوقين ، فيسقط محله بين أهل العلم.
ثانيا
: إن التعبير
الذي جاء به أبو بكر ، لا يتلاءم مع طبيعة الرؤيا ، فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» هو الذي اختار ترك أهل الطائف ، ولم يكن هناك من يمكن
أن يكون سببا في تضييع فتحها عليه «صلىاللهعليهوآله» ، لكي
__________________
يقال : «إن الديك الذي نقر القعبة ، فهراق ما فيها ، هو فلان مثلا».
ثالثا
: سيأتي : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أدرك من الطائف ما أراد ، بفضل الله تعالى ، وبجهاد
علي أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، حيث ألقى الله الرعب في قلوبهم ، وطلبوا من رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أن يتنحى عنهم حتى يقدم عليه وفدهم ، ففعل ، رفقا منه «صلىاللهعليهوآله» بهم ، وسار حتى نزل مكة ، فجاءه وفدهم بإسلامهم ، كما
سيأتي إن شاء الله تعالى .
وبذلك
يظهر : أنه لا صحة
لما يدّعونه ، من أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد تركهم ، لأنه لم يدرك منهم ما أراده.
ولا
صحة أيضا : لما يذكرونه ، من أن قدوم وفدهم قد تأخر عدة أشهر ، فقدم في شهر رمضان
المبارك .. ولا أقل من أن ذلك مشكوك فيه.
رابعا
: لو سلمنا أنه «صلىاللهعليهوآله» قد انصرف عنهم ، من دون أن يطلبوا منه ذلك ، ولكن من
الذي قال : إنه كان يريد من حصاره للطائف فتح الطائف عنوة ، ثم غيّر رأيه ، وانصرف
عنها عجزا وضعفا .. فلعل هدفه «صلىاللهعليهوآله» كان من أول الأمر هو : أن يذيق أهل الطائف مرارة
الحصار ، والخوف من ضربات المنجنيق ، ثم يتركهم ليتدبروا أمرهم بعد ذلك ، وفق ما
توفر لديهم من معطيات ..
ولم يكن يريد
أن يلجئهم إلى العناد واللجاج ، والمكابرة ، أكثر مما كان ،
__________________
بل يريد أن يجعل طريق الرشد والغي واضحين لهم.
وقد
ظهر لهم بالفعل : أن عليا «عليهالسلام» قد أخضع محيطهم كله لإرادة الله ، ورسوله ، وأدركوا أن
لا قدرة لهم على منابذة ومعاداة محيطهم ، الذي قبل بالإسلام دينا ، وأصبح يحارب من
أجله. وهم إنما يعيشون على التجارات ، وعلى بيع ثمرات نخيلهم وأعنابهم ، وغيرها ،
في مكة وسواها من البلاد المجاورة.
وقد أصبحوا
يواجهون عزلة مريرة في المنطقة ، وقد يفاجؤهم النبي «صلىاللهعليهوآله» في كل وقت بحصارات ، أو بغارات ربما لا يتمكنون من
الصمود أمامها ، وسوف يكلفهم عنادهم ، وإصرارهم على موقفهم هذا أثمانا غالية ، لا
مبرر للتفريط بها ، ولا سيما مع رؤيتهم المزيد من الرفق ، ومراعاة الحال ، والحفاظ
على الرحم فيهم ممن عادوه ونابذوه وحاربوه ، وهو رسول الله «صلىاللهعليهوآله». فلما ذا العناد إذن؟! ولماذا الإصرار؟!
وقد
أظهرت الوقائع : أن المستقبل سيكون مع هذا الدين ، ومع المسلمين أرحب ، والفرص فيه أوفر ،
والسعادة وراحة البال أيسر ، وأكبر.
بل قد أصبحت
الحياة في خارج هذا المحيط صعبة وقاسية ، ومريرة ، وغير مؤهلة للإستمرار ، ولا
للإستقرار ..
اللهم اهد ثقيفا ، وائت بهم :
وبالنسبة لحديث
جابر ، وطلبه من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يدعو على ثقيف ، نقول :
١ ـ إن من
الجائز أن يكون جابر قد طلب من النبي «صلى الله عليه
وآله» أن يدعو على ثقيف ، انطلاقا من حميمته الدينية ، إلا أن نبي الرحمة
قد أبى إلا أن يكون الرحيم الرؤوف حتى بمن يحاده ويضاده.
ومن
الجائز أن يقال في تفسير ذلك أيضا : أنه يظهر مفارقة مثيرة بين مرامي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ونظرته إلى الأمور ، وأهدافه من الحرب .. وبين نظرة
ومرامي ، وأهداف غيره ..
فإن الحرب ،
وآلامها وقسوتها قد أثرت حتى على مثل جابر ، فأظهر حرصه على التخلص منها ، ولو
بقيمة هلاك ثقيف بدعوة من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
فأصبح
يرى : أن المشكلة
تتمثل في نار ثقيف التي أحرقتهم ، وأن التخلص من هذه النار إنما يكون بهلاك
أصحابها ..
أما
النبي «صلىاللهعليهوآله» فيرى
: أن المشكلة هي
كفر ثقيف واستكبارها ، وحميتها الجاهلية ، وجهلها ، ولا أخلاقيتها ، وانقيادها
لأهوائها .. وأن التخلص من هذه المشكلة إنما يكون بإيمان ثقيف ، وفتح باب الهداية
لها ، والكشف عن بصيرتها ، وعندئذ سوف تصبح نارها بردا وسلاما ، وحقدها محبة
ووئاما ..
ولأجل
ذلك قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في
جوابه لجابر : «اللهم اهد
ثقيفا».
٢ ـ ثم إنه «صلىاللهعليهوآله» لم يكتف بطلب هدايتهم ، بل طلب من الله تعالى أن يأتي
بهم ..
فلما ذا أضاف «صلىاللهعليهوآله» هذا الطلب إلى طلب الهداية؟! ..
والجواب
:
أن مجرد معرفة
الحق ، والوقوف على معالمه لا يكفي ، بل ليس هو المطلوب ، بل المطلوب هو العلم
والعمل معا ، وذلك يحتاج إلى أخلاقية مبدؤها نبذ الإستكبار ، وأخلاقية تدعوه إلى
الإنقياد ، وتصونه من الجحود ، وتبعث فيه روحا إلهية تغمره بالروحانية ، وتفيض
عليه السكينة ، والرضا ، والسلام.
ولأجل
ذلك : كان الإتيان
بثقيف منقادة لأمر الله ، نابذة للإستكبار والجحود ، هو المطلوب النهائي في دعاء
رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
الفصل الرابع :
من أحداث أيام الحصار
خولة تطلب الحلي من الطائف :
وعن طلب خولة
بنت حكيم ، زوجة عثمان بن مظعون ، من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يعطيها حلي بادية بنت غيلان ، أو حلي الفارعة بنت
عقيل ، إن فتح الله عليه الطائف نقول :
إننا لا نراه
طلبا معقولا ، لأن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يعود الناس على إقتراحات لعطاءات من هذا القبيل ،
بل كان يقسم الغنائم بين المقاتلين وفق شرع الله تبارك وتعالى؟!.
كما أننا لم
نعرف السبب الذي جعل خولة تستحق هذا العطاء الكبير ، وتطالب به!!
ولا
ظهر لنا : المبرر
لجرأتها وإقدامها على هذا الطلب!! وكيف لم تتوقع من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يقول لها : لماذا أعطيك وأحرم غيرك؟!.
وهل كانت هذه
المرأة محبة لزينة الحياة الدنيا إلى هذا الحد؟! وهل التي يقولون : إنها تصوم
النهار ، وتقوم الليل ، وهي امرأة صالحة ، فاضلة ، فهل
__________________
من يكون هذا حالها تسعى للإستئثار بحلي أحلى نساء ثقيف ، دون سائر النساء
اللواتي حضرن تلك الحرب؟!
عيينة بن حصن يمدح الأعداء :
وقد كان البلاء
والعناء لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» يأتيه من قبل أصحابه ، الذين كانوا ـ وخصوصا الزعماء
والرؤساء منهم ـ على درجة كبيرة من المباينة معه ، فهم شيء والنبي «صلىاللهعليهوآله» شيء آخر .. سواء من ناحية التفكير ، أو من ناحية المرامي
والأهداف ، أو المميزات والملكات والصفات ، أو في طريقة الحياة. أو في أي شأن من
الشؤون ..
بل إن الكثيرين
منهم هم إلى اعدائه أقرب منهم إليه .. ومن شواهد ذلك ـ وما أكثرها ـ ما روي : من
أنه حين أراد النبي «صلىاللهعليهوآله» الرحيل عن الطائف نادى : ألا إن الحي مقيم.
فقال
عيينية : أجل والله ،
مجدة كراما.
فقال
له رجل من المسلمين : قاتلك الله يا عيينة ، تمدح المشركين بالإمتناع عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وقد جئت تنصره؟!
قال
: والله ، إني
جئت لأقاتل ثقيفا معكم ، ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف ، فأصيب من ثقيف جارية
أطؤها لعلها تلد لي رجلا ، فإن ثقيفا قوم مناكير .
__________________
النبي يستشير في أمر الطائف :
وعن استشارة
النبي «صلىاللهعليهوآله» نفيل بن معاوية في أمر أهل الطائف نقول :
أولا
: لم يكن النبي «صلىاللهعليهوآله» محتاجا إلى مشورة أحد ، لأنه كان مستغنيا بالوحي ..
ثانيا
: لماذا خص نوفل
بن معاوية بالإستشارة ، فإن المقام ليس مقام تأليف ، وتقريب ، إذ لو كان الأمر
كذلك لاستشار أبا سفيان ، وصفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، ونظراءهم ..
وإن
كان يريد الإستشارة في أمر الحرب ، فاللازم هو : إستشارة من يتحملون أعباءها ، ويطلب منهم التضحية فيها
بأرواحهم ، وبعلاقاتهم ، وبغير ذلك من أمور.
والمفروض
: أن الذين
كانوا معه «صلىاللهعليهوآله» ، يزيدون على عشرة آلاف مقاتل ، ولم يكن نوفل بن
معاوية يمثلهم في شيء من ذلك.
دخول المخنثين على النساء :
عن
أم سلمة ، قالت : كان عندي مخنث . وذلك في أيام محاصرة الطائف ، فقال ذلك المخنث لعبد
الله أخي : إن فتح الله عليكم الطائف غدا ،
__________________
فإني أدلك على ابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان .
فسمع
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قوله
، فقال : «لا أرى هذا يعلم ما هاهنا ، لا تدخلن هؤلاء عليكن».
وكانوا يرونه
من غير أولي الإربة من الرجال .
قال
ابن جريج : اسمه هيت .
__________________
قال
ابن إسحاق : كان مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عايد (عائذ) ، مخنث
يقال له : ماتع ، يدخل على نساء رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويكون في بيته. ولا يرى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أنه يفطن لشيء من أمور النساء مما يفطن الرجال إليه ،
ولا يرى أن له في ذلك إربا ، فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد : يا خالد ، إن فتح
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الطائف ، فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان ، فإنها تقبل
بأربع وتدبر بثمان.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين
سمع هذا منه : «لا أرى الخبيث
يفطن لما أسمع».
ثم
قال لنسائه : «لا تدخلنه
عليكن».
فحجب عن بيت
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
ويقال
: إنه نفاه من
المدينة إلى الحمى .
__________________
ونقول
:
١ ـ إن هناك
اختلافا بل تناقضا في روايات هذه الحادثة ، فهل قال المخنث ذلك لخالد بن الوليد ،
أو لعبد الله أخي أم سلمة؟!
وهل نفى النبي «صلىاللهعليهوآله» ماتعا وهيتا ، أو نفى ماتعا فقط؟!
٢ ـ هل جزاء من
غلغل النظر إلى النساء هو النفي والإخراج من البلد؟! مع أنهم لم يعدّوا هذا الذنب
من الكبائر ، إلا إذا أصر عليه فاعله!!
إلا
أن يقال : لعل سبب هذه
العقوبة القاسية هو : أنه «صلىاللهعليهوآله» اتهم ذلك المخنث بالتظاهر بالتغفيل والحمق ، ربما لكي
يدخل على نساء الناس ، ويرى منهن ما يحرم رؤيته على الرجال ..
ولكن ليس لدينا
ما يؤيد هذا الإحتمال ، فيبقى غير قادر على دفع الإشكال.
٣ ـ هل صحيح :
أنه يجوز إدخال المخنثين على نساء الناس ، ورؤية محاسنهن؟!
وهل
صحيح : أنهم كانوا
يدخلون على نساء رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالخصوص ، مع ما عرفه كل أحد من شدة غيرته «صلىاللهعليهوآله»؟!
٤ ـ على أننا
نجد في الروايات عن علي «عليهالسلام» : «إن فاطمة «عليهاالسلام» استأذن عليها أعمى ، فحجبته ، فقال لها النبي «صلىاللهعليهوآله» : لما
__________________
حجبته وهو لا يراك؟
فقالت
: إن لم يكن
يراني ، فأنا أراه ، وهو يشم الريح.
فقال
النبي «صلىاللهعليهوآله» : أشهد أنك بضعة مني» .
ونقول
:
أولا
: إن فاطمة «عليها
الصلاة السلام» قد استدلت بأمرين :
الأول
: أنه إن لم يكن
ذلك الرجل يراها فهي تراه ، ومعنى ذلك : أن على المرأة أن لا تنظر إلى الرجل أيضا
، فكيف علمت الزهراء ذلك ، ولم يعلمه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حتى سمح بدخول المخنثين على نسائه؟!
الثاني
: إن الرجل يشم
الريح أيضا ، حتى لو كان أعمى ، وهذا يدعوها إلى حجبه ، ومنعه من التواجد في موضع
قريب منها ، فهل المخنث ليس
__________________
رجلا ، ولا يشم الريح أيضا؟! وهل كونه مخنثا يمنعه من ذلك؟!
ثانيا
: إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قال لفاطمة حينئذ : أشهد أنك بضعة مني. ولا يقصد من
هذه الكلمة في هذا المورد بالذات : أنها «عليهاالسلام» بضعة منه «صلىاللهعليهوآله» جسديا وحسب ، بل هي بضعة منه من الناحية الإيمانية ،
والفكرية والروحية ، وفي مستوى وعيها للأمور ، ومعرفتها بالأحكام وبأهدافها ،
وملاكاتها ، وحقائقها ودقائقها. وهو تصويب لفهمها ولموقفها كله ..
فكيف يصوبها
هنا ، ثم هو يتصرف بخلاف هذا الصواب ، ويدخل المخنث إلى بيته ، ليرى محاسن نسائه؟!
٤ ـ روي : أن
ابن أم مكتوم استأذن على النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وعنده عايشة وحفصة ، فقال لهما : قوما فادخلا البيت.
فقالتا
: إنه أعمى.
فقال
: إن لم يركما
فإنكما تريانه .
٥ ـ وعن أم
سلمة ، قالت : كنت عند رسول الله ، وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم ، وذلك بعد
أن أمر بالحجاب ، فقال : احتجبا.
فقلنا
: يا رسول الله
، أليس أعمى؟!
__________________
قال
: أفعميا وان
أنتما؟ ألستما تبصرانه؟! .
__________________
فالنبي «صلىاللهعليهوآله» يستدل على عائشة ، وحفصة ، وميمونة ، وأم سلمة على
لزوم احتجابهن من ابن أم مكتوم بأنهن يريانه ، وهذا الأمر حاصل في دخول المخنث على
زوجاته «صلىاللهعليهوآله» ، بزيادة أن ذلك المخنث يراهن أيضا ..
فإن كانت هذه
الأمور قد حصلت قبل قضية الطائف ، وقضية ذلك المخنث ، فالمفروض هو : أن لا يرضى «صلىاللهعليهوآله» بدخول ذلك المخنث على أهل بيته ..
وإن
كانت قد حصلت بعد ذلك ، فالسؤال هو : ألم يكن النبي «صلىاللهعليهوآله» يعرف هذا الأمر قبل ذلك؟! فإن كان يعرفه ، فلما ذا مكن
المخنثين من الدخول على نسائه «صلىاللهعليهوآله» ، وإن كان لا يعرف ذلك ، فهذا يوجب الطعن في مقام
النبوة ، لما فيه من ارتكاب ما لا يرضاه الشارع بالإضافة إلى نسبة الجهل إلى أفضل
الأنبياء بأمر بديهي ، كما ظهر من طريقة استدلاله «صلىاللهعليهوآله» على زوجاته ..
__________________
٦ ـ إن هناك
روايات كثيرة تتحدث عن لزوم الإحتراز عن المخنثين ، وعن لعن النبي «صلىاللهعليهوآله» لهم وغير ذلك .. وقد رواها السنة والشيعة عن رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» ..
فمما
رواه شيعة أهل البيت «عليهمالسلام» نذكر ما يلي :
ألف
: لعن رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» المخنثين ، وقال : أخرجوهم من بيوتكم.
وعن علي «عليهالسلام» مثله .
ب
: وعنه «صلىاللهعليهوآله» : لا يجد ريح الجنة زنوق ، وهو المخنث .
ج
: وعن الإمام
الصادق «عليهالسلام» قال : لعن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء
بالرجال وهم المخنثون .
ومما
رواه أهل السنة نذكر :
ألف
: روى البخاري ،
وأحمد ، والترمذي ، والدارمي وغيرهم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لعن المخنثين من الرجال ، والمترجلات من النساء ،
__________________
وقال : أخرجوهم من بيوتكم .
ب
: وقد روي في
كتاب الحدود : «.. وإذا قال : يا مخنث ، فاضربوه عشرين» .
__________________
٧ ـ ولا أدري
لماذا يسيؤون إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حين ينسبون إليه قوله عن المخنث : «لا أرى هذا يعلم
ما ها هنا».
أو
قولهم : «ولا يرى رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه يفطن لشيء من أمور النساء ، مما يفطن الرجال إليه ،
ولا يرى أن له في ذلك إربا».
أو
أنه «صلىاللهعليهوآله» قال
: «لا أرى الخبيث يفطن لما أسمع». ثم يظهر خلاف ما توقعه
أو رآه «صلىاللهعليهوآله».
سواء
قلنا : إن المراد
بالمخنث هو الذي لا إرب له في النساء ، كما تقدم في الرواية ، أو من لا هم له في
النساء كما نسبه الصالحي الشامي إلى عرف السلف ، لأن من لا يكون له في النساء إرب ليس بالضرورة أن لا
يفطن لما يفطن إليه الرجال.
أو
قلنا : بأنهم قيل لهم
مخنثون ، «لأنه كان في كلامهم لين ، وكانوا يختضبون بالحناء كخضاب النساء ، لا
أنهم يأتون الفاحشة الكبرى» .
فإن لين كلامهم
لا يجعلهم يجهلون خصوصيات الجمال في النساء ، أو لا يفطنون لشيء من أمور أمورهن.
وكذلك الحال لو
فسر المخنث بالذي يؤتى في دبره ، فإن ذلك لا يجعله ، غير عارف بخصوصيات النساء ،
ولا يحسن وصفهن ..
__________________
فما هو المبرر
لتكوّن هذا الإعتقاد الخاطئ في أمر ظاهر وبديهي لدى نبي هو عقل الكل ، وإمام الكل
، ومدبر الكل؟!
مضافا إلى
ضرورة التنبيه على أن تفسيبر المخنث بأنه الذي لا هم له في النساء ، أو لا إرب له
بهن ، أو : بأنه الذي يختضب بالحناء ، وفي كلامه لين ، هو مجرد اختراع وتبرع ، من
أناس يريدون ترقيع الأمور ، والتستر على السقطات بأي نحو كان. ولو بالضحك على
اللحى ، وتزوير الحقائق.
ومن
البديهي : أن الأحاديث
التي تذم المخنثين ، وتعلن بلعنهم ، ولزوم طردهم من البيوت ، من أقوى الشواهد على
زيف هذه التفسيرات .. وسقوطها ، وسوء رأي أصحابها.
الصحيح في القضية :
وبعد
، فإن كان لهذه القضية أصل ، فهو : أن هذا المخنث ربما يكون قد دخل مع عبد الله بن أبي
أمية إلى بيت أم سلمة ، وبقيت هي في خدرها ، دون أن يراها أو تراه ، حيث بقي مع
أخيها في خارجه ، فسمعته يقول لأخيها ذلك القول ، وسمعه النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فمنعه من الدخول مطلقا .. ولم يكن هناك شيء أكثر من
ذلك.
ولا
صحة لما تدعيه الروايات : من أن ذلك المخنث كان يدخل على أزواج النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وأنهم كانوا يعدونه من غير أولي الإربة وما إلى ذلك
من ترهات وأباطيل ..
وهذه الصورة
تتوافق مع ما رواه مسلم عن زينب بنت أم سلمة ، عن
أم سلمة ، فراجع .
دوافع الإساءة إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله :
ولعلنا
نستطيع أن نتصور : أن من دوافع جعل هذه النصوص التي تسيء إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» هو : التخفيف من حدة النقد الذي يتعرض له الخليفة
الثاني عمر بن الخطاب ، بسبب ما فعله بنصر بن الحجاج وغيره ، حيث يذكرون :
أن عمر كان يعس
بالمدينة ، إذ مرّ بامرأة في بيت ، وهي تقول أبياتا منها :
هل من سبيل
إلى خمر فأشربها
|
|
أم هل سبيل
إلى نصر بن حجاج؟
|
وكان
رجلا جميلا ، فقال عمر : أما والله وأنا حي فلا ، فلما أصبح دعا نصر بن حجاج ،
فأبصره ، وهو من أحسن الناس وجها ، وأصبحهم ، وأملحهم حسنا ، فأمره أن يطم شعره
فخرجت جبهته ، فازدادت حسنا.
فقال
عمر : إذهب فاعتم.
فاعتم ، فبدت
وفرته.
فأمره بحلقها ،
فازداد حسنا.
فقال
له : فتنت نساء
المدينة يا ابن حجاج ، لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها ، ثم سيّره إلى البصرة ،
فكتب إليه أبياتا يشكو فيها ما هو فيه ، ويطلب منه أن يعيده إلى بلده ، فرفض عمر
ذلك .
__________________
وهناك قصة أخرى
لعمر مع رجل آخر أيضا.
وحيث إن هذا
النفي لنصر بن حجاج بلا مبرر ، لأن الرجل لا ذنب له ، أرادوا أن ينسبوا إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ما يشبهه ، من حيث أنه نفي لشخص بلا مبرر ظاهر ، لكي
يقال : إن مثل هذا الإجراء قد يكون احترازيا يهدف إلى منع حدوث الفساد ، وليس
عقوبة له ..
والإجراء
الإحترازي يرجع إلى الحاكم ، وتقديره للأمور ، حتى وإن أضرّ هذا الإجراء بحال من
يتخذه في حقه .. فإن ما فيه من مصلحة يجيز للحاكم أن يمارس هذا المقدار من الظلم.
ولكن هذا
المنطق مرفوض في الإسلام جملة وتفصيلا.
إذ لا يطاع
الله من حيث يعصى ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ..
وإذا كان
النساء يقعن في الفتنة ، فالواجب هو : قمع النساء ، ومنعهن عنها ، لا معاقبة
الأبرياء ، أو التعدي على حرياتهم ..
بل
ظاهر كلمات عمر : أنه يعامل نصر بن حجاج معاملة المذنب. فراجع.
__________________
الفصل الخامس :
نهايات حرب الطائف
الرجوع عن حصار الطائف :
عن
أبي هريرة قال : لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف ، إستشار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نوفل بن معاوية الديلي ، فقال : «يا نوفل ما ترى في
المقام عليهم».
قال
: يا رسول الله
، ثعلب في جحر ، إن أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرك .
ثم
إن خولة بنت حكيم السلمية ، وهي امرأة عثمان بن مظعون ، قالت : يا رسول الله ، أعطني ، إن فتح الله عليك الطائف ـ حلي
بادية بنت غيلان ، أو حلي الفارعة بنت عقيل .. وكانتا من أحلى نساء ثقيف.
__________________
فروي
: أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال لها : «وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة»؟
فخرجت خولة ،
فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب ، فدخل على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة؟ زعمت أنك
قلته؟
قال
: «قد قلته».
قال
: «أو ما أذن فيهم»؟
قال
: «لا».
قال
: أفلا أؤذن
الناس بالرحيل؟
قال
: «بلى».
فأذن عمر
بالرحيل .
وفي
نص آخر : أنها قالت :
يا رسول الله ، ما يمنعك أن تنهض إلى أهل الطائف؟!
قال
: لم يؤذن لنا
الآن فيهم ، وما أظن أن نفتحها الآن .
__________________
وروى
الشيخان عن ابن عمرو أو ابن عمر قال : لما حاصر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الطائف ، ولم ينل منهم شيئا ، قال : «إنا قافلون غدا
إن شاء الله تعالى.
فثقل
عليهم ، وقالوا : أنذهب ولا نفتح؟
وفي
لفظ : فقالوا : لا
نبرح أو نفتحها.
فقال
: «اغدوا على القتال».
فغدوا
، فقاتلوا قتالا شديدا ، فأصابهم جراح ، فقال : «إنا قافلون غدا إن شاء الله تعالى».
قال
: فأعجبهم ،
فضحك رسول الله «صلىاللهعليهوآله». أي تعجبا من سرعة تبدل رأيهم حين رأوا : أن رأي رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أبرك وأنفع .
__________________
قال
عروة كما رواه البيهقي : وأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الناس أن لا يسرحوا ظهرهم ، فلما أصبحوا ، ارتحل رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» وأصحابه ، ودعا حين ركب قافلا وقال : «اللهم اهدهم ،
واكفنا مؤنتهم» .
وقالوا
: فقال رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» لأصحابه ، حين أرادوا أن يرتحلوا : «قولوا : لا إله
إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده».
فلما
ارتحلوا واستقبلوا قال : «قولوا : آيبون ، إن شاء الله ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون» .
__________________
وعن
مدة الحصار نقول :
قال
أنس : إنهم حاصروا
الطائف أربعين ليلة ، واستغربه في البداية .
وقال
ابن إسحاق : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حاصر أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك ، ثم
انصرف عنهم ، ولم يؤذن فيهم.
فقدم وفدهم في
رمضان فأسلموا .
قال
اليعقوبي وابن إسحاق : «وحاصرهم بضعا
وعشرين ليلة .
__________________
وقيل
: عشرين يوما .
وقيل
: بضع عشرة ليلة»
.
قال
ابن حزم : وهو الصحيح
بلا شك .
وقيل
: حاصرهم تسعة عشر يوما .
وقيل
: ثمانية عشر
يوما .
وعن
عبد الرحمن بن عوف : حاصر الطائف في عشرة ، أو سبع عشرة .
__________________
وعنه
: فحاصرهم سبع
عشرة ، أو ثماني عشرة ليلة . أو سبعة عشر أو تسعة عشر يوما .
وعنه
أيضا : ثمانية عشر أو
تسعة عشر يوما .
__________________
وقيل
: خمسة عشر يوما
.
قالوا
: وكأن الحكمة
في أنه لم يؤذن له «صلىاللهعليهوآله» في فتح الطائف ذلك العام أن لا يستأصل أهل ذلك الحصن
قتلا ، فأخر الله أمرهم ، حتى جاؤوا طائعين مسلمين» .
ونقول
:
إن
لنا وقفات عديدة مع ما تقدم ، نذكر منها ما يلي :
لم يؤذن لنا في أهل الطائف :
قد
ذكرت الروايات المتقدمة : أنه «صلىاللهعليهوآله» أمر أصحابه بالرحيل وفك الحصار ، معللا ذلك بأنه لم
يؤذن لهم في أهل الطائف ..
غير
أننا نقول :
أولا
: تقدم وسيأتي :
ما يدل على أن أهل الطائف هم الذين طلبوا من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يبتعد عن حصنهم ، حتى يأتيه وفدهم. فذهب إلى مكة ،
فجاءه وفدهم بإسلامهم ..
فإن
كان «صلىاللهعليهوآله» قد
قال لأصحابه : «إنه لم يؤذن
له فيهم» ، فهو يقصد هذا المعنى ..
وفي غير هذه
الصورة ، فإن رجوع النبي «صلىاللهعليهوآله» عن
__________________
حصارهم معناه : إظهار العجز والضعف ، وربما يشجع ذلك بعض الفئات في المنطقة
على الإلتفاف حولهم ، وتشجيعهم وشد أزرهم على المقاومة والصمود في وجه الإسلام
والمسلمين ..
ثانيا
: إنه لا مبرر
لإعلان هذا العجز في الوقت الذي فتح فيه «صلىاللهعليهوآله» حصون خيبر ، وقتل علي «عليهالسلام» مرحب اليهودي ، واقتلع الباب الحجري لأهم حصونها ،
واقتحم الحصن ..
فأين هو عن علي
«عليهالسلام»؟ ولماذا لا يرسله إلى حصن الطائف لقلع بابه ، وفتحه ،
واقتحامه وقتل أفرس فرسانه فيه؟!
فلما ذا أعلن
الرحيل بمجرد حضور علي «عليهالسلام» من سراياه التي كان قد أرسله فيها ، حتى لقد قالوا : «فلما
قدم علي ، فكأنما كان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على وجل فارتحل ، فنادى سعيد بن عبيد : ألا إن الحي
مقيم. أي ونحن مرتحلون لأننا لسنا من أهل الحي .
غير
أننا نحتمل : أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يرد أن يخبر الناس بمراسلة أهل الطائف له بالإبتعاد
عن حصنهم ، لكي يأتوه مسلمين مستسلمين ، فاكتفى بقوله : إنه لم يؤذن له فيهم ..
وهو كلام صحيح ، فإنهم إذا كانوا قد أبلغوه بعزمهم على الإستسلام ، فالله سبحانه
لا يأذن له فيهم ، بل يجب
__________________
إفساح المجال لهم لتنفيذ ما عقدوا العزم عليه ..
ولعل
السبب في إخفاء ذلك عن الناس : أنه أراد أن يحفظ بعض ماء الوجه لأهل الطائف ، بالإضافة
إلى : أنه أراد أن يبعد أهل الطمع عن روائح الغنيمة التي سيرون أنها قد فاتتهم ،
ولربما يتعرض الناس لبعض التعديات الحانقة منهم ، بل قد يفكرون بإثارة حالات من
الشغب تؤدي إلى تصعيب اتخاذ أولئك المحاصرين القرار بقبول الإسلام والاستسلام.
اعتراض عمر على من؟! :
وفي
بعض النصوص : أن عمر بن الخطاب كلّم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في النهوض إلى أهل الطائف.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : «لم يؤذن لنا في قتالهم».
فقال
: «كيف نقبل في قوم لم يأذن الله فيهم»؟! .
ولا ندري على
من يعترض عمر بن الخطاب!! هل يعترض على الله سبحانه ، لأنه لم يأذن بأهل الطائف؟!
أم يعترض على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لأنه أقبل بهم إلى قوم لم يأذن الله تبارك وتعالى
فيهم؟! رغم علم كل أحد : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» معصوم ، ومسدد بالوحي ، ولا يفعل إلا ما يريده الله ،
وما يأمره به تبارك وتعالى ..
ألم يكن بإمكان
هذا الرجل أن يفهم القضية بتقدير أن الله سبحانه أراد أن يري أهل ثقيف هذا المقدار
من الإرادة ، والعزم ، والتصميم ، لكي
__________________
يهيأهم لقبول الإسلام طوعا ، ويوفر على المسلمين وعليهم خسائر في الأرواح
والأموال ، وفي جهات مختلفة أخرى؟!
عمر بن الخطاب يكسر رجله!! :
غير
أن رواية أخرى ، قد ذكرت : أنه بعد اعتراض عمر بن الخطاب على النبي «صلىاللهعليهوآله» في مناجاته عليا «عليهالسلام» بمجرد وصوله .. وسمع الجواب ، ثم اعترض عليه بما جرى
في الحديبية ، قالوا :
«لما قدم علي «عليهالسلام» ، فكأنما كان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على وجل فارتحل.
فنادى
سعيد بن عبيد ألا إن الحي مقيم ، فقال ـ يعني عمر بن الخطاب ـ : لا أقمت ولا ظعنت ، فسقط فانكسر فخذه» .
ولا نريد ان
نسجل أي تعليق على هذه الحادثة ، فإنها بنفسها تحكي عن نفسها ، ولا سيما بعد
ملاحظة ما سيأتي من قول لنا عن اعتراضاته على مناجاة النبي «صلىاللهعليهوآله» لعلي «عليهالسلام».
إختبار القوى :
أما
بالنسبة لقولهم : إن المسلمين رفضوا التحول عن حصن الطائف ، فأمرهم «صلىاللهعليهوآله» بأن يغدوا على القتال ، فأصابتهم جراحات ، فرضوا
بالإرتحال ، فضحك «صلىاللهعليهوآله» ..
__________________
فهو
كلام غير مقبول :
أولا
: إن مجرد أن
تصيبهم بعض الجراحات ، لا يبرر أن يفرحوا بالإرتحال عن الطائف ، بعد أن كانوا
رافضين لذلك أشد الرفض.
ثانيا
: كيف ينسب
هؤلاء إلى الصحابة هذه المعصية الظاهرة ، الممتثلة بتمردهم على أوامر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ورفضهم الطاعة له بصورة فجة وبعيدة عن اللياقة ،
والأدب؟!
مع أن هؤلاء ما
فتئوا ينزهون الصحابة عن كل شين وعيب ، ويسعون لإبعادهم عن كل شبهة وريب ، ويعلنون
: أنهم جميعا عدول ، ومطيعون لله وللرسول.
ثالثا
: قلنا : إن
النبي «صلىاللهعليهوآله» انصرف منتصرا عن الطائف. بوعد من أهل الطائف ، بأن
يأتيه وفدهم لحسم الأمور وفق الشروط التي يضعها هو «صلىاللهعليهوآله».
رابعا
: إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد علم أصحابه أن يقولوا حين انصرافهم : «لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده» ..
فلما
ذا لم يعترضوا عليه بالقول : إننا لم نر نصرا ، ولم يتحقق وعد الله تعالى لنا ، ولم
تحل الهزيمة بعدونا ، ولم نر هذا العز في حصارنا للطائف ، بل رجعنا خائبين ، غير
منتصرين؟!
نصر عبده :
وسيأتي
: أن هذا الدعاء
الذي علمه النبي «صلىاللهعليهوآله» لجنده
دليل على صحة رواية الشيخ الطوسي في أماليه ، والتي صرحت : بحصول هذا النصر
للنبي الكريم «صلىاللهعليهوآله» ..
شهداء المسلمين في الطائف :
قالوا
: واستشهد من
أصحاب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في الطائف اثنا عشر رجلا ، سبعة من قريش ، وأربعة من الأنصار ، ورجل من بني ليث ، وهم :
سعيد بن سعيد
بن العاص بن أمية.
وعرفطة ـ بضم
العين المهملة ـ بن حباب ، حليف لهم من الأسد بن عوف.
ويزيد بن زمعة
بن الأسود. جمح به فرسه إلى حصن الطائف فقتلوه.
وعبد الله بن
أبي بكر الصديق. رماه أبو محجن بسهم ، فلم يزل جريحا
__________________
حتى مات بالمدينة بعد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو غير شهيد عند الشافعية ، لأنه توفي بعد انقضاء
الحرب بمدة مديدة.
وعبد الله بن
أبي أمية بن المغيرة المخزومي ، رمي في الحصن.
وعبد الله بن
عامر بن ربيعة. حليف لهم.
والسائب بن
الحارث بن قيس السهمي ، وأخوه عبد الله بن الحارث بن قيس.
وجليحة بن عبد
الله.
وثابت بن الجذع
(أو سالم بن الجذع) واسمه ثعلبة السلمي.
والحارث بن سهل
بن أبي صعصعة.
والمنذر بن عبد
الله بن نوفل .
وذكر
في العيون هنا : رقيم بن ثعلبة ، مع ذكره له فيمن استشهد بحنين ، تبع هناك ابن إسحاق ، وهنا
ابن سعد .
وقيل
: وكان من
استشهد بالطائف أحد عشر رجلا .
__________________
ابن أبي بكر مع الشهداء :
وقد عدّوا عبد
الله بن أبي بكر في جملة شهداء الطائف ، بدعوى : أنه أصابه سهم أبي محجن ، وطاوله
ذلك الجرح إلى أن مات في خلافة أبيه .
ونقول
:
إننا لا ندري
مدى صحة ما زعموه من أمر جرح عبد الله بسهم أبي محجن بالطائف. ولا مانع من أن يصح
هذا الزعم منهم ، مع احتمال أن يكون ذلك من مصنوعات محبي أبي بكر ، لكي لا يفوته
فضل تقديم الشهداء من الأهل والأبناء ، بعد ان فاتته فضائل الصمود في ساحات الجهاد
، حيث ابتلي بالفرار من الزحف في مختلف المقامات التي فر فيها الناس ، مثل : أحد ،
وخيبر ، وحنين ، وسواها مما ذكرنا في ثنايا هذا الكتاب طائفة منه عن المصادر
الموثوقة عند السنة والشيعة على حد سواء ..
وما دمنا نتحدث
عن موت عبد الله بن أبي بكر ، متأثرا بسهم أبي محجن ، يحسن بنا أن نشير إلى أمر
ينسبونه إلى أمير المؤمنين ، دون أن يبينوا وجه الصواب فيه ..
وهذا
الأمر هو : أن عمر بن الخطاب تزوج عاتكة بنت زيد في سنة ١٢
__________________
للهجرة ، وقبل وفاة زوجها عبد الله ، فأولم عليها ودعا أصحاب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وفيهم علي «عليهالسلام» ، فاستأذن عمر أن يكلمها ، فقال : نعم.
فقال لها «عليهالسلام» يا عدية نفسها ، أين قولك؟! (أي في رثائها لزوجها عبد
الله) :
فآليت لا
تنفك عيني حزينة
|
|
عليك ولا
ينفك جلدي أصفرا
|
فقالت
: لم أقل هكذا ،
وبكت ، وعادت إلى حزنها.
فقال
له عمر : يا أبا الحسن
، ما أردت إلا إفسادها علي.
أو
قال : ما دعاك إلى
هذا يا أبا حسن ، كل النساء يفعلن هذا.
فقال
: قال الله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ
أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) » .
ونقول
:
إن هذا اتهام
خطير من عمر ، يوجهه إلى علي أمير المؤمنين ، يتضمن من الطعن في دينه وفي استقامته
«عليهالسلام».
والحقيقة
هي : أن ثمة أمورا
هامة دعت أمير المؤمنين «عليهالسلام» إلى هذه المبادرة ، التي نحتمل قويا أنها لم تنقل
إلينا بدقة وأمانة.
__________________
ولعل
من هذه الأمور :
١ ـ أن عاتكة
كانت قد آلت ألا تتزوج بعد عبد الله بن أبي بكر .
ولعل متعلق هذا
اليمين كان راجحا إذا كانت تعلم أن زواجها سيكون ـ بحكم ظروف معينة ـ سيكون من رجل
سوف يؤثر على دينها ، أو على مكانتها ..
٢ ـ إن عاتكة
كانت قد أخذت طائفة من مال عبد الله بن أبي بكر ـ أو حديقة أو أرض ـ مقابل أن لا
تتزوج أحدا بعده.
فقد
روى بسند حسن ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، قال : «كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل تحت عبد الله بن أبي بكر الصديق ،
فجعل لها طائفة من ماله على أن لا تتزوج بعده ومات.
فأرسل
عمر إلى عاتكة : إنك قد حرمت عليك ما أحل الله لك.
فردي إلى أهله
الذي أخذتيه ، وتزوجي ، ففعلت ، فخطبها عمر فنكحها» .
وحكى يحيى بن
حاطب رؤيا عن ربيعة بن آمنة بعد موت عبد الله ، وقيل وفاة أبي بكر ، مفادها : أن
أبا بكر مات وأن عمر بعث إلى عاتكة.
__________________
ليتزوجها .. وأن منامه قد تحقق فزجره عمر.
قال
: «وكانت تحت عبد الله بن أبي بكر ، فأصيب يوم الطائف ،
فجعل لها طائفة من ماله على أن لا تنكح بعده» .
لكن
ما ذكرته الرواية : من أن عاتكة قد ردت المال إلى أهله ، ثم خطبها عمر ، وتزوجها ، غير صحيح.
والصحيح
هو : أنها بقيت
محتفظة بتلك الأراضي والأموال حتى طالبتها عائشة بها.
فقد
روي عن خالد بن سلمة : «إن عاتكة بنت
زيد كانت تحت عبد الله بن أبي بكر ، وكان يحبها ، فجعل لها بعض أرضيه على أن لا
تزوج بعده ، فتزوجها عمر بن الخطاب ، فأرسلت إليها عائشة : أن ردّي علينا أرضنا» .
وكانت عاتكة قد
قالت حين مات عبد الله بن أبي بكر :
آليت لا تنفك
نفسي حزينة
|
|
عليك ولا
ينفك جلدي أغبرا
|
قال
: فتزوجها عمر
بن الخطاب ، فقالت عائشة :
آليت لا تنفك
عيني قريرة
|
|
عليك ولا
ينفك جلدي أصفرا
|
ردي علينا
أرضنا .
__________________
٣ ـ روى ابن
سور ، عن عفان بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد : أن عاتكة بنت زيد كانت
تحت عبد الله بن أبي بكر ، فمات عنها ، واشترط عليها أن لا تزوج بعده ، فتبتلت ،
وجعلت لا تزوج ، وجعل الرجال يخطبونها ، وجعلت تأبى ، فقال عمر لوليها : اذكرني
لها.
فذكره لها ،
فأبت عمر أيضا.
فقال
عمر : زوجنيها.
فزوجه إياها.
فأتاها عمر ،
فدخل عليها ، فعاركها حتى غلبها على نفسها ، فنكحها ، فلما فرغ قال : أف ، أف ،
أف. أفف بها. ثم خرج من عندها ، وتركها لا يأتيها.
فأرسلت
إليه مولاة لها : أن تعال ، فإني سأتهيأ لك .
وهذه
الرواية على جانب كبير من الأهمية ، حيث تضمنت : إتهاما خطيرا للخليفة الثاني عمر بن الخطاب بأحد أمرين
:
إما الجهل
الذريع أحكام الله ، الذي أوقعه في وطء الشبهة .. ويتبع ذلك اتهام الصحابة بذلك ،
حيث سكتوا جميعا عن عمله هذا ، باستثناء علي أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، إما جهلا منهم بالحكم ، وإما ممالأة له ، خوفا ورهبة
منه.
وإما أنه كان
يعلم بالحكم ، وقد أقدم على مخالفته ، وارتكاب جريمة الزنى. وهذا أمر خطير بالنسبة
لخليفة لمسلمين ، الذي يتلقى الناس أفعاله
__________________
بالرضا والقبول والتسليم ، ويأخذونها عنه على أنها موافقة لشرع الله تبارك
وتعالى .. ويتبع ذلك إلقاء قدر كبير من اللوم على الصحابة الذين سكتوا ولم يعلنوا
بالنكير عليه ..
وأما
محاولة الإيحاء بسلامة تصرفه هذا من خلال تصريح الرواية : بأنه أمر وليها بأن يزوجه إياها ، ففعل فلذلك جاءها عمر
فعاركها حتى غلبها على نفسها ، فنكحها ، فيكون قد فعل ذلك بمن هي زوجته شرعا ..
فيجاب
عنها : بأنهم قد
صرحوا : بأنه ليس للولي أن يزوج المرأة الثيب بدون إذنها. ولا بد في إذنها من
تصريحها بالرضا. ولو فعل ذلك ، فإن رفضت بطل العقد .
والمفروض
: أن عاتكة قد
رفضت قبل العقد وبعده ، حتى لقد اضطر عمر إلى العراك معها حتى غلبها على نفسها.
فكيف يمكن تصحيح هذا العقد ، أو الحكم بمشروعية هذا الوطء؟!
__________________
علي عليهالسلام يخطب عاتكة ، والحسين عليهالسلام يتزوجها :
وزعموا
: أن عاتكة
تزوجت بعدة أشخاص كلهم مات عنها ، تزوجها زيد بن الخطاب فقتل باليمامة. فتزوجها
عمر فقتل ، ثم الزبير فقتل.
وزعموا
أيضا : أن عليا «عليهالسلام» خطبها بعد موت الزبير ، فقالت : إني لأضن بك عن القتل
..
أو
قالت : يا أمير
المؤمنين ، أنت بقية الناس ، وسيد المسلمين ، وإني أنفس بك عن الموت ، فلم يتزوجها
.
بل
لقد قالوا أيضا : إن الحسين «عليهالسلام» قد خطبها ، وتزوجها ، بعد الزبير ، فقتل عنها ، فرثته
كما رثت عبد الله بن أبي بكر ، وعمر بن الخطاب والزبير ، فقالت :
واحسينا ولا
نسيت حسينا
|
|
أقصدته أسنة
الأعداء
|
غادروه
بكربلاء صريعا
|
|
جادت المزن
في ذرى كربلاء
|
__________________
ويقولون
: إن مروان
خطبها بعد الحسين «عليهالسلام» ، فقالت : ما كنت متخذة حما بعد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
بل
لقد زعموا : أن عمر قال : من أراد الشهادة ، فليتزوج عاتكة .
ونقول
:
إن
ذلك لا يصح ، فلاحظ ما يلي :
أولا
: بالنسبة لما
نسبوه إلى عمر من أنه قال : من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة .. نلاحظ : أنه لم يكن
قد مات عن عاتكة إلا عبد الله بن أبي بكر ، أما زيد بن الخطاب ، فيشك في أن يكون
قد تزوجها من الأساس .
فما
معنى أن يقول عمر : من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة؟!
ثانيا
: إن زواجها
بالحسين بن علي «عليهماالسلام» ، واستشهاده عنها ، ثم رثاءها إياه ، ثم خطبة مروان
لها بعده ، يقتضي : أن تكون قد عاشت إلى ما بعد سنة ستين أو إحدى وستين. مع أن
هناك من يصرح : بأنها قد ماتت في
__________________
أوائل خلافة معاوية ، أي في سنة اثنتين وأربعين للهجرة ، أي قبل استشهاد الحسين «عليهالسلام» ، بما يقرب من عشرين سنة.
تزوجها بعد أن استفتى عليا عليهالسلام :
وقالوا
: «إن عمر استفتى عليا «عليهالسلام» في أمر عاتكة ، فأفتاه : بأن تردّ الحديقة لورثة عبد
الله بن أبي بكر ، وتتزوج ، ففعلت ، وتزوجها عمر ، فذكرّها علي «عليهالسلام» بقولها :
آليت لا تنفك
نفسي حزينة
|
|
عليك ولا
ينفك جلدي أغبرا
|
ثم قال : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ
تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) » .
ونقول
:
إن
من الواضح : أن موقف علي «عليهالسلام» من عاتكة ، وقراءته للآية الكريمة : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ
تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) يدل على : أنه يرى أن ما فعلته كان أمرا بالغ السوء ،
وأنه مما يمقته الله تعالى ، وهذا لا ينسجم مع القول : بأنه «عليهالسلام» قد أفتى لها بجواز ذلك ، إذا ردت الحديقة إلى ورثة
زوجها عبد الله بن أبي بكر. فإن الله لا يمقت من يفعل الحلال ، فضلا عن أن يكون
ذلك من المقت الكبير عند الله تعالى.
يضاف
إلى ذلك : أنه لم يأمرها
بالتكفير عن قسمها ، ولا أشار في تلك
__________________
الفتوى إلى هذا القسم بشيء!!
عمر مغرم بالنساء :
وقد
ذكرنا في بعض فصول هذا الكتاب : أن عمر بن الخطاب كان مغرما بالنساء بشكل غير مألوف ،
وقد قال محمد بن سيرين : إن عمر قال : ما بقي فيّ شيء من أمر الجاهلية إلا أني لست
أبالي أي الناس نكحت ، وأيهم أنكحت .
وقد
أتى جارية له ، فقالت : إني حائض ، فوقع بها فوجدها حائضا ، فأتى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فأخبره ، فقال : يغفر الله لك يا أبا حفص! تصدق بنصف
دينار .
وهو الذي نزل
فيه قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ..) ، وذلك أنه قبل حلية الرفث إلى النساء ليلة الصيام ،
واقع أهله في إحدى الليالي ، ثم غدا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأخبره.
__________________
فقال
له «صلىاللهعليهوآله» : «لم تكن حقيقا بذلك يا عمر» ، فنزلت الآية» .
والكلام حول
هذا الموضوع يطول ، فالإكتفاء بهذه الإشارة أولى وأجمل ، إن شاء الله تعالى ..
في الطريق من الطائف إلى الجعرانة :
قالوا
: لما دخل ذو
القعدة ، خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من الطائف فأخذ على دحنا ، ثم على قرن المنازل ، ثم
على نخلة ، ثم خرج إلى الجعرانة ، وهي على عشرة أميال من مكة ، وقيل : على سبعة أميال من مكة .
__________________
قال
سراقة بن جعشم : لقيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو منحدر من الطائف إلى الجعرانة ، فتخلصت إليه ،
والناس يمضون أمامه أرسالا ، فوقفت في مقنب من خيل الأنصار ، فجعلوا يقرعونني
بالرماح ويقولون : إليك إليك ، ما أنت؟ وأنكروني.
حتى إذا دنوت ،
وعرفت أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يسمع صوتي ، أخذت الكتاب الذي كتبه لي أبو بكر ، فجعلته
بين إصبعين من أصابعي ، ثم رفعت يدي به ، وناديت : أنا سراقة بن جعشم ، وهذا
كتابي.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «هذا يوم وفاء وبر ، ادنوه».
فأدنيت منه ،
فكأني أنظر إلى ساق رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في غرزه كأنها الجمارة ، فلما انتهيت إليه سلمت ، وسقت
الصدقة إليه ، وما ذكرت شيئا أساله عنه إلا أني قلت : يا رسول الله ، أرأيت الضالة
من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لإبلى هل لي من أجر إن سقيتها؟
قال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «نعم ، في كل ذات كبد حرى أجر».
قال
محمد بن عمر : وقد كان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كتب لسراقة كتاب موادعة ، سأل سراقة إياه ، فأمر به
فكتب له أبو بكر ، أو عامر بن فهيرة .
__________________
ونقول
:
كتاب سراقة :
وسراقة هو الذي
تبع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين الهجرة ، فساخت قوائم فرسه بالأرض ، فطلب من النبي
«صلىاللهعليهوآله» أن يكتب له كتاب أمان ، وهو هذا الكتاب الذي نتحدث
عنه.
وقد
أظهر النص المتقدم : أن ثمة خلافا حول الشخص الذي كتب الكتاب لسراقة بأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. هل هو أبو بكر ، أو غيره؟!
وقد
شكك العلامة الأحمدي «رحمهالله» في
صحة ما يدّعى : من أن أبا بكر كان من كتّاب رسول الله «صلىاللهعليهوآله». إذ لا يوجد أي شاهد على ذلك سوى ما يزعمونه من كتابته
لكتاب سراقة الآنف الذكر ، وهذا مشكوك لسببين :
أحدهما
: أن ابن عبد
ربه ، وغيره لم يذكروا أبا بكر في جملة من كان يحسن الكتابة في صدر الإسلام .
الثاني
: أنه قد قال
جمع : إن الكاتب لهذا الكتاب هو عامر بن فهيرة .
__________________
وما
ذكر في السيرة الحلبية : أنه «يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا ، فطلب سراقة
أن يكون أبو بكر هو الذي يكتب ، فأمره «صلىاللهعليهوآله» بكتابة ذلك .
فأحدهما كتب في
الرقعة من الأدم ، والآخر كتب في العظم أو الخرقة.
ولا يخفى بعد
ما في هذا التأويل ، مع عدم الدليل على ذلك».
بل لو صح هذا
لتناقله الناس ، ورووه لنا ، لأن الإصرار على أن يكون ابا بكر هو الكاتب للكتاب
أمر لافت للنظر.
__________________
الإقتصاص من رسول الله صلىاللهعليهوآله :
عن
أبي رهم الغفاري قال : بينا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يسير وأنا إلى جنبه ، وعليّ نعلان غليظان ، إذ زحمت
ناقتي ناقة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فأوجعته ، فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أوجعتني أخر رجلك» ، وقرع رجلي بالسوط.
فأخذني ما تقدم
من أمري وما تأخر ، وخشيت أن ينزل فيّ قرآن لعظم ما صنعت.
فلما أصبحنا
بالجعرانة ، خرجت أرعى الظهر وما هو يومي ، فرقا أن يأتي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ورسول الله يطلبني ، فلما روّحت الركاب سألت.
فقيل
لي : طلبك رسول
الله «صلىاللهعليهوآله».
فقلت
: إحداهن والله
، فجئت وأنا أترقب.
فقال
: «إنك أوجعتني برجلك ، فقرعتك بالسوط فأوجعتك ، فخذ هذه
الغنم عوضا عن ضربي».
قال
أبو رهم : فرضاه عني
كان أحب إليّ من الدنيا وما فيها.
وقال
: فأعطاني
ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني .
__________________
ونقول
:
١ ـ كيف يصح
هذا وهم يقولون : إن أبارهم الغفاري لم يحضر غزوة الفتح ، وحنين والطائف ؛ لأن
النبي «صلىاللهعليهوآله» كان قد استخلفه على المدينة ، فلم يزل بها حتى انصرف
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من الطائف . فإما أن يكون المقصود أبارهم آخر ، وتكون كلمة «الغفاري»
مقحمة من الرواة ، جريا على عادتهم في إضافة توضيحات ، بالاستناد إلى ما هو مرتكز
في أذهانهم.
أو تكون هذه
الرواية مكذوبة من الأساس.
أو
يقال : إن أبارهم لم
يتول المدينة في مناسبة الفتح. بل تولاها رجل آخر حسبما تقدم.
٢ ـ إن إعطاء
النبي «صلىاللهعليهوآله» لأبي رهم ثمانين نعجة بالضربة التي ضربه إياها يثير
أسئلة عديدة ، حيث يقال : إذا كان قد أعطاه هذه النعاج. لأجل إبراء ذمته من ضربته
، فكيف يبادر النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى إعطاء عوض بهذا الحجم؟!
وهل كان النبي «صلىاللهعليهوآله» يضرب الناس بالإستناد إلى ردة فعل لا شعورية ، غير
مدروسة ، ولا خاضعة لضابطة؟!
وإذا كان ذلك
الرجل قد أوجع النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ولم يكن
__________________
لدى النبي «صلىاللهعليهوآله» سبيل إلى التخلص من معرته إلا بقرعه بالسوط ، فما هو
الضير في ذلك؟! شرط أن يبقى في الحدود المسموح بها شرعا وهي إشعار ذلك الرجل : بأن
عليه أن يلتفت إلى نفسه ، ولا يؤذي الآخرين ..
٣ ـ بالنسبة
لتخوف أبي رهم من نزول القرآن فيه نقول :
إننا لم نجد
مبررا لهذا التخوف ، فإن القضية لا تعدو أن تكون أمرا غير مقصود لا يؤاخذ الله
عليه ، فكيف إذا كان قد أوجب لهم الضيق والألم حين ظهر لهم وعرفوه؟! إن الله تعالى
أكرم وأحلم وأرحم مما يظنون ..
إنفراج السدرة للنبي صلىاللهعليهوآله :
ويقولون
: بينا رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» يسير ليلا ، بواد بقرب الطائف ، وذلك حين منصرفه عنها
، إذ غشي سدرة في سواد الليل ، وهو في وسن النوم ، فانفرجت السدرة له نصفين ، فمر
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بين نصفيها ، وبقيت منفرجة على حالها .
ونقول
:
بديهي
: أن المعجزات
والكرامات كانت تحدث وفق خطة إلهية هادفة ، ولم تكن مجرد هبات تأتي على غير انتظار
، ومن دون وجه مصلحة ، بل المصلحة كانت هي المحور الأساس لها ..
ويلاحظ
: أنه كلما كان
النبي «صلىاللهعليهوآله» يريد ان يقدم على أمر
__________________
حساس وكبير ، ربما تأخذ الناس الشبهات والأوهام فيه يمينا وشمالا ، أو كلما
أراد أن يعالج أمرا يشكّل خطرا على إيمان الناس ، فإنك تجد المعجزة أو الكرامة
تظهر لهم ، وتضبط حركتهم ، وتعطيهم السكينة والطمأنينة ، وتعيدهم على حالة التوازن
، وهي من مظاهر رحمة الله تعالى بهم.
وقضية السدرة
التي انفرجت لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» تأتي في هذا السياق. فهي أمر صنعه الله تعالى لنبيه «صلىاللهعليهوآله» ، لكي تتهيأ القلوب لتقبّل الإجراء الذي سيتخذه في أمر
الغنائم ، فلا يعطي منها الأنصار ، ويخص بها المؤلفة قلوبهم. فإنه أجراء سيكون
قاسيا على المسلمين ، الذين يرون أنهم أحق بها من كل أحد ، لأنهم تحملوا أعباء
الأسفار ، ولاقوا الأهوال والأخطار في حروب أثارها ضدهم نفس هؤلاء الذين يأخذون
غنائمها الآن ، كما تؤخذ الغنيمة الباردة.
فإذا رأى هؤلاء
هذه المعجزة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ثم بقيت آثارها ماثلة أمامهم ، ويرونها بأعينهم ،
ويتحسسونها بكل جوارحهم ، فإن ذلك سيسهل عليهم قبول ذلك القرار الذي سيكون في غاية
الصعوبة عليهم ، حيث سيشعرون في أجواء هذه المعجزة أنه ليس قرارا من شخص الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، بقدر ما هو قرار إلهي حكيم ، وإن لم يعرفوا وجه الحكمة
فيه ..
٢ ـ إن ما
ذكرته الرواية : من انه «صلىاللهعليهوآله» قد اقتحم السدرة وهو في وسن النوم مما لا يمكن قبوله
.. فإن قائل ذلك إنما يتحدث عن حدس وتخمين ، لا عن حس ويقين .. فإن المفروض : أنهم
يسيرون في ظلمة الليل ، فكيف رأى ذلك الشخص هذا الوسن في عين رسول الله «صلى الله
عليه وآله»؟!
ولم
لا يقول : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد تعمد اقتحام السدرة ، ممتثلا أمر الله تعالى له
بذلك ، لكي يصنع الله تعالى هذه المعجزة له من أجل هذه المصلحة التي تهدف إلى حفظ
إيمان الناس الذين معه ، وإلى صيانتهم من الوقوع في الأوهام المضلة؟!
ولكن
هؤلاء الرواة يقيسون الأمور على أنفسهم ، ويرون : أن حال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يشبه حالهم .. مع أن الأمر ليس كذلك.
الفصل السادس :
حقائق تجاهلوها
بداية :
قد
ذكرنا في الفصول المتقدمة : رواياتهم التي عرضت أحداث غزوة الطائف وناقشناها ببعض
ما رأيناه مناسبا.
وظهر
لنا : أن فيها
الكثير من الهنات والنقائص. فما علينا من حرج بعد هذا العرض إذا لجأنا إلى ما رواه
شيعة أهل البيت عن أئمتهم «عليهمالسلام» ، أو عن غيرهم مما أغفله الآخرون وتجاهلوه عن سابق عمد
وإصرار.
ولن نرهق
القارئ بالتعليق عليها ، وإن احتاج الأمر إلى شيء من ذلك ، فسيكون بصورة موجزة ،
وخاطفة ، لاعتقادنا بأن نباهة القارئ الكريم تجعلها لا تحتاج إلى أكثر من ذلك ،
فإلى ما يلي من نصوص ، ومطالب :
سرايا لم يذكرها المؤرخون!! :
يفهم
من كلام بعض المؤرخين ، مثل اليعقوبي وغيره : أن ثمة سرايا اهمل المؤرخون ذكرها ، أو مروا عليها مرور
الكرام ، مع أنها قد حصلت قبل أو اثناء حصار الطائف.
واللافت
هنا : هو أن هذه
السرايا ترتبط بأمير المؤمنين علي «عليهالسلام» على وجه التحديد .. ومنها :
١ ـ سرايا لكسر
الأصنام :
قال
اليعقوبي وغيره : «ووجه عليا «عليهالسلام» لكسر الأصنام ، فكسرها» ، وهو «عليهالسلام» لم يعد إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلا بعد الإنتهاء من حصار الطائف كما سنرى ، فيلاحظ :
أولا
: إنه لم يحدد
لنا مكان هذه الأصنام ، ولا ذكر لنا اسماءها.
ثانيا
: إنه عبر بصيغة
الجمع : «الأصنام» ، وذلك يدل على تعددها.
ثالثا
: إننا لم نسمع
، ولم نقرأ : أن ثمة أصناما مجموعة في مكان واحد.
رابعا
: إنها إذا كانت
متعددة في أنفسها ، وتعددت أمكنتها ، فالمفروض : أن يعتبر إرسال علي «عليهالسلام» لكسر أي واحد منها سرية ، فتكون له عدة سرايا من أجل
ذلك ، ولم نجدهم فعلوا ذلك ..
خامسا
: إن ذلك يدعونا
إلى الشك فيما يزعمونه : من أنه «صلىاللهعليهوآله» أرسل فلانا لهدم العزى ، وفلانا الآخر لهدم سواع ،
وأرسل ثالثا إلى ذي الكفين ، ورابعا لهدم مناة ، وأبا سفيان والمغيرة لهدم الطاغية
وهو اللات .. وما إلى ذلك مما تقدم ذكره.
__________________
وذلك كله يثير
لدينا احتمال أن يكون الهدف هو أن يجعلوا لغير علي «عليهالسلام» نصيبا في هدم الأصنام ، إذ يكفيه هو كسره وهدمه
للأصنام التي كانت في الكعبة ، وليسمح لغيره بأن يكون له نصيب في هذا أيضا ، ما
دام أنهم حرموا من شرف الصمود في ساحات الجهاد ، بل باؤوا بعار الهزيمة ، ومعصية
الله تعالى ..
ويؤكد حاجتهم
إلى السطو على هذه المكارم ، ونسبتها إلى غير أهلها : عجزهم عن التشكيك في كسره «عليهالسلام» للأصنام التي في الكعبة .. فاخترعوا سرايا وأحداثا ،
ونسبوها لمن يحبون. على النحو الذي قرأناه ونقرؤه في كتب التاريخ.
٢ ـ سرية لمواجهة خيل
لثقيف :
وهناك
سرية أخرى ذكروها أيضا ، فقالوا ـ والنص لليعقوبي : «خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى الطائف ، ووجه علي بن أبي طالب ، فلقي نافع بن
غيلان بن سلمة بن معتب في خيل من ثقيف (ببطن وج وهو واد بالطائف) فقتله ، وانهزم
أصحابه».
زاد
المفيد وغيره قوله : ولحق القوم الرعب ، فنزل منهم جماعة إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» .
__________________
٣ ـ سرية علي عليهالسلام
إلى خثعم :
وذكروا
: أن النبي «صلىاللهعليهوآله» بعد هزيمة المشركين في حنين وتفرقهم على ثلاث فرق ،
بعث أبا سفيان ، صخر بن حرب إلى الطائف.
وبعث أبا عامر
الأشعري إلى أوطاس ، فقاتل حتى قتل ، فقال المسلمون لأبي موسى الأشعري : أنت ابن
عم الأمير ، وقد قتل ، فخذ الراية حتى نقاتل دونها.
فأخذها أبو
موسى ، فقاتل المسلمون حتى فتح الله عليهم .
وأما أبو سفيان
، فإنه لقيته ثقيف ، فضربوه على وجهه ، فانهزم ، ورجع إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : بعثتني مع قوم لا يرقع بهم الدلاء من هذيل
والأعراب ، فما أغنوا عني شيئا.
فسكت النبي «صلىاللهعليهوآله» عنه.
ثم سار «صلىاللهعليهوآله» بنفسه إلى الطائف (في شوال سنة ثمان ، فحاصرهم بضعة
عشر يوما أو) فحاصرهم أياما.
__________________
وأنفذ أمير
المؤمنين علي «عليهالسلام» في خيل ، وأمره أن يطأ ما وجد ، وأن يكسر كل صنم وجده.
فخرج حتى لقيته
خيل خثعم في جمع كثير ، فبرز له رجل من القوم يقال له شهاب ، في غبش الصبح ، فقال
: هل من مبارز؟
فقال
أمير المؤمنين «عليهالسلام» : «من له»؟
فلم يقم أحد ،
فقام إليه أمير المؤمنين «عليهالسلام».
فوثب أبو العاص
بن الربيع (زوج بنت رسول الله «صلىاللهعليهوآله») ، فقال : تكفاه أيها الأمير.
فقال
: «لا ، ولكن إن قتلت فأنت على الناس».
فبرز إليه أمير
المؤمنين «عليهالسلام» وهو يقول :
إن على كل
رئيس حقا
|
|
أن يروي
الصعدة أو تدقا
|
ثم ضربه فقتله.
ومضى في تلك الخيل ، حتى كسر الأصنام ، وعاد إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو محاصر لأهل الطائف (ينتظره).
فلما رآه النبي
«صلىاللهعليهوآله» كبر (للفتح) ، وأخذ بيده ، فخلا به ، وناجاه طويلا .
__________________
فروى عبد
الرحمن بن سيابة ، والأجلح جميعا ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري
: أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لما خلا بعلي بن أبي طالب «عليهالسلام» يوم الطائف ، أتاه عمر بن الخطاب ، فقال : أتناجيه
دوننا ، وتخلوا به دوننا؟
فقال
: «يا عمر ، ما أنا انتجيته ، بل الله انتجاه» .
قال
: فأعرض عمر وهو
يقول : هذا كما قلت لنا قبل الحديبية : (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) ، فلم ندخله ، وصددنا عنه.
فناداه النبي «صلىاللهعليهوآله» : «لم أقل : إنكم تدخلونه في ذلك العام»! .
__________________
وعن
جابر ، عن أبي عبد الله «عليهالسلام» : أن أمير المؤمنين «عليهالسلام» قال يوم الشورى : نشدتكم بالله هل فيكم أحد ناجاه رسول
الله
__________________
يوم الطائف ، فقال أبو بكر وعمر : «يا رسول الله ناجيت عليا دوننا».
فقال
لهما النبي «صلىاللهعليهوآله» : «ما أنا ناجيته ، بل الله أمرني بذلك» غيري؟
قالوا
: لا .
ونقول
:
أبو سفيان يبرر الهزيمة :
إن
أغرب ما رأينا في النصوص المتقدمة : أن أبا سفيان ينهزم في الطائف ، ثم ينحى بالائمة على
أصحابه ، بل هو يكاد يتهم النبي «صلىاللهعليهوآله» نفسه : بأنه هو السبب في هذه الهزيمة ، من حيث إنه هو
الذي اختار له هذه الطائفة من الناس ، وأمّره عليهم ، وأرسله في إثر أهل الطائف ،
فهو يقول : «بعثتني مع قوم لا يرقع بهم الدلاء ، من هذيل والأعراب ، فما أغنوا عني
شيئا».
ولعل أبا سفيان
كان يريد من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يوكل هذه المهمة إلى أهل مكة. أو إلى بني سليم ،
وكأنه نسي أو هو يتناسى ما فعلوه في حرب حنين ، حيث انهزموا أمام هوازن أقبح هزيمة
، ولحقهم سائر الجيش ، حتى لم يبق مع النبي «صلىاللهعليهوآله» سوى علي أمير المؤمنين «عليهالسلام» الذي كان يحطم المشركين بسيفه ، وبضعة نفر من بني هاشم
أحاطوا برسول الله «صلىاللهعليهوآله» لئلا يصل إليه المشركون بسوء ..
__________________
واللافت
هنا : قول أبي سفيان
لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «فما أغنوا عني شيئا». وكأنه يريد أن يؤكد بهذه
الكلمة حرصه على إنجاح المهمة ، ولكن الآخرين هم الذين خذلوه ..
ويلاحظ
هنا : أن الرواية
تقول : فسكت النبي «صلىاللهعليهوآله» عنه ، في إشارة إلى وضوح عدم صوابية أقوال أبي سفيان ،
لكن المصلحة كانت تقضي بالسكوت.
إن قتلت فأنت على الناس :
وقد تأخر أبو
العاص بن الربيع في إظهار استعداده للبراز ، ولكن ذلك خير من الإحجام المطلق ..
ومبادرته هذه
تدل على أنه كان هو الأفضل والأمثل لمقام القيادة من سائر أفراد السرية ، ولذلك
اختاره «عليهالسلام» لهذا المقام ، إن أصيب.
ونود
أن نشير : إلى أن أبا
العاص كان مع أمير المؤمنين «عليهالسلام» لما أرسله النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى اليمن ، وكان مع علي «عليهالسلام» أيضا لما بويع أبو بكر ، وهو أبو أمامة التي تزوجها
أمير المؤمنين «عليهالسلام» بعد استشهاد الزهراء «عليهاالسلام» .
إن على كل رئيس حقا :
وقد
قرر أمير المؤمنين «عليهالسلام» في
الشعر المنسوب إليه : أن
__________________
المفروض بالرئيس هو : أن يتصدى بنفسه لقتال العدو ، بصورة مؤثرة ، وحاسمة.
وأن عليه أيضا أن يروي رمحه من دماء أعدائه ، أو أن يتحطم ذلك الرمح ويتلاشى ،
وهذا معناه :
١ ـ أن سلاح
الرئيس ليس لمجرد الدفاع عن نفسه ، وحفظ روحه من الأخطار ، بل هو سلاح فاعل ومؤثر
في العدو بدرجة كبيرة ..
٢ ـ أن على ذلك
الرئيس أن لا يعتمد على سائر المقاتلين ، مكتفيا بإصدار الأوامر ، والتوجيهات ،
كما يفعله الكثير من الرؤساء قديما وحديثا ..
مناجاة النبي صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام :
وإن مناجاة
النبي «صلىاللهعليهوآله» لعلي «عليهالسلام» تتضمن إشارة عملية إلى أنه «عليهالسلام» هو صاحب سرّ النبي «صلىاللهعليهوآله» دون سائر الناس ، ومن شأن ظهور هذا الأمر أن يفسد على
بعض الطامحين خططهم الرامية إلى إظهار أنفسهم على أنّ لهم من الخصوصية من النبي «صلىاللهعليهوآله» ما يؤهلهم لمقام الخلافة من بعده .. ولذلك ثارت ثائرة
بعضهم حين عاين هذه المناجاة الطويلة ، وجاهر بالإعتراض على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
فجاءه الجواب
الصاعق الذي كان أشد عليه ، وأبعد أثرا في الإضرار بطموحاته ، حيث أعلن «صلىاللهعليهوآله» : أن ثمة أمرا إلهيا بهذه النجوى ، بل هو «صلىاللهعليهوآله» قد أعلن : أن عليا «عليهالسلام» هو موضع سر الله تبارك وتعالى مباشرة ، لأنه قال : بل
الله انتجاه.
وهذا
معناه : أن حاله «عليهالسلام» لا يختلف عن حال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في ذلك .. وإن كان انتجاء الله لعلي «عليهالسلام» كان بواسطة رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ومن الروايات
التي دلت على أن النبي «صلىاللهعليهوآله» وعليا والأئمة «صلوات الله عليهم أجمعين» هم موضع سر
الله ، ما ورد في دعاء الإفتتاح : «اللهم صل على محمد عبدك ، ورسولك ، وأمينك ،
وصفيك ، وحبيبك ، وخيرتك من خلقك ، وحافظ سرك ، ومبلغ رسالاتك».
وفي
الزيارة الجامعة للأئمة «عليهمالسلام» : «السلام على محال معرفة الله ، ومساكن بركة الله ، وحفظة سر الله».
وروي
: أنه «صلىاللهعليهوآله» قال لعلي «عليهالسلام» : إنك لحجة الله على خلقه ، وأمينه على سره ، وخليفة
الله على عباده .
__________________
وروي
عن النبي «صلىاللهعليهوآله» قوله
لعلي «عليهالسلام» : «هذا وصيي ، وموضع سري ، وخير من أترك بعدي» .
__________________
وقال «صلىاللهعليهوآله» لأم
سلمة : هذا علي سيد مبجل ، مؤمل المسلمين ، وأمير المؤمنين ،
وموضع سري ، وعلمي ، وبابي الذي أوتى إليه الخ ..» .
وعنه «صلىاللهعليهوآله» : هذا خازن سري ، فمن أطاعه فقد أطاعني .
__________________
وعن
سلمان : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال : لكل نبي صاحب سر ، وصاحب سري علي بن أبي طالب .
وعنه «صلىاللهعليهوآله» : صاحب سري علي بن أبي طالب .
محاولة إبطال أثر المناجاة :
وحين
قال النبي «صلىاللهعليهوآله» عن
علي «عليهالسلام» : ما أنا انتجيته ، بل الله انتجاه. وظهر أن عليا «عليهالسلام» موضع سر الله سبحانه ، بذلت محاولة للتشكيك في صحة
نسبة ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، وذلك بإطلاق دعوى : أنه «صلىاللهعليهوآله» وعدهم عام الحديبية : بأن يدخلوا المسجد الحرام ، ثم
لم يدخلوه ، بل أبرموا صلح الحديبية مع قريش ، وعادوا إلى المدينة ، وانتظروا سنة
، حتى عادوا إلى مكة ، فدخلوها في عمرة القضاء.
__________________
فإذا
ظهر للناس : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» يخبر عن أشياء لا واقع لها ، ثم قدّم شاهد عملي على
ذلك ، فستلقى هذه الدعوى قبولا عند الناس ، وسيصعب اقتلاعها من أذهانهم.
فكانت إجابة
النبي «صلىاللهعليهوآله» على هذا التشكيك الذي لو استقر في النفوس لأضر في
إيمان الناس ، وإسلامهم ، هي أنني لم اقل لكم : إن دخول مكة سيكون في نفس ذلك
العام ، بل قلت لكم : سوف تدخلون مكة ، ولم أحدد لهذا الدخول وقتا. فلما ذا تنسبون
لي ما لم أقله؟!
وهي إجابة
واضحة المأخذ ، يستطيع كل أحد أن يفهم مرماها ، ومغزاها ، ولا تسمح بعد هذا
باستقرار أية شبهة ، أو باختزان أدنى شك أو ريب ، وهكذا كان.
بل إن هذه
الإجابة الصريحة ، قد سجلت إدانة لأولئك الذين نسبوا إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ما لم يقله ، وبقيت تلاحقهم عبر الأجيال ، وإلى يومنا
هذا .. خصوصا مع ظهور أن هذا الإتهام منهم لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» لم يكن هو المرة الأولى ، بل كان قيل ـ حرفيا ـ في نفس
يوم الحديبية. وأجاب النبي «صلىاللهعليهوآله» بنفس هذه الإجابة ، فلما ذا الإصرار؟! ولماذا التكرار؟!
كتمان الأسماء للإيهام والإبهام :
وقد
لا حظنا : أن طائفة من
المسلمين تهتم بالتكتم على أسماء المعترضين على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في مناجاته عليا «عليهالسلام» ، فلاحظ التعابير التالية :
فقال الناس :
فقالوا :
فقال ناس من
أصحابه :
فقال رجل :
فقال بعض
أصحابه :
فقال قوم :
حتى
كره قوم من الصحابة ذلك ، فقال قائل منهم : هذا بالإضافة إلى محاولة التكتم على الإعتراض بقضية
الحديبية ، وجواب رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فلما ذا كان
ذلك من أولئك ، وكان هذا من هؤلاء .. إن الفطن الذكي يعرف الجواب ..
تكرار المناجاة :
وقد
أظهرت المصادر أيضا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد ناجى عليا «عليهالسلام» في غير الطائف ويمكن مراجعة بعض مصادر ذلك في كتاب
إحقاق الحق (قسم الملحقات) وفي مصادر أخرى.
__________________
تحركات ، وتهديدات مؤثرة :
عن المطلب بن
عبد الله ، عن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه أنه «صلىاللهعليهوآله» حاصر أهل الطائف إلى عشرة أو سبعة عشر ، فلم يفتحها ،
ثم أوغل روحة أو غدوة ، ثم نزل ، ثم هجّر ، فقال :
«أيها الناس ،
إني لكم فرط ، وإن موعدكم الحوض ، وأوصيكم بعترتي خيرا ..».
ثم
قال : «.. والذي نفسي بيده ، لتقيمنّ الصلاة ، ولتأتنّ الزكاة
، أو لأبعثنّ إليكم رجلا مني ، أو كنفسي ، فليضربنّ أعناق مقاتليكم ، وليسبين
ذراريكم».
فرأى
أناس : أنه يعني أبا
بكر أو عمر.
فأخذ
بيد علي «عليهالسلام» ، فقال : هو هذا.
قال
المطلب بن عبد الله : فقلت لمصعب بن عبد الرحمن بن عوف : فما
__________________
حمل أباك على ما صنع؟!
قال
: أنا ـ والله ـ
أعجب من ذلك .
وعن
أبي ذر قال : قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ـ وقد قدم عليه وقد أهل الطائف ـ : يا أهل الطائف ،
والله لتقيمنّ الصلاة ، ولتؤتنّ الزكاة أو لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي ، يحب الله
ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يقصعكم بالسيف.
فتطاول لها
أصحاب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأخذ بيد علي «عليهالسلام» ، فأشالها ، ثم قال : هو هذا.
فقال
أبو بكر وعمر : ما رأينا كاليوم في الفضل قط .
أفعال أفصح من الأقوال :
وقد
ذكرت النصوص المتقدمة : أنه «صلىاللهعليهوآله» حاصر الطائف أسبوعين أو ثلاثة أو أكثر .. ثم إنه «صلىاللهعليهوآله» أوغل روحة ، أو غدوة ، ثم نزل ، ثم هجّر ، ثم أطلق
تهديداته القوية : بأنه سوف يرميهم بعلي «عليهالسلام» ، ليضرب أعناق مقاتليهم ، ويسبي ذراريهم ، أو يقيمون
__________________
الصلاة ، ويؤتون الزكاة .. فهل من تفسير لذك كله؟!
ونجيب
: إننا نلاحظ هنا ما يلي :
١ ـ أنه «صلىاللهعليهوآله» بتحركاته تلك ، حيث كان يتركهم ثم يعود إليهم في أوقات
مختلفة ، وبعضها لم يعتد الناس على التحرك فيها ، مثل : وقت الهاجرة ـ كأنه يريد
أن يفهم أهل الطائف عملا ، لا قولا : أنهم غير متروكين ، وأن عليهم أن يتوقعوا
مفاجأتهم في كل وقت وزمان. وإن عليهم أن يبقوا على أهبة الإستعداد ، والحذر ،
والإحتماء بالأسوار ، والإحتفاظ بإبلهم وبما شيتهم ، وبكل شيء في داخلها .. إلى ما
شاء الله ..
وبديهي
: أنه لا يمكنهم
العيش في مثل هذه الأجواء الصعبة ، والمرهقة ، والمخيفة ..
٢ ـ أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أطلق تهديداته لهم : بأنهم إن لم يستجيبوا لنداء
المنطق ، والعقل ، فسوف يرميهم بأخيه علي «عليهالسلام» الذي أذاقهم وحده طعم الهزيمة المرة ، والذليلة ،
والمخزية قبل أيام يسيرة ، وحين كانوا قد جمعوا عشرات الألوف. فهل يمكنهم الصمود
في وجهه بعد أن تفرق الناس عنهم ، وأصبحوا وحدهم؟! وقد قطعت عنهم كل الإمدادات ،
وانصرف عن نصرتهم جميع المعارف والأصحاب؟!
٣ ـ وبعد ..
فإن الحصار الذي يعانون منه لم يكن سهلا ، وقد أضرّت بهم قذائف المنجنيق ، مع
العلم بأن عليا «عليهالسلام» لم يكن مشاركا في ذلك الحصار ، وأهل الرأي منهم يعرفون
: أن السبب في استمرار صمودهم هو انشغال علي «عليهالسلام» عنهم بتصفية الجيوب ، المنتشرة في المنطقة ، ومنها
جماعات من مقاتليهم قضى عليها علي «عليهالسلام» ، وأخضع سائر
المناطق أيضا لحكم الله ، ولم يعد لهم أمل في وصول أي معونة لهم ، من أي
جهة كانت ..
٤ ـ وفوق ذلك
كله ، فإن مصيتبهم العظمى إنما تكون حين يأذن النبي «صلىاللهعليهوآله» لعلي «عليهالسلام» فيهم .. فإنه لا شيء يقف في وجهه «عليهالسلام» ، ولا تجدي الحصون ، ولا غيرها في دفعه عنهم.
وقد رأى الناس
كلهم ما جرى على يديه لحصون خيبر ، وكيف قتل فرسانها ، واقتلع أبوابها ، وكانت من
الحجارة ، التي لا يقوى على تحريكها عشرات الرجال .. واقتحمها ، وحطم كل مقاومة
فيها ..
٥ ـ ولأجل ذلك
جاء التهديد لهم من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأن يبعث إليهم برجل منه ، أو كنفسه ، ليضرب أعناق
مقاتليهم ، ويسبي ذراريهم.
٦ ـ ويلاحظ هنا
: أنه «صلىاللهعليهوآله» قد اقتصر على هذين الأمرين ، وهما : قتل المقاتلين ،
وسبي الذراري .. وذلك وفقا لأحكام الشرع الشريف ، وانسجاما مع أهدافه ومراميه ، في
التخلص من الظلم والظالمين ، وإفساح المجال للناس ليتمتعوا بحرية اختيار معتقداتهم
بالإستناد إلى الدليل القاطع ، وطريقة عيشهم ، من دون تسلط من أحد ، أو انقياد لأي
كان ، إلا للإرادة الإلهية ، والإلتزام بشرع الله ، وحده لا شريك له ..
٧ ـ ومن جهة
أخرى : فإنه «صلىاللهعليهوآله» قد احتفظ في بادئ الأمر باسم ذلك الذي يريد أن يرميهم
به ، بطريقة تدعو كل الناس لإطلاق خيالها للبحث عنه ، والتعرف عليه ، لا سيما وأنه
قد وصفه بأوصاف جليلة وهامة جدا ، حيث جعله كنفسه ، أو منه ..
ومن
شأن ذلك : أن يوجه
الأنظار إلى أولئك الناس الطامحين والطامعين ،
ويحرجهم ، من حيث إنهم ما فتئوا يوحون للناس : بأنهم هم الأقرب إلى الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، والأكثر اختصاصا به ، والأخص منزلة منه ..
٨ ـ فإذا سأل
سائل عن اسم ذلك الشخص المعني ، مصرحا بالترديد بين أسماء بعينها ، وهم أولئك
الناس بالتحديد ..
يأتي
الجواب : بأن المقصود
لا هذا ولا ذاك ، بل هو علي بن أبي طالب «عليهالسلام» ، وذلك يمثل صدمة قوية ، وخيبة قاتلة ، وتصحيحا لتوهم
باطل .. لا بد أن يبقى في ذاكرة كل إنسان ، مقترنا بمزيج من المشاعر التي سوف
تقتحم كل وجوده ، وتغير الكثير من معالم فكره ، وتوجهاته ، وارتباطاته ، وما إلى
ذلك ..
٩ ـ وهذا يوضح
لنا مغزى سؤال المطلب بن عبد الله لمصعب بن عبد الرحمان بن عوف : فما حمل إباك على
ما صنع؟
ويؤكد
لنا بعمق معنى جواب مصعب : وأنا والله أعجب من ذلك.
والمقصود
هو : الإشارة إلى
ما صنعه ابن عوف في قضية الشورى ، حيث سعى في إبعاد الخلافة عن علي «عليهالسلام».
فك الحصار .. لتسهيل الإستسلام :
وعن الإمام
الصادق «عليهالسلام» أنه «صلىاللهعليهوآله» لما واقع ـ وربما قال : فزع ـ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من هوزان ، سار حتى نزل الطائف ، فحصر أهل وج أياما ، فسأله القوم أن يبرح عنهم ليقدم
__________________
عليه وفدهم ، فيشترط له ، ويشترطون لأنفسهم.
فسار حتى نزل
مكة ، فقدم عليه نفر منهم باسلام قومهم. ولم يبخع القوم له بالصلاة ولا الزكاة.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : إنه لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود. أما والذي
نفسي بيده ليقيمنّ الصلاة ، وليؤتنّ الزكاة ، أو لأبعثنّ إليهم رجلا هو مني كنفسي
، فليضربنّ أعناق مقاتليهم ، وليسبينّ ذراريهم ، وهو هذا.
وأخذ بيد علي «عليهالسلام» فأشالها.
فلما صار القوم
إلى قومهم بالطائف أخبروهم بما سمعوا من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأقروا له بالصلاة ، وأقروا له بما شرط عليهم.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : ما استعصى عليّ أهل مملكة ، ولا أمة إلا رميتهم بسهم
الله عزوجل.
قالوا
: يا رسول الله
: وما سهم الله؟
قال
: علي بن أبي
طالب. ما بعثته في سرية إلا رأيت جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وملكا
أمامه ، وسحابة تظله ، حتى يعطي الله عزوجل حبيبي النصر والظفر .
وهذا
معناه : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد حقق نصرا عظيما ،
__________________
يوازي ما حققه في غزوة الخندق وخيبر وسواهما ..
ويدل
على ذلك أيضا : ما تقدم من أنه «صلىاللهعليهوآله» قد قال لأصحابه حين أرادوا أن يرتحلوا عن الطائف : «قولوا
: لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم
الأحزاب وحده» .
فلو لم يكونوا
منتصرين ، لم يكن وجه لأمرهم بأن يقولوا ذلك ، فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يطلق الشعارات جزافا.
__________________
الباب الخامس
الأنصار .. والسبي ..
والغنائم
الفصل
الأول : الأسرى والسبايا أحداث وتفاصيل
الفصل
الثاني : قبل قسمة الغنائم
الفصل
الثالث : قسمة الغنائم وعتب الأنصار
الفصل
الرابع : المستفيدون .. والمعترضون
الفصل
الخامس : نهايات السفر الطويل .. إلي المدينة
الفصل الأول :
الأسرى والسبايا ..
أحداث وتفاصيل
السبايا والغنائم :
قالوا
: كان السبي ستة
آلاف رأس ، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ،
وأربعة آلاف أوقية فضة .
وعن
سعيد بن المسيب قال : سبى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يومئذ ستة آلاف سبي ، بين امرأة وغلام .
__________________
ومثله
عند الزهري ، وزاد قوله : ومن البهائم ما لا يحصى ولا يدرى .
وعند
اليعقوبي : «سبى منهم
سبايا كثيرة ، بلغت عدتهم ألف فارس ، وبلغت الغنائم اثني عشر ألف ناقة ، سوى
الأسلاب» .
ولكن
المروي عن الإمام الصادق «عليهالسلام» قوله
: «سبى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يوم حنين أربعة آلاف فارس ، واثني عشر ألف ناقة ، سوى
ما لم يعلم من الغنائم» .
الأمين على السبايا :
وقد
تقدم : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد جعل بديل بن ورقاء على السبي الذين أرسلهم من حنين
إلى الجعرانة.
ولكن
السهيلي يقول : «كان سبي حنين
ستة آلاف رأس قد ولى أبا
__________________
سفيان بن حرب أمرهم ، وجعله أمينا عليهم» .
غير أن ذلك غير
صحيح ، فإن أبا سفيان قد حضر الطائف مع النبي «صلىاللهعليهوآله» . إلا أن يكون «صلىاللهعليهوآله» قد وكله بحفظهم في بعض الليالي ، بعد عودته إلى
الجعرانة ، في الأيام التي كان ينتظر فيها قدوم وفد هوازن .. .
الأمين على الأنفال :
وقالوا
: إن أبا جهم بن
حذيفة العدوي كان على الأنفال يوم حنين ، فجاءه خالد بن البرصاء ، وأخذ من الأنفال
زمام شعر ، فمانعه أبو جهم ، فلما
__________________
تمانعا ضربه أبو جهم بالقوس فشجه منقلة (وهي شجة تكسر العظم حتى يخرج منها
فراش العظم) ، فاستعدى عليه خالد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال له : خذ خمسين شاة ودعه.
فقال
: أقدني منه.
فقال
: خذ مائة ودعه.
فقال
: أقدني منه.
فقال
: خذ خمسين
ومائة ، ودعه. وليس لك إلا ذلك. ولا أقيدك من وال عليك.
فقوّمت المائة
والخمسون بخمس عشرة فريضة من الإبل ، فمن هنا جعلت دية المنقلة خمس عشرة فريضة .
ونقول
:
١ ـ إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد جعل على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري كما تقدم ،
وليس أبا جهم العدوي.
إلا
أن يكون المقصود : أنه قد كانت هناك أنفال أخذت من دون حرب أيضا ، فجعل عليها أبا جهم
المذكور. ولكن ذلك لم يتضح لنا من خلال ما توفر لدينا من نصوص.
٢ ـ لقد كان
أبو الجهم مسؤولا ومؤتمنا على الغنائم ، وأمره نافذ على
__________________
جميع الناس ، فيما يرتبط بعدم أخذ شيء منها ، ما دام النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يأذن ، فليس لخالد بن البرصاء أن يأخذ شيئا منها.
فضلا عن أن
يحاول أخذ شيء منها بالقوة ، ففي هذه الحالة يحق لأبي جهم أن يدفعه عن نفسه ،
وعنها ، حتى لو أدى ذلك إلى استعمال القوة ..
فإذا نشأت عن
ذلك جراحة لم يكن لذلك المعتدي الحق بالمطالبة بالقصاص ، ولذلك قال النبي «صلىاللهعليهوآله» لخالد بن البرصاء : ليس لك إلا ذلك ..
٣ ـ إن إعطاء
النبي «صلىاللهعليهوآله» له مائة وخمسين شاة لم يكن لأجل أن الدية هي ذلك. بل
هو قد جاء على سبيل التفضل والتكرم منه «صلىاللهعليهوآله».
والدليل
على ما نقول : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد عرض عليه أولا : أن يأخذ خمسين شاة ، ثم عرض عليه
مائة شاة ، ثم ترقى إلى مائة وخمسين .. فهذا التدرج في العرض ، يدل على : أنه لا
يعطيه ما هو حقه ، من حيث إن ذلك هو مقدار دية المنقلة ..
وذلك
يدل على عدم صحة قولهم : «فلذلك جعلت دية المنقلة خمس عشرة فريضة» . باعتبار : أن كل فريضة من الإبل تقابل بعشرة من الغنم
.. إذ لو صح ذلك لكانت دية المنقلة مخيرة بين الخمسين شاة ، والمائة شاة ،
__________________
والمائة وخمسين شاة .. وليس الأمر كذلك.
غنائم حنين للنبي صلىاللهعليهوآله وعلي عليهالسلام :
ونريد
أن نستبق الحديث عن أمر الغنائم والسبايا ، فنقول :
قد
تقدم : أن المسلمين
انهزموا جميعا عن النبي «صلىاللهعليهوآله» .. وأن راجعتهم حين رجعت وجدت الأسارى مكتفين عند رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» .. وأن المسلمين المهزومين لم يضربوا بسيف ، ولم
يطعنوا برمح ..
وتقدم
أيضا : أن الذين بقوا
عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كانوا تسعة أشخاص ، أو اقل من ذلك ، كلهم من بني هاشم
.. فكان ثمانية منهم أو أقل ، قد احتوشوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لكي لا يصل إليه أحد من المشركين بسوء ، والمهاجم
الوحيد لجيوش المشركين كان علي بن أبي طالب «عليهالسلام» .. فهزم الله المشركين على يديه شر هزيمة.
فالنصر إنما
تحقق بجهاد علي «عليهالسلام» ، وبالتأييد الإلهي للنبي «صلىاللهعليهوآله» بإنزال الملائكة ..
وهذا يبين السبب
في أن الله سبحانه رد أمر الغنائم والسبي إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ليعطيها لمن يشاء ، فأعطاها لمن أراد أن يتألفهم ،
ولم يعط منها حتى أقرب الناس إليه ، وهم الأنصار .. لأنهم لم يكن لهم ، ولا
للمهاجرين ، ولا لغيرهم حق فيها .. ولكنه «صلىاللهعليهوآله» قد طيب نفوس الأنصار ، بعد ما نفّذ ما أمره الله تعالى
به .
__________________
المرونة في التعامل النبوي :
غير
أننا نلاحظ : أن النبي الكريم «صلىاللهعليهوآله» ، قد عامل الأنصار ، وغيرهم من الذين شاركوا معه في
حرب حنين ، وكأنهم اصحاب حق في الغنائم والسبايا ، مغمضا نظره عن الهزيمة التي
بدرت منهم ، وكأن شيئا لم يحدث ..
ولعل
سبب ذلك هو : أنه «صلىاللهعليهوآله» يريد حفظ ماء وجوههم ، ومعالجة الجرح الروحي والمعنوي
الذي أحدثته تلك الهزيمة ، حيث إن التكرم عليهم ، ومعاملتهم وكأن لهم الحق في
الغنيمة والسبايا .. يعيد إليهم الثقة بأنفسهم ، والشعور بأن ما حدث لم يترك أثرا
سلبيا في قلب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ولم يبدّل نظرته إليهم ، ولم يغير من تعامله معهم ..
ولو
أنه «صلىاللهعليهوآله» قد
أعلن لهم : بأنهم لا حق لهم في الغنيمة وفي السبي .. لبقي ذلك جرحا نازفا في قلوبهم
إلى ما شاء الله ، وقد تنشأ عنه عقد نفسية ومشكلات وتعقيدات يصعب علاجها.
بل لعل إعلانا
من هذا القبيل سيكرس انقساما عميقا في صفوف المسلمين وقد يكون سببا في بدء سلسلة
من الإتهامات ، والتعييرات تتسبب بنشوء أحقاد ، ومشكلات يختزنها السابق ليورثها
للاحق .. وهيهات ان يتمكن أحد من استئصالها واقتلاعها بعد ذلك!!
وقد لا يسلم من
رياح الحقد والضغينة حتى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وعلي «عليهالسلام» ، وهنا سوف تكون الكارثة أكبر ، والمصيبة أعظم ، لأن
الفساد يكون قد سرى إلى دين الناس ، وإلى الأساس الذي يقوم عليه إيمانهم.
ولا يتوهمن أحد
أن هذه السياسة النبوية ستكون مضرة بسلامة المعرفة الدينية لأحكام الشرع ، من حيث
إنها توجب وقوع الناس في خلل معرفي ، والجهل بالحكم الشرعي الذي يخص الغنائم ، بل
قد يفهمون أن الغنائم إنما تكون لمن شارك في الحرب دون سواه ..
فإنه توهم باطل
، لأن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد بين الحكم الشرعي للغنائم بصورة قاطعة لعذر أي كان
من الناس. وما فعله في حنين هو أنه أغفل عمدا تنبيههم إلى كيفية تطبيق الحكم على
الوقائع التي جرت .. وهذا لا يوجب نقصا ولا خللا في معرفتهم للأحكام ، .. بدليل أن
الحكم الشرعي الصحيح والصريح بقي محفوظا فيما بين المسلمين إلى يومنا هذا .. وكان
نفس أولئك الذين جرى لهم في حنين ما جرى عارفين به ، واقفين عليه ، وهم الذين
نقلوه للأجيال.
نتائج ما سبق :
وما
ذكرناه آنفا يوضح لنا : المسار الذي كان «صلىاللهعليهوآله» قد فرضه على حركة الأحداث في قبوله بشفاعة الشيماء ،
وإطلاق سراح الأسرى ، والسبايا من النساء والغلمان ، ثم قبول شفاعتها بمالك بن عوف
قائد هوازن ، وذلك بعد انتظاره لوفد هوازن بضعة عشر يوما ، وقبوله طلبهم الذي انضم
الى طلب الشيماء ، ثم ساعدت هي وذلك الوفد على إقناع الناس بالتخلي عن السبايا.
وسيأتي ذلك كله
بالتفصيل إن شاء الله تعالى ..
الشيماء في محضر رسول الله صلىاللهعليهوآله :
قال
محمد بن عمر : وأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بطلب العدو ، وقال لخيله : إن قدرتم على «بجاد» ـ رجل
من بني سعد بن بكر ـ فلا يفلتن منكم ، وقد كان أحدث حدثا عظيما ، كان قد أتاه رجل
مسلم ، فأخذه فقطعه عضوا عضوا ، ثم حرقه بالنار .
وكان قد عرف
جرمه فهرب ، فأخذته الخيل ، فضموه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى ، أخت رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» من الرضاعة ، وأتعبوها في السياق ، فتعبت الشيماء
بتعبهم ، فجعلت تقول : إني والله أخت صاحبكم ، فلا يصدقونها.
وأخذها طائفة
من الأنصار ، وكانوا أشد الناس على هوازن ، فأتوا بها إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقالت : يا محمد!! إني أختك.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «وما علامة ذلك»؟
فأرته
عضة بإبهامها ، وقالت : عضة عضضتنيها وأنا متوركتك بوادي السرر ، ونحن يومئذ نرعى البهم ، وأبوك
أبي ، وأمك أمي ، وقد نازعتك الثدى ، وتذكر يا رسول الله حلابي لك عنز أبيك أطلان.
فعرف رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» العلامة ، فوثب قائما ، فبسط رداءه ، ثم قال : «اجلسي
عليه» ، ورحب بها ، ودمعت عيناه ، وسألها عن أمه وأبيه ، فأخبرته بموتهما.
__________________
فقال
: «إن أحببت ، فأقيمي عندنا محببة مكرمة ، وإن أحببت أن
ترجعي إلى قومك وصلتك ، ورجعت إلى قومك» .
قالت
: بل أرجع إلى
قومي ، فأسلمت ، فأعطاها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ثلاثة أعبد وجارية ، وأمر لها ببعير أو بعيرين ، وقال
لها : «ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك ، فأنا أمضي إلى الطائف».
فرجعت إلى
الجعرانة ، ووافاها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالجعرانة ، فأعطاها نعما وشاء ، ولمن بقي من أهل
بيتها ، وكلمته في بجاد أن يهبه لها ويعفو عنه ، ففعل «صلىاللهعليهوآله» .
شفاعة الشيماء ، ووفد هوازن بالسبايا :
وقالوا
: «فاستأنى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالسبي بضع عشرة ليلة ، لكي يقدم عليه وفدهم ، ثم بدأ
بقسمة الغنائم ، ثم قدم عليه الوفد مسلمين» .
__________________
وقالوا
أيضا : «وقد كان فيما سبي أخته بنت حليمة ، فلما قامت على رأسه
قالت : يا محمد ، أختك شيماء بنت حليمة.
قال
: فنزع رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» برده ، فبسطه لها ، فأجلسها عليه ، ثم أكب عليها
يسائلها ، وهي التي كانت تحضنه ، إذ كانت أمها ترضعه.
وأدرك وفد
هوازن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالجعرانة ، وقد أسلموا (وكانوا أربعة عشر رجلا) ،
فقالوا : يا رسول الله ، لنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ،
فامنن علينا منّ الله عليك.
وقام
خطيبهم زهير بن صرد ، فقال : يا رسول الله ، إنا لو ملكنا الحارث ابن أبي شمر ، أو
النعمان بن المنذر ، ثم ولي منا مثل الذي وليت لعاد علينا بفضله وعطفه ، وأنت خير
المكفولين ، وإنما في الحظائر خالاتك وبنات خالاتك ، وحواضنك ، وبنات حواضنك
اللاتي أرضعنك ، ولسنا نسألك مالا ، إنما نسألكهن.
وقد كان رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» قسم منهن ما شاء الله ، فلما كلمته أخته قال : «أما
نصيبي ، ونصيب بني عبد المطلب فهو لك ، وأما ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم».
فلما صلوا
الظهر ، قامت فتكلمت ، وتكلموا ، فوهب لها الناس أجمعون ، إلا الأقرع بن حابس ،
وعيينة بن حصن. فإنهما أبيا أن يهبا ، وقالوا : يا رسول الله ، إن
__________________
هؤلاء قوم قد أصابوا من نسائنا ، فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا.
فأقرع
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بينهم
، ثم قال : «اللهم توّه
سهميهما» ، فأصاب أحدهما خادما لبني عقيل ، وأصاب الآخر خادما لبني نمير ، فلما
رأيا ذلك وهبا ما منعا.
قال
: ولو لا أن
النساء وقعن في القسمة لوهبهن لها كما وهب ما لم يقع في القسمة. ولكنهن وقعن في
انصباء الناس ، فلم يأخذ منهم إلا بطيبة النفس .
وفي
نص آخر : أن أبا جرول ،
زهير بن صرد بعد أن خطب بنحو ما تقدم ، أنشأ يقول :
امنن علينا
رسول الله في كرم
|
|
فإنك المرء
نرجوه وننتظر
|
امنن على
بيضة قد عاقها قدر
|
|
مشتت شملها
في دهرها غير
|
أبقت لنا
الدهر هتافا على حزن
|
|
على قلوبهم
الغماء والغمر
|
إن لم
تداركها نغماء تنشرها
|
|
يا أرجح
الناس حلما حين يختبر
|
امنن على
نسوة قد كنت ترضعها
|
|
إذ فوك مملؤة
من مخضها الدرر
|
إذ أنت طفل
صغير كنت ترضعها
|
|
وإذ يزينك ما
تأتي وما تذر
|
لا تجعلنّا
كمن شالت نعامته
|
|
واستبق منا
فإنا معشر زهر
|
إنا لنشكر
للنعما إذا كفرت
|
|
وعندنا بعد
هذا اليوم مدخر
|
__________________
فالبس العفو
من قد كنت ترضعه
|
|
من أمهاتك إن
العفو مشتهر
|
|
يا خير من
مرحت كمت الجياد به
|
|
عند الهياج
إذا ما استوقد الشرر
|
|
|
إنا نؤمل
عفوا منك تلبسه
|
|
هادي البرية
إن تعفو وتنتصر
|
|
|
فاعف عفا
الله عما أنت راهبه
|
|
يوم القيامة
إذ يهدى لك الظفر
|
|
|
|
|
|
|
فلما
سمع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» هذا
الشعر قال : «ما كان لي
ولبني عبد المطلب فهو لكم».
وقالت
قريش : ما كان لنا
فهو لله ولرسوله .
__________________
هذا حديث جيد
الإسناد عال جدا ، رواه الضياء المقدس في صحيحه ، ورجح الحافظ بن حجر : أنه حديث
حسن. وبسط الكلام عليه في بستان الميزان .
قال
ابن إسحاق : فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم»؟ .
وفي
الصحيح ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم : «فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : فيمن ترون؟ وأحب الحديث إلي أصدقه ، فاختارو إحدى
الطائفتين ، إما السبي ، وإما المال. وقد كنت إستأنيت بكم».
وكان رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف ، فلما تبين
لهم أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» غير راد عليهم إلا إحدى الطائفتين ، قالوا : يا رسول
الله ، خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا ، ولا نتكلم في
شاة ولا بعير.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب (في نص آخر : لبني
هاشم) فهو لكم ، وإذا أنا صليت بالناس فأظهروا إسلامكم ، وقولوا : إنّا إخوانكم في
الدين ، وإنّا نستشفع برسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فإني
__________________
سأعطيكم ذلك ، وأسال لكم الناس» .
وعلمهم رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» التشهد ، وكيف يكلمون الناس.
فلما صلى رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» بالناس الظهر قاموا فاستأذنوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في الكلام ، فأذن لهم ، فتكلم خطباؤهم بما أمرهم به
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأصابوا القول ، فأبلغوا فيه ، ورغبوا إليهم في رد
سبيهم.
فقام رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» حين فرغوا ليشفع لهم.
وفي
الصحيح ، عن المسور ، ومروان : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قام في المسلمين ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ،
ثم قال :
__________________
«أما بعد .. فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين ، وإني قد رأيت أن أرد عليهم
سبيهم ، فمن أحب أن يطيّب ذلك فليفعل ، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه
إياه من أول فيء يفيئه الله علينا فليفعل».
فقال
الناس : قد طبنا ذلك
يا رسول الله.
فقال
لهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إنّا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن ، فارجعوا
حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم».
فرجع
الناس [فكلمهم] عرفاؤهم ، فكلموه : أنهم طيبوا وأذنوا .
وقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم».
فقال
المهاجرون : وما كان لنا فهو لله ولرسوله.
__________________
وقالت
الأنصار : وما كان لنا
فهو لله ولرسوله.
فقال
الأقرع بن حابس : أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال
عيينة بن حصن : أما أنا وبنو فزارة فلا.
وقال
العباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم فلا.
فقالت
بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فقال
العباس بن مرداس : وهنتموني.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «من كان عنده منهن شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك
، ومن أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء يفيئه الله ، فرد
المسلمون إلى الناس نساءهم وأبناهم ، ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن ، فإنه
أخذ عجوزا فأبى أن يردها ، كما سيأتي» .
قالوا
: وكسى رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» السبي قبطية ، قال ابن
__________________
عقبة : كساهم ثياب المعقد .
قائد هوازن يقدم ، ويسلم :
قالوا
: وكلمته أخته
شيماء في مالك بن عوف ، فقال : إن جاءني فهو آمن.
فأتاه ، فرد
عليه ماله ، وأعطاه مائة من الإبل .
قالوا
: وقال رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» لوفد هوازن : «ما فعل مالك بن عوف»؟
قالوا
: يا رسول الله
، هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله ،
وأعطيته مائة من الأبل» .
وكان رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» أمر بحبس أهل مالك بمكة عند عمتهم أم عبد الله بنت أبي
أمية.
__________________
فقال
الرفد : يا رسول الله
، أولئك سادتنا ، وأحبنا إلينا.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إنما أريد بهم الخير».
فوقف مال مالك
فلم يجر فيه السهام.
فلما بلغ مالكا
ما فعل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في قومه ، وما وعده رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأن أهله وماله موفور ، وقد خاف مالك ثقيفا على نفسه
أن يعلموا أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال له ما قال ، فيحبسونه ، فأمر راحلته ، فقدمت له
حتى وضعت لديه بدحنا ، وأمر بفرس له فأتي به ليلا ، فخرج من الحصن ، فجلس على فرسه
ليلا ، فركضه حتى أتى دحنا فركب بعيره حتى لحق برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأدركه بالجعرانة (أو بمكة).
فرد عليه رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أهله وماله ، وأعطاه مائة من الإبل ، وأسلم فحسن
إسلامه ، فقال مالك حين أسلم :
ما إن رأيت
ولا سمعت بمثله
|
|
في الناس
كلهم بمثل محمد
|
أوفى وأعطى
للجزيل إذا احتذي
|
|
ومتى تشأ
يخبرك عما في غد
|
وإذا الكتيبة
عردت أنيابها
|
|
بالسمهري
وضرب كل مهند
|
فكأنه ليث
على أشباله
|
|
وسط الهباءة
خادر في مرصد
|
فاستعمله رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» على من أسلم من قومه ، ومن تلك القبائل من هوازن ،
وفهم ، وسلمة ، وثمالة.
وكان قد ضوى
إليه قوم مسلمون ، واعتقد له لواء ، فكان يقاتل بهم من كان على الشرك ويغير بهم
على ثقيف فيقاتلهم بهم ، ولا يخرج لثقيف سرح إلا أغار عليه ، وقد رجع حين رجع ،
وقد سرح الناس مواشيهم ،
وأمنوا فيما يرون حين انصرف رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عنهم ، وكان لا يقدر على سرح إلا أخذه ، ولا على رجل
إلا قتله.
وكان يبعث إلى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالخمس مما يغنم ، مرة مائة بعير ، ومرة ألف شاة ،
ولقد أغار على سرح لأهل الطائف ، فاستاق لهم ألف شاة في غداة واحدة .
ونقول
:
إن
لنا مع ما تقدم العديد من الوقفات ، نذكر منها ما يلي :
قيمة المرأة في الإسلام :
قد
عرفنا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قبل شفاعة الشيماء في مالك بن عوف ، فقد ذكر اليعقوبي
: أن الشيماء بنت حليمة السعدية هي التي كلمت النبي «صلىاللهعليهوآله» في مالك بن عوف النصري ، رئيس جيش هوازن ، وآمنه ،
فجاء فأسلم. ووجهه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لحصار الطائف .
__________________
ولنا
هنا ملاحظات هامة ، وهي :
أولا
: إن الشيماء
امرأة من النساء لم تكن أكرم ولا أعز عند الله تعالى ، ورسوله «صلىاللهعليهوآله» من فاطمة «عليهاالسلام» ، ولم يكن لها قدم في الإسلام ولا تاريخ في نصرة دين
الله ، أو في الدفاع عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. بل هي لم تكن قد أسلمت بعد ..
ثانيا
: إنها أخذت
أسيرة ولا تزال في الأسر في نفس حربه «صلىاللهعليهوآله» هذه مع هوازن في حنين.
ثالثا
: لم نعهد في
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أنه يحابي أقاربه ، أو أصدقاءه ، ويميزهم على غيرهم.
بل قد تقدم في غزوة بدر في قضية أسر عمه العباس ، ما يدل على : أنه كان يعاملهم
كغيرهم ، حتى إنه لم يرض بالإرفاق بعمه ، ولا أن يرخى من وثاقه ، حتى فعل ذلك
بالأسرى كلهم ..
كما أنه لم يرض
بإطلاقه من الأسر إلا بعد أن أعطى الفداء ، كسائر الأسرى الذين افتدوا أنفسهم ، أو
افتداهم أهلوهم ..
مع أن العباس
كان عم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فهو أقرب إليه من الشيماء ..
أما الشيماء
فكانت ابنة حليمة السعدية التي أرضعته ، بأجرة بذلها لها جده عبد المطلب ، ولم
ترضعه تكرما وتفضلا. وإن كان الإسلام قد جعل هذا الرضاع منشأ لحقوق ، ورتب عليه
تعاملا إنسانيا وأخلاقيا يرقى به إلى درجة لحمة النسب ، كما ظهر من طريقة تعامل
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مع الشيماء.
رابعا
: إنه «صلىاللهعليهوآله» قد أطلق سراح جميع أسرى حرب حنين بما فيهم قائدهم
الأول ، وجميع الأسرى والسبايا ، والذراري بشفاعة
هذه المرأة الأسيرة والمسنة التي لم يرها النبي «صلىاللهعليهوآله» منذ ما يقرب من ستين عاما ، حيث كان رضيعا عند أمها
حليمة السعدية ..
خامسا
: إن ذلك يعطي :
أن للمرأة مكانة عظيمة في الإسلام ، حتى لو كانت عجوزا ولا تزال أسيرة ، ولم تظهر
ما يدل على قبولها الإسلام ، وليس لها أي فضل أو يد عنده «صلىاللهعليهوآله» .. بل غاية ما ظهر منها مجرد إظهار رغبتها بإطلاق سراح
الأسرى .. فاعتبرها «صلىاللهعليهوآله» مبادرة إنسانية منها تشير إلى أنها تملك بعض التوازن ،
وتختزن قدرا من الإحساس بما يعانيه الآخرون ، وذلك يدل على نبل عاطفتها ، وعلى صدق
مشاعرها ، حين حاولت أن تستفيد من مكانتها وموقعها من أجل حل مشكلة الآخرين ، فعرف
لها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ذلك.
سادسا
: والأهم من ذلك
: أن بدرا لا تزال تقترن بحنين ، وقد حاول أبو بكر أن يتوسط لأسرى بدر ، فرفض الله
ورسوله وساطته ، ولم يستجب له إلا بعد أن أثار عاصفة من الإعتراض لدى سائر
المسلمين.
ولكنه «صلىاللهعليهوآله» يعلّم الشيماء كيف تكلّم المسلمين ، لكي تقنعهم بقبول
إطلاق سراح الأسرى ..
هل قسمت نساء هوازن؟! :
وقد
قرأنا فيما سبق : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد قسم من السبايا ما شاء الله ، فلما كلمته أخته فيهن
، قال لها : أما نصيبي ونصيب بني عبد المطلب ، فهو لك الخ ..
غير
أننا نشك في صحة ذلك ، فقد ذكروا : أنه «صلىاللهعليهوآله»
استأنى بالسبي بضع عشرة ليلة ، لكي يقدم عليه وفد هوازن ، ثم بدأ بقسمة
الغنائم ، ثم قدم عليه الوفد مسلمين ، فقال لهم : أيهما أحب إليكم : السبي أم الأموال؟!
فاختاروا السبي . إذ لا معنى لتخيير الوفد بين الأمرين إذا كان قد قسم
السبي بين المقاتلين.
بل لا معنى
لذلك إن كان قد قسم الأموال أيضا ..
هل استجاب للوفد أم للشيماء؟! :
ولا نرى أن ثمة
تعارضا بين أن يكون «صلىاللهعليهوآله» قد أرجع السبي إجابة لطلب الشيماء ، أو إجابة لطلب وفد
هوازن .. إذ الظاهر هو :
أن وفد هوازن
قد جاء حين شفعت الشيماء في السبي ، فشفع الوفد في السبي أيضا بنفس الطريقة ،
وعبّر عن نفس الفكرة .. فاستجاب «صلىاللهعليهوآله» لها ولهم ، وعلمها وعلمهم كيفية الكلام مع المسلمين ،
الذين كانوا يعتقدون أن لهم في السبي حقا .. وفق ما شرحناه في موضع سابق ..
فاستجاب الناس
.. ووهبوا ما رأوا أنه نصيبهم ، إلا الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ..
منطق الأجلاف :
وقد برر عيينة
بن حصن ، والأقرع بن حابس امتناعهما عن هبة سهميهما :
__________________
بأنهما يريدان أن يصيبا من نساء هوازن ، على سبيل المعاملة بالمثل ..
ونقول
:
إن المعاملة
بالمثل ، وإن كانت عدلا في بعض الأحيان ، لكنها تصبح على درجة من الهجنة والقبح ،
حين تتضمن استهانة ورفضا لطلب أشرف الخلق وأكرمهم على الله ، وهو رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، الذي لا (يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) .
وهذا ما حصل
بالفعل ، من قبل عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، اللذين كانا من الأعراب الأجلاف
، فاستحقا أن يعاملهما رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالرفق ، وبطرف من العدل ، فقد كان رفيقا بهم حين لم
يؤاخذهما بمنطقهما المسيء ، بل أعلن أنه يريد أن يقر العدالة أيضا في تحديد
نصيبهما من السبي ، وذلك عن طريق إجراء القرعة ، إقرارا منه «صلىاللهعليهوآله» لمبدأ المساواة ودعا الله أن يتوّه سهميهما .. فخرجت
القرعة على عجوزين كما أوضحته الروايات ..
النبي صلىاللهعليهوآله مهتم بإطلاق السبي :
وعن إرشاد
النبي «صلىاللهعليهوآله» لوفد هوازن ، وللشيماء إلى ما يقولونه للناس ،
لإقناعهم بالتخلي عما يرون أنه حقهم في السبي ، نقول :
إنه «صلىاللهعليهوآله» كان ظاهر الرغبة في إطلاق سراح السبي والذرية ، حتى
إنه استأنى بوفد هوازن بضعة عشر يوما ، وقد أرشد أخته إلى أن
__________________
تستشفع به «صلىاللهعليهوآله» على الناس ليهبوا حصتهم من السبي ، وطلب من الوفد أن
يظهروا إسلامهم أمام الناس ، ليأنفوا من استرقاق نساء وذرية إخوانهم من المسلمين ،
ووعدهم بأن يكلم المسلمين ، ويشفع لهم ..
ثم إنه «صلىاللهعليهوآله» حين كلم الناس بادر أولا إلى هبة سهمه وسهم بني هاشم ،
وطلب من الناس أن يهبوا نصيبهم طوعا ، ومن كره ذلك فليأخذ الفداء من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفسه ، لا من السبي ، وأهله وعشيرته .. وجعل فداء كل
إنسان ست فرائض من أول فيء يصيبه ..
ويلاحظ
: أنه قال : من
أول فيء يصيبه ، ولم يقل : «من أول غنيمة» ، لأن الفيء يكون خالصا لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، أما الغنيمة فللمقاتلين حق فيها.
ويبقى
سؤال يقول : لماذا يهتم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بإطلاق سراح السبي إلى هذا الحد ، حتى إنه ليتكفل هو
بإعطاء الفداء؟!
وربما
يكون من جملة ما يصح أن يجاب به : أنه «صلىاللهعليهوآله» كان يعرف : أن قضية العرض حساسة جدا في المجتمع العربي
، وإذا كان «صلىاللهعليهوآله» يرغب في إسلام هوازن وسائر القبائل في المنطقة ، فإن
صيرورة نسائهم وذراريهم رقيقا ، سيكون عارا وسبة عليهم ، وسوف يشكل ذلك عقدة كبيرة
جدا في هذا السياق ، وقد يستفيد المنافقون واليهود وغيرهم من أعداء الله ورسوله
لإثارة حفيظة تلك القبائل ضد الإسلام ، وأهله. أو على الأقل سوف يعطيهم الفرصة
لإثارة نزاعات ، وإيجاد بؤر توتر ، في مختلف المواقع والمواضع ، ولربما تتطور
الأمور إلى حدوث جرائم ،
وحروب بين القبائل.
وهذا خطر كبير
، يجب أن لا يفسح المجال له. ولا بد من القضاء على كل مكوناته في مهدها.
لماذا وهب نصيب بني هاشم؟! :
وقد
رأينا : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد وهب نصيبه ، ونصيب بني هاشم ، وفي رواية أخرى نصيب
بني عبد المطلب من السبي .. ونشير إلى :
١ ـ أنه «صلىاللهعليهوآله» أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وقد كان يمكنه أن يهب جميع
السبي بالإستناد إلى هذه الولاية ، المعطاة له من الله تعالى. ولكنه اقتصر على
نصيبه ، ونصيب بني هاشم ، أو بني عبد المطلب.
٢ ـ ويمكنه
أيضا أن يهبهم جميع السبي استنادا إلى : أنه لا حق لأحد بالسبي والغنائم ، سوى علي
«عليهالسلام» ، لأنه هو وحده الذي ثبت في حنين ، وهزم جموع
المشركين.
ولكنه «صلىاللهعليهوآله» أراد أن يعامل الناس بالرفق والرحمة والكرم. ولذلك لم
يستند إلى أي من هذين الأمرين ، بل وهب سهم بني هاشم ، اعتمادا على أنهم لا يردون
له كلمة ، ولا يخالفون له أمرا ، ويبتغون رضاه. وأراد بذلك تشجيع سائر الناس على
التأسي ببني هاشم ، وبذل أموالهم في رضا الله تعالى ، ورضاه «صلىاللهعليهوآله» ..
ولعل
سبب ذلك هو : أنه «صلىاللهعليهوآله» أراد من الناس أن يعتبروها يدا عنده هو ، لكي لا يمن
أحد على أهل السبي بشيء. وبذلك يكون قد جنّبهم الكثير من الإحراجات التي ربما
يتعرضون لها في حياتهم مع الناس.
ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم :
وقد
ذكرت النصوص المتقدمة : أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يكتف بإعلان الأنصار رضاهم بقسمة الغنائم على
المؤلفة قلوبهم ، بل أرجأ الحسم في هذا الأمر إلى حين يرفع عرفاؤهم هذا الأمر عنهم
، رغم أننا نعلم أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يكن بحاجة إلى العرفاء ، ليعرف حالهم ، لأنه كان
مسددا بالوحي.
ومع غض النظر
عن ذلك ، فقد كان يمكنه الإكتفاء بما أظهروه. خصوصا مع ما قلناه من أنهم لم يكن
لهم حق في تلك الغنائم ، ولعل هذا كان واضحا لكثيرين منهم ، إن لم يكن لأكثرهم ،
أو جميعهم ..
ولكن
الظاهر هو : أنه «صلىاللهعليهوآله» أراد أن يعرف الأجيال كلها أنه لم يأخذ الأنصار على
حين غرة ، ولم يفرض عليهم قراره ، كما أنه لم يأخذ الأموال منهم بواسطة التخجيل
والإحراج ، بل هو قد فتح لهم أبواب التخلص المشرّف ، الذي لا إحراج فيه ، كما أنه
قد توغل في استكناه سرهم وكشف دخائلهم ، مع أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك كله.
وعلى كل حال ،
فإننا لا نريد أن ندخل في موضوع نظام العرفاء بالتفصيل ، غير أننا نكتفي بالقول :
بأن النصوص قد دلت على : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أنشأ أنظمة في المجتمع الإسلامي ، وأوكل إليها
مهمات محددة ، وقد عمل بهذه الأنظمة علي أمير المؤمنين «عليهالسلام» من بعده أيضا.
فكان
هناك :
١ ـ النقباء .
٢ ـ المناكب ،
وهم رؤساء العرفاء .
أو يكونون مع
العرفاء كالأعوان .
__________________
٣ ـ العرفاء .
وما
يعنينا هنا هو : هذا النظام الأخير ، وهو نظام العرافة والعرفاء ..
فقد
ذكرت النصوص : أنه قد كان هناك عرفاء للقبائل ، وعريف أيضا لكل خلية تتألف من عشرة أشخاص ، وقد عرّف «صلىاللهعليهوآله» عام خيبر وحنين على كل عشرة عريفا ، مما يعني : أنه «صلى الله عليه
__________________
وآله» قد بنى المجتمع بناء هرميا يبدأ من هذه الخلية وينتهي بالنقباء ، وهو
«صلىاللهعليهوآله» رأس الهرم الذي تنتهي الأمور إليه وتصدر الأوامر
والتوجهات والقرارات عنه.
وقد
ورد : أنه كان إذا
جاءه تسعة أشخاص يرفض أن يعقد لهم لواء ، حتى يأتوه بعاشر .
ويمكن
أن يفهم من النصوص : أنه قد كان لدى المسلمين قبول ورضا ، ورغبة في الإنخراط في هذا النظام ،
أعني نظام العرفاء ، فكانوا هم الذين يسعون للحصول على عريف لهم.
ومعنى
هذا : أنهم يشعرون
بحاجتهم إلى نظام كهذا ، وأنه مقتنعون بفائدته لهم.
وقد
ورد : أنه لا بد
للناس من عريف .
__________________
وورد
في مقابل ذلك : النهي عن التصدي لهذا الأمر ، فلا يكونن عريفا .
ولعل النهي
الوارد عن العرافة ، إنما هو لمن تولاها من قبل سلطان
__________________
جائر كما يظهر من الحديث عن الإمام الباقر «عليهالسلام» عن عقبة بن بشير الأسدي قال : دخلت على أبي جعفر «عليهالسلام» ، فقلت : إني في الحسب الضخم من قومي ، وإن قومي كان
لهم عريف فهلك ، فأرادوا أن يعرفوني عليهم فما ترى لي؟
قال
: فقال أبو جعفر
«عليهالسلام» : تمن علينا بحسبك؟ إن الله تعالى رفع بالإيمان من كان
الناس سموه وضيعا إذا كان مؤمنا ، ووضع بالكفر من كان يسمونه شريفا إذا كان كافرا
، وليس لأحد على أحد فضل إلا بتقوى الله.
وأما
قولك : إن قومي كان
لهم عريف فهلك ، فأرادوا أن يعرفوني عليهم ، فإن كنت تكره الجنة وتبغضها فتعرف على
قومك ، ويأخذ سلطان جائر بامرئ مسلم لسفك دمه ، فتشركهم في دمه وعسى لا تنال من
دنياهم شيئا .
ودل
عليه أيضا : قول النبي «صلىاللهعليهوآله» : يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة ، ووزراء فسقة ،
وقضاة خونة ، وفقهاء كذبة ، فمن أدرك منكم ذلك الزمن فلا يكونن لهم جابيا ، ولا
عريفا ، ولا شرطيا .
__________________
وبعض الأحاديث
ناظر إلى تعدي العرفاء على عن حدود الشرع. كما ورد في حديث علي «عليهالسلام» عن النبي «صلىاللهعليهوآله» : ألا ومن تولى عرافة قوم حبسه الله عزوجل على شفير جهنم بكل يوم ألف سنة ، وحشر يوم القيامة
ويداه مغلولتان إلى عنقه ، فإن قام فيهم بأمر الله أطلقه الله ، وإن كان ظالما هوى
به في نار جهنم وبئس المصير .
ولعل
مما يؤكد هذه الحقيقة : أن المهمات التي كانت توكل إلى العريف كانت حساسة وهامة ، فمثلا قد ذكرت
النصوص أن :
١ ـ العريف :
هو القائم بأمر طائفة من الناس ، وهو من ولي أمر سياستهم ، وحفظ أمورهم وسمي بذلك
لكونه يتعرف أمورهم حتى يعرّف بها من فوقه عند الإحتياج .
٢ ـ أن العريف
كان هو الذي يتولى تقسيم العطاء على من عرّف
__________________
عليهم ، ويوصل إليهم عطاءهم .
٣ ـ كان العريف
هو الذي يتولى هدم بيوت بعض الذين يخونون الإمام العادل ، ويذهبون إلى عدوه ، فقد
ورد : أنه لما هرب حنظلة أمر علي «عليهالسلام» بداره فهدمت ، هدمها عريفهم بكر بن تميم ، وشبث بن
ربعي .
٤ ـ إن العريف
هو الذي يتولى معرفة دخائل الناس ، وحقيقة نواياهم ، إذا احتاج الإمام إلى معرفة
ذلك ، فقد ورد : أن أبا زيد الهلقام سأل الإمام الباقر «عليهالسلام» عن تفسير قول الله عزوجل : (وَعَلَى الْأَعْرافِ
رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) ما يعني بقوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ
رِجالٌ)؟!.
قال
: ألستم تعرّفون
عليكم عريفا على قبائلكم ، لتعرفوا من فيها من صالح أو طالح؟
قلت
: بلى.
قال
: فنحن أولئك
الرجال الذين يعرفون كلا بسيماهم .
٥ ـ العريف ،
الذي يتعرف به أحوال الجيش أو القائم بأمور القبيلة
__________________
والجماعة من الناس ، يلي أمورهم ، ويتعرف الأمير منه أحوالهم .
٦ ـ فسرت
العرافة بالرياسة .
٧ ـ العريف :
القيم والسيد ، لمعرفته بسياسة القوم .
٨ ـ وربما يكون
من مهماته أيضا : أن يكون هو المسؤول عن حضور وغياب من هم في نطاق مسؤوليته ،
والإخبار عن أسباب ذلك ، وربما عن مرضهم وصحتهم ، وحياتهم ، وموتهم ، وكل ما يعرض
لهم من مشاكل وأزمات ، وباختصار : إنه يمثل همزة الوصل بينهم وبين إمامهم ..
وقد
ورد : أنه حين جاء
إلى علي «عليهالسلام» عسل وتين من همدان ، أمر العرفاء أن يأتوا باليتامى ،
فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها .
وورد
أيضا : أنه كان الرجل
إذا قدم المدينة ، وكان له بها عريف نزل
__________________
على عريفه ، فإن لم يكن له بها عريف نزل الصفة .
وأما
بالنسبة للنقباء : فنقباء بني إسرائيل هم الذين أرسلهم موسى «عليهالسلام» ليأتوا بني إسرائيل بأخبار الشام وأخبار الجبارين فيها
، وكان بنو إسرائيل اثنا عشر سبطا ، فاختار من كل سبط رجلا ليكون لهم نقيبا ، أي
أمينا كفيلا .
وكان
النقباء في المدينة اثنا عشر نقيبا أيضا : ثلاثة من الأوس ، وتسعة من الخزرج. أمر «صلىاللهعليهوآله» أهل المدينة في بيعة العقبة أن يختاروهم ، فلما
اختاروهم قال «صلىاللهعليهوآله» : أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحوارين كفلاء على
قومهم بما فيه ، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فبايعوه على ذلك .
__________________
وقال «صلىاللهعليهوآله» : الخلفاء بعدي اثنا عشر ، كعدة نقباء بني إسرائيل .
ونقول
أخيرا :
قال
الصدوق : النقيب :
الرئيس من العرفاء.
وقيل
: إنه الضمين.
وقد
قيل : إنه الأمين.
وقد
قيل : إنه الشهيد
على قومه.
وأصل
النقيب في اللغة من النقب وهو الثقب الواسع ، فقيل : نقيب القوم لأنه ينقب عن أحوالهم كما ينقب عن الأسرار ،
وعن مكنون الأضمار .
__________________
وقفة مع إسلام مالك بن عوف :
ولنا
مع حديث إسلام مالك بن عوف بعض الملاحظات ، نذكر منها :
١ ـ إن إغارة
مالك بن عوف على ثقيف تبقى موضع ريب ، فقد تقدم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» تركهم وذهب إلى مكة حتى لحقه وفدهم بإسلامهم ..
إلا
أن يقال : إن الذين
أسلموا هم جماعة منهم ، فحقنوا بذلك دماءهم وبقيت بعض الجماعات ، التي لم تكن
قادرة على المقاومة ، فسكتت على مضض ، فكان مالك بن عوف يلاحقهم بعد ذلك ، حين
تظهر منهم بوادر العصيان ، ويصيب منهم بعض الغنائم.
ثم إنهم بعد
عدة أشهر وفدوا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى المدينة ، فأعلنوا إسلامهم ، وأمنوا من أن يتعرض
إليهم مالك بن عوف ، أو غيره بأذى ..
٢ ـ قد تقدم :
أن الشيماء ، قد شفعت في مالك بن عوف ، ولعل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد ذكره أيضا لوفد هوازن ، فبلغه هذا وذاك ، فخاف على
نفسه من ثقيف ، فجاء إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
٣ ـ إن خوف
مالك من أن تحبسه ثقيف ، لو علمت بأن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد ذكره يدل على أن هؤلاء الناس لا يثقون ببعضهم. فإذا
اجتمعوا لحرب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فلا يعني ذلك : أنهم يحبون بعضهم بعضا ، أو أن بعضهم
يثق ببعض ، بل هم وفقا لما حكاه القرآن عن اليهود : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) .
__________________
٤ ـ ويلاحظ :
أنه «صلىاللهعليهوآله» قد حفظ مالكا في أهله وماله ، ولم يأخذ رأي أحد من
المسلمين ، فلو كان للمسلمين حق في السبي والغنائم ، لاستجازهم في ذلك ..
حليمة .. أو الشيماء؟! :
وقد
رووا عن أبي الطفيل أنه قال : كنت غلاما أحمل عضو البعير ، ورأيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يقيم بالجعرانة ، وامرأة بدوية ، فلما دنت من النبي «صلىاللهعليهوآله» بسط لها رداءه فجلست عليه ، فقلت : من هذه؟
فقالوا
: أمه التي
أرضعته .
ونقول
:
قد
تقدم في حديث الشيماء : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد سألها عن أمه وأبيه ، فأخبرته بموتهما .
فالصحيح
هو : أن هذه المرأة
هي الشيماء بنت حليمة السعدية ، التي
__________________
أرضعته «صلىاللهعليهوآله» ..
قسوة بجاد :
١ ـ إننا يمكن
أن نتعقل : أن يصر إنسان على موقفه ، أو أن يتمسك بدينه ومعتقده ، حتى لو كان بمستوى
الخرافة.
ونتعقل
أيضا : أن يعادي ،
وأن يقاتل من يخالفه دينه.
ولكنننا لا
نتعقل ، ولا نرى مبررا لهذه القسوة التي أظهرها بجاد تجاه إنسان مسلم ظفر به ، إذ
ما هو المبرر لأن يقطّعه عضوا عضوا ، ويحرقه بالنار؟!
٢ ـ ولكن لنرجع
إلى الإجراء الذي اتخذه النبي «صلىاللهعليهوآله» تجاه هذا الشخص بالذات ، لكي نرى : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أوصى مقاتليه بأن لا يفلت منهم ، ولذلك أخذوه
واحتفظوا به حيا ، حتى يكون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» هو الذي يحكم فيه بحكمه ..
٣ ـ إن إصدار
الأمر لأصحابه «صلىاللهعليهوآله» بهذه الصيغة ، يمثل إرفاقا بذلك الشخص ، لأن رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» لا يريد أن يحرم حتى هذا الرجل القاسي من سماحة
الإسلام ، ويريد أن يمنحه فرصة للتوبة والأوبة ، فلعل الله يقبل بقلبه ويدخل في
دين الله تعالى ، أو يكرم به من يستحق التكريم ؛ إذا رغب بالعفو عنه.
حديث أبي جرول :
وقد
ذكروا : أن أبا جرول
هو الذي ترأس وفد هوازن ، وكلم النبي «صلىاللهعليهوآله» في السبايا ، وأنشد الشعر.
ونقول
:
إن رواية ذلك
عن أبي جرول غير دقيقة ، فإن أبا جرول قد قتل على يد أمير المؤمنين «عليهالسلام» قبل ذلك حسبما تقدم. ولو كان المقصود به شخصا آخر ،
لكان عليه البيان.
والظاهر
: أن الصحيح هو
: أبو صرد ، وهو زهير بن صرد الجشمي السعدي .
وقال
ابن عبد البر : زهير بن صرد أبو صرد الجشمي السعدي من بني سعد بن بكر وقيل : يكنى أبا
جرول .
__________________
إنتظار الوفد :
قال
الصالحي الشامي : في انتظار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بقسم غنائم هوازن إسلامهم ، جواز انتظار الإمام بقسم
الغنائم إسلام الكفار ودخولهم في الطاعة فيه ، ورده عليهم غنائمهم ومتاعهم .
ونلاحظ
على كلامه هذا : أن انتظار النبي «صلىاللهعليهوآله» لوفد هوازن لم يتضمن تصريحا منه ، بأنه «صلىاللهعليهوآله» قد انتظر أن يأتوه بإسلام قومهم .. فلعله «صلىاللهعليهوآله» انتظرهم لأجل الحديث عن فدائهم ، أو لأجل أن يطلبوا هم
من المسلمين ومن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المن على السبايا ، وإطلاق سراحهم ..
فقد
قدمنا : أنه «صلىاللهعليهوآله» كان يترقب إسلام هوازن في وقت قريب. ولو أن السبي
انتقل إلى أيدي الناس ، فلربما يشكّل ذلك مانعا لدى الكثيرين منهم عن الدخول في
هذا الدين ، بصدق نية ، وسلامة طوية.
بل إن القبائل
التي لها سبي بهذه الكثرة ـ حتى إن كل بيت فيها كانت له بنت ، أو أخت ، أو زوجة ،
أو ولد ـ حتى لو دخلت في الإسلام .. فلربما تحدث أمور لا تحمد عقباها ، ولا سيما
إذا أراد أهل النفاق استغلال هذا الأمر ، الذي يتحسس منه الإنسان العربي بصورة
كبيرة ..
وقد أوضحنا ذلك
فيما سبق ، فلا حاجة للإعادة.
__________________
عيينة والعجوز :
عن
عطية السعدي : أنه كان ممن كلم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في سبي هوازن ، وكلم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أصحابه ، فردوا عليهم سبيهم إلا رجلا واحدا ، فقال رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» : «اللهم أخس سهمه».
فكان
يمر بالجارية ، فيدع ذلك حتى مر بعجوز ، فقال : آخذ هذه فإنها أم حي ، فيفدونها عليه.
فكبر
عطية وقال : خذها. خذها والله ما فوها ببارد ، ولا ثديها بناهد ، ولا زوجها بواحد ،
عجوز يا رسول الله ما لها أحد.
فلما رأى أنه
لا يعرض لها أحد تركها .
وذكر
ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ـ واللفظ له ـ : أن عيينة بن حصن حين أبى أن يرد حظه من السبي خيروه في
ذلك ، فنظر إلى عجوز كبيرة ، فقال : هذه أم الحي ، لعلهم أن يغلوا فداءها ، فإنه
عسى أن يكون لها في الحي نسب.
فجاء
ابنها إلى عيينة ، فقال : هل لك في مائة من الإبل؟
فقال
عيينة : لا ، فرجع عنه
وتركه ساعة.
__________________
فقالت
العجوز : ما أربك فيّ ،
بعد مائة ناقة ، أتركه فما أسرع أن يتركني بغير فداء ، فلما سمعها عيينة قال : ما
رأيت كاليوم خدعة.
قال
: ثم مر عليه
ابنها ، فقال له عيينة : هل لك في العجوز لما دعوتني إليه؟
قال
ابنها : لا أزيدك على
خمسين.
قال
عيينة : لا أفعل.
قال
: فلبث ساعة ثم
مر به أخرى وهو يعرض عنه ، فقال له عيينة : هل لك في العجوز بالذي بذلت لي؟
قال
الفتى : لا أزيدك على
خمس وعشرين فريضة ، هذا الذي أقوى عليه.
قال
عيينة : لا أفعل والله
، بعد مائة فريضة خمس وعشرون!!
فلما
تخوف عيينة أن يتفرق الناس ويرتحلوا ، جاء عيينة فقال : هل لك إلى ما دعوتني إليه إن شئت؟
فقال
الفتى : هل لك في عشر
فرائض أعطيكها.
قال
عيينة : والله لا
أفعل.
قال
الفتى : والله ما
ثديها بناهد ، ولا بطنها بوالد ، ولا فوها ببارد ، ولا صاحبها بواجد ، فأخذتها من
بين من ترى.
قال
عيينة : خذها لا بارك
الله لك فيها.
فقال
الفتى : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد كسا السبي فاخطأها من بينهم بالكسوة ، فهل أنت
كاسيها ثوبا؟
فقال
: لا والله ، ما
ذلك لها عندي.
قال
: لا ، وتفعل ،
فما فارقه حتى أخذ منه سمل ثوب ، ثم ولى الفتى
وهو يقول : والله إنك لغير بصير بالفرض .
وذكر
محمد بن إسحاق : أنه ردها بست فرائض .
وروى
البيهقي عن الشافعي : أنه ردها بلا شيء .
ونقول
:
١ ـ إننا لا
نستطيع أن نؤيد صحة أي من هذه الروايات .. غير أننا نقول :
لعل النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أجرى القرعة ، فخرجت تلك العجوز في سهم عيينة ، فلم
يرض بها ، ثم لما خيروه اختارها هي ، لأجل هذه الإعتبارات التي ذكرت في رواية ابن
إسحاق ، ورواية عطية ..
٢ ـ إن طمع
عيينة قد دعاه إلى رفض إجابة طلب النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ونفس هذا الطمع هو الذي أرداه ، وجعله أضحوكة ،
وحجزه عن الوصول إلى ما أمله.
بل هو قد خسر
ثقة الناس أيضا ، وأظهر نفسه على أنه إنسان لا يهتم إلا بحطام الدنيا ، حتى لو كان
الذي يتمنى عليه هو أفضل الأنبياء ، وأكرمهم. وقد أظهر أنه على درجة من الفظاظة
والجفاء حين رد طلب
__________________
النبي «صلىاللهعليهوآله».
٣ ـ ثم إنه عرض
نفسه لفتى ليتلعب به ، ويسخر منه ، ويجعله أضحوكة بين الناس. وهذا جزاء من تصغر
نفسه أمام حفنة من المال ، ولا يبالي بكرامته ، ولا يهتم لصون ماء وجهه ، ولا
يراعي مقام رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
٤ ـ قد ذكرنا
فيما تقدم : أنه لا حق لعيينة ، ولا لغيره في هذا السبي ، بل هو للنبي العظيم «صلىاللهعليهوآله» ، ولوصيه الكريم «عليهالسلام» ، وحتى لو كان لأحد فيه نصيب فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فله أن يأخذ ذلك منهم ،
ولكنه الكرم والسخاء ، والشمم ، والإباء ، والرحمة ، والرأفة منه «صلىاللهعليهوآله» بأصحابه.
عمر يأمر بقتل أسيرين ، والنبي صلىاللهعليهوآله يغضب :
١ ـ قالوا :
وكانت هذيل بعثت رجلا يقال له : ابن الأكوع أيام الفتح عينا على النبي «صلىاللهعليهوآله» حتى علم علمه ، فجاء إلى هذيل بخبره ، فأسر يوم حنين ،
فمر به عمر بن الخطاب ، فلما رآه أقبل على رجل من الأنصار ، وقال : عدو الله الذي
كان عينا علينا ، ها هو أسير ، فاقتله.
فضرب الأنصاري
عنقه.
وبلغ
ذلك النبي «صلىاللهعليهوآله» فكرهه
، وقال : «ألم آمركم ألا
تقتلوا أسيرا»؟.
٢ ـ وقتل بعد
جميل بن معمر بن زهير ، وهو أسير.
فبعث النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى الأنصار ، وهو مغضب ، فقال :
«ما حملكم على قتله ، وقد جاءكم الرسول : ألا تقتلوا أسيرا»؟!.
فقالوا
: إنا قتلناه
بقول عمر.
فأعرض رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ، حتى كلمه عمير بن وهب بالصفح عن ذلك .
ونقول
:
إننا
نلاحظ ما يلي :
أولا
: إن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان باستمرار ينهى عن قتل الأسرى ، وقد ضمّن اعتراضه
على قتلة الأسيرين تذكيرا لهم بنهيه هذا ، فقال : «ألم آمركم ألّا تقتلوا أسيرا»؟!
ثانيا
: لماذا لم
يبادر عمر إلى قتل ذلك الأسير بنفسه؟
ولماذا طلب من
أنصاري في المرة الأولى ، وفي المرة الثانية أيضا. ولم يطلب من مهاجري؟!
هل أراد أن
ينصبّ غضب النبي على الأنصار فقط ، ويجنب نفسه والمهاجرين هذا الأمر؟!
أم أنه أراد أن
تكثر ثارات الناس عند الأنصار ، وتتوسع وتنتشر العداوات لهم؟!
أم أن الأمر
كان محض صدفة ، حيث لم يكن ثمة مهاجري قريبا منه حين رأى ذلك الأسير؟!
__________________
وما هو المبرر
لهذه العجلة؟ فإن الرجل أسير غير قادر على الهرب ، فليبحث عن مهاجري ويكلفه بقتله.
ثالثا
: لماذا لم
يرتدع عمر عن هذا الأمر حين رأى كراهة النبي «صلىاللهعليهوآله» له في المرة الأولى؟!
فهل كان هناك
مبرر أو داع لمعاودة قتل الأسير الثاني؟!
وعلينا أن
نتوقع أن تكون الإجابة ستكون بالنفي قطعا ، إذ لو كان هناك مبرر لم يغضب «صلىاللهعليهوآله» لقتله.
إلا
أن يقال : إن عمر كان
يتلذذ بقتل الأسرى ، فلم يكن يمكنه امتثال أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
ولكن هل كان
يتلذذ بقتلهم أيام خلافته ، أو في أيام خلافة أبي بكر أيضا؟!
فلما ذا إذن
اعترض على خالد حين قتل مالك بن نويرة بعد أسره ونزا على امرأته في نفس ليلة قتل
زوجها؟!
السبايا .. لم تقسم على الناس :
وأصاب المسلمون
يومئذ السبايا ، فكانوا يكرهون أن يقعوا عليهم ولهن أزواج ، فسألوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا
ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) .
وقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يومئذ
: «لا توطأ حامل من
__________________
السبي حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض» .
ونقول
:
أولا
: قد تقدم : أن
ثمة ريبا كبيرا في أن يكون السبايا قد قسمن على المسلمين ، بل نحن نطمئن إلى أن
ذلك لم يحصل ، فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» بقي ينتظر بهم قدوم وفد هوازن ، فلما قدم الوفد خيرهم
بين الأموال وبين السبي ، فاختاروا السبي ، وهذا لا ينسجم مع قولهم : إن السبي
كانوا قد قسموا على الناس ..
ثانيا
: إن كان لهذا
الكلام نصيب من الصحة ، فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة لموارد يسيرة جدا ، حيث يبدو
من بعض الروايات : أن أفرادا من النساء قد سبين في سرية أوطاس ، عندما أرسلهم
النبي «صلى الله عليه
__________________
وآله» إليها ، فلقوا عدوا لهم ، فسبوا بعض النساء ، أو سبوهم من بعض أحياء
العرب كما رواه أبو سعيد الخدري .
وعن الشعبي في
الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال : نزلت يوم أوطاس .
__________________
فلعل بعض الناس
قد حاول التحرش بهن ، مستغلا وحدتهن وقلتهن ، معتبرا أنهن ملك لمن سباهن ولهن
أزواج ، فعولجت هذه القضية بالصورة المناسبة.
ثالثا
: عن أنس : إن
الآية نزلت في سبايا خيبر ، وذكر مثل حديث أبي سعيد . إلا إذا كانت كلمة خيبر تصحيفا لكلمة حنين. كما هو غير
بعيد.
وفي
نص آخر عن أبي سعيد الخدري : أن الآية نزلت في سبي أوطاس ، حيث أصاب المسلمون نساء
المشركين ، وكانت لهن أزواج في دار الحرب ، فلما نزلت نادى منادي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ، ولا غير الحبالى حتى
يستبر أن .
رابعا
: قال في
الأحكام : المروي : أنه لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال
__________________
بالجبال وأخذت النساء ، فقال المسلمون : كيف نصنع ولهن أزواج ، فأنزل الله
تعالى الآية ، وكذا في حنين .
فقوله
: وكذا في حنين
دليل على أن هؤلاء غير أولئك.
خامسا
: عن عكرمة : إن
آية (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قد نزلت في امرأة ، يقال لها : معاذة.
وكانت
تحت شيخ من بني سدوس يقال له : شجاع بن الحرث ، وكان معها ضرة لها ، قد ولدت لشجاع
أولادا رجالا. وأن شجاعا انطلق يمير أهله من هجر ، فمر بمعاذة ابن عم لها ، فقالت
له : احملني إلى أهلي ، فإنه ليس عند هذا الشيخ خير.
فاحتملها
فانطلق بها ، فوافق ذلك جيئة الشيخ ؛ فانطلق إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فقال :
يا رسول الله
وأفضل العرب ، إني خرجت أبغيها الطعام في رجب ، فتولت والطّت بالذنب. وهي شر غالب
لمن غلب. رامت غلاما واركا على قتب. لها وله أرب.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : عليّ عليّ. فإن كان الرجل كشف بها ثوبا ، فارجموها ،
وإلا ، فردوا على الشيخ امرأته.
فانطلق مالك بن
شجاع ، وابن ضرتها ، فطلبها ، وجاء بها ، ونزلت
__________________
بيتها .
فقولهم
: إن هذه الآية
قد نزلت في حنين ، باعتبار أن الناس قد تحرجوا من وطء النساء السبايا ذوات الأزواج
، لا يمكن تأكيده ، ولا الجزم به.
سادسا
: إن سبي أوطاس
كانوا عبدة أوثان ، ولم يدخلوا في الإسلام ، ولا يحل نكاح الوثنية بالمسلم .
وحمل خبر أبي
سعيد على أن ذلك قد حصل بعد إسلامهن لا يصح.
فإنهن لم يسلمن
بمجرد السبي ، ولو كنّ قد أسلمن لم يرجعهن النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى قومهن حيث أزواجهن ، الذين كانوا لا يزالون على
شركهم ، إذ لا يجوز تمكينهم منهن.
اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة!! :
قالوا
: صلى رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» الظهر يوما بحنين ، ثم تنحى إلى شجرة ، فجلس إليها ،
فقام إليه عيينة بن حصن يطلب بدم عامر
__________________
بن الأضبط الأشجعي ، وهو يومئذ سيد قيس ، ومعه الأقرع بن حابس ، يدفع عن
محلم بن جثامة ، لمكانه من خندف ، فاختصما بين يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وعيينة يقول : يا رسول الله ، والله لا أدعه حتى
أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «تأخذ الدية»؟
فأبى عيينة حتى
ارتفعت الأصوات وكثر اللغط ، إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له : مكيتل ، قصير
مجتمع ، عليه شكة كاملة ، ودرقة في يده ، فقال : يا رسول الله ، إني لم أجد لما
فعل هذا شبها في غرة الإسلام إلا غنما وردت ، فرمي أولها فنفر آخرها. فاسنن اليوم
وغيّره غدا.
فرفع
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يده
وقال : «تقبلون الدية خمسين في فورنا هذا ، وخمسين إذا رجعنا
إلى المدينة».
فلم يزل رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» بالقوم حتى قبلوا الدية.
وفي
رواية : فقام الأقرع
بن حابس ، فقال : يا معشر قريش ، سألكم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه؟
أفامنتم أن يغضب عليكم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فيغضب الله تعالى عليكم لغضبه؟ أو يلعنكم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فيلعنكم الله تعالى بلعنته؟
والله ،
لتسلمنه إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أو لآتين بخمسين من بني ليث كلهم يشهدون أن القتيل
كافر ما صلى قط ، فلا يطلبن (قال ابن هشام : فلا طلبن) دمه.
فلما قال ذلك
قبلوها.
ومحلم
القاتل في طرف الناس ، فلم يزالوا يؤزونه ، ويقولون : إئت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يستغفر لك.
فقام محلم وهو
رجل ضرب طويل آدم. محمر بالحناء ، عليه حلة قد كان تهيأ فيها للقتل للقصاص ، فجلس
بين يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وعيناه تدمعان ، فقال : يا رسول الله ، قد كان من
الأمر الذي بلغك ، وإني أتوب إلى الله ، فاستغفر لي.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «ما اسمك»؟
قال
: أنا محلم بن
جثامة.
فقال
: «أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام؟ اللهم لا تغفر لمحلم»
بصوت عال ينفذ به الناس.
قال
: فعاد محلم ،
فقال : يا رسول الله ، قد كان الذي بلغك ، وإني أتوب إلى الله فاستغفر لي.
فعاد
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لمقالته بصوت عال ،
ينفذ به الناس : «اللهم لا تغفر
لمحلم بن جثامة».
حتى كانت
الثالثة. فعاد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لمقالته ، ثم قال له رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «قم من بين يدي».
فقام من بين
يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو يتلقى دمعه بفضل ردائه.
فكان
ضمرة السلمي يحدث ـ وقد كان حضر ذلك اليوم ـ قال : كنا نتحدث فيما بيننا أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حرك شفتيه بالإستغفار
له ، ولكنه أراد أن يعلم الناس قدر الدم عند الله تعالى .
ونقول
:
أولا
: قد تقدم هذا
الحديث أو ما يقرب منه في أكثر من مناسبة ، ونسب إلى أكثر من شخص ، ومنهم أسامة بن
زيد ، لكنهم حافظوا على ماء وجه أسامة ، فزعموا : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد رضي عنه ، ولم يمت ، فدفن ، فلفظته الأرض كما جرى
لمحلم بن جثامة. فراجع ما ذكرناه حول هذا الموضوع في جزء سابق من هذا الكتاب.
ثانيا
: لماذا لا يقبل
النبي «صلىاللهعليهوآله» توبة ابن جثامة ، مع أن الآيات القرآنية صريحة بأن
الله يقبل التوبة عن عباده ، وقد قال تعالى :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) .
وقد جاءه محلم
بن جثامة ، وطلب منه أن يستغفر له ، بعد أن استغفر هو نفسه ، فلما ذا يحرمه الرسول
من رحمة الله ، وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين؟! ولماذا لم يجد الله توابا
رحيما ، كما هو صريح الآية؟!
ثالثا
: لماذا هذه
القسوة من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على محلم بن جثامة ، مع أنهم يقولون : إنه إنما قتله
بتوهم : أنه قد أسلم متعوذا؟!
__________________
ولا يصح أن يعد
مثل هذا من موارد قتل المؤمن عمدا ، ليطرده النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ويعاقبه بهذه الطريقة القاسية.
رابعا
: إن كان قد
تعمد قتله ، فإن ذلك يوجب الإقتصاص منه ، فلما ذا لم يقتص منه؟!
ولا يصح أن
يطلب من الله تعالى أن لا يغفر له ، خصوصا بعد أن تاب من ذنبه ، لو كان ذلك يعد
ذنبا.
خامسا
: قيل : أن
محلما لم يقتل عامر بن الأضبط ، بل قتله شخص آخر .
سادسا
: ادّعوا : أن
محلما مات في زمن النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وبعد سبع ليال لفظته الأرض مرة أخرى .
مع
أنه قد قيل : إن محلما نزل حمص ، ومات بها أيام ابن الزبير. وجزم به ابن السكن .
سابعا
: لماذا سكت
عيينة بن حصن عن المطالبة بدم عامر بن الأضبط
__________________
إلى هذا الوقت؟! مع أنه هو وإياه كانا مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في غزوة الفتح ، وحنين ، والطائف .. ومع أنه كان يمكنه
أن يطالب بدمه فور لقائه بالنبي «صلىاللهعليهوآله» .. لأنه كان قد قتل في سرية أبي قتادة إلى بطن إضم . وهم قد لحقوا النبي «صلىاللهعليهوآله» في الطريق ، ورافقوه إلى مكة وحنين و.. و..
ثامنا
: لماذا سكت
النبي «صلىاللهعليهوآله» عن هذه الجريمة؟ ولماذا لم يستحضر محلم بن جثامة قبل
هذا الوقت ويؤنبه ، ويدعو عليه و.. و.. الخ ..؟!
مع أنهم قد
أخبروا النبي «صلىاللهعليهوآله» بالأمر بمجرد رجوعهم من سرية بطن إضم ، وقد أنزل الله
تعالى عليه «صلىاللهعليهوآله» قرآنا يتلى في ذلك؟!
__________________
تاسعا
: قالوا : إن
الآية التي نزلت في مناسبة قتل عامر بن الأضبط هي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى
إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) .
وهي
تدل على : أن المطلوب هو
مجرد التبين ، ولم تتضمن إدانة صريحة للقاتل؟!
بل
قد يقال : إنها تدل على
براءة ابن جثامة ، وعلى أنه لا يستحق المؤاخذة بهذا المقدار ، ولا بما هو أخف من
ذلك.
عاشرا
: إن هذه الآية
قد ألمحت إلى : أنه لو كان القتل لأجل هدف دنيوي ، فإن الله تعالى خبير بالنوايا ،
واقف على حقيقة أعمال العباد ..
والمفروض
: أن ابن جثامة
لم يعترف بأنه قتل ابن الأضبط لأجل الدنيا ، بل ادّعى : أن الأمر اشتبه عليه ،
فلما ذا يدان بأمر كتمه الله تعالى عليه ، ولم يعترف هو به؟! فإذا كانت الحجة على
ابن جثامة هي : أنه لم يشق عن قلب ابن الأضبط ، ليعرف إن كان صادقا أو متعوذا ..
فإن
له أن يحتج بنفس هذه الحجة أيضا ، فيقول : إنكم لم تشقوا عن قلبي ، لتعرفوا إن كنت قتلته خطأ ، أو
قتله لأجل الدنيا.
حادي
عشر : قال ابن عبد
البر : والإختلاف في المراد من هذه الآية مضطرب فيه جدا.
قيل
: نزلت في
المقداد .
__________________
وقيل
: نزلت في أسامة
بن زيد .
وقيل
: نزلت في محلم
بن جثامة .
__________________
وقال
ابن عباس : نزلت في سرية ، ولم يسم أحدا .
وقيل
: نزلت في غالب
الليثي .
وقيل
: نزلت في رجل
من بني ليث يقال له : فليت ، كان على السرية .
__________________
وقيل
: نزلت في أبي
الدرداء .
وهذا اضطراب
شديد جدا .
__________________
الفصل الثاني :
قبل قسمة الغنائم
روايات ونصوص :
قالوا
: وجمعت الغنائم
بين يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فجاءه أبو سفيان بن حرب ، وقال : يا رسول الله أصبحت
أكثر قريش مالا ، فتسبم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
وعن
جبير بن مطعم ، وابن عمر : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لما فرغ من رد سبايا هوازن ، ركب بعيره وتبعه الناس ،
يقولون (أو علقت الأعراب برسول الله يسألونه) : يا رسول الله ، اقسم علينا فيئنا.
حتى
اضطروه إلى شجرة ، فانتزعت رداءه ، فقال : «يا أيها الناس ، ردوا علي ردائي ، فو الذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد
شجر تهامة (أو عدو هذه العظاه) نعما لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا
كذابا (ولا جبانا)» .
ثم قام رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» إلى جنب بعيره ، فأخذ من سنامه
__________________
وبرة ، فجعلها بين إصبعيه ، فقال : «أيها الناس ، والله ، ما لي من فيئكم
ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخياط والمخيط. وإياكم
والغلول ، فإن الغلول عار ، (ونار) ، وشنار على أهله يوم القيامة».
فجاء
رجل من الأنصار بكبة خيط من خيوط شعر ، فقال : يا رسول الله ، أخذت هذه الوبرة لأخيط بها برذعة بعير
لي دبر.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أما حقي منها فهو لك».
فقال
الرجل : أما إذ بلغ
الأمر فيها هذا فلا حاجة لي بها ، فرمى بها من يده .
__________________
عن
أنس قال : كنت أمشي مع
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي ،
فجذبه جذبة شديدة ، ثم قال : مر لي من مال الله الذي عندك.
فالتفت إليه
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو يضحك ، ثم أمر له بعطاء ورداء .
وروي
: أن عقيل بن
أبي طالب دخل يوم حنين على امرأته فاطمة بنت شيبة ، وسيفه ملطخ دما ، فقالت : إني
علمت أنك قاتلت اليوم المشركين ، فماذا أصبت من غنائمهم؟
فقال
: دونك هذه
الإبرة ، تخيطين بها ثيابك. فدفعها إليها.
__________________
فسمع
منادي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : من أخذ شيئا ، فليرده حتى الخياط والمخيط ، فرجع
عقيل وقال : ما أجد إبرتك إلا ذهبت منك ، فأخذها فألقاها في المغنم .
وعن
عبادة بن الصامت قال : صلى بنا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يوم حنين إلى جنب بعير من المغانم ، فلما سلم تناول
وبرة بين أنملتين.
وفي
رواية : فجعلها بين
إصبعيه. ثم قال : «أيها الناس ، إن هذه من مغانمكم ، وليس لي فيها إلا نصيبي معكم
، الخمس ، والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط ، وأكثر من ذلك وأصغر ، ولا
تغلوا فإنه عار ونار وشنار على أهله في الدنيا والآخرة».
وأتى رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» الناس يوم حنين في قبائلهم يدعوهم ، وترك قبيلة من
القبائل وجدوا في برذعة رجل منهم عقدا من جزع غلولا.
فأتاهم رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ، فكبر عليهم كما يكبر على
__________________
الميت .
ونقول
:
يرجى
من القارئ الكريم أخذ الأمور التالية بنظر الإعتبار :
النبي صلىاللهعليهوآله أكثر قريش مالا :
إن
أول ما يستوقفنا هنا : قول أبي سفيان للنبي «صلىاللهعليهوآله» أصبحت أكثر قريش مالا. ولا شك في أن أبا سفيان يعني ما
يقول ، ولم يكن بصدد مداعبة النبي «صلىاللهعليهوآله» بهذا القول .. لأن هذا هو منطق أبي سفيان ، وهذه هي
نظرته ، وعلى أساسها يتخذ مواقفه ، ويصوغ
__________________
تعامله ، فهو يرى أن النبي «صلىاللهعليهوآله» يتصرف كملك ، والملك يعتبر كل إنجازات جيوشه في حروبها
، وما يحصل عليه رعاياه ملكا له .. بل هو يعتبر الناس خولا وخدما ، ليس لهم أي حق
إلا ما يمنحهم هو إياه.
وقد بقيت هذه
النظرة لدى أبي سفيان زمنا طويلا بعد وفاة رسول الله «صلىاللهعليهوآله». وهو القائل مخاطبا عثمان حين استخلف : «فأدرها كالكرة
، واجعل أوتادها بني أمية ، فإنما هو الملك ، ولا أدري ما جنة ولا نار» .
وقد
رأينا : أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يجب أبا سفيان بشيء ، بل اكتفى بالتبسم ، ربما لأن
أبا سفيان قد صدق في اعتباره هذه الغنائم ملكا لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لأنها إنما حصلت بصبر النبي «صلىاللهعليهوآله» وجهاد علي «عليهالسلام».
وإن كانت نظرة
أبي سفيان إلى مقام النبوة والنبي خاطئة ومسيئة ، ولا بد من العمل على تصحيحها ،
ولكن ذلك يحتاج إلى أن يفهمه بالعمل لا بالقول : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» ليس من طلاب الدنيا ، وأنه يبذل كل
__________________
شيء في سبيل الله والمستضعفين في الأرض .. فكانت قسمته لتلك الغنائم بالذات
هي الجواب العملي ، والبرهان القوي ، والجلي القاطع لكل عذر ، والمزيل لأية شبهة.
الشره والحرص :
إن المشهد الذي
رسمته النصوص المتقدمة ، الذي يصور الناس ، وهم يلاحقون النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ويضايقونه حتى اضطروه إلى شجرة ، فعلق بها رداؤه ،
وهم يسألونه أن يقسم الغنائم بينهم ، إن دل على شيء ، فهو يدل على شره وحرص غير
عادي ، كان أولئك الناس يعانون منه.
وهذه لا شك
حالة مرضية تحتاج إلى علاج بصير ، وحاذق خبير ، بمعالجة نفوس البشر ، وتطهير
أرواحهم وقلوبهم ، فيا ساعد الله قلب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الذي ابتلي بهؤلاء الناس ، كم عانى من متاعب ، وواجه
من مصاعب ومصائب ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون ..
ولعل مما زاد
هذا الحرص لديهم على نيل الغنائم ، هو تخوفهم من أن تكون هناك نية لتفويتها عليهم
كما فاتتهم السبايا .. رغم أنهم لا حق لهم في هذه ولا في تلك ، كما أشرنا إليه
أكثر من مرة.
ماذا يظنون بالنبي صلىاللهعليهوآله؟! :
ولا
ندري إن كان «صلىاللهعليهوآله» حين
قال لهم : «والذي نفسي بيده ، لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعما
، لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلا ، ولا كاذبا ، ولا جبانا» ـ لا ندري ـ إن
كان يشير بذلك إلى تهم أطلقوها ، أو أوهام راودتهم في أن يكون «صلىاللهعليهوآله» كذابا
ـ والعياذ بالله ـ لا يفي لهم بوعوده بقسمة الغنائم عليهم.
أو
أنهم توهموا فيه : البخل وحب المال ، الذي سيدعوه إلى العدول عن رأيه في قسمة الأموال.
أو
أنهم توهموا : أن ما دعاه إلى إعادة السبايا إلى أهلها هو خوفه من جيوش هوازن وحلفائها
من أن يهاجموه على حين غرة ، وهو على غير استعداد .. وهم يخشون أن يدعوه خوفه
وجبنه هذا إلى إعادة الأموال أيضا ..
فاحتاج من أجل
أن يقنعهم بحتمية وفائه ، وبأنه ليس كذابا في وعده ، ولا بخيلا محبا للمال ، ولا
جبانا خائفا من كثرة هوازن وأحلافها إلى التوسل بالقسم لهم بقوله : «والذي نفسي
بيده». ولا شك ولا ريب في أنه كان في أصحابه وجيشه من يتهمه بالكذب ، وبعض ذلك ظهر
في صلح الحديبية. وفي مناجاته ظلعلي «عليهالسلام» ، وهذا بعض ما ظهر لنا وما وصلنا ، ولعل ما خفي علينا
أكبر ، ولا نظن أن ذلك منهم حادث عابر في زمن غابر ، بل كان ذلك منهم سعي وعمل
دائب وجهد راتب.
ما لي إلا الخمس ، وهو مردود عليكم :
وقد طمأنهم «صلىاللهعليهوآله» إلى أن الفيء الذي يحصلون عليه بأسيافهم وبجهادهم
وتضحياتهم فليس له فيه ولو بمقدار الوبرة التي أخذها بين أصبعيه ، وهذا دليل يجب
أن يقنعهم بأنه لا بد أن يفي لهم بوعده ، وأنه لن يمنعه من ذلك بخل ولا حرص ، لإن
الإنسان قد يبخل بماله ويحرص عليه ، أما مال غيره فلا شأن له فيه ، فلا معنى لهذا
الإصرار والملاحقة له منهم؟!
ثم طمأنهم إلى
أنه ليس فقط سوف يعطيهم ما يرون أنه من حقهم ، بل هو سوف يعطيهم حقه الذي أثبته
الله تعالى في كتابه الكريم أيضا ، وهو الخمس ..
ويلاحظ
: أنه «صلىاللهعليهوآله» أجرى كلامه بصورة مطلقة ، ولم يشر فيه إلى الغنائم من
هوازن ، أي أنه تحدث عن حكم شرعي ثابت في موارده ، حسب البيان الإلهي ، وهو أن
الفيء لأصحابه .. ثم وعدهم بأن يتخلى لهم عن حقه فيه أيضا ..
وهو يقصد بذلك
جميع الموارد التي يكون الخمس ثابتا فيها ، وهذا معناه : أنه لا يقصد غنائم حنين ،
لأنها كلها لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وليس خمسها فقط ..
فمحصل
كلامه «صلىاللهعليهوآله» هو
: أن هذا المال
إن كان لهم ، فلن يأخذ منه ولو وبرة واحدة ، بل سوف يجود عليهم به ، ويعطيهم خمسه
أيضا معه ..
وإن كان هذا
المال له ، فسوف لا يبخل به عليهم ، بل هو سوف يعطيهم إياه أيضا تفضلا منه وكرما
..
من أين أخذ الوبرة؟! :
وقد
ورد في رواية أخرى ، عن عبادة بن الصامت : أنه «صلىاللهعليهوآله» أخذ الوبرة بين أصبعيه ، وقال لهم : «أيها الناس ، إن
هذه الوبرة من مغانمكم ، وليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس الخ ..».
ونلاحظ
: أن هذه
الرواية تريد أن تقول : إن تلك المغانم للناس ومن
جملتها تلك الوبرة .. ولكن ذلك موضع شك كبير ، لما قدمناه من أنها للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، كما أن الرواية الأخرى قد صرحت : بأن البعير الذي
أخذ منه الوبرة ليس من مغانمهم. بل هو بعير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفسه ..
وهذا
يشير إلى : أن ثمة بعض التصرف في النص ، كما هو ظاهر ..
ما أرى أبرتك إلا ذهبت :
وقد
نسبوا إلى عقيل : أنه غل إبرة ، وأعطاها لزوجته ، ثم أعادها إلى الغنيمة ، بعد أن قال
لزوجته : ما أرى إبرتك إلا ذهبت ..
ونقول
:
إننا لا ننكر
أن يكون أمر كهذا قد حصل فعلا ، ولكن ذلك لا يدل على أي سلبية في شخصية عقيل ، فإن
من الطبيعي أن يتناول الإنسان إبرة من الغنائم ، ظنا منه أنها أمر تافه وزهيد ،
ولا ينظر إليه ، ولا يحسب له حساب ، أمام غيره من الغنائم الثمينة من الإبل أو
البقر والغنم ، أو الذهب والفضة ، فيجوز تناوله لكل أحد ، إذا احتاج إليه ..
ثم إن إرجاع
الإبرة إلى الغنيمة ، إن دل على شيء ، فإنما يدل على تقوى عقيل ، وشدة رعايته
لأحكام الله تبارك وتعالى ..
ولكن ما يؤسف
له هو أن تؤخذ قضية كهذه ، لو كانت قد حصلت فعلا ، مغمزا فيه ، وسببا للإنتقاص من
عقيل ، بدلا من اعتبارها دليلا على التزامه وتقواه.
عقيل ثبت في حنين :
وقد
صرحت نفس هذه القضية : أن سيف عقيل كان ملطخا دما ، وأن زوجته علمت أنه قاتل المشركين ، وهذا
معناه : أن عقيلا كان من المجاهدين الثابتين في حرب حنين وقد عدوه في جملة من ثبت
فيها أيضا .
فلا
صحة لقول ابن سعد : إنه رجع من مؤتة ، فعرض له مرض ، فلم يسمع له بذكر في فتح مكة ، ولا
الطائف ، ولا خيبر ، ولا حنين .
نعم ، لقد ثبت
عقيل في حين فرّ جميع المسلمين عن نبيهم ، وقد كان سيفه ينضح دما من رقاب أهل
الشرك ، بينما كان جبين غيره ينضح بعرق الخجل ، ممن كان يخفي وجهه من الناس خجلا ،
وإحساسا بالعار من ذلك الفرار المشؤوم ..
أما الذين لا
يخجلون ، فلا نتحدث عنهم ، ولا يليق بعاقل أن يذكرهم بخير أبدا.
__________________
وأما
ما ذكره ابن سعد : من أنه لم يسمع له بذكر في خيبر ، فهو غير صحيح أيضا :
أولا
: لأن المرض إذا
كان عرض له في مؤتة ، فمؤتة كانت بعد خيبر ، فما معنى تغيبه عن خيبر بسبب مرض عرض
له في مؤتة؟!
ثانيا
: قال الطبراني
وغيره : إن عقيلا حضر فتح خيبر ، وقسم له النبي «صلىاللهعليهوآله» من خيبر .
وورد اسمه في
كتاب النبي «صلىاللهعليهوآله» لمقاسم أموال خيبر أيضا . فراجع.
متى أخذ عقيل الإبرة؟! :
وإن رؤية سيف
عقيل ملطخا بالدم إنما كانت في يوم حنين بالذات ، حيث كانت الحرب دائرة ، وسيفه
يعمل فيها في رقاب المشركين ، وأما تقسيم الغنائم وإرجاع الإبرة ، فقد كان في
الجعرانة ، بعد الإنتهاء من الطائف .. وهذا معناه : أن تلك الإبرة قد بقيت كل هذه
الأيام عند امرأة عقيل ..
مع
أن الرواية تصرح : بأنه قد جاء بالإبرة في نفس اليوم الذي حارب فيه المشركين ، ولطخ سيفه
بدمهم.
فذلك
يدل على : أن عقيلا لم
يأخذ الإبرة من الغنائم المجموعة ، لتكون غلولا كما زعموا. بل أخذها من ساحات
القتال مباشرة ، ثم أعادها إلى
__________________
الغنائم المجموعة في الجعرانة.
الغلول : نار ، وعار ، وشنار :
١ ـ إن
الإهتمام بأمر الغلول إلى هذا الحد الذي أظهرته كلمات الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، لا بد أن يعطي الإنطباع للناس بلزوم التدقيق في
الأمور ، وأن لا يستهين أحد منهم بشيء مهما كان بنظره صغيرا ، ولو بمقدار خيط ،
ومخيط إبرة ، في مقابل آلاف من الإبل ، وسواها.
٢ ـ إن ذلك
يؤكد على معنى الأمانة ، وعلى معيار القيمة لدى الناس ، فإنه إذا كان أخذ خيط ، أو
إبرة مجلبة للعار ، والخزي ، والعيب ، والعذاب بالنار في الآخرة ، فما بالك بما
سوى ذلك من أنواع الخيانات ، والتعديات ، والمخالفات؟!
٣ ـ إنه «صلىاللهعليهوآله» بهذا الإعلان يكون قد رسم حدا يمكن الإنطلاق منه
والإنتهاء إليه في تحديد ما هو خطأ ، وما هو صواب ، وما هو حسن وقبيح ، ولم تعد
القضية خاضعة لمزاجات الأشخاص ، واعتباراتهم وتسامحاتهم ، التي لو فسح لها المجال
، لربما أغمضت العين عن كثير من الشرور ، بحجة أنها مقبولة ، أو صغيرة ، وغير ذات
أهمية.
٤ ـ إنه «صلىاللهعليهوآله» حين ذكر مساوئ الغلول قد مزج بين الضررين : الدنيوي
والأخروي ، وبين المادي الجسدي ، والمعنوي الروحي. كما أنه لم يكتف بذكر العار
الذي قد يمكن تحمل تبعاته ، بزعم أنه أثر لزلة ، أو خطيئة مضت وانقضت ، ويمكن أن
يكون الإنسان قد تجاوز هذا الأمر ، وتخلص منه ..
بل
أضاف الشنار إلى العار. والشنار هو أقبح العيب ، لكي يبين بذلك : أن الناس يرون منشأ العار لا يزال موجودا ، وملازما للشخص ، وليس أمرا قد
مضى وانقضى .. وسيكون هذا أدعى للإنسان لكي يبادر للتخلص منه بكل ما يقدر عليه ..
كما
أن جمع العار والشنار ، قد يفيد : أن تخلص الإنسان من العيب الحاضر ، لا يعني : أن عاره
لا يلاحقه في مستقبل الأيام .. فلما ذا يلوث نفسه بما يكون من هذا القبيل؟!
أما حقي فهو لك :
وفي
مجال التربية العملية المؤثرة ، نلاحظ : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أجاب صاحب كبة خيط الشعر ، بقوله : أما حقي فيها
فهو لك.
وهذا
معناه : أن لسائر
الناس حقوقا فيها أيضا ، فعليه أن يؤديها لهم ، فسماح النبي «صلىاللهعليهوآله» له بحقه لا يعفيه من لزوم الحصول على سماح الآخرين له
بحقوقهم.
فالنبي «صلىاللهعليهوآله» لم يرد طلبه ، ولم يستجب له ، بل جمع بين الأمرين ،
وبيّن له عدم إمكان إجابة طلبه بصورة تامة.
التكبير على الأموات :
وإذ قد ظهر أن
لدى إحدى القبائل عقد جزع غلولا ، وقد تمالأت تلك القبيلة على هذا الأمر ، وتسترت
عليه ، فإن ذلك يدل على : أن الوجدان الإنساني لديها لم يكن مؤثرا في منعها عن هذا
الفعل الشنيع ، الذي يدل على : أنها ترضى بحرمان الآخرين من حقوقهم ، والإستئثار
بأموالهم ، فكان أن ألقى
عليها درسا عمليا ، من خلال فعل يرمز إلى أنها تعاني من موت في الوجدان ،
وفي الضمير الإنساني ، فلا بد من إجراء المراسم التي تجري عادة للأموات ..
وذلك يرمز إلى
أن وجدان وضمير الإنسان ، المرتبط بالفطرة السليمة ، والعقل القويم ، هو العنصر
الأهم في الكيان الإنساني. فإذا مات الضمير والوجدان ماتت المعاني الإنسانية في
الإنسان.
وكما يكون بقاء
الميت بين الأحياء ، مضرا ، وموجبا لنشوء الأمراض ، ويتسبب بمزيد من الضيق والأذى
، والإحساس بلزوم التخلص منه .. فإن من يموت ضميره ، ويتلاشى وجدانه يكون بقاؤه
أعظم ضررا ، وأشد خطرا .. فلا بد من المبادرة للتخلص منه ، كما يتخلص الناس من
موتاهم ..
من قتل قتيلا فله سلبه :
عن
أنس قال : قال رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» : «من قتل قتيلا فله سلبه».
قال
: فقتل أبو طلحة
يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم .
__________________
وقال
أبو قتادة : يا رسول الله ، إني ضربت رجلا على حبل عاتقه ، وعليه درع فأجهضت عنه ،
فانظر في أخذها ، فقام رجل ـ قال محمد بن عمر : اسمه أسود بن خزاعي الأسلمي ، حليف
بني سلمة. كذا قال. وفي الصحيح كما سيأتي : أنه قرشي ـ فقال : يا رسول الله ، أنا
أخذتها ، فارضه منها وأعطنيها.
قال
: وكان رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» لا يسأل شيئا إلا أعطاه ، أو سكت.
فسكت رسول الله
«صلىاللهعليهوآله».
فقال
عمر : والله لا
يغنها الله تعالى على أسد من أسد الله تعالى ويعطيكها.
__________________
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «صدق عمر» .
وعن
أبي قتادة الحارث بن ربعي قال : خرجنا مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عام حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة. فرأيت
رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين.
وفي
رواية : نظرت إلى رجل
من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين ، وآخر من المشركين يختله ، فضربته من ورائه
على حبل عاتقة بالسيف ، فقطعت الدرع ، وأقبل علي فضمني ضمة ، وجدت منها ريح الموت
، ثم أدركه الموت ، فأرسلني ، فلحقت.
وفي
رواية : فلقيت عمر بن
الخطاب في الناس الذين لم يهزموا ، فقلت : ما بال الناس؟
قال
: أمر الله
تعالى.
فرجعوا
وجلس رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال
: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه».
فقمت
، فقلت : من يشهد لي؟
ثم جلست.
فقال رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» مثله.
فقمت
فقلت : من يشهد لي؟
ثم جلست.
__________________
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مثله
، فقال : «مالك يا أبا قتادة»؟ فأخبرته .
وذكر
محمد بن عمر : أن عبد الله بن أنيس شهد له ، فقال رجل : صدق سلبه عندي ، فارضه مني ـ أو
قال منيه.
فقال
أبو بكر : لاها الله إذا
، لا تعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله تعالى ورسوله فيعطيك سلبه!
__________________
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «صدق فأعطه إياه» ، فأعطانيه .
وعند
محمد بن عمر : فقال لي حاطب بن أبي بلتعة : يا أبا قتادة ، أتبيع السلاح؟!
فبعته
بسبع أواق ، فابتعت به مخرفا ـ وفي رواية : خرافا في بني سلمة ـ فإنه لأول مال تأثلته ـ وفي رواية
: اعتقبته ـ في الإسلام .
__________________
زاد
محمد بن عمر : يقال له : الرديني.
قال
في البداية في الرواية السابقة عن أنس : إن عمر قال ذلك. وهو مستغرب.
والمشهور
: أن قائل ذلك
أبو بكر ، كما في حديث أبي قتادة .
وقال
الحافظ : الراجح : أن
الذي قال ذلك أبو بكر ، كما رواه أبو قتادة ، وهو صاحب القصة ، فهو أتقن لما وقع
فيها من غيره .
قالا
: فلعل عمر قال
ذلك متابعة لأبي بكر ومساعدة له ، وموافقة ، فاشتبه على الراوي .
قال
العلماء : لو لم يكن من
فضيلة أبي بكر الصديق إلا هذا لكفى ، فإنه بثاقب علمه ، وشدة صرامته ، وقوة إنصافه
، وصحة توفيقه ، وصدق تحقيقه ، بادر إلى القول بالحق ، فزجر ، وأفتى ، وحكم ،
وأمضى ، وأخبر في الشريعة عن المصطفى بحضرته وبين يديه ، وبما صدقه ، فيه وأجراه
على قوله .
__________________
ونقول
:
إن
لنا ملاحظات على ما تقدم ، هي التالية :
بطولات أبي طلحة :
زعمت
الرواية المتقدمة : أن أبا طلحة قتل من المشركين عشرين رجلا ، وأخذ أسلابهم .. ولكن لنا أن
نتساءل : متى قتل أبو طلحة هؤلاء؟ هل قتلهم قبل الهزيمة؟ أم بعدها؟!
فإن
كان ذلك قبل الهزيمة ، فقد تقدم : أن الهزيمة وقعت بمجرد ورود خالد بمقدمة الجيش إلى وادي
حنين ، وكانت المقدمة تتكون من بني سيلم وأهل مكة ، فخرج عليهم المشركون من الشعاب
والمضايق ، فوقعت الهزيمة على المقدمة وتبعها الجيش كله ، ولم يفعل أبو طلحة ولا
غيره شيئا. ولم يبق عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» غير علي «عليهالسلام» يقاتل ويناضل ، وبضعة نفر من بني هاشم كانوا حول رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ..
وأما
بعد وقوع الهزيمة ، فقد صرحوا : بأن راجعة المسلمين رجعت فوجدت الأسرى مكتفين حول رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ، وصرحوا : بأنه لم يطعن أحد من المسلمين برمح ، ولا
ضرب بسيف ، ولا رمى بسهم .. باستثناء عقيل ، الذي يشهد لقتاله قصة الإبرة المزعومة
التي أرجعها إلى الغنيمة.
ومعنى
ذلك : أن أبا طلحة
لم يقتل أحدا بعد عودته من هزيمته أيضا ..
ومهما
يكن من أمر : فإن لأبي طلحة مكانة عند هؤلاء الناس ، لأن عمر بن الخطاب أمره في يوم
الشورى أن يضرب أعناق ستة من أهل الشورى ،
ومنهم علي «عليهالسلام» إن خالفوا ، وإن لم يتفقوا على ما يريد عمر ، وما خطط
له.
وروى
المعتزلي : أن أبا طلحة قال لهم : لا ، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام
الثلاثة التي وقتت لكم ، فاصنعوا ما بدا لكم .
هنات في حديث أبي قتادة :
ونفس هذا
الكلام نقوله بالنسبة لما ادّعاه أبو قتادة أيضا في روايته الأولى ، والذي صور لنا
فيها : أن معركة حامية جرت ، حتى أجهضه زحام المقاتلين عن سلب قتيله.
وادّعى
في الرواية الثانية : أن الرجل الذي قتله ، أراد بقتله إياه أن يدفع عن مسلم آخر كان يواجه
مأزقا بين المقاتلين من أهل الشرك.
غير
أننا نقول :
إن ذلك لا
يتوافق مع أجواء الهزيمة في البداية ، ولا مع ما حدث بعد العودة في النهاية.
ولو
أغمضنا النظر عن ذلك ، وقبلنا : أن حدوث ذلك أكثر احتمالا من مزاعمهم عن بطولات أبي
طلحة ، فإن الترجيح إنما يكون للرواية الأولى دون الثانية ، لأن الثانية تضمنت :
أولا
: الزعم : بأن
فريقا من المسلمين لم ينهزموا ، وأن عمر بن الخطاب كان من جملة هؤلاء .. مع أنه قد
تقدم : أن ذلك غير صحيح ، وأن عليا
__________________
«عليهالسلام» فقط هو الذي ثبت في ساحات الجهاد ، بالإضافة إلى نفر
من بني هاشم أحاطوا برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وقد تقدمت أسماؤهم. وليس من بينهم عمر بن الخطاب ولا
غيره من الجماعة التي يشير إليها.
ثانيا
: هناك اختلاف
وتدافع ظاهر بين روايات قتل أبي قتادة لذلك المشرك ، فهل هو قتل المشرك الذي علا
رجلا من المسلمين؟! أم قتل الذي كان يختل المسلم ، حيث كان المسلم منشغلا بقتال
مشرك آخر؟!
كما أننا نجد
الإختلاف في الذي اعترض على أخذ ذلك الرجل للسلب ، وصدقه النبي «صلىاللهعليهوآله» ، هل هو أبو بكر ، أم عمر؟!
ثالثا
: إذا كان أبو
قتادة يطالب بالسلب ، ويشهد له به عبد الله بن أنيس ، فلما ذا يقحم شخص آخر نفسه
في حديث يكون بين رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وبين غيره؟!
وكيف يصدر ذلك
الشخص حكما جازما ـ سواء أصاب فيه أم أخطأ ـ في أمر يطلب من الرسول نفسه أن يصدر
حكمه فيه؟! أليس هذا من أوضح الموارد التي نهت الآية الشريفة عنها ، حيث تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
فكيف أصبح الأمر
المنهي عنه بنص القرآن الكريم فضيلة وكرامة يتبجح بها المتبجحون ، حتى يقول من
يسمونهم بالعلماء : «لو لم يكن من فضيلة أبي بكر الصديق إلا هذا لكفى ..»؟!
ولعلك
تقول : ما دام أن
النبي «صلىاللهعليهوآله» قد سكت عن
__________________
الجواب ، فلا ضير في مبادرة غيره لحسم الأمر ، وإعطاء الضابطة ..
ونجيب
بما يلي :
ألف
: إن سكوت النبي
«صلىاللهعليهوآله» لا يبرر الإقدام على أي شيء من دون اسئذان منه.
ب
: إن كلام أبي
بكر أو عمر معناه : أن إعطاء سلب من يقاتل عن الله ورسوله لغيره ظلم وعدوان ..
وهذا
يعني : أنه لا مبرر
لسكوت النبي «صلىاللهعليهوآله» عن بيان هذه الحقيقة ، والدفاع عن المظلوم.
ج
: إن النبي «صلىاللهعليهوآله» إنما يسكت لو كان يطلب منه ما يمكنه أن يعطيه ، مما قد
يكون هناك مصلحة تمنع من إعطائه ، ولكن لا يمكن أن يسكت إذا طلب منه أن يأخذ مال
زيد ، ويعطيه لعمرو مثلا.
د
: إن الرجل لم
يطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» شيئا يوجب هذه الصولة عليه من عمر ، أو من أبي بكر ،
لأنه إنما طلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يرضي أبا قتادة ولو بالمال ، ولم يطلب اغتصاب السلب
منه ليخصّه به. فلما ذا يكون ذلك مرجوحا ، وما معنى إخبار أبي بكر بالشريعة عن
المصطفى؟! ولماذا زجر؟! وبماذا حكم وأفتى؟!
الفصل الثالث :
قسمة الغنائم وعتب
الأنصار
الأنصار يعتبون .. والنبي صلىاللهعليهوآله يسترضيهم :
عن
أنس بن مالك ، وعبد الله بن يزيد بن عاصم ، وأبي سعيد الخدري : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أصاب غنائم حنين ، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب
ما قسم.
وفي
رواية : طفق يعطي رجلا
المائة من الإبل ، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير.
(وقيل : جعل للأنصار شيئا يسيرا ، وأعطى الجمهور للمنافقين ،
فغضب قوم من الأنصار) .
فوجد هذا الحي
من الأنصار في أنفسهم ، حتى كثر فيهم القالة حتى قال قائلهم : يغفر الله تعالى
لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، إن هذا لهو العجب يعطي قريشا ـ وفي لفظ : الطلقاء
والمهاجرين ـ ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم!! إذا كانت شديدة فنحن ندعي ، ويعطى
الغنيمة غيرنا!
وددنا أنّا
نعلم ممن كان هذا ، فإن كان من أمر الله تعالى صبرنا ، وإن كان
__________________
من رأي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» استعتبناه .
وفي
حديث أبي سعيد : فقال رجل من الأنصار لأصحابه : لقد كنت أحدثكم أن لو استقامت الأمور لقد
آثر عليكم. فردوا عليه ردا عنيفا.
وقال
أبو سعيد : فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في
أنفسهم.
قال
: «فيم»؟
قال
: فيما كان من
قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ، ولم يكن فيهم من ذلك شيء.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «فأين أنت من ذلك يا سعد»؟
قال
: ما أنا إلا
امرؤ من قومي.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة .
__________________
وقال
أنس : فأرسل إلى
الأنصار ، فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع غيرهم ، فجاء رجال من المهاجرين فأذن لهم
فيهم ، فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم ، حتى إذا لم يبق أحد من الأنصار إلا اجتمع له.
أتاه ، فقال : يا رسول الله ، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن
أجمعهم.
فخرج
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال
: «هل منكم أحد من غيركم»؟
قالوا
: لا يا رسول
الله إلا ابن أختنا.
قال
: «ابن أخت القوم منهم».
فقام رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «يا
معشر الأنصار ، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله تعالى؟! وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء
فألف بين قلوبكم؟!
وفي
رواية : متفرقين
فألفكم الله؟
قالوا
: بلى يا رسول
الله ، الله ورسوله أمن وأفضل .
وفصل
ذلك في نص آخر ، فقال : .. وبلغ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عنهم مقال سخطه ، فنادى فيهم ، فاجتمعوا ، ثم قال لهم
: «اجلسوا ، ولا يقعد
__________________
معكم أحد من غيركم».
فلما قعدوا جاء
النبي «عليهالسلام» يتبعه أمير المؤمنين «عليهالسلام» حتى جلس وسطهم ، فقال لهم : «إني سائلكم عن أمر
فأجيبوني عنه».
فقالوا
: قل يا رسول
الله.
قال
: «ألستم كنتم ضالين فهداكم الله بي»؟
قالوا
: بلى ، فلله
المنة ولرسوله.
قال
: «ألم تكونوا على شفا حفرة من النار ، فأنقذكم الله بي»؟
قالوا
: بلى ، فلله المنة ولرسوله.
قال
: «ألم تكونوا قليلا فكثركم الله بي»؟
قالوا
: بلى ، فلله
المنة ولرسوله.
قال
: «ألم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم بي»؟!
قالوا
: بلى ، فلله
المنة ولرسوله.
ثم
سكت النبي «صلىاللهعليهوآله» هنيهة
، ثم قال : «ألا تجيبوني
بما عندكم»؟
قالوا
: بم نجيبك؟
فداك آباؤنا وأمهاتنا؟! قد أجبناك بأن لك الفضل والمن والطول علينا!!
قال
: «أم لو شئتم لقلتم : وأنت قد كنت جئتنا طريدا فآويناك ،
وجئتنا خائفا فآمناك (ومخذولا فنصرناك) ، وجئتنا مكذبا فصدقناك».
فارتفعت
أصواتهم بالبكاء وقام شيوخهم وساداتهم إليه ، فقبلوا يديه ورجليه ، ثم قالوا :
رضينا بالله وعنه ، وبرسوله وعنه ، وهذه أموالنا بين يديك ، فإن شئت فاقسمها على
قومك ، وإنما قال من قال منا على غير وغر صدر ،
وغل في قلب ، ولكنهم ظنوا سخطا عليهم ، وتقصيرا بهم. وقد استغفروا الله من
ذنوبهم ، فاستغفر لهم يا رسول الله.
فقال
النبي «صلىاللهعليهوآله» : «اللهم اغفر للأنصار ، ولأبناء الأنصار ، ولأبناء
أبناء الأنصار. يا معشر الأنصار ، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاة والنعم ،
وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول الله»؟
قالوا
: بلى رضينا.
فقال
النبي «صلىاللهعليهوآله» : «الأنصار كرشي وعيبتي ، لو سلك الناس واديا وسلكت
الأنصار شعبا ، لسلكت شعب الأنصار ، اللهم اغفر للأنصار» .
وفي
نص آخر : أنه «صلىاللهعليهوآله» بعد قوله لهم : لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم ، جئتنا
طريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك ، وخائفا فآمناك ، ومخذولا فنصرناك ، ومكذبا
فصدقناك».
فقالوا
: المن لله
تعالى ورسوله.
فقال
: «وما حديث بلغني عنكم»؟ فسكنوا.
فقال
: «ما حديث بلغني عنكم»؟
فقال
فقهاء الأنصار : أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا ، وأما أناس منا حديثة أسنانهم ، قالوا :
يغفر الله تعالى لرسوله «صلىاللهعليهوآله» يعطي قريشا ويتركنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم!!
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : إني لأعطي رجالا حديثي عهد
__________________
بكفر لأتألفهم بذلك» .
وفي
رواية : «إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة ، وإني أردت أن
أجبرهم وأتالفهم ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها
قوما أسلموا ، ووكلتكم إلى ما قسم الله تعالى لكم من الإسلام؟!
أفلا ترضون يا معشر
الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى رحالكم! تحوزونه إلى بيوتكم؟! فو الله ، لمن
تنقلبون به خير مما ينقلبون به ، فو الذي نفسي بيده ، لو أن الناس سلكوا شعبا
وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار .
__________________
وفي
رواية : لو سلك الناس
واديا وسلكت الأنصار شعبا وأخذ الأنصار شعبا لأخذت شعب الأنصار ، أنتم الشعار ،
والناس دثار ، الأنصار كرشي وعيبتي ، ولو لا أنها الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ،
اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار .
فبكى
القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا بالله ورسوله حظا وقسما .
__________________
وذكر
محمد بن عمر : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أراد حين إذ دعاهم أن يكتب بالبحرين لهم خاصة بعده دون
الناس ، وهي يومئذ أفضل ما فتح عليه من الأرض.
فقالوا
: لا حاجة لنا
بالدنيا بعدك.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة ، فاصبروا حتى تلقوني
على الحوض» .
وكان حسان بن
ثابت قال قبل جمع النبي «صلىاللهعليهوآله» الأنصار :
اد الهموم
فماء العين منحدر
|
|
سحا إذا
حفلته عبرة درر
|
وجدا بشماء
إذ شماء بهكنة
|
|
هيفاء لا دنس
فيها ولا خور
|
دع عنك شماء
إذ كانت مودتها
|
|
نزرا وشر
وصال الواصل النزر
|
وائت الرسول
فقل يا خير مؤتمن
|
|
للمؤمنين إذا
ما عدد البشر
|
علام تدعى
سليم وهي نازحة
|
|
قدام قوم
هموا آووا وهم نصروا
|
سماهم الله
أنصارا بنصرهم
|
|
دين الهدى
وعوان الحرب تستعر
|
وسارعوا في
سبيل الله واعترضوا
|
|
للنائبات وما
خانوا وما ضجروا
|
والناس إلب
علينا فيك ليس لنا
|
|
إلا السيوف
وأطراف القنا وزر
|
__________________
نجالد الناس
لا نبقي على أحد
|
|
ولا نضيّع ما
توحي به السور
|
ولا تهر جناة
الحرب نادينا
|
|
ونحن حين
تلظى نارها سعر
|
كما رددنا
ببدر دون ما طلبوا
|
|
أهل النفاق
ففينا ينزل الظفر
|
ونحن جندك
يوم النعف من أحد
|
|
إذ حزّبت
بطرا أحزابها مضر
|
فما ونينا
وما خمنا وما خبروا
|
|
منا عثارا
وكل الناس قد عثروا
|
ولخص
اليعقوبي ذلك ، فقال : «وسألته
الأنصار ، ودخلها غضاضة ، فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : إني أعطي قوما تألفا ، وأكلكم إلى إيمانكم.
وتكلم
بعضهم ، فقال : قاتل بنا محمد حتى إذا ظهر أمره وظفر أتى قومه وتركنا.
فأسقط الله
سهمهم ، وأثبت للمؤلفة قلوبهم سهما في الصدقات .
وروي
بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر «عليهالسلام» : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يوم حنين تألف رؤساء العرب من قريش وسائر مضر ، منهم
أبو سفيان بن حرب ، وعيينة بن حصين الفزاري ، وأشباههم من الناس ، فغضبت الأنصار ،
واجتمعت إلى سعد بن عبادة.
فانطلق
بهم إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالجعرانة
، فقال : يا رسول الله
، أتاذن لي في الكلام؟
فقال
: نعم.
__________________
فقال
: إن كان هذا
الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئا أنزله الله رضينا ، وإن كان غير ذلك
لم نرض.
قال
زرارة : وسمعت أبا
جعفر «عليهالسلام» يقول : فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : يا معشر الأنصار أكلّكم على قول سيدكم سعد؟
فقالوا
: سيدنا الله
ورسوله.
ثم
قالوا في الثالثة : نحن على مثل قوله ورأيه.
قال
زرارة : فسمعت أبا
جعفر «عليهالسلام» يقول : فحط الله نورهم. وفرض الله للمؤلفة قلوبهم سهما
في القرآن .
ما أقبح هذا المنطق :
ونقول
:
إن مقالة سعد
بن عبادة في محضر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كانت في غاية القبح والسقوط ، من جهتين :
إحداهما
: أن يكون سعد ،
ومن معه يعتقدون بأن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد يأتي بالأمر من الله ، وقد يأتي به من عند نفسه ،
فيجوز لهم
__________________
النكول عن طاعته حين يكون أمر من النوع الثاني حتى لو كان مصيبا فيه.
وهذا توهم باطل
، وخيال زائف ، فإنه «صلىاللهعليهوآله» مسدد بالوحي ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، وتجب طاعته في كل أمر يأمر به ، وينهى عنه ، قال
تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ) .
الثانية
: أنه أعلن : أن
هذا الأمر إن كان مما لم ينزله ، فإنهم لا يرضون به ، مع أن الإنسان المؤمن يتوخى
كل ما يرضي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويبادر إلى العمل به ، ويبذل كل جهد من أجل تحصيل
هذا الرضى .. فالمتوقع من سعد ، ومن معه أن يقولوا له «صلىاللهعليهوآله» : إن هذا الأمر يرضيك ، فنحن لا نتردد في بذله ، وبذل
كل ما نملك من أجل الفوز برضاك.
وأما
إن كانوا يعتقدون : أنه «صلىاللهعليهوآله» يخطئ في قراراته التي لا تنزل من عند الله ، فالأمر
أشنع وأقبح ، وهو يشير إلى خلل اعتقادي خطير لدى الأنصار ، رغم مرور سنوات كثيرة
على إسلامهم. طول عشرتهم معه «صلىاللهعليهوآله» ..
إلا
أن يقال : لعلهم ظنوا :
أن ثمة من يحاول فرض هذا القرار على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، على غير رضا منه ، فأرادوا أن تكون هذه المبادرة
عونا لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» لمواجهة تلك الضغوط.
ولكن هذا
الإحتمال يبقى تائها ، وعاجزا عن حل الإشكال ، لأسباب عديدة.
__________________
منها
: أن الشواهد
تشير إلى أنه كان هو صاحب القرار ، ولم يكن لدى الآخرين أي حول أو قوة تخولهم فرض
أي أمر ، مهما كان عاديا أو غير ذي أهمية ..
ومنها
ـ وهو الأهم ـ : أن الروايات الأخرى قد صرحت بما دل على جرأتهم ، وأنهم قالوا : وإن كان من
رأي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» استعتبناه ، أو نحو ذلك.
من
أجل ذلك وسواه نقول :
لعل هذه
الطريقة التي تكلم بها سعد لم تكن مما اتفق عليه مع الأنصار ، بل هم فوضوا إليه
الكلام ، فوقع هو في هذه الزلة التي لم يظهر أنهم يوافقونه عليها.
وربما يشير إلى
ذلك عدم رضاهم بسيادة سعد عليهم كما سيتضح فيما يلي :
أدب الأنصار :
وقد
يمكن اعتبار إجابة الأنصار ـ ثلاث مرات ـ بقولهم : سيدنا الله ورسوله ، حين سألهم النبي «صلىاللهعليهوآله» : أكلكم على قول سيدكم سعد؟! ـ يمكن اعتبارها ـ أدب من
الأنصار ، ومراعاة منهم لجانب رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
كما أنها يمكن
أن تكون تعبيرا عن امتعاضهم من طريقة سعد بن عبادة في عرض القضية أمام رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وقد يعكر على
الأخذ بهذا الإحتمال ويقوي الإحتمال الأول ، قولهم أخيرا : «نحن على مثل قوله
ورأيه».
إلا
أن يكون المقصود هو : أنهم على مثل قوله ورأيه في عدم رضاهم بتقسيم الأموال على المؤلفة قلوبهم
، والذين لا يزالون يقاتلونهم على الإسلام إلى ذلك الوقت. حسبما صرحوا به ..
وليسوا على مثل رأيه فيما يرتبط بطاعة الرسول ، أو في تخطئته فيما يراه كما ورد في
أقواله.
فحط الله نورهم :
ولعل حط نورهم
، وإنزال سهم المؤلفة في القرآن قد جاء عقوبة لهم على هذه الجرأة على مقام الرسالة
، والرسول حتى لو لم يكونوا على مثل رأي سعد فيما يتضمن جرأة على مقام رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. فإن المفروض هو : التسليم المطلق ، حتى لو كانت
الأموال لهم على الحقيقة ، فإنه «صلىاللهعليهوآله» أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فكيف إذا كانت الأموال له
.. ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك ..
لا يجرؤ الأنصار على ادّعاء حق لهم :
ونلاحظ
: أن النصوص
المتقدمة التي ذكرت كلام الأنصار وعتبهم ، سواء أكان ذلك على لسان سادتهم وذوي
البصائر منهم ، أو على لسان شبابهم وجهالهم قد خلت من رأي إشارة إلى أنهم يطالبون
بحق لهم ، منحهم الله إياه من خلال نصر أحرزوه ، أو جهد بذلوه .. رغم كثرة القالة
فيهم ، بل رغم جرأتهم على شخص رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ولو أن شيئا من
ذلك كان قد حصل بالفعل ، لبادروا إلى عرض هذه الحجة ، فإنها أشد وقعا ، وأبعد اثرا
، وأكثر إلزاما ..
الرد العنيف على المشككين :
وقد
مر معنا آنفا : أن بعض المشككين من أصحاب الأهواء ، حاول الطعن والتشكيك بشخص النبي «صلىاللهعليهوآله» ، واعتبار ما حصل شاهدا على انطواء الشخصية النبوية
على درجة من العصبية للقوم والعشيرة ، تدعوه إلى نقض تعهداته ، أو التقصير في
الوفاء بما يتوقّع من أهل الوفاء .. حيث قال أحدهم لأصحابه : لقد كنت أحدثكم أن لو
استقامت الأمور قد آثر عليكم.
ولكن رد
الأنصار قد جاء حاسما وعنيفا. وهذا هو المتوقع منهم ، فإنهم يعرفون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حق المعرفة ، ولا يظنون به إلا أنه قد قصد بفعله هذا
غاية إصلاحية واستصلاحية لا تبلغ حد إلزامهم بالتخلي عما ظنوا أن لهم الحق في
المطالبة به .. فبادروا إلى الطلب ، فعرفهم النبي «صلىاللهعليهوآله» ما ينبغي لهم أن يعرفوه.
أين أنت من ذلك يا سعد؟! :
واللافت
هنا : أنه حين أخبر
سعد النبي «صلىاللهعليهوآله» بوجد الأنصار ، كان أول ما سأل النبي «صلىاللهعليهوآله» عنه سعدا هو : أن يفصح سعد عن نفسه ، فيحدد موقعه من
هذا الأمر بالنسبة إلى قومه.
وإذ
به يسمع منه إجابة مخيبة للآمال ، حيث قال له سعد : ما أنا إلا امرؤ من قومي.
وقد
أظهرت هذه الإجابة : أن القضية ليست أمرا عابرا ، صنعته يد الجهالة والطيش من شباب أغرار ، لا
تجربة لهم ، بل هي قناعة استقرت في
وعي كثير من عقلاء القوم ورؤسائهم ، حتى لدى سعد بن عبادة زعيم الخزرج ،
فكيف بسائر الناس.
وهذا يحتم
المبادرة إلى علاج القضية بما يتناسب مع حجمها ، مع عقليات مختلفة ، وأهواء
متباينة ، ومستويات لا تلتقي فيما بينها ..
ولأجل ذلك كلف «صلىاللهعليهوآله» سعدا نفسه بجمع قومه ، ولا يكون أحد من غيرهم معهم ،
لأنه يريد أن يحسم الأمر قبل أن يقف أصحاب الأهواء على دقائقه وتفاصيله ، فإن ذلك
ربما يعطيهم الأهواء ، لبث سمومهم ، بطريقة خبيثة ومؤذية ، وهكذا كان.
حوار الرسول صلىاللهعليهوآله مع الأنصار :
وعن
حوار الرسول «صلىاللهعليهوآله» مع
الأنصار نقول :
١ ـ إنه «صلىاللهعليهوآله» لم يشر إلى أي شيء يمكن أن يفسّر على أنه إقرار منه
لهم : بأن لهم حقا من الغنائم قد أخذه منهم. بل هو قد ذكّرهم بما جنوه من فوائد ،
بسبب قبولهم الهداية الإلهية ، وعدّد ذلك عليهم ، حتى جعلهم يشعرون أن مطالبتهم
هذه ذنب يجب عليهم الاستغفار منه .. وقد أكد لهم على صحة هذا الأمر ، حين بادر إلى
الإستغفار لهم ، ولأبنائهم ، ولأبناء أبنائهم.
٢ ـ إنه أراد
بتذكيره لهم بهداية الله تعالى له ، وبسائر النعم ، أن يعالج مشكلة الخطأ لديهم في
المعايير ، وفي تحديد الأهداف ، ومحط الطموحات والآمال ، ومحاور التفكير فيما يريد
الإنسان أن يفكر فيه ، ويخطط للوصول إليه والحصول عليه ..
فنقلهم «صلىاللهعليهوآله» من دائرة التفكير في المصالح الفردية الضيقة ، واللذة
الآنية الزائلة ، ليصلهم بمصدر الفيوضات والهدايات ، وباللامتناهي ، وبالغني القوي
، والمدبر ، والخالق ، والرازق ، والمهيمن ، والباقي .. و.. و..
٣ ـ ولم ينته
الأمر عند هذا الحد بل هو افهمهم أنه يعرف ما يدور بخلدهم تجاهه ، حيث يرون أن لهم
فضلا ومنة عليه «صلىاللهعليهوآله» بإيوائهم ونصرهم له ، وبتصديقهم إياه ، فدفعهم إلى
المقارنة بين ما يرون لأنفسهم فضلا فيه ، وبين ما منّ الله ورسوله به عليهم ،
ليدركوا مدى الإسفاف الذي وقعوا فيه.
ولذلك ارتفعت
أصواتهم بالبكاء ، وقام شيوخهم وساداتهم فقبّلوا يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ورجليه ، وقالوا : رضينا بالله وعنه ، وبرسوله وعنه.
وعرفوا
: أنهم في وهم
كبير ، وأمام أمر خطير يودي بهم إلى المهالك ، لو لا أن تداركهم الله برحمة منه ،
واعترفوا بذنبهم ، وطلبوا من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يستغفر لهم.
الإستغفار للأنصار ، ولأبنائهم :
وقد استغفر
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» للأنصار ، ولأبنائهم ، ولأبناء أبنائهم. مع أن الأنصار
لم يطلبوا منه إلا أن يستغفر لهم ، ولم يذكروا أبنائهم ، ولا أبناء أبنائهم.
ولعله «صلىاللهعليهوآله» أراد
أن يشير إلى : أن هذا التراجع من الأنصار كان صادقا ، ولم يكن قبولا على مضض ، ولا كانت
تشوبه أية شائبة
من الإحساس بالغبن ، ولا صاحبه أي وغر في الصدور ، أو غل في القلوب.
كما
أن هذا الإستغفار للأبناء ، ولأبناء الأبناء ، يعطي : أن التوفيق الذي يناله الإنسان بعمله ، إذا كان صادقا
قد لا يقتصر عليه ، بل يشمل ذريته من أبنائه ، وأبناء أبنائه أيضا. وكذلك الحال
بالنسبة للذنوب والآثام ، فإنها تترك آثارها على الأبناء وأبناء الأبناء.
وإدراك هذه
الحقيقة من شأنه أن يزيد من اندفاع الناس إلى الطاعات ، وعمل الخير ، ونيل
التوفيقات ، والإبتعاد عن المآثم.
الأنصار كرشي وعيبتي :
وقد ألمحت
كلماته «صلىاللهعليهوآله» عن الأنصار إلى أنهم لم تكن لهم سياسة خاصة بهم ، بحيث
تؤثر في طبيعة تعاملهم مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وفي مستوى هذا التعامل ، وحدوده.
بل كانوا مجرد
جماعة من الناس ، يتلقون من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويستفيدون منه ، بمقدار ما تتسع له أفهامهم ، وتنفتح
له عقولهم ، وتنفعل به قلوبهم ومشاعرهم ..
وهذا هو السر
في التعبير النبوي عنهم ب «كرشي وعيبتي» ، حيث يتسع الكرش والعيبة لوضع ما يراد
حفظه. وبذلك يكون الأنصار صادقين في الإنقياد والتسليم لله ولرسوله ..
أما غير
الأنصار فلعل لهم مشاريع تفرض عليهم أن يتعاملوا حتى مع النبي «صلىاللهعليهوآله» ضمن حدود وقيود ، قد تتعارض مع ما أمرهم الله تعالى به
من الطاعة والتسليم لرسوله ، بحيث لا يكون في أنفسهم حرج
مما يقضي به «صلىاللهعليهوآله» لهم أو عليهم.
لماذا أعطى؟ ولماذا منع؟! :
عن
محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي : أن قائلا قال لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» من أصحابه ـ قال محمد بن عمر : هو سعد بن أبي وقاص ـ :
يا رسول الله ، أعطيت عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس مائة (وأضاف في نص آخر : أبا
سفيان ، وسهيل بن عمرو) ، وتركت جعيل بن سراقة الضمري؟!
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أما والذي نفس محمد بيده ، لجعيل بن سراقة خير من
طلاع الأرض كلهم (الصحيح : كلها) مثل عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، ولكني
تألفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» .
وروى
البخاري عن سعد بن أبي وقاص ، قال : أعطى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» رهطا وأنا جالس ، فترك منهم رجلا هو أعجبهم إلي ، فقمت
__________________
فقلت : ما لك عن فلان؟! والله إني لأراه مؤمنا؟!
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أو مسلما».
ذكر ذلك ثلاثا
، وأجابه بمثل ذلك ، ثم قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه ، خشية أن يكبه
الله تعالى في النار على وجهه» .
وروى
البخاري عن عمرو بن تغلب قال : أعطى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قوما ومنع آخرين ، فكأنهم عتبوا عليه ، فقال : «إني
أعطي أقواما أخاف هلعهم وجزعهم ، وأكل أقواما إلى ما جعل الله تعالى في قلوبهم من
الخير والغنى ، منهم عمرو بن تغلب».
قال
عمرو : فما أحببت أن
لي بكلمة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حمر النعم .
__________________
ونقول
:
إننا لا نستطيع
أن نؤيد صحة هذه الروايات ، بل لعلنا نكاد نطمئن إلى عكس ذلك ، فلاحظ ما يلي :
ألف
: بالنسبة لجعيل
بن سراقة نقول :
١ ـ إن جعيل بن
سراقة ، هو الذي قالوا : إن إبليس تصور في صورته يوم أحد .
وابن إسحاق
يقول : جعيل. وغير ابن إسحاق يقول : جعال .
فمن يكون كذلك
كيف يكون بهذه المثابة التي يريدونها له؟!
مع
ملاحظة : أن العبارة
المنسوبة إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» هي : أوكله إلى إسلامه. ولم يقل : إلى إيمانه. وبينهما
فرق واضح.
٢ ـ على أننا
نجد هذا الرجل غير معروف بالدرجة الكافية التي تجعلنا نصدق بصحة مقارنته أو مقارنة
دوره بأبي سفيان ، وعيينة بن حصن ،
__________________
والأقرع بن حابس ، وسهيل بن عمرو ، وغيرهم من ذوي النفوذ الذين كان «صلىاللهعليهوآله» يتألفهم على الإسلام ، دفعا لشرهم ، أو لأجل ما لهم من
تأثير في الناس.
فما معنى أن
يطالب النبي «صلىاللهعليهوآله» بإعطاء جعيل ، أو جعال مثل ما أعطى هؤلاء النفر؟!
٣ ـ بل إن جعيل
بن سراقة كان مسكينا فقيرا ، كشكله من الناس ، كما في بعض الروايات . ولا يقرن أمثاله بالرؤساء في المطالبة بإعطائه مثلهم.
٤ ـ على أن
جعال بن سراقة ، وهو من فقراء المهاجرين قد لطم وجه سنان بن وبرة ، حين ازدحموا
على الماء ، وكادت تكون فتنة ، لو لا أن النبي «صلىاللهعليهوآله» تداركها بحكمته ، حيث يروى : أن ابن أبي قال في هذه
المناسبة : (لَئِنْ رَجَعْنا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) » .
ولعل
المراد ـ لو كان للقضية أصل ـ : أنه حتى جميل بن سراقة ، الذي تشبه به إبليس اللعين ،
كان أفضل من هؤلاء الناس ، لأنه يظهر الإسلام ، ولا يحاربه ، ولا يضرّ به بالمقدار
الذي يضرّ به أبو سفيان ، وعيينة ، والأقرع.
ب
: بالنسبة لحديث
عمرو بن تغلب نقول :
__________________
١ ـ إنه هو
الذي يروي هذا الأمر عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو يتضمن مدحا له ، فهو يجر النار إلى قرصه.
٢ ـ يضاف إلى
ذلك : أن هذه الرواية ونظائرها قد اشتملت على قرائن تدل على أنه يتحدث عن قصة أخرى
غير قصة حنين .. حيث ذكر فيها : أن مالا قد جاء إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقسمه «صلىاللهعليهوآله» على ذلك النحو المشار إليه .
ولم نجد في
النصوص المتوفرة لدينا ما يدل على حصول أمر كهذا في غير غزوة حنين .. فليلاحظ ذلك
..
نتائج قسم غنائم حنين :
في
رواية زرارة عن أبي جعفر «عليهالسلام» ، قال : قال أبو جعفر «عليهالسلام» : فلما كان في قابل جاؤوا بضعف الذي أخذوا ، وأسلم ناس
كثير ، قال : فقام رسول الله «صلىاللهعليهوآله» خطيبا ، فقال : هذا خير أم الذي قلتم؟! قد جاؤوا من
الإبل كذا وكذا ضعف ما أعطيتهم. وقد أسلم لله عالم وناس كثير.
والذي نفس محمد
بيده ، لوددت أن عندي ما أعطي كل إنسان ديته على أن يسلم لله رب العالمين .
__________________
وهذا
معناه : أن نتائج
كبيرة وهامة جدا ترتبت على إعطاء النبي «صلىاللهعليهوآله» الغنائم للمؤلفة قلوبهم في حنين ، وقد تضمن هذا النص
الإشارة إلى بعض تلك الفوائد ، وهي التالية :
١ ـ إن هؤلاء
الذين حصلوا على هذه الأموال ، قد شمروا عن ساعد الجد ، وعملوا على كسر شوكة أهل
الشرك في المحيط الذي يعيشون فيه ، وبذلك يكون الأمن والإسلام قد شملا المنطقة
بأسرها ..
٢ ـ إن هؤلاء
الناس الذين أعطاهم سوف يشعرون : أن عودتهم إلى الشرك أصبحت في غير صالحهم ، كما
أن اللامبالات واعتزال الساحة ، سوف يفوّت عليهم فرصا كبيرة ، طالما حلموا بها ..
٣ ـ إن ما حصل
عليه المسلمون من غنائم بعد حنين كان أضعاف ما قسمه النبي «صلىاللهعليهوآله» في المؤلفة قلوبهم.
٤ ـ إن الفرصة
قد تهيأت لدخول عالم وناس كثير في الإسلام ، حيث أمن الناس غائلة نفس هؤلاء الذين
كانوا يخشون من سطوتهم ، وبطشهم بعد رجوع النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى المدينة ..
إذ إن ما صنعه
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في غنائم حنين ، قد حفز نفس هؤلاء الزعماء الذين
يخشاهم الناس إلى السير في البلاد ودعوة العباد إلى الدخول في دين محمد «صلىاللهعليهوآله» بعد أن كانوا يصدون عنه وعن دينه .. ثم كانوا يسعون في
إخضاع كل المناوئين الذين يسيرون في الإتجاه الآخر ..
وهذا كله من
بركات رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ومن نتائج حسن تقديره للأمور ، ومن روائع وسياسته
الحكيمة.
من هم المؤلفة قلوبهم؟! :
وروي بسند صحيح
، عن أبي جعفر الباقر «عليهالسلام» في المؤلفة قلوبهم قال : هم قوم وحدوا الله عزوجل ، وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله ، وشهدوا أن لا إله
إلا الله ، وأن محمدا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وهم في ذلك شكاك في بعض ما جاء به محمد «صلىاللهعليهوآله» ، فأمر الله عزوجل نبيه «صلىاللهعليهوآله» أن يتألفهم بالمال والعطاء ، لكي يحسن إسلامهم ،
ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه ، وأقروا به .
وفي
حديث آخر عن أبي جعفر «عليهالسلام» قال
: المؤلفة
قلوبهم قوم وحدوا الله ، وخلعوا عبادة [من يعبد] من دون الله ، ولم تدخل المعرفة
قلوبهم : أن محمدا رسول الله.
وكان رسول الله
«عليهالسلام» يتألفهم ، ويعرفهم لكيما يعرفوا ، ويعلمهم .
__________________
وفي
نص ثالث : وهم قوم وحدوا
الله ، وخرجوا من الشرك ، ولم تدخل معرفة محمد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قلوبهم ، وما جاء به ، فتألفهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وتألفهم المؤمنون بعد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لكيما يعرفوا .
ونقول
:
١ ـ إن الحكام
بعد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ألغوا سهم المؤلفة قلوبهم ، ولكن المؤمنين من الناس هم
الذين كانوا يتألفونهم كما ظهر من الرواية المتقدمة.
٢ ـ إن الإمام «عليهالسلام» لا يريد أن يتحدث عن ذلك القسم من الناس الذين اتخذوا
طريق النفاق ، وكانت ثمة حاجة لدفع شرهم ، أو الحدّ من نشاطهم التخريبي ، فيلجمهم
هذا الموقف المواتي منهم على المبادرة على شيء من ذلك خوفا من فوات بعض المنافع ،
التي كانوا يأملون بالحصول عليها في المستقبل ، بعد أن ظهر لهم في حنين أن سلوكهم
الرضي ، والملائم ، قد يحقق لهم مكاسب ثمينة جدا ..
٣ ـ كما أنه «صلىاللهعليهوآله» لا يتحدث عن أولئك الناس الذين يراد أن يعيشوا حياة
السكون والطمأنينة ، وتوقع المكاسب في داخل
__________________
المجتمع الإسلامي ، ويتألفهم ليدفع شرهم عن الكثيرين من المسلمين الذين هم
من أقاربهم ، أو ممن يمكن أن يمارسوا عليهم نفوذا أو ضغوطا قوية تمنعهم من التفاعل
مع هذا الدين ..
الفصل الرابع :
المستفيدون ..
والمعترضون
إعتراض الخارجي :
عن
ابن مسعود ، قال : لما قسم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لنا هوازن يوم حنين وآثر أناسا من أشراف العرب ، قال
رجل من الأنصار : هذه قسمة ما عدل فيها ، وما أريد فيها وجه الله.
فقلت
: والله لأخبرن
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأخبرته ، فتغير وجهه حتى صار كالصرف ، وقال : «فمن
يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ، رحمة الله على موسى ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .
والرجل
المبهم : قال محمد بن
عمر : هو معتب بن قشير.
قصة أخرى :
روى ابن إسحاق
، عن ابن عمرو ، والإمام والشيخان عن جابر ،
__________________
والشيخان والبيهقي عن أبي سعيد : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بينا هو يقسم غنائم هوازن إذ قام إليه رجل ـ قال ابن
عمر وأبو سعيد : من تميم يقال له : ذو الخويصرة (وفي بعض النصوص : طوال آدم : أجنأ
بين عينيه أثر السجود ، فسلم ، ولم يخص النبي «صلىاللهعليهوآله») ، فوقف عليه ، وهو يعطي الناس ، فقال : يا محمد ، قد
رأيت ما صنعت في هذا اليوم.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أجل ، فكيف رأيت»؟
قال
: لم أرك عدلت.
إعدل.
فغضب
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وقال
: «شقيت إن لم أعدل. ويحك ، إذا لم يكن العدل عندي فعند من
يكون»؟
فقال
عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، دعني أقتل هذا المنافق.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ، دعوه
فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ،
ينظر في النصل فلا يوجد فيه شيء ، ثم في القدح فلا يوجد فيه شيء ، ثم في الفوق فلا
يوجد فيه شيء.
وفي
لفظ : ثم ينظر إلى
رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نصيبه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه شيء ، ثم
ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم ، يحقر أحدكم صلاته مع
صلاتهم وصيامه مع صيامهم».
ولفظ
رواية جابر : «إن هذا
وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية ،
آيتهم أن فيهم رجلا أسود ، إحدى
__________________
عضديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر ، يخرجون على حين فرقة من
الناس».
وفي
رواية : «على حين فرقة» .
قال
أبو سعيد : فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه ، وأمر
بذلك الرجل فالتمس حتى أتي به ، حتى نظرت إليه على نعت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الذي نعت .
__________________
وفي
نص آخر : فقال المسلمون
: ألا نقتله يا رسول الله؟!
فقال
: دعوه ، سيكون له أتباع يمرقون من الدين ، كما يمرق السهم
من الرمية ، يقتلهم الله على يد أحب الخلق إليه بعدي.
فقتله أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب «عليهالسلام» في من قتل يوم النهروان من الخوارج .
وروى
سماعة عن أبي عبد الله وأبي الحسن «عليهماالسلام» : أن ذلك الرجل قال للنبي «صلىاللهعليهوآله» : ما عدلت حين قسمت.
فقال
له «صلىاللهعليهوآله» : ويلك ، ما تقول؟! ألا ترى قسمت الشاة حتى لم يبق لي
شاة؟!
أولم أقسم
البقر حتى لم يبق معي بقرة واحدة؟!
__________________
أولم أقسم
الإبل حتى لم يبق معي بعير واحد؟! الخ .. .
ونقول
:
إن لنا مع ما
تقدم العديد من الملاحظات ، والتوضيحات ، نذكر منها ما يلي :
البقر من الغنائم :
وهذا النص
الأخير يشير إلى وجود بقر في جملة الغنائم .. فلا واقع لقول بعضهم : لعل عدم ذكر
عدد البقر كان لأجل عدم اغتنام شيء منه ، لأن تلك القبائل لم تكن تقتني البقر
عادة.
وربما يكون سبب
عدم ذكر أعداد البقر الذي وقع في الغنائم هو عدم معرفة الرواة بعددها ، أو أن قلة
عددها أوجب صرفهم النظر عن ذكرها ..
الخوارج في حديث رسول الله صلىاللهعليهوآله :
هذا .. وقد زخرت كتب الحديث والتاريخ بما روي عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في حق الخوارج ، سواء في ذلك ما قاله يوم حنين ، أو ما
قاله في غيرها ..
وقد
وصفهم «صلىاللهعليهوآله» : بأنهم يقرؤون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من
الدين كما يمرق السهم من الرمية ، هم شر الخلق والخليقة .
__________________
__________________
وفي
بعض الروايات : طوبى لمن قتلهم وقتلوه .
__________________
ووصفهم
في بعضها الآخر : بأنهم كلاب النار .
وصرح
بعضها : بظهور المخدج
، وهو ذو الثدية فيهم .
__________________
وتقدم
أيضا التصريح : بأن عليا «عليهالسلام» هو الذي يقتلهم ، وقد قتلهم بالفعل ..
عمر بن الخطاب هو المبادر دائما :
والمثير
هنا : أننا نجد عمر
بن الخطاب يبادر دائما إلى الإستئذان بقتل هذا ، أو ذاك .. وبقلع أسنان ذلك .. ثم
يواجه رفض النبي «صلىاللهعليهوآله» لطلبه باستمرار ، ويسمعه «صلىاللهعليهوآله» نفس التعليل الذي تقدم ذكره.
وقد أشرنا إلى
ذلك في أواخر غزوة أحد ، فراجعها في هذا الكتاب.
فهل كان عمر بن
الخطاب ينسى ما يقوله له النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله» فيعاود الطلب ، وحتى يتكرر منه ذلك في مناسبات كثيرة ،
فيذكّره النبي «صلىاللهعليهوآله» بالقاعدة التي ينطلق منها؟! أم أن في
__________________
الأمر سرا آخر ، لا يزال خافيا علينا؟!
إننا نرجح هذا
الإحتمال الأخير ، إذ لم نعهد من عمر أنه كان شديد النسيان إلى هذا الحد ، وقد حكم
الناس حوالى عقد من الزمن ، ولم يظهر عليه شيء من ذلك طيلة كل السنين!!
الخوارج يتعمقون في الدين :
وقد
تقدم في بعض الروايات : أن الخوارج يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما خرج السهم من الرمية.
ونقول
:
إن كان المراد
بالتعمق في الدين التشديد فيه حتى يتجاوز الحد ، كما قيل ، وكما يظهر من الرواية عن الرسول الأكرم «صلىاللهعليهوآله» : إياكم والتعمق في الدين ، فإن الله تعالى قد جعله
سهلا ، فخذوا منه ما تطيقون . فعو وإن كان المراد به التدقيق فيه ، وإعمال أفكارهم
وعقولهم ، واستنباط ما لا يصح نسبته إليه ، فقد روي عن أمير المؤمنين «عليهالسلام» : الكفر على أربع دعائم : على التعمق والتنازع والزيغ
والشقاق ، فمن تعمق لم ينب إلى الحق .. .
__________________
وعن
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «ليتعمقن أقوام من هذه الأمة حتى يقول أحدهم : هذا
الله خلقني ، فمن خلقه»؟! .
فالتعمق هو
التكلف الحاصل بما لم يكلّف به الإنسان ، والمبالغة في ذلك من غير برهان ، سواء
أكان الأمر عباديا أم عقيديا.
إن ذالك غير
دقيق ، فقد وصفتهم الروايات عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأوصاف لا تتلاءم مع التعمق في الدين ، فهم : أحداث
الأسنان ، سفهاء ، الأحلام .
__________________
وعن
علي «عليهالسلام» : أنهم أخفاء الهام ، سفهاء الأحلام .
وأنهم
: يقرؤون القرآن
لا يجاوز تراقيهم .
__________________
أو
أنهم : يقرأون القرآن
، ويحسبون أنه لهم وهو عليهم .
__________________
يخرجون على حين فرقة من الناس :
وقد
صرحت الروايات المتقدمة : بأنهم يخرجون على حين فرقة من الناس .
وواضح
: أن وجود
الفرقة بين الناس يكون من دلائل عدم نضجها فكريا ، أو دليل كثرة الطامحين
والطامعين في المواقع والمناصب ، أو في الأموال والمكاسب ..
ولعل هذين
العاملين معا قد أثرا في خروج الخوارج أيضا ، فهم كانوا
__________________
طامحين وطامعين ، كما أن الناس الذين يتعاملون معهم ، كانوا على درجة كبيرة
من الجهل ، والفقر من الناحية الإيمانية ، والفكرية والثقافية ، فيسهل خداعهم
بإظهار الصلاح والعبادة ، والدين والزهادة ، وتزيين الباطل لهم ، واستفزاز مشاعرهم
الساذجة بالشعارات الطنانة والعبارات الرنانة .. حتى لو كانت مخالفة لحقائق الدين
، ومناقضة لاعتقادات ، ولمنطلقات أهل الإيمان واليقين ..
هل الخارجي كان من الأنصار؟! :
إن
البعض ، يريد أن يعتبر : أن هناك أكثر من حادثة جرت لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، مع الذي كان يحمل فكرة الخوارج وهو يقول : إن رواية
ابن مسعود تتحدث عن رجل أنصاري ، اسمه معتب بن بشير ، والروايات الأخرى تتحدث عن
رجل تميمي ، هو المخدج وذو الثدية ، ولم يكن أنصاريا ..
فيرد
عليه :
أن هذا يؤيد ما
نذهب إليه من أن الصحابة فيهم الأخيار وغيرهم كما صرح به القرآن الكريم .. لكن
أتباع المذاهب الأخرى ينكرون ذلك ، ويدّعون لهم العدالة التامة ، والإيمان الصحيح
.. خصوصا البدريين منهم.
كما
أنهم يقولون : إن معتب بن قشير ، قد شهد بدرا وأحد والعقبة ،
__________________
فكيف يصح نسبة هذا الأمر الموجب للحكم بنفاقة إليه ، وهم ينزهون أهل بدر عن
نسبة النفاق إليهم؟!
وأما احتمال أن
يكون تميميا أنصاريا ، فهو أبعد ، وأبعد. فإن الأنصار هم أهل
المدينة الذين عاشوا مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولم يكن بنو تميم من أهلها ..
الإغترار بالظواهر :
وقد أشار النبي
«صلىاللهعليهوآله» في بيانه لحال ذي الخويصرة وأصحابه إلى : أن الناس
يحقرون صلاتهم ، مع صلاتهم ، وصيامهم مع صيامهم ..
ولكن
واقع هؤلاء هو : أنهم ليسوا من الدين في شيء ، بل هم قد خرجوا منه خروج السهم في الرمية.
وهذا يؤكد
حقيقة هامة ، وهي أن على الناس أن لا يغتروا بالمظاهر ، وأن يبحثوا عن واقع وحقيقة
الإيمان لدى الأشخاص ..
كما
أنه يعطي : أن على الإنسان المسلم أن يمتلك المعايير الصحيحة ، ويعتمدها في التقييم ،
واتخاذ المواقف ، وإصدار الأحكام.
__________________
وبذلك يصبح
التدقيق في صحة المعايير المعتمدة ضرورة لا بد منها لكل مسلم ، لكي لا يقع في
المآزق ، بسبب اعتماده معايير غير واقعية ..
كما
أن هذه الحادثة قد أظهرت : أن التسليم المطلق لله ولرسوله ، وحقيقة الإعتقاد في
الرسول ، وفي صفاته وميزاته ، وكيفية التعاطي معه ، وطبيعة النظرة إليه ، هي من
تلك المعايير الصحيحة التي لا مجال للإغماض عنها في تقييم الآخرين ، ومعرفة مدى
انسجامهم مع الأهداف الإلهية ، وسلوكهم طريق السداد والرشاد في حياتهم بصورة عامة.
لا يتحدث الناس : أني أقتل أصحابي :
وقد
أظهر قوله «صلىاللهعليهوآله» : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي .. أحد
المرتكزات الهامة في سياسة الرسول «صلىاللهعليهوآله» للناس ، حيث إن مصلحة الإسلام العليا تقضي بالرفق بهم
، وغمض العين عن كل هفوة تصدر عنهم ، إذا كان المستهدف بها شخص الرسول الكريم «صلىاللهعليهوآله» ، لأن أكثر الناس ، سواء في ذلك الذين يعيشون في زمنه «صلىاللهعليهوآله» أو الذين يأتون بعده ، سيكونون في معرض الخطر الشديد
والأكيد في اعتقاداتهم ، حين يطرح أهل الأهواء هذه القضايا لهم من زاوية أنها
قضايا شخصية ، وأن منطلقات النبي «صلىاللهعليهوآله» فيها ودوافعه لا تختلف عن دوافع ومنطلقات سائر الحكام
وملوك أهل الدنيا ، الذين ديدنهم البطش بمن يحوم حول أشخاصهم في أية كلمة أو موقف.
وربما
يصورون لهم : أن التشريع الذي يحمي شخصية الرسول من أي
ظن أو تهمة ، قد تضمن قدرا من المحاباة لشخصه «صلىاللهعليهوآله» ..
وبذلك تحدث
ثغرة خطيرة في الجدار الإعتقادي الذي يفترض أن يكون هو الأقوى ، والأكثر صلابة
وقدرة على مقاومة الشبهات المضعفة للإعتقاد بحقيقة النبوة وميزاتها وخصائصها ..
فكان أن أعطى الله لرسوله الكريم «صلىاللهعليهوآله» فسحة في هذا المجال ، رفقا منه تبارك وتعالى بالناس ،
وصيانة لإيمانهم ، وأوكل أمر وعي التشريع ، وبلورة حقائقه في وجدان الناس إلى حقب
لا حقة ، تتلاشى فيها جميع مبررات هذا الفهم الخاطئ.
إقطع لسانه :
قالوا
: كان «صلىاللهعليهوآله» قد أعطى العباس بن مرداس أربعا (وقيل أربعين ) من الإبل يوم حنين ، فسخطها ، وأنشد يقول :
أتجعل نهبي
ونهب العبيد
|
|
بين عيينة
والأقرع
|
فما كان حصن
ولا حابس
|
|
يفوقان شيخي
في المجمع
|
وما كان (كنت)
دون امرئ منهما
|
|
ومن تضع
اليوم لا يرفع
|
فبلغ
النبي «صلىاللهعليهوآله» ذلك
، فاستحضره ، وقال له : أنت القائل :
أتجعل نهبي
ونهب العبيد
|
|
بين عيينة
والأقرع
|
__________________
فقال
له أبو بكر : بأبي أنت وأمي ، لست بشاعر.
قال
: وكيف؟!
قال
: قال : بين
عيينة والأقرع.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لأمير المؤمنين «عليهالسلام» : «قم ـ يا علي ـ إليه ، فاقطع لسانه».
قال
: فقال العباس
بن مرداس : فو الله ، لهذه الكلمة كانت أشد علىّ من يوم خثعم ، حين أتونا في
ديارنا.
فأخذ بيدي علي
بن أبي طالب ، فانطلق بي ، ولو أرى أحدا يخلصني منه لدعوته ، فقلت : يا علي ، إنك
لقاطع لساني؟!
قال
: إني لممض فيك
ما أمرت.
قال
: ثم مضى بي ،
فقلت : يا علي ، إنك لقاطع لساني.
قال
: إني لممض فيك
ما أمرت ، فما زال بي حتى أدخلني الحظائر ، فقال لي : اعتد ما بين أربع إلى مائة.
قال
: قلت : بأبي
أنتم وأمي ، ما أكرمكم ، وأحلمكم ، وأعلمكم!!
قال
: فقال : إن
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أعطاك أربعا ، وجعلك مع المهاجرين. فإن شئت فخذ المائة
، وكن مع أهل المائة.
قال
: قلت : أشر
علي.
قال
: فإني آمرك أن
تأخذ ما أعطاك ، وترضى.
قلت
: فإني أفعل .
__________________
وذكروا
في توضيح ما جرى : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لما قال : اقطعوا عني لسانه ، قام عمر بن الخطاب ،
فأهوى إلى شفرة كانت في وسطه ليسلها ، فيقطع بها لسانه.
فقال
النبي «صلىاللهعليهوآله» لأمير
المؤمنين «عليهالسلام» : قم أنت فاقطع لسانه ، أو كما قال .
وفي
نص آخر : فقال أبو بكر
: بأبي أنت وأمي ، لم يقل كذلك ، ولا والله ما أنت بشاعر ، وما ينبغي لك ، وما أنت
براوية.
قال
: فكيف قال؟
فأنشده أبو
بكر.
فقال
النبي «صلىاللهعليهوآله» : اقطعوا عني لسانه.
ففزع
منها ناس ، وقالوا : أمر بالعباس بن مرداس أن يمثل به ، وإنما أراد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بقوله : اقطعوا عني لسانه ، أي يقطعوه بالعطية من
الشاء والغنم .
__________________
وقد
ذكروا كذلك : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أرسل إليه بحلة .
وفي
رواية : فأتم له رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ماءة .
والظاهر
: أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أعطاه ذلك مكافأة له ، لقبوله ما عرضه عليه أمير
المؤمنين علي «عليهالسلام».
ونقول
:
إن
لنا هنا بيانات عديدة ، نذكر منها :
قول النبي صلىاللهعليهوآله هو الأولى والأفصح :
ذكر
السهيلي : أن تقديم
النبي «صلىاللهعليهوآله» للأقرع على عيينة بالذكر كان مقصودا ، وهو الأفصح
لسببين :
أحدهما
: أنه مقدم
عليه في الرتبة ، لأنه من خندف ، ثم من تميم ، فهو أقرب إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» من عيينة.
__________________
الثاني
: أن الأقرع قد
حسن إسلامه. أما عينية ، فلم يزل معدودا في أهل الجفاء ، حتى ارتد وآمن بطلحة ،
وأخذ أسيرا ، فجعل الصبيان يقولون له : ويحك يا عدو الله ، ارتددت بعد إيمانك.
فيقول
: والله ما كنت
آمنت.
ثم أسلم في
الظاهر ، ولم يزل جافيا أحمق حتى مات.
وقد
سماه النبي «صلىاللهعليهوآله» : الأحمق المطاع.
وقد
نزل به عمرو بن معد يكرب ضيفا ، فعرض عليه الخمر ، فقال : أليست محرمة في القرآن؟!
فقال
عينية : إنما قال :
فهل أنتم منتهون؟
فقلنا
نحن : لا. فشربا .
من المأمور بقطع لسان ابن مرداس؟! :
وزعمت
بعض المرويات : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال لأبي بكر : «اقطع لسانه عني ، واعطه مائة» .
وهو كلام غير صحيح لأكثر من سبب :
فأولا
: إنهم ذكروا :
أن العباس بن مرداس توهم : أنه يريد قطع لسانه بالفعل ،
__________________
وظن ذلك ناس آخرون أيضا . فلو كان «صلىاللهعليهوآله» قد أمره بأن يعطيه مائة من الإبل ، فلما ذا يتوهم هو ،
ويتوهم غيره بأنه قد أمر بقطع لسانه على الحقيقة؟!
ثانيا
: إذا كان النبي
«صلىاللهعليهوآله» يرى : أن أبا بكر لم يستطع أن يميز بين ما هو أفصح من
القول ، وهو ما اختاره النبي «صلىاللهعليهوآله» في التعبير عن مقاصده ، فهل يأمن عليه أن يخطئ في فهم
قوله : «اقطع عني لسانه» ، فيبادر إلى قطع لسانه على الحقيقة؟!
ثالثا
: إن وحدة الحال
التي كانت قائمة بين أبي بكر وبين عمر بن الخطاب لربما تدعوه إلى أن يفسح المجال
لرفيقه وصديقه عمر بن الخطاب لكي يبادر إلى قطع لسان الرجل بشفرته التي أهوى إليها
ليسلها من وسطه .. ولسوف لن ينفع الأسف والندم بعد ذلك ..
إخافة الناس حرام :
ولا
شك في : أنه لا يجوز
لأحد أن يخيف أحدا بلا سبب يرضاه الله تعالى ..
فكيف يمكن
تفسير إقدام النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وعلي أمير المؤمنين «عليهالسلام» على إخافة عباس بن مرداس. حتى إن كلمة الرسول «صلىاللهعليهوآله» كانت أشد عليه من يوم خثعم حين أتوهم في ديارهم؟!
بل إن عليا «عليهالسلام» قد أمعن في ذلك حين سأله عباس بن
__________________
مرداس مرتين عن هذا الأمر ، فأكده له بقوله : إني ممض فيك ما أمرت!!
ونجيب
:
أولا
: إن المحرّم هو
: المبادرة إلى فعل أمر من شأنه أن يخيف الناس ، أما لو فعل الإنسان ما هو حلال له
، فتوهم متوهم ووقع في الخوف ، بسبب قلة تدبره ، أو لأجل أنه سمع الكلام بصورة
خاطئة ، أو فسره بطريقة خاطئة ، فلا يدخل هذا في دائرة الحرام ، بل إن على ذلك
المتوهم نفسه ، أن يفهم الأمر بصورة صحيحة أو أن يدقق فيما يسمعه ، ويتدبر فيه.
وما نحن فيه من
هذا القبيل ، فإن عباس بن مرداس لم يحسن فهم الكلام الذي سمعه .. لا استفادة من
الضوابط التي تعينه على فهم المقاصد بصورة صحيحة. فهو الذي أوقع نفسه في هذا الخوف
بلا مبرر.
ثانيا
: إن المطلوب من
المتكلم هو : أن يفهم مقاصده لمن يوجه إليه خطابه بالكلام تارة ، وبالإشارة أخرى ،
بالطريقة التي يعرف أنه يفهمها ، ولا يقع في الإشتباه فيها ، وربما تكون هناك لغة
، أو رموز ، ومصطلحات خاصة بهما ، لا يعرفها غيرهما ..
ولا يطلب منه
أن يفهم الآخرين شيئا من ذلك ، فقد يفهمون منه شيئا ، وقد يعجزون ..
بل قد يكون عدم
إفهام من حوله لمقاصده ، وتعمية الأمور عليهم مقصودا له أيضا .. فإن أخطأوا في
الفهم ، فهو لا يتحمل أية مسؤولية تجاههم ، لأنه لم يوجه الخطاب إليهم ..
وهذا هو حال
عباس بن مرداس ، فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يوجه إليه خطابا ، بل وجه الخطاب لعلي «عليهالسلام».
ولأجل
ذلك نلاحظ : أنه لما سأل عباس بن مرداس عليا «عليهالسلام» : إن كان سينفذ أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟ أجابه «عليهالسلام» بالإيجاب ، ولم يزد على ذلك.
وقد كان جوابه
دقيقا ، لا يتضمن تخويفا ولا تطمينا أيضا .. لكي تحصل المفاجأة لابن مرداس ،
وينقلب الخوف والغم والهم سعادة وفرحا وابتهاجا ، وشعورا بالإمتنان لله ولرسوله ..
مشورة علي عليهالسلام على ابن مرداس :
وتأتي نصيحة
أمير المؤمنين «عليهالسلام» لابن مرداس لتكون إسهاما في تكامل هذا الرجل روحيا ،
وتعميق شعوره بالكرامة وبالقيمة الإنسانية ، وليصبح معيار الربح والخسارة عنده ليس
هو الحصول على الأموال ، والمناصب ، بل هو الحصول على الميزات الروحية والإيمانية
، والسابقة في الدين ، والتحلي بالشيم والميزات الإنسانية.
وقد رسمت مشورة
علي «عليهالسلام» لابن مرداس حدودا أظهرت له : أن ثمة نوعان من الناس ،
هم :
أهل الهجرة
والسابقة ، والجهاد ، والتضحية بالمال ، والنفس ، والولد ، والتخلي عن الأوطان ،
وعن الأهل والعشيرة من أجل دينهم ، وحفظ إيمانهم.
ويقابلهم
: أهل الطمع
وطلاب الدنيا ، الذين يقيسون الأمور بالأرقام والأعداد.
وقد جاء رسم
هذه الحدود له في نفس اللحظة التي انفتحت فيها بصيرته على معنى القيمة ، حين ساقته
تحولات الأمور معه إلى أن يلهج بالقول :
«بأبي أنتم
وأمي ، ما أكرمكم ، وأحلمكم ، وأعلمكم ..»!!
فوجد نفسه أمام
كرم لا يضاهى ، وتجلى بهذا العطاء الجليل ..
وأمام حلم لا
يجارى ، حيث اعترض على من دانت له العرب ، ولم تقصر همته عن مناهضة العجم ، ولم
يجد إلا الخلق الرضى ، وإلا السماح ، والسماحة ، والحلم والنبل ، وكمال الرصانة
والعقل ، والعفو ، والعدل ..
فقد استدعاه
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وسأله سؤالا واحدا ، ولم ينتظر منه جوابا ، بل بادر
إلى اتخاذ القرار الحاسم بحقه.
ولكنه لم يكن
قرار ملك أو جبار ، بل كان قرار الرحمة والرضا ، والكرم ، والحلم.
ووجد نفسه كذلك
أمام علم لا يوصف ، اضطره إلى البخوع والتسليم ، وطلب المشورة من علي «عليهالسلام» بالذات ، فجاءته مشورته الصادقة ، فلم يجد حرجا من
العمل والإلتزام بها ..
شفرة عمر ، وخلافة النبي صلىاللهعليهوآله :
قد
رأينا : أن عمر بن
الخطاب قد أخطأ في فهم أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في حق عباس بن مرداس ، ولو فسح له المجال لارتكب جريمة
كبرى في حق ذلك الرجل المسكين ، مع أن ما نطق به «صلىاللهعليهوآله» لا يعدو كونه كلاما عربيا فصيحا واضحا ، ولم يتكلم
باللغة الهندية ، ولا السنسكريتية.
وقد بادر عمر
إلى سلّ شفرته من وسطه ، رغم أن الأمر لم يوجه إليه ، ولا طلب منه شيء مما يهم
بالأقدام عليه .. ولو لا أن النبي «صلى الله عليه
وآله» تدارك الأمر ، وخص عليا «عليهالسلام» بالتكليف بإنجاز المهمة ، لحلت المصيبة بالرجل ..
واللافت
: أن النبي «صلىاللهعليهوآله» في كلامه ، لم يعدّل ولم يقدّم لعلي «عليهالسلام» أية توضيحات ، بل اكتفى بنفس الكلام الصادر عنه أولا ،
فذهب علي «عليهالسلام» بالرجل ، وأنجز المهمة ، ولم يكن النبي «صلىاللهعليهوآله» معهما ، ليأخذ على يد علي «عليهالسلام» لو أخطأ في فهم ما طلب منه ..
وهذا
يدل على : ثقة النبي «صلىاللهعليهوآله» بفهم أمير المؤمنين «عليهالسلام» لمقاصده ، ومراميه .. رغم ظهور خطأ غيره في فهمها ..
إذن
.. فمن أولى
بخلافة النبي «صلىاللهعليهوآله» من بعده؟!
هل هذا العالم
بمقاصد النبي «صلىاللهعليهوآله» ، أم غيره؟!
فإن كان «عليهالسلام» قد عرف بمراد النبي «صلىاللهعليهوآله» من خلال فهمه لمقاصد اللغة ، وضوابطها ، فذلك يحتم
استخلافه هو ، دون ذلك الذي يخطئ في فهم لغة العرب ، ولا يعرف مراميها ، وأساليبها
، وضوابطها ..
وإن كان قد عرف
ذلك من خلال إسرار الرسول «صلىاللهعليهوآله» إليه بمقاصده ، ولم يسرّ بذلك إلى غيره ، فمن يكون
موضع سر النبي «صلىاللهعليهوآله» يكون هو الأولى بخلافته من بعده ..
على
أن ثمة أمرا آخر يحسن لفت التنبه إليه ، وهو : أنه إذا كان عمر يخطئ في فهم هذا الكلام العربي المبين
، أو يعجز عن فهمه ، فما بالك بدقائق المعاني القرآنية ، والمفاهيم والحقائق
العالية التي بينها رسول الله «صلىاللهعليهوآله». مما يحتاج إلى المزيد من التأمل والتدقيق ، والبحث
والتحقيق؟!
ونفس هذا
الكلام ينسحب على أبي بكر ، الذي لم يستطع التمييز بين الأفصح وغيره ، حتى جاء
السهيلي أو غيره ليوضح له الفرق بين كلام ابن مرداس ، وكلام الرسول الأعظم «صلىاللهعليهوآله»!!.
طمع حكيم بن حزام :
عن
حكيم بن حزام قال : سألت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بحنين مائة من الإبل ، فأعطانيها.
ثم سألته مائة
من الإبل فأعطانيها.
ثم
قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : يا حكيم ، إن هذا المال حلوة خضرة ، فمن أخذه بسخاوة
نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ، وكان كالذي يأكل ولا
يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول.
فقال
: والذي بعثك
بالحق ، لا أرزأ أحدا بعدك شيئا.
فكان عمر بن
الخطاب يدعوه إلى عطائه ، فيأبى أن يأخذه ، فيقول عمر : أيها الناس ، أشهدكم على
حكيم بن حزام ، أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه .
نعم .. هكذا يتأنقون في صياغة الفضائل للمؤلفة قلوبهم ، حتى
من هو مثل حكيم بن حزام ، الرجل الذي لم يف بما وعد به رسول الله «صلى الله
__________________
عليه وآله» ، من أنه سوف لا يرزأ أحدا بعده شيئا ، فإنه صار يصادر أرزاق
الناس ، ويحتكر جميع الطعام الذي يدخل المدينة ، حتى في عهد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
وقد
بلغ الأمر إلى حد : «أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لم يأذن لحكيم بن حزام في تجارته حتى ضمن له إقالة
النادم ، وإنظار المعسر ، وأخذ الحق وافيا وغير واف» .
وكل ذلك يدلك
على نضوب العاطفة الإنسانية لدى هذا الرجل ، وعلى الجفاف الروحي ، وانعدام الرحمة
في قلبه.
ولكن لا بد من
منحه الأوسمة الفخمة ، لأنه كان عثمانيا متصلبا ، وقد
__________________
تلكأ عن بيعة علي «عليهالسلام» .
وقد جاء كلام
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لحكيم ، بعد أن ظهر لكل أحد مدى اهتمامه بالمال ، من
خلال طلباته المتكررة ، الهادفة للإستئثار لنفسه بمال كان يمكن أن يشاركه فيه
الكثيرون من الفقراء والمعدمين.
ومهما
يكن من أمر ، فإن هذا الرجل كان من المؤلفة قلوبهم ، وقد أسلم عام الفتح ، وكان له
قبل ذلك دور ظاهر في تأييد مسيرة الشرك في مكة .. بصورة عامة.
يعطي صفوان بن أمية فيصير محبا :
عن
صفوان قال : ما زال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يعطيني من غنائم حنين ، وهو أبغض الخلق إلي ، حتى ما
خلق الله تعالى شيئا هو أحب إلي منه .
وفي
صحيح مسلم : أنه «صلىاللهعليهوآله» أعطاه مائة من الغنم ، ثم مائة ، ثم مائة .
__________________
ويقال
: إن صفوان طاف
مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يتصفح الغنائم ، إذ مر بشعب مملوء إبلا مما أفاء الله
به على رسوله «صلىاللهعليهوآله» ، فيه غنم وإبل ، ورعاؤها مملوء ، فأعجب صفوان ، وجعل
ينظر إليه.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب؟
قال
: نعم.
قال : هو لك بما فيه.
فقال
صفوان : أشهد أنك
رسول الله ، ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نبي .
ونقول :
لقد ظهرت
معجزات كثيرة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ووضحت دلائله لكل أحد ، ولم يزل يتوالى ظهورها لهم ـ وصفوان
منهم ـ منذ أكثر من عشرين سنة.
ومن
معجزاته ودلائله «صلىاللهعليهوآله» : القرآن العظيم ، وكثير من المعجزات الحسية ، مثل :
شق القمر ، وتسبيح الحصى بين يديه ، ونبع الماء من بين أصابعه وطاعة الجمادات له.
ومنها
أيضا : إخباره
بالغائبات ، وانتصاره على المشركين ، وتأييد الله له في بدر ، وفي أحد ، والخندق ،
وخيبر ، حتى إن وصيه يقتلع باب أحد حصونها بيد
__________________
واحدة .. وغير ذلك ..
وكل ذلك لا
يدعو صفوان بن أمية للإيمان ، ولا يفتح بصره وبصيرته على الحق ، كما لا تقنعه
البراهين ، والحجج العقلية والفطرية وسواها : بأن محمدا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. ويقنعه فقط : أن يعطيه «صلىاللهعليهوآله» هذا المقدار من الإبل ، فيرى فيه دلالة على النبوة ،
والإرتباط بالله تبارك وتعالى ..
فتبارك الله
أحسن الخالقين!!.
الفصل الخامس :
نهايات السفر الطويل
.. إلى المدينة
حصيلة مجموعة عن المؤلفة قلوبهم :
ويقولون
: إنه «صلىاللهعليهوآله» أعطى اثني عشر رجلا مائة من الإبل ، وهم : أبو سفيان
بن حرب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث بن كلدة
العبدري ، والحارث بن هشام بن المغيرة ، وسهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية ، وحويطب
بن عبد العزى ، والعلاء بن حارثة الثقفي ، ومالك بن عوف ، وعيينة بن حصن ، والأقرع
بن حابس. وأعطى الباقين ما دون ذلك .
وقال
الصالحي الشامي ما ملخصه :
قال
ابن إسحاق : أعطى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المؤلفة قلوبهم ، وكانوا أشرافا من أشراف العرب ،
يتألفهم ، ويتألف بهم قومهم.
قال
محمد بن عمر ، وابن سعد : بدأ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالأموال فقسمها ، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس.
قلت
: فمنهم من
أعطاه مائة بعير وأكثر ، ومنهم من أعطاه خمسين ، وجميع ذلك يزيد على الخمسين ، وقد
ذكرهم أبو الفرج ابن الجوزي في التلقيح ، وابن
__________________
طاهر في مبهماته ، والحافظ في الفتح ، والبرهان الحلبي في النور ، وهو
أحسنهم سياقا ، وأكثرهم عددا. وعند كل منهم ما ليس عند الآخر ، ولم يتعرض أحد منهم
لما أعطى كل واحد ، وقد تعرض محمد بن عمر ، وابن سعد ، وابن إسحاق لبعض ذلك ، كما
سأنبه عليه ، وهم :
أبي ، وهو
الأخنس بن شريق.
أحيحة بن أمية.
أسيد بن جارية
الثقفي ، أعطاه مائة.
الأقرع بن حابس
التميمي ، أعطاه مائة.
جبير بن مطعم.
الجد بن قيس
السهميّ ، كذا أورده التلقيح ، ولم يذكره الحافظ في الفتح ولا في الإصابة ، وإنما
ذكره فيهما الجدّ بن قيس الأنصاري ، ولم يتعرض لكونه من المؤلفة. ولم يذكر في
النور أنه سهمي ، أو أنصاري. فإن صح أنه سهمي فهو وارد على الإصابة.
الحارث بن
الحرث بن كلدة أعطاه مائة.
الحارث بن هشام
بن المغيرة المخزومي ، أعطاه مائة.
حاطب بن عبد
العزى العامري.
حرملة بن هوذة
بن ربيعة بن عمرو بن عامر العامري.
حكيم بن حزام
بن خويلد ، أعطاه مائة ، ثم سأله مائة أخرى ، فأعطاه إياها.
قال
ابن أبي الزناد : أخذ حكيم المائة الأولى فقط وترك الباقي.
حكيم بن طليق
بن سفيان.
حويطب بن عبد
العزى القرشي العامري ، أعطاه مائة.
خالد بن أسيد
بن أبي العيص بن أمية.
خالد بن قيس
السهمي.
خالد بن هوذة
بن ربيعة بن عامر العامري.
خلف بن هشام ،
نقله في النور عن بعض مشايخه عن الصغاني ، ثم قال في النور : أنا لا أعرفه في
الصحابة.
قلت
: لم يذكره
الذهبي في التجريد ، ولا الحافظ في الإصابة ، فإن صح فهو وارد عليه.
وذكر
في العيون : رقيم بن
ثابت بن ثعلبة ، وتقدم : أنه استشهد بحنين ، والله أعلم.
زهير بن أبي
أمية بن المغيرة ، أخو أم المؤمنين أم سلمة.
زيد الخيل بن
مهلهل الطائي ، عزاه في الفتح لتلقيح ابن الجوزي ، ولم أجده في نسختين.
السائب بن أبي
السائب.
صيفي بن عائذ
المخزومي.
سعيد بن يربوع
بن عنكثة ، أعطاه خمسين.
سفيان بن عبد
الأسد المخزومي.
سهل بن عمرو بن
عبد شمس العامري.
وأخوه سهيل بن
عمرو ، أعطاه مائة.
شيبة بن عثمان
القرشي العبدري.
صفوان بن أمية
الجمحي ، أعطاه مائة.
طليق بن سفيان
والد حكيم السابق.
العباس بن
مرداس.
قال
ابن إسحاق : أعطاه أباعر ، وقال محمد بن عمر ، وابن سعد : أربعا من الإبل ، فسخطها ..
وستأتي قصته ..
عبد الرحمن بن
يربوع الثقفي.
عثمان بن وهب
المخزومي. أعطاه خمسين.
عدي بن قيس بن
حذافة السهمي. أعطاه خمسين.
عكرمة بن عامر
العبدري.
عكرمة بن أبي
جهل.
عمرو بن هشام ،
نقله في النور عن بعض مشايخه ، عن ابن التين.
علقمة بن علاثة
بن عوف.
عمرو بن
الأهتم.
عمرو بن بعكك ،
أبو السنابل.
عمرو بن مرداس
السلمي أخو عباس.
عمير بن وهب
الجمحي ، أعطاه خمسين.
العلاء بن
جارية الثقفي أعطاه خمسين. وقال ابن إسحاق : مائة.
عيينة بن حصن
الفزاري ، أعطاه مائة.
قيس بن عدي
السهمي ، أعطاه مائة. كذا ذكره ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر. وقال بعضهم : صوابه عدي
بن قيس ـ على العكس ـ وقال الحافظ :
هما واحد فانقلب؟
أم اثنان؟
قلت
: وهو الظن ،
لاتفاق ابن إسحاق والواقدي على ذلك.
قيس بن مخرمة
بن المطب بن عبد مناف.
كعب بن الأخنس.
نقله في النور عن بعض مشايخه ، ثم قال : ولا أعرفه أنا.
قلت
: لا ذكر له في
التجريد ، ولا في الإصابة.
لبيد بن ربيعة
العامري.
مالك بن عوف النصرى
، رأس هوازن ، أعطاه مائة.
مخرمة بن نوفل
الزهري ، أعطاه خمسين.
مطيع بن الأسود
القرشي العدوي.
معاوية بن أبي
سفيان.
أبو سفيان صخر
بن حرب ، أعطاه مائة من الإبل ، وأربعين أوقية فضة.
المغيرة بن
الحارث ، أبو سفيان القرشي الهاشمي.
النضير بن
الحرث بن علقمة ، أعطاه مائة من الإبل.
نوفل بن معاوية
الكناني.
هشام بن عمرو
القرشي العامري ، أعطاه خمسين.
هشام بن الوليد
المخزومي.
يزيد بن أبي
سفيان صخر بن حرب ، أعطاه مائة بعير وأربعين أوقية.
أبو الجهم بن
حذيفة بن غانم القرشي العدوي.
أبو السنابل ،
اسمه عمرو ، تقدم.
فهؤلاء بضع
وخمسون رجلا .
__________________
وكان أبو سفيان
هو الذي طلب إعطاء ولديه ، معاوية ويزيد. فلما أعطاهما «صلىاللهعليهوآله» ، قال أبو سفيان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لأنت
كريم في الحرب والسلم.
أو
قال : لقد حاربتك
فنعم المحارب كنت ، وقد سالمتك فنعم المسالم أنت. هذا غاية الكرم ، جزاك الله
خيرا.
قالوا
: ثم أمر رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» زيد بن ثابت بإحضار الناس والغنائم ، ثم فضها على
الناس فكانت سهامهم ، لكل رجل أربع من الإبل ، أو أربعون شاة ، فإن كان فارسا أخذ
اثنتي عشرة من الإبل ، أو عشرين ومائة شاة ، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم
له .
إستفادات نعرضها ، ولا نتعرض لها :
ونقول
:
لقد
حاول بعضهم تسجيل بعض الإستفادات هنا ، نذكر منها ما يلي :
١ ـ لما منع
الله سبحانه وتعالى الجيش غنائم مكة ، فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ، ولا متاعا ،
ولا سبيا ، ولا أرضا. وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب ، وهم عشرة آلاف ،
وفيهم حاجة إلى ما يحتاجه الجيش من أسباب القوة ، حرك الله سبحانه وتعالى قلوب
المشركين في هوازن لحربهم ، وقذف في قلب كبيرهم مالك بن عوف إخراج أموالهم ،
ونعمهم ، وشابهم وشيبهم معهم ، نزلا وكرامة ، وضيافة لحرب الله تعالى وجنده ، وتمم
تقديره تعالى بأن
__________________
أطمعهم في الظفر ، وألاح لهم مبادئ النصر ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ولو لم يقذف
الله تعالى في قلب رئيسهم مالك بن عوف أن سوقهم معهم هو الصواب لكان الرأي ما أشار
به دريد ، فخالفه ، فكان ذلك سببا لتصييرهم غنيمة للمسلمين.
فلما أنزل الله
تعالى نصره على رسوله وأوليائه ، وردّت الغنائم لأهلها ، وجرت فيها سهام الله
تعالى ورسوله ، قيل : لا حاجة لنا في دمائكم ، ولا في نسائكم وذراريكم ، فأوحى
الله تعالى إلى قلوبهم التوبة فجاؤوا مسلمين.
فقيل
: من شكران إسلامكم
وإتيانكم أن ترد عليكم نساؤكم وأبناؤكم وسبيكم ، و (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ
فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
٢ ـ اقتضت حكمة
الله تعالى : أن غنائم الكفار لما حصلت قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه ، من
الطبع البشرى من محبة المال ، فقسمه فيهم لتطمئن قلوبهم ، وتجتمع على محبته ،
لأنها جبلت على حب من أحسن إليها ، ومنع أهل الجهاد من كبار المجاهدين ، ورؤساء
الأنصار ، مع ظهور استحقاقهم لجميعها ، لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصورا عليهم ،
بخلاف قسمه على المؤلفة ، لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي
رئيسهم ، فلما كان ذلك العطاء سببا لدخولهم في الإسلام ، ولتقوية قلب من دخل إليه
قبل ، تبعهم من دونهم في الدخول ، فكان ذلك مصلحة عظيمة.
٣ ـ ما وقع في
قصة الأنصار ، اعتذر رؤساؤهم بأن ذلك من بعض
__________________
أتباعهم وأحداثهم ، ولما شرح لهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنعوا رجعوا مذعنين ،
وعلموا : أن الغنيمة الحقيقية هي ما حصل لهم من عود رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى بلادهم.
فسلوا عن الشاة
والبعير والسبايا بما حازوه من الفوز العظيم ، ومجاورة النبي الكريم حيا وميتا ،
وهذا دأب الحكيم يعطي كل أحد ما يناسبه.
٤ ـ رتب رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ما منّ الله تعالى به على الأنصار على يديه من النعم
ترتيبا بالغا ، فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازنها شيء من أمور الدنيا ، وثنى
بنعمة الأمان ، وهي أعظم من نعمة المال ، لأن الأموال قد تبذل في تحصيلها وقد لا
تحصل ، فقد كانت الأنصار في غاية التنافر والتقاطع ، لما وقع بينهم من حرب بعاث
وغيرها ، فزال ذلك بالإسلام كما قال تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ) .
٥ ـ قوله «صلىاللهعليهوآله» : «لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار».
قال
الخطابي : أراد بهذا
الكلام : تأليف الأنصار ، واستطابة نفوسهم ، والثناء عليهم في دينهم ، حتى رضي أن
يكون واحدا منهم لو لا ما منعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها.
ونسبة
الإنسان تقع على وجوه : الولادة ، والإعتقادية ، والبلادية ، والصناعية ، ولا شك أنه لم يرد
الإنتقال عن نسب آبائه ، لأنه ممتنع قطعا ، وأما الإعتقادي فلا معنى للإنتقال عنه
، فلم يبق إلا القسمان الأخيران.
__________________
وكانت المدينة
دار الأنصار والهجرة إليها أمرا واجبا ، أي لو لا أن النسبة الهجرية لا يسعني
تركها لانتسبت إلى داركم.
وقال
القرطبي : معناه :
لتسميت باسمكم ، وانتسبت إليكم ، لما كانوا يتناسبون بالحلف ، لكن خصوصية الهجرة
وترتيبها سبقت فمنعت ما سوى ذلك ، وهي أعلى وأشرف ، فلا تبدل بغيرها .
وسام لأبي موسى في الجعرانة!! :
عن
أبي موسى الأشعري ، قال : كنت عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وهو نازل بالجعرانة ، بين مكة والمدينة ـ ومعه بلال
ـ فأتى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أعرابي ، فقال : ألا تنجزني ما وعدتني؟
فقال
له : «أبشر»!!
فقال
: قد أكثرت علي
من البشر.
فأقبل
على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان ، فقال : رد البشرى!! فاقبلا أنتما.
قالا
: قبلنا.
ثم
دعا بقدح فغسل يديه ووجهه ، ومج فيه ، ثم قال : «اشربا منه ، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما ، وأبشرا».
فأخذا
القدح ، ففعلا ، فنادت أم سلمة من وراء الستر : أن أفضلا لأمكما ، فأفضلا منه طائفة .
__________________
ونقول
:
أولا
: إن الجعرانة
ليست بين مكة والمدينة ، بل هي بين مكة والطائف.
ثانيا
: هل صحيح : أن
النبي «صلىاللهعليهوآله» يعد أعرابيا ، ولا يفي بوعده؟! وأنه يكثر من البشارات
له ، دون أن يصل ذلك الأعرابي إلى شيء؟!
ثالثا
: إن هذا الحديث
إنما رواه أبو موسى ، وهو يجر النار إلى قرصه.
رابعا
: لو صح هذا
الحديث ، فالمفروض هو أن تثمر البشارة النبوية لأبي موسى خيرا وصلاحا ، واستقامة ،
يؤهله لاستقبال الكرامات الإلهية في الآخرة. ونحن لا نرى من أبي موسى إلا الإمعان
في الإبتعاد عما يرضي الله ورسوله ، خصوصا بعد وفاته «صلىاللهعليهوآله».
وقد
قال الإمام الحسن «عليهالسلام» عنه
: إنه في قضية
التحكيم قد حكم بالهوى دون القرآن .
وقد
وصفته بعض الروايات عن النبي «صلىاللهعليهوآله» : بالسامري .
وكتب
إليه علي «عليهالسلام» : اعتزل عملنا يا ابن الحائك مدفوعا
__________________
مدحورا ، فما هذا بأول يومنا منك ، وإن لك فينا لهنات وهنات .
والحديث عن أبي
موسى طويل ، ويمكن مراجعة طرف منه في ترجمته في كتاب قاموس الرجال للتستري وغيره.
خامسا
: إن تصرف النبي
«صلىاللهعليهوآله» مع ذلك الأعرابي لا يلائم ما هو ثابت قطعا ومعروف من
أخلاقه الرضية والكريمة ، والهادية إلى طريق الرشاد ، بل هو تصرف غير مبرر ، ويتسم
بالإبهام ، وتظهر عليه ملامح التشنج ، والتسرع الغريب والمنفّر ، والغريب الأطوار
الذي نجل عنه مقامه الشريف ..
بعض ما قيل من الشعر في هذه الغزوة :
قال بجير بن
زهير بن أبي سلمى يذكر حنينا والطائف ورميها بالمنجنيق :
كانت علالة
يوم بطن حنين
|
|
وغداة أو طاس
ويوم الأبرق
|
جمعت باغواء
هوازن جمعها
|
|
فتبددوا
كالطائر المتمزق
|
لم يمنعوا
منا مقاما واحدا
|
|
إلا حبارهم
وبطن الخندق
|
ولقد تعرضنا
لكيما يخرجوا
|
|
فتحصنوا منا
بباب مغلق
|
ترتد حسرانا
إلى رجراجة
|
|
شهباء تلمع
بالمنايا فيلق
|
ملمومة خضراء
لو قذفوا بها
|
|
حصنا لظل
كأنه لم يخلق
|
__________________
مشي الضراء
على الهراس كأننا
|
|
قدر تفرق في
القياد وتلتقي
|
في كل سابغة
إذا ما استحصنت
|
|
كالنهي هبت
ريحه المترقرق
|
جدل تمس
فضولهن نعالنا
|
|
من نسج داود
وآل محرق
|
وقال كعب بن
مالك في مسير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى الطائف :
|
قضينا من
تهامة كل ريب
|
|
وخيبر ثم
أجممنا السيوفا
|
|
|
نخبرها ولو
نطقت لقالت
|
|
قواطعهن دوسا
أو ثقيفا
|
|
|
فلست بحاضن
إن لم تروها
|
|
بساحة داركم
منا ألوفا
|
|
|
وننتزع
العروش ببطن وج
|
|
وتصبح دوركم
منكم خلوفا
|
|
|
ويأتيكم لنا
سرعان خيل
|
|
يغادر خلفه
جمعا كثيفا
|
|
|
إذا نزلوا
بساحتكم سمعتم
|
|
لها مما أناخ
بها رجيفا
|
|
|
بأيديهم
قواضب مرهفات
|
|
يزدن
المصطلين بها الحتوفا
|
|
|
كأمثال
العقائق أخلفتها
|
|
قيون الهند
لم تضرب كتيفا
|
|
|
تخال جدية
الأبطال فيها
|
|
غداة الزحف
جاديا مدوفا
|
|
|
أجدهم أليس
لهم نصيح
|
|
من الأقوام
كان بنا عريفا
|
|
يخبرهم بأنا
قد جمعنا
|
|
عتاق الخيل والنجب الطروفا
|
|
وأنا قد
أتيناهم بزحف
|
|
يحيط بسور حصنهم صفوفا
|
|
رئيسهم النبي
وكان صلبا
|
|
نقي القلب
مصطبرا عزوفا
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
__________________
رشيد الأمر
ذا حكم وعلم
|
|
وحلم لم يكن
نزقا خفيفا
|
نطيع نبينا
ونطيع ربا
|
|
هو الرحمن
كان بنا رؤوفا
|
فإن تلقوا
إلينا السلم نقبل
|
|
ونجعلكم لنا
عضدا وريفا
|
وإن تأبوا
نجاهدكم ونصبر
|
|
ولا يك أمرنا
رعشا ضعيفا
|
نجالد ما
بقينا أو تنيبوا
|
|
إلى الإسلام
إذعانا مضيفا
|
نجاهد لا
نبالي من لقينا
|
|
أأهلكنا
التلاد أم الطريفا
|
وكم من معشر
ألوا علينا
|
|
صميم الجذم
منهم والحليفا
|
أتونا لا
يرون لهم كفاء
|
|
فجذعنا
المسامع والانوفا
|
بكل مهند لين
صقيل
|
|
نسوقهم بها
سوقا عنيفا
|
لأمر الله
والإسلام حتى
|
|
يقوم الدين
معتدلا حنيفا
|
ونفني اللات
والعزى وودا
|
|
ونسلبها
القلائد والشنوفا
|
فأمسوا قد
أقروا واطمأنوا
|
|
ومن لا يمتنع
يقبل خسوفا
|
صدى الهزيمة .. وفرحة النصر
:
وعن داود بن
الحصين قال : كان بشير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى أهل المدينة بفتح الله تعالى عليه ، وهزيمة هوازن
، نهيك بن أوس
__________________
الأشهلي ، فخرج في ذلك اليوم ممسيا ، فأخذ في أوطاس حتى خرج على غمرة ،
فإذا الناس يقولون : هزم محمد هزيمة لم يهزم هزيمة مثلها قط ، وظهر مالك بن عوف
على عسكره.
قال
: فقلت : الباطل يقولون ، والله ، لقد ظفّر الله تعالى
رسوله «صلىاللهعليهوآله» ، وغنّمه نساءهم وأبناءهم.
قال
: فلم أزل أطأ
الخبر حتى انقطع بمعدن بني سليم ، أو قريبا منها.
فقدمت المدينة
، وقد سرت من أول أوطاس ثلاث ليال ، وما كنت أمسي على راحلتي أكثر مما كنت أركبها
، فلما انتهيت إلى المصلى ناديت : أبشروا يا معشر المسلمين بسلامة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» والمسلمين ، ولقد ظفّره الله تعالى بهوازن ، وأوقع بهم
، فسبى نساءهم ، وغنم أموالهم ، وتركت الغنائم في يديه تجمع.
فاجتمع الناس
يحمدون الله تعالى على سلامة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» والمسلمين ، ثم انتهيت إلى بيوت أزواج النبي «صلىاللهعليهوآله» فأخبرتهن ، فحمدن الله تعالى على ذلك.
قال
: وكانت
الهزيمة الأولى التي هزم المسلمون ذهبت في كل وجه ، حتى أكذب الله تعالى حديثهم .
رجوع رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى المدينة
:
وقالوا
أيضا : إنتهى رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» إلى الجعرانة ليلة
__________________
الخميس ، لخمس ليال خلون من ذي القعدة ، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة.
وأمر ببقايا
السبي ، فحبس بمجنة ، بناحية مر الظهران.
والظاهر
: أنه «صلىاللهعليهوآله» إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الأعراب
بين مكة والمدينة.
فلما أراد
الإنصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء ، لا ثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة
ليلا ، فأحرم بعمرة من المسجد الأقصى ، الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى ، ودخل مكة
، فطاف ، وسعى ماشيا ، وحلق ورجع إلى الجعرانة من ليلته ، وكأنه كان بائتا بها .
واستخلف عتاب
ابن أسيد ـ كأمير ـ على مكة ، وكان عمره حينئذ نيفا وعشرين سنة ـ وخلف معه معاذ بن
جبل ، وزاد بعضهم : أبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين.
وذكر
عروة بن عقبة : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» خلف عتابا
__________________
ومعاذا بمكة ، قبل خروجه إلى هوازن ، ثم خلفهما حين رجع إلى المدينة .
قال
ابن هشام : وبلغني عن زيد بن أسلم ، أنه قال : لما استعمل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عتابا على مكة رزقه كل يوم درهما ، فقام فخطب الناس
فقال : أيها الناس ، أجاع الله كبد من جاع على درهما ، فقام فخطب الناس فقال :
أيها الناس ، أجاع الله كبد من جاع على درهم!! فقد رزقني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» درهما كل يوم ، فليست لي حاجة إلى أحد .
فلما فرغ رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» من أمره غدا يوم الخميس راجعا إلى المدينة ، فسلك في
وادي الجعرانة ، حتى خرج على سرف ، ثم أخذ في الطريق إلى مر الظهران ، ثم إلى
المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة فيما زعمه أبو عمرو المدني .
قال
أبو عمرو : وكانت مدة غيبته «صلىاللهعليهوآله» من حين خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها ، وواقع هوازن
، وحارب أهل الطائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوما .
ونقول
:
١ ـ إن ما
ذكروه : من أنه «صلىاللهعليهوآله» أمر ببقايا السبي ، فحبس بمجنة ، بناحية مر الظهران ،
قد يكون غير دقيق ، بملاحظة ما قدمناه : من أنه
__________________
أطلق سراح السبي بشفاعة الشيماء ، ووفد هوازن ..
إلا
أن يدّعى : أن الذين أطلق سراحهم هم : خصوص سبي هوازن ، دون سواها من سائر القبائل ..
ولكن هذا يبقى
مجرد احتمال يحتاج إلى مؤيد ، وشاهد. ولعل إطلاق كلامهم الشامل لجميع السبي ،
وكذلك ما ذكرناه من رغبة النبي «صلىاللهعليهوآله» بإطلاق سبي حنين ، لحكمة بالغة ، ذكرناها فيما سبق
يكفيان للتدليل على عدم صحة الإحتمال أيضا.
وربما كان هناك
بعض سبي ، من بعض أحياء العرب ، جاءت به السرايا المختلفة ، ولم يمكن إرجاعهن إلى
القبائل.
أو
يكون المقصود بالسبي : الأسرى من الرجال ، الذين لم يجدوا من يسعى في فك أسرهم.
٢ ـ وأما ما
ذكر عن عتاب بن أسيد ، ومعاذ بن جبل ، فقد تقدم بعض القول فيه في غزوة حنين ، فلا
نعيد ..
الفهارس
١ ـ الفهرس الإجمالي
٢ ـ الفهرس التفصيلي
١ ـ الفهرس الإجمالي
الباب الرابع : حرب أوطاس .. وحصار الطائف
الفصل الأول : أوطاس في الحديث والتاريخ.................................. ٩ ـ ٣٤
الفصل الثاني : حصار الطائف........................................... ٣٥
ـ ٦٤
الفصل الثالث : المنجنيق في الطائف...................................... ٦٥
ـ ٨٨
الفصل الرابع : من أحداث أيام الحصار.................................. ٨٩ ـ ١٠٦
الفصل الخامس : نهايات حرب الطائف................................ ١٠٧ ـ ١٤٢
الفصل السادس : حقائق تجاهلوها..................................... ١٤٣
ـ ١٦٨
الباب الخامس : الأنصار .. والسبي والغنائم
الفصل الأول :
الأسرى والسبايا أحداث وتفاصيل....................... ١٧١
ـ ٢٣٤
الفصل الثاني :
قبل قسمة الغنائم...................................... ٢٣٥
ـ ٢٦٠
الفصل الثالث :
قسمة الغنائم وعتب الأنصار.......................... ٢٦١
ـ ٢٨٨
الفصل الرابع :
المستفيدون .. والمعترضون............................... ٢٨٩
ـ ٣٢٢
الفصل الخامس :
نهايات السفر الطويل .. إلى المدينة..................... ٣٢٣
ـ ٣٤٦
الفهارس............................................................ ٣٤٧
ـ ٣٥٥
٢ ـ الفهرس التفصيلي
الباب الرابع : حرب أوطاس .. وحصار الطائف
الفصل الأول : أوطاس في الحديث والتاريخ
رواياتهم عن أوطاس
:......................................................... ١١
قتل أبي عامر :.............................................................. ١٣
أبو موسى يخلف
أبا عامر :................................................... ١٥
دعاء النبي صلىاللهعليهوآله لأبي عامر ، وأبي موسى :...................................... ١٦
إيضاحات :................................................................ ١٧
أبو موسى بطل
شجاع!! :.................................................... ١٧
من الذي ولى
أبا موسى :..................................................... ٢٠
أبو عامر على
خيل الطلب :.................................................. ٢١
قتل دريد بن
الصمة :........................................................ ٢٢
خيل الطلب ،
والمبارزة ، وقتل أبي عامر :....................................... ٢٣
دعاء النبي صلىاللهعليهوآله لأبي موسى :................................................. ٢٥
محاولة اغتيال
الرسول صلىاللهعليهوآله :.................................................. ٢٩
١ ـ تشابه
الأحداث :........................................................ ٣٠
٢ ـ لا يطاع
الله من حيث يعصى :............................................. ٣١
٣ ـ في حنين ،
أم في أوطاس؟! :............................................... ٣٢
٤ ـ أين الحرس؟!............................................................. ٣٢
٥ ـ أسئلة
تحتاج إلى أجوبة :................................................... ٣٣
الفصل الثاني : حصار الطائف
غزوة الطائف
بروايتهم :...................................................... ٣٧
أحداث جرت في
مسيرة النبي صلىاللهعليهوآله إلى الطائف :................................ ٤١
بناء المسجد ،
وهدم حصن مالك :............................................ ٤٣
تغيير أسماء
البقاع :........................................................... ٤٤
جيوب لا بد من
اقتلاعها :................................................... ٤٤
الإقادة من
قاتل :............................................................ ٤٥
قبر أبي رغال :.............................................................. ٤٦
بدء حصار
الطائف :........................................................ ٤٨
أبو سفيان يرغب
في الجنة :................................................... ٥٠
نفاق عيينة بن
حصن :....................................................... ٥١
ثواب من رمي
بسهم :........................................................ ٥٦
نداء : من نزل
من العبيد فهو حر :............................................ ٥٧
رد الولاء :.................................................................. ٦١
مغزى نداء
الحرية :........................................................... ٦٢
تعليم العبيد
بعد عتقهم :..................................................... ٦٣
الفصل الثالث : المنجنيق في الطائف
رمي الطائف بالمنجنيق :.................................................. ٦٧
إجراءات حربية أخرى :................................................... ٦٨
أعتدة حربية ، وأساليب قتالية :............................................... ٦٩
توضيحات :................................................................ ٧١
المنجنيق .. ومشورة سلمان :.................................................. ٧١
ضرب العدو بما يعم إتلافه :.................................................. ٧٤
قطع شجر الطائف :......................................................... ٨٠
لأجل الله والرحم :........................................................... ٨١
ليس المطلوب أكثر من الحصار :.............................................. ٨٣
أبو بكر وتعبير الرؤيا :....................................................... ٨٤
اللهم اهد ثقيفا ، وائت بهم :................................................. ٨٦
الفصل الرابع : من أحداث أيام الحصار
خولة تطلب
الحلي من الطائف :............................................... ٩١
عيينة بن حصن
يمدح الأعداء :................................................ ٩٢
النبي يستشير
في أمر الطائف :................................................ ٩٣
دخول المخنثين
على النساء :.................................................. ٩٣
الصحيح في
القضية :....................................................... ١٠٤
دوافع الإساءة
إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله :.......................................... ١٠٥
الفصل الخامس : نهايا حرب الطائف
الرجوع عن حصار
الطائف :................................................ ١٠٩
لم يؤذن لنا في
أهل الطائف :................................................ ١١٦
اعتراض عمر على
من؟! :.................................................. ١١٨
عمر بن الخطاب
يكسر رجله!! :............................................ ١١٩
إختبار القوى :............................................................ ١١٩
نصر عبده :............................................................... ١٢٠
شهداء المسلمين
في الطائف :................................................ ١٢١
ابن أبي بكر مع
الشهداء :.................................................. ١٢٣
علي عليهالسلام يخطب عاتكة ، والحسين عليهالسلام يتزوجها :............................ ١٢٩
تزوجها بعد أن
استفتى عليا عليهالسلام :........................................... ١٣١
عمر مغرم
بالنساء :........................................................ ١٣٢
في الطريق من
الطائف إلى الجعرانة :.......................................... ١٣٣
كتاب سراقة :............................................................. ١٣٥
الإقتصاص من
رسول الله صلىاللهعليهوآله :............................................. ١٣٧
إنفراج السدرة
للنبي صلىاللهعليهوآله :.................................................. ١٣٩
الفصل السادس : حقائق تجاهلوها
بداية :................................................................... ١٤٥
سرايا لم
يذكرها المؤرخون!! :................................................. ١٤٥
١ ـ سرايا لكسر
الأصنام :................................................ ١٤٦
٢ ـ سرية
لمواجهة خيل لثقيف :........................................... ١٤٧
٣ ـ سرية علي عليهالسلام إلى خثعم :........................................... ١٤٨
أبو سفيان يبرر
الهزيمة :..................................................... ١٥٢
إن قتلت فأنت
على الناس :................................................ ١٥٣
إن على كل رئيس
حقا :.................................................... ١٥٣
مناجاة النبي صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام :.............................................. ١٥٤
محاولة إبطال
أثر المناجاة :................................................... ١٥٨
كتمان الأسماء
للإيهام والإبهام :.............................................. ١٥٩
تكرار المناجاة
:............................................................ ١٦٠
تحركات ،
وتهديدات مؤثرة :................................................. ١٦١
أفعال أفصح من
الأقوال :................................................... ١٦٢
فك الحصار ..
لتسهيل الإستسلام :......................................... ١٦٥
الباب الخامس : الأنصار .. والسبي .. والغنائم
الفصل الأول : الأسرى والسبايا أحداث وتفاصيل
السبايا
والغنائم :........................................................... ١٧٣
الأمين على
السبايا :....................................................... ١٧٤
الأمين على
الأنفال :....................................................... ١٧٥
غنائم حنين
للنبي صلىاللهعليهوآله وعلي عليهالسلام :......................................... ١٧٨
المرونة في
التعامل النبوي :................................................... ١٧٩
نتائج ما سبق :............................................................ ١٨٠
الشيماء في
محضر رسول الله صلىاللهعليهوآله :.......................................... ١٨١
شفاعة الشيماء
، ووفد هوازن بالسبايا :....................................... ١٨٢
قائد هوازن
يقدم ، ويسلم :................................................. ١٩٠
قيمة المرأة في
الإسلام :..................................................... ١٩٢
هل قسمت نساء
هوازن؟! :................................................. ١٩٤
هل استجاب
للوفد أم للشيماء؟! :........................................... ١٩٥
منطق الأجلاف :.......................................................... ١٩٥
النبي صلىاللهعليهوآله مهتم بإطلاق السبي :............................................ ١٩٦
لماذا وهب نصيب
بني هاشم؟! :............................................. ١٩٨
ارجعوا حتى
يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم :......................................... ١٩٩
وقفة مع إسلام
مالك بن عوف :............................................ ٢١٠
حليمة .. أو
الشيماء؟! :................................................... ٢١١
قسوة بجاد :............................................................... ٢١٢
حديث أبي جرول
:........................................................ ٢١٢
إنتظار الوفد :............................................................. ٢١٤
عيينة والعجوز
:............................................................ ٢١٥
عمر يأمر بقتل
أسيرين ، والنبي صلىاللهعليهوآله يغضب :................... ٢١٨
السبايا .. لم
تقسم على الناس :............................................. ٢٢٠
اللهم لا تغفر
لمحلم بن جثامة!! :............................................. ٢٢٥
الفصل الثاني : قبل قسمة الغنائم
روايات ونصوص :......................................................... ٢٣٧
النبي صلىاللهعليهوآله أكثر قريش مالا :................................................ ٢٤١
الشره والحرص :............................................................ ٢٤٣
ما ذا يظنون
بالنبي صلىاللهعليهوآله؟! :................................................ ٢٤٣
ما لي إلا
الخمس ، وهو مردود عليكم :....................................... ٢٤٤
من أين أخذ
الوبرة؟! :...................................................... ٢٤٥
ما أرى أبرتك
إلا ذهبت :.................................................. ٢٤٦
عقيل ثبت في
حنين :...................................................... ٢٤٧
متى أخذ عقيل
الإبرة؟! :.................................................... ٢٤٨
الغلول : نار ،
وعار ، وشنار :.............................................. ٢٤٩
أما حقي فهو لك
:........................................................ ٢٥٠
التكبير على
الأموات :...................................................... ٢٥٠
من قتل قتيلا
فله سلبه :.................................................... ٢٥١
بطولات أبي
طلحة :........................................................ ٢٥٧
هنات في حديث
أبي قتادة :................................................. ٢٥٨
الفصل الثالث : قسمة الغنائم وعتب الأنصار
الأنصار يعتبون .. والنبي صلىاللهعليهوآله
يسترضيهم :................................... ٢٦٣
ما أقبح هذا المنطق :....................................................... ٢٧٢
أدب الأنصار :............................................................ ٢٧٤
فحط الله نورهم :.......................................................... ٢٧٥
لا يجرؤ الأنصار على ادّعاء حق لهم :........................................ ٢٧٥
الرد العنيف على المشككين :................................................ ٢٧٦
أين أنت من ذلك يا سعد؟! :............................................... ٢٧٦
حوار الرسول صلىاللهعليهوآله
مع الأنصار :............................................ ٢٧٧
الإستغفار للأنصار ، ولأبنائهم :............................................. ٢٧٨
الأنصار كرشي وعيبتي :.................................................... ٢٧٩
لماذا أعطى؟ ولماذا منع؟! :.................................................. ٢٨٠
نتائج قسم غنائم حنين :.................................................... ٢٨٤
من هم المؤلفة قلوبهم؟! :.................................................... ٢٨٦
الفصل الرابع : المستفيدون .. والمعترضون ..
إعتراض الخارجي :......................................................... ٢٩١
قصة أخرى :.............................................................. ٢٩١
البقر من الغنائم :.......................................................... ٢٩٥
الخوارج في حديث رسول الله صلىاللهعليهوآله
:.......................................... ٢٩٥
عمر بن الخطاب هو المبادر دائما :........................................... ٢٩٩
الخوارج يتعمقون في الدين :.................................................. ٣٠٠
يخرجون على حين فرقة من الناس :........................................... ٣٠٤
هل الخارجي كان من الأنصار؟! :............................................ ٣٠٥
الإغترار بالظواهر :......................................................... ٣٠٦
لا يتحدث الناس : أني أقتل أصحابي :....................................... ٣٠٧
إقطع لسانه :.............................................................. ٣٠٨
قول النبي صلىاللهعليهوآله
هو الأولى والأفصح :......................................... ٣١١
من المأمور بقطع لسان ابن مرداس؟! :........................................ ٣١٢
إخافة الناس حرام :......................................................... ٣١٣
مشورة علي عليهالسلام
على ابن مرداس :.......................................... ٣١٥
شفرة عمر ، وخلافة النبي صلىاللهعليهوآله
:............................................ ٣١٦
طمع حكيم بن حزام :...................................................... ٣١٨
يعطي صفوان بن أمية فيصير محبا :........................................... ٣٢٠
الفصل الخامس : نهايات السفر الطويل .. إلى المدينة ..
حصيلة مجموعة عن المؤلفة قلوبهم :........................................... ٣٢٥
إستفادات نعرضها ، ولا نتعرض لها :......................................... ٣٣٠
وسام لأبي موسى في الجعرانة!! :............................................. ٣٣٣
بعض ما قيل من الشعر في هذه الغزوة :....................................... ٣٣٥
صدى الهزيمة .. وفرحة النصر :.............................................. ٣٣٧
رجوع رسول الله صلىاللهعليهوآله
إلى المدينة :........................................... ٣٣٨
الفهارس :
١ ـ الفهرس الإجمالي..................................................... ٣٤٥
٢ ـ الفهرس التفصيلي.................................................... ٣٤٧
|