
الباب السّابع
في
الاجتهاد والتّقليد
قانون
الاجتهاد في
اللّغة : تحمّل المشقّة.
وفي الاصطلاح له
تعريفان :
أحدهما : ينظر الى
إطاعة على الحال.
والثاني : الى
إطلاقه على الملكة.
وإلى الأوّل ينظر
تعريفه : بأنّه استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ.
والى الثاني ينظر
تعريفه : بأنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشّرعيّ الفرعيّ من الأصل ،
فعلا أو قوّة قريبة .
__________________
والمراد «باستفراغ
الوسع» هو بذل تمام الطّاقة بحيث يحسّ عن نفسه العجز عن المزيد عليه.
واحترز «بالفقيه»
عن استفراغ غير الفقيه.
وفيه : أنّه
مستلزم للدّور ، إذ الفقيه هو العالم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها وهو
لا يتحقّق إلّا بكونه مجتهدا ، فلا فقه إلّا مع الاجتهاد.
وقد يذبّ عن ذلك :
بأنّ المراد «بالفقيه» من مارس الفنّ ، احترازا عن الأجنبيّ مثل المنطقيّ البحت
وإن لم يكن فقيها اصطلاحيا.
وفيه : مع أنّه
مجاز ، يرد عليه أنّه استفراغ وسع مطلق الفقيه بهذا المعنى لا يكفي في تحقّق
الاجتهاد ، إذ من قرء الكتب الفقهيّة وزاول رءوس المسائل وبعض الكتب الاستدلاليّة
أيضا ، ولكن لم يحصل له بعد قوّة ردّ الفرع الى الأصل ، لا يسمّى استفراغ وسعه
اجتهادا.
فإن قلت : لا يحصل
الاستفراغ للوسع حينئذ إلّا بعد تحصيلها أيضا.
قلت : فعلى هذا
يتمّ الكلام في المنطقيّ أيضا ، فيكفي قيد الاستفراغ عن قيد الفقيه.
والأحسن أن يقال :
إذا كان هذا تعريفا للحال والفعل ، فالمراد بالفقيه هو صاحب الاستعداد والقابليّة
القريبة لفيضان العلم بالأحكام الشّرعيّة الفرعيّة عليه ، بسبب كونه عالما
بالمبادئ والأدلّة وواجدا للقوّة القدسيّة التي يتمكّن بها على ردّ الفرع الى
الأصل.
فمثل هذا الشّخص
إذا ردّ الحكم الشّرعيّ الفرعيّ الى الأصل بإعمال نظره وإتعاب خواطره واستفراغ
وسعه في ذلك.
فهذا الفعل من هذا
الشّخص يسمّى اجتهادا.
ومن هذه الحيثيّة
يسمّى هذا الشّخص مجتهدا ، فهو من حيث حصول العلم له بالأحكام النّاشئة من الأدلّة
فعلا أو قوّة قريبة من الفعل ؛ فقيه.
ومن حيث استنباط
الفرع من الأصل واستخراج الحكم من الدّليل فعلا أو قوّة قريبة من الفعل ؛ مجتهد.
والتحقيق أن يقال
: إنّ الحدّ لمطلق الاجتهاد ، لا الصحيح منه كما نبّهنا عليه في الفقه أيضا ، فعلى
هذا نقول : إنّ «الفقه» : هو العلم بالأحكام النّاشئة من الأدلّة.
و «الاجتهاد» هو
استنباط الأحكام منها.
و «الاستنباط»
متقدّم على العلم ، فلا التفات في التّعريفين الى الشّخص الذي يقوم به الأمران ،
ولذلك تراهم بعد ذكر تعريف الاجتهاد يجعلون المعرفة بما يتوقّف عليه ، ومنه القوّة
القدسيّة من شرائطه لا من مقوّماته.
فإذا أريد تعريف
صحيحها فيقال :
الاجتهاد : هو
استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشّرعيّ الفرعيّ من أدلّتها لمن عرف الأدلّة
وأحوالها ، وكان له القوّة القدسيّة التي يتمكّن بها عن مطلق ردّ الفرع الى الأصل.
و «الفقه» : هو
العلم الحاصل بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أدلّتها لمن كان كذلك ، فلا يدخل شيء
منهما في تعريف الآخر ، ولا يلزم دور.
وقيد «الظنّ»
لإخراج الأحكام الضّروريّة والقطعيّة النظريّة.
وفيه : أنّ الأوّل
يخرج بقيد الاستفراغ.
والثاني لا يحسن
إخراجه ، لأنّ معرفة النظريّات أيضا يسمّى فقها ، وتحصيلها واستنباطها من أدلّتها
اجتهادا ، إذا المجتهد قد لا يعرف حكم الشّيء أوّلا ويحتاج
الى النّظر في
الأدلّة ، وبعده يحصل به القطع من الدّليل ، وقد أشرنا الى ذلك في أوّل الكتاب.
وتقييد الحكم «بالشّرعيّ»
لإخراج العقليّات ، فإنّ استنباطها لا يسمّى اجتهادا اصطلاحا.
وربّما قيّد «بالفرعيّ»
لإخراج استنباط مسائل أصول الدّين ، بل أصول الفقه فقط أيضا ، وإن كان اجتهادا في
اللّغة أيضا أو في اصطلاح آخر ، كما تراهم يبحثون في مبحث الاجتهاد والتقليد عن
وجوب الاجتهاد في أصول الدين وعدمه ، ولا حاجة إليه ، إذ المتبادر من الشّرعيّ
الفرعيّ.
وأمّا التّعريف
الثاني : وهو ما ذكره المحقّق البهائيّ رحمهالله فقال الفاضل الجواد رحمهالله : يخرج بقيد الملكة المستنبط لبعض الأحكام عن أدلّتها
بالفعل ، من غير أن يصير ذلك ملكة له ، بل كان حالا فإنّه ليس اجتهاد ، وكذا من
حفظ جملة من الأحكام تلقينا وعرف مع ذلك أدلّتها لعدم حصول الملكة معه.
أقول : وما ذكراه
يفيد حصر إطلاق الاجتهاد في اصطلاحهم على الملكة دون الحال ، وهو خلاف التّحقيق
وخلاف ما ذكره الأكثرون. نعم يصحّ هذا تعريفا لملكة الاجتهاد ، لا لحاله.
ثمّ ذكر أنّ
اللّام في «الحكم» للجنس ، فيدخل المتجزّئ. والتقييد ب «الشّرعيّ» لإخراج العقليّ.
وب «الفرعيّ»
الأصليّ كالاعتقادات.
وب «من» الأصل
الضروريّ كالصلاة والزّكاة.
__________________
ثمّ قال : وب «القوّة
القريبة» يدخل من له تلك الملكة من غير أن يستنبط بالفعل ، بل يحتاج الى زمان ،
إمّا لتعارض الأدلّة ، أو لعدم استحضار الدّليل ، أو الاحتياج الى الالتفات ، ونحو
ذلك.
وحيث إنّ الاجتهاد
هو الملكة ، فالمجتهد من له تلك الملكة ، والمجتهد فيه هو الحكم المستنبط من
الأصل.
أقول : ولعلّ
الباعث على حصره الاجتهاد في الملكة ، ظهور لفظ المجتهد فيه ، وأنت خبير بأنّه لا
ملازمة.
ثمّ إنّ هذا
الإطلاق في المجتهد ، اصطلاح خاصّ مشهور.
وقد يطلق على من
يعتمد في الطّلب على الاستدلالات التفصيليّة سواء كان في المعقول أو المنقول ، أو
في الفروع أو الأصول.
والمقلّد من يأخذ
بقول الغير من دون دليل تفصيليّ.
قانون
إذ قد عرفت أنّه
لا حاجة الى إدراج قيد الظنّ في تعريف الاجتهاد ، فيظهر أنّ ما يحصل من الاجتهاد
قد يكون قطعيّا وقد يكون ظنيّا ، وكلاهما حجّة على المجتهد والمقلّد له.
أمّا الأوّل فظاهر
، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض انسداد باب العلم غالبا بالفرض ، ولعدم الدّليل على
حرمة العمل به حينئذ مع بقاء التكليف جزما لو لم ندّع ثبوت الدّليل على جواز العمل
به ، إذ قد عرفت أنّه لا دليل على وجوب الاحتياط ، وذلك لأنّ أدلّة حرمة العمل
بالظنّ ظنيّة ، وقد بيّنّا أن لا دليل على حجّية تلك الظّنون الحاصلة من تلك
الأدلّة على حرمة العمل بالظنّ سوى أنّه ظنّ المجتهد ، ولا مناص من العمل به لبقاء
التكليف وانسداد باب العلم وعدم ثبوت اشتغال الذّمة بأكثر من ذلك ، حتّى يقال :
إنّ اليقين بشغل الذمّة يستدعي تحصيل اليقين ببراءته ، مع أنّ الاستدلال بما يدلّ
على حرمة العمل بالظنّ على عدم جواز العمل للمجتهد في المسائل الفقهيّة بظنّه محال
، لأنّ جواز العمل به يستلزم عدمه ، وما يستلزم وجوده عدمه ، فهو محال.
بيانه : أنّ
الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ عمومات ظنيّة ، وإلّا لما صحّ تخصيصها ، إذ
الظّنون المجوّزة في الشّريعة فوق حدّ الإحصاء ، وكفاك قوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). فإذا كانت العمومات ظنيّة ، فالاستدلال بها لا يفيد إلّا
الظن ، وحينئذ فنقول : ما الدّليل على جواز العمل بهذا الظّن.
__________________
فإن قلت : الدّليل
عليه أنّه ظاهر الكتاب مثلا هو حجّة إجماعا ، فالعامّ الدّال على حرمة العمل
بالظنّ قطعيّ العمل فلا محال.
قلت : المسلّم من
الإجماع هو حجّية ما هو مراد من الكتاب ، لا ما هو ظاهر منه ، فإنّ حجّية ظواهر
الكتاب مسألة اجتهاديّة ، وانعقاد الإجماع عليها ممنوع لمخالفة الأخباريّين
اعتمادا على أخبار كثيرة مذكورة في محلّها.
سلّمنا عدم الاعتناء
بشأنهم وإمكان إخراج تلك الأخبار عن ظاهرها لمعارضتها بأقوى منها ، لكنّا نقول :
المسلّم منه هو حجّية متفاهم المشافهين والمخاطبين ومن يحذو حذوهم ، لأنّ مخاطبته
كان معهم ، والظّن الحاصل للمخاطبين من جهة أصالة الحقيقة أو القرائن المجازيّة
حجّة إجماعا ، لأنّ الله تعالى أرسل رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكتابه بلسان قومه ، والمراد بلسان القوم هو ما يفهمونه ،
وكما أنّ الفهم يختلف باختلاف اللّسان ، فكذلك يختلف باختلاف الزّمان ، وإن توافق
اللّسان فحجّية متفاهم المتأخّرين عن زمن الخطاب وظنونهم يحتاج الى دليل آخر غير
ما دلّ على حجّية متفاهم المخاطبين المشافهين لمنع الإجماع عليه بالخصوص ، ولا
يمكن إثبات ذلك حينئذ إلّا بأحد وجهين :
الأوّل : انحصار
السّبيل الى الحكم في العمل بتلك الظّنون ، ودلالة استحالة التكليف بما لا يطاق
عليه وهو ما ذكرناه ، لأنّ ذلك هو مقتضى الدّليل العقليّ المقتضي لحجّية ما يفتح
السّبيل من الظّنون من حيث هي ظنّ ، لا من حيث إنّه ظنّ خاصّ ، إذ الدّليل القطعيّ
لا يدلّ على حجّية ظنّ خاصّ ، والمفروض أنّ الإجماع غير مسلّم في الظنّ الحاصل
لغير المشافهين.
والثاني : أنّ
الكتاب العزيز من قبيل تأليف المصنّفين الّذين يقصدون بكتابهم بقاءه أبد الدّهر
ليفهم منه المتأمّلون فيه بكرور الأيّام على مقدار فهمهم ، ويعلمون
عليه ، وكذلك
المكاتيب والمراسيل الواردة من البلاد البعيدة ، سيّما مع مخالفة لسان المكتوب مع
المكتوب إليه ، فإنّه لا ريب في جواز العمل للمدرّسين في التّأليفات والمتعلّمين
والمتأمّلين فيها وحملها على مقتضى ما يفهمونه بقدر طاقتهم ، وكذلك المكتوب إليهم
المكاتيب ، وهو ممنوع ، سيّما فيما اشتمل على الأحكام الفرعيّة ، إذ الظّاهر منها
إلقاء الأحكام بين الأمّة وقتئذ وإعلام المخاطبين بالشّرائع وإعلانها بينهم.
وذلك لا ينافي قصد
عمل الآتين بعدهم ولو بعد ألف سنة بذلك ، لأجل حصول الطّريقة واستقرار الشّريعة
بعمل الحاضرين ومزاولتهم ونقلهم الى خلفهم يدا عن يد.
ولا ينافي ذلك
أيضا تعلّق الفرض ببقائه أبد الدّهر ، لحصول الإعجاز وسائر الفوائد ، إذ ذلك يحصل
بملاحظة البلاغة والأسلوب وسائر الحكم المستفادة منها ، مع قطع النّظر عن الأحكام
الفرعيّة الظّاهرية التي هي قطرة من بحار فوائده. فإثبات أن يكون الكتاب العزيز من
باب تأليف المصنّفين ، سيّما الأحكام الفرعيّة ، بأن يكون الغرض من الآيات الواردة
فيها بقاء تلك الألفاظ ، واستفادة كلّ من يجيء بعد ذلك من تلك الألفاظ على مقتضى
فهمه بظنّه ولو لم يكن موافقا لمراده تعالى أيضا ، سيّما بعنوان القطع والجزم ،
وإدّعاء أنّا نعلم أنّه تعالى أراد ذلك ؛ يحتاج الى دليل واضح ، بل الإنصاف أنّا
إن لم ندّع العلم بأنّ الله تعالى لم يرد من الآيات هذا المعنى ، فلا أقلّ من
الظّهور في العدم أو تساوي الاحتمالين ، فكيف يدّعى العلم بأنّ مراد الله تعالى من
إنزال قوله : (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) ان يبقي هذه اللّفظة.
__________________
ومن فهم منها من
المجتهدين الجائين بعد ألف سنة ، أنّ المراد من بعد احتمال المال للوصيّة والدّين
والميراث والسّاعة لها بأن يفضل عنهما ما يساوي الأنصباء ، ويترتّب عليه أنّه يكفي
في التملّك وجواز التصرّف حينئذ أن يعزل الدّين والوصيّة ، كما فهمه بعضهم ، فهو
حجّة عليه.
ومن يفهم منه أنّ
هؤلاء الأرحام يملكون لهذه الأنصباء بعد إيفاء الدّين والوصيّة ووصول نصيبهما
إليهما إمّا بيدهما أو يد وكيلهما أو وليّهما ولو كان هو الحاكم أو المؤمنين
العدول ، ولا يحصل مالكيتهم إلّا بعد تملّكهما لنصيبهما ووصوله إليهما ، فقد لا
يبقى لهم شيء يملكونه ، وقد ينقص نصيبهم عما فرض لهم ؛ فهو أيضا حجّة عليه.
ومن يفهم منه أنّ
استقرار ملك الأرحام إنّما يثبت بعد وفاء الدّين والوصيّة وإن ثبت قبله متزلزلا
فهو حجّة عليه وهكذا ، بل الأولى أن يدّعى العلم بأنّ مراد الله تعالى من كلامه في
الحكم الواحد هو معنى واحد من تلك المعاني ، فهمه نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وفهمه المخاطبون المشافهون ، وكان مقصوده تعالى إبلاغ
الحكم وقد أبلغ ، ولكن اختفى بعد خفاء قادة الهدى كما خفي أكثر الأحكام.
والحاصل ، أنّ
دعوى العلم بأنّ وضع الكتاب العزيز إنّما هو على وضع تأليف المصنّفين سيّما في
الأحكام الفرعيّة ، دعوى لا يفي بإثباتها بيّنة.
فإن قلت : إنّ
أخبار الثّقلين وما دلّ على عرض الأخبار على الكتاب ، يدلّ على أنّ الكتاب من هذا
القبيل.
قلت : بعد قبول
علميّة تلك الأخبار صدورا كما هو ظاهر بعضها ، تمنع أوّلا : دلالتها على التمسّك
بمتفاهم اللّفظ من حيث هو متفاهم اللّفظ ، لما لا يكون المراد لزوم التمسّك
بالأحكام الثّابتة والمعلومة عنه ، كما هو ثابت في أكثرها ، وكذلك ما
دلّ على عرض
الأخبار على الكتاب.
وثانيا : بعد
تسليم ذلك فنقول : إنّ دلالتها على التمسّك بالألفاظ والعرض عليها يعني بظواهرها ،
وعلى ظواهرها ظنيّة إذ ذهب جماعة من الأخباريين الى أنّ المراد التمسّك بما فسّرها
الأئمّة عليهمالسلام بها ، والعرض على ما فسّروه به وإن كان خلاف الظّاهر ،
فحينئذ ننقل الكلام الى هذه الأخبار ونقول : دلالتها على ما نحن فيه حينئذ إنّما
يتمّ لو قلنا بالعلم بأنّ تلك الأخبار أيضا من قبيل تأليفات المصنّفين الّذين
يرضون بما يفهمه المتحاورون.
يعني أنّ الحاصل
لنا من تلك الأخبار إنّما يكون حجّة لأجل ذلك ، وهو في غاية البعد فيما نحن فيه ،
بخلاف الكتاب العزيز ، أو ندّعي العلم بأنّ متفاهم المخاطبين بها علما أو ظنّا كان
ذلك ، وأنّى لك بإثبات العلم في المقامين.
سلّمنا أنّ الكتاب
العزيز من باب تصنيفات المصنّفين ، لكنّ مقتضى ذلك أن يكون الظنّ الحاصل منه حجّة
من جهة أنّه ظنّ حاصل منه ، والمفروض أنّ الظّنون الحاصلة اليوم من القرآن العزيز
ليست بظنون حاصلة منه فقط ، إذ الظّن الحاصل من اللّفظ إنّما هو من جهة وضع اللّفظ
وحقيقته أو مجازه ، والاعتماد على أصل الحقيقة أو القرينة الظّاهرة في المعنى
المجازي ، ونحو ذلك.
وأمّا الظنّ
الحاصل بعد ملاحظة المعارض والعلاج والسّوانح التي حصلت في الشّريعة ، فهو ظنّ
حاصل للمجتهد بنفس الأمر بعد ملاحظة الأدلّة وجمعها وجرحها وتعديلها ، لا ظنّ حاصل
من الكتاب.
والحاصل ، أنّ
الظنّ الحاصل من الدّليل إمّا يلاحظ في بادئ النّظر ويعتبر ما حصل منه لو خلّي
وطبعه ، وإمّا يلاحظ ما يستقرّ على ظنيّته بعد ملاحظة المعارض ودفع الموانع ورفع
القرائن الدالّة على خلافه.
فأمّا الأوّل :
فإن لم ندّع الإجماع على بطلان العمل به في أمثال زماننا ، فلا كرامة في القول به
، فضلا عن إدّعاء الإجماع على جوازه أو وجوب العمل به ، إذ لا ريب أنّ في أمثال
زماننا اختلط أمر الدّلالة ووقع الخلاف بين العلماء ، والاختلاف في الأدلّة بين
ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة وأخبار الآحاد وغيرها ، واشتبه الحال بسبب
التّخصيص والنّسخ والمعارض والمخالف ، فلا ريب أنّه لا يجوز العمل قبل الفحص عن
الأدلّة بالظنّ الحاصل من واحد منها ولو كان هو ظاهر الكتاب ، ولا أظنّ الخصم
يدّعي جواز ذلك.
وكيف يمكن ادّعاؤه
حتّى بعنوان العلم ودعوى الإجماع ، حتّى أنّ كثيرا من العلماء لا يجوّزون التجزّي
في الاجتهاد ، لأجل احتمال اختفاء معارضات الأدلّة وإن كان احتمالا ضعيفا.
وأمّا الثاني :
فهو ليس بظنّ حاصل من الكتاب مثلا ، بل هو ظنّ المجتهد بحكم الله تعالى ، ومراده
من مجموع الآية ودفع معارضاتها ومنع القرائن الدالّة على خلافها وإرادة ما هو خلاف
الظّاهر منها.
وبالجملة ، إمّا
نقول بحجّية ظاهر ظنّ الكتاب في زماننا لا بشرط ملاحظة المعارض ولا عدمه ، أو بشرط
عدم ملاحظة المعارض ، أو بشرط ملاحظة المعارض والفحص عنه ونفيه عنه بالدّليل ،
حتّى يبقى الظنّ ، والأوّلان باطلان وفاقا من الخصم.
والثالث : ينفع
الخصم دعوى الإجماع على حجيّته لو تمكّن من دعوى الإجماع على حجّية الظّنون التي
بها يدفع المعارض حتّى يقول : إنّ العمل على الظّنون الحاصلة من أجل الكتاب بعد
إعمال هذه الظّنون إجماعيّ ، وأنّى له بذلك. وكيف يتمكّن منه إلّا ان يقول
بالإجماع على حجّية ظنّ المجتهد من أيّ شيء
يكون إلّا ما
أخرجه الدّليل ، إذ جلّ هذه الظّنون لم يقم عليها دليل إلّا كونه ظنّ المجتهد.
فإن قلت : نعم ،
ولكنّ ظنّه إذا تعلّق بكيفية الاستخراج من الآية مثلا فحجّيته إجماعيّة ، لا إذا
تعلّق بغيره.
أقول : لا أفهم
معنى هذا الكلام ، فإنّ اختلاف العلماء في أنّ العام المخصّص حجّة في الباقي أم لا
مثلا ، يعمّ الكتاب والسنّة المتواترة وأخبار الآحاد وغيرها كلّها ، والمسألة
اجتهاديّة ، فإجراء العامّ من الكتاب على ظاهره بمعونة أنّ العامّ المخصّص حجّة في
الباقي ، وأنّ أدلّة الخصم باطلة في تلك المسألة الأصوليّة مسألة ظنيّة.
ودعوى الإجماع على
أنّ إعمال هذه المسألة الأصولية في خصوص الكتاب جائز دون غيره ؛ شطط من الكلام ، ويلزمه في العكس أن لو قال أحد بعدم الحجّية في عامّ
الكتاب لأداء ظنّه الى أنّ العامّ المخصّص ليس بحجّة في الباقي إن يكون إجماعيّا ،
ولكن من حيث إنّه متعلّق بالكتاب.
وأيضا نقول في مثل
قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) أنّه ظاهر في العموم ، ومقتضاه عدم نشر الزّنا سابقا
الحرمة ، كما ذهب إليه جماعة من محقّقي
__________________
الأصحاب ، وذهب
جمهور الأصحاب الى الحرمة ، والأخبار المستفيضة في كلّ من الطّرفين موجودة ، ولا
ريب أنّ ترجيح عموم الآية وإبقاءه على ظاهره وإدّعاء الظنّ به يتوقّف على ترجيح
أخبار الحلّ على أخبار الحرمة ، إذ بعد تسليم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، لا
مجال لمنع الأخبار رأسا ، فلا بدّ من الرّجوع الى المرجّحات بين الأخبار ، ولا ريب
أنّه لا إجماع على كيفيّة ترجيح الأخبار لاختلاف العلماء في وجوه التّراجيح ،
واختلاف الأخبار في بيان علاجها بحيث لا يمكن علاجها كما سيجيء في الخاتمة ، ولا
مناص في الجمع بين الأخبار إلّا بالرّجوع الى المرجّحات الاجتهاديّة ، مع أنّ قبول
كلّ واحد من الأخبار وردّها من حيث السّند والمتن ، وثبوت العدالة وكيفيّتها
والكاشف عنها والمثبت لها ، وعدد المزكّي وغير ذلك ، لا يكون في الأكثر إلّا
بالظنّ الاجتهاديّ ، ولا قطع في شيء منها كما لا يخفى على المتأمّل المنصف
المتدبّر.
ودعوى الإجماع على
حجّية كلّ ما يتعلّق بالأخبار بعنوان العموم أو إدّعاء الحدس وحصول القطع برضا
الشّارع بذلك العموم بالخصوصيّة والنّصوصيّة لا لأنّه من جزئيّات لزوم تكليف ما لا
يطاق لو لم يعمل بها عهدته على مدّعيه ، وبيننا وبين هذه الدّعوى بون بعيد.
وأمّا جعله من
جزئيّات لزوم تكليف ما لا يطاق ، فلا نمنعه ولا يجدي للمستدلّ ، بل هو مذهبنا
وطريقتنا.
فظهر ممّا قرّرنا
لك الفرق بين الظنّ الحاصل من الكتاب من حيث هو ، والظنّ الحاصل بعد بذل الجهد في
المعارض ودفعه.
ومن هذا القبيل
الغفلة التي حصلت لبعضهم واشتبه عليه الأمر ولم يفرّق بين المجاز والعامّ ، وناقض
في القول بوجوب الفحص عن المخصّص بعدم وجوب الفحص في الحقيقة عن المجاز ، وهو غلط ،
لأنّ الفحص عن المخصّص يرجع الى الفحص عن المعارض ، بخلاف المجاز ، فإنّه فحص عن
القرينة وقد يحصل الاعتباران في العامّ والمجاز بكلا المعنيين ، فعليك بالتأمّل
والتفرقة ، وقد حقّقنا ذلك في مباحث العامّ والخاصّ ، فراجعه.
فالحكم بحرمة
العمل بالظنّ الذي لم يثبت حجّيته بالخصوص من دليل قطعيّ ، مثل الشّهرة والغلبة
ونحوهما من جهة قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ونحوه ، إنّما هو من جهة ظنّ حاصل للمجتهد بعد التأمّل في
الآية وفي القواعد الأصوليّة ، ودفع الأدلّة التي أقاموها على عدم حجّية العامّ المخصّص
للإجماع على أنّ الآية مخصّصة بظنون كثيرة ، وملاحظة عدم المعارض والظنّ به ، أو
القطع من جهة لزوم الفحص عن المخصّص ، وذلك ظنّ حصل للمجتهد من مجموع ذلك ، لا ظنّ
حاصل من الآية.
وبعد ملاحظة ذلك ،
فإنّ سلّمنا ذلك الإجماع على العمل بالظنّ الحاصل من الكتاب على هذا الوجه ، فلا
نسلّمه في خصوص العامّ المخصّص ، لأنّه موضع خلاف ، والنّزاع فيه معروف وليس
بمخصوص بعمومات أخبار الآحاد ، بل هو جار في المتون القطعيّة ، كالكتاب والسنّة
المتواترة أيضا ، ولم يثبت الإجماع على حجّية عموم آيات التّحريم في أمثال زماننا
، بل مطلقا بعد القطع بتخصيصها ببعض
__________________
الظّنون.
فإن قلت : النّزاع
في حجّية العامّ المخصّص في الحقيقة ، راجع الى النّزاع في حصول الظنّ منه في
الباقي وعدمه كما يظهر من أدلّتهم المذكورة من الطّرفين ، لا إلى الحجّية وعدمها
مع حصول الظنّ أيضا ، فالمنكر يقول : إنّه لا يحصل الظنّ منه بدلالته على الباقي ،
ولو فرض حصول الظنّ فهو حجّة باتّفاق منّي.
قلت : المنكر يقول
: إنّه لا يمكن حصول الظنّ منه ، ولو فرض حصول الظنّ منه في نفس الأمر لكان حجّة ،
لا أنّه لا يحصل منه لي ظنّ ، ولو فرض حصوله لخصمي فهو حجّة عليه حتّى يصير بذلك
إجماعا ، فهو في الحقيقة يغلّظ [يغلّط] مدّعي حصول الظنّ ويقول : أنت قصّرت في
الاجتهاد حيث ادّعيت الظنّ فيما لا يمكن حصول الظنّ فيه.
والحاصل ، أنّ
القدر المسلّم من الإجماع الفرضيّ الذي يمكن أن يدّعى في هذا المقام هو أن يقول
المنكر للحجّية : إنّ العامّ المخصّص لا يحصل منه الظنّ في نفس الأمر ولو حصل منه
ظنّ في نفس الأمر فهو حجّة ، وليس ، فليس.
ولا يظهر من هذا
الكلام أنّه يسلّم حجّية الظنّ الحاصل لمدّعيه بسبب اجتهاده وتمسّكه بالأدلّة التي
هي بمرأى من المنكر ومسمع منه ، فتأمّل في ذلك ، فإنّ فيه دقّة ما.
وإن سلّمنا منك
دعوى هذا الإجماع ، أعني الإجماع من الخصم على حجّية الظنّ إذا حصل لخصمه عليه دون
غيره ، فإنّما نسلّمه من جهة أنّه ظنّ المجتهد ، وكلّ ظنّ المجتهد حجّة عليه وإن
لم يحصل للآخر الظنّ على وفقه.
وأين هذا من إثبات
الإجماع على حجّية ظنّه الحاصل من جهة العامّ المخصوص من الكتاب من حيث هو.
فإن قلت : يكفي
ثبوت حجّية هذا الظنّ بالإجماع وإن كان من جهة كونه ظنّ المجتهد ، لأنّه يثبت
أصالة حرمة العمل بالظنّ وهو المطلوب.
قلت : إذا سلّمنا
الإجماع على ذلك من أجل كونه ظنّ المجتهد ، فلا نمنع أنّه من أجل أنّه حصل له من
الكتاب ، بل من حيث إنّه ظنّ المجتهد ، وهو حجّة عليه وعلى مقلّده بالإجماع ، ولا
يصير حجّة على الغير.
والحاصل ، أنّا
نفرض المسألة أصوليّة ونقول : هل يجوز العمل في الأحكام الشرعيّة سواء كانت
أصوليّة أو فقهيّة على الظنّ مطلقا ، أو لا يجوز العمل إلّا باليقين أو الظنّ
المعلوم الحجّية ، فيجب على كلّ من اختار أحد طرفي المسألة من إقامة الدّليل على
مطلبه ، فإن استدلّ المنكر للعمل بالظنّ بمثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
فنقول له : إن كان
الظنّ الحاصل من هذه الآية قبل استفراغ الوسع والفحص عن المخصّص والمعارض ، وقبل
إبطال دليل الخصم من انسداد باب العلم وانحصار الطّريق في الظنّ ، فلا إجماع على
حجّية مثل هذا الظنّ الحاصل من الآية كما هو واضح ، وإن كان بعد استفراغ الوسع
والفحص من الطّرفين فيحصل الظنّ للمنكر بسبب الآية بعدم الجواز ، وذلك بأن يدّعي
عدم انسداد باب العلم ، أو يثبت كون الأدلّة المعهودة من خبر الواحد والاستصحاب
وغيرهما قطعيّ العمل ، فهو حجّة حينئذ عليه وعلى مقلّده.
كما انّ المجوّز
أيضا إذا أبطل قطعيّة هذه الأدلّة وأثبت انسداد باب العلم يبني على العمل بالظنّ ،
فرأي كلّ من هذين المجتهدين حجّة عليه وعلى مقلّده
__________________
بالإجماع ، ولا
يصير رأي أحدهما حجّة على الآخر ، فحينئذ لا يجوز للمنكر أن يحتجّ على المجوّز
بالآية ، بل وإن كان ولا بدّ أن يحتجّ عليه ، فلا بدّ أن يتمسّك بإبطال انسداد باب
العلم وإثبات الأدلّة المعلوم الحجّية.
فالاستدلال بالآية
فيما نحن فيه على إثبات حرمة العمل بالظنّ مع انسداد باب العلم ؛ غلط. فإنّ الخصم
متمسّكه انسداد باب العلم وعدم تفاوت الظّنون ، ولا يصحّ معارضته بحرمة العمل
بالظنّ مطلقا.
ومن الغرائب ما
وقع من جماعة من الأصحاب مثل صاحب «المعالم» رحمهالله وغيره حيث جمعوا بين تمسّكهم بأصالة حرمة العمل بالظنّ في
إبطال حجّية الشّهرة وتقليد الموتى وغير ذلك ، وتمسّكهم في حجّية أخبار الآحاد
وغيرها بانسداد باب العلم وانحصار الطّريق في الظنّ ، كجمعهم بين هذا الدّليل فيها
واشتراطهم في العمل بها إيمان الرّاوي وعدالته ، وغير ذلك من الشّروط كما فعله
صاحب «المعالم» رحمهالله وغيره ، وهذا تناقض واضح.
فإن قلت : إنّ
حجّية العامّ المخصّص إجماعيّ لأنّ المخالف فيها ليس إلّا بعض المخالفين.
قلت : كونه
إجماعيّا ممنوع وإن كان هو المشهور بين الأصحاب ، والاعتماد على الشّهرة والإجماع
المنقول يدير الكلام السّابق ، مع أنّ الإجماع المدّعى في ذلك إن كان على الحجّية
وعدمها مع قطع النّظر عن حصول الظنّ وعدمه ، فهو لا يلائم استدلالهم بدعوى الظهور
، ونحو ذلك كما لا يخفى ، مع كمال بعده في المسائل الأصوليّة.
وإن كان على
الظّهور في الباقي وحصول الظنّ ، فهو ليس من شأن الشّارع والأمور التي يدّعى فيها
الإجماع المصطلح ، وأمّا إجماع الأصوليّين فغايته إفادة
الظنّ ، وهو يدير
الكلام السّابق أيضا.
والحاصل ، أنّ
الإجماع المدّعى في هذا المقام على حجّية ظواهر الكتاب إن كان هو الإجماع المنقول
أو الاستنباطيّ ، فيدخلان في عموم آيات التحريم ، ولا دليل على حجّيتهما سوى
كونهما ظنّ المجتهد ، وإن كان هو الإجماع المحقّق ، فإن كان على الجملة فهو لا
يجدي نفعا ، وإن كان على كلّ الظّواهر ، فمع ما يرد عليه ما سبق ممّا فضّلناه [فضلنا]
فيه أنّه مستلزم لحجّية الظنّ الحاصل من قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وأمثاله من الظّواهر والظّنون الحاصلة بأنّ العمل على
ظنّ الكتاب لا يجوز ، فإنّها عامّة تشتمل ذلك أيضا.
فالإجماع على
حجّية الظّواهر حتّى الظّاهر الدالّ على حرمة العمل بالظنّ عموما ، يثبت عدم حجّية
الظنّ الحاصل من القرآن ، وما يثبت وجوده وعدمه ، فهو محال.
فإن قلت : إنّه
مخصّص بالإجماع المتقدّم.
قلت : لو سلّمنا
صحّة هذا التخصيص ، يرد عليه أنّ ذلك مستلزم لتخصيص ذلك الإجماع ، ومن ذلك يلزم
كون الإجماع ظنّيا ، لأنّ التخصيص لا يكون إلّا في العامّ.
فإن قلت : وإن كان
ظنّيا في الجملة ، لكنّه قطعيّ في الجملة أيضا.
قلت : سلّمنا ذلك
، لكن يكفي في تحقّق المقدار القطعيّ بقاء فرد واحد بعد التخصيص ، فإن كان ذلك هو
ظنّ غير آيات التحريم ، فلا ينفعك فيما رمته من الاستدلال ، وإن كان هو الظنّ
المستفاد من الآيات الدالّة على حرمة العمل بالظنّ
__________________
ولكن في غير الظنّ
الحاصل من الآية.
ففيه : أنّ لغير هذا الظنّ أيضا عرضا
عريضا قد أخرج منه ألف ظنّ ، كالبيّنة والإقرار واليد وغير ذلك ، فلم يبق ما يمكن
فيه دعوى القطع إلّا مثل القياس ، ونحن نقول به أيضا ، ولا ينفعك فيما رمته.
فإن قلت : إنّ
الإجماع إنّما هو على حجّية جميع مقتضيات الظّواهر حتّى المستفاد من الآيات
الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، لكن في غير ظاهر القرآن ونظائره ، يعني وقع الإجماع
على أنّ كلّ الظّنون الحاصلة من القرآن واجب العمل غير الظنّ الحاصل منه بمثل حرمة
العمل بالظنّ الحاصل من القرآن.
قلت : بعد تسليم
صحّة هذه الدّعوى يرجع هذه الى دعوى الإجماع على حرمة بعض المظنونات دون بعض ، لا
على وجوب العمل على الظّواهر الدّالّ بعضها على حرمة العمل بالظنّ ، إلّا الظنّ
الفلاني ، وليس هذا من باب إثبات حجّية العامّ بالإجماع إلّا ما أخرجه الدّليل
حتّى ينفعك في مقام إثبات حجّية الظّنون الحاصلة من القرآن ، بل من باب إثبات
حجّية بعض المظنونات بالإجماع ، وهو ما حصل من سائر الظّواهر وبعض مدلول ما دلّ
على حرمة العمل بظاهر القرآن ، وهو غير حرمة الظنّ الحاصل من القرآن الدّاخل في
آيات تحريم العمل بالظنّ ونحوه.
وبعبارة أخرى :
هذا إجماع على بعض مدلول آيات تحريم العمل بالظنّ ، وهو حرمة العمل على غير الظنّ
الحاصل من القرآن ونحوه ، وهذا البعض ليس بظاهر هذه الآية حتّى نقول : إنّه من
الظّواهر التي تثبت حجّيتها بالإجماع.
فإن قلت : إنّ
الاجماع انعقد على أنّ الأصل جواز العمل بما يحصل الظنّ به من الكتاب مطلقا ،
فالإجماع إنّما هو على جعل الحجّة هو الظن الحاصل من الكتاب ما لم يثبت المخرج
عنه.
قلت : لو سلّمنا
منك هذا الإجماع ، فهذا عدول عن أصل الدّعوى ، لأنّ الدّعوى إنّما هي الإجماع على
حجّية الظّواهر بعنوان العموم ، يعني حجّية كلّ واحد منها بحيث يكون الأفراد
متعلّقا لدعوى الإجماع.
وهذا الكلام يقتضي
دعوى الإجماع على قاعدة كليّة ، ومع ذلك فنقول حينئذ : خروج الظنّ الحاصل من
الكتاب من عموم آيات تحريم الظنّ لا بدّ أن يكون من دليل قطعيّ أو ظنّي علم حجّيته
، فما هذا الدّليل؟
وقد فرضت أنّ
الدّليل القطعيّ هو الإجماع المذكور ، وقد أبطلنا قطعيّته لدخول العامّ المخصّص ،
أعني آيات تحريم العمل بالظنّ في مورده.
وأمّا إذا بطل قطعيّته
، فلا دليل على حجّيته ، لدخوله تحت عمومات الآيات المذكورة وإن كان الدّليل شيئا
آخر من خبر متواتر أو شيء آخر ، فمع أنّه غير مسلّم وغير معلوم ، فهو خروج عن
إثبات المطلب بالإجماع ، فلم يبق إلّا الاعتماد على الظنّ الاجتهاديّ.
فإن قلت : نحن
ندّعي أنّ الإجماع على مجموع قولنا : إنّ كلّ الظّواهر حجّة ما لم يثبت المخرج
عنه.
فهذه قاعدة قطعيّة
خصّصنا به عموم آيات التحريم ، وخروج بعض الظّواهر بالدّليل لا يوجب عدم جواز
العمل بالباقي.
قلت : قد أشرنا
سابقا الى بطلان هذه الدّعوات ومنعها بقولنا : لو سلّمنا صحّة هذا التخصيص يرد
عليه أنّ ذلك مستلزم لتخصيص ذلك الإجماع ، الى آخره.
فإن شئت أن أبيّن
لك وجه المنع وعدم التّسليم حتّى يندفع عنك هذه الشّبهة.
فبيانه : أنّ
الأصوليّين قد ذكروا أنّ دلالة العامّ على كلّ واحد من أفراده دلالة تامّة ،
ويعبّرون عنه بالكلّي التّفصيليّ والكلّيّ العدديّ.
فنقول : دلالة هذه
القاعدة التي أثبتها الإجماع على وجوب العمل بآيات تحريم الظنّ دلالة تامّة ، وليس
من باب دلالة المشترك على معنييه حين استعماله فيهما على القول بجوازه ، ولا من
باب الكلّي المجموعيّ ولا من باب دلالة كلّ واحد من ألفاظ الكلمة المركّبة على
معناها.
فنقول : قولك :
إنّ كلّ واحد من ظواهر الكتاب حجّة إلّا ما أخرجه الدّليل ، ينطبق بعمومه على آيات
التحريم ، ويدلّ على حجّيتها دلالة تامّة ، وحينئذ فلا بدّ أن يكون المخرج
والمخصّص ـ بالكسر ـ مغايرا للعامّ والمخصّص ـ بالفتح ـ وإلّا لم يكن دلالة العامّ
على الآيات المذكورة دلالة تامّة.
فإذا كان جواز
العمل بآيات التحريم هو مقتضى نفس تلك القاعدة العامّة ، فلا بدّ أن يكون المخصّص
والمخرج شيئا آخر لاستحالة اتّحاد المخصّص والمخصّص ، لأنّ كلّ واحد من أفراد
العامّ متساوي النّسبة مع الآخر في دلالة العامّ عليه ، وحجّية العامّ فيه.
نعم ، يصحّ الكلام
إن قلت ، وقع الإجماع على حجّية آيات التحريم بعمومها وانعقد إجماع آخر على حجّية
سائر الظّواهر ، وهذا الإجماع الثاني مخصّص لمقتضى الإجماع الأوّل.
والمفروض أنّ
الإجماع المدّعى شيء واحد وهو الإجماع على حجّية ظواهر الكتاب من حيث إنّها ظواهر
الكتاب ، ولم يدّع أحد الإجماع على حجّية آيات التحريم من حيث إنّها آيات التحريم
، ولو إدّعاه أحد فهو خروج عمّا نحن فيه ، والكلام عليه على نهج آخر.
والحاصل ، أنّ
القاعدة التي تدّعيها بالإجماع هو عامّ منطبق على جزئيّاته بالدلالة التّامّة ،
ولا يجوز أن يدفع دلالتها على بعض جزئيّاتها بدلالتها على البعض
الآخر ، للزوم
التناقض في الكلام ، ويعود عليه البحث الذي ذكرناه سابقا وهو أنّ ما يثبت وجوده
عدمه فهو محال.
ومن ذلك يظهر
الجواب عمّا يمكن أن يقال هنا في مقام التّوجيه بعبارة أخرى ، وهو أنّ الإجماع
انعقد على حجّية كلّ الظّواهر بعنوان العموم وانعقد إجماع آخر على عدم حجّيّة هذا
الظّاهر الخاصّ ، أعني دلالة آيات التحريم على حرمة العمل بظاهر القرآن ، وهذا
الإجماع الثاني مخصّص للإجماع الأوّل ، وذلك لأنّ هذا الإجماع الثاني لا معنى له
في الحقيقة إلّا الإجماع الأوّل.
فأمّا ذلك الإجماع
لا أصل له ، وأمّا آيات التّحريم فلا عموم فيها أصلا ، بل هي مخصوصة بمعنى معيّن
مثل أصول الدّين أو ما يتّهم به المسلمون ونحو ذلك ، وأيّهما ثبت يكفينا في إتمام
المطلوب وهو بطلان أصالة حرمة العمل بالظنّ.
فتأمّل فيما ذكرته
بعين الدّقّة والإنصاف تجده حقيقا بالقبول إن شاء الله تعالى.
ثمّ إن تنبّه
الخصم بما ذكرنا له من الجواب ، وأعرض عمّا تحاوله أوّلا من تخصيص عموم آيات
التحريم بالإجماع المدّعى ، ورام سلوك مسلك آخر لتأسيس أصالة حرمة العمل بالظنّ ،
وقال : إنّه لا تخصيص هنا أصلا ، بل دلالة القاعدة المستفادة من الإجماع دلالة
تامّة واردة على جميع جزئيّاتها ، بتقريب أنّ مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وأمثاله باقية على ظاهرها ، فإنّ المراد منها النّهي عن
الظنّ الذي لم يكن مستندا الى قاطع ، وسائر الظّنون الحاصلة من سائر الآيات
مستفادة من القاطع ، وهو القاعدة المعلومة بالإجماع ، فلم يدخل تحت آيات التحريم
حتّى يحتاج الى التخصيص أو الى إجماع آخر.
__________________
فنقول في جوابه :
إنّ هذا غفلة عن الفرق بين الظّاهر والقاطع ، بل الحقيقة والمجاز. فإنّ الضمير
المجرور في قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) يعود الى الموصول نفسه لا إلى وجوب العمل به ، فيحتاج ما
ذكرته الى إضمار ، بل يلزم استعمال الضمير في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في
استعمال واحد ، وهو باطل ، يعني (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
ولا بوجوب [يوجب]
العمل به علم ، أو لا بدّ أن يحمل العلم على معنى يشمل العلم وما يوجب العمل به ،
وهو أيضا مجاز ، فأين مقتضى القاعدة الحاصلة من قرينة للتجوّز في بعضها الآخر ليس
بأولى من العكس لوقوع الكلّ في مرتبة واحدة فيحتاج الى دعوى إجماع آخر ، بل
إجماعين آخرين ، وقد عرفت الحال فيه.
وكذلك في الآيات
النّاهية عن اتّباع الظنّ ، فإنّ حمل الظنّ على الظنّ الذي لا قاطع على العمل به ،
تخصيص صريح ، وهو كرّ على ما فرّ منه.
وبالجملة ، لا ريب
أنّ ما يحصل من قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) مثلا الظنّ بأنّ حكم الله تعالى في الواقع وجوب تطهير
الثّوب عن النجاسة ، لا العلم به ، لاحتمال إرادة مطلق التنظيف والتّقصير ، وهذا
هو المعنى الحقيقي للظنّ ، ووجوب العمل على هذا الظنّ لو ثبت ، لا يخرج ذلك الحكم
عن كونه مظنونا ، وهذا واضح لا سترة فيه.
ثم إن رجع الخصم
وقال : إنّ كلّ ظاهر قام عليه دليل قاطع فهو معلوم بحسب
__________________
الظّاهر مظنون
بحسب الواقع كالعلم بكون مال زيد له ، وكذا زوجته بمجرّد اليد والتصرّف. وذلك كما
يقال في توجيه لفظ العلم في تعريف الفقه : إنّه هو العلم بالأحكام الشرعيّة.
وهذا هو معنى
قولهم : ظنيّة الطّريق لا ينافي قطعيّة الحكم ، كما هو الأظهر في توجيهاته .
فنقول في دفعه :
إنّ كلامه هذا يحتمل معاني ثلاثة : إمّا أنّه معلوم أنّه ظاهر ومظنون من الآية ،
وإمّا أنّه معلوم يجب العمل بما هو ظاهر عن الآية ، وإمّا أنّ ما هو مقتضى الظّاهر
ومدلول اللّفظ فهو معلوم.
أمّا الثالث ،
فبديهيّ البطلان لوضوح المغايرة بين المظنون والمعلوم والظنّ والعلم.
وأمّا الثاني ،
فيرجع الى ما تقدّم من كون المراد من المعلوم ، المعلوم وجوب عمله ، وهو معنى
مجازيّ للعلم.
ويرد عليه ما سبق.
وأما الأوّل ،
فكأنّه هو المراد بقرينة الاستشهاد بحكاية اليد ، وعلم الفقه.
ففيه : أنّ المراد
في تعريف «الفقه» من العلم هو الإدراك العلميّ للأحكام الظّاهرية الظّنيّة من
الأدلّة التفصيليّة على أظهر الوجوه في معنى العلم هنا ، كما حقّقناه في أوّل
الكتاب.
ولكن ذلك لا يفيد
إلّا أنّه حصل العلم بما هو مظنون أنّه حكم الله تعالى ، وذلك لا يجدي في كون
الحكم علميّا بمعنى كون ذلك التّصديق مطابقا للواقع ، ولكنّ لمّا
__________________
ثبت بالبرهان
القطعيّ كون ذلك المظنون حكما شرعيّا له حين انسداد باب العلم ، فيجب العمل به ،
فحصول العلم بالمظنون لا يجعل المظنون معلوما ، بل يجعل الكبرى الكلّيّة للمجتهد
مظنونة واجب العمل.
والحاصل ، أنّ
المراد بالعلم في تعريف «الفقه» وإن كان هو معناه الحقيقي على أظهر الوجوه ، لكن
متعلّقه الظنّ ، يعني يحصل للفقيه العلم بظنّه الذي هو حكم الله تعالى في حقّه
بسبب تلك الكبرى الكليّة الثابتة من الخارج ، فحينئذ يصير معنى قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) منطبقا على المدّعى ، ولكن لا ينفع للخصم في شيء.
فإنّا نسلّم أنّا
نعلم أنّ المظنون من آيات القرآن كذا ، ولا نقتفي [نقتضي] غيره بأن نقول : هذا ليس
بمظنون من الكتاب ، ولكن هذا لا ينفع إلّا مع إثبات وجوب العمل عليها من الخارج ،
وبعد تسليم ثبوته لا يحصل منه شيء إلّا وجوب العمل على ذلك الظنّ ، ولا يثبت من
ذلك كونه علما حتّى ينفعك في هذا.
والحاصل ، أنّ
متعلّق العلم قد يكون ظنيّا ، وقد يكون شيئا ثابتا في الواقع ، وصيرورة الظنّ
متعلّق العلم لا يجعل الظنّ علما ، وهو واضح.
ثمّ لمّا طال
الكلام لما سامحنا الخصم في تسليم الإجماع ، فالقاطع للقال والقيل هو العود الى
منع الإجماع.
ونقول : إنّ
الإجماع هو اجتماع الفرقة بحيث يوجب القطع برأي الإمام عليهالسلام ، ولم يتحقّق لنا بعد وقوع هذا الاجتماع ، فإنّ ذلك
الاجتماع إمّا من ملاحظة فتاويهم صريحا وإمّا من حصول العلم برضاهم بذلك ، بحيث
يحصل
__________________
القطع برضاء
رئيسهم.
أمّا الفتوى ، فلم
يجتمع عندنا من فتاوى أصحاب الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام والتّابعين لهم التصريح بأنّ كلّ ظنّ يحصل من ظواهر الكتاب
في كلّ وقت وزمان وإن كان بعد ألف سنة حجّة لكلّ من يحصل له من العلماء ، وإن كان
بعنوان القاعدة.
وأمّا أرباب
التّصانيف من متأخّري أصحابنا ، فإن سلّم اجتماعهم على تلك الفتوى فغير معلوم أنّ
فتواهم بذلك وتجويزهم العمل بتلك الظّواهر إنّما كان لأجل أنّها ظواهر الكتاب ، بل
لعلّه كان من جهة أنّه ظنّ من الظّنون الاجتهادية.
وأمّا حصول العلم
برضاهم بتقريب حصول العلم بالتتبّع من أحوال السّلف بأنّهم كانوا يستدلّون في
محاوراتهم ومناظراتهم بالآيات القرآنيّة من دون نكير ، فهو لا يستلزم أنّ ذلك كان
من جهة إجماعهم على حجّية الظّواهر ، بل لعلّه كان لحصول القطع بها بسبب القرائن
والأمارات ، وقد كان مختفيا على خصمه فاحتاج الى التنبيه ، كما نبّه الصّادق عليه
الصلاة والسلام على الرّاوي الذي كان يستمع على غناء الجواري حين جلوسه
على الخلاء لمظنّة أنّه ليس بحرام لأنّه لم يأت إليها برجله ؛ بقوله عليهالسلام : أما سمعت الله يقول : (إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).
واستدلال أبي بكر
لعمر حيث شكّ في موت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ، فمن ادّعى تحقّق الإجماع فالعهدة عليه ولا حجّة علينا.
__________________
والحاصل ، أنّ
دعوى الإجماع على حجّية ظواهر الكتاب حتّى في آيات تحريم العمل بالظنّ ، ثمّ بعد
ذلك دعوى ظهور آيات التحريم في كلّ ظنّ لم يقم على حجّيته قاطع حتّى في أمثال
زماننا التي انسدّ باب العلم فيها غالبا.
ودعوى اندراج كلّ
هذه الظّنون تحت القاعدة المدّعى عليها الإجماع ، في غاية الغرابة.
ومن الغرائب أنّ
الجماعة المتمسّكين في أصالة حرمة الظنّ مطلقا حتّى في أمثال زماننا بهذا الآيات ،
يستدلّون في إثبات حجّية أخبار الآحاد والاستصحاب وغيرهما من الأدلّة الظنيّة بأنّ
باب العلم في أمثال زماننا منسدّ ، والتكليف باق بالضّرورة ، فيجوز العمل بالظنّ
وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.
وفيه : ما لا يخفى
، إذ الاستدلال بهذا الدّليل يقتضي حجّية الظنّ مطلقا إلّا ظنّا قام القاطع على
عدم حجّيته. ولا يصحّ أن يقال : مرادهم بهذا الاستدلال جواز العمل بالظنّ المعلوم
الحجّية إذ الظنّ المعلوم الحجّية لا يحتاج الى استدلال في العمل إليه [عليه] وعلى
قول الخصم من أنّ الظنّ المعلوم الحجّية علم وليس بظنّ ، كما مرّ ، فالأمر أظهر.
فحينئذ تتوجّه
المعارضة بأنّ هذا الدّليل العقليّ القاطع في أمثال زماننا ، يفيد جواز العمل
بالظنّ مطلقا إلّا ظنّا قام القاطع على بطلانه ، بل لا حاجة الى استثنائه ، لأنّه
ليس بظنّ ، بل هو مقطوع بعدمه بحرمة العمل به قطعا.
فالحاصل ، أنّ
الآيات إن سلّمنا وجوب العمل على عمومها مع إخراج الظنّ المعلوم الحجّية ، فيجب
العمل على هذا الدّليل أيضا مع إخراج الظنّ المعلوم عدم حجّيته ، فارتفع بهذا
الدّليل القطعيّ العقليّ الظّهور الذي ادّعيت من الآيات ، فصار المحصّل أنّ كلّ
ظنّ لم يثبت بطلانه فهو حجّة ، وبطل القول بأنّ الأصل حرمة كلّ
ظنّ إلّا ما ثبت
حجّيته ، وإن كان ذلك كلام في هذا البرهان القطعيّ الذي تداوله المجتهدون في كتبهم
في الأعصار والأمصار ، فهو يحتاج الى بسط كثير وتطويل غفير ، وقد شرحنا ذلك
وأوضحنا [ه] في مبحث حجّية أخبار الآحاد ، وبيّنّا أنّ الأصل حجّية جميع ظنون
المجتهد وأنّ الأصل في ظنّه الحجّية ، إلّا ما أخرجه الدّليل ، وبيّنّا وجه
الاستثناء من الدّليل القطعيّ مع أنّ التخصيص من شأن الأدلّة الظنيّة ، وإن شئت
فراجعه.
ومن قبيل البرهان
المذكور براهينهم الأخر التي أقاموها على حجّية ظنّ المجتهد من لزوم ترجيح المرجوح
لولاها ، ومن وجوب الاحتراز عن الضّرر المظنون ، ونحو ذلك ، فإنّ كلّ ذلك أدلّة
على حجّية ظنّ المجتهد من حيث إنّه ظنّه ، لا من حيث إنّه ظنّ خاصّ من دليل خاصّ.
وتداول هذه
الطريقة وتضافر كلماتهم بذلك من أجلى الشّواهد على بطلان دعوى أنّ مقتضى الإجماع
المدّعى حجّية ظواهر آيات التحريم مطلقا ، إذ لو سلّمنا ذلك الإجماع في الجملة ،
فكلماتهم هذه تنادي بأنّها مخصّصة بغير آيات تحريم الظنّ ، فتصير دعوى الإجماع
مخصّصة ، يعني أنّ الإجماع وقع على حجّية ظواهر الكتاب إلّا ظاهر آيات التحريم في
زمان انسداد باب العلم.
فكنّا في أوّل
المسألة نكتفي منك بأن لا تردّ قولنا بمنع تحقّق الإجماع في حجّية عموم الظّواهر
بحيث يشمل آيات التحريم مطلقا وإن اتكلنا الى ما اكتفينا به من أنّ تلك الآيات ظنون وظواهر لا قاطع
عليها ، والآن يوشك أن ندّعي الإجماع على أنّ تلك الظّواهر ليست بحجّة بتمامها ،
لما عرفت من أنّ جماهير
__________________
العلماء المحقّقين
يستدلّون في كتبهم على ترجيح الظّنون بالأدلّة المذكورة التي مفادها حجّية ظنّ
المجتهد من حيث إنّه ظنّ ، لا من حيث إنّه ظن مستفاد من دليل خاصّ ، وإلّا لم يحتج
الى هذا الاستدلال.
ثمّ بعد التأمّل
في جميع ما ذكرنا يظهر لك الجواب عمّا يمكن أن يورد على تلك البراهين القاطعة من
باب المعارضة ، بأنّ مقتضى تلك البراهين العمل على الظنّ مطلقا ، فيدخل فيه ظنّ
آيات التحريم إذ تلك أيضا ظنون وظواهر قبالا لما ذكرناه من دخول ظواهر الكتاب تحت
آيات التحريم.
فإن قيل : إنّ
البراهين قرينة على التّجوّز في آيات التحريم. فيقال : إنّ الإجماع على حجّية
الظّواهر إجمالا قرينة على تخصيص آيات التحريم والتّجوّز فيها ، وذلك لأنّ تلك
البراهين قاطعة لا تقبل التخصيص ، فهي مبطلة لآيات التحريم بعمومها ومخصّصة لها
بغير صورة انسداد باب العلم ، ولا يمكن تخصيصها بظواهر آيات التحريم ، لعدم إمكان
تخصيص القطعيّ ، وتخصيص تلك البراهين بالقياس والاستحسان ونحوهما ليس من باب
التخصيص ، وقد بيّنّا الوجه فيها ، فلاحظه ، وسنبيّنه أيضا.
وحاصله ، إمّا منع
حصول الظنّ بها سيّما مع ملاحظة ابتناء الشّريعة على جمع المختلفات وتفريق
المؤتلفات.
وإمّا بأنّ
الاستثناء ممّا يدلّ على مراد الشّارع ظنّا ، لا أنّ الظنّ الحاصل منها مستثنى من
مطلق الظنّ. وإمّا بمنع انسداد باب العلم في موارد مثل القياس بالنّسبة الى مقتضاه
لثبوت حرمة العمل بمؤدّاه ، فيرجع الى سائر الأدلّة ويعمل عليه وإن وافق مؤدّاه
مؤدّى القياس.
وإمّا بمنع ثبوت
تحريم العمل عليه ضرورة حتّى في زمان الحيرة والاضطرار
وانسداد باب العلم
، وعلى المدّعي عهدة دعوى العلم والضّرورة.
ومن الغرائب أغرب
ممّا استغربنا [ه] سابقا من الجمع بين الاستدلال بعمومات حرمة العمل بالظنّ في
سائر المواضع والاستدلال في جواز العمل بالظنّ ، مثل خبر الواحد وغيره بانسداد باب
العلم ، ولزوم تكليف ما لا يطاق كما فعله صاحب «المعالم» رحمهالله ، ما قد نسمعه في عصرنا من أنّا إنّما كلّفنا بالواقع لا
بعلم ولا ظنّ ولمّا كان العلم مطابقا للواقع ، قلنا : إنّا مكلّفون بالعلم ، ولمّا
انسدّ بابه لم ينفتح باب الظنّ على الإطلاق ، لحرمته وكونه كأكل الميتة في المخمصة
، فيتقدّر بما يندفع به الحاجة ، وهو ظنّ المجتهد في بعض الأشياء ، وهو الدّليل ،
لا ظنّ الكلّ في الكلّ ولا في البعض ، ولا ظنّ البعض في الكلّ ، وذلك لأنّ التناقض
بين إدّعاء أصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، والاستدلال بهذا الدّليل ممّا لا يخفى
على ذي شعور ووهن.
هذا الكلام لا
يحتاج الى البيان ، لكن لمّا صرنا في دهرنا ممتحنين بأمثال ذلك ، بل كم وقع من هذا
القبيل في الأوائل والأواخر.
فنقول ، دفعا لما
عسى أن يشتبه الأمر على بعض الطّلبة : إنّي أتكلّم في هذه المقالة في ظنّ المجتهد
ولم أتعدّ الى غيره لتقليل المئونة وتسهيل المعونة ، فإذا سلّم انسداد باب العلم
على المجتهد في بعض المسائل وأغلبها ، فما الظنّ الذي يجوز للمجتهد العمل عليه من
باب أكل الميتة؟
فإن كان هو ظنّه
من حيث هو ظنّه إلّا ما ثبت بطلانه بالدّليل ، فهو مطلوبنا ، لعدم اختصاصه بظنّ
دون ظنّ.
وإن كان ظنّ علم
حجّيته ، فنقول لك : بيّن لي أنّه هل يثبت حجّيته مطلقا ، يعني في حال حضور الإمام
عليهالسلام وغيبته ، وفي أمثال زماننا جميعا ، أو في زمان الغيبة
وعدم الإمكان فقط.
فإن كان الأوّل ،
فمع أنّه ممّا لا يمكن إثباته في أكثر الأدلّة ، فإنّ خبر الواحد لو سلّم الإجماع
فيه ، فلا يثبت إلّا في الجملة كما هو واضح ، وفصّلناه في محلّه ، وهو لا يفيد
اليقين في شيء كما هو واضح.
وكذا الاستصحاب
وغيره إن سلّمنا كون حجّية الكتاب إجماعيّا كما مرّ الكلام فيه ، مع أنّه لا يثبت
منه إلّا أقلّ قليل من الأحكام ، ولا يثبت أصل البراءة إن سلّم قطعيّته شيئا من
الفقه أيضا ، فنقول : إنّ ذلك ليس من باب انسداد باب العلم سيّما على زعم الخصم من
كون ما هو معلوم الحجّية علما ، وإن كان الثاني ، فبيّن لي أنّه أيّ ظنّ لا يجوز
العمل به للمجتهد في حال الحضور وقام الدّليل على جواز العمل به في حال الغيبة؟
ولنختم الكلام بما
عسى أن يختم به الكلام وإن كان ذلك غير مرجوّ من مثلي ، بل وأيّ كلام لا يرد عليه
كلام عدا كلام الملك العلّام وأوليائه الكرام عليهمالسلام.
ونعود الى ما كنّا
فيه من القدح في الإجماع المدّعى على حجّية ظواهر الكتاب ، ونقول : إنّ المسلّم
منه إنّما هو الإجماع على ما هو ظاهر عند المشافهين بها ومظنون عندهم ، أو فيما
يحصل الظنّ به لكلّ أهل اللّسان وكلّ العلماء.
وأمّا ما يحصل
الظنّ فيه للبعض دون البعض ، فلا معنى للإجماع على حجّية ذلك إلّا دعوى أنّ كلّ من
يحصل له الظنّ فهو حجّة عليه دون غيره ، وإثبات الإجماع على ذلك.
بمعنى أنّ علماء
الأمّة أجمعوا على أنّ كلّ من يحصل له الظنّ بشيء فهو حجّة عليه ، بحيث يحصل له
القطع بأنّ رأي الإمام عليهالسلام في هذه المسألة أنّ من يحصل له الظنّ من مفهوم المخالفة
مثلا ، فهو حجّة عليه ، ومن لا يحصل فلا ، ومن يعتبر العامّ
المخصّص فهو حجّة
عليه ، ومن لا يعتبر فلا. دونه خرط القتاد.
فإن قلت : إنّ
حجّية ظن المجتهد إجماعيّ ، فلا معنى للتشكيك في ذلك.
قلت : هذه غفلة
عجيبة ، فإنّ كلامنا في إثبات الإجماع على حجّية الظنّ الحاصل من الكتاب بالخصوص
ومن حيث هو ، وإلّا فلا كلام لنا في حجّيته من حيث إنّه ظنّ من ظنون المجتهد.
وأيضا ظاهر دعوى الإجماع على حجّية الظّواهر هو على ما هو ظاهر
من الآية في نفس الأمر لا ما هو ظاهر عند كلّ مجتهد ، فالإجماع إنّما يسلّم فيما
هو مسلّم ظهوره عند كلّ أهل اللّسان ، فما اختلف في ظهوره لا يدخل في الإجماع.
ويلزم من ذلك أنّ
مدّعي الإجماع على حجّية الظّواهر فرض كون العامّ المخصّص ظاهرا في الباقي. يعني
لمّا خرجت الظّنون المجوّزة مثل قول ذي اليد والعدلين والظنّ في
القبلة والوقت ، ونحو ذلك من عموم آيات التحريم ، بقيت تلك الآيات ظاهرة في تحريم العمل بالشّهرة والغلبة ونحو
ذلك.
ونحن وإن سلّمنا
ذلك ، ولكن نقول : هناك تخصيص آخر في أوقات العامّ ، ولا نمنع منك الظهور في
الباقي بالنسبة إليه ثمّ دعوى الإجماع عليه.
والحاصل ، أنّ
القول بكون حجّية الظّواهر إجماعيّة لا بدّ أن يناط بما هو ظاهر في نفس الأمر
يقينا أو بحسب ظنّ مدّعي الإجماع ، والأوّل ممنوع ، والثاني لا ينفع في حقّيّة
دعوى الإجماع.
__________________
وهذا بخلاف دعوى الإجماع
على حجّية ظنّ المجتهد ، فإنّ معناه الإجماع على أنّ ظنّ كلّ مجتهد حجّة عنده
وعليه وعلى مقلّده لا في نفس الأمر ، بخلاف الإجماع على حجّية الظّواهر ، فإنّ
معناه أنّها حجّة على كلّ أحد وهو شيء واحد ، لا أنّها تختلف باختلاف الأشخاص ،
وتختلف الحجّية باختلاف أفهام الأشخاص في كونه ظاهرا.
فإن قلت : إنّا
ندّعي الإجماع على أنّ الظنّ الحاصل من القرآن حجّة لأنّ الإجماع على أنّ العمل
بالظّواهر واجب ، فلا يضرّ في ذلك الاختلاف في الظنّ ، فإنّ ذلك اختلاف في الموضوع
، وهو لا ينافي انعقاد الإجماع على حجّية أصل الظنّ ، وذلك من قبيل جواز الصلاة في
الخزّ إجماعا مع الاختلاف في حقيقته ، وكذلك حرمة التّكفير فيها.
قلت : إنّا نجيب
عن ذلك أوّلا : بالمعارضة ، ونقول : إنّ من المسلّمات تحقّق الإجماع على حجّية ظنّ
المجتهد في أمثال زماننا ، يعني أنّه يجوز له العمل بما أدّاه إليه ظنّه ولمقلّده
تقليده.
ودعوى هذا الإجماع
عامّة بالنّسبة الى الاجتهاد في نفس الدّليل وفي كيفيّة الاستدلال ، فهل يمكنك أن
تقول : لا يجوز لمثل الشهيد رحمهالله إذا أدّاه ظنّه الى العمل بالشّهرة العمل عليه ولا لمقلّده
متابعته ، والقول بأنّه مخطئ آثم أو تعذّره في ذلك لأنّه ظنّه وهو حجّة عليه وعلى
مقلّده.
والإجماع [فالإجماع]
على جواز عمل المجتهد بظنّه يوجب جواز العمل بالشّهرة لمن أدّاه ظنّه الى العمل
بالشّهرة ، وكيف إذا حصل له القطع بحجّيتها لأجل انسداد باب العلم وبقاء التكليف
لو فرض انحصار المأخذ الرّاجح في النّظر فيها ورجحانها على الأصل في نظر المجتهد.
فنقول بعنوان
القلب من باب الإلزام : إنّ الشّهرة حجّة بالإجماع ، فكما أنّك تقول : الإجماع على
حجّية العمل بالظنّ الحاصل من الكتاب يوجب كون العمل بآيات التحريم إجماعيّا.
فنحن نقول : إنّ
الإجماع على حجّية ظنّ المجتهد عليه وعلى مقلّده يوجب كون جواز العمل على مقتضى
الشّهرة لمن ترجّح في نظره إجماعيّا.
فإن قلت : الظنّ
الحاصل من آيات التحريم ظنّ نفس أمريّ ، فإنّه ظنّ إضافيّ بالنّسبة الى المجتهد.
قلت : أوّلا :
إنّا أيضا نقول : إنّ الظنّ الحاصل من الشّهرة أيضا من الأمور النّفس الأمريّة
لأنّها بنفسها تفيد الظنّ مع قطع النّظر عن خصوصيّة المجتهد.
وثانيا : نقول :
انفهام الباقي بعد التخصيص من العامّ المخصّص وظهوره في الباقي من المسائل
الاجتهاديّة ، ويختلف باختلاف الأشخاص.
سلّمنا ظهوره في
الباقي في نفس الأمر ، لكنّ الباقي قد يلاحظ بالنّسبة الى أفراد العامّ ، وقد
يلاحظ بالنّسبة
الى أوقاته ،
فظهور آيات التحريم في حرمة العمل بظنّ المجتهد الحاصل من الشّهرة مثلا في أمثال
زماننا وبعد سدّ باب العلم فيه منع واضح ، فيندفع النّفس الأمريّة حينئذ في غاية
الوضوح ، فإنّ دعوى هذا الظّهور من محض الغفلة ، فلا يصير حجّة على أحد.
وثانيا : نجيب عنه
بالمناقضة ونقول : لا ينفع الإجماع على الكلّ المجمل في الأفراد المحتملة
الاندراج. أتراك تقول إذا قال الشّارع : إنّ الكافر نجس ، وانعقد الإجماع عليه
واختلف في أنّ المجسّمة مثلا كفّار أم لا.
إنّ من يقول
بكفرهم بظنّه واجتهاده يمكنه القول بأنّ نجاستهم إجماعيّة أو قطعيّة؟ كلّا ، بل
تقول : إنّي أظنّ نجاسته لظنّي أنّه كافر ويحتاج إثبات حجّية هذا
الظنّ ، وعمله على
رأيه بنجاسة المجتهد الى دليل آخر ، وهو حجّية ظنّ المجتهد لا الإجماع المذكور
المنعقد على نجاسة الكافر بالإجماع فقط.
فكذلك فيما نحن
فيه ، نقول : إنّ الإجماع لو سلّم على حجّية الظنّ الحاصل من الكتاب في الجملة ،
فلا نسلّم الإجماع على حجّية هذا العام المخصّص يقينا.
وكيف يدّعى عليه
الإجماع بالخصوص سيّما مع ما يظهر من جلّ العلماء الفحول حجّية مطلق ظنّ المجتهد
كما لا يخفى على من تتبّع كلماتهم ، وسنشير الى بعضها في آخر الكلام.
فظهر ، أنّ
الحجّية إنّما هو لكونه ظنّ المجتهد لا لأنّه ظنّ حاصل من الآية.
والحاصل ، أنّا
نقول : إمّا أن تقول : إنّ الإجماع منعقد على حجّية الظّنون الحاصلة للمشافهين ومن
يحذو حذوهم من الكتاب والخبر القطعيّ.
وإمّا أن تقول :
إنّ الإجماع منعقد على حجّية ما حصل للمجتهد من الظنّ الحاصل من الكتاب في أمثال
زماننا ، ولو بعد ملاحظة المعارض والعلاج.
وبالجملة ، الظنّ
الحاصل بعد الاجتهاد ، مع مدخليّة الكتاب فيه ، ولكن لا من حيث إنّ الكتاب داخل
فيه ومن جهة دخوله ، ومن جملتها ظنّ حرمة العمل بالظنّ.
وإمّا أن تقول :
إنّ الإجماع منعقد على حجّيته من جهة أنّه ظنّ من ظنون المجتهد ، وظنّ المجتهد
حجّة عليه وعلى مقلّده في أمثال زماننا ، فإن كان الأوّل ، فقد سلّمنا ذلك ولا
ينفعك.
وأمّا الثاني :
فممنوع لاستلزامه عدم حجّية ظنّ مجتهد يعتمد على ظنّ لم يدخل في استدلاله الكتاب ،
أو ما هو مثله من المتون القطعيّة إذا أدّاه ظنّه إليه ، فلا بدّ لك أن تقول
بالثالث ، يعني أنّ الإجماع منعقد على جواز اعتماد المجتهد
على ظنّه ، وجواز
اعتماد مقلّده عليه وإلّا لزم عليك أن تقول : إنّ مثل الشهيد رحمهالله ممّن يقول بحجّية الشّهرة لا يجوز له العمل على اجتهاده
ولا تقليد مقلّده له ، وهو باطل بالإجماع.
فثبت أنّ ما ثبت
عليه الإجماع هو حجّية ظنّ المجتهد من حيث هو ظنّه.
فظهر أنّ الإجماع
الذي ادّعيت على حجّية الظنّ الحاصل من الكتاب ، ليس من جهة أنّه ظنّ الكتاب
بخصوصه ، بل من جهة أنّه ظنّ للمجتهد.
والقول بأنّ ظنّ
المجتهد من حيث إنّه ظنّ المجتهد إجماعيّ ، يبطل التمسّك بأصالة حرمة العمل بالظنّ
، وإلّا لزم التناقض.
فإن قلت : إنّا لا
نقول بأنّ مثل ظنّ الشهيد رحمهالله ليس بحجّة عليه ولا على مقلّده ولا نقول بأنّه آثم ، بل
نقول إنّه مخطئ معذور هو ومقلّده ، ولكن نقول الحقّ والتّحقيق ونفس الأمر حرمة
العمل بالظنّ بسبب البرهان وهو الإجماع.
قلت : إنّ الشهيد
أيضا يقيم البرهان بسبب انسداد باب العلم وانحصار المناص.
فإن قلت : نمنع
انسداد باب العلم لكون القرآن قطعيّ العمل.
قلت : مع أنّ ذلك
خروج عن المتنازع إذ المتنازع بعد انسداد باب العلم ، فإذا رجعت الى دعوى عدم
انسداد باب العلم فلا بدّ أن نرجع الى إثباته ، ونحن لمّا بيّنا ذلك في بحث خبر
الواحد وفصّلناه ، فلا حاجة هنا الى تجديد الكلام في ذلك ، ولكن نقول هنا في
الجملة : إنّ ظاهر القرآن على فرض تسليم قطعيّة حجّيته ، لا يثبت إلّا أقلّ قليل
من الأحكام.
فإن قلت : أصل
البراءة أيضا قطعيّ.
قلت : نمنع أوّلا
: قطعيّته لكونه من المسائل الخلافية الاجتهاديّة المبتنية أكثر مواردها على
الأدلّة الظنيّة.
وثانيها [وثانيا]
: إنّها لا تثبت الفقه ولا الأحكام التفصيليّة اليقينيّة ثبوتها تفصيلا في الشّرع
على سبيل الإجماع كما لا يخفى على المطّلع ، وكذلك الاستصحاب ليس بقطعيّ ولا يفيد
القطع.
فإن قلت : إنّ
العمل على أخبار الآحاد قطعيّ لدلالة الآيات والإجماع.
قلت : دلالة
الآيات غير واضحة ، والإجماع ممنوع ، ودعوى الإجماع مع ظنيّتها من السيّد رحمهالله والشيخ رحمهالله متعارضة ، مع أنّ المسلّم منهما إنّما هو في الجملة لدعوى
إجماعهم على اشتراط العدالة ، واختلافهم في معنى العدالة ، واكتفاء الشيخ
بالمتحرّز عن الكذب ، واكتفاء المشهور بعمل المشهور على الخبر الضّعيف ، واكتفاء
بعضهم في المزكّى بالواحد ، واشتراط بعضهم الاثنين ، واختلافهم في الكاشف عن
العدالة ، والإشكال في موافقة مذهب المزكّي للمجتهد في معنى العدالة ، والكاشف عنه
، ثمّ بعد ذلك الإشكال في مخالفة الأخبار ومعارضة بعضها لبعض مع اختلافهم في
كيفيّة التّرجيح والمناص ، مع أنّ كثيرا من المرجّحات لا نصّ عليها ، مثل علوّ
الإسناد وموافقة الأصل ومخالفته ، وغير ذلك ، واختلاف المرجّحات المنصوصة بحيث لا
يرجى دفعه إلّا بالرّجوع الى الظنّ الاجتهاديّ كما سنبيّنه في الخاتمة ، الى غير
ذلك ممّا لا يحصى كثرة.
والحاصل ، أنّ
دعوى الإجماع على حجّية أخبار الآحاد ممّا لا ينفع في شيء من الأحكام من جهة
صيرورتها قطعيّة.
وادّعى بعض أهل
عصرنا الإجماع على حجّية الظّنون المتعلّقة بالكتاب وأخبار الآحاد بنوعها ، ونحن
بمعزل عن ذلك وفهمه وتصوّره ، ولا نتصوّر لذلك معنى إلّا أنّ ما يضطرّ إليه
المجتهد في زمان الحيرة ويفهمه فهو حجّة عليه ، ولا اختصاص لذلك بالكتاب وأخبار
الآحاد.
وإن ادّعى
الخصوصيّة في ذلك ، فعهدته عليه ، والتوجّه الى القدح في جزئيّات موارد هذه
الدّعوى يقتضي بسطا وإطنابا ، بل الكلام في ذلك ممّا لا يتناهى.
ولكن نذكر بعض
الكلام فيه ممّا يكون من باب القانون لما نطوي عن ذكره.
وهو أنّ الإجماع
المدّعى على حجّية الظّنون المتعلّقة بالمذكورين إمّا على الظّنون الدالّة على
حجّيتهما ، أو دلالاتهما ، أو كيفيّة العلاج في معارضاتهما.
والقدر الذي يمكن
أن يسلّم ويتصوّر من هذه الدّعوى إنّما هو الظّنون المتعلّقة بالأخبار المعلوم
جواز الاعتناء بشأنها والتّكلّم عليها دلالة وجمعا وتنزيلا وترجيحا ، لأنّ هاهنا
نوعا من الأخبار لا غائلة فيها بالذّات ، لكن الإشكال في منافاة بعضها مع بعض
وترجيح بعض على بعض وفهم معانيها.
وأمّا الكلام في
أنّ هذا الصّنف من الخبر هل هو من جملة تلك الأخبار أم لا ، فليس ذلك كلاما
متعلّقا بالخبر ، بل هو متعلّق بإثبات حجّيته ، مثل النّزاع في أنّ خبر الصّبيّ
المميّز حجّة أم لا ، والموثّق حجّة أم لا ، وخبر المتحرّز عن الكذب حجّة أم لا ،
والخبر الضّعيف المنجبر بالشّهرة في العمل حجّة أم لا ، وما زكّي راويه العدل
الواحد حجّة أم لا ، والمرسل حجّة أم لا ، ونقل الخبر بالمعنى جائز أم لا ، فإنّ
دعوى الإجماع على حجّية الظنّ الحاصل بحجّية نفس الخبر من غير جهة أنّه ظنّ
المجتهد مكابرة.
فإن قلت : إنّ
الأخبار الواردة في علاج التّعارض بين الأخبار مستفيضة ، بل قريبة من التّواتر ،
وهي كما تدلّ على حجّية خبر الواحد في الجملة تدلّ على جواز الاجتهاد في النّقد
والانتخاب في الأخبار وأخذ الحجّة وترك غيرها.
قلت : بعد تسليم
تواترها بالمعنى بحيث يجدي لك نفعا : إنّها إنّما تدلّ على
الاجتهاد فيما ثبت
جواز العمل به منها ، وترجيح بعضها على بعض ، لا في إثبات ما يجوز العمل به منها
وما لا يجوز ، فكما أنّ الأخبار الواردة في تعيين الإمام إذا تشاحّ الأئمّة أو
المأمومون إنّما هو بعد صلاحيّة الأئمّة للإمامة ، فكذلك فيما نحن فيه.
فإن قلت : نعم ،
ولكن هذه الدّعوى تندرج في دعوى الإجماع على حجّية الظنّ المتعلّق بالكتاب ، فإنّه
يقتضي حجّية ما يفهم من قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ) الآية. فالآية تدلّ على حجّية خبر العادل وخبر الفاسق الذي
تثبّت خبره ، فأكثر هذه الأقسام إمّا داخلة في منطوق الآية أو مفهومها.
قلت : أوّلا :
قولكم بحجّية الخبر الضعيف المنجبر بالعمل إن كان من جهة التبيّن فالتبيّن يقتضي
بظاهره حصول العلم بالصّدق لا كفاية الظّن.
سلّمنا كفاية
الظّنّ بتقريب أنّ العدالة أيضا لا تفيد أزيد منه ، فإذا دلّت الآية بمفهومها على سماع خبر العدل المفيد للظنّ ، فلم لم
يكتف في جانب المنطوق بالظنّ الحاصل من التثبّت بمقدار ما يحصل من خبر العدل ، لكن
نقول : يلزم من هذا جواز العمل بالشّهرة أيضا ، إذ هو أيضا بناء مفيد للظنّ من جهة
التثبّت.
فإن قلت : إنّ
البناء ظاهر في الخبر عن اليقين ، والشّهرة إخبار عن الرّأي والاجتهاد.
قلت : فما تقول في
التزكية لأجل إثبات العدالة ، أليس هي غالبا مبتنية على
__________________
الإخبار عن الرّأي
والاجتهاد ، فإن جعلت النبأ أعمّ ليشملها ، فيشمل الشّهرة أيضا ، وإن جعلته مخصوصا
بالإخبار عن المحسوسات واليقينيّات [واليقينات] فبما تعتمد على إثبات العدالة التي هو شرط قبول [القبول] الخبر
في نفسه؟
وإن اعتمدت فيها
على الظنّ الاجتهاديّ فما الدّليل على حجّية هذا الظنّ. والاعتماد على الإجماع
الذي ادّعيت يدير الكلام ، مع أنّا نقول : إنّ تلك الآية تدلّ على أنّ الحجّية
إنّما هو من أجل حصول الظنّ ، فإنّ الاعتماد على العلّة يقتضي أنّ الاكتفاء بالعدل
أيضا إنّما هو لأجل حصول الظنّ بخبره ، وذلك واضح ممّا ذكرنا ، فإنّ إصابة القوم
بجهالة علّة لعدم الاعتماد إلّا على ما يفيد الظنّ بالصّدق وذلك لا ينحصر في الخبر
، فدلّت الآية على الاكتفاء بالاطمئنان الظنّي ، فالتمسّك بالآية
ينفعنا ولا يضرّنا.
ومن ذلك يحصل قوّة
اخرى لما ذهب [ذهبنا] إليه ، فإنّ ذلك يخرّب مدار أمر الخصم في الاعتماد على
الإجماع على حجّية الظّنون المتعلّقة بالآية والأخبار في غير جهة الاستنباط
والدلالة ، ويثبت أنّ المعتمد إنّما هو الظنّ المورث للاطمئنان عادة.
ويتشعّب من ذلك
أحكام كثيرة وقوانين كليّة كلّها مبنيّة على ذلك حينئذ ، ويحصل التّخلّص من
الإشكال في وجه الاعتماد في مثل تزكية الرّاوي ، وقبول قول الطبيب في المرض المبيح
للفطر والتيمّم ، وفي إنبات اللّحم وشدّ العظم ، وقول المقوّم والقاسم والمترجم ،
وغير ذلك ممّا هو في غاية الكثرة في أبواب الفقه ، فقد
__________________
تراهم يختلفون
ويتردّدون في كفاية الواحد في الامور المذكورة لأجل تردّدهم في أنّها خبر أو
شهادة.
وممّا ذكرنا تعرف
أنّه لا حاجة الى ذلك ، بل هذه الأمور من جزئيّات ظنّ المجتهد في الموضوعات ،
والمعتمد إنّما هو الظنّ ، وهذه الآية أيضا تدلّ على الاعتماد بملاحظة العلّة ، مع
أنّ في الاستدلال بالآية في حجّية أصل خبر الواحد إشكالات عظيمة ، من جملتها أنّه
لا تدلّ على جواز العمل بخبر الواحد منفردا وإن كان الرّاوي عدلا
أيضا ، وذلك لأنّ النّبأ أعمّ من الرّواية والشهادة وغيرهما من أقسام الخبر
المقابل للإنشاء ، وقد اعتبروا التعدّد في الشهادة ، واكتفوا بالواحد في الرّواية
، ومع ذلك استدلّوا في المقامين لاشتراط العدالة بآية النّبأ ، فإن كانت الآية دليلا على اشتراط العدالة في الشّهادة ، فيلزم أن
يكون المراد من الآية أنّ الرّجل الواحد العادل كلامه مطاع في الجملة ، ولكن لم
يعلم أنّه منفردا ، أو بشرط انضمامه مع الغير ليشمل المقامين ، فلا يدلّ على قبول
قول الواحد منفردا في غير الشّهادة ، كما لا يخفى. وإرادة قبوله منفردا بالنّسبة
الى غير الشهادة ، ومنضمّا الى الغير في الشهادة في استعمال واحد غير صحيح ، كما
حقّقناه في محلّه ، إذ هو استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ معا.
والقول بأنّ الأصل
والظّاهر من الآية كفاية الواحد ، والشّهادة مخرج بالدّليل ، مع كون الآية ظاهرة
فيما هو بالشهادة أشبه من كونها إخبارا عن شخص معيّن مستلزم لتخصيص المنطوق بالخبر
، لثبوت الدّليل في الخارج على عدم كفاية
__________________
التثبّت للفاسق في
الشّهادة ، فلا يمكن الاستدلال بالآية على عدم قبول شهادة الفاسق والمخالف ، فيلزم
عليهم أحد الأمرين إمّا بطلان الاستدلال بكفاية الانفراد في الرّواية ، أو
الاستدلال باشتراط انتفاء الفسق والخلاف في الشّاهد.
والثاني أظهر ،
نظرا الى الأمر بالتثبّت ، فلا بدّ في تصحيح الاستدلال بالآية على حجّية الخبر
منفردا إبطال استدلالهم بها في الشّهادة ، ولا غائلة في التزامه لثبوت دليل آخر في
الشهادة.
ولكن يبقى ما
ذكرناه من الإيراد ، أعني أنّ الآية تدلّ على حجّية الخبر من حيث إنّه موجب
للاعتماد الحاصل بالظنّ ، لا من حيث إنّه خبر كما يقتضيه التعليل ، فهذه الآية
أيضا لنا لا علينا. فظاهر الكتاب الذي هو مدارهم في حجّية الخبر أيضا بعد فرض
تسليم كونه إجماعيّا يثبت مدّعانا.
وممّا يؤيد ذلك ،
أنّ العدالة المشترطة في قبول خبر الواحد قد تحتاج الى الإثبات.
واختلفوا في
ثبوتها بتزكية العدل الواحد وعدمه.
فقيل : بثبوت
العدالة بتزكية الواحد مطلقا.
وقيل : بالاحتياج
الى الاثنين مطلقا.
وقيل : بثبوتها في
الرّاوي بالواحد دون الشّاهد.
فإن قيل : بأنّ
التزكية شهادة ، فلا معنى للتفصيل ، للزوم التعدّد في الشّاهد.
وإن قيل : بأنّها
خبر ، فما وجه اعتبار التعدّد فيها في الشّاهد.
فالتّحقيق كفاية
الواحد في الرّاوي لأجل حصول الظنّ بالرّواية بمجرّد تعديل عدل واحد لراويها ، لا
لأنّه خبر واحد ويكفي فيه الواحد ، ولا لأجل أنّه شهادة ، ولا يشترط فيها التعدّد
هنا بالخصوص.
أمّا أنّ ذلك لأجل
حصول الظنّ الاجتهاديّ لا لأجل كونه خبرا ، فلأنّ المتبادر من الخبر والنّبأ في
الآية هو ما يخبر عن الواقع بعنوان الجزم ، والتزكية غالبا مبنيّة على الاجتهاد
والظنّ فهو من قبيل الفتوى ، وحجّية الفتوى إنّما هو للإجماع أو لآية النّفر أو
لغيرهما من الأخبار ، لا لأنّه خبر واحد.
وهذه الأدلّة
مفقودة في التزكية كما لا يخفى ، فهو من باب العمل بقول الطبيب وأهل الخبرة ، غاية
الأمر اتّصافها بكونها نبأ تبعا ، وبالعرض من جهة الإخبار عن موافقة ما يقوله لنفس
الأمر بظنّه وبحسب معتقده ، وهذا لا يجدي في حجّيتها من حيث إنّها نبأ ، فإنّ المناط
في الحجّية هاهنا أيضا هو الظنّ ، وهذا إخبار عمّا يوجبه ، وحجّية قول الطبيب وأهل
الخبرة لأجل كونهما موجبا للظنّ ، وتردّد الفقهاء اختلافهم في الاكتفاء بالواحد
والاثنين فيهما متفرّعا على كونهما خبرا أو شهادة لا وجه له ، فإنّهما ليسا
بداخلين في أحدهما ظاهرا ، فيكفي العدل الواحد ، بل من يحصل به الوثوق وإن كان
كافرا.
وأمّا أنّه ليس
بشهادة ، فلابتنائها غالبا على العلم واعتبار التعدّد فيها. فالقول بأنّها شهادة
ولم يعتبر فيها العدد هنا يحتاج الى دليل ، كما أنّ من فصّل واكتفى هنا بالواحد
دون الشّاهد تمسّك بالإجماع.
والحاصل ، أنّ من
يقول بأنّ التّزكية شهادة ، فلا بدّ أن يكون اكتفاؤه بالشّاهد الواحد لأجل كفاية
الظنّ ، لا لأنّه شهادة ، واعتباره التعدّد في تزكية الشّاهد لعدم اعتبار الظنّ
هنا ولزوم العلم أو ما يقوم مقامه.
ومن يقول بأنّها
رواية ، لا بدّ أن يقول بتخصيص حجّية خبر الواحد ، ويشترط تعدّد الخبر فيما لو كان
الإخبار في تزكية الشّاهد ، فيعتبر الرّوايتين لا الشّاهدين ، مع هذا [وهذا مع]
ورود المنع عليه بكونها نبأ وخبرا غير مأنوس بمحاوراتهم ،
فإنّا لم نسمع من
أحد اشتراط الرّوايتين في شيء واحد ، وإنّما سمعنا اعتبار الشّاهدين.
فالمحصّل من جميع
ما ذكرنا أنّ الاعتبار في التزكية إنّما هو بالظنّ الاجتهاديّ ، وهذا الظنّ لم
يحصل من الكتاب ولا من السنّة ، إذ قد عرفت إخراجه من لفظ النبأ في الأغلب.
نعم يمكن استنباط
حكمه من العلّة المستفادة من آية النّبإ ، وقد بيّنّا أنّه يثبت مقصودنا ، فهو لنا
لا علينا.
ثمّ استمع لما
يتلى عليك ممّا وعدناك سابقا من ذكر بعض كلمات الفقهاء الدالّة على كون مطلق الظنّ
للمجتهد حجّة.
فمنها : ما تداول
بينهم من ترجيح الظّاهر على الأصل ، وترجيح أحد الأصلين بسبب اعتضاده بالظّاهر ،
والعمل على الظّاهر من حيث هو ظاهر في كلماتهم في الجملة إجماعيّ.
ولنذكر بعض
كلماتهم في هذا الباب ، وعليك بملاحظة الباقي.
قال الشهيد الثاني
رحمهالله في «تمهيد القواعد» في خاتمة باب التّعارض : إذا تعارض
الأصل والظّاهر ، فإن كان الظّاهر حجّة يجب قبولها شرعا كالشّهادة والرّواية والإخبار
، فهو مقدّم على الأصل بغير إشكال ، وإن لم يكن كذلك ، بل كان مستنده العرف أو
العادة الغالبة أو القرائن أو غلبة الظنّ ونحو ذلك ، فتارة يعمل بالأصل ولا يلتفت
الى الظّاهر ، وهو الأغلب ، وتارة يعمل بالظّاهر ولا يلتفت الى هذا الأصل ، وتارة
يخرج في المسألة خلاف.
فهاهنا أقسام :
الأوّل : ما ترك
العمل بالأصل للحجّة الشرعيّة ، وهو قول من يجب العمل بقوله ،
وله صور كثيرة :
منها : شهادة
العدلين بشغل ذمّة المدّعى عليه ، وساق الكلام في الفروع الى أن قال : القسم
الثاني : ما عمل بالأصل ولم يلتفت الى القرائن الخارجة الظّاهرة ، وله صور كثيرة :
منها : إذا تيقّن
الطهارة أو النجاسة في ماء أو ثوب أو أرض أو بدن ، وشكّ في زوالها ، فإنّه يبنى
على الأصل وإن دلّ الظّاهر على خلافه ، الى أن قال : القسم الثالث : ما عمل فيه
بالظّاهر ولم يلتفت الى الأصل ، وله صور :
منها : إذا شكّ
بعد الفراغ من الطهارة أو الصلاة أو غيرهما من العبادات في فعل من أفعالها بحيث
يترتّب عليه حكم ، فإنّه لا يلتفت الى الشّك ، وإن كان الأصل عدم الإتيان وعدم
براءة الذّمة من التكليف به ، ولكنّ الظّاهر من أفعال المكلّفين بالعبادات أن تقع
على الوجه المأمور به ، فيرجّح هذا الظّاهر على الأصل ، وللحرج .
وساق الكلام في
ذكر فروع كثيرة لذلك ، ثمّ قال : القسم الرابع : ما اختلف في ترجيح الظّاهر فيه
على الأصل أو بالعكس ، وهو أمور : منها : غسالة الحمّام ، الى آخر ما ذكره.
أقول : لا ريب أنّ
الأصل من الأدلّة الشرعيّة ومعارضة الظّاهر معه لا يمكن إلّا مع كونه دليلا أيضا ،
ثمّ إنّ الظهور إذا كان من دليل آخر معلوم حجّيته مع قطع النظر عن الظّهور
كالرّواية والشّاهد وغيرهما ، فتقديمه على الأصل إنّما هو من جهة الدّليل الخارجيّ
من إجماع أو غيره ، وإلّا فالظّهور إن كان ممّا يمكن إثبات الحكم به ، فما وجه
تقديم غيره عليه مطلقا ، وإن كان لا يمكن إثبات الحكم به ، فما
__________________
معنى تقديمه على
الأصل في بعض المواضع.
فإن قلت : تقديمه
على الأصل في كلّ ما قدّم عليه إنّما هو بالدّليل لا من حيث هو ظهور.
قلت : فحينئذ فأيّ
فائدة في عقد هذا الباب ، فالكلام في التّرجيح يدور مدار الدّليل القائم على حقيّة
ما هو الظّاهر المطابق له ، فيرجّح على الأصل ، والدّليلين المتخالفين الموافق
أحدهما للأصل والآخر للظاهر ، فيرجّح الأقوى منهما بسبب المعاضدات والمرجّحات على
الآخر.
وأنت كما ترى
الكتب الفقهيّة والأصوليّة مشحونة بذكر المواضع التي وقع التّعارض بين الأصل ونفس
الظّاهر ، ويتكلّمون عليها ويختلفون فيها ، فبعضهم يرجّح الظّاهر ، وبعضهم يرجّح
الأصل ، بل الظّاهر من كلام العلماء أنّ الشّارع جعل ذلك مناطا للحكم الشّرعيّ ،
ويبني في بعض المواضع الحكم على الظّاهر ، وفي بعضها على الأصل بحيث يظهر من
كلامهم أنّ الظّاهر أيضا أصل من الأصول ، وذلك كما في نفي الضّرر [الضّر] ونفي
الحرج.
فقد تراهم يعقدون
لنفي الضّرر والحرج بابا في الأصول ، ثمّ يذكرون من فروعها القصر في السّفر
والتيمّم عند الضّرورة ، والخيار عند الغبن ، وغير ذلك ، وإلّا فمع حكم الشّارع
بوجوب القصر أو التيمّم ، لا حاجة الى الاعتماد على الضّرر والحرج ، ولذلك يستدلّ
الفقهاء بنفي الضّرر والحرج مستقلّا في غاية الكثرة من غير نظر الى ورود نصّ
بالخصوص فيما نوافقه ، وكذلك الكلام في قاعدة اليقين وغير ذلك.
وكلامهم في هذا
الباب أيضا نظير البابين المتقدّمين ، فلاحظهم يذكرون بعد عقد الباب في ذكر الفروع
الأمثلة التي ثبت من الشّارع تقديم الأصل كما في
الطّهارات
والنّجاسات ، كقولهم عليهمالسلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» . و : «حتّى يستيقن» . حتّى اكتفوا فيه بالاحتمال البعيد ، بل قد يجوّزون الحيلة
في إخفاء الأمر ، كما روي أنّه عليهالسلام رشّ على ثوبه الماء بعد الخروج عن الخلاء لأجل دفع لزوم
الاجتناب عن البول لو فرض رؤيته فيه بعد الخروج ، معلّلا فعله بأن يقال : لو حصل
الشّك أنّ هذا من ذلك.
وكذلك في تقديم
الظّاهر ، مثل ما لو حصل الشّك في شيء من أجزاء الصّلاة بعد الدّخول في جزء آخر ،
فإنّ الظّاهر أنّ المكلّف لا يخرج من فعل إلّا بعد الإتيان به ، وهذه المسألة أيضا
قد ثبت بإجماعهم وأخبارهم ، وكذلك العمل بمقتضى الظنّ في الصلاة.
وبالجملة ، الذي
يظهر من كلام العلماء أنّ هاهنا قواعد مقتبسة من الأدلّة الشّرعيّة المعروفة ، مثل
الضّرورة ، ونفي الضّرر ، ونفي الحرج ، ولزوم البيّنة ، وقاعدة اليقين ، يعني لزوم
العمل على مقتضى ما حصل اليقين به حتّى يثبت الواقع ، ومن جملتها استصحاب براءة
الذمّة وغيرها من أقسام الاستصحاب ، ومثل ما حصل الظنّ به وكان ظاهرا بسبب العادة
أو الغلبة أو غلبة الظنّ من جهة القرائن ، ونحو ذلك ، وكلّ ذلك ممّا استفيد جواز
الاعتماد عليها من الشّارع ، إمّا من جهة التّنبيه ، أو من جهة التّنصيص.
والنّسبة بين
المذكورات عموم من وجه ، فكما أنّه قد يحصل بين نفس الأدلّة
__________________
من الآيات
والأخبار عموم من وجه ، فكذلك في المذكورات ، فقد يقع بين قاعدة اليقين وقاعدة
العمل بالظّاهر تعارض من وجه ، وهذا هو الذي ذكره الأصوليّون. ونقلوا اختلاف
الفقهاء في موارد ترجيح بعضها على بعض ، فما وقع الإجماع على أحد الطّرفين ، فلا
إشكال فيه ، وما اختلف فيه ، فإمّا يعتضد أحد الطرفين برواية أو ظاهر آية أو
نحوهما ، فيرجّح على الآخر ، وما لم يحصل فيه شيء من ذلك فإمّا يحصل للمجتهد ظنّ
في التّرجيح من جهة الاعتضاد بظاهر آخر أو أصل آخر فيعمل عليه ، وإمّا لا يحصل ،
فيتوقّف فيه فيعمل على مقتضاه من التخيير أو الاحتياط.
فظهر من جميع ما
ذكرنا ، أنّ الظّاهر والظنّ الحاصل من العادة والغلبة والقرائن أيضا ممّا اعتمد
عليه الشّارع ، وهذا باب مطّرد في الفقه لا ينكره إلّا من لا خبرة له بطرائقهم.
فإن قلت : إنّ
كلماتهم هذه في بيان تحقيق معنى المدّعى في صورة الدّعوى ، فمن يقدّم الظّاهر
فإنّما يريد أنّ الظهور يقتضي كون من يخالفه مدّعيا ، فهذا التحقيق حقيقة اللّفظ
المدّعى الوارد في الأخبار.
فقولهم : إنّ
الظّاهر مقدّم على الأصل ، يريدون أنّ من يدّعي الظّاهر هو المنكر ، ويقدّم قوله
مع فقد البيّنة ، وذلك كما يقدّمون قول البائع في تمام الكيل والوزن على قول
المشتري بنقصه مع حضور المشتري حين الكيل ، لأنّ الظّاهر أنّ المشتري لا يسامح في
ذلك ، فالقول قول البائع وهكذا.
قلت : ليس كذلك ،
بل كلامهم أعمّ من ذلك كما ترى خلافهم في غسالة الحمّام وطين الطريق وغيرهما ،
وكذلك الكلام في التّرجيح بين الزّوجين المتداعيين في مقدار المهر ، حيث تدّعي
الزّوجة مهر المثل ، والزّوج أقلّ منه ، فالكلام فيه يرجع
الى ترجيح أحدهما
مع قطع النّظر عن كون أحدهما مدّعيا والآخر منكرا.
وكذلك في متاع
البيت لو تداعياه مع ثبوت يدهما معا عليه أو يد وارثهما [ورائهما].
ويظهر ذلك غاية
الوضوح فيما لم يكن هناك تداع أصلا ، مثل ما لو كان الوارثان صغيرين وأراد الحاكم
إحقاق الحقّ ، مع أنّا نقول : القول في تحقّق [تحقيق] المدّعي والمنكر أيضا مبنيّ
على ذلك ـ يعني العمل على الظنّ ـ فإنّهم عرّفوا المدّعي بتعريفين :
أحدهما : أنّه من
يترك لو ترك.
والثاني : أنّه من
يدّعي أمرا خفيّا بخلاف الآخر ، فيكون الرّاجح هو قول الآخر ، والرّجحان إمّا من
جهة مطابقته للأصل ، أو الظّاهر ، فإذا تواردا ، فلا إشكال ، وإن كان موافقا
لأحدهما دون الآخر ، فيبني على تقديم الأصل أو الظّاهر.
فالكلام في تقديم
أحدهما على الآخر أصل من الأصول ، ومن فروعه معرفة المدّعي والمنكر ، فتقديم المنكر
، لأجل أنّ قوله موافق للظّاهر مثلا ، لا أنّ الظّاهر مقدّم ، لأنّ القائل به هو
المنكر والقول قوله وعلى المدّعي البيّنة. ولعلّ ما يظهر من بعض الأصحاب أنّ
الأقوال في تعريف المدّعي ثلاثة :
أحدها : من يترك
لو ترك.
والثاني : من
يدّعي خلاف الظّاهر.
والثالث : من
يدّعي خلاف الأصل مسامحة باعتبار ملاحظة المآل ، وإلّا فالأقوال فيه حقيقة اثنان
كما يظهر من سائر الفقهاء ، وصرّح باثنينيّة القولين فخر
المحقّقين في «الإيضاح»
.
فإن قلت : غاية ما
أفاده هذا الباب تجويزهم العمل بالظنّ ، والظّاهر في الموضوع لا في نفس الحكم
الشّرعيّ ، ومحلّ البحث حرمة العمل بالظنّ في نفس الحكم الشّرعيّ ، فلاحظه وتتبّع
موارد تقديم الظّاهر ، فإنّ المراد في العمل بالظّاهر في الغسالة أو في طين
الطّريق أو غيرهما أنّ ظنّ حصول ملاقاة النّجاسة يوجب الحكم بالنّجاسة ، فإنّ
ملاقاة النّجس من الأسباب الشرعيّة الموجبة للحكم بنجاسة الملاقي ، وكذلك الظنّ
بكون الجلد المطروح مذكّى إذا كان مقرونا بقرينة مفيدة للظنّ ، ككونه جلدا لكتبنا
التي لا يتداوله الكفّار غالبا ، مع أنّ الأصل عدم التذكية.
وكذلك الظنّ بكون
الشّهر السّابق على رمضان تماما بسبب غلبة كون شهر تماما وشهر آخر ناقصا وهكذا الى
آخر السّنة ، وكون رمضان ناقصا لذلك يوجب الظن بكون اليوم الآخر من رمضان عيدا ،
فبسبب الظنّ بكونه عيدا يجوز الإفطار على قول من يعمل بهذا الظّاهر ، وهكذا العمل
على الصّحة فيما لو شكّ في جزء من الصلاة بعد خروجه إلى جزء آخر ، فإنّ كون
المكلّف غالبا بحيث لا يخرج عن فعل إلّا بعد أدائه ، يوجب الظنّ بوقوع الفعل ،
فيترتّب عليه حكمه من الإجزاء وعدم لزوم العود.
وهكذا الكلام فيمن
يدّعي صحّة المعاملة إذا اختلف فيها ، مثلا إذا تنازعا في كون العقد حال الجنون أو
الإقامة أو الصّغر والكبر أو الرّشد وعدمه ، وهكذا ، فالظنّ بكونه كبيرا حينئذ أو
رشيدا أو عاقلا ، يترتّب عليه الحكم بمقتضاه من
__________________
الصحّة.
وكذا النّزاع فيما
لو ادّعت الزّوجة المهر وأنكر الزّوج من الأصل ، فإنّ الظّاهر أنّ المرأة لا تخلو
من مهر ، بل ومن مهر المثل ، فحصول الظنّ بثبوت المهر أو مهر المثل يوجب الحكم
بلزومه عليه.
وهكذا في كلّ ما
يرد عليك من مواضع معارضة الأصل والظّاهر ، فكلّها من باب إثبات الموضوع بالظنّ
ليترتّب عليه الحكم ، ولا نزاع في جواز العمل بالظنّ في الموضوع ، وإنّما المراد
أنّه لا يجوز إثبات الحكم من رأس بالظنّ ، فلا يجوز أن يقال : الشّيء الفلانيّ
واجب للشهرة أو حرام كذلك ، لا أنّ الشّيء الفلانيّ الثّابت حكمه في الواقع قد ظنّ
وقوعه ، فيترتّب عليه حكمه.
قلت : إنّ السّبب
أيضا من الأحكام الشرعيّة الوضعية ، مع أنّه لا دليل على جواز العمل بالظنّ في
وجود الموضوعات في إثبات الحكم ، والذي قرع سمعك في ذلك إنّما هو في ماهيّة
الموضوع ومفهومه من حيث يرجع فيه الى اللّغة والعرف ويتمسّك فيه بالأصول الظنيّة ،
مثل أصل الحقيقة ، وأصالة عدم النّقل ، ونحو ذلك كالبيع والإقباض والتصرّف والعيب
، ونحو ذلك.
وكذا الكلام في
مثل مقدار القيمة والأرش ونحو ذلك ، مع إشكال في بعضها أنّه هل هو من باب الاضطرار
وكونه من جملة ظنون المجتهد ، أو أنّه من باب الخبر والرّواية أو الشّهادة ، ومن
هذا الباب تزكية العدل أيضا.
وأمّا الكلام في
ثبوت الموضوع في الخارج حتّى يترتّب عليه الحكم ، فلم يثبت على جواز العمل بالظنّ
فيه دليل بالخصوص ، من إجماع أو خبر قطعيّ فإن كان من جهة انسداد باب العلم وكون
ذلك من جملة ظنون المجتهد ، فهو إنّما ينفعنا ولا ينفعك ، فإنّ ذلك ليس بخصوصية
كونه في الموضوع ، بل هو عامّ.
والحاصل ، أنّ في
موارد تقديم الظّاهر على الأصل اقتحاما في الحكم الشّرعيّ بمجرّد ظنّ بحصول سببه ،
ونحن نطالبكم بدليل هذا الحكم وجواز العمل بهذا الظنّ.
إذا تقرّر هذا ،
فنقول : إمّا تسلّم أنّ العمل على الظّاهر ممّا استفيد من الشّرع ، فهو قاطع
الكلام من رأس. فإنّ الظّاهر ، معناه ما يوجب الظنّ كائنا ما كان ، خصوصا مع
ملاحظة تصريحهم بالاكتفاء بغلبة الظنّ والقرائن.
وإن لم تسلّم ذلك
، فإمّا أن تقول : إنّ الفقهاء أسّسوا هذا الأساس بعد غيبة الإمام عليهالسلام وانقطاعهم عن تحصيل العلم ، فهو أيضا يكفينا.
الظّاهر إجماعهم
على ذلك في الجملة ، وإنّما اختلافهم في بعض الموارد دون بعض وإن لم تسلّم ذلك
أيضا.
وقلت : إنّ ذلك
إنّما هو في كلام أكثرهم أو بعضهم لا جميعهم حتّى يكون إجماعا.
فنقول : إنّ ذلك
أيضا يكفينا ، لأنّ بذلك يدفع دعوى إجماعك على أنّ حجّية ظواهر الكتاب ونحوه من
باب الإجماع على الخصوصيّة لا من حيث إنّها ظنّ ، فإنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان كلّ
المفتين بذلك ممّن لا يكون ممّن اعتمد عليها من حيث إنّه ظنّ المجتهد ، وأنّى لك
بإثباته مع ملاحظة ما ذكر ، وإذا بلغ الكلام الى هنا فإن كان أمكنك نوع من الفرار
بادّعاء فرق بين الموضوع ونفس الحكم على النّهج الذي نبّهناك عليه.
فنقول : وإن فتحنا
بهذا التّقرير لك بابا ، ولكن اغلق ذلك عليك إغلاقا آخر ، فإنّ كلامهم ينادي بأعلى
صوته أنّ هذا الباب أيضا يحتاج الى الاعتماد على ظنّ المجتهد من حيث هو في باب
التّرجيح بين معارضات الأصل والظّاهر ، فقد اختلفوا غاية الاختلاف ، ورجّح بعضهم
الظّاهر في بعض المواضع ، والآخر
الأصل ، وعكسوا في
موضع آخر ، فانقطع المناص إلّا عن الرّجوع الى ظنّ المجتهد ، بل هناك إشكال آخر ،
وهو أنّ من جملة الظّواهر غلبة الصحّة في أفعال المسلمين ، ولا ريب أنّه يختلف
باختلاف الأوقات والأزمان ، فقد لا يحصل الظنّ أبدا في فعل جماعة منهم أو في زمان
دون زمان ، فيحتاج تعيين أصل الظّواهر والتمييز في نفسها الى اجتهاد آخر فضلا عن
ملاحظة متعارضاتها. ويؤيّد ما ذكرنا كلام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في «نهج
البلاغة» : «إذا استولى الصّلاح على الزّمان وأهله ، ثم أساء رجل
الظنّ برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم ، وإذا استولى الفساد على الزّمان وأهله ثمّ
أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرر».
ثمّ اعلم أنّ
قاعدة اليقين المستفادة من الأخبار لا بدّ أن يكون معناها : لا يجوز نقض اليقين
النّفس الأمريّ أو الظنّ اليقينيّ العمل إلّا باليقين كذلك. والمفروض أنّ ظهور
حصول سبب الحكم من جهة الغلبة أو القرائن ، ظنّ يقينيّ العمل ، وإلّا لما جاز
تقديمه على الأصل مطلقا ، فيصير مفاد القاعدة : جواز نقض اليقين السّابق بكلّ ظنّ
حصل بتحقّق سبب الحكم المخالف للحكم الأوّل ، فحينئذ يحتاج فيما يعمل على الأصل
ويترك الظّاهر الى دليل خارجيّ.
فتقديم الأصل على
الظّاهر هو مخالف للقاعدة ومخصّص لها ، يصير المعنى حينئذ : يجوز نقض اليقين
السّابق بأيّ من المعنيين باليقين اللّاحق بأيّ من المعنيّين إلّا في مثل اليقين
بالطهارة مثلا في ثوب المصلّي أو بدنه ، فإنّه لا يجوز نقضه باليقين اللّاحق مطلقا
، بل إنّما يجوز نقضه باليقين النّفس الأمريّ مثل رؤية
__________________
وقوع البول عليه
أو مع بعض الظّنون القطعيّة العمل ، كشهادة العدلين لو قلنا بقبولها لا مطلق غلبة
الظنّ بحصول السّبب وملاقاة النجاسة ، أو نقول : إنّ المراد باليقين في الموضعين
أو في خصوص اليقين الثاني هو النّفس الأمريّ ، والعمل بالظّاهر يحتاج الى الدّليل
، يعني لا يجوز النقض إلّا باليقين النّفس الأمريّ إلّا في بعض صور الظّاهر الذي
ثبت العمل عليه بدليل خارجي.
وعلى هذا فتقديم
الظّاهر على الأصل مخالف للقاعدة ، فإمّا لا بدّ من القول بتقديم الأصل مطلقا ، أو
الظّاهر مطلقا ، فما وجه الفرق والتفصيل إلّا من أجل متابعة الأدلّة الخارجية ،
وهو خروج عن ملاحظة الأصل والظّاهر.
والتّحقيق ، أنّ
تنبيهات الشّارع في الأخبار يفيد اعتبار غلبة الظنّ لا خصوص الظنّ الحاصل من
الغلبة ، فلاحظ أخبار غسالة الحمّام ، وأخبار مسألة تداعي الزّوجين ، وسائر سير
الشّارع من تغسيل الميّت المجهول في بلد الإسلام ، واستحباب السّلام ووجوب الردّ
في بلاد المسلمين مع الجهالة ، وأمثال ذلك ، فتتبّع كلماتهم في موارد إعمال
الظّاهر ، ولاحظهم لا يقتصرون بالظنّ الحاصل من الغلبة.
وإذا تحقّق لك ما
ذكرناه ، يمكنك أن تطرد الكلام الى جانب حجّية الشّهرة وأمثالها ، مثل الظنّ
بتحقّق الإجماع ممّا يثبت بها نفس الحكم الشرعيّ وإدراجها فيما حصل الظنّ بسبب
الحكم الشّرعيّ ، فإنّ اعتمادنا على الشّهرة مثلا لأنّ ملاحظة كثرة فتاوى العلماء
الصّالحين يورث الظنّ بوجود سبب لهذا الحكم الذي أفتوا به من خبر أو إجماع ،
فالظنّ بالسّبب يوجب الظنّ المسبّب [بالمسبّب] ، فإذا جاز الاكتفاء بظنّ السّبب في
إجزاء المسبّب عليه فنقول به في مثل الشّهرة أيضا ، فليتدبّر.
ومنها : ما ذكره
الشهيد رحمهالله في «الذكرى» في مواقيت القضاء في مسألة الجهل بترتيب الفوائت. قال :
ولو ظنّ سبق بعض ، فالأقرب العمل بظنّه لأنّه راجح فلا يعمل بالمرجوح.
فإنّ هذا التّعليل
يفيد جواز العمل بالظنّ مطلقا ، كما لا يخفى.
ثمّ قال في الباب
المذكور في مسألة ما لو فاته ما لم يحصه : قضى حتّى يغلب على الظنّ الوفاء.
الى أن قال : وللفاضل وجه بالبناء على الأقلّ لأنّه المتيقّن ، ولأنّ
الظّاهر أنّ المسلم لا يترك الصلاة.
ومنها : ما ذكره
العلّامة رحمهالله في «النهاية» في حجّية الاستصحاب : أنّه لو لم يجب العمل بالظنّ ، لزم
ترجيح المرجوح على الرّاجح ، وهو بديهيّ البطلان ، وهذا أيضا يقتضي العموم ،
وأمثال ذلك كثيرة.
ومنها : ما ذكره
الشهيد رحمهالله في «الذكرى» في مسألة حجّية الشّهرة ، فإنّه تمسّك في ذلك بقوة الظنّ ،
وهذا أيضا يفيد العموم.
ومنها : ما ذكره
العلّامة في «المختلف» في وجوب استقبال القبلة في دفن الميّت حيث تمسّك فيه
بالشّهرة ، وقد استدلّ في استحباب رفع اليدين بالتكبيرات ، في صلاة الأموات أيضا
بالشّهرة ، ولكنّه يمكن أن يخدش بأنّه من
__________________
أجل المسامحة في
السّنن.
ومنها : تردّداتهم
وتوقّفاتهم في كثير من المسائل من جهة الأصل ، وإطلاق كلام الأصحاب بخلافه.
ومنها : ما ذكره
العلّامة في «المنتهى» في مسألة إلحاق صوم غير رمضان من الصّيام الواجب به في
بطلانه بتعمّد الجنابة حتّى الصباح ، فإنّ قاعدتهم في التوقّف هو تعارض أدلّتي
الطّرفين في خصوص المسألة ، وإن كان مذهبهم التخيير بالنّظر الى عموم أمثال ذلك ،
كما صرّح به فخر المحقّقين رحمهالله في رسالته الموسومة «بجامع الفوائد» في شرح ديباجة «القواعد».
ومنها : قولهم
بتقديم الأعدل والأورع في التقليد ، معلّلين بكونه أرجح وآكد وأقوى ، وإن كان لنا
كلام على إطلاق القول بالأرجحيّة ، سيجيء في محلّه إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك يظهر أنّ
البناء فيه على الظنّ ، كما أنّ المجتهد أيضا بناؤه على الظنّ في متابعة الأمارة
واختيار الأقوى. ومن ذلك يظهر بطلان القول ببطلان تقليد الميّت مطلقا ، مستدلا
بأنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ ، خرج الظنّ الحاصل له من متابعة الحيّ ، وبقي
الباقي ، فإنّه لا معنى لذلك إلّا العمل على قول الحيّ تعبّدا ، لا لأنّه مظنون ،
وإلّا فكثيرا ما لا يحصل الظنّ بقول الحيّ مع وجود قول الميّت الأعلم الأورع ، ومع
حصول قوّة الظنّ في جانب الميّت لا يكون العمل بقول الحيّ إلّا من محض التعبّد ،
والقول : بأنّ قول الميّت لا يفيد الظنّ جزاف من القول ، إذ لا مدخليّة للموت
والحياة في حصول الظنّ إذ كلاهما إنّما يعتمدان على أدلّة متّحدة المأخذ.
__________________
والحاصل ، أنّ
الجاهل الغافل معذور في العمل بما يجزم به أو يظنّ به ، إذ حكم الله تعالى من أيّ
طريق يكون كما سنحقّقه إن شاء الله تعالى.
فالعامّيّ ما دام
غافلا ليس تكليفه إلّا ما أذعن به ، وبعد تفطّنه للإشكالات والخلافات فهو مكلّف
بما أدّاه إليه علمه أو ظنّه.
فيبقى الكلام في
تحقيق العلماء للمسألة لأجل تنبيه العوامّ وإرشادهم من باب الاستكمال وإقامة
المعروف ، فالعلماء حين مناظرتهم في المسألة إمّا يلاحظون حال المسألة في نفس
الأمر ، بمعنى أنّهم يباحثون ويناظرون في أنّ المعتمد في نفس الأمر أيّ شخص هو
حتّى يأمروا المقلّد المتفطّن بمتابعته ، فحينئذ لا معنى لاستدلالهم بحرمة العمل
بالظنّ إلّا الظنّ الحاصل بتقليد الحيّ ، بل لا بدّ لهم حينئذ أن يقولوا : أن لا
اعتماد على قول أحد في نفس الأمر إلّا على قول المجتهد الحيّ ، فأيّها المقلّدون
المتفطّنون عملوا على هذا دون غيره ، فحينئذ لا بدّ أن يثبتوا أنّ قول الميّت ليس
بمعتمد ، وقول الحيّ معتمد ، ولا مدخليّة هناك لأصالة حرمة العمل بالظنّ ولا مناص
في ذلك إلّا بالتمسّك بأمر تعبّديّ ، وليس لهم في ذلك شيء إلّا الشّهرة ، وظاهر
دعوى الإجماع من بعضهم ، وسنبيّن ضعفه في محلّه.
وإمّا يلاحظون
الظّنون الحاصلة للمقلّد المتفطّن بالنّسبة الى قول الأحياء والأموات ، أو هما معا
، ويقولون : أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ للمقلّد إلّا الظنّ الحاصل من تقليد
الحيّ ، فيبقى الظنّ الحاصل من تقليد الميّت حراما ، فلا يجوز له العمل به بتقريب
تعليمهم إيّاه أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ وتنبيههم [وتنبيهه] عليه ، وأنت خبير
بأنّ الظّاهر من الظنّ في أدلّة حرمته هو الظنّ النّفس الأمريّ ، والظنّان النّفس الأمريّان
على طرفي النّقض [النّقيض] ممّا لا يجتمعان أبدا ، فلا
يمكن أن يقال : إن
حصل الظنّ النّفس الأمريّ بقول الميّت ، والظنّ النّفس الأمريّ على خلافه بقول
الحيّ ، فأصالة حرمة العمل بالظنّ يقتضي عدم جواز العمل به ، خرج تقليد الحيّ
بالإجماع ، وبقي تقليد الميّت تحت العموم.
وكذلك لا يمكن هذا
الكلام إذا حصل الظنّ النّفس الأمريّ بقول الميّت فقط ، إذ ليس حينئذ ما حصل بقول
الحيّ ظنّا وكذا العكس ، فلا بدّ أن يقال : المراد بالظنّ في آيات التّحريم هي الأمور التي تفيد الظنّ لو خلّيت وطبعها ، فالعمل عليها
حرام إلّا ما أخرجه الدّليل كتقليد الحيّ ، أو يقال : المراد بالظنّ في الآيات هو
عدم العلم ، يعني يحرم العمل بغير علم إلّا فيما أخرجه الدّليل ، كتقليد الحيّ ،
فحينئذ يصير وجوب متابعة الحيّ دون الميّت من باب التعبّد ، ويصير العمل بقول
الحيّ من باب البيّنة ، فإنّ حجّيتها من باب وضع الشّارع إلّا من باب إفادتها
الظنّ ، وإن كان غالبا يفيد الظنّ فهو أيضا من باب التعبّد ، ولذلك يسمع في بعض
المواضع شهادة رجل وامرأتين ، ولا يسمع في موضع آخر وإن أفاد الظنّ أقوى من شهادة
رجلين ، وهكذا.
وإذا صار من باب
التعبّد فكيف يتمّ ذلك مع لزوم متابعة الأعلم والأورع في الأحياء لكونه أرجح وأقوى
، مع أنّ ذلك تحصيل للظنّ النّفس الأمريّ ، فلو فرض حصول الظنّ النّفس الأمريّ
بقول الميّت وعدول المقلّد عنه الى الأحياء المختلفين مع الميّت في القول ،
المتفرّقين في الآراء ، فكيف يقال بعد تحرّي الأقوى والأرجح والأقرب من فتاوى
الأحياء الى نفس الأمر أنّ هذا أقرب الى نفس الأمر ، مع أنّ المفروض كون فتوى
الميّت عنده أقرب الى نفس الأمر ، ولا معنى
__________________
للأقربيّة الى نفس
الأمر بإرادة الأقرب إليه بالنّسبة الى سائر الأحياء ، إذ ذلك ليس معنى الظنّ
النّفس الأمريّ.
فظهر أنّ المعيار
لا بدّ أن يكون في أوّل الأمر هو الرّاجح في نفس الأمر وإن كان هو قول الميّت.
وهذا الكلام
بالنّظر الى ملاحظة الكلامين المختلفين في المقتضى ، أعني قولهم : بتقديم الأعلم
والأورع ، وقولهم : بوجوب تقليد الحيّ.
وأمّا التّحقيق ،
فهو أنّ الإفتاء والتقليد ليس من باب البيّنة ، بل هو حكم عقليّ ، فإنّ مبناه وجوب
معرفة أحكام الله تعالى إمّا علما أو ظنّا ، وهو مثل وجوب معرفة الله تعالى ومعرفة
نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأمثال ذلك من المسائل العلميّة العقليّة ، فإذا حصل
العلم الإجماليّ للمقلّد بأنّ لله تعالى أحكاما وشرائع ، فهو إمّا بنفسه في صدد
تحصيله ، أو بتنبيه الآمرين بالمعروف.
وكيف كان فإمّا
يحصل له الجزم بحكم الله تعالى ولو بتقليد أمّه أو الظنّ به أو الظنّ بأحد الأمور
التي حكم الله تعالى فيها ، سواء كان غافلا وأدّاه فهمه الى مرتبة من تلك المراتب
، أو متفطّنا وحصل له بحسن ظنّه بمرشده أحد المذكورات.
ولا ريب أنّ
الأدلّة الدالّة على جواز التقليد من النّقل والعقل أيضا إنّما يدلّ على لزوم
تتبّع نفس الأمر علما أو ظنّا ، فإنّ آية النّفر تدلّ على أنّ البعيدين عن ساحة الشّارع
ومن يقوم مقامه ، لا بدّ أن يحصّلوا حكمهم النّفس الأمريّ بالأخذ عن النّافرين ،
إمّا علما أو ظنّا ، وكذلك الأخبار الدالّة على ذلك ، وكذلك دليل العقل يقتضي وجوب
تحصيل تلك الأحكام إمّا علما بها أو ظنّا تفصيليّا ، أو ظنّا إجماليّا ، أو بالأخذ
بأحد من الأمور التي توجب ذلك.
وظنّي أنّ الذي
دعا من قال من أصحابنا بكون الفتوى مثل البيّنة ، هو ما اشتهر
بينهم من عدم جواز
تقليد الميّت ، وهو مع ما فيه على إطلاقه ممّا سيجيء في محلّه ، أنّ في كلامهم ما
ينافيه أيضا كما عرفت.
ومن ذلك يظهر
بطلان قول خصمائنا في المسألة القائلين بحرمة عمل المجتهد على الظنّ إلّا الظّنون
المعلوم الحجّية ، إذ ليس معنى قولنا : إنّ المسألة الفقهيّة إذا كانت الشّهرة
تدلّ على أحد طرفيها وخبر الواحد على الطرف الآخر ، يقدّم مقتضى الخبر فيها ،
لأنّه معلوم الحجّية دون مقتضى الشّهرة ، إلّا أنّ الشّارع جعل الخبر كالبيّنة دون
الشّهرة ، لا أنّه يجوز العمل بهذا الظنّ دون ذلك ، لعدم إمكان اجتماع الظنّين في
موضوع واحد.
فمقتضى ذلك لزوم
العمل بخبر الواحد وإن لم يفد الظنّ بالحكم بخصوص المسألة في نفس الأمر ، وهو كما
ترى مخالف لكلمات الخصماء فضلا عن موافقينا في القول ، ولا يمكنهم القلب علينا
بأنّ ذلك يرد عليكم بالنسبة الى القياس لو حصل منه الظنّ في أحد طرفي المسألة وكان
في الطّرف الآخر خبر مثلا ، لعدم حصول الظنّ النّفس الأمريّ حينئذ بالخبر ، فيكون
العمل به حينئذ تعبّديّا ، وذلك لأنّا لا نمنع حصول الظنّ بالقياس سيّما فيما
خالفه خبر وسنشير إليه.
سلّمنا ، لكن نقول
حينئذ : لا نعمل بالقياس ولا بالخبر ، لحرمة هذا وعدم حصول الظنّ بهذا ، بل نعمل
بالأصول والقواعد ، فنحكم بالتّخيير حينئذ ، وعلمنا حينئذ على ما هو مقتضى القياس
لو اخترناه ليس من جهة انّه مقتضاه ، بل لأنّه أحد طرفي التّخيير.
وأمّا على طريقتهم
، فيعملون بالخبر لأنّه حجّة وإن لم يفد الظنّ أصلا ، مع أنّ ذلك كيف يجتمع مع ما
التزموه من مراعاة التّراجيح بينها إذا اختلف ، ولزوم تحصيل ما هو أقرب الى نفس
الأمر كما يستفاد من ملاحظة الأخبار العلاجيّة ،
سيّما مقبولة عمر
بن حنظلة ، ولا ريب أنّ ذلك ليس من باب التعبّد ، بل سنذكر في الخاتمة بأوضح بيان
بطلان بناء رفع التّعارض بين الأخبار بالأخبار العلاجيّة ، وأنّه لا مناص في باب
التّراجيح عن الاعتماد على الظنّ.
والمراد بالبناء
على الظنّ هو الظنّ بنفس [في نفس] الأمر لا الظنّ بنفس الأمر ، بشرط أن يكون الظنّ
حاصلا من الخبر من حيث إنّه خبر ، وحصول الظنّ بنفس الأمر في نفس الأمر قد يحصل
بالشّهرة دون الخبر ، فيكون مقتضى الخبر حينئذ موهوما ، فلو عملنا عليه حينئذ لما
عملنا أصلا بالظنّ النّفس الأمريّ في نفس الأمر ، هذا خلف.
فإذا أردت التّعميم
والتّخصيص في أصل حرمة العمل بالظنّ ، فيصحّ أن يقال : إنّه لا يجوز العمل بالظنّ
إلّا في حال الاضطرار مثلا ، لا أنّه يجوز العمل بالظنّ في المسألة الخاصّة بسبب
الشّهرة ، ويجوز فيها بسبب الخبر.
وقد مرّ منّا ما
يدلّ على بطلان القول بأنّ حجّية خبر الواحد مثل حجّية البيّنة ، وقد ذكرنا أنّ
آية النّبأ لا تدلّ على أنّ حجّيته ليس إلّا من جهة إفادة الظنّ من حيث هو ،
وذكرنا أيضا اشتراط العدالة في الرّاوي أيضا لأجل بيان تفاوت مراتب الظّنون ،
وينادي بذلك سائر الكلمات والأخبار الواردة في علاج التّعارض ، سيّما مقبولة عمر
بن حنظلة ، وسنذكرها في آخر الكتاب ، فإنّ كلّها يدلّ على أنّ ذلك من باب تحقيق
مراتب الظنّ.
وأيضا المستفاد من
الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد سيّما الأخبار العلاجيّة أنّ الظنّ الحاصل
بالرّوايات حجّة ، لا أنّه حجّة من حيث إنّه خبر ورواية ، فعلى مدّعي الخصوصيّة
الإثبات كما في البيّنة ، وأنّى له بإثباتها.
فإن قلت : ما
ذكرته يرد على التّراجيح المذكورة في تعارض البيّنات فإنّها
أيضا مبنيّة على
تحصيل الأقرب الى نفس الأمر ، فيلزم على هذا عدم كون البيّنة أيضا تعبّديّة ، ولا
بدّ أن تكون تابعة للظنّ النّفس الأمريّ.
قلت : قد ثبت كون
البيّنة تعبّديّة بالدّليل ، ومحدودة عند الشّارع بالحصر المقرّر الثّابت ، بخلاف
مثل خبر الواحد وتقليد الحيّ ، فإنّ غايتهما ثبوت حجّيتهما لا انحصار الحجّية
فيهما ، ولا استبعاد في أن يبني الشّارع إثبات المطالب على شيء خاص تعبّدا كما
فعله في قاعدة اليقين.
ثمّ لا استبعاد
بعد ذلك في صورة تعارض أشخاص هذه التعبّديّات في الحكم ، بالرّجوع الى تحصيل ما هو
الأقرب الى نفس الأمر منها ، كما في قاعدتين من قواعد اليقين إذا تعارضتا كما في
الذّبابة الواقعة على الثّوب الطّاهر من نجاسة رطبة عن قريب ، فإذا تعارضت
البيّنتان فلا مانع من أن يحكم الشّارع بالعمل على ما هو أرجح منهما حصولا من حيث
المدلول بالنّسبة الى نفس الأمر إن لم يكن هناك ظنّ ثالث منع عن تحصيل الأقرب الى
نفس الأمر في نفس الأمر ، وإن فرض ذلك ، فيكون الرّجوع الى المرجّحات أيضا
تعبّديّا ، كما يظهر من ملاحظة كلام العلماء في تعارض بيّنة الدّاخل والخارج. فإنّ
ترجيح أحدهما على الآخر إمّا من جهة القرب النّفس الأمريّ ، كإفادة اليد الظنّ
بذلك ، والاستصحاب ونحوهما منضمّا الى الأخبار الواردة في تقديم الدّاخل ، أو
كإفادة كون التّأسيس أولى من التّأكيد ونحوه الخارج.
وإن كان هناك ظنّ
ثالث منع عن تحصيل الظنّ النّفس الأمريّ بأحدهما ، فنقتصر في المرجّحات على
التعبّد ونعمل بما ورد في الأخبار من تقديم أيّهما تعبّدا. ثمّ لا مانع بعد ذلك في
تعارض تلك الأخبار الواردة في حكمها أيضا من العمل بالظنّ النّفس الأمريّ بالنّظر
الى متابعة أيّهما تعبّدا.
ولا يمكن جريان
ذلك في الأخبار المتعارضة في المسألة الفقهيّة إذ لا يمكن حمل الأخبار العلاجيّة
على التعبّد كما سنشير إليه في الخاتمة ، بخلاف ما دلّ على تقديم ذي اليد على غيره
أو العكس ، مع أنّ ظاهر كلامهم في البيّنات مفروض فيما انحصر الحقّ بين اثنين
وتعارض البيّنات ، وحينئذ فلا مانع من مراعاة نفس الأمر ، وهؤلاء لا يقولون بهذا
التّفصيل ، ولا يمكنهم القول به فيما لو كان هناك ظنّ ثالث خارج عن الخبرين لم
يعتبر شرعا لعدم دلالة الأخبار العلاجيّة عليه حينئذ كما سنبيّنه في الخاتمة ،
وليس شيء آخر يدلّ عليه ، وكذلك الكلام في التقليد والفتاوى.
فإن قلت : إنّ ما
دلّ على حرمة العمل بالقياس مثلا يدلّ على كون العمل بغيره ، مثل الخبر الواحد
تعبّديا كالعمل بالبيّنة ، فهذا أيضا كالحصر والتّحديد في البيّنة.
قلت : لا دلالة في
ذلك على ذلك ، إذ هو إنّما يتمّ لو سلّمنا كون العمل بالقياس منهيّا لكونه مفيدا
لهذا الظنّ الخاصّ ، وكون العمل بالخبر جائزا لكونه مفيدا لهذا الظنّ الخاص ،
وكلاهما ممنوعان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّا لا نمنع كون القياس مفيدا للظنّ ، سيّما بعد ما ورد في الأخبار المتواترة
المنع عنه ، وخصوصا بعد ملاحظة ما ذكروه في بيان عدم الجواز من جهة أنّ دين الله
تعالى لا يصاب بالقياس ، لأنّ الحكم الكامنة في الأشياء لا يعلمها إلّا الله
الحكيم العليم.
__________________
وقد روى في «الكافي»
في القويّ عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى عليه الصلاة والسلام
عن القياس فقال : «ما لكم والقياس إنّ الله تعالى لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم».
ومع ملاحظة جمع
الشّارع بين المختلفات في الحكم وتفريقه بين المؤتلفات ، فكيف يجعل مجرّد المناسبة
والمماثلة منشأ للقياس ، ألا ترى أنّهم ذكروا في أخبار كثيرة أنّ أوّل من قاس
إبليس ، وذكروا في وجه الرّدع أنّه لم يعرف الفرق بين النّار والطّين ، وبين آدم
على نبيّنا وآله وعليهالسلام ونفسه ، فقاس آدم عليهالسلام بالطّين.
ففي رواية الحسين
بن ميّاح عن أبيه عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال : «إنّ إبليس قاس نفسه بآدم عليهالسلام ، فقال : (خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، ولو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم عليهالسلام بالنّار ، كان ذلك أكثر نورا وضياء من النّار.
وفي معناه رواية
عيسى بن عبد الله القرشي .
وقد ذكروا عليهمالسلام في الأخبار مواضع شتّى في ردّ أبي حنيفة ، تدلّ على عدم
صحّة القياس في الأصل ، مثل أنّ القتل يثبت بشاهدين ، والزّنا لا يثبت إلّا بأربع
، مع أنّ القتل أكبر ، والمنيّ يوجب الغسل ، والبول يوجب الوضوء مع أنّه أكبر ،
وأنّ
__________________
صوم الحائض يقضى
دون صلاتها مع أنّها أكبر ، وجعل للرجل في الميراث سهمان وللمرأة سهم مع أنّها
أضعف ، وأنّ يد السّارق تقطع بعشرة دراهم وتؤدّى بخمسة آلالف درهم ، وهي مذكورة في «العلل» وغيرها ، ويظهر بطلانه من
ملاحظة منزوحات البئر أيضا.
والحاصل ، أنّ ما
لا يستقلّ العقل بإدراك الحكمة والمصلحة فيه قاطعا به [و] لا يجوز الحكم بكون
المصلحة والحكمة فيه شيئا تدركه الأوهام البادية ، فإمّا لا يحصل الظنّ في القياس أصلا ،
أو هو ظنّ باد لا يعتنى به لما يظهر بطلانه وفساد مبناه من ملاحظة هذه الأحكام.
وبالجملة ، الحكم
بعدم كونه مفيدا للظنّ ليس ببعيد ، بل هو المتعيّن بعد التأمّل وملاحظة ما ذكر ،
وإن كان يفيد الظنّ في بادئ النّظر وحين الغفلة.
فظهر من جميع ذلك
، أنّ المنع عن القياس لعلّه من جهة عدم إفادته الظنّ بأنّ الشّارع حكم بكذا لأنّه
ظنّ خاص لا يجوز العمل به ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ المراد بمنعهم عليهمالسلام عن القياس هو المنع عن التّشريع والبدعة ، والاستقلال
بالحكم بمحض ما تفهمه الأوهام الضّعيفة والأحلام السّخيفة ، فإنّ القائسين كانوا
يحكمون بمجرّد ملاحظة العلّة من قبل أنفسهم ، ولذلك نعمل نحن على ما يستفاد العلّة
فيه من النصّ بالصّريح أو بالتّنبيه.
وتوضيح هذا المطلب
، أنّ لكلّ مصلحة موجودة لشيء في نفس الأمر حكما
__________________
في نفس الأمر
يترتّب عليه ، فإن كان شيء في نفس الأمر سمّا ، فحكمه في نفس الأمر لزوم الاجتناب
عنه لو اطّلع عليه.
وكذلك إذا كان شيء
في نفس الأمر ترياقا ، فحكمه في نفس الأمر لزوم الارتكاب لو اطّلع عليه ، والعقل
يستقلّ بهذا الحكم. فهؤلاء القائسون إذا رأوا أنّ الله تعالى حكم بحكم في شيء خاصّ
، فيتحيّرون في تحصيل العلّة والحكمة الباعثة على الحكم ، فإذا حصل لهم الظنّ
بالعلّة ، فيحكمون من عند أنفسهم بالحكم المذكور في الشّيء المماثل ، لاقتضاء
العلّة ذلك ، لا لأنّ الشّارع حكمه في ذلك أيضا كذا لأجل هذه العلّة وقولهم تبع له
، بخلاف الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد وما في معناها ، فإنّه معتبر لأجل أنّه كاشف
عن قول الشّارع وحكمه ،
فروى الكليني عن محمّد بن حكيم قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه الصلاة
والسلام ، الى أن قال : فربّما ورد علينا الشّيء لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك
شيء فنظرنا الى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به. فقال : «هيهات
هيهات ، في ذلك والله هلك من هلك يا بن حكيم. قال : ثمّ قال : لعن الله فلانا كان
يقول : قال عليّ وقلت» ، الحديث.
ويؤدي مؤدّاه
موثّقة سماعة عنه عليهالسلام وعن الزّمخشري في «ربيع الأبرار» وقال يوسف بن أسباط : ردّ
أبو حنيفة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أربعمائة حديث وأكثر.
قيل : مثل ما ذا؟
قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «هو للفرس سهمان
وللرّاجل سهم». قال أبو حنيفة:لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن.
__________________
«واشعر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم البدن» ، وقال أبو حنيفة : الإشعار مثلة.
وقال : «البيّعان
بالخيار ما لم يفترقا». وقال أبو حنيفة : إذا وجب البيع فلا خيار.
«وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يقرع بين نسائه إذا أراد سفرا وأقرع أصحابه». وقال أبو
حنيفة : القرعة قمار.
وأمّا الثاني ،
يعني أنّ تجويزهم عليهمالسلام للعمل بخبر الواحد ليس لأجل أنّه ظنّ مخصوص ، بل لكونه
مفيدا للظنّ بمرادهم عليهمالسلام فقد مرّ وجهه.
وفذلكة المقام ،
أنّ الحكم الشرعيّ هو ما كتب الله على عباده في نفس الأمر ، والكاشف عنه ،
والدّليل عليه هو كلامه وكلام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمنائه ، والعقل القاطع.
والمراد بكلامه
تعالى وكلام رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمنائه هو ما هو المراد منها في نفس الأمر ، فإن تحقّق
العلم بالمذكورات للمكلّف ، فقد أدرك الحكم وعلم به ، وإن لم يتحقّق العلم به ،
فتكليفه الظنّ به ، لما مرّ بيانه.
ثمّ إنّ هاهنا
ظنونا قابلة لتجويز العمل بها من الشّارع وهي أقسام :
منها : ما يثبت
أصل الحكم ، كخبر الواحد ، والإجماع المنقول ، والظنّ بالإجماع والشّهرة.
ومنها : ما يثبت
تحقّق سبب الحكم ووجود الموضوع الذي يستتبع الحكم كالغلبة والعادة ، والقرائن التي
يعتبرونها في باب ترجيح الظّاهر على الأصل ، وأحد الأصلين المعتضدين به على الآخر
، والبيّنة والإقرار واليد.
فالتّرخيص بالعمل
من الشّارع في الفرقة الأولى إنّما هو ترخيص للعمل بالظنّ بحكم الله تعالى ، وفي
الفرقة الثّانية ترخيص للعمل بترتيب الحكم الثّابت المعلوم للموضوع المعلوم ،
وتفريع المسبّب المعلوم للسّبب المعلوم بمجرّد الظنّ الحاصل
بتحقّق ذلك
الموضوع ، ووجود ذلك السّبب.
والكلام في الفرقة
الثانية لا ينحصر في أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشّرعيّة في أمثال زماننا ،
بل هو حكم وضعيّ وضعه الشّارع مطلقا وفي جميع الأحوال ، بل هو ثابت في بعضها ولو
أمكن حصول العلم كما يحمل فعل المسلم على الصحّة وإن أمكن التّفتيش وتحصيل العلم
بنفس الأمر.
والحاصل ، أنّ
هناك أمورا تتّبع لأجل وضع الشّارع مع قطع النّظر عن إصابة نفس الأمر وعدمه ، سواء
كان مظنون الإصابة أو عدمه أو المظنون العدم.
فمنها : العمل على
الظّاهر من الغلبة والعادة والقرائن التي قد حصل الاختلاف في تعيين موارد العمل
بها ، وإن كان العمل بها في الجملة إجماعيّا.
ومنها : العمل على
قاعدة اليقين التي هي أعمّ من الاستصحاب ، إذ الاستصحاب مأخوذ فيه الظنّ ، بخلاف
قاعدة اليقين ، فإنّها يعمل عليها وإن لم يحصل الظنّ بمفادّ مقتضاه ، بل ولو ظنّ
بعدمه.
ومنها : الرّجوع
الى القرعة ، فإنّها أيضا حكم وضعيّ يترتّب عليه الحكم بتحقّق الموضوع والسّبب
ليترتّب عليهما الحكم والمسبّب وإن لم يحصل الظنّ به في نفس الأمر ، فحينئذ نقول :
النّزاع بيننا وبين خصمائنا إن كان في مثل الفرقة الثّانية ، فقد عرفت أنّهم لا
يتمكّنون من النّزاع فيه ، إذ العمل عليها في الجملة إجماعيّ ، لا بمعنى أنّ
الإجماع وقع في العمل ببعضها حتّى يقال : إنّ ذلك إنّما هو للإجماع ، بل بمعنى
أنّه إجماعيّ أنّ العمل عليه جائز في الجملة ، وتعيين موضعه إنّما هو تابع لرأي
المجتهد بحسب ترجيحه وتقديمه ولا اختصاص له بأمثال زماننا.
وإن كان في الفرقة
الأولى ، فنقول : أيّ دليل دلّهم على جواز العمل بخبر الواحد دون الشّهرة وأخويها.
فإن كان الدّليل
هو الإجماع والأخبار الدالّة على الجواز ، فنقول : إنّهما على تسليمهما إنّما
يدلّان على أنّه يجوز العمل بغيرها ، ونفي جواز العمل بالغير إنّما يتمّ لو سلّم
أصالة تحريم العمل بالظنّ ، وقد عرفت الحال ، وجواز العمل بها مطلق وليس مقيّدا
بأنّه لأجل الظنّ الحاصل منها ، وإن قيّد بذلك فلا يتصوّر له معنى إلّا أنّ مدلول
الأخبار قائم مقام الحكم الشّرعيّ وإن لم يفد الظنّ أيضا جعلا له من باب الوضع أو
أنّ غير الأخبار مثل الشّهرة والظنّ بالإجماع ممّا لا يحصل بهما الظنّ.
والثاني ممّا
يكذّبه الوجدان بل العيان ، والأوّل ممّا لا تصدّقه الأخبار وكلام الأخيار ، ولا النّظر والاعتبار ، بل
المستفاد من الأخبار والفتاوى والاعتبار هو أنّ العمل بها لأجل أنّها مخبرة عن
الإمام وكاشفة عن مراد الملك العلّام إخبارا ظنّيا وكشفا راجحيّا.
ولا ريب أنّه قد
يحصل من اشتهار العمل بين الأصحاب ظنّ بأنّه مراد الامام عليهالسلام ، ومذهبه لا يحصل من خبر معارض لها وإن عمل بها نادر من
الأصحاب ، والاعتبار شاهد على أنّ حصول الظنّ بنفس الأمر لا يتفاوت بتفاوت الأسباب
إلّا إذا كان السّبب ممّا لا يحصل به الظنّ ، كالقياس على ما بيّنا ، بل الظنّ
بالإجماع أقوى في إفادة الظنّ بمذهب الإمام عليهالسلام عن الخبر الواحد.
وبالجملة ، مرجع
الظنّ بالإجماع والشّهرة الى الظنّ بقول الإمام عليهالسلام كالخبر ، وعلى من يفرّق إبداء الفارق ، فلا بدّ إمّا من
القول بأنّ خبر الواحد كاليقين السّابق في قاعدة اليقين ، فكما يجب أن يتبع حكم
اليقين السّابق وإن لم يحصل الظنّ
__________________
ببقائه ، ولو حصل
الظنّ بعدمه فيجب العمل بخبر الواحد ، وإن لم يورث الظنّ بنفس الأمر ، بل ولو كان
خلافه مظنونا.
وإمّا من القول
بأنّ أخويها لا يفيدان الظنّ ، وإلّا فظنّ المجتهد بنفس الأمر ليس أمرا اختياريّا
حتّى يحصل بسبب الخبر مع رجحان مقتضى الشّهرة في نظره ، فلم يبق شيء من الظّنون
إلّا مثل الرّمل والنّجوم ، وأنت خبير بأنّها ممّا لا سبيل لها الى الحكم الشّرعيّ
حتّى يقال بإمكان حصول الظنّ بها ، فلا حاجة الى الآخر.
نعم قد يحصل الظنّ
بها في الأسباب والموضوعات ، كالقبلة ودخول الوقت في مثل الآلات التي يستفاد منها
السّاعة والقبلة ، ولا ننكر جواز العمل بها مع عدم ظنّ أقوى منها.
ثمّ إنّ
الأخباريّين أنكروا الاكتفاء بالظنّ وحرّموا العمل عليه ، ونفوا الاجتهاد والإفتاء
والتقليد ، ظنّا منهم بأنّ باب العلم غير منسدّ بدعوى أنّ أخبارنا قطعيّة فيحرم
العمل بالظنّ ، ويجب متابعة الأخبار ، ويحرم التقليد ، بل يجب على كلّ أحد متابعة
كلام المعصومينعليهمالسلام.
وهذا كلام لا
يفهمه غيرهم ، فإنّ دعوى قطعيّة أخبارنا مع أنّ البديهة تنادي بفسادها ـ وسنشرحها
مفصّلا في شرائط الاجتهاد ـ لا تفيد طائلا مع ظنيّة دلالتها واختلالاتها
واختلافاتها وتعارضها وعدم المناص عن تلك الاختلالات إلّا بالظّنون الاجتهاديّة
لاختلاف الأخبار الواردة في العلاج أيضا بحيث لا يمكن الجمع بينهما بنوع يدلّ عليه
دليل قطعيّ.
ويدلّ على جواز
الإفتاء والتقليد مضافا الى البراهين العقليّة المقدّمة والآتية
الآيات والأخبار ،
مثل : آية النفر ، وقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) ، وقول الصادق عليه الصلاة والسلام لأبان بن تغلب : «أفت» ، أو : عليكم بفلان وفلان ، و : خذوا معالم دينكم عن فلان.
والطّريقة
المستمرّة في الأعصار السّابقة الى زمان الائمّة عليهمالسلام من رجوع النّسوان والعوامّ الى قول العلماء من دون أن
ينقلوا لهم متن الحديث.
وكيف يمكن فهم
الحديث للعجميّ القحّ ، ومن أين ينفع ترجمة العالم إلّا مع اعتماد العامّيّ على
فهمه واجتهاده في فهم معناه ، الى غير ذلك من المفاسد التي لا تعدّ ولا تحصى فيما
ذكروه ، وقد مرّ بعض كلماتهم في مسألة البحث عن مخصّص العامّ ، وسيجيء بعض منها في
شرائط الاجتهاد.
والحقّ ، أنّ
الوقت أشرف من أن يصرف في ذكرها وذكر الجواب عنها ، ولذلك طوى فحول العلماء ذكر
كلماتهم في كتب الأصول ولم يتعرّضوا لذكرها وذكر ما فيها ، ولمّا شاع في الأعصار
المتأخّرة هذه الطّريقة وتكلّم بعض أصحابنا في بعضها ، لم نخل هذا الكتاب من
الإشارة الى بعض كلماتهم ودفعها ، والخبير البصير يكفيه ملاحظة ما ذكرنا في هذا
الكتاب عمّا لم نذكره ، نسأل الله العصمة في كلّ باب ، فإنّه وليّ الخير والصّواب.
__________________
قانون
اختلفوا في جواز
التّجزّي في الاجتهاد.
وتحقيق القول فيه
يتوقّف على بيان مقدّمة ، وهي : أنّ جواز الاجتهاد والتّقليد ووجوب الرّجوع الى
المجتهد ، من المسائل الكلاميّة المتعلّقة بأصول الدّين والمذهب ، لا من أصول
الفقه ، ولا من فروعه ، فهو يجري مجرى وجوب إطاعة الإمام عليهالسلام وتعيينه ، لأنّه لا مناص عن لزوم معرفة أنّ الحجّة بعد
غيبة الإمام عليهالسلام من هو ، ولا دخل لذلك في مسائل الفروع.
فإنّ المراد «بالفروع»
هو الأحكام المتعلّقة بكيفيّة العمل بلا واسطة ، وتسمّى الأحكام العمليّة أيضا ،
ومقابلها الأصول وهي الاعتقادات التي لا تتعلّق بالتكليف بلا واسطة ، وإن كان لها
تعلّق بها في الجملة ، ولا في مسائل أصول الفقه ، فإنّها الباحثة عن عوارض الأدلّة
، وليس ذلك من عوارض الأدلّة أيضا كما لا يخفى ، بل معرفة حقيقة الاجتهاد والمجتهد
أيضا ليس من مسائل أصول الفقه ، ولذلك جعل بعضهم الاجتهاد والتّرجيح من جملة موضوع
هذا العلم.
والحاصل ، أنّ
الرّجوع الى العالم بأحكام الشّرع في غير حضرة الإمام عليهالسلام من مسائل أصول الدّين والمذهب التي تثبت بالعقل وبالنقل
أيضا ، مثل المعاد ، ومثل وجوب الإمام عليهالسلام بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم للرعيّة ونحوهما. فكما لا بدّ للمكلّف الاعتقاد بمتابعة
الإمام عليهالسلام إمّا بالعقل أو بالنصّ ، فكذا لا بدّ من الاعتقاد بوجوب
متابعة العالم بعد فقد الإمام عليهالسلام إمّا بالعقل أو بالنّقل ، وهذا حال عدم حضور الإمام عليهالسلام سواء كان في حال حياته وظهوره أو في حال غيبته المنقطعة.
أمّا العقل ،
فلأنّ كلّ من يدخل في أهل ديننا مثلا يعلم بالضّرورة من شرع
نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ له أحكاما كثيرة في كلّ شيء على سبيل الإجمال ، وأنّ
التكليف باق لم ينقطع ، وأنّه لا بدّ ممّن يعلم هذه الأحكام على سبيل التفصيل يمكن
الرجوع إليه لئلّا يلزم التكليف بالمحال ، وليس ذلك إلّا في جملة العلماء.
وأمّا النّقل ،
فلكلّ ما ورد من الأمر بالسّؤال عن أهل الذّكر ، وما ورد من الأمر بالرّجوع الى
أصحابهم عليهمالسلام في الأحكام مع بداهة شركتنا مع الحاضرين في التكليف.
بقي الكلام في
تحديد العالم وبيان المراد منه ، ولا ريب أنّ العالم بأحكامهم على سبيل القطع
بأجمعها داخل فيه.
وكذلك الظّاهر أنّ
العالم بها ظنّا من الطّرق الصّحيحة وهو المسمّى بالمجتهد أيضا داخل فيه ، سواء
كان في ظهور الإمام عليهالسلام أو غيبته المنقطعة.
ولا ريب ولا شكّ
في جواز الأخذ منه إذا كان عالما بكلّ الأحكام أو ظانّا لها على الوجه المذكور ،
وهو المسمّى بالمجتهد المطلق والمجتهد في الكلّ ، وكذلك إذا كان عالما بالبعض على
سبيل القطع في خصوص ما علمه.
وأمّا جوازه عن
الظانّ ببعضها من الطّرق الصّحيحة على الوجه الذي ظنّه المجتهد المطلق وهو المسمّى
بالمتجزّي ، وعن الظانّ ببعضها أو كلّها من غير جهة الطّرق الصّحيحة كعالم آخر غير
بالغ رتبة الاجتهاد ليس له من العلم حظّ إلّا التقليد بمجتهد أو غير مجتهد ففيهما
خلاف وإشكال ، فهاهنا مقامان :
الأوّل : أنّه هل
يجوز الأخذ عن غير المجتهد كالعامّيّ البحت أو من هو أرفع درجة منه ، ولكن لم يبلغ
رتبة الاجتهاد أم لا؟
والثاني : هل يصحّ
الرّجوع الى المتجزّي أم لا؟
وهل يجوز للمتجزّي
العمل بظنّه أم لا؟
فمجمل التّحقيق
فيهما ، أنّ من أوجب الرّجوع الى المجتهد المصطلح إن أراد مطلقا حتّى على الغافل
والجاهل رأسا ، فهو خروج عن مذهب الإمامية وذهاب الى القول بجواز تكليف ما لا
يطاق.
ومن جوّز الرّجوع
الى غيره ، إن أراد ذلك مع تفطّنه لاحتمال بطلان ما ارتكبه من الأخذ عن غير
المجتهد ، واحتمال وجوب الأخذ عن المجتهد فهو خروج عن مقتضى الدّليل ، وتقصير في
حقّ التكليف ، إذ كما أنّ غير الغافل إذا تفطّن بوجوب القول بالخليفة بعد الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتفطّن للاختلاف أو لزوم معرفة حال الإمام عليهالسلام ، وأنّه لا بدّ من اتّصافه بوصف يمتاز به عمّا عداه وقصّر
في الاجتهاد في تعيينه ، واكتفى بتقليد أبيه أو أستاده أو غيرهما ، فهو مؤاخذ
ومعاقب.
فكذلك فيما نحن
فيه ، لا بدّ أن يتفحّص ويتأمّل في أنّ ما يعلم ثبوته إجمالا بضرورة الدّين ،
ويعلم أنّه يجب عليه إتيانه والامتثال به من ذا الذي يجب أن يرجع إليه في بيان
تفاصيلها.
وأمّا الغافل عن
لزوم التأمّل في المرجع ، والمطاع الذي يعتقد أنّه لا إمام إلّا من قال والده
بإمامته ، ولا يختلج بباله احتمال سواه ، ولا يبلغ فطنته فوق ذلك.
وكذلك من يعتقد
أنّ أحكام الدّين هو ما علّمه أبوه أو أمّه ، ولا يختلج بباله احتمال سواه
كالأطفال في أوائل البلوغ سيّما أطفال العوام ، بل ونسوانهم وأكثر رجالهم ،
مندرجون في عنوان الغافل ، وتكليف الغافل قبيح ، والعبادات الصّادرة منهم إن وافقت
الواقع ونفس الأمر فلا قضاء عليهم أيضا ، لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء ،
وتكليفهم في هذا الحين ليس إلّا ذلك ، بل ولو لم يعلم مطابقته للواقع
__________________
أيضا ، بل ولو علم
عدم مطابقته للواقع أيضا لعيّن ما ذكر.
وأمّا من تفطّن
وقصّر فهو معاقب وإن طابقت عباداته للواقع.
وأمّا القضاء ،
ففيما لم يطابق الواقع فلا إشكال فيه ، وفيما لم يعلم فيه المطابقة وعدمها الظّاهر
أيضا وجوب القضاء ، إنّما الإشكال في صورة المطابقة ، ولا يبعد القول بوجوب القضاء
أيضا حينئذ لعدم صحّة قصد التقرّب في هذه العبادة ، فيكون باطلا.
فحينئذ قول مشهور
علمائنا من بطلان عبادة من لم يأخذها من المجتهد ولو طابقت الواقع ، لا بدّ أن ينزّل على ذلك ، ولكن كلام كثير منهم
مطلق.
ومرادهم من قولهم
: إنّ الجاهل غير معذور إلّا في موارد خاصّة ، هو الجاهل تفصيلا لا إجمالا أيضا.
لا يقال : إنّ
الأصل حرمة العمل بالظنّ ، خرج ظنّ المجتهد المطلق ومقلّده بالإجماع وبقي الباقي.
لأنّا نقول : إنّ
الطّفل في أوّل البلوغ لا يمكنه معرفة وجوب الأخذ من المجتهد ولا معرفة المجتهد
وشرائطه غالبا ، ولا يجب عليه تحصيل ذلك قبل البلوغ.
سلّمنا ، لكن يمكن
في حقّه أن لا يتفطّن لذلك وكان غافلا عن وجوب تحصيل ذلك ، ولم يظهر له ما يوجب
تزلزله ، بل يعتقد بسبب حسن ظنّه بوالديه أو بمعلّمه أنّ العبادات والأحكام إنّما
هي ما يعلّمه هؤلاء وعلّموها إيّاه ، سيّما إذا كان أبوه من العلماء في الجملة ،
وإن لم يكن له قوّة الاستنباط ، ولم يكن ناقلا عن مجتهد
__________________
ولا مقلّدا له ،
فهل تقول : هذا الطفل الغافل الذي لا يختلج بباله احتمال أنّ المقصود منه غير ذلك
أن يعذّبه الله تعالى على ترك التقليد ، وعلى فعل العبادة على النّهج الذي علّمه
هؤلاء.
فإن قلت : لا يوجد
هذا الفرض.
قلنا : كلامنا على
هذا الموضوع ، ومع تسليمك الكبرى ، فلا يضرّنا القدح في الصّغرى ، لأنّها وجدانيّة
، مع أنّ إنكار ذلك مكابرة ومخالفة للحسّ والبديهة.
ثمّ إذا صار
الطّفل أكبر قليلا وزاد اطّلاعه ومعرفته بسبب معاشرة النّاس وملاقاته لمن هو أعلم
من هؤلاء ، ورأى مخالفة من هو أفهم من هؤلاء إيّاهم ، يرتفع ظنّه السّابق ويميل
الى ما قال هؤلاء ، ويعتقد أنّ الشّريعة إنّما هي ذلك لا ما علّمه هؤلاء الأوّلون ، وفي هذه المرتبة أيضا
غافل عن احتمال أن يكون التّكليف غير ذلك ، وعن احتمال أن يوجد شخص أعلم من هذا
الأعلم ، وتكليفه هو العمل بظنّه الذي اطمأنّ به الى أن يعثر على الفقيه في الكلّ
والمجتهد المطلق.
ومرادنا من
المجتهد هنا مقابل المقلّد والعامّي ، لا المجتهد المصطلح الذي هو مقابل الأخباريّ
، فإنّ العالم الأخباريّ أيضا مجتهد بهذا المعنى.
والحاصل ، أنّ
المراد من المجتهد في هذا المقام هو البصير الذي يجوز الرّجوع إليه ، ثمّ إذا
تدرّج الى أن يحصل له العلم وقوّة فهم الأدلّة في الجملة ، فيظهر له أنّ الطّريق
إنّما هو الاستنباط عن الأدلّة وتحصيل ما هو مراد الشّارع عن تلك الأدلّة.
ثمّ إنّ في هذه
المرحلة عرضا عريضا من أنّ المعتبر هنا هل هو مجرّد الظنّ الحاصل من الدّليل علي
أيّ نحو يكون ، أو لا بدّ أن يكون على وفق قواعد
__________________
المجتهدين ، أو
على وفق قواعد الأخباريّين؟
وهل يكفي التّجزّي
في الاجتهاد أو يجب أن يصير مجتهدا مطلقا؟
وهل يشترط في
الاجتهاد جميع الشّرائط التي سنذكرها أو بعضها ، أو هل يجوز الاكتفاء بالاستنباط
الأوّل ، أو يجب التكرير في كلّ واقعة؟
وهل يجوز الاكتفاء
بمجرّد حصول الظنّ ، أو لا بدّ من تحصيل الظنّ القويّ؟
فكلّ هذه المراتب
مراتب الظّنون ، ولا سبيل الى العلم في أكثرها.
فالقول : بأنّ
البرهان القاطع إنّما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد المطلق ، وغيره داخل في الظنّ
المحرّم الممنوع منه شطط من الكلام ، إذ قد أثبتنا أنّ الأصل حين انسداد باب العلم
هو العمل بالظنّ الى أن يثبت المخرج عنه.
وقد ظهر ممّا
ذكرنا صعوبة بيان القدر المجمع عليه من المجتهد المطلق ، فإنّ كلّ واحد من
الأخباريّين والمجتهدين يغلّط صاحبه في الطّريقة ، والقول بإخراج الأخباريّين عن
زمرة العلماء أيضا شطط من الكلام ، فهل تجد في نفسك الرّخصة في أن تقول : مثل
الشيخ الفاضل المتبحّر الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ليس حقيقا لأن يقلّد
ولا يجوز الاستفتاء عنه ، ولا يجوز له العمل برأيه لأنّه أخباريّ؟
أو تقول : إنّ
العلّامة على الإطلاق الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ليس أهلا لذلك؟
فظهر أنّ المجمع
عليه هو القدر المشترك الموجود في ضمن أحد أفراده المبهم عندنا ، وتعيينه ليس إلّا
باجتهادنا وظنّنا ، فأين المجمع عليه حتّى نتّكل عليه.
فيبقى المجتهد
بالاصطلاح المتأخّر والأخباريّ والمتجزّي كلّها داخلة تحت دليل جواز العمل بالظنّ
، مع أنّ غاية ما ثبت على هذا الشّخص الإجماع على
جواز العمل بالظّن
للمجتهد في الكلّ وهو في غيره متأمّل.
وذلك لا يوجب
تعيين العمل على الأوّل وحكمه بحرمة غيره ، والأصل ينفي تعيين الوجوب ، والذي ثبت
اشتغال الذّمة هو وجوب أن لا يترك مقتضى كليهما معا ، لا وجوب أحدهما المعيّن عند
الله تعالى المبهم عنده مع عدم العلم بتعيينه كما أشرنا في مباحث الأصل والاستصحاب
، فراجع ، وتأمّل ، ثمّ نتنزّل هكذا الى أن يصل الى الطّفل في أوّل البلوغ.
وممّا ذكر ، يظهر
أنّه يجوز أن يبقى ظنّ المتجزّي بحاله مع مخالفة المجتهد المطلق أيضا.
ثمّ اعلم أنّ
مراتب الظّنون المذكورة مختلفة في أنّ صاحبها قد يتفطّن لكونه ظنّا وقد لا يتفطّن
ويحسبه علما بحسب الاطمئنان الحاصل له ، وذلك لا ينافي كونه ظنّا إذ ليس كلّ أحد
واجد لشيء عالما بذلك الشّيء ، بل قد نعلم شيئا ولا نعلم أنّا نعلمه فلا ينافي ما
ذكرنا عدم تفرقة الطّفل في أوّل البلوغ مثلا بين الظنّ والعلم.
واعلم أيضا ، أنّ
لكلّ مرتبة من تلك المراتب مدركا هو دليل الحكم ودليلا على جواز العمل به ، كما هو
الشّأن في
القطعيّات أيضا ، فمدرك الطّفل في تكاليفه هو قول أبيه أو أمّه أو معلّمه ، ودليله
على حجّية ذلك عليه هو ما استحسنه من أنّه أكبر منه ، وأقرب الى الشّرع وأسنّ منه
، فلا بدّ أن يكون مطّلعا بحال الشّرع ، وهكذا دليل من ترقّى عن هذه المرتبة
بالنّسبة الى معلّمه الأوّل ، وهكذا الى أن يحصل له قوّة الاستنباط ، فمدركه حينئذ
هو أدلّة الفقه ، ودليله على الحجّية هو كبراه الكليّة الثّابتة بالدّليل ، مثل
الإجماع ولزوم التكليف بما لا يطاق ، وسدّ باب العلم عليه إلّا من هذه الجهة ، ولا
فرق في أنّ الدّليل على حجّية الاستنباط من المدرك ، وأنّه يجوز له الاستنباط ممّا
لا بدّ منه بين المجتهد وغيره ، والمتجزّي وغيره.
فنقول : إنّ جواز
عمل المجتهد المطلق برأيه في كلّ واحد واحد من المسائل موقوف على جواز اجتهاده في
المسائل ، وجواز اجتهاده في المسائل موقوف على جواز اجتهاده في أنّه هل يجوز له
الاجتهاد في المسائل أم لا.
وكذا المتجزّي
جواز العمل على اجتهاده في شخص مسألة أحاط بمدركها موقوف على جواز اجتهاده في جنس
المسائل التي أحاط بمداركها ، وهو موقوف على جواز اجتهاده في أنّه هل يجوز له
الاجتهاد ، وهكذا نتنزّل الى الطّفل.
والحاصل ، أنّا
نقول : لا بدّ أن يكون كلّ واحد من المكلّفين أخذ تكليفه بالاستدلال في حجّية
المدرك ، فإن أمكن تحصيل العلم في الاستدلال ، فالمطلوب هو العلم ، وإلّا فهو
الظنّ.
فعلى هذا ، فكما
أنّ المجتهد المطلق يستدلّ على جزئيّات المسائل بظنّه في كلّ واحد منها ، وعلى
حجّية ظنّه في كلّ واحد منها بكبرويّة الكليّة المأخوذة من الأدلّة المتقدّمة ،
والمقلّد يستدلّ على جزئيّات المسائل بقول مجتهده ، وعلى حجّية قول مجتهده
بكبرويّة الكليّة ، فكذلك الطّفل يستدلّ على جزئيّات المسائل بقول أبيه مثلا ،
وعلى حجّية قول أبيه ممّا ذكرنا من الاستحسان ، وكما أنّ المقلّد لا بدّ أن يجتهد
في تحصيل المجتهد ويكتفي بالظنّ في تعيينه مع فقدان الطّريق الى العلم ، فكذلك
الطّفل يجتهد بفهمه في تعيين المعوّل والمرجع.
وكما أنّ تشكيك
المشكّك بأنّ مجتهد المقلّد غير لائق للاتّباع يوجب تزلزل المقلّد عن اطمئنانه
ويجب عليه التّفحّص والتفتيش والاجتهاد ثانيا لتحصيل مجتهد آخر أو إبطال تشكيك
المشكّك ؛ فكذا حال الطّفل.
وكما أنّ استفراغ
الوسع معتبر في تحصيل المجتهد ، ولا يجوز على المقلّد
العارف المسامحة
في ذلك ، فكذلك الطفل ومن فوقه من العوامّ إذا شكّك له مشكّك بأن يقول : إنّ أباك
لا يليق بالتقليد ، أو يجب عليك معرفة الأحكام وتحصيلها من مجتهد مقبول ، فيتزلزل
اطمئنانه ولا يجوز له العمل بعد ذلك بهذا الظنّ ، بل لا يبقى حينئذ ظنّ.
كما أنّ المجتهد
بعد ما استفرغ وسعه واستقرّ ظنّه على حكم فأخبره معتمد من العلماء أنّ في الكتاب
الفلانيّ حديثا صحيحا يدلّ على خلاف ما ذكرت ، وأنّ فلانا ادّعى الإجماع في الكتاب
الفلانيّ على خلاف ما ذكرت ، فيتزلزل ولا يجوز له العمل حتى يتفحّص ويتأمّل في ذلك
، ثمّ يعمل على ما اقتضاه.
وأمّا تفصيل
الكلام في المقام الأوّل ، فهو أنّ المشهور بين فقهائنا أنّ الناس في غير زمان
حضور الإمام عليهالسلام صنفان : إمّا مجتهد وإمّا مقلّد له ، ومن لم يكن من أحد
صنفين فعبادته باطلة وإن وافق الواقع ، ويؤدّي هذا المؤدّى قولهم : بأنّ الجاهل في
الحكم الشرعيّ غير معذور.
وذهب جماعة من
المتأخّرين ، منهم المحقّق الأردبيلي رحمهالله الى ثبوت الواسطة ومعذوريّة الجاهل ، وصحّة عباداته إذا
وافقت الواقع.
حجّة المشهور :
أنّ التكاليف باقية بالضّرورة وسبيل العلم إليها مسدود ، ولا دليل على
العمل بالظنّ إلّا ظنّ المجتهد ، لقضاء الإجماع والضّرورة بذلك والمقلّد له للزوم
اختلال نظام العالم لو أوجبنا الاجتهاد على الجميع.
وفيه : أنّ وجوب
الرّجوع الى المجتهد إن أريد بالنّسبة الى من تفطّنه لوجوب المعرفة ولم يقصر فطنته
على الاكتفاء على من هو دون المجتهد ، فمسلّم ، وإن
__________________
أريد مطلقا ،
فممنوع. لأنّ الغافل عن هذا المقدار من وجوب المعرفة الذي أوج معرفته أنّ ما يفعله
أبوه وأمّه هو ما لا يحتمل البطلان ، وليس الصّلاة مثلا غير ما يفعلانه ، ولا
تزلزل في خاطره في هذا المعنى ، كيف يكلّف بالرّجوع الى المجتهد ، ومعرفة المجتهد
وتعيينه ، وهل هذا إلّا التكليف بما لا يطاق؟ ولذلك يكتفى في من بلغ فطنته الى
لزوم الرّجوع الى المجتهد بحصول ظنّه بأنّ هذا الشّخص مجتهد ، ويكفيه ذلك وإن
اتّفق في الواقع كونه غير مجتهد ، وهل ذلك إلّا لأنّ تكليفه بأزيد من ذلك تكليف
بما لا يطاق ، إمّا لأجل أنّه غافل عن احتمال أن يكون شخص أفضل من ذلك ، أو عن
احتمال أن يكون ذلك قاصرا في رتبة الاجتهاد ، وإمّا لأجل أنّه جاهل بحقيقة
الاجتهاد ، فما الفرق بين ذلك وبين ما نحن فيه؟
فالطّفل في أوّل
بلوغه ، على الفرض الذي ذكرنا في تعيين أبيه أو أمّه للرجوع إليه ، مثل هذا
المقلّد في تعيين مجتهده.
واحتجّوا أيضا :
بالأخبار الدالّة على الرّجوع الى العلماء ، مثل مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ،
وبمثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، وبمثل الأخبار الحاكية أنّ أصحاب الأئمّة عليهمالسلام إذا كانوا يسألونهم : عمّن نأخذ معالم ديننا؟ كانوا يقولون
: عن زرارة ، أو يونس بن عبد الرّحمن مثلا ، ولم يجوّزوا الرّجوع الى غيرهم ، بل إنّهم نهوا عن تقليد
العالم المتابع لهواه فضلا عن
__________________
غير العالم ،
وأمروا بالرّجوع الى العادل الزّاهد ، ونحو ذلك.
وفيه : أنّ نحو
هذه كلّها خطابات متعلّقة بمن يفهم ذلك ويتفطّن له ويطّلع على هذه المضامين ، وكون
الغافلين والجاهلين رأسا لغير المتفطّنين لأزيد ممّا بلغهم بديهة الذي يفعله النّاس
وأبوهم وأمّهم مخاطبين بهذه الخطابات أوّل الكلام.
وأمّا العارفون
بذلك ، المستمعون لهذه الخطابات والمتفطّنون لوجود هذه الخطابات أو احتمالها بحيث
يحصل التزلزل في معتقدهم ، فنحن نقول أيضا : بأنّهم لو قصّروا في تحصيل ما يجب
عليهم ، لكانوا معاقبين ، ولكان طاعاتهم باطلة غير مقبولة.
احتجّ الآخرون : بالأصل وصعوبة حصول العلم بالمجتهد وشرائط [و] عدالته ،
سيّما مع الإشكال في معنى العدالة والكاشف عنها والمثبت لها للأطفال في أوّل
البلوغ وللنسوان ، بل ولكثير من العوامّ.
وفيه : أنّهم إن
أرادوا بذلك الغافل بالمرّة أو العاجز عن إدراك ما ذكر ، كما هو غالب الوجود في
المذكورين ، فهو كما ذكروه ، والأصل والعسر والحرج ، بل تكليف ما لا يطاق ، كلّها
دليل على ذلك.
ولكن يرد عليهم
أنّ تخصيص ذلك ما كان موافقا لنفس الأمر ، لا دليل عليه إذ هؤلاء ليس تكليفهم إلّا
ما فهموه ، ولذلك لما لا يشترط في صحّة صلاة المجتهد موافقة صلاته لنفس الأمر.
ويظهر ما ذكرنا من
عدم الفرق من بعض كلمات بعض هؤلاء أيضا كما سنشير إليه ، وإن كان صريح كلام
المحقّق الأردبيلي رحمهالله اعتبار الموافقة لنفس الأمر.
__________________
وأمّا مع فرض
التّفطّن والإمكان ، فلا يتمّ الأصل للعلم باشتغال الذّمة وإمكان التّحصيل ، لأنّ
العلم الإجمالي كاف في وجوب تحصيل التّفصيل كما في المثال المشهور بتكليف المولى
عبده بالعمل على الطّومار الممهور ، ولا حرج فيه يوجب سقوط التكليف.
واحتجّوا أيضا : بأنّ المأمور به هو نفس العبادة وكونها مأخوذة من الإمام عليهالسلام أو من المجتهد ، غير داخل في حقيقته ، فمتى وجد في الخارج
، يحصل الامتثال ، والأصل عدم مدخليّته كونها مأخوذة منهم في ماهيّة العبادات.
وكلامهم هذا يقتضي
كفاية ذلك ، وإن علم بوجوب المعرفة والتحصيل وقصّر فيه واكتفى بظنّه أو بتقليد من
لا يجوز تقليده وهو صريح كلام بعضهم ، وقد يقيّد بعدم العلم بنهيه عن ذلك حين
الفعل.
أقول : لا مناص في
صحّة العبادات من قصد الامتثال كما حقّقناه سابقا في محلّه ، وهو المراد من قصد
التقرّب ، ولا يصحّ قصد الامتثال إلّا مع معرفة كون ذلك الفعل هو ما أمر به الآمر
، فإذا لم يعرف ذلك فكيف يقصد به التقرّب ، وهذا هو الفارق بين الواجبات
التوقيفيّة والواجبات التوصّلية ، كما بيّناه سابقا. فإن اعتبر هؤلاء مجرّد
الموافقة وإن كان المصلّي عالما بوجوب التّحصيل ومقصّرا في ذلك ، فهو باطل لعدم
تحقّق الامتثال العرفيّ للزوم الجزم بالإطاعة ، والمفروض أنّ مع العلم بوجوب
التحصيل لا يبقى الاطمئنان بظنّه وتقليده ، فهو في الحقيقة ليس بظنّ كما أشرنا
سابقا.
والحاصل ، أنّ
الامتثال العرفيّ لا يحصل إلّا بقصد الامتثال ، وقصد الامتثال
__________________
بالفعل لا يتمّ
إلّا بمعرفة أنّ الفعل هو نفس المأمور به ، والمفروض أنّه لا يعلم ذلك لعلمه بوجوب
التحصيل وعدم علمه بأنّ ذلك هو المأمور به ، بل ولا الظنّ أيضا كما أشرنا. ولو فرض
حصول ظنّ فلا حجّية فيه مع الاحتمال الظّاهر كما أشرنا في المجتهد إذا أخبره عدل
بوجود معارض لم يعثر عليه المجتهد.
ويدلّ على ذلك
أيضا قولهم عليهمالسلام : «لا عمل إلّا بالنيّة» ، و : «إنّما الأعمال بالنيّات» ، وغيرهما.
وإن اعتبروه بشرط
أن لا يتفطّن المكلّف لوجوب التحصيل ، ولا يحصل له العلم بذلك.
ففيه : أنّ اعتبار
الموافقة هنا لا دليل عليه ، لأنّ التكليف بالموافقة حينئذ تكليف بما لا يطاق ،
فليس ذلك تكليفا له ، فكيف يطلب منه ، مع أنّه لا معنى محصّل لموافقة نفس الأمر ،
ولا يظهر أنّ المراد منه هو حكم الله الواقعيّ الذي عليه أحد إلّا الله ، أو ما
وافق رأي المجتهد الذي في ذلك البلد ، أو أحد المجتهدين ، وما الدّليل على ذلك
كلّه ، وما المبيّن والمميّز له. وحكم المجتهد بعد اطّلاعه بالموافقة وعدم
الموافقة أيّ فائدة فيه لما فعله قبل ذلك. اللهمّ إلّا أن يقال المراد الحكم بلزوم
القضاء وعدمه ، فيتبع ذلك رأي المجتهد الذي يقلّده بعد المعرفة ، فيحكم بأنّه فات
منه الصلاة أو لم يفت ، وأنت خبير بأنّ الحكم بالفوات وعدم الفوات تابع لكون
المكلّف حينئذ مكلّفا بشيء ثمّ فات منه ، وهو أوّل الكلام ، ولزوم القضاء على
النّائم والنّاسي إنّما خرج بدليل هو النصّ.
__________________
وما يوجّه الفرق
بأنّ مقتضى القول بعدم جواز التّرجيح بلا مرجّح أن يكون لخصوصيّة الهيئة الصّادرة
من الشّارع مدخليّة في تكميل النّفس وحصول القرب الذي هو المطلوب من المأمور به ، فمع
المخالفة لا يحصل ذلك ، كما في تركيب الأدوية عند أطبّاء الأبدان.
ففيه : مع أنّ تلك
الهيئة المخترعة كما أنّه لا يجوز انتقاصها عمّا ركّبها عليه أطبّاء الأديان
وترتفع خاصيّتها بذلك ، فكذلك لا يجوز خلوّها عن قصد التّقريب والامتثال الذي هو
من كيفيّات هذا التّركيب وشرائطه. ومنع اشتراطه مكابرة كما يشهد به العرف والعادة
والعقل والنقل أنّه يرد عليه أنّك ما تقول في مؤدّى ظنون المجتهدين في المسائل
المختلف فيها ، فهل التّركيب واحد في نفس الأمر ، أو مختلف مجوّز كلّها بمقتضى
تعدّد الآراء ، أو غير الموافق بدل عن الموافق كبدل الأدوية ، فإن كان واحدا فيرد
ما ذكرت على المجتهد أيضا ، وإن كان مختلفا فيرد عليه بيان الفرق بين المجتهد
وغيره.
وما الدّليل الذي
جوّز ذلك في المجتهد ولم يجوّزه في غيره [غير] ، فهل دليل جواز عمل المجتهد برأيه
وجواز تقليد الغير إيّاه إلّا لزوم تكليف ما لا يطاق لولاه؟ وقد عرفت أنّه موجود
في غير المقصّر الجاهل الغافل أيضا كما بيّناه ، مع أنّ نيّة القربة قد تكون فيه
أكمل من الذي علم وجوب التّحصيل واكتفى بظنّه المعلوم ، بل وهمه ، واتّفق موافقته
للواقع.
وبالجملة ، الفرق
بين الموافق للواقع وغيره حينئذ في الثّواب والعقاب والمدح والذمّ ، وغيرهما خلاف
طريقة العدل كما أشار إليه بعض المحقّقين ، قال : إنّ أحد الجاهلين بوجوب معرفة
الوقت إن صلّى في الوقت والآخر في غير الوقت ، فلا يخلو إمّا إن يستحقّا العقاب أو
لم يستحقّا أصلا ، أو يستحقّ أحدهما دون
الآخر. وعلى
الأوّل ، يثبت المطلوب ، لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون لعدم الإتيان بالمأمور به
على وجهه. وعلى الثاني ، يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا. ولو انفتح هذا
الباب لجرى الكلام في واحد واحد من أفعال الصلاة ، ويفضي الأمر الى ارتفاع جلّ
التكاليف ، وهذه مفسدة واضحة لا يشرع لأحد الاجتراء [اجتراء] عليه ، ومعلوم فساده
ضرورة. وعلى الثالث ، يلزم خلاف العدل ، لاستوائهما في الحركات الاختياريّة
الموجبة للمدح أو الذّمّ ، وإنّما حصل مصادفة الوقت وعدمه بضرب من الاتّفاق من غير
أن يكون لأحد منهما فيه ضرب من التّعمل والسّعي وتجويز مدخليّة الاتّفاق الخارج عن
المقدور في استحقاق المدح والذّمّ ممّا هدّم بنيانه البرهان ، وعليه إطباق
العدليّة في كلّ زمان.
أقول : ولا بدّ من
حمل كلام هذا المحقّق على صورة العلم بوجوب معرفة الصّلاة بشرائطها وأركانها ،
بحيث يحصل له القطع أو الظنّ مع التّقصير فيه ، وأمّا الغافل فلا بدّ أن يختار فيه
الشّق الثّاني.
وأجاب بعض الأفاضل
: باختيار الشّقّ الثاني لو كان غافلا عن وجوب مراعاة الوقت وجاهلا بوجوب معرفة
الصلاة بشرائطها وأركانها ، بحيث يحصل له القطع أو الظنّ.
وأمّا مع فرض
العلم بوجوب المعرفة المذكورة ، فقال : إنّ الذي فعل في الوقت حينئذ ، معاقب على
ترك السّعي لا على ترك الصلاة لإتيانه بها ، وليس التّحصيل والمعرفة من شرائطها ،
بل هو واجب على حدة.
وأمّا الآخر
فيعاقب على ترك السّعي وعلى عدم الإتيان بالصّلاة لعلمه بأنّه يجب عليه السّعي
ليعلم الشّرائط ويأتي بالصّلاة التامّة ، فترك السّعي واستمرّ جهله فلم يأت بها
مطابقة للواقع.
ودفع لزوم كون
الأمر الاتّفاقي موردا للمدح أو الذمّ بأنّا نقول : إنّ المدح على فعل الصّلاة
النّاشئ عن العلم ، ولم نقل بأنّ الذي فعل في الوقت مستحقّ للمدح بفعله في الوقت ،
بل نقول بأنّه لا عقاب لتركه مراعاة الوقت من جهة جهله بها ، ولا ملازمة بين كون
شيء غير مستحقّ للذّم والعقاب عليه وكونه مستحقّا للممدوحيّة ، بأن يكون كلّ من لم
يستحقّ العقاب على شيء يستحقّ المدح عليه كما في تارك الزّنا لغير الله تعالى ،
فغاية الأمر أن يكون الجاهل بمراعاة الوقت المصلّى فيه أقلّ ثوابا من العالم الذي
راعى الوقت وصلّى فيه ، لأنّ الثّاني تقرّب الى الله بفعلين ، والأوّل بفعل واحد.
أقول : وفيه مع ما
فيه ممّا يظهر من التأمّل فيما تقدّم ، أنّ هذا بعينه الخروج عن قواعد العدل ،
فإنّ الأوّل لم يصدر منه شيء أزيد من وقوع فعله في الوقت اتّفاقا ، وفي الباقي
متساويان ندرأ العذاب عن أحدهما دون الآخر خروج عن العدل. وكذا حصول المدح لأحدهما
على أفعال الصلاة دون الآخر ، مع أنّ خلوّ الطّاعة عن الرّجحان واستحقاق المدح
أيضا غير معهود ، وقياسه بترك الزّنا قياس مع الفارق ، فإنّ ترك الزّنا من
التّوصّليات ، بخلاف فعل الصلاة في الوقت.
وقد احتجّوا أيضا
: بالأخبار الدالّة على دفع الكلفة والعقاب عمّا لا نعلم ، مثل قولهم عليهمالسلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» . وقولهم عليهمالسلام : «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم» . وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «وضع عن أمّتي تسعة
__________________
أشياء» ، وعدّ
منها : «ما لا يعلمون» ، ونحو ذلك.
وفيه : أنّ مدلول
هذه الأخبار فيما جهلوه إجمالا وتفصيلا ، ولم يتفطّنوا لوجوب معرفته أو غفلوا عنه
بعد الفحص والتّفتيش أيضا واضح ومسلّم لا غبار عليه. وأمّا فيما علم إجمالا وجوب
المعرفة فيه وحصل احتمال ظاهر بوجوب الطّلب بالنّسبة الى بعض ما لا نعلمه ، فلا
يصدق مدلولها لحصول العلم في الجملة ، وإن لم يكن تفصيلا ، ولذلك ترى الفقهاء لا
يتمسّكون بعموم هذه الأخبار بعد قولهم بالعمل بأصل البراءة.
والعمل بأصل
البراءة عندهم مشروط بالتّفحّص عن الأدلّة بقدر الوسع ، ومع حصول الظنّ بعدمها ،
فحينئذ يعملون بمقتضاها لحصول العلم الإجمالي لهم باختلاف الأدلّة وتعارضها ،
واشتغال الذمّة بشيء غير مبيّن.
والحاصل : أنّ بعد
حصول العلم الإجمالي والتّفطّن بوجوب تحصيل المعرفة بالأحكام ، لا يجوز المسامحة ،
والعمل بأيّ ظنّ يحصل ما لم تطمئنّ إليه النّفس بحيث لم يبق له تزلزل في الأمر.
ويدلّ على ذلك
أيضا روايات كثيرة ، مثل ما رواه الشيخ في الصّحيح عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال : سألته عن
امرأة تزوّجت رجلا ولها زوج ، قال : فقال عليهالسلام : إن كان زوجها الأوّل مقيما معها في المصر التي هي فيه
تصل إليه أو يصل إليها فإنّ عليها ما على الزّاني المحصن الرّجم». الى أن قال :
__________________
«فإن كانت جاهلة
بما صنعت؟ قال : فقال : أليس هي في دار الهجرة؟ قلت : بلى ، قال : فما من امرأة
اليوم من نساء المسلمين إلّا وهي تعلم أنّ المرأة المسلمة لا يحلّ لها أن تتزوّج
زوجين. وقال : ولو أنّ المرأة إذا فجرت قالت : لم أدر ، أو جهلت أنّ الذي فعلت
حرام ولم يقم عليها الحدّ ، إذا لتعطّلت الحدود».
وكذا في «الكافي» وأيضا في الحسن لإبراهيم بن هاشم عن أبي أيّوب عن يزيد الكناسيّ قال : سألت أبا جعفر عليه
الصّلاة والسّلام «عن امرأة تزوّجت في عدّتها؟ قال : إن كان تزوّجت في عدّة طلاق
لزوجها عليها الرّجعة ، فإنّ عليها الرّجم ، وإن كانت تزوّجت في عدّة ليس لزوجها
عليه الرّجعة فإنّ عليها حدّ الزّاني غير المحصن». الى أن قال : «قلت : أرأيت إن
كان ذلك منها بجهالة؟قال : فقال عليهالسلام : ما امرأة اليوم من نساء المسلمين إلّا وهي تعلم أنّ
عليها عدّة في طلاق أو موت ، ولقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك».
«قلت : فإن كانت
تعلم أنّ عليها عدّة في طلاق أو موت ولا تدري كم هي؟قال : فقال : إذا علمت أنّ
عليها العدّة لزمتها الحجّة فتسأل حتّى تعلم».
وهكذا أيضا في «الكافي»
و «الفقيه» .
وما رواه المشايخ
الثلاثة في كتبهم وسند بعضها معتبر عن الصّادق عليهالسلام :
__________________
«إنّ رجلا جاء
إليه فقال له : إنّ لي جيرانا لهم جوار يغنّين ويضربن بالعود فربّما دخلت المخرج
فاطيل الجلوس استماعا منّي لهنّ؟ فقال عليهالسلام له : لا تفعل. فقال : والله ما هو شيء آتيه برجلي ، إنّما
هو سماع أسمعه بأذني».
فقال الصادق عليهالسلام : «لله أنت ، أما سمعت الله يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ
كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فقال الرّجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله عزوجل من عربيّ ولا عجميّ لا جرم أنّي قد تركتها وإنّي أستغفر
الله تعالى».
فقال له الصادق
عليه الصلاة والسلام : قم فاغتسل وصلّ ما بدا لك ، فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ،
ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك ، استغفر الله واسأله التّوبة من كلّ ما يكره ،
فإنّه لا يكره إلّا القبيح ، والقبيح دعه لأهله فإنّ لكلّ أهلا».
الى غير ذلك من
الأخبار ، مثل ما دلّ على أنّه لا تنفع الطّاعة إلّا بولاية وليّ الله ، وبأن تكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ومثل ما ورد : أنّه لا عمل
إلّا بالفقه ، والمعرفة ، وبالعلم ، وبإصابة السّنّة. ويؤيّده الخبر المشهور : «إنّ القضاة أربعة والنّاجي منها واحد ، والباقي في
النّار». فإنّ هذه الأخبار تدلّ على أنّ العلم الإجمالي كاف في التكليف بالتفصيل ،
وتاركه معذّب.
والمراد بالخبرين
الأخيرين الدّلالة الى العمل على حسب فهم المكلّف ، وكذلك إصابة السّنّة ، وإلّا
فيلزم تكليف ما لا يطاق لو أريد ذلك على سبيل العموم ،
__________________
ولزوم تكليف ما لا
يطاق في الغافل والجاهل رأسا هو المخصّص لكلّ ما يمكن أن يستدلّ به من العمومات
والإطلاقات لو سلّم عمومها ودلالتها ، لأنّ الظّنّي لا يعارض القطعيّ.
واحتجّوا أيضا :
بروايات مثل ، ما ورد في حكاية عمّار أنّه أصابه جنابة فتمعّك في التّراب. فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كذلك يتمرّغ الحمار ألا صنعت كذا ، فعلّمه التيمّم».
ومثل ما ورد في
حكاية براء بن معرور حيث تطهّر بالماء ، وصار ممدوحا بهذا مع أنّه لم يأخذه من الشّارع ، ونحو
ذلك.
وفيه : أنّ هذه
الأخبار ليست باقية على ظاهرها ، ولا بدّ من تأويلها لمخالفتها للدليل القطعيّ
فيمن يتمكّن من التحصيل وتفطّن لوجوب معرفة الأحكام بالتفصيل. فالتنديم والتوبيخ
على عمّار إنّما يرجع الى تقصيره في عدم السّؤال حتّى يفعل صحيحا ، وإن فرض أنّ
عمار كان جاهلا بلزوم السّؤال ، وغافلا عن
__________________
حقيقة الحال
وعاريا عن العلم بالتفصيل والإجمال ، فالرّواية دليل على جواز عمله بظنّه حينئذ.
ونحن لا نتحاشى
عنه ، مع أن استعمال هذا اللّفظ وما في معناه شائع في العرف في إرادة بيان ما هو
حقيق بأن يفعل ، وإلّا فلا معنى للتنديم والتوبيخ على الجاهل والغافل.
وأمّا الحكاية
الأخرى ، فيظهر الجواب عنها بملاحظة ذلك بأنّ اتّفاق مطابقة ورود الشّرع على مقتضى
فعلهم يكشف عن حسن ذلك الفعل بالذّات ووجود المصلحة فيه ، وإن كان مقصودهم من ذلك
التنظيف لا التطهير الشّرعيّ أو أنّ ظنّهم أدّاهم الى هذا الاختيار باعتقاد أنّه
حكم الله مع عدم تقصيرهم في تحصيل المعرفة ، فصاروا ممدوحين بهذا الفعل لمطابقته
للمصلحة الواقعية.
وكذلك يظهر الجواب
أيضا لو استدلّ بمثل ما رواه الكليني في «الكافي» عن عبد الله بن عطاء قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : «رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما : تبرّءا من أمير
المؤمنين عليهالسلام ، فتبرّأ واحد منهما وأبى الآخر ، فخلّي سبيل الذي تبرّأ
وقتل الآخر. فقال عليهالسلام : أمّا الذي تبرّأ فرجل فقيه في دينه ، وأمّا الذي لم
يتبرّأ فرجل تعجّل الى الجنّة». فإنّ الظّاهر أنّ الذي لم يتبرّأ كان جاهلا بوجوب
التقيّة ووجه دخوله الجنّة أنّه غير مقصّر في ذلك لعدم تفطّنه.
وفذلكة المقام ،
أنّ الثواب والعقاب على الفعل والترك إنّما يتبع العلم والجهل مع عدم التّقصير ،
فدعوى كون من قلّد غير من هو أهل التقليد في الأحكام الشرعيّة معاقبا مأثوما مطلقا
، شطط من الكلام. ومدّعي ذلك ، إمّا لا بدّ له من القول
__________________
بجواز تكليف
الغافل ، أو دعوى عدم إمكان حصول هذا الفرد.
أمّا الأوّل : فلا
خلاف في قبحه ، بل الأشاعرة مع نفيهم للقبح العقليّ لم يجوّزوه.
وأمّا الثاني :
فهو يرجع الى النّزاع في الصغرى ، ونحن نتكلّم على فرض ثبوتها ، فلا بحث علينا ،
مع أنّ هذه الدّعوى تشبه المكابرة ، إذ نحن نشاهد الفضلاء الفحول والمجتهدين في
المعقول والمنقول ربّما غفلوا عمّا يلزمهم معرفته في الفروع والأصول فضلا عن
الأطفال والنسوان وضعفاء العقول ، وكثيرا ما رأينا الصّلحاء الذين ليس همّهم إلّا
معرفة الدّين وتحصيل الشّرائع باليقين ، وكان شغلهم مجالسة العلماء ، والتردّد في
أبواب العرفاء ، والمسألة عن مسائل صلاتهم وطهارتهم وصيامهم ، ثمّ ظهر لهم أنّهم
غفلوا عن السّؤال عن بعض ما هو من واجبات عباداتهم ، وكانوا يعملون بشيء من
أحكامها على سبيل ظنّهم بصحّته من دون أخذ من العالم لأجل عدم تفطّنهم بالسّؤال
وغفلتهم عن حقيقة الحال ، وربّما كان مخالفا لرأي مجتهده أيضا ، فكيف يدّعى عدم
تحقّق فرض الغفلة. ألا ترى أنّهم لا يحكمون بكفر منكر الضّروريّات إذا أمكن في
حقّه الشّبهة ، فإذا جوّزنا الشّبهة في الضّروريّات ، فكيف لا يجوز الغفلة في
النظريّات والأمور الخفيّة.
نعم ، الغفلة في
الأمور العامّة البلوى كمن زاول الشّريعة وخالط أهلها بعيد ، سيّما إذا نبّه عليه
، مضافا الى أنّ عموم البلوى تنبيه آخر كما أشرنا إليه في الرّوايات ، مثل صحيحة
أبي عبيدة ، ورواية يزيد الكناسيّ المتقدّمتين ، فإنّ امرأة عرفت أنّ عليها
التربّص بعد الطلاق بزمان مجهول لها مقداره حتّى تحلّ لزوج آخر ، فكيف يجوز لها
التّزوّج باعتذارها إنّي لم أعرف مقدار الزّمان ، بل يجب عليها السّؤال لحصول
العلم لها بالتكليف على الإجمال. ولو فرض وجود امرأة لم
يقرع سمعها لزوم
العدّة ، فلا ريب أنّها معذورة ، وقد يطلق المستضعف على مثل ذلك.
ولا ريب أنّ أكثر
الأطفال في أوائل البلوغ وكثيرا من النّسوان والعوامّ في غالب أحكامهم يلحقون
بالمستضعفين بهذا المعنى وإن لم يكونوا مستضعفين من جهة العقل ، بل قد عرفت أنّ
الغفلة تحصل للعلماء والفضلاء أيضا ، فالنّزاع بين علمائنا مشهور ، والمحقّق
الأردبيلي رحمهالله وموافقيه لا بدّ أن يكون فيمن حصل له العلم بالإجمال
وتفطّن لوجوب التحصيل ، لكن قصّر في تحصيله وعمل بمقتضى ما قاله من لم يكن أهلا
للفتوى وحقيقا بالتقليد ، أو بظنّه ، ولذلك شرطوا فيه موافقته الواقع ، وقد عرفت
التّحقيق وأنّه ليس كما قالوه.
ثمّ إن قلت : إنّ
ما ذكرت يوجب سدّ أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا للمقصّر المتقاعد عن
التحصيل مع علمه بوجوب المعرفة ، فلا يجب نهي الغافلين عن الأعمال الشنيعة ولا
أمرهم بالعبادات الصّحيحة ، فينتفي فائدة بعث الرّسل وإنزال الكتب.
قلت : ما ذكرته
بعينه شبهة ترد على الله تعالى في أصل بعث الأنبياء وإنزال الكتب ، وتأسيس الأحكام
وحلّها. إنّ هذه الأحكام والآداب والأعمال لها آثار وثمرات وخواصّ بها يستكمل نفس
الإنسان ويحصل له بسبب استعمالها قرب الخالق المنّان ، ولطف الله تعالى يقتضي
إبلاغ ذلك بحسب وسع عباده ومقتضى طاقتهم ، ألا ترى أنّ الأنبياء عليهمالسلام لم يقدروا في أوّل زمان بعثهم على تبليغ جميع الأحكام الى
جميع أهل العالم ، وخصوصيّات المكلّفين في كلّ واحد من البلاد.
وحكمته تعالى
اقتضت تبليغ ذلك وتتميمه متدرّجا ، ومن لم يكمل عليه الحجّة ولم يتّضح له الحجّة
منهم في زمانهم عليهمالسلام ، فلا سبيل للمؤاخذة عليهم ، ومن قرع
سمعه شيء من ذلك
فيجب عليه التفحّص عنه بمقدار يصل فهمه الى وجوبه ويكتفي بمقدار يبلغ فطنته الى
كفايته ، ومع ذلك فلو فرض اطّلاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو من يقوم مقامه على غفلة خصوص شخص عمّا جاء به للخلق
للإرشاد والتعليم فيجب عليه تنبيهه وإرشاده ، فكذلك الآمرون بالمعروف والنّاهون عن
المنكر يجب عليهم تنبيه هؤلاء وإرشادهم طريقة الحقّ لأنّه هو مقتضى اللّطف ، ولا
يستلزم ذلك كون ترك تلك الطّريقة وسلوك غيرها بمقتضى اجتهاده وبذل مجهوده معصيته
حتّى يكون ردعه من باب النهي عن المنكر.
والحاصل ، أنّ
مقتضى اللّطف تبليغ العمل الذي له خاصيّته وأثر بذاته لتحصيل الكمال ، وما يعلمه
ذلك المكلّف بمقتضى وسعه وإن لم يكن عليه مؤاخذة لكن لا يترتب على عمله الأثر الذي
يترتب على العمل الصّحيح الموافق لإرادة الشّارع ، وإن كان لا يخلو عن أثر وثواب
أيضا لئلّا يلزم الحيف والجور.
والفرق بين من
يأتي بالعمل على حدوده ، ومن لا يأتي بتمام حدوده مع اشتراكهما في عدم التّقصير في
التحصيل لا يوجب الظّلم والحيف ، بل إنّما يوجب الظّلم والحيف إن قلنا بخلو عمل
النّاقص عن الأجر رأسا ، ونحن لا نقول به.
وينتهي الكلام في
هذا في الغالب الى تفاوت الاستعدادات ، وتفاوت العمل بتفاوت الاستعداد وتفاوت
الأجر لذلك لا يوجب ظلما وإلّا فلا بدّ أن يتفاوت حال المعصوم عليهالسلام من حال مؤمن لم يقصّر في تحصيل واجباته بحسب طاقته وهو كما
ترى.
ولتفصيل هذا
الكلام محلّ آخر ، ومنتهى الكلام فيه الى الخوض في لجج مسائل القدر وهو منهي عنه ،
وما يتعلّق من المسألة بما نحن فيه فالمقصود منه واضح.
هذا الكلام في
الثّواب والعقاب. وأمّا الكلام في الإعادة والقضاء فهو مسألة فقهيّة تابعة للكلام
في مسألة أصوليّة ، ويظهر لك حقيقة الحال فيه بما بيّناه في مسألة أنّ الأمر يقتضي
الإجزاء ، ومسألة أنّ القضاء ليس بتابع للأداء ، وقد عرفت أنّ الحق أنّ القضاء
إنّما يثبت بدليل جديد ، فكلّما لم يثبت فيه دليل على الوجوب فالأصل عدمه.
والذي يمكن أن
يصير قاعدة في المقام مع قطع النّظر عن الأدلّة المختصّة بالمقامات الخاصة هو مثل
ما ورد في صحيحة زرارة عن الباقر عليه الصّلاة والسّلام : «ومتى ذكرت صلاة فاتتك
صلّيتها».
ولكنّ الاشكال في
فهم معنى الفوات وفي التفرقة بين مثل المجنون وفاقد الطّهور والحائض والنّاسي
والنّائم ، حيث يحكم على بعضها بالقضاء دون البعض ، وقد يفرق بين فقد الشّرط ووجود
المانع ، فعدم الفوت عن المجنون مثلا لعدم الشّرط فلم يتعلّق به شيء حتّى يصدق
الفوت ، وكذلك فاقد الطّهور على القول به بخلاف النّائم والنّاسي ، فإنّ النّوم
والنّسيان مانعان ، والشّرط غير مفقود وهو التكليف ، وهو تكلّف واضح إذ ليس كون
النّوم مانعا مثلا بأولى من كون اليقظة شرطا ، وليس انتساب سقوط التكليف الى فقدان
الشّرط بأولى من انتسابه الى وجود المانع. فكما أنّ الحائض يمكن أن يكون سقوط
صلاتها لأجل عدم الطهارة ، فيمكن أن يكون لأجل وجود الحيض ، فالأولى الرّجوع الى
الفهم العرفيّ.
وإنّ إطلاق الفوات
في العرف ينزل على أيّ شيء ، فما ثبت فيه الإطلاق
__________________
فيحكم بالقضاء ،
وما ثبت عدمه وما شكّ فيه ، فلا يثبت القضاء.
لا يقال : لا مدخل
للعرف فيما هو من الأحكام الشرعيّة ، فإنّ المدار في الإطاعة والامتثال على
الظّنون كما يحكم به العقل والعادة ، فكما يحسن ، بل يجب على المسافر تهيئة السّفر
والملاقي العدوّ أخذ السّلاح مع احتمال الفوات قبل الاحتياج الى الاستعمال ، فكذلك
للصحيح السّالم العاقل المتفطّن التّهيؤ للعبادة قبل الوقت ، فمن كان في نظر أهل
العرف من المستعدّين لتعلّق التكليف به ثمّ فات منه ، يصحّ إطلاق الفوات عليه ،
كالنّائم والنّاسي في الصلاة ، بخلاف الصّغر والجنون ، ولذلك يقال في العرف للتاجر
المالك للقنية الطالب للاسترباح إذا منع من سفر خاص : فات منه هذا الرّبح ، بخلاف
الفقير الذي لا شيء له.
فنرجع الى ما نحن
فيه ، ونقول : إنّ المكلّف الذي استقرّ رأيه على طاعة وعلم أنّ تكليفه ليس إلّا
ذلك أو ظنّه كذلك بحيث اطمأنّ به من دون تزلزل ، فيكون ذلك تكليفه ، وإذا أتى به
على ما فهمه فخرج عن عهدة تكليفه ولم يفت منه ما كان مكلّفا به عرفا ، فما الدّليل
على وجوب القضاء خارج الوقت ، كما أنّ المجتهد والمقلّد له إذا ظهر لهما بعد الوقت
خطأ ما فعلاه في الوقت بحسب ظنّهما ، وكما أنّ عدم مطابقة الواقع لا يضرّ بهما ،
فلا يضرّ بالجاهل أيضا.
وأمّا الإعادة ،
فالأظهر فيه أيضا العدم ، لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء وكان مأمورا بما فعل ، وقد
فعل.
والقول بأنّه
مأمور بذلك ما دام متّصفا بصفة الجهل فهو دعوى خالية عن الدّليل ، بل الأمر مطلق ،
والامتثال يحصل بالمرّة.
هذا واعلم أنّ
الكلام فيما ذكرنا إنّما هو في الواجبات والمحرّمات والمباحات ونحوها وماهيّة
العبادات وكيفيّتها ، وأمّا الصحّة والفساد المترتّبان على المعاملات
والأسباب
الشّرعيّة كالعقود والجنايات ونحو ذلك ، فنقول : يترتّب الآثار على الأسباب وإن لم
يكن المكلّف عالما بترتّبها ، ولا يتوقّف الترتّب بالعلم بأنّ الشّارع رتّب هذا [على]
ذلك.
ومرادنا بالواجبات
والمحرّمات أيضا غير التوصّليات ، وإلّا فالواجبات التوصّلية أيضا لا يضرّ في
ترتيب الآثار عليها جهالة كونها عن الشّارع ، فعليك بالتأمّل في مواقع المسألة
والتّمييز ، والله الموفّق.
واعلم ، أنّ
الكلام في هذه المسألة بالنّظر الى الغافل والجاهل الغير المقصّر يظهر ثمرته في
وجوب الاستغفار وعدمه ، ولزوم القضاء وعدمه ، وأمّا بالنسبة الى الباحثين عنها ،
فمسألة علميّة لا عمليّة.
نعم ، يثمر
بالنّسبة إليهم في التبليغ والإرشاد وعدمه.
وأمّا تفصيل
الكلام في المقام الثاني فهو أنّ المشهور جواز التّجزّي في الاجتهاد ، ومنعه
جماعة.
والمراد بالمتجزّي
عالم حصل له ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل فقط بحسب علمه أو بحسب ظنّه وإن
لم يكن كذلك في نفس الأمر ، بأن يكون قادرا على استخراج برهة من الأحكام من المأخذ
فقط ، مثل إن يحصّل بتتبّعه أنّ الأخبار الدالّة على أحكام مسائل الوضوء أو مطلق
الطهارة أو الصّلاة أيضا هي التي عثر عليها ، وعلم إجمالا أن لا معارض لها في
الأخبار الدالّة على أحكام المناكح والمواريث والحدود والديات وغير ذلك ، وعلم أنّ
آيات الأحكام في هذه المسألة إنّما هي التي علمها ، ولا معارض لها.
وكذلك علم مواقع
الخلاف والوفاق في المسألة بالتتبّع في كتب القوم في مظانّ هذه المسائل وكان عالما
بعلم الأصول وطريقة الاستدلال ، فيرجع ذلك الى
تجزّي الملكة
والاقتدار ، إذ الملكة والاقتدار قابلان للزيادة والنقصان بحسب الاقتصار
والاستكمال أو إلى تجزّي المسائل بالنسبة الى الملكة ، بمعنى أن يكون سليقته
وطبيعته ملائمة لبرهة من المسائل دون بعض ، فيكون له ملكة هذا البعض دون الآخر.
كما أنّ الإنسان قد يكون له سليقة فهم المعقولات دون المنقولات ، وسليقة نظم
الشّعر دون الرسائل أو الخطب أو بالعكس ، والغالب الوقوع في الفقه هو المعنى
الأوّل إذ الغالب فيه مدخلية الأنس والمزاولة والقصور والكمال ، ولذلك يحصل ذلك
غالبا في أوائل بلوغ مرتبة الاجتهاد.
وأمّا تجزّي
الاجتهاد ، بمعنى أن يكون قد اجتهد في بعض المسائل بالفعل دون الباقي ، فهو ليس
بمعنى التجزّي في شيء ، إذ من المحال عادة أن يوجد عالم اجتهد في جميع المسائل ،
بل هو محال عقلا إذ المسائل الفقهيّة غير متناهية ، هي تتجدّد كلّ يوم وساعة.
والحقّ ، أنّ
النّزاع في إمكان التجزّي وتحقّقه بالمعنى الذي ذكرنا.
ومنع ذلك مستندا
بأنّ القوّة الاستنباطيّة لا تتفاوت في المسائل ، فمن كان له قوّة البعض فله قوّة الجميع يشبه
المكابرة ، فنقتصر في المقام على الكلام في النّزاع الواقع في جواز العمل به وعدمه
، والأقوى جوازه.
واحتجّوا على
الجواز : بأنّه إذا اطّلع على دليل مسألة بالاستقصاء ، فقد ساوى المجتهد المطلق في
تلك المسألة ، وعدم علمه بأدلّة غيرها لا مدخل له فيها ، فكما جاز لذلك الاجتهاد
فيها ، فكذا هذا.
واعترض : بأنّ كلّ
ما يقدّر جهله به يجوز تعلّقه بالحكم المفروض ، فلا يحصل
__________________
له ظنّ عدم المانع
من مقتضى ما يعلمه من الدّليل.
واجيب : بأنّ
المفروض حصول جميع ما هو دليل في تلك المسألة بحسب ظنّه وعدم تعلّق غيره بها.
واعترض أيضا :
بأنّ ذلك قياس غير جائز لعدم النصّ بالعليّة ، ولا القطع بأنّ العلّة هي القدرة
على الاستنباط ، أو وجود المدارك لاحتمال كونها هي القدرة الكاملة ، بل هو أقرب
الى الاعتبار ، لكونها أبعد من الخطأ.
وردّ : بأنّ
العلّة هي الضّرورة والاحتياج لسدّ باب العلم.
وأجيب عنه : بأنّه
لا ضرورة مع وجود ظنّ المجتهد المطلق ، وأيضا ، الأصل حرمة العمل بالظنّ ، خرج عنه
ظنّ المجتهد المطلق بالإجماع وبقي الباقي.
أقول : تحرير
الاستدلال يظهر بعد التأمّل فيما بيّناه في إجمال المقال ، وانّ ذلك ليس بقياس.
فإنّا نقول : بعد انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة ، على العالم الممارس لمدارك
الأحكام لا مناص له عن العمل بالظنّ
الحاصل له من تلك
المدارك ، فكما أنّ المجتهد المطلق يعمل بظنّه لذلك ، فكذا هذا.
فمآل الاستدلال
أنّ الدّليل العقليّ القائم على عمل المجتهد المطلق بظنّه قائم فيما نحن فيه ،
وحرمة العمل بالظنّ مطلقا ممنوع ، بل الظّاهر من أدلّة الحرمة بقدرها ، وهي ترتفع
بظنّ المجتهد المطلق.
قلنا : هو أيضا
ظنّ ، فما وجه الترجيح.
قولكم : إنّ العمل
به إجماعيّ وهو المخصّص.
قلنا : الإجماع
على أيّ قدر وعلى أيّ حال؟ فإنّ الاجماع على اعتبار ظنّ المجتهد في الكلّ ، له عرض
عريض ، بل لا يوجد له مصداق إذ قد بيّنا أنّ المراد من المجتهد في الكلّ هنا مقابل
المتجزّي وهو أيضا على أقسام : منهم من يكون
على طريقة
الأصوليين ، ومنهم من يكون على طريقة الأخباريين ، ومنهم متوسّطون. وكلّ من أرباب
هذه الطّرائق يخطّئ الآخر ، واختيار إحدى هذه الطّرائق أيضا مسألة اجتهاديّة ظنيّة
، فأين المجمع عليه القطعيّ المقابل للظنّي؟واعتبار القطعيّة من جهة كونه اجتهادا
في الكلّ لا يفيد مع كونه ظنّا بحسب الطّريقة ، فبقي أفراد المجتهد المطلق أيضا
تحت الظنّ.
فإن قلت : نعم ،
لكنّ ظنّ المجتهد في الكلّ أقوى.
قلنا : لا نمنع
وجوب متابعة الأقوى ، وإلّا فيلزم رجوع أحد المجتهدين المطلقين إذا كان ظنّ أحدهما
أضعف الى الآخر.
سلّمنا ، لكن قد
يكون ظنّ المتجزّي بما فهمه أقوى من الظنّ الحاصل ممّا فهمه المجتهد المطلق ، أو
يساويه.
هذا كلّه ، مع أنّ
الكلام في تكليف المتجزّي ، ولا بدّ للمتجزّي هو أن يعرف تكليفه ، فاعتبار الظنّ
لا يلاحظ إلّا بالنسبة إليه في نفسه ، فإذا حصل له ظنّ بأنّ هذا الحكم كذلك في
الواقع ، فهو لا يجامع حصول الظنّ له بأنّ الحكم كما فهمه المجتهد في الكلّ حتّى
يقال : أحدهما أضعف عنده والآخر أقوى ، فمع حصول الظنّ له بما فهمه ، يصير ظنّ
المجتهد في الكلّ المخالف له وهما عنده.
ولو فرض عنده
احتمال أن يكون لكمال قوّة المجتهد في الكلّ مدخليّة في فهم المسألة ليست هي
موجودة عنده ، فلا يحصل له الظنّ بالحكم أصلا ، وهو خلاف المفروض.
والقول : بأنّ فهم
المجتهد في الكلّ أبعد من الخطأ في نفس الأمر عن فهم المتجزّي ، إن أريد منه
بالنّسبة الى مجموع المسائل ، فهو كذلك ، ولا كلام لنا فيه.
وإن أريد بالنّسبة
الى ما فرض كون المتجزّي مستقلا فيه محيطا بجميع مداركه ،
فكلّا ، مع أنّ
الكلام ليس في ذلك ، بل في تكليف المتجزّي.
وإن أريد أنّ كثرة
الاعتماد على قوّة المطلق من جهة الغلبة يوجب ترجيح تقليده على تقليد المتجزّي ،
فهو كلام آخر لا نمنعه بين المطلقين المتفاوتين في العلم ، فكيف بالمتجزّي والمطلق
، ولا دخل له بما نحن فيه ، مع أنّا نقول : كما أنّ العمل بالظنّ حرام ، فكذلك
التقليد أيضا حرام. فإذا نفيتم جواز عمل المتجزّي بظنّه فكيف جوّزتم له التقليد ،
مع أنّ التقليد أيضا ظنّ!
فإن قلتم : إنّ
الإجماع وقع على جواز تقليد المجتهد المطلق ولم يقع على جواز عمل المتجزّي بظنّه.
قلنا : الإجماع قد
عرفت محلّه في المجتهد المطلق والإشكال فيه.
سلّمنا ، لكنّ
الإجماع على وجوب تقليده حتّى على المتجزّي أيضا ، أوّل الكلام ، كيف والمشهور بين
العلماء جواز التجزّي.
فغاية الأمر تساوي
الاحتمالين ولا مناص عن التخيير ، وهو أيضا يقتضي جواز التجزّي ، واحتمال وجوب
التوقّف أو الاحتياط ضعيف لا دليل عليه ، وإذا ثبت الجواز ، بطل المنع وإن لم يثبت
التعيّن ، ويمكن إثباته بعدم القول بالفصل أيضا.
ويؤيّد التعيّن
انّه ترك للتقليد ، وأنّه أخذ من المدارك نفسها مهما أمكن ، وموافقته لعمومات وجوب
العمل بالآيات والأخبار وغير ذلك.
ويدلّ على جواز
التجزّي أيضا مشهورة أبي خديجة عن الصادق عليه الصلاة والسلام حيث قال : «انظروا الى رجل
منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه
__________________
بينكم قاضيا فإنّي
قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه».
واعترض عليه بما
حاصله ، أنّ العلم بشيء من القضايا إن أريد به ما يشمل الظنّ المعلوم الحجّية ،
فالمنكر للتجزّي يدّعي أنّه لا يحصل إلّا لمن أحاط بمدارك جميع المسائل ، فالعلم
بشيء من القضايا لا ينفكّ عن المطلق ، وإن أريد به العلم الحقيقيّ فموضع النّزاع
إنّما هو ظنّ المتجزّي لا علمه.
أقول : ويمكن دفع
ذلك بأنّ أصحابنا رضوان الله عليهم استدلّوا بمقبولة عمر ابن حنظلة على جواز عمل المجتهد المطلق بظنّه والتّحاكم إليه ، حيث
قال عليهالسلام فيها : «انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في
حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» ،
الحديث.
فنقول أوّلا : إنّ
ظاهر الرّوايتين هو العلم والخطاب الشّفاهيّ ، وإن كان مخصوصا بالحاضرين لكنّ
الغائبين مشتركون معهم في أصل التكليف ، فإذا لم يكن للغائبين الرّجوع الى العالم
بالأحكام بالعلم الحقيقي ، فيكتفى بالظّانّ من جهة استفراغ الوسع في الأدلّة
المعهودة ، فكما أنّ الظانّ بجميع الأحكام من جهة استفراغ وسعه في جميع أدلّتها
يقوم مقام العالم بها كما في مقبولة عمر بن حنظلة ، فكذلك الظانّ ببعض الأحكام من
جهة استفراغ وسعه في أدلّة ذلك البعض يقوم مقام العالم بذلك البعض المذكور في
رواية أبي خديجة.
فإن قلت : ذلك
الظنّ ثبت حجّيته بالإجماع فيقوم مقام العلم بخلاف هذا.
قلت : هذا خروج عن
الاستدلال بالرّواية ورجوع الى أصالة حرمة العمل بالظنّ ، وقد مرّ الكلام فيه ،
وكلامنا هنا في الاستدلال بالرّواية.
__________________
وثانيا نقول :
يمكن أن يقال : إنّه يظهر من التأمّل في سير الأئمة عليهمالسلام وأصحابهم وطريقة رواية الأخبار وتجويزهم رجوع النّاس الى
أصحابهم ورخصتهم لأصحابهم في الأحكام بمجرّد أنّهم علّموهم طريقة الجمع بين
مختلفات الأحاديث واستخراجهم الفروع عن الأصول مع أنّهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ
والنّسيان والاشتباه ، أنّهم كانوا راضين بعلمهم بظنون [بعملهم بظنونهم] الحاصلة
من تلك الطّرائق. ودعوى أنّهم بعد جميع ذلك كانوا قاطعين بالحكم الشّرعيّ ولم يكن
عندهم احتمال الخطأ ، مجازفة من القول.
فعلى هذا ، فيمكن
حمل العلم والمعرفة في الرّوايتين على ما يشمل الظنّ ، فيتمّ دلالة رواية أبي
خديجة على التجزّي في الاجتهاد.
والقول بالفرق بين
الظنّ الحاصل لأصحاب الأئمة عليهمالسلام دون الموجودين في زمان الغيبة اعتساف ، سيّما والاضطرار في
هذا الزّمان الى العمل بالظنّ أشدّ ، لكون حصول العلم فيه أبعد.
احتجّ المانعون
بوجهين :
الأوّل : لزوم
الدّور ، وقرّروه على وجوه نذكر بعضها.
فمنها : أنّ صحّة
اجتهاد المتجزّي في المسائل موقوفة على صحّة اجتهاده في جواز التّجزّي ، وصحّة
اجتهاده في هذه المسألة ـ أعني جواز التجزّي ـ موقوفة على صحّة اجتهاده في المسائل
، إذ هذه أيضا من المسائل المجتهد فيها ، ورجوعه في ذلك الى فتوى المجتهد المطلق
وإن كان ممكنا ، لكنّه خلاف المفروض إذ المراد إلحاقه بالمجتهد أوّلا ، وهذا إلحاق
به بالمقلّد بالذّات وإن كان إلحاقه بالمجتهد بالعرض.
وفيه : أنّ محلّ
النّزاع جواز اجتهاد المتجزّي في المسائل الفرعيّة.
فنقول : جواز
اجتهاد المتجزّي في المسائل الفقهيّة موقوف على صحّة اجتهاده في مسألة جواز
التجزّي في الاجتهاد ، وجواز الاجتهاد في هذه المسألة لا يتوقّف على صحّة اجتهاده
في المسائل الفرعيّة ، بل هو إنّما يتوقّف على صحّة دليله الذي استدلّ به في إثبات
هذه المسألة الأصوليّة ، واجتهاده الحاصل بهذا الاستدلال ليس اجتهادا منه في
المسائل الفقهيّة ، بل اجتهاد منه في المسائل الأصوليّة ، ولا خلاف في جوازه كما
يظهر من المحقّق البهائي رحمهالله وغيره.
ووجهه أنّ مناط
الاستدلال فيها هو العقل واستقلال العقل في إدراك كلّ مسألة بدون ملاحظة مسألة
أخرى بحيث يجزم بعدم المعارض ممّا لا يمكن إنكاره ، نظير الاجتهاد في المسائل
الحكميّة مع أنّه لا يلزم أن يكون المتجزّي متجزّيا في الأصول ، وإنّما يتمّ حينئذ
إطلاق المتجزّي إذا لاحظنا جميع مسائل الأصول والفروع ، وجعلنا مسألة جواز
الاجتهاد في المتجزّي جزء من المجموع.
وأنت خبير بأنّه
لا ملازمة بين التّجزّي في الفروع والتّجزّي في الأصول ، فإنّا نفرض كونه مجتهدا
في جميع مسائل الأصول ، فنفرض أوّلا علم الأصول علما مستقلّا ونثبت فيه الاجتهاد
المطلق في هذا العلم ، ولمّا كان علم الفقه متوقّفا على معرفة أشياء أخر غير هذا
العلم ، فيمكن عدم الاقتدار على الاجتهاد في جميع مسائلها مع كونه مجتهدا في جميع
مسائل الأصول.
وحاصل الكلام ،
أنّ جواز التّجزّي في الفروع موقوف على صحّة الاجتهاد في مسألة جواز التّجزّي في
الفروع ، وصحّة اجتهاده في هذه المسألة موقوفة على صحة الاجتهاد في هذه المسألة
الأصولية ، سواء كان متجزّيا في المسائل الأصوليّة أو مجتهدا مطلقا فيها ، فلا دور
، وأنت خبير بأنّ نظير ما ذكره المانع يجري في المجتهد المطلق أيضا.
فإنّا نقول : جواز
اجتهاده في المسائل موقوف على جواز اجتهاده في مسألة أنّه يجوز له الاجتهاد ،
وجواز اجتهاده في هذه المسألة أيضا يتوقّف على جواز اجتهاده في المسائل ، إذ هذه
أيضا مسألة من المسائل.
وطريق الدّفع :
أنّ جواز الاجتهاد في جواز الاجتهاد من المسائل الكلاميّة أو الأصوليّة ، فتوقّف
جواز اجتهاده في الفروع على جواز اجتهاده في مسألة الأصول ، أعني الاجتهاد في جواز
الاجتهاد لا يستلزم الدّور.
ودفعه : بأنّ ذلك
يثبت بالإجماع والضّرورة غير صحيح ، لما بيّنا من كون دليله أيضا ظنّيّا في أكثر
أفراده.
نعم ، يمكن ذلك في
إثبات أصول الدّين بأن يقال : إنّ وجود الصّانع ممّا ثبت بحكم العقل ، وحجّية حكم
العقل ثبت بالضّرورة ، فتأمّل.
ومنها : أنّ
اعتماد المتجزّي على ظنّه بدليله الظنّي تعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ ، بأن نقول
: اعتماد المتجزّي بظنّه الحاصل من اجتهاده في المسائل يتوقّف على جواز عمله بظنّه
الحاصل من اجتهاده في مسألة جواز التّجزّي.
ويظهر جوابه ممّا
مرّ ، إذ جواز الاجتهاد في مسألة جواز التّجزّي من المسائل الأصوليّة الثّابتة
صحّتها بدليل ، وتوقّف أحد الظنّين على الظنّ الآخر ليس بدور ، وقد يقرّر هذا
الاستدلال على وجه لزوم التسلسل.
وجوابه : أنّ
الظنّ الموقوف عليه هو الظنّ الحاصل في المسألة الأصوليّة ، ولا مناص عن العمل به
، فلا يحتاج الى دليل آخر لانتهائه الى القطع ، وهو انسداد باب العلم وانقطاع
السّبيل إلّا إلى الظنّ.
ومنها : أنّ علم
المتجزّي بصحّة عمله على ظنّه ، والدّليل الظّنّي الدالّ على مساواته للمجتهد
المطلق موقوف على علمه بقبول الاجتهاد للتّجزية ، وهذا
موقوف على علمه
بصحّة عمله على ظنّه ، وإن شئت بدّلت العلم بالظنّ.
وفيه : أنّ
الدّليل الظنّي في المقدّمة الأولى إن كان عطفا تفسيريّا لظنّه وكان المراد أنّ
جواز اجتهاده في جواز التّجزّي موقوف على علمه أو ظنّه بقبول الاجتهاد للتّجزية ،
يعني بجواز التّجزّي في الاجتهاد. فإن أراد من جواز التّجزّي في الموقوف عليه
التّجزّي في المسألة الأصوليّة ، فلا مغايرة بين الموقوف والموقوف عليه ، فلا معنى
للدّور ، وإن اراد جواز التّجزّي في الفروع ، فلا نسلّم التوقّف ، كما هو واضح.
وكذلك إن أراد
التّجزّي في كليهما وإن لم يكن عطفا تفسيريّا ، ويكون المراد من ظنّه الظنّ في
الفروع ، ومن الدّليل الظنّي الدّليل على جواز التّجزّي الذي هو مسألة أصولية ،
فإن أريد من قبول التّجزّي في الموقوف عليه التّجزّي في الفروع ، فلا نمنع التّوقّف
في المعطوف وتنتفي المغايرة في المعطوف عليه ، وإن أريد التّجزّي في الأصول
وبالعكس.
ويظهر ممّا ذكر
حكم ما لو أريد كلاهما أيضا ، لانتفاء المغايرة حينئذ أيضا.
الثاني : حرمة
العمل بالظنّ ، خرج ظنّ المجتهد المطلق بالإجماع والضرورة وبقي ظنّ المتجزّي تحت
المنع.
والجواب عنه : منع
عموم حرمة العمل بالظنّ وشموله لما نحن فيه ، لما مرّ مرارا.
سلّمنا ، لكنّه
فيما لم ينسدّ باب العلم والمفروض انسداده ، والمفروض منع رجحان تقليد المجتهد
المطلق حتّى يقال : غاية الأمر انحصار الأمر في الظنّ ، ومع
__________________
رجحان أحدهما فهو
مقدّم.
ثمّ قد يستشكل في
دعوى الإجماع والضّرورة على حجّية ظنّ المجتهد المطلق ، أمّا الإجماع فلأنّ ذلك
ليس من المسائل المسئول عنها عن أئمّتنا عليهمالسلام حتّى يعرف من اجتماع أصحابهم عليهمالسلام عليه موافقته لرأيهم عليهمالسلام كما هو المناط في الإجماع عندنا.
وأمّا الضّرورة ،
فلأنّ العمل بالظنّ ليس من الضّروريّات الصّرفة التي لا يحتاج الى واسطة بالبديهة.
وإن أريد أنّه بعد
انسداد باب العلم فالعمل بالظنّ الناشئ عن الدّليل عند دوران بينه وبين التقليد
ضروريّ ، فهو حسن لكن لا اختصاص له بالمجتهد المطلق ، بل المتجزّي أيضا يأخذ
بالدّليل.
أقول : ويمكن
الجواب عن الأوّل بوجهين :
الأوّل : إنّ
مرادهم من دعوى الإجماع ، لعلّه إجماع العقلاء وأهل العدل من جهة أفهامهم النّاشئة
عن الفرار عن لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم يكن ظنّه حجّة من جهة بقاء التكليف
وانسداد باب العلم كما هو المفروض ، وهذا الدّليل وإن كان إنّما يثبت حجّية الظنّ
بالحكم الشّرعيّ من حيث إنّه ظنّ به ، لا خصوص ظنّ المجتهد من حيث هو ، لكنّه
يكفينا في هذا المقام ، لأنّ المستدلّ لم يرد إلّا جواز ذلك ، لا تعيّنه ، مع أنّه
يمكن أن يقال : إنّه بالنّسبة الى نفسه والى مقلّده لمّا كان أرجح ، فتركه الى
غيره ترجيح المرجوح ، وقبحه أيضا إجماع العقلاء ، ولكن هذا يرجع الى دعوى الضّرورة
ببعض معانيها الآتية.
والثاني : إنّ
المراد هو الإجماع المصطلح ، ولا مانع منه ، ويمكن إثباته بوجهين :
الأوّل : أنّ من
تتبّع سير الصّحابة والتابعين ورجوع بعضهم الى بعض وتقرير أئمّتهم عليهمالسلام ذلك وتجويزهم الرّجوع الى أصحابهم وتقريرهم على طريقتهم في
فهم مطالبهم ، والجمع بين أخبارهم المختلفة ، وأمرهم بالجمع بالقواعد الملقاة
بينهم التي لا يمكن التفريع عليها والعمل بها إلّا مع الاعتماد بظنونهم في فهم
موافقة الكتاب ومخالفته ، وموافقة المشهور ومخالفته ، وكذلك معرفة الأعدل والأفقه
الذي لا ينفكّ عادة عن لزوم معرفة العامّ عن الخاصّ وطريق التخصيص ، ومعرفة
الإطلاق والتقييد والأمر والنّهي ، والمجمل والمبيّن ، والمنطوق والمفهوم بأقسامها
، وغير ذلك من المباحث المحتاج إليها ، فبعد ملاحظة ذلك ، يحصل له القطع برضا
أئمّتهم عليهمالسلام بما يتداولون بينهم من الطّريقة ، بل هذه الطّريقة يثبت
حجّية ظنّ المتجزّي أيضا ، كما أشرنا سابقا ، فكيف بالمطلق.
والثاني : أنّ
الكلام هنا في مقام تجزّي الاجتهاد وإطلاقه لا في طريقة الأصوليّ والأخباريّ
وغيرهما ، وحينئذ فنقول : اتّفاق العلماء في كلّ عصر ومصر من زماننا مترقّبا الى
زمان أئمّتهم عليهمالسلام بحيث لم يعرف منكر يعتمد بقوله على جواز عمل المستنبط
القادر على تحصيل كلّ الأحكام بقوّته الحاصلة لذلك ومتابعة مقلّده له ، بل لزوم
ذلك ووجوبه يكشف عن أنّ ذلك كان من جهة رخصة من جانب أئمّتهم عليهمالسلام ، فهذا هو من مصاديق الإجماع المصطلح ، كما حقّقناه في
مبحثه ، ولا ينحصر تحقّق الإجماع فيما كان المسألة ممّا يتداوله أصحاب الأئمة عليهمالسلام ويسألونه عن أئمّتهم عليهمالسلام.
وأمّا الجواب عن
الثاني : فأمّا أوّلا : فبإمكان إرادة ضرورة الدّين بتقريب ما ذكرنا أخيرا في
الإجماع ، بدعوى أنّ هذه الطّريقة المستمرّة أفادت رضى صاحب الشّرع بذلك بديهة.
وأمّا ثانيا :
فبإمكان إرادة بديهة العقل بعد ملاحظة الوسائط ، أعني بقاء التكليف وانسداد باب
العلم وقبح تكليف ما لا يطاق ، ولكنّ ذلك لا يفيد إلّا جواز العمل به من حيث إنّه
ظنّ ، ولا يفيد تعيينه ، وقد عرفت كفايته في المقام.
وما ذكر في
الاعتراض من تسليم ذلك وتحسينه لأجل أنّه يعتمد على الدّليل ، فليس بشيء ، لأنّه
حينئذ ليس بضروريّ لاحتياج إبطال التقليد حينئذ الى الاستدلال.
نعم ، ما ذكره
يصير مرجّحا لاختبار الاجتهاد للمجتهد المطلق على التقليد ، ولا يفيد الضّرورة.
ومقتضى ما ذكره
كون جواز التّجزّي أيضا بديهيّا مطلقا وهو كما ترى ، إذ ترجيحه على تقليده لمثله
إن سلّم ، فلا نمنع ترجيحه على تقليده للمجتهد المطلق ، بل يحتاج ذلك الى
الاستدلال ، وليس بضروريّ.
وأمّا ثالثا :
فبإمكان إرادة الاضطرار ولا احتياج من الضّرورة ، ووجهه يعلم ممّا سبق.
قانون
التّقليد في
اللّغة تعليق القلادة. قال في «الصّحاح» : القلادة : التي في العنق ، وقلّدت المرأة فتقلّدت هي ،
ومنه التّقليد في الدّين ، وتقليد الولاة الأعمال.
وقال علماء الأصول
كالعضدي وغيره : هو العمل بقول الغير من غير حجّة ، كأخذ العامّيّ والمجتهد بقول
مثله.
قال العضديّ :
وعلى هذا فلا يكون الرّجوع الى الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تقليدا له ، وكذا الإجماع ، وكذا رجوع العامّيّ الى المفتي
، وكذا رجوع القاضي الى العدول في شهادتهم ، وذلك لقيام الحجّة لقول الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمعجزة ، والإجماع بما مرّ في صحّته. وقول الشّاهد
والمفتي بالإجماع ولو سمّي ذلك أو بعض ذلك تقليدا ، فلا مشاحّة في التّسمية
والاصطلاح.
أقول : وعلى هذا
فيشكل قولهم : يجوز التّقليد في الفروع ولا يجوز في الأصول ، بأنّ المراد من لفظ
التّقليد هنا إن كان ما ليس عليه دليل ، فكيف يجوز في الفروع ، وإن كان ممّا يثبت
عليه دليل ، فكيف لا يجوز في الأصول؟
والمناص عنه أن
يجعل التّقليد هنا مجرّد الأخذ بقول الغير مع قطع النّظر عن القيدين ، فمآله الى
أنّ أخذ قول الغير في الأصول هو التّقليد الاصطلاحيّ ، أعني الأخذ من غير دليل.
ووجه عدم جوازه هو
عدم الدّليل أو الدّليل على العدم ، وقبوله في الفروع ليس به ، بل هو ما أطلق عليه
التّقليد أيضا باصطلاح جديد وهو الأخذ ممّن قام الدّليل
__________________
على جواز الأخذ
عنه.
ثمّ يشكل المقام
في قولنا : إنّ بعد جواز التّقليد في الفروع فإنّما يتعيّن المجتهد العادل للتقليد
، ولا يجوز تقليد غيره ، فإنّ ذلك في معنى أنّ هذا القسم من الأخذ بقول الغير مخرج
عن التّقليد على الاصطلاح الأوّل ، لأنّه عمل بقول الغير بالدّليل ولذلك يجوز ،
وأمّا غيره فهو بقول الغير من غير دليل فلا يجوز.
وفيه : أنّك قد
عرفت سابقا أنّ أخذ العامّيّ من مثله قد يكون من جهة حجّة من عنده وأنّه مكلّف به
حينئذ ، فيكون هو مثل تقليد للمجتهد [المجتهد] واعتبار كون الدّليل على الأخذ
دليلا في نفس الأمر لا عند المكلّف ، لا يتمّ للزوم الظّلم في الفرق بين المكلّفين
الآخذين أحدهما بقول المجتهد والآخر بقول غيره مع عدم معرفة كليهما بوجوب الأخذ من
المجتهد ، وعدم أخذ الآخذ من المجتهد من جهة الدّليل ، بل أخذه رجما بالغيب أو
بمظنّة أنّه أيضا مثل العامّيّ الآخر الذي أخذ منه الآخر. واعتبار أن يكون الدّليل
دليلا عنده وفي نفس الأمر كليهما في جواز التّقليد أيضا ممّا لم يدلّ عليه دليل ،
كما مرّ وسيجيء.
ويمكن رفع هذا
الإشكال بتخصيص النّزاع في الصّورة التي زالت الغفلة بالمرّة وحصل الشّك في الصحّة ، وهو مخصوص بالعلماء
والأذكياء كما سنشير إليه ، ولكنّ كلماتهم مطلقة ، ولم نقف على تفصيل في كلامهم ،
إلّا أن يقال : اعتمدوا في التّقييد على أصولهم المقرّرة النّافية للظّلم المثبتة
للعدل.
وكيف كان ،
فالمشهور بين علمائنا المدّعى عليه الإجماع أنّه يجوز لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد
التّقليد للمجتهد في المسائل الفرعيّة ، بمعنى أنّه لا يجب على كلّ
__________________
مكلّف الاجتهاد
عينا ، بل هو كفائيّ.
قال في «الذّكرى»
: وعليه أكثر الإماميّة ، وخالف فيه بعض قدمائهم وفقهاء حلب فأوجبوا على العوامّ
الاستدلال ، واكتفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة الى
الوقائع أو النّصوص الظّاهرة ، أو أنّ الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضارّ
الحرمة مع فقد نصّ قاطع في متنه ودلالته والنّصوص محصورة. انتهى.
وقال بعض
البغداديين من المعتزلة : إنّما يجب على العامّيّ أن يسأل العالم بشرط أن يتبيّن
له صحّة اجتهاد المجتهد بدليله.
والحقّ ، الجواز
مطلقا ، سواء كان عاميّا بحتا أو عالما بطرق من العلوم للإجماع المعلوم بتتبّع حال
السّلف من الإفتاء والاستفتاء وتقريرهم وعدم إنكارهم والمدّعى في كلماتهم.
وصرّح بالإجماع
السيّد المرتضى رحمهالله ، وغيره من علماء الخاصّة والعامّة.
قال في «الذكرى»
بعد ما نقلنا عنه : ويدفعه إجماع السّلف والخلف على الاستفتاء من غير نكير ، ولا
تعرّض لدليل بوجه من الوجوه. انتهى.
ويدلّ عليه أيضا
عموم قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وكلّ ما دلّ من الأخبار على جواز الأخذ من العلماء ، وهي
كثيرة جدّا وسنذكر بعضها.
ويدلّ عليه أيضا
لزوم العسر والحرج الشّديد ، بل اختلال نظام العالم إذ الاجتهاد ليس أمرا سهلا
يحصل عند وقوع الواقعة ، بل يحتاج الى صرف مدّة
__________________
العمر ، أو أغلبه
فيه.
وأمّا ما ذكره
البغداديّون فهو أيضا ضعيف ، لعموم الأدلّة. وضعف ما استندوا به من أنّ تجويز
المستفتي على المفتي الخطأ يمنع من قبول قوله لعدم الأمن من الإقدام على القبيح ،
وأنّه لا يجوز التقليد البحت في الأصول ، فإذا كان مكلّفا بالاجتهاد والعلم في
الأصول فلا بدّ أن يكون متمكّنا منه ، وإلّا لزم التكليف بالمحال ، ومن تمكّن من
الاجتهاد في الأصول فيتمكّن منه في الفروع أيضا ، لأنّها أشكل من الفروع وأكثر شبها
منها.
ويرد على الأوّل ،
أوّلا : منع كون مطلق تجويز الخطأ مانعا عن العمل ، وإلّا لامتنع على المجتهد
لنفسه أيضا.
وثانيا : منع زوال
تجويز الخطأ بذكر الدّليل كما لا يخفى.
وعلى الثاني منع
كون الاجتهاد في الأصول أصعب ، فإنّها مبنيّة على قواعد عقليّة وشواهد ذوقيّة
وجدانيّة يسهل إدراكها إجمالا لكلّ من التفت إليها ، وليس المطلوب فيها إلّا
الدّليل الإجماليّ كما سنبيّنه ، مع أنّ مسائلها قليلة غاية القلّة في جنب الفروع
، وأدلّة الفروع جزئيّات متفرّقة متشتّتة ، وأكثرها مبنيّة على مدلولات خفيّة
محفوفة باختلافات واختلالات لا يرجى زوالها في كثير منها.
ثمّ قال في «الذكرى»
بعد العبارتين السّابقتين : وما ذكروه لا يخرج عن التّقليد عند التّحقيق ، وخصوصا
عند من اعتبر حجّية خبر الواحد ، فإنّ في البحث عنه عرضا عريضا.
أقول : والظّاهر
أنّ مراده أنّ الرّجوع الى إجماع العلماء والى النّصوص وغيرهما كما ذكروه ، مبنيّ
على صحّة الاستدلال بالإجماع والنّصوص ، وهو من
المسائل
الاجتهادية ، سيّما إذا كانت النّصوص من أخبار الآحاد التي فيها المعركة العظمى ، فلا
يجوز الاعتماد على الإجماع والنّصوص إلّا بعد الاجتهاد في حجّيتهما وجواز العمل عليهما
، فإذا اعتمد في ذلك على العلماء ، فهو تقليد ، وإن كان يجتهد في ذلك أيضا فلا فرق
بينهم وبين المجتهد ، مع أنّ ظاهرهم أنّهم يفرّقون ، حيث قال : واكتفوا فيه بمعرفة
الإجماع الى آخره.
وكيف كان فالمسألة
واضحة ، وضعف القولين أظهر من إن يبيّن.
نعم ، هاهنا كلام
آخر وهو أنّ إثبات جواز التّقليد للعامّيّ في الفروع أو وجوب الاجتهاد من المسائل
النّظريّة التي لا بدّ أن يجتهد فيها ، واجتهاد المجتهد فيها كيف ينفع العامّيّ ،
ورجوع العامّيّ الى المجتهد فيها امّا بالتّقليد ، ففيه : أنّه يتوقّف على جواز
التقليد فيه وهو دور ، نظير ما أورد على التّجزّي ، وامّا بالاجتهاد وهو خلاف
الفرض.
ويمكن دفعه : بأنّ
عدم وجوب الاجتهاد عليه من المسائل الكلاميّة التي لا بدّ أن يستقلّ بها المقلّد ،
فلا يرجع فيها الى تقليد المجتهد ، بل يجتهد المقلّد فيها فيحكّم عقله إمّا بعدم
وجوب الاجتهاد في الجزئيّات ، أو بجواز تقليده في عدم وجوب الاجتهاد ، ثمّ
التّقليد فيها ، لأنّ العقل بعد التأمّل ، سيّما بعد سماعه عن العلماء ، إنّما
يجوز له التّقليد لقبح التكليف بما يوجب اختلال النظام ويستلزم العسر والحرج أو
المحال ؛ يحكم بعدم وجوب الاجتهاد ، فهذا أيضا اجتهاد للعامّيّ ويجب عليه الرّجوع
الى اجتهاده حينئذ ، كما أنّه يرجع في جواز الرّجوع الى المجتهد حينئذ الى الكبرى
الكليّة الثّابتة له من الأدلّة المذكورة مع بقاء التكليف
__________________
بالضّرورة ،
وسيجيء الكلام في تمام المقام عند بيان لزوم النّظر في أصول الدّين للعامّيّ ،
وكيفيّته ومقدار تكليفه ، فإنّ هذه المسألة حينئذ ترجع الى المسائل الأصوليّة ،
والمباحث العقليّة الكلاميّة.
وممّا حرّرنا في
القانون السّابق ، وما ذكرنا هاهنا تعلم أنّ هذا النّزاع إنّما هو بعد زوال الغفلة
والجهالة الحاصلة في المراتب الأول من [الأوّل عن] التّكليف الى أن يحصل له
الإشكال في أنّه هل يجب عليه الاجتهاد في جزئيّات المسائل أو يجوز له التقليد فيها
، وذلك إنّما هو لمن حصّل حظّا وافرا من العلم أو أوتي قسطا عظيما من الفطنة
والذّكاء ، سيّما بعد التّنبيه بمجالسة العلماء والاستماع منهم ، فعلم القول بوجوب
الاجتهاد في الفروع للعوامّ أيضا لا بدّ أن يخصّ الكلام بما بعد التّفطّن لذلك ،
لا في حال الغفلة.
هذا هو الكلام في
العامّيّ ، وأمّا المجتهد فلا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين إجماعا إذا اجتهد
في المسألة.
وأمّا قبل الاجتهاد
في المسألة ، ففيها أقوال : الجواز مطلقا ، وعدمه مطلقا ، والتفصيل بتضييق الوقت ،
وعدمه ، والتفصيل بما يخصّه وما لا يخصّه من الأحكام ، والتفصيل بتقليد الأعلم منه
وغيره ، والتفصيل بتقليد الصّحابيّ وغيره.
دليل المجوّز
مطلقا ، عموم قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
وفيه : أنّ
المجتهد في غير حال الضّيق ليس ممّن لا يعلم ، بل الظّاهر أنّه من أهل الذّكر وأهل
العلم الذي في مقابل غير العالم.
__________________
ودليل المانع
مطلقا : وجوب العمل بظنّه إذا كان له طريق إليه إجماعا ، خرج العامّيّ بالدّليل
وبقي الباقي.
وفيه : منع
الإجماع فيما نحن فيه ، ومنع التمكّن من الظنّ مع ضيق الوقت.
فظهر أنّ الأقوى
الجواز مع التّضييق واختصاص الحكم به ، أمّا عدم الجواز في غيره ، فلأنّ ظنّه أقوى
من الظنّ الحاصل بالتّقليد ، إذ احتمال الخطأ في اجتهاد نفسه من وجه ، وفي اجتهاد
من يقلّده من وجهين ، إذ احتمال الخطأ في الاجتهاد وفي إخباره عن نفسه أنّه ممّا
اجتهد فيه صحيحا ، بخلاف اجتهاد نفسه فإنّه يعلم بأنّه مظنونه.
ومآل هذا الكلام
الى عدم حصول الظنّ بفتوى المجتهد ، إذ لا معنى لحصول الظنّين في آن واحد أحدهما
أقوى من الآخر ، وما قرع سمعك فيما سبق من عدم لزوم تحصيل الظنّ الأقوى للمجتهد ،
بل يكفي مجرّد حصول الظنّ بعد استفراغ الوسع ، فهو معنى آخر ، لا يشتبه الفرق
بينهما على المتأمّل.
وأمّا تقليد
الأعلم فهو أيضا لا يجوز ، لأنّه لا يلزم من كونه أعلم عدم الخطأ في اجتهاده ،
وعدم احتمال عدم كونه ممّا اجتهد فيه في الواقع.
نعم ، ربّما يكون
اجتهاد الأعلم معيّنا [معينا] في اجتهاد نفسه ، مثل أن يلاحظ المجتهد المسألة
ملاحظة إجماليّة والتفت الى أدلّتها على سبيل الإجمال ولم يعمّق النّظر فيها ،
ولكن حصل في نظره الظنّ بأحد طرفي المسألة ، فحينئذ إذا صادف ذلك موافقة رأي
المجتهد الأعلم الأورع. فقد تطمئنّ نفسه بذلك ، فيصير اجتهاد ذلك المجتهد وموافقته
له من جملة أدلّة المسألة والأمارات المحصّلة للظنّ الموجبة للاطمئنان عنده.
وأمّا مجرّد
اجتهاد الأعلم والأورع ، فلا يكفي.
وتتفاوت المسائل في هذا المعنى باعتبار المأخذ [و] باعتبار عموم
البلوى وعدمه ، وباعتبار كونها من الأمّهات ، أو من الفروع ونحو ذلك.
وربّما يوجد في
نهاية مرتبة التحصيل التردّد للمحصّل بين أن يجوز له الاعتماد على المجتهد أو يجب
عليه النّظر ، وحينئذ فموافقة رأي المجتهد الأعلم يصير معيّنا [معينا] لاعتماده
على نظره ، ولا يبعد حينئذ العمل عليه مع قطع النّظر عن كونه تقليدا ، بل اعتمادا
على ما حصل له ، والفرق بين هذا والسّابق ، أنّ المجتهد في السّابق لا ينظر حقّ
النّظر ولا يتأمّل حقّ التأمّل ، ويتمّم نظره بإعانة ، وفاق المجتهد الآخر ، بخلاف
ما نحن فيه ، فإنّه يتمّم نظره بقدر طاقته ، لكنّه لا يطمئنّ بمجرّد استفراغ نفسه
، فيتمّم حجّيته بموافقة مجتهده.
__________________
قانون
المشهور عدم جواز
التّقليد في أصول الدّين ، وقيل بجواز التقليد.
وهذه المسألة من
المشكلات ، فلنقدّم ما عندنا في المسألة وبلغة مجهودنا ، ليكون ذلك معينا على بيان
الأدلّة وتوضيح مطالب القوم ، ويظهر به محلّ النّزاع في المسألة ، ثمّ نتعرّض
للأقوال والأدلّة مفصّلا ، ونتكلّم فيها ، فنقول : قولنا : يجوز التقليد في الأصول
، إن كان معناه يجوز الأخذ بقول الغير في الأصول كما هو كذلك في الفروع ، فيشكل
بأنّ الأخذ بقول الغير هنا لا يمكن ، إذ المعيار في الأصول هو الإذعان والاعتقاد ،
وجواز الإذعان بقول الغير وعدمه ممّا لا محصّل له ، إذ حصول الظنّ واليقين من قول
شخص ليس من الأمور الاختياريّة حتّى يصير موردا للتكليف ، وإنّما يصحّ الأخذ بقول
الغير في الفروع ، لأنّ المراد به العمل على مقتضاه لا الاعتقاد به في نفس الأمر ،
فلا بدّ أن يتكلّف هنا ويراد بالأخذ بقول الغير هو العمل على مقتضاه ، مثل إنّ من
يقلّد المجتهد الذي يقول بنبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم معنى تقليده أن يعمل على شريعته ويتّبع سننه وإن لم يحصل
له إذعان بحقيّته بالخصوص قطعا أو ظنّا ، وإن كان قد يحصل له الظنّ الإجمالي الذي
بسببه يعتمد على هذا المجتهد.
وبهذا يظهر لك
الفرق بين هاتين المسألتين المتداولتين هنا إحداهما جواز التّقليد في
الأصول ، وعدمه.
والثانية : جواز
الاكتفاء بالظنّ وعدمه ، إذ قد لا يحصل بالنّظر إلّا الظنّ ، فالظنّ
__________________
قد يجامع النّظر
وقد ينفكّ عن التّقليد في التّفاصيل وخصوصيّات المسائل ، وإن أمكن حصوله بالإجمال
، فيمكن القول بعدم جواز التّقليد مع الاكتفاء بالنظر المفيد للظنّ في بعض
الأحيان.
والقول بجواز
التّقليد مع عدم حصول الظنّ بالخصوص وبالتّفصيل وإن كان معناه يجوز العمل بالجزم
المطابق للواقع الغير الثّابت ، كما هو مصطلح أرباب المعقول ، فيؤول النّزاع فيه
الى أنّه هل يجب عليه إقامة الدّليل المقيّد للثبوت على مقتضى جزمه أم لا.
وعلى هذا ، فقول
المحقّق البهائيّ رحمهالله في آخر الكلام على جواز التّقليد في الأصول وعدمه ، أنّ
هذا النّزاع يرجع الى النّزاع في اشتراط القطع ـ يعني إن قلنا باشتراط القطع ـ فلا
يجوز التّقليد ، وإن لم نقل باشتراطه واكتفينا بالظّنّ فيجوز ، لا يخلو عن تأمّل ،
إذ لقائل أن يقول بعدم لزوم القطع مطلقا وعدم جواز التّقليد معا ، كما سنشير إليه
، أو أنّه قد يحصل القطع مع التّقليد على الاصطلاح الآخر ، وإذ قد عرفت أنّ العلم
والظنّ ليسا من الأمور الاختياريّة ، فمن يقول بوجوب تحصيل القطع أو الظنّ في
الأصول ، لا بدّ أن يريد من ذلك وجوب النّظر ، إذ العلم والظنّ في أنفسهما ليسا من
الأمور الاختياريّة بالذّات.
والنّظر قد يحصل
به اليقين وقد يحصل به الظنّ ، وقد لا يحصل به شيء منهما ، كالمسائل المتردّد فيها
المتوقّفة عنها ، فيرجع الكلام في كفاية الظنّ في الفروع دون الأصول الى أنّ
المجتهد في الفروع يجب عليه النّظر الى أن يحصل له الظنّ ، وإذا حصل الظنّ ، فلا
يجب عليه زيادة النّظر ليحصل العلم ، لا أنّه يجب عليه
__________________
تحصيل الظنّ بها
البتّة ، إذ قد لا يحصل ولا يمكن له حصوله ، كما لا يخفى.
وأمّا المجتهد في
الأصول فلا يجوز له الاكتفاء بالظنّ مع إمكان زيادة النّظر المرجوّ له فيه حصول
العلم ، فلا يجب عليه الاعتقاد بما يظنّ والعمل على وفقه ، بل يتوقّف مثل من لا
يحصل له الظنّ في الفروع بقرينة القرينة المقابلة ، أي الاجتهاد في الفروع ،
فحينئذ يرجع القول بوجوب تحصيل العلم في الأصول ووجوب النّظر حتّى يحصل العلم
بإطلاقه الى دعوى أنّ مسائل الأصول كلّها ممّا ينتهي النّظر في أدلّتها الى العلم
، فيجب النّظر حتّى يحصل العلم ، فمن لم يحصل له ، فلم يؤدّ النّظر حقّه ، ولم يخل
لنفسه عن الشّوائب ، وهو في المسائل الخلافيّة في غاية الصّعوبة.
ودعوى كون كلّ
محقّ في نفس الأمر مؤدّيا نظره حقّ النّظر ، وكلّ مبطل مقصّرا ، في غاية الإشكال ،
وأمّا مجرّد الموافقة لنفس الأمر والمخالفة بمحض الاتّفاق ، فلا يوجب الفرق كما لا
يخفى ، فكما أنّ المقلّدين المتخالفين المأجورين لا يؤاخذ أحدهما بمخالفة نفس
الأمر في الفروع وكذا المجتهدان المتخالفان فيها ، فكذا المجتهدان المؤدّيان حقّ
النّظر ، المتخالفان في الأصول.
والقول : بأنّ
المطلوب إذا كان واحدا في الأصول فيجب على الله نصب الدّليل عليه وإلّا لزم الظّلم
واللّغو والعبث فمن لم يصبه فقد قصّر ، إنّما يتمّ إذا ثبت وجوب إصابة الحقّ
والواقع في نفس الأمر ، بل المسلّم إنّما هو إصابة الحقّ في نظره مع عدم التّقصير
والتفريط.
وما ذهب جمهور
العلماء من أنّ المصيب في العقليّات واحد وغيره مخطئ آثم ، كما سيجيء فيما بعد ،
فلو سلّمناه ، فإنّما سلّمناه في المجتهدين الكاملين المنتبهين للأدلّة لا مطلق
المكلّفين ، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.
نعم ، لو فصّل أحد
وقال بذلك في وجود الصّانع مثلا في الجملة ، أو ذلك مع وحدته ، أو ذلك مع أصل
النبوّة ، أو ذلك مع أصل المعاد ، لم يكن بعيدا ، إذ الظّاهر أنّ أدلّة المذكورات
ممّا يمكن فيه دعوى لزوم إصابة الحقّ النّفس الأمريّ ، أمّا مثل تجرّده تعالى ،
وعينيّة الصّفات ، وحدوث العالم ، ونفي العقول ، وكيفيّات المعاد ، وغير ذلك فلا.
اللهمّ إلّا ما ثبت من هذه المذكورات بالنصّ من الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد ثبوتهما ، وفي ثبوت الضّروريّات أيضا اختلافات ، وكذلك
في مقدار ما ثبت منها وكميّتها وكيفيّتها ، كما سنشير إليها ، وكذلك تعيين النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والوصيّ بعده لا دليل على ذلك فيهما أيضا ، إذ فائدة وجوب
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والإمام عليهالسلام وهو إرشاد الخلق وإطاعتهما لأنّهما يبلّغان من الله تعالى
، فمتابعتهما حقيقة متابعة أمر الله تعالى ، فإذا جاز أن يكتفى فيما بلّغاه
بالمظنّة الحاصلة بالاجتهاد بعد عروض الحوادث وطروّ الموانع عن تحصيل الجزم بها ،
فلما لا يجوز أن يكتفى في أصل التّعيين إذا حصل الاشتباه بسبب حصول الموانع.
ولا يذهب عليك أنّ
ما ذكرته لا ينافي إفادة أدلّة نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم اليقين لنا ، وكذا أدلّة إمامة الأئمة عليهمالسلام.
والحاصل ، انّي
أقول : لا يجب إفادة اليقين مطلقا لكلّ أحد وكلّ زمان ، ألا ترى أنّه لا يجب إفادة
أدلّة الفروع اليقين مع أنّها قد تفيد اليقين في بعض الموارد أيضا.
والقول : بأنّ ما
حصل فيه اليقين خارج عن الفروع ، شطط من الكلام ، وقد بيّناه في أوائل الكتاب.
وكما أنّ الأصل في
أصول الدّين واحد ، فكذلك الأصل في الفروع ، فإذا جاز اشتباه الحكم الفرعيّ بسبب
الحوادث التي وقعت في صدر الإسلام وصارت سببا
لخفاء الحقّ وأهله
، فلم لا يجوز حصول الاشتباه في الأصول بسبب اختلاف أدلّته مثل حال النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو الإمام عليهالسلام ، بل أقول : إنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مبعوث لإرشاد الخلق وإبلاغ الحكم الذي هو واحد في نفس
الأمر الى عباده.
ومقصوده تعالى أن
يعيد بالحكم الخاصّ والطريق الخاصّ ، فإذا لم يقصّر النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الإبلاغ وتكلّم مع قومه بلسانهم في ذلك لكن اتّفق أنّ
المخاطب اشتبه في فهم الخطاب وأتى بضدّ الصّواب ، فلما لا تقول : إنّ هذا المخاطب
مخطئ آثم لأنّ الله تعالى أراد منه شيئا آخر ونصب علما ودليلا له ، فهو مقصّر وليس
بمعذور ، فإذا كان غفلة المخاطب واشتباهه في فهم ما شافهه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخطاب بلسانه معذورا ، فلما لا يكون زلّته في فهم أدلّة
الإمامة أو النّبوّة مع عدم التّقصير معذورا.
والقول : بأنّ جعل
الخطاب مناطا للفروع مع قابليّته لوجوه الدّلالة وتفاوت أفهام المخاطبين بسببه
دليل على رضاه تعالى بما يظنّه المخاطب من الخطاب ولا يوجب عليه إصابة الحقّ
الحقيقيّ ، بخلاف ما جعل مناطه العقل الغير القابل لذلك ؛ جزاف من القول ، إذ
اختلاف العقول في مراتب الإدراك وتفاوتها في المدارك بحيث لا يمكن إنكاره ، ومن
ينكره فهو مكابر مقتضى عقله.
فالذي هو حجّة
الله على عباده هو العقل والتّفكّر والتدبّر مع التّخلية والإنصاف وترك العناد
بقدر الوسع والطّاقة والاستعداد.
والكلام في أنّ
المتخالفين في المسألة كلّ منهما يدّعي التّخلية والإنصاف أيضا ، هو الكلام فيما
نحن فيه ، إذ كلّ منهما في إدراك التّخلية والإنصاف وإنّ نظره
وفكره مقرون بهما
مكلّف بما تبلغه طاقته في ذلك ، إذ البواعث الكامنة في النّفوس والدّواعي
الجالبة لاختيار الطّرائق قد تختفي على النّفوس الكاملة الواصلة أعلى الدّرجات ما
لم يبلغ حدّ العصمة ، فكيف بالجاهل الذي لم يعرف بعد مواقع الخطأ من دقائق معايب
النّفس ، والأطفال في أوائل البلوغ ، فإن فهم أنّ محض موافقة الآباء والأمّهات ،
ممّا يوجب التّثبّط عن البلوغ الى الحقّ ممّا لا يخطر ببال أكثرهم ، بل يصعب
إزالته غالبا على العلماء المرتاضين الّذين يحسبون أنّهم خلعوا هذه الرّبقة عن
أعناقهم فضلا عمّن دونهم.
وكذلك الكلام في
سائر معايب النّفس من حبّ أفكاره الدّقيقة التي استقلّ بها ، وعدم تقاعده عن
مكافحة الخصوم ، وتقيّده بخوف التّضعضع عن درجات العلوم ، فإنّ لهذه المعايب دركات
تحت دركات لا يتدرّج منها كلّ أحد الى درجات التّصعّد ، وربّما يكون منها ما هو
أخفى من دبيب النّملة على الصّفا في اللّيلة الظّلماء.
ومن الواضح أنّ
التّخلّي عن جميع عروق الأخلاق الرّديّة لا يمكن لكلّ أحد ، بل ولا لأكثر العلماء
فضلا عن العوامّ ، بل ولا لأحد من النّاس بعد مدّة مديدة من المجاهدات ، وربّما
يكون نهايتها نهاية العمر ، فكيف يقال ببطلان العقائد والأعمال لكافّة النّاس في
غالب أعمارهم ، بل الظّاهر أنّه مناف لحكم الله تعالى ورأفته ، بل لعدله.
فظهر من ذلك أنّ
مراتب التّكاليف مختلفة ، وكلّ ميسّر لما خلق له.
__________________
قال الشهيد رحمهالله في «القواعد» : إنّ الرّياء قسمان : جليّ وخفيّ ، فالجليّ ظاهر ،
والخفيّ إنّما يطّلع عليه أولوا المكاشفة والمعاملة لله تعالى ، كما روي عن بعضهم
: أنّه طلب الغزو وتاقت نفسه إليه وتفقّدها فإذا هو يحبّ المدح بقولهم : فلان غاز
، فتركه ، فتاقت نفسه إليه ، فأقبل يعرض عن ذلك الرّياء حتّى أزاله ، ولم يزل يتفقّدها شيئا بعد شيء
حتّى وجد الإخلاص مع بقاء الانبعاث فاتّهم نفسه ، وتفقّد أحوالها فإذا هو يحبّ أن
يقال : إنّ فلانا مات شهيدا ، لتحسن سمعته في النّاس بعد موته ، الى آخر ما ذكره.
والحاصل ، أنّ
التّكليف باستيصال عروق الأخلاق الرّديّة لكلّ النّاس في أوّل التّكليف عسر وحرج
عظيم لو لم نقل أنّه تكليف بما لا يطاق ، ولذلك جعل المناص من ذلك طائفة من
الصّوفيّة بأخذ طريقة الملامة ، وجعلوا يباشرون الأمور الرّذيلة ، بل الأفعال
الشّنيعة والأعمال القبيحة لإسقاط نفوسهم من أعين النّاس حتّى لا يبقى لهم داعية ليتوصّلوا
بذلك الى اكتساب المنال.
وأنت خبير بأنّ
كلّ ذلك معصية ومخالفة للشرع مذموم ، ومبادرة الى الهلكة برجاء النّجاة ، وهو
مذموم بالعقل والشّرع ، فترخيص الشّارع لأكل اللّحم ، بل الأمر به مع كونه مقويّا
للقوة البهيمية ، لا ينفكّ عن تقوية تلك العروق ومعالجاته التي ذكرها الشّارع ،
وإن كانت دافعة لها ، ولكن لم يجر عادة الله تعالى بذلك في أغلب النّاس.
وبالجملة ، ما
يقتضيه دقيق النّظر هنا ، غير ما اقتضته الأنظار الجليّة ، فنستعين
__________________
الله على إلهام
الحقّ والصّواب وإصابة التّحقيق في كلّ باب.
فإن قلت : إنّ ما
ذكرته من التّفصيل في المسألة والفرق بين مسائل الأصول قول بالفصل وخرق للإجماع.
قلت : لا معنى
لدعوى الإجماع في هذا المقام ، إذ نحن ـ مع قطع النّظر عن الشّرع ـ في صدد بيان
إثبات الشّرع ، مع أنّ عدم وجدان القول بعدم الفصل ليس قولا بعدم الفصل ، بل
الظّاهر وجود القول بذلك في الجملة ، كما يظهر من الشّارح الجواد رحمهالله وغيره.
فقد تقرّر بما
قرّرنا أنّ الجزم المطلق يكفي في سقوط الإثم مع عدم التّقصير إذا حصل له الجزم ،
ويكتفى بالظنّ إذا لم يمكنه تحصيل الجزم ، ولا دليل على وجوب تحصيل الجزم بتفاصيله
الخاصّ المسمّى باليقين في الاصطلاح ، وهو ما لا يقبل الزّوال المطابق للواقع ،
ولا تحصيل ما يقبله ولكن كان مطابقا للواقع ، وترتّب أحكام الكفر على بعض الصّور
في الدّنيا لا نمنعه ، ولا ينافي الحكم بسقوط الإثم ، كما سنبيّنه إن شاء الله
تعالى.
ثمّ إنّ تحصيل
العقائد الأصوليّة يتصوّر على صور ثلاث :
الأولى : ما يحصل
بالنّظر في الدّليل.
والثّانية : ما
يحصل بالتّقليد ، نظير ما يحصل في الفروع ، أعني ما لا يستلزم الظنّ التّفصيليّ
بها وإن أمكن حصول ظنّ إجماليّ كما في الفروع.
والثّالثة : ما
يحصل بالتّقليد مع حصول الجزم بها.
والظّاهر أنّ
كلمات الأصوليّين إنّما هي في الأوّلين ، وأنّ مرادهم بالتّقليد هو تقليد المجتهد
الكامل ، نظير التّقليد في الفروع المتداول بينهم المصطلح عندهم ،
لا مجرّد الأخذ
بقول الغير وإن لم يكن مجتهدا ، وهذا مختصّ بالّذين زالت غفلتهم وحصل لهم العلم بأنّ اللّازم على المكلّف إمّا
الاجتهاد أو التّقليد.
ومراد المحقّق
البهائي رحمهالله من قوله : والى اشتراط القطع يرجع الكلام ، يعني الكلام في
جواز التّقليد وعدمه أيضا ، التّقليد بهذا المعنى ، إذ هو الذي لا يفيد إلّا الظنّ
، لا المعنى الثّالث.
وأما الثّالث :
فإن أمكن حصول الجزم من تقليد المجتهد الكامل لهؤلاء الأزكياء الّذين زالت عنهم الغفلة المتفطّنين لأنّ تكليفهم أحد الأمرين ، فهو
يرجع أيضا الى النّظر والاجتهاد مع المعرفة بأنّه نظر واجتهاد ، فإنّه يثبت أوّلا
بالنّظر صدق المجتهد ، ثمّ يتبعه فيرجع الى القسم الأوّل ، ولكن حصول الجزم نادر
حينئذ.
وأمّا الجزم
الحاصل لغير هؤلاء من تقليد غير المجتهدين الكاملين ، مثل الجزم الحاصل للأطفال
والنّساء والعوامّ النّاشئين عن الاعتقاد بقول آبائهم وأمّهاتهم وأساتيذهم وإن
كانوا هم مقلّدين لمثلهم أيضا ، بل علمائهم المجتهدين أيضا ، مع عدم معرفة أنّ
المجتهدين هم المستحقّون للاعتقاد لا غير.
فالظّاهر أنّ ذلك
خارج عن مطرح النّظر لهم في هذا المقام ، لأنّهم يقولون : يجوز التّقليد في الفروع
ولا يجوز في الأصول ، وموضوع المسألة واحد إلّا أن يفكّك لفظ التّقليد في عنوان
المسألتين وجعل المراد من المقلّد في مسألة الأصول
__________________
من لم يأخذ
العقيدة من الدّليل التّفصيليّ الخاصّ الذي هو غير حسن الظنّ يأخذ [بأحد] ، فيشمل
ما نحن فيه ، فحينئذ يحتمل القسم الثّالث لصورتين :
إحداهما : حصول
الجزم للعارف العالم المتفطّن لمعنى الجزم والظنّ ، والفرق بين المجتهد وغير
المجتهد.
والثّانية : حصول
الجزم والاطمئنان لمثل الأطفال والنّسوان والعوامّ مع عدم تأمّلهم في معنى الجزم
والظنّ ، وعدم تفطّنهم لاحتمال عدم جواز الأخذ ممّن أخذوه ، والفرق بين آبائهم
وامّهاتهم وعلمائهم.
أما الصّورة
الأولى ، فيمكن إدخالها في القسم الأوّل كما أشرنا ، إنّما الإشكال في الصّورة
الثّانية ، والكلام فيها هو نظير الكلام في تقليد آبائهم وأمّهاتهم في الفروع كما
مرّ في القانون السّابق.
فحينئذ نقول :
المراد من تقليدهم هنا هو الرّكون إليهم والإذعان بقولهم والاعتماد عليهم ، وهو
يفيد غالبا الاطمئنان والسّكون والجزم في ظاهر النّظر لهؤلاء إذا خلت نفوسهم عن
المشائب وغفلت عن الشّكوك والشّبهات لعدم عرض مخالفات الطّرائق والاحتجاجات عليها
، فحينئذ الكلام في سقوط التّكليف عن هؤلاء وعدم السّقوط ، وأنّه هل يجب عليهم
النّظر أو يكفي ما حصل لهم من الاطمئنان.
والحقّ ، أنّ
النّافي لوجوب النّظر مستظهر لأنّ المكلّف حينئذ غافل عن الوجوب بالفرض ، ويحسب
اعتماده على مثل ذلك أوج معرفة كماله.
وأمّا من قرع سمعه
أنّه يلزم عليه النّظر تفصيلا وأن يكون أخذ الاعتقاد بالدّليل التّفصيليّ لا
الإجماليّ ، بمعنى الحاصل بالاعتماد على الغير ، ومع ذلك قصّر في ذلك واكتفى
بالتّقليد ، فهو على قسمين :
الأوّل : ما يحصل
بسبب ذلك له الشّك ويزول عنه السّكون والاطمئنان.
فالحقّ ، أنّ ذلك
مقصّر آثم غير مؤمن ، لعدم حصول الإذعان له أصلا ، فإذا تقاعد من [عن] النّظر فلا
ريب في أنّه آثم غير معذور ، وليس من جملة المؤمنين.
وسيجيء الكلام في
حاله ، ولا يحسن أن يدخل ذلك في محلّ النّزاع إذ لا أظنّ أحدا أنّه قال بجواز مثل
هذا التّقليد.
والثّاني : من لا
يحصل له الشّك ، بل اطمئنانه باق على حاله ، وقد يظنّ أنّ الأمر بالنّظر حينئذ أمر
تعبّدي وواجب آخر ، ولا يخدش في إذعانه أصلا ، كما نشاهد ذلك في الفروع أنّ بعضهم
قد يظنّ أنّ عرض الصّلاة على المجتهد واجب على حدة ، بل قد يزيد هذا الشّخص في
إذعانه بما قرع سمعه من وجوب النّظر ، فإنّ العالم الواعظ من أهل ملّته إذا نبّهه
على أنّ مسألة الإمامة خلافيّة ، وللمخالفين أيضا أدلّة على مذهبهم لا بدّ أن
يلاحظ ثمّ يختار مذهب الإماميّة ، يدخل في ذهنه أنّ هذا العالم المتبحّر الورع مع
وجود الدّليل على مذهب المخالفين ترك مذهبهم وأخذ هذا المذهب ، مع معرفته بوجوب
النّظر والاجتهاد ، وهذا المذهب ممّا لا يأتيه الباطل أبدا ، فيقصر في النّظر
ويسامح فيه.
فهذا أيضا مثل
السّابق في الغفلة عن حقيقة الأمر ، والظّاهر أنّه أيضا معذور إلّا في ترك هذا
الواجب ، وسيجيء الكلام في حاله وأنّه فاسق أو لا.
هذا ، ولكن هذا
الكلام لا يتفاوت فيه الحال بين الموافق والمخالف والمسلم والكافر على ما اقتضاه
قواعد العدليّة.
والقول بتعذيب
الكفّار والمخالفين دون المسلمين والشّيعة خروج عن العدل ، وذلك لا ينافي ثبوت
أحكام الكفر لهم في الدّنيا مثل الحكم بنجاستهم ووجوب جهادهم وقتالهم.
أمّا النجاسة
فلأنّه أمر تعبّديّ ولا ريب أنّ الكلب والخنزير أبعد عن التّقصير من الكفّار ، ومع
ذلك فيحكم بنجاستهما ، وكذلك أطفال الكفّار قبل التّمييز ، فهذا حكم وضعيّ تعبّديّ.
لا يقال : إنّ
الحكم بالنّجاسة إيلام لهم بلا وجه وإن كان في دار الدّنيا ، وهو أيضا ظلم ، لأنّ
الحاكم بنجاستهم هم المسلمون ، وهم لا يعتقدون أنّ ذلك من الله تعالى ، بل لا
يعتنون بقول المسلمين أصلا.
كما إنّا لا نقول
: حكم النّواصب بحليّة دمائنا وأعراضنا يوجب الظّلم من الله تعالى.
وأمّا كون جاهل
هذه العقيدة مهينا عند الله تعالى فهو من توابع هذه الاستعداد [الاستعدادات]
كنجاسة الكلب ، وهي راجعة الى أسرار القدر المنهيّة عن الخوض فيها.
وكذلك جواز أسرهم
وبيعهم وشرائهم ، فإنّه ليس حالهم فوق حال العبد والإماء المؤمنين المتولّدين على
الفطرة ، النّاسكين السّالكين على نهاية طريقة الورع والتّقوى.
وأمّا جهادهم
وقتالهم ، وأمّا من تفطّن منهم وحصل له الشّك وقصّر في النّظر ، فلا إشكال فيه.
وأمّا من لم يتفطّن لذلك ، بل حسب أنّ الحقّ معه والباطل مع المسلمين ، ولم يتفطّن
لوجوب النّظر أصلا ؛ فهو ليس بأعلى شأنا من المسلمين إذا تترّس بهم الكفّار ولم
يمكن دفاع الكفّار عن بيضة الإسلام إلّا بقتلهم ، فحينئذ فالفرق بين مقلّدة
المسلمين ومقلّدة الكفّار إنّما هو في غير الإثم والعذاب.
وبالجملة ، قاعدة
العدل تمنعنا عن الإقدام في الفرق فيما لا فرق بينهم أصلا.
وأمّا الآيات
والأخبار الدالّة على خلود الكفّار في النّار ، فلا يتبادر منها أمثال
هؤلاء ، بل
الظّاهر من الكافر هو من كفر وستر الحقّ بعد ظهوره ، وهذا أمر وجوديّ لا يمكن
حصوله إلّا مع التّنبيه والتّقصير ، ولعلّ تعريف أكثر المتكلّمين بأنّه عدم
الإيمان ممّن شأنه الإيمان ، أريد به عدم الملكة بالنسبة الى المرتبة الأدنى من
كليّاتها.
فالمراد ممّن شأنه
الإيمان هو الذي تمّت عليه الحجّة وقصّر ، فهو مثل إطلاق الأعمى على الإنسان لا
على العقرب ، أو يجعل تعريفا للكافر الذي يجري عليه الأحكام الفقهيّة لا من يعذّب
ويخلّد في النّار في الآخرة ، فإنّ ذلك يكفي في الأوّل دون الثّاني.
فغاية الأمر أنّهم
ممّا لم يسلموا ولم يؤمنوا ، وأمّا أنّهم ممّن كفروا ، فيشكل انفهامهم عن الآيات
والأخبار.
وتفصيل الكلام في
هذا المقام ، أنّ الإنسان إمّا أن يتفطّن لوجوب معرفة الأصول في الجملة أم لا.
الثّاني ، يلحق
بالبهائم كالمجانين ، لا يتعلّق بهم تكليف.
وأمّا الأوّل ،
فهو إمّا في حال خلوّ النّفس عن كلّ خيال ودين ومذهب ، مثل أن يكون إنسان في بلاد
خالية عن مسلم أو عارف ، أو يداخله ملاحظة حال غيره المتديّن بدين أو مذهب مثل
أبيه وأمّه وأستاذه ، وعلى أيّ التّقديرين ، فإمّا يأخذ طريقته بمعونة عقله
ويطمئنّ بها ، أو يحصل له ظنّ بطريقته ، أو يبقى متردّدا ومتحيّرا.
وعلى الأوّل ،
فيسقط عنه التّكليف بشيء آخر لغفلته عن وجوب شيء آخر
__________________
عليه ، وإن كان
اطمئنانه من جهة حسن ظنّه بأبيه وأمّه.
ولا فرق في ذلك
بين ما صادف الحقّ وعدمه في عدم العقاب والإثم وإن ثبت الفرق من جهة الثّمرات
الدّنيويّة من ترتّب الأحكام الشّرعيّة لقبح تكليف الغافل ، ولا ينبغي النّزاع في
ذلك.
والظّاهر عدم
الفرق بين أفراد المعارف الخمسة حتّى لو كبر صغير في جماعة الطّبيعيّين أو
الدّهريين وفرض أنّه لم يتفطّن للتفكّر في بطلان طريقتهم ، فهو كذلك ، فضلا عن
الفرق المختلفة في الإسلام وشعبه وطرائقه ، فإذا عرف الطّفل بالفطرة أو بالسّماع
من أبيه وأمّه وجود الصّانع في الجملة ، وحصل في ذهنه أنّه جسم وأنّه في السّماء ،
ولم يتفطّن لغير ذلك ولم يسمع من غيره تنبيها على ذلك حتّى كبر فلا إثم عليه ولا
مؤاخذة ، حتّى إذا تفطّن لاحتمال الخلاف أو سمع من غيره المنع من اعتقاد ذلك بحيث
يحصل له التّزلزل فحينئذ يجب عليه الفحص والنّظر ، والمقصّر فيه آثم.
ولا فرق في ذلك بين
أن يتفطّن المكلّف ، لأنّ اطمئنانه الحاصل له هل هو يقين في نفس الأمر بمعنى عدم
قبول التّشكيك بعد ما صادفه المشكك ، إنّما الكلام بعد زوال الاطمئنان.
ثمّ بعد زوال
الاطمئنان ، فإمّا أن يبقى له الظنّ أو يحصل له الشّك مع معرفة أنّه ظنّ أو شكّ ،
فحينئذ إذا تفطّن لوجوب المعرفة وتفطّن أنّه لم يحصل له الاطمئنان ، فإن أمكن حصول
الاطمئنان له بسبب الاعتماد على شخص آخر أفضل عن الأوّل [وإلّا] ، فكالأوّل ،
وإلّا فلا ريب في وجوب تحصيل ما يحصل به الاطمئنان ، فالّذي يحصل به الاطمئنان على
قول شخص كامل من جهة كماله أو النّظر والاجتهاد.
وفي الحقيقة
الرّجوع الى ذلك الشّخص أيضا نوع من النّظر والاجتهاد كما أشرنا إليه مرارا ، ثمّ
إذا آل الأمر بعد زوال الاطمئنان أو في أوّل الأمر الى الرّجوع الى النّظر أو
الاعتماد على شخص كامل فحينئذ ينقسم النّظر الى قسمين.
وكذلك الاعتماد
على ذلك الشّخص ، إذ النّظر قد يفيد القطع ، وقد يفيد الظنّ.
وكذلك الرّجوع الى
شخص ، فإنّ من تردّد أمره بين صيرورته يهوديّا أو مسلما أو إماميّا أو مخالفا ،
فقد يحصل له بسبب الاعتماد على عالم الاطمئنان الذي يحسبه قطعا وجزما ، وإن أمكن
في نفس الأمر زواله بتشكيك المشكّك ، وكذلك بسبب الأدلّة التي ينظر فيها. وقد يحصل
له ظنّ بصحة الإسلام أو التّشيّع ولا يحصل له القطع ، فحينئذ ، فهل يجب عليه تجديد
النّظر وتكريره ليحصل له القطع والاطمئنان أو التّفحّص عن الأعلم والأفضل الذي
تطمئنّ به النّفس ، أو يكفي الاكتفاء بالظنّ.
والظّاهر أنّه لا
يجوز فيه الاكتفاء بالظنّ مهما أمكن النّظر والاجتهاد واحتمل حصول القطع لعدم زوال
الخوف.
وحال هذا الشّخص
كحالنا في المسائل الفقهيّة ، إذ كثيرا ما يحصل لنا الظنّ في بادئ النّظر في
المسألة قبل الخوض التّامّ في الأدلّة بأحد طرفي المسألة ، ولا نعمل به لعدم حصول
الاطمئنان وزوال الخوف عن المؤاخذة بمجرّد ذلك ، ولكن إذا استفرغنا الوسع وأحسسنا
العجز عن المزيد عليه ، فنكتفي حينئذ بظنّنا ، فنقول فيما نحن فيه : إذا عجز عن
النّظر فوق ما أعمله وأحسّ [وأحسن] من نفسه العجز عن تحصيل العلم ، فتكليفه بتحصيل
العلم أيضا تكليف بما لا يطاق ،
فإذا اتّفق لناظر
في مسألة النّبوّة أو الإمامة بعد التّخلية وبذل الجهد التّامّ ، ظنّ بأحد
الطّرفين ولم يمكن تحصيل القطع ، فالظّاهر أنّه يكفيه حينئذ الظنّ ، ولا يجب تحصيل
اليقين.
والذي شيمته
الإنصاف وترك العصبيّة لا يأبى عن هذا الكلام ، وقد ينكر تحقّق هذه الصّورة ، وأنت
خبير بأنّها غير عزيزة ، فإنّ من تولّد في بلاد المخالفين ولم يسمع من علمائهم
إلّا التبرّي عن الشّيعة وكونهم أكفر الكفرة ، ولم يسمع إلّا أحاديثهم الموضوعة في
مدح خلفائهم ، ولو فرض أنّه سمع بعض أخبار الشّيعة لكان سمعها مع تأويلها المطابق
لآرائهم ورأى أدلّتهم على مذهبهم مموّهة بالمقرّبات ، مشبعة في إتمام مقاصدهم بما
يقرّون على الإشباع ، وأدلّة الشّيعة شعثة منكسرة الرّأس واليد ، مقطوعة الأطراف
متروكة مواضع الدّلالة ، إذا بذل جهده ولم يحصل له إلّا الظنّ بأحد الطّرفين ،
فكيف يقال : إنّه مكلّف بالعلم ، ويقال بترجيح المرجوح ، غاية الأمر أنّه بسبب
الاحتمال النّفس الأمريّ يتوقّف عن الحكم القطعيّ بنفس الأمر ، وهو لا ينافي لزوم
متابعته لدين من حصل له الظنّ بحقيّته ، وقد عرفت وستعرف أنّ القول بأنّ أدلّة
المعارف كلّها ممّا يوجب اليقين حتّى للعوامّ وغير الكاملين من العلماء ، وأنّ عدم
الإصابة كاشف عن التّقصير غير تمام ، ولو سلّم ، فإنّما يسلّم في بعض مجملات
المعارف لا في كلّها ولا في تفاصيل بعض ما له دليل يوجب اليقين في الجملة ، وفي
العلماء الكاملين لا غيرهم ، فالأحسن أن يجعل محلّ النّزاع هي هذه الصورة ، وأنّ
المراد هل يجب النّظر المحصّل للقطع في صورة إمكان حصوله أم يجوز الاكتفاء بالظنّ
الحاصل له؟ وأن لا يفرّق بين كون النّظر إجماليّا حاصلا له ولو بحسن ظنّه بشخص ،
أو تفصيليّا حاصلا من دليل ، فتأمّل حتى لا يذهب عليك أنّ إطلاق التّفصيليّ على
مقابل الإجماليّ بهذا المعنى لا ينافي كونه إجماليّا بالمعنى الذي يأتي من عدم
اشتراط ملاحظة ترتيب المقدّمتين تفصيلا ، والمعرفة بتفاصيل مصطلحات أرباب الميزان.
فظهر ممّا ذكرنا ،
أنّه ينبغي أن يكون محلّ النّزاع في النّظر في الأصول إنّما هو إذا حصل الخوف من
جهة تفطّنه لوجوب شكر المنعم في أوّل النّظر كما سيجيء ، أو إذا حصل الخوف له بعد
زوال الاطمئنان الحاصل له أوّلا من أيّ طريق حصل ، فالمشهور وجوبه.
والمخالف يجوّز
التّقليد بالمعنى الأوّل ، أعني ما يساوق التّقليد في الفروع ، وإذا انحصر النّزاع
في ذلك فالحقّ مع جمهور علمائنا من وجوب النّظر وليس من باب الفروع حتّى يكتفى
بالظنّ مع إمكان تحصيل القطع أيضا كما مرّ في محلّه.
فالمختار هو أنّ
عند التّفطّن في أوّل الأمر وزوال الاطمئنان بعد حصوله يلزم النّظر والتّفحّص حتّى
يحصل القطع ، لعدم زوال الخوف للنفس من المضرّة إلّا بذلك ، وما لا يتمّ الواجب
إلّا به فهو واجب.
وإذا لم يقدر على
تحصيل القطع ، فيكتفي بالظنّ ، للزوم التّكليف بالمحال لولاه ، وسيجيء بيان
الأدلّة تفصيلا.
وأمّا لزوم تحصيل
اليقين بمعنى الجزم الثّابت المطابق للواقع مطلقا ، فهو في غاية البعد ، إذ قد
يحصل الجزم بنفس الأمر ويزول بتشكيك المشكّك ، وأكثر النّاس إيمانهم من هذا القبيل
إن كانوا جازمين ، فإذا جاز زوال المطابق فكيف بغير المطابق!
ثمّ إنّ ما ذكرنا
من عدم زوال الخوف إلّا بتحصيل اليقين مع الإمكان على الإطلاق أيضا لا يخلو عن
إشكال ، بل لا بدّ من التّفصيل ، فإنّا إذا دار أمرنا بين الإذعان بوجود الصّانع
وبعثه للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وحقيّة المعاد وعدم المذكورات ، فالظنّ بوجود المذكورات
يزيل الخوف ، لأنّ ما يتصوّر فيه الخوف إنكار المذكورات لا الإقرار ، بخلاف دوران
الأمر بين النّبيّين والوصيّين عليهمالسلام مثلا ، إلّا أن يقال : نفس
كون الاعتقاد
يقينيّا مطلوب بالذّات ، وحصول اليقين مطلوب من جهة الثّبات وعدم الزّوال.
وفيه : أنّا نمنع
وجوبه أوّلا ، وعدم زوال اليقين بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الذي يسمّيه
بعضهم بشبه اليقين ثانيا ، فإنّه قد يزول بالشّبهة وقد يزول حكمه بسبب الإنكار
عنادا ، هذا حال القسم الأوّل.
وأما الثّاني ،
والثّالث ، ـ أعني ما يحصل له الظنّ أو يبقى متردّدا ـ فبعد التّفطّن والشّعور
يعرف حاله ممّا ذكرنا في القسم الأوّل من أنّ الحق فيه أيضا وجوب النّظر الى أن
يحصل الاطمئنان ، ومع عدم الإمكان فيكتفى بالظّنّ ، والمتردّد متوقّف حتى يهديه
الله الى الصّواب.
إذا تمهّد هذا
فنقول : اختلف العلماء في جواز التّقليد في الأصول وعدمه ، فالمشهور المعروف من
مذهب أصحابنا ، وأكثر أهل العلم ، العدم.
وذهب جماعة منهم
المحقّق الطوسي رحمهالله الى الجواز.
وذهب طائفة الى حرمة
النّظر.
واعلم أنّ هاهنا
مقامات :
الأوّل : أنّه هل
يجب معرفة الله أم لا؟
والثّاني : أنّ
الوجوب ـ على فرض ثبوته ـ عقليّ أو شرعيّ.
والثالث : أنّ
الوجوب إذا ثبت بالعقل أو بالشّرع ، فهل يكفي في المعرفة التّقليد أو يجب الاجتهاد؟
وهل يكفي الظنّ
بها أو يجب القطع؟
وعلى اشتراط القطع
، هل يكفي مطلق الجزم أو يلزم اليقين المصطلح أي الجزم الثّابت المطابق للواقع؟
وعلى فرض كفاية
الجزم مطلقا هل يلزم المطابقة للواقع أو لا؟
وقد مرّ الكلام في
كثير من هذه الأقسام ، والنّزاع في المقام الأوّل بين مثبتي الصّانع ومنكريه ، وفي
المقام الثّاني بين الحكماء والإماميّة والمعتزلة وبين الأشاعرة.
فالأشاعرة يقولون
بالثّاني ، والباقون بالأوّل.
والثّالث هو
المسألة المبحوث عنها.
فالمقام الأوّل
يستغنى عن البحث عنه بالبحث في المقام الثّاني.
وأمّا المقام
الثّاني ، فهو أنّ الإماميّة والمعتزلة والحكماء يقولون بوجوبه عقلا.
أمّا الحكماء
فنظرهم في معرفة الأشياء بالذّات ، ولا يقولون بشريعة حتّى يقع الخلاف بينهم في
كونه شرعيّا أم لا ، فينحصر طريقة إثباته في العقل.
وطريقه أنّ كلّ
عاقل يراجع نفسه يرى أنّ عليه نعماء ظاهرة وباطنة ، جسميّة وروحانيّة ممّا لا يحصى
كثرة ولا يشكّ ولا يريب أنّها من غيره.
فهذا العاقل إن لم
يلتفت الى منعمه ولم يعترف له بإحسان ولم يذعن بكونه منعما ولم يتقرّب الى مرضاته
، يذمّه العقلاء ويستحسنون سلب تلك النّعمة عنه ، وهذا معنى الوجوب العقليّ.
وأيضا إذا رأى
العاقل نفسه مستغرقة بالنّعم العظام ، يجوّز أنّ المنعم بها قد أراد منه الشّكر
عليها ، وإن لم يشكرها يسلبها عنه ، فيحصل له خوف العقوبة ، ولا أقلّ من سلب تلك
النّعم ودفع الخوف عن النّفس واجب مع القدرة ، وهو قادر على ذلك ، فلو تركه كان
مستحقّا للذّم.
فإذا ثبت وجوب شكر
المنعم ووجوب إزالة الخوف عن النّفس ، وهو لا يتمّ إلّا بمعرفة المنعم حتّى يعرف
مرتبته ليشكره على ما يستحقّه ، فهذا دليل على وجوب
معرفة الله تعالى
عقلا.
والدّليل الى هنا
يثبت وجوب معرفة المنعم.
أمّا كيفية تحصيل
المعرفة هل يمكن فيه الرّكون الى قول عالم مثلا والإذعان بما يقوله في وصف ذلك
المنعم وحاله ، أو يجب النّظر ، فهذا هو الكلام في المقام الثّالث ، فيلحق بما مرّ
من تقرير الدّليل ، أنّ المعرفة إنّما تتمّ بالنّظر ، لأنّ التّقليد لا يفيد إلّا
الظنّ ، وهو لا يزيل الخوف ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، فالنظر واجب.
والبحث على هذا
الدّليل إمّا على عدم إفادته لوجوب تحصيل المعرفة ، أو على عدم إفادته لوجوب كون
التّحصيل على سبيل الاجتهاد ، فقد يمنع استلزام مجرّد التّجويز الخوف ، وأنّ ذلك
ربّما يحصل لبعض النّاس دون بعض ، فلا وجه للإطلاق ، كمن قلّد محقّا وجزم به
واطمأنّت نفسه ، وإن فرض احتمال التّضرّر بالتّقليد فهو لا يوجب
الخوف ، وإن فرض حصول الخوف فقد يزول بما ظنّ به إذا شكره على حسب ما ظنّ.
وكذلك من قلّد
مبطلا واطمأنّ به وجزم ، فلا يحصل له خوف أصلا بتركه.
والجواب عن جميع
ذلك يظهر ممّا فصّلناه في المقدّمة ، إذ نحن لا نحكم بالوجوب مطلقا ، ولا بدّ أن
ينزّل إطلاق كلام العلماء مثل العلّامة رحمهالله في «الباب الحادي عشر» وغيره على ذلك ، إذ من أصولهم الممهّدة وقواعدهم المسلّمة
__________________
عدم تكليف الغافل
وتكليف ما لا يطاق ، وإنكار حصول الخوف مطلقا مكابرة سيّما مع ملاحظة اختلاف
العقلاء في تلك المسائل ، وسيّما مع تبليغ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والتّكليف بالنّظر الى المعجزة وغير ذلك.
والحاصل ، أنّ
المراد بذلك الاستدلال أنّ العقل يحكم بوجوب النّظر في الجملة ، وأنّه لا معنى
لحكم الشّرع بذلك لاستلزامه المحال كما سيجيء ، لأنّ العقل يحكم بالوجوب عموما
بالنّسبة الى جميع المكلّفين ، وبالنّسبة الى جميع أحوالهم ، بل التّحقيق هو ما
قدّمناه من التّفصيل.
واعترض الأشاعرة
على هذا الدّليل ، أوّلا : بمنع حكم العقل بالحسن والقبح وهو إنكار للبديهيّ كما
أشرنا سابقا وحقّق مستقصى في محلّه.
وثانيا : بأنّ
العقل والنّقل يدلّان على خلافه ، أمّا النقل ، فقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً). وقد مرّ الجواب عنه في الأدلّة العقليّة.
وأمّا العقل ،
فلأنّه إن كان وجوبه لا لفائدة فهو عبث غير جائز عقلا ، وإن كان لفائدة ، فإمّا أن
تعود الى المشكور ، فهو متعال عن ذلك ، وإمّا الى الشّاكر ، فهو منتف.
أمّا في الدّنيا
فلأنّه مشقّة بلا حظّ ، وأمّا في الآخرة فلا استقلال للعقل فيها ، وأيضا هو تصرّف
في مال الغير بدون إذنه ، فلا يجوز.
وفيه : أنّا نقول
: فائدته تعود الى الشّاكر وهو محض حصول التّقرّب ، فهو حسن بالذّات ولا يقتضي
فائدة أخرى ، مع أنّ عزل العقل عن حكمه بالفائدة الآجلة محض الدّعوى ، وقد أثبتناه
في محلّه ، بل نحن لا نحتاج في إثبات مطلق المعاد
__________________
الى الشّرع ،
والعقل حاكم به ، وليس هنا مقام بسط الكلام فيه.
وثالثا : بمنع
توقّف الشّكر وزوال الخوف على المعرفة المستفادة من النّظر ، بل يكفي فيهما
المعرفة السّابقة على النّظر التي هي شرط النّظر.
سلّمنا عدم
كفايتها ، ولكن لا نسلّم توقّفها على النّظر لجواز حصولها بالتّعليم كما هو رأي
الملاحدة ، أو بالإلهام على ما يراه البراهمة ، أو بتصفية الباطن بالمجاهدات كما
يراه الصّوفيّة.
وأجيب : بأنّ المذكورات
تحتاج الى النّظر ليتميّز به صحيحها عن فاسدها ، وأيضا الكلام في المقدور ، يعني
لا مقدور لنا من طرق المعرفة إلّا النّظر والتّعليم والإلهام من قبل الغير ؛ فليس
شيء منهما مقدورا ، والتّصفية كما هو حقّها أيضا في حكم غير المقدور لاحتياجها الى
مجاهدات شاقّة ومخاطرات كثيرة قلّما يفي بها المزاج.
ورابعا : بمنع أنّ
ما يتوقّف عليه الواجب واجب.
ويظهر جوابه ممّا
حقّقناه في محلّه.
وأمّا المعتزلة
والإماميّة ، بل الحكماء أيضا إذا أرادوا إبطال مذهب الخصم وتعيين الحاكم لوجوب
النّظر أنّه هو العقل لا غير ، فيحتاجون الى إبطال مذهب الخصم ، وهو أنّه [لو]
قلنا بكون وجوبه شرعيّا لزم منه الدّور ، ويلزم منه إفحام الأنبياء عليهمالسلام ، لأنّ ثبوت قولهم في معرفة الله تعالى موقوف على ثبوت
صدقهم وصدقهم ، موقوف على وجوب النّظر الى معجزتهم ، وهو موقوف على ثبوت صدقهم وهو
دور مستلزم لإفحامهم ، كما سنشير الى بيانه فيما بعد.
__________________
ومن ذلك ظهر أنّ
انحصار الحكم بوجوب النّظر في العقل ، لا يتمّ إلّا بضميمة إبطال حكومة الشّرع في
ذلك.
فهذا الدّليل ،
أعني لزوم إفحام الأنبياء عليهمالسلام متمّم للدليل الأوّل على انحصار الحاكم في العقل ، وإن كان
الدّليل الأوّل مستقلا في إثبات أنّ العقل حاكم في الجملة ، ففي جعلهما دليلين
لإثبات كون الحاكم هو العقل ، محلّ نظر.
فالذي ظهر ممّا
ذكرنا ، أنّ الذي يختصّ بإثبات المقام الثّالث من هذا الدّليل هو عدم زوال الخوف
إلّا بالنّظر ، وقد عرفت التّحقيق والتّفصيل في المقدّمة.
وممّا ذكرنا ظهر
دليل الأشاعرة على وجوب المعرفة شرعا وأنّه هو الآيات والأخبار.
وجوابه وهو
استلزام الدّور وإفحام الأنبياء عليهمالسلام.
واحتجّ الموجبون
للنظر أيضا من أصحابنا وغيرهم بالأدلّة الشّرعيّة ، وهو من وجوه :
الأوّل : الآيات
الواردة في المنع عن التّقليد عموما ، مثل ما دلّ على حرمة العمل بالظّنّ ، والقول
من غير علم ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، (وَقالُوا ما هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)
(نَمُوتُ
وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ
__________________
عِلْمٍ
إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ، (ائْتُونِي بِكِتابٍ
مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ)
(مِنْ
عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ، (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) ، وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً) ، ونحو ذلك.
فهذه الآيات تدلّ
على حرمة العمل بالظنّ ، خرجت الفروع بالدّليل ، وبقي الباقي.
ومثل الآيات
الدالّة عليه خصوصا ، مثل قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ
آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ، (قالُوا أَجِئْتَنا
لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ، (وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ. بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى
آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها)
(إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ
__________________
بِأَهْدى
مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) الآية .
أقول : على ما
حقّقت المقال في صدر المبحث ، لا نأبى عن العمل بمقتضاها في الجملة ، وأكثرها
واردة في المتعنّتين المعاندين الّذين ظهر عليهم الحقّ وتركوه تعنّتا وأقيم عليه
الحجّة من الإرشاد والهداية وكانوا يقصّرون في النّظر ، ولا تدلّ على أنّ الجاهل
الغافل والذي حصل له الاطمئنان ولو بتقليد غيره من جهة حسن ظنّه به ، والذي حصل له
الظنّ بطرق ولا يمكنه تحصيل أزيد منه معاقبون على ذلك.
ثمّ إنّ هذه
الآيات وما في معناها لا تدلّ على اشتراط العلم بمعنى اليقين المصطلح.
ودعوى أنّه حقيقة
فيه عرفا ولغة ، ممنوعة ، بلّ القدر المسلّم من العرف واللّغة هو الجزم وعدم
التّزلزل.
فقد تراهم يفسّرون
اليقين في كتب اللّغة بالعلم وبزوال الشّك كما صرّح به الجوهري ، بل الظّاهر أنّ ما ذكروه في معنى اليقين اصطلاح أرباب
الفنّ لا اصطلاح اللّغة والعرف ، بل هو في اللّغة والعرف يستعمل في مقابل الشّك
والاحتمال.
والحاصل ، أنّ
العلم مستعمل في معان :
منها : الصّورة
الحاصلة في الذّهن التي قسّموها الى التصوّر والتصديق بأقسامه
__________________
من الظنّ ، والجزم
الثّابت المطابق للواقع الذي يسمّونه يقينا في الاصطلاح ، والغير المطابق الذي هو
عبارة عن الجهل المركّب ، والجزم المطابق الغير الثّابت الذي يسمّونه تقليدا في
بعض الاصطلاحات ، واعتقادا في بعض آخر.
وقد يقال :
الاعتقاد على ما يشمل الأقسام الثّلاثة بل الأربعة.
ومنها : ما يشمل
التّصوّر واليقين.
ومنها : اليقين ،
وهذا هو الذي يدّعون أنّه هو معناه العرفيّ واللّغويّ وهو بعيد ، نعم ، هو اصطلاح
أرباب الفنّ.
ومنها : الاعتقاد
بالمعنى الأعمّ ، فيشمل الظّنّ وغيره.
والظّاهر أنّ هذه
المعاني مجازات إلّا الجزم المطابق ، بل مطلق الجزم ، فمن يدّعي اشتراط الثّبات مع
المطابقة فيخصّه باليقين المصطلح ، ومن لا ، فلا.
إذا عرفت هذا فنقول
أوّلا : إنّ هذه الآيات ظواهر لا تفيد القطع ، إذ غاية ما يفيده أصالة الحقيقة
الظّنّ ، وأصل المسألة من المسائل الكلاميّة التي يشترط فيها القطع باعتراف
المستدلّ ، بل لا يبقى هناك أصل حقيقة من جهة الإطلاق والعموم ، لأنّها مخصّصة
بالفروع جزما ، والعام المخصّص فيه ألف كلام ، فينزل الظنّ الحاصل منه عن الظنّ
الحاصل من أصل الحقيقة.
والحاصل ، أنّ
مقصود المستدلّ من الاستدلال أنّ التّقليد ظنّ ، والظّنّ لا يجوز العمل به لهذه
الآيات ، وهو مناقض لمطلبه ، إذ العمل بالظنّ إذا كان حراما فلم يتمسّك بهذه
الآيات التي لا تفيد إلّا الظنّ.
والقول : بأنّ هذا
الظنّ مخرج بالدّليل ، يحتاج الى الإثبات ، إذ غاية ما في الباب تسليم خروج الفروع
، وهذا ليس من الفروع ، بل هو أساس الأصول والفروع إلّا أن يقال : كما أنّ الفروع
مخرج بالدّليل للزوم تكليف ما لا يطاق مع فرض ثبوت
التّكليف وسدّ باب
العلم لو لم نعمل به ، فهكذا في هذه المسألة ، فإنّ التّكليف بوجوب معرفة الله
تعالى في الجملة ثابت ، والإشكال في كيفيّته ، فإذا لم يمكن تحصيل العلم بحقيقة
التّكليف في الكيفيّة ، فيكفي بالظنّ ، بل يمكن أن يقال : إنّ المسألة أيضا فرعيّة
، ولا منافاة بينه وبين تعلّقها بالأصول ، فكأنّ الشّارع أوجب علينا إقامة الدّليل
على ما أذعنّا به من العقائد ، ولكن هذا إنّما يثبت وجوبه بوجوب على حدة ، لا أنّه
شرط تحقّق الإيمان بالمعنى المتنازع ، وهو خلاف مقتضى كلام الأكثرين ، فإنّهم
يجعلونه شرط تحقّق الإيمان بالمعنى المتنازع ، وإن اكتفوا في الإيمان بمعنى
الإسلام ليترتّب الثّمرات الدّنيويّة على مجرّد الإقرار باللّسان.
فإن قلت :
التّكليف ثابت في الجملة ، والبراءة اليقينيّة لا تتحقّق إلّا بالنّظر والقطع.
قلت : مع أنّ هذا
خروج عن الاستدلال بالآيات ، مدفوع بأنّ القدر المسلّم هو أنّا نقطع بالمؤاخذة على
ترك كلا الأمرين : العلم ، والظنّ ، لا أنّا مكلّفون بأحد الأمرين المبهم الذي لا
يحصل البراءة منه إلّا بتحصيل اليقين ، فلمن يدّعي كفاية الظنّ أن يقول : الأصل
براءة الذّمّة ، ولا دليل على وجوب تحصيل العلم.
والحاصل ، أنّ
التّمسّك بالأدلّة الشّرعيّة الظّنيّة لا يتمّ إلّا بجعل المسألة فرعيّة وإن
تعلّقت بالأصول ، وحصر الغرض من تحقيقها في بيان الحقّ وتنبيه المكلّفين الغافلين
وإراءة طريقهم ، كما سنشير إليه.
وثانيا : القرينة
قائمة على أنّها مستعملة في مقابلة الظّنّ ، كما نطق به أكثر الآيات ، فالمراد ترك
العمل بما لا يفيد الظّنّ ، بل لا يبقى مع معارضتهم بالأدلّة القاطعة إلّا
الاحتمال.
وثالثا : منع كون
المراد بالعلم هو اليقين المصطلح لمنع كونه حقيقة فيه ، بل هو حقيقة في الجزم أو
الجزم المطابق وإن أمكن زواله بالتّشكيك وهم لا يرضون به ، ويشهد به قوله تعالى في
سورة يوسف عليهالسلام حكاية عن يوسف وإخوته : (ارْجِعُوا إِلى
أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما
عَلِمْنا) ، فتأمّل قبله وبعده حتّى يظهر لك الحال.
ورابعا : أنّ
التّكليف إنّما يرد على مقتضى الفهم والإدراك ، فهم وإن كانوا مكلّفين بالجزم بما
هو ثابت في نفس الأمر ، لكنّ المسلّم منه هو ما يفهمون أنّه هو الذي مطابق لنفس
الأمر ، لا ما هو مطابق له في نفس الأمر ، وإن لم يمكن تحصيله ، فالذي يعمل بجزمه
معتقدا لأنّه مطابق للواقع ، عامل بالعلم على زعمه ، وليس تكليفه أزيد من ذلك.
وخامسا : أنّ
التّكليف بالجزم الكذائيّ إنّما هو بعد الإمكان ، فقد لا يمكن في كثير من المسائل
تحصيل الجزم كما هو غير خاف عن المنصف المتأمّل ، فلا وجه لإطلاق وجوب تحصيل
العلم.
وسادسا : أنّ
المتأمّل في تلك الآيات لا يظهر له أزيد من النّهي عن العمل بما لا يفيد في نفسه
إلّا الظّنّ وإن لم يبق الظّنّ معه في خصوص المقام ، لا ما يفيد الظّنّ مطلقا.
فإنّ كون عبادة
الأصنام مذهبا لآبائهم بعد إقامة البراهين السّاطعة عليهم ، لا يبقى معه الظّنّ
بحقيّتها في نفس الأمر ، كما يشهد به حكاية إبراهيم عليهالسلام مع قومه حيث قال : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى
أَنْفُسِهِمْ
__________________
فَقالُوا
إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) ، ثمّ قالوا بعد ذلك : (حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ).
نعم ، بعض الآيات
المطلقة تدلّ على حرمة العمل بالظّنّ ، وفيها أيضا أكثر الأبحاث السّابقة.
وسابعا : أنّ
التّقليد أيضا قد يفيد الجزم ، بل اليقين ، ولكن التّحقيق أنّ هذا ليس بتقليد
حقيقة كما أشرنا إليه مرارا ، فهو إمّا مستدلّ أو غافل عن حقيقة الأمر ، وليس عليهما
شيء.
ثمّ إنّ الاستدلال
بهذه الآيات إنّما يناسب مذهب الأشعريّ ، وأمّا الإماميّة والمعتزلة فلا يمكنهم ،
لاستلزامه الدّور ، لأنّ ثبوت وجوب تحصيل العلم بمعرفة الله الذي لا يمكن إلّا
بالنظر بقول [الله] مستلزم للدور.
والمناص عن ذلك
إمّا بجعل ذلك من باب المشي على طريقة الخصم ، فإنّه يكتفي في معرفة الله
بالتّقليد أو بالظّنّ ، فيمكن إلزامه بقول الله تعالى.
وإمّا بأن يقال :
إنّ ذلك من باب تحقيق أهل المعرفة ومناظرة المجتهدين لتحقيق الحقّ. وما هو ثابت في
نفس الأمر بعد معرفتهم لله وفراغهم عن تحصيل اليقين واستنباطهم ذلك المطلب من
كلامه وكلام أمنائه ، ويثمر ذلك في العلم لأنفسهم وفي العمل للتبليغ والإرشاد ، إذ
المكلّفون تختلف مراتبهم في الذّكاء والفطانة ، فقد يحتاجون الى التّنبيه.
وما ذكرنا أنّ
الغافل لا يعاقب على ما لم يبلغه فطنته ، لا يستلزم عدم لزوم تنبيهه على ما يكمّله
كما هو مقتضى اللّطف ، وإلّا فلم يكن بعث الأنبياء وإنزال
__________________
الكتب واجبا على
الله أيضا ، وقد أشرنا الى مثل ذلك في مسألة معذوريّة الجاهل في الفروع.
الثّاني : قوله
تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) فإنّ الأمر للوجوب ، وإذا كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مأمورا بالعلم ، فالأمّة أولى ، أو يجب عليهم من باب
التّأسّي.
وأجيب عنه : بمنع
الأولويّة ، لجودة قريحته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقصور أفهام الأمّة ، وبمنع وجوب كلّ ما يجب عليه.
وفيه : أنّ المنع
إنّما يتمشّى فيما لم يعلم وجهه من أفعاله ، وأمّا ما علم وجهه ، فيجب على الأمّة
متابعته ، أي الإتيان على ما يأتيه به ، إن واجبا فواجب ، وإن ندبا فندب ، كما
بيّناه في محلّه ، واحتمال كونه من خواصّه خلاف الظّاهر ، ويحتاج إخراجه من عموم
قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ). الى دليل وهو مفقود.
والتّحقيق في
الجواب أن يقال : إنّ ظاهر الآية وملاحظة شأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ووقت نزول الآية ، إذ لم يقل أحد أنّه أوّل ما نزل عليه
كلّها شاهد على أنّ المراد بذلك أنّك إذا عرفت حال المؤمنين وحال غيرهم فاثبت على
ما أنت عليه من التّوحيد واستكمال نفسك ونفس المؤمنين بالاستغفار لك ولهم.
ثمّ إنّ الأمر
بالعلم ليس معناه ، حصّل العلم حتّى يقال : إنّه أمر بشيء لا يتمّ إلّا بالنّظر ،
فيجب من باب المقدّمة ، بل هو إثبات العلم وإيجاد له بهذا القول. فكما أنّ معلّم
الكتاب يقول للأطفال : اعلم أنّ الألف كذا والباء كذا ، فمحض هذا القول يفيد
__________________
العلم للطفل ،
فكذلك قوله تعالى لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : اعلم ، يفيد العلم بالتّوحيد له.
وقد يقال في
الجواب : إنّه من باب : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، فحينئذ يمكن أن يكون المراد
بالعلم الظنّ ، كما قاله الرّازي.
أقول : ولعلّ وجهه
أنّه إذا خرج اللّفظ عن حقيقته وهو إرادة المخاطب لا غير المخاطب ، فلا يبقى على
أصالة الحقيقة ، فلعل المراد به الظنّ.
وفيه : أنّ خروج
الهيئة عن الحقيقة لا يوجب خروج المادّة.
نعم ، يرد عليه ما
مرّ من الأبحاث المتقدّمة في لفظ العلم وغيره ممّا ذكرنا سابقا ، فتذكّر.
الثالث : انعقاد
الاجماع من المسلمين على وجوب العلم بأصول الدّين ، والتّقليد لا يحصل منه العلم ،
لجواز كذب المقلّد ـ بفتح اللّام ـ فلا يكون مطابقا للواقع ، فلا يكون علما ،
ولأنّه لو حصل منه العلم لزم اجتماع النّقيضين في المسائل الخلافيّة ، مثل حدوث
العالم وقدمه ، إذ المفروض أنّ خبر كلّ من المخبرين يفيد العلم ، ولأنّه لو حصل
العلم ، فالعلم بأنّه صادق فيما أخبر به إمّا أن يكون ضروريّا أو نظريّا ، والأوّل
باطل جزما ، والثّاني محتاج الى دليل ، والمفروض عدمه ، وإلّا لم يكن تقليدا.
وممّن صرّح بهذا
الإجماع العضديّ ، قال : لنا : أنّ الأمّة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى
وأنّها لا تحصل بالتقليد ، وذكر الوجوه الثّلاثة لذلك.
وقال العلّامة رحمهالله «في الباب الحادي
عشر» من «مختصر المصباح» : أجمع
__________________
العلماء كافّة على
وجوب معرفة الله تعالى وصفاته الثّبوتيّة والسّلبيّة ، وما يصحّ عليه ويمتنع ،
والنّبوّة ، والإمامة ، والمعاد ، بالدّليل لا بالتقليد ، فلا بدّ من ذكر ما لا
يمكن جهله على أحد من المسلمين ، ومن جهل شيئا منه خرج عن ربقة المؤمنين واستحقّ
العقاب الدّائم ، وادّعى الإجماع غيرهما أيضا.
وقد أورد على
الاستدلال بالإجماع بالدّور ، لأنّ حجّية الإجماع إنّما هو لكشفه عن قول المعصوم عليهالسلام عندنا ، وللآية والأخبار الدّالّة عليه عندهم ، والتّمسّك
في إثبات وجوب معرفة أصول الدّين التي أحدها حجّية قول المعصوم عليهالسلام ومعرفته مستلزم للدّور.
ويمكن دفعه :
بأنّه من باب إلزام الخصم ، إذ الخصم يكتفي بالمعرفة بعنوان التّقليد ، والاستدلال
بالإجماع مسبوق بتسليم الخصم لقول الشّارع ، وبأنّ ذلك من باب إثبات المسألة بين
المجتهدين المناظرين للعلم بالمسألة لأنفسهم ، ولتحقيق الحال في وجوب تبليغ ذلك
وتنبيه المكلّفين على ذلك لأجل التّكميل كما أشرنا سابقا وسنشير أيضا.
نعم ، يرد الإشكال
على هذه الدّعوى ، فإنّ دعوى الإجماع على وجوب العلم بكلّ المعارف ولقاطبة
المكلّفين ممنوعة.
أمّا أوّلا :
فلأنّ من المشاهد المعاين أنّه لا يمكن تحصيل العلم في كثير منها ، فكلّ ما ورد من
آية أو خبر في ذلك ، فهي مخصّصة أو مأوّلة بالجزم أو القدر
__________________
المشترك بين الظنّ
والجزم ، فكيف يكلّف به سيّما لقاطبة المكلّفين.
وهذا ممّا لا يخفى
على من تأمّل حقّ التأمّل في كثير من المسائل ، وخلّى نفسه عن التّقليد ، مع أنّه
يستلزم العسر والحرج المنفيّين شرعا مع أنّ الأصل عدم الوجوب ، وما قد يستدلّ به
على الوجوب فدلالتها على العموم ممنوعة.
والحاصل ، أنّا
نمنع ثبوت التّكلّف بالعلم مطلقا وفي جميع الأحوال وفيما يستلزم تحصيله العسر
والحرج ، إذ غاية ما ثبت دلالة الأدلّة فيما يمكن فيها تحصيل العلم أيضا إنّما هو
إذا لم يستلزم العسر والحرج ، نظير ما ذكرناه في الاكتفاء بالظّنّ في الفروع ،
وبذلك يندفع القول : بأنّ اشتغال الذّمّة بالقدر المشترك يقينيّ ، ولا يثبت
البراءة إلّا بتحصيل اليقين ، فإنّا نمنع اشتغال الذّمّة في هذه الموارد.
وأمّا ثانيا :
فنقول : إنّ الظّاهر من كلام جماعة من الأعلام كفاية الظّنّ وهو المستفاد من كلام
المحقّق الطوسي رحمهالله في بعض الرّسائل المنسوبة إليه ، ونقل عن «فصوله» أيضا ، وكذلك المولى الورع المقدّس الأردبيلي قدّس الله روحهما
، وهو الظّاهر من شيخنا المحقّق البهائي رحمهالله حيث قال : اشتراط القطع في أصول الدّين مشكل ، وغيرهم .
وممّن صرّح بكفاية
الظنّ العلّامة المجلسي رحمهالله وغيره ، مع أنّ العلّامة قال في «النّهاية» : إنّ
الأخباريّين من الإماميّة كان عملهم في أصول الدّين وفروعه على
__________________
أخبار الآحاد ،
كما نقلنا عنه في مباحث الأخبار ، ولا ريب أنّ أخبار الآحاد لا يفيد إلّا الظنّ ،
فكيف يدّعي إجماع العلماء على وجوب تحصيل العلم. اللهم إلّا أن يقال : مرادهم من
وجوب المعرفة ووجوب تحصيل العلم عدم الاكتفاء بالتّقليد بالمعنى الذي ذكرنا ، أعني
التّقليد في الفروع على ما هو المصطلح ، وهو إنّما يحصل للمتفطّن العالم بالفرق
بين المجتهد والمقلّد لا ما يشمل الاعتقاد على شخص بحيث تطمئنّ النّفس إليه بسبب
حسن ظنّه به ، وعدم اختلاج تشكيك في خاطره في قوله كما هو الحال في أكثر العوامّ في
الفروع والأصول.
فحينئذ فالمدّعى
لوجوب النّظر ليحصل العلم ، فإن حصل فهو ، وإلّا فيكتفى بالظنّ ، بل لا يبعد
الاكتفاء بالظنّ مع إمكان تحصيل القطع أيضا فيما يحصل الاطمئنان بالعمل على مقتضى
الظنّ كما أشرنا سابقا في مثل الظانّ بأحد الطرفين الذي لا خوف إلّا بترك مقتضى
ذلك الطّرف.
فكيف كان ، فهذا
من مدّعيه أيضا لا بدّ أن يخصّص بغير الغافل [غافل] المطمئنّ على مقتضى ما أخذه ،
وبغير من لا يتمكّن من تحصيل القطع إمّا لمانع له من النّظر ، أو لعدم بلوغ نظره
إلى حدّ العلم بعد الاستفراغ والتّخلية ، فما يوهم كلام العلّامة في «الباب الحادي
عشر» من العموم المستفاد من قوله رحمهالله ، ممّا لا يمكن جهله على أحد من المسلمين ، وثبوت العذاب
الدّائم على الجاهل مخصّص بما حقّقوه في محلّه من عدم تكليف ما لا يطاق ، ونحو ذلك
، وإلّا فغاية الأمر الحكم بعدم الإسلام.
وأمّا العذاب
الدّائم فلا دليل عليه ، بل ومطلق العذاب أيضا ، مع أنّه لا ريب أنّه لا يخرج من
المسلمين بذلك إن أراد أنّ معرفتها بدون الاستدلال يوجب ذلك ، بل يعامل معهم
معاملة المسلمين وإن لم يذعنوا بها في الباطن أيضا.
وإن قلنا : إنّ
مراده الإسلام والإيمان الواقعيّ ، فلا دليل على أنّ كلّ من لم يكن له الإيمان
الواقعيّ على ما ذكره فهو مستحقّ للعقاب الدّائم.
فحاصل الجواب عن
هذا الاستدلال ، المنع عن وجوب تحصيل العلم بمعنى الاعتقاد الجازم الثّابت المطابق
للواقع ، بل يكفي الظنّ.
سلّمنا ، لكنه
يكفي الجزم.
ثمّ إن أراد من
منع حصوله من التّقليد ، منع حصوله من التّقليد المصطلح في الفروع الذي أشرنا إليه
آنفا ، فهو كما ذكره.
وإن أراد أنّه لا
يحصل من الرّكون الى عارف ، فهو ممنوع ، كما أشرنا وسنشير إليه ، وإذا اكتفينا
بهذا الجزم ، فلا يلزم اجتماع النّقيضين ، إذ لا يشترط في ذلك الجزم مطابقة للواقع
، ولا يشترط فيه صدق المخبر أيضا لعين ما ذكر ، ولا يضرّه الخروج عن التّقليد
المصطلح.
فإن شئت قلت :
إنّه اجتهاد ، وإن شئت قلت : إنّه واسطة بين الاجتهاد والتّقليد المصطلح.
الرّابع : الأخبار
الدالّة على أنّ الإيمان هو ما استقرّ في القلب ، مثل ما قاله الصادق عليه الصلاة
والسلام في جواب محمد بن مسلم حيث سأله عن الإيمان : «إنّه شهادة أن لا إله إلّا الله
والإقرار بما جاء من عند الله ، وما استقرّ في القلوب من التّصديق بذلك». ولا
استقرار إلّا لما حصل فيه اليقين ، ولا يحصل إلّا بالاستدلال.
__________________
وفيه : أنّه يكفي
في صدق الاستقرار عدم التزلزل والاطمئنان فهو في مقابل الشّك ، وفي مقابل من يقول
باللّسان ولا يعتقد في القلب ، وهو واضح.
الخامس : ما رواه
في «الكافي» عن أبي الحسن موسى عليه الصلاة والسلام «قال : يقال للمؤمن
في قبره : من ربّك؟ فيقول : الله. فيقال له : ما دينك؟ فيقول الإسلام. فيقال له :
من نبيّك؟ فيقول : محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم. فيقال : من إمامك؟ فيقول : فلان. فيقال : كيف علمت : ذلك؟
فيقول : أمر هداني له وثبّتني الله عليه. فيقال له : نم نومة لا حلم لها ، نومة العروس.
ثمّ يفتح له باب الى الجنّة فيدخل عليه من روحها وريحانها ، فيقول : يا ربّ عجّل
قيام السّاعة لعليّ أرجع الى أهلي ومالي. ويقال للكافر : من ربّك؟ فيقول : الله.
فيقال : من نبيّك؟ فيقول : محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم. فيقال : ما دينك؟ فيقول : الإسلام. فيقال : من أين علمت
ذلك؟ فيقول : سمعت النّاس يقولون فقلته. فيضربانه بمرزبة لو اجتمع عليه الثّقلان الإنس والجنّ لا يطيقوها. قال عليهالسلام : فيذوب كما يذوب الرّصاص». الحديث.
والتّحقيق أن يقال
: إنّ المراد بالمؤمن في هذا الحديث من آمن بقلبه واعتنى
__________________
بدينه وجعله وسيلة
الى ربّه ، وحبّب الى نفسه موادّة خالقه والاطاعة له ، وسكن الى عقائده واطمئنّ
بها ، وبالكافر من يقول بلسانه تبعا للناس ما ليس في قلبه منه نور ولا اعتناء له
بشأنه ، ولا يدلّ ذلك على أكثر من اعتبار الجزم والسّكون والاطمئنان والاعتناء
والاعتماد.
وأمّا كونه ناشئا
عن دليل تفصيليّ وبرهان مصطلح ، فلا ، ولا ريب أنّ مثل هذا الشّخص الغير المعتني
مع إتمام الحجّة عليه ، مستحقّ للعقاب.
وقد ذكر بعضهم
لهذا الحديث تأويلا بملاحظة نوع من التّقيّة ، وطبّقه على الأخذ بالتّقليد مستدلّا
بتثبيت الله تعالى ، فإنّ التّثبيت لا يمكن إلّا في المقلّد المتزلزل ، وهو لا
يتحقّق في المتيقّن بالاستدلال ، فوجه خلاص الأوّل أنّ دعامة إسلامه الى هداية
الله تعالى ، والثّاني على متابعة النّاس من بيعة أو إجماع ، وهو بعيد.
احتجّ النّافون
لوجوب النّظر ـ وهم بين قائل بجوازه ، وقائل بحرمته ـ بوجوه : الأوّل : لزوم
الدّور إن وجب ، وذكر في تقريره وجوه ، أوجهها بناء على القول بنفي حكم العقل كما
هو مذهب الأشعريّ : أنّ وجوب النّظر في معرفة الله تعالى المفروض استفادته من
إيجابه تعالى موقوف على معرفة الله ، وأنّه هل يجب اتّباعه أم لا. ومعرفته كذلك
موقوفة على وجوب النّظر في معرفة الله المفروضة.
وجوابه : أنّ
الوجوب عندنا عقليّ لا شرعيّ كما أشرنا.
وذكر الفاضل
الجواد رحمهالله في «شرح الزّبدة» في بيانه : أنّ النّظر لو وجب لتوقف على
العلم بصدق الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذ الوجوب ثبت بالشّرع ، والعلم بصدق الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يتوقّف على النّظر في معجزته ، إذ لو لم ينظر في معجزته لم
يعلم كونه صادقا من كونه كاذبا.
ووجوب النّظر في
معجزته يتوقّف على وجوب النّظر في معرفة الله تعالى ، إمّا لاندراجه في مطلقه ،
وإمّا لأنّه نظر في معرفة الله من حيث إنّه مرسل للرسول ، وهذا دور.
أقول : وفيه نظر ،
إذ وجوب النّظر في المعجزة لا يتوقّف على وجوب النّظر في معرفة الله ، بل إنّما
يتوقّف على صدق الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّ المفروض أنّ وجوبه أيضا شرعيّ ، فيحصل الدّور بين
العلم بالصّدق ووجوب النّظر في المعجزة ، فيلزم توقّف العلم بالصّدق على العلم
بالصّدق ، وليس هذا هو الدّور الذي هو بصدد بيانه.
فالأولى على ما
يستفاد من «التّجريد» وشرحه أن يقال : لو وجب النّظر لكان وجوبه شرعيّا ، لبطلان
الوجوب العقليّ ، ولو فرض كونه شرعيّا ، لزم منه الدّور ، وهو محال ، فيلزم انتفاء
كونه واجبا شرعيّا ، وما يستلزم ثبوته انتفاءه ، فهو محال.
فهذا التقدير يتمّ
بإدراج مقدّمة أخرى ، وهو أن يقال في تقرير الاستدلال : إنّ الوجوب لو كان بالشّرع
لتوقّف على العلم بصدق الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والعلم بصدق الرّسول يتوقّف على النّظر في معجزته بأنّه
فعل صادر من الله تعالى تصديقا له ، ووجوب النّظر في معجزته أيضا ثابت بالشّرع
أيضا ، إمّا لاندراجه في مطلق النّظر ، وإمّا لأنّه نظر في معرفة الله من حيث إنّه
مرسل للرسل ، ولا يثبت ذلك الوجوب إلّا مع العلم بصدقه الذي لا يعلم إلّا بالنّظر
الى معجزته.
نعم ، لو قال :
وجوب النّظر في معجزته نفس وجوب معرفة الله ، الى آخره ، في موضع يتوقّف على وجوب
النّظر في معرفة الله لكان له وجه ، وإن كان تكلّفا وتمحّلاً.
وقد يقرّر الدّور
بأنّ وجوب النّظر في معرفة الله تعالى نظريّ موقوف على النّظر
في دليل ذلك ، و [هو]
نظر آخر ، فيجب ذلك النّظر ، ووجوبه موقوف على وجوب النّظر في معرفة الله تعالى ،
إذ لو لم يجب النّظر في معرفة الله لم يجب هذا النّظر ، أي النّظر في دليله ، وهذا
التّقرير غير مبتن على نفي حكم العقل رأسا.
أقول فيه : إنّ
ثبوت وجوب النّظر في معرفته وأخذها على سبيل الاستدلال وإن كان متوقّفا على نظر
آخر وهو الاستدلال على وجوب الاستدلال في معرفة الله تعالى ، ولكن وجوب هذا
الاستدلال لا يتوقّف على وجوب النّظر في معرفة الله وأخذها بالاستدلال ، بل إنّما
يتوقّف على مطلق وجوب المعرفة المشترك بين التّقليد والاجتهاد ، فإذا ثبت وجوب
حصول المعرفة في الجملة ، فيقع الإشكال في أنّه هل يجب النّظر ، أو يكفي التّقليد
، وبعد النّظر في ذلك ، فإمّا يستقرّ الرّأي على وجوب النّظر أو كفاية التّقليد ،
والذي يتوقّف على النّظر هو اختيار أحد طرفي المسألة إجمالا ، وهو لا يستلزم كون
أحد الطّرفين بالخصوص موقوفا عليه للنظر.
الثّاني : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يكتفي من الكفّار بكلمتي الشّهادة ، ويحكم بإسلامهم
ولا يكلّفهم الاستدلال على أصول دينهم ، ولو كان واجبا لكلّفهم ، ولو كلّفهم لنقل
إلينا لقضاء العادة.
أقول : والجواب عن
هذا الدّليل يتوقّف على بيان مقدّمة.
وهو أنّ الإيمان
في اللّغة هو التّصديق.
واختلفوا في
حقيقته شرعا ، والكلام فيه ، إمّا في بيان حقيقته بالنّسبة الى القلب والجوارح ،
وإمّا في حقيقته بالنّسبة الى متعلّق الاعتقاد ، وإمّا في حقيقته بالنّسبة الى
كيفيّة تحصيل الاعتقاد ، ووضع أصل المبحث للأخير ، إذ الكلام فيه كفاية الظنّ
والتّقليد ، أو لزوم القطع والنّظر.
وأمّا الثّاني ،
فنشير إليه فيما بعد.
وأمّا الأوّل ،
فنقول : قيل : إنّه فعل القلب فقط. وقيل : إنّه فعل الجوارح ، وقيل : إنّه فعلهما
معا.
ذهب الى الأوّل
المحقّق الطوسيّ رحمهالله في بعض أقواله ، وجماعة من أصحابنا ، والأشاعرة .
والتّحقيق ، أنّه
لا يكفي منه مجرّد حصول العلم ، بل لا بدّ من عقد القلب على مقتضاه وجعله دينا له
، عازما على الإقرار به في غير حال الضّرورة والخوف ، بشرط أن لا يظهر منه ما يدلّ
على الكفر.
والحاصل ، أنّ محض
العلم لا يكفي ، وإلّا لزم إيمان المعاندين من الكفّار الذين كانوا يجحدون بما
استيقنت به أنفسهم ، كما نطقت به الآيات.
والى الثّاني :
الكرّاميّة ، فجعلوه عبارة عن التّلفّظ بالشّهادتين والجوارح ، لعنهم الله تعالى ،
فإنّهم جعلوه فعل جميع الواجبات والمستحبّات .
وذهب بعضهم الى
أمر آخر.
وأمّا الثّالث :
فنقل عن المفيد رحمهالله والمحدّثين من أصحابنا ، وجماعة من العامّة أنّه التّصديق
بالقلب والإقرار باللّسان والعمل بالأعضاء والجوارح.
__________________
وذهب المحقّق
الطوسيّ رحمهالله في «التّجريد» الى أنّه الاعتقاد بالجنان والإقرار باللّسان ، وهو مقتضى
إطلاق أكثر الإماميّة.
وقد وردت الأخبار
بمقتضى أكثر هذه الأقوال ، فأعلى ما اقتضاه إطلاق الأخبار هو الإذعان بالعقائد
الحقّة مع اليقين الكامل ، مع الاتيان بالواجبات والمستحبّات ، وترك جميع
المحرّمات والمكروهات ، والتّحلّي بالأخلاق الكريمة والتّخلّي عن الأخلاق الذّميمة
، وهذا هو المخصوص بالمعصومين عليهمالسلام ، وأدنى ما اقتضاه هو التّلفّظ بالشّهادتين مع عدم ظهور ما
يوجب الكفر عنه ، وإن لم يكن في القلب مذعنا بهما أيضا ، ويدخل فيه المنافقون.
وعلى هذا ،
فالإيمان إمّا مشترك بين هذه المعاني أو حقيقة في بعضها ومجاز في الآخر ، ولكلّ
منها ثمرة ، مثل أنّ ثمرة الأولى حصول جميع ثمرات سائر المعاني مع زيادة حصول درجة
كمال القرب والاستحقاق للشفاعة الكبرى ، وصيرورته موردا للوحي والإلهام.
وثمرة الأخيرة
إنّما هو حقن الدّم وحلّية النكاح واستحقاق الميراث والطّهارة ، وأمثال ذلك ، ولكن
لا حظّ لهم في الآخرة.
والحدّ الوسط
بينهما إمّا ممّن يلحق بالمقرّبين ويحشر مع الصّدّيقين مع زيادة الثّواب والأجر.
وإمّا ممّن يكفّر
صغائره باجتناب الكبائر ، إذ اجتنبت الكبائر فيصير مغفورا مرحوما. وإمّا ممّن
يعذّب بمعاصيه في البرزخ والقيامة الكبرى ثمّ يخرج من النّار ، أو يعذّب في البرزخ
فقط ، فلا يدخل نار جهنّم على القولين فيه للمتكلّمين ،
__________________
والأوساط فرق
ثلاثة.
الأولى : من يعتقد
العقائد الحقّة ، ويفعل كلّ الواجبات ويترك كلّ المحرّمات.
والثّانية : من
يعتقد بالعقائد الحقّة ويترك الكبائر ، ويأتي بالفرائض التي تركها كبيرة.
والثّالثة : من يعتقد
بالعقائد الحقّة من دون عمل ، وهذا هو إطلاق أكثر الإماميّة ، وكيف كان ، ففي
مقابل كلّ إيمان كفر ، فالذي يثمر في الحكم بوجوب الإهانة والإذلال والنّجاسة وعدم
حلّ المناكح والمواريث ، هو نفي الإيمان بمعنى عدم التّلفّظ بالشّهادتين أيضا.
والكفر الذي يوجب العذاب وإن تعقّبه النّجاة ، هو نفي الإيمان بالمعنى الذي فوق
هذا ، وهكذا.
وأمّا الإسلام ،
فقيل : إنّه الإقرار بالشّهادتين مع الإذعان بهما مع عدم إنكار الضّروريّ من
الدّين ، وقيل : إنّه إظهار الكلمتين وإن لم يعتقد بهما.
والحق ، أنّه يطلق
على كلّ ما يطلق عليه الإيمان أيضا.
وأمّا لو ذكر مع
الإيمان وفي مقابله ، فيراد به أحد المعنيين.
إذا تمهّد هذا
فنقول : إن أراد المستدلّ بقوله : إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يكتفي من الكفّار بكلمتي الشّهادة ويحكم بإسلامهم ،
الّذين كانوا ينظرون الى معجزاته وصفاته وأخلاقه الحسنة وسجيّاته المستحسنة
ويتكلّمون بالكلمتين ، فهو ليس إلّا المعرفة بالنّظر والدّليل ، إذ لا نريد
بالدّليل إلّا ما يوجب الاطمئنان كما سنشير إليه.
وإن أراد غير ذلك
، فعلى فرض تسليمه ، نقول : إن أردت من الاكتفاء بالكلمتين في الحكم بالإسلام ،
الإسلام بمعنى الإيمان الذي لا يتحقّق إلّا مع الإذعان بالعقائد الحقّة والاطمئنان
به ، فلا نسلّم أنّه كان يكتفي في ذلك بذلك.
وإن أردت ما هو
أعمّ من ذلك ليدخل مطلق المقرّ بالشّهادتين ليترتّب عليه
الأحكام الظّاهرية
فلا يضرّنا ولا ينفعك ، إذ من العيان المغني عن البيان أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان طريقته في بدو الإسلام المسامحة والمماشاة مع الأجلاف
والأغبياء واستمالتهم على التّدريج ليستقوي شوكة الإسلام بالاجتماع والكثرة ، ولا
ريب أنّ أكثرهم كانوا منافقين ، ومع ذلك كان يعامل معهم معاملة المسلمين ، ويناكح
معهم ويوارثهم ، ويباشرهم مع الرّطوبة الى غير ذلك ، فهو صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يرى من حال بعضهم أن يكتفي بمجرّد إظهار الإسلام ليكون
وسيلة الى حصول شوكة الإسلام ثمّ يكلّمه بالتّدريج إن أمكن ، ويتركه على نفاقه مع
عدم إمكانه ، فإذا احتمل اكتفاؤه لإرادة هذا المعنى ، بل ظهوره أو تساويه مع إرادة
الإسلام الواقعيّ فيبطل الاستدلال.
الثّالث : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عليكم بدين العجائز».
ولا ريب أنّ
دينهنّ بطريق التّقليد لعدم اقتدارهنّ على النّظر ، ولفظة (على) تدلّ على الوجوب ،
فيحرم النّظر.
وفيه : منع صحّة
الرّواية عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل قد قيل : إنّه من كلام سفيان ، والمذكور في الألسنة والمستفاد من كلام المحقّق البهائيّ
رحمهالله في «حاشية الزبدة» أنّ هذا هو حكاية دولابها وكفّ اليد عن
تحريكها لإظهار اعتقادها بوجود الصّانع المحرّك للأفلاك المدبّر للعالم.
والذي ذكره
القوشجي في «شرح التّجريد» وتبعه الفاضل الجواد رحمهالله هو ما روي أنّ عمرو بن عبيدة لما أثبت منزلة بين الكفر
والإيمان ، فقالت عجوزة : قال
__________________
الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ
كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، فلم يجعل الله من عباده إلّا الكافر والمؤمن ، فقال
سفيان : عليكم بدين العجائز .
أقول : والمناسب
للمقام هو الحكاية الأولى.
سلّمنا أنّها
رواية ، لكنّها خبر واحد معارض بالقواطع.
سلّمنا أنّه خبر
قطعيّ ، لكنّها لا تدلّ على مطلوبكم ، لمنع عدم قدرة العجائز على الاستدلال ،
سيّما مع ما سنبيّن من كفاية الدّليل الاجماليّ ، وعدم الاحتياج الى معرفة طريقة
أهل الميزان ، مع أنّ ما ظهر من العجوزة نوع من الاستدلال كما لا يخفى.
ثمّ إنّ المراد
بالعجائز هنا جنس الجمع لا العموم ، نظير قول عمر : «كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى
المخدّرات في الحجال» ، فعدم اقتدار أكثرهنّ أو بعضهنّ على الاستدلال لا ينافي
اقتدار بعضهنّ.
بقي الكلام في
معنى كلمة (عليكم) حينئذ ، إذ الرّجوع الى الاستدلال وترك التّقليد لا يناسب الأمر
بالرّجوع الى العجائز ، كما لا يخفى حتّى يقال : أنّ المراد الأخذ بالاستدلال لا
التّقليد ، قلبا على المستدلّ به.
والذي يخالجني في
وجهه وجهان :
الأوّل : أنّ
عليكم بتحصيل اليقين كما حصّلته العجوز ، فإنّها جعلت وجود الصّانع ، وكونه مدبّر
الأفلاك ومحرّكها كالمحسوس من وقوف دولابها من الحركة بمجرّد تخليتها عن يدها.
__________________
والثّاني : أنّ
الأليق والأنسب في الاستدلال والإسلام لكافّة النّاس ، والأسهل لعامّتهم ، وهو
طريقة الإنّ وهو الاستدلال بالآثار على المؤثّر ، وبالخلق على الخالق ، لا النّظر
في نفس الوجود والموجود المحتاج الى التمسّك ببطلان الدّور والتّسلسل لعدم بلوغ
فهم العامّة إليه ، ولا التّمسّك بملاحظة نفس الوجود وادّعاء تأصّله على طريقة
وحدة الوجود التي يسمّونها المتصدّون لها استدلالا من الحقّ الى الحقّ ، لأنّ
محقّقي المتصدّين لذلك مقرّون بأنّه لا يتمّ إلّا بالكشف والشّهود الذي لا يحصل
إلّا بالرّياضة والمجاهدة ، وليس إدراكه في وسع العقل والنّظر.
والمتصدّون
لإتمامه بالاستدلال كما صدر عن بعض متأخّريهم ، لو فرض تسليم مقدّماته ، فإنّما هو
ممّا لا يصل إليه يد أكثر العلماء ، فضلا عن العوامّ ، ولا ريب أنّه مزلّة ومزلقة
للخواصّ فضلا عن العوامّ ، فكيف يكلّف بذلك عامّة النّاس ، فلذلك خاطب المكلّفين
بقوله : «عليكم بدين العجائز».
والظّاهر أنّ هذه
الطّريقة أجنبيّة بالنّسبة الى طريقة الشّرع ، ولم يدلّ عليها آية ولا خبر.
وما يقال إنّ قوله
تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ) (أَنَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) إشارة الى الطّريقتين ، فأوّلها إشارة الى الاستدلال من
الآثار الى المؤثّر كما هو طريقة المحجوبين عن الشّهود ، وآخرها يعني قوله تعالى :
(أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ) الخ إشارة الى الطّريقة الأخيرة ، يعني وحدة الوجود ، فهو
من التّأويلات التي دعا إليها رسوخ ما فهموه بأفهامهم في خواطرهم ، بل الظّاهر من
الآية أنّها على نسق واحد كما ينادي به
__________________
استفهام عدم
الكفاية ، فإنّه متعارف في باب تأكيد الكلام السابق وتتميمه ، لا أنّه مباين
للأوّل.
فحينئذ ، فمعنى ما
ورد في الأدعية ممّا يشعر بالطّريقة الأخيرة مثل قول أمير المؤمنين عليهالسلام : «يا من دلّ على ذاته بذاته» . وقول السّجّاد عليهالسلام : «بك عرفتك وأنت دللتني عليك» . ومثلهما ، فيحتمل معنيين :
أحدهما : أنّ
الظّهور الإجماليّ الذي حصل منك في فطرتنا ، بل فطرة البهائم صار سببا لتوجّهنا
الى حقّ معرفتك الى أن عرفناك بما استطعنا ، أو أنّ خلقك إيّانا وجوارحنا وقوانا
وحواسّنا والأمور الغريبة التي يحصل منها العبرة ويجرّنا الى وادي الفكرة ، صارت
سببا لمعرفتنا إيّاك ، فبسببك وعنايتك عرفناك.
وهذا إن قلنا
بالفطرة كما هو الظّاهر ، وسنشير الى بيانها في الجملة ، وإلّا فالمتعيّن هو
الثّاني ، ويرجع مآله الى استدلال العجوز.
الرّابع : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن الجدل كما في مسألة القدر ، روي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم «خرج على أصحابه
فرآهم يتكلّمون في القدر ، فغضب حتّى احمرّت وجنتاه ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا ، عزمت عليكم أن
لا تخوضوا فيه أبدا» . وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا ذكر القدر فأمسكوا» .
وفيه : أنّ النّهي
عن الجدل ، بل عن البحث ، غير النّهي عن النّظر ، إذ قد يكون الجدل مراء حراما ،
وقد يكون فيما لا طائل تحته فيكون تضييعا للوقت ، وقد
__________________
يكون في تركه حكمة
وفي فعله مفسدة ، مثل : أنّ الكفّار في بدو الإسلام إذا كانوا يرون المسلمين
يباحثون في المسائل ويجادلون ، كان بحثهم مظنّة أن يقال : إنّ هؤلاء بعد لم يستقرّ
أمر دينهم ويدعوننا إليه ، ونحو ذلك.
وأمّا النّهي عن
خصوص الخوض في مسألة القدر ، فهو لا يستلزم النّهي عن النّظر في المعارف الحقّة ،
إذ القدر الذي كلّفنا به هو ما يمكن أن تبلغه عقولنا ، وأسرار القدر ممّا لا تبلغه
عقولنا ، فالنّظر والكلام فيه مزلقة عظيمة.
لا يقال : إنّ ذلك
أيضا يرجع الى معرفة الله تعالى بصفاته الذّاتيّة أو الفعليّة ، والأمر منه دائر
بين النّفي والإثبات ، فما معنى [النّهي] عن النّظر فيه.
لأنّا نقول :
النّظر في المطالب والتّمييز بين الحقّ والباطل واختيار النّفي والإثبات إمّا يحصل
بإقامة البرهان على حقيّة أحد الطّرفين وبطلان الآخر بإبطال دليل الطّرف الآخر ،
وإمّا يقام البرهان على حقيّة أحد الطّرفين ، فينتفي نقيضه لامتناع اجتماع
النّقيضين أو الضدّين ، ولا يضرّه عدم الاقتدار على إبطال دليل الأخرى ، لاحتمال
عدم القدرة على إدراكنا للمعايب الثّابتة في مادّة برهانه أو هيئته.
وحصول اليقين في
الطّرف المقابل شاهد على بطلان الدّليل الذي أقيم على خلافه ، فإنّا إذا تأمّلنا
في مسألة فعل العبد مثلا وأقمنا البرهان على كونه مختارا بالبراهين القاطعة من
الضّرورة العقليّة ، ولزوم اللّغوية في إرسال الرّسل ، والوعد والوعيد ، ومدح
الصّلحاء وذمّ الفسّاق ، وغير ذلك مما ملئ به الكتاب والسنّة ؛ فلا يضرّه العجز عن
شبهة الجبر ، ولذلك قال بعض المحقّقين : إذا عارض الشّبهة البديهة ، فلا يلتفت
إليها.
ففي مثل شبهة خلق
الكافر المتداولة في الألسنة والكتب ، إذا أثبتنا بالبرهان
القاطع عدم صدور
القبح عنه تعالى وأنّه لا يظلم عباده شيئا ، فإن سلّم بقاء حيرة لنا في وجه حكمة
خلقه ، فهو لا يوجب التأمّل في أنّه لا يصدر عنه الظّلم ، وقد يكون التأمّل في
الصّغرى ، وهو لا يوجب قدحا في الكبرى وذلك كما ورد في الحديث : «إنّ موسى عليهالسلام قال : إلهي أرني عدلك ، فأمره أن يختفي في جنب عين على
طريق ، ففعل ، فجاء فارس فاستراح ساعة وراح ونسي هميانا فيه ألف دينار ، ثمّ جاء
صبيّ وأخذه وذهب ، ثمّ جاء أعمى فإذا الفارس قد عاد وأخذ الأعمى بالهميان وسلّ
سيفه جزّ رأسه.
فقال موسى عليهالسلام : إلهي ضاق صدري وأنت عادل.
فقال : يا موسى قد
كان الأعمى قتل أبا الفارس ، وكان لأب الصبيّ ألف دينار عند الفارس من أجر خدمته
إيّاه ، فقد استوفى كلّ حقّه».
وكذلك حكاية صحبة موسى
مع الخضر على نبيّنا وآله وعليهماالسلام وحيرته في فعله في المقامات الثّلاثة ، فإذا عجز نبيّ عن
إدراك حكمة عبد ، فكيف بالعبد عن إدراك حكمة الله الحكيم العليم.
وبالجملة ، لا
دلالة في النّهي عن الخوض والبحث في مسألة القدر على وجوب التّقليد في أصول الدّين
وعدم جواز النّظر فيها.
الخامس : أنّه
بدعة في الدّين ، إذ لم ينقل عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه الاشتغال ، إذ لو اشتغلوه لنقل إلينا لتوفّر
الدّواعي وقضاء العادة كما نقل اشتغالهم بالمسائل الفقهية على اختلاف أصنافها ،
وكلّ بدعة مردودة.
وفيه : منع عدم
نقله أوّلا ، بل هو من اليقينيّات ، والقرآن الكريم مملوّ من المناظرات مع الكفّار
ممّا وقع من الأنبياء السّالفين ، وأمر نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال تعالى :
(وَجادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وغير ذلك من الآيات والأخبار التي وردت في مناظرات أهل
الكتاب ، وسيّما من رواة أصحاب أئمّتنا عليهمالسلام في مباحثهم مع الزّنادقة وأمرهم أصحابهم بذلك ، مع أنّ
أصحاب النبيّ كانوا أقلّ حاجة الى النّظر لأنّهم كانوا يشاهدون المعجزات الباهرات
، بل كان يكفيهم رؤيته صلىاللهعليهوآلهوسلم ورؤية أحواله وأفعاله سيّما مع قلّة الشّبهات وعدم طروّ
التّشكيكات التي حصلت بعد زمانهم.
وإن أريد أنّ
تدوين الأدلّة والأبواب على ما جمعته الكتب الكلاميّة بدعة ، فكذلك حال الفقه ، فلا بدّ أن يكون
هو أيضا حراما مع أنّ البدعة المحرّمة هو إدخال ما ليس من الدّين في الدّين بقصد أنّه
من الدّين ، لا الاهتمام والجهد في تدوين ما سمعوه من الدّين وضبط العقائد
اللّازمة ، وذكر ما يذبّ به عن شبهات الملحدين وتشكيكات الضّالّين المضلّين ، بل
هو عين العبادة والطّاعة ، وان سمّيته بدعة ، فنمنع كون كلّ بدعة محرّمة.
هذا واعلم أنّ هذا
الدّليل وما تقدّمه معارضته على القول بوجوب النّظر شرعا ، وإلّا فلا ترد هذه
الأدلّة على من قال : بأنّ الوجوب عقليّ لا شرعيّ ، وذلك لأنّ النّزاع في وجوب
النّظر وكفاية التّقليد مسبوق بالنّزاع في أنّ وجوب معرفة الله تعالى عقليّ أو
شرعيّ ، فكلّ من الفريقين يختلف بعد إثبات مذهبه في المقام الثّاني.
فدليل القائل :
بأنّ وجوب معرفة الله تعالى عقليّ ، هو وجوب شكر المنعم
__________________
وإزالة الخوف ،
وأنّه يقتضي معرفة المنعم ، ودليل اشتراطهم القطع أو الاجتهاد هو أنّ الخوف لا
يزول إلّا بذلك ، ومن يكتفي بالنّظر الظّنّي أو التّقليد يقول : إنّ الخوف يزول
بالظنّ والتّقليد أيضا.
ودليل القائل
بالوجوب الشّرعيّ هو منع حكم العقل ، وأنّ الشّرع قال بوجوب المعرفة.
ثمّ إنّ القائل من
هؤلاء بوجوب النّظر والعلم ، يستدلّ بمثل : (فَانْظُروا)(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ).
والقائل بكفاية
الظنّ والتّقليد يستدلّ بمثل هذه الأدلّة ، فالأوّلون في مقام البحث عن وجوب
المعرفة بالنّظر أو غيره بعد لم يثبتوا الشّرع حتّى يحتج عليهم بمثل هذه الأدلّة
بخلاف الآخرين. اللهمّ إلا أن يقال : المراد بهذه الأدلّة تنبيههم بعد إثباتهم
الشّرع بطريق النّظر ، على بطلان ما فهمته عقولهم ، واستدلّوا به على وجوب النّظر.
ثمّ إنّ أمثال هذه
الأدلّة إنّما تنفع بعد ثبوت الإسلام ، ولا تنفع للمكلّفين من اليهود والنّصارى.
ونفعها للمسلمين أيضا إنّما هو في بعض المسائل ، وتتميمه يحتاج الى القول بعدم
الفرق.
وأيضا هذه
الاستدلالات وما يجيء بعد ذلك إنّما ينفع في العلم للمناظرين المجتهدين ، ولا ينفع
لمن لم يبلغ درجتهم إذا أراد أخذ الطّريق في المسألة جواز التّقليد وعدمه ، إلّا
أن يقال : تحقيقه عند المناظرين ينفع في معرفتهما [معرفتهم]
__________________
الحقّ عن الباطل ،
فإذا ثبت وجوب النّظر عندهم ، فيجب عليهم الأمر بالمعروف ، فيأمرون المكلّفين
بالنّظر في هذه المسألة ، وبهذا يندفع ما لعلّه سيورد على ما حقّقناه آنفا من أنّ
الغافلين منهم ليسوا مكلّفين بذلك ، من أنّ هذا يستلزم صحة طريق أكثر المخطئين ،
فلا يجب إعلامهم لعدم كونهم آثمين كما ذكرناه في القانون السّابق في حكم الفروع.
ووجه الدّفع يظهر
ممّا بيّناه ثمّة ، فإنّ الاستكمال أمر مقصود من الله تعالى ، ولم يكتف تعالى شأنه
عن العباد بعدم كونهم معذّبين ولا بقليل من الفيض والخير ، بل أراد منهم الكمال
ونهاية القرب على حسب استعدادات العباد ، فبعد تحقيق الحال وإخبار المجتهدين
الآمرين بالمعروف إيّاهم بما حقّقوه ، فيحصل لهم تنبيه وتيقّظ ، فيجب على
المكلّفين حينئذ ابتغاء طريقتهم في الاجتهاد والنّظر بحسب طاقتهم.
وطريقة التّنبيه
تختلف باختلاف المكلّفين ، وكذلك طريقة النّظر ، فربّما كان المكلّف من جملة الطلبة
وقد حصّل حظّا وافرا من العلم ، ويطيق لفهم هذه الأدلّة التي يتداولها المجتهدون ،
فالمجتهدون يلقون إليهم بتلك الأدلّة ليتفكّروها ويجتهدوا في مسألة لزوم النّظر
وعدمه ، إذ قد ذكرنا أنّ ذلك من المسائل الكلاميّة التي من توابع أصول الدّين.
وإن لم يكن
المكلّف في هذه المرتبة فيكفي التّنبيه له بأن يقال : أيّها المكلّف لا تكتف
بتقليد أبيك وأمّك ، وراجع الى عقلك ، فإنّ محض التّقليد لا يصحّ [يصلح] الاطمئنان
[للاطمئنان] فإنّ المكلّف حينئذ يمكنه التّمييز في هذه المسألة ، أعني لزوم النّظر
والمراجعة وعدمه ، ويكفيه في المراجعة الاعتماد على عالم ورع
__________________
يطمئنّ بقوله إذا
لم يستطع فوق ذلك ، وهكذا نفس مراتب المكلّفين ومراتب التّنبيهات.
ويختلف التّكليف
بالنّسبة الى اختلاف طبقاتهم ، وبذلك يختلف تكليفهم في نفس العقائد أيضا ، وهذا هو
واحد من النّكات التي كان يكتفي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الأعراب بالشّهادتين لأجلها ، فإنّ التّكليف بمعرفة
التّوحيد الكامل والتّنزيه الشّامل وإتقان معنى التّجرّد وعينيّة الصّفات ، وعدم
كونه تعالى في جهة ولا مكان ولا في الأرض ولا في السّماء ، وأنّه لا يرى ولا يعرضه
الرّضا والسّخط المفهومان للعامّة ونحو ذلك في أوّل التّكليف لكلّ واحد ممّا يصحّ
، ولا يمكن في الأغلب.
فكما أنّ أجزاء
الإيمان أيضا ممّا ينبغي في الأكثر أن يحصل تدريجا ، فكذلك الحال في كيفيّة حصولها
بالأدلّة التّفصيليّة أو الإجماليّة ولو بمجرّد الاعتماد على معتمد ، وسيجيء تمام
الكلام.
السّادس : أنّ
الشّبهات في الأصول كثيرة ، والنّظر مظنّة الوقوع في الشّبهة وهو مستلزم للضلالة ،
فيحرم النّظر ويتعيّن التّقليد ، إذ هو أسلم.
وفيه : مع أنّه
وارد على التّقليد ، فإنّ مجتهد ذلك المقلّد أيضا يحرم عليه النّظر ، فيجب تقليد
غيره ، فيتسلسل أو ينتهي الى ناظر ، فيعود المحذور ، مع أنّه يزيد عليه احتمال كذب
المجتهد في أنّ هذا رأيه ، أنّ هذا يجري في كلّ صاحب دين ومذهب ، وتخصيصه بدين
الإسلام موقوف على ثبوته. فنقول : ثبوته هل يحصل بالاجتهاد أو بالتقليد؟ فيعود
الإشكال.
والظّاهر أنّ مبنى
هذا الدّليل هو ما أشرنا سابقا من أنّ هذا كلام مسلّم بين مجتهدي أهل الإسلام
يلقونه الى القاصرين من باب الأمر بالمعروف وهم يطمئنّون بذلك ويصير تكليفهم ذلك ،
وذلك لجزمهم بأنّ عدم النّظر لا يضرّهم ،
وذلك إنّما يتمّ
في مسلّمات الشّرع ، مثل : أنّ أهل الشّرع يمنعون الطّلبة عن النّظر في الحكمة
لأنّ أهل الحكمة قد خالفوا مسلّمات الشّرع من حدوث العالم وعدم كون العقول مؤثّرات
في السّفليات ، وكون المعاد جسمانيّا ، وإمكان الخرق والالتئام في الأفلاك ، بل وتحقّقه ، وأمثال ذلك.
فإنّ كلّ مسلم
يحكم بأنّ عدم الاعتقاد بالقدم والاستحالة للخرق والالتئام ونحو ذلك ، لا يوجب العذاب ، فإن أوجب ، فهو الاعتقاد بهما
، فلا يضرّ المنع عن النّظر في أدلّة الخلاف ، إذ المفروض بقاء اطمئنان المكلّف
بحاله ، ولا داعي الى تنبيهه على الاشكال ، بل الدّاعي على خلافه ثابت.
وأمّا من حصّل
مرتبة من العلم وقرع سمعه شبهات الحكماء ، فلا ريب أنّ الاكتفاء بقول العلماء في
حرمة النّظر إنّما هو تقليد لهم في هذه المسألة التي هي من الأصول ، وأنّه حينئذ
واجد للشبهة ومتنبّه للإشكال ، لا أنّه مظنّة للشّبهة ، وحينئذ نقول : إن كان
شبهتهم ومخالفتهم إنّما هي على ما علم صدوره عن الشّرع ، فلا يمكن حصول الجزم
واليقين بقولهم وأدلتهم مع الاعتقاد بالشّرع ، لامتناع اجتماع القطعيين
المتخالفين.
وإن كان فيما
يحتمل أن يكون مراد الشّرع غير ذلك ، كما يدّعيه حكماء الإسلام في كثير من المسائل
، فلا بدّ فيه من المراجعة والتأمّل ، فإن حصل اليقين على ما قالوه واحتمل الشّرع
لموافقتهم ، فلا مناص من القول به ، وإن لم يحصل اليقين بما قالوه ، فيقدّم الشّرع
وإن كان مظنونا ، لأنّ الظنّ الحاصل من ظواهر الشّرع ممّا لا ريب في حجّيته ما لم
يعارضه قاطع ، بخلاف الظنّ الحاصل من
__________________
العقل وإن كان
قويّا في نفسه. وهذا هو مراد أهل الشّرع من قولهم بوجوب اتّباع الشّرع يقينا ، مع
قولهم بأنّ هذا مقتضى ظاهر الشّرع وسيجيء تمام الكلام.
والحاصل ، أنّ هذا
الدّليل لا يناسب إطلاق موضوع المسألة ، ومن هذا القبيل منع الشّارع من الخوض في
مسألة القدر ، ومن هذا القبيل منع علماء المسلمين للعوامّ وللطلبة القاصرين عن
مباحثة علماء اليهود أو النّصارى في مسألة النبوّة.
والحاصل ، أنّ هذا
الكلام يتمّ ما بقي اطمئنان المكلّف بحاله ، ومع تزلزله فكيف يقال بالمنع عن
النّظر مطلقا.
السّابع : أنّ
الأصول أغمض من الفروع وأبعد عن الأفهام منها ، فإذا جاز التّقليد فيها ففي الأصول
أولى.
وهذا الدّليل أيضا
إنّما ينفع في الأغلب للعلماء المجتهدين المناظرين ويصير اختيار المذهب فيه مثمرا
لجواز تنبيه العوامّ وأمرهم بمقتضى ما رأوه.
وفيه : منع
الأغمضيّة فيما يحتاج إليه المكلّفون ويثبت التّكليف به من حيث إنّه أصول الدّين.
نعم ، قد يحصل
الأغمضيّة في عروق مسائلها وأعماقها التي لم يثبت تكليف النّاس بها ، وإنّما يجب
الغور فيها والنّظر والتّدقيق ، والنّقب لمعرفة الشّبهات ، وطريقة دفعها كفاية لمن
كان قابلا لذلك ومستعدّا له حراسة للدّين المبين وإرغاما لأنوف الجاهلين والمبطلين
، ولا مدخليّة لذلك فيما نحن بصدده ، بل أدلّة أصول الدّين مبنيّة على قواعد
مضبوطة وضوابط محدودة تحصل لمن صرف فيه برهة قليلة من الزّمان ، ولم يقم دليل على
وجوب أزيد ممّا تقتضيه هذه الأدلّة ، بخلاف فروع الدّين فإنّها متشتّتة متفرّقة
مبنيّة على أدلّة متخالفة ظنّيّة ، لا مدخليّة لإدراك
العقول فيها ،
ويحتاج الى صرف جميع العمر أو أغلبه فيها ، وهذا من الوضوح بحيث لا يحتاج الى
البيان.
والذي جعله
الطّلبة في أمثال زماننا وسيلة لانحرافهم عن تحصيل الفقه واشتغالهم بتحصيل حكمة
اليونانيين من المشّائين والإشراقيّين تمسّكا بأنّ معرفة الله تعالى مقدّم على عبادته وطاعته ،
ولا يمكن إلّا بتحصيل هذه العلوم ؛ فهو من وساوس الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في
صدور النّاس.
فربّما يصرفون
عمرهم جميعا في تحصيل هذه العلوم تمسّكا بأنّه من مقدّمات الفقه ، إذ الفقه هو
العلم بالأحكام الشّرعيّة ، وذلك يتوقّف على معرفة الشّارع ، وما لا يتمّ الواجب
إلّا به فهو واجب.
حاشا وكلّا أن
يكون ذلك موجبا للمعرفة أو موجبا لمزيدها أو ممّا يتوقّف معرفة الفقه والشّرع
عليها.
نعم ، قد يصير
موجبا للزّندقة والإلحاد ، وقد يوجب كثرة البعد عن ساحة القرب والنّدامة والحسرة
يوم التّناد ، وربّما يموت أحدهم بعد مضيّ خمسين سنة من عمره أو تسعين ، وبعد لم
يعرف مسائل وضوئه وتيمّمه وصلاته ، وليس علمه
__________________
في عباداته إلّا
ما علّمه أمّه وأبوه أو معلّمه في الكتّاب ، ومع ذلك يستهزءون بالفقيه ويحقّرون
أهل الشّرع (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ
أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
نعم ، من أسّس
أساس الشّرع وقوّمه واستعدّ للنظر في هذه المباحث ، فلا يضرّه النّظر فيها
والتّأمّل فيها من جهة الاطّلاع على اصطلاحاتهم لئلّا يعجز عن مكالمتهم ومناظرتهم حال
البحث ، إذ لا ريب أنّ مدافعة الخصم لا يتمّ إلّا مع معرفة ما يقوله ، وكلّ كلمة
من كلماتهم مبتن على اصطلاح خاصّ عندهم وأصل مؤسّس بزعمهم ، ولمّا لم يكن للغافل
عن هذه الاصطلاحات في حال التّخاطب الجواب على وفق سؤالهم ، يظنّ الغافل أنّ هذا
من جهة عدم اقتدار المتشرّع على ذلك ، وهذا كما ترى أنّ العالم الفحل يعجز عن فهم
اللّغة التّركية ، ويتكلّم الطّفل الذي له سنتان أو ثلاث سنين في غاية التّسلّط ،
فلهذا لا تضايق بالقول بالوجوب كفاية على من يندفع به مضرّة أهل الشّبهة والإضلال.
الثّامن : أنّا
نعلم أنّ قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والإمام عليهالسلام ، بل العدل العارف ، أوقع في النّفس ممّا تفيده هذه
الأدلّة المدوّنة في علم الكلام ، إذ هي موقوفة على مقدّمات نظريّة يتوقّف إثباتها
على دفع شكوك وشبهات لا يتخلّص عنها إلّا من أيّده الله تعالى.
ويظهر الجواب عن
ذلك بملاحظة ما مرّ ، إذ متابعة قول المعصوم عليهالسلام ، بل العدل العارف يكون من باب الاستدلال غالبا ومع
الاطمئنان الرّافع للخوف ، فلا حاجة
__________________
الى غيره ، وليس
هذا تقليدا.
التّاسع : قوله
تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
وفيه : أوّلا :
أنّها مختصّة بحكاية الأنبياء عليهمالسلام كما يدلّ عليه صدر الآية.
وثانيا : أنّ منع
الغافل المتمكّن عن المعرفة ليس عن أهل العلم.
وثالثا : أنّ ظاهر
الآية خطاب للمكلّفين كافّة ، فمعناها : أيّها الّذين لا تعلمون اسألوا عن الذين
يعلمون. فإذا أردنا شمول الآية للأصول والفروع ، فيشمل أهل جميع المذاهب ، ولا ريب
أنّ أهل العلم وغير أهل العلم من اليهود هم الّذين هم يعرفون ويميّزون كما هو
مقتضى متفاهم الآية عرفا.
وإن قيل : المراد
أنّ غير العلماء من كافّة النّاس يجب أن يسأل أهل العلم الخاصّ وهو المحقّ
الواقعيّ ، فهذا يوجب تخصيصا في أهل الذّكر لا يفهم المخاطبون ، مع أنّ المفروض
أنّ الأمر في تحصيل المجتهد والعالم وأهل الذّكر لا بدّ أن يكون موكولا الى أنفسهم
، ولا معنى للتقليد فيه أيضا على سبيل الاعتماد على العالم في قوله هذا ، فيكون
نوعا من الاجتهاد ، فيكون ذلك رخصة لرجوع اليهود الى علمائهم.
وهذا الاستدلال
إنّما ينفع لمن يحرم النّظر ، وإلّا فالأمر ظاهر في الوجوب العينيّ وإخراجه عن
الظّاهر ، وإرادة الرّخصة ليس بأولى من تخصيص المعلوم بالفروع ، مع أنّ التّخصيص
مقدّم على المجاز.
ورابعا : أنّه
ظاهر ظنّي لا يقاوم ما ذكرنا من الأدلّة على وجوب النّظر.
ثمّ إنّ هذا
الاستدلال أيضا إنّما ينفع المناظرين المجتهدين من أهل الإسلام في
__________________
تحقيق الحال وأمر
سائر المكلّفين وتنبيههم على مقتضى ما وجدوه ، كما أشرنا سابقا.
ثمّ إنّ بعض أفاضل
المتأخّرين أورد على القائلين بوجوب المعرفة بالدّليل على الإطلاق ، وجوها من
الاعتراض لا بأس بإيرادها .
الأوّل
أنه كيف يجوز لمن
لم يكن حاضرا عند إظهار المعجزة ، العلم به إلّا بالإخبار له بعنوان التّواتر ،
وكيف يحصل له العلم بطبقات الرّجال الّذين يحصل بهم التّواتر لكلّ أحد ، وهو شأن
من حصّل قدرا كاملا من العلم فيلزم الحرج.
ولو سلّم كونه
كوجود الهند ومكّة فأنّى لهم العلم بإمامة الأئمة عليهمالسلام ومعجزاتهم ، وليس في الكتب الآن ما يحصل به التّواتر لكلّ
واحد منهم عليهمالسلام ، وكذا الخبر المحفوف بالقرائن لكلّ أحد ، بل غاية الأمر
حصول التّواتر بالمعنى لبعض أهل العلم.
وكذا الكلام في
إثبات العصمة مع أنّ فهم المعجزة وتميّزها عن السّحر ليس شأن كلّ أحد ، سيّما إذا
كانت من جهة البلاغة.
والظّاهر أنّ
عامّة العرب قلّدوا خواصّهم في ذلك.
أقول : قد ذكرنا
أنّه لا بدّ من توجيه كلام القوم ممّن أطلق الكلام وتقييده بما لا يلزم منه محال
اعتمادا على قواعدهم المؤسّسة في العدل من قبح تكليف الغافل ،
__________________
وتكليف ما لا يطاق
، ونحو ذلك.
ثمّ إن كان مراده
تجويز التّقليد المصطلح في الفروع ، أعني الاعتماد على الظنّ الاجماليّ وإن لم
يحصل له الجزم في نفس الأمر ولا الظنّ الذي تطمئنّ به النّفس ويزول به الخوف ،
فالعجز عمّا ذكره لا يدلّ على جواز الاكتفاء به. وإن أراد أنّه لا يجب الاستدلال
بالأدلّة التّفصيليّة ومعرفة المعجزة على التّفصيل في حصول الاطمئنان ، فهو كما
ذكره ، وقد مرّ بيان ذلك.
ونقول هنا : مع
أنّ إثبات النبوّة والإمامة لا ينحصر في ثبوت المعجزة ، بل له طريق آخر مثل
الأفضليّة بعد ثبوت لزومهما بالدّليل ، وإذا ثبت عنده لزوم النبيّ أو الوصيّ ،
فيمكن أن يحصل له الجزم الذي تطمئنّ به النّفس ، ويزول الخوف بمتابعة جماعة ممّن
يعتمد عليه من العلماء ، بل واحد منهم كما مرّ ، وهو أيضا بمنزلة الاستدلال ، ولا
يضرّنا إطلاق التّقليد عليه. فإنّ المعيار في الجواز وعدم الجواز هو الدّليل لا
الإطلاق والإسم ، فإذا ثبت عند المكلّف بدليل إمّا من عنده أو بالاعتماد على أحد
يطمئنّ بقوله أصل لزوم بعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ونصب الوصيّ ثمّ يذكر له أنّ الواسطة بين الله وعباده لا
بدّ أن يكون أمينا معتمدا عليه أفضل من كلّ من يجب له متابعته ، أو معصوما ومحفوظا
من الزّلل والخطأ واطمئنّ المكلّف بذلك ، ثمّ ذكر أنّ هذا الشّخص في هذا الدّين هو
محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّه كان كذا في أخلاقه ، وكذا في أفعاله ، وكذا في
خلقته ، وكذا فيما أظهره من الخوارق ، وذكر له برهة من الأحوال ، وقارن بذلك امور
وقرائن من حال هذا الذي يعتمد عليه أنّه صادق في ذلك ، وانضمّ إليه قول عالم آخر
مثله ، وهكذا ، فإنكار حصول الاطمئنان له بحيث يزول الخوف عنه ؛ مكابرة ، غاية
الأمر أنّه ظنّ في نفس الأمر وجزم عنده ، يعني أنّه بحيث لو عرض له تشكيك من مشكّك
، فقد يحصل له
احتمال الخلاف أو
الظنّ بالخلاف ، وهو لا يضرّه ما دام باقيا على جزمه غافلا عن لزوم شيء آخر عليه ،
وهذا الذي يسمّيه أهل المعقول اعتقاد الرّجحان ، وهو غير الظنّ عندهم ، وقد ذكرنا
أنّه كاف.
وكذا الكلام في
معرفة حال الأئمّة عليهمالسلام ، فإنّ لحصول المعرفة بها للعوامّ طرقا سوى معرفة خصوص
المعجزة ، منها : أنّه قد يمكنه معرفة أنّ الدّين بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم منحصرة في فرقتين ، منهم من جعل الوصيّ بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بلا واسطة فلانا ، ومنهم من جعله فلانا ، وهذا حال هذه
الجماعة وقولهم وطريقتهم ، وهذا حال هذا الشّخص وطريقته ، وهذا حال الجماعة الأخرى
وطريقتهم وحال الشّخص الذي اتّبعوه ، ويحصل للمكلّف الجزم بصدق هذا القائل المخبر
، ثمّ يتأمّل هو ويختار أحدهما لما يراه موافقا لما يحكم به العقل الصّريح ، ولا
يلزم في صورة الاكتفاء بما ذكر عسر ولا حرج.
وقد يشكل للمكلّف
فهم بعض مطالب أحد المذهبين كما لو قدر على الإذعان بمذهب الإماميّة وحصل له الجزم
، ولكن بقي في شبهة غيبة إمام الزّمان عليهالسلام متحيّرا ولم يحصل له الاطمئنان بأنّه كيف يصير شخص واجب
الإطاعة من عند الله ولا نعرفه بشخصه ولا يمكننا الوصول إليه أبدا ، واختفى عليه
فائدة ذلك ، فإذا لم يكن له تحصيل الجزم بالنّصوص والأدلّة القائمة على لزوم وجود
معصوم في كلّ عصر ، فيكفيه أن يلاحظ أنّ ثبوت أحد المذهبين من طريقة الإماميّة
ومخالفيهم متحقّق جزما ، فإذا حصل له الجزم باختيار مذهب الإمامية ، فيلزم الإذعان
بذلك لعدم انفكاكه في نفس الأمر من ذلك ، وإن لم يبلغ عقله الى إدراك حقيقة الأمر
في خصوص ذلك.
وأمّا حكاية فهم
المعجزة ، فمع تسليم ما ذكره من عجز العوامّ عن فهمها ، فلا
ريب أنّ تبكيت
كبرائهم وإلزامهم يكفي دليلا لمن دونهم ، فلعلّهم اعتمدوا عليه.
الثّاني
تقرير المعصومين عليهمالسلام
في اعتقاد إمامتهم بعد نصب كلّ منهم عقيب الآخر،فإنّ العوامّ والأطفال والنّسوان النّائين عنهم ، لا يمكن
لهم العلم بذلك إلّا بالأخبار ، ولا يمكن غالبا ، بل يستحيل عادة حصول التّواتر
لهم كما أشرنا سابقا ، فلا محالة أنّهم قرّروهم [فردّوهم] على التّقليد.
ويظهر الكلام فيه
ممّا مرّ ، ولا يحصر طريقة الجزم في مشاهدة المعجزة أو سماع النصّ بالتّواتر.
والحاصل ، أنّه إن
أراد كفاية الجزم الذي ذكرناه والاطمئنان الذي بيّنا ، فنعم الوفاق ، ويدلّ عليه
العقل والتّقرير وغيرهما.
وإن أراد كفاية
التّقليد بالمعنى المصطلح أعني الظنّ الإجماليّ المقرون لاحتمال في نظره الذي لا
يرفع الخوف ؛ فكلّا.
الثّالث
أنّه على هذا يلزم
كون المشتغلين في النّظر إذا لم يبلغوا بعد غايته وماتوا ، كانوا كفّارا مخلّدين.
وفيه : أنّ
الظّاهر أنّهم لا يريدون ذلك ، للزوم التّكليف بالمحال ، ولا ريب أنّهم في هذا
الحال معذورون.
نعم ، يظهر ممّا
نقل عن السيّد رحمهالله ذلك ، ولا بدّ من تأويله ، ولعلّه نشير إليه فيما بعد.
الرّابع
أنّ الإيمان على
قسمين : مستقرّ ومستودع.
ويشهد له الأخبار
الواردة في تفسير قوله تعالى : (فَمُسْتَقَرٌّ
وَمُسْتَوْدَعٌ) وكلّ من كان إيمانه مستودع لم يكن إيمانه مأخوذا عن
الأدلّة اليقينيّة ، بل هو ناشئ عن المظنّة والتّقليد ، والأئمّة عليهمالسلام كانوا يعاملون معهم معاملة المؤمنين ، وورد في حقّهم أنّهم
إذا ماتوا ولم يؤخذ منهم إيمانهم المعار لهم ، لماتوا مؤمنين ، وورد أنّ إيمانهم
يبقى لهم لو تضرّعوا وألحّوا معهم في المسألة عن الله تعالى.
أقول : قد اختلف
المتكلّمون في جواز زوال الإيمان وعدمه ، والأكثرون على الأوّل ، للآيات الكثيرة ،
مثل قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) ، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
ونقل عن السيد رحمهالله وجماعة من أصحابنا. الثّاني ، فيقولون : إنّ الارتداد كاشف
عن عدم الإيمان الحقيقيّ رأسا بكونهم منافقين أو تابعين للظنّ ، وأوّلوا الآيات
__________________
بإرادة الإيمان
اللّساني من الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وجعلوا الأحكام المذكورة في
الشّرع لمن يحكم عليه بالارتداد في ظاهر الشّرع. فكما أنّه يحكم عليه بالإيمان
بإظهاره ، وإن لم يكن مؤمنا في الواقع ، فكذلك يحكم بالارتداد بما يوجبه ، وإن لم
يكن في الأصل مؤمنا ، بل وإن بقي على إيمانه الواقعيّ أيضا عند الله تعالى عقوبة
لهتك حرمة الشّرع.
والتّحقيق ، إمكان
زوال الإيمان ، إمّا بالجحود مع اليقين ، كما وقع من أبي جهل وأضرابه ، وقد أشرنا
إليه سابقا ، وإمّا بسبب طروّ الشّبهة ، لعدم كون جزمه في الدّين بعنوان حقّ
اليقين ، وقد بيّنّا أنّه لا ينحصر الإيمان فيه ، بل ولا يمكن حصوله عادة إلّا
للمعصومين عليهمالسلام ، والأوحديّ من المؤمنين الكمّل ، الذي لا يسمح الزّمان
بمثله إلّا في غاية النّدرة ، بل يحصل بما تطمئنّ به النّفس سيّما إذا لم يكن عنده
احتمال النّقيض ، وإيمان أغلب النّاس مبنيّ على ذلك ، والأخبار الواردة في
المعارين والمستودعين كلّها شاهد عليه ، وكذلك ما ورد في الأدعية من الاستعاذة
بالله من مضلّات الفتن ، فإنّ ذلك من المعصومين عليهمالسلام إن لم يكن بعنوان الحقيقة فلا ريب أنّ مرادهم تعليم سائر
المؤمنين ، ولا معنى له مع عدم الإمكان.
والحاصل ، أنّا قد
بيّنا أنّ للإيمان مراتب أو معاني متعدّدة ، والنّاس مختلفون فيها وكلّهم مؤمنون.
وما ورد في الآيات والأخبار الدالّة على زواله ، واردة على نفس الأمر لا على مجرّد
من يحكم بإيمانه ظاهرا ، ولا داعي الى تأويله ، فإذا لم يقم البرهان على اشتراط
حقّ اليقين في إيمان كلّ النّاس ، فهذه الظّواهر كلّها دليل على كفاية مجرّد
اطمئنان النّفس فيها ، وإلّا لم يتحقّق الزّوال ولم يثبت مصداق لهذه الآيات
والأخبار.
ومناط الاستدلال
بأخبار المعارين والمستودعين أنّهم عليهمالسلام كانوا يعاملون معهم
معاملة المؤمنين
لا المنافقين حتّى يقال : إنّهم عليهمالسلام كانوا يعاملون مع المنافقين أيضا معاملة المؤمنين ، كما
يدلّ عليه رواية عيسى القمّي الدالّة على أمر الإمام عليهالسلام أوّلا بمحبّة أبي الخطّاب ثمّ أمره بلعنه وغيرها.
الخامس
أنّ عدم الفرق بين
مراتب المكلّفين في الفهم غير سديد ، لأنّ إثبات عينيّة الصّفات أو إثبات التّجرّد
ونفي الرّؤية وعدم صدور القبيح ليس شأن كلّ أحد ، لغموض أدلّتها ونفس مسائلها ، مع
أنّا نعلم أنّ أصحاب الأئمة عليهمالسلام بعد عهد بعيد كانوا في خدمتهم أيضا يستفهمون عن أمثال ذلك
، كما يشير إليه حديث ذعلب اليمانيّ.
أقول : وهو كما
ذكره ، وقد أشرنا إليه وسنشير بعد ذلك أيضا.
السّادس
أنّ الشيخ روى في
كتاب «الغيبة» عن الصاحب عليه الصلاة والسلام أنّ جماعة يقال لهم : الحقيّة ، وهم
الّذين يقسمون بحقّ عليّ عليه الصلاة والسلام لمحبتهم إيّاه ، ولا يدرون حقّه
وفضله ، وهم يدخلون الجنّة.
فإنّ الظّاهر أنّ
هؤلاء إمّا من مقلّدي الشّيعة أو من مقلّدي أهل السنّة ، فلا وجه
__________________
للحكم بأنّ كلّ من
لا يعتقد بإمامة الأئمة عليهمالسلام يدخل النّار.
أقول : لا بدّ من
حمل هذه الرّواية وما شابهها على الغافل الغير المقصّر ، ولا نمنع ذلك فيه كما
أشرنا.
ثمّ إنّ تتميم هذا
المقام يقتضي رسم مباحث :
الأوّل
أنّ المراد
بالدّليل عند من يقول بوجوب المعرفة بالدّليل لا بالتّقليد ، هو ما اصطلح عليه
الأصوليّون من أنّه ما يمكن التّوصّل بصحيح النّظر الى مطلوب خبريّ مفردا كان أو
مركّبا ، خلافا للمنطقيّين حيث يشترطون في الدّليل تركيب القضايا.
«فالعالم» عند
الأصوليّين دليل على إثبات الصّانع ، وعند المنطقيّين العالم حادث ، وكلّ حادث له
صانع ، ولذلك تراهم يريدون بالأدلّة الفقهيّة الكتاب والسنّة ونحوهما.
وقيّد «الإمكان»
لإدخال الدّليل الذي غفل عنه ، فلا يشترط فعليّة التّوصّل في إطلاق الدّليل.
وقيّد «الخبريّ»
لإخراج الحدّ ، وهو يشمل الأمارة أيضا.
وأمّا عند
المنطقيّين ، فهو قولان فصاعدا يستلزم لذاته قولا آخر ، وذلك يختصّ بالبرهان ،
لعدم استلزام غيره شيئا لذاته ، لعدم العلاقة بين المقدّمات الظّنيّة ونتائجها ،
فقد يزول الظنّ ويبقى سببه ، كما يشاهد في حصول الظنّ بنزول الغيث بملاحظة الغيم
الرّطب ، ثمّ يظهر خلافه مع بقائه ، وقد يسقط قيد الاستلزام ويقال قولان فصاعدا
يكون عنه آخر ليدخل الصّناعات الخمس : البرهانيّات ،
والوجدانيّات ،
والخطابيّات ، والشّعريّات ، والمغالطات ، والاستقراء ، والتّمثيل.
وأورد على ذلك :
بأنّ الاستلزام لا يتوقّف على تحقّق الملزوم ولا اللّازم ، وكيف لا واستلزام
القياس الصّحيح الصّورة للنتيجة قطعيّ ، فالمعنى أنّه لو تحقّق الأوّل لتحقّق
الثّاني ، وهذا يشمل جميع الصّناعات.
وما أدرجه
المنطقيّون في تعريف القياس من قولهم : متى سلّمت استلزم قولا آخر ، تنبيه على عدم
اشتراط مسلّمية المقدّمات في تحقيق القياس من حيث هو.
ثمّ إنّ إطلاق
الأصوليّين الدّليل على المفرد كالعالم مجرّد اصطلاح ، وإلّا فلا يمكن إثبات
المطلوب الخبريّ إلّا بمقدّمتين ، فإنّ الدّليل من حيث إنّه يتوصّل به الى ثبوت
المحكوم به للمحكوم عليه ، لا بدّ فيه من ملزوم للمحكوم به يكون ثابتا للمحكوم
عليه لينتقل الذّهن منه الى المحكوم عليه. ويلزم من ثبوت ذلك الملزوم للمحكوم عليه
ثبوت لازمه له ، فالقضيّة المشعرة باللّزوم هي الكبرى ، والأخرى الدالّة على ثبوت
الملزوم للمحكوم عليه هي الصغرى ، واعتبار المقدّمتين في تعريف المنطقيين مصرّح به
، وفي اصطلاح الأصوليّين مندرج في صحيح النّظر.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم أنّ المراد بصحيح النّظر هو الصّحيح عند المستدلّ ، والمراد بالنّظر
التّأمّل في المعلومات لتحصيل المجهولات.
فالتأمّل في
العالم بأنّه متغيّر ، وفي المتغيّر بأنّه حادث ، يوجب الوصول الى أنّ العالم
حادث.
فالتأمّل في
المفردات حقيقة هو ترتيب قضايا موصلة الى المطلوب ، وهذا هو المراد بقولهم : إنّ
العالم دليل وجود الصّانع ، لا أنّ المفرد من حيث إنّه مفرد موصل الى التّصديق ،
إذ لا ريب أنّ محض تصوّر شيء لا يوجب الوصول الى المطلوب ، خبريّ.
وكذلك الكلام في
قولهم : إنّ الدّخان يدلّ على النّار ، فإنّ محض تصوّر الدّخان وإحساسه ، لا يدلّ
على النّار ، بل من حيث التّأمّل في أنّه من الأجزاء اللّطيفة المستحيلة من الحطب
بمجاورة النّار ، وأنّه ملزوم النّار ، غاية الأمر أنّ بعض الانتقالات أقرب من بعض
، وبعضها يصير الى حدّ ربّما يغفل عن مبادئ حصولها لكثرة المماسّة ، ومثل ذلك
الدّلالات الطبيعيّة.
وأمّا الدّلالات
الوضعيّة فلها حيثيّتان أشرنا إليهما في مباحث العامّ والخاصّ ، إحداهما تصوّريّة
والأخرى تصديقيّة. فاستحضار المعنى الموضوع له بحضور الشّيء الموضوع ، هو معناه
التّصوّري. والتّصديق بأنّ ذلك هو المعنى الذي وضع له ذلك الشّيء ، هو معناه
التّصديقيّ وهو لا يحصل من الوضع لاستلزامه الدّور كما أشرنا وبيّنّا أنّ الغرض من
وضع الألفاظ إنّما هو التّركيب لا تفهيم المعاني.
نعم ، يمكن تحصيل
التّصديق بإرادة اللّافظ أو النّاصب ذلك المعنى ، نظرا الى قاعدة الاستعمال كما
بيّنّا ، وهو بهذا الاعتبار أيضا معلوم للقضيّتين. فدلالة مقدّمتي البرهان على
النّتيجة أيضا دلالة عقليّة ، لأنّه يلزم من العلم به العلم بالنّتيجة ، وهو معنى
الدّلالة ، ولا فرق بين دلالة العالم على الصّانع ودلالة الدّخان على النّار من
حيث إنّه يحصل من التّأمّل في كلّ منهما ، باعتبار القضايا المتضمّنة فيها
التّوصّل الى مطلوب خبريّ.
ثمّ إنّ الاستدلال
والانتقال من المبادئ الى المطلوب لا يختصّ بأهل النّظر ولا بفريق العلماء العرفاء
بعلم المنطق وشرائط البرهان ، وإلّا فلم يحصل لأحد من النّاس يقين بمطلوب خبريّ ،
ومن العيان الغنيّ عن البيان أنّ كلّ الناس يميّزون بين يقينيّاتهم وظنّيّاتهم ،
ويسندون اعتقاداتهم وإذعاناتهم في أمور معاشهم الى مبادئ ، وتلك المبادئ مترتّبة
في أذهانهم على مراتبها الطّبيعيّة ، مع أنّهم لا
يتفطّنون بها
وكيفيّة ترتّبها ، وذلك لا يوجب عدم حصول اليقين لهم أو عدم ترتّب يقينهم على تلك
المبادئ ، بل وكثير من المعلومات ممّا لا يعلم العالم بها أنّه يعلمها ، وذلك لا
يوجب عدم العلم بها ، فقد تراهم يفرّون عن تحت الحائط المائل مخافة السّقوط ، وذلك
مبتن على ما في ذهنهم من أنّ هذا الحائط مائل وكلّ حائط مائل ممّا يترقّب سقوطه ،
فهذا ممّا يترقّب سقوطه ، ولكن لا يتذكّر حين الفرار هذه المقدّمات ولا يترتّبها
في الذّهن هذا التّرتيب بالتّفصيل حتّى يقال : إنّه استدلال بالبرهان المنطقيّ
التّفصيليّ ، بل هو استدلّ بذلك البرهان إجمالا ، فما دعاه الى الفرار هو إجمال
المقدّمتين لا تفصيلهما.
ولا نقول : إنّ
الباعث على الفرار هو ملاحظة محض الجدار الخاصّ ، فإذا طولب ذلك العاميّ بدليل
الفرار وأوخذ بأنّك لا تعرف البرهان المنطقيّ وشرائطها فكيف حصل لك العلم أو الظنّ
بذلك لضحك العقلاء بذلك المطالب المؤاخذ ، بل هذا الكلام تضحك منه الثّكلى.
ومطالب العقلاء
متشابهة ، وكلّها مبتنية على المبادئ المناسبة لها ، بل لا أستبعد أن أقول بوجود
تلك المبادئ وحصول الاستدلال للبهائم ، فلاحظ الكلب إذا انحنيت الى الأرض لترفع
حجرا كيف يفرّ ، والظّاهر أنّ الدّاعي له على ذلك هو المقدّمتان ، يعني هذا الشّخص
يريد أن يضربني ، وكلّ من يريد ضربي يجب الفرار منه ، فيجب الفرار منه ، وتخصيص
المعارف الخمس واليقين بها بالدّليل التّفصيليّ دون سائر المطالب المعقولة ، لا
وجه له ، إذ ذلك ليس من الأمور التعبديّة حتّى يخصّ بالنصّ مع عدم نصّ على لزومه
أيضا ، وهذا هو المراد بالدّليل الإجماليّ.
وإن شئت توضيح
الحال فقس حال العلم بالعمل ، والدّليل على النيّة ، فكما أنّ التّحقّق في نيّة
العمل هو الدّاعي الى الفعل لا المحضر بالبال ، فكذلك فيما نحن فيه ،
الباعث على حصول
العلم هو المبادئ الحاصلة في النّفس وإن لم يخطرها تفصيلا بالبال ، سيّما بهذا
التّفصيل الخاصّ.
وأمّا قولنا فيما
سبق : من كفاية ما تطمئنّ إليه النّفس ، هو بيان مقدار دلالة الدّليل ، وليس ذلك
قسما آخر من الدّليل ، وليس ذلك من الدّليل الإجماليّ وتفسيره كما يتوهّم.
وبعبارة أخرى :
إذا سأل سائل : هل يجب في الدّليل أن يفيد اليقين ، أعني الاعتقاد الجازم الثّابت
المطابق للواقع أو يكفي مطلق الجزم أو يكفي مطلق الظنّ؟
فنقول : يكفي ما
تطمئنّ به النّفس على التّفصيل الذي مرّ ، وقد مرّ وجهه.
والى ما ذكرنا في
بيان الدّليل الإجماليّ ينظر كلام من مثّل في المقام أي كفاية الدّليل الإجماليّ بقول الأعرابيّ : البعرة تدلّ
على البعير وأثر الأقدام تدلّ على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا
تدلّان على اللّطيف الخبير .
وما قد يتوهّم من
وجوب الاستدلال التفصيليّ مع العلم بشرائط البرهان المنطقيّ وكيفيّة الترتيب وأخذ
النتيجة تفصيلا ، أنّه لا يمكن تحصيل العلم من ملاحظة الأثر بالمؤثّر ومن المصنوع
بالصانع إلّا مع ما ذكر ، فهو من غريب القول ، وأغرب منه ما يدعو المتوهّم الى
المناقشة في المثال المذكور ، وأنّ استدلال الأعرابيّ باطل لأنّه قياس مع الفارق ،
لأنّ أثر الممكنات بديهيّ الدّلالة على الممكن ، بخلاف أثر الواجب فإنّ كون البعرة
فعلا وأثرا من الحسّيّات ، وكون الفعل
__________________
يحتاج الى فاعل
أيضا بديهيّ ، بخلاف دلالة السّماء على الله ، إذ كون السّماء أثرا ، نظريّ موقوف
على بيانه أنّه ممكن وكلّ ممكن أثر ، وكلاهما نظريّان.
وفيه : أوّلا :
منع كون كلّ آثار الممكنات بديهيّة الأثر ، فإنّا قد نتردّد في كون بئر واقعة في
قلّة الجبل أو مغارة واقعة فيها أنّها من فعل الواجب أو فعل الممكن ، ولا فرق بين
هذا وبين نفس الجبل في أنّهما محتاجان الى مؤثّر ، ولكن لمّا نعلم بالتّجربة
والشّواهد الظّاهرة بأنّ الأجسام ليست من خلق العباد ، نتردّد في البئر بين كونها
أثر الواجب أو الممكن ، بخلاف أصل الجبل ، ورؤية جنس البئر أثرا للممكن لا يقتضي
الحكم بكونها مطلقا كذلك ، بل يحتاج إثبات كون هذا النّوع من البئر أو شخصها أثرا
للممكن وفعلا له الى الدّليل ، فهو إنّما يدلّ على مؤثّر ما لا خصوص الممكن ،
فنقول : إنّ تلك البئر إمّا كونها أثرا وفعلا بديهيّ أو نظريّ ، فإن كان نظريّا ، فلا يصحّ
قولك : إنّ كلّ أثر الممكن بديهيّ الأثر ، وإن كان بديهيّا فصحّ أن يقال : أثر
الواجب أيضا قد يكون بديهيّ الأثر ، إنّما الكلام في تعيين المؤثّر أنّه واجب أو
ممكن ، ومن هذا القبيل اللّؤلؤ المصنوع والمرمر المصنوع ، مع أنّه ربّما لم ير أحد
بعض آثار الممكن ولا نوعه ويحكم بأنّ له صانعا مثل بعض الآلات المصنوعة لمعرفة
السّاعة.
والقول : بأنّ
التّتبّع يقتضي الحكم بأنّها من أفراد آثار الممكنات ، فيلحق بها ، يدفع أصل كلام
المتوهّم ويثبت المطلوب إذ بذلك الفرق الحاصل بالاستقراء حصل الحكم بأنّ بعض
الأشياء أثر الواجب وبعضها أثر الممكن ، فإنّ التّفرقة بين الأثرين من حيث كونهما
أثرين يستلزم تصوّر أثريّتهما وإن لم يستلزم تصوّر
__________________
ذاتهما أثريّتهما
، وبذلك ظهر أيضا أنّ كثيرا من آثار الممكنات نظريّ الأثريّة ، أستفيد من
الاستقراء والتّتبّع المحتاج الى النّظر.
وثانيا : نقول :
إنّ البقّ والذّباب والحشرات الصّغار والدّيدان القليلة الأعمار المسبوقة بالعدم
الملحوقة به ممكن وأثر بالبديهة ، ودلالتها على أنّها أثر ظاهر ، وكذلك إنّها
تحتاج الى مؤثّر وإذا ألحق به عدم رؤية صدور مثلها عن ممكن يحكم بأنّ مؤثّرها غير
الممكن.
وحاصل استدلال
الأعرابيّ : أنّ الآثار التي يعلم أنّها من سنخ آثار الممكنات إذا كان لا يمكن
حصولها في الخارج بدون مؤثّر كالبعرة وأثر الأقدام وحركة دولاب العجوز ، فكذلك
الآثار التي يعلم أنّها ليست بحسب قدرة الممكنات كخلق الحيوانات والنّباتات وقاطبة
الأجسام.
وليس مراد
الأعرابيّ والعجوز الاستدلال بالبعرة على نفس البعير من حيث إنّه بعير أو بسكون
الدّولاب بعد تحريك العجوز أنّ التّحريك من العجوز ، بل هي أولى بالدّلالة ، إذ
تحقّقت الأمور الممكنة الغريبة العميقة الغور في الخارج بلا مؤثّر كالسّماء والأرض
أغرب من تحقّق الأمور الماهيّة كالبعرة وأثر الأقدام ، لاستلزام الأوّل للترجيح
بلا مرجّح أكثر من الثّاني ، إذ كلّ دقيقة منها يحتاج الى تأثير ومؤثّر ، فتحقّق
التّأثيرات الكثيرة أغرب حصولا في الخارج من حصول تأثير قليل.
وثالثا : لم يقل
أحد أنّ المصنوع بذاته يدلّ على الصّانع ، بل باعتبار ما تضمّنه من المقدّمات كما
أشرنا.
__________________
نعم ، قد يكون بعض
المصنوعات دالّا على الصّانع دلالة سريعة من جهة بداهة الصّدور التي أوجبت الغفلة
عن المبادئ وأغنت الحاجة عن ملاحظتها ، فذلك أيضا لا يخلو عن قياس ، لكنّ قياسه
معه.
والحاصل ، أنّ
الباعث على العلم هو انطواء ضميره به وإن لم يقدر على ترتيبه وتحريره ، والتزام
تعلّم المنطق وقواعد البرهان لعامّة العوامّ ممّا ينادي بفساده البديهة ، وليس
ابتناء استفادة المجهولات واستعلامها من المعلومات على القواعد المنطقيّة في نفس
الأمر وحصولها من جهتها موقوفا على معرفة هذه الطّرق على التّفصيل المعهود كما أشرنا سابقا.
وليس حال المنطق
إلّا حال العروض ، فإنّ من له طبع موزون لا معرفة له بحال البحور والتّقطيعات ،
فيأتي بالأشعار الموزونة المتينة ، ولا يحتاج الى استحضار قواعده وكيفيّة ميزان
الطّبع وحال التّقطيع ، وهكذا حال الفصاحة والبلاغة ، فإنّ أهل البادية ربّما لم
يسمع أحد منهم اسم الاستعارة فضلا عن المصرّحة والتّبعيّة ، وبالكناية والتّخيّل [والتّخييل]
والتّرشيح والتّجريد ، وكذلك شيئا من قواعد المحسّنات اللّفظية ولا المعنويّة ،
ولا معنى الجناس والطّباق والإيهام والتّشريع وذي القافيتين ، ونحو ذلك ، ويأتي
بكلام مشتمل على جميع قواعد هذه الفنون ، واحتياج التّنبيه على الغفلة لفاقدي
الطّبع ومعوجي السّليقة مشترك بين الجاهلين لتلك الموازين وعالميها.
والحاصل ، أنّ
العوامّ قاطبة يستدلّون في أمور معاشهم ومقاصدهم الدّقيقة بالبراهين الصّحيحة مع
عدم تفطّنهم ، لأنّ تلك البراهين مترتّبة في أنفسهم على
__________________
ترتيب طبيعيّ وعدم
علمهم بأنّ علمهم ناشئ عن ذلك ، ولم يناقش أحد معهم في أنّه كيف حصل لك العلم مع
أنّك لا تعرف المنطق.
ورابعا : نقول :
إنّ البعرة بمعنى جلّة البعير ، ولجلّة البعير إطلاقان ، مثل حبّ الرّمان ، فإنّه
قد يطلق حبّ الرّمان ويراد هذا النّوع من الحبّ المقابل لحبّ العنب من دون ملاحظة
إضافيّة إلى الرّمّان وأنّه انفصل من رمّان خاصّ ، وقد يطلق ويراد أنّ هذا حبّ خرج
من الرّمّان ، فيلاحظ الإضافة ، ويتّضح هذا بإضافته الى المخاطب ، فعلى الأوّل لا
يستلزم الإضافة كون المخاطب مالكا لرمّان ، بخلاف الآخر ، ففي الإطلاقين كليهما
نوع انتقال من حبّ الرّمّان الى الرّمّان ، ولكنّ الانتقال في الأوّل تبعيّ وفي
الآخر مقصود بالدلالة.
ومراد الأعرابيّ
في الاستدلال هو الانتقال بالمعنى الثّاني لكن من حيث المضاف لا الإضافة ، فقد
يحصل الانتقال من الحبّ الى الرّمّان ، وقد يحصل الانتقال من حبّ الرّمّان الى
الرّمّان ، وكذلك حال الجلّة ، ومراد الأعرابيّ الانتقال من الجلّة الى البعير لا
من جلّة البعير الى البعير ، فلعلّ توهّم المتوهّم مبنيّ على أنّ الأعرابيّ انتقل
من جلّة البعير بالمعنى العلميّ الى البعير ، وقال : إنّه بديهيّ ، يعني إذا رأى
جلّة البعير من يعرفها ، فيحصل له فورا استحضار أنّه جلّة ، لا حجر ولا مدر ،
وأنّه جلّة البعير لا جلّة الغنم ، وهذا المعنى غير ما هو مراد الأعرابيّ ، إذ
مراده أنّ وجود جلّة البعير يمكن أن يستدلّ به على وجود بعير صدر هذه منه ، وأنّ
هذه الجلّة لم يتحصّل بذاتها ولم يوجد من قبل نفسها ، لا أنّ هذه جلّة بعير لا
جلّة غنم بالمعنى العلميّ ، فليفهم ذلك.
الثّاني
قال المحقّق في «المعارج»
بعد إقامة الأدلّة على عدم جواز التّقليد في الأصول عقلا ونقلا : وإذا ثبت
أنّه غير جائز ، فهل هذا الخطأ موضوع عنه؟
قال شيخنا أبو
جعفر رحمهالله : نعم ، وخالفه الأكثرون.
احتجّ باتّفاق
فقهاء الأعصار على الحكم بشهادة العامّيّ مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد
بالأدلّة القاطعة.
لا يقال : قبول
الشّهادة إنّما كان لأنّهم يعرفون أوائل الأدلّة وهو سهل المأخذ ، لأنّا نقول : إن
كان ذلك حاصلا لكلّ مكلّف ، لم يبق من يوصف بالمؤاخذة ، فيحصل الغرض وهو سقوط الإثم
، وإن لم يكن معلوما لكلّ مكلّف ، لزم أن يكون الحكم بالشّهادة موقوفا على العلم
بحصول تلك الأدلّة للشاهد منهم ، لكن ذلك محال ، ولأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يحكم بإسلام الأعرابيّ من غير أن يعرض عليه أدلّة
الكلام ولا يلزمه بها ، بل يأمره بتعلّم الأمور الشّرعيّة اللّازمة له كالصلاة وما
أشبهها. انتهى كلامه رحمهالله.
أقول : وهذه
الكلمات لا تلائم ما يظهر من كلام العلّامة رحمهالله في «الباب الحادي عشر» وكلام الشهيد في «الألفيّة» ، وغيرهما ، إذ ظاهرهما عدم تحقّق الإيمان مع التّقليد.
__________________
ويظهر من الشيخ رحمهالله أنّ الاستدلال واجب على حدة ، فيلزمه الاكتفاء في أصل
الإيمان بالتّقليد ، يعني أنّ الإيمان يتحقّق بالتقليد وإن كان تارك الاستدلال
فاعلا للحرام ، وعلى هذا فنقول : قد بيّنّا أنّ للإسلام والإيمان معنيين :
أحدهما : ما يعامل
به معاملة المسلمين ، وهو ما ظهر في اللّسان.
وثانيهما : ما
ينفع في الآخرة ، وهو الإيمان القلبيّ.
فإن كان مراد
الشيخ رحمهالله بالعفو عن هذا الإثم أنّه لا مؤاخذة في تركه في الآخرة ،
فيلزم منه أن لا يتوقّف الإيمان الحقيقيّ النّافع في الآخرة على الاستدلال.
وإن كان مراده
أنّه لا يضرّ ترك الاستدلال بالإيمان الظّاهرىّ ، ولا يضرّ بالعدالة وإن كان
معاقبا في الآخرة غير منتفع بإيمانه فيها ، فيرد عليه أمران.
الأوّل : أنّ
موضوع المسألة هو الإيمان الواقعيّ ، فيحصل الخلط في المبحث.
والثاني : أنّ
المعتبر في العدالة هو الإيمان الحقيقيّ إلّا أن يكتفى فيها بظاهر الإسلام أو بحسن
الظّاهر.
ويمكن أن يقال في
تحقيق المقام على ما ذهب إليه الشيخ وتوجيه مقصوده : إنّ وجوب الاجتهاد والنّظر له
حيثيّتان ، من إحداهما يقصد حصول اليقين والخروج عن الشّك والظنّ ، ومن الأخرى
الوصول الى ما هو الحقّ ، فإنّهم لمّا بنوا أمرهم على وجوب العلم في أصول العقائد
في كلّ زمان الى أن آل الأمر الى دين الإسلام ، وصار العلم فيه مطلوبا والأمر
بالعلم لا يمكن إلّا مع الإمكان ، فخطاب العامّة بالعلم يستلزم عدم انفكاكه عن
النّظر والاجتهاد ، للزوم تكليف ما لا يطاق ، فوجوب النّظر والاجتهاد إنّما هو
ليتوصّل الى الإسلام ، ويتحرّز عن سائر الأديان لتأخّر الأمر بالعلم به عن سائر
الأديان ، فهذا الوجوب للتوصّل الى ما هو الحقّ من الأديان.
وأمّا الوجوب من
الحيثيّة الأخرى ، فهو : أنّ نفس العلم واليقين مطلوب لئلّا يحصل التّزلزل والشّك
، ثمّ إنّ التّوصّل الى المطلوب قد يحصل بشيء آخر ، فهو من هذه الجهة مسقط عن
التّكليف بالتّوصّل بالواجب الأوّل ، وإن كان ما يتوصّل به الآن حراما كما أشرنا
إليه في مباحث الأوامر ، فإذا أمكن الوصول الى الإسلام وما يتبعه بالجزم الحاصل من
التّقليد ، فسقط اعتبار وجوب النّظر التّوصّليّ الى الإسلام وبقي اعتبار وجوبه
الآخر.
فمراد الشيخ رحمهالله من كون هذا الخطأ موضوعا ، أنّه لا يوجب حينئذ اتّصاف
صاحبه بالفسق ، وذلك مثل : انّ إخراج الماء من البئر لأجل الوضوء واجب توصّليّ
عينيّ إذا انحصر الأمر فيه على الظّاهر ، فإن اتّفق أنّ المكلّف عصى وتكاهل عن ذلك
، فإذا بأحد جاء بالماء عنده وتوضّأ به وصلّى ، فلا مانع من القول بعدم المؤاخذة
على ترك ذلك الواجب.
وكذلك قال بعدم
المؤاخذة على تركه مع كونه واجبا لأجل نفس تحصيل اليقين من حيث هو أيضا ، واستدلّ
على مطلبه بالطّريقة المستمرّة الجارية مجرى الإجماع كما أشار اليه المحقّق رحمهالله وسنذكره أيضا.
فالحاصل ، أنّ
الكلام في هذه المسألة إمّا على نفس الأصول في مقابل الفروع ، وإمّا على خصوص
الأصول التي هي أصل دين الإسلام ، فخطاب كلّ المكلّفين بالنّظر والاجتهاد ليجتنبوا
عن غير الإسلام ويؤول الأمر الى الإسلام ، وخطاب المسلمين خاصّة به لأجل تحصيل
اليقين والفلاح عن الزّلل وعدم الابتلاء بسائر الأديان ، وكذا الكلام في سائر
الأزمان بالنّسبة الى الدّين المطلوب فيه.
فقولهم : يجب
الاجتهاد في أصول الدّين ، معنى يعمّ لجميع أهل الدّيانات مع قطع النّظر عن دين
خاصّ وطريقة خاصّة ، وإن كان غاية ما يؤول الى ما هو الحقّ
المطلوب.
وقولهم : يجب
العلم بأصول الدّين ، معنى يخصّ بأصول الإسلام ، وكذا كلّ دين مطلوب في زمانه
الخاصّ به.
وقولهم : ترك هذا
الواجب معفوّ وهذا الخطأ موضوع ، معنى خصّ أيضا بالإسلام ، بل بأخصّ منه ، فإن
أراد الشيخ من وضعه والعفو عنه في الآخرة أيضا ، فلا بدّ أن يقول : إنّ ترك هذا
الواجب صغيرة يكفّرها ترك الكبائر ، وإن أراد العفو عنه في الدّنيا ، بمعنى أنّه
يقبل شهادة صاحبه وتتّصف بالعدالة وإن كان فاعلا للكبيرة فهو غير مأنوس.
والظّاهر أنّه
أراد المعنى الأوّل ، هذا إن أردنا من لفظ الخطأ المعصية ، وإن أردنا الخطأ
المقابل للعمد ، فيختصّ الكلام بالغافلين من المقلّدين وهو الغالب فيهم ، ولكنه لا
يلائم الاستدلال بطريقة العلماء ، وخلاف ظاهر كلام الشيخ أيضا كما سنشير ، وإن كان
في بعض كلماته تصريح بعدم المؤاخذة عمّن أخذ الدّين بالتّقليد جهلا إذا وافق الحقّ
كما سنذكره أيضا. هذا غاية توجيه كلام الشيخ.
وأقول : الذي رأيته
في «العدّة» ممّا يناسب ما نقله المحقّق ، موضعان :
الأوّل : ما ذكره
في ذكر صفات المفتي والمستفتي ، فإنّه بعد ما ذكر عدم جواز التّقليد في الأصول ،
واستدلّ على جواز التّقليد في الفروع بالطّريقة المستمرّة وعمل أصحاب الأئمة عليهمالسلام وتقرير أئمتهم عليهمالسلام على ذلك.
وأورد عليه : أنّ
طريقتهم أيضا كان تقرير المقلّدين في الأصول على تقليدهم وعدم قطع الموالاة عنهم ،
وعدم التّنكير عليهم.
__________________
وأجاب عنه ، قال :
إنّ الذي يقوى في نفسي أنّ المقلّد المحقّ في أصول الدّيانات وإن كان مخطئا في
تقليده غير مؤاخذ به ، وأنّه معفوّ عنه ، وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطّريقة التي
قدّمناها لأنّي لم أجد أحدا من الطّائفة ولا من الأئمة عليهمالسلام قطع موالاة من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند
ذلك الى حجّة عقل أو شرع.
وليس لأحد أن يقول
: إنّ ذلك لا يجوز لأنّه يؤدّي الى الإغراء بما لا يؤمن أن يكون جهلا ، وذلك أنّه
لا تؤدّي الى شيء من ذلك ، لأنّ هذا المقلّد لا يمكنه أن يعلم ابتداء أنّ ذلك سائغ
له ، فهو خائف من الإقدام على ذلك ، ولا يمكنه أيضا أن يعلم سقوط العقاب عنه
فيستديم الاعتقاد ، لأنّه إنّما يمكنه أن يعلم ذلك إذا عرف الأصول ، وقد فرضنا
أنّه مقلّد في ذلك كلّه فكيف يعلم إسقاط العقاب؟ فيكون مقرّا باعتقاد ما لا يأمن من كونه جهلا أو باستدامته ، وإنّما
يعلم ذلك غيره من العلماء الّذين حصل لهم العلم بالأصول وسبروا أحوالهم ، وأنّ
العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ، ولا يسمع لهم ذلك إلّا بعد العلم بسقوط العقاب عنهم ، وذلك يخرجه من باب
الإغراء.
وهذا القدر كاف في
هذا الباب إن شاء الله تعالى.
وأقوى ممّا ذكرناه
أنّه لا يجوز التّقليد في الاصول إذا كان للمكلّف طريق الى العلم به ، إمّا على
جملة أو تفصيل ، ومن ليس له قدرة على ذلك أصلا فليس
__________________
بمكلّف ، وهو
بمنزلة البهائم التي ليست مكلّفة بحال .
والموضع الثّاني
ما ذكره في بحث أخبار الآحاد ، قال : فإن قيل : كيف تعوّلون على هذه الأخبار وأكثر
رواتها المجبّرة والمشبّهة والمقلّدة والغلاة والواقفية . الى أن قال : وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ، فالصّحيح الذي أعتقده
أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا في الأصل فهو معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم
الفسّاق ، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه ، على أنّ ما أشاروا إليه لا نسلّم أنّهم
كلّهم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدّليل على سبيل الجملة كما يقوله
جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة ، وليس من حيث يتعذّر عليهم
إيراد الحجج في ذلك ينبغي أن يكونوا غير عالمين ، لأنّ إيراد الحجج والمناظرة
صناعيّة ، وليس يقف حصول المعرفة على حصولها ، كما قلناه في أصحاب
الجمل ، الى آخر ما ذكره.
وأقول : يرد على
الشيخ رحمهالله أمور :
الأوّل : إنّ
كلامه مستلزم للقول بأنّ الاستدلال واجب آخر والمعرفة واجب آخر ، وليس التّكليف هو
المعرفة الحاصلة بالاستدلال ، كما يظهر من الآخرين.
ويمكن دفعه : بأنّ
الشيخ رحمهالله يلتزم ذلك ، ولا يلزم من القول به مخالفة لاجماع
__________________
ولا الدّليل
القاطع [لدليل قاطع].
والثّاني : إنّ
وضع الخطأ من مقلّدة أهل الحقّ دون غيرهم يستلزم الظّلم والقبح ، لأنّ المقلّدين
إن كانوا غافلين عن وجوب النّظر والاستدلال ، ومطمئنين بما أخذوه غير شاكّين ،
فكلّهم متساوون في العفو لئلّا يلزم الظّلم ، فلا مؤاخذة على مقلّدة غير أهل الحقّ
كما أشار إليه الشيخ في آخر كلامه الأوّل لمقلّدة أهل الحقّ ، وإن كانوا متفطّنين
لوجوب الاستدلال ، ومع ذلك تركوه ، فهم متساوون في فعلهم الاختياريّ أيضا بالفرض ،
والفعل الاضطراريّ لا يصير منشأ لثواب ولا عقاب بالاتّفاق.
فإن قيل : الميل
الى دين الإسلام فعل اختياريّ ، فمقلّدة أهل الحق أخذوا الحقّ باختيارهم لا
بالاضطرار.
قلنا : ليس هذا
الاختيار إلّا من جهة حسن ظنّ بهم ، واختيار جعل حسن الظنّ مناطا للاجتهاد مشترك
بين الفريقين ، فما وجه جعل ذلك في حقّهم موجبا للخلود في الجنّة ، وفي حقّ
الأغيار موجبا للخلود في النّار ، إذ الفريقان كلاهما بعد التّفطّن لوجوب النّظر
والاستدلال إمّا يبقيان على اطمئنانهم السّابق ، أو يتزلزلان فيه. فمنشأ بقاء كلّ
منهما على الحال السّابق في الأوّل ، وهو بقاء الاطمئنان الحاصل من حسن الظنّ
الموجود فيهما ، فيلزم التّساوي.
وفي الثّاني
تقصيرهما وعدم الاعتناء بأمر دينهما ، وهما متساويان فيه أيضا ، والإصابة
الاتّفاقيّة لا يفيد شيئا مع أنّه لا يبقى حينئذ إصابة بسبب التّزلزل.
والقول بأنّ الكفر
هو الموجب لدخول النّار لا عدم الإسلام ، وغاية الأمر هنا عدم الإسلام في جانب
المقلّد للحق ؛ غير وجيه ، لأنّا مع قطع النّظر من أنّ الكفر هو عدم الإسلام لا
أمر وجوديّ كما ذكره الأكثر.
نقول : إنّ الكفر
في جانب الفريق الآخر أيضا غير متحقّق لتزلزله ، فغايته عدم الإسلام وعدم الكفر.
وإن أراد الشيخ
أنّه يضرّ بالعدالة وقبول الشّهادة وهو من الأحكام الوضعيّة التي لا دخل فيها
للثواب والعقاب ، فهو مع أنّه غير ظاهر كلامه لا يصحّ أيضا ، إذ العدالة مبنيّة
على عدم الفسق الذي هو الخروج عن الطّاعة المستلزم للعقاب.
الثّالث : إنّ ما
ذكره من تقرير الأئمّة عليهمالسلام والعلماء إيّاهم على تقليدهم يستلزم عدم النّهي عن المنكر
، فإن كان مراده من وجوب الاستدلال السنّة المؤكّدة ، فهو لا يلائم ظاهر ما اختاره
من الوجوب في هذا البحث ، ولا يلائم العفو والوضع ، وإن أراد الوجوب المصطلح ، فلا
ريب أنّ ترك الواجب ممّا يجب النّهي عنه على الأئمّة عليهمالسلام والعلماء ، وإن كان المكلّف جاهلا وغافلا ، لأنّ فائدة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والامام عليهالسلام والعالم هو تكميل نفوس العامّة ، وهو لا يتمّ إلّا
بالإبلاغ ، فكيف يسكت الأئمة عليهمالسلام والعلماء عن ذلك مع الغفلة والجهالة ، فضلا عن التّفطّن
والتّنبيه.
وبهذا يظهر ضعف ما
دفعه رحمهالله من نفسه من لزوم الإغراء بالجهل أيضا.
الرّابع : إنّ
إجماعهم على عدم قطع الموالاة ، بل وقبول الشّهادة لا يدلّ على أنّ ترك هذا الواجب
غير مضرّ ، فلعلّه كان لتجويزهم التّقليد واكتفائهم بالاطمئنان الحاصل منه.
سلّمنا ، لكنّه
لعلّه كان لمعرفتهم من حالهم أنّهم يعلمون الأدلّة الإجماليّة الممكنة حصولها
لأغلب النّاس ، كما مرّ في حكاية العجوز والأعرابيّ.
وهناك وجوه أخر من
الاحتمالات لقبول الشّهادة وعدم قطع الموالاة لا يمكن معها دعوى الإجماع ، على أنّ
القبول من جهة العفو والوضع ، مثل أنّ القضاة كانوا يعملون بعلمهم بالواقعة ، أو
باقتران شهادتهم بما يفيد القطع من القرائن ، أو من
جهة خوف أو تقيّة
أو نحو ذلك ، ولا حجّة فيما نقله إلّا إذا ثبت به إجماع ، وأنّى له بإثباته.
الخامس : إنّ ما
ذكره من وضع الخطأ لا بدّ أن يختصّ بالعدول التّاركين للكبائر ، وإلّا فلا معنى
للوضع ، ويرجع الى عدم كونه معصية حينئذ ، وهو عدول عن القول بعدم جواز التّقليد ،
فإطلاق القول بالوضع محلّ نظر.
وأمّا المحقّق رحمهالله ففي كلامه إشارة الى مذهب الشيخ رحمهالله ، وفي كلامه مناقشات لا يهمّنا ذكرها ، والاستدلال الأخير
المذكور في كلامه غير صحيح ، فإنّ حكم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بإسلام الأعرابيّ وعدم إلزامه بالاستدلال ، يدلّ على عدم
وجوب الاستدلال لا على العفو.
وأيضا ربّما كان
ذلك لأجل معرفته صلىاللهعليهوآلهوسلم من حاله أنّ إيمانه كان من الدّليل ، إمّا من جهة عقله ،
أو من ملاحظة معجزاته ، أو غير ذلك.
وأيضا قد بيّنّا
سابقا أنّ الحكم بالإسلام له معنيان : أحدهما لا يتوقّف على الإذعان ، فضلا عن
الاستدلال ، فلعلّ الاكتفاء كان لإدخاله في زمرة المسلمين أوّلا ثمّ تتميم إيمانه
وتشييده وتسديده على التّدريج ، حسب ما اقتضاه المصالح.
وحاصل تفصيل أحوال
المكلّفين ، أنّ الجاهل والغافل رأسا أو في كيفيّة الأخذ بالاجتهاد معذور ، ولا
فرق فيه بين المحقّ وغيره ، والفرق بينهما مخالف لقواعد العدل وللآيات والأخبار ،
وقد بيّنّا سابقا وذكرنا أنّ الأحكام الثّابتة للكفّار في الدّنيا لا تنافي عدم
تعذيبهم على الكفر في الآخرة ، فهم في الآخرة من المرجون لأمر الله ، فلعلّه
يكلّفهم في الآخرة ويعامل معهم بوفق حالهم حينئذ.
__________________
وكذلك ثبوت أحكام
الإسلام لمن أظهره وإن لم يذعن به في قلبه ولم يتيقّن به ، لا ينافي عذابهم في
الآخرة ، وقد أشرنا أنّ إطلاق كلام العلّامة وغيره من العلماء لا بدّ أن ينزّل على
غير الغافل والجاهل.
وممّا يشهد بذلك
أنّ بعض المتكلّمين صرّح بأنّ التّكليف بالمعارف إنّما يكون إذا أمكن ، سواء وصل
الى حدّ البلوغ الشّرعيّ وتجاوز عنه بكثير ، أم لم يبلغ بعد.
وقال بعض الفقهاء
: إنّ وقت التّكليف بالمعارف هو البلوغ الشّرعيّ للعبادات ويجب المبادرة بتحصيل
المعارف في أوّل البلوغ.
وعن الشيخ رحمهالله : انّ التّكليف بالمعارف في الذّكران هو بلوغ عشر سنين إذا
كان عاقلا ، والأخبار الدالّة على رفع القلم عن الصّبيّ حتّى يحتلم ، دالّة على ما
ذكره بعض الفقهاء ، ومطابقة لأصل البراءة.
وقد يستشكل في
الفرق بين الذّكور والإناث في البلوغ الحاصل بالسّنّ ، مع أنّها أنقص عقولا وأضعف
نفسا ، وهذا الإشكال مشترك اللّزوم في الفروع والأصول.
والجواب : انّ
التّكليف إنّما هو دون الطّاقة ، بل الوسع.
والفرق مع الطّاقة
والوسع لعلّه لكونهنّ أحقّ بتعجيل الحمى لنقصان عقولهنّ ، فعلمهنّ بعدم التّكليف
أدعى لهنّ الى المعاصي من الذّكور ، ولأنّ الذّكور لكونهم أكثر موردا للمحن
والمصائب وأثقل أحمالا ، لتحمّلهم أحمال الإناث وتكفّلهم مئونتهنّ لا بدّ لهم في
تحصيل التّدرّب في أمر المعاش ، من فرصة ليكمل لهم فيه التّجارب.
وبالجملة ، ما
يفعله الحكيم لا يخلو عن حكمة ، وإن لم تبلغه عقولنا.
والحقّ والتّحقيق
، أنّ مراتب الإيمان مختلفة باختلاف استعدادات المكلّفين ،
وكل ميسّر لما خلق
له ، و : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، ولا يكلّفها إلّا ما آتاها ، (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). والآيات والأخبار الدالّة على رفع التّكليف عن الجاهل
والغافل كثيرة ، ذكرنا شطرا منها في مباحث الأدلّة العقليّة.
وأمّا غير الغافل
والجاهل ، فعلى القول بعدم جواز التّقليد إن كان مقلّدا في الحقّ جازما به وعالما
بوجوب النّظر تاركا للاستدلال مع الإصرار ، فهو مؤمن فاسق ، إلّا على قول الشيخ
كما بيّنّا.
والقول بالكفر كما
يظهر من ظاهر العلّامة وغيره ، بعيد غاية البعد إن أراد به عدم الإيمان الواقعيّ ،
وإن أريد به عدم إجراء حكم المؤمنين عليه في الدّنيا ، فلا يصحّ جزما ، لأنّه ليس
أدنى من المنافق.
وأمّا بدون
الإصرار والرّجوع الى الاستدلال ، فلم نحكم بفسقه.
والحاصل ، أنّ
المقلّد الجازم على القول بعدم جواز التّقليد ، ينبغي أن يكون مؤمنا يعامل معاملة
المؤمنين في الدّنيا ، وأمّا في الآخرة فيمكن أن يكون من جملة المرجون لأمر الله
تعالى كسائر المستضعفين من المسلمين ، للإشكال في الفرق بينه وبين المقلّد في
الباطن ، ويمكن أن يحكم بعدم العذاب من جهة الإيمان ، وهو مقتضى ما حقّقناه سابقا
، ولكنّه يجري في سائر الفرق أيضا.
وأمّا المقلّد
للحقّ ، الظّانّ العالم بوجوب النّظر الغير المصرّ ، فالظّاهر أنّه يعامل
__________________
في الدّنيا معه
معاملة المؤمنين ، وفي الآخرة من المرجون لأمر الله أيضا.
وأمّا المقلّد في
الباطل الجازم إذا علم بوجوب النّظر وأصرّ في التّرك عنادا ، فهو من أكفر الكفرة
في الدّنيا والآخرة ، وكذلك هو كافر إذا لم يصرّ ولم يعاند. وإذا لم يعلم بوجوب
النّظر ، فهو محكوم بالكفر في الدّنيا ومرجوّ في الآخرة ، ومنه يظهر حكم الظانّ.
وأمّا على القول
بجواز التّقليد ، فلا إشكال في إيمان القسم الأوّل من المقلّد في الحقّ الجازم به ،
لحصول المقصود من الإيمان ، وهو الاطمئنان بالعقائد الحقّة التي بها كمال النّفس
من دون ملاحظة وجه حصولها ، إذ وجه الحصول لا ينحصر في البرهان والحدّ وغيرهما ،
وهو مقتضى إطلاقات الآيات والأخبار.
وأمّا الظانّ كذلك
، فهو مسلم في الظّاهر ومرجى في الآخرة.
وأمّا المقلّد
الجازم في الباطل من دون ظهور الحقّ ولا عناد ، فيجري عليه أحكام الكفر في الدّنيا
كما مرّ ، ولكنّه مرجى في الآخرة بعدم إتمام الحجّة عليه ، وكذلك الظانّ.
وأمّا المعاند
المصرّ ، فهو كافر في الدّنيا والآخرة ، جازما كان أو ظانّا.
هذه أحكام
المقلّدين ، فلاحظها ولاحظ ما قدّمنا في المقدّمة ، وفي تضاعيف الكلام يظهر لك حكم
الفسق والكفر والإيمان في الجميع.
وأمّا المجتهدون
فالمشهور أنّ المصيب في العقليّات واحد والآخر مخطئ آثم ، وقد مرّ الإشارة الى
الكلام فيه ، وسنبيّنه في القانون الآتي إن شاء الله تعالى.
الثّالث
المراد بأصول
الدّين هي أجزاء الإيمان ، وهي عندنا خمسة ، وهي :
المعرفة بوجود
الباري الواجب بالذّات ، المستجمع لجميع الكمالات ، المنزّه عن النّقائص.
ويرجع تفصيل هذا
الإجمال الى الواجب الوجود ، العالم القادر المنزّه عن الشّريك والاحتياج ، وفعل
القبيح واللّغو ، فيندرج في ذلك العدل والحكمة ، فلا حاجة الى إفراد العدل إلّا
لمزيد الاهتمام به ، ولذلك جعلوه أحد الأصول الخمسة.
ثمّ التّصديق
بنبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وما جاء به تفصيلا فيما علم به ، وإجمالا فيما لم يعلم.
والظّاهر أنّه لا
يجب تحصيل العلم بالتّفصيل في تحقّق الإيمان وإن كان قد يجب كفاية لحفظ الشّريعة.
والمراد بالإذعان
الإجماليّ ، أن يوطّن نفسه على أنّ كلّ ما لم يطّلع عليه ممّا جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يذعن به إذا اطّلع عليه.
وهكذا الكلام فيما
علم به إجمالا من التّفاصيل ولم يعلم كيفيّته مثل الحساب والصراط والميزان ،
وأمثال ذلك ، فيكفيه الإذعان به في الجملة ، ولا يجب معرفة كيفيّتها ولا الإذعان
بما لم يفد اليقين في كيفيّتها من أخبار الآحاد.
ثمّ إنّ المعاد
الذي جعلوه أحدا من الأصول الخمسة يمكن اندراجه فيما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم خصوصا الجسمانيّ ، وإن قلنا بحكم العقل بثبوته في الجملة
كما هو الظّاهر الواضح ، وقد أشار إليه الكلام الإلهيّ حيث قال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً) الآية. فيمكن جعله أحدا من الخمسة بالاستقلال أيضا ، ولكن
لا بخصوص الجسمانيّ.
والحقّ ، أنّ
العقل قاطع به في الجملة ، والشّرع صادع لجسمانيّته بالبديهة.
ثمّ الإذعان
بإمامة الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام.
هذا إذا أردنا
بيان ما يجب علينا اليوم ، وإن جعلنا الكلام في أصول الدّين مطلقا ، فلا يخصّ
الكلام بنبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم وأئمّتنا عليهمالسلام ، فإنّ البحث عن وجوب النّظر في الأصول لا يختصّ بدين دون
دين ، ولا زمان دون زمان.
وأمّا النّظر في
جزئيّات أحوال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والوصيّ عليه الصلاة والسلام مثل كونهم معصومين وكون
نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم خاتم الأنبياء ومبعوثا على الثّقلين ، وكذلك عصمة الأئمة عليهمالسلام ، وكونهم منصوبين بالنصّ لا باختيار النّاس ، وأنّ علمهم
لم يكن من اجتهاد ، وأنّ انقراضهم بانقراض الدّنيا ونحو ذلك ، فيكفي فيها الإذعان
الإجماليّ بالمعنى المتقدّم.
والظّاهر أنّ
الاكتفاء في الإسلام بالشّهادتين إنّما هو لاندراج غيرهما كما لا يخفى على
المتأمّل ، سيّما في أوّل الإسلام ، فقد يختلف الحال بالنّسبة الى الأشخاص
والأحوال ، ففي زمان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان التّكليف الأوّل هو الإقرار بالشّهادتين ، وكان يحصل
به الإيمان لتضمّنهما إجمالا لغيرهما مع عدم الحاجة لمعرفة الوصيّ حينئذ ، ولكون
المعاد من لوازم الاعتقاد بالرّسالة ، وسائر العقائد كان يحصل لهم بعد ذلك
بالتّدريج ، ومن التّأمّل في ذلك يظهر حال زماننا أيضا بالنّسبة الى الجزئيّات
المتعلّقة بتمام الأصول الخمسة ، مثل معرفة التّجرّد ، وعدم
__________________
إمكان الرّؤية ،
وعدم الجسميّة ، وعينيّة الصّفات ، وعدم كون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ،
وصفات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وصفات الإمام عليه الصلاة والسلام ، وجزئيّات أحكام ما
بعد الموت ، وتفاصيل وقائع المعاد ، فلا يجوز الحكم بكفر من لم يجمع جميع المراتب
في أوائل الأمر حتّى تتمّ عليه الحجّة ويظهر له الحقّ.
ثمّ إنّهم جعلوا
وجوب الإذعان بضروريّات الدّين من أجزاء الإيمان وإنكارها كفرا ، ولا حاجة الى ذلك
بعد جعل الإذعان بما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم واجبا.
والكلام في
الاستدلال والنّظر في هذا الجزء يرجع الى الاجتهاد في النبوّة ، إذ الدّليل على
حقيّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وصدقه ، هو الدّليل على حقيّة ما علم أنّه ممّا جاء به ،
ولكنّ الإشكال في تحقيق ذلك.
وأنّ الضروريّ
الذي يستلزم الكفر ما هو.
والضّروريّات إمّا
من باب الاعتقادات ، وإمّا من باب الأفعال والأعمال. وقد وقع الاختلاف في كثير
منها ، وأكثرها مذكورة في كتب الفقهاء متفرّقا.
وقد يقع الإشكال
في بعض ما فهم حكماء الإسلام والصّوفيّة وادّعوا كون ما فهموه مطابقا للشرع ،
والإشكال حينئذ في مقامين :
أحدهما : أنّ ما
فهموه مخالفا لما فهمه أهل الشّرع السّالكون على ظاهر النّصوص ، هل يوجب عدم كون
ما اقتضاه الظّواهر ضروريّا أم لا؟
الثّاني : أنّه
على فرض كون ما اقتضاه الظّواهر بديهيّا لأهله ، هل يوجب تكفير من ذهب الى خلافه
أم لا؟
ولمّا كان معيار
التّكفير في إنكار الضّروريّ هو إنكار صدق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّه ينكر ما يعلم أنّه ممّا أخبر به ، فما لم يعلم أنّ
المنكر عالم بأنّه ممّا أخبر به ، لا يمكن تكفيره. ومعرفة أنّ ذلك الشّيء ممّا
يعرفه كلّ أحد ، دخل في الدّين أيضا من
المسائل
الاجتهادية ، ولذلك اختلف العلماء في الضّروريّات ، فربّما يدّعي أحدهم كون شيء
ضروريّا بعنوان القطع ، وآخر يحكم بعدمه ، وربّما يحكم بكون خلافه ضروريّا ،
وربّما يقول بعضهم : الأظهر انّ هذا ضروريّ ، كتحريم تقبيل النّساء الأجانب ،
والغلمان مع الشّهوة ، وتحريم الجمع بين الأختين ، وكون الرّيح ناقضا للوضوء ، أو
يقول : إنّه ضروريّ على احتمال ، مثل حرمة منفعة القرض ، ورجحان مطلق صلة الرّحم ،
ورجحان السّلام وجوابه.
فالحكم بكون شيء
ضروريّا ، من المسائل الاجتهادية ، فيجب على من يحكم بكفر أحد من جهة إنكار
الضّروريّ أن يعلم من حال المنكر أنّه عالم بأنّه من الله تعالى ومن الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وينكره.
وهذا العلم إمّا
يحصل بالخصوص من حال المنكر ، أو من إقراره ، أو من جهة الحدس الحاصل له بملاحظة
حال المكلّف وحال التّكليف ، ولا بدّ أن يكون الحدس قطعيّا لئلّا يتبادر بتكفير
مسلم ، سيّما مع قولهم عليهمالسلام : «ادرءوا الحدود بالشّبهات» . ثمّ إذا أظهر المنكر العذر واحتمل في حقّه الشّبهة ، فلا
إشكال.
وحينئذ نقول : إنّ
الاشتباه في كون المسألة من دين النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إمّا من جهة عدم الوصول إليه من جهة مانع من الاعتزال عن
الإسلام بسبب أسره أو نحوه ، أو عدم حصول العلم بسبب كون الأخبار آحادا ، وإمّا من
جهة عدم فهم ذلك من كلامه ، وإن بلغ الكلام في حدّ التّواتر والقطع.
فالأوّل : مثل بعض
خصوصيّات المعاد وكيفيّتها الواردة من جهة الأخبار الآحاد ، والمسائل الظّاهرة لمن
كان أسيرا بين الكفّار.
__________________
والثّاني : مثل
كون المراد من جسمانيّة المعاد هو كونه من باب عالم المثال المرئيّ في حال الرّؤيا
كما يقوله الإشراقيّون ، وكون المراد ممّا ذكره الشّارع في بيان المعاد بلفظ
الجنّة والنّار والحور والقصور والثّمار ، هو التّشبيه والتّقريب للأفهام الطّاهرة
[الظّاهرة] ، وإلّا فالمراد في الحقيقة هو اللّذّات والآلام الرّوحانيّة الحاصلة
للنفس بعد خراب البدن بسبب تذكّرها للأعمال الحسنة والسّيّئة في دار الدّنيا ، كما
يقوله المشّائيّون ، ومثل كون المراد من الأخبار الدالّة على حدوث العالم هو
الحدوث الذّاتيّ.
أمّا الأوّل : فلا
إشكال فيه إذا لم يصل إليه بحيث يفيد العلم ، وأمّا الثّاني فهو المزلقة العظمى
والمزلّة الكبرى ، فإن فرض لهم عدم التّقصير في الاجتهاد وأداهم النّظر الى ذلك ،
فلا يجوز تكفيرهم ، ولا هم يعذّبون في الآخرة بذلك.
أمّا عدم التّعذيب
في الآخرة ، فللزوم الظّلم على الله تعالى كما بيّنّاه سابقا.
وأمّا عدم
التّكفير وعدم ترتيب أحكام الكفر عليهم في الدّنيا ، فلأنّ المعاد الذي هو أحد
الأصول الخمسة بالاستقلال مثلا ، هو مطلق المعاد الذي يمكن أن يستدلّ عليه بالعقل
القاطع أو بانضمام القدر المسلّم من الشّارع أيضا.
وأمّا خصوص
الجسمانيّ ، فالحكم بكفر منكره إنّما هو من جهة استلزامه لإنكار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بدعوى كونه ضروريّا منه ، وأنّ المنكر يعلم أنّه دينه
وينكره ، وقد فرضنا عدم علمه بذلك.
فإن قلت : أنّه
مقصّر في النّظر بسبب ما أشرب في قلبه قواعد الحكمة ، وحسب ما فهمه من ضوابطهم ،
فهو بسبب هذه الشّبهة لا يفهم ذلك من كلام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويحمله على ما فهمه.
قلت : مع أنّ هذا
خلاف الفرض ، إنّما يستلزم ذلك فسقه من حيث التّقصير في فهم الكلام ، وعدم العلم
على مقتضاه في العلم أو العمل ، لا كفره المستند الى إنكار ما قاله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع علمه بأنّه ممّا قاله.
والحاصل ، أنّ
أصول الدّين ، بعضها من أصول الدّين بالاستقلال ، وبعضها من جهة أنّ إنكاره يستلزم
إنكار أصل من أصول الدّين ، فالإيمان بالله والرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم واليوم الآخر ، في الجملة هو أصل الإيمان.
ومن فروع هذه
الأصول الإيمان بما علم صدوره من الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم علما كان أو عملا.
ثمّ استمع لما
يتلى عليك في تحقيق هذا المقام لئلّا يختلط عليك الأمر في فهم ضروري الدّين وغيره
، ومعياره وملاحظة حاله مع ما دلّ العقل على خلافه.
فنقول : إنّ
الضّرورة إمّا يحصل بتواتر الأخبار الى أن يحصل بالبداهة ، أو يحصل بالتّسامع والتّضافر ، وأكثر أخبار البلدان
والسّلف من قبيل الثاني ، كما أشرنا في بحث الخبر المتواتر ، وما بلغ إلينا
بالبديهة من دين نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم أكثرها من باب القرائن والتّسامع والتّضافر ، فإنّ علمنا
بوجوب الصلاة الخمس في ديننا يحصل بملاحظة فعل النّاس ونسبتهم ذلك الى الدّين ،
وإن لم ينقل هذه الطبقة من سلفهم ، وهكذا الى زمان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على شرائط التّواتر ، بل وإن لم ينقله واحد بطريق واحد
إليه أيضا ، فضلا عن التّواتر. فكما أنّ الأفعال قد تصير ضروريّا ،
__________________
فقد تصير العقائد أيضا ضروريّا ، فقد ترى الأمّة عوامّهم وخواصّهم
يقولون : إنّ بعد الموت حياة وجنّة ونارا وحورا وقصورا ، ويريدون به ما يفهمونه من
ظواهره ، فإذا ضممنا هذا الى الظّواهر الواردة في الكتاب والسنّة المتجاوزة حدّ
الإحصاء والحصر ، يحصل لنا القطع بأنّ ذلك دين نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فمن قال : إنّه لا
حياة بعد الموت ، أو لا جنّة ولا نارا ، مع علمه بأنّ هذا القول صادر من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو مكذّب له جزما ، وهو كافر.
وأمّا من يقول :
إنّ كلّ ما أخبره النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حقّ ، لكن ما يفهمه العوامّ ويعتقدونه إنّما هو مطابق لبعض
الخواصّ دون جميعهم ، وإنّ هنا جمعا وجمّا غفيرا من الخواصّ يعتقدون بذلك إجمالا ،
لكنّهم يقولون : إنّ المراد من تلك الظّواهر هو التشبيه أو المثال كما تقدّم ، وإنّ ما فهمه العوامّ
مطابقا لبعض الخواصّ لا حجّة فيه.
فجوابه من وجهين :
الأوّل : أنّ الحجّة في فهم الكلام هو مطابقة تفاهم المخاطبين ، ومقتضى الحكمة أنّ
الرّسول المبعوث على الكافّة ، يتكلّم على متفاهم الكافّة ، وحملة الآيات والأخبار
جلّهم ، بل كلّهم كانوا يفهمون من تلك الظّواهر ما هو الظّاهر منها ونقلوه الى
الطّبقة الأخرى مريدين ذلك منها ، ملقين إليهم مقاصدها ، الى أن وصل الى أرباب
التّصانيف في الحديث ، ثمّ إلينا ، فالحجّة إنّما هي فهم حاملي تلك الآيات والأخبار ومخاطبيها.
والقول بأنّ هؤلاء
العلماء الصّلحاء الفحول المتّقين لم يكونوا أهلا لتلك
__________________
الأسرار ولكنّهم
على مقتضى : ربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه ، قد حملوا هذه الظّواهر إلينا ونحن
أهل السّرائر ، فنحن مكلّفون بما نفهمه منها ؛ محض دعوى خالية عن دليل ، بل نشاهد
أنّ كثيرا من هؤلاء الأجلّة أعظم شأنا وأعلى مكانا وأكثر استعدادا من أكثر من
يدّعي أنّه من أهل هذه الأسرار ، ومع ذلك ليس عندهم ممّا ذكروه عين ولا أثر.
الثاني : أنّ
الحكمة في وضع الألفاظ هي إفادة المعاني الحقيقيّة ، وإرادة المجاز والبطون لا
يصحّ إلّا مع نصب القرينة ، فيرجع الكلام الى دعوى أنّ ما حكمة عقولنا القاطعة وبراهيننا السّاطعة قرينة ، وإنّما هو الذي
دعانا الى حمل الظّواهر على ما أردنا.
وفيه : أنّ هذا
ليس قولا بالشّريعة ومتابعة لها ، بل إنّما هو تفضّل منهم على الشّارع حيث لم
يهملوا كلامه ولم يغلّطوه ، فذلك منهم منّة عظيمة على الشّارع ، فيرجع الكلام الى
بيان ما أسّسوه وتتميم ما ادّعوه ، لا الى أنّ الشّارع أراد هذا وأراد ذلك ، فإن
قام البرهان القاطع على شيء ممّا خالفت الظّواهر ، فنحن أيضا متّبعوه كما نؤوّل
متشابهات آيات الجبر والتشبيه ونخرجها عن ظاهرها لكون قبح الظلم والتجسّم قطعيّا
يقينيا.
وأمّا مثل قوله
تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني العظام الرّميم ، فلا برهان قطعيّ يدلّ على خلافه حتى
نؤوّله.
والحاصل : أنّ ما
ورد في الشّرع ، وإن كان في نظر العقل ضعيفا غاية الضّعف ،
__________________
فلا يجوز العدول
عنه ما بقي له احتمال الصحّة ، وإن كان في غاية الضّعف ، ويجب طرح ما عارضه من
الأدلّة العقليّة ، وإن كان في غاية القوّة ما لم يبلغ حدّ اليقين ، وأنّى لهم
بإثبات اليقين في استحالة المعاد الجسمانيّ أو عذاب القبر ، أو أمثال ذلك ، وذلك
لأن يكون الشّارع صادقا مسلّم ، وكون هذه الظّواهر كان صادرا منه مسلّم بالفرض ،
والعمل على مقتضى الظّواهر هو مقتضى حكمة وضع الألفاظ ، ومقتضى البعث على الكافّة.
فإن قلت : إنّ حمل
اللّفظ على المجاز بالقرينة أيضا مقتضى الوضع وطريقة العرب ، والقرينة هو ما
فهمناه من جهة العقل.
قلت : إن كان ما
فهمته مرجّحا لإرادة المجاز وإن احتمل غيره حتّى يجعل ذلك في مقابل إرادة الحقيقة
، ويقدّم ذلك المرجّح على مرجّح الوضع ، فهذا يؤول الى جعل الأصول من قبيل الفروع
، مبنيّا على الظّنون والمرجّحات.
وإن قلت : لا
يحتمل غيره.
فالكلام معك في
إثبات البرهان على استحالة مقتضى الظّاهر.
فإن قلت : نعم ،
ولكن من أين حصل لك اليقين من جهة الظّواهر مع أنّك معترف بكونه ظاهرا ، فأنت أيضا
على ظنّ من دعواك؟
قلت : إنّ تعاضد
هذه الظّنون قد يفيد القطع ، مع قطع النّظر عن ملاحظة العمل والإجماعات المنقولة ،
والطّريقة المستمرّة الحاصلة لأرباب الدّين ، بل سائر الأديان والملل. وذلك كما
يحصل العلم بالمراد في الأعمال كالصّلاة والحجّ وغيرهما ، فإنّها أيضا محتملة لأن
يراد منها أسرار ومطالب خفيّة غير هذه
الحركات التي
يفعلها النّاس ، فلعلّ المراد من الصّلاة إظهار العبوديّة ، ومن
الرّكوع إظهار محض الخشوع والتّضعضع ، ومن السّجود إظهار الذّلّة وأنّه تعالى خلقنا من تراب ،
وهكذا. فلمّا تلقّت الأمّة الآيات والأخبار الواردة فيها ، فاهمين منها هذه
الأعمال ، عاملين عليها الى زماننا هذا ، حصل لنا القطع بالمراد منها ، فكذلك
إخباره عن سؤال القبر والكتاب ، والحساب والميزان ، والجنّة والنيران.
والحاصل ، أنّ ما
ورد في المعاد الجسمانيّ من الآيات والأخبار والإجماعات بحيث لا يحتمل إنكارها
إلّا مكابر ، والمنكرون برهة قليلة منتهية طريقتهم الى منكري الشّرائع رأسا من
حكماء يونان وأمثالهم ، فالمنصف المتأمّل إذا لاحظ الطّريقة وأربابها ، والمخالفين
لها وطرائقهم ، لا يشتبه عليه أنّ ذلك لا يوجب قدحا وتشويشا ، وذلك يظهر [أيضا]
نظير ما أوقع شبهة في أنّ الأرض متحرّكة والسّماء ساكنة ، في مقابل ما دلّ على حركة الأفلاك من الحسّ والعقل
والنقل.
وبعد اللّتيّا
والتي ، فالكلام على هؤلاء هو ما تقدّم من أنّ ما يختارونه من مخالفة أصول الدّين
من باب ما يؤول الى إنكار أحد الأصول بالذّات ، كالنّبوّة مثلا ، أو الى إنكار ما
يستلزم إنكاره مثل إنكار ما أخبره النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عالما بأنّه من النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والأوّل مع
التّقصير مستلزم للكفر في الدّنيا والعذاب في الآخرة ، وبدون
__________________
التّقصير مستلزم
للأوّل لا الثاني.
وأمّا الثاني فمع
عدم التّقصير ، لا كفر ولا عذاب ، ومع التّقصير لا يستلزم الكفر ، ولكنّه يوجب
المؤاخذة والعذاب ، فلا بدّ لمن يحكم بكفر منكر الضّروريّ ، من التأمّل التامّ.
فتأمّل حتّى يظهر
لك الأمر ولا يختلط ، فإنّ المقام محلّ الاشتباه.
ومن جملة موجبات
الاشتباه في هذا المقام : أنّ قولهم : إنكار الضّروريّ كفر ليس بلفظ القرآن ولا
بلفظ الحديث حتّى يرجع فيه الى الفهم العرفيّ.
ويقال : إنّ كلّ
مجتهد يظهر له أنّ الأمر الفلانيّ ضروري الدّين ، بمعنى أنّه ممّا لا يشتبه على
أحد من أهل الدّين ويحصل له الظنّ بذلك ، فيجب أن يعمل بظنّه ويحكم بالكفر ، ولا
يجب عليه التفحّص عن الشّخص الخاصّ المنكر له ، هل هو ممّا يحتمل في حقّه الشّبهة
أم لا ، بل هذا اللّفظ معبّر عمّا استفاده العقل من أنّ من أنكر ما علم أنّه من
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فهو منكر للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا يمكن فيه أن يقال بمثل ما يقال في الصّورة الأولى ،
بل لا بدّ هنا من العلم بكون الشّخص منكرا لما أخبره النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو لا يحصل إلّا بمعرفة حاله بالخصوص ، إذ هو ليس من
الألفاظ التي ورد بها الشّرع حتّى يكفي فيه الظنّ بالمدلول كسائر موضوعات الألفاظ
، ولا يحضرني الآن خبر دلّ على ذلك. وإجماعهم المستفاد من كلامهم ، قابل للقدر
المشترك بين الأمرين ، والإجماع على اللّفظ غير معلوم ، بل هذا اللّفظ اسم لما في
نفس الأمر ، كما هو التحقيق ، فما لم يظهر كونه كذلك ، فالأصل عدم ترتّب الحكم
عليه ، سيّما مع قولهم عليهمالسلام : «ادرءوا الحدود بالشّبهات».
__________________
وبالجملة ، الذي
يحسم الإشكال هنا ، بيان أنّ ظنّ المجتهد بأنّ هذا ضروريّ لا يخفى على الأمّة ،
يكفي في حكمه بتكفير من لا يعلم حاله بالخصوص منهم ، أو لا بدّ له من العلم
بالإنكار بالخصوص ، ولو من جهة ملاحظة القرائن ، من ملاحظة خصوص الشّخص ، وخصوص
البلد أو الوقت والأصل ، ونفي العسر والحرج ، ودرء الحدود بالشّبهة يقتضي اعتبار
العلم.
واستقصاء الكلام
في هذه المباحث له محلّ آخر ، لكنّا رأينا أن نذكر بعضها ، ونبيّن بعض ما أهملوه ،
لئلّا يفوتنا فوائده ، وعسى أن ينتفع بها إخواننا المؤمنين ، ويكون ذخيرة لنا يوم
الدّين.
فائدة
اعلم ، أنّ ضروري
الدّين كما يستلزم إنكاره الخروج عن الدّين ، فضروريّ المذهب أيضا يستلزم إنكاره
الخروج عن المذهب.
وهنا دقيقة لا بدّ
أن ينبّه عليها ، وهو أنّ ضروريّ الدّين قد يختلف باعتبار المذهب ، فيشتبه ضروريّ
الدّين بضروريّ المذهب ، كما لو صار عند الشّيعة وجوب مسح الرّجلين ضروريّا عن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنكاره من الشّيعة إنكار لضروريّ الدّين بخلاف مخالفيهم
، فتأمّل.
__________________
قانون
اختلف العلماء في
أنّ كلّ مجتهد مصيب أم لا ، وحكم الاجتهاد في العقليّات والشّرعيّات في ذلك مختلف
، وقد مرّ الإشارة الى حال الاجتهاد في العقليّات.
ونقول هنا أيضا :
إنّ الجمهور من المسلمين على أنّ المصيب فيها واحد ، وادّعى عليه الإجماع بعضهم ، وأنّ النّافي للإسلام مخطئ آثم كافر ، اجتهد أم لم
يجتهد.
وخالف في ذلك
الجاحظ حيث قال : إنّه لا إثم على المجتهد وإن أخطأ ، لأنّه لم يقصّر بالفرض [بالغرض].
وزاد عليه عبد
الله بن الحسن العنبريّ البصريّ : إنّه مصيب أيضا.
فإن أراد إدراك ما
طابق الواقع فهو غير معقول ، للزوم اجتماع النّقيضين في مثل قدم العالم وحدوثه ،
وإن أراد عدم الأثر ، فهو قول الجاحظ ، وإن أراد أنّه تكليفه على الظّاهر بمعنى
أنّ المطلوب في الأصول الظنّ كالفروع ، فهو أيضا يرجع الى عدم الإثم.
قيل : الظّاهر أنّ
مراد المخالف هنا من الإصابة وعدم الخطأ إنّما هو إذا كان الخلاف في الإسلام ، مثل
الجبريّ والعدليّ ، والقائل بالرّؤية وعدمها ، وإلّا فلا يتصوّر تصويب اليهود
والنصارى من المسلمين.
__________________
أقول : إذا كان
المراد من الإصابة عدم الإثم ، فلا يلزم ذلك لما مرّ منّا الإشارة ، بل لا يصحّ
حينئذ القول بالإصابة بمعنى إدراك ما في نفس الأمر ، وقد عرفت التّحقيق في المسألة
، وأنّ غير المقصّر لا إثم عليه ، وإن أخطأ الحقّ ، وإن قلنا :بجريان حكم الكفّار
عليه إن أخطأ الإسلام.
احتجّ الجمهور :
بأنّ الله تعالى كلّف فيها بالعلم ونصب عليه دليلا ، فالمخطئ له آثم مقصّر ، فيبقى
في العهدة.
وجوابه : منع
التكليف بالعلم مطلقا إن أريد اليقين ، بل يكفي ما هو اليقين عنده ، بل يكفي مطلق
الجزم الذي تطمئنّ به النفس.
ولازم قول من كان
يكتفي بالظنّ كالمحقّق الطوسيّ وغيره ، أن يكتفي به في غير الإسلام أيضا ، بالنّظر
الى المؤاخذة وعذاب الآخرة ، وإن لم يكن الاكتفاء من جهة نفي أحكام الكفر ، لئلّا
يلزم الظّلم على الله ، وإن جعل المعيار في التّكليف هو زوال الخوف وعدم احتمال
البطلان ، فتساوى فيه الاجتهاد المطابق للواقع وغيره.
والحاصل ، أنّه لا
دليل على كون الكافر المجتهد في دينه مع عدم تقصيره مستحقّا للعقاب ، دون المسلم
مع تساويهما في المرتبة والاجتهاد كما أشرنا سابقا. ويشكل المقام من جهة دعوى
الإجماع من الخاصّة والعامّة ، كالشيخ والشّهيد الثّاني وغيرهما ، وابن الحاجب ومن
تبعه على استحقاق عذاب الكافر والمؤاخذة في الآخرة ، ومن جهة ما ذكرنا من البرهان
العقليّ.
ويمكن دفع هذا
الإشكال : بأن يقال : مراد من ادّعى الإجماع إنّما هو في حال العلماء الفضلاء
المجتهدين المطّلعين على أدلّة المسائل ، نفيا وإثباتا على التفصيل ، لا مطلق من
يجتهد في دينه وإن كان عامّيّا.
ودعوى أنّ المجتهد
الكامل لا يخفى عليه الحقّ لو خلّى نفسه ولم يقصّر ليس
بعيدا من الصّواب
، بل هي دعوى صحيحة في أغلب تلك المسائل ، ويشهد بذلك أنّهم يذكرون هذه المسألة مع
مسألة التّصويب والتخطئة في الفروع في مبحث واحد.
ولكن يرد عليه ،
أنّ الدّليل الذي ذكروه من أنّ الله تعالى نصب عليه الدّليل يشمل العامّيّ
والمجتهد ، وكذلك ما ذكروه من وجوب النّظر والاجتهاد في مسألة وجوب النّظر يشمل
العامّيّ والمجتهد ، فيلزم أن يكون النّاظر من العوامّ أيضا آثما ، لأنّه لا يمكن
أن يختفي عليه الحقّ ، فهو مقصّر.
وأنت خبير بأنّ
هذا الكلام في حقّ أكثر العوامّ وفي أكثر مسائل أصول الدّين مجازفة ، كما ذكرنا في
القانون السّابق ، ولو سلّم حصول الكفر وترتّب آثاره عليه في الدّنيا ، فلا نسلّم
الإثم مع عدم التّقصير.
وقد يستدلّ بقوله
تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، فاليهوديّ إذا جاهد في الله يهتدي الى الإسلام ، فإذا لم
يهتد يظهر أنّه مقصّر.
أقول : المراد
بكلمة (فينا) في حقّنا ، والمجاهدة مفاعلة مستلزمة للإثنين. وحملها على الجدّ
والاجتهاد مجاز لا يصار إليه إلّا بدليل.
فالمعنى والله
يعلم ، الّذين يدافعون الخصماء من شياطين الجنّ والإنس ، والوهم والخيال ،
والكفّار والمحاربين أيضا في حقّنا لنرشدنّهم الى سبيلنا ولنعيننّهم على دفاع
الأعداء ، بإيضاح الحجّة والبرهان ، وإعلاء السّيف والسّنان ، أو لننعمنّ عليهم
بهداية سبلنا الخاصّة الموصلة الى مراتب من القرب لا يصله جهدهم بدون إعانتنا ، أو
لنكملنّ لهم هداية جميع السّبل ولنجمعنّ لهم السّبل التي
__________________
لم يهدوا إليها مع
ما هدوا اليها ، فلا دلالة في الآية على مراد المستدلّ.
وظاهر الآية أنّ
حقّنا أعمّ من حقّ الله نفسه ، وحقّ نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فالجهاد في الدّفاع عن مسألة نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآله وآله وسلم بعد ثبوته هو دفاع عن حقّ الله تعالى ، فلا يرد
أن يقال : الاجتهاد في مطلق النّبوّة للنصارى واليهود مجاهدة في الله ودفاع عن حقّ
الله تعالى.
نعم ، إنّما يصحّ
ذلك في حقّهم إذا كان دفاعهم من أنكر مطلق النبوّة ، لا تبديل نبوّة موسى وعيسى
بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع أنّ كلمة (جاهد) إن كان بمعنى الاجتهاد أيضا يلزم أن
يكون المراد الدّفاع عن حقّ الله ومن ينتسب إليه بعد المعرفة واليقين ، لا حال
الشكّ ، وأوّل النّظر والتردّد ، مع أنّ علي بن إبراهيم قال في تفسيره في معنى (جاهَدُوا فِينا) أي صبروا وجاهدوا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا) أي لنثبتنّهم.
مع أنّ دعوى ذلك
في جميع مسائل الأصول مثل التجرّد وعينيّة الصّفات والقدم والحدوث وغيرهما في غاية
البعد ، مع أنّ الكلام يجري في مسألة جواز العمل بالظنّ في الأصول وعدمه ، ووجوب
النّظر وعدمه ، فإنّ العلماء قد اختلفوا فيه ، فلا بدّ للمكلّف في هذه المسألة من
الاعتقاد بأحد الطّرفين.
فإن قلنا : إنّ
المجتهدين المتخالفين فيه كلاهما مصيب ، يلزم اجتماع النّقيضين.
وإن قلنا : أحدهما
مخطئ آثم لأنّ الله تعالى قال : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا ،) فمن لم يصب فهو مقصّر آثم ، فلا بدّ أن يقول جمهور علمائنا
: إنّ المحقّق الطوسيّ والمحقّق الأردبيلي رحمهالله ومن تبعهما آثمون مقصّرون أو بالعكس.
__________________
وورود هذا البحث
في الفروع ، وعدم انطباق الآية ، أظهر من أن يخفى.
والقول : بأنّ
السّبيل هاهنا هو ما يستقرّ عليه ظنّه مع أنّه يمكن جريانه فيما نحن فيه كما أشرنا
سابقا ، في غاية البعد ، وسيجيء الكلام في الفروع.
واحتجّ الجمهور
أيضا : بإجماع المسلمين على قتال الكفّار وعلى أنّهم من أهل النّار ، وأنّهم كانوا
يدعونهم بذلك الى النجاة ، ولا يفرّقون بين معاند ومجتهد ، وخال عنهما.
والجواب عن ذلك
يظهر ممّا مرّ ، إذ الجهاد مع الكفّار وقتلهم من الأحكام الثابتة للكفّار في
الدنيا ، وهو لا يستلزم تعذيب الغير المقصّر منهم في الآخرة.
وأمّا الإجماع على
أنّهم من أهل النّار ، فنمنع الإجماع في غير المقصّرين للزوم الظلم عليه تعالى.
وأمّا ظواهر
الآيات والأخبار الدالّة على ذلك ، فالمتبادر منها المعاندون والمقصّرون ، بل هو
الظّاهر من الكفر كما أشرنا ، ويؤيّد ذلك قول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام
في الخطبة الثّانية ليوم الجمعة المرويّة في «الفقيه» : «اللهمّ عذّب كفرة أهل الكتاب الّذين يصدّون عن سبيلك ويجحدون
آياتك ويكذّبون رسلك».
وأمّا حجّة الجاحظ
فهو ما مرّ من أنّه غير مقصّر.
وقد يستدلّ أيضا :
بأنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم تكليف ما لا يطاق ، فإنّ المقدور إنّما هو النّظر
وترتيب المقدّمتين ، وأمّا الاعتقاد بالنتيجة فهو اضطراريّ لا يمكن التكليف
بخلافه.
__________________
وهذا الاستدلال
ضعيف ، فإنّ التكليف بما لا يطاق إذا نشأ من سوء الاختيار الحاصل هنا بالتّقصير ،
على فرض التّقصير لم يثبت استحالته ، هذا حال العقائد التكليفيّة العقليّة
الأصليّة.
وأمّا الفرعيّة من
العقائد العقليّة كقبح الظّلم والعدوان ووجوب ردّ الوديعة وأداء الدّين ، واستحباب
التفضّل والإحسان التي يستقلّ بها العقل ، فقالوا : إنّ المصيب فيها جزما أيضا
واحد ، وإنّ المخالف فيها آثم ، كما صرّح به الشيخ في «العدّة» .
وهذا في حقّ
المجتهدين ليس ببعيد كما ذكرنا ، بل ذلك ممّا لا يخفى إلّا على المستضعفين من جهة
العقل أو المعاندين المقصّرين ممّن ينكر الحسن والقبح العقليّين أو يسلّمهما ،
ويعاند في خصوص مسألة من تلك المسائل من جهة داع وغرض.
والكلام في أصل
مسألة الحسن والقبح مثل ما نحن فيه ، ولو فرض عدم التّقصير ، فالكلام فيه كما مرّ.
فالكلام في أمثال
ذلك مع الجمهور في أنّ أمثال ذلك هل هي ممّا يمكن أن يختفي على أحد أم لا ، وأمّا
بعد إمكان الاختفاء ، فلا معنى للحكم بتعذيب من اختفى عليه بلا تقصير.
والكلام في
الإمكان وعدم الإمكان هو ما مرّ من أنّه لا يبعد دعوى ذلك في حقّ المجتهدين
الكاملين لا مطلق.
__________________
والكلام في ذلك
نظير الكلام في تكفير منكر الضّروريّ ، ويقع الإشكال في تعيين من يستحقّ التّكفير
والتّأثيم ومن لا يستحقّ ، وأنّ الأصل أنّ المكلّف مقصّر ، أو أنّ الأصل عدم
التّكفير والتّعذيب حتّى يعلم ذلك ، فراجع وتأمّل.
وأمّا الفرعيّات
الشّرعيّات ، كالعبادات البدنيّة والمعاملات ، فقالوا : إن كان عليها دليل قاطع ،
فالمصيب فيها أيضا واحد ، والمخطئ غير معذور ، والظّاهر أنّ مرادهم أن يكون على
المسألة دليل قطعيّ بحيث لو تفحّصه المجتهد لوجده جزما ، فعدم الوصول إليه كاشف من
تقصيره وهو كذلك لو كان كذلك ، ويختلف ذلك أيضا بحسب أفهام المجتهدين ، إذ قد يحكم
أحد المجتهدين بأنّ دليل هذه المسألة قطعيّ ويحكم الآخر بخلافه ، ويرجع الكلام فيه
الى نظير ما ذكرنا في إنكار الضّروريّ.
وأمّا فيما لم يكن
عليه دليل قطعيّ ، مثل سائر المسائل الاجتهاديّة فبعد استفراغ الفقيه وسعه في
الاجتهاد ، فلا إثم عليه وإن أخطأ ، بلا خلاف إلّا من بعض العامّة ، ولكنّهم
اختلفوا في التّخطئة والتّصويب.
فقيل : لا حكم معيّن
لله تعالى فيها ، بل حكمه تعالى فيها تابع لنظر المجتهد ، وظنّ كلّ مجتهد فيها حكم
الله تعالى في حقّه وحقّ مقلّده ، وكلّ مجتهد مصيب لحكم الله غير آثم.
وقيل : إنّ لله
تعالى في كلّ مسألة حكما واحدا معيّنا والمصيب واحد ، ومن أخطأ فهو معذور ولا إثم
عليه.
وهذا هو مختار
أصحابنا على ما نسب إليهم العلّامة في «النّهاية» ، والشهيد
__________________
الثّاني في «التمهيد»
، وغيرهما.
ولكنّ الشيخ رحمهالله قال في «العدّة» : والذي أذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين المتقدّمين
والمتأخّرين ، وهو الذي اختاره المرتضى رحمهالله ، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمهالله أنّ الحقّ في واحد ، وأنّ عليه دليلا ، ومن خالفه كان
مخطئا فاسقا.
ولكن يمكن تأويل
كلام الشيخ رحمهالله بما يرجع الى ما ذكره سائر الأصحاب ، كما يظهر من ملاحظة
ما بعد هذا الكلام ، لا نطيل بذكرها.
وحاصله ، أنّ ذلك
إذا كان اجتهادهم بالقياس والرّأي.
ثمّ القائلون
بالتخطئة من العامّة اختلفوا .
فقال بعضهم : إنّ
الله لم ينصب دليلا على ذلك الحكم المعيّن ، وهو بمنزلة الدّفين ، فمن عثر عليه من
باب الاتّفاق فله أجران ، ومن لم يصب فله أجر واحد على اجتهاده.
وقال بعضهم : إنّه
نصب عليه دليلا ، فقيل : إنّه قطعيّ ، وقيل : إنّه ظنّي.
والقائلون بأنّه
قطعيّ اختلفوا.
فجمهورهم على عدم
الإثم.
وذهب بشر المريسي ، الى كون المخطئ آثما.
__________________
والقائلون بأنّه
ظنّي اختلفوا ، فقيل : إنّه لم يكلّف بإصابة ذلك الدّليل لخفائه وغموضه ، فالمخطئ
معذور.
وقيل : إنّه مأمور
بالطّلب أوّلا ، فإن أخطأ وغلب على ظنّه شيء آخر انقلب التّكليف وسقط عنه الإثم ،
وذكروا لكلّ من الطّرفين أدلّة أكثرها تطويل بلا طائل ، والحقّ ، ما ذهب إليه
أصحابنا.
ونذكر من الأدلّة
عليه ما هو أقرب إلى الصّواب ، وهو أصالة عدم التعدّد ، والإجماع المنقول المستفيض
من أصحابنا ، وشيوع تخطئة السّلف بعضها بعضا من غير نكير.
__________________
والقول : بأنّ
مرادهم خطأهم في الاجتهاد للتقصير ، أو لأنّهم لم يكونوا أهلا للاجتهاد ، خلاف
الظّاهر.
والآيات الدالّة
على ثبوت حكم خاصّ لكلّ شيء في نفس الأمر ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ) الآيات الثلاث ، و (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، (وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). فإنّ حكم الشّيء قبل الاجتهاد ممّا يحتاج إليه ، فلا بدّ
من بيانه في الكتاب والسنّة. وما ورد عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ
فله أجر واحد».
قال بعض الأصحاب :
وهذا وإن كان خبرا واحدا إلّا أنّ الأمّة تلقّته بالقبول ولم نجد له رادّا ،
والأخبار الدالّة على أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما حتى أرش الخدش ، ولا يبعد تواترها ، وخصوص قول أمير المؤمنين عليه الصلاة
__________________
والسلام في «نهج
البلاغة» في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا ، قال عليهالسلام : «ترد على أحدكم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها
برأيه ، ثم تردّ تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجمع
القضاة عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا وإلههم واحد ودينهم واحد
وكتابهم واحد أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه أم أنزل
الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه
أن يرضى أم أنزل الله دينا تاما فقصّر الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وفيه تبيان كلّ شيء» . الى آخر ما ذكره عليهالسلام.
ثم إنّ وجه الجمع
بين ما ذكره وما نستعمله في أمثال زماننا هذا الزّمان ، هو أنّ كلامه عليهالسلام على العاملين بالقياس والرّأي لا بالكتاب والسنّة ، والى
هذا يشير آخر كلام الشيخ رحمهالله في «العدّة» ويقيّد به ما نقله من المذهب عن مشايخ
الإمامية ، وأنّ مراده عليهالسلام أنّه لا يجوز التعدّد في حكم الله الواقعيّ ، وإن أمكن على
الظّاهر بالنّسبة الى المعذورين في زمان الحيرة والاضطرار ، أو بسبب الغفلة في فهم
السنّة والكتاب في زمان الحضور أيضا.
فإنّ المجتهدين
المختلفين بسبب تفاوت الأفهام ، ليسند كلّ منهم الحكم الى الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا الى الرّأي والقياس ، وأنّ الخطأ في ذلك معذور ، وقد
__________________
ذكرنا في مباحث
أخبار الآحاد والكلام على حجّية ظنّ المجتهد بعض ما يوضّح المقام ، فراجع ولاحظ.
ثمّ قد يستدلّ على
التخطئة بلزوم بطلان التّصويب من صحّته ، لأنّ القائلين بالتّخطئة يغلّطون
التّصويب ، وعلى التّصويب فهذا الاجتهاد صحيح ، فيكون التّصويب باطلا وهو توهّم ،
لأنّ الكلام في الفروع ، والتّصويب من أصول الفقه أو الكلام ، وقد مرّ نظيره في
التّجزّي وغيره.
ثمّ إنّ الشهيد
الثّاني ذكر في «التمهيد» للمسألة فروعا ، وتبعه في بعضها غيره ، مثل المحقّق
البهائيّ رحمهالله .
منها : أنّ
المجتهد في القبلة إذا ظهر خطأه ، هل يجب عليه القضاء أم لا؟ والمنصوص عندنا وجوب
الإعادة إن علم في الوقت لا في خارجه مطلقا.
ولنا قول آخر :
إنّ المستدبر يعيده مطلقا ، وهذا كلّه مبنيّ على أنّ المجتهد قد لا يكون مصيبا.
ومنها : لو صلّى
خلف من لا يرى وجوب السّورة أو التسليم أو نحو ذلك ولم يفعله ، أو فعله على وجه
الاستحباب ، حيث يعتبر الوجه في صحّة الاقتداء به قولان مرتّبان ، وينبغي على
القول بالتخطئة عدم الجواز.
ومنها : إنفاذ
المجتهد حكم مجتهد آخر يخالفه في مأخذ الحكم ، وفي جوازه أيضا وجهان مرتّبان.
أقول : وعندي في
هذه التّفريعات تأمّل ، فإنّ القضاء والإعادة إنّما يثبتان
__________________
بفرض جديد كما
حقّقناه في محلّه ، وسقوطهما لا يدلّ على كون ما وقع على خلاف الحقّ صوابا ، بل قد
يكون لعدم دليل آخر بعد الوقت الأوّل ، ولإجزاء ما كان حكم الله الظّاهر في حقّه ،
فلا إعادة تدلّ على التّخطئة ، ولا عدمها على التّصويب ، إذ لا منافاة ، لكون
الخطأ في القبلة موجبا للقضاء مع كون الصّلاة مع الخطأ فيها صوابا ، واستلزام
القول بالتّصويب لصحّة الاقتداء بمن يخالفه في الرّأي ممنوع ، فإنّ الواجب على
المأموم أن يقتدي بصلاة صحيحة عنده لا صحيحة عند غيره. ويلزم على هذا أن يجوز لمن
يرى وجوب فري الأوداج الأربعة في الذّبيحة أكل الذّبيحة التي قطع حلقومها فقط من
يرى حلّيتها بذلك.
وتجويز المجتهد
لمقلّد مجتهد آخر يخالفه تقليده عموما ، ليس معناه إنفاذ الحكم الخاصّ المخالف
لرأيه ، وجواز إنفاذ الحكم الخاصّ المخالف لرأيه ممنوع.
والكلام في إمضاء
القضاء السّابق غير ما نحن فيه ، وهو لا يستلزم أن يكون ذلك من باب التّصويب ،
ولعلّه لما ذكرنا قال «صاحب المعالم» رحمهالله في آخر المبحث : وكيف كان فلا أرى للبحث في ذلك بعد الحكم
بعدم التأثيم ، كثير طائل.
__________________
قانون
يتوقّف تحقّق
الاجتهاد وكماله على أمور.
أمّا ما يتوقّف
عليه تحقّقه ، فهو أمور :
الأوّل ، والثّاني ، والثّالث : العلم
بلغة العرب ، والصّرف ، والنّحو ، فإنّ الكتاب والحديث عربيّان ويعرف أصل مفردات الكلام من علم اللّغة وتصاريفها
الموجبة لتغيير معانيها بالمضيّ والاستقبال والأمر والنّهي وغيرها من الصّرف ، ومعانيها
التركيبيّة الحاصلة من تركيب العوامل اللّفظيّة والمعنويّة مع المعمولات من علم
النّحو.
والعلم بالمذكورات
إمّا بسبب كون المجتهد صاحب اللّغة كالمستمعين للخطابات المحاورين مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام من أهل اللّسان ، أو بسبب التعلّم من أفواه الرّجال ، أو
ممارسة كلامهم بحيث يحصل له الاطّلاع ، أو بالرّجوع الى الكتب المؤلّفة فيها ، فلا
وجه لما يقال : إنّ العربيّ القحّ لا يحتاج الى علم الصّرف والنّحو واللّغة.
ويمكن تحصيل مراد
النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام بتتبّع كلماتهم
ومزاولتها ، إذ المراد من القول بتوقّف الاجتهاد على تلك العلوم هو معرفة مسائلها
التي يتوقّف الفهم عليها بأيّ نحو حصل ، مع أنّ كثيرا من العلماء المتتبّعين
الممارسين من العرب أيضا ربّما يحتاجون الى مراجعة الكتب التي ألّفوها في هذه
العلوم فضلا عن غيرهم ، خصوصا في بعض الألفاظ.
__________________
الرّابع : علم الكلام ، لأنّ المجتهد يبحث عن كيفيّة التكليف ، وهو مسبوق بالبحث عن
معرفة نفس التكليف والمكلّف ، فيجب معرفة ما يتوقّف عليه العلم بالشّارع ، من حدوث
العالم وافتقاره الى صانع موصوف بما يجب ، منزّه عمّا يمتنع ، باعث للأنبياء
مصدّقا إيّاهم بالمعجزات ، كلّ ذلك بالدّليل ولو إجمالا.
والتّحقيق ، أنّ
العلم بالمعارف الخمسة واليقين بها لا دخل له في حقيقة الفقه. نعم ، هو شرط لجواز
العمل بفقهه وتقليده ، فإذا فرض أنّ كافرا عالما استفرغ وسعه في الأدلّة على ما هي
عليه واستقرّ رأيه على شيء على فرض صحة هذا الدّين ، ثمّ آمن وتاب وقطع بأنّه لم
يقصّر في استفراغ وسعه شيئا ، فيجوز العمل بما فهمه.
ولا ريب أنّ محض
التّوبة والإيمان لا يجعل ما فهمه فقها ، بل كان ما فهمه فقها ، وكان استفراغ وسعه
على فرض صحّة المباني.
وهذا هو التّحقيق
في ردّ الاحتياج الى العلم بالمعارف الخمس ، لا أنّ ذلك لا يختصّ بالمجتهد ، بل هو
مشترك بين سائر المكلّفين ، كما ذكره الشّهيد الثّاني في كتاب «القضاء» من «شرح
اللّمعة» وغيره.
نعم ، يمكن أن
يقال : إنّ معرفة أنّ الحكيم لا يفعل القبيح ، ولا يكلّف بما لا يطاق ، يتوقّف
عليه معرفة الفقه ، وهو مبيّن في علم الكلام.
ووجه توقّف الفقه
عليه أنّ الخطاب بما له ظاهر ، وإرادة خلافه من دون البيان قبيح ، فيجوز العمل
بالظّواهر ، ويترتّب عليه المسألة الفقهيّة.
فإذا قلنا : إنّ
تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح ، فيترتّب عليه أنّ المسألة الفقهيّة هو ما
اقتضاه ظاهر اللّفظ ، فأمثال ذلك ، هذا هو الموقوف عليه من علم الكلام.
__________________
الخامس : معرفة المنطق ، لأنّ استنباط المسائل من المأخذ يحتاج الى الاستدلال ، وهو
لا يتمّ إلّا بالمنطق ، وكون الاستدلال بالشّكل الأوّل والقياس الاستثنائي بديهيّا
، وتحصيل النّتائج من المقدّمات غريزيّا طبيعيّا ، لا ينافي الاحتياج إليه فيما
عرض الذّهن مرض الاعوجاج والغفلة بسبب الشّبهات.
كما أنّه قد يحتاج
الطّبع الموزون الى استعمال العروض لنفسه أو لردع غيره من الغلط والاشتباه ، وذلك
غير خفيّ على من زاول الاستدلال في العلوم.
وما يقال : من أنّ
المنطق لو كان عاصما عن الخطأ لما أخطأ المنطقي في الاستدلال ضعيف إذ الإنسان جائز
الخطأ في كلّ مرحلة إلّا من عصمه الله ، ولكنّه محفوظ عن الخطأ في الأغلب.
السّادس : معرفة أصول الفقه ، وهو أهمّ العلوم للمجتهد ، ولا يكاد يمكن تحصيل الفقه إلّا
به ، ولا بدّ أن يكون على سبيل الاجتهاد ، لكثرة الخلافات فيه ، بل وكذلك الكلام
في خلافيّات اللّغة والنّحو والصّرف أيضا ممّا يتفاوت به الأحكام ، كالاجتهاد في
معنى الصّعيد والإزار والأنفحة ، ونحو ذلك. ويكفي في الأصول الظّنّ فيما لم يمكن
فيه تحصيل العلم.
وما قيل : من أنّ
مسائل الأصول ممّا لا بدّ فيه من العلم مطلقا ، فلا تحقيق فيه ، وقد أشرنا إليه
سابقا ، ووجه توقّف الاجتهاد والفقه عليه من وجوه :
الأوّل : أنّ من
أدلّة الفقه ، الكتاب والسنّة ، ولا ريب أنّهما وردا قبل ألف سنة أو أزيد ، ولا
نعلم اتّحاد عرف الشّارع وعرفنا ، بل نعلم مخالفتهما في كثير ونشكّ في كثير.
نعم ، يحصل العلم
بالاتّحاد في بعضها ، فلا كلام لنا فيما عرف مراد الشّارع أو
اصطلاحه ، وأمّا
فيما لا نعلم المراد والاصطلاح ونعلم التغيير لكن لا نعلم عرفه بخصوصه ، أو نشكّ
في التغيير فنحتاج الى معرفته ، إذ المكالمة كانت على وفق عرفه وعرف أهل خطابه.
وقد عرفت أنّ
التّحقيق ، أنّ الخطاب مخصوص بالحاضرين ، وشراكتنا معهم في التكليف لا يستلزم
كوننا مخاطبين ، فنحتاج في ذلك الى تحصيل مراد الشّارع أو عرف زمانه ، فتارة
نتمسّك بالتّبادر وأمثاله فنثبت الحقيقة في عرفنا أو في اللّغة ثمّ نضمّ إليه
أصالة عدم النقل والتعدّد فنثبت عرف الشّارع ، وأخرى نتمسّك باستقراء كلام الشّارع
وتتّبع موارد استعماله ، فنحكم بثبوت الحقيقة الجديدة في كلامه.
ومن ذلك نحتاج الى
رسم مباحث من أصول الفقه ، مثل مباحث الحقيقة الشرعية ، والأوامر والنواهي والمشتق
والعموم والخصوص ، ونحوها ممّا يتعلّق بفهم معاني الألفاظ ، ومن جملة ذلك مباحث
المفاهيم أيضا على وجه وهو الاعتماد على الفهم العرفيّ لا على ما استدلّوا به من
لزوم اللّغو في كلام الحكيم لو لم يكن فائدة القيد بيان انتفاء الحكم عند انتفاء
القيد.
وأيضا يثبت
الإجماع والأخبار أنّ فيهما خاصّا وعامّا ، ومطلقا ومقيّدا ، وناسخا ومنسوخا ،
ومحكما ومتشابها. وظاهر تلك الأخبار ، بل صريحها لزوم ملاحظة المذكورات ، وذلك
يقتضي معرفة المذكورات وما يتفرّع عليها.
وأيضا نعلم
بالعيان وقوع التعارض في الأخبار ، بل بين الأخبار والكتاب ، ومع ذلك نعلم بقاء
التكليف ، ونعلم عدم المناص عن العمل بها ، فلا بدّ من معرفة العلاج وكيفيّة العمل
، وذلك يتوقّف على معرفة مباحث التّراجيح وكيفيّة العلاج
__________________
وما يتفرّع
عليهما.
وأيضا لمّا كان
استنباط الأحكام منهما مع الاختلالات الكثيرة والاختلافات العظيمة المحتاجة الى
النّقد والانتخاب والتمييز بين الحقّ والباطل ، وما ورد على وجه التقيّة وغيرها ،
والتّرجيح بين الأدلّة المتعارضة ، مضافا الى المباني الصّعبة في شرائط الفهم ،
وتحصيل معرفة مبانيها ليس شأن كلّ أحد ، بل لا يتمكّن منها إلّا الأوحديّ في كلّ
زمان ، فلا بدّ أن يكون تكليف من ليس له هذه المرتبة ، الأخذ ممّن له هذه المرتبة
وذلك يحتاج الى معرفة مباحث الاجتهاد والتقليد ، وأنّ المجتهد من هو ، والاجتهاد
كيف هو ، وشرائطه ما هي ، وهل يشترط كونه حيّا وعادلا وإماميّا أم لا ، وهل يشترط
تكرّر النّظر في الوقائع أم لا ، وهل يجب المشافهة أو يكفي مع الواسطة ، ولا بدّ أن
يكون الواسطة عدلا ، وهل يكفي في معرفة المجتهد الظنّ أو يجب العلم ، وكيف يمكن
معرفته للعامّيّ ، وغير ذلك.
وكلّ ذلك يعلم من
علم الأصول.
والثّاني : أنّ من
جملة الأدلّة الاستصحاب ، والإجماع ، فلا بدّ من معرفتهما ومعرفة أقسامهما ،
ومعرفة ما هو الحجّة منهما من غيرهما وحال التّعارض الواقع بين الاستصحابين ،
ومعرفة حال كلّ من أقسامهما ، وكلّ ذلك في كتب الأصول.
والثالث : أنّ من
جملة الأدلّة العقل ، ولا بدّ من معرفة أنّ أيّ حكم من أحكامه حجّة ، هل هو ممّا
يستقلّ به العقل أو غيره.
والرّابع : أنّه
إذا لم يوجد دليل في مسألة بالخصوص ، ولم يستقلّ بحكمها العقل ، فهل الحكم فيه
البراءة والإباحة أو الحرمة أو التّوقّف وغير ذلك.
وكلّ ذلك يتكفّل
ببيانه علم الاصول.
والخامس : أنّه
إذا اقتضى عموم الكتاب أو السنّة شيئا واقتضى العقل أو عموم
آخر خلافه ،
واتّفق اجتماع العامّين في فرد كالصلاة في الدّار المغصوبة حكمه ما ذا ، وهل يجوز
كون الشّيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهتين أم لا؟
ومثل ما لو أمر
الشّارع بشيء مضيّقا وفعل المكلّف في هذا الحين ما هو ضدّه ، فهل يحكم بحرمة الضّد
وبطلانه لو كان عبادة أم لا؟
ومثل ما لو أمر
الشّارع بشيء ، فالعقل وإن كان يحكم بأنّ فعل مقدّماته ممّا لا بدّ منه في تحقّقه
، لكن الشّارع هل أراد بذلك الخطاب فعل هذه المقدّمات أيضا ، بأن يكون هناك واجبات
شرع متعدّدة ، أم الواجب إنّما هو الذي ورد الخطاب به ولا يتعلّق الوجوب الشّرعيّ
بمقدّماته ونحو ذلك.
ولا ريب أنّ هذه كلّها
من المسائل الفقهيّة ولا بدّ لها من مأخذ ، فلا بدّ من تحقيق الكلام في اجتماع
الأمر والنّهي ، وفي أنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه الخاصّ أم لا؟ ويقتضي
وجوب مقدّمته أم لا؟
والمتكفّل بكلّ
ذلك هو علم الأصول.
وأورد الأخباريّون
على الاحتياج الى هذا العلم شكوكا واهية ، ولا يخفى اندفاعها على من له أدنى تأمّل
، ولكنّا نذكرها ونجيب عنها لئلّا يتوهّم من لم يطّلع عليها أنّ لها حقيقة ولا
يحسب أنّها كلام تحقيقيّ.
فمنها : أنّ علم
الأصول قد حدث تدوينه بعد عصر الأئمة عليهمالسلام ، وإنّا نقطع أنّ قدماءنا وحاملي أخبارنا لم يكونوا عالمين
بها وقد كانوا يتديّنون بدين أئمتهم عليهمالسلام ويعملون بأخبارهم ، ومع ذلك قرّرهم أئمتهم عليهمالسلام على ذلك ، فاستمرّ ذلك الى زمان ابن عقيل وابن الجنيد ،
ثمّ حدث بينهم تدوين علم الأصول.
والجواب عنه :
أمّا أوّلا : بأنّ ما ذكره من عدم علم القدماء بهذا العلم محض دعوى ، وعدم اطّلاع
المعترض لا يدلّ على العدم ، وعدم تدوين العلم لا يدلّ على
عدم وجوده رأسا.
ولعلّك قد قرع
سمعك ما روي أنّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام امر أبا الأسود الدّؤليّ [الدّئليّ]
بتدوين علم النّحو وتأسيسه ، فهل يحسن منك أن تقول : إنّ قبل ذلك لم تكن مسائل
النّحو ثابتة في نفس الأمر؟
فما نحن فيه أيضا
كذلك ، بل نقول : يحصل لمن تتبّع الأخبار ، العلم بوجود ذلك العلم في الصّدر
الأوّل ، فإنّ حكم تعارض الأدلّة ، وما لا نصّ فيه ، والقياس والاستصحاب والعامّ
والخاصّ والمطلق والمقيّد ، والنّاسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، وجواز الرّواية
بالمعنى والإفتاء والتقليد ، وغير ذلك ، يستفاد من الأخبار وجودها في الجملة ،
وكثير من المباحث لم يكونوا محتاجين إليها حينئذ لعدم تغيير العرف ، كمعرفة مباحث
الحقيقة الشّرعيّة والأوامر والنّواهي وأمثال ذلك.
وعدم احتياجهم الى
معرفة هذه المسائل لا يستلزم عدم احتياجنا ، كما لا يخفى على ذي مسكة ، مع أنّ في
الأخبار إشارة الى كثير منها أيضا ، مثل ما ورد في الرّوايات أنّ الرّاوي سأل
الإمام عليهالسلام أنّ الله تعالى قال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) ولم يقل : افعلوا ، فما وجه الوجوب؟ وقرّره الإمام عليهالسلام على معتقده مع أنّه كان من أهل اللّسان أيضا.
وأجاب عليهالسلام من باب القلب أنّه تعالى قال في سعي الصّفا والمروة أيضا :
(فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما). مع وجوبه ، يعني أنّ الوجوب مستفاد من دليل
__________________
آخر.
ومثل ما ورد في
مفهوم الشرط في حكاية قول إبراهيم عليهالسلام : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ). إنّ الإمام عليهالسلام قال : «ما كذب إبراهيم عليهالسلام فإنّه قال : بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون» .
وكذلك في بعض
الأخبار دلالة على أنّ النّهي يدلّ على التحريم أم لا. وحكاية مخاصمة ابن الزبعري
مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم معروفة .
وأمّا مثل مسألة
جواز العمل بخبر الواحد وعدمه ، وجواز العمل بظاهر الكتاب وعدمه أيضا ، فيظهر من
الأخبار ، بل ادّعى جماعة من قدماء أصحابنا ، إجماع الإماميّة على حرمة العمل ، بل
ادّعى بعضهم استحالته عقلا ، وليس معنى الإجماع إلّا اتّفاق الإماميّة الكاشف عن
رأي رئيسهم.
وكذلك النّزاع في
أنّ الأمر والنّهي هل يجتمعان أم لا ، نسلّم كونه من المحدثات ، بل كان مشهورا بين
القدماء ، ويظهر من كلام الفضل بن شاذان على ما نقله الكليني رحمهالله في «الكافي» في كتاب «الطلاق» أنّ طريقة الإماميّة كانت القول بالاجتماع وصحّة الصلاة في
الدّار الغصبيّة كما أشار إليه العلامة المجلسيّ رحمهالله في «البحار».
وكذلك كلّ مسألة
ادّعي إجماع الإماميّة عليه مثل مسألة دلالة الأمر على الوجوب أو الفور أو نحو ذلك
، يكشف عن وجود القول بهذه المسائل عند
__________________
القدماء ، ولا
يحسن لعاقل إذا دار الأمر بين النّفي والإثبات ، وتردّد مذهب القدماء بين أحدهما ،
أن يقولوا : لم يكونوا قائلين بأحد الطّرفين. مثلا إذا قلنا لك : هل كان أصحاب
الأئمة عليهمالسلام قائلين بدلالة الأمر على الوجوب أم لا؟
فإن قلت : لم
يكونوا قائلين بشيء منهما ، فهذا شطط من الكلام.
وإن قلت : كانوا
قائلين بدلالته على الوجوب ، فهي مسألة أصولية.
وإن قلت : كانوا
قائلين بعدم الدّلالة ، فهي أيضا مسألة اصوليّة ، إذ الأصوليّون يختلفون في
المسائل.
فقال بكلّ من
الطّرفين قائل ، مع أنّ ما بلغنا من الأخبار ليس إلّا قليل ممّا روته أصحابنا ،
ولعلّه كان فيما لم يبلغنا ما يدلّ عليها.
وذهب بالحوادث
كسائر الأخبار أو بسبب أنّهم لم يعتنوا بها بسبب كمال وضوحها ، مع أنّ الحكمة قد
كان يقتضي إلقاء العلوم تدريجا كما هو الدّيدن والدّأب في الفروع ، إذ لم يجر عادة
الله تعالى بإمكان تعليم الأمور الغير المتناهية دفعة ، وكذلك تعلّمها. فقد تتفاوت
أحوال الأزمنة ، بل الأشخاص في زمانين ، فمتى اقتضت المصلحة يظهرون ما لم يظهروه
في الآن الأوّل ، فقد تقتضي المصلحة ذكر بعض دون بعض ، وكذا قد تقتضي المصلحة في
البعض الذي ذكروه أن يجملوه أوّلا ثمّ يفصّلوه ، وقد يقتضي الإجمال وحوالة التفصيل
على أفهامهم لإمكان تحصيله من الإجمال ، بل هذا هو الطريق في أصول الدّين أيضا ،
فإنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يكتفي من الأعرابي بإظهار الشّهادتين مع أنّ الإسلام
أمور كثيرة هما إجمالها ، فالشّهادة بالتوحيد لا تتمّ إلّا بتنزيه الله تعالى عن
الشّريك والنّظير والجسميّة والمكان وما يستلزمانه ، وكونه مستجمعا للصفات
الكمالية بحيث لا يلزم منه التركيب والاحتياج وحلول الأعراض فيه وغير ذلك ، وعدم
صدور
القبيح واللّغو
عنه ونحو ذلك.
وكذلك الشّهادة
بالرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تتضمّن أمورا كثيرة من صفات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعصمته وصدقه وحقيقة ما جاء به وأخبر به وما قد يوصي به
لما بعده من أمر الخلافة وغيره.
ولا ريب أنّ هذه
كلّها لا تحصل لكلّ من المكلّفين في الآن الأوّل ، فلا مانع من اقتضاء المصلحة
تأخير الإظهار للصدر الأوّل في كثير من المسائل ، لأنّهم كانوا في فهم ما يحتاجون
إليه مستغنين عن التعلّم ، وفيما لا يحتاجون إليه لم تقتض المصلحة تفصيله.
ثمّ إنّ تزايد
مسائل الأصول في الكتب المدوّنة بعد إثبات حقيّة مجملاتها ، وثبوت إشارة المعصومين
عليهمالسلام إليها مجملا ، ليس ببدع فيما جرى به عادة الله تعالى في
سائر العلوم ، حيث تتزايد يوما فيوما بحسب تفطّن المدقّقين وسنوح العوارض بسبب
اختلاف الأحوال ، وأكثرها وضوحا في هذا المعنى هي مسائل الفقه ، إذ الأحكام المتلقّاة من الشّارع المتداولة
في أفهام حاملي الأخبار وألسنتهم ومحاوراتهم أقلّ قليلا ممّا فرّع عليها الفقهاء
وقرّروه [وقرّره] في كتبهم. فقد ترى كثيرا من فنون الفقه ليس فيه إلّا أقلّ قليل
من الأخبار ، مع وفور مسائلها المتفرّعة عليها بعد تدقيق النّظر.
فقد ترى كتاب «الإقرار»
من أبواب الفقه مشتملا على مسائل كثيرة والأصل فيها هو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» .
__________________
وكتاب «القسمة»
كذلك تتفرّع مسائلها على حديث : «لا ضرر ولا ضرا».
وكذلك كتاب «القضاء»
أكثر مسائلها ينشعب من قولهم : «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» ، وهكذا. فلا غرو أن يتفرّع على استحالة القبح على الله
تعالى امتناع اجتماع الأمر والنّهي على القول به.
وكذلك وجوب
المقدّمة على القول به بناء على الدّليل المشهور من لزوم تكليف ما لا يطاق أو خروج
الواجب عن وجوبه لولاه ، وكذا غصون ما ينشعب من هذه الفروع المذكورة في كتب
الأصول.
والحاصل ، أنّا
نقول مثلا : إنّ من فعل الصلاة في الدّار الغصبيّة يحتاج الى معرفة أنّ صلاته
صحيحة أم باطلة ، وعمومات الأمر بالصلاة تقتضي الصّحة ، وعمومات النّهي عن الغصب
يقتضي التّحريم.
فهل التّحريم مقتض
للبطلان ، أو موافقة الأمر مقتض للصحة ، فوقع التّعارض بين مقتضى الدّليلين ، فمن
لم يبن أساسه على أحد الطّرفين لا يمكن له معرفة الحكم الشّرعيّ.
وهكذا من وجب عليه
أداء الدّين مع المطالبة وضيق الوقت وصلّى في سعة الوقت فهل تصح صلاته أم لا؟ فمن
لم يحقّق أنّ الأمر بالشّيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه الخاصّ أم لا؟ وهل النّهي
يقتضي الفساد أم لا؟ لا يمكنه معرفة الحكم ، وهكذا.
واعترض بعض الأفاضل
: أنّ المسألة إمّا أن يمكن الاحتياط فيها من
__________________
حيث العمل ،
والتّوقّف من جهة الإفتاء ، كالصّلاة في الدّار المغصوبة مثلا عند تمكّن المكلّف
من الصلاة في غيرها من غير عسر وحرج ، فلا يصلّي فيها ، ويقول للمستفتي : لا تصلّ
، لأنّ الأخذ بالاحتياط مندوب إليه والحكم غير منصوص عليه فاعمل بالاحتياط ولا
يضرّنا ، وإيّاك الجهل بالحكم ، ولا يمكن كالفعل الدّائر بين الوجوب والحرمة عند فرض
دليل أخرجه عن الأحكام الثّلاثة الباقية وفقد النصّ الذي يدلّ على أحدهما ، فحينئذ
يعمل بالعمومات المطلقة عملا بقوله عليهالسلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» . أو بقوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» .
هذا إذا لم يكن
عبادة أو كان وجاز فعله لا من حيث هو كذلك ، أو يتركه عملا بقوله : «وشبهات بين
ذلك فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات» . أو بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة» . وترك مثل هذا الفعل وقوف ، كما أنّ عدم الإفتاء وقوف.
وبالجملة ، فنحن
ببركات أئمتنا عليهمالسلام لا نحتاج الى هذه القواعد الظّنيّة المأخذ.
أقول : لا يخفى ما
في هذا الكلام من عدم الارتباط بالمأخذ وتهافته ، فإنّ الصّلاة في الدّار الغصبيّة
ممّا لا إشكال في حرمته حتّى لا يحتاج الى الاحتياط ، بل حرمته إجماعيّة ، إنّما
الكلام في الصحّة والبطلان.
وما ذكره من
الاحتياط لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فالكلام حينئذ إنّما هو في
__________________
وجوب الإعادة
والقضاء والحكم بالبطلان ، فيكون الاحتياط في القضاء أو الإعادة مثلا فنقول حينئذ
: إذا كان الاحتياط مندوبا فللمكلّف أن يتركه ولا اعتراض عليه ، ولا تكليف مع
الجهل للزوم التّكليف بالمحال.
فإن قلت : بعد
ثبوت التّحريم فلا مانع من هذا التّكليف ، لأنّ المكلّف صار بنفسه سببا له.
قلت : ما تقول إذا
تاب ورجع وأراد التّخلّص ، والقدر المسلّم من جواز ما ذكرت إنّما هو ما قبل
التّوبة ، فلا بدّ إمّا من القول بوجوب الاحتياط ، أو الرّجوع الى البراءة
الأصليّة أو إلى المسألة الأصولية.
والأوّل : مع أنّه
ضعيف كما حقّقناه لا تقول به.
والثاني : رجوع
الى أنّ النّهي لا يدلّ على الفساد ، ليثبت كونه ممّا لا نصّ فيه ، ليجري فيه
الأصل ، وهو اختيار لأحد شقّي المسألة الأصولية.
ثمّ إنّ الرّجوع
الى كلّ واحد من أصل البراءة والاحتياط أو التحريم ، مستفاد من أخبار الآحاد. ومن
أين جاز لك العمل بخبر الواحد ، أليس جواز العمل بخبر الواحد أيضا مسألة أصوليّة ،
فمن جوّز لك العمل به؟
فإن قلت : ثبت
بالإجماع.
قلت : بل الإجماع
مدّعى على خلافه من قدماء الأصحاب ، وقد حقّقنا في محلّه ، أنّه لا دليل عليه إلّا
كونه ظنّا اجتهاديّا.
سلّمنا ، لكن من
أين ترجيح أحد هذه الأخبار ، والجمع وعلاج التّعارض أيضا من المسائل الأصولية
المبتنية على الظّنون.
ثمّ إن قلت :
بالتّخيير بين مقتضيات تلك الأخبار ، أي الاحتياط والبراءة الأصليّة والتوقّف.
قلت : من أين ثبت
لك جواز التخيير؟ فإن راجعت الى الأصل أو خبر الواحد فيرجع المحذور ، مع أنّ تلك
الأخبار المذكورة لا تدلّ على الاستحباب.
ثمّ من العجائب
أنّ هذا الفاضل قال بجواز اجتماع الأمر والنّهي في مبحثه ، ثمّ ذكر مثل هذا الكلام
في هذا المقام.
وأيضا نقول : أصل
البراءة والاحتياط والتّوقّف أيضا من المسائل الأصولية ، وإن جعلت المناص لك أنّ
هذه مستفادة من الأدلّة القطعيّة ، وما ذكره الأصوليّون في عدم جواز اجتماع الأمر
والنّهي أو جوازه ، ودلالة الأمر بالشّيء على بطلان ضدّه وعدمها من القواعد
الظّنيّة ، كما يظهر من آخر كلامك.
فنقول أوّلا : من
أين ثبت لك القطع في هذه المسائل مع كون أخبارها ظنيّة ، وكذا علاج تعارضها؟
وثانيا : إنّ كلّ
واحد من الطّرفين يدّعي القطع في المسألة الأصوليّة. مثلا المعتزلة وأكثر
الإماميّة يقولون باستحالة اجتماع الأمر والنّهي لاستلزامه التّكليف بالمحال أو
التّكليف المحال ، ويدّعون القطع ، ومخالفوهم أيضا يدّعون القطع بعدم الاستحالة.
وقد حقّقنا في
المباحث السّابقة أنّ المكلّف به هو القطع الحاصل في نفس المكلّف إذا لم يقصّر وإن
لم يطابق الواقع. مع أنّك تعترف بأنّ العقل يستقل بالحكم في بعض الأشياء ، كحسن
الصّدق النّافع والإحسان ، وقبح الكذب الضّار والعدوان. وكون الشّيء ممّا يستقل به
العقل أيضا من المسائل الاجتهاديّة ، فقد يحكم بعضهم بكون حكم منه والآخر بخلافه.
ولا ريب أنّ كلّ
واحد مكلّف بما يفهمه ، وقد مرّ في الكلام على الاجتهاد في أصول الدّين ما يرشدك
الى ما ذكرنا ، فتسميتك ذلك ظنّا ، وما استفدته من أخبار
الاحتياط
والتّوقّف قطعا من أيّ جهة؟ وما وجهه؟
مع أنّا قد حقّقنا
أنّه لا مناص عن العمل بالظنّ ، وأنّ ظنّ المجتهد ممّا لا مناص عن العمل به ،
وبيّنا ذلك في مباحث أخبار الآحاد بما لا مزيد عليه ، وسنبيّنه أيضا فيما بعد إن
شاء الله تعالى.
ومنها : أنّ
البديهة حاكمة بوجوب العمل بأوامر الشّرع ونواهيه ، ومن علم العلوم العربية فهو
ممّن يفهم الأوامر والنّواهي ، فالحكم عليه بوجوب التّقليد المنهيّ عنه بمجرّد
جهله بمسائل الأصول ممّا لا دليل عليه ، بل لا عذر له في التّقليد ، وليس مثله مع
التّقليد إلّا مثل شخص حكّمه ملك على ناحية وعهد إليه أنّه متى أخبره ثقة بأنّ
الملك امرك بكذا ونهاك عن كذا فعليك بالطّاعة والعمل بالأمر والنّهي ، وبيّن له
المخلص عند تعارض الأخبار ، فهو يترك العمل بما سمع من الأوامر والنّواهي من
الثّقات معلّلا بجهله بمسائل الأصول والمنطق ، فإنّ استحقاقه للذمّ حينئذ ممّا لا
ريب فيه.
أقول : دعوى بداهة
وجوب العمل بالأوامر والنّواهي علينا مع عدم تجويزهم العمل بظواهر الكتاب ،
والنّزاع العظيم بين العلماء في حجّية أخبار الآحاد ، ودعوى جماعة من الفحول
الإجماع على عدم الجواز غريب.
وما ذكره إنّما
يتمّ لو ثبت كون ما ورد في الأخبار ، أمر الشّارع لا غيره ، ومتوجّها إلينا لا
الحاضرين ، وغاية ما يمكن دعوى الظنّ بكونه أمر الشّارع ، وستعلم ضعف ما يدّعونه
من قطعيّة أخبارنا بما لا مزيد عليه ، مع أنّ من يفهم العربيّ إنّما يفهم من هذه
الأخبار ما هو موافق لعرفه واصطلاحه ، لا ما يفهمه المخاطبون بتلك الخطابات ، وإنّما
الحجّة هو ما أراده المعصوم عليهالسلام وفهمه منه المخاطبون الّذين وافق اصطلاحهم له عليهالسلام. وفهم مرادهم لا يتمّ إلّا بمعرفة كثير
من المسائل
الأصوليّة من مباحث الحقائق الشرعيّة والنّقل والأصل والاستصحاب والبحث والفحص عن
المخصّص ، وغير ذلك من القواعد الأصولية.
وممّا ذكرنا يعلم
الجواب عن المثل الذي ذكره ، فإنّه قياس مع الفارق ، لأنّ زمان الملك ومن حكّمه
واحد ، ولسانهما متّحد ، ومع مخالفتهما فالمترجم والمعرّف كاف. فقد لا يحتاج الى
مسألة اخرى غير ما بيده من القواعد المتعارفة التي مبنى تحاورهما عليها ، وإن لم
يدوّناها على التّفصيل ولم يضبطاها على الانفراد ، مع أنّ لنا أن نمشي ممشاك في
إنكار ما هو الحقّ الحقيق بالقبول ونقلت [ونقلب] عليك. ونقول : من أين يجوز للحاكم
أن يعمل بما عهد إليه مع احتمال نسخه بعد ذلك أو تخصيصه أو أنّ مراده هل الثّقة
النّفس الأمريّ أو من هو ثقة عند الملك ، أو من هو ثقة عند الحاكم؟ فيجب عليه
الفحص عن ذلك.
وأيضا الأمر الذي
نقله الثّقة هل هو على حقيقته أم لا؟ وأنّه إذا نقله الثّقة بعد نقله النّهي في
طيّ كلامه في هذا المرام أنّ ذلك الأمر هل هو للوجوب أو للرخصة؟ وكذلك النّهي بعد
الأمر وغير ذلك من القواعد ، فإذا لم يراع ذلك الحاكم هذه القواعد ، فكيف يمكنه
العمل على مراد الملك؟
فإن قلت : إنّ
الحاكم بسبب اتّحاد الاصطلاح ومقارنة العهد وملاحظة القرائن يفهم ذلك بدون
الاحتياج الى هذه القواعد.
قلت : فأين مثل
هذه فيما نحن فيه؟
وكذلك يظهر الجواب
ممّا ذكره عن قوله : وبيّن له المخلص عند تعارض الأخبار ، فإنّ بيان المخلص لنا إن
كان من القواعد الأصوليّة فيضرّك ، وإن كان من الأخبار ، فنقول : ما ورد في
الأخبار من هذا القبيل متعارض غاية التّعارض ،
والرّجوع في علاج
تعارضها الى نفس تلك الأخبار دوريّ وسيجيء الكلام فيه.
ومنها : أنّ علم
الأصول ليس إلّا نقل الأقوال المتفرّقة والأدلّة المتخالفة.
وفيه : أنّ تفرّق
الأقوال وتخالف الأدلّة إن كان موجبا لبطلان العلم ، فلا يبقى في الدّنيا علم كان
له أصل ، سيّما علم الفقه الذي هو أساس الشّريعة. مع أنّا لو سلّمنا أنّ مقتضى
قواعدكم التخيير بين الأخبار واختلاف فقهكم إنّما هو من جهة رخصة الشّارع وإعراضنا
عمّا يرد على ذلك ، فما تقولون فيما وقع الاختلاف بينكم بسبب اختلاف أفهامكم في
الجمع بين الأخبار وفي فهم معانيها ، فهل العمل على ذلك مقتضى قاعدة أصوليّة أو ورد النصّ بذلك؟
فإن قلتم : إنّ
مقتضى ما دلّ عليه النقل والعقل من لزوم تكليف ما لا يطاق لو لم نعمل على ما
نفهمه.
قلنا : نظير ما
قلتم في الإنكار على العمل بقاعدة اجتماع الأمر والنّهي ، فهل ترجعون في مثل ذلك
الى العمل بأصل البراءة أو الحظر أو التوقّف ونحوها؟
ومن أين ثبت لكم
أنّ فهمكم هذا حجّة عليكم في صورة الاختلاف؟
وبالجملة ، هذه
الشّكوك الواهية عمدة شكوكهم ، ومنها تعرف حال ما لم نذكره.
السّابع
العلم بتفسير آيات الأحكام ومواقعها من القرآن أو الكتب الاستدلالية بحيث يتمكّن منها
حين يريد ، وهي خمسمائة آية عندهم.
وبعض الرّوايات
التي تدلّ على تقسيم القرآن أثلاثا : الى السّنن والفرائض
__________________
وصفة أهل البيت عليهمالسلام وأعدائهم ، أو أرباعا : فيهم عليهمالسلام ، وفي عدوّهم ، وفي السّنن والأمثال ، وفي الفرائض
والأحكام ، ونحو ذلك ، فهي ليست على ظاهرها كما لا يخفى.
ولعلّ المراد
تقسيم مجموع القرآن من الظّهور والبطون ، وإلّا فلا يستفاد من ظاهرها إلّا المقدار
المتقدّم ، وقد مرّ الكلام على حجّية ظواهر القرآن من الأخباريين والجواب عنهم
فراجع.
الثّامن
العلم بالأحاديث المتعلّقة بالأحكام سواء حفظها أم كان عنده من الأصول المصحّحة ما يرجع إليها
عند الاحتياج وعرف مواقع أبوابها.
وقد أشرنا الى
مقدار الحاجة في باب احتياج العمل بالعامّ الى الفحص عن المخصّص ، ووجه الاحتياج
ظاهر.
التّاسع
العلم بأحوال الرّواة من التّعديل
والجرح ، ولو بالرّجوع
الى كتب الرّجال.
ووجه الاحتياج أنّ
العمل بالأخبار مشروط بتوثيق الرّجال والاعتماد عليهم إذا بنينا إثبات حجّية خبر
الواحد على الأدلّة الخاصّة به ، كما أشرنا إليه في بيان شروط العمل به ، أو أنّ
مراتب الظّنون تختلف باختلاف أحوال رجال السّند إذا بنيناه على الدّليل الخامس من
جهة أنّه ظنّ.
وبملاحظة ذلك
يتفاوت حال الأخبار ويتميّز الرّاجح عن المرجوح ، إذ لا
ريب أنّ كون
الرّجل ثقة مثلا ممّا يوجب الظنّ بصدق خبره ، وذلك لا ينافي إمكان حصول الظنّ
بأمور أخر.
فإنّ التّحقيق أنّ
جواز العمل بأخبار الآحاد لا ينحصر في الخبر الصّحيح ، بل ولا الموثّق والحسن أيضا
، بل كثيرا ما يعمل بما هو ضعيف في مصطلحهم لاعتضاد الخبر بما يوجب قوّته ، وقد
أشرنا الى ذلك في مباحث أخبار الآحاد ، مع أنّه ممّا ورد في الأخبار من وجوه التّرجيح
بين الأخبار مثل قوله عليهالسلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما» . وقوله عليهالسلام : «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك» .
وقد أورد هنا شكوك
:
الأوّل
ما نقل عن المولى
محمد أمين الأسترابادي وهو : أنّ أحاديثنا كلّها قطعيّة الصّدور وعن المعصوم عليهالسلام ، فلا نحتاج الى ملاحظة السّند.
أمّا الكبرى فظاهر
، وأمّا الصّغرى ، فلاحتفافها بقرائن مفيدة للقطع.
أقول : دعوى
قطعيّة أخبارنا سيّما في أمثال زماننا ، من أغرب الدّعاوي ، وستعرف حال ما تمسّك
به في ذلك.
ثمّ إنّ المراد
بمعرفة علم الرّجال هو معرفة حال الرّواة ، لا خصوص قراءة
__________________
الكتب المعهودة ،
فلو فرض إمكان المعرفة بحالها بدون هذه الكتب ، فيكفينا.
إذا عرفت هذا ،
فنقول : إنّ الرّوايات الواردة في اعتبار الأعدل والأفقه والأصدق ونحو ذلك ، لا
ريب أنّها في كتب أصحابنا المعتبرة المتداولة.
فإن قلت : إنّها
قطعيّة ، فيثبت الاحتياج الى معرفة العدالة والأعدليّة ونحوهما قطعا ، سواء كان
ذلك من كتاب «الكشّي» و «النّجاشي» أو غير ذلك ، فيثبت الاحتياج الى معرفة حال
الرّواة وهو المطلوب.
وإن قلت : إنّها
ليست بقطعيّة ، فهو مناقض لما ثبت عليه الدّليل من أنّ وجه عدم الاحتياج هو قطعيّة
الأخبار.
فإن قلت : إنّا لا
ندّعي إلّا قطعيّتها في الجملة لا قطعيّة جميع ما فيها.
قلت : جهالة
المقطوع به ينفي فائدة القطعيّة ، وأنّى لك بتعيين ما هو قطعيّ. ومن أين لك أنّ
مقبولة عمر بن حنظلة وما في معناها ممّا يشتمل على اعتبار الأعدل والأفقه والأصدق
ليست من القطعيّات وغيرها منها ، مع أنّ نفس علاج الإمام عليهالسلام في هذا الحديث لتعارض الأخبار يدلّ على كون تلك الأخبار التي
سأل الرّاوي عن حالها ظنيّة لا قطعيّة ، فإنّه لا معنى لعلاج تعارض القطعيّات
بملاحظة السّند وعدالة الرّاوي ، لأنّه لا يجوز صدور التناقض من المعصوم عليهالسلام إلّا من باب التّقيّة ، وحكمه الرّجوع الى مخالفة العامّة
، مع أنّه مذكور في تلك الرّوايات مع الأعدليّة والأفقهيّة ، لا معنى لمعرفة
موافقة العامّة ومخالفتهم بملاحظة أعدليّة الرّاوي وعدمها.
فظهر أنّ ما ذكر
في العلاج إنّما هو في الأخبار الظّنيّة ، وأنّهم عليهمالسلام كانوا يرضون بالعمل بالأخبار الظّنيّة ومعالجة متعارضاتها
بما ذكروه ، مع أنّ في أخبار تلك الكتب ما يدلّ على أنّ الكذّابة والقالة قد لعبت
أيديهم بكتب أصحابنا ، وأنّهم
(لعنهم الله)
كانوا يدسّون في كتبهم ، فإن كانت تلك الكتب قطعيّة الصّدور ، فهذه الرّوايات أيضا مندرجة ،
وإلّا فهو المطلوب.
ثمّ إنّه ذكر جملة
من القرائن التي يوجب القطع على زعمه.
منها : أنّا كثيرا
ما نقطع بالقرائن الحاليّة أو المقاليّة بأنّ الرّاوي كان ثقة بالرّواية لم يرض
بالافتراء ، ولا برواية ما لم يكن بيّنا واضحا عنده وإن كان فاسدا بجوارحه ، وهذا
النّوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا.
أقول : ظاهر هذا
الكلام قاعدة استنبطها هذا المدّعي من روايات أمثال هذا الرّاوي ، يعني أنّه عرف
من جزمه في نقله الرّواية واحتياطه مثل ترديده بين اللّفظين المحتملين. ومثل قوله
في الموضع الذي يشكّ : أظنّ أنّه قال : كذا ، أو : لا أحسبه إلّا قال : كذا ،
وهكذا ، وأمثال ذلك أنّ هذا الرّجل ثقة في الرّواية ولا يرضى بالافتراء بإمامه عليهالسلام. وليت شعري ، هل هذا إلّا معرفة حال الرّاوي ، وهل هذا
إلّا العلم بحال الرّجال؟
ولا ريب أنّ هذا
المدّعي يحتاج في دعوى قطعيّة الرّواية الى معرفة هذا الرّجل في هذه المرتبة حتّى
يحكم بقطعيّة خبره أينما يروي ، فأقلّ ما فيما ذكره أنّه رجوع الى الاحتياج الى
معرفة علم الرّجال ، إذ قد عرفت أنّ مرادنا بمعرفة الرّجال ليس خصوص معرفتهم من
كتاب خاصّ.
ويرد عليه ثانيا :
أنّ المعرفة بأنّ الرّجل ثقة ولا يرضى بالافتراء بإمامه عليهالسلام كيف يحصل القطع به بملاحظة رواياته التي لا يعلم أنّها منه
، وهذا إنّما يتمّ بعد قطعيّة الانتساب إليه حتّى يستنبط منها أنّه بهذه المثابة ،
وعلى فرض كون أصله متواترا
__________________
عند مثل الصّدوق رحمهالله كيف يحصل العلم بأنّ الصّدوق نقل هذه الرّواية عن هذا
الأصل إذ لعلّه نقله معنعنا من غير أصله ، والامتزاج وعدم التّعيين واحتمال المزج
ينافي القطعيّة.
وثالثا : أنّ كون
الرّجل ثقة في النقل مجتنبا عن الافتراء ، بعد ثبوته إنّما يثبت عند عدم تعمّد
الافتراء والكذب ، وهو لا ينافي السّهو والغفلة والخطأ ، سيّما مع تجويزهم النقل
بالمعنى.
ورابعا : أنّ هذه
الأصول لو سلّم كونها متواترة عند الصّدوق ، فلم يثبت تواترها عندنا ، واحتمال
السّهو والخطأ والغفلة عن مثل الصّدوق غير عزيز.
وخامسا : أنّ حصول
العلم من مثل هذه القرينة ممنوع ، إذ كثيرا ما يدلّس من المرائي أمره لترويج
الباطل ، ويرائي من نفسه الزّهد والورع لتغرير النّاس ، ونفي هذا الاحتمال بحيث
يحصل القطع بعدمه سيّما لأمثالنا في زماننا في غاية البعد.
نعم ، يمكن حصوله
للمشافه الحاضر الممارس للرجل ، وكيف يحصل القطع لسبب ملاحظة هذه القرينة بمعونة
أخبار الآحاد المشتملة على ذلك بعد ألف عام أو أزيد ، وسيّما مع ادّعاء وفوره
سيّما من الفسّاق والمخالفين.
وسادسا : أنّ غاية
ما ذكرت أنّ هذا الرّاوي لا يروي إلّا ما يقطع بأنّه من المعصوم عليهالسلام وليس كلّ قطع موافقا للواقع ، إذ قد يكون قطعه من باب
الجهل المركّب من دون تقصير منه.
وسابعا : أنّ هذه
الحال ، حال راوي الأصل ، وغاية ما يثبته المدّعي أنّ ذلك الرّاوي لا يروي إلّا ما
يقطع به ، وأمّا حال الواسطة بينه وبيننا ، فلا يعلم من ذلك.
والقول : بأنّ
المراد بذلك بيان صاحب الأصل ، فلا يضرّ جهالة الواسطة مع تواتر الأصل عنه قد عرفت
الجواب عنه.
وحاصله ، أنّ قطعيّة
الأصل عند الصّدوق مثلا لا ينفعنا ولا يفيدنا إلّا الظنّ بالصّدق ، الى غير ذلك من
الأبحاث [الإيجاب] الكثيرة التي ترد عليه ، لا نطيل الكلام بذكرها.
ثمّ إنّ بعض
الأفاضل قد يوجّه المقام بأنّه يحصل العلم العاديّ من القرينة التي ذكرها المعترض
لصدق صاحب الأصل ، وكذا من إسناد الصّدوق إليه وهو غريب.
واعلم أنّ بعض
الأخباريين وجّه قولهم بقطعيّة الأخبار ، ودعوى حصول العلم بصحّة الأصل وصدوره عن
المعصوم عليهالسلام أو يصدّق مثل الصّدوق فيما أسند الى صاحب الأصل ، أنّ
المراد بالعلم هو ما تطمئنّ به النفس وتقضي العادة بالصّدق. وهذا هو العلم العادي
، وهو يحصل بخبر الثّقة الضّابط المتحرّز عن الكذب ، بل وغير الثّقة إذا علم من
حاله أنّه لا يكذب ، أو دلّت القرائن على صدقه ، وهذا هو الذي اعتبره الشّارع في
ثبوت الأحكام عند الرّعيّة ، وقد عمل الصّحابة وأصحاب الأئمة عليهمالسلام بخبر العدل الواحد ، وبالمكاتبة على يد الشّخص الواحد ،
ولا ينافي هذا الجزم تجويز العقل خلافه ، نظرا الى إمكانه ، كما لا ينافي العلم
بحياة زيد الذي غاب عنّا لحظة تجويز موته فجأة ، ومن تتبّع كلام العرب يظهر عليه
أنّ إطلاق العلم على مثل ذلك حقيقة عندهم.
والحاصل ، أنّ مثل
هذا الاطمئنان يجوز العمل به ، فإن شئت فسمّه علما ، وإن شئت فسمّه ظنّا ،
فالنّزاع بين الأخباريين والمجتهدين لفظيّ.
أقول : وفيه نظر
يتوقّف بيانه على بيان معنى العلم العادي.
فاعلم أنّهم بعد
ما عرّفوا العلم بأنّه تمييز لا يحتمل النقيض ، أوردوا عليه بالعلوم العاديّة ،
كعلمنا بأنّ الجبل الغائب عنّا بعد لحظة لم يصر ذهبا ، ولا الأواني
الموضوعة في البيت
التي غبنا عنها بعد ساعة ، علماء عارفين بالعلوم الدّقيقة ، بأنّها علم ويحتمل
النقيض ، فإنّه كما وقع انقلاب العصا حيّة ، وصيرورة الميّت حيّا اللّذين جرت العادة
، بعدمهما ، فلا يحتمل نقيض ذلك العدم في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي هو صاحب هاتين المعجزتين ، وقد انخرقت تلك العادة.
فقد يمكن مثل ذلك في الجبل الذي غبنا عنه ، والأواني التي اختفت عنّا بكرامة بعض
الأولياء ، فكيف ينكر احتمال النقيض في مثل ذلك ، بل ذلك إنّما هو ظنّ متاخم للعلم
يشتبه بالعلم ، كما ذكره بعض الحكماء في الحدسيّات والتجربيّات ، فلا يصحّ القول
بحصول الجزم مع احتمال النقيض ، وهذا النقض منقول عن العلّامة رحمهالله في «النّهاية».
وأجيب عنه : بأنّ
مطلق التجويز لا ينافي الجزم ، فإنّ هذا التجويز الحاصل في العلوم العادية إنّما
هو بالنظر الى الإمكان الذاتيّ لعموم قدرة الله تعالى وقابليّة المادّة ، وأمّا
بالنّظر الى مجرى عادة الله تعالى ، فلا يحتمل النقيض ولا يجوز التبدّل.
وحاصل هذا الجواب
على ما ذكره المحقّق البهائي رحمهالله أنّ كون الجبل حجرا مثلا لا يحتمل نقيضه حال العلم بأنّه
حجر ، سواء كان في شيء من الأوقات أو دائما.
والحاصل ، أنّ ما
دام العادة تقتضي انتفاء النّقيض ، فلا احتمال للنقيض ، وذلك لا ينافي إمكان تبديل
الحجر ذهبا بالذّات ، ومن حيث القابليّة وعموم قدرة الله تعالى.
فقولنا : لا يحتمل
النّقيض ، بمعنى أنّ النّقيض ممتنع ولو بالغير ، وهو لا ينافي الإمكان الذّاتي ،
فالجبل حين علمنا بأنّه حجر ، ذاته لا ينافي الذّهبيّة ، لكنّ العادة تنافيها ،
وكذا الكلام في المحسوسات ، فإنّ العلم بأنّ العالم مضيء في النّهار ، لا
ينافيه الاحتمال
العقليّ وهو أن تكون الباصرة مئوفة في نفس الأمر واشتبه عليه الأمر لأنّ ذلك أمر ممكن.
فالجواب عنه بمثل
ما مرّ.
أقول : ومن البعيد
غاية البعد تنزيل كلام العلّامة رحمهالله على ما ذكره من منافاة حصول الجزم بالشّيء مع إمكان خلافه
بالنّظر الى ذاته ، فإنّه لا ريب أنّ العلوم تختلف باختلاف متعلّقاتها. فالعلم
بأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، وأنّ النقيضين لا يجتمعان ، ممّا يحصل به الجزم ، ولا
يمكن خلافه في نفس الأمر ، لا في حال علمنا بذلك واعتقادنا به وتفطّننا له ولا في
غيره ، بخلاف عدم انقلاب الحجر ذهبا وكون العالم مضيئا ، فإنّه وإن كان يستحيل
خلافه في نظرنا وفي نفس الأمر معا في آن حصول العلم ووقت المشاهدة ، لكن لا يلزم
محال بالنّظر الى ذاته لو فرض خلافه ، يعني في وقت آخر ، بل الظّاهر أنّ مراد
النّاقض ، أنّ قولك في تعريف العلم : لا يحتمل النّقيض عدم الاحتمال عند العالم في
نفس الأمر.
وإذا كان كذلك ،
فقد لا يحتمل العالم النّقيض لغفلته لسبب مجرى العادة وعدم تفطّنه لمقدار جريان
العادة ، فهو غافل عن ملاحظة سبب حصول العلم ولو نبّه باحتمال الخلاف ، وأنّ
العادة لم يثبت عدم انخراقها في مثل ذلك والى هذا القدر ، فيحصل عنده الاحتمال
وينتفي الجزء. فإنّ من كان له بستان ذوات حيطان وأشجار وأنهار يتردّد إليه في كلّ
يوم ، فهو في كلّ ليلة جازم قاطع بوجود بستانه كما كان ، ولو اتّفق في بعض
اللّيالي أنّ بعض أعدائه خرّب هذا البستان وقلع
__________________
أشجاره وطمّ
أنهاره وزرع في موضعه كلّ ذلك في ليلة واحدة ، لما كان له من كثرة القوّة والخدم
والحشم ما تمكّن به من ذلك في ليلة ، فهو في الصّبح جازم قاطع بوجود البستان كما
كان ، فإذا جاءه لم يجد هناك شيئا إلّا زرعا جديدا ، وقد وقع مثل ذلك في قرب
زماننا كما سمعناه ، وأنت إذا سألته في الصّبح عن العلم بوجود بستانه يتعجّب عن
السّؤال ، ولكن إن نبّهته وقلت : أفلا يمكن أنّ عدوّك المتسلّط القويّ الفلانيّ
خرّب بستانك في اللّيلة وجعلها قاعا صفصفا؟ فيحصل له الاحتمال عند ذلك ويتردّد
ويزول عنه الجزم.
فالعلم العادي هو
ما يحصل بسبب العادة اليقين باستصحاب الحال السّابق بمقدار ما يحصل له بعد التأمّل
والتفطّن للاحتمالات ونفيها الى حين معيّن معلوم. ويتفاوت مقدار زمان الاستصحاب
بتفاوت الموادّ والمقامات والأوقات ، وهذا لا يحتمل النّقيض أبدا ، واحتمال
النّقيض في غير زمان العلم ، لا يصير نقضا على عدم احتماله في آن العلم.
نعم ، يمكن النّقض
بالجزم الحاصل قبل التّفطّن للاحتمال المذكور بسبب الغفلة عمّا اقتضاه مقدار
العادة ، وذلك هو الغالب الوقوع في العرف والعادة ، وإطلاق العلم عليه شائع. وهذا
قابل لاحتمال النّقيض بالنّظر الى العالم أيضا ، لكن بالنّسبة الى حالتي التفطّن
وعدم التّفطّن ، فلا احتمال عنده في بادئ النّظر ، ومع الغفلة على وجه من الوجوه ،
ويحتمل النّقيض عنده بعد التّفطّن في الوقت الذي كان فيه جازما أيضا.
والجواب عن هذا
النّقض : إمّا بأنّ المراد بالعلم ما لا يحتمل النّقيض في نفس
__________________
الأمر وإن كان
بسبب العادة فيختصّ باليقين المصطلح ، أو بأنّ المراد من العلم ما لا يحتمل
النّقيض عند العالم ، فهو علم ما دام كذلك لا مطلقا.
فالكلام هنا يقع
في موضعين :
أحدهما : أنّ هذا
الجزم هل هو علم حقيقة ومن [وانّ] إطلاقاته الحقيقيّة أو المجازية؟
والثاني : أنّه
حجّة أم لا؟ والأظهر في موضعين [الموضعين] نعم.
أمّا الأوّل :
فلما يستفاد من تتبّع كلام العرب.
وأمّا الثاني :
فللزوم التكليف بما لا يطاق لولاه ، ولما يستفاد من تتبّع طريقة الشّارع وسلوكه مع
الرّعيّة ، وللزوم العسر والحرج لولاه. فالذي ينفع فيما نحن فيه ، أنّ القطع الذي
يدّعونه في الأخبار ، وأنّ تلك الأصول ، كانت قطعيّة ، وأنّ حكم الصّدوق رحمهالله بصحّته ممّا يوجب القطع بالصحّة ، هل هو من قبيل ذلك الجزم
الذي يمكن ارتفاعه بالتّنبيه والتّشكيك أو لا ، بل هو ظنّ؟
وأمّا دعوى كونه
يقينا مصطلحا فهو ممّا لا يحسن دعواه من عالم منصف.
والتّحقيق ، أنّ
دعوى مثل هذا الجزم من خبر الثّقة المشافه الحاظر ، ممّا لا يمكن إنكاره قبل
التّنبيه عن الغفلة من احتمال السّهو والنسيان ،
وأمّا دعواه في
حقّ أخبار كتبنا بعد تمادي الأيّام المتطاولة وسنوح السّوانح ووقوع ما وقع من
الغفلات والزّلّات والاشتباهات ، واحتمال اختلاط تلك الأخبار في الكتب وتداخل
الأصول المعتمدة بغيرها ، وإدخال صاحب التّصانيف المتأخّرة الأخبار المعنعنة عن
المشايخ مضافا الى تلك الأصول فيها ، مع ما يتطرّق من احتمال الاشتباه في شأن صاحب
التّصانيف المتأخّرة أيضا ، ففي غاية البعد.
والحاصل ، أنّ
دعوى الجزم بأنّ كلّ حديث في «الفقيه» و «الكافي» إنّما هو عن المعصوم عليهالسلام لا غير ، في غاية البعد ، فضلا عن «التّهذيب» و «الاستبصار».
والحاصل ، أنّ ما
يحصل للفقيه إمّا ظنّ وإمّا جزم في بادئ النّظر ، ويتزلزل بالتّنبيه والتّفطّن
لاحتمال الغفلة والسّهو والنسيان ، وإمّا جزم يحصل بعد التّفطّن والتّنبيه
للاختلافات أيضا ، سواء طابق الواقع أم لا.
ومنها : تعاضد بعض
الأخبار ببعض.
وفيه ، أنّ
التعاضد إن كان على حدّ التواتر ، فلا إشكال في إفادة القطع ، ولكن من أين ذلك
وأنّى هو إلّا في غاية النّدرة ، ولا كلام فيه ، ولا يحتاج مثله الى معرفة السّند.
ومنها : نقل
الثّقة العالم الورع في كتابه الذي ألّفه لهداية النّاس ، ولأن يكون مرجع الشّيعة
، أصل رجل أو روايته على ظنّ ، مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك
الرّواية ، وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم عليهمالسلام.
وفيه ، أنّ أظهر
أفراد ما ذكره من جملة كتبنا هو كتاب من «لا يحضره الفقيه».
وفيه : أوّلا :
أنّ كون الصّدوق رحمهالله ثقة ورعا لا يوجب عصمته عن السّهو والغفلة والخطأ.
وثانيا : أنّ كون
التّأليف من جهة الهداية والإرشاد لا يوجب كون الرّواية قطعيّة الصّدور ، وإنّما
يتمّ ذلك لو لم نقل بحجّية أخبار الآحاد ، وهو أوّل الكلام ، بل المستفاد من سير
الأئمّة عليهمالسلام وطريقتهم تجويزه كما أشرنا إليه في محلّه.
وثالثا : أنّه لا
ريب ولا شكّ في ثقة أكثر علمائنا المتأخّرين مع أنّهم كانوا يعملون بالظّنون ،
حتّى أنّ مثل الشهيد الأوّل الذي لا يوصف بكيت وكيت ، كان يجوّز العمل بالشّهرة
الخالية عن الخبر أيضا ، ومع ذلك ألّف الكتب لهداية النّاس.
ورابعا : أنّا لا
نسلّم تمكّن الصّدوق من استعلام حال الأصل على سبيل القطع ،
وكذلك من أخذ
الحكم عنهم عليهمالسلام. ولو سلّم إمكان حصول القطع له ببعض الأخبار أو ببعض
الأحكام ، فلا يوجب ذلك الاقتصار على ذلك ، إلّا مع إثبات حرمة العمل بظنّياتها
عنده ، وهو أوّل الكلام.
وخامسا : أنّ
الاعتماد على نقل الثّقة العارف إنّما هو معنى الاحتياج الى علم الرّجال ، فإنّ ما
ذكره لا يتمّ إلّا بمعرفة كون الرّجل ثقة ، والمعرفة بحال الرّجال قد يثبت
بالضّرورة ، وقد يثبت بالنّظر.
ودعوى كون عدالة
جميع أرباب الكتب المؤلّفة للإرشاد بديهيّته ممنوع.
وسادسا : أنّ كون
الأصل معتمدا لا يوجب قطعيّة جميع أخباره ، سيّما مع قوله في أوّل «الفقيه» : لم
أقصد قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووا ، ولا يحصل لنا القطع بأنّ الصّدوق رحمهالله إنّما ذكر قطعيّاته.
سلّمنا ، لكنّه
ذكر القطعيّ عنده وأنّى له بأنّه قطعيّ في نفس الأمر.
وأيضا كون الأصل
معتمدا ، من المسائل المختلف فيها ، وكونه معتمدا عند الصّدوق رحمهالله لا يفيد القطع بكونه معتمدا في نفس الأمر ، وتحقيق كونه
معتمد في نفس الأمر أو غير معتمدا أيضا يعلم من علم الرّجال.
ومنها : أن يكون
رواته واحد ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.
وفيه أوّلا : أنّ
معرفة هؤلاء لا يحصل إلّا بمعرفة الرّجال.
وثانيا : أنّ هذا
الوجه يدلّ على عدم قطعيّة الأخبار ، إذ الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء يشعر
بأنّ غير هؤلاء لا يحكم بصحّة روايتهم ، ولا ريب أنّ الأصول التي جعلها المشكّك من
الأصول المعتمدة ، كثيرا ما يكون من غير هؤلاء ، وهم الأكثرون وهؤلاء الأقلّون.
وثالثا : أنّ
دلالة تصحيح ما يصحّ عنهم على القطعيّة ممنوعة ، كما أنّ الصحّة عند المتأخّرين لا
يدلّ على القطعيّة. وما اشتهر بينهم من أنّ مراد القدماء من صحّة الحديث هو ما صحّ
اتّصاله بالمعصوم عليهالسلام ، فهم يفسّرون ذلك بحصول القطع بذلك من جهة التّواتر أو من
جهة احتفافه بقرائن توجب ذلك. ثمّ يفسّرون القرائن بما لا يوجب القطع ، مثل موافقة
ظاهر الكتاب والسنّة ونحو ذلك ، فلاحظ أوّل «الاستبصار» وغيره.
ورابعا : إنّ ذلك
ليس بالإجماع المصطلح حتّى يكون حجّة ، خصوصا عند المشكّك.
سلّمنا ، لكنّه
منقول بخبر الواحد ، وهو لا يفيد إلّا الظنّ.
سلّمنا ، لكنّه
وقع الاختلاف في هؤلاء أيضا فإنّ بعضهم ذكر مكان الأسديّ ليث المراديّ ،
وبعضهم مكان الحسن بن محبوب فضالة بن أيّوب ، وجعل بعضهم مكانه الحسن بن عليّ بن
فضّال ، وبعضهم مكان فضالة عثمان بن عيسى ، فإذا حصل الشكّ للقدماء في تعيين هؤلاء
فأنّى لنا بالقطع بالتّعيين.
وخامسا : أنّه لا
يوجد رواية كان جميع رجال سنده من هؤلاء إلّا أن يكون مراده بيان حال صاحب الأصل.
وحينئذ يرد عليه أنّه لا يكفي ذلك لنا ، مع ورود سائر الأبحاث التي قدّمناها
وغيرها.
أقول : ويظهر من
ذلك الجواب عن رواية جماعة نقل الشيخ اتّفاق الطّائفة على العمل بروايتهم ، كعمّار
السّاباطي ، وأضرابه ، فإنّه مع كونه منقولا بخبر الواحد فيه ، إنّ ذلك لا يوجب
القطعيّة ، بل غايته جواز العمل بها ، وأمّا قطعيّة الصّدور ، فلا.
__________________
وكيف يحصل القطع
مع أنّ أشهرهم وأكثرهم رواية هو عمّار ، ولا يخفى على المطّلع برواياته ما فيها من
الاضطراب والتّهافت الكاشفين عن سوء فهمه وقلّة حفظه. وممّا يشهد به ما رواه عن
الصّادق صلوات الله وسلامه عليه في وجوب النّوافل اليومية ولما عرض عليه عليهالسلام قال : «أين تذهب ، إنّما قلت : إنّ الله يتمّ الفرائض
بالنّوافل» ، وأمثال ذلك.
ومنها : أن يكون
الرّاوي من الّذين قال الإمام عليهالسلام فيهم أنّهم ثقات مأمونون ، أو : خذوا عنهم معالم دينكم ،
أو : هؤلاء أمناء الله في الأرض ، وأمثال ذلك.
وفيه : أوّلا :
أنّ ذلك يوجب الاحتياج الى علم الرّجال ، ومعرفة حال الرّجال أنّه هل هو منهم أو
لا.
__________________
وثانيا : أنّ ما
ورد في هذا المعنى أخبار آحاد لا يوجب العلم بحال هؤلاء ، بل إنّما يوجب الظنّ ،
فكيف يفيد ذلك العلم بقطعيّة أخبارهم.
وثالثا : على
تقدير إفادتها القطع بأنّ هؤلاء كما ذكرهم عليهالسلام ، [لكن] وثاقة الرّجل وأمانته إنّما يمنع من تعمّد الكذب ،
ولا يمنع عن الخطأ والسّهو.
وكذلك الأمر
بالمتابعة لا يوجب قطعيّة ما يروونه ، غاية الأمر أنّه يفيد وجوب العمل بفتواهم ،
وأين هو من قطعيّة ما يروونه.
ومنها : وجوده في «الفقيه»
و «الكافي» وأحد كتابي الشّيخ لاجتماع شهادتهم على صحّة أحاديث كتبهم أو على أنّها
مأخوذة من الأصول المجمع على صحّتها. وذلك لأنّ الصّدوق قال في أوّل «الفقيه» : «إنّي لا أورد في هذا الكتاب إلّا ما أفتي به وأحكم
بصحّته ، وهو حجّة بيني وبين ربّي».
وقال الكليني رحمهالله في أوّل «الكافي» مخاطبا لمن سأله تصنيفه : وقلت : إنّك تحبّ أن يكون عندك
كتاب كان يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد
ويأخذ منه من يريد علم الدّين والعمل به بالآثار الصّحيحة عن الصادقين عليهما
الصلاة والسلام. الى أن قال : وقد يسّر الله وله الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون
بحيث توخّيت.
والشيخ رحمهالله قال في «العدّة» : «إنّ ما عملت به من الأخبار فهو صحيح».
وفيه : أنّه لا
يدلّ على تصحيح هؤلاء للحديث على أن يكون قطعيّا ، كما ترى
__________________
أنّ المتأخّرين
أيضا لا يستلزم تصحيحهم قطعيّة الخبر ، ومن أنّى لك إثبات هذا المعنى الصّحيح
عندهم.
ويشهد بما ذكرنا
ما ذكره المحقّق البهائيّ رحمهالله في كتاب «مشرق الشّمسين» : أنّ المتعارف بين القدماء كان إطلاق الصّحيح عندهم على
كلّ حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به والرّكون إليه. ثمّ ذكر ممّا يوجب ذلك
أمورا يستلزم أحدها قطعيّة الخبر ولا يفيد إلا الظنّ بصدورها عن المعصوم عليهالسلام ، بل ربّما يصفون الخبر بالقطعيّ ولا يريدون ذلك ، فضلا عن
أن يصفوه بالصّحّة.
ويشهد به ما ذكره
الشيخ في أوّل «الاستبصار» في تقسيم الخبر ، فإنّه جعل ما وافق ظاهر الكتاب ، بلّ
ومفهومه المخالف من القطعيّ ، فلاحظ حتّى يظهر لك ما قلته. مع أنّه يظهر من
التّتبع أنّ الصّدوق أيضا يريد من الصّحيح ما هو المعتمد الرّاجح الصّدق ، وهو
كثيرا ما يعتمد في تصحيح الحديث بتصحيح شيخه ابن الوليد ، وإنّه كان يرى قبول ما
يرويه الثّقة الضّابط ، وهذا لا يستلزم القطع كما لا يخفى.
فالظّاهر أنّ مراد
الصّدوق رحمهالله من صحّة الأصل الذي أخذ الحديث عنه ، كون الأصل ممّا يعتمد
عليه في الجملة ، لا كون جميع أخباره كذلك ، وذلك لأنّ من الأصول ما كان لا يعتمد
عليه لأجل راويه وكونه من الكذّابين ، أو لتخليط
__________________
الكذّابين فيه
شيئا واغتشاش الأمر فيه.
ومنها : ما كان
معتمدا لأجل الوثوق بصاحبه ، أو القرائن التي دلّت على أنّه صدر من صاحبه في حال
استقامته وإن اعتراه بعد ذلك تخليط ، فالمعتمد في مقابل غير المعتمد ، وليس معناه
قطعيّ الصّدور ، وإن احتمل كون بعض أخبار الأصل المعتمد قطعيّ الصّدور عنده ، مع
أنّ ذلك لا يفيد قطعيّته عندنا ، مع أنّ الصّدوق رحمهالله كثيرا ما يردّ الرّواية بأنّه تفرّد به فلان ، ويذكر اسم
الثّقة صاحب الكتاب المعتمد ، كما في أوّل باب وجوب الجمعة ، وفي باب إحرام الحائض
والمستحاضة من كتاب الحجّ ، وهذا كلّه يدلّ على كونها ظنيّة عنده.
وكذلك الكلام [كلام]
الكليني رحمهالله في أوّل كتابه لا يدلّ على قطعيّة الأخبار لما ذكرنا ،
مضافا الى ما يشير إليه قوله : وأرجو أن يكون بحيث توخّيت. مع أنّ القطعيّة عنده
لا يفيد القطعيّة عندنا ، مع أنّ الصّدوق كثيرا ما يطرح روايات «الكافي» كما يظهر
في باب الرّجل يوصي الى رجلين ، وفي باب الوصيّ يمنع الوارث وغيره ، وكذلك الشيخ
والمرتضى وغيرهما من المتأخّرين.
وأمّا ما نقل من «العدّة»
فلا يحضرني ما ذكره. وقال بعض أصحابنا المتأخّرين : إنّي تصفّحت كتاب «العدّة» ولم
أر ذلك فيها ، ثمّ إنّ بعض المتأخّرين بعد ما حكم ببطلان دعوى قطعيّة أخبار تلك
الكتب وإبطال دعوى عدم الحاجة الى علم الرّجال ذهب الى أنّ تلك الأخبار قطعيّة
العمل ، للعلم العادي بأنّ الكتب الأربعة مأخوذة من الأصول المعتمد.
ومعنى كون الأصل
معتمدا هو ما ثبت من القرائن جواز العمل عليها بنصّ الأئمة عليهمالسلام وتقريرهم ، وإن اشتمل بعضها على ما علم أنّه من غيرهم عليهمالسلام لأجل تقيّة أو ضيق وقت عن البيان والتّفصيل وتمييز ما هو
الحقّ من غيره. ثمّ أورد على
نفسه بعدم
الاحتياج الى علم الرّجال على ما ذكرت.
وأجاب عنه : أنّ
ما قلته إنّما هو في غير المتعارضات ، وأمّا المتعارضات فلم يحصل لنا العلم بالعمل
بها إلّا مع الرّجوع الى التراجيح ، ولم يحصل لنا العلم بجواز العمل بأحد
المتعارضين من دون مراجعة الى التّراجيح ، ولا ريب أنّ التفتيش من الرّواة أحد
أسباب التّراجيح.
وفيه : أنّ دعوى
حصول القطع بجواز العمل بكلّ ما فيه ، وإن كان راويها من الكذّابين المشهورين
الّذين ورد لعنهم ولزوم الاجتناب عنهم عن الأئمة عليهمالسلام أو من الضّعفاء أو المجاهيل ، ممنوعة.
وما استشهد به من
عمل السّيد والشيخ وابن إدريس وغيرهم بالأخبار الضّعيفة ، فلا يدلّ على مدّعاه ،
إذ لعلّهم عملوا بها لاحتفافها بالقرائن الموجبة للاعتماد ، ولذلك نحن نعمل
بالأخبار الضّعيفة المعمول بها عند معظم الأصحاب ، مع أنّا لا نمنع حصول الظنّ
بالأخبار الضّعيفة بسبب ورودها في تلك الكتب في الجملة ، لكن إذا كان مخالفا لظاهر
الكتاب أو للأصول الممهّدة ولو من دليل العقل ، فقد يحتاج في تقويتها الى ملاحظة
الإسناد ، فقد يوجب صحّة السّند حصول ظنّ يمكن به تخصيص القاعدة وتقييدها ، لا
يوجبه نفس ورود الخبر في تلك الكتب.
والحاصل ، أنّ
التّحقيق هو الاعتماد على ما يحصل به الظنّ والرّجحان وملاحظة الرّواة من أسبابه ،
فإنّه يتفاوت الحال بسببه ، فلا بدّ من ملاحظته سواء كان في الأخبار المتعارضة أو
غيرها.
__________________
الشّك الثّاني
[ما نقل من أن علماءنا كانوا يعملون بكل
ما حصل لهم الظنّ بأنّه مراد المعصومعليهالسلام]
ما نقل عن بعض
الفضلاء من أنّ الاستقراء وتتبّع سير السّلف يكشفان عن أنّ علماءنا كانوا يعملون
بكلّ ما حصل لهم الظنّ بأنّه مراد المعصوم عليهالسلام ، وإن كان من رواية ضعيفة أو غيرها ، فلا حاجة الى معرفة
حال الرّواة ، بل المتّبع إنّما هو الظنّ.
وقد أجيب : بمنع
ذلك كما يشهد به ملاحظة حال السّيد وابن إدريس وغيرهما ، وعملهم ببعض الأخبار
الضّعيفة لعلّه لكونه محفوفا بالقرائن القطعيّة عندهم.
وكيف يجوز العمل
بالظنّ من حيث إنّه ظنّ وقد يكون منشؤه الهواء أو العصبيّة أو الحسد ، فيحصل الهرج
والمرج في الدّين لعدم الانضباط ، فيجب أن يكون ما يعمل به ظنّا مضبوطا كظاهر
الكتاب والحديث مطلقة أو الصّحيح منه.
والتّحقيق ، أنّ
هذا الاستقراء صحيح بالنّسبة الى طريقة أكثر علمائنا لا يحسن إنكاره ، والسّيد رحمهالله وابن إدريس رحمهالله وأمثالهما إنّما كانوا يمنعون عن العمل بخبر الواحد ، لا
مطلق ما يحصل به الظنّ بمراد المعصوم عليهالسلام.
نعم ، لا يجوز
العمل بمثل القياس والاستحسان ونحوهما ، ولم يظهر من المشكّك ذلك أيضا ، ولكنّ هذا
لا يستلزم عدم الاحتياج الى علم الرّجال ، إذ معرفة حال الرّجال والعلم بثقته ممّا
يحصل به الظنّ.
ومن الأسباب
الموجبة له ، فهو لا ينافي العمل بمطلق الظنّ فإذا حصل من كون الرّجل ثقة ، الظنّ
بمراد المعصوم عليهالسلام وفرض عدمه لو لم يكن ثقة ، فكيف يقال بعدم مدخليّة ذلك في
الظنّ ، وهو إنّما يحصل من علم الرّجال.
لا يقال : إنّ
الواجب هو متابعة ما حصل لنا من الظنّ ولا يجب علينا الفحص من أمارات الظنّ ،
لأنّا نقول : نحن مكلّفون بالظنّ بعد استفراغ الوسع ، والظنّ بعد الاستفراغ إنّما
يحصل بعد الاستفراغ فيما له مدخليّة في حصول الظنّ وعدمه.
فالحقّ ، أنّ
المتّبع هو الظنّ الحاصل بمراد المعصوم عليهالسلام وهو قد يحصل بخبر ضعيف معمول به ، وقد لا يحصل بأخبار
عديدة صحيحة ، ولذلك قد يكتفى في التّرجيح بورود الحديث في «الكافي» أو «الفقيه» في
مقابل معارضة المساوي له في السّند مع كونه في غيرهما ، إذا لم يقترنه ما يرجّحه
من جهة أخرى.
وبالجملة ،
المعتمد في تصحيح الأخبار عندي والعمل على الصّحيح إنّما هو من أجل الظنّ لا للآية
ولا لغيرها ، كما أشرنا سابقا ، وقد وقع الإفراط والتفريط في ذلك. فربّما يبالغ
بعض متأخّري الأصحاب في ردّ غير الأخبار الصّحيحة ولو بسبب توهّم اشتراك أو بسبب
عدم التّصريح بالتّوثيق ، وإن كان الرّجل مثل إبراهيم بن هاشم أو مثل سماعة بن
مهران أو الحسن بن عليّ بن فضّال ، لأنّه ليس بصحيح. وربّما يبالغ بعضهم في العمل
بالخبر في أيّ كتاب يكون ، وبأيّ سند يكون.
والتّحقيق ،
الرّجوع الى ما يوجب الظنّ والرّجحان بالنّسبة الى المعارض ، فالصحّة من جملة تلك
الأسباب لا أنّها تعتبر لأجل النصّ والتعبّد.
وفي تتمّة كلام
المجيب حزازات يظهر تحقيق الحال فيها ممّا ذكرنا في مبحث خبر الواحد من أنّ تعيين
الظّنون المعلوم الحجّية بالخصوص في غاية الإشكال ، بل المدار على ما يحصل به
الظنّ بمراد المعصوم عليهالسلام إلّا ما خرج بالدّليل كالقياس ، فلا يحصل الهرج والمرج.
ولو ذكر مقام الهوى والعصبيّة والحسد ، القياس والاستحسان ونحوهما ، لكان هو الوجه
كما لا يخفى على المتأمّل.
الشكّ الثّالث
وهو مشتمل على
أمور :
أحدها : ثبوت
الخلاف في معنى العدالة ، وفي معنى الكبيرة وعددها ، فلا يمكن الاعتماد على تعديل
المعدّلين وجرحهم إلّا بعد معرفة موافقة مذهبهم في العدالة والجرح لمذهب المجتهد
العامل على مقتضى جرحهم وتعديلهم ، وسيّما مع كون تعديل بعضهم مبنيّا على تعديل من
تقدّم عليهم مع جهالة الحال في الموافقة والمخالفة.
وقد ظهر الجواب عن
ذلك فيما قدّمناه في مباحث شرائط العمل بخبر الواحد ، وقبول الجرح والتّعديل ،
ونقول هنا أيضا مضافا الى ما مرّ : إنّه لا ريب في حصول الظنّ بالتزكية كيفما كان
، وإذا كان البناء في الفقه على الظنّ ، فهذا من جملة أماراته ، فلم يثبت عدم
الاحتياج الى علم الرّجال.
وثانيها : أنّ بعض
الأصوليين اعتبر في التزكية شهادة العدلين ، وبعضهم اكتفى بالواحد ، ولا يعلم مذهب
المعدّلين في ذلك ، مع أنّ تعديل أغلبهم مبنيّ على تعديل من تقدّمهم ، ولا يعلم
موافقتهم لهم أيضا.
وفيه : أنّ ذلك لا
يضرّ من قال بالتّزكية من قبل الظّنون الاجتهادية ، كما اخترناه ، أو من باب
الخبر. ولو سلّم كونه من باب الشّهادة ، فيمكن الجواب عنه بمثل ما قدّمناه في
مباحث الأخبار في أصل التّعديل ، وما ذكرناه هاهنا في الأمر الأوّل.
وثالثها : أنّ
كثيرا من الرّواة ممّن كان على خلاف المذهب ، ثمّ رجع وحسن إيمانه ، والفقهاء
يعدّون روايته من الصّحاح مع جهالتهم بالتّاريخ وزمان صدور الرّواية ، وكذلك
الإشكال في العكس.
وقد أشرنا الى ذلك
أيضا في مباحث أخبار الآحاد وأجبنا عنه ، ونقول هنا أيضا : إنّ من يحكم بالصحّة
لعلّه علم بتاريخ الصّدور أو علم به من جهة القرائن ،
وهذا لا يوجب عدم
الاحتياج الى علم الرّجال ، بل هذا ممّا يزيد الاحتياج لأجل تمييز أمثال هذه
الأشخاص عن غيرهم والعمل على مقتضاه.
ورابعها : أنّ
العدالة بمعنى الملكة لا يمكن إثباتها بالشّهادة والخبر ، لأنّ حجّيتهما منوطة
بالحسّ.
وفيه : منع انحصار
حجّية الشّهادة والخبر في المحسوس أوّلا وكفاية محسوسيّة آثارها وعلاماتها بحيث
يوجب العلم بها ثانيا ، وبداهة حصول العلم لنا بعدالة أكثرهم بسبب تعديل المعدّلين
سيّما إذا كانوا كثيرين ، مثل الأركان الأربعة وأضرابهم في الأوّلين ، والفضلاء
الخمسة وأضرابهم في الآخرين ، وهكذا ثالثا ، وحصول الظنّ والرّجحان بمحض تعديلهم ،
سيّما إذا تعدّدوا ، والاكتفاء به كما أشرنا رابعا ، ومنع كون العدالة عبارة عن
الملكة المخصوصة خامسا.
وخامسها : أنّ شهادة
فرع الفرع غير مسموعة ، سيّما إذا كان متنازلا بمراتب ، كما فيما نحن فيه.
ويظهر الجواب عنه
ممّا تقدّم من منع كونه شهادة ، وحصول اليقين في كثير منهم بديهة ، وكفاية الظنّ
في بواقيهم.
وسادسها : أنّه لا
يمكن العلم بالمعدّل والمجروح غالبا بسبب اشتراك الإسم ، ولا يمكن العلم بصحّة
السّند من جهة احتمال السّقط ، فلعلّ ما سقط من الرّواة كان ضعيفا ، فلا فائدة في
الجرح والتّعديل ، فلا فائدة لمعرفة علم الرّجال.
وفيه : أنّا إذا
بنينا على العمل بالظنّ ، فالمدار على الظنّ ، فإذا حصل لنا ظنّ بسبب القرائن من
جهة الرّاوي والمرويّ عنه وطبقة الرّجال ونحو ذلك ، يكون الرّجل واحدا معيّنا من
المشاركين في الإسم فنتّبعه ، فإذا لم يحصل ، فنتوقّف.
وكذلك كلّ ما
يحتمل السّقط ننفيه بأصل العدم ، إلّا إذا حصل قرينة يحصل بها
الظنّ بالسّقط ،
فنتوقّف.
وسابعها : أنّا
نرى الغفلة والخلط في كثير من طرق روايات الشّيخ عند نقل الأخبار من الأصول ، كما
أنّه روى عن صاحب الأصل عمّن روى عن الإمام عليهالسلام ، مع أنّ صاحب الأصل رواه بواسطة أو واسطتين عمّن روى عن
الإمام عليهالسلام فهذا مرسل مقطوع ، والغافل يتوهّم كونه مسندا كما وقع ذلك
في كتاب «الحج» في روايات الشيخ عن موسى بن القاسم البجليّ ، فكذلك ربّما يذكر
الشيخ رحمهالله عن «الكافي» حديثا يحسب النّاظر أنّه معلّق ، لأنّ
الكلينيّ رحمهالله لم يدرك الرّاوي ، مع أنّ الكلينيّ رواه في «الكافي» مسندا
وإنّما حذف أوّل السّند فيه اعتمادا على ما تقدّمه من الرّواية.
وكذلك كثيرا ما
يشتبه في الأسناد كلمة المجاوزة بواو العطف ، فيذكر مكان الأوّل الثاني وبالعكس ،
وأمثال ذلك ، فلا يبقى فائدة في الجرح والتّعديل وتصحيح الإسناد مع إمكان حصول
أمثال ذلك فيما لم يظهر لنا حصوله فيه.
والجواب عن جميع
ذلك : أنّ السّهو النّادر والغفلة القليلة لا يوجب انتفاء الظنّ الحاصل من ظاهر
حال الثّقة الضّابط ومن جهة الكثرة والغلبة ، إذ لا شكّ ولا شبهة أنّ إصابة هؤلاء
الأعاظم أكثر من زلّاتهم ، وحفظهم أغلب من سهوهم.
وبالجملة ، إنكار
حصول الظنّ من ملاحظة حال الرّجال مكابرة ، فالأولى ترك الالتفات إليها.
العاشر
أن يكون عالما
بمواقع الإجماع ليحترز عن مخالفته ، وهو ممّا لا يمكن في أمثال زماننا غالبا إلّا
بمزاولة الكتب الفقهيّة الاستدلالية ، بل متون الفقه أيضا.
ومن ذلك يظهر أنّ
معرفة فقه الفقهاء أيضا من الشّرائط لا من المكمّلات ، كما ذكر بعضهم ، فإنّ
الإنصاف أنّ فهم الأخبار أيضا ممّا لا يمكن إلّا بممارسة تلك الكتب ومزاولتها ،
فضلا عن معرفة الوفاق والخلاف ، وموافقة العامّة والمخالفة وغير ذلك.
الحادي عشر
أن يكون له ملكة
قوية وطبيعة مستقيمة يتمكّن بها من ردّ الفروع الى الأصول ، وإرجاع الجزئيّات الى
الكلّيّات والتّرجيح عند التّعارض ، فإنّ معرفة العلوم السّابقة غير كافية في ذلك
، بل هي أمر غريزيّ موهوبيّ يختص ببعض النّفوس دون بعض ، فإذا كانت هذه الحالة
موجودة في نفس وانضمّ إليها معرفة [العلوم] السّابقة ، فيحصل له ملكة الفقه ، يعني
قوّة ردّ جزئيّاته الى كليّاته.
وأصل تلك الحالة
لا يحصل بالكسب ، بل له مدخلية في زيادتها وتقويتها. إذا أردت معرفة ذلك فلاحظ من
ليس له الطّبع الموزون ، فإنّه لا ينفعه تعلّم علم العروض ، وكذلك سائر العلوم ،
فربّما يصير شخص ماهرا في علم الطبّ ولا يقدر على معالجة المرض.
وكذلك حال استقامة
الطّبع فإنّه أيضا أمر غريزيّ لا مدخليّة للكسب فيها.
والمراد بالملكة
المتقدّمة هو أن يكون المجتهد قادرا على ردّ الجزئيّات الى الكلّيّات بحسب نظره ،
لا في نفس الأمر ، وإلّا فيلزم كون أحد من المجتهدين المختلفين في المسائل ذا ملكة
دون غيره ، وهو ظاهر البطلان ، لأنّا نشاهد الفقهاء الفحول المعتنين المتخالفين في
المسائل غاية المخالفة ، ولا ريب في كون الجميع ذوي ملكات قدسية ، وسرعة الانتقال
وبطؤه لا مدخلية لها في حقيقة الملكة ، بل
السّرعة فضيلة
أخرى يؤتيها الله تعالى من يشاء.
وأمّا استقامة
الطّبع فهي في مقابل اعوجاج السّليقة ، والاعوجاج من المعايب الحاصلة للذهن ،
كالاعوجاج الحاصل للبدن ، لمّا كان الأصل والغالب هو الصحّة ، فالمناط في معرفتها
الرّجوع الى غالب الأفهام ، وإلّا فالذي يكون معوّج السّليقة لا يعرف بنفسه أنّ
طبيعته غير مستقيمة.
ولا يذهب عليك أنّ
المراد بالاستقامة ليس إصابة نفس الأمر ، وإلّا فيلزم الحكم باعوجاج سليقة أغلب
الفقهاء بسبب اختلافهم في ردّ الفروع الى الأصول ، بل المراد أن يكون ذلك الردّ
ممّا لا يأبى صحّته الأفهام الغالبة ، وإن كان مرجوحا عند من خالفه في الردّ
فمرجوحيّة أحد الأقوال المتخالفة أو كثير منها بالنّسبة الى الآخر ليس معناه عدم
الاستقامة ، ولا يلزم منه الحكم باعوجاج طبع صاحبه.
والحاصل ، أنّ
المجتهدين المختلفين حين يستفرغون وسعهم في تحصيل نظر كلّ واحد منهم من الدّليل ما
لا يحكم من اقتصر نظره عليه من أصحاب الأفهام السّليمة إلّا به ، فمخالفة الآخر له
مع استقامة طبعه إنّما هو لخفاء ما ، ظهر له من الوجوه عليه ، أو لظهور ما يبطل ما
فهمه الآخر عليه ، فتفاوت أفهامهم حينئذ إنّما هو بسبب تفاوت ظهور المأخذ وخفائه ،
لا بسبب الاستقامة والاعوجاج.
ثمّ إنّ القاعدة
التي ذكرنا من عدم تكليف الغافل والجاهل في المباحث السّابقة يقتضي جواز عمل غير
مستقيم الطّبع أيضا على مقتضى فهمه في المبادئ ، ولكن مع تفطّنه لاحتمال الاعوجاج
وتقصيره في التفحّص فليس بمعذور ، فعليه أن يعالج نفسه ويتفحّص عن حالها ، ويعرض
فهمه على فهم مشاهير العلماء المسلّمين للكلّ ، المعتنين عند أولي الأفهام.
ويستعلم حاله بهذا الميزان المستقيم
والقسطاس القويم ،
فإذا ظهر له الاعوجاج ، فليتحرّز عن العمل برأيه ، وممّا ذكرنا يظهر حال مقلّده
أيضا.
ثمّ إنّ الاحتياج
الى الملكة المذكورة ممّا لا ريب فيه ، إذ كثيرا ما يكون في فرديّة بعض الأفراد
للكليّ ولزوم بعض اللّوازم للملزومات ، خفاء لا يهتدي إليها إلّا من أيّده الله
تعالى بهذه الملكة والقوّة القدسيّة ، مثلا : اختلف الفقهاء في أنّ من يريد الحجّ
وفي طريقه عدوّ لا يندفع إلّا بمال وهو يقدر عليه ، فهو مستطيع أو ليس بمستطيع.
فمنهم من أدرج ذلك
في قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) وأنّ هذا من أفراد المستطيع لإطلاق المستطيع عليه عرفا.
فكما أنّ الواجد للمال في بيته إذا طالب منه غريمه خارج البيت لا يمكن له الاعتذار
بأنّي غير واجد فلا يجب عليّ إذا تمكّن من دخول البيت وإخراج المال ، فكذلك فيما
نحن ، فلا يشترط الفعليّة وعدم المانع أصلا في صدق الإسم.
ومنهم من لم يدرجه
لأنّ الحجّ واجب مشروط بالاستطاعة ، والأصل عدم الوجوب ما لم يعلم حصول الشّرط ،
ومع وجود هذا العذر لا يعلم حصول شرط الاستطاعة.
وربّما يستدلّ
بأنّه إعانة على الإثم ، فيحرم ، فهذا يرجع الى نزاع آخر ويحتاج الى الملكة في
معرفة اندراج ذلك في الإعانة على الإثم والظّلم وعدمه.
والحقّ عدم
الاندراج لأنّ المحرّم إنّما هو الإعانة على الظّلم من حيث إنّه ظلم.
مثال آخر ، يعتبر
قصد تعيين البسملة في قراءة السّورة ، والغافل يحسب أنّه لا
__________________
دليل عليه. ومن
قال باشتراطه استدلّ عليه بالأوامر الدالّة على وجوب قراءة السّورة الكاملة ،
فيحصل الإشكال في اندراج قراءة السّورة التي لم يقصد تعيين البسملة لها في قراءة
السّورة الكاملة وعدمه.
والحقّ عدم
الاندراج كما شرحناه في موضعه.
واعتبار هذه الملكة
لا اختصاص له بالفقه ، بل جميع العلوم يحتاج إليها لأنّه مقتضى ردّ الفروع الى
الأصول والجزئيّات الى الكلّيّات ، ولا بدّ في علم أصول الفقه ـ مثلا ـ أيضا من
تلك الملكة ، فالذي يحتاج إليه في مسألة مقدّمة الواجب مثلا في الأصول إنّما هو
ملكة إثبات أنّ وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذي المقدّمة أم لا.
وفي الفقه أنّ ذلك
الأمر الفلانيّ هل هو مقدّمة للأمر الفلانيّ أم لا؟ وهكذا في مسألة اقتضاء الأمر
بالشّيء النّهي عن ضدّه الخاصّ ، الى غير ذلك من الأمثلة.
والمنازع في
اعتبار الملكة ، وإن كان لا يستحقّ الجواب لكون كلامه مخالفا لجليّ البرهان ، بل
للبديهة ، لكن نشير إليه لتنبيه الغافلين.
فمن شبهاته أنّه
ينافي القول بوجوب الاجتهاد عينا أو كفاية على القولين. لأنّا نعلم بالعيان أنّ
كثيرا من النّاس ليس له تلك الملكة ، وإن خصّصناه بذوي الملكات فهو أيضا باطل ،
لأنّه قبل الاجتهاد. ومزاولة الفقه لا يظهر له بعد السّعي أنّه ذو ملكة أم لا ،
فمع عدم العلم بالشّرط كيف يجب عليه ، مع أنّ كثيرا من المشتغلين يظهر له بعد
السّعي وبذل الجهد أنّه فاقد لها ، فكيف حكم الحكيم العدل بوجوبه عليه مع فقدان
الشّرط ، وقد مرّ أنّه لا يجوز التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشّرط.
وجوابها : أنّ هذا
الكلام يجري في أصل التّحصيل وطلب العلم بالعلوم العربيّة وغيرها ، فإنّ كثيرا من
النّاس يعلم من حاله عدم الاقتدار أوّلا ، وكثيرا منهم يعلم
من حاله عدم
الاقتدار بعد صرف مدّة من عمره.
والحلّ أنّ من علم
من حاله عدم الاقتدار وعدم الملكة ، فليس بمكلّف جزما ، وهو مخرج عن العمومات
بالبرهان القاطع ، ومن لم يعلم حاله في الاقتدار والملكة ، فتكليفه ابتلائيّ كما
حقّقناه في محلّه في مباحث الأوامر ، وذلك كتكليف الحائض في الصّبح بالصّيام مع
تحيّضها في العصر في نفس الأمر ، فوجوب الاجتهاد للمكلّفين مثل وجوب الصّوم لها.
ومنها : أنّ
اشتراط الملكة يستلزم عدم العلم بوجود المجتهد ، ومعه لا يمكن الامتثال غالبا في
أمثال هذا الزّمان ، فيقبح التكليف.
وأمّا الاستلزام
فلأنّه أمر خفيّ مع أنّه غير منضبط لاختلاف الطّبائع فيها غاية الاختلاف ، فلا يظهر
ما هو المعتبر منها للعوامّ.
وفيه : أنّ ذلك
كلام يقال في أصل معرفة المجتهد ، وسيجيء جوابه وبيان إمكانه ، وأنّ ذلك شبهة في
مقابل البديهة.
ومنها : أنّهم عليهمالسلام قرّروا لنا قواعد يستنبط منها بعض المسائل ، ولا حاجة لنا
فيها الى تلك الملكة. نعم ، قد وضع الأصوليّون قواعد مبتنية على أدلّة مدخولة
ومباني ضعيفة ، مثل : أنّ مقدمة الواجب واجب ، والأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن
ضدّه الخاص ، وأنّ الأمر والنّهي لا يجتمعان ، وأنّ استصحاب الحال حجّة يحتاج
استنباط المسائل منها الى تلك الملكة. وهذه قواعد واهية لا يحتاج إليها ولا يجوز
التمسّك بها.
أقول : ومن
القواعد التي قرّروا لنا ، قولهم عليهمالسلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو
لك حلال حتّى تعرف
الحرام بعينه» . وقد عرفت الإشكال فيها ، وأنّ المراد منها هل هو موضوع
الحكم ومحلّه ، أو نفس الحكم ، أو ما يشملهما.
ثمّ المراد من
الموضوع والمحلّ أيّ معنى ، وإجراء حكم هذه القاعدة في تلك المحتملات أصعب شيء.
وهكذا الكلام في قولهم عليهمالسلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» . فإنّ الإشكال في أنّ كلّي الماء القليل الذي هو محلّ نزاع
الباحثين فيه ، يدخل في هذا ، فيمكن الاستدلال على عدم قبول مطلق الماء القليل
للنجاسة من جهة عدم ظهور حكمه من الشّارع من جهة اختلاف الأدلّة أو هو يختصّ
بالمصاديق الموجودة في الخارج التي لم يعلم طريان النجاسة عليها.
وهل المراد منه
استصحاب الطّهارة فيكون المراد كلّ ماء طاهر أم لا؟ الى غير ذلك من المحتملات في
الحديث.
ولا ريب أنّ معاني
تلك القواعد المستنبطة من تلك الأخبار ليست ممّا اتفقت عليها الأفهام السّليمة ،
بل هم مختلفون في أنّ الظّاهر منها ما ذا.
فعلم أنّه من
النّظريّات المحتاجة الى الملكة ، وكلّ ذي ملكة يحكم بما يفهمه من التفريع والردّ.
وأمّا قوله : وهذه
قواعد واهية ، الخ. فقد مرّ الجواب عنه مشروحا.
ومنها : أنّ هذه
الأحاديث والأخبار كان يعمل بها في عصر الأئمة عليهمالسلام كلّ من سمعها ، عالما كان أو عاميّا ، وتقريرهم عليهمالسلام إيّاهم على ذلك يدلّ على أنّ كلّ من فهمها يجوز أن يعمل
بها من دون توقّف ، على شرط آخر من الملكة وغيرها.
وفيه : أنّ العمل
على ما يسهل فهمه منها للعاميّ وغيره ، لا يوجب عدم اشتراط
__________________
العمل على ما
يفهمه كلّ أحد بتلك الملكة.
ومرادنا أنّ من
يريد اقتناص كلّ ما يمكن أن يستخرج من تلك الأدلّة منها ويحتاج الى ذلك ، لا بدّ
أن يكون له تلك الملكة ، وهو المجتهد.
وكذلك الجواب عمّا
قد يقال : إنّهم كانوا يعملون بالأخبار بدون الفحص عن المعارض وحصول الملكة
المحتاج إليها في علاج التّعارض ، فإنّ عدم احتياج المشافهين للأئمة عليهمالسلام ومن في معناهم الى علاج المعارضة ، وحصول تلك الملكة لهم
لعدم عثورهم على المعارض ، أو عدم تفطّنهم لاحتمال وجوده أو لتمكّنهم عن السّؤال
عن إمامهم لا ينفي احتياج غيرهم إليها.
وأمّا ما يقال :
إنّ عموم تكليف المكلّفين بالعمل بالأخبار يدلّ على أنّ العمل بالأفراد الخفيّة
واللّوازم الغير البيّنة التي لا يهتدي إليها الأكثرون ولا يعرفون فرديّتها
ولزومها إلّا بعد النّظر ، والاستدلال غير لازم ، وإلّا لزم التّكليف بما لا يطاق
بالنسبة الى غير المتمكّنين ، فهو في غاية السّخافة ، فإنّ ذلك يستلزم عدم تكليف العجميّ
بمضمون آيات القرآن والأخبار مطلقا.
فإن قلت : إنّهم
مكلّفون بالعمل بها بسبب أنّهم قادرون على التعلّم والأخذ ممّن يعلم.
فنقول : مثله فيما
نحن فيه.
وأيضا فلا ريب في
اختلاف مراتب أفهام المكلّفين في فهم الأفراد الظّاهرة أيضا ، فيكون التّكليف
بالظّواهر والمنطوقات أيضا غير منضبطة ، وهو مناف للحكمة ، والنّصوص أيضا قد يختلف
حالها ، فقد يكون لفظ نصا عند مكلّف وظاهرا عند آخر ، وهكذا.
فالتّحقيق ، أنّ
المكلّف به ، منها ما يمكن أن يفهم من اللّفظ ولو عند جماعة
خاصّة من الأذكياء
، وعدم فهم غيرهم من العامّة لا يوجب عدم تكليفهم بها ، فإن لم يتفطّنوا لها ولا
احتمال إرادتها ولزوم الفحص عنها ، فالجاهل والغافل معذوران ، وإن تفطّنوا
فتكليفهم الرّجوع الى العامّ المتمكّن.
ثمّ إنّ ما ذكرنا
لا ينافي ما قدّمناه في مباحث العموم والخصوص والإطلاق والتّقييد من أنّ الإطلاق
ينصرف الى الأفراد الشّائعة ، وأنّه ليس بحجّة في الأفراد النّادرة ، فإنّ المراد
من الأفراد النّادرة ثمّة ما لا يحصل الظنّ بإرادتها وإن حصل القطع بفرديّتها.
ومن الأفراد
الخفيّة هنا ما يحصل الظنّ أو القطع بفرديّتها وبإرادتها بعد التأمّل والنّظر.
والفرق بين ظنّ
فرديّة شيء للكلّي وظنّ إرادة فرد من الكلّي واضح ، والأوّل يرجع الى نوع تصرّف في
الكلّي ويستلزم التّشكيك في حقيقته. فإنّ الشّك في كون ماء السّيل ما يوجب الشّكّ
في أنّ ماهيّة الماء هل له وسعة يشمل هذا الفرد أم لا ، ولكنّ الشّك في دخول الفلس
المهجور في بلد في قول القائل : بع بالنّقد ، ليس تصرّفا في الكلّي ، لأنّه لا ريب
في كونه نقدا ، بل الإشكال إنّما هو في إرادة هذا الفرد.
ثمّ إنّه يدلّ على
جواز العمل بالأفراد الخفيّة واللّوازم الغير البيّنة أيضا قولهم عليهمالسلام : «علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا» . وبمضمونه
__________________
روايتان صحيحتان
رواهما البزنطيّ عن الرضا عليهالسلام وهما مذكورتان في آخر «السّرائر».
ثمّ إنّ تحقّق هذه
الملكة واستقامتها وجواز الاعتماد عليها كما ذكره بعض المحقّقين ، يستدعي أمورا :
منها : عدم اعوجاج
السّليقة ، وقد مرّ الإشارة إليه.
ومنها : أن لا
يكون جربزيا لا يقف ذهنه على شيء ، ولا بليدا لا يتفطّن بالدّقائق
ويميل الى كلّ ناطق حيّ ، بل لا بدّ أن يكون له ثبات فيما يرجّحه ويرتضيه ، وذلك
لا ينافي جواز تبدّل الرّأي مع تجديد النّظر ، وأن يكون فطنا حاذقا ينقل ما ورد
عليه من المسائل الى مظانّها ومأخذها ، ويعود من تلك المآخذ الى تلك المسائل.
ومنها : أن لا
يكون جريئا في الفتوى غاية الجرأة ، ولا مفرّطا في الاحتياط ، فإنّ
الأوّل يهدم المذهب والدّين ، والثّاني لا يهدي الى سواء الطّريق ولا يقضي حاجة
المسلمين ، بل ربّما يشوّه الدّين ويشوّش الشّرع المبين.
ومنها : أن لا
يكثر من التّوجيه والتّأويل ، ولا يعوّد نفسه بذلك ، فإنّه ربّما يجعل بذلك
الاحتمال البعيد من الظّواهر لأنسه بذلك ، فإنّ للأنس بكلّ طريقة أثرا بيّنا في
إزلال الذّهن وإضلال الفكر عن الصّراط السّوي.
__________________
ومن جملة ذلك
الأنس بطريقة الحكمة والرّياضيّ والنّحو وغير ذلك ، فإنّ طريقة فهم هذه العلوم
مباينة لفهم الفقه ، فربّما رأينا بعضهم يقول في القدح في بعض الأدلّة الفقهيّة :
يحتمل أن يكون المراد منه كذا ، فإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ، وأنت خبير بأنّ
الفقه أكثره ظنيّ وأدلّتها ظنيّة.
ومعنى الظنّ قيام
الاحتمال ، فبذلك لا ينتظم أساس فقه هؤلاء لتكثيرهم الاحتمال وإبطالهم الاستدلال.
ومنها : أن لا
يكون بحّاثا يحبّ البحث ، وذلك المرض قد يكون طبيعيّا كالعقارب المجبولة على حبّ
اللّسع ، وقد يكون لحبّ الرّئاسة وإظهار الفضيلة. فمثل هذا الشّخص لا يرجى له
الاستقامة على الحقّ ، وإيّاك والمكالمة مع مثله ، واستعذ بالله من خلقه إلّا أن
تظنّ إمكان إرشاده الى الحقّ وردعه عن ذلك المنكر ، ويقرب من ذلك كونه لجوجا
عنودا.
ونحن رأينا كثيرا
من صلحاء العلماء مبتلى بهذا المرض ، فإذا تكلّم بشيء في بادئ النّظر غفلة أو لأجل
شبهة سبقت إليه ، فيلجّ ويكابر ويصادر بالمطلوب ، وربّما يتمسّك بما هو أوهن من
بيت العنكبوت ، إمّا من جهة خروجه عن الحالة الطّبيعية المدركة مقتضى حالته الأخرى
المنكرة ، أو للعناد والخوف عن خمود الذّكر.
ومنها : أن لا
يكون مستبدّا بالرّأي في حال قصوره ، بل في حال كماله أيضا ، فإنّ الجهل جبلّة
الإنسان ، والغفلة والسّهو كالطّبيعة الثّانية له.
تنبيه
اعلم أنّ المراد
بالاجتهاد في قولنا : الاجتهاد يتوقّف على تلك الملكة ، يمكن أن يجعل بمعنى ملكة
الاجتهاد كما عرّفه شيخنا البهائي رحمهالله وقد تقدّم.
وبمعنى الفعليّة :
وهو استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ.
وما يتوهّم أنّه
لا يصحّ على الأوّل لأنّ الملكة هي نفس الاجتهاد لاشترطه ، فهو مندفع بأنّ الملكة التي هي نفس
الاجتهاد هي الملكة الخاصة المترتّبة على مجموع شرائط الفقه التي من جملتها الملكة
العامّة ، أعني تمكّن ردّ مطلق الجزئيّات الى الكلّيّات ، والفروع الى الأصول
وجزئيّات الفقه الى كلّيّاته ، فلا تغفل.
وأمّا ما يتوقّف
كمال الاجتهاد عليه ، فهو أمور.
الأوّل : علم
المعاني والبيان والبديع ، ونقل عن الشهيد الثّاني رحمهالله والشيخ الأحمد بن المتوّج البحراني أنّه جعل الثّلاثة من
شرائط أصل الاجتهاد. وعن السيّد رحمهالله أيضا أنه جعل الأوّلين من الشّرائط ، وغيرهم جعلوا هذه
العلوم من المكمّلات.
والحق ، أنّ بعض
الأوّلين ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد ، مثل مباحث القصر والإنشاء ، والخبر من علم
المعاني ، وما يتعلّق بمباحث الحقيقة والمجاز ، وأقسام الدّلالة من علم البيان ،
لكنّ القدر المحتاج إليه منهما مذكور في كتب الأصول غالبا ، وهو لا ينافي كونهما
ممّا يتوقّف عليه أصل الاجتهاد.
ثمّ إن جعلنا
الأبلغيّة والأفصحيّة من مرجّحات الأخبار والأدلّة ، فلا ريب حينئذ في الاحتياج
الى العلوم الثّلاثة ، إذ لا يعرفان عادة في أمثال هذا الزّمان إلّا
__________________
بملاحظة العلوم
الثّلاثة.
والتّحقيق ، أنّ
الفصاحة إذا أوجب العلم بكون الكلام عن المعصوم عليهالسلام أو الظنّ المتاخم كما يظهر من ملاحظة «نهج البلاغة» و «الصّحيفة
السّجّاديّة عليهالسلام» وسائر كلمات أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فمدخليّته
واضحة.
وكذلك إذا أوجب
رجحان كون الحديث من الإمام عليهالسلام بحيث صار معارضه موهوما عند المجتهد ، ولكنّ ذلك نادر في
أخبار الفروع.
والثاني : بعض
مسائل الهيئة مثل ما يتعلّق بكرويّة الأرض لمعرفة تقارب مطالع البلاد وتباعدها.
ويترتّب عليه جواز كون أوّل الشّهر في أرض غير ما هو أوّله في بلد آخر ، وجواز كون
الشّهر ثمانية وعشرين يوما لبعض الأشخاص ، ولا يبعد كون ذلك من الشّرائط.
ويمكن أن يقال :
يكفي في ذلك للفقيه العمل على مقتضى قولهم عليهمالسلام : «صم للرّؤية وأفطر للرّؤية» . وكذلك الحال في معرفة القبلة ، فإنّه يكفيه الاستقبال
فيما يمكن له العلم ، والعمل بالظنّ فيما لا يمكن. والعمل بما ورد في المضطرّ لو
لم يحصل له الظنّ أيضا.
والثالث : بعض
مسائل الطّبّ ، للاحتياج الى معرفة القرن ، والمرض المبيح للفطر ، وأمثال ذلك ،
وليس ذلك من الشّرائط ، لأنّ شأن الفقيه بيان الحكم باعتبار الشّرطيّات لا بيان
أطرافها ، فيقول : القرن يوجب التّسلّط على الفسخ في النّكاح ، والمرض المضرّ يبيح
الفطر.
وأمّا حقيقة القرن
والمرض فليس معرفتهما شأن الفقيه ، وإلّا لزم أن يعلم الفقيه جميع العلوم
والصّنائع أو أغلبها ، لاحتياج أطراف الشّرطيّات إليها ، مثلا يجب
__________________
على الفقيه أن
يحكم بأنّ المبيع إذا خرج معيبا فللمشتري الخيار أو إن ظهر له الغبن فله الخيار أو
يثبت في الأمر الفلانيّ الأرش ، وأمّا معرفة العيب والغبن والأرش فلا يجب عليه كما
لا يخفى.
والرّابع : هو بعض
مسائل الهندسة مثل ما لو باع بشكل العروس مثلا ، ويظهر الوجه ممّا تقدم.
والخامس : بعض
مسائل الحساب مثل : الجبر ، والمقابلة ، والخطائين ، والأربعة المتناسبة ممّا
يستخرج بواسطتها المجهولات.
ويظهر وجه عدم
الاشتراط ممّا تقدم ، فإنّ شأن الفقيه فيما لو سئل عنه إذا قال أحد : لزيد عليّ
عشرة إلّا نصف ما لعمرو ، ولعمرو عليّ عشرة إلّا نصف ما لزيد ، أن يقول : إقرار
العقلاء على أنفسهم جائز ، فلا يجب عليه تعيين المقدار.
ثمّ إنّ القدر
الواجب من تلك الشّرائط المتقدّمة هو ما يندفع به الحاجة ، فلا يجب صرف العمر
الكثير في تحصيل المهارة في كلّ واحد منها ، فإنّ الفقه الذي هو ذو المقدّمة يحتاج
الى صرف العامّة العمر فيه ، فصرف العمر في مقدّماته يوجب عدم الوصول الى ذي
المقدّمة ، مع أنّ الفقه أيضا مقدّمة للعمل والعبادة ، فلا بدّ من عدم الغفلة وصرف
العمر فيما لا يعنيه.
__________________
قانون
يشترط في المفتي
الذي يرجع إليه المقلّد بعد الاجتهاد أن يكون : مؤمنا ، عدلا.
والظّاهر أنّ
اشتراط الإيمان إجماعيّ أو مبنيّ على عدم جواز الرّجوع الى أحكام المخالفين مع
مخالفة الحكم لنا ، وإلّا فلو فرض أنّ مخالفا ثقة صدق وأفتى على وفق أصولنا
وطريقتنا بحيث يحصل الاطمئنان بمساواته مع المفتي من أصحابنا في الاستنباط عن
أصولنا ، كما كان جماعة من أصحابنا مفتي الفرق والعامّة كانوا يعتمدون عليهم ،
فيشكل الحكم بعدم جواز الرّجوع إليه.
وعدم الاعتقاد
بالحكم لا ينافي عدم التّقصير في الاستنباط وعدم الكذب في الإخبار عنه.
وأمّا العدالة
فظاهرهم الوفاق على اعتباره ، وإن كان يمكن القول بكفاية الوثوق في الاستنباط
والصّدق ، نظير ما كان يقوله الشيخ رحمهالله في أخبار المتحرّز عن الكذب مع كونهم فاسقين بسائر الجوارح
أيضا.
ويشترط في صحّة
رجوع المقلّد إليه علمه بكونه جامع شرائط الإفتاء بالمخالطة المطّلعة على حاله أو
بإخبار جماعة تفيد العلم ، وقيل : أو بشهادة العدلين ، وفيه إشكال.
وذهب العلّامة رحمهالله في «التهذيب» الى كفاية الظنّ ، قال : لا يشترط في المستفتي علمه بصحّة
اجتهاد المفتي ، لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) من
__________________
غير تقييد ، بل يجب عليه أن يقلّد من يغلب على ظنّه أنّه من أهل الاجتهاد
والورع ، وإنّما يحصل له هذا الظنّ برؤيته له منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق ،
واجتماع المسلمين على استفتائه وتعظيمه.
وقال المحقّق رحمهالله : ولا يكتفي العامّيّ بمشاهدة المفتي متصدّرا ، ولا داعيا
الى نفسه ، ولا مدّعيا ، ولا بإقبال العامّة عليه ، ولا باتّصافه بالزّهد والورع ،
فإنّه قد يكون غالطا في نفسه أو مغالطا ، بل لا بدّ أن يعلم منه الاتّصاف
بالشّرائط المعتبرة من ممارسته وممارسة العلماء وشهادتهم له باستحقاق منصب الفتوى
وبلوغه إيّاه.
وقال في «المعالم»
بعد نقل كلام العلّامة والمحقّق كلّ ما نقلنا : وكلام المحقّق رحمهالله هو الأقوى ووجهه واضح لا يحتاج الى البيان.
واحتجاج العلّامة رحمهالله بالآية على ما صرّح ، صار إليه مردود.
أمّا أوّلا :
فلمنع العموم فيها ، وقد نبّه عليه في «النّهاية».
وأمّا ثانيا :
فلأنّه على تقدير العموم لا بدّ من تخصيص أهل الذّكر بمن جمع شرائط الفتوى بالنّظر
الى سؤال الاستفتاء للاتّفاق على عدم وجوب استفتاء غيره ، بل عدم جوازه. وحينئذ
فلا بدّ من العلم بحصول الشّرائط أو ما يقوم مقام العلم ، وهو شهادة العدلين.
ويظهر من كلام
المرتضى رحمهالله الموافقة لما ذكره المحقّق رحمهالله حيث قال :
__________________
وللعامّي طريق الى
معرفة صفة من يجب عليه أن يستفتيه ، لأنّه يعلم بالمخالطة والأخبار المتواترة حال
العلماء في البلد الذي يسكنه ، ورتبتهم في العلم والصّيانة ـ أيضا ـ والدّيانة.
قال : وليس يطعن في هذه الجملة قول من يبطل الفتيا ، ويقول : كيف يعلمه عالما وهو لا يعلم شيئا من علومه ،
لأنّا نعلم أعلم النّاس بالتّجارة والصّناعة في البلد وإن لم نعلم شيئا من التجارة والصناعة ، وكذلك
العلم بالنّحو واللّغة وفنون الآداب. انتهى كلامهرحمهالله.
وتحقيق المقام على
ما أسّسنا عليه الأساس في المباحث المتقدّمة ، أنّ الجاهل والغافل من العوامّ
الّذين لا تمييز لهم ، لا تكليف عليهم إلّا بما بلغه طاقتهم وعقولهم ، إنّما
الكلام في أهل الفطنة والذّكاء والتمييز منهم ، وطلبة العلوم البصيرين [البصريين]
بأحوال أهل العلم الغير البالغين مرتبة الاجتهاد في بيان حال العلماء في مناظراتهم
وتحقيق المسائل في نفس الأمر ليترتّب عليه العلم بحقيقة الحال ، ويتفرّع عليه
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
فنقول : الأقوى
وإن كان بالنّظر الى بادئ النّظر ، هو اشتراط العلم مع الإمكان والاكتفاء بالظنّ
مع عدمه ، ولكن دقيق النّظر يعطي كفاية الظنّ مطلقا ، للأصل ولزوم العسر غالبا.
فإن قلت : إنّ
الأصل ارتفع باشتغال الذّمّة بالأخذ عن المجتهد وهو لا يرتفع إلّا
__________________
بالعلم به.
قلنا : اشتغال
الذّمّة بأزيد من الأخذ عمّن ظنّ اجتهاده ، غير معلوم.
وكذلك الجواب عن
الإجماع لو تمسّك به ، بتقريب أن يقال : الإجماع منعقد على وجوب الأخذ من المجتهد
وهو لا يحصل إلّا لمن علم كونه مجتهدا ، فإنّ الإجماع إنّما هو على القدر المشترك
، وهل ذلك إلّا موضع النّزاع.
ويدلّ عليه أيضا
أنّ اعتبار العلم يوجب العسر والحرج غالبا.
ويظهر ثمرة هذا
النّزاع فيما لو كان عالم في بلد وهو في نفس الأمر ليس بمجتهد ، لكن كلّ من دونه
من العلماء في ذلك البلد بعضهم يعتقدون اجتهاده ، وبعضهم يظنّون ، فهؤلاء الظّانون
إذا تفطّنوا لهذه المسألة ، أعني جواز العمل بالظنّ في ذلك وعدم الجواز ، فهل يجب
عليهم التّفحّص من الخارج والتّفتيش حتّى يحصل لهم العلم أم لا؟
وأمّا من لم
يتفطّن للمسألة أو جزم بكونه مجتهدا مع مخالفته لنفس الأمر ، فلا إشكال في أنّه
ليس عليه شيء.
والحاصل ، أنّه لا
دليل على وجوب تحصيل العلم ، نعم ، هو أولى وأحوط.
وممّا حقّقناه
يعلم أنّ المراد بالذي يكتفى به هو الظنّ بعد بذل الجهد ، لا الظنّ البادئ كما
قلناه في الظنّ بعدم المخصّص في مبحث جواز العمل بالعامّ قبل الفحص ، فلا يعترض
المتوهّم أنّه لا وجه للاكتفاء بمطلق الظنّ.
ثمّ إنّ الظّاهر
أنّ مراد العلّامة رحمهالله من الاعتماد على إقبال النّاس واجتماع المسلمين على
الاستفتاء كما هو ظاهر كلامه اشتمالهم على أهل العلم والفهم
__________________
والفطانة ، وإلّا
فاجتماع مطلق العوامّ لا يفيد الظنّ بشيء إلّا أن يكون ذلك على سبيل الاستمرار
الكاشف عن استحقاق الرّجوع إليه ، لحكم العادة بارتداعهم إذا وصل إليهم خلاف ما
فهموه بمرور الأيّام المتطاولة.
ثمّ إنّ الكلام مع
اتّحاد المفتي واضح ، ومع التعدّد ، فإن تساووا في العلم والورع واتّفقوا في
الفتوى ، فلا إشكال أيضا في التّخيير.
وربّما يقال : إذا
اتّفقوا ولكن تفاوتوا في العلم والورع ، فيقدّم الأعلم.
وفيه : إشكال ،
ويظهر وجهه ممّا يأتي بطريق الأولى.
وإن اختلفوا في
الفتوى ، فإن تساووا في العلم والورع ، فهو مخيّر في تقليد أيّهم شاء ، لعدم
المرجّح ، وإن كان بعضهم أعلم وأورع من غيره ، فالمعروف من مذهب أصحابنا ، بل ذكر
بعضهم أنّه لا خلاف فيه عندنا أنّه يقدّم على غيره ، لأنّه أقوى وأرجح ، واتّباعه
أولى وأحقّ ، وأنّه بمنزلة الأمارتين على المجتهد.
واختلف فيه
العامّة ، فمنهم من وافقنا على ذلك ، والأكثرون سوّوا بين الأفضل وغيره لاشتراك الجميع في
الاجتهاد والعدالة المصحّحين للتقليد ، ولأنّ المفضولين من الصّحابة وغيره كانوا
يفتون من غير نكير.
أقول : إن ثبت
الإجماع مختار الأصحاب فهو ، وأنّى له بإثباته في أمثال هذه
__________________
المسائل ، وإلّا
فالاعتماد على هذا الظّهور والرّجحان مشكل ، وتشبيهه بأمارة المجتهد قياس مع
الفارق.
وفي كلام المحقّق
الأردبيلي رحمهالله في «شرح الإرشاد» منع تقديم الأفضل في المحاكمة.
والتّحقيق ، أنّهم
إن أرادوا أنّ عمل المقلّد بظنّ المجتهد إنّما هو لأجل أنّه محصّل للظنّ بحكم الله
الواقعيّ ، والمجتهدان المختلفان أمارتان على ذلك الحكم كأمارتي المجتهد عليه.
ففيه : أنّه لا
نسلّم على الإطلاق ، فإنّ مقلّدا كان في بلده مجتهدان أحدهما أعلم من الآخر وهما
مختلفان في الفتوى وفرض في عصره وجود مجتهدين آخرين في بلاد آخر ، فكيف يحصل له
الظّنّ بأنّ قول أعلم المجتهدين الّذين في بلده هو حكم الله الواقعي دون من هو
أدون منه مع احتماله أن يكون بعض المجتهدين الّذين في البلاد الأخر مخالفا لذلك
الأعلم وموافقا للأدون مع كونه مساويا للأعلم في العلم أو أعلم منه؟
وإن سلّمنا نفي
أعلميّة الغير بأصل العدم لكون الزّيادة من الحوادث ، ولكن إذا علم وجود الأعلم من
ذلك الأعلم واحتمل موافقته لذلك الأدون ، فلا مناص فيه عمّا ذكرنا ، فيرجع مآل
دعوى الرّجحان وادّعاء حصول الظنّ بقول الأعلم حينئذ الى إفادة الظنّ بقيد هذا
الحال ، وهذا الشّرط ، يعني أنّ فرض انحصار المجتهد في هذين الموجودين في بلده ،
فيكون العمل على قول الأعلم أقرب وأرجح ، وليس هذا معنى حصول الظنّ بحكم الله
الواقعيّ لا بشرط ، وعلى الإطلاق الذي هو مقصود النّاظرين في هذه المسائل.
ولا يمكن دعوى ذلك
مع ملاحظة فتاوى الأموات أيضا ، فإنّ دعوى حصول
الظنّ بحكم الله
الواقعيّ من قول المجتهد الحيّ الذي هو أدون بمراتب شتّى من المجتهد الميّت دون
قول ذلك الميّت مجازفة من القول.
فإن قلت : إنّ
فتوى الميّت مخرج بالدّليل على عدم جواز العمل بقوله.
قلت : الدّليل
العقليّ أعني سدّ باب العلم الموجب للعمل بالظنّ مع بقاء التّكليف ضرورة ، وقبح
تكليف ما لا يطاق لا يقبل التّخصيص ، إلّا أن يذبّ عن ذلك بما يذبّ عن إخراج
القياس والاستحسان ، وسيجيء تمام الكلام.
وعلى هذا ، فلا
بدّ أن يقال بالتّخيير بين الأعلم وغيره ، فحينئذ يكون حكم الله الواقعيّ بحسب ظنّ
أحدهما ، بل أحد المجتهدين الموجودين في العالم ، بل الميّتين أيضا لو جوّزنا
للعمل بقولهم ، فإذا تردّد الحكم الواقعيّ بين هؤلاء ، فمقتضى الدّليل التّخيير.
وإن أرادوا أنّ ذلك حكم آخر ينوب مناب الحكم الواقعيّ يجوز العمل بالظنّ وإن لم
يحصل الظنّ بالحكم الواقعيّ كالتقيّة النائبة عن مرّ الحق ، فلا دليل حينئذ على
وجوب ترجيح الأعلم.
فإنّ الذي ثبت من
الدّليل أنّه إذا لم يمكن للمقلّد العلم بحكم الله الواقعيّ ، يجوز العمل بظنّ من
تمكّن من استنباط الحكم من هذه الأدلّة.
وأمّا انّ ظنّ هذا
الشّخص هل هو كاشف عن الواقعيّ أو لا ، فلا يحتاج إليه على هذا الفرض ، وحينئذ فلا
دليل على اعتبار الأقوى ، بل لا معنى لاعتبار الأقوى والأقرب والأرجح ، لأنّ قولنا
: حكم الله الظّاهريّ هو ما كان أرجح ، لا بدّ له من متعلّق ومن بيان أنّ أرجحيّته
في أيّ شيء.
فإن قلت : المراد
ما كان أرجح وأظهر في أنّه هو حكم الله الظّاهريّ ، فهو دور.
وإن قلت : المراد
ما كان أرجح بالنّسبة الى ما أراده الله تعالى في الواقع عنّا فهو الظنّ بحكم الله
الواقعيّ ، والمفروض عدمه.
والحاصل ، أنّ
الأدلّة الشّرعيّة هي حاكية عن حكم الله الواقعيّ ، والتّرجيح الحاصل فيها
والأظهريّة المتعلّقة بها إنّما هو بالنّسبة الى ما هو المراد في الواقع ، فلا
يصحّ فرض احتمال إرادة حكم الله الظّاهري غير كونه ظاهرا انّه حكم الله الواقعي.
لا يقال : إنّ
الأصل حرمة العمل بالظنّ خرج الأقوى بالاجماع ، ولا دليل على العمل بالأضعف ،
لأنّا نقول : قد بيّنّا سابقا أنّه لا أصل لهذا الأصل ، فلا نعيد ، واشتغال
الذّمّة أيضا لم يثبت إلّا بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون ، والأصل عدم
لزوم الزّيادة ، فلو كانوا يفصّلون بأنّه إذا انحصر المجتهد في العالم في الأعلم
وغير الأعلم ولم يكن هناك ميّت أعلم أيضا ، فهناك رجّح [ترجّح] أقوى الأمارتين
القائمتين على الحكم الواقعيّ على الآخر لكان له وجه. ولكنّه فرض ناء [نادر] في
المقلّد في المجتهد أيضا بالنّسبة الى أمارته.
فنقول : لزوم عمله
على أقوى الأمارتين إنّما هو إذا أراد تحصيل ما هو أقرب الى الواقع ، والظّنّ بحكم
الله النّفس الأمريّ ، وهو لا يتمّ إلّا إذا كان مقيّدا بشرط وحال.
فلو فرض أنّ مجتهد
لم يقدر على تحصيل الأسباب وكتب الأخبار وتحصيل أقوال الفقهاء ، وانحصر تكليفه في
الاجتهاد فيما عنده من الأسباب مع فرض علمه بوجود شيء آخر من الأسباب ، ولكن هو لا
يتمكّن منه ، واحتمال مدخليّة الغير في مطلبه احتمالا ظاهرا ، فتحصيل الظنّ له
حينئذ إنّما هو بشرط هذه الأسباب وفي هذه الحال لا مطلقا ، وهو ليس معنى تحصيل
الظنّ بالحكم الواقعي.
نعم ، المجتهد
الذي جمع الأسباب واستفرغ وسعه في التّحصيل ونفى وجود ما يحتمل أن يعارض دليل
مختاره ويترجّح عليه بأصل العدم ، يمكنه تحصيل الظنّ
بالحكم الواقعيّ.
والقول : بأنّ
الأصل عدم مخالفة ما وجد من الأسباب في العالم ، وهو لا يتمكّن منه لما عنده من
الأسباب غلط فاحش ، لأنّ الأصل لا يتفاوت بالنّسبة الى الموافقة والمخالفة كما لا
يخفى.
فحينئذ فالقول :
بوجوب تقديم قول الأعلم للمقلّد على الإطلاق ، لا يتمّ.
ودعوى الإجماع في
أمثال هذه المسائل مع أنّها غير ظاهرة منهم وغير واضحة في نفسها ، يظهر بطلانها من
استنادهم في دعواهم هذه الى أنّه أقرب وآكد وأرجح.
وأيضا لا يلائم
الجمع بين دعوى الإجماع على متابعة الأعلم في إثبات المطلب ، وبين الاستناد الى
أنّه أقرب وأرجح ، فإنّ الاستناد الى الثّاني وهو كونه أقرب وآكد استنادا الى
الدّليل العقليّ ، والاستناد الى الأوّل استنادا الى التعبّد ، والدّليل العقليّ
لا يقبل التّخصيص والتّقييد ، وقد مرّ نظير ذلك في أدلّة حجّية خبر الواحد.
والحاصل ، أنّ
المعيار في رجوع المقلّد الى المجتهد إن كان هو العمل بالظنّ عند تعذّر العلم
بالحكم النّفس الأمريّ ، فهو تابع لحصول الظنّ لا بشرط من أيّ جهة كان وإن كان
بتقليد الميّت ، ولا معنى لحصول الظنّ بشرط حال ووقت.
وإن كان المعيار
هو الإجماع أو غيره من الأدلّة الشّرعيّة ، فهو مقصور على ما يدلّ عليه الدّليل.
ودعوى الإجماع على
متابعة الأعلم أيضا لم يثبت إلّا في الأعلم الذي لم يعلم مخالفته لأعلم آخر أو علم
عدم مخالفته له ، بل الظّاهر من دعوى الإجماع على متابعة الأعلم هو الأعلم على
الإطلاق لا أعلم بلد المقلّد.
هذا إذا كان
أحدهما أعلم وأورع من الآخر ، وإن اختلفا وكان أحدهما أورع والآخر أعلم ، فقيل :
يقدّم الأعلم ، لأنّ الورع المعتبر في العدالة يكفي في اجتهاد الأعلم ولا يحتاج
الى الزّيادة التي في الأورع ، وذلك يحجزه عن التّقصير ، ولكن زيادة العلم في
الآخر يوجب زيادة الاتقان في الفتوى.
وقيل بتقديم
الأورع.
ويمكن الاستدلال
بأنّ زيادة الورع يوجب تحمّل المشقة في استفراغ الوسع أزيد ممّا هو دون الوسع ،
وإن كان الامتثال يحصل بما لا يوجب العسر والحرج ، وذلك قد يوجب إدراك بعض ما لا
يدركه الأعلم ، لكون استفراغ وسعه أقلّ منه. ويظهر التحقيق هنا ممّا حقّقناه آنفا.
قانون
اختلفوا في جواز بناء المجتهد في الفتوى
على الاجتهاد السّابق على أقوال :
ثالثها : العدم ،
إلّا إذا تذكّر دليل المسألة ومأخذها ، فإذا نسيها وجب عليه التّكرار ، فإن وافق
الأوّل فهو ، وإلّا فيجب عليه العمل على الآخر.
وقيل : إن مضى
زمان وتغيّر حال يجوز معه زيادة قوّته واطّلاعه على الأدلّة ، فيجب التّكرار ،
وإلّا فلا.
للأوّل : الاستصحاب
، وأصالة عدم الوجوب.
وللثاني : احتمال
تغيّر الرّأي بالنّظر ، فلا يبقى الظنّ.
والثالث : كون
المسألة مربوطة بدليلها حينئذ بخلاف ما لم يتذكّر.
ويظهر دليل
التّفصيل الأخير ممّا ذكر.
والحقّ هو الأوّل
، لما ذكر ، وللزوم العسر والحرج ، ومجرّد احتمال التّغيير لا يوجب زوال الظنّ كما
لا يخفى.
نعم ، لو عرض له
بسبب السّوانح وتغيّر الأحوال وتفاوت الأوقات وتبدّل رأيه في بعض المسائل الأصولية
شكّ في المسألة بحيث زال الظنّ ولو من جهة الاستصحاب أيضا وتساوى الطّرفان ، فيجب
عليه تكرار النّظر ، ثمّ من تجدّد رأيه بسبب التّكرار ، هل يجب أن يعلم مقلّده
بذلك ليرجع عن قوله الأوّل. الأظهر عدم الوجوب.
وما يتوهّم من أنّ
المستفتي حينئذ يبقى عمله بلا دليل ولا موجب ، فيجب ردعه ؛ مدفوع ، بأنّ ظنّ بقاء
الموجب بالاستصحاب كاف له ، والأصل عدم وجوب الإخبار.
ثمّ إنّا قد أشرنا
الى الفرق بين الحكم والفتوى في مباحث الأخبار ، ونزيد لك هنا.
ونقول : إنّ
المراد بالفتوى هو الإخبار عن الله تعالى بحكم مسألة ، سواء كان بعنوان العموم كما
لو قال : الماء القليل ينجس بملاقاة النّجاسة ، أو الخصوص كقوله : هذا القدح من
الماء ينجس بملاقاته لقطرة من البول ، وفي معناه قوله : اجتنبه ، وإن كان إنشاء
باللّفظ.
والحكم هو إلزام
خاصّ أو إطلاق خاصّ في واقعة خاصّة متعلّقة بأمر المعاش فيما يقع فيه الخصومة بين
العباد ، مطابقة لحكم الله تعالى في نظر المجتهد في هذه الواقعة وغيرها ممّا يندرج
تحت كلّي.
فالفتوى حينئذ هو
أنّ كلّ ما كان مثل هذه الواقعة الخاصّة ، فحكمه كذا.
وهذه الواقعة
حكمها في الواقع كذا ، والحكم هو الإمضاء والإنفاذ والإلزام لذلك الحكم العامّ في
هذه الواقعة الخاصّة بعنوان أنّه إنشاء من قبل الحاكم لا إخبار عن الله تعالى
فيها.
والظّاهر أنّ
إنشاء الحكم من الحاكم كما يحصل بقوله : حكمت بكذا ، أو أمضيت كذا ، أو أنفذت كذا
، يحصل بقوله لمن يحكم له بمال : تصرّف في كذا ، وهذا لك ، أو يقول للمرأة :
تزوّجي بفلان ، وكذلك تزويجها بنفسه لغيره ، ونحو ذلك.
ومن خواصّ الحكم
عدم التّعدية عن الواقعة المخصوصة التي وقع فيها الى غيرها وإن كان موافقا لها
بعينها ، وعدم جواز نقضه ، بخلاف الفتوى ، فإنّه يتعدّى من الواقعة الخاصّة الى ما
يوافقها ، ويجوز نقضها بالمعنى الذي سنذكره.
وقد يشتبه الأمر
بين الفتوى والحكم كما أشرنا إليه في مبحث تصرّف
المعصوم عليهالسلام من حكاية هند زوجة أبي سفيان.
ثمّ إنّ رفع
الخصومة إمّا أن يكون بعد التّداعي والتّرافع من الخصمين بالفعل ، أو من أحدهما مع
غيبة الآخر أو صغره أو نحو ذلك.
وإما أن يكون قبل
ذلك إذا كان هناك خصومة متصوّرة بالقوّة ويكون من شأن الواقعة حصول الخصومة فيها.
مثال الأوّل : أن
يدّعي أحد مالا في يد حاضر أو غائب أو صغير ، ورفع أمره الى الحاكم وحكم به له.
ومثال الثاني : أن
يعقد الحاكم بكرا [باكرة] بالغة رشيدة يعتقد هو حياة والدها وتعتقد هي موته ، لأحد
أو يأذن لأحد في إجراء الصّيغة ، فإنّه ليس هنا خصومة بالفعل كما لا يخفى.
ومن أمثلة نكاح
أحد المتراضعين بعشر رضعات للآخر بنفسه أو بترخيصه لهما مع عدم تفطّن أحدهما
للمسألة والإشكال فيها ، بل وعدم علمهما بحصول الرّضاع أصلا ، مثل أن يسأل والد
المتراضعين الجاهلين بالحال عن جواز تزاوجهما بعد ما علم الوالدان به ، وثبت عند
الحاكم أيضا ورخّص لهما بالتّزويج ولم يعلماهما الحال أصلا ، فإنّه لا ريب أنّ
هناك خصومة بالقوّة بين الزّوجين بعد حصول العلم لهما أو لأحدهما بالرّضاع بعد ذلك
، ولكنّ الإشكال في أنّ الظّاهر من تقييد الحكم برفع الخصومة وجعل ذلك غاية له ،
لزوم قصد الحاكم لذلك ، فيخرج كثير من الأمثلة منه ، وذلك أشبه حكاية هند ،
والمائز بينهما هو القصد.
وعلى ما ذكرنا ،
فالفرق بين إعطاء زكاة مال التّجارة لفقير بتقليد مجتهد ، وأخذ المجتهد تلك
الزّكاة وإعطائها الفقير مطلقا حتّى فيما لم يتفطّن صاحب المال للخلاف في المسألة
أصلا ولا المجتهد ، لأنّ ذلك قد يصير موردا للنزاع بين الفقير
وصاحب المال حينئذ
مشكل ، اللهم إلّا أن يقال : المراد بالأخذ هو الأخذ على سبيل الحكم ورفع الخصومة
المتصوّرة قصدا ، وعلى ذلك ينزل تمثيل الشهيد رحمهالله بذلك للحكم في «القواعد».
وكذلك القول :
بأنّ المجتهد إذا أوقع عقد البكر بدون إذن أبيها أو أذن للغير في تزويجها ، فهو
لازم لا يجوز نقضه ، بخلاف ما إذا أوقعها غيره. فإنّ الأوّل حكم لا يجوز نقضه ،
بخلاف الثّاني على الإطلاق ، مشكل ، إذا المسلّم إنّما هو حكم لا يصدر إلّا عن
مجتهد ، ولا يثمر إلّا إذا صدر عنه لا أنّ كلّ ما صدر عن المجتهد فيما يتضمّن
خصومة بالقوّة ، فهو حكم.
والحاصل ، أنّ
الصّدور عن المجتهد من شرائط صحة الحكم لا من مميّزات ماهيّته.
نعم ، إذا كان
مقصود المجتهد قطع الخصومة المتصوّرة ، فكما يجوز أن يقطعها بقوله : جوّزت لك
التّزويج بدون إذن أبيك ، وحكمت لك بهذا ، يجوز أن يقطعها بإجراء الصّيغة بنفسه ،
فهذا هو الذي يصير حكما ، لا مطلق إجراء الصّيغة.
والإشكال في صورة
الإذن للغير أظهر ، فإنّه يصير من باب حكاية هند زوجة أبي سفيان.
وأمّا توهّم عدم
جواز التّزويج فيما نحن فيه إلّا من المجتهد أو بإذنه ، فهو ممّا لم يذهب إليه
أحد.
ثمّ اعلم أنّه يرد
على تعريف الحكم أيضا عدم الانعكاس بالحكم بالحدود ، وممّا يختصّ بحقوق الله تعالى
كشرب الخمر والزّنا سيّما إذا لم يدّع على الزّاني والشّارب أحد حتّى يقع الخصومة
بينهما. وقد صرّحوا بكون ذلك حكما كما ينادي به قولهم في مسألة جواز عمل الحاكم
بعلمه وعدمه ، والتّفصيل بالجواز في
حقوق الله تعالى
دون حقوق النّاس. وكذلك استدلالهم للجواز بعموم قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) الآية. والتّتميم بعدم القول بالفصل وغير ذلك.
وكذلك يرد عليه
الحكم بثبوت الهلال ، فإنّهم جعلوه من باب الحكم ، ولا ريب أنّه متعلّق بالمعاد لا
بالمعاش ، فالتّقييد بالتعلّق بالمعاش يخرجه عن الحدّ. وكذلك تقييد الحدّ برفع
الخصومة لانتفائه فيه غالبا.
وممّا يدلّ على
أنّهم جعلوه من باب الحكم تصريحهم بالخلاف في كفاية قول الحاكم بأنّه يوم فطر ،
واختاره في «الدّروس» ، ورجّحه في «المدارك» استنادا الى عموم ما دلّ على أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه ،
ولأنّه لو قامت عنده البيّنة فحكم بذلك وجب الرّجوع الى حكمه كغيره من الأحكام ،
والعلم أقوى من البيّنة.
ولا ريب أنّ
أدلّتهم التي أقاموها على عدم جواز نقض الحكم كما سيأتي بيانه ، يتفاوت بالنسبة
الى هذه الأقسام ، سيّما الإجماع إذ هو من الأدلّة الشّرعيّة ، ولا بدّ أن يعلم
حال مورده في الشّرع ، وأنّ أيّ هذه المعاني وقع الإجماع عليه.
ويمكن توجيه
المقام لإدخال مثل الحكم بيوم الفطر ، بأن يراد بأمر المعاش أمور لا اختصاص لها
بالشّارع ، بل هي من موضوعات حكمه ، فيرجع الى أنّه هل تحقّق الرّؤية أم لا ، وهل
تمّ عدد الشّهر أم لا. ولا مدخل لذلك في أصل الحكم الشّرعيّ وإن كان يرجع الى
الحكم الشّرعيّ باعتبار قطع النّزاع ، وبتضمّن أنّ
__________________
الشّارع حكم بأن
يحكم الحاكم أنّ هذا اليوم يوم الفطر.
ومن فروع كونه من
الحكم بثبوت حلول الآجال فيما تنازع فيه الخصمان ، مثل : ما لو باع أحد بالبيع
المشروط فيه الخيار الى أوّل الشّهر الفلاني الذي يترتّب عليه اللزوم بانتفاء
الشّرط في أوّل الشّهر ، ثمّ وقع النّزاع بينهما في اليوم الخاصّ في أنّه أوّل
الشّهر أم لا ، فيكفي في ذلك حكم الحاكم بأنّه أوّل الشّهر ، فيترتّب عليه اللزوم
وعدمه ، ولا يحتاج الى حكمه باللزوم وعدم اللزوم. فالحكم بأنّه أوّل الشهر حكم ،
وحكمه باللزوم أو عدمه حكم آخر ، ولإدخال الحدّ الشّرعيّ بإرادة ثبوت الموجب وعدمه
، والخصومة في ذلك متصوّرة أيضا بين العباد في التّصديق والتّكذيب والموافقة
والمخالفة ، فالمناص في تعميم الحكم للمذكورات هو قصد ضمّ الحاكم بحكمه رفع ما عسى
أن يتصوّر من المخالفة والخصومة أيضا ، وإن لم يكن بالفعل هناك خصومة ، فيدخل كثير
ممّا خرج منه. وخرج منه ، ما يتوهّم دخوله فيه.
وقد يحصل لحكم
المجتهد اعتباران ، من أحدهما فتوى ، ومن الآخر حكم ، كما لو حكم بصحّة حجّ
النّائب إذا أدرك اضطراريّ المشعر ، فهو من حيث إنّه مثبت لاستحقاق الأجرة حكم ،
ومن حيث إنّه إخبار عن الصّحّة فتوى.
وعلى ما مرّ فيدخل
في الحكم حكم المجتهد بكون الجلد خزّا إذا اشتبه الأمر ، وحكمه بكون اللّحم مذكّى
إذا وقع الإشكال فيه ، وحكمه بأنّ هذا الإناء من الإناءين المشتبهين هو ما وقع فيه
النّجاسة.
ومن ذلك ظهر الفرق
بين قول المجتهد : هذا القدح نجس ، لمن يقلّده إذا رأى كلاهما أنّه وقع فيه قطرة
من الخمر ، فإذا عدل المقلّد عن تقليد هذا المجتهد قبل العمل بقوله من نجاسة الخمر
وقلّد من رأى طهارتها ، فيجوز استعماله ، وما لو
حكم بأنّ الإناء
الذي وقع فيه البول من الإناءين المشتبهين هو هذا ، فلا يجوز له الاستعمال بعده ،
كما سيجيء بيان ذلك.
وممّا يشكل به
الأمر إذا قلنا بأنّ قول المجتهد : اليوم يوم الفطر ، أو هذا الجلد خزّ ، أو هذا
اللّحم مذكّى ، حكم لزوم متابعة مجتهد آخر لم يثبت عنده ذلك لهذا الحكم ، بناء على
ما مرّ وما سيجيء من أنّ الحكم لا ينقض ، وأنّ معنى عدم النّقض لزوم الحكم بترتّب
الآثار عليه ، كما سيجيء بيان ذلك ، وذلك ممّا يوهن القول بكون أمثال ذلك حكما
بالمعنى المصطلح الذي لا يجوز نقضه أبدا.
ويمكن دفعه :
بالتزامه في المحكوم عليهم بالنّسبة إليهم ، فإنّ الحكم أمر إضافيّ. ثمّ الحكم
إمّا يتحقّق باختيار أحد الأقوال في المسألة المختلف فيها وإجرائه في القضيّة
الشّخصيّة ، كمسألة المتراضعين والبكر ونحوهما ، ولو كان بدون مرافعة ومخاصمة
بالفعل ، وإمّا بإجراء الحكم على الطّريقة المجمع عليها في القضيّة الشّخصيّة
المتنازع فيها بسبب إدّعاء كلّ منهما الاستحقاق شرعا بزعمه ، كتملّك المدّعي في يد
المدّعى عليه بسبب البيّنة المقبولة أو بإجراء ما هو المختار عند الحاكم في طريق
رفع الدّعوى مع كونه خلافيّا ، مثل إثبات بعض الحقوق المختلف فيها بالبيّنة
واليمين ، كالخلع والعتق ، ويجب على المتحاكمين العمل بمقتضاه في الجميع.
هذا حال الحكم
والأحكام [والاحتكام] وإنفاذ الأمر وإمضائه.
وأمّا حال الإفتاء
والتّقليد ، فأمّا التّقليد في العبادات فواضح ، لأنّه عمل بقول المفتي في المسألة
، وكذلك في الحلّ والحرمة ونحوهما في المطاعم والمشارب ، والأفعال والأعمال
البدنيّة ، غير العقود والإيقاعات.
وأمّا العقود
والإيقاعات ممّا يحصل بين الاثنين غالبا ، فلها جنبتان :
إحداهما : الجواز
، وعدم الجواز.
والثّانية :
الصّحّة ، والبطلان.
وأمّا الأوّل :
فيتبع المقلّد رأي مجتهده فيه.
وأمّا الثّاني :
هو أيضا ظاهر مع التّراضي ، وببنائهما على متابعة مجتهد في الأصل وفي الاستمرار.
ولمّا كان قد يحصل فيه النّزاع من جهة المنع عن ترتّب الآثار ، فيحتاج الى
التّرافع ورفع النّزاع.
ثمّ إنّ النّزاع
بين طرفي العقود والمعاملات إمّا أن يكون من محض مخالفة الطّبع ، أو من جهة مخالفة
الطّرفين في حكم الشّرع ، بأن يكونا مجتهدين متخالفين أو مقلّدين لمجتهدين مخالفين
، فلنمثّل هناك مثلا ليتّضح الأمر ، وهو مثال عقد البكر البالغة الرّشيدة مع وجود
الأب ، ولها صور عديدة :
الأولى : أن يكونا
مقلّدين لمجتهد يرى أنّ الخيار لها.
الثّانية :
الصّورة بحالها مع كون رأيه أنّ الخيار للوليّ ، ولا إشكال في الجواز والصّحة في
الصّورتين.
الثالثة : أن
يكونا مقلّدين لمجتهد واحد ولكن وقع النّزاع بينهما بحسب الطّبع والهوى ، ولا ريب
حينئذ أيضا في صحّة ما وافق رأي المجتهد ، وبطلان ما خالفه ، كما لا ريب في جوازه.
الرّابعة : أن
يكون أحدهما مقلّدا لمجتهد والآخر مقلّدا لمجتهد آخر مخالف له ، أو يكونان مجتهدين
مخالفي الرّأي ، [إن] قلنا بعدم اشتراط الذّكورة في المجتهد كما هو الظّاهر ،
وحينئذ فإمّا أن يتنازعا قبل العقد أو بعد عقد كلّ منهما لرجل على حدة ، أو بعد
عقد أحدهما ، وفي كلّ من الصّور يحتاج الى المرافعة الى مجتهد ، فإن كان النّزاع
قبل العقد ، فإن وافق رأي الحاكم لأحدهما ، فيحكم له ، وإن كان
رأيه التّخيير في
العمل لو فرض قول به في هذه المسألة أو في مسألة أخرى ، فالتّعيين بيد الحاكم أو
بالقرعة ، وإن تنازعا بعد عقد كلّ منهما ، فإن ترتّبا ، فالحكم لما وافق رأي
الحاكم إن كان رأيه التّعيين والحكم لما يختاره إن كان رأيه التّخيير. وإن تقارنا
زمانا ، فيظهر حكمه ممّا تقدم.
وممّا ذكرنا ،
يظهر أحكام صور أخرى متصوّرة هنا ، مثل ما لو لم يكونا مجتهدين ولا مقلّدين ، أو
كان أحدهما مجتهدا أو مقلّدا والآخر جاهلا أو غافلا ، وسيجيء تمام الكلام.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم أنّهم ذكروا أنّه لا يجوز نقض الحكم في الاجتهاديّات من الحاكم إذا تغيّر
اجتهاده ، ولا من غيره إذا خالفه ما لم يخالفا [يخالف] قاطعا ، بخلاف الفتوى.
واحتجّوا عليه :
بأنّ جواز نقضه يؤدّي الى جواز نقض النّقض من مجتهد آخر ، فيتسلسل ويفوت مصلحة نصب
الحاكم ، وهو فصل الخصومات.
وادّعوا الإجماع
عليه ، ويدلّ عليه الاستصحاب ونفي العسر والحرج.
وأمّا جواز نقض
الفتوى فكلامهم في ذلك غير محرّر ، فإن أرادوا جواز نقض الفتوى بالحكم بعد تحقّق
المرافعة والمخاصمة ، فله وجه في الجملة كما أشرنا ، فإنّ أحد طرفي الدّعوى إن بنى
مطلبه على فتوى مجتهد ، والآخر على خلافه ، وتخاصما عند الحاكم ، فله نقض مقتضى
الفتوى بحكمه إذا خالفه رأيه في المسألة ، وكذا إذا كانا مجتهدين ، وسنذكر وجه
التّقييد بقولنا في الجملة.
وإن أرادوا جواز
نقض الفتوى بالفتوى ، فهو مشكل. والذي نقطع بأنّهم أرادوه من جواز نقض الفتوى في
هذا المقام أنّه يجوز مخالفة المفتي ، أمّا من المستفتي ، فإذا لم يعمل بعد
بالفتوى ، لأنّ إجماعهم إنّما انعقد على عدم جواز العدل وبعد [العدول
بعد] العمل ما لم
يظهر بطلان الفتوى من رأس أو عدم استحقاق المجتهد للتقليد.
وأمّا قبل العمل ،
فجوّزوا العدول وإن اعتقد بالحكم بتقليد مجتهده ، وكذلك بعد العمل في واقعة أخرى
إذا تغيّر رأي مجتهده أو تبدّل مجتهده بمجتهد آخر يخالفه.
وأمّا المفتون
فمطلقا ، لجواز عمل كلّ مجتهد على ما رآه وإن كان مخالفا للآخر ، وهذا هو ظاهر
الشّهيد رحمهالله ، فإنّه قال في «القواعد» بعد العبارة التي نقلناها عنه في مباحث الأخبار : وبالجملة
، فالفتوى ليس فيها منع للغير عن مخالفة مقتضاها من المفتين ولا من المستفتين ،
أمّا من المفتين فظاهر ، وأمّا من المستفتين ، فلأنّ المستفتي له أن يستفتي آخر ،
الى آخر ما ذكره.
وأمّا جواز نقض
الفتوى بالفتوى بمعنى إبطالها من رأس أو تغييرها من الحال مطلقا ، ففيه غموض
وإشكال ، وتوضيحه ، أنّ الفتوى على أقسام :
منها : ما يستلزم
الاستدامة ما لم يطرأ عليه مزيل بحكم وضعيّ.
ومنها : ما لا يستلزمه.
فالأوّل : مثل
الفتوى في العقود والإيقاعات.
والثّاني : مثل
الفتوى في نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، وعدم نجاسة الكرّ ، وأمثال ذلك من
حلّيّة المطاعم وحرمتها ، ممّا اختلف فيه ، وغير ذلك. فإن فرض أن يفتي أحد بجواز
عقد البكر بإذنها وفرضنا غيبة أبيها ، وعقدناها بتلك الفتوى ، ثمّ تغيّر رأي المجتهد قبل حضور أبيها وقبل تحقّق
المخاصمة والمرافعة
__________________
بينهما ، فالعمل
على هذه الفتوى وإجراء العقد عليها ممّا يستلزم الدّوام ، فإنّ
العقد يقتضي الاستمرار ، إمّا دائما أو الى أجل كالمنقطع. وقطع الاستمرار فيه
يتوقّف على ما وضعه الشّارع لذلك ، مثل الطّلاق والارتداد وانقضاء المدّة أو هبتها
، وحصول الرّضاع اللّاحق أو ثبوت الرّضاع السّابق إذا لم يعلم الزّوجان بحال
الرّضاع قبل العقد ، ولم يثبت في آية وخبر أنّ تجدّد الرّأي من القواطع. وكذلك
بجواز نكاح المتراضعين بعشر رضعات عند من لا يراه محرّما ، وكذلك بيع العنب لمن
يعلم أنّه يجعله خمرا ، وبين أرواث ما يؤكل لحمه أو ما لا يؤكل لحمه في غير عذرة الإنسان ،
وغيرهما ممّا لا يحصى. وكما أنّ مقتضى الحكم رفع النّزاع ، ومقتضى نصب الحاكم عدم
جواز مخالفته في الحكم لئلّا يناقض الغرض المقصود منه ، فكذلك مقتضى الرّجوع الى
المفتي ، ونصب المفتي لإرشاد المستفتين ان يبنوا أمر دينهم وشرائعهم ومعاشهم
ومعادهم على قوله.
فالشّارع الذي
جوّز رجوع المستفتي الى المفتي في جواز النّكاح وعدمه ، وجواز البيع وعدمه ، رخّصه
[في] أن يبني أمر معاشه ومعاملاته على فتوى مفتيه.
وأمر المعاش بعضه
ممّا هو من الأمور الدّائمة ، فاليوم الذي يحصل فيه الرّخصة للمستفتي في إيجاد ذلك
الأمر الذي هو من الأمور الدّائمة ، فقد حصلت الرّخصة لإدامته. وكما أنّ مخالفة الحاكم ومناقضة حكمه
ينافي الظّلم [النظام]
__________________
ويوجب عدم
الاستقرار ، فكذلك مخالفة المفتي في هذا القسم من الفتوى.
ولا يضرّ تجدّد
رجحان الحرمة في نظر المقلّد من جهة تغيير رأي مجتهده حتّى يستبعد جواز التّصرّف
مع رجحان الحرمة ، كما لا يضرّ ذلك في صورة الحكم مع تغيّر الرّأي.
وكذلك الكلام في
المجتهد إذا تغيّر رأيه وكان هو صاحب المعاملات والنّكاح ، ولا يستبعد ذلك فيه ،
كما لا يستبعد لو طرأ عليه حكم حاكم آخر كما ذكروه.
وأمّا الحكم بوجوب
الاجتناب عن الماء القليل الملاقي للنجس ، فليس حكما بشيء يوجب الاستمرار والدّوام
، إذ وجوب الاجتناب ليس ممّا يستلزم هذا المعنى ، وكذلك الحكم بجواز الاستعمال لا
يستلزم الدّوام ، وإن استعمله ، فبعد تجدّد الرّأي يحكم بغسل ما لاقاه ، ووجوب
الاجتناب عنه ، بل هو كذلك إذا أفتى بنجاسة قدح خاصّ وقع فيه النّجاسة قطعا ، كما
أشرنا إليه سابقا أيضا ، إذ الحكم بنجاسته لا يستلزم دوام ذلك الحكم ما دام القدح
باقيا ، فيجوز القول بعدم الوجوب إذا تجدّد الرّأي مع كون الماء باقيا على حاله ،
وكذا العكس.
والحاصل ، أنّ
الحكم بوجوب الاجتناب أو عدمه لا يستلزم الدّوام مطلقا ، ولكن حكم الزّوجيّة إذا
حصلت بسبب الفتوى ، يستلزم الدّوام ، إذ العلّة الموجدة في الثّانية هي العلّة
المبقية بعد العمل بها بخلاف الأولى ، بل لك أن تقول : إنّ هذا ليس من مسألة نقض
الفتوى وعدمه ، بل هو من النّزاع في جواز نقض ما حصل من الفتوى ، وهو يختلف
باختلاف الموارد ، بخلاف أصل الفتوى ، فإنّه يجوز نقضه ومخالفته مطلقا بلا اختلاف
في الموارد ، وإن شئت إجراء هذا الكلام في العقود ، فافرض المثال فيما أفتى
المجتهد بجواز النّكاح ثمّ تجدّد رأيه قبل التّزويج ، فإنّ ذلك ممّا يجوز نقضه بلا
إشكال كما لو تجدّد الرّأي في نجاسة القليل وعدمها قبل
الاستعمال أيضا ،
وهذا بخلاف الحكم فإنّه لا يجوز نقضه ، سواء عمل به أم لا.
إذا عرفت هذا ،
علمت أنّه لا يتمّ تفريع حرمة المنكوحة بلا وليّ وإن كان بتجويز المجتهد إذا تغيّر
رأي مجتهده ، إن لم يلحقه حكم حاكم ولم يباشر عقدها الحاكم بنفسه أو بترخيصه على
أنّه متابعة للفتوى ، ويجوز نقضه وفسخه إذا تجدّد رأي المجتهد أو مات وجاء مجتهد
آخر يخالفه ، بخلاف ما إذا وقع العقد بفعل الحاكم أو رخصته الخاصّة.
وكذلك عقد العارفة
بالمخالف إذا وقع بتقليد مجتهد يرى ذلك ، بل قال بعضهم : إنّه يحرم عليه مع لحوق
حكم الحاكم أيضا ، وكذلك في المجتهد الذي نكح امرأة جاز نكاحها عنده لنفسه أوّلا ،
ثمّ تغيّر رأيه ورآها حراما. قالوا : يحرم عليه إلّا أن يلحقه حكم حاكم ، وبعضهم
حرّمه مع لحوق حكم الحاكم أيضا.
ووجه عدم
التّماميّة منع جواز نقض الفتوى بالفتوى مطلقا ، كما أشرنا ، بل المسلّم إنّما هو
قبل العمل ، كما يظهر من استدلال الشّهيد رحمهالله المتقدّم ، فإنّ جواز العدول إنّما هو قبل العمل إجماعا ،
كما سيجيء في القانون الآتي.
وكذلك يتحقّق بترك
العمل على مقتضى الفتوى الأولى فيما يتجدّد بعد ذلك من الموارد الواردة عليه ،
فعدم لحوق النّقض بالحكم حينئذ إنّما هو لعدم التحقّق في الحكم بسبب الامتناع
بالذّات ، إذ الحكم إنّما هو شخص واحد لا يتجاوز الى مورد آخر ، بخلاف الفتوى ،
فكلّ حكم مشتمل على الفتوى فهو يتعدّى وينتقض من حيث الفتوى في مادّة أخرى ، ولا
يتعدّى من حيث الحكم ولا ينتقض.
ويدلّ على عدم
جواز النّقض في الفتوى بالمعنى المذكور أيضا ، الاستصحاب ولزوم العسر والحرج ،
ولزوم الهرج والمرج ، وعدم الانتظام في أمر الفروج والأموال والأملاك وغيرها ، مع
أنّ التّحقيق أنّ الرّأي لم يتجدّد في المسألة في
الصّورة المفروضة
، فإنّ الرّأي إنّما هو جواز التّزويج أو عدم جوازه ، لا جواز فسخ التّزويج الحاصل
على النّهج المشروع المكلّف به حينئذ وعدمه ، وترتّب الفسخ وعدمه على جواز العقد
وعدمه يحتاج الى دليل.
والحاصل ، أنّ
جواز نقض الفتوى بالفتوى في أمثال العقود والإيقاعات بعد وقوعها مطلقا مشكل ، ولم
يظهر عليه دليل.
وما يظهر من دعوى
الاتّفاق من كلام بعضهم فيما لو تغيّر رأي المجتهد في المعاملة التي حلّلها أوّلا
وبنى عليها لنفسها وحرّمها ، فهو ممنوع ، مع أنّ دعوى الإجماع على المسائل التي لم
تثبت تداولها في زمان الأئمة عليهمالسلام بعيدة لا يعبأ بها ، ولو فرض أن نقول بإمكانه. وقلنا :
بأنّه إجماع منقول ، فهو لا يقاوم ما ذكرناها من الأدلّة. ولو سلّمناه فإنّما
نسلّم في مورده ، وهو ما لو تغيّر رأي المجتهد وكان الواقعة مختصّة به ، وسيجيء
كلام المحقّق الأردبيلي رحمهالله في عدم جواز نقض الفتوى بتغيير الاجتهاد.
وإن قلنا : بنقضها
، فلا بدّ أن نقول ببطلان المهر المسمّى مثلا ، ولزوم مهر المثل وعدم استحقاق
الإنفاق ، وجواز الرّجوع الى ما أنفقه ، وغير ذلك ، إذ المذكورات من توابع العقد
الصّحيح ، والمفروض انتقاضه.
ولو قلنا : بصحّته
الى الحين ونقضه من حين التّغيير ، وأنّ المراد جواز العمل بالرّأي الثّاني من حين
التّغيير لا إبطال العمل بالرّأي الأوّل من رأس ، فمع أنّه ليس بنقض حقيقي ، بل
ليس بتغيير رأي حقيقة في هذه المادّة الخاصّة كما أشرنا سابقا ، لأنّه ليس حكما
بتحريم العقد مثلا بعد الحكم بحلّه ، بل هو حكم بحرمة الاستدامة بعد الحكم بحلّه ،
المستلزم لحلّ استدامته ، فلا بدّ من القول بلزوم الإطلاق والتزام توابع العقد
الصّحيح ، إذ ذلك الانفساخ من باب الارتداد لا من باب ثبوت الرّضاع
السّابق ، ولم يقل
به أحد.
وبالجملة ، مدار
الكلّ من زمان غيبة الإمام عليهالسلام الى الآن على تقليد المجتهدين ، بل الغالب في الخلائق
أنّهم لا يجتهدون ولا يقلّدون. هب أمر هؤلاء فاسد ، ولكن أمر المقلّدين في البلاد
البعيدة الّذين لا مناص لهم عن التّقليد وأوج معرفتهم هو ذلك ، إنّما هو على العمل
بفتوى مجتهدهم في العبادات والمعاملات ، ولا ريب أنّ المعاملات أكثرها خلافيّة ،
وهذا الإشكال يجري في كلّها ، فلا بدّ لكلّ مقلّد أن يجري بيعه وإجارته ومزارعته
ونكاحه وطلاقه ، كلّها في حضور المجتهد أو بمباشرته أو بمرافعته ، لو سلّمنا أنّ
بمحض ذلك يتحقّق الحكم وإن لم يحصل الخصام بالفعل ، وإلّا فليستعدّ لفسخ مناكحاته
ومعاملاته ، وتبدّل حالاته بمجرّد تبدّل رأي مجتهده أو تبدّله بآخر ، ثمّ بعد
الفسخ بسبب تغيّر الرّأي أو التّجدّد لتصحيحه ثانيا برأي آخر ، ثمّ فسخه برأي آخر
، وهكذا ، فيستلزم التّسلسل وعدم الاستقرار ، ولا أقل من موت مجتهده مع قول أكثر
العلماء ، بل كلّهم على ما ادّعاه بعضهم من عدم جواز تقليد الموتى ، وأنّ النّاس
صنفان : إمّا مجتهد ، وإمّا مقلّد ، فلا بدّ أن يعرض جميع معاملاته التي فعل ،
وكلّ ما في تحت يده ممّا حصل له بمعاملاته على مجتهد آخر ليمضيه أو ليفسخه.
والحاصل ، أنّ كلّ
ما دلّ على جواز العمل برأي المجتهد وهو لزوم العسر والحرج وغيره ، يدلّ على جواز
البقاء على مقتضى أمثال هذه العقود والمعاملات ، وممّا يتفرّع على ما ذكرنا ، جاز
نكاح امرأة وقع طلاقها على خلاف رأيه. مثلا : اختلف العلماء في بعض أقسام الطّلاق
، فعلى القول باختصاص عدم جواز النّقض بالحكم دون الفتوى ، يلزم أن يحكم المجتهد
الذي يرى بطلان ذلك برجوع المرأة الى الرجل إذا وقع الطلاق بتقليد مجتهد يرى ذلك
وإن لم يحصل
مخاصمة ومرافعة ،
أو لا بدّ أن يباشر الطلاق المجتهد بنفسه بقصد الإطلاق والإلزام ، أو يأذن فيه
بالخصوص كذلك أو يمضيه بعد الوقوع لو سلّمنا كفايتها مطلقا في صيرورتها حكما.
وأمّا على ما
حقّقناه من عدم جواز نقض الفتوى أيضا بالفتوى ، وجواز إمضاء أحكامها وإن خالف رأيه
فيجوز للمجتهد الذي لا يرى صحّة مثل هذا الطّلاق إمضاءه إذا وقع بتقليد مجتهد يجوّزه
، ومعنى إمضائه الحكم ، بترتّب آثاره عليه ، ومن جواز نكاح هذه المطلّقة لغيره.
فكما قلنا : إنّه لا يجوز للمجتهد الذي لا يرى نكاح الباكرة بدون إذن الوليّ أن
ينقض النّكاح الواقع بتقليد مجتهد يجوّزه قبل تحقّق المرافعة ، فكذا لا يجوز له أن
يمنع نكاح المطلّقة على غير مقتضى رأيه ، لأنّ ذلك من آثار الطّلاق ، فإمضاؤه
وإبقاؤه معناه حكمه بترتّب آثاره عليه ، وجواز عقدها ثانيا من آثاره ، وذلك نظير
الحكم بين المتخالفين ، فكما أنّ معنى عدم جواز نقضه لمجتهد آخر هو لزوم ترتّب
ثمراته عليه وإن خالف رأيه ، فيحلّ لذلك المجتهد الأكل من المال الذي انتقل الى
المدّعي بحكم الحاكم المخالف له في الرّأي ، بل لو ادّعى عليه أحد بعد ذلك في هذا
المال ولم يقم البيّنة ، فيحكم بكون المال ماله ، وهكذا سائر الثّمرات ، فكذا
الفتوى.
والقول بعدم جواز
نكاح من وقع طلاقها كذلك في عصر المجتهد الثّاني عسر عظيم.
فإن قيل : يندفع
العسر ، بادّعاء المرأة خلوّها عن المانع عند من لم يطّلع بحقيقة الحال.
قلنا : لا يتمّ
ذلك فيما لو علم كونها مطلّقة في الجملة.
فإن قيل : عدم
المعرفة بخصوصية الطّلاق كاف لحمله على الصّحيح.
قلنا : ذلك باطل ،
إذ الصّحيح إذا كان مختلفا فيه ، فيحمل على الصّحيح عند الفاعل لا عند هذا
المجتهد.
وممّا ذكرنا ،
يندفع ما عسى أن يورد على الأصل المسلّم عند الكلّ من حمل أفعال المسلمين على
الصّحّة في كلّ ما كان من هذا القبيل ـ يعني العقود والإيقاعات المستعقبة للآثار
التي عليها بناء معاش الخلق ـ فنرى المسلمين في كلّ عصر ومصر ليس بناؤهم في البيع
والشّرى والقرض والنّكاح والطّلاق وسلوك علمائهم معهم إلّا على الحمل على ترتّب
الآثار مع احتمال أن تكون معاملاتهم على غير طبق ما يصحّ عند ذلك العالم ، وإلّا
فلا معنى لحمل فعل كلّ مسلم على الصحّة مع كون أغلب الأفعال محتملا لوجوه كثيرة ،
بعضها باطلة عند الكلّ ، وبعضها صحيحة عند الكلّ ، وبعضها ممّا اختلف فيه.
ففي الغالب يحصل
احتمال مخالفة ما وقع من المعاملة لما هو رأي هذا الذي يحملها على الصحّة ، ومع
ذلك لا يلتفتون إليه. فترى العلماء يجرون أحكام الزّوجية بين الزّوجين من دون
الفحص عن حالهما أنّ النّكاح هل وقع صحيحا بينهما أم لا ، مع أنّ احتمال كون
الزّوجيّة باطلة عند ذلك العالم ليس باحتمال نادر لا يلتفت إليه ، فإنّه يحتمل أن
تكون الزّوجة باكرة تزوّجت بزوجها بدون إذن أبيها أو متراضعة معه بعشر رضعات ، مع
أنّ ذلك العالم لا يجوّزهما ، أو النّكاح وقع على شرط يبطل النّكاح بسببه عند ذلك
الحاكم.
وكذلك البيوع
وسائر المعاملات ، فإنّ الخلاف في العقود والإيقاعات والمداينات في غاية الكثرة ،
ومع ذلك فبناء العلماء والعوامّ على ترتّب آثار أفعال النّاس من دون تفحّص عن ذلك.
وأنت خبير بأنّ
مجرّد حمل فعل المسلم على الصّحة لا يكفي في ذلك ، لما
ذكرنا من أنّ
المراد بحمل فعله على الصّحّة هو الصّحّة عند الفاعل لا عند الحامل ، والصحّة عند
الفاعل كيف ينفع في ترتّب الآثار عند الحامل ، فعدم الفحص عن ذلك إنّما يترتّب على
أنّ تلك الأسباب من العقود والإيقاعات إذا وقعت على وجه صحيح عند الفاعل ، فلا بدّ
أن يترتّب عليها مسبّباتها وإن لم يكن كذلك عند الحامل.
لا يقال : إنّ ذلك
مبنيّ على قاعدة أخرى ، وهو إلحاق النّادر بالغالب بادّعاء أنّ الغالب في تلك
الأسباب من العقود والإيقاعات وغيرهما هو الصّحّة عند الكلّ ، فإنّ ذلك ممّا لا
يخفى على المطّلع بالفقه والخلافات الحاصلة فيه ، سيّما وكلّ واحد من أبواب الفقه
مستتبعة للمخالفات الكثيرة في توابعها.
ففي الطّلاق مثلا
، نقول خلافات كثيرة ، من جهة الألفاظ في الصّيغة ومن جهة الأحكام والشّرائط في
كلّ واحد من أقسامه ، وأنّه هل وقع رجعيّا أو خلعيّا؟ فإن كان رجعيّا فهل وقع على
اللّفظ الصّحيح عند الحامل أم لا؟ وهل وقع عند رجلين عدلين سوى من يجري صيغة
الطّلاق أو كان أحد العدلين هو وكيل الزّوج؟ وأنّ العدلين هل كانا عادلين على ما
هو مذهب الحامل أو الزّوج أو الوكيل؟ فإنّ في العدالة والكاشف عنها اختلافا
معروفا. وهل وقع الطّلاق في حضور العدلين مع معرفتهما للزوجين أم لا؟ وهل وقع
الطّلاق في حال الحمل أو غيره ، أو في الغيبة أو الحضور ، وإن كان في حال الحمل
فهل كان في المرّة الأولى أو الثّانية؟ ففي كلّ ذلك اختلافات.
وإن كان خلعيّا فهل
تحقّقت الشّروط فيه من الكراهة على النّهج المطلوب
__________________
أم لا ، وعلى
الوجه الذي يعتبر عند الحامل أو الفاعل ، لوقوع الخلاف في حدّ الكراهة ، وفي صحّة
الطّلاق بعوض من دون الكراهة ، وغير ذلك ممّا لا يحصى.
وكذلك الكلام في
النّكاح والبيع والقرض ممّا يطول الكلام بذكرها.
ثمّ مع قطع النّظر
عن تلك الاختلافات في أصل تلك الأبواب أو المسائل ، هل وقع ذلك بالاجتهاد أو
التّقليد أو بدون أحدهما. وعلى الثّالث فهل كان ذلك مع الغفلة والجهالة أو مع
التّقصير والمسامحة؟ وهل يترتّب الآثار على القسم الثّالث بقسميه أو بأحد القسمين
منه دون الآخر؟ وهكذا.
وبالجملة ، تغيّر
الرّأي في أصل المعاملة وتبدّل المجتهد إنّما يقتضي إنشاء المعاملة بعد ذلك لو
أراد إنشاء معاملة جديدة على الرّأي الثّاني ، لا إبطال ما يترتّب على الرّأي
الأوّل أو قول المجتهد الأوّل ، ولو حصل به أنحاء الانتقالات والتّصرّفات مثل ان
جعل المبيع مهرا للزوجة وانتقل من الزّوجة الى وارثها وباع الوارث بغيره وهكذا ،
ولا ريب أنّ كلّ ذلك عسر وحرج عظيم ينفيه العقل والشّرع.
ولو فرض أنّ
المجتهد الثّاني اخترع هذا الرّأي ، وقال : هذا إبداع رأي لا تجدّد رأي ، وتغيّره
يعني أنّ رأيي لزوم إبطال آثار الرّأي الأوّل ، فكلامنا حينئذ مع ذلك المجتهد
وبيان عذره عند الله تعالى وإقامة البرهان ، وهو خارج عن موضوع المسألة.
نعم ، إذا ظهر عنه
بطلان الرّأي السّابق من رأس ، فهو كلام آخر غير تغيّر الرّأي ، فإنّ من تغيّر
رأيه في الاجتهاديّات لا يحكم ببطلان الاجتهاد السّابق ، ولذلك ربّما يعود الى
الرّأي السّابق أيضا ، وسيجيء الكلام فيه.
وبالجملة ، الكلام
في العقود مخالف للعبادات ، فلو تجدّد رأيه في وجوب
قراءة السّورة بعد
ما كان يرى استحبابها في الرّكعة الثّانية ، فيجب عليه القراءة في الثّانية ، وكذا
لو تغيّر رأي مجتهده ، وهكذا الحال في القبلة إذا تجدّد الرّأي في الرّكعة
الثّانية.
ويقع الإشكال فيما
لو جعل فرش المسجد من آجر معمول من الطّين النّجس تقليدا لمن يرى الخزفيّة استحالة
، ثمّ تجدّد الرّأي أو تغيّر المجتهد ، فهل يجب نزعه وتبديله أم لا ، وأنّه ممّا
يفيد الاستمرار كالزّوجيّة حتّى يرد عليه عدم جواز النّزع ، أو لأنّ المناط في ذلك
هو تبعيد المسجد عن النّجاسة وهو متجدّد آناً فآنا ، وليس ممّا يناط بالاستمرار
والدّوام ، ولا يبعد التّفصيل بأن يقال : لا يجب النّزع ، ويجب الاجتناب.
وأشكل منه لو حكم
بجواز بناء المسجد عن ذلك الآجر ، فإن قلنا بوجوب تبعيد مطلق المسجد حتّى جدرانه
عن النّجس ، فيلزم تخريب المسجد ، وهو مشكل.
فإن قلت : قد ذكرت
أنّ الفتوى يجوز نقضها بالحكم وإنّ ما لا دليل عليه هو نقض الفتوى بالفتوى ، وكثير
ممّا ذكرته في نقضها بالفتوى من المفاسد ، يجري في نقضها بالحكم أيضا ، مثل لزوم
العسر والحرج وغيره.
قلت : تحقّق
المخاصمة غالبا إنّما هو في أوّل الأمر ، ولا يترتّب عليه عسر وحرج ، ولو فرض
تحقّقها بعد مدّة ، فتحقّقها مع عدم ثبوت التّراضي عليه في أوّل الأمر نادر ولا
يلزمه من المفاسد في ذلك ما يلزم من المفاسد في أصل نقض الفتوى بالفتوى.
واتّباع نفي العسر
والحرج في ذلك عن أحد المتخاصمين يوجب ثبوته على الآخر ، بخلاف صور الفتوى التي لم
يحصل فيها مخاصمة ، كما هو الغالب في
المسائل الخلافيّة
التي هي مبنى أمور معاش الخلق ، ومع ثبوت التّراضي في أوّل الأمر مثل : إن بنيا في
المسائل الخلافيّة على رأي مجتهد ، ثمّ بعد ذلك حصل الاختلاف بينهما بمجرّد الطّبع
والهوى أو بسبب التمسّك بتغيّر رأي المجتهد أو تبدّله بآخر وترافعا الى مجتهد يرى
ذلك باطلا ، فالحكم بجواز النّقض في ذلك أيضا مشكل ، للزوم أكثر ما ذكر عليه.
وفذلكة المقام في
بيان حال تجدّد الرّأي وحصول المخالفة بين الرّأيين ، وبيان الصّور التي يحصل
المخالفة بين الرّأيين ، وبيان ما يجوز نقضه بالحكم وما لا يجوز ، إنّ الصّور التي
يتصوّر فيها تخالف الرّأيين مع قطع النّظر عن المرافعة والمخاصمة خمسة.
الأولى
مخالفة المجتهد
لرأيه السّابق بسبب التغيّر وتبدّل الحكم بالنّسبة إليه ، كما إذا عقد الباكرة
بنفسه بدون إذن الوليّ ثمّ تجدّد رأيه ، فالمشهور بينهم ، بل ادّعى عليه السيّد
عميد الدّين الاتّفاق أنّه يبني على الرّأي الثّاني ، فيحرم عليه زوجته.
قالوا : إلّا أن
يلحقه حكم حاكم قبل ذلك ، فلا تحرم عليه لكثرة قوّة الحكم ، وتأمّل فيه بعضهم لأنّ
الحرام لا يصير حلالا بسبب الحكم.
أقول : ويشكل
الحكم بالتّحريم وإن لم يلحق به حكم ، لعدم الدّليل عليه. غاية ما يدلّ عليه أدلّة
حرمة النّكاح بدون إذن الوليّ هو النّكاح الابتدائيّ لا استمراره بعد وقوعه على ما
هو مقتضى تكليفه ، مع أنّه لو قلنا بالحرمة فينفسخ النّكاح ، ولا يحتاج الى
الطّلاق.
وهذا الفسخ إنّما
هو لما ظهر عليه من عدم جواز نكاحها من رأس ، لا عدم
جواز إمساكها فيما
بعد فقط. فغاية الأمر عدم الإثم عليه ، فليس هذا من باب الارتداد ، بل هو من باب
ثبوت الرّضاع السّابق المثبت لمهر المثل على الأظهر لظهور فساده من رأس ، وإذا كان
كذلك ، فإذا انفسخ النّكاح بتجدّد الرّأي ، فجاز لها التّزوّج بغيره ، فإذا تزوّجت
بالغير ثمّ تجدّد رأيه فظهر له بعد ذلك جواز العقد وصحّته رأسا ، فمقتضى العمل على
الرّأي الثّاني هو جواز الدّخول بها والنّظر إليها ، وإن كان في حال الغير ، لأنّ
تجدّد رأيه كشف عن صحّة العقد من رأس ، لا جواز العقد عليه بعد التّجدّد ، ولم
يفسخ العقد الأوّل إلّا تجدّد الرّأي ومظنّة الحرمة ، ولم يقع منه طلاق أو ارتداد
أو نحو ذلك حتّى يحتاج العود الى عقد جديد ، وهلم جرّا إذا تجدّد رأيه بعد ذلك ،
وهكذا ، فيشكل الحكم بالحرمة بتجدّد الرّأي وإن لم يحكم به حاكم.
وما ادّعاه السيد
عميد الدّين من الإجماع ، فهو ممنوع ، كما أشرنا.
وممّا يؤيّد ما
ذكرنا حكمهم بعدم الحرمة إذا لحقه حكم حاكم ، فإنّ الدّليل على الحليّة بعد حكم
الحاكم مع تغيّر الاجتهاد إن كان هو الإجماع فهو ممنوع ، لوجود الخلاف فيه ، وإن
كان هو لزوم التّسلسل وعدم الاستقرار لولاه ، والعسر والحرج يلزم ذلك في الفتوى
أيضا ، ومخالفة المجتهد لرأي نفسه أيضا كما أشرنا.
وكذا الكلام في المقلّد
الذي نكحها بدون إذن الوليّ إذا تغيّر رأي مجتهده ، فقالوا فيه أيضا : يحرم عليه
إذا تجدّد رأي مجتهده ، إلّا أن يلحقه حكم حاكم ، لكنّ السيّد عميد الدّين رحمهالله هنا لم يدّع الاجماع ، بل جعل الحرمة أظهر ، والكلام فيه
كما مرّ ، بل هو أظهر هنا.
الثّانية
مخالفة المجتهد
لمجتهد آخر ، ولا ريب أنّه ليس له مزاحمته ، ولا مزاحمة مقلّده إذا قلّده.
والظّاهر أنّه يجوز له أن يبني على صحّة ما حصل بفعلهما ، ويترتّب الآثار عليهما
كما أشرنا في تفريع مسائل الطّلاق.
وكذلك الكلام في
مقلّد ذلك المجتهد إذا تبع مجتهده.
الثّالث
مخالفته لمن لم
يكن مجتهدا ولم يعلم من حاله أنّه مقلّد لمجتهد أم لا.
والأظهر عدم وجوب
مزاحمته أيضا ، حملا لفعله على الصحّة ، بل الأمر كذلك لو مات مجتهده أيضا بناء
على ما سنحقّقه فيما بعد من عدم الدّليل على بطلان تقليد الميّت سيّما فيما كان
مقلّدا له ، سيّما في المسألة الّتي قلّده ، سيّما في العقود والمعاملات ، بل
الدّليل على الجواز.
الرّابعة
مخالفته لمن علم أنّه بنى على أحد
الأقوال في المسألة بتقليد من لا يجوز تقليده مع كونه جاهلا بوجوب التّقليد أو غافلا. والأظهر فيه وجوب
مزاحمته في الإرشاد والهداية في الأخذ والعمل ، لكنّ الحكم ببطلان عقد أخذه كذلك
مع موافقته لأحد الأدلّة الاجتهادية المطابقة للأقوال الموجودة في المسألة ؛ مشكل.
والتّحقيق في ذلك
يظهر ممّا قدّمناه في أوائل باب الاجتهاد والتّقليد ، ونقول هنا أيضا : الغافل
الجاهل إذا اعتقد أنّ حكم الله تعالى في حقّه هو جواز العقد ، وأنّه
يترتّب عليه آثاره
، فالظّاهر ترتّب الآثار وصحّته ما لم يظهر كونه باطلا من رأس ، بأن يكون خارجا عن
الأقوال المتحقّقة في تلك المسألة ، وعن مقتضى أحد الأمارات الشّرعيّة القائمة
عليها ، فإنّه إذا كان حكما موافقا لأحد الأقوال في المسألة فهو كما لو كان مقلّدا
لأحد من المجتهدين المختلفين في المسألة ، وكما لا يجوز نقض الفتوى للمجتهد
المخالف ، فلا يجوز نقض ما بنى عليه ذلك الغافل الجاهل باعتقاد أنّه حكم الله
تعالى في حقّه ، إذ لا دليل على بطلانه ، غاية الأمر أنّ ذلك المجتهد يترجّح في
نظره خلافه.
وأمّا الحكم
ببطلانه في نفس الأمر فكلّا [و] إذا كان تكليفه حين الجهل والغفلة هو البناء على
هذا العقد ، فلا بدّ من القول باستدامة آثاره كما كان الحال كذلك في المقلّد
للمجتهد بعد تغيّر الرّأي ، وكما كان قولنا ببقاء آثار العقد الحاصل بتقليد
المجتهد مبنيّا على الاعتماد على ما هو حجّة عنده من فتوى مجتهده ، فكذا هنا مبنيّ
على الاعتماد على ما هو حجّة عنده من فتوى والده العاميّ أو غيره من الّذين لم
يكونوا مجتهدين ولا مخبرين عن مجتهد ، مع أنّ المعاملات من باب الحكم الوضعيّ ،
ولا مدخليّة للعلم والجهل فيها ، ولا يشترط صحّتها بالنيّة وقصد الامتثال.
ولو قلنا : بأنّ
العقد المبنيّ على معتقد العاقد الجاهل الغافل مع موافقته لأحد الأقوال في المسألة
باطلا من جهة عدم صدوره عن الاجتهاد أو التّقليد ، فيلزم البطلان في أكثر
المعاملات الواقعة في زمان مع عدم أخذها عن المجتهد وإن وافق رأي مجتهد العصر ،
وأنت خبير بأنّه خلاف المعهود من طرائق السّلف والخلف ، فلو تزاوج المتراضعان بعشر
رضعات مثلا من دون معرفتهما بالمسألة ولا بوجوب التّقليد والأخذ من المجتهد ، فيجب
على المجتهد الذي لا يقول بكون ذلك محرّما أيضا نقضه إذا اطّلع عليه ، لأنّه لم
يحصل من جهة التّقليد ، وكذلك
سائر المعاملات.
ومحض توافق ذلك لرأي المجتهد الموجود من باب الاتّفاق لا يجعله موافقا لنفس الأمر
، ولا يوجب صحّته ، وكذا إجازته بعد الاطّلاع لا يوجب صحّته من أوّل الأمر ، كما
لا يخفى ، لأنّ علّة البطلان بالفرض هو إنشاء العقد بدون تقليد ولم يعهد مثل ذلك
الحكم من العلماء ، ولو كان ذلك لازما لما تركه الآمرون بالمعروف والنّاهون عن
المنكر ، ولشاع وذاع بحيث لم يختف هذا الاختفاء ، ويؤيّده الاستصحاب ونفي العسر
والحرج وغيرهما أيضا.
الخامسة
مخالفته لمن كان كذلك ، ولكن لم يكن
جاهلا بالمرّة وغافلا ، بل ترك التّقليد مسامحة،ولا ريب في لزوم الهداية والإرشاد في الأخذ والعمل.
وأمّا الكلام في
بطلان العقد الذي أوقعه كذلك ، إذا وافق إحدى الأدلّة والأقوال في المسألة ، ففيه
إشكال.
ويمكن توجيه القول
بعدم جواز النّقض للمجتهد فيه أيضا إذا وافق إحدى الأقوال في المسألة ؛ بأنّ جواز
النّقض للمجتهد المخالف له إن كان لأنّه مخالف له ومظنونه أنّه خلاف حكم الله
تعالى ، وأنّه ليس بسبب يترتّب عليه حكم شرعيّ ، فلا بدّ من القول بجواز النّقض
فيما لو قلّد المجتهد الآخر أيضا ، لأنّه مخالف لحكم الله تعالى بحسب ظنّه وقد
بيّنّا بطلانه. وإن كان لأنّه لم يتّبع فيه مجتهدا وعدم جواز نقضه فيما لو تبع
المجتهد إنّما هو لأنّه تبع المجتهد وأدّى مقتضى تكليفه.
فيرد عليه : أنّه
على ما ذكرت من مدخليّته متابعة المجتهد في ترتّب الأثر ، فلا بدّ أن يجب عليه
النّقض لو وافق رأيه أيضا ، لأنّه لم يأخذه من المجتهد ، وهو فاسد لأنّ الحكم
الوضعيّ لا مدخليّة في ترتّب الآثار عليه للعلم والجهل.
وقصد الامتثال
وعدمه إنّما ذلك في العبادات لأجل اشتراط النيّة وقصد التّقرّب والامتثال فيها ،
وهو لا يتمّ إلّا مع العلم أو الظنّ بأنّه حكم الله تعالى.
فلو زوّج أحد
ابنته بأحد مع علمه بحصول عشر رضعات بينهما مع أنّه سمع الخلاف فيه بين العلماء ،
أو باع العنب لمن يعمل خمرا ، وهكذا ، وسمعه المجتهد الذي رأيه موافق لذلك ، فلا
يجوز نقضه لأنّه يصدق عليه أنّه نكاح وبيع ، ويترتّب عليهما أحكامهما ، غاية الأمر
كونه منهيّا عنه بدون الأخذ من المجتهد ، والنّهي مع أنّه لا يدلّ على الفساد في
المعاملات إنّما تعلّق هنا بأمر خارج عن المعاملة ، وإن كان لأنّه لمّا سمع الخلاف
في المسألة يحصل له التّردّد عند إجراء الصّيغة ، فلا يتحقّق منه الإنشاء.
ففيه : أنّا لا
نسلّم حصول التّردّد في الإيقاع سيّما في جميع الموارد ، غاية الأمر التردّد في
الوقوع ، وهو لا ينافي الجزم في الإيقاع.
فإن قلت : الأصل
عدم ترتّب الأثر ، والقدر الثّابت من التّرتيب هو ما حصلت المعاملة بالاجتهاد أو بالتقليد ، غاية الأمر دخول الغافل
والجاهل مع اعتقاد الترتّب فيه أيضا.
وأمّا المتفطّن
المسامح فلم يعلم دخول معاملاته تحت ما يترتّب عليه الأثر.
قلت : لا ريب أنّ
الدّليل الشرعيّ يرفع الأصل ، والحكم الوضعيّ بنفسه رافع للأصل من دون مدخليّته
للعلم والجهل ، غاية الأمر حصول الاختلاف في الحكم الوضعيّ بسبب بعض شرائطه ،
فيدور الكلام السّابق.
ونقول : إنّ الحكم
بعدم ترتّب الأثر إمّا لأجل بطلانه في نفس الأمر ، وإمّا لأجل
__________________
أنّه مخالف لرأي
هذا المجتهد ، وإمّا لأنّه لم يحصل من جهة اجتهاد ولا تقليد.
والأوّل ، خلاف
المفروض لأنّه من المسائل الاجتهاديّة.
والثّاني ، يوجب
الحكم بالبطلان لو كان مأخوذا من مجتهد آخر مخالف له أيضا.
والثالث ، لا
مدخليّة له في الحكم الوضعيّ إذ لو كان له مدخليّة لجرى فيما وافق رأيه أيضا.
والحاصل ، أنّ
الأقوال في المسألة الاجتهاديّة مبنيّة على الأمارات الشّرعيّة ، والمفروض عدم
ظهور بطلان أحدها ، فلا يتمّ الحكم بالبطلان ، غاية الأمر عدم جواز اختيار أحدها
لهذا المسامح رجما بالغيب.
وأمّا مع اختياره
لذلك ، فالحكم بجواز النّقض أيضا يحتاج الى دليل ، سيّما إذا وقع العقد بتراض من
الطّرفين ولم يقع بينهما منازعة أصلا ، وسيّما إذا وافق اجتهاد المجتهد الّذي يريد
نقضه ، وإذا لم يجز النّقض فيلزمه ترتّب الآثار.
وأمّا ما دلّ على
لزوم الأخذ من المجتهد ، وأنّ ما خالف الأمارات الشّرعيّة والأقوال المتداولة تكون
باطلة ، فلم يحضرني ما يدلّ على بطلان مثل ما نحن فيه ممّا وافق من المعاملات على
طبق واحد من الأقوال ، وإن كان مع المسامحة وأصالة عدم الوجوب وعدم ثبوت التّكليف
بفسخ مقتضى هذا العقد أيضا يعاضده.
والحقّ ، أنّ
المقام بعد لا يصفو عند شوب الإشكال ، وإن كان الأظهر الصّحة سيّما فيما وافق رأي
المجتهد.
هذا حال أقسام
تخالف الآراء في الفتوى ، وأمّا بيان حال الحكم وجواز النّقض به ، فهو أنّ الحكم
الصّادر من الحاكم لا يجوز نقضه ، لا بالحكم ولا بالفتوى بالاتّفاق ما لم يظهر
بطلانه رأسا ، وإن اختلف الرّأي من نفس الحاكم أو غيره ، وأنّ
الفتوى قد يجوز
نقضها بالحكم وقد لا يجوز.
وأمّا الصّورة
التي يجوز ، فهو ما لو وقع النّزاع في أوّل زمان العقد إمّا قبله أو بعده بعد
الاطّلاع على أنّ له حقّ الدّعوى وإن طالت المدّة.
وأمّا الصّورة
التي لا يجوز ، فهو ما لو تراضيا المتعاقدان على عقد مع معرفتهما بكون المسألة
خلافيّة ، بأن بنيا على تقليد مجتهد واحد أو ما يقوم مقامه ، كما لو كانا جاهلين
بلزوم التّقليد رأسا ثمّ عرفا بعد ذلك الخلاف وسبيل النّزاع ودعتهما الهوى الى
المنازعة ، فالأظهر عندي عدم نقض الفتوى هناك أيضا بالحكم.
تنبيه
إذا تخالف البكر
والوليّ ، وكانت البكر مقلّدة لمن يحكم باستقلالها ، والوليّ مقلّد لمن يحكم باستقلاله
، فإن وقع العقد من أحدهما قبل المرافعة فلا يحكم ببطلانه ، ولا يمنع عن مقتضاه
حتّى تقع المرافعة ، فإن ترافعا عند من يوافق البكر فيلزم نكاحها ،
ويلزم الوليّ بالسّكوت.
وإن ترافعا عند من
يوافق الوليّ وصدر العقد من الوليّ ، فيلزم عقده ويبطل دعوى البكر ، ولو صدر عنهما
عقدان ، فقد مرّ الكلام فيه.
والغرض هنا بيان
أنّ عدم تحقّق المرافعة لا يوجب بطلان العقد ، وهو ظاهر. وكذا الكلام لو كانا
مجتهدين أو غافلين جاهلين رأسا ، وكون العقد في معرض
__________________
الزّوال بسبب
احتمال الحكم على خلافه بعد المرافعة لا يوجب الحكم بعدم ترتّب الآثار عليه ما لم
يعرض له كسائر المعاملات ، ونظيره كثير لا حاجة الى ذكرها.
بقي الكلام في
بيان جواز النّقض إذا ظهر بطلان الحكم أو الفتوى.
فاعلم أنّهم قالوا
: إنّ عدم جواز النّقض إنّما هو إذا لم يخالف قاطعا.
وفسّره
التّفتازاني : بالنصّ القطعيّ والقياس الجليّ.
وقال السيّد عميد
الدّين : لا يجوز نقض الحكم ما لم يكن منافيا لمقتضى دليل قطعيّ كنصّ أو إجماع أو
قياس جليّ. وهو ما نصّ الشّارع فيه على الحكم وعلّته نصّا قاطعا ، وثبتت تلك العلّة في الفرع قطعا ، فإنّه حينئذ ينتقض إجماعا
لظهور خطأه قطعا.
ومراد فقهائنا
كالعلّامة في «الإرشاد» وغيره من البطلان حيث قال : وكلّ حكم ظهر بطلانه للحاكم
قبل العزل أو بعده أو لغيره ينقضه ويبطله هو ، ذلك أعني المخالفة للدليل القطعيّ أو ظهور التّقصير فيه
فيما ليس له دليل قطعيّ ، وكان من الاجتهاديّات لا مجرّد تغيّر الرّأي ، فإنّه ليس
بظهور البطلان مطلقا ، إذ ربّما يتغيّر رأي المجتهد ويحصل له التّرجيح للرأي الآخر
، مع أنّه لا يظهر له بطلان الأوّل ويحتمل بعد صحّته أيضا ، فهو لا يجوز نقضه إلّا
مع ثبوت التّقصير في الاجتهاد.
__________________
وما ذكره المحقّق
الأردبيلي في «شرح الإرشاد» في تحقيق ظهور البطلان يؤول الى ظهور التّقصير في الاجتهاد
لأجل قلّة التّتبّع وحسن الظنّ لبعض الكتب ، والاعتماد على مجرّد ما نقله بعض
المحقّقين ، وجعل معيار ذلك والقاعدة الدالّة عليه هو مخالفة ما لو فرض الاطّلاع
عليه لتتبّعه من الأدلّة ، وأنّ عدم الاطّلاع كان من جهة التّقصير.
فعلى هذا لا يضرّ
مخالفة رواية لم يعثر عليها لأجل كونها في الكتب الغير المتداولة مثل «قرب الإسناد»
و «المحاسن» أو لأجل كونها في غير بابها المعهود.
وكذلك لا يضرّ
مخالفة بعض التّرجيحات في تعارض الأحوال أو مقتضى بعض المرجّحات المذكورة للجمع
بين الأخبار بسبب تفاوت مراتب الظّنّ في الحالين ، فقد يتردّد الأمر بين حديثين
صحيحين يدقّ الفرق في رجحان أحدهما على الآخر ، وقد يتردّد الأمر بين اختيار
التّخصيص على الإضمار أو بالعكس ، وهكذا.
فهذا لا يقال له :
ظهور بطلان الاجتهاد ، بل يقال : إنّه تغيّر رأيه ، ولكن يضرّ مخالفة حديث صحيح
غير شاذّ مذكور في بابه المعهود فضلا عن الآية والإجماع والقياس الجليّ ، وغير ذلك
، فإنّ مخالفة المذكورات كاشفة عن التّقصير في الاجتهاد ، بل عدم الاجتهاد الصّحيح.
__________________
وعلى ذلك ينزّل
كلام الشهيد رحمهالله في «الدروس» حيث قال : ينقض الحكم إذا علم بطلانه سواء كان الحاكم أو
غيره ، وسواء أنفذه الجاهل به أم لا. ويحصل ذلك بمخالفة نصّ الكتاب أو المتواتر من
السنّة أو الإجماع ، أو خبر واحد صحيح غير شاذّ ، أو مفهوم الموافقة أو منصوص
العلّة عند بعض الأصحاب ، بخلاف ما لو تعارض فيه الأخبار ، وإن كان بعضها أقوى
بنوع من المرجّحات. انتهى ملخّصا.
واستشكل المقام
الشّهيد الثاني في «المسالك» سيّما في عبارة الشهيد هذه في غير الثّلاثة الأول ، لأنّ
خبر الواحد من المسائل الخلافيّة ، ودليله ظنيّ ، فمخالفته لا يضرّ.
وكذلك الكلام في
مفهوم الموافقة في المنصوص العلّة ، فمخالفته لا يستلزم البطلان ، وعلى ما نزّله
عليه المحقّق الأردبيلي رحمهالله فيندفع الإشكال.
ثمّ إنّ المحقّق
الأردبيلي قال : إنّ في صورة ظهور البطلان ينقض الحكم والفتوى كلاهما ، وفي صورة
تغيّر الرّأي لا ينقض شيء منهما ، وهذا هو الذي أشرنا إليه من أنّ ظاهره عدم الفرق
بين الحكم والفتوى في عدم النّقض.
وهذا هو التّحقيق
في المسألة ، نعم ، يجوز المخالفة للحكم الأوّل في الفتوى فيما وقع النّزاع
وترافعا عند الحاكم على التّفصيل الذي قدّمناه ، وفيما بعد التّغيير موضوع آخر ،
وفيما لم يناف ما أثبته الفتوى من الأحكام الملزومة الاستمراريّة.
هذا في الحقيقة لا
يسمّى نقضا ولا يطلق عليه النّقض كما صرّح به التّفتازاني ، بل هو عمل بالرّأي
الآخر ، فلا يرد على المحقّق الأردبيلي رحمهالله أنّه لم يقلّ أنّ الفتوى
__________________
يجوز نقضه ، فلم
يبق بين الحكم والفتوى فرق في عدم جواز النّقض ، والفرق إنّما هو في جواز المخالفة
في الجملة في الفتوى دون الحكم.
ثمّ إنّ المعيار
الذي أخذه المحقّق الأردبيلي رحمهالله ، وبنى عليه كلام الشهيد رحمهالله أيضا غير مطّرد سيّما بالنّسبة الى المفاهيم ومنصوص
العلّة.
وبالجملة ، كلامهم
في هذا المقام غير وافية بإفادة المرام وغير منقّحة ، وقد ذكرت لك ما أدّاني إليه
النّظر القاصر ، ورجاء العفو عن الزّلل من الله الغافر.
قانون
إذا عمل العامّيّ بقول مجتهد في حكم
مسألة ، لا يجوز الرّجوع الى غيره في هذه المسألة ، ونقل عليه الإجماع المؤالف والمخالف.
ولعلّ وجهه ، أنّ
قول المجتهد كالأمارة الرّاجحة ، فلا يجوز العدول عنها بلا وجه مع أنّه يوجب
اختلال النّظام غالبا ، إذ قد يتغيّر دواعي المقلّدين آناً فآنا.
ثمّ إن ظهر له
رجحان بسبب العلم والورع للغير فيجوز العدول على ما اختاره الأصحاب من تقديم
الأرجح بسبب العلم والورع.
والأولى أن يجعل
الرّجحان أعمّ من ظهور ما لم يظهر له من أحواله من العلم والورع أو ظهور خطئه في
هذا الاجتهاد الخاصّ من الخارج.
وأمّا في غير تلك
المسألة فالأظهر الجواز ، للأصل ، وعدم المانع وعمل المسلمين في الأعصار والأمصار.
والظّاهر أنّ
الكلام لا يتفاوت فيما لو التزم المقلّد تقليد مجتهد خاصّ أو لم يلتزم.
والعامّة فرّقوا
بينهما ، واختلفوا فيما لو التزم ، كأن يختار متابعة الشّافعيّ أو أبي حنيفة ، على
أقوال :
ثالثها : أنّه
كالأوّل يعني غير المستلزم ، وقد مرّ الكلام فيه.
قانون
اختلفوا في أنّ
غير المجتهد هل له أن يفتي بمذهب مجتهد من عند نفسه من دون أن يحكي عنه.
الحقّ ، العدم ،
لأنّه تدليس ، وقول بما لا يعلم ، فإنّ ظاهره الإخبار عن علمه.
وللعلّامة أقوال
شتّى ، أشهرها عندهم :
الفرق بين المطّلع
على المأخذ وغير المطّلع ، فيجوز للأوّل ، دون الثّاني.
وربّما ادّعى
بعضهم الإجماع على الجواز في الأوّل ، دون الثّاني.
وفرّق بعضهم : بين
وجود المجتهد وعدمه ، فجوّز في الثّاني دون الأوّل ، والكلّ ضعيف.
قانون
لا يشترط مشافهة المفتي في العمل بقوله
، بلا خلاف ظاهر بينهم.
. واحتجّوا عليه :
بالإجماع على جواز رجوع الحائض الى الزّوج العامّيّ إذا روى عن المفتي ، وبلزوم
العسر والحرج ، بل الظّاهر الاعتماد على مكتوبه مع أمن التّزوير ، ويدلّ عليه
العمل بكتب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهم الصلاة والسلام في أزمنتهم ، وللزوم العسر
والحرج لولاه.
وفي جواز العمل
بالرّواية عن المجتهد الميّت خلاف ، والمشهور عند أصحابنا : العدم.
وعندهم : الجواز ،
ولذلك صار بناؤهم على تقليد الأئمة الأربعة ، بل على الاجتهاد في أقوالهم والعمل
به.
ومنهم من فصّل ،
فمنع مع وجود الحيّ لا مع عدمه.
والقائل بالجواز
من الأصحاب المتأخّرين : قليل ، بل لم نعرف بالخصوص قائلا إلّا عن جماعة من
متأخّري المتأخّرين من الأخباريين. ونقل في «الذّكرى» قولا به ولم يذكر قائله.
فالاحتجاجات
المذكورة لنفي الحجّية في كلام الأصحاب كلّها ضعيفة ، أقواها ما اختاره صاحب «المعالم
رحمهالله» ، ومرجعه الى أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ.
وما دلّ على جواز
التّقليد أمران :
__________________
الأوّل : الإجماع
الذي نقله جماعة من العلماء على الإذن للعوامّ في الاستفتاء وهو ظاهر ، بل صريح في
الأحياء.
والثاني : لزوم
العسر والحرج لولاه ، وهو لا يثبت جواز تقليد الميّت مطلقا حتّى لو كان هناك حيّ ،
بل صرّح بعضهم بالإجماع ، على العدم مع وجود الحيّ.
أقول : تحقيق
الكلام في هذا المقام ، يحتاج الى تجديد الكلام في أنّ الأصل في أمثال زماننا ذلك
جواز العمل بالظنّ للمجتهد إلّا ما ثبت حرمته ، أو الأصل حرمة العمل به إلّا ما
ثبت جوازه.
وقد عرفت في مباحث
الأخبار أنّ الحقّ هو الأوّل ، لأنّ إثبات الظنّ المعلوم الحجّية ، دونه خرط
القتاد. وغايته إثبات حجّية أخبار الآحاد ، وظواهر الكتاب ، وأصل البراءة ،
والاستصحاب. وقد عرفت أنّ إثبات حجّية أخبار الآحاد لم يدلّ عليه دليل إلّا مجرّد
كونه ظنّ المجتهد ، إذ الاعتماد على الإجماع المنقول عن الشيخ يستلزم الدّور ، إذ
الدّليل على حجّيته هو الدّليل على حجّية الخبر.
ودعوى الإجماع
القطعيّ عليه من عند أنفسنا لو تكلّفناها بملاحظة أحوال السّلف ، فإنّما هو في
الجملة لما ترى من النّزاع في اشتراط الصّحبة باصطلاح المتأخّرين ، أو كفاية مطلق
التّوثيق أو مجرّد التحرّز عن الكذب أو مطلق المدح ، ثمّ في معنى العدالة وعدد
الكبائر ، ثمّ في كفاية انجبار الضّعاف بالشّهرة أو اعتبار مطلق تصحيح القدماء ،
ثمّ بعد كلّ ذلك في علاج التّعارض ، فلم يخلص في مورد الإجماع شيء ينفعنا ، ولا
مناص عن التعلّق بما يحصل به الظنّ.
__________________
والاعتماد على
الأخبار الواردة في جواز العمل بأخبار الآحاد ، وضبطها وتدوينها وعلاج تعارضها ليس
إلّا اعتمادا بأخبار الآحاد لمنع قطعيّتها ، وكذلك الحال في الاستصحاب وأصل
البراءة ، فإنّ الدّليل عليهما إن كان هو الأخبار فيدور لكونها آحادا ، وإن كان
حصول الظنّ ، فهو المقصود.
وكذلك حجّية
الكتاب لمنع الإجماع على حجّيته مع أنّ القدر المجمع عليه لو سلّم هو النّصوص ،
والظّاهر الذي لم يعارضه شيء ، وإلّا فالخلاف في المفاهيم وأنواع الدّلالات وصور
معارضات عامّها مع خاصّ الأخبار وغير ذلك ، ممّا لا يخفى على أحد ، مع أنّ مسائل
الفقه جلّها ، بل كلّها ممّا لا يتمّ بواحد من الظّنون المعلوم الحجّية ، أي
بالقدر الذي علم حجّيته ، فلا يجدي حصول القطع في بعض أجزاء المسألة قطعيّة تمامها
، كما لا ينفع قطعيّة إحدى المقدّمتين في القياس قطعيّة نتيجتها.
فالحقّ أن يقال :
نحن مكلّفون في أمثال زماننا ، وسبيل العلم بالأحكام منسدّ والتّكليف بما لا يطاق
قبيح ، فليس لنا إلّا تحصيل الظنّ بحكم الله الواقعيّ ، فإذا تعيّن المظنون فهو ،
وإن تردّد بين أمور فالمكلّف به هو أحدها.
ثمّ قد عرفت
الإشكال الوارد على استثناء القياس ونظائره من جملة الظّنون من أنّ الدّليل
العقليّ والبرهان القطعيّ لا يقبل التّخصيص وجوابه.
ونزيد هنا ـ توضيحا
ـ أنّ وجه هذا الاستثناء إمّا أنّه من جهة عدم إفادته الظنّ بملاحظة طريقة الشّرع
من جمع المختلفات وتفريق المؤتلفات.
وإمّا من جهة أنّ
النّهي عنه مقدّم على حالة الاضطرار ، فبعد ما ثبت بالبديهة حرمته ، وقع الكلام في
العمل بسائر الظّنون وجرى عليه البرهان العقليّ.
وإمّا من جهة أنّ
الشّارع كما أذن لنا العمل ببعض الظّنون كأخبار الآحاد ، نهانا
عن بعض الظّنون ،
كالقياس ، خرجنا عن التّمسّك بمقتضى النّصّ في جواز العمل بأخبار الآحاد ،
وادّعينا أنّ حجّيتها ليس من جهة نصّ الشّارع ، بل من جهة أنّه ظنّ المجتهد لما
عرفت من عدم الفائدة ، لأنّ القدر المقطوع به منه في غاية القلّة ، فلا يعرف أين
ما هو مورد الإجماع والقطع من جملة أخبار الآحاد حتّى يجوز العمل به ، وإن كان
يعرف ، ففي غاية القلّة ، بخلاف حرمة القياس فإنّه معلوم ، ولذلك نقول : بأنّ
منصوص العلّة ، وفحوى الخطاب ليسا بقياس لا أنّهما من القياس الجائز دون الحرام ،
فلا غائلة في التّمسّك في حرمة القياس بالنّصّ دون جواز العمل بخبر الواحد ،
فتأمّل حتى تعرف الفرق.
هذا حال المجتهد ،
وأمّا العامّيّ فإمّا أن نقول : إنّ رجوعه الى المجتهد تعبّديّ ومقتضى النّصّ
والدّليل مثل قولهم عليهمالسلام لأبان بن تغلب : «أفت» . وأمرهم عليهمالسلام بالرّجوع الى زرارة ، ويونس وأخذ المعالم عنهم ، وأمثال ذلك بضميمة دعوى الإجماع أو
البديهة على الاشتراك في التكليف أو من جهة الدّليل العقليّ بأنّه مكلّف يقينا
بالحكم الواقعي ، وباب العلم إليه منسدّ ، فلا مناص له عن الظنّ.
والمعتمد في أمثال
زماننا هو الثّاني كما لا يخفى ، لإمكان القدح في الأوّل بمنع الدّلالة على
التّقليد المصطلح وإن كان الظّاهر خلافه ، ولأنّه ليس ممّا يحصل به العلم للمقلّد
، ولا الظنّ إلّا من جهة تقليد غيره.
سلّمنا ، لكنّه لا
يفيد إلّا الظنّ فيرجع الى الثّاني.
وكذلك الكلام في
الإجماع لعدم حصول العلم للمقلّد بالإجماع ، غايته هو
__________________
الثّبوت في الجملة
، ويحتاج في تعيين من يجب تقليده أيضا الى العمل بالظّنّ.
وإذا اعتمدنا على
الوجه العقليّ فنقول : إنّ العقل إنّما يحكم بلزوم رجوعه الى العالم بالحكم ،
وحينئذ فإمّا نتكلّم في حال نفس العامّيّ ومراتب فهمه وتميّزه ، وإمّا نتكلّم في
نفس الأمر ومعرفة أصل المسألة وتمييز العلماء وتحقيقهم لأصل المسألة في الإرشاد
والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
أمّا الأوّل ،
فيظهر حاله ممّا قدّمنا في مباحث الكلام في معرفة أصول الدّين وغيره من أنّ العامّيّ
مكلّف على مقتضى فهمه وإدراكه ، حتّى لو ظهر له أنّ حكم الله تعالى هو ما قال له
أمّه وأبوه العامّيّ ، فهو تكليفه ولا يؤاخذ على ذلك ، وإذا ظهر له وجوب الرّجوع
الى العلماء المستنبطين فكذلك ، فهو مكلّف بمقتضى فهمه من تمييز العلماء ، فإذا لم
يظهر له الفرق بين الأصوليّ والأخباري ، والكلّيّ المتجزّي ، والمتكرّر النّظر
وغيره ، والحيّ والميّت ، فهو أيضا تكليفه الرّجوع الى القدر المشترك ، ويلزمه
التّخيير إذا لم يحصل له التّرجيح ، وكذلك بين الأصوليين الأحياء مثلا لو ظهر له
رجحانهم على غيرهم.
والحاصل ، أنّه
مكلّف بما ظهر عنده وترجّح في نظره أنّ قوله هو حكم الله تعالى في نفس الأمر ،
إمّا بالخصوص أو بكونه أحد الأمور المظنون كون واحد منها حكم الله تعالى في نفس
الأمر.
والحياة بمجرّدها
لا يوجب الظّنّ له بكون حكم الله في نفس الأمر هو ما قاله الحيّ ، وكذلك للأعلميّة
إذا لم ينحصر الأمر في الأعلم كما أشرنا سابقا.
فالمعيار هو ما
حصل به الرّجحان ، فقد يحصل ذلك في الحيّ ، وقد يحصل في الميّت ، ومن ذلك يظهر حال
تحقيق العلماء للمسألة فيما بينهم وبناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم
يثبت على العامي إلّا وجوب الرّجوع الى ما
هو الأقرب الى
ظنّه أنّه حكم الله تعالى في نفس الأمر ، وحينئذ فرجوعه الى فهم ذلك وتمييزه من
مسائله الكلاميّة ومقاصده الأصوليّة التي لا دليل على لزوم التّقليد فيها ، وليس
عليه متابعة العلماء.
نعم ، لو ظهر له
بعد أمر العلماء بخلافه وتنبيههم إيّاه بخطئه خلاف ما فهمه ، فهو مكلّف به حينئذ
لأنّه هو مقتضى تمييزه وإدراكه ، لا لأنّه تقليد لذلك العالم.
والحاصل ، أنّ
العامّيّ في ذلك كأحد العلماء ، ومناطه في العمل هو حصول الظنّ بحكم الله تعالى ،
فلو خلص عن ورطات النّزاع بين الأصوليّ والأخباريّ مثلا وعرف بفهمه أو بتعليم عالم
إيّاه حقيّة طريقة الأصوليّ بحيث يحصل له التّمييز بالاستقلال ولو من جهة الاعتماد
على هذا العالم لا من جهة محض تقليده ، ثمّ دار أمره في مسائل الفروع بين تقليد
رجلين أصوليّين أحدهما حيّ والآخر ميّت ، وحصل له الرّجحان في أنّ متابعة ذلك
الميّت أقرب الى حكم الله تعالى ، للأمارات الخارجة والقرائن الدّالّة عليه ، ولو
بسبب مدح العلماء ووصفهم ذلك الميّت بالاتّفاق والتّحقيق ، فكيف يجب أو يجوز
للعالم الذي لا يجوّز تقليد الميّت منعه عن ذلك إذا لم يحصل له الظنّ بقوله : بأنّ
ما فهمه باطل.
والحاصل ، أنّ
التّحقيق أنّ معيار تقليد المقلّد أيضا هو حصول الظنّ بحكم الله تعالى ، فإن قلت :
نعم ، ولكنّ شهرة عمل الأصحاب بالمنع عن تقليد الموتى ، بل ظهور دعوى الإجماع من
بعضهم على حرمته مع وجود الحيّ يوجب للمقلّد الظنّ بأنّ متابعة هذا الميّت ليس حكم
الله تعالى في نفس الأمر إذ المقلّد أعمّ من العامّيّ البحت ، فقد يطّلع على
الشّهرة والإجماع المنقول ، فيصير هذا من قبيل العمل بالقياس المستثنى من مطلق ظنّ
المجتهد.
قلت : أمّا أوّلا
: فهذا ليس من باب القياس ، لكون حرمته قطعيّا ، وغاية الشّهرة
والإجماع المنقول
هو الظنّ ، وما ذكرناه برهان قطعيّ لا يجوز تخصيصه بالظنّ.
وثانيا : إنّ دعوى
الإجماع في المسائل الأصوليّة سيّما مثل ذلك في غاية البعد ، لعدم تداوله ما بين
أصحاب الأئمة عليهمالسلام وأنّه من المباحث الحادثة ، ويشبه أن يكون منشأ حدوث
التكلّم فيه هو إجماع العامّة على متابعة الأئمة الأربعة ، ويشهد بذلك بعض
استدلالاتهم الآتية ، المناسب لمذهبهم ، فلاحظها.
وثالثا : إنّا لو
سلّمنا عدم القطع بأصل لزوم متابعة الظنّ للمقلّد ، وقلنا : بأنّه ظنّ لا يقاوم
هذا الظنّ الحاصل بالدّليل الذي ذكرنا حتّى يخصّصه.
ورابعا : إنّا
نقول : نمنع حصول الظّنّ منه أصلا مع حصول الظنّ بخصوص المسألة الفرعية التي قلّد
فيها الميّت.
فإن قلت : إنّ
المسألة الأصوليّة أحقّ بالتّقديم ، وحصول الظنّ في الفروع تابع ، فإذا حصل الظنّ
بعدم جواز تقليد الميّت في الأصول ، فكيف يحصل الظنّ بفتواه في المسائل الفرعية
الخاصة.
قلت : نحن لم نلتفت
الى الآن الى القاعدة الكلّيّة ، بل كان نظرنا الى محض الظنّ الحاصل في خصوص
المسائل من جهة أنّها فتاوى خاصّة مأخوذة من أدلّة خاصة ، فلا يرد علينا ما ذكرت.
ومع الإغماض عن
ذلك نقول : لا ريب أنّ الحياة والموت لا مدخليّة لهما في الظنّ بحكم الله الواقعيّ
، بل إنّما هو تابع للمأخذ ، فإنّ القول بعدم جواز تقليد الميّت لأجل موته ، وجواز
تقليد الحيّ لأجل حياته ، إنّما يصحّ من أجل محض التعبّد ، ويكون ذلك حكما واقعيّا
للحكم الظّاهريّ ، فيؤول الكلام الى أنّ المقلّد يظنّ من جهة الشّهرة والإجماع
المنقول ، بأنّ حكم الله الواقعيّ في حقّه لحكم الله الظّاهريّ له متابعة الأحياء
لا الموتى ، لا أنّه يظنّ أنّ الحكم الواقعي في حقّه في
المسائل الفرعيّة
هو ما أخذه عن الحيّ لا الميّت.
فهاهنا مقامان من
الكلام لا ارتباط لأحدهما بالآخر ، وقد حصّل المقلّد في كلّ من المقامين ظنّا ،
فعليك بلزوم ترجيح بناء المقلّد على ما أدّاه إليه الظنّ في الحكم الظّاهريّ ، دون
ما أدّاه إليه الظنّ في الحكم الواقعيّ.
ولا ريب أنّ
البناء على الثاني أرجح ، لكشفه عن الواقع ، ولأنّ المتتبّع يحكم بأنّ مراد
الشّارع هو تحصيل الأقرب الى نفس الأمر ، لا مجرّد ما يقتضيه الدّليل ، وفي مقبولة
عمر بن حنظلة وما في معناه من الأخبار دلالة على ذلك بالنسبة الى المجتهد والمقلّد
كليهما فلاحظها.
وبالجملة ، على [عن]
المقلّد بقول المجتهد ليس من باب التعبّد المحض ، بل لأنّه كاشف عن نفس الأمر ظنّا
، كما أنّ عمل المجتهد على الأدلّة كذلك أيضا.
ومن هنا يظهر
بطلان القول بأنّ المجتهد إنّما يعمل على الظّنون المعلوم الحجّية دون غيرها ،
فإنّه لا معنى له ، إلّا أنّ غير تلك الظّنون ليست بظنّ ، وإن قلنا : بكونها ظنّا
، فلا معنى لحصول الظنّ بغيرها مع كونها آكد في إفادة الظنّ ، إذ المراد من الظنّ
الظنّ النّفس الأمريّ لا بشرط ، لا الظنّ بالشّيء لو فرض عدم شيء آخر يفيد الظنّ
بخلافه ، بل لا يفهم من الظنّ المعلوم الحجّية إلّا أنّ المشهور جوّز العمل بها
مطلقا لا بشرط أنّها هي ، فكأنّ الشّارع حين قال : اعمل بخبر الواحد ، إنّما أراد
: اعمل بالظنّ ، لا بالظنّ الحاصل من الخبر لأنّه خبر ، وهذا ممّا يحتاج فهمه الى
لطف قريحة ثاقبة مرتاضة.
فعلم من جميع ذلك
أنّ الدّليل في التّقليد ليس هو محض الإجماعات المنقولة حتّى يقال : إنّها صريحة
في الأحياء ، بل هو انسداد باب العلم ، وانحصار المناص في الظنّ ، والاعتماد على
أصالة حرمة العمل بالظنّ ، وأنّ القدر اليقينيّ هو إخراج
تقليد الأحياء
أيضا ، غير واضح لما مرّ مرارا.
ونزيدك هنا توضيحا
، ونقول : على فرض تسليم عموم ما دلّ على حرمة العمل بالظنّ ، فهو مخصوص يقينا
بظنّ المجتهد والمقلّد في الجملة.
فإن قلنا : بأنّ
ظنّ المجتهد والمقلّد مجمل ، فيرد عليه حينئذ أنّ العامّ المخصّص بالمجمل لا حجّية
فيه في القدر المجمل ، فلم يثبت حرمة ما لم يعمل إخراجه من العامّ واحتمل دخوله.
وإن أردنا أن نثبت
القدر المعيّن وندفع الإجمال ، فلا ريب أنّه لا يمكن إلّا ظنّ ، فإنّ هذا الأصل لا
يتفاوت الحال فيه بين المجتهد والمقلّد ، فكما أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ إلّا
ظنّ المجتهد ، فكذلك الأصل حرمة العمل به إلّا الظنّ المقلّد لذلك المجتهد ، وكما
أنّ ظنّ المجتهد أمر اجتهاديّ غير معلوم ولا متعيّن انّه أيّ فرد منه ، هل هو ظنّ
المجتهد في الكلّ أو المتجزّي على طريقة الأصوليّ والأخباريّ.
ثمّ هل هو ظنّ من
جدّد النّظر في الواقعة أو من اكتفى فيه باستصحاب حال النّظر السّابق ، ونحو ذلك
من الاحتمالات المحتاج بترجّح [بترجيح] أحدهما الى العمل بالظنّ ؛ فكذلك الكلام في
تقليد المجتهد يحتمل فيه هذه الاحتمالات.
ومن جملة الاحتمالات
[في تقليد] جانب المقلّد هو جواز تقليد الميّت وعدمه ، وليس اختيار أحد المذكورات
هناك أيضا إلّا بالظّنّ والتّرجيح.
والحاصل ، أنّ
الاستدلال بعمومات حرمة العمل بالظنّ استدلال بالظنّ بلا ريب ، سيّما مع التّصريح
باستثناء بعض أفرادها.
فمعنى قولنا :
الأصل حرمة العمل بالظنّ إلّا ظنّ المجتهد ، وإلّا تقليد المجتهد الحيّ.
معناه : انّا نظنّ
حرمة العمل بغيرهما ، ونظنّ أنّ حكم الله تعالى في حقّنا ترك
العمل بغيرهما [بغيرها]
، فإذا حصل الظّنّ للمقلّد بأنّ ما قاله الميّت هو حكم الله تعالى ، فكيف يقول مع
ذلك : إنّي أظنّ أنّه ليس حكم الله تعالى. نظير ما يقول المجتهد : إنّي أظنّ أنّ
النّظر الأوّل في الواقعة كاف للاستصحاب ، وأصالة عدم مانع في مقابلة أصالة حرمة
غير ما علم يقينا جوازه ، وهو ما تكرّر منه النّظر ، فيرجع الكلام الى التّرجيح
بين العامّ المخصّص في الجملة ، والخاصّ الحاصل بخصوص المقام ، فيجب متابعة ما هو
الرّاجح في النّظر.
فتأمّل بفكر دقيق
ونظر عميق حتّى تعرف الحقّ والتّحقيق في كلّ ما يتنازع فيه من الظّنون مثل الخبر
الواحد ، والإجماع المنقول بخبر الواحد ، وغيرهما أيضا.
فإنّ التّحقيق عدم
جواز التمسّك في نفي حجّيتها بالعمومات الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، إذ غايتها
الظنّ بأنّ العمل بالظنّ حرام ، ومقتضى هذه الأدلّة المتنازع فيها حصول الظنّ بها
بحكم الله تعالى ، فكيف يصحّ القول بأنّ المظنون أنّ حكم الله تعالى في نفس الأمر
هو حرمة العمل بالظنّ ، مع القول بأنّ المظنون أنّ حكم الله تعالى في نفس الأمر هو
ما يقتضيه هذا الدّليل الظنّي ، ولم يرجّح الظّنّ الأوّل على الظّنّ الثّاني ، مع
أنّ الثّاني في معنى الخاصّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ لو فرض كون ذلك مسألة
فقهيّة ، وسيجيء تمام الكلام.
فظهر من جميع ذلك
، أنّه لا مناص عن الاعتماد على الظنّ مطلقا حين انسداد باب العمل [العلم] ، وكما
علم ممّا ذكرنا أنّ الدّليل ليس منحصرا في الإجماعات المنقولة التي نقلها صاحب «المعالم»
رحمهالله ، علم أنّ الدّليل فيه ليس محض لزوم العسر والحرج أيضا
حتّى يقال : باندفاعه بتقليد الحيّ ، لأنّه لا يتمّ به إطلاق المنع ،
__________________
بل هو اعتراف
بجوازه إذا لم يوجد حيّ مع أنّ المطلوب العموم.
يرد عليه : أنّ
هذا الاستدلال إنّما هو إبطال وجوب الاجتهاد عينا على العوامّ ردّا على فقهاء حلب
ومن قال بمقالتهم ، لا لأجل جواز التّقليد ، بل الدّليل عليه هو ما ذكرنا من
البرهان العقليّ من انسداد باب العلم ، وانحصار الطّريق في العمل على ما هو أقرب
الى الحقّ النّفس الأمريّ في نظر المكلّف بحسب طاقته وفهمه.
نعم ، يجب على
العلماء العارفين الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إذا ثبت عندهم بطلان طريقة
المقلّد إذا كانت المسألة تقليديّة.
وأما المسائل
الأصولية كما نحن فيه ، فلا يجب فيه التّقليد ، بل لا يجوز مع ظهور خلافه.
ومن جميع ذلك يظهر
حال مباحثة العلماء ومناظرتهم في المسألة ، وتحقيق الحال ليثمر في الإرشاد والأمر
بما هو موجب للاستكمال والرّدع عمّا هو يثمر النّقص والوبال ، فإنّه لا يمكن
للمجتهد حينئذ الاستدلال على حرمة العمل بتقليد الميّت بأصل حرمة العمل بالظنّ ،
فإنّه قد بطل جوازه بالبرهان العقليّ.
فإنّ سدّ باب
العلم يوجب جواز العمل بالظنّ ، كما أنّ ظنّ المجتهد يحصل من الأمارات الفقهيّة ،
فظنّ المقلّد يحصل بمتابعة المجتهد ، والمفروض حصول الظنّ للمقلّد بتقليد الميّت.
ولا ريب أنّ العمل
بالظنّ الحاصل من عمومات حرمة العمل بالظنّ مبطل للعمل بالظنّ ، وما يستلزم وجوده
وعدمه ، فهو باطل ، فبقي الكلام في إثبات المطلب بشيء غير الظنّ بحرمة العمل بالظنّ
، كالتمسّك بالشّهرة والإجماع المنقول ، فإنّهما يدلّان على بطلانه من حيث هو لا
من حيث إنّه ظنّ.
وعلى فرض تسليم
حصول هذا الظنّ ، ففي لزوم أمر المقلّد به إشكال ، سيّما إذا
كان المقلّد عارفا
معتمدا على ظنّه الحاصل بالمسائل الفرعيّة من تقليد ذلك الميّت.
وكذلك الكلام في
سائر المسائل الكلاميّة من توابع أصول الدّين الذي لا يثبت إلّا بالظنّ.
والحاصل ، أنّ
المقلّد إذا حصل له الظنّ في الفروع بقول الميّت ، فلا معنى لترك هذا الرّاجح
والعمل بقول المجتهد بترك تقليد الميّت ، مع بقاء ذلك الظّنّ بالحكم الفرعيّ.
وممّا يؤيّد أنّ
بناء المقلّد أيضا على الظّنون ، كالمجتهد ، لا محض التّعبد ، تقديم الأعلم لأنّه
أقوى الأمارتين كما مرّ ، والإجماعات المنقولة في تقديم الأعلم أوضح ، وأكثر ممّا
نقل في منع تقليد الميّت.
وقد علّل في
الأوّل بكونه أقوى وأرجح ، وممّا يؤيّد ويؤكّد كون البناء في الاجتهاد والتّقليد
على الظنّ والرّجحان لا محض التّعبد عدم جواز تقليد المجتهد لمجتهد آخر ، كما
صرّحوا به ، معلّلين بأنّ ظنّه أقرب وأرجح.
نعم ، إذا كان
المقلّد ممّن يزول ظنّه الحاصل بتقليد الميّت في الفروع بسبب قول مجتهد له : إنّه
لا يجوز تقليد الميّت ، بسبب قصور فطنته وقلّة ذكائه ، فلا يبعد القول : بوجوب
تركه ورجوعه الى تقليد الحيّ ، فينحصر الثّمرة في النّزاع بين العلماء في ذلك ،
ولكنّ الكلام في وجوب التّنبيه على ذلك من باب الأمر بالمعروف والإرشاد كالمسائل
الفرعيّة وعدمه فليتأمّل.
أمّا سائر أدلّتهم
، فأقواها أنّ المقدّمات الظّنيّة ليس بينها وبين نتائجها لزوم عقليّ. فدلائل
الفقه لمّا كانت ظنّيّة ، لم يكن حجّيتها إلّا باعتبار الظّنّ الحاصل معها ، وهذا
الظنّ يمتنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السّند ، ولا يمكن
التّمسّك
بالاستصحاب لاشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب.
وفيه : أوّلا :
منع امتناع بقائه لقيام العلوم بالنّفس النّاطقة.
ولئن سلّمنا زوال
العلوم والاعتقادات القائمة بالنّفس بواسطة انكشاف نفس الأمر وارتفاع الظنّ وحصول
اليقين بأحد الطّرفين أو بقائها خاليا عن الاعتقاد.
فنقول : إنّه لا
مانع من أن يكون مستند الحكم هو ظنّه السّابق المقترن به مع عدم العلم بالمزيل حال
الحياة ، مع أنّ جواز التّقليد للمقلّد يدلّ على جواز التّقليد ولذلك مال بعضهم
الى جواز التّقليد للمقلّد الذي كان يقلّده في حياته بخلاف التّقليد الابتدائيّ ،
واستقربه بعض المحقّقين من المتأخّرين.
ويمكن أن يعمّم
الاستصحاب بالنّسبة الى الكلّ ، فإنّ حكم كلّ من كان يطّلع على ذلك المجتهد في حال
حياته وعرفه بقابليّة التّقليد له ، كان جواز التّقليد له ، فهذا الحكم مستصحب
لهؤلاء المقلّدين.
ومنها : أنّ
المجتهد إذا مات ، سقط اعتبار قوله ، ولهذا قد ينعقد الإجماع على خلافه.
وفيه : أنّه لا
يلائم مذهبنا في الإجماع ، فإنّه لا عبرة عندنا بقول آحاد المجمعين ، بل إنّما هو
لكشف الاتّفاق عن رأي رئيسهم ، ولذلك نقول : بعدم ضرر مخالفة معروف النّسب مع
الحياة أيضا.
ومنها : أنّ
متابعة الأعلم والأورع واجب بالإجماع ، ولا يمكن معرفته في الأموات.
وفيه : ما عرفت من
عدم صحّة إطلاق هذا الكلام ، ومنع هذا الإجماع أنّ تلك المعرفة ممكنة بتتبّع
الأخبار والسّير.
ومنها : أنّ
المجتهد إذا تغيّر رأيه ، يجب العمل برأيه الأخير ، وهو غير متميّز في
الأموات.
وفيه : مع أنّ
التّمييز ممكن للعلم بتواريخ كتب المعتمدين وفتاويهم أنّه إنّما يتمّ فيما علم فيه
تغيّر الرّأي ، واحتمال التّجدّد لا يضرّ للأصل كالحيّ.
وهاهنا وجوه أخر
ضعيفة جدّا لا نطيل الكلام بذكرها وذكر ما فيها.
ثمّ إنّ صاحب «المعالم»
رحمهالله قال في آخر كلامه : على أنّ القول بالجواز قليل الجدوى على
أصولنا ، لأنّ المسألة اجتهاديّة ، وفرض العامّيّ فيها الرّجوع الى المجتهد ،
وحينئذ فالقائل بالجواز إن كان ميّتا ، فالرّجوع الى فتواه فيها دور ظاهر ، وإن
كان حيّا ، فاتّباعه فيها والعمل بفتوى الموتى في غيرها بعيد عن الاعتبار غالبا ،
مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرّجوع الى فتوى الميّت مع وجود
المجتهد الحيّ ، بل قد حكى الإجماع فيه صريحا بعض الأصحاب. انتهى كلامه رحمهالله.
وقد ذكرنا ما يقرب
من بعض هذا الكلام في مسألة تجزّي الاجتهاد أيضا.
وفيه : ما لا يخفى
، إذ الفائدة عظيمة جدّا سيّما لمقلّد مجتهد مات مجتهده وهو مستحضر لفتاويه كلّها
، وكذلك لمن شاركه في العصر القادر على الأخذ عنه بالرّواية.
فكأنّه رحمهالله أراد بقوله : على أصولنا ، التّعريض الى أنّ العامّة لمّا
كان بناؤهم على العمل بمذاهب الأئمة الأربعة ، فهو كثير النّفع عندهم لا عندنا ،
وقد عرفت أنّه ليس كذلك.
قوله رحمهالله : لأنّ المسألة اجتهاديّة.
__________________
فيه : ما عرفت
مرارا أنّ هذه المسألة من توابع المسائل الكلاميّة ويجب فيها الاجتهاد لا التّقليد
على التّفصيل الذي مرّ مرارا من معذوريّة الغافل وكفاية الظنّ مع عدم إمكان تحصيل
العلم ولو بالاعتماد على قول عالم حيّ أو ميّت ، ولا يشترط في معرفة هذه المسألة
شرائط الاجتهاد في الفروع ، مع أنّا لو سلّمنا كون المسألة فرعيّة ، فإنّما يتمّ
الكلام على القول بعدم التّجزّي ، وأمّا على القول به ، فيجتهد في هذه المسألة
ويقلّد الأموات في الباقي.
قوله رحمهالله : فالقائل بالجواز إن كان ميّتا ... الخ.
قلنا : نختار
أوّلا الأوّل.
قوله رحمهالله : فالرّجوع الى فتواه فيها دور.
فيه : أنّه إذا
قاده العقل الى متابعته في هذه المسألة الأصولية لحسن ظنّه به ، فلا دور ، لتوقّف
تقليده في الفروع حينئذ على الاعتماد على قوله بسبب حكم عقله في مسألة أصولية ، مع
أنّه ينتقض بالمقلّد الذي يقلّد العالم الأصوليّ في الأخذ عن العالم الأصوليّ دون
الأخباريّ ، ثمّ يرجع الى ذلك العالم الأصوليّ في الفروع بسبب قوله.
ثانيا : الثّاني
وما ذكره من بعده عن الاعتبار ، بعيد عن الاعتبار ، إذ لا بعد فيه أصلا سيّما في
البلاد التي لم يوجد فيها مجتهد حيّ وأمكنهم العمل بالرّواية عن الميّت ، فاتّفق
وصول مجتهد حيّ بها بعنوان العبور والمرور فيستفتونه في جواز تقليد الأموات ، ثمّ
يعملون على قولهم.
قوله رحمهالله : مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا رحمهمالله.
قد عرفت الإشكال
في تحقّق الإجماع ، وغاية الأمر أنّه إجماع منقول ظنّي ، فإذا حصل الظنّ للعامّيّ
بقول الميّت في المسألة الفرعيّة أنّه حكم الله تعالى في
الواقع ، فكيف
يعارض به الظنّ الحاصل من الإجماع المنقول على عدم جواز العمل بتقليد الميّت كما
مرّ نظيره.
فحاصل التّحقيق في
المسألة ، أنّ المقلّد أيضا كالمجتهد ، بناؤه على العمل بالظنّ لا محض التعبّد في
تقليد المجتهد وما يتوهّم أنّ المقلّد لا يتفطّن غالبا لأنّ عمله على قول المجتهد
من جهة أنّه مظنون أنّه حكم الله تعالى ، بل إنّما يعمل لأنّه يحسب إجمالا أنّ
العمل بما يقوله حكم الله تعالى في حقّه ، لا أنّ الأحكام الخاصّة كلّ واحد واحد
منها بالخصوص مظنون له أنّه حكم الله تعالى ، فهو فاسد إذ الدّاعي على المتابعة هو
الإتيان بما أراد الله تعالى منه في كلّ واقعة ، وقد شبّ على هذا المعنى من الفطام
الى أن شاب فيه ، فإنّ الطّفل في أوّل الإدراك يجزم بأنّ ما علّمه أمّه وأبوه هو
نفس حكم الله تعالى في الواقع فضلا عن حصول الظنّ به ، وكذلك يترقّى على هذا الحال
ويبدّل معلّمه بمعلّم آخر أعلم من الأوّل ، الى أن يصل الى حدّ تقليد المجتهد ،
فلو لم ندّع أنّه جازم بأنّه حكم الله تعالى ، فلا نصغي الى قولك : فإنّه غير ظانّ
، فإذا آل الأمر الى العمل بالظنّ فكلّ ما حصل له الظنّ بعد سدّ باب العلم فهو
تكليفه سواء كان ذلك بتقليد الحيّ أو الميّت ، وسواء انحصر ظنّه في شخص أو اختار
أحد الظّنون المتساوية لعدم المرجّح.
ثمّ إنّ العمل
بكتب الموتى ليس عين تقليد الميّت ، فإنّه في الغالب اجتهاد في فهم مرادهم ، وهو
في غاية الصّعوبة ، إن لم يبلغ رتبة الاجتهاد ، ولذلك فصّل بعض علمائنا وهو الشيخ
ركن الدّين محمّد بن عليّ الجرجاني في «شرح المبادئ» على ما نقل عنه قال : والأشبه
أن يقال : إنّ المستفتي إن وجد المجتهد لم يجز له الاستفتاء من الحاكي سواء كان عن
حيّ أو ميّت لأنّه مكلّف بالأخذ بأقوى الظّنّين ، فيتعيّن عليه كالمجتهد فإنّه يجب
عليه العمل بأقوى الدّليلين ، فإن لم يجد ،
فلا يخلو إمّا أن
يجد من يحكي عن الحيّ أو لا. فإن وجده تعيّن أيضا ، وإن لم يجده ، فإمّا أن يجد من
يحكي عن الميّت أو لا ، فإن وجده وجب الأخذ بقوله ، وإن لم يجد ، وجب الأخذ من كتب
المجتهدين الماضين.
ونقل مثل ذلك عن
الشيخ عليّ بن هلال رحمهالله أيضا.
وأنت بعد الإحاطة
بما حقّقناه هنا ، وفي تقليد الأعلم وغيره ، تعرف حقيقة الحال ، وأنّ المعيار
متابعة ما يظنّ أنّه حكم الله تعالى ، أو أنّه أحد من الأمور المتساوية نسبتها الى
ما هو حكم الله تعالى ، أو الى ما يحصل به الظنّ بما يفيد الظنّ بأنّه حكم الله
تعالى.
والرّواية عن
المجتهد والفهم عن كتابه بالاجتهاد من هذا القبيل ، ففي كلّ مرتبة من المراتب
مكلّف بالظنّ بحكم الله تعالى منحصرا أو في واحد من المحتملات المتساوية.
__________________
ثمّ إنّ بعض
المتأخّرين فصّل تفصيلا آخر وقال بجواز تقليد من علم من حاله أنّه لا
يفتي إلّا بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصّريحة أو الظّاهرة الواضحة دون الأفراد
الخفيّة للعمومات واللّوازم الغير البيّنة اللّزوم للملزومات ، كالصّدوقين ومن
شابههما من القدماء حيّا كان أو ميّتا ، ولا يجوز تقليد من يعمل باللّوازم
والأفراد الخفيّة حيّا كان أو ميّتا. وهذا في غاية السّخافة والغرابة ، إذ جلّ
الأحكام والفتاوى التي تحتاج إليها الرّعيّة إنّما يستنبط من القسمين الأخيرين ،
وغالب احتياج النّاس الى المجتهد إنّما هو في ذلك.
وأغرب منه ما بني
عليه هذا الحكم ، وهو أنّ كثرة اختلافهم في القسمين الأخيرين كاشف عن غلطهم ،
بخلاف الاختلاف الحاصل في القسمين الأوّلين ، فإنّه يرجع الى اختلاف الأخبار ،
فإنّ عدم الاعتماد على الأخيرين إن كان لكون الاختلاف ناشئا عن عدم إصابة الحقّ ،
فالاختلاف في العمل بالأخبار أيضا مبنيّ على اختلافهم في التّرجيحات المأمور بها
بينها ، فالتّرجيح إنّما يصدر من رأي المجتهد وفكره ، والغلط فيه أيضا غير عزيز ،
مع أنّ الفرق بين الظّواهر والنّصوص وغيرها أيضا من الأمور الاجتهادية ، فربّ ظاهر
عند بعضهم هو خفيّ عند آخر ، وبالعكس ، الى غير ذلك من المفاسد الواردة على هذا
التّفصيل ، لا يخفى على من تأمّله.
__________________
تنبيه
اختلفوا في جواز
خلوّ العصر عن المجتهد.
ذهب الأكثرون الى
جوازه.
ومنعه الحنابلة.
والأوّل أظهر.
وربّما فرّع عدم
الجواز على القول بعدم جواز تقليد الميّت ، ويلزم على القائلين بجواز تقليد الميّت
أيضا على هذا أنّه يجب أن لا يخلو العصر من الرّواية عن الموتى أيضا ، ولا يخفى
ضعف التّفريع ، وستعرف وجهه.
لنا : أنّه لا
دليل على الاستحالة ، وما يستدلّ به من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يزال طائفة من أمّتي على الحقّ حتّى يأتي أمر الله
أو يظهر الدجّال» .
لا دلالة فيه على
المقصود لمنع استلزام كون طائفة على الحقّ على وجود المجتهد ، إذ يكفي فيه كونها
على الحقّ ولو بالإتيان بما اقتضاه التّكليف على حسب الوسع والطّاقة.
وكذلك لا يدلّ
عليه ما ثبت عندنا : «إنّ لله تعالى في كلّ عصر حجّة يبيّن لهم ما يحتاجون إليه» .
فإنّ ذلك منقوض
بعدم الوصول الى الإمام عليهالسلام الذي هو الحجّة الواقعيّة.
__________________
وتحقيق هذا المطلب
أنّه لم يعلم من النّواميس الإلهيّة والطّريقة المستقرّة في سلوكه مع عباده لزوم
تبليغ الأحكام والشّرائع السّمعية الى كلّ أحد من العالمين في كلّ عصر ومصر بحيث
لم يشذّ منهم واحد ، بل [كان] يكتفي بالبلوغ الى الأغلب فيما جرت العادة ببلوغه إيّاهم ، بل يكتفي بالبلوغ في الجملة ، كما
هو المشاهد في حال نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذ من المعلوم أنّه لم يصل كلّ طريقة الإسلام الى جميع
أطراف العالم في عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل ولا الى جميع آحاد المكلّفين في الأمصار القريبة منه.
وكذلك الحال في
الأئمة عليهم الصلاة والسلام بعده ، بل الأمر فيهم أظهر وأجلى ، لعدم اقتدار
أغلبهم على نشر الأقلّ من التّكاليف أيضا.
وكذلك لم تجر
العادة بأخذ الحاضرين عنده وعندهم عليهمالسلام جميع ما بلّغوه على ما هو عليه في نفس الأمر ، بل كانوا
يكتفون عنهم بما يفهمونه ويقرّرونهم على ذلك ، كما أشرنا إليه مرارا ، سيّما في
مباحث خبر الواحد.
فلزوم الرّجوع الى
المجتهد الحيّ على القول به إنّما هو مع الإمكان ، وعلى قدر ما جرت العادة بوصول حكمه الى المقلّدين.
وهذا فعلى القول
بجواز تقليد الميّت فربّما لا يتمكّن المكلّفون على الرّواية عن الموتى أيضا ، ولا
على درك مقاصدهم من كتبهم أو لا يجدون من الكتب شيئا.
فلا فائدة في
تجويز تقليد الموتى للفرار عن الإشكال المذكور أيضا.
فمقتضى سيرة الله
تعالى مع عباده على ما هو مقتضى العدل والعقل والمشاهدة بالعيان ، هو العمل على ما
علم أنّه من الله تعالى ، سواء كان باليقين المصطلح أو
__________________
باعتقاد المكلّف
ثمّ بالظنّ به من الباب الذي هو الحجّة من المجتهد الحيّ إن اشترطناه ، أو
بالرّواية عن الميّت أيضا إن قلنا به.
ثمّ ما يحصل به
الظنّ من تقليد العوامّ ، وفي كلّ ذلك إمّا بالتّعيين ، أو من جهة كونه أحد
الظّنون.
وأمّا لزوم العمل
بالاحتياط فلم يقم علينا حجّة به كما حقّقناه في محلّه ، فإنّه لا دليل على وجوبه
عقلا ولا شرعا ، لا عند المقلّدين حيث يريدون الاجتهاد في المسألة من جهة كونها
كلاميّة ، ولا عند المجتهدين النّاظرين في المسألة لأجل إرشاد العوامّ وأمرهم بما
يستكملون به نفوسهم لما بيّناه ، بل تكليفهم أن لا يتركوا مجموع المحتملات التي
يقطعون أو يظنّون أنّ التّكليف ليس بخارج عنها.
والحاصل ، أنّ اشتراط
العمل بقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو الإمام عليهالسلام أو المجتهد الحيّ أو الرّواية عن الموتى أو عن كتبهم في
كلّ عصر ، ليس إلّا بالنّسبة الى المتمكّنين ، ولا يجب على الله تعالى تمكين الكلّ
عن ذلك ، إذ لو كان واجبا تمكّن الكلّ عن ذلك ، والتّالي باطل كما عرفت ، فالمقدّم
مثله ، فالشّأن حينئذ في بيان تكليف غير المتمكّنين ، وقد عرفت أنّ الاحتياط واجب
، فيعملون على مقتضى أصل البراءة في التّعيين وفي لزوم الإتيان المتعدّد
والمتكرّر.
ومن ذلك يظهر
الجواب عمّا يقال : إنّه لم يجز تقليد الميّت فيلزم في العصر الخالي عن المجتهد
الحيّ أن يكون كلّهم فسّاقا لتركهم الواجب الكفائيّ ، فتتعطّل الأحكام.
لأنّا نقول : مع
أنّ الإشكال يرد على القول بجوازه حينئذ أيضا من جهة تعطّل القضاء لأنّه مختصّ
بالمجتهد عندهم ومنقوض بالصّنائع الواجبات الكفائيّة غالبا ، إنّ الوجوب الكفائيّ
إنّما يسلّم مع الإمكان.
والقول : بأنّ
انعدام المجتهد في جميع الأوقات من جهة تقصير المكلّفين ، ممنوع ، مع أنّه إن قصّر
طبقة من المكلّفين فانعدم المجتهد ، فلا بحث على الطّبقة الثّانية لاستحالة تحصيل
الاجتهاد من دون الأسناد [الاستاد].
والكلام فيه هو
الكلام في غيبة الإمام عليهالسلام بسبب تقصير الرّعيّة في الطّبقة الأولى ، وإن كان يمكن دفع
ذلك بأنّه لعلّة عدم قابليّة الطّبقة الثّانية وعدم تهيّؤهم لظهوره عليهالسلام ، ومعرفة إمامهم أنّه إذا ظهر لا يعتنونه من جهة سوء
سريرتهم وقبح اختيارهم ، صار سببا لعدم ظهوره في الطّبقة الثانية أيضا ، بخلاف
المجتهد.
ومن ذلك يظهر
الجواب عمّا يقال : إنّ تقليد الأموات لو كان جائزا لخرج الاجتهاد عن الوجوب
الكفائيّ ، لأنّ المسلّم من وجوبه الكفائيّ إنّما هو في الجملة ، وهو وقت ثبوت
الاحتياج ، مع أنّه يمكن منع الملازمة أيضا ، إذ العادة قاضية بعدم كفاية تقليد
الأموات في جميع ما يحتاج إليه النّاس في كلّ عصر ، سيّما في الفروع المتجدّدة
والأحكام الحادثة ، وخصوصا من جهة أنّ حصول الاجتهاد أمر تدريجيّ وليس بدفعيّ ،
فعدم الاحتياج في آن من الأوان لا يستلزم رفع وجوبه لتدارك الحوائج المترقّبة.
والتّقاعد منه يوجب التّعطيل عند نزول الواقعة ، فالحكمة الإلهيّة تقتضي تحصيله
قبل نزول الواقعة.
هذا كلّه مع أنّ
القضاء يحتاج الى المجتهد الحيّ عندهم ، فلا يكفي جواز تقليد الميّت في الأحكام
مطلقا.
خاتمة
في
التّعارض والتّعادل
والتّراجيح
قانون
تعارض الدّليلين عبارة عن تنافي مدلوليهما ، وهو لا يكون في قطعيّين
لاستحالة اجتماع النّقيضين.
وما ذكرنا في
مباحث الإجماع من إمكان تحقيق الإجماع على طرفي النّقيض ، فهو ليس على حكم واحد ،
بل إنّما هو على الحكمين المختلفين بسبب الأشخاص والأوقات ، مثل ما لو انعقد
الإجماع على ما هو مقتضى التّقيّة مرّة ، وعلى ما هو الحقّ مرّة أخرى.
وحقيقة ذلك أيضا
يرجع الى العدم ، لأنّ ذلك إنّما يتصوّر بالنّسبة الى الشخصين ، اطّلع أحدهما على
أحد الإجماعين والآخر ، على الآخر وإلّا فبالنّسبة الى الشّخص الواحد لا يتّحد
مورد الإجماع ، وكذلك الخبران القطعيّان كذلك.
وكذلك لا يكون في
قطعيّ وظنيّ لانتفاء الظنّ عند حصول القطع.
فالتّعارض إنّما
يكون بين دليلين ظنّيين ، وهو قد يحصل بين المتناقضين ، وقد يحصل بين العموم
والخصوص المطلقين ، وقد يحصل بين العموم والخصوص من
وجه ، وقد يحصل في
غير ذلك.
وقالوا : إنّ
العمل بهما من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكلّيّة.
ومرادهم من
الأولويّة التّعيين ، كما في قوله تعالى : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ). وهو صريح العلّامة رحمهالله في «التهذيب» .
ويحصل الجمع بين
الدّليلين غالبا بحمل العامّ على الخاصّ في العامّ والخاصّ المطلقين.
ويحمل [وبحمل] كلّ
من المتناقضين على بعض أفراد موضوع الحكم.
وأمّا الأعمّ
والأخصّ من وجه ، فلا يمكن تخصيص كلّ منهما بالآخر للزوم التّساقط ، اللهم إلّا أن
يرجع أحدهما الى بعض أفراد العامّ ويبقى الآخر على عمومه ، كما سنشير إليه. وإن لم
يمكن ذلك ، فلا بدّ من الرّجوع الى المرجّحات الخارجيّة.
وأما بين الأمر
والنّهي ، فقد يمكن الجمع بحمل الأمر على الرّخصة والنّهي على المرجوحيّة ، فيحصل
الكراهة. ولا يلتفتون في هذا المقام الى ملاحظة التّراجيح والقوّة والضّعف كما
أشرنا إليه في مبحث تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة.
وقال في «تمهيد
القواعد» في مقام التّعليل لهذا الحكم : لأنّ الأصل في كلّ واحد
منهما هو الإعمال ، فيجمع بينهما بما أمكن ، لاستحالة التّرجيح من غير مرجّح.
__________________
ولم أتحقّق معنى
قوله : لاستحالة التّرجيح من غير مرجّح ، إذ المفروض عدم ملاحظة المرجّح ، وإلّا
فقد يوجد المرجّح لأحدهما.
وتوجيهه أن يقال :
إنّ مراده إذا أمكن العمل بكلّ منهما ولو كان بإرجاع التّوجيه الى كليهما ، فمع
ذلك لو عمل بأحدهما وترك الآخر فيلزم التّرجيح بلا مرجّح ، إذ المفروض أنّ موضوع
الحكمين متغاير في الدّليلين ، فلا معنى لملاحظة المرجّح بينهما ، لأنّ كلّ واحد
من الدّليلين حينئذ دليل على حكم شيء آخر ، فضعف أحدهما بالنّسبة الى الآخر لا
يصير منشأ لترك مدلوله.
وذلك كما لو فرضنا
أنّ واحدة من المسائل الفقهيّة تثبت بنصّ الكتاب ، وأخرى مباينة لها بخبر واحد ،
فبعد ملاحظة القرائن المخرجة للّفظ عن الظّاهر يصير موضوع الدّليلين مختلفا ،
فالعمل على أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، إذ كلّ منهما قام دليل على طبقة [طبقه]
، وتكليف المكلّف في كلّ مسألة العمل بمقتضى ما يدلّ عليه دليلها ، فالعمل بأحدهما
دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.
هذا ، ولكنّ
الإشكال في معنى قولهم : هذا ومرادهم من الجمع ، فإن كان مرادهم وجوب التّفحّص
والتّفتيش عن القرائن والأمارات اللّفظيّة والحاليّة والتّعارفيّة وتحصيل ما ظهر
للمجتهد أنّه قرينة على إرادة خلاف الظّاهر من كلّ من الدّليلين ، كما في صلاة
العاري قائما أو جالسا كما مرّ ، أو من أحدهما كما في العامّ والخاصّ المطلقين ،
كما أشرنا في موضعه.
أو كما في العامّ
والخاصّ من وجه ، كما إذا قامت قرينة على إرادة بعض الأفراد في أحدهما دون الآخر ، وهكذا.
__________________
فلا ريب أنّ الأمر
كما ذكروه ، ولكن ينبغي التّأمّل في القرينة أنّه إذا قامت على معنى خلاف الظّاهر
في الدّليل الأقوى لم يوجب تقديم الأضعف على الأقوى ، بل لا بدّ أن تكون تلك
القرينة قويّة بحيث يغلب قوّته على ظهور الدّليل الأقوى حتّى لا يلزم ترجيح الأضعف
على الأقوى.
مثلا ، إذا وقع
التّعارض بين خبر الواحد وظاهر الكتاب ، ولكن كان هناك خبر آخر معمول به عند
المعظم ، أنّ المراد بظاهر الكتاب هو خلاف ظاهره ، فيعمل على الدليلين ، ولم
يستلزم ذلك تقديم الأضعف على الأقوى.
مثلا إذا ورد خبر
في جواز التكلّم والقراءة عند سماع صوت قارئ القرآن ، فهو معارض لقوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا) فحينئذ نقول : إنّ صحيحة زرارة المفسّرة للآية بقوله عليهالسلام : «يعني في القراءة خلف الإمام». قرينة لإرادة خلاف
الظّاهر من الآية.
فحينئذ يجمع بين
العمل بالرّواية الأولى وظاهر القرآن ، بحمله على القراءة خلف الإمام ، فيجوز
التّكلّم والقراءة في غير خلف الإمام عند قراءة القرآن ، وإن كان مرادهم كما هو
ظاهر كلماتهم أنّ محض الجمع بين الدّليلين يكفي لإخراج لأحدهما أو كليهما عن
الظّاهر.
__________________
وإن لم يظهر
للمجتهد قرينة توجب ظهور المعنى الخلاف الظّاهر له بحيث يمكن التمسّك به في مقام
الاستدلال ، فلا دليل عليه ولا برهان يرشد إليه ، بل ربّما يوجب هجر الدّليل
الشرعيّ رأسا ، والأخذ بما لم يصدر من الشّارع أصلا ، فلا دليل على إرجاع كلّ من
المتناقضين الى بعض الأفراد لبعض المناسبات الجزئيّة والاستحسانات كما فعلوه في
حمل الولد في الأحاديث الدالّة على حضانة الأب على الذّكر والأمّ على الأنثى ،
إلّا أن تكون الشّهرة قرينة على أنّه كان هناك دليل يدلّ عليه خفيّ علينا كما في
صلاة العاري.
وإن كان بناؤهم في
ذلك على محض الجمع بين الدّليلين ؛ فلا وجه له ، بل خلاف المستفاد من الأخبار ،
فإنّهم عليهمالسلام إذا كانوا سألوا عن اختلاف الأخبار حكموا بالرّجوع الى
المرجّحات من ملاحظة الأفقه والأعدل الى غير ذلك ، ولم يحكموا بالجمع مهما أمكن
حتّى بالمعنى المذكور ، بل يظهر من كثير من الأخبار أنّهم عليهمالسلام كانوا يتكلّمون على سبيل الاختلاف والتّعارض أنّهم عليهمالسلام قالوا «إنّ الاختلاف منّا وإنّه أبقى لنا ولهم» .
__________________
وربّما يجيبون عن
إشكال الاختلاف الوارد في أخبارهم وأخبار آبائهم عليهمالسلام باختيار أحدها ولم ينكروا الاختلاف ولم يأمروهم بالجمع
بينهما ولو بالتّأويلات البعيدة.
وأما الشيخ رحمهالله فما بنى عليه من التّأويل فهو ليس من باب الجمع بين
الدّليلين غالبا ، بل هو يلاحظ المرجّحات أوّلا ويقدّم الرّاجح ، ثمّ يذكر المخالف
ويؤوّله بما لا ينافي الرّاجح لما ذكره في أوّل «التّهذيب» من أنّ بعض الشّيعة ارتدّ عن المذهب بسبب حصول التّناقض في
أخبار الأئمة عليهمالسلام ، وأراد بذلك رفع التّناقض بإبداء الاحتمال الغير المنافي.
وحاصله ، أنّ هذا
الحديث إذا كان محتملا لهذا المعنى ، فلا تناقض ، لاحتمال أن يكون مرادهم عليهمالسلام ذلك ، وكان عليه قرينة حاليّة أو مقاليّة ذهبت بالحوادث ،
ولكنّ هذا لا يصير حجّة شرعيّة ولا يجوز التمسّك به بمحض الاحتمال ، إذ الحجّة
إنّما هي القطع بمراد الشّارع أو الظنّ القائم مقامه ، وأمّا مجرّد
الاحتمال فكلّا.
والحاصل ، أنّه لا
ريب ولا شكّ في وجود التّعارض بين الأدلّة الفقهيّة ، فما وجد فيها قرينة من نفس
المتعارضين أو من خبر معتبر أو إجماع بسيط أو مركّب أو نحو ذلك توجب انفهام معنى
يمكن معها العمل بكليهما على الوجه الصّحيح
__________________
المدلول عليه
بالدّلالة الحقيقيّة أو المجازيّة المعتبرة الظّاهرة ، والعلاقة بسبب وجود القرينة
الظّاهرة الواضحة بحيث لم يوجب طرح الأقوى وإخراجه عن الظّاهر بسبب الأضعف ، فلا
شكّ ولا ريب حينئذ في وجوب الجمع بينهما وعدم جواز طرح أحدهما.
وأمّا إذا لم يقم
عليه حجّة ولا قرينة توجب حمل اللّفظ عليه عرفا ولغة ، فلا حجّة فيه ، سيّما إذا
وجب الخروج عن ظاهر الأقوى الى الأضعف.
ولكن لا مانع من
إبداء الاحتمال في مقام رفع التّناقض في نفس الأمر ، كما فعله الشيخ رحمهالله ، ولكن بشرط أن لا يجعل حجّة في حكم شرعيّ ، فإن كان
مرادهم من قولهم : الجمع مهما أمكن أولى من طرح أحد المذكورين ، فنعم الوفاق.
وإن أرادوا
أولويّته في غير ذلك أيضا ، ووجوب تعاطي التّأويل في أحد الدّليلين وإخراجه عن
الظّاهر أو كليهما بمحض الجمع بينهما فلا دليل عليه.
ومن جميع ذلك ظهر
أنّ محض كون إحدى الأمارتين عامّا مطلقا والأخرى خاصّا مطلقا لا يوجب التّخصيص ،
وإن كان العامّ أقوى بسبب الاعتضادات ، ولذلك ترى الفقهاء كثيرا ما يطرحون النصّ
لمخالفته للأصل ، مع أنّ الأصل عامّ وهو خاصّ.
ومن تلك المواضع
ردّ رواية سيف بن عميرة الصّحيحة أو الموثّقة الدالّة على جواز التمتّع بأمة
المرأة بدون إذنها ، بأنّها منافية للأصل ، وهو تحريم التّصرّف في مال الغير ،
فيحتاج الى قرينة قويّة تكسر التّخصيص سورة العامّ كما في المثال الذي قدّمناه.
وقد استدلّ بعضهم
، في تقديم الجمع بين الدّليلين : بأنّ دلالة اللّفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة
للدلالة على كلّ مفهومه ، ودلالته على كلّ مفهومه أصليّة ، فإذا
عملنا بكلّ واحد
منهما من وجه دون آخر ، فقد تركنا العمل بالدّلالة التّابعة ، وإذا عملنا بأحدهما
وتركنا العمل بالآخر بالكليّة ، تركنا العمل بالدّلالة الأصليّة ، ولا شكّ في أنّ
الأوّل أولى.
واعترضه العلّامة رحمهالله في «النّهاية» على ما نقل عنه : بأنّ العمل بكلّ واحد
منهما ، من وجه عمل بالدّلالة التّابعة من الدّليلين معا ، والعمل بأحدهما دون
الآخر عمل بالدّلالة الأصليّة والتّابعة في أحد الدّليلين وإبطالهما في الآخر ،
ولا شكّ في أولويّة العمل بالأصل ، وتابع على العمل بالتّابعين وإبطال الأصلين.
وتنظّر فيه بعضهم
، بأنّ العمل بتابع وأصل إنّما يكون راجحا على العمل بالتّابعين إذا كانا من
دليلين ، أمّا إذا كانا من دليل واحد وكان التّابعان من دليلين ، فلا ، وهو ظاهر.
فإنّ فيه تعطيلا للّفظ الآخر وإلغاء له بالكلّيّة ، ومن المعلوم أنّ التّأويل أولى
من التّعطيل.
أقول : ويظهر ما
في هذا النّظر ممّا قدّمناه.
وتحقيق المعارضة
أنّ العمل بالدّليلين حينئذ خروج عن كلام الشّارع رأسا ، لاستحالة العمل على
حقيقتهما وعدم قرينة معيّنة لذلك التجوّز ، بحيث يكون مقبولا عند أهل اللّسان ،
بخلاف ما لو عمل على حقيقة أحدهما ، فإنّه لا مانع منه ، ولا مؤاخذة في ترك الآخر
لأصل البراءة واستحالة العمل عليهما معا على ما وردا عليه ، وخصوصا مع ملاحظة ما
ورد من الشّارع من التّخيير في العمل بأيّهما.
ثمّ إنّ الشّهيد
الثّاني رحمهالله بعد ذكر ما نقلنا عنه في التعارض ولزوم الجمع بين
الدّليلين مهما أمكن ، جعل من فروع الجمع بين الدّليلين إعمال البيّنتين القائمتين
__________________
على مالكيّة رجلين
يدهما ثابتة على الدّار على السّواء أو لم يكن يد أحدهما عليهما.
والتّحقيق فيه ،
أنّ ذلك يصحّ بعد ملاحظة التّراجيح في البيّنتين وانتفائهما وتعادلهما.
وكيف كان ، فيمكن
القدح في ذلك التّفريع لإمكان استناد التّنصيف الى ترجيح بيّنة الدّاخل ، فيعطى
كلّ منهما ما في يده ، أو ترجيح بيّنة الخارج ، فيعطى كلّ منهما ما في يد الآخر ،
إذ دخول اليد وخروجها أعمّ من الحقيقيّ والاعتباريّ كما حقّق في محلّه.
ويمكن استناده الى
التّعارض والتّساقط والتّحالف ، فينصّف بعد التّحالف ، فيجري مجرى ما لو ثبت
يداهما عليهما ولم يكن هناك بيّنة ، كما هو المشهور.
ولكن يقع الإشكال
هنا في وجه التّنصيف ، ولعلّ وجهه أنّ اليد وإن كانت دالّة على الملك ، لكنها
إنّما تدلّ على الملك في الجملة لا بعنوان الاستيعاب فقط بحيث يعمّ جميع الموارد.
فالقدر المسلّم
فيما يثبت اليدان عليها على السّواء إنّما هو الملك في الجملة لكلّ منهما ، وهو
مقتضى حمل فعل المسلم على الصحّة منضمّا الى دلالة يده على الملكية بحيث لا مرجّح
لأحدهما على الآخر فيحكم بالشّراكة ، إذ هو مقتضى توارد اليدين على وجه الصحّة
والحكم بالتّسوية لرفع التّحكّم ، ولكنّ هذا لا يتمّ في الدّليلين اللّفظيين
اللّذين هما حقيقة ومجاز مطلقا ، بل يحتاج الى قرينة مصحّحة لإرادة خلاف الظّاهر.
ثمّ قال بعد التّفريع المذكور : ولو كان بين الدّليلين عموم وخصوص
من وجه ، طلب التّرجيح بينهما لأنّه ليس تقديم خصوص أحدهما على عموم الآخر أولى من
العكس.
وذكر من جملة
فروعه تفضيل فعل النّافلة في البيت على المسجد الحرام ، فإنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما عداه إلّا المسجد
الحرام» ، يقتضي تفضيل فعلها فيه على البيت لعموم قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فيما عداه». وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» . يقتضي تفضيل فعلها فيه على المسجد الحرام ومسجد المدينة.
قال : ويترجّح الثّاني بأنّ حكمة اختيار البيت عن المسجد هو البعد عن
الرّياء المؤدّي الى إحباط الأجر بالكليّة ، وهو حاصل مع المسجدين.
وأمّا حكمة
المسجدين فهي الشّرف المقتضي لزيادة الفضيلة على ما عداهما ، مع اشتراك الكلّ في
الصحّة وحصول الثّواب ، ومحصّل الصحّة أولى من محصّل الزّيادة.
ويمكن ردّ هذا الى
الأوّل ـ يعني صورة التّعارض التي يجمع فيها بين الدّليلين مهما أمكن ـ فيعمل بكلّ
منهما من وجه بأن يحمل عموم فضيلة المسجد على
__________________
الفريضة وعموم
فضيلة البيت على النّافلة ، لأنّ النّافلة أقرب الى مظنّة الرّياء من الفريضة ،
وهذا هو الأصحّ ، وفيه مع ذلك إعمال الدّليلين ، وهو أولى من إطراح أحدهما .
أقول : الفرق بين
المقامين ، أنّ في الأوّل يرجّح الرّواية الدالّة على فعل النّافلة في البيت ،
ويطرح دلالة الرّواية الأولى على استحبابها في المسجد في ضمن عموم : «صلاة في
مسجدي».
وفي الثاني لم
يطرح تلك الدلالة ، بل خصّ عمومها بأمر خارجيّ. وحمل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «صلاة في مسجدي» ، على إرادة صلاة فريضة.
والأمر الخارجيّ
هو عدم مزاحمة الرّياء للفريضة غالبا ، فهو قرينة على أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد منها صلاة الفريضة ، فالجمع بين الدّليلين صار بإبقاء
أحد العامّين من وجه على عمومه وهو ما عدا البيت. وتخصيص العامّ الآخر وهو : «صلاة
في مسجدي» ، بالفريضة بأمر خارجيّ لا بالعامّ الآخر حتّى يلزم المحذور.
فظهر بذلك إمكان
الجمع بين العامّين من وجه في العمل في الجملة ، ولكن لا بدّ أن تكون القرينة ممّا
يعتمد عليها كما أشرنا سابقا.
والذي ذكر هنا ليس
بذلك المعتمد ، إلّا أنّ عمل الأصحاب والشّهرة بينهم صار قرينة مرجّحة لهذا الحمل.
وإن وردت روايات معتبرة في استحباب النّافلة في المسجد أيضا ، وعمل بها الشّهيد
الثّاني رحمهالله في بعض تأليفاته ، ثمّ ذكر في «التّمهيد» فروعا أخر للعامّين من وجه.
__________________
ثمّ قال : فائدة : إذا تعارض ما يقتضي إيجاب شيء مع ما يقتضي
تحريمه فإنّهما يتعارضان كما قاله في «المحصول» وغيره ، حتّى لا يعمل بأحدهما إلّا لمرجّح ، لأنّ الخبر
المحرّم يتضمّن استحقاق العقاب على الفعل ، والموجب يتضمّنه على التّرك. وجزم
الآمديّ وجماعة بترجيح المحرّم لاعتنائه بدفع المفاسد.
ولكن ذكر الآمدي
وابن الحاجب أيضا أنّه يرجّح الأمر بالفعل على النّهي عنه.
وفي معنى ما
ذكرناه ما لو دار الأمر بين ترك المستحبّ وفعل المنهيّ عنه .
ثمّ ذكر له فروعا.
أقول : ومن ذلك
يظهر أنّ مرادهم من الجمع بين الدّليلين هو ما ذكرنا من أنّ المراد العمل بها على
مقتضى طريقة أهل اللّسان في إخراج الكلام عن الظّاهر ، لا مطلق التّوجيه والتّأويل
كيفما اتّفق.
ويظهر بطلان ما قد
يتخيّل أنّ الجمع حينئذ أن يحمل الأمر على الرّخصة ، والنّهي على المرجوحيّة ، إذ
ذلك خروج عن مقتضى الدّليلين بلا دليل ، فلا بدّ من الرّجوع الى المرجّحات واختيار
أحدهما وطرح الآخر بسبب التّرجيح ، أو العمل على أحدهما لو لم يحصل مرجّح من باب
التّخيير ، كما سيجيء ، ومطلق الاعتناء بالدّليلين والجمع بينهما لا يصير موجبا
للتأويل.
__________________
لا يقال : إنّ
التّعارض وعدم إمكان العمل على حقيقة الأمارتين قرينة على إرادة المعنى المجازيّ
المحتمل ، فإن اتّحد المجاز فهو متعيّن ، وإلّا فالأقرب ، وإن لم يتفاوت فالتّخيير
، وذلك لأنّ المظنون أنّ أصل الأمارتين من الشّارع وإن حصل الإشكال في المراد
حينئذ بسبب التّناقض والتّعارض.
لأنّا نقول أوّلا
: إنّا نمنع الظنّ بكون الأمارتين من الشّارع مع حصول التّناقض ، بل المظنون إنّما
هو أحدهما.
سلّمنا ، لكن لا
نعلم أنّه لا بدّ أن يكون مدلول كلّ واحد منهما مراد الشّارع ولو على سبيل المجاز
، إذ يحتمل أن يكون أحدهما واردا مورد التّقيّة فيجب إلغاؤها رأسا ، فلا دليل على
وجوب التّأويل واستعمال كلّ منهما إذا لم يقم دليل عليه ، بل لا دليل على جوازه إن
أريد الاستدلال به.
نعم ، لا تضايق [نضايق]
عن تأويل المرجوح بما لا ينافي الرّاجح كما فعله الشيخ رحمهالله من باب الاحتمال ، ولكن لا يمكن الاعتماد عليه في
الاستدلال ، فإذا أردت المعنى الحقيقيّ لقول : الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ،
فهو : أنّه يجب التّفحّص والتفتيش عن القرائن والعلامات حتّى يظهر لك المعنى
الصّحيح والمراد اللّائق بشرط عدم إخراج الأقوى عن ظاهره كما بيّنّا سابقا.
وحقيقته يرجع الى
أنّه لا بدّ أن يتأمّل حتّى يظهر أنّ الموضوع في الأمارتين واحد أو مختلف ، وأنّ
تعارض الظّاهر فيهما هل هو واقعيّ أو هو كذلك في نظر الظّاهر ، ثمّ العمل على
مقتضاه.
فخذ هذا ودع عنك
ما سواه ممّا يتعاوره الغافلون العادون عن التحقّق.
__________________
ثمّ إنّ المعارضة
بين الأمر والنّهي قد يكون بسبب ورودهما على موضع واحد فيحصل الاشتباه في الحكم ،
وقد يكون بسبب اشتباه الموضوع بين المأمور به والمنهيّ عنه ، كاختلاط موتى
المسلمين بموتى الكفّار فيتردّد الأمر بين وجوب غسلهم والصلاة عليهم وحرمتهما ،
والمشهور وجوب غسلهم جميعا والصلاة عليهم لكن بقصد المسلمين ، فيكون من باب تخصيص
العامّ بالنيّة.
ثمّ ذكر في «التمهيد»
بعد ذلك تعارض الأصلين وقال : إنّه يعمل بالأرجح منهما بالاعتضاد ، فإن فقد
ففي المسألة وجهان ، وفروع ذلك كثيرة جدّا ، وذكر كثيرا منها.
منها : مسألة
تعارض الاستصحابين في الذّبابة التي وقعت على نجاسة رطبة ثمّ سقطت بالقرب على ثوب
، وشكّ في جفاف النّجاسة ، واستوجه في «التمهيد» نجاسة الثوب حينئذ لأنّه استصحاب الرّطوبة طارئ على طهارة
الثّوب.
وفيه : تأمّل. وقد
أشرنا في مبحث الأدلّة العقليّة الى جواز العمل بالأصل المتنافيين في الجملة ،
فراجع.
__________________
قانون
تعادل الدّليلين
عبارة عن تساوي اعتقاد مدلوليهما ، ولا ريب في إمكانه ووقوعه عقلا ، لحصول البرق
المتواتر في زمن الصّيف ، فتواتره يدلّ على المطّرد كونه في الصّيف على عدمه.
وأما شرعا
فاختلفوا فيه.
والأشهر الأظهر
إمكانه ووقوعه خلافا لبعض العامّة.
لنا : أنّه لا
يمتنع أن يخبرنا رجلان متساويان في العدل والثّقة والصّدق بحكمين متنافيين ،
والعلم به ضروريّ.
وتعادل الأمارتين
قد يكون في المسألة ، كحديثين متساويين دلّ أحدهما على وجوب شيء ، والآخر حرمته.
وقد يكون في
موضوعهما كالأمارتين المختلفين في تعيين القبلة مع تساويهما.
وقد يكون في الحكم
والقضاء كاليدين والبيّنتين المتساويتين.
وأيضا قد يكون
التّعادل في حكم مع تنافي الفعلين كالمثال الثاني أو بالعكس كالمثال الأوّل.
واحتجّ المنكر :
بأنّه لو تعادل الأمارتان على الحظر والإباحة ، فلا يجوز العمل بهما معا لتنافيهما
، ولا تركهما معا للزوم العبث في وضعهما على الحكيم ، ولا بواحد معيّن منهما للزوم
التّرجيح بلا مرجّح ، ولا بواحد بعينه فإنّه في معنى إباحة الفعل ، فيرجع الى
الثّالث ، فإنّ الإباحة هو واحد معيّن منهما.
وفيه : أنّا نختار
تركهما ونرجع الى الأصل ولا محذور إذا لم يثبت في الخارج
انحصار التّكليف
فيهما ، وإن ثبت فنختار الرّابع ، ونقول : إنّه لا يستلزم الإباحة ، بل إنّما
يستلزمها لو اختارها لا مطلقا ، وهو مثل التّخيير بين تقليد مجتهدين متساويين في
العلم والعمل مع مخالفتهما في الإباحة والحظر. فباختيار تقليد المبيح يصير مباحا ،
وباختيار تقليد الحاظر ، يصير محظورا.
ثمّ إنّ المجتهد
يختار في العمل بأيّ الأمارتين شاء ، ويخيّر مقلّده كذلك.
وأمّا التّخيير في
الحكم والقضاء ، فالتّعيين الى القاضي ، ولا يجوز تخيير المتداعيين لمنافاته مع
قطع الخصومات لاختلاف الدّواعي.
وفي جواز اختيار
القاضي ترجيح إحداهما في صورة ، وأخرى في أخرى ، قولان ، الأقوى : نعم ، لعدم
المانع.
ثمّ إنّهم اختلفوا
في صورة التّعادل ، فالمشهور المعروف من محقّقي أصحابنا : التّخيير.
وقيل : بتساقطهما
والرّجوع الى الأصل.
وقيل : بالتوقّف ،
وسيجيء تمام الكلام.
قانون
التّرجيح في
اللّغة : هو جعل الشّيء راجحا.
وفي الاصطلاح : هو
اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها. وهو المناسب للتعارض والتّعادل اللّذين
يستعملان معه في هذا الباب ، فإنّهما صفتان للأمارة لا فعلان للمجتهد ، وكذلك
التّرجيح.
نعم يستعمل
التّرجيح بمعنى آخر ، وهو تقديم المجتهد إحدى الأمارتين على الأخرى للعمل بها.
ولمّا لم يكن ذلك إلّا في الأمارتين لعدم تصوّر التّعارض في غيرهما كما مرّ ،
فيحتاج الى مرجّح التّقديم حذرا عن التّحكّم ، وذلك المرجّح هو اقتران الأمارة بما
تقوى به على معارضها.
فهذا الاقتران
الذي هو سبب التّرجيح سمّي في اصطلاح القوم بالتّرجيح.
فما عرّفه بعضهم بتقديم أمارة على أخرى في العمل بمؤدّاها قبالا للتعريف
الذي ذكرنا ، ليس في محلّه ، إذ التّعريف الأوّل إنّما هو لنفس الأمارة الرّاجحة ،
والثّاني لفعل المجتهد ، مع أنّه يمكن أن يقال : مبدأ الاشتقاق فيهما أيضا مختلف
كما أشرنا إليه في لفظ التّرجيح بلا مرجّح في مبحث أخبار الآحاد ، فإنّ مبدأ
الاشتقاق في فعل المجتهد هو الاختيار والتّقديم كلفظ التّرجيح في اللّفظ المذكور.
وفي التّرجيح الذي
هو صفة الأمارة ، هو الرّجحان بمعنى الاشتمال على المزيّة والمصلحة ، كلفظ المرجّح
في اللّفظ المذكور ، فلا معنى لترجيح التّعريف الثّاني
__________________
على التّعريف
الأوّل كما فعله المحقّق البهائيّ ، والشّارح الجواد ـ رحمهماالله ـ إذ لا مشاحّة في الاصطلاح.
نعم ، للاعتراض
عليه وجه لو لم يثبت الاصطلاح بإطلاق التّرجيح على فعل المجتهد أيضا ، ولعلّ
المناقشة إنّما هو على من يمنع ذلك.
ووجهه ، أنّ مصدر
التّفعيل أنسب بفعل المجتهد من الأمارة ، والأمر في ذلك سهل ، وإذا حصل التّرجيح
لإحدى الأمارتين ، يجب تقديمها لئلّا يلزم ترجيح المرجوح.
وقيل : إنّ الحكم
حينئذ أيضا إمّا التّخيير أو التّوقّف ، لأنّ زيادة الظنّ لو كانت معتبرة في
الأمارات لكانت معتبرة في الشّهادات ، والتّالي باطل ، فالمقدّم مثله.
وفيه : منع
الملازمة وبطلان التّالي كليهما ، لأنّ المدار في البيّنة على التّعبّد بخلاف
الاجتهاد. ثمّ إنّ المرجّحات تتصوّر في كلّ الأمارات ، ولكنّهم خصّوا الكلام بذكر
المرجّحات في الأخبار ، ونحن أيضا نذكرها أوّلا ثمّ نشير الى حكم الباقي.
فنقول : إنّ
التّرجيح بينهما إمّا من جهة السّند أو من جهة المتن أو من جهة الاعتضاد بالأمور
الخارجة.
واعلم ، أنّ
مرادنا في هذا المقام من كون كلّ من المذكورات مرجّحا إنّما هو إذا قطع النّظر عن
غيره من المرجّحات. ففي مقام ذكر كلّ منهما لا ينبغي اشتراط عدم المرجوحيّة من جهة
أخرى كما يظهر من العلّامة رحمهالله في «النّهاية» حيث اشترط في كون علوّ الإسناد مرجّحا ، أن
لا يكون في سند الرّواية الأخرى كثرة الرّواة وتعدّدها في كلّ طبقة ، وأن يتساووا
في سائر الصّفات ، فإنّه ممّا لا حاجة إليه هاهنا.
أمّا التّرجيح من
جهة السّند فمن وجوه :
الأوّل : كثرة
الرّواة ، أي تعدّدها في كلّ طبقة ، فيرجّح ما رواته أكثر لقوّة الظنّ لتعاضد
الظّنون الحاصلة بعضها ببعض ، وهذا هو الذي قد ينتهي الى التّواتر وإفادة اليقين.
الثّاني : قلّة
الوسائط ، وهو الذي يسمّونه علوّ الإسناد ، فهو راجح على ما كثرت وسائطه ، لأنّ تطرّق احتمال الكذب
والسّهو والغلط وغيرها في الأوّل أقلّ وهو واضح.
وعارضه العلّامة رحمهالله في «النّهاية» بالنّدور والقلّة فيكون مرجوحا من هذه
الجهة.
وهذا إنّما يتمّ
فيما لم يعلم إدراك كلّ من الوسائط للآخر ، وكانت الفاصلة بين المرويّ له والإمام عليهالسلام المرويّ عنه مدّة يستبعد طول عمر هذه الوسائط بحيث
يستوعبها. وأمّا فيما علم فيه الحال وإدراك كلّ منهما لمن فوقه وشاع روايته عنه ،
فلا وجه له.
الثّالث : رجحان
راوي إحداهما على الأخرى من حيث الصّفات الموجبة لرجحان الظنّ مثل : الفقه ،
والعدالة ، والضّبط ، والفطنة ، والورع.
ولا يخفى وجه
التّرجيح ، لأنّ الفقه يوجب معرفة أسباب الحكم وموارد وروده ومناسبة حال المرويّ
له وكيفية الرّواية ، وذكر حال السّماع ممّا يتفاوت به فهم المخاطب لمعنى الحديث ،
وكذلك سائر الصّفات المذكورة يوجب الظنّ بالصّدق وعدم الغفلة ، فيحصل الفرق بين
العالم والأعلم ، والورع والأورع ، والضّابط
__________________
والأضبط ، وهكذا.
وليس ذلك من قبيل
المجتهدين إلّا إذا جعلناهما من باب الأمارة للمقلّد كأمارتي المجتهد ، وقد عرفت
الإشكال فيه ، فيندرج في ذلك تفاوت مراتب العدالة بسبب تزكية الواحد أو الاثنين أو
الأكثر أو أمور أخرى مثل كون أحد الرّاويين مباشرا للقضيّة دون الآخر ، كما يقدّم
رواية أبي رافع أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم تزوّج بميمونة وهو محلّ وكان هو السّفير بينهما على رواية
ابن عبّاس بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم نكحها وهو محرم ، وكذلك كون أحدهما مشافها للمرويّ عنه دون
الآخر ، وكذلك كون أحدهما قريبا منه والآخر بعيدا ، وهكذا.
ويندرج في
التّرجيح باعتبار السّند ما كان أحد الرّاويين غير مشتبه الإسم دون الآخر.
وأمّا التّرجيح من
جهة المتن ، فهو أيضا من وجوه :
الأوّل : تقديم
المرويّ باللّفظ على المرويّ بالمعنى ، وتسوية الشيخ رحمهالله بينهما إذا كان راوي المعنى معروفا بالضّبط والمعرفة ضعيف
، وهذه المعرفة شرط جواز ذلك ، لا شرط المساواة ، ولا ريب أنّ الأوّل أبعد من
الزّلل مطلقا.
الثاني : تقديم
المقروّ من الشيخ على المقروّ عليه.
الثالث : تقدّم
المتأكّد الدّلالة على غيرها ، سواء كان من جهة تعذّر مواضع الدّلالة في أحدهما
دون الآخر أو من جهة أخرى ، مثل تأكّد الحكم بالقسم والتّغليظ كما في بعض أخبار
القصر : «قصّر ، وإن لم تفعل فقد والله خالفت
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم».
ومثل ما كان
أحدهما معلّلا دون الآخر ، أو يكون دلالة أحدهما بعنوان الحقيقة والآخر بعنوان
المجاز ، أو أحدهما بعنوان المجاز الأقرب والآخر بالأبعد ، أو أحدهما بعنوان
المنطوق والآخر بالمفهوم ، أو أحدهما بالعموم والآخر بالخصوص.
ولا يذهب عليك أنّ
المراد من ترجيح الخاصّ على العامّ هنا تقديم الخاصّ على القدر المساوي له من
مدلول العامّ ، فيكون بينهما تناقض حينئذ ، ولا يمكن الجمع فيحتاج الى التّرجيح.
ولا ريب أنّ
الخاصّ أرجح من العامّ للمنصوصيّة والظّهور ، فهذا لا ينافي قولهم : بأنّ في
التّخصيص جمعا بين الدّليلين ، وأنّ الجمع مقدّم على التّرجيح ، فإذا لوحظ مجموع
مدلول العامّ مع الخاصّ ، فيمكن الجمع بينهما ، وبذلك يندرج الكلام فيه تحت قاعدة
تقديم الجمع على التّرجيح.
وإذا لوحظ أنّ في
الجمع لا بدّ من ترجيح الخاصّ على القدر المساوي له من العامّ وينحصر الأمر في
إبقاء الخاصّ على حاله وإسقاط ما يساويه من العامّ أو إبقاء القدر المساوي له من
العامّ وإسقاط الخاصّ ، فيندرج تحت قاعدة التّعارض والتّرجيح.
ومثل ما كان
أحدهما عامّا مخصّصا والآخر غير مخصّص ، أو كان التّخصيص في أحدهما أقلّ ، وفي
الآخر أكثر.
الرّابع : الفصاحة
، فيقدّم الفصيح على الرّكيك ، وربّما يعتبر الأفصحيّة أيضا. ووجههما أنّهم عليهمالسلام أفصح النّاس ، فالأفصح أشبه بكلامهم ، ويورث الظنّ
بالصّدق.
والتّحقيق في ذلك
، أنّ الفصاحة إذا كانت ممّا يستبعد صدورها عن غير
مثلهم عليهمالسلام كعبارات «نهج البلاغة» و «الصّحيفة السجّادية عليهالسلام» وبعض كلماتهم الأخر من الخطب والأدعية فلا ريب أنّه من
المرجّحات ، بل من أقواها ، وإلّا فالّذي يظهر من تتبّع الأخبار سيّما في مسائل
الفروع أنّهم عليهمالسلام لم يكونوا معتنين بشأن الفصاحة ولم تتفاوت كلماتهم فضل
تفاوت مع الرّعيّة ، بحيث يمكن التّمييز بذلك وحصول الرجحان والظنّ معه.
الخامس : أن يكون
دلالة أحدهما على المراد محتاجا الى توسّط واسطة دون الآخر ، فالثّاني مقدّم على
الأوّل.
وأما التّرجيح
بالاعتضادات الخارجة ، فمن وجوه :
الأوّل : اعتضاد
أحدهما بدليل آخر ، إذ لا ريب في قوّة الظنّ في جانب المعتضد.
وكذلك إذا كان أحد
المعاضدين أقوى من الآخر إذا اعتضد كلّ منهما بدليل.
الثّاني : اعتضاد
أحدهما بعمل المشهور ، سيّما المتقدّمين لقرب عهدهم بزمان الأئمة عليهمالسلام ، وتمكّنهم من معرفة حال الأخبار أزيد من المتأخّرين.
ويقع الإشكال فيما
لو كان أحدهما موافقا للقدماء ، والآخر موافقا للمتأخّرين وتعارض الشّهرتان ، فإنّ
تقدّم القدماء وقرب عهدهم وتمكّنهم من القرائن والأمارات يورث الظنّ بإصابتهم ،
وكون المتأخّرين أكثر فحصا وأدقّ نظرا مع معرفتهم بسبق القدماء وقرب عهدهم وهجرهم
مع ذلك قولهم يورث الظنّ بإصابتهم ، ولكلّ وجه ، وتتفاوت المقامات ، ولا بدّ
للمجتهد من التأمّل في كلّ مقام ، فربّما كان اجتماع القدماء على حديث لأجل شدّة
التّقيّة الباعثة على اختفاء الحقّ لاقتضاء سالف الزّمان ذلك ، ولمّا ظهر الحال
بعده بالتّدريج للمتأخّرين فذهبوا الى خلافه. وربّما كان اجتماعهم لأجل قرينة
خفيّة على المتأخّرين ، فلا بدّ
من التّأمّل
والتّفحّص من ذلك.
والحاصل ، أنّ
المدار على حصول الظنّ ، وهو تابع للمقامات والشّهرة كالإجماع ينقسم الى القطعيّ
والظّنّيّ بالاطّلاع عليها أو بالنّقل ، وربّما يتعارض النّقلان كما وقع في مسألة
عدد الرّضعات بالنّسبة الى العشرة والخمس عشرة ، وربّما جمع بينهما بأنّ اشتهار
الأوّل بين القدماء والثّاني بين المتأخّرين.
الثالث : موافقة
الأصل ومخالفته ، ويقال للموافق : المقرّر ، والمخالف : النّاقل.
فبعضهم رجّح
المقرّر لأنّه موجب لحمل كلام الشّارع على التّأسيس والإفادة دون التّأكيد ، فإنّ
العمل على المقرّر موجب لتقديم النّاقل عليه. يعني أنّ الشّارع حكم أوّلا
بالنّاقل. وفائدته رفع حكم الأصل ، ثمّ قال بالمقرّر لرفع حكم النّاقل ، فكلّ وقع
في محلّه.
ولو عمل بالنّاقل
لزم الحكم بتأخّره عن المقرّر فيكون وقوع المقرّر قبله بلا فائدة لاستفادة مفاده
من العقل ، فيكون تأكيدا لا تأسيسا ، وأنت خبير بضعف هذا الاستدلال ، لأنّ الأحكام
الموافقة للأصل ما فوق حدّ الإحصاء ، وهذا الاعتبار الضّعيف لا يرفع هذه الغلبة.
وبعضهم رجّح
النّاقل لأنّه يستفاد منه ما لا يستفاد إلّا منه ، بخلاف المقرّر ، فحمل كلام
الشّارع على التّأسيس أولى ، وبأنّ العمل به يقتضي تقليل النّسخ لأنّه إنّما يزيل
حكم العقل ، بخلاف المقرّر فإنّه يزيل حكم النّقل بعد ما أزال هو حكم العقل.
ويضعّف الأوّل :
بأنّ ذلك إذا قدّرنا تقدّم المقرّر ، وإن قدّرناه متأخّرا فليس كذلك.
والثّاني مع أنّه
معارض : بأنّ ذلك نسخ للأقوى بالأضعف ، لأنّ المنسوخ حينئذ
هو العقل والمقرّر
معا إنّما يتمّ أن لو قلنا : بأنّ رفع حكم العقل بالنّاقل نسخ ، وليس كذلك.
والتّحقيق ، أنّ
ما علم فيه التّاريخ من كلام الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فلا إشكال في تقديم المتأخّر ناقلا كان أو مقرّرا.
وفي مجهول
التّاريخ لا بدّ من التّوقّف ، هذا إذا علم بصدورهما معا عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأمّا مع عدم
العلم بالصّدور ، فالكلام فيه كما لو كانا في أخبار الأئمة عليهمالسلام ، فإنّ مع فرض عدم النّسخ في كلامهم ، لا يبقى إلّا احتمال
الخطأ في أحدهما أو التقيّة ، فسواء كانا قطعيّين عنهم عليهمالسلام أو ظنّيين ، فالأقوى تقديم المقرّر لكونه معاضدا بدليل آخر
وهو العقل ، فيكون أرجح في النّظر ، سواء علم التاريخ في كلامهم أم لم يعلم.
وكيف كان ،
فالأقوى ترجيح المقرّر في الأدلّة التي بأيدينا اليوم والعمل على ذلك.
الرّابع : مخالفة
العامّة ، فيرجّح المخالف على الموافق لاحتمال التّقيّة فيه ، وقد أشير إليه في
روايات كثيرة ، وذلك إمّا بموافقة الرّواية لجميعهم أو الّذين يعاصرون الإمام عليهالسلام المرويّ عنه أو يعاشرون ذلك الرّاوي ، فإنّهم مختلفون في
المسائل جدّا ، وكانت التّقيّة مختلفة بملاحظة مذاهبهم ، فلا بدّ من ملاحظة حال
الرّاوي والمرويّ عنه. فقد نقل عن تواريخ العامّة أنّ مدار أهل الكوفة في عصر
الصادق عليهالسلام كان على فتاوى أبي حنيفة وسفيان الثّوري ورجل آخر ، وأهل
مكّة على فتاوى ابن جريح ، وأهل مدينة على فتاوى مالك ورجل آخر ، وأهل مصر على
فتاوى اللّيث بن سعيد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك ، وهكذا كانوا
مختلفين باختلافات شتّى الى أن استقرّت مذاهبهم في الأربعة في
سنة خمس وستّين
وثلاث مائة ، فلا بدّ من التّأمّل في الحمل على التّقيّة والرّجوع الى دلالة نفس
الرّواية على ذلك ، أو قرينة خارجة أو مناسبة لحال الرّاوي أو المرويّ عنه ، أو
غير ذلك ، لا الحمل بمجرّد موافقته لبعضهم على أيّ نحو يكون. ولا يبعد كفاية مجرّد
الاحتمال إذا لم يتحقّق الاحتمال في الخبر الآخر أصلا.
ثمّ إنّ المرجّحات
الاجتهادية وما يوجب الظنّ بالصحّة كثيرة يندرج أكثرها فيما ذكرناه ، وقد مرّ
الإشارة الى بعضها في مباحث الأخبار ، وعلى المجتهد أن يتحرّى ويتّبع ما يورثه
الظنّ ، وأن يكون بصيرا في أمره ولا يكتفي بملاحظة رجال السّند في تصحيح الخبر
وتقديمه على ما ليس بنقيّ السّند بحسب المصطلح المتأخّر ، كما أشرنا الى ذلك في
مباحث الأخبار ، فإنّ هاهنا مرجّحات كثيرة لم يذكرها العلماء ، مع أنّ ملاحظة سند
الأخبار أيضا إشكالا لا بدّ أنّ ينبّه له لئلّا يبادر بالتّصحيح أو التّضعيف.
وقد ذكر العلّامة
المجلسيّ رحمهالله كلاما في «أربعينه» ولا بأس بإيراده لكثرة فوائده فإنّه
قال في الحديث الخامس والثّلاثين الذي رواه الكلينيّ رحمهالله عن محمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن أبي عمير ،
بعد ما حقّق وبيّن أنّ محمّد بن إسماعيل هذا هو البندقيّ النّيشابوريّ : إنّ
جهالته لا يقدح في صحّة الحديث لوجوه :
الأوّل : أنّ
رواية الكلينيّ رحمهالله عنه في أكثر الأخبار التي أوردها في «الكافي» واعتماده
عليه ، يدلّ على ثقته وعدالته وفضله وفهمه.
الثّاني : أنّ
الفضل لقرب عهده بالكلينيّ واشتهاره بين المحدّثين لم يكن الكلينيّ يحتاج الى
واسطة قويّة بينه وبينه ، ولهذا اكتفى به في كثير من الأخبار.
الثالث : أنّ
الظّاهر أنّ هذا الخبر مأخوذ من كتاب ابن أبي عمير وكتب ابن أبي
عمير كانت أشهر
عند المحدّثين من الأصول الأربعة عندنا ، بل كانت الأصول المعتبرة الأربع مائة
أظهر من الشّمس في رابعة النّهار ، فكما أنّا لا نحتاج الى سند لهذه الأصول
الأربعة ، وإذا أوردنا سندا فليس إلّا للتيمّن والتّبرّك والاقتداء بسنّة السّلف ،
وربّما لم يبال بذكر سند فيه ضعف أو جهالة لذلك ، فكذا هؤلاء الأكابر من المؤلّفين
لذلك كانوا يكتفون بذكر سند واحد الى الكتب المشهورة وإن كان فيه ضعيف أو مجهول ،
وهذا باب واسع شاف نافع إن أتيتها يظهر لك صحّة كثير من الأخبار التي وصفها القوم
بالضّعف.
ولنا على ذلك
شواهد كثيرة لا تظهر على غيرنا إلّا بممارسة الأخبار وتتبّع سيرة قدماء علمائنا
الأخيار.
ولنذكر هنا بعض
تلك الشّواهد لينتفع بها من لم يسلك مسالك المتعسّف المعاند.
الأوّل : أنّك ترى
الكليني رحمهالله يذكر سندا متّصلا الى ابن محبوب أو الى ابن أبي عمير أو
الى غيره من أصحاب الكتب المشهورة ، ثمّ يبتدئ بابن محبوب مثلا ويترك ما تقدّمه من
السّند ، وليس ذلك إلّا لأنّه أخذ الخبر من كتابه ، فيكتفي بإيراد السّند مرّة
واحدة ، فيظنّ من لا رويّة له في الحديث أنّ الخبر مرسل.
الثّاني : أنّك
ترى الكلينيّ والشيخ وغيرهما يروون خبرا واحدا في موضع ويذكرون سندا الى صاحب
الكتاب ، ثمّ يوردون هذا الخبر بعينه في موضع آخر بسند آخر الى صاحب الكتاب أو
بضمّ سند أو أسانيد غيره إليه ، وتراهم لهم أسانيد صحاح في خبر يذكرونها في موضع
ثمّ يكتفون بذكر سند ضعيف في موضع آخر ، ولم يكن ذلك إلّا لعدم اعتنائهم بإيراد
تلك الأسانيد لاشتهار هذه الكتب عندهم.
الثّالث : أنّك
ترى الصّدوق مع كونه متأخّرا عن الكلينيّ أخذ الأخبار في
«الفقيه» عن
الأصول المعتمدة واكتفى بذكر الأسانيد في «الفهرست» ، وذكر لكلّ كتاب أسانيد صحيحة
ومعتبرة ، ولو كان ذكر الخبر مع سنده لاكتفى بسند واحد اختصارا ، ولذا صار «الفقيه»
متضمّنا للصّحاح أكثر من سائر الكتب ، والعجب ممّن تأخّره كيف لم يقتف أثره لتكثير
الفائدة وقلّة حجم الكتاب.
فظهر أنّهم كانوا
يأخذون الأخبار من الكتب وكانت الكتب عندهم معروفة مشهورة متواترة.
الرّابع : أنّك
ترى الشيخ رحمهالله إذا اضطرّ في الجمع بين الأخبار الى القدح في سند لا يقدح
فيمن هو قبل صاحب الكتاب من مشايخ الإجازة ، بل يقدح إمّا في صاحب الكتاب أو فيمن
بعده من الرّواة كعليّ بن حديد وأضرابه ، مع أنّه في الرّجال ضعّف جماعة ممّن
يقعون في أوائل الأسانيد.
الخامس : أنّك ترى
جماعة من القدماء والمتوسّطين يصفون خبرا بالصحّة مع اشتماله على جماعة لم يوثّقوا
، فغفل المتأخّرون عن ذلك واعترضوا عليهم ، كأحمد بن محمّد بن الوليد ، وأحمد بن
محمّد بن يحيى العطّار ، والحسين بن الحسن بن أبان ، وأضرابهم ، وليس ذلك إلّا لما
ذكرنا.
السّادس : أنّ
الشيخ رحمهالله فعل مثل ما فعل الصّدوق رحمهالله لكن لم يترك الأسانيد طرّا في كتبه فاشتبه الأمر على
المتأخّرين ، لأنّ الشيخ رحمهالله عمل لذلك كتاب «الفهرست» وذكر فيه أسماء المحدّثين
والرّواة من الإماميّة وكتبه وطرقه إليهم ، وذكر قليلا من ذلك في مختتم كتابي «التّهذيب»
و «الاستبصار» ، فإذا أورد رواية ظهر على المتتبّع الممارس أنّه أخذه من شيء من
تلك الأصول المعتبرة. وكان للشيخ رحمهالله في «الفهرست» إليه سند صحيح ، فالخبر صحيح مع صحّة سند
الكتاب الى الإمام
عليهالسلام وإن اكتفى الشيخ رحمهالله عند إيراد الخبر بسند فيه ضعف.
السّابع : أنّ
الشيخ ذكر في «الفهرست» عند ترجمة محمّد بن بابويه القمّي ما هذا لفظه : له نحو من
ثلاث مائة مصنّف ، أخبرني بجميع كتبه ورواياته جماعة من أصحابنا منهم الشيخ أبو
عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان ، وأبو عبد الله الحسين بن عبد الله الغضائري
، وأبو الحسين بن جعفر بن الحسن بن حسكة القمّي ، وأبو زكريّا محمّد بن سليمان
الحمراني ، كلّهم عنه. انتهى.
فظهر أنّ الشيخ رحمهالله روى جميع مرويّات الصّدوق نوّر الله ضريحهما بتلك الأسانيد
الصّحيحة ، فكلّما روى الشيخ خبرا من بعض الأصول التي ذكرها الصّدوق في «فهرسته»
بسند صحيح ، فسنده الى هذا الأصل صحيح وإن لم يذكر في «الفهرست» سندا صحيحا إليه.
وهذا أيضا باب
غامض دقيق ينفع في الأخبار التي لم تصل إلينا من مؤلّفات الصّدوق ، فإذا أحطت خبرا
بما ذكرنا لك من غوامض أسرار الأخبار ـ وإن كان ما تركنا أكثر ممّا أوردنا ـ وأصغيت
إليه بسمع اليقين ونسيت تعسّفات المتعسّفين وتأويلات المتكلّفين ، لا أظنّك ترتاب
في حقيّة هذا الباب ولا يحتاج بعد ذلك الى تكلّفات الأخباريين في تصحيح الأخبار ،
والله الموفق للخير والصواب. انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
ثمّ اعلم أنّ
هاهنا روايات كثيرة وردت عن أئمتنا عليهمالسلام في علاج التّعارض بين الأخبار وترجيحها تنيف على ثلاثين
وتقرب أربعين على ما وصل إلينا ، وهي
__________________
مختلفة في أنفسها.
ففي كثير منها حكم
بتقديم ما وافق كتاب الله تعالى ، وفي بعضها أو سنّة نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضا ، بل وفي كثير منها ، أنّ ما يخالف كتاب الله تعالى
باطل وزخرف ، وفي كثير منها ، الأمر بترك ما وافق العامّة وأنّه باطل ، وفي بعضها
، العرض على كتاب الله ثمّ على أحاديث العامّة ، وفي طائفة منها ، التّخيير أوّلا
من دون ملاحظة المرجّح ، وفي بعضها ، الأمر بالإرجاء والتوقّف أوّلا حتّى يلقى من
يخبره ، وأنّه ، في سعة حتّى يلقاه ، وفي بعضها تفصيل طويل.
ومثل ما رواه
الكليني رحمهالله ، عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث
فتحاكما الى السّلطان أو الى القضاة أيحلّ ذلك؟ الى أن قال : فكيف يصنعان؟
قال عليهالسلام : «ينظران الى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في
حلالنا وحرامنا». الى أن قال : فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن
يكونا من النّاظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟فقال عليهالسلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث
وأورعهما ، ولا يلتفت الى ما حكم به الآخر».
قال : قلت :
فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟
قال : فقال عليهالسلام : «ينظر الى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به
،
__________________
المجمع عليه عند
أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشّاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع
عليه لا ريب فيه وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه
فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ الى الله تعالى. قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات
نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشّبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم».
قلت : فإن كان
الخبران عنكم مشهورين وقد رواهما الثّقات عنكم؟
قال عليهالسلام : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة
فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة».
قلت : جعلت فداك أرأيت
إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة
والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟قال عليهالسلام : «ما خالف العامّة ففيه الرّشاد».
قلت : جعلت فداك :
فإن وافقهما الخبران جميعا؟
قال عليهالسلام : «ينظر الى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ
بالآخر».
قلت : فإن وافق
حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال عليهالسلام : «إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند
الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».
وروى ابن جمهور في
«غوالي اللئالى» عن العلّامة رحمهالله مرفوعا الى زرارة قال : سألت الباقر عليهالسلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان [أو
الحديث] المتعارضان فبأيّهما آخذ؟
فقال عليهالسلام : «يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النّادر».
__________________
فقلت : يا سيدي
إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم؟
فقال عليهالسلام : «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك».
فقلت : إنّهما معا
عدلان مرضيّان موثّقان؟
فقال عليهالسلام : «انظر الى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه ، خذ بما
خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم».
فقلت : ربّما كانا
معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال عليهالسلام : «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط».
فقلت : إنّهما معا
موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال عليهالسلام: «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر».
وفي رواية أنّه عليهالسلام قال : «فإذن فارجه حتّى تلقى إمامك فتسأله». انتهى كلام
«الغوالي».
وأنت خبير بأنّ
العمل على هذه الأخبار لا يمكن ، لتعارضها وتناقضها ، ففي بعضها قدّم اعتبار صفات
الرّاوي بالاجتماع ، كما في رواية ابن حنظلة بمرتبتين على العرض على الكتاب ، وفي
بعضها قدّم العرض على الكتاب ولم يعتبر شيء آخر ، وفي بعضها قدّم الشّهرة على
الصّفات ، وفي بعضها العرض على العامّة ، الى غير ذلك من المناقضات ، وقد تصدّى
بعضهم للجمع بينها بوجوه لا تكاد تنتظم تحت ضابطة يمكن الرّكون إليها ، لا نطيل
بذكرها وذكر ما فيها.
وتحقيق المقام ،
أنّا نقول : لا شك أنّ تلك الأخبار أخبار الآحاد ، وقد مرّ أنّ حجّية أخبار الآحاد
إمّا من جهة الأدلّة الدّالّة على حجّيتها بنفسها ، كآية النبأ والإجماع ، أو من
جهة أنّه ممّا يحصل به الظنّ ومن جهة أنّه ظنّ المجتهد ، وقد اخترنا الثّاني
وبيّنّا عدم تماميّة الدّليل عليه إلّا من جهة أنّه ظنّ المجتهد ، فحينئذ
نقول : إن كان
الدّليل على حجيّتها هو أنّه ظنّ المجتهد ، فلا بدّ في المسائل الفقهيّة من
الرّجوع الى ما يحصل به الظنّ منها ويترجّح صحّتها وموافقتها للحقّ في نظر المجتهد
، سواء وافق واحدا من تلك الأخبار المذكورة في وجوه التّراجيح أم لا. فإنّ حجّية
هذه الأخبار الواردة في العلاج أيضا إنّما هو من جهة أنّه ظنّ المجتهد بالفرض.
فلو فرض حصول
الظنّ بأحد طرفي الأخبار الواردة في المسألة الفقهيّة أنّه هو الموافق للواقع ،
واقتضى الظنّ الحاصل من جهة بعض هذه الأخبار الواردة في العلاج خلافه ، مثل أنّ
الظنّ الاجتهادي اقتضى ترجيح الخبر الدّال على تقديم موافقة الكتاب على ما دلّ على
ترجيح ما وافق المشهور في الأخبار العلاجيّة ، لكون راوي الرّواية الأولى أوثق
وأعدل.
ثمّ إذا تأمّلنا
في المسألة الفقهيّة ورأينا أحد طرفي المسألة أقوى في النّظر والحديث الدالّ عليه
أرجح بسبب القرائن الأخر ، مثل علوّ الإسناد وموافقة دليل العقل ، وغير ذلك من المرجّحات الاجتهاديّة ،
وإن كان الطّرف الآخر موافقا لظاهر الكتاب ؛ فحينئذ لو اعتمدنا على ظنّنا هذا
بأوفقيّة ما وافق مختارنا من الخبرين الواردين في هذه المسألة الفقهيّة لنفس الأمر
، وراجعنا مختارنا في المسألة الأصوليّة وترجيحنا لما دلّ على ترجيح موافق الكتاب
على ما وافق المشهور ؛ فلا بدّ من أن نترك الظنّ الأوّل بهذا الظنّ.
وأنت خبير بأنّه
لا دليل على ذلك ولا ترجيح بينهما ، بل التّرجيح للأوّل لأنّه ظنّ بالحكم النّفس
الأمريّ في المسألة الفقهية أوّلا.
__________________
والثّاني : ظنّ
بواسطة فرض تقديم اعتبار الظنّ الحاصل في ترجيح الخبر الذي ورد في المسألة
الأصوليّة. والأوّل خاصّ والثّاني عامّ ، يعني أنّ الثاني يدلّ بالعموم على ترجيح
الموافق للكتاب على غيره ، والأوّل يقتضي ترجيح الخبر الخاصّ بالمسألة الخاصّة
الواردة على خلافه.
لا يقال : إذا
تأمّل المجتهد في المسألة الفقهيّة فلا بدّ من أن يتأمّل في علاج المتعارضين
ويراجع الأخبار الواردة فيه ، وبعد مراجعتها والتّأمّل فيها وترجيح ما دلّ منها
على تقديم موافق الكتاب ، على الآخر وحصول الظنّ له بتقديم موافق الكتاب فكيف يحصل
الظنّ له بخلافه من تلك الأخبار المتعارضة في المسألة الفقهيّة.
لأنّا نقول :
التّأمّل في مسألة الجمع بين الأخبار بقول كلّيّ مغاير للتأمّل في المسألة
الفقهيّة المستعقبة لذلك ، ولا ينافي حصول الظنّ في المسألة الأصوليّة عدم حصوله
في المسألة الفقهيّة ولا بالعكس ، أما ترى أنّا نثبت في الأصول رجحان الاستصحاب
والعمل به ، بل ربّما نستدلّ به عليه بالأخبار الصحيحة ، ثمّ قد يحصل الظنّ في
الفقه على خلاف مقتضاه من جهة أخرى.
وكذلك رجحان دلالة
صيغة : افعل على الوجوب ، لا ينافي حصول الظنّ بكون المراد منها النّدب في المسألة
الفقهيّة ، مع أنّا نقول : التّأمّل في علاج المتعارضين لا ينحصر في ملاحظة
الأخبار العلاجيّة حتّى يلزم المحذور ، بل يرجع الى جميع القرائن والأمارات
المحصّلة للظنّ كما هو مفروض المسألة من الرّجوع الى ظنّ المجتهد من حيث هو ظنّ
المجتهد ، لا الى الخبر العلاجيّ من حيث هو الخبر العلاجيّ ، فلا مانع من حصول
الظنّ في المسألة الفقهيّة على خلاف ما اقتضاه المسألة الأصولية ، أعني علاج
الخبرين المتخالفين.
والحاصل ، أنّا
نقول : التّأمّل في الأخبار العلاجيّة من حيث هي ومن حيث إنّه علاج للخبرين
المتعارضين من حيث إنّهما خبران متعارضان ، يوجب ترجيح ما وافق الكتاب مثلا ،
لكثرة الأخبار وأوثقيّة الرّواة مثلا ، مع قطع النّظر عن ملاحظة مسألة من المسائل
الفقهيّة. والتّأمّل في المسألة الفقهيّة الخاصّة قد يقتضي خلافه وإن لوحظ الأخبار
العلاجيّة أيضا ، ولوحظ الخبران المتعارضان فيه ، فإنّ ملاحظة الخبرين في المسألة
الفقهيّة ليس من حيث إنّهما خبران مطلقا ، بل قد يكون من حيث إنّهما دليلان من
أدلّة المسألة ، فلا منافاة بين حصول الظنّ من الحديث الدّالّ على تقديم موافق
الكتاب إذا لوحظ الخبران من حيث هما خبران متعارضان بتقديمه ، وحصول الظنّ في
المسألة الفقهية بتقديم ما يخالفه.
فإن قلت : إنّ مع
حصول الظنّ بلزوم العمل على مقتضى الرّواية بتقديم ما وافق الكتاب ، كيف يحصل
الظنّ بأحد طرفي المسألة الفقهيّة مع مخالفته للكتاب؟
قلت : يحصل الظنّ
بأحد طرفي المسألة الفقهيّة مع كون الطّرف الآخر موافقا للاستصحاب ، فقد تراهم قد
يقدّمون الظّاهر على الأصل ، وليس ذلك إلّا لأجل حصول الظنّ في الطّرف الظّاهر ،
فهذا الظنّ من أين حصل؟ مع أنّ ظن المجتهد في الاصول العمل على مقتضى الاستصحاب ،
والمفروض أنّ العمل على الظّاهر ليس إلّا من جهة حصول الظنّ للمجتهد بسبب الأمارات
والقرائن والغلبة.
فإن قلت : مرادنا
من البناء على العمل بمقتضى ما رجّحناه من الأخبار العلاجيّة ، هو حصول الظنّ
الاجتهادي بتقديم مقتضاه ، مثل تقديم ما وافق الكتاب على غيره من هذه الجهة ، وهذا
لا ينافي عدم حصول الظنّ بما وافق مقتضاه في المسألة الفرعيّة من جهة أخرى من
الظّنون الاجتهادية.
قلت : مع أنّ هذا
رجوع عمّا ذكرت أوّلا ، معنى حصول الظنّ الاجتهادي بتقديم
الخبر العلاجيّ
الخاصّ ، تقديمه تعبّدا من دون ملاحظة أنّ موافقة المسألة الفقهيّة له موجب
لرجحانها في نفس الأمر ومورث لحصول الظنّ بموافقتها للواقع أم لا ، وإلّا لما كان
عملا بالخبر العلاجيّ ، بل يكون حوالة على حصول الظنّ النّفس الأمريّ ، فلا معنى
لاعتبار الجهة وملاحظة الحيثيّة ، لأنّه إنّما يلائم إرادة العمل بالظنّ من حيث
إنّه ظنّ كما لاحظوه في المرجّحات الاجتهادية ، لا التعبد.
وأمّا لو انحصر
الترجيح في الأخبار الفروعيّة على العمل بمقتضى الخبر العلاجيّ من جهة عدم حصول
الظنّ من جهة أخرى فرضا ، فهذا أيضا عمل بالظنّ الاجتهادي ، لأنّ الخبر العلاجيّ
أيضا ظنّ بالفرض.
سلّمنا ، لكن
مقتضى الخبر العلاجيّ إفادة الظنّ فيما نحن فيه ، مع قطع النّظر عن كونه مقتضاه
أيضا ، فلا يبقى ثمرة حينئذ في العمل بالخبر العلاجيّ.
وأيضا إنّ ذلك
يستلزم تخصيص الدّليل القطعيّ العقليّ بالظنّي ، وهو باطل كما حقّقنا سابقا أنّه
لا يجوز تخصيصه بالقطعيّ فضلا عن الظنّي ، وذلك لأنّ بناء العمل على أخبار الآحاد
من جهة كونه ظنّ المجتهد ، مبنيّ على واحد من الأدلّة العقليّة القطعيّة التي
ذكرنا في مبحث خبر الواحد.
فعلى هذا ، إذا
خصّصنا جواز العمل بالظنّ بما لم يقم ظنّ آخر على عدم حجّية هذا الظنّ [القطعيّة]
وقلنا : بأنّ العمل بأحد الخبرين المتعارضين في الفروع مع كونه مظنون الصّدق في
نفس الأمر ، مشروط بعدم كونه مخالفا لمقتضى ما هو أقوى من الأخبار المتعارضة
الواقعة في علاج التّعارض ومخصّص به يلزم المحذور المذكور ، مع أنّ لنا أن نقول :
لا يحصل الظنّ أصلا في الخبر العلاجيّ حينئذ ، ولا يمكننا الحكم بأنّ الخبر الدّال
على تقديم موافق الكتاب مطلقا مثلا مظنون الصّدق وراجح العمل في علاج التّعارض
بالنّسبة الى الخبر الوارد في ترجيح
المشهور على موافق
الكتاب بسبب أنّ رواته أفقه وأعدل وأوثق ، لأنّ المراد في باب التّراجيح في الفقه
والأصول لا بدّ أن يكون اختيار ما هو أقرب الى الحقّ النّفس الأمريّ ، لا ما هو
أقرب بالصّدور عن المعصوم ، إذ ليس كلّ ما يصدر عن المعصوم عليهالسلام موافقا للحقّ النّفس الأمريّ ، بل ربما كان من جهة خوف
وتقيّة وغير ذلك. فكيف يحصل الظنّ للمجتهد بترجيح ما دلّ على تقديم ما وافق الكتاب
مطلقا ، مع أنّه يحتمل أن يكون الطّرف المخالف في المسألة الفرعيّة مظنون المطابقة
لنفس الأمر من جهة القرائن والأمارات الأخر ، إذ المراد بالكتاب هو الأعمّ ممّا
علم منه ضرورة من الدّين والظّواهر.
والحاصل ، أنّا
نقول : كلّما حصل للمجتهد الظنّ بسبب رواية خاصّة لا معارض لها ، فلا إشكال ، وكذا
لو حصل له الظنّ بحقيّة أحد المتعارضين في المسألة الفقهيّة من أيّ وجه يكون ، يجب
العمل عليه لما قدّمناه من الأدلّة في وجوب العمل بالظنّ على المجتهد لئلّا يلزم
ترجيح المرجوح ، ولغيره من الأدلّة سواء اقتضى بعض الأخبار الواردة في علاج
التّعارض حينئذ كونه أقوى بحسب السّند والدّلالة وغيرهما من غيره خلافه أم لا.
وإذا تساويا في نظره ، فالمظنون هو أحدهما ، فيتخيّر بينهما.
وإن وافق ظنّه في
هذه المسألة الفرعيّة لواحد من الأخبار الواردة في العلاج ، فهو ليس من جهة العمل
بذلك الخبر ، بل لأنّه مقتضى ظنّه الواجب الاتّباع وإن كان دليل حجّيتها هو ما
استدلوا بها ممّا يدلّ على حجّيتها من حيث هي من الآيتين والإجماع ، فمع ما بيّنا
أنّه لا يتمّ ، ومع تسليمها إنّما يدلّ على حجّيتها في الجملة.
فيه : أنّ حجّية
تلك الأخبار الواردة في العلاج أيضا لا بدّ أن يكون هو بتلك الأدلّة ، ولا يخفى
أنّها لا تدلّ على حجّية مطلق المتعارضات ، لاستحالة العمل بها ،
فما الدّليل على
تقديم بعض تلك الأخبار على بعض وترجيحه.
فإن اعتمدت في
التّرجيح على بعض تلك الأخبار تحكّما لأنّه خبر واحد ثبت حجّيته ، فمع منع شمول
الدّليل لذلك ، ولزوم التّرجيح من غير مرجّح.
فيه : أنّه قد
يستلزم الدّور كما لا يخفى.
وإن اعتمدت على
مرجّح خارجيّ فهو ليس إلّا العمل بظنّ المجتهد ، لا الخبر من حيث إنّه خبر ، وهو
خروج عن الفرض.
فالتّحقيق في
توجيه هذه الأخبار أن يقال : إنّها وردت في تعليم طريقة الاجتهاد في معرفة حقيّة
الخبر وموافقته للحقّ النّفس الأمريّ ، لا مجرّد معرفة ما هو صادر عن الإمام عليهالسلام عن غيره.
وظاهرها أنّ
المراد منها الاجتهاد في أخبار الآحاد لا الأخبار القطعيّة ، وتلك الأخبار أيضا من
الأدلّة الدّالة على أنّ جلّ أخبارنا ظنيّة.
وما يتوهّم أنّ
ذكر هذه المرجّحات في الأخبار من باب التّعبد لا استعلام التّرجيح النّفس الأمريّ
، فهو من الخيالات الفاسدة التي تقطع السّليقة المستقيمة بفسادها ، فحينئذ نقول :
مقتضى تعليم طريقة التّرجيح ، ملاحظة جميع الوجوه ، فوجه اقتصار الإمام عليهالسلام في بعضها بواحد من الوجوه إنّما هو مع فرض التساوي في سائر
وجوه التّرجيح ، أو أنّ ذلك الرّاوي كان محتاجا الى الوجه الذي اقتصر الإمام عليهالسلام وكلّ وجه من الوجوه المذكورة مبنيّ على داع دعا إليه ،
فلمّا كان الملاحدة والغلاة والزّنادقة خاصموا دين الله تعالى وكتابه فدعت أهواؤهم
الى وضع أخبار مخالفة للكتاب والسنّة ونسبوها الى صاحب الشّرع لتشويه الدّين
المبين وترويج طريقة المبطلين ، فنظر الإمام عليهالسلام في العرض على كتاب الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم الى إرشاد جماعة كانوا مبتلين بمعاشرة أمثال هؤلاء واستماع
أخبارهم.
ولمّا كان
المخالفون متسلّطين في زمن الأئمة عليهمالسلام وكانوا عليهالسلام يتّقونهم وربّما كان يفتون موافقا لآرائهم من أجل التّقيّة
، فغرضهم في العرض على فتاوى العامّة ملاحظة الاحتراز عن الأخبار الموافقة لهم ،
ويظهر منه مراعاة حال الشّهرة.
ولمّا كثرت
الكذّابة والقالة وأهل الغفلة والسّهو والنّسيان فيهم ، ودخلت أخبارهم في أخبار
أصحاب الأئمة عليهمالسلام ، فوضع عليهالسلام قاعدة الرّجوع الى الأفقه والأعدل والأورع من جهة ذلك ،
الى غير ذلك من الوجوه.
فالاقتصار في بعض
الرّوايات بالبعض دون البعض ، إمّا بملاحظة حال الرّاوي واحتياجه الى تلك القاعدة
بالخصوص ، وإمّا من جهة كون الرّوايتين مفروضي التّساوي في غيره.
وأمّا رواية عمر
بن حنظلة فيمكن أن يقال : إنّ مبناها على أنّ المتحاكمين لمّا كان الغالب فيهما
أنّهما من العوامّ المقلّدين ، فحكم عليهالسلام أوّلا برجوعهما الى رجل عارف من أصحابنا بأحكامهم من
رواياتهم ، وأمره عليهالسلام بالرّجوع الى الأفقه الأعدل الأورع الأصدق في الحديث على
الاجتماع يكفي معونة الفحص عن حاله وحال حكمه ، إذ الظّاهر من حال مثله أنّه أخذ
بما هو الرّاجح لمعرفته بحال المشهور وخلافه ، وموافق الكتاب وخلافه ، وموافق
العامّة ومخالفهم ، وموافق الاحتياط ومخالفه.
فوجود هذه الصّفات
واجتماعها خصوصا مع الأفقهيّة ؛ يكفي عن التفحّص ، لأنّ المراد أنّك وإن علمت أنّ
جامع هذه الصّفات ينتفي بالشّاذّ النّادر أو بما خالف كتاب الله تعالى مثلا ، أو
بكليهما أيضا ، فاتّبعه وارجع إليه.
ثمّ لمّا فرض
الرّاوي موافقتهما في الصّفات المذكورة ، فحكم الإمام عليهالسلام حينئذ
بالرّجوع الى
اجتهاد السّائل في الحكم وملاحظة أنّ أيّهما موافق للمشهور المجمع عليه ، وأمر
بمتابعته.
وذلك أيضا مبنيّ
على أنّ الظّاهر من المشهور المجمع عليه ، أنّه ليس مخالفا للكتاب مثلا ، ويكفي لك
الاعتماد على متابعة المشهور عن التّفحّص عن حال الحكم ، لا أنّك وإن علمت أنّه
مخالف الكتاب مثلا يجب عليك الاتّباع ، ثمّ فرض الرّاوي التّساوي في ذلك ، وهكذا.
وبالجملة ،
الرّجوع الى تلك الأخبار في طريقة التّرجيح ممّا لا يمكن بوجه للاختلافات الحاصلة
فيها ، بحيث لا يرجى زوالها ، مع أنّ فيها إشكالات أخر مثل : أنّ الأفقهيّة
والأصدقيّة والأورعيّة اشترط اجتماعها في الرّاوي ، فلا يكفي أحدها.
ومثل : أنّ الورع
والصّدق لا يستلزم أقربيّة ما قاله الى الواقع ، بل إنّما يستلزم أقربيّة صدوره عن
المعصوم عليهالسلام.
والمقصود في
التّرجيح الأوّل ، إذ ربّما كان الحكم صادرا على وفق التّقيّة من العامّة ومذاهبهم
، وإمّا من سلطان العصر المتغلّب ، وإن لم يكن مذهبه في المسألة موافقا لاحدهم ،
كما ذكروه في مسألة نجاسة الخمر بحمل الأخبار الدالّة على الطّهارة على التّقيّة
من جهة ولوع السّلطان على شربها ، لا من جهة كونها مذهبا للعامّة ، فإنّ عامّتهم
على النّجاسة.
ومثل : الإشكال في
معرفة التّقيّة بالنّسبة الى حال كلّ واحد من الأحكام والرّواة والأئمة عليهمالسلام لاختلافها بالنّسبة إليهم كما عرفت.
ومثل : الإشكال في
موافقة الكتاب وعدمه ، لأنّ الضّروريّات المستفادة من الكتاب ممّا لا يحتاج الى
العرض عليها.
وأمّا الظّواهر
المختلفة فيها ، فلا يناسب هذه التّأكيدات والتّشديدات ، وأنّ مخالفها زخرف وباطل
، سيّما بعد القول بجواز بيان الكتاب بخبر الواحد وتخصيصه به وخصوصا عند
الأخباريين المنكرين لحجّية ظواهره القائلين بأنّ تفسيرها إنّما هو بالأخبار ، ومع
ذلك كلّه ، فالأحكام المستنبطة من الكتاب التي يمكن موازنة الأخبار معها ، ليس
إلّا أقلّ قليل لا يناسب ما ورد في تلك الأخبار من تقديم العرض على كتاب الله في
جواب الرّواة في الأحكام المختلف فيها.
نعم ، ما دلّ من
الآيات على أصل البراءة والإباحة ، فهو ممّا يكثر فروعها في الأحكام ، لكن مخالفة
أصل البراءة ليس ممّا يوجب هذه التأكيدات والتشديدات ، بل يجوز مخالفة مقتضاها
بخبر الواحد وغيره من الظّنون ، سيّما عند الأخباريّين الّذين ينكرون حجّيته
ويقولون بالتّوقّف والاحتياط.
ومثل : الإشكال في
لزوم التّوقّف والإرجاء والعمل بالاحتياط الوارد في بعضها ، لما مرّ من بطلان
القول بوجوب الاحتياط أو لإيجابه الحرج والضّيق.
ومثل : الإشكال في
الأمر بالتّخيير في كثير منها في أوّل الأمر ، المستلزم لترجيح المرجوح ، إلّا أن يحمل
على صورة التّساوي والعجز عن التّرجيح.
ومثل الإشكال في
أنّ المسألة الاصولية لا تثبت بأخبار الآحاد وهو ليس بشيء إلّا أن يرجع الى ما
ذكرنا من أنّ الدّليل على العمل بالأدلّة الظّنيّة مطلقا هو كونه ظنّ المجتهد لا
الخصوصيّة ، فيتمّ الكلام كما مرّ.
وبالجملة ، لا
ينكر كون ما ذكر في تلك الأخبار من الوجوه المرجّحة في الجملة ، ولكن لا يتمّ
الاعتماد عليها مطلقا ، وبالتّرتيب المذكور في بعضها ، فالمعتمد هو ما ترجّح في
نظر المجتهد في الموارد.
وقد أغرب بعضهم حيث أنكر طريقة المجتهدين في التّرجيح والاعتماد على الوجوه
التي ذكروها ، لأنّه لا دليل على حجّية مثل هذه الظّنون ، بل لا بدّ من الرّجوع
الى ما ورد في الرّوايات الواردة في العلاج ، ثمّ ذكر الرّوايات المختلفة ، ثمّ
لمّا رأى اختلافها أخذ من كلّ منها شيئا ، وقدّم بعض تلك المرجّحات المذكورة فيها
على بعض باجتهاده ، وحسب أنّ ذلك رجوع الى الرّوايات وغفل عن أنّ هذا ليس عملا
بالرّواية ، بل هو عمل باجتهاده فكرّ على ما فرّ عنه ، لأنّه لا دليل على مطلق
الجمع ، فقال : بتقديم العرض على الكتاب لكمال الاهتمام به في الأخبار الكثيرة ،
وضمّ به أو السنّة المذكورة في بعضها ، ثمّ ملاحظة الصّفات المذكورة في رواية عمر
بن حنظلة إن لم يعلم الموافقة والمخالفة ، ومع التّساوي ، فالترجيح بكثرة الرّاوي
وشهرة الرّواية ، ومع التّساوي ، فبالعرض على روايات العامّة ، الى آخر ما ذكره ،
ولا يدلّ على ما ذكره بالخصوص وعلى التّفصيل المذكور واحد من الرّوايات.
وأغرب من هذا ما
اختاره بعض الأفاضل من الأخباريين المتأخّرين من حمل هذه الأخبار كلّها على
الاستحباب لأجل اختلافها ، وورود إشكالات عليها ، قال : ومن تأمّل فيها وفي قول
الصّادق عليه الصلاة والسلام أنّه هو الذي أوقع الاختلاف بين الشّيعة لكونه : أبقى
لهم عليهمالسلام ولنا ، علم أنّ الأصل هو التّخيير في العمل والتّوقّف في
الفتوى ومنع وجوب التّرجيح ، مستندا بأنّه لم يثبت لزوم التّكليف بما هو الواقع أو
بما حصل الظنّ بأنّه كذلك ، مع كون الحديث المعارض
__________________
جائز العمل مظنون
الصّدق فالمكلّف به هو أحد الأمرين بعنوان التّخيير أو التّساقط ، والرّجوع الى
الأحاديث المطابقة لمقتضى الأصول.
أقول : وما ذكره
من قول الصادق عليهالسلام معارض بقولهم عليهمالسلام : «كثرت علينا الكذّابة والقالة وإنّ الملاعين دسّوا في
كتب أصحابنا» .
وقول أمير
المؤمنين عليه الصلاة والسلام : «إنّ في أيدي النّاس حقّا وباطلا وناسخا ومنسوخا وصدقا
وكذبا». وهذه الأخبار مع ما ظهر لنا بالعيان من السّوانح والاختلالات واغتشاش أمر
الرّوايات وأخبارهم وكتبهم وتلف بعضها ، تنادي بلزوم التّفحّص والنّقد والانتخاب ،
وكلّ الأخبار الواردة في علاج التّعارض ، دليل على وجوب ذلك كلّه ، [وهذا] مع
انضمام قاعدة التّحسين والتّقبيح العقليين ، وبطلان التّصويب يقتضي لزوم الاجتهاد
والتّرجيح ، فإذا أورد المتعارضان فلا يمكن العمل بهما معا ، فلا بدّ من بذل الجهد
في تحصيل الحقّ والتّرجيح لئلّا يكون مقصّرا في تحصيل الحقّ.
قال الفاضل
المتقدّم : من قال بالتّخيير ولا يعمل بالمجموع ولا يقول بحقيّتهما معا وقد سعى
حتى حصّل حديثين ، يجوز له العمل بهما لو لا التّعارض ، ومع التّعارض قد رخّص
الأئمة عليهمالسلام العمل وإن كان ما يعمل به مخالفا للواقع وقبيحا في نفس
الأمر ، وأنتم أيضا تقولون بتجويز العمل بخلاف الواقع ، لأنّكم أيضا
__________________
تقولون بالتّخيير
، ولكن بعد العجز عن التّرجيح.
وأنت بعد ملاحظة
ما سبق لا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ هذه الرّخصة من أين ثبتت ، ومن أين يحكم بأنّ
حديث التّخيير في أوّل الأمر من المعصوم عليهالسلام دون غيره ، وأنّ مراده هو التّخيير قبل العجز عن التّرجيح
أيضا ، سيّما بعد ملاحظة الأخبار الكثيرة الآمرة بلزوم التّرجيح.
وكما يجوز لك حمل
تلك الأخبار على الاستحباب ، قلنا : إن نحمل هذا على ما بعد العجز عن التّرجيح ،
فما وجه ترجيح ما ذكرت ، فإنّا لو سلّمنا عنك جواز العمل بأحد الخبرين من دون
المرجّح في الفروع كيف نسلّم عنك في الأصول.
ولو سلّمنا عنك
ذلك في الأصول ، قلنا : إنّ تقدّم العمل بوجوب الرّجوع الى التّرجيح بمقتضى واحد
من الأخبار الدالّة عليه ، وبعد الأخذ به يجب العمل ، كاختيار أحد المجتهدين
للمقلّد ، وقد بيّنا الدّليل على وجوب ترجيح الرّاجح وبطلان قول منكره في بحث خبر
الواحد.
بقي الكلام في
ترجيح الأقوال الثّلاثة عند التّعادل والعجز عن التّرجيح. والأظهر الأشهر المعروف
من محقّقي متقدّمي أصحابنا ومتأخّريهم : التّخيير.
وقيل : بالتّساقط
، ولا رجوع الى الأصل.
وقيل : بالتوقّف ،
والكلام في ذلك أيضا مثل الكلام في أصل التّرجيح من عدم جواز الرّجوع الى الأخبار
في ذلك ، سيّما مع اختلافها في تأدية المقصود. فربّما حكم فيها بالتخيير أوّلا ،
وربّما حكم به بعد العجز عن الترجيح ، لكنّها مختلفة في أنّ التّخيير بعد أيّ
التّراجيح ، فلا يعرف من الأخبار موضع التّخيير الخاصّ به بحيث يرتفع الإشكال.
نعم ، يظهر من
كثير منها أنّه بعد العجز عن التّرجيح ، فإذا حمل المطلق على
المقيّد ، فقضيّة
الجمع التّخيير بعد العجز ، لكن ذلك يكفي لتمام المقصود وهو التّخيير بعد العجز عن
التّرجيح الخاصّ. نعم ، هذه الأخبار مؤيّدة للمختار.
وأمّا ما دلّ على
التّوقّف فهو لا يقاوم ما دلّ على التّخيير لأكثريّتها وأوفقيّتها بالأصول وعمل
المعظم. وربّما حمل روايات التّوقّف على زمان يمكن تحقيق الحال بالرّجوع الى
الإمام عليهالسلام كما يستفاد من صريح بعضها ، حيث قال عليهالسلام : «فأرجه حتّى تلقى إمامك» . ومقتضى بعضها أنّ الأمر موسّع بعد التوقّف حتّى يلقى
الإمام عليهالسلام فيكون حاصله : أنّك لا تجزم بأحد الطّرفين أنّه حكم الله
تعالى وإن جاز لك العمل بكلّ منهما ، حتّى تلقى إمامك ، ويمكن حملها على
الاستحباب.
وربّما جمع بعضهم
بينهما بحمل التّخيير على العبادات والتّوقّف على الدّعاوي والمداينات كما في
رواية ابن [أبي] حنظلة ، ولا وجه له ، لأنّ العبرة بعموم اللّفظ مع أنّ بعض
الرّوايات الدالّة على التوقّف ما يشعر بإرادة العبادات ، بل هو الظّاهر منها.
والحاصل ، أنّ هجر
جميع أصحابنا المجتهدين لهذه الأخبار في مقام التّراجيح والرّجوع الى المرجّحات
الاجتهاديّة التي كثير منها يرجع الى ما ذكروه في المرجّحات الأخباريّة أيضا ،
شاهد قويّ على عدم إمكان الاعتماد بشيء من تلك الأخبار في مقام التّرجيح ، ويظهر
لك قوّة القول بالتّخيير عند العجز وضعف القول بالتوقّف ، بملاحظة ما مرّ في الأدلة
العقليّة أيضا.
وأمّا القول
بالتّساقط والرّجوع الى الأصل فهو أيضا ضعيف ، لأنّ بعد ملاحظة
__________________
ورود الشّرع
والتّكليف ، وسيّما بعد ملاحظة الأخبار الواردة في أنّه لم يبق شيء إلّا وورد فيه
حكم حتّى أرش الخدش ، وأنّه مخزون عند أهله ، وخصوصا بعد ملاحظة الأخذ بالرّاجح من
الأخبار المتعارضة عند إمكان التّرجيح وإمكان وجود المرجّح لما نحن فيه وقد خفي
علينا ، يحصل الظنّ بأنّ حكم الله تعالى في هذه المادّة الخاصّة هو مقتضى إحدى
الأمارتين لا الرّجوع الى أصل البراءة ، خصوصا بعد ملاحظة الأخبار الواردة في
التّخيير ، وفي أنّ الاختلاف منّا وأنّه أبقى لنا ولكم ، فلا يجوز ترك المظنون.
نعم ، أصل البراءة
يقتضي عدم التّكليف بواحد معيّن منهما ، وكيف كان فالمذهب هو التّخيير ، هذا
الكلام في الأخبار.
وأمّا سائر الأدلّة
، فإن وقع بين آيتين من كتاب الله تعالى ، فإن كان بينهما عموم وخصوص ، أو إطلاق
وتقييد ، فيعمل بهما بمقتضى ما مرّ ، فيقيّد ويخصّص إن أمكن ويجعل ناسخا ومنسوخا
إن لم يمكن.
وإن لم يكن كذلك :
فإن علم التّاريخ ولم يمكن الجمع بينهما بوجه على النّهج الذي بيّناه في معنى
الجمع ، فالمتقدّم منسوخ والمتأخّر ناسخ.
وإن لم يعلم
التّاريخ ولم يحصل المرجّح بوجه من جهة قوّة الدّلالة وضعفها واعتضاد أحدهما بدليل
آخر ، فالمختار التّخيير.
وكذا الكلام في
الكتاب والسنّة المتواترة النّبويّة.
وأمّا لو كان من
الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم ، فلأجل احتمال التّقيّة يمكن تقديم الكتاب ، ومع
انتفاء الاحتمال وقطعيّة المراد من السنّة وظنيّة الكتاب ، فلا ريب في تقديم
السنّة ، ومع ظنيّة دلالة السنّة فهو أيضا مثل السنّة النبويّة إلّا في احتمال
النّسخ.
وأمّا بين الكتاب
وخبر الواحد ، فقد عرفت حال العامّ والخاصّ منهما.
وأمّا غيرهما
فالكتاب مقدّم مطلقا والإجماع المنقول كالخبر الواحد ، وكذلك الاستصحاب.
وأمّا التّعارض
بين خبر الواحد والإجماع المنقول ، فلا يبعد ترجيح الخبر لأنّه منوط بالحسّ
والإجماع بالحدس ، والأوّل أبعد عن الزّلل ، ومع فرض التّساوي فحكمها حكم تعارض
الخبرين.
وأمّا الإجماعان
القطعيّان ـ وقد أشرنا الى إمكانه ـ وكذلك حينئذ الظنّيان ، فيلاحظ فيهما موافقة
العامّة ومخالفتهم ، ومع الجهالة فيرجع الى المرجّحات الخارجة.
وأمّا التّعارض
بين الاستصحابين فيلاحظ فيه الأصل الثّابت فيهما ومأخذه ، فرجحان الدّليل الذي ثبت
أصل الحكم المستصحب منه يوجب الرجحان ، وكذلك يتفاوت أقسام الاستصحابات بتفاوت
الأدلّة على حجّيتها كما أشرنا إليه في محلّه ، وكذلك يلاحظ اعتضاد كلّ منهما
بالأصل أو بدليل آخر ، وهكذا ، ومع التّساوي وعدم إمكان التّرجيح وعدم إمكان
إعمالهما كما في بعض الصّور التي أشرنا إليها فالتّخيير.
وأمّا التّعارض
بين الأصل والظّاهر المتداول في ألسنة الفقهاء والأصوليّين فقد فصّل الشهيد الثاني
رحمهالله في «تمهيد القواعد» تفصيلا وقال : إنّ الظّاهر إن كان حجّة يجب قبولها شرعا
كالشّهادة والرّواية والإخبار ، فهو مقدّم على الأصل بغير إشكال ، وإن لم يكن كذلك
، بل كان مستنده العرف والعادة الغالبة أو القرائن أو
__________________
غلبة الظنّ ونحو
ذلك ؛ فتارة يعمل بالأصل ولا يلتفت الى الظّاهر ـ وهو الأغلب ـ وتارة يعمل بالظاهر
ولا يلتفت الى هذا الأصل ، وتارة يخرّج في المسألة خلاف.
ومن أمثلة الأوّل
: إثبات شغل ذمّة المدّعى عليه بالبيّنة ، وإخبار ذي اليد بطهارة ما في يده بعد
العلم بنجاسته أو بالعكس ، ومثل : الإخبار ببلوغ الظّل في موضع يعلم منه دخول
الظهر ، لا الإخبار بنفس الظّهر.
ومن أمثلة الثّاني
: إباحة الأكل في شهر رمضان مع الشّك في طلوع الفجر ، وثياب من لا يتوقّى النّجاسة
، الى غير ذلك ممّا لا يعدّ.
ومن أمثلة الثّالث
: أن يشكّ بعد الفراغ من الصلاة أو الطهارة في فعل من أفعالها ، فإنّ الظّاهر
وقوعها على الوجه المأمور به ، والعمل بظنّ دخول الوقت مع عدم إمكان تحصيل العلم ،
وتزوّج امرأة المفقود بعد الفحص أربع سنين على التّفصيل المعهود ، الى غير ذلك.
ومن أمثلة الرّابع
: غسالة الحمّام وطين الطّريق إذا غلب على الظنّ نجاسته ، وطهارة ما بأيدي
المخالفين من اللّحم والجلد ، والمشهور في الأوّل النّجاسة ، وفي الثّاني والثّالث
الطهارة.
أقول : وفيما ذكره
رحمهالله تأمّل ، فإنّ الخلاف والوفاق في المقامات غير مطّرد.
والتّحقيق ، إنّ
الأدلّة الشّرعيّة رافعة للأصل.
والقول بأنّ الأصل
مقدّم على الظّاهر فيما يستفاد الظّهور من غير الأدلّة الشّرعيّة المعهودة ممّا
ذكرنا ، غير ظاهر ، بل الأظهر فيه أيضا تقديم الظّاهر إلّا ما أخرجه الدّليل ، وما
يقدّم فيه الظّاهر على الأصل في الشّريعة ، غير محصورة ، منها ما ذكرناه وإن كان
تقديم الأصل على الظّاهر أيضا كثيرا سيّما في أبواب الطهارة والنّجاسة والأحداث.
والحقّ ، أنّ عامة
المذكورات ممّا ثبت عليه الدّليل بالخصوص في الموارد في تقديم كلّ منهما على الآخر
، ولذلك اختلفوا في بعضها لتعارض أدلّة الطّرفين ، كغسالة الحمّام وما في أيدي
المخالفين من اللّحوم والجلود ، فتنحصر الثّمرة فيما خلا الطّرفين عن دليل خارجيّ
، وقد مرّ التّفصيل في مبحث الاجتهاد.
والحاصل ، أنّ
المعيار في التّراجيح هو ما يحصل به الظنّ ، فإذا حصل الظنّ للمجتهد بترجيح أحد
الطرفين فهو المتّبع ، سواء كان من الأدلّة المعهودة أو من الظّهور الحاصل بسبب
العرف والعادة والقرائن ، وحجّية هذه الظّنون ، مع أنّه ممّا لا مناص عنه ـ كما
حقّقناه في محلّه ـ مستفاد من تتبّع الأخبار وتضاعيف المسائل الشّرعيّة.
ثمّ إنّ المرجّحات
في الأدلّة المتعارضة قد تتركّب وتختلف ، فلا بدّ من ملاحظة المجموع وموازنة بعضها
مع بعض والتزام الرّاجح وترك المرجوح.
رجّح الله تعالى
حسناتنا في ميزان المحاسبة على السّيّئات ، ولقّانا حجّتنا يوم يسألنا عن تقصيرنا
وعمّا قارفناه من الخطيئات ، وكتب ما أثبتناه في هذه الصّفحات في صحائف الحسنات ،
وأقال بها الزّلّات والعثرات ، ونفعنا بها وجميع المؤمنين ، إنّه وليّ الخيرات
وغافر الخطيئات.
وصلّى الله على
محمّد وأهل بيته الطّاهرين المطهّرين عن الأرجاس والأدناس أفضل الصّلوات.
قد فرغ مؤلّفة
الفقير الى الله الغنيّ الدّائم ابن الحسن الجيلاني أبو القاسم.
في بلدة المؤمنين (قم)
في سلخ الرّبيع الثّاني من شهور سنة ألف ومأتين وخمس.
حامدا مصلّيا مسلّما ، والحمد لله ربّ العالمين.
فهرست الآيات
(وَما
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)................................ ٣٧١ ـ ٤٧
ـ ١٧
(لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)............ ٤٣٤ ـ ٤٨ ـ ١٩ ـ ١٧
(لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا ما آتاها)......................................... ٤٩
ـ ١٧
(إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)....................................... ٢٤
(وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)............................................... ٥٧
(فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ٣١٣ ـ ٣٠٣ ـ ٥٨ ٥١٤ ـ ٣٤٨ ـ ٣٤٥ ـ ٤٠٧
(أَطِيعُوا اللهَ)................................................................. ٦٦
(وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ)............................................................ ٨٧
(إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)................................................ ٩١
(اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ)......................................................... ٩٣
(فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ)....................................................... ٩٣
(وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ)................................................. ٩٣
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).................................... ٤٥٠
ـ ٩٣
(وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)......................................... ٩٣
(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)...................................... ٩٤
(يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)................................................... ٩٤
(وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).......................................... ٩٤
(أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى)............................................. ٩٤
(لا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتالٍ فَخُورٍ)................................................. ١٣٩
(فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)........................ ١٨٢
(وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)............................................................................ ١٨٢
(فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ).................................................. ١٨٢
(يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي
الْأَبْصارِ).............. ١٨٢
(إِنْ نَحْنُ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)............... ١٨٣
(إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)..................................... ١٨٩
(فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ)......................................................... ١٩٩
(فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)............................................. ١٩٩
(وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)............................................ ١٩٩
(فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ)........................................................... ٢٠٨
(وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ)............................................... ٢٠٨
(لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)
٢١٣
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً
إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) ٢١٣
(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللهِ تَبْدِيلاً).................................................. ٢١٤
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ)................................................. ٢٢٠
(يا أَبَتِ افْعَلْ ما
تُؤْمَرُ)...................................................... ٢٢١
(إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)............................................ ٢٢١
(قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا)......................................................... ٢٢١
(ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)........................... ٢٢٣
(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)................................................. ٢٢٦
(لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ)...................................................... ٢٣٠
(إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ)........................................................ ٢٣٨
(مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ)........................................... ٢٤٠
(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ).................................................. ٢٤٤
(وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)............ ٣٧٣ ـ ٢٥٧ ـ ٢٥٥ ـ ٢٥٤ ـ ٢٥٠
ـ ٢٤٨
(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)............................................................ ٢٥٥
(إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).................. ٣٢٢ ـ ٢٥٨
(إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).................................................... ٢٥٨
(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ)...................................................... ٢٧١
(خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)............................................ ٢٩٦
(وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).............................................. ٣٧٣
(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)................ ٣٧٣
(وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ)..... ٣٧٣
(وَقالُوا ما هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ
وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ٣٧٣
(ائْتُونِي بِكِتابٍ
مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).................. ٣٧٤
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)............... ٣٧٤
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) ٣٧٤
(وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً)....... ٣٧٤
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ
آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ٣٧٤
(قالُوا أَجِئْتَنا
لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا).......................... ٣٧٤
(وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ ...) ٣٧٤
(ارْجِعُوا إِلى
أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما
عَلِمْنا)........ ٣٧٨
(بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى
أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) ٣٧٨
(حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ)................................................... ٣٧٩
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ).................................................... ٣٨٠
(وَاتَّبِعُوهُ).................................................................. ٣٨٠
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).................................. ٣٩٤
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ٣٩٥
(أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ)......................................................... ٣٩٥
(وَجادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)................................................. ٣٩٩
(فَانْظُروا).................................................................. ٤٠٠
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ).................................................... ٤٠٠
(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ
أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)..................................... ٤٠٦
(وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).................................... ٤٠٦
(فَمُسْتَقَرٌّ
وَمُسْتَوْدَعٌ)........................................................ ٤١٢
(الَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً).................................... ٤١٢
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) ٤١٢
(إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ).... ٤١٢
(لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)............................ ٤٣٤
(أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً)................................................ ٤٣٦
(قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)........................................... ٤٤٣
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ)........................................ ٤٥٧
(ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)....................................... ٤٥٨
ـ ٤٥٧
(وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)...................................... ٤٥٧
(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ).......................... ٤٦٧
(فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)............................................. ٤٦٧
(بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)............................... ٤٦٨
(مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً)..................................................... ٥٠٣
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)......................................... ٥٢٨
(الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا).................................................... ٥٢٨
(وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)......................................... ٥٨١
(وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)....................................... ٥٨٣
فهرست الرّوايات
«أنّ لله تعالى حجّتين حجّة في الباطن
وهو العقل وحجّة في الظاهر وهو الرسول»....... ١٧
«أنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم
وعرّفهم ، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل إليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ، أمر فيه
بالصلاة والصيام» ١٩
«كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»............................... ٤٩ ـ ٤٤ ـ
٣٢ ـ ٢٠
«رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان
، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد
، والطّيرة ، والتّفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة»................................... ٥٠
«ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع
عنهم»................................ ٥٠
«أيّما إمرئ ركب أمرا بجهالة فليس عليه
شيء»..................................... ٥٠
«الناس في سعة ممّا لم يعلموا».................................................... ٥٠
«كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال
لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» ٩٢
ـ ٧١ ـ ٦٥ ـ ٥٤ ـ ٥٣
«فيه حلال وحرام»............................................................. ٥٣
«حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».............................................. ٥٤
«كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام
بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل يكون الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة أو
المملوك عندك ولعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر أو امرأة تحتك وهي أختك أو
رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة»......................................................... ٥٥
«فهو لك حلال».............................................................. ٥٦
«وما لكم والقياس إنّما هلك من هلك من
قبلكم بالقياس»........................... ٥٧
«إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإن
جاءكم ما لا تعلمون فها»...................... ٥٧
«أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا
يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا الى الله حقّه»... ٥٧
«كفّ واسكت».............................................................. ٥٨
ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه
الحقّ»......................................... ٥٨
«حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ،
فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشّبهات ارتكب المحرّمات فهلك من
حيث لا يعلم»......................................................................... ٥٨
«أيّما إمرئ ركب أمرا بجهالة».................................................... ٦٠
«وإنّما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده
فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه الى الله تعالى ورسوله» «حلال
بيّن ...» ٦٣
«إنّ في حلالها ـ أي الدنيا ـ حسابا وفي
حرامها عقابا وفي الشّبهات عتابا فأنزل الدّنيا بمنزلة الميتة ، خذ منها ما يغنيك
، إن كان حلالا كنت قد زهدت فيها ، وإن كان حراما لم تكن أخذت من الميتة ، وإن كان
العتاب فالعتاب سهل يسير» ٦٤
«سألته عن الرّجل منّا يشتري من
السّلطان من إبل الصّدقة وغنم الصّدقة وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ
الذي يجب عليهم؟».............................................................................. ٧٠
«ما الإبل والغنم إلّا مثل الحنطة
والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه».. ٧٠
«اشتر منه»................................................................... ٧٠
«لا ، إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره ،
وأمّا السّرقة بعينها فلا ، إلّا أن يكون من متاع السّلطان فلا بأس بذلك» ٧٠
«إن عرفها ذبحها وأحرقها وإن لم يعرفها
قسّم الغنم قسمين وساهم بينهما ، فإذا وقع على أحد النّصفين فقد نجا النّصف الآخر
، ثم يفرّق النّصف الآخر فلا يزال كذلك حتى يبقى شاتان فيقرع بينهما فأيّهما وقع
السّهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر الغنم» ٧٢
«إذا اشتبه عليك الحلال والحرام فأنت
على حلّ حتى تعرف الحرام بعينه»............... ٧٢
«دع ما يريبك الى ما لا يريبك»............................................. ٩٢
ـ ٧٦
«لا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله»........................................... ٨١
ـ ٧٧
«صلّوا كما رأيتموني أصلي»..................................................... ٧٨
«من اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه»......................................... ٩٣
«لك الأجر مرّتين»............................................................. ٩٣
«أصبت السّنّة»............................................................... ٩٣
«انظروا الى عبدي يقضي ما لم أفترض عليه»...................................... ٩٣
«أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ
بالحائطة لدينك»............... ١٠٢
ـ ٩٣
«بعثت بالحنيفية السّمحة السّهلة»............................................... ٩٤
«ما أعاد الصلاة فقيه [قطّ] يحتال لها
ويدبّرها حتّى لا يعيدها»....................... ٩٤
«الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن
شاء استكثر»........................... ٩٤
«وإن كنت صلّيت أربعا كانتا هاتان نافلة
لك».................................... ٩٤
«أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت».................................... ١٠٢
ـ ٩٥
«دع ما يريبك الى ما لا يريبك»........................................... ١٠١
ـ ٩٩
«لا ، بل عليهما جميعا ويجزي كلّ واحد
منهما الصّيد»............................ ١٠٤
«اذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم
بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا»......... ١٠٤
«لا ، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها
بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر النّاس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» ١٠٦
«إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ،
الجهالة بأنّ الله حرّم عليه ذلك ، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها» ١٠٦
«نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في
أن يتزوّجها»............................. ١٠٦
«لا ضرر ولا ضرار»...................................... ١١٦
ـ ١١٤ ـ ١١٢ ـ ١٠٨
«من أضرّ بطريق المسلمين شيئا فهو ضامن»..................................... ١١٤
«لك بها عذق مذلّل في الجنّة»................................................. ١١٦
«اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا
ضرر ولا ضرار»............................. ١١٦
«إنّ الجار كالنّفس غير مضارّ ولا آثم»........................................... ١١٧
«ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا ، اذهب يا
فلان فاقطعها واضرب بها وجهه».............. ١٢٠
«فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّك
أبدا ولكن تنقضه بيقين آخر»........... ١٣٠
«يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب
، والأذن ، فإذا نامت العين ، والأذن ، والقلب ، وجب الوضوء» ١٣٨
«لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى
يجيء من ذلك أمر بيّن وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبدا
بالشّك وإنّما تنقضه بيقين آخر»....................................................................... ١٣٨
«ولا ينقض اليقين أبدا بالشّك»................................................ ١٣٩
«فإنّه على يقين من وضوئه»................................................... ١٣٩
«وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد
أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها ركعة أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشّك
ولا يدخل الشّك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشّك باليقين
ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشّك في حال من الحالات»............................................................................ ١٤٥
«اليقين لا يدخل فيه الشّك ، صم للرؤية
وأفطر للرؤية»........................... ١٤٥
«من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه
فإنّ الشّك لا ينقض اليقين».......... ١٤٦
«من كان على يقين فأصابه الشّك فليمض
على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشّك».. ١٤٦
«كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه
حرام»................................... ١٤٨
«كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»........................ ٥٠٦ ـ ١٤٧ ـ ١٤٨
ـ ١٤٩
«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»...................................... ١٥٢
ـ ١٥٠
«كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال»..................................... ١٥٢
«تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع
منه ثمّ رأيته ...»..................... ١٥٦
«أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه و [ما]
بشّر به أمّته ...»............................. ١٦٥
«تعمل هذه الأمّة برهة بالكتاب ، وبرهة
بالسنّة ، وبرهة بالقياس ، وإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا» ١٨٠
«ستفرق أمتي على بضع وسبعين فرقة ،
أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام» ١٨٠
«ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... لأنّ
له مادة»................................ ١٨٩
«اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»....................................... ١٩٠
«أعتق رقبة»................................................................. ١٩١
«أينقص الرّطب إذا جفّ؟ فقالوا : نعم.
فقال : فلا إذن»......................... ١٩٢
«لا يقضي القاضي وهو غضبان».............................................. ١٩٣
«إنّ أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة
الحجّ ، فإن ...».............................. ١٩٣
«ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع
المرأة ، كم فيها؟ قال : عشرة من الإبل»..... ٢٠٠
«مهلا يا أبان ، هذا حكم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إنّ المرأة تعاقل الرّجل»................. ٢٠١
«لو كان الدّين يؤخذ بالقياس لوجب على
الحائض أن تقضي الصلاة لأنّها أفضل من الصّوم» ٢٠١
«التي تتزوّج ولها زوج ، يفرّق بينهما ،
ثمّ لا يتعاودان أبدا»......................... ٢٠١
«ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن»..................................... ٢٠٨
«سألته عن رجل فجر بامرأة ثمّ أراد بعد
أن يتزوّجها؟ ...»......................... ٢٢٠
«سألته عن الرّجل يحلّ له أن يتزوّج
امرأة كان يفجر بها ...»....................... ٢٢٠
«امر ليلة المعراج بخمسين صلاة ، ثمّ
راجع»...................................... ٢٢٢
«لا تجتمع أمتي على الخطأ»................................................... ٢٢٦
«كنت نهيتكم عن زيارة المقابر ألا
فزوروها ، وكنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي ألّا فادّخروها» ٢٢٩
«كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»............................. ٢٧٩ ـ ١٤٩ ـ
١٤٧
«حتّى يستيقن».............................................................. ٢٧٩
«إذا استولى الصّلاح على الزّمان وأهله
، ثم أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم ، وإذا استولى الفساد على
الزّمان وأهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرر».............................................. ٢٨٥
«ما لكم والقياس إنّ الله تعالى لا يسأل
كيف أحلّ وكيف حرّم».................... ٢٩٦
«إنّ إبليس قاس نفسه بآدم عليهالسلام»........................................ ٢٩٦
«هيهات هيهات ، في ذلك والله هلك من هلك
يا بن حكيم. قال : ثمّ قال : لعن الله فلانا كان يقول : قال عليّ وقلت» ٢٩٨
«هو للفرس سهمان وللرّاجل سهم»............................................. ٢٩٨
«واشعر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
البدن»............................................... ٢٩٩
«البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»................................................... ٢٩٩
«وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يقرع بين
نسائه إذا أراد سفرا وأقرع أصحابه»........... ٢٩٩
«ولو قاس الجواهر الذي خلق الله منه آدم
عليهالسلام بالنّار ، كان ذلك أكثر نورا وضياء من النّار» ٢٩٦
«لا عمل إلّا بالنيّة».......................................................... ٣١٦
«إنّما الأعمال بالنيّات».................................................. ٣١٦
ـ ٩٣
«ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع
عنهم»............................... ٣١٩
«من عمل بما علم كفي ما لم يعلم»............................................. ٣٢٠
«وضع عن امّتي تسعة أشياء».................................................. ٣٢٠
«ما لا يعلمون».............................................................. ٣٢٠
«قال : سألته عن امرأة تزوّجت رجلا ولها
زوج ...»............................... ٣٢٠
«إنّ رجلا جاء إليه فقال له : إنّ لي
جيرانا لهم جوار يغنّين ويضربن بالعود فربّما ...».. ٣٢٢
«إنّ القضاة أربعة والنّاجي منها واحد ،
والباقي في النّار»........................... ٣٢٢
«كذلك يتمرّغ الحمار ألا صنعت كذا ، فعلّمه
التيمّم»............................ ٣٢٣
«رجلان من أهل الكوفة اخذا فقيل لهما :
تبرّءا من أمير المؤمنين عليهالسلام
...».......... ٣٢٤
«ومتى ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها»............................................. ٣٢٨
«انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من
قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» ٣٣٥
«انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا
ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما»............................................................................ ٣٣٥
«إنّه شهادة أن لا إله إلّا الله
والإقرار بما جاء من عند الله ، وما استقرّ في القلوب من التّصديق بذلك» ٣٨٥
«يقال للمؤمن في قبره : من ربّك؟ فيقول
: الله ...».............................. ٣٨٦
«كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى المخدّرات
في الحجال»............................. ٣٩٤
«يا من دلّ على ذاته بذاته»................................................... ٣٩٣
«بك عرفتك وأنت دللتني عليك».............................................. ٣٩٦
«خرج على أصحابه فرآهم يتكلّمون في
القدر ، فغضب حتّى احمرّت وجنتاه ...»..... ٣٩٦
«فقد استوفى كلّ حقّه»........................................................ ٣٩٨
«ادرءوا الحدود بالشّبهات».............................................. ٤٤٦
ـ ٤٣٩
«اللهمّ عذّب كفرة أهل الكتاب الّذين
يصدّون عن سبيلك ويجحدون آياتك ويكذّبون رسلك» ٤٥٢
«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن
أخطأ فله أجر واحد»................... ٤٥٧
«ترد على أحدكم القضيّة في حكم من
الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم تردّ تلك ...». ٤٥٨
«ما كذب إبراهيم عليهالسلام فإنّه قال
: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون».......... ٤٦٨
«إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»............................................. ٤٧٠
«لا ضرر ولا ضرار».......................................................... ٤٧١
«البيّنة على المدّعي واليمين على من
أنكر»...................................... ٤٧١
«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»............................................ ٤٧٢
«كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال»..................................... ٤٧٢
«وشبهات بين ذلك فمن ترك الشّبهات نجا
من المحرّمات».......................... ٤٧٢
«الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في
الهلكة»................................ ٤٧٢
«الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما
وأصدقهما»................................ ٤٧٩
«خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في
نفسك»................................ ٤٧٩
«أين تذهب ، إنّما قلت : إنّ الله يتمّ
الفرائض بالنّوافل»........................... ٤٩١
«كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال
حتّى تعرف الحرام بعينه»................ ٥٠٥
«علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن
تفرّعوا»................................ ٥٠٨
«صم للرّؤية وأفطر للرّؤية»..................................................... ٥١٢
«أفت»..................................................................... ٥٦١
«لا يزال طائفة من أمّتي على الحقّ حتّى
يأتي أمر الله أو يظهر الدجّال».............. ٥٧٦
«إنّ لله تعالى في كلّ عصر حجّة يبيّن لهم
ما يحتاجون إليه»........................ ٥٧٦
«يعني في القراءة خلف الإمام»................................................. ٥٨٣
«إنّ الاختلاف منّا وإنّه أبقى لنا ولهم».......................................... ٥٨٤
«صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما
عداه إلّا المسجد الحرام»............. ٥٨٩
«أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة».......................................... ٥٨٩
«ينظران الى من كان منكم ممّن قد روى
حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا»............. ٦٠٨
«الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما
وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت الى ما حكم به الآخر» ٦٠٨
«ينظر الى ما كان من روايتهم عنّا في
ذلك الّذي حكما به ...».................... ٦٠٨
«يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع
الشاذّ النّادر».................... ١٠٥
ـ ٦٠٩
«خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في
نفسك»......................... ١٠٥
ـ ٦٠٩
«انظر الى ما وافق منهما مذهب العامّة
فاتركه ، خذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم» ١٠٥
ـ ٦١٠
«إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك
ما خالف الاحتياط»................ ٦١٠
ـ ١٠٥
«إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر»............................... ١٠٥ ـ ٦١٠
«فإذن فارجه حتّى تلقى إمامك فتسأله»......................................... ٦١٠
«كثرت علينا الكذّابة والقالة وإنّ
الملاعين دسّوا في كتب أصحابنا»................. ٦٢١
«إنّ في أيدي النّاس حقّا وباطلا وناسخا
ومنسوخا وصدقا وكذبا»................... ٦٢١
«فأرجه حتّى تلقى إمامك».................................................... ٦٢٣
فهرس المطالب
مقدمة.......................................................................... ٣
المقصد الرابع : في الأدلّة العقلية.................................................... ٧
قانون : معنى كون
ما يستقلّ به العقل وينفرد به...................................... ٨
في
التّوهم من أنّ حكم العقل هو محض استحقاق المدح والذّم...................... ١٠
معنى قولهم : إنّ العقل والشرع متطابقان......................................... ١٢
وجوه من الاعتراضات على قسم من الأدلّة
وردودها.............................. ١٥
الحسن والقبح............................................................... ٢١
الكلام في اللّطف............................................................ ٢٢
في التّحسين والتّقبيح......................................................... ٢٥
الأقوال في المسألة............................................................ ٣٣
الكلام في معنى قبل الشّرع.................................................... ٣٤
قانون : أصالة
البراءة............................................................ ٤٠
الكلام في البراءة
ولزوم الاحتياط............................................... ٤٧
أدلّته من الكتاب............................................................... ٤٧
أدلّته من السّنة.............................................................. ٤٩
حجّة من يقول بوجوب التّوقف من الآيات
والأخبار.............................. ٥٧
الجواب على أدلة المتوقفين..................................................... ٥٩
الكلام فيما تعارض فيه النصّان................................................ ٦٤
تصوّر الاشتباه في الموضوع..................................................... ٦٥
الفرق بين المحصور وغير المحصور................................................ ٦٦
روايات في الباب............................................................. ٧٠
الجواب عن العمومات في القرعة................................................ ٧٢
المراد بالتّوقف............................................................... ٧٣
المراد بالاحتياط.............................................................. ٧٤
المراد بالاشتغال.............................................................. ٧٧
في استصحاب وجوب الاجتناب............................................... ٨٠
كلام المحقق الخوانساري....................................................... ٨٤
كلام الشهيد في «الذكرى»................................................... ٩٢
قول الميرزا في أدلّة الطّرفين..................................................... ٩٥
استدلال القائل بوجوب الاحتياط بروايات....................................... ٩٩
تنبيه ـ إعمال أصل البراءة قبل الشّرع.......................................... ١٠٧
الآيات والرّوايات الدالّة على نفي العسر
والحرج................................. ١١٥
في معنى عسر والحرج......................................................... ١٧
في معنى الضّرر
والضّرار....................................................... ٢٠
قانون : استصحاب الحال...................................................... ١٢٢
الاختلاف في صحة الاستدلال به............................................ ١٢٥
حاصل الأقوال............................................................. ١٣٢
وجوه من الأدلّة على القول بالحجّية............................................. ٣٢
الأوّل : في مظنون البقاء...................................................... ٣٣
الثاني : الأخبار الدّالة على حجيّته
عموما....................................... ٣٨
الثالث : الرّوايات الدّالة عليها
باجتماعها...................................... ١٤٧
الرابع : ما ثبت الاجماع على اعتباره.......................................... ١٥٣
الاستصحاب يتبع الموضوع.................................................. ١٦٣
الكلام في حصول الشّك في رفع الحكم
السّابق................................. ١٦٩
بعض الشّروط التي ذكرها الفاضل التوني
للعمل بالاستصحاب.................... ١٧٣
قانون : الاستقراء............................................................. ١٧٨
قانون : القياس............................................................... ١٧٩
في حجيّة منصوص العلّة.................................................... ١٨٣
تنبيه ـ في طرق مقرّرة عند القائسين............................................ ١٩٠
دلالة التّنبيه والإيماء......................................................... ١٩١
السّبر والتّقسيم............................................................ ١٩٤
تخريج المناط............................................................... ١٩٥
القياس بطريق الأولى........................................................ ١٩٦
قانون : الاستحسان والمصالح المرسلة............................................. ٢٠٧
الاستحسان............................................................... ٢٠٧
المصالح المرسلة............................................................. ٢٠٨
المقصد الخامس : في النّسخ.................................................. ٢١١
قانون : جواز النّسخ ووقوعه في الشّرع........................................... ٢١٣
قانون : في جواز النّسخ بعد حضور وقت
العمل.................................. ٢١٨
الاختلاف في جواز
النّسخ قبل حضور وقت العمل............................. ٢١٨
قانون : يجوز نسخ الكتاب بالكتاب............................................. ٢٢٣
قانون : زيادة العبادة المستقلّة على
العبادات ليست نسخا للمزيد عليه............... ٢٢٧
قانون : معرفة النّاسخ.......................................................... ٢٢٩
قانون : نسخ التّلاوة.......................................................... ٢٣٠
الجزء الرّابع................................................................... ٢٣١
الباب السّابع : في الاجتهاد والتقليد.......................................... ٢٣٣
قانون : تعريف الاجتهاد....................................................... ٢٣٣
قانون : في حجيّة الظّنون...................................................... ٢٣٨
الدليل على جواز العمل بالظّن............................................... ٢٣٨
الكلام في الاجماع على حجيّة ظواهر الكتاب.................................. ٢٥٠
في معنى ظنيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم..................................... ٢٥٦
المراد بالعلم في تعريف الفقه.................................................. ٢٥٧
الكلام في أنّ الأصل حرمة كل ظن إلّا ما ثبت حجيّته.......................... ٢٥٩
في أنّ كل ظن لم يثبت بطلانه حجّة.......................................... ٢٥٩
الكلام في العدالة المشترطة في قبول خبر الواحد................................. ٢٧٤
ذكر كلمات بعض الفقهاء الدالّة على كون مطلق الظنّ للمجتهد
حجّة............ ٢٧٦
معنى قاعدة اليقين المستفادة من الأخبار....................................... ٢٨٥
المنع عن القياس لعلّه من جهة عدم إفادته الظّن................................ ٢٩٥
في أمور تتّبع لأجل وضع الشّارع سواء كان مظنون الإصابة أو
عدمه أو مظنون العدم ٣٠٠
قانون : الاختلاف في جواز التّجزي في
الاجتهاد.................................. ٣٠٤
تحديد العالم وبيان المراد منه.................................................. ٣٠٥
هل يجوز الأخذ عن غير المجتهد.............................................. ٣٠٥
حجّة من يقول ببطلان عبادة من لم يكن مجتهدا او مقلّد له...................... ٣١٢
حجّة من يقول بثبوت الواسطة ومعذوريّة الجاهل وصحّة عبادته
إذا وافقت
الواقع..................................................................... ٣١٤
قول المصنّف في المقام....................................................... ٣١٥
حمل المصنّف لكلام المحقّق الأردبيلي.......................................... ٣١٨
الأخبار الدالّة على دفع الكلفة والعقاب عما لا نعلم............................ ٣١٩
الكلام في الإعادة والقضاء.................................................. ٣٢٨
المراد بالمتجزّي والنّزاع في إمكان التّجزي وتحقّقه
بالمعنى الذي ذكرنا................. ٣٣١
فيما يدل على جواز التّجزي مشهورة أبي خديجة................................ ٣٣٤
احتج المانعون لجواز التّجزي بوجهين........................................... ٣٣٦
والجواب على الوجه الأوّل من احتجاجهم بوجهين............................... ٣٤٠
والجواب على الوجه الثاني من احتجاجهم...................................... ٣٤١
قانون : تعريف
التّقليد......................................................... ٣٤٣
الأقوال في الاجتهاد والتّقليد................................................. ٣٤٤
الكلام في تقليد الأعلم...................................................... ٣٤٩
قانون : التّقليد
في أصول الدّين................................................. ٣٥١
اختلاف العلماء في جواز التّقليد في الاصول وعدمه............................. ٣٦٨
احتجاج الموجبون للنظر بالأدلّة الشّرعية والكلام في المقام........................ ٣٧٣
احتجاج النّافون لوجوب النّظر ـ وهم بين قائل بجوازه وقائل
بحرمته والكلام في المقام.. ٣٨٧
بعض ما أورد على القائلين بوجوب المعرفة بالدّليل على
الإطلاق.................. ٤٠٨
الأول : فيمن لم يكن حاضرا عند اظهار المعجزة فكيف له العلم
إلّا بالتّواتر........ ٤٠٨
الثاني : تقرير
المعصومين عليهمالسلام في اعتقاد امامتهم بعد نصب كل منهم عقيب الآخر... ٤١١
الثالث : فيمن مات قبل أن يبلغ النّظر........................................ ٤١١
الرّابع : الايمان مستقرّ ومستودع.............................................. ٤١٢
الخامس : الفرق بين مراتب المكلّفين في الفهم غير سديد........................ ٤١٤
السادس : مثال في جماعة الحقيّة.............................................. ٤١٤
المراد بالدليل عند من يقول بوجوب المعرفة بالدّليل لا
بالتّقليد..................... ٤١٥
الكلام بعد القول بعدم جواز التّقليد في الأصول عقلا ونقلا
فهل هذا الخطاء موضوع عنه ٤٢٤
المراد بأصول الدّين في أجزاء الايمان........................................... ٤٣٦
فائدة ـ في ضروري الدّين..................................................... ٤٤٧
قانون : في
التّصويب والتّخطئة................................................. ٤٤٨
احتجاج الجمهور........................................................... ٤٤٩
حجّة الجاحظ من أنّه غير مقصّر............................................. ٤٥٢
كلام الشيخ في «العدّة».................................................... ٤٥٥
القائلون بالتّخطئة من العامّة اختلفوا........................................... ٤٥٥
قانون : ما يتوقف
عليه الاجتهاد................................................ ٤٦١
ما نقل عن المولى محمد امين الاسترابادي من قطعيّة الصّدور...................... ٤٧٩
ما نقل من أن علماءنا كانوا يعملون بكل ما حصل لهم الظنّ
بأنّه مراد المعصومعليهالسلام. ٤٩٦
الخلاف في معنى العدالة وفي معنى الكبيرة وعددها............................... ٤٩٨
في العلم بمواقع الاجماع...................................................... ٥٠٠
في الملكة المستقيمة......................................................... ٥٠١
تنبيه : المراد
بالاجتهاد في قولنا : الاجتهاد يتوقف على الملكة....................... ٥١١
ما يتوقف كمال الاجتهاد عليه............................................... ٥١١
قانون : ما يشترط
في المفتي الذي يرجع إليه المقلّد................................. ٥١٤
المرجح مع الاختلاف في الفتوى.............................................. ٥١٨
قانون : الاختلاف
في جواز بناء المجتهد في الفتوى على الاجتهاد السّابق............. ٥٢٤
زيادة بيان في
الفرق بين الفتوى والحكم........................................... ٥٢٥
في حال الإفتاء
والتّقليد........................................................ ٥٣٠
نقض الحكم في
الاجتهاديّات من الحاكم إذا تغيّر اجتهاده.......................... ٥٣٢
الكلام في المجتهد
إذا تغيّر رأيه.................................................. ٥٣٥
مخالفة المجتهد
لرأيه السّابق بسبب التّغيّر وتبدّل الحكم بالنّسبة إليه................... ٥٤٤
مخالفة المجتهد
لمجتهد آخر....................................................... ٥٤٦
مخالفة المجتهد
لمن لم يكن مجتهدا................................................. ٥٤٦
مخالفة المجتهد
لمن علم أنّه بنى على أحد الأقوال في المسألة بتقليد من لا يجوز تقليده.... ٥٤٦
مخالفة المجتهد
لمن كان كذلك ولكن لم يكن جاهلا بل ترك التّقليد مسامحة............ ٥٤٨
تنبيه : إذا تخالف
البكر والولي في العمل والتّقليد.................................. ٥٥١
في بيان جواز النّقض إذا ظهر بطلان الحكم أو الفتوى.......................... ٥٥٢
قانون : العمل
بقول مجتهد في حكم مسألة لا يجوز الرّجوع الى غيره في هذه المسألة.... ٥٥٦
قانون : في غير المجتهد
هل له أن يفتي بمذهب مجتهد من عند نفسه.................. ٥٥٧
قانون : لا يشترط
مشافهة المفتى في العمل بقوله والكلام في تقليد الميّت.............. ٥٥٨
تنبيه : الاختلاف
في جواز خلو العصر عن المجتهد................................. ٥٧٦
خاتمة : في
التّعارض والتّعادل والتّراجيح........................................... ٥٨٠
قانون : تعارض
الدّليلين....................................................... ٥٨٠
ما استدلّ بعضهم
في تقديم الجمع بين الدّليلين.................................... ٥٨٦
قانون : تعادل
الدّليلين........................................................ ٥٩٤
قانون : التّرجيح.............................................................. ٥٩٦
التّرجيح من جهة
السّند........................................................ ٥٩٨
التّرجيح من جهة
المتن......................................................... ٥٩٩
موافقة الأصل
ومخالفته......................................................... ٦٠٢
مخالفة العامة................................................................. ٦٠٣
كلام المجلسي في «أربعينه»
في المقام............................................. ٦٠٤
روايات في علاج
التّعارض...................................................... ٦٠٧
الكلام في
التّخيير والتّساقط والتّوقف............................................ ٦٢٢
صور في التّعارض............................................................. ٦٢٤
ومن أمثلة على صور
التّعارض.................................................. ٦٢٦
فهرس الآيات................................................................ ٦٢٩
فهرس الروايات............................................................... ٦٣٤
|