


بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله رب
العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمد نبيّه وآله وسلّم تسليما.
وبعد ... فإنّ هذا
الجزء الثاني من الموسوعة الأصولية المعروفة ب :
قوانين الأصول
للميرزا أبي القاسم القمّي «قدس سرّه».
وهو بقية المجلّد
الأوّل من النسخة الحجريّة ، وفيه تتمّة مباحث التخصيص التي في الجزء الأوّل ، كما
فيه ابحاث المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن من مباحث الألفاظ ، وأيضا مباحث
الإجماع والكتاب والسنّة من الأدلّة الشرعية ، وقد سرت فيه تحقيقا وشرحا وتعليقا
بالسيرة التي عرفت.
نسأل الله تعالى
القبول ، ونسأله تعالى أن يعيننا على إكماله ويعينكم على إتمامه.
رضا حسين علي صبح
المقصد الثاني
في بيان بعض مباحث التّخصيص
وهو قصر العامّ
على بعض ما يتناوله ، وقد يطلق على قصر ما ليس بعامّ حقيقة كذلك كالجمع المعهود ، ومن ذلك تخصيص مثل : عشرة ، والرّغيف ، بالنسبة
الى أجزائهما.
والتخصيص قد يكون
بالمتّصل ، وهو ما لا يستقلّ بنفسه ، بل يحتاج الى انضمامه الى غيره ، كالاستثناء
المتّصل : والشّرط ، والغاية ، والصّفة ، وبدل البعض.
وبالمنفصل : وهو
ما يستقلّ بنفسه.
وهو إمّا عقليّ
كقوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، والمراد غير ذاته تعالى وأفعال العباد.
وإمّا لفظيّ كقوله
تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً ،) و : (وَلا تَأْكُلُوا)(مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ.)
واختلفوا في منتهى
التخصيص الى كم هو.
__________________
الأشهر أنّه لا
بدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ ، ويجوز الاستعمال في الواحد على سبيل
التعظيم. وقد يفسّر الجمع القريب من مدلول العامّ بكونه أكثر من النّصف ، سواء علم
العدد بالتّفصيل ، أو ظهر بالقرينة كون الباقي أكثر كقولك : أكرم أهل المصر إلّا
زيدا وعمروا.
وقيل : لا بدّ في
ذلك من بقاء جمع غير محصور.
وذهب جماعة الى
جوازه حتى يبقى واحد . وقيل : حتّى يبقى ثلاثة. وقيل : اثنان . وقيل : لا بدّ في صيغة الجمع من بقاء ثلاثة ، وفي غيرها يجوز الى الواحد.
وقيل : إنّ التّخصيص إن كان بالاستثناء أو بدل البعض ، جاز الى
الواحد ،
__________________
نحو : له عليّ
عشرة إلّا تسعة ، و : اشتريت العشرة أحدها.
وإن كان بمتّصل
غيرهما كالشّرط والصّفة والغاية ، أو كان بمنفصل في محصور قليل ،
فيجوز التخصيص الى الاثنين ، مثل : أكرم بني تميم الطّوال ، أو : إن كانوا طوالا ،
أو : الى أن يفسقوا ، و : قتلت كلّ زنديق وهم ثلاثة . ولعلّه ناظر الى صدق تلك العمومات مع الثلاثة وأكثرها
اثنان ، وهذا من الشواهد على أنّ العامّ يطلق عندهم على الجماعة المعهودة كما
أشرنا.
وإن كان التخصيص
بمنفصل في عدد غير محصور أو في عدد محصور كثير فكقول الأكثر ، والأقرب عندي قول
الأكثر ، لما تقدّم من أنّ وضع الحقائق والمجازات شخصيّة كانت أو نوعيّة ، يتوقّف
على التوقيف ، ولم يثبت جواز الاستعمال الى الواحد من أهل اللّغة ، وعدم الثبوت
دليل عدم الجواز ، والقدر المتيقّن الثبوت هو ما ذكرنا ، غاية الأمر التشكيك في
مراتب القرب ، وهو سهل إذ ذاك في الأحكام الفقهيّة والاصولية ليس بعادم النظير كما
في الأفراد الخفيّة
__________________
الفرديّة في
العامّ واللّوازم الغير البيّنة اللّزوم ، فما ترجّح جوازه في ظنّ المجتهد ، فيجوز
، وما ترجّح عدمه ، فلا ، وما تردّد فيه ، فيرجع فيه الى الأصل من عدم الجواز.
والقول : بأنّ
الرخصة في نوع العلاقة في المجاز يوجب العموم في الجواز ، غفلة عمّا حقّقناه في
أوائل الكتاب وفي أوائل الباب ، إذ قد عرفت أنّ نوع العلاقة اطّراده غير
معلوم بالنسبة الى جميع الأصناف ، وفي جميع أنواع العلائق ، وسنبطل ما استدلّ به
المجوّزون.
واحتجّ الأكثرون
على ذلك : بقبح قول القائل : أكلت كلّ رمّانة في البستان وفيه آلاف
، وقد أكل واحدة أو ثلاثا. ولعلّ مرادهم استقباح أهل اللّسان واستنكارهم ذلك من
جهة ما ذكرنا من عدم ثبوت مثله عن العرب ، لا محض الغرابة والمنافرة الموجبتين لنفي الفصاحة ، إذ
عدم الفصاحة لا يستلزم عدم الجواز إلّا أن يراد استقباحه في كلام الحكيم ، سيّما
الحكيم على الإطلاق الذي هو موضوع علم الأصول ، ولكنّ ذلك لا يثبت نفي الجواز لغة ، والقطع بعدمه في
كلام الحكيم أيضا مطلقا ، غير واضح ، والمقام قد يقتضي ذلك.
احتجّ مجوّزوه الى
الواحد بأمور :
الأوّل : أنّ
استعمال العامّ في غير الاستغراق ، مجاز على التحقيق ، وليس بعض
__________________
الأفراد أولى من
البعض ، فيجوز أن ينتهي الى الواحد.
وردّ : بمنع عدم
أولويّة البعض ، لأنّ الأكثر أقرب الى الجميع.
وعورض : بأنّ الأقلّ متيقّن الإرادة مع الكلّ ومع الأكثر ، بخلاف
الأكثر ، فإنّه متيقّن المراد من الكلّ خاصّة ، على أنّ أقربيّة الأكثر تقتضي
أرجحيّة إرادته على إرادة الأقلّ لا امتناع إرادة الأقلّ.
وفي أصل الاستدلال
وجميع الاعتراضات نظر.
أمّا في
الاعتراضات فإنّ مبناها على ترجيح المراد من العامّ المخصوص كما لا يخفى ، لا بيان
جواز أيّ فرد من أفراد التخصيص وعدمه كما هو المدّعى ، فإنّما يتمشّى هذه إذا علم
التّخصيص في الجملة ، فلو دار الأمر بين التخصيصات المختلفة ، أمكن التمسّك بأمثال
ما ذكر ، ولا يمكن ذلك في إثبات أصل الجواز وعدمه ، بل لا يجري بعض المذكورات فيه أيضا.
مثلا إذا قيل :
اقتلوا المشركين ، والمفروض أنّ المشركين مائة ، واحد منهم مجوسيّ والباقون أهل
الكتاب ، وورد بعد ذلك نهي عن قتل المجوس ، وورد نهي آخر عن قتل أهل الكتاب ،
وفرضنا تساوي الخاصّين من حيث القوّة ، فمن يلاحظ الأقربيّة الى الجميع ، فلا بدّ
أن يبني على النّهي الأوّل ، ومن يلاحظ تيقّن الإرادة ، فلا بدّ أن يبني على الثاني ، ولكنّك خبير بأنّه لا معنى حينئذ
__________________
لدخول الأقلّ في
الأكثر ، فإنّ المجوس ليس من جملة أهل الكتاب كما لا يخفى.
نعم ، يمكن إجراء
ذلك في المخصّص بالمجمل ، مثل : اقتلوا المشركين إلّا بعضهم ، ولكنّه لا ثمرة فيه
لسقوط العامّ عن الحجّيّة بقدر الإجمال.
نعم ، قد يجري ذلك
فيما لو أريد من بعضهم النّكرة المطلقة الموكول تعيينها الى اختيار المخاطب ،
ولكنّ ذلك لا يفيد قاعدة كليّة تنفع للأصولي في جميع الموارد. وكيف كان ، فلا دخل
لما ذكر فيما نحن بصدده.
فالتحقيق في
الجواب : أنّ الأولويّة إنّما تثبت فيما حصل من الاستقراء جوازه
كما بينّا.
والمراد بلفظ
الأولويّة في كلام المستدلّ وفي جوابنا هو المستحقّ الممكن الحصول ، مقابل الممتنع
، مثل قوله تعالى : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) ، لا الأرجح كما هو غالب الاستعمال ، والغفلة عن ذلك إنّما هو الذي أوجب مقابلته بهذه الأجوبة والاعتراضات.
فحاصل مراده ، أنّ العلاقة المجوّزة لاستعمال العامّ في الخصوص هو
العموم والخصوص ، وهو في الكلّ موجود ، فما الوجه لتخصيص بعض الأفراد بالجواز دون
بعض؟ وليس مراده بيان نفي المرجّح بعد قبول الجواز حتى يقابل ما ذكر.
وحاصل جوابنا :
أنّ الذي ثبت عن استقراء كلام العرب من الرّخصة في جواز
__________________
استعمال العامّ في
الخاصّ ، إنّما هو الاستعمال في الجمع القريب بالمدلول ، لا مطلق علاقة العموم
والخصوص حتّى يتساوى الكلّ فيه.
وما يظهر من بعضهم
، أنّ العلاقة هو علاقة الكلّ والجزء ، واستعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في
الجزء ، غير مشروط بشيء. كما اشترط في عكسه كون الجزء ممّا ينتفي بانتفائه الكلّ
وهو مساو في الجميع.
ففيه : أنّ أفراد
العامّ ليست أجزاء له ، فإنّ مدلول العامّ كلّ فرد ، لا مجموع الأفراد مع أنّ
استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء إنّما يثبت الرّخصة فيه ، فيما لو كان
الجزء غير مستقلّ بنفسه ، ويكون للكلّ تركيب حقيقي وهو مفقود فيما نحن فيه.
ومن ذلك يظهر أنّ
الكلام لا يجري في مثل العشرة أيضا رأسا ، فضلا عن صورة إبقاء الواحد ، واتّفاق الفقهاء على
أنّ من قال : له عليّ عشرة إلّا تسعة ، يلزمه واحد ، لا يدلّ على صحّة هذا الإطلاق
كما سيجيء.
وجواز إبقاء الجمع
القريب بالمدلول فيه أيضا لا يلزم أن يكون بسبب علاقة الجزئية ، فإنّ الحيثيّات
معتبرة ، والمعتبر هو علاقة العموم والخصوص وإن لم يكن من باب العموم المصطلح
المشهور وإن كان يرجع إليه بوجه ، لأنّ المراد بالعشرة في الحقيقة هو مميّزه ، مثل
الدّراهم والدّنانير ، فيصير من باب الجمع المعهود ، فكان المعنى : له عليّ دراهم
عددها عشرة.
وكذلك الكلام في
الأعداد التي مميّزها في صورة المفرد ، فإنّ معناها جمع.
__________________
وممّا ذكرنا ، ظهر أيضا أنّ العلاقة ليست من باب استعمال الكلّيّ في
الجزئي أيضا ، وإنّما هو في العامّ والخاص المنطقيين .
ثم إنّ صاحب «المعالم»
رحمهالله أجاب عن أصل الدّليل : بأنّ العلاقة في ذلك المجاز إنّما
هو المشابهة ، لعدم تحقّق الجزئيّة في أفراد العامّ ، وهي إنّما تتحقّق في كثرة
تقرّب من مدلول العامّ ، فهذا وجه الاختصاص.
وفيه : منع حصر
العلاقة فيهما ، بل العلاقة إنّما هو العموم والخصوص ، وكون ذلك من جملة العلائق ،
من الواضحات التي لا تحتاج الى البيان ، مصرّح به في كلام أهل الأصول والبيان.
والظاهر أنّ كونه
علاقة اتّفاقيّ ، وما يتراءى من الخلاف من كلام بعضهم كالمحقّق الكاظمي في «شرح الزبدة» ، حيث نسب كون العلائق خمسة
__________________
وعشرين ، ومن
جملتها العموم والخصوص الى المشهور. والمحقّق البهائي رحمهالله في «حاشية الزبدة» حيث نسبه الى القدماء ، فهو ناظر الى
تغيير العبارات من حيث الإيجاز والإطناب ، فبعضهم ردّها الى اثنين وبعضهم الى خمسة ، وبعضهم الى اثني عشرة ، وكلّ ذلك اختلاف
في اللّفظ ، وإلّا فلا خلاف.
ولأصحاب هذا القول
أيضا حجج واهية أخرى ، منها قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ
لَحافِظُونَ).
وفيه : أنّه من
باب التشبيه لقصد التعظيم لا من باب ذكر العامّ وإرادة الخاصّ ، فكأنّه لاجتماعه
جميع صفات الكمالات الحاصلة في كلّ واحد سيّما وصف الحافظيّة ، صار بمنزلة العامّ
أو لأنّ العظماء لمّا جرت عادتهم بأنّهم يتكلّمون عنهم وعن أتباعهم فيغلّبون
المتكلّم ، فصار ذلك كناية عن العظمة ، ومنها قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ،) والمراد نعيم بن مسعود باتّفاق المفسّرين.
واجيب : بمنع اتّفاق المفسّرين أوّلا ، وإنّ الناس ليس بعامّ ،
بل للمعهود ثانيا ، والظاهر أنّ مراده عهد الجمع.
وفيه : إشكال لأنّ
الناس اسم جمع ، وإطلاقه على الواحد على سبيل العهد
__________________
غير واضح ، وهذا
التفسير رواه أصحابنا عن أئمّتهم عليهمالسلام فلا وجه لردّه.
والصواب في الجواب
أن يقال : إنّ ذلك أيضا ليس من باب التخصيص ، بل من باب التشبيه ، فإنّ أبا سفيان لمّا
خرج الى ميعاد رسول الله صلىاللهعليهوآله للحرب بعد عام احد ألقى الله الرّعب عليه ، فأراد الرجوع
وكره أن يكون ذلك على وجه الصّغار والإحجام عن الحرب ويكون ذلك سببا لجرأة أهل
الإسلام ، فأراد تثبيط رسول الله صلىاللهعليهوآله عن الحرب على سبيل الخداع بأن يخوّفهم حتّى يتقاعدوا ،
فلقي نعيم بن مسعود ، واشترط له عشرة من الإبل على أن يثبّطهم عن الحرب ، فجاء
نعيم وقال لهم : إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.
ووجه التشبيه أنّه
لمّا أخبر عن لسان الناس يعني أبا سفيان وجيشه ، وتكلّم عن مقتضى مقصدهم ، وكان
ذلك رسالة عنهم ، فكأنّهم قالوا ذلك بأنفسهم ، وهذا مجاز شائع في المحاورات ، وفي
تكرير المعرّف باللّام إيهام إلى المبالغة في الاتّحاد.
ومنها : أنّه علم بالضّرورة من اللّغة صحّة قولنا : أكلت الخبز
وشربت الماء ، ويراد به أقلّ القليل ممّا يتناوله الماء والخبز.
وفيه : أنّا قد
حقّقنا في أوّل الباب ، انّ المفرد المحلّى باللّام حقيقة في الجنس ، ومجاز في
غيره ، والقرينة قائمة هنا على إرادة الفرد المعيّن عند المتكلّم المطابق للمعهود
الذهني ، وهو نظير قولنا : جاء رجل بالأمس عندي ، لا من قبيل :
__________________
جئني برجل. فكما
أنّ للنكرة إطلاقين قد مرّ بيانهما ، فكذلك للعهد الذّهني المساوق لها في المعنى.
والحاصل ، أنّ
المراد به المعهود الذّهني ، سواء قلنا باشتراك المعرّف باللّام بين المعاني
الأربعة ويعيّن ذلك بالقرينة ، أو قلنا بكونه حقيقة في الجنس
واستعمل هنا في الفرد حقيقة من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد مع قطع النظر عن
الخصوصيّة ، فإنّ استعمال الكلّيّ في الفرد وإن كان على سبيل المجاز أيضا ، فهو من
باب استعمال العامّ المنطقيّ في الخاصّ ، لا العامّ الأصوليّ ، وكيف كان فهو خارج
عن المبحث.
احتجّ مجوّزوه الى
الثلاثة والاثنين : بما قيل في الجمع ، وأنّ أقلّه ثلاثة أو اثنان .
وفيه : منع واضح ،
إذ لا ملازمة بين الجمع والعامّ في الحكم.
وقد يوجّه بأنّ
العامّ إذا كان جمعا كالجمع المعرّف باللّام ، فيصدق على الثلاثة والاثنين ، ولا
قائل بالفصل .
وفيه : أنّ من
ينكر التخصيص الى الواحد والاثنين والثلاثة ، لا يسلم ذلك في الجمع المعرّف
باللّام أيضا.
وحجّة التفصيل مع
جوابه : يظهر بالتأمّل فيما ذكر وما سيجيء.
__________________
قانون
إذا خصّ العامّ ، ففي كونه حقيقة في
الباقي أو مجازا أقوال .
وقبل الخوض في
المبحث ، لا بدّ من تمهيد مقدّمات :
الأولى :
أنّ الغرض من وضع الألفاظ المفردة ليس إفادة معانيها ، لاستحالة إفادتها لغير العالم بالوضع.
واستفادة العالم بالوضع أيضا غير ممكن ، لاستلزامه الدّور ، لأنّ العلم بالوضع مستلزم للعلم بالمعنى واللّفظ ، ووضع
اللّفظ للمعنى ، فالعلم بالمعنى متقدّم [مقدّم] على العلم بالمعنى ، بل إنّما
المقصود من وضعها تفهيم ما يتركّب من معانيها بواسطة تركيب ألفاظها الدّالّة عليها
للعالم بالوضع.
__________________
فإن قلت : فما
معنى الدّلالة عليها ، وما معنى قولهم : الوضع تعيين اللّفظ للدلالة على معنى
بنفسه ، وجعل الدّلالة غرضا للوضع ينافي ما ذكرت من نفي ذلك؟
قلت : لا منافاة ، فإنّ مرادهم من الدّلالة على معنى هناك ، صيرورته موجبا
لتصوّر الموضوع له.
ومرادهم ثمّة في
نفي كون استفادة المعاني غرضا في الوضع ، التصديق بأنّ تلك المعاني قد وضعت لها
تلك الألفاظ ، فمجمع القاعدتين ، أنّ الألفاظ قد وضعت بإزاء المعاني لأجل أن يحصل تصوّر
المعاني بمجرّد تصوّر الألفاظ ليتمكّن من تركيبها حتى يحصل المعنى المركّب ويحصل
به تفهيم المعنى المركّب. ولمّا كان المقصود من وضع الألفاظ تفهيم المعاني المركّبة الموقوفة غالبا على
استعمال الألفاظ وتركيب بعضها مع بعض ، ولا بدّ أن يكون الاستعمال أيضا على قانون
الوضع ولا ينفكّ الدّلالة غالبا عن الإرادة ، بمعنى أنّ المدلول غالبا لا بدّ أن
يكون هو المراد ، ولا بدّ أن يكون المراد ما هو مدلوله اللّفظ ، ويحمل اللّفظ عليه
وإن لم يكن مراد اللّافظ في نفس الأمر ، ولا بدّ أن يكون المراد موافقا لقانون
الوضع من حيث الكميّة والكيفيّة ، فلا استبعاد أن يقال : مرادهم من الدّلالة في
__________________
تعريف الوضع ، هو
الدّلالة على مراد اللّافظ ، ويتّضح حينئذ عدم المنافاة غاية الوضوح ، وحينئذ
فالمشترك لا يدلّ إلّا على معنى واحد ، لأنّ الوضع لم يثبت إلّا لمعنى واحد ، وقد
مرّ تحقيق ذلك في محلّه.
وإن أبيت إلّا عن
أنّ مرادهم من قولهم : الوضع هو تعيين اللّفظ للدلالة على معنى هو
تعيينه لأجل تصوّر المعنى مطلقا .
وقلت : إنّه حاصل
في المشترك إذا تصوّر معانيه بمجرّد تصوّر لفظه ، فكيف ينكر دلالته عليه ، وعدم
جواز إرادة أكثر من معنى في الاستعمال لا يستلزم عدم تصوّر الأكثر من معنى عند
تصوّره ، بل تصوّر المعنى يحصل عند تصوّر اللّفظ وإن لم يستعمل اللّفظ أو استعمله
من لا إرادة له أصلا كالنّائم والسّاهي.
فنقول : إنّ تصوّر
معنى المشترك ليس عين تصوّر ما عيّن له اللّفظ ليحصل من تصوّره تصوّره ، إذ الواضع
قد عيّن اللّفظ بإزاء كلّ منهما مستقلّا ، فلم يثبت من الواضع إلّا كون كلّ من
المعنيين موضوعا له اللّفظ في حال الانفراد ، والتعدّي عنه خروج عن قانون الوضع ،
فمدلول اللّفظ ـ يعني ما عيّن الواضع اللّفظ لأجل الدّلالة عليه ـ ليس إلّا معنى
واحد. فراجع ما حقّقنا لك في أوائل الكتاب وتبصّر.
والى ما ذكرنا ، ينظر كلام المحقّق الطوسي قدسسره [القدّوسي] في
بيان عدم
__________________
احتياج حدود
الدلالات الى قيد الحيثيّة ، ولا بأس أن نشير إليه ، وإن كان خروجا عن مقتضى
المبحث.
فاعلم أنّ
العلّامة الحلّي قدسسره في «شرح منطق التجريد» بعد ما أورد الإشكال المشهور على
حدود الدّلالات بقوله : واعلم أنّ اللّفظ قد يكون مشتركا بين المعنى وجزئه أو بينه
وبين لازمه ، وحينئذ يكون لذلك اللّفظ دلالة على ذلك الجزء من جهتين ، فباعتبار
دلالته عليه من حيث الوضع يكون مطابقة ، وباعتبار دلالته عليه من حيث دخول في
المسمّى يكون تضمّنا وكذا في الالتزام ، فكان الواجب عليه ، ـ يعني على المصنّف ـ أن
يقيّد في الدّلالات الثلاث بقوله : من حيث هو كذلك ، وإلّا اختلّت الرّسوم.
قال : ولقد أوردت
عليه قدّس الله روحه هذا الإشكال.
فأجاب : بأنّ
اللّفظ لا يدلّ بذاته على معناه ، بل باعتبار الإرادة والقصد. واللّفظ حين يراد
منه معناه المطابقيّ ، لا يراد منه معناه التضمّني ، فهو إنّما يدلّ على معنى واحد
لا غير ، وفيه نظر ، انتهى.
وحاصل ما ذكره ذلك
المحقّق ، كما نقل عنه بالمعنى في موضع آخر : إنّ دلالة اللّفظ لمّا كانت وضعيّة ، كانت متعلّقة
بإرادة اللّافظ إرادة جارية على قانون الوضع ، فاللّفظ إن أطلق وأريد به معنى ،
وفهم منه ذلك المعنى ، فهو دالّ عليه ، وإلّا فلا. فالمشترك إذا أطلق وأريد به أحد
المعنيين ، لا يراد به المعنى الآخر ، ولو أريد
__________________
أيضا لم يكن تلك
الإرادة على قانون الوضع ، لأنّ قانون الوضع أن لا يراد بالمشترك إلّا أحد
المعنيين ، فاللّفظ أبدا لا يدلّ إلّا على معنى واحد ، فذلك المعنى إن كان تمام
الموضوع له فمطابقة ، وإن كان جزءه ، فتضمّن ، وإلّا فالتزام.
وتوضيحه : أنّ
التكلّم بالألفاظ الموضوعة لمّا كان مقتضاه أن تكون صادرة على طبق قانون الوضع ، فلا
بدّ أن يراد منها ما أراده الواضع على حسب ما أراده. ومن المحقّق انّ وضع المشترك
لكلّ واحد من معانيه ، مستقلّ غير ملتفت فيه الى معناه الآخر ، فلم يحصل الرّخصة
من الواضع إلّا في استعماله في حال الانفراد ، فلم يوجد مادّة يتوهّم استعمال
المشترك في معنييه حتّى يقال : إنّه اتّحد مصداق الدّلالة المطابقيّة والتضمّنيّة
مثلا ، حينئذ فإمّا يستعمل اللّفظ في الكلّ ، أو في الجزء على سبيل منع
الجمع ، وفي صورة استعماله في الكلّ ، لم يرد منه إلّا الكلّ ، وكون الجزء أيضا
معنى آخر له لا يستلزم جواز إرادته منه حتّى يدلّ عليه أيضا ، فلا دلالة للّفظ حين
إرادة الكلّ على المعنى الآخر الذي هو الجزء.
وأمّا مجرّد
تصوّره حينئذ ، فلا يستلزم كونه مدلولا له بالفعل على ما قدّمنا ، لكون ذلك خلاف مقتضى الوضع ، وحينئذ فلا يراد من اللّفظ
إلّا معنى واحد ، فإن اعتبر دلالته على ذلك المعنى بتمامه ، فمطابقة ، وإن اعتبر
دلالته على جزئه من جهة كون الجزء في ضمن الكلّ ، فتضمّن ، وإن اعتبر دلالته على
لازم له إن كان له لازم بمعنى الانتقال من أصل المعنى الى ذلك اللّازم ، فهو
التزام.
__________________
ولا يخفى أنّ
الدّلالة على الجزء بهذا المعنى ، يعني في ضمن الكلّ ، هو معنى التضمّن ، لا إذا
استعمل اللّفظ في الجزء مجازا كما يتوهّم ، وكذلك في الالتزام.
وأمّا استعماله في
الجزء منفردا إذا وضع له بوضع على حدة ، فهو مطابقة جزما.
فعلى ما مرّ من
التحقيق ، فاللّفظ إمّا مستعمل في الكلّ سواء اعتبر فيه الدّلالة التضمنيّة أو
الالتزامية أم لا.
وإمّا مستعمل في
الجزء ، فلا يمكن تصادق الدّلالة التضمنيّة الحاصلة في الصورة الأولى مع المطابقية التي هي الدّلالة على هذا الجزء بعينه من جهة
وضعه له على حدة واستعماله فيه ، إذ تلك الدّلالة التضمنيّة لا تنفكّ من المطابقية
التي هي في ضمنه ، وهو أحد معنيي المشترك ، ولا يجوز مع إرادته إرادة المعنى الآخر
الذي هو ذلك الجزء بعينه بوضع مستقلّ.
وظهر أيضا أنّه لا
ينتقض كلّ واحد من التضمّن والالتزام بالآخر ، بأن يكون جزء أحد المعنيين لازما
للآخر أو بالعكس ، فإنّ صدق كلّ منهما على الآخر يستلزم جواز إرادة كلّ
واحد من المطابقيين.
فلنفصّل الكلام
ليتّضح المرام.
فنقول : إنّ
المعترض يقول : إنّ اللّفظ المشترك بين الكلّ والجزء إذا اطلق على الكلّ ، كان
دلالته على الجزء تضمّنا ، مع أنّه يصدق عليها أنّها دلالة اللّفظ على تمام ما وضع
له ، فينتقض بها حدّ المطابقة.
__________________
وإذا أطلق على
الجزء كان دلالته عليه مطابقة ويصدق عليها أنّها دلالة اللّفظ على جزء ما وضع له
اللّفظ ، وكذا الحال في الملزوم واللّازم.
وأقول : إنّا لا نسلّم
أنّ دلالة اللّفظ على الجزء في ضمن الكلّ وبتبعيّته كما هو معنى دلالة التضمّن
يصدق عليها أنّها دلالة اللّفظ على تمام ما وضع له ، وإن كان ذلك تمام الموضوع له
بوضع آخر ، لأنّ الدلالة على تمام الموضوع له إنّما هو تابع جواز الإرادة الجارية
على قانون الوضع. وقد ذكرنا انّ المشترك إذا أريد منه أحد معانيه ، فلا يجوز إرادة
الآخر معه. مثلا في حوالينا رستاق مسمّى بالكزّاز مشتمل على قرى كثيرة أحدها مسمّاة بالكزّاز
، فإذا أطلق الكزّاز وأريد منه ذلك الرّستاق ، فانفهام تلك القرية إنّما هو
بالتّبع وفي ضمن انفهام الكلّ ، ولا ريب إنّه حينئذ لا يدلّ على تلك القرية
الخاصّة بخصوصها ، ولا يجوز إرادتها أيضا ، فهو غير مدلول اللفظ بالاستقلال حينئذ.
نعم لو جاز إرادة
المعنيين ولم تخالف لقانون [القانون] الوضع لاحتاج حينئذ الى قيد الحيثيّة. والقول
بأنّ تلك القرية من حيث إنّه جزء أحد المعنيين المطابقيّين مدلول تضمّني ، ومن حيث
إنّه نفس أحدهما ، فهو مطابقى.
قوله : وإذا اطلق على الجزء كان دلالته عليه مطابقة ... الخ.
قلنا : لا نسلّم
حينئذ صدق أنّه دلالة اللفظ على جزء ما وضع له الذي هو الدلالة التضمّنيّة ، إذ
المراد بها دلالته عليه في ضمن الكلّ وتبعيّته ، وهو موقوف على جواز
__________________
إرادة الكلّ الذي
ذلك المعنى جزءه ، وهو ممنوع لما ذكرنا .
وممّا ذكر ، يظهر
الكلام في الملزوم واللّازم.
وبالجملة ، فلزوم
كون الدلالة المطابقية مطابقة لإرادة اللّافظ الجارية على قانون الوضع ، كاف في
دفع انتقاض حدّ كلّ واحد من الدّلالات بالآخر.
وممّا ذكرنا ، ظهر
أنّ مراد المحقّق الطوسي رحمهالله من قوله : لا يراد منه معناه التضمّني ، فيما نقله العلامة
رحمهالله عنه ، لا يراد منه معناه التضمّني الحاصل بسبب ذلك
المطابقي بإرادة مستقلّة مطابقيّة أخرى ، بالنظر الى وضعه الآخر.
ومن قوله : فهو
إنّما يدلّ على معنى واحد لا غير ، انّه لا يدلّ إلّا على معنى مطابقي واحد كما لا
يخفى ، فإذا دلّ على أحد المطابقيّين الذي هو الكلّ وتبعه فهم الجزء ضمنا ، فلا
يدلّ على المطابقيّ الآخر الذي هو الجزء بالاستقلال ، ومن ذلك تقدر على توجيه آخر
ما نقله عنه الناقل بالمعنى في توضيحه.
وبالتأمّل فيما
ذكرنا لك ، يظهر أنّ كثيرا من الناظرين غفلوا عن مراده واعترضوا عليه بأمور لا يرد عليه ، مثل إلزامه بامتناع الاجتماع بين الدّلالات
الثلاث لما ذكره من امتناع أن يراد بلفظ واحد أكثر من معنى واحد.
ويندفع : بأنّ
مراده اجتماع الدّلالات الثلاث التي تتوقّف على الإرادة ، وهي الدّلالات
المطابقيّات ، والتضمّن ، والالتزام ، ليس في هذا القبيل ، ومثل أنّه يلزمه أن
تكون الدلالة التضمّنية والالتزاميّة موقوفتين على الإرادة من اللّفظ.
__________________
ويندفع : بما مرّ
أيضا ، إذ مطلق الدّلالة لا يتوقّف عنده على الإرادة ، ومثل ما قيل : إنّه بعد
تسليم عدم ورود ما ذكر أنّه لا يفيد في هذا المقام لأنّ اللفظ المشترك بين الجزء والكلّ إذا أطلق وأريد به
الجزء ، لا يظهر أنّه مطابقة أو تضمّن ، وكذا المشترك بين اللّازم والملزوم.
ويندفع : بأنّه لا
ريب أنّه حينئذ مطابقة كما يظهر ممّا تقدّم .
هذا ما وصل إليه
فهمى القاصر في تحقيق المرام ، وبعد هذا كلّه ، فالمتّهم إنّما هو فكري والله يهدي
من يشاء الى صراط مستقيم.
إذا تقرّر ذلك
فلنعد الى ما كنّا فيه.
فنقول : إنّهم
قيّدوا الألفاظ بالمفردة ، ومقتضاه أنّ الغرض من وضع الألفاظ المركّبة هو إفادة
معانيها ، ولا يلزم فيها الدّور ، لمنع توقّف إفادة الألفاظ المركّبة لمعانيها على
العلم بكونها موضوعة لها ، وقد يستند ذلك المنع بأنّا متى علمنا كون كلّ واحد من
تلك الألفاظ المفردة موضوعا لمعناه ، وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ المفردة
دالّة على النّسب المخصوصة لتلك المعاني ، فإذا توالت الألفاظ بحركاتها المخصوصة على السّمع ، ارتسمت تلك المعاني
المفردة مع نسب بعضها الى بعض في ذهن السّامع ، ومتى حصلت المعاني المفردة مع نسبة
بعضها الى بعض ، حصل العلم بالمعاني المركّبة لا محالة.
أقول : وتحقيق
المقام ، إنّ المركّبات لا وضع لها بالنظر الى أشخاصها ، بل وضع المركّبات من حيث
إنّها مركّبات ، نوعيّ.
__________________
وفائدة الوضع
النوعيّ إفادة معاني أشخاصها ، فمن تحقّق نوع التركيب في ضمن فرد خاصّ يعرف
التركيب الخاصّ. فالمركّب من حيث اشتماله على الألفاظ المفردة ، حكمه ما تقدّم ،
ومن حيث اشتماله على النوع المعيّن من التركيب ، حكمه إفادة تحقّق هذا النوع في
ضمن هذا الشّخص منه ، فهيئة تركيب الفعل مع الفاعل والمفعول أيضا مثلا على النهج
المقرّر في الإعراب والتقديم والتأخير ، موضوعة لإفادة صدور الفعل عن الفاعل
ووقوعه على المفعول ، فإذا تشخّص في مادّة ضرب زيد عمرو ، أفادت صدور الضرب عن زيد
ووقوعه على عمرو ضرورة حصول الكليّ في ضمن الفرد.
وأمّا فهم معنى
الضرب وزيد وعمرو فقد تقدّم الكلام فيه . وقد يحصل من جهة الهيئة التركيبيّة تفاوت في أوضاع
المفردات ، كما في صورة التوصيف والتقييد والاستثناء ونحو ذلك. فالمعتبر في وضع
المركّب هو ما اقتضاه الهيئة التركيبيّة ، لا خصوص وضع المفردات.
الثانية :
الاستثناء من النفي إثبات ، وبالعكس . خلافا للحنفيّة في الموضعين .
__________________
وقيل : إنّ خلافهم
إنّما هو في الاوّل .
وأمّا في الثاني
مثل : له عليّ عشرة إلّا ثلاثة ، فهم أيضا يقولون بإفادة النفي.
وربّما اعتذر لذلك
، بأنّ قولهم بذلك إنّما هو لأجل مطابقته لأصل البراءة لا لأجل إفادة اللّفظ
، وقد أشرنا الى مثل ذلك في مبحث المفاهيم.
وكيف كان ،
فالمختار الإفادة في المقامين للنّقل عن أهل اللّغة ، والتبادر ، ولأنّ كلمة
التوحيد يفيده بلفظه اتّفاقا.
والقول : بأنّ
دلالتها شرعيّة ظاهر الفساد ، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يقبل ذلك من أهل البادية الغير المطّلعين بحال الشّرع
، ولو لا أنّهم يريدون به ذلك ، لما قبله منهم.
واستدلّ الحنفيّة
بقوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بطهور» ، و «لا نكاح إلّا بوليّ».
__________________
والوجه في تقريره
، أنّه لو كان كما قلتم ، لزم ثبوت الصلاة بمجرّد الطهور ، وحصول النكاح بمجرّد
حصول الوليّ ، مع أنّ حصول الصلاة والنكاح يتوقّف على أمور شتّى.
وجوابه : أنّه
لمّا لم يجز استثناء الطهور عن الصلاة للمخالفة ، فلا بدّ من تقدير ، إمّا في جانب
المستثنى ، يعني لا صلاة صحيحة إلّا صلاة متلبّسة بطهور ، أو المستثنى منه يعني لا
صلاة صحيحة بوجه من الوجوه إلّا باقترانها بالطهور. والمطلوب نفي إمكان الصحّة
بدون الطّهور ، والاستثناء يقتضي إمكان الصحّة معه ، كما هو مقتضى الشرطيّة ،
وحينئذ ، فالحصر بالنسبة الى أحوال عدم الطهور ، وإن جامع جميع الكمالات المتصوّرة
للصلاة لا الى سائر شروط الصّحّة حتى يلزم انحصار جهة الصّحّة في الطهور ، فيصير
سببا للصحّة ، ويلزم المحذور.
وقد يوجّه بإرادة
المبالغة في المدخليّة والحصر الادّعائي ، وما ذكرناه أوجه.
وبالجملة ، فهذا
النّوع من التركيب ظاهر فيما ذكرناه ، وهو عين ما جعلناه حقيقة في الاستثناء.
سلّمنا عدم الظهور
، لكنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، والمجاز خير من الاشتراك وقد أثبتنا الحقيقة
فيما ادّعيناه بالتبادر ، فلا يضرّ الاستعمال في غيره. ومن ذلك يظهر الجواب عمّا استدلّ بعضهم بقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ، فإنّه استثناء منقطع ، أو المراد إخبار عن حال
__________________
المؤمن أنّه لا
يفعل ذلك ، إلّا خطأ أو المراد الرّخصة فيما حصل له الظنّ بالجواز ، كما إذا حسبه
المؤمن صيدا وقتله ، أو حربيا بسبب اختلاطه معهم . ولا ينحصر الخطاء فيما لو لم يكن فيه قصد حتّى لا يصحّ
الاستثناء من عدم الرّخصة .
الثالثة :
اختلفوا في تقرير الدّلالة في الاستثناء
من جهة كونه
تناقضا بحسب الظاهر .
فقيل : إنّ المراد
بالعشرة مثلا في قولنا : له عليّ عشرة إلّا ثلاثة هو معناه الحقيقي ، ثم أخرج
الثلاثة بحرف الاستثناء ، ثمّ أسند الحكم الى الباقي ، أعني السّبعة. فليس في
الكلام إلّا إسناد واحد ، فلا تناقض ، اختاره العلّامة وأكثر المتأخّرين .
والأكثرون ومنهم
السّكاكي في «المفتاح» على أنّ المراد بالعشرة هو السّبعة ، وحرف الاستثناء قرينة
المجاز.
والقاضي أبو بكر
على أنّ مجموع عشرة إلّا ثلاثة اسم لسبعة ، كلفظ سبعة.
وأوسط الأقوال
أوسطها لبطلان القولين الآخرين ، ولا رابع.
أمّا بطلان الأوّل
، فلأنّه يستلزم أن لا يكون الاستثناء من النّفي إثباتا ، كما هو
__________________
مذهب الحنفيّة ،
وهو خلاف التحقيق ، كما مرّ. فيلزم حينئذ أن لا يثبت في ذمّة من قال : ليس له عليّ
شيء إلّا خمسة شيء ، لأنّ الخمسة مخرجة عن شيء قبل إسناد النفي الى شيء ، فهي في
حكم المسكوت عنه ، بل يلزم أن لا يكون الاستثناء من الإثبات أيضا نفيا.
وأيضا فلو أشير
الى عشرة مجتمعة شخصيّة ، وقيل : خذ هذه العشرة إلّا ثلاثة منه ، فلا يتصوّر هناك
إخراج إلّا من الحكم ، فإنّ المفروض أنّه لا يخرج أشخاص الثلاثة من جملة العشرة ،
بل المراد إخراجها عنها بحسب الحكم ، فلا بدّ من القول بإخراجها عن الحكم المتعلّق
بالمجموع ، والمفروض أنّه لا حكم إلّا الإسناد الموجود في الكلام.
فإن قلت : هذا كرّ
على ما فررت منه من لزوم التّناقض ، وكيف المناص عن ذلك على ما اخترت؟
قلت : وإنّي أظنّك
غافلا عن حقيقة التخصيص ، وملتبسا عليك أمره بالبداء ، فإنّك إن أردت من الإخراج
في قولهم : الاستثناء هو إخراج ما لولاه لدخل ، هو الإخراج الحقيقي عن الحكم
الصادر عن المتكلّم بعنوان الجزم ، فهو لا يتحقّق إلّا في صورة البداء والاستدراك
، كما لو سها المتكلّم وغفل عن حال المخرج ثمّ تذكّره بعد إيقاع الحكم على المخرج
منه ، أو جهل بكونه داخلا وحكم بالمجموع ثمّ علم فأخرج. وأنت خبير بأنّ أمثال ذلك
لا يتصوّر في كلمات الله وأمنائه في
__________________
الأحكام الشرعيّة
، والتخصيص المذكور في ألسنة الاصوليّين والفقهاء ليس ذلك جزما.
فإن قلت : فعلى
هذا ، فيكون الهيئة الاستثنائية استعارة تمثيليّة في التخصيص المصطلح فيكون مجازا
، وهو بعيد.
قلت : كون معنى
الاستثناء ذلك ، لا يوجب التجوّز في الهيئة الاستثنائية كما لا يخفى.
وإن أردت من الإخراج أعمّ من الإخراج الواقعي ، بأن يكون المراد
الإخراج عمّا هو في صورة الثابت ، وإن لم يكن ثابتا في نفس الأمر ، فلا تناقض أيضا
، وهو المراد في التخصيص.
وبيانه : أنّ
القائل يسند الحكم أوّلا بالباقي ، ولكن يؤدّيه بلفظ الإسناد الى الكلّ لنكتة ثم
يجيء بلفظ دالّ على الإخراج ، للقرينة على إرادة الباقي. ويظهر بذلك أنّه أراد به
الإخراج عمّا هو ظاهر المراد ، لا عن نفس المراد ، وذلك بعينه مثل قولك : رأيت
أسدا يرمي ، فلا يريب أحد في أنّ المراد بالأسد حقيقة فيه هو الرّجل الشجاع ،
ويرمي للعدول عمّا هو ظاهر المراد من لفظ الأسد ، ولا يمكن فيه إرادة الحيوان
المفترس إلّا على جعل الاستعارة من باب المجاز العقليّ كما هو مذهب السّكاكي بجعل
الأسد شاملا للأسد الادّعائي مع أنّه أيضا مجاز لغوي ، كما لا يخفى ، والمراد به
غير ما هو مدلوله اللّغوي جزما ، كما لا يخفى.
__________________
وأمّا النكتة التي
أشرنا إليه ، فهو أنّ المتكلّم إذا أراد النسبة الى الباقي ، فذكره بعنوان الحقيقة
يستلزم تعداد أسامي الباقي ، وهو متعذّر غالبا أو متعسّر ، فلا بدّ أن يجعل مقامه شيئا يتمكّن به عن ذلك ، فيطلق
عليه نفس العامّ مجازا ، مع نصب قرينة عليه ، وهو الاستثناء وما يجري مجراه من
المخصّصات المتّصلة ، أو يأتي باسم آخر للباقي إن كان له اسم ، كما هو موجود في
الأعداد ، والعدول في الأعداد من الإسم الى ذكر العامّ. وقرينة الإخراج أيضا لا
بدّ أن يكون لنكتة كما في قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) ، مع التمكّن عن قوله : تسع مائة وخمسين عاما ، وهو أنّ
عدد الألف ممّا يضرب به المثل للكثرة ، والمقام مقام بيان طول المكث.
والحاصل ، أنّ
مقتضى إرادة التخصيص اللّائق بكلام الله وأوليائه الذي هو محطّ نظر الأصوليّ ، هو
إسناد الحكم الى الباقي في نفس الأمر ، مع تأديته بلفظ قابل للإخراج ، ثمّ الإخراج
بملاحظة ظاهر الإرادة وإن لم يكن إخراج في نفس الأمر أصلا.
وما ذكره بعض
المدقّقين في رفع التناقض حيث قال : ولك أن تريد أنّه مخرج عن النسبة
الى المتعدّد ، بأن تريد جميع المتعدّد وتنسب الشيء إليه فتأتي بالاستثناء لإخراجه
عن النّسبة ، ولا تناقض ، لأنّ الكذب صفة النسبة المتعلّقة
__________________
للاعتقاد ، ولم
ترد بالنسبة إفادة الاعتقاد ، بل قصدت النسبة لتخرج عنه شيئا ثمّ تفيد
الاعتقاد ، فإن أراد به ما ذكرنا فهو ، وإلّا فلا تركّب في النسبة المستفادة من
الكلام ليفكّك ويجعل بعضها متعلّقا للإخراج وبعضها متعلّقا للاعتقاد ، مع أنّه لا
يتأتّى حينئذ على ما هو التحقيق من كون الاستثناء من النّفي إثباتا وبالعكس ، كما
لا يخفى على المتأمّل.
وممّا حقّقناه ، ظهر أنّه لا وجه للإيرادات التي أوردوها على المذهب
المختار من لزوم الاستثناء المستغرق في قولك : اشتريت الجارية إلّا نصفها ، لو
أردت بالجارية نصف كلّها ، والتسلسل لو أريد ما بقي من النصف بعد الإخراج وهو
الرّبع.
وإذا كان المراد
بالنّصف الرّبع فيكون المراد بالرّبع المستثنى منه الثّمن ، وهلمّ جرّا ، ومن أنّ
ضمير نصفها عائد الى الجارية بكمالها قطعا ، وأنّ المراد إلّا نصف كلّها ، فيكون
المراد من الجارية كلّها إلّا نصفها ، وذلك لأنّ المراد بالجارية مع انضمام
الاستثناء إليه وهو القرينة نصفها لا المراد بالجارية وحدها. وبعد ملاحظة الانضمام
فلا يبقى استثناء آخر ليلزم المحذور.
وأمّا إرجاع
الضمير الى كلّ الجارية.
فجوابه : أنّ
الإخراج إذا كان من ظاهر المراد لا نفس الأمر على ما حقّقناه ، فالضمير أيضا يعود
الى ظاهر المراد من اللّفظ على سبيل الاستخدام .
__________________
ويظهر ممّا ذكر ،
الجواب عن سائر الإيرادات التي لم نذكرها أيضا.
ثمّ إنّ هذا القول
الذي أبطلناه كما ترى ، مخصوص في كتبهم بالاستثناء أو المخصّص المتّصل.
وزاد بعضهم تجويز هذا القول في المخصّص المنفصل أيضا ، وقال : إنّه لا
يمتنع أن يراد بلفظ العامّ ؛ الاستغراق ، ويسند الحكم الى بعضه بمعونة الخارج من
سمع أو عقل.
ودعوى قبحه دون
التجوّز باللّفظ عن معنى لا يعلم إلّا بعد الاطّلاع على سمع أو عقل خارج ، تحكّم.
فإنّ الكلام إنّما هو في تصرّف المتكلّم في أنّه هل تصرّف في معنى اللّفظ وأحال
العلم به الى الخارج ، أو تصرّف في الحكم وأحال الأمر إليه ، ولزوم الإغراء بالجهل
مشترك.
وأقول : مضافا الى
ما مرّ من بطلان هذا القول في المخصّص المتّصل المستلزم لبطلان ذلك بطريق أولى .
إنّ من مفاسد هذا
القول لزوم اللّغو في إرادة الحكيم ، فإنّ إرادة الاستغراق من اللّفظ حينئذ لا
فائدة فيه ، بل هو غلط.
__________________
فإنّا قد بيّنّا
لك في المقدّمة الأولى أنّ الغرض من وضع الألفاظ هو تركيب معانيها وتفهيم التراكيب
والأحكام المتعلّقة بمفاهيم تلك الألفاظ ، فإذا لم يرد في الكلام إسناد الى نفس
مفهوم العامّ ، ولا إسناده الى شيء ، سواء كان إسنادا تامّا أو ناقصا ، فما الفائدة في
إرادتها؟
فإن قلت : ذكر
العامّ وإرادة مفهومه أوّلا لأجل إحضاره في ذهن السّامع ، ثمّ إسناد الحكم الى
بعضه وإخراج بعض آخر منه.
قلت : إنّما يتمّ
هذا لو جعل العامّ في الكلام موضوعا لأن يحمل عليه هذان الحكمان ، مثل أن يقال : كلّ إنسان إمّا كاتب أو غير كاتب ، وأين
هذا ممّا نحن فيه. وليس معنى قولنا : أكرم العلماء إلّا زيدا ، العلماء يجب إخراج
زيد من جملتهم وإكرام الباقي ، فإنّه لا خلاف في صحّته وكونه حقيقة حينئذ.
ودعوى كون معنى هذا التركيب هو ما ذكرنا ، يحتاج الى الإثبات .
والذي هو محطّ نظر
أرباب البلاغة في أداء المعاني وإيهاماتهم ، إنّما هو بعد تصحيح اللّفظ ، بل جعله
فصيحا أيضا.
نعم ، ملاحظة
اعتباراتهم في البلاغة يتمّ فيما اخترناه كما أشرنا من جعل الإسناد أوّلا متوجّها
الى العامّ ، ثم نصب القرينة على خلافه للنكتة التي ذكرنا وغيرها.
__________________
وحاصل الكلام
وفذلكة المرام ، أنّ علينا متابعة وضع الواضع أو رخصته في نوع
المجاز ، والذي نفهمه من اللّفظ كون لفظ العامّ موردا للإسناد ، ومقتضاه كون
مفهومه موردا للإسناد ، وليس في الكلام إسناد آخر يتعلّق بالباقي ، فلا بدّ من
التصرّف في لفظ العامّ بمعونة قرينة المخصّص.
والعضديّ أسّس هنا
أساسا جديدا في تحقيق المقام ، وبه أخرج كلام القوم عن ظاهره ، وردّ الأقوال
الثلاثة الى اثنين.
وحاصله ؛ أنّ هنا
مفهومين ، أحدهما عشرة موصوفة بأنّها اخرجت عنها الثلاثة ، وثانيهما الباقي من
العشرة بعد إخراج الثلاثة.
فإن قلنا إنّ
قولنا : عشرة إلّا الثلاثة ، معناه الحقيقي المفهوم الأوّل ؛ فيكون مجازا في السّبعة كما هو
مذهب الجمهور.
وإن قلنا : إنّ
معناه الحقيقي هو الثاني ، فيكون حقيقة في السّبعة ، لا بمعنى إنّه وضع له وضعا
واحدا ، بل على أنّه يعبّر عنه بلازم مركّب. ثمّ ردّ القول الثالث الذي هو مختار
ابن الحاجب والعلّامة والمتأخّرين الى أحد هذين القولين.
وطريق الردّ على
ما فهمه التفتازاني ، أنّ القول الثالث بيان لمعاني مفردات
__________________
الهيئة التركيبية
، قال : وعلى أيّ حال فالمفردات مستعملة في معانيها في معانيها الحقيقية ، إنّما
الخلاف في المركّب ، فعند الجمهور مجاز في السّبعة ، وعند القاضي حقيقة فيه.
هذا وقد ظهر لك
بما حرّرنا ، أنّ الجمهور لا يقولون بذلك ، بل يقولون : بمجازيّة لفظ العشرة التي
هو أحد المفردات في السّبعة ، مع أنّ تفسير قولهم : بأنّهم يريدون بالمركّب العشرة
الموصوفة بالإخراج المذكور ، مناف لوضع الاستثناء ، والمتبادر من الإخراج وغير ذلك
أيضا.
وأمّا قول القاضي
، يعني كون مجموع المركّب اسما للسّبعة لا بمعنى كونه موضوعا له بوضع على حدة حتّى
يرد عليه أنّه خارج عن قانون اللّغة ، إذ ليس في لغتهم اسم مركّب من ثلاثة ألفاظ
يعرب الجزء الأوّل منه وهو غير مضاف ، وأنّه يلزم إعادة الضمير على جزء الإسم في :
اشتريت الجارية إلّا نصفها ، مع عدم دلالة فيه ، بل بمعنى التعبير عنه بلازم مركّب
كالطائر الولود للخفّاش ، ومثل ذلك أربعة مضمومة الى الثلاثة لها ، ومثل بنت سبع
وأربع وثلاث ، لأربعة عشر وهكذا.
فيرد عليه أيضا : أنّه مستلزم لخلاف التحقيق من كون الاستثناء من
النفي إثباتا ، وبالعكس. وأنّ ذلك يتمّ لو كان معنى عشرة إلّا ثلاثة الباقي من العشرة بعد
إخراج الثلاثة ، وتبادر منه كما حرّره العضديّ ، وهو ممنوع ، ومستلزم لأن لا يكون
الاستثناء تخصيصا أيضا كما لا يخفى.
وتنزيل مذهب
الجمهور الذي اخترناه على إرادة العشرة الموصوفة بإخراج الثلاثة عنه كما فهمه
العضدي أيضا ، يستلزم وحدة الحكم ، فليس هناك نفي ولا إثبات .
__________________
وأنت خبير بأنّ
جميع ذلك خروج من الظاهر ومخالف لقواعد العرف والعادة. واستقصاء الكلام في النقض
والإبرام على ما ذكره القوم في هذا المقام ، تضييع للأيّام.
الرابعة :
الاستثناء المستغرق لغو
اتّفاقا ، سواء ساوى
المستثنى منه أو زاد عليه ، فيعمل على الحكم الوارد على جميع المستثنى منه.
واستثناء الأقلّ
من النصف صحيح اتّفاقا أيضا.
واختلفوا في جواز
استثناء الأكثر والمساوي.
فقيل : بوجوب كونه
أقلّ .
وقيل : بجواز
المساوي .
والأكثرون على
جواز الأكثر ، ويلزمهم جواز المساوي بطريق الأولى.
__________________
وقيل : لا يجوز
إلّا الأقلّ في العدد دون غيره ، فيجوز : أكرم بني تميم إلّا الجهّال ، وإن كان
العالم فيهم واحدا.
واعتبر المحقّق في الجواز أن لا ينتهي الكثرة الى حدّ يقبح استثناؤها عادة
، مثل أن يقال : له عليّ مائة إلّا تسعة وتسعين ونصفا.
احتجّ الأكثرون بامور :
الأوّل : قوله
تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ). مع قوله : (فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.)
فإن قلنا باشتراط
كون المستثنى أقلّ من المستثنى منه ، يلزم أن يكون كلّ من المخلصين والغاوين أقلّ
من الآخر ، وهو محال.
فإنّ الآية
الثانية تدلّ على أنّ غير المخلصين كلّهم غاوون ولا واسطة ، فيكون الباقي من
العباد بعد إخراج الغاوين في الآية الأولى ، هم المخلصين لعدم الواسطة.
وممّا قرّرناه
وحرّرناه في وجه الاستدلال ، يظهر لك فساد كلّ ما أورد عليه ، فلا نطيل ببيانه.
__________________
نعم ، يرد عليه
أنّه لا يدلّ على جواز استثناء الأكثر لجواز التساوي.
وقد يقرّر
الاستدلال على وجه آخر ، وهو أن يضمّ الى الآية الأولى قوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ.) بتقريب أنّ كلمة من بيانيّة ، والغاوون المتّبعون للشيطان
، وإذا كان أكثر الناس غير مؤمن بحكم الآية الثانية ، فيكون متّبعو الشيطان الغاوون أكثر الناس.
وردّ : بأنّ
المراد من قوله تعالى : (عِبادِي) هم المؤمنون ، لكون الإضافة للتّشريف فيكون المستثنى
منقطعا ، فلا إخراج.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أكثريّة الغاوين ، لأنّ من العباد الملائكة والجنّ وكلّ الغاوين أقلّ من
الملائكة.
وأجيب : بأنّ
المنقطع مجاز ، ومتى أمكن الحمل على الحقيقة ، فلا يصار الى المجاز ، ولذلك يحمل
قول القائل : له عليّ ألف درهم إلّا ثوبا ، على قيمة الثوب ، وكون الإضافة للتشريف
ممنوع.
وصرّح المفسّرون
بأنّ المراد من العباد بنو آدم .
__________________
الثاني : إجماع
العلماء على أنّ من قال : له عليّ عشرة إلّا تسعة ، يلزم بواحد.
فلو لا صحّته
لحكموا بإلغاء الاستثناء وألزموه بعشرة كما في المستغرق.
الثالث : قوله
تعالى في الحديث القدسي : «كلّكم جائع إلّا من أطعمته» . ووجه الاستدلال واضح.
ثمّ إنّ لي إشكالا
في هذا المقام لم يسبقني إليه فيما أعلم أحد من الأعلام وتحقيقا في المخلص عنه من
مواهب كريم المنعام ، ولكنّه لا ينفع لما يرد من جهته على الأقوام ، وهو أنّهم
ذكروا الاختلاف في منتهى التخصيص ، وذهب المحقّقون من الجمهور الى أنّه لا بدّ من
بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ ، ثم ذكروا الاختلاف في هذه المسألة وأسندوا القول
بوجوب بقاء الأكثر الى شاذّ من العامّة ، وجواز استثناء الأكثر الى أكثر المحقّقين
، فإن كان وجه التفرقة الفرق بين المتّصل والمنفصل ، وأنّ الكلام في المبحث
السّابق كان فيما كان المخصّص فيه منفصلا ، وفي هذا المبحث في المستثنى ، فهذا
ينافي نقل القول بالفرق بين المتّصل والمنفصل ثمّة بين الأقوال.
وإن قلت : إنّا
نمنع كون الاستثناء تخصيصا ، والكلام في المبحث السّابق إنّما كان في التخصيص.
قلت : مع أنّه
ينافي نقل القول بالتفصيل المذكور ثمّة ، فيه : إنّ جمهور الأصوليين
__________________
قائلون بكون
الاستثناء تخصيصا لما عرفت من أنّهم قائلون بكون المراد من العامّ هو الباقي ،
والاستثناء قرينة له ، وهذا معنى التخصيص.
فعلى هذا يلزم أن
يكون مختار الأكثرين في الاستثناء لزوم بقاء الأكثر ، وكون المخرج أقلّ ، وكيف
يجتمع هذا مع اختيارهم جواز استثناء الأكثر. وكيف يجمع بين أدلّتهم
في المقامين ، وما تحقيق الحال.
والذي يختلج
بالبال ، أنّهم قد غفلوا عمّا بنوا عليه الأمر لظاهر هذه الأدلّة .
والتحقيق ما
حقّقوه في المبحث السّابق كما اخترناه وشيّدناه.
وأما الجواب عن
ذلك الأدلّة ، فيتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي :
إنّا قد بيّنا لك
في أوائل الكتاب أنّ وضع الحقائق شخصيّة ، ووضع المجازات نوعيّة.
ونزيدك هاهنا أنّ
الحقيقة والمجاز يعرضان للمركّبات كما يعرضان للمفردات ، ووضع المركّبات قاطبة
نوعيّة ، حقيقية كانت أو مجازيّة. والأوضاع النوعيّة إنّما هو للقدر المستفاد من تتبّع
كلماتهم من الرّخصة ، فالاستثناء مثلا تركيب وضع بالوضع النوعي للإخراج ، بمعنى
أنّه لا يتوقّف على سماع كلّ واحد من أفراده كما يتوقّف في الحقائق المفردة ،
والقدر الذي يستفاد من الرّخصة في ذلك النوع إنّما هو المتّبع ، نظير ما بيّناه في
العلائق المجازيّة ، ألا ترى إنّهم يحكمون بأنّ الاستثناء المنقطع مجاز ، فعلم أنّه في المتّصل حقيقة
، وكذلك يحكمون بأنّ
__________________
الاستثناء من
النفي إثبات بعنوان الحقيقة لأجل التبادر وبالعكس ، وهكذا. والقدر الذي تيقّن
ثبوته من أهل اللّغة هنا هو لزوم الإخراج عن متعدّد في الجملة ، وأمّا أنّه يكفي
في ذلك أيّ إخراج يكون ، أم لا بدّ أن يكون على وجه خاصّ من كون المخرج أقلّ من
الباقي ، فلا بدّ من إقامة الدّليل عليه وإثبات الرّخصة فيه من جهة أهل اللّغة.
وكما أنّ الحقيقة
والمجاز في المفردات يرجع الى النقل والتبادر وعدم صحّة السّلب وأمثالها ، فكذلك
في المركّبات كما عرفت في نظرائه . ومجرّد الاستعمال لا يثبت الحقيقة كما حقّقناه في محلّه
وبيّنّا أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، فمجرّد الاستعمال في إخراج الأكثر لا
يدلّ على كونه حقيقة فيه ، والمقصود الأصليّ للأصولي هو ذلك لا مطلق الاستعمال.
فحينئذ نقول :
القدر الثابت المتيقّن هو ما لو كان المخرج أقلّ ، وكون ما لو كان المخرج أكثر من
الباقي ممّا رخّص فيه من العرب بعنوان الوضع الحقيقي ممنوع. وعدم الثبوت ، دليل
على العدم لكون الوضع توقيفيا ، وحينئذ فالصّور المشكوكة مثل ما لو كان المخرج
أكثر ، فيمكن كونها من أفراد الحقيقة ، وكونها من أفراد المجاز ، بأن يستعمل
الاستثناء فيه بعلاقة مشابهته أو إدّعاء القلّة فيه للمبالغة في التحقير وإن كان كثيرا
ونحو ذلك ، فلا يثبت كونها حقيقة ، مع أنّه لا يبعد
__________________
أن يدّعى التبادر
فيما لو كان المخرج أقلّ ، وهو علامة الحقيقة.
ولا ريب أنّ أهل
العرف يعدّون مثل قول القائل : له عليّ مائة إلّا تسعة وتسعين ، مستهجنا ركيكا ،
لا لأنّه إطالة مملّة ، بل لمخالفته لما بلغهم من الاستعمال.
نعم ، قد يقال ذلك
في موضع السّخرية والتمليح ، بل وكذلك : له عليّ عشرة إلّا تسعة ، فضلا عن قوله :
إلّا تسعة ونصفا ، وثلثا.
وممّا يؤيّد ما
ذكرناه ، أنّ المستثنى في معرض النسيان غالبا ، لقلّته ، وأنّ الغالب الوقوع في
الاستثناء البدائي ، كما هو الغالب في ألسنة العوامّ هو إخراج القليل ، وليس ذلك
إلّا لمطابقته لأصل وضع الاستثناء.
وحينئذ فقد ظهر لك
بحمد الله تعالى أنّ التحقيق هو ما حقّقناه سابقا ، من لزوم بقاء جمع قريب من
المدلول ، وغفلة الأكثرين إنّما حصل من جهة الأمثلة المذكورة ، وقد عرفت أنّ مجرّد
الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة كما هو محطّ نظر الأصولي .
والحاصل ، أنّه لم
يثبت كون الاستثناء حقيقة في غير إخراج الأقلّ ، ولم يثبت جواز التجوّز في
المستثنى منه في غير استعماله في الأكثر كما بيّناه آنفا ، فلا بأس علينا أن نجيب من الأمثلة المذكورة التي استدلّ
بها الأكثرون.
ونقول : يمكن دفع
الأوّل بمنع الدلالة من جهة أنّ ظاهر العامّ قابل لأصناف كثيرة ،
فإخراج صنف منه يكون أفراده أكثر من سائر الأصناف لا يستلزم كون
__________________
نفس الأصناف
الباقية أقلّ . والمقصود هنا إخراج الصّنف ، يعني أفراد صنف خاصّ من حيث
إنّها أفراد ذلك الصّنف الخاص. فظاهر الآية استثناء صنف من الأصناف لا أفراد من
جميع الأفراد ، وأكثريّة الصّنف لا تستلزم أكثريّة الأفراد.
وبالجملة إذا لوحظ
الصّنف الواحد بالنسبة الى العامّ القابل للأصناف ، فهو أقلّ من الباقي ، وإن فرض
كونه بالنسبة الى الأفراد أكثر من الباقي ، وذلك يختلف باختلاف الحيثيّات والاعتبارات
فيه أنّ عموم الجمع أفرادي لا أصنافي.
والذي يؤيّد ما
ذكرنا ، انّ المقصد الأصليّ لله تعالى لمّا كان هو الهداية والرّشاد ، فجعل الغاوين
مخرجا ، جعلا لما ليس موافقا للغرض الأصليّ ، كالقليل الذي لا يعتنى به ، وفي
إبليس بالعكس ، بل ذلك المعنى إنّما يلاحظ بالنسبة الى قابلية العامّ ، لا فعلية
تحقّق الأصناف فيه ، ففي كلّ واحد من الآيتين استثناء أقلّ من الأكثر.
ويوضّح ما بيّنا ،
أن لو فرض أنّك أضفت جماعة من العلماء والشعراء والظرفاء ، وكان عدد كلّ واحد من
العلماء والشعراء ثلاثة ، وعدد الظرفاء مائة ، فإذا قيل : جاء الأضياف إلّا
الظرفاء فيمكن تصحيحه بما ذكرنا ، لأنّ الباقي حينئذ أكثر . وأمّا لو قيل : جاء الأضياف إلّا زيدا وعمرا وبكرا وخالدا
الى آخر المائة من الظرفاء لعدّ قبيحا.
__________________
ودفع الثاني : بأنّ اتفاقهم على إلزام الواحد لا يدلّ على اتّفاقهم على
صحّة الاستثناء أو كونه حقيقة ، فإنّ فتوى الأكثرين لعلّه مبنيّ على تجويزهم ذلك ، وبناء الباقين على أنّ الإقرار عبارة عمّا يفهم منه اشتغال الذمّة بعنوان
النصوصيّة ولو كان بلفظ غلط أو لفظ مجازي ، ولما كان الأصل براءة الذمّة حتى يحصل اليقين بالاشتغال
، فمع قابليّة اللفظ للدلالة على المراد وانفهام المعنى عنه بمعونة المقام ، أو
بسبب التشبيه بالاستثناء مع قرينة واضحة ، لا يحكم باشتغال الذمّة بالعشرة لكون
اللّفظ غلطا . كما انّ في قولهم : له عليّ عشرة إلّا تسعة بالرّفع لا
يحكم باشتغال الذمّة بالعشرة ، لكون الاستثناء غلطا ، بخلاف الاستثناء المستغرق ،
فإنّه لغو بحث فيؤخذ بأوّل الكلام ويترك آخره.
ودفع الثالث : بأنّ المراد ـ والله يعلم ـ لعلّه أنّه : لا يقدر على
الإطعام إلّا أنا ، فكلّكم يبقى على صفة الجوع لو أراد الإطعام من غيري. وهذا معنى
واضح على من كان له ذوق سليم وسليقة مستقيمة ، فلا دلالة فيه على مطلبهم.
إذا تمهّد هذا ،
فنقول : لمّا كان موضوع المسألة في الأقوال المذكورة في المسألة
__________________
مختلفة ، فلا بدّ
من تحرير محلّ النزاع بحيث يصحّ ورود الأقوال عليه ، وذلك لأنّ بعض القائلين
بالحقيقة يريدون كون العامّ مع المخصّص حقيقة في الباقي ، وبعضهم يريدون كون نفس العامّ حقيقة ، وهؤلاء أيضا مختلفون في التقرير.
فلا بدّ أن يقال
في تقرير محلّ النزاع : إنّ لفظ العامّ في هذا التركيب هل استعمل في معنى مجازيّ
أم لا؟
فذهب الأكثرون : الى كون العامّ مجازا في الباقي.
وقيل : حقيقة
مطلقا .
وقيل : حقيقة إن
كان الباقي غير منحصر أي له كثرة يعسر العلم بقدرها ، وإلّا فمجاز.
وقيل : حقيقة إن
خصّص بغير مستقلّ كالشّرط والصّفة والغاية والاستثناء ، ومجاز إن خصّص
بالمستقلّ من عقل أو سمع .
__________________
وظاهر هؤلاء أنّهم
يريدون أنّ مجموع التركيب حقيقة في إرادة الباقي ، وهكذا ما في معناه من التفصيلين
اللّذين بعده ، فلا يكون العامّ بنفسه حقيقة ولا مجازا.
وقيل : حقيقة إن
خصّص بشرط أو استثناء لا صفة وغيرها .
وقيل : حقيقة إن
خصّص بلفظيّ اتّصل أو انفصل .
وقيل : حقيقة في
تناوله ، ومجاز في الاقتصار عليه .
والأوّل أقرب .
لنا : أنّه لو كان حقيقة في الباقي كما كان في الكلّ ، لزم
الاشتراك ، والمفروض خلافه.
__________________
وقد يقال : إنّ إرادة الاستغراق باقية ، فلا يراد به الباقي حتى
يلزم الاشتراك على تقدير كونه حقيقة. فإنّ المراد بقول القائل : أكرم بني تميم
الطّوال ، عند الخصم : أكرم من بني تميم من قد علمت من صفتهم أنّهم الطّوال سواء
عمّهم الطّول أو خصّ بعضهم ، ولذلك نقول : وأمّا القصار منهم فلا تكرمهم ، ويرجع
الضمير الى بني تميم لا الى الطّوال منهم. وكذلك معنى : أكرم بني تميم الى اللّيل
أو إن دخلوا الدّار ، الحكم على جميعهم ، غايته أنّه ليس في جميع الأزمنة في
الأوّل ، وعلى جميع الأحوال في الثاني. وكذا : أكرم بني تميم إلّا الجهّال منهم ،
الحكم على كلّ واحد بشرط اتّصافه بالعلم. وأنت خبير بأنّ ذلك كلّه تكلّفات باردة ،
وتجشّم حمل الهيئة التركيبية على خلاف وضعه مع استلزامه التجوّز في بعض المفردات
أيضا ، ليس بأولى من حمل العامّ فقط على المعنى المجازي. ولا ريب أنّ الهيئة
المفسّرة مغايرة للهيئة المفسّرة وكلّ منهما موضوع لمعنى ، وأوّل معنى قولنا : رأيت أسدا يرمي ، مع قولنا : رأيت شجاعا مثلا
، الى أمر واحد لا يقتضي اتّحادهما ، وكذلك تأدية التراكيب الحقيقية لمعنى واحد لا
يوجب اتّحادها في الدلالة.
وأمّا إرجاع
الضمير الى بني تميم ، فجوابه يظهر ممّا مرّ في قولك : اشتريت الجارية إلّا نصفها.
وأمّا قوله : أكرم
بني تميم الى اللّيل الى آخره ، فهو من غرائب الكلام ، إذ التخصيص هنا ليس متوجّها
الى بني تميم ، بل الى زمان الإكرام المستفاد من
__________________
الإطلاق ، وكذلك :
إن دخلوا ، إن لم يرد به الداخلين منهم.
والمثال المناسب
لتخصيص الغاية : أكرم الناس الى أن يفسقوا أو أن يجهلوا. وغرابة تفسير الاستثناء
بما ذكره لا يحتاج الى البيان.
وما يقال أيضا :
إنّ هذا إنّما يتمّ لو كان اللّفظ مستعملا في الباقى ، أمّا إذا
كان مستعملا في العموم وإرادة الباقي طرأ بعد التخصيص ، بمعنى أنّ الإسناد وقع الى
الباقي بعد إخراج البعض من العامّ ، فلا يلزم الاشتراك ولا المجاز ، فلا يتمّ
الدّليل. فيظهر ضعفه ممّا قدّمناه في المقدّمة الثالثة ، سيّما في المخصّصات المنفصلة ، كما
نقلنا جريان القول فيه عن بعضهم .
وممّا حقّقناه
ثمّة ، يظهر لك أنّه لا يمكن أن يقال أيضا : انّ هذا إنّما يتمّ لو بطل القول بكون
المجموع حقيقة في الباقي ، إذ مقتضاه كون كلّ من المفردات حقيقة في معناه أو عدم كون واحد منها
حقيقة ولا مجازا ، فلا يتمّ القول بكون العامّ مجازا في الباقي.
حجّة القول بكونه
حقيقة في الباقي مطلقا : أنّ اللّفظ كان متناولا له حقيقة بالاتّفاق ، والتناول
باق على ما كان عليه ، لم يتغيّر ، إنّما طرأ عدم تناول الغير.
وأنّ الباقي يسبق
الى الفهم حينئذ ، وذلك دليل الحقيقة .
__________________
والجواب عن الأوّل
: أنّه إن أراد من تناوله حقيقة ثبوت التناول في نفس الأمر ، فهو لا يثبت الحقيقة
المصطلحة المبحوث عنها ، وإن أراد تناولها بعنوان الحقيقة المصطلحة ، فنمنع ذلك
أوّلا قبل التّخصيص إذ المتّصف بالحقيقة هو اللّفظ باعتبار تناوله للجميع لا
للباقي ، وكون الباقي داخلا في المعنى الحقيقي لا يستلزم كون اللّفظ حقيقة فيه ،
لا من جهة أنّ الباقي جزء المجموع وأنّ الدلالة التضمّنيّة ليست بنفس المعنى
الحقيقي ، بل هو تابع له كما صرّح به علماء البيان وجعلوه من الدلالة العقليّة لا الوضعيّة ، حتّى يقال : أنّ الخاصّ ليس بجزء للعامّ ، بل لأنّ دلالة العامّ على
كلّ واحد من الأفراد منفردا ، غير الموضوع له الحقيقي ، بل الموضوع له هو كلّ فرد
بدون قيد الانفراد ولا قيد الاجتماع ، لا بمعنى إرادة كلّ فرد لا بشرط الانضمام
ولا عدمه حتّى يقال : أنّه لا ينافي كونه حقيقة في المنفرد ، بل بمعنى أنّ الوضع
إنّما ثبت في حال إرادة جميع الأفراد بعنوان الكلّي التفصيليّ الأفرادي ، كما
حقّقناه في مبحث استعمال المشترك في معنييه. فافهم ذلك فإنّه لا ينافي ما حقّقناه
سابقا من أنّ دلالة العامّ على أفراده دلالة تامّة.
وممّا ذكرنا ،
يظهر أنّه لا معنى للتمسّك بالاستصحاب ، إذ لم يكن تناول العامّ للباقي في حال تناوله للجميع
بعنوان الحقيقة حتى يستصحب ، بل لأنّه كان تابعا للمدلول الحقيقي وهو الجميع.
ثمّ لو سلّمنا
كونه حقيقة ، فإنّما يثبت ذلك في حال كونه في ضمن الجميع ، وقد
__________________
تغيّر الموضوع.
والجواب عن الثاني
: بالمنع من السّبق بلا قرينة ، وبدونها يسبق العموم ، وسبق الغير علامة
المجاز .
وما يقال : إنّ إرادة الباقي معلومة بدون القرينة ، وإنّما المحتاج
إليها هو خروج غيره.
ففيه : أنّ العلم
بإرادة الباقي إنّما هو لأجل دخوله تحت المراد ، وذلك لا يوجب كونه حقيقة فيه ،
إنّما الذي يقتضي كون اللفظ حقيقة هو سبق المعنى والعلم بإرادته على أنّه نفس
المراد ، ولا يحصل ذلك فيما نحن فيه إلّا بالقرينة ، وهو معنى المجاز.
واحتجّ من قال
بأنّه حقيقة إن بقي غير منحصر : أنّ معنى العموم حقيقة هو كون اللّفظ دالّا على أمر غير منحصر
في عدد .
وأجيب : بمنع كون معناه ذلك ، بل معناه تناوله للجميع وقد صار
الآن لغيره فصار مجازا. مع أنّ الكلام في صيغ العموم لا في نفس العامّ . فكما أنّ كون :
__________________
افعل ، حقيقة في
الوجوب لا يقتضي كون مفهوم الأمر كذلك. وكذلك لا يقتضي كون مفهوم الأمر معتبرا فيه
الإيجاب ، كون صيغة : افعل ، حقيقة في الوجوب ، فهكذا ما نحن فيه. ونظير ذلك أيضا
أنّ كون الهيئة الاستثنائية حقيقة في المنقطع ؛ لا يقتضي كون الاستثناء حقيقة فيه
؛ ليرد أنّه ليس بإخراج ما لولاه لدخل.
احتجّ القائل
بأنّه حقيقة إن خصّ بغير مستقلّ : بأنّ لفظ العامّ حال انضمام المخصّص المتّصل ،
ليس مفيدا للبعض ، أعني ما عدا المخرج بالمخصّص ، لأنّه لو كان كذلك لما بقي شيء
يفيده المخصّص ، فلا يكون مجازا في البعض ، بل المجموع منه ومن المتّصل يفيد البعض
حقيقة.
وفيه : أنّه إن
أراد عدم إفادته البعض بخصوصه بحسب الوضع ، فلا كلام لنا فيه. وإن أراد أنّه لا
يفيد البعض بحسب إرادة اللّافظ فهو ممنوع ، غاية الأمر عدم الإفادة من حيث هو.
وأمّا مع انضمام المخصّص ، فلا ريب في إفادته ذلك كما هو المدار في المجازات ،
وأمّا المخصّص فهو يدلّ على إخراج البعض الآخر أيضا.
وأيضا يرجع هذا الكلام الى اختيار مذهب القاضي في رفع التناقض عن
الهيئة الاستثنائية ، ولفظ العامّ حينئذ إمّا حقيقة في معناه والنسبة الى الباقي وقع بعد الإخراج ، وإمّا أنّه ليس
بحقيقة ولا مجاز إن قلنا بالوضع الجديد ، وقد عرفت بطلانهما سابقا.
واستدلّ أيضا : بأنّه لو كان التقييد بما لا يستقلّ موجبا للتجوّز في
نحو :
__________________
الرّجال المسلمون
، و : أكرم بني تميم إن دخلوا ، و : أكرم الناس إلّا الجهّال ، لكان نحو المسلمون
للجماعة ، والمسلم للجنس أو العهد ، وألف سنة إلّا خمسين عاما مجازات ، واللّوازم
باطلة ، أمّا الأوّلان فإجماعا ، وأمّا الأخير فبالتزام الخصم .
بيان الملازمة : أنّ كلّ واحد من المذكورات يقيّد بقيد هو كالجزء له وقد
صار به لمعنى غير ما وضع له أوّلا ، وهي بدونه للمنقول عنه ، ومعه
للمنقول إليه ، ولا يحتمل غيره ، وقد جعلتم ذلك موجبا للتجوّز ، فالفرق تحكّم.
والتحقيق في
الجواب : أنّك إن أردت أنّ لفظة مسلم في : المسلمون ، والمسلم حقيقة مع تغيير معناه
بسبب القيد فهو ممنوع ، فكيف يدّعى الاتّفاق عليه.
وإن أردت : أنّ
المسلمون حقيقة في الجماعة ، والمسلم في الجنس أو العهد ، فهو إنّما يثبت حقيقة
المركّب من حيث التركيب لا من حيث إنّه حقيقة في معنى مفرد ، وهو خارج على المبحث.
وبيان ذلك ، أنّ
المفردات مختلفة الأوضاع ، كما أشرنا سابقا ، فوضع الأعلام وأسماء الأجناس ونحوها
وضع شخصي ، ووضع الأفعال والمشتقّات والتثنية والجمع ونحوها وضع نوعيّ. كما أنّ
وضع المركّبات كلّها نوعيّة ومنقسمة الى الحقيقة والمجاز كما أشرنا ، وكما أنّ كون
وضع المركّبات حقيقة ، لا ينافي كون بعض مفرداتها مجازا لما ذكرنا في المقدّمة
الأولى ، كذلك كون وضع المفردات النوعيّة حقيقة ، لا ينافي كون بعض أجزائها مجازا.
فكما أنّه لا ينافي كون العامّ
__________________
مستعملا في المعنى
المجازي على ما اخترناه كون الهيئة الاستثنائية حقيقة في الإخراج ، فلا ينافي كون
المراد من مثل : مسلمون ، جماعة من أفراد هذا الجنس ، يعني المسلم.
وبعبارة أخرى ،
المسلم المتحقّق في ضمن أفراد حقيقة ، كون لفظ المسلم في هذه الكلمة مجازا كما لا يخفى. هذا إن
اعتبرنا دلالة الكلمة على الجنس ودلالة علامة الجمع والعهد وتعيين الماهيّة على
مدلولها ، وإن جعلناها كلمة واحدة موضوعة بالاستقلال لمجموع هذا المعنى ، فوجه
الدّفع أنّ الاستدلال قياس مع الفارق ، لكون المقيس عليه كلمة مستقلّة موضوعة بوضع
واحد ، ولم يلاحظ فيها دلالة القيد والمقيّد ، بل وضع مجموع اللّفظ بإزاء مجموع
المعنى ، بخلاف المقيس ، فإنّه أريد من كلّ كلمة منه معنى على حدة.
والقول : بأنّ
المجموع عبارة عن الباقي بعنوان الحقيقة ، فهو مع بطلانه كما بيّنا سابقا لا يلائم
ظاهر الاستدلال من ملاحظة العلّة المستنبطة في قياسه.
والحاصل ، أنّ
المستدلّ إن أراد مقايسة المركّبات المذكورة ، التي هي موضوعة بوضع حقيقي نوعيّ
لمعان مركّبة معهودة في كونها حقيقة في معانيها التركيبيّة الحقيقيّة على المفردات
المشتقّة الموضوعة بالوضع النوعي للمعاني المنحلّة بأجزاء متعدّدة ، مع قطع النظر
عن ملاحظة مفرداتها وأجزائها ؛ فلا ريب أنّه ليس من محلّ النزاع في شيء. وكون كلّ منهما
حقيقة في معانيها ، متّفق عليه.
__________________
وإن أراد مقايسة
بعض أجزائها ، وهي المقيّدات بباقي الأجزاء في كونها حقيقة على أجزاء المفردات
المقيّدة ، فثبوت الحقيقة في المقيس عليه أوّل الدّعوى.
وإن ادّعى في
المفردات وضعا مستقلّا ، فلا مناسبة حينئذ بين المقيس والمقيس عليه ، ولا جامع
بينهما على ما هو ظاهر الاستدلال.
ومن هذا يظهر جواب
من أراد الاستدلال بهذا الدليل على كون العامّ مع المخصّص حقيقة في الباقي ، إذ
الفرق واضح بين المقيس والمقيس عليه حينئذ ، وذلك الوضع لم يثبت في المقيس ، ولا معنى للقياس هنا في
إثبات الوضع ، كما لا يخفى ، فإنّ الوضع لم يثبت حينئذ في المقيس عليه من جهة
اختلاف المعنى بسبب القيد حتّى يقال أنّه موجود في المقيس ، بل بسبب جعل الواضع ،
وهو فيما نحن فيه ، أوّل الكلام.
بقي الكلام في
المثال الأخير وجعله مقيسا عليه ، ووجهه ، أنّ الخصم يفرّق بين أسماء العدد
وغيرها.
والتحقيق في جوابه
: منع الفرق بينهما ، ووجهه ما تقدّم في المقدّمات.
وقد يجاب : بأنّ
الخصم لعلّه يقول في المثال المذكور ، بأنّ المراد بالألف تمام المدلول ، وأنّ
الإخراج وقع قبل الإسناد والحكم.
__________________
وفيه : مع ما عرفت
من فساد هذه الطريقة ، أنّه مبنيّ على الفرق بين أسماء العدد وغيرها في ذلك ، وهو غير ظاهر الوجه والقائل.
وحجّة التفصيل
الثالث : هو الحجّة السّابقة ، واستثناء الصّفة وغيرها لكونها عند
القائل من قبيل المستقلّ.
وكذلك حجّة
التفصيل الرّابع : هو الحجّة السّابقة ، وضعفها غنيّ عن البيان.
وأمّا حجّة القول
الأخير ، وهو قول فخر الدّين ، فقال في «البرهان» : والذي أراه اجتماع جهتي
الحقيقة والمجاز في اللّفظ ، لأنّ تناوله لبقيّة المسمّيات لا تجوّز فيه ، فهو من
هذا الوجه حقيقة في المتناول ، واختصاصه بها وقصوره عمّا عداها ، جهة في التجوّز ، وضعفه ظاهر ممّا مرّ.
__________________
قانون
العامّ المخصّص بمجمل ليس بحجّة اتفاقا ، فإن كان مجملا من جميع الوجوه ، ففي الجميع ، مثل قوله
تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ.) ومثل : اقتلوا المشركين إلّا بعضهم.
وإن كان إجماله في
الجملة ، ففي قدر الإجمال ، مثل : إلّا بعض اليهود ، فلا إجمال في غير اليهود.
وأمّا المخصّص
بمبيّن فالمعروف من مذهب أصحابنا ، الحجيّة في الباقي مطلقا ، ونقل بعض الأصحاب
اتّفاقهم على ذلك .
واختلف العامّة ، فمنهم من قال : بعدم الحجيّة مطلقا.
ومنهم : من خصّ
الحجيّة بما لو كان المخصّص متّصلا .
ومنهم من قال :
بحجيّته في أقلّ الجمع .
ومنهم من قال :
بالحجيّة فيما لو كان العامّ منبئا عن الباقي قبل التخصيص ،
__________________
كالمشركين بالنسبة
الى الحربي ، بخلاف مثل السّارق ، فإنّه لا ينصرف الذّهن منه الى من
يسرق ربع دينار فما فوقها من الحرز.
ومنهم : من خصّ
الحجيّة بما لو كان العامّ قبل التخصيص غير محتاج الى البيان كالمشركين قبل إخراج الذّمي بخلاف : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ ،) قبل إخراج الحائض .
لنا : ظهوره في
إرادة الباقي بحيث لا يتوقّف أهل العرف في فهم ذلك حتّى ينصب قرينة أخرى عليه غير
المخصّص ، ولذلك ترى العقلاء يذمّون عبدا قال له المولى : أكرم من دخل داري ، ثمّ
قال : لا تكرم زيدا ، إذا ترك إكرام غير زيد أيضا.
وأيضا ، العامّ
كان حجّة في الباقي في ضمن الجميع قبل التخصيص ، بمعنى أنّه كان بحيث يجب العمل
على مقتضاه في كلّ واحد من الأفراد ، خرج المخرج بالدّليل ، وبقي الباقي ، فيستصحب
حجّيّته في الباقي.
وأمّا ما ذكره
بعضهم : بأنّه كان متناولا للباقي قبل التخصيص وهو مستصحب.
__________________
فإن أراد التناول
الواقعي ، فهو غلط لعدم العلم به ولزوم البداء في المخصّص. وإن أراد التناول
الظّاهري ، فلا معنى لاستصحاب الظهور. وإن أراد استصحاب حكم التناول الظاهري ، فهو
ما قلنا.
ولنا أيضا : احتجاج السّلف من العلماء وأهل العصمة عليهمالسلام بالعمومات المخصّصة بحيث لا يقبل الإنكار.
وربّما يستدلّ
أيضا : بأنّه لو لم يكن حجّة في الباقي ، لكانت إفادة العامّ لدخول الباقي موقوفة
على إفادته للمخرج ، فلو كانت إفادته للمخرج أيضا متوقّفة على ذلك ، لزم الدّور ،
وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح وهو ضعيف ، لأنّه دور معيّة كالمتضايفين واللّبنتين المتساندتين.
احتجّ المنكر
مطلقا بوجهين :
الأوّل : أنّ
حقيقة العموم غير مراد ، والباقي أحد من المجازات ، فلا يتعيّن الحمل
__________________
عليه لاحتمال
إرادة سائر مراتب الخصوص ، ولا مرجّح ، فيصير مجملا .
والثاني : أنّه
خرج بالتخصيص عن كونه ظاهرا ، وما لا يكون ظاهرا لا يكون حجّة.
والجواب عن الأوّل
: منع الإجمال وعدم المرجّح ، إذ الأقربيّة الى العامّ مرجّح ومدار مباحث الألفاظ
على الظّنون. فكما أنّ التبادر علامة الحقيقة ، فظهور العلاقة علامة تعيين المجاز
، ولذلك لو قيل : رأيت أسدا يرمي ، لتبادر الى الذّهن معنى الشجاع لا البخر. ولا
ريب أنّ العامّ المخصّص سيّما مع ملاحظة عدم ذكر مخصّص آخر معه ، ينصرف منه الباقي
لكونه أقرب الى أصل المدلول.
وكفاك في المرجّح
ما ذكرنا من الأدلّة ، مع أنّ الوقوع في كلام الحكيم أيضا يصرفه عن الإجمال ، لا
بمعنى أنّه لا يقع المجمل في كلام الحكيم أبدا لوقوعه في الجملة كما لا يخفى ، بل
بمعنى أنّ الأصل والقاعدة الناشئة عن الحكمة ، والاعتبار يقتضي عدمه حتّى يثبت
بالدّليل وقوعه ، كحمل كلامه على خلاف الظاهر إذا دلّ الدليل عليه.
والحمل على أقلّ
الجمع كما ذكره القائل به ، وإن كان يدفع الإجمال ، لكنّ الحمل على تمام الباقي
أولي منه لضعف دليله ، لظهور الفرق بين الجمع والعامّ كما مرّ ، ولا قائل
بإرادة غيرهما بالخصوص ، مضافا الى ما سنذكره في بطلان ذلك القول أيضا .
__________________
وممّا ذكرنا ،
يظهر الجواب عن الثاني .
هذا ولكنّ الإشكال
في أنّ مقتضى محلّ النزاع أنّ القول بعدم الحجيّة مطلق ، وهذا الدّليل يقتضي اختصاصه بالقول بكون العامّ المخصوص مجازا
في الباقي ، ولا ينهض على من قال بأنّه حقيقة في الباقي.
وكيف ذلك وكيف
يجتمع هذا مع الكلام في القانون السّابق ، فإنّ الكلام ثمّة يقتضي
حجّيّته في الباقي سواء كان حقيقة أو مجازا ، لأنّ كلّا من الحقيقة والمجاز ظاهر
في معناه ، والكلام هاهنا يقتضي الخلاف في الحجّيّة.
وقد يوجّه هنا
الاستدلال بحيث ينهض على القول بالحقيقة ، بأنّ مراد من قال : إنّ
العامّ المخصّص حقيقة في الباقي ، أنّه حقيقة فيه من حيث إنّه أحد أبعاض العامّ لا
إنّه حقيقة في الباقي من حيث إنّه تمام الباقي ، فحينئذ يقال في الاستدلال : إنّ تمام
الباقي أحد الحقائق ، فلا يحمل عليه بخصوصه.
وردّ : بأنّه لا
يجري على القول بكون المجموع اسما للباقي ، فكما لا يقول أحد : إنّ السّبعة مثلا اسم لهذا العدد فما
دونها ، كذلك لا ينبغي أن يجوّز ذلك في عشرة إلّا ثلاثة. ولا على القول بأنّ
الإسناد وقع بعد الإخراج ، فإنّ المراد بلفظ
__________________
العامّ هو معناه
الحقيقي الأصلي إلّا الباقي فقط ، فهو عين الحقيقة لا أحد الحقائق. ولا على القول
بأنّه حقيقة في الباقي ، لاستصحاب التناول السّابق وعدم منافاة عدم تناول الغير
لتناول الباقي ، فإنّ ظاهره أنّه لم يطرأ عليه شيء إلّا خروج ما أخرجه المخصّص ،
فلا يبقى إلّا تمام الباقي.
وكذا لا يجري على
الدّليل الآخر الذي هو سبق الباقي الى الذّهن ، فإنّه لا معنى لسبق أحد الأبعاض من
دون تعيين ، ولا على القول بكونه حقيقة فيما لو بقي غير منحصر ، لأنّ هذا القول
منهم ليس لأنّه أحد أبعاض العامّ ، كما هو مناط التوجيه في الاستدلال ، بل لأنّه
هو عامّ.
فالظاهر أنّ
النّزاع هنا إنّما هو على القول بمجازيّة لفظ العامّ في الباقي كما هو المختار في
القانون السّابق.
وقول المفصّل
بالمتّصل والمنفصل أيضا مبنيّ على ذلك ، فإنّه مبنيّ على أنّ المخصّص بالمنفصل
مجاز دون المتّصل .
أقول : ولعلّ
التفصيلات الأخر في المسألة أيضا على هذا ناظرة الى ملاحظة مناسبة بعض المجازات
للعامّ دون بعض ، بحسب المقامات ، فإنّ ما أنبأ عن الباقي قبل التخصيص أقوى من غير المنبئ ، وكذلك ما لا يحتاج الى البيان أقوى ممّا
يحتاج إليه.
ونظر من قال
بالحجيّة في أقلّ الجمع ، هو أنّ أقلّ الجمع هو المتيقّن من بين
__________________
المجازات ، يعني
جميع أفراد الباقي ، والزّائد مشكوك فيه.
فصار حاصل الردّ :
أنّا إن قلنا بأنّ العامّ لم يستعمل في معنى مجازي وبنينا على القول بالحقيقة في
القانون السّابق ، فلا مناص عن الحجيّة ، وإن قلنا بالمجازيّة فيجيء فيه هذا
الخلاف المذكور في هذا القانون.
وبما ذكر يندفع
المنافاة المتوهّمة بين الأصلين أيضا.
وأقول : الإنصاف
أنّ ما ذكر في الترديد لا يدفع التوجيه المذكور ، لأنّ مراد من يقول بأنّه حقيقة
في الباقي أنّه حقيقة فيما لم يخرج عن حكم العامّ ، فلو فرض تخصيص تمام الباقي ،
مرّة أخرى وكرّة بعد أولى ، بل وكرّات متعدّدة ، ولم نطّلع إلّا على التخصيص
الأوّل ، فاحتمال التخصيصات حاصل عند السّامع.
ولا ريب أنّ
القائل بكونه حقيقة في الباقي ، يقول بالحقيقة في المرّة الأخيرة أيضا ، كما هو
مقتضى دليله.
فالمراد بالباقي
ما لم يثبت خروجه بهذا التخصيص وإن احتمل خروجه عنه بتخصيص آخر ، وحينئذ فالعامّ
محتمل لحقائق متعدّدة ، فإذا قامت القرينة على عدم إرادة الجميع ، فيتساوى احتمال
سائر الحقائق ، ويتمّ الدّليل ، إذ الكلام في هذا المقام بعد تسليم تصحيح هذا
القسم من الحقيقة ، فيصير ذلك نظير إطلاق العامّ المنطقي على أفراده من حيث وجوده
في ضمن كلّ واحد ، لا من حيث الخصوص.
وبعد تسليم ذلك ، فمنع جريان الاستدلال مكابرة ، فيتمّ الكلام فيه مثل
__________________
القول بالمجازيّة
حرفا بحرف.
وممّا ذكرنا ، تقدر بعد التأمّل على إجراء الدّليل على جميع الأقوال في
الحقيقة ، فإنّ مراد من قال : إنّ عشرة إلّا ثلاثة اسم للسّبعة ، لعلّة كون
المستثنى والمستثنى منه اسما للباقي ، وذكر السّبعة بعنوان المثال.
وسيجيء الكلام
السّابق في الباقي ، من أنّه يحتمل مراتب متعدّدة كلّها معنى حقيقي لمجموع التركيب
على قول هذا القائل ، وكذلك الكلام على القول بكونه حقيقة في غير المحصور ، لأنّ
لغير المحصور أيضا مراتب متعدّدة كلّها معنى حقيقي للعامّ على قول هذا القائل.
نعم ، يخدش في ذلك
، أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما كان أفراد العامّ غير محصور واحتمل التخصيص مراتب
متعدّدة منه.
وأمّا على القول
بكون الإسناد الى الباقي بعد الإخراج ، فأنّت بعد التأمّل فيما ذكرنا في بطلان هذا
القول ، تعلم أنّ الكلام في الحجّيّة ، وعدم الحجّيّة إنّما يرجع الى الحكم
والإسناد المتعلّق باللّفظ ، وقد فرض أنّه ليس إلّا بالنسبة الى الباقي ، والتخصيص
لم يتحقّق فيه بالنسبة الى لفظ العامّ ، بل إنّما تحقّق بالنسبة الى الإسناد والحكم
، فإذا خصّ الإسناد بغير القدر المخرج ، فهو يحتمل المراتب المتعدّدة ، ويجري فيه
الكلام السّابق.
وممّا ذكرنا ، يظهر اندفاع المنافاة بين الأصلين أيضا ، إذ الحقيقة
والمجاز
__________________
لا يستلزمان
الظهور والحجّيّة في جميع الأحوال ، بل إنّما هو إذا لم يطرأهما إجمال ، فقد يحتاج
الحقيقة الى القرينة كما في المشترك ، وكذلك المجاز إذا تعدّدت المجازات ، بل
وكذلك المشترك المعنوي إذا أريد منه فرد معيّن ، فإنّ معرفة أنّ المراد ب : رجل في
قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هو الحبيب النجّار يحتاج الى القرينة ، مع أنّه حقيقة على
الظاهر كما بيّناه في مباحث الأوامر.
وقد يقال : إنّ
الكلام في القانون السّابق إنّما هو بعد تسليم الحجّيّة ، فلا منافاة ، وهو أيضا باطل. وممّا ينادي ببطلانه بناء استدلالهم على
عدم الحجّيّة في هذا الأصل بتعدّد المجازات وإجمالها ، وهو موقوف على كون
المجازيّة مفروغا عنها في هذا القانون ، فكيف يختلفون بعد ذلك في الحقيقة والمجاز؟ مع أنّه كان ينبغي حينئذ تقديم هذا
القانون على السّابق ، وكتب الأصول التي حضرتنا الآن كلّها متّفقة في تقديم
القانون السّابق على هذا.
قيل : والحق ، أنّ الخلاف فيما سبق مبنيّ على فرض إرادة الباقي ، وأمّا
ظهوره فغير لازم ، والقائل بكونه حقيقة ، يلزمه ظهوره ، والقائل بكونه مجازا على
خلافه ، إذ المجاز قد يكون ظاهرا وقد يكون غيره ، وقس عليه التفصيل ، فتأمّل.
__________________
أقول : ويظهر ما
فيه بالتأمّل فيما قدّمناه ، إذ لو بنينا على التحقيق واقتفاء الدّليل ، فالحقّ
أنّ الحقيقة والمجاز كليهما ظاهران في معناهما إذا اتّحدا ، وتعيّن القرينة على
كلّ منهما فيما احتاج إليه على فرض الاشتراك أو تعدّد المجاز ، وقد بيّنا لك سابقا
بطلان الحقيقة ، وتعيّن المجاز في تمام الباقي ، واحتمال إرادة ما دون تمام الباقي
، خلاف الظّاهر ولا يصار إليه ، فلو أعرضنا عن التحقيق ، وتماشينا مع الخصم في
تصحيح الحمل على الحقيقة ، فلا يتفاوت الكلام في هذا القانون على القولين ، فتأمّل.
ويؤيّد ما ذكرنا ،
استدلالهم الثاني ، فإنّه لو لم يكن ناظرا الى احتمال الحقيقة ، لرجع الى الدّليل
الأوّل ولكان تكراره لغوا ، إذ الإجمال من جهة تعدّد المجاز أخصّ من عدم الظّهور ،
فإنّه أعمّ من أن يكون من تلك الجهة ، أو من جهة احتمال الحقائق ، فحينئذ يصير
العامّ في محتملات الباقي على القول بالحقيقة ، مثل النّكرة التي أريد بها فرد
معيّن عند المتكلّم غير معيّن عند المخاطب ، مثل قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ.) وكذلك كلّ أدلّة القائلين بالحجيّة قابلة للقولين ، من دعوى الظهور ولزوم الذّمّ واستصحاب التناول ، وغيرها كما بيّناها ، بل
بعضها في الدلالة على القول بالحقيقة أظهر.
__________________
ثمّ إنّ هاهنا
أمرا لا بدّ أن ينبّه عليه ، وهو أنّ ظاهر كلام المستدلّ في أقلّ الجمع ، أنّ محلّ
النزاع فيما وكل المتكلّم تعيين أفراد المخرج والباقي الى المخاطب ، كما لو قال :
كل البيضات إلّا ثلاثة منها ، ونحو ذلك.
وعلى هذا يلزم على
القول بجواز التخصيص الى الواحد أن يكون العامّ حجّة في الواحد ، لأنّه المتيقّن
أيضا ، ولم يستثنه المستدلّ وعمّم في الإجمال.
ولعلّ نظر
المستدلّ في ذلك إنّما هو الصحيح ، لا نظر القائل بالحجّيّة في أقلّ
الجمع ، فإنّ الغالب الوقوع في كلام الحكيم في التخصيصات ملاحظة التعيّنات في
الأحكام ، ولا بدّ أن يكون مراد من يجوّز التخصيص الى الواحد في القانون المتقدّم
أيضا التخصيص الى واحد معيّن عند المتكلّم ، لا أيّ واحد يكون. وكذلك أقلّ الجمع
عند القائل به ثمّة ، مثلا قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.) قد تعلّق الإخراج عن نفي التحريم بهذه الثلاثة بخصوصها ،
وكذلك : (إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ،) فإذا ورد النصّ بحرمة لحم الأسد ولحم الكلب ، فيجب الإخراج
أيضا وهكذا.
وكما أنّ الحرمة
تتعلّق بالمخرج بخصوصه ، فكذلك نفي الحرمة لا بدّ أن يتعلّق بالباقي بتعيّنه ، فلا
بدّ أن يكون الباقي متعيّنا سواء كان واحدا خاصّا أو أقلّ جمع خاصّ.
__________________
والى ما ذكرنا ، ينظر الكلام السّابق على الاستدلال وإجرائه على القول
بالحقيقة أيضا كما نبّهنا عليه ، وسيجيء في القانون الآتي أيضا إشارة الى ذلك.
وممّا ذكرنا ،
يظهر لك ضعف ما قد يعارض أقربيّة المجاز المرجّحة للحجّيّة في تمام الباقي على ما
ذكرنا ، بتيقّن إرادة الواحد وأقلّ الجمع ، وكذلك ضعف هذه المعارضة في بيان عدم
جواز التخصيص إلّا بإرادة جمع يقرب من المدلول ، كما أشرنا إليه في محلّه.
هذا ، ولكنّي لم
أقف في كلماتهم تنبيها على ما ذكرنا ، فإنّهم ذكروا حجّة المفصّل بالحجّيّة في
أقلّ الجمع دون غيره كما ذكرنا ، ولم يتعرّضوا لما فيه ، فلا بدّ لهم أن يجيبوا
عنه : بأنّ تيقّن الأقلّ إنّما يفيد الحجّيّة إذا تعيّن ، فلا ثمرة لهذا الكلام ،
وإن اعتمد المفصّل في التعيين على قرينة أخرى ، فهذا ليس من حجّيّة العامّ في
الباقي في شيء كما لا يخفى ، بل الحجّيّة حينئذ إنّما ثبت في العام مع القرينة المذكورة.
تنبيه
قد عرفت أنّ المخصّص المتّصل هو
الاستثناء المتّصل والغاية والشرط
والصّفة وبدل البعض. ولا يخفى أنّ المخرج في الاستثناء والغاية هو المذكور بعد
أداتهما ، وفي الباقيات هو الغير المذكور ، فالباقي في قولنا : أكرم الناس إلّا
الجهّال ، هو الناس العلماء ، وفي : أكرم العلماء الى أن يفسقوا ، هو غير من فسق
من العلماء.
__________________
والمخرج في : أكرم
العلماء إن كانوا صلحاء ، هو غير الصالحين منهم ، وفي : أكرم الرّجال المسلمين ،
هو غير المسلمين من الرّجال ، وفي : أكرم العلماء شعراءهم هو غير الشعراء منهم.
وأنت بعد ذلك خبير
بطريق إجراء الكلام في المباحث السّابقة فيها ، من بيان مورد الحقيقة والمجاز
والحجيّة وعدم الحجيّة وغيرها ، وتميّز المختار والمزيّف.
قانون
الحقّ ، موافقا للأكثرين
حتى ادّعى عليه
جمع منهم الإجماع ، عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص على المخصّص.
وقيل : يجوز .
وعلى المختار ،
فالحقّ الاكتفاء بالظنّ .
وقيل : يجب تحصيل القطع.
ولا بدّ في تحرير
محلّ النزاع وتحقيق المقام من تمهيد مقدّمة ينكشف بملاحظتها غواشي الأوهام ، وهي :
إنّ الفرق الواضح حاصل بين حالنا وحال أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام في طريق فهم الأحكام ومعرفتها وأخذها منهم عليهمالسلام ومن أحاديثهم ، لأنّهم كانوا مشافهين لهم ومخاطبين بخطابهم
، وعارفين بمصطلحهم ، واجدين للقرائن الحاليّة والمقاليّة ، عالمين لبعض الأحكام
من الضّرورة والبداهة ، آخذين ما لا يعلمونه من كلماتهم.
وكانوا قد يعلمون
العموم ويشتبه عليهم الخصوصية في بعض الموارد ويسألون
__________________
عنه ، وقد يعلمون
الخصوص من الخارج وأنّه مخالف لباقي الأفراد ، ويعرفون أنّ المراد من العامّ هو
الباقي بقرينة ما سمعوه أو بقرينة المقام ، وأكثرهم كانوا محتاجين حين السّؤال ،
فمكالمة المعصوم عليهالسلام معهم لا بدّ أن يكون معهم بحيث يفهمون ولا يؤخّر بيانه عن
وقت حاجتهم ، فيجب عليهم العمل على العامّ والمطلق إذا سمعوه بدون التخصيص ،
فربّما كان الوقت يقتضي التعميم له والتخصيص لآخر ، وربّما كان يتفاوت الحال من أجل التقيّة وغيرها.
وإن شئت توضيح
الحال فقايسهم بالمقلّد السّائل عن مجتهده في هذا الزّمان.
وأمّا نقلهم
الأخبار الى آخرين في زمانهم وعملهم عليه ، فهو أيضا لا يشبه الأخبار الموجودة
عندنا ، فإنّه كان أسباب الاختلال والاشتباه قليلا ، ألا ترى إنّهم كانوا يستشكلون
فيما لو ورد عليهم أخبار مختلفة من أصحابهم ، وكانوا يسألون عن أئمّتهم عليهمالسلام في ذلك ويجيبون بالعلاج بالرّجوع الى موافقة الكتاب أو
السنّة أو مخالفة العامّة أو الشّهرة أو غير ذلك ، ثمّ التخيير أو الاحتياط ، وهو بعينه مثل الخبر المنقول في زماننا عن مجتهد بعيد
عنّا ، أو أخبار منقولة متخالفة عنه.
وبالجملة ، انحصر
أمرنا في هذا الزّمان في الرّجوع الى كتب الأحاديث الموجودة بيننا ، ولا ريب أنّ
المتعارضات فيها في غاية الكثرة ، بل لا يوجد فيها
__________________
خبر بلا معارض
إلّا في غاية النّدرة ، فكيف يقاس هذا بخبر ينقله الثّقة عن إمامه بلا واسطة الى
أهله أو الى بلد آخر مع عدم علم المستمع بمعارض له ، ولا ظنّ بذلك مع اتّحاد
الاصطلاح وقلّة أسباب الاختلال ، وإنّما عرض الاختلالات بسبب طول الزّمان وكثرة
تداولها بالأيدي ، سيّما أيدي الكذّابة وأهل الرّيبة والمعاندين للأئمة عليهمالسلام ، فأدرجوا فيها ما ليس منهم . فنحن في الأخبار التي وصلت إلينا في وجوه من الاختلال من
جهة العلم بالصّدور عنهم وعدمه ، ومن جهة جواز العمل بخبر الواحد الظنّي وعدمه ،
وكذلك في اشتراط العدالة ، وتحقيق معنى العدالة ومعرفة حصولها في الرّاوي ، وكيفية
الحصول من تزكية عدل أو عدلين ، ومن جهة الاختلال في المتن من جهة النّقل بالمعنى
مرّة أو مرارا مختلفة ، واحتمال السّقط والتحريف والتبديل وحصول التّقطيع فيها
__________________
الموجبة لتفاوت الحال من جهة السّند والدلالة ، ومن جهة الاختلال
في الدلالة ، بسبب تفاوت العرف والاصطلاح ، وخفاء القرائن وحصول المعارضات اليقينيّة ،
والإشكال في جهة العلاج من جهة اختلاف النصوص الواردة في التعارض ، وأنّ التكليف
اليقيني الثابت بالضّرورة من الدّين ، لا بدّ من تحصيل معرفته من
وجه يرضى به صاحب الشّرع وسبيل العلم به منسدّ غالبا ، وليس لنا وجه وسبيل في ذلك
إلّا الرجوع الى الأدلّة المتعارفة ، والكتاب العزيز لا يستفاد منه إلّا أقلّ قليل
من الأحكام ، مع اختلال وإشكال في كيفيّة الدّلالة في أكثرها ، والإجماع اليقينيّ
نادر الحصول ، وكذلك الخبر المتواتر ، والاستصحاب لا يفيد إلّا الظنّ ، والأخبار
مع أنّها لا تفيد إلّا الظنّ ، متخالفة ومتعارضة في غاية الاختلاف والتعارض ، بل
الاختلاف حاصل بينها وبين سائر الأدلّة أيضا ، بل الاختلاف موجود بين جميع الأدلة
، ولا بدّ في الاعتماد على شيء منها على بيان مرجّح لئلّا يلزم ترجيح المرجوح أو
المساوي.
والقول بالتخيير
مطلقا أو الأخذ بأحد الطرفين من باب التسليم ، إنّما يتمّ مع
__________________
العجز عن الترجيح
، كما هو منصوص عليه في الأخبار ، مدلول عليه بالاعتبار ، فالأخذ بكلّ ما رأيناه
أوّلا من حديث أو ظاهر آية أو استصحاب مع وجود الظنّ الغالب بوجود المعارض ،
مجازفة من القول ، إذ يلزم على هذا التخيير في العمل مطلقا ورأسا ، وهو باطل جزما.
وبالجملة ، الذي
نجزم به ويمكن أن نعتقده بعد ثبوت العجز عن تحصيل العلم وسدّ بابه ، هو استخراج
الحكم عن هذه الأدلّة في الجملة ، بمعنى أنّه يمكن الاعتماد على ما حصل الظنّ
بحقيقته من جملتها ، لا الاعتماد على كلّ واحد منها. والأصل حرمة العمل بالظنّ إلّا
ما قام عليه الدّليل ، ولم يقم إلّا على هذا القدر ، مع أنّا لو قلنا أنّه يجوز
لكلّ من رأى حديثا أو فهم استصحابا أن يعمل عليه ، وكذلك سائر الأدلّة ، فيصير
الفقه حينئذ من باب الهرج والمرج ، ولا يكاد ينتظم له نسق .
فإن قلت : إنّك
قائل بأنّ الخبر الصّحيح من باب الخبر الواحد حجّة مثلا ، فإذا رأينا حديثا صحيحا
نعمل عليه لأنّ الأصل عدم المعارض ، ولا علم لنا بوجوده فيه بخصوصه ، وهكذا في
غيره .
قلت : إجراء الأصل
مع وجود العلم بوجود المعارضات غالبا لا معنى له.
فإن قلت : العلم
بوجود المعارضات إنّما هو في الجملة ، وليس في خصوص هذا الحديث.
قلت : إنّ هذا
يصير من باب الشّبهة المحصورة التي حكموا بوجوب الاجتناب عنها ، مع أنّا لو قلنا
بجواز الارتكاب في الشبهة المحصورة أيضا الى أن يلزم منه
__________________
العمل بالحرام ،
لا يتمّ الكلام هنا ، لأنّ فتح باب الرخصة في ذلك لآحاد المكلّفين يقتضي تجويز
الارتكاب في الجميع ، فأين اعتبار ملاحظة المعارض مع أنّ الغالب في ذلك هو
التعارض ، وخبر لم يوجد له معارض لمن أنس بطريقة الاستنباط في غاية النّدرة ، وإن
كان في أوّل أمره.
والحاصل ، أنّ
المجتهد إذا علم أنّ دليل الحكم إنّما هو في جملة هذه الأدلّة المتعارضة
[المتخالفة] المختلفة ، لا نفس كلّ واحد منها ، فلا بدّ من البحث عن المعارض حتّى
يعرف أنّ العمل بأيّها هو الرّاجح في ظنّه ، لئلّا يكون مؤثرا للمرجوح ، ولئلّا
يكون تاركا للأخبار المستفيضة الواردة بالعلاج والترجيح فيما لو كان الخبران
متخالفين ، إذ العلم بوجود الخبرين المتعارضين في جملة تلك الأخبار حاصل لنا ويجب
علينا علاجه ، وعدم العلم بالفعل بأنّ هذا الخبر الذي رآه أوّلا هل هو من هذا
الباب أم لا ، لا يوجب العلم بعدم ذلك ، لأنّ ورود الخبرين المتعارضين صادق على ما
ورد علينا في جملة الأدلّة مع إمكان معرفتهما بعينهما.
وممّا ذكرنا ،
يظهر أنّه لا يمكن التمسّك بأصالة عدم المعارض في كلّ رواية ، إذ المفروض أنّ
أحاديثنا مشتملة على الحديث الذي له معارض والحديث الذي لا معارض له ، وكون الأصل
عدم كون الحديث الذي نراه أوّلا هو ما لا معارض له ، ليس بأولى من كونه هو الذي له
معارض ، فيجب إجراء حكم كلّ من الصّنفين
__________________
فيه ، وهو لا يتمّ
إلّا بعد البحث والفحص.
وحاصل المقام ،
أنّ حجّة الله على العباد منحصر في النّبي صلىاللهعليهوآله والوصيّ عليهالسلام ، وبعد العجز عن الوصول إليهما وبقاء التكليف ، فلا دليل
على جواز الاعتماد إلّا على ظنّ من استفرغ وسعه في تحصيل الظنّ من جهة الأدلّة
المنسوبة إليهم ، ولا يمكن ذلك إلّا بعد الفحص عن المعارضات والاعتماد على
الترجيحات ، وسيأتي الكلام في كفاية الظنّ وعدم وجوب تحصيل العلم عليه.
إذا تمهّد هذا
فنقول : إنّ العامّ المتنازع فيه واحد من الأدلّة ، واحتمال وجود المعارض أعمّ من
المناقض الرّافع لجميع حكمه أو المخصّص الرّافع لبعضه. ولمّا كان الغالب في
العمومات التخصيص حتّى قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، فقوي احتمال وجود المعارض
هنا ، فصار مظنونا ، فصار ذلك أولى بوجوب الفحص عن المعارض عن سائر الأدلّة.
وشبهة من لا يقول
بوجوب الفحص عن المخصّص في العامّ ، هو أنّه لو وجب طلب المخصّص في التمسّك بالعام
، لوجب طلب المجاز في التمسّك بالحقيقة ، إذ احتمال إرادة خلاف الظاهر ولزوم
الوقوع في الخطأ بالعمل على الظاهر قائم فيهما ، ولا يجب ذلك في الحقيقة اتّفاقا ،
وبدلالة قضاء العرف بذلك ، فكذلك العامّ.
__________________
وفيه أوّلا : أنّه
إن أراد أنّه لا يجب التفحّص عن الحقيقة أصلا ، بمعنى أنّه إذا ورد حديث يدلّ على
فعل شيء بعنوان الوجوب ولكن احتمل احتمالا راجحا وجود حديث آخر يدلّ على أنّ
المراد بالأمر في الحديث الأوّل الاستحباب ، فهو في الحقيقة احتمال المعارض ، فلا
معنى لعدم وجوب البحث عنه ، فكيف يدّعي عليه الاتّفاق.
وإن أراد أنّه لا
يجب في الحقيقة طلب المجاز إذا لم يكن هنا ظنّ بوجود المعارض من الأدلّة ، بل ولا
احتمال له ، بمعنى أن يتفحّص لاحتمال قيام قرينة حاليّة أو مقاليّة دلّت على إرادة
المعنى المجازي من الكلمة ، فهو صحيح ومسلّم في العامّ أيضا من هذه الجهة. فإنّا
لا نتفحّص في العامّ عن المخصّص ، لاحتمال أن يكون المراد معناه المجازي ، بل لأنّ
وجود دليل خاصّ يرفع أحكام بعض أفراد العامّ ؛ محتمل أو مظنون ، وإن آل ذلك الى حصول التجوّز في العامّ بعد
ظهوره ، فتداخل البحثين لا يوجب كون كلّ منهما مقصودا بالذّات ، ولمّا كان العامّ
من جملة الأدلّة أكثر احتمالا لوجود المعارض ، خصّوه بالبحث دون سائر الأدلّة.
وثانيا : على فرض
تسليم كون البحث عن العامّ من جهة دلالة اللّفظ وحقيقته والاحتراز عن التجوّز ،
ولكن نقول : إنّ الاتّفاق الذي ذكره المستدلّ هو الفارق بين أنواع الحقائق لعدم
تحقّقه فيما نحن فيه ، بل تحقّق خلافه ، فقد ادّعى جمع من المحقّقين الإجماع على
وجوب الفحص ، فحصل الفارق وبطل القياس ، مع أنّ
__________________
الفارق موجود بوجه
آخر ، وهو تفاوت الحقائق في الظهور ، ألا ترى إنّهم اختلفوا في ترجيح المجاز
المشهور على الحقيقة.
فنقول هنا : إنّ
استعمال العامّ في معناه المجازي بلغ حدّ الاشتهار الى أن قيل : ما من عامّ ...
الخ ، بخلاف سائر الحقائق ، فإن لم نقل بترجيح المجاز المشهور ، فلا أقلّ من
التوقّف ، فالغلبة مرجّحة للتجوّز وأصالة الحقيقة وعدم التّخصيص للحقيقة ، فيصير
مجملا فيحتاج الى الفحص ، بخلاف سائر الحقائق ، فإنّ الغلبة ليس فيها الى هذا
الحدّ ، بل أكثر الألفاظ محمول على الحقائق.
وما يقال : إنّ أكثر كلام العرب مجازات فهو إغراق ليس على حقيقته.
وممّا يوضّح ما
ذكرنا أنّه لا يجب الفحص عن احتمال سائر المجازات في العامّ أيضا كما إذا احتمل
إطلاق العامّ على شخص باعتبار جامعيّته ، جميع أوصاف أفراد العامّ ، فإذا قيل :
جاء العلماء ، فيحتمل أن يراد منه زيد باعتبار أنّ علمه مساو لعلم كلّهم بعلاقة
المشابهة ، ويحتمل أن يراد منه أمرهم أو حكمهم أو نوّابهم بعلاقة المجاورة أو
التعلّق ونحو ذلك ، بل نحمله على حقيقته من هذه الجهة ، بخلاف احتمال جهة التخصيص
بإرادة بعضهم دون البعض ، وكأنّه غفل من غفل في هذا الأصل من جهة الغفلة عن تفاوت
المجازات أو عن أنّ الكلام في الفحص عن المعارض من حيث إنّه معارض لا في طلب المجاز من حيث إنّه طلب المجاز ،
__________________
وقد عرفت إمكان
اجتماع الحيثيّات وافتراقها ، فتأمّل فيما ذكرنا بعين الإنصاف تجده حقيقا بالقبول.
وأمّا الدّليل على
كفاية الظنّ بعدم وجود المخصّص بعد الفحص ، فهو الدليل على كفاية الظنّ في مطلق
معارضات الأدلّة ، وهو أنّ ضرورة بقاء التكليف وعدم السّبيل الى تحصيل الأحكام
الواقعيّة بعنوان اليقين يفيد جواز العمل به وإن فرض إمكان الوصول إليه في بعضها ، لأنّ الحكم الذي يمكن أن يحصل فيه العلم ، إن كان مركّبا
أو كان جزء للعبادات المركّبة ، فتحصيل العلم بالجزء ليس تحصيلا للعلم بالكلّ ،
وما بعضه ظنّي فكلّه ليس بعلميّ جزما ، كما هو واضح ، وتحصيل العلم بالكلّ في غاية
البعد وإن كان بسيطا أو كان هو نفس المركّب أيضا ، فاستفراغ الوسع في تحصيله إنّما
يمكن بعد تتبّع جميع الأدلّة ، وهو مستغرق للأوقات غالبا ، مفوّت للمقصود ، مع
أنّه عسر عظيم وحرج شديد ، وهما منفيّان في الدّين بالإجماع والآيات والأخبار ،
فثبت كفاية العمل بالظنّ مطلقا .
فنقول فيما نحن
فيه : إنّ العلم بعدم المخصّص في العامّ غير ممكن غالبا ، وتحصيل ما يمكن العلم
فيه مستلزم لتفويت العمل بأكثر العمومات.
وبهذا التقرير ، يندفع ما قد يتوهّم أنّ ذلك يقتضي جواز العمل بالظنّ في
__________________
البعض دون البعض ،
وأنّ العمل بالظنّ إنّما هو فيما إذا لم يمكن تحصيل القطع ، وهو مخالف لما هو
المعهود من طريقتهم في الفقه من جواز العمل بالظنّ وإن أمكن تحصيل العلم في بعض
الأحكام أيضا ، فإنّ المراد في هذا الاستدلال أنّ العمل بالظنّ في الكلّ إنّما هو
لأجل أنّ تحصيل العلم فيما يمكن فيه من الصّور النادرة يوجب تفويت العمل بالأكثر
والعسر والحرج ، لا انّه لا يجوز العمل بالظنّ إلّا فيما لا يمكن القطع.
وأمّا ما يمكن أن
يوجّه للقول بلزوم تحصيل القطع بعدم المخصّص في العمل على العامّ ، فهو أنّ العمل
بالظنّ مشروط بعدم إمكان تحصيل اليقين ، وهو ممكن ، لأنّ ما يعمّ البحث فيه وكان ممّا يبتلى به عموما ، فالعادة تقتضي باطلاع الباحثين
عليه وتنصيصهم على وجوده وعدمه.
وأمّا الذي ليس
بهذه المثابة فالمجتهد بعد البحث يحصل له القطع بذلك ، إذ لو كان مخصّص لذكروه.
وفيه مع ما فيه من
منع حصول القطع في المقامين ، إذ غاية الأمر عدم الوجدان وهو لا يدلّ على عدم الوجود.
إنّ اشتراط العمل بالظنّ بعدم إمكان تحصيل اليقين لا دليل عليه ، إذ اليقين بحكم
الله الواقعي لا يحصل بالقطع بعدم المخصّص ، إذ عدم المخصّص لو سلّم القطع به في
نفس الأمر أيضا ، فكيف يحصل القطع بأنّ المراد من العامّ هو جميع الأفراد ، بل
لعلّه كان في مقام الخطاب قرينة
__________________
حاليّة أفهمت
إرادة البعض مجازا ، مع ما في سند العامّ ودلالته من غير جهة العموم والخصوص أيضا
وجوه من الاحتمال تمنع عن القطع بحكم الله تعالى الواقعي. وهكذا الكلام في سائر
الأدلّة بالنسبة الى المعارض.
وبالجملة ، وجود
المعارض وعدمه ، أحد أسباب الخلل كما أشرنا سابقا . فدعوى أنّه بعد حصول القطع بعدم المعارض والمخصّص يحصل
القطع بحكم الله ، جزاف من القول ، وإمكان سدّ جميع الخلل في المتن والسّند وسائر
كيفيّات الدّلالة لم نر الى الآن سبيلا الى التمكّن عنه. ودعوى اشتراط قطعيّة بعض
مقدّمات الدّليل إذا أمكن مع عدم إفادة الدليل إلّا الظنّ ، ترجيح بلا مرجّح.
فإن قلت : إنّ ما
ذكرت يوجب الاكتفاء بمطلق الظّواهر في حكم الله الظّاهري ، فلا يجب البحث عن
المعارض أصلا فضلا عن تحصيل القطع.
قلت : إنّ المراد
من الظّاهر هو الرّاجح الدلالة ، المرجوح خلافه ، وبعد ملاحظة احتمال المعارض
احتمالا راجحا لا يبقى ظهور في دلالته.
نعم ، الظّواهر في
نفسها مع قطع النظر عن احتمال المعارض لها ظهور في مدلولاتها ، هو لا يكفي لنا.
نعم إنّما هو يكفي
لأصحاب الأئمة عليهمالسلام والحاضرين مجلس الخطاب ومن قاربهم وشابههم.
فدليلنا على
المطلوب ، هو ما يظهر من ملاحظة مجموع الأدلّة بعد البحث والفحص ، لا كلّ واحد
ممّا يمكن أن يصير دليلا ، ولكن لا يجب في الحكم بذلك الظهور القطع بعدم المعارض ،
بل يكفي الظنّ.
__________________
ثمّ إنّ بعض أفاضل
المتأخرين خبط خبطا عظيما ، وتبعه بعض أفاضل من تأخّر عنه ، وهو أنّه منع عن لزوم تحصيل القطع والظنّ كليهما في طلب
المعارض في جميع الأدلّة سواء كان العامّ أو غيره ، واستدلّ على ذلك بوجوه :
الأوّل :
انّ أحدا من المنازعين والمباحثين في
المسائل من أصحاب الأئمة
والتابعين لم يطلب في المسألة التوقّف من صاحبه حتى يبحث وينقّب عن المعارض
والمخصّص ، بل سكت أو تلقّى بالقبول ، وإلّا لنقل إلينا فصار إجماعا على عدم البحث
عن المخصّص والمعارض.
وزاد بعضهم على ذلك أيضا وقال : وأيضا الأصول الأربع مائة لم تكن
موجودة عند أكثر أصحاب الأئمة عليهمالسلام ، بل كان عند بعضهم واحد وعند الآخر اثنان أو الثلاثة
وهكذا ، والأئمّة عليهمالسلام كانوا يعلمون بأنّ كلّا منهم يعمل في الأغلب بما عنده ولا
يتمّ البحث عن المخصّص إلّا بتحصيل جميعها ، فلو كان واجبا لأمرهم الأئمة عليهمالسلام بتحصيل الكلّ ، ونهوهم عن العمل ببعضها.
والجواب عن الأوّل
: بعد تسليم هذه الدّعوى يظهر ممّا مرّ ، من التفاوت الظّاهر بين زماننا وزمان
الأئمة عليهمالسلام. وهذا الكلام يجري في خطاب الأئمة عليهمالسلام مع أصحابهم أيضا ، حيث لم يسأل الأصحاب عنهم عليهمالسلام عن المخصّص ، وقرّروهم على معتقدهم من العموم.
__________________
ونزيد توضيحا
ونقول : إنّ الاستدلال بالعموم غالبا ليس في جميع الأفراد ، وكذلك خطاب الأئمّة عليهمالسلام بالنسبة الى أصحابهم ، فإنّه قد يكون الحاضر في ذهن
الأصحاب هو طائفة من أفراد العامّ المطابق لخطاب الإمام عليهالسلام وكان ذلك موضع حاجته وبيّن الخصوص في موضع آخر.
وكذلك المنازعين
والمباحثين كان نزاعهم في طائفة من أفراد العامّ وكانوا غافلين عن العامّ ،
فباستدلال صاحبه بذلك ، كان يسكت ، وذلك لا ينافي تخصيص العامّ بالنسبة الى غير
تلك الأفراد ، إذ العام المخصّص حجّة في الباقي كما مرّ تحقيقه.
فمرادنا من قولنا
: إنّه يجب في العمل بالعامّ البحث عن المخصّص ، العمل به في جميع الأفراد.
ويندفع الإشكال
الطارئ من جهة شيوع التّخصيص وغلبته بالتفحّص عن المخصّص في الجملة ، فإذا ظهر
وجود مخصّص ما ، فلا دليل على وجوب التفحّص أزيد من ذلك لا ظنّا ولا قطعا ، لأصالة
الحقيقة إلّا مع احتمال وجود مخصّص آخر راجح على عدمه بالخصوص ، وليس ذلك من باب
أصل التخصيص الرّاجح بسبب الغلبة ، بل من جهة مطلق وجود المعارض للدليل ، فافهم
ذلك وتأمّل حتّى يتحقّق لك أنّ دعوى مثل ذلك الإجماع لا أصل لها ولا حقيقة ، مع أنّه ورد في الأخبار ما يدلّ
على ذلك مثل رواية سليم بن قيس الهلالي في «الكافي» عن أمير
المؤمنين عليه الصلاة والسلام حيث أجاب عن اختلاف أصحاب رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآله وفي آخرها : «فإنّ أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله مثل القرآن ، منه ناسخ ومنسوخ وخاصّ وعامّ ومحكم ومتشابه ،
وقد كان يكون من رسول الله صلىاللهعليهوآله الكلام له وجهان وكلام عامّ وخاصّ مثل القرآن. الى أن قال
: فما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآله آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي ،
وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها» ، الحديث. وفي معناها غيرها ، وظاهرها لزوم معرفة الجميع.
فبعد ملاحظة أنّ
في الآيات والأخبار عامّا وخاصّا ولا يندفع الاختلاف والحيرة إلّا بملاحظتها ،
وإنّا مأمورون بمعرفة العامّ والخاصّ ، فكيف يقال : إنّا لم نؤمر بالبحث عن الخاصّ
، وأحاديث الأئمة عليهمالسلام مثل أحاديث الرّسول صلىاللهعليهوآله.
وقد قال الصادق
عليه الصلاة والسلام في رواية داود بن فرقد المرويّة في «معاني الأخبار» : «أنتم
أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان
يصرف كلامه كيف يشاء ولا يكذّب» .
ويدلّ على المطلوب
أيضا الأخبار المستفيضة الدالّة على عرض الأخبار المتخالفة على الكتاب. ولا ريب
أنّ موافقة الكتاب وعدمها لا يعلم إلّا بعد معرفة عامّ الكتاب وخاصّه ، ومعرفة ذلك
في فهم الكتاب لازم كما يستفاد من الأخبار ، فيستلزم ذلك لزوم معرفة عامّ الخبر عن
خاصّه أيضا ، وهو معنى البحث عن المخصّص.
وأمّا الجواب عمّا
زاده بعضهم ، فنقول مضافا الى ما ظهر ممّا تقدّم : إنّ
__________________
الأحاديث المجتمعة
عندنا من الكتب الأربعة وغيرها ، أكثر ممّا كان عند كلّ واحد من أصحاب الأئمّة عليهمالسلام من تلك الأصول بلا شكّ ولا ريب ، ومع ذلك فالفروع
المتكثّرة في كتب الفقهاء الخالية عن النصوص أكثر ممّا وجد فيه النصّ بمراتب شتّى
، وما لم يذكروه في كتب الفروع وما يتجدّد يوما فيوما أضعاف مضاعف ما ذكروه ، بل
لا يتناهى ولا يعدّ ، فلو كان يلزم عليهم تبليغ أحكام الجميع بالخصوص ، فيلزم
أنّهم ـ العياذ بالله ـ قصّروا في ذلك لعدم تبليغ ذلك بالخصوص في الجميع جزما.
فظهر أنّهم اكتفوا
في جميع ذلك بالأصول الملاقاة إلينا بقولهم : «علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم
أن تفرّعوا» .
وهذا من أقوى
الأدلّة على جواز العمل بالظنّ في الأحكام الشرعيّة ، إذ غاية ما في الباب جعل
الفرع من جزئيّات أصل وقاعدة ، ولا ريب أنّ دلالة العامّ والقاعدة على جزئيّاتهما
ظنّيّة.
فنقول : إنّ
الواجد للأصل والأصلين من أصحاب الأئمة عليهمالسلام كان عالما بالأصول الأصليّة التي هي أمّهات المسائل مثل
أصل البراءة ، وعدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، وعدم العسر والحرج ، وعدم التكليف
بما لا يطاق ، وأصالة الإباحة فيما لا ضرر فيه ، وقبح الظلم والعدوان ، والإضرار ،
ونحو ذلك ، وبيّنوا لهم في جواب مسائلهم كثيرا من الخصوصيّات وكثيرا من العمومات
الواردة في الكليّات ، ولم يظهر من حالهم أنّ تلك العمومات الثابتة في الأصل
والأصلين كانت أبكارا لم يصلها أيدي التخصيص ، فلعلّ الرّواة كانوا يعلمون أنّ
مرادهم عليهمالسلام
__________________
من تلك العمومات
الاستدلال على الباقي بعد التخصيص كما أشرنا ، وأنّ الخاصّ بيّن له من خارج ، والتنصيص على جميع الجزئيّات ليس بواجب على ما بيّنا ، واحتمال وجود
مخصّص آخر غير ما فهموه لا يضرّ كما بيّنا ، لأنّ الظنّ بالعدم كاف ، بل يكفي أصالة العدم حينئذ ، ولم يظهر من حال صاحب
الأصل أو الأصلين أنّه يظنّ بوجود خاصّ أو معارض في سائر الأصول ، وعلى فرض الثبوت
إنّه كان متمكّنا من الرّجوع إليه ولم يفعل ، وعلى فرض ذلك ، إنّ الإمام عليهالسلام اطّلع عليه وقرّره ، وكلّ ذلك دعاوي لا بيّنة عليها ،
بخلاف زماننا ، فإنّ وجود المعارض في جملة الأخبار مما لا يدانيه ريب ولا يعتريه
شكّ ، فكيف يقاس بزمان أصحاب الأئمة عليهمالسلام.
ولعمري إنّ أمثال
هذه الكلمات ممّن تتبّع الأخبار وعرف طريقة الفقه والفقهاء ممّا يقضي منه العجب.
وممّا ذكرنا ، ظهر
أنّ عدم أمر الإمام عليهالسلام بتحصيل سائر الكتب لم يكن لأجل أنّ الفحص عن المخصّص أو
المعارض لا حاجة إليه مع قيام الاحتمال الرّاجح ، إذ لعلّه يعتمد على ذلك بأنّه
إذا أشكل عليه الأمر في العامّ يرجع الى الإمام عليهالسلام.
الثاني
: قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...)
الخ . وجه الاستدلال ، أنّه
__________________
نفى بالمفهوم ،
التثبّت عند مجيء العدل ، والبحث عن المخصّص تثبّت وأيّ تثبّت.
وفيه : أنّ
الظّاهر من الآية لزوم التثبّت في خبر الفاسق الّذي يفهم منه مراده بعنوان القطع
أو الظنّ في أنّه هل هو صادق أو كاذب ، والتفحّص والبحث عن المراد من خبر العدل
إذا كان محتملا لغير ظاهره احتمالا مساويا له ، ليس تثبّتا في أنّه هل هو صادق فيه أو كاذب.
والحاصل ، أنّ خبر
العدل لا يتأمّل في قبوله من حيث احتمال الكذب ، بل التأمّل والتثبّت إنّما هو في
فهم المراد ، ولم يظهر من الآية نفيه كما لا يخفى.
لا يقال : أنّ هذا
تقييد في خبر العدل والأصل عدمه ، وإطلاق الآية يقتضي عدم التثبّت في خبر العدل
مطلقا ، لا في نفي الكذب فقط.
لأنّا نقول : إنّا
نمنع الإطلاق بالنسبة الى هذا المعنى حتّى نطالب بدليل التقييد ، بل نقول : المتبادر من الآية
المقيّد ، وإنكاره مكابرة ، مع أنّه يرد على
__________________
المستدلّ النقض
بمجمل خبر العدل.
فإن قيل : إنّ
المجمل خرج بالاتّفاق وبحكم العقل ، للزوم التحكّم من حمل الكلام على بعض
المحتملات ولا اتّفاق هنا ، فلا يحكم العقل بعدم جواز ترجيح العموم لوجود المرجّح
من تبادر العموم لأصالة الحقيقة.
وأيضا القول بكون
العامّ مثل المجمل رجوع عن القول بكون ألفاظ العامّ حقيقة في العموم.
قلنا : حصول
الإجمال من جهة تساوي احتمال إرادة الخصوص لأصالة الحقيقة ، لا ينافي القول بكونها
حقيقة في العموم كما في المجاز المشهور عند من يتساوى عنده احتماله مع الحقيقة ،
والتبادر الحاصل في المجاز المشهور للمعنى الحقيقي كما أنّه بعد قطع النظر عن
الشهرة ، فكذلك المسلّم من التبادر هنا هو بعد قطع النظر عن شيوع غلبة التّخصيص ،
مع أنّ هنا فرقا آخر ، وهو أنّ العامّ بعد ثبوت التّخصيص في الجملة يكون ظاهرا في
الباقي كما مرّ ، بخلاف المجمل والمشترك.
ولئن سلّمنا إطلاق
الآية حتّى بالنسبة الى الدّلالة فنقول : إنّ ما ذكرناها من الأدلّة على المختار يقيّدها ، وإلّا فلا ريب أنّه يصدق على كلّ من خبري
__________________
العدلين
المتعارضين ، ولا ريب أنّه لا يمكن العمل حينئذ مطلقا.
فظاهر ، أنّ
المراد من الآية ، أنّ خبر العدل من حيث إنّه خبر العدل لا يجب فيه التّفحّص عن
الصدق والكذب ، وإن وجب فيه من حيث إنّه يعارضه خبر عدل آخر فضلا عمّا كان التثبّت
من جهة فهم المراد.
الثالث :
آية النّفر .
وجه الاستدلال ، أنّه تعالى أوجب
الحذر عند إنذار الواحد ولم يقيّده بالبحث عن المخصّص.
ويظهر الجواب عنه
أيضا ممّا مرّ.
ثمّ إنّ مناط
القول المختار ، أنّه لا يحصل الظنّ بإرادة المعنى الحقيقي للعامّ إلّا بعد الفحص
، لا إنّه يحصل الظنّ بسبب أصالة الحقيقة ، ولكن لا يكتفى بهذا الظنّ ، بل يوجب
الظنّ الزّائد ، بل نقول : إنّ أصالة الحقيقة إن أفاد الظنّ فإنّما يفيد بعد قطع
النظر عن شيوع التّخصيص ، والمفروض انّه غير منفكّ ، فلا معنى لمقابلة مختارنا
بأنّا نكتفي بالظنّ الحاصل من أصالة الحقيقة ، بل لا بدّ أن يقال : إنّ الظنّ حاصل
مع شيوع التخصيص أيضا.
وجوابه : المنع.
ثمّ إنّ مطلق
الظنّ كاف ، وإلّا فيشكل الأمر لتفاوت مراتب الظنون ، بل تفاوت مراتب
الظنّ المتاخم للعلم أيضا.
__________________
فلو قلنا باشتراطه
، لزم الحرج الشديد مع أنّها غير ميسّر غالبا ، وما أمكن تحصيله فيه ، فيجري
فيه الكلام الذي ذكرناه في تحصيل العلم.
ثمّ إنّ الظاهر
أنّه يكفي في تحصيل الظنّ تتبّع كلّ باب بوّبوه في كتب الأخبار لكلّ مطلب وكلّ ما
يظنّ وجود ما له مدخليّة في المسألة فيه من سائر الأبواب ، وإن كان في كتاب آخر ،
مثل أنّ ملاحظة أبواب لباس المصلّي في كتاب الصلاة ؛ له مدخليّة في أحكام الطهارة
وغسل الثياب ، وملاحظة كتاب الصوم له مدخليّة في أحكام الاستحاضة والحيض ونحو ذلك
، وهكذا.
وقد صار الآن
تتبّع ذلك سهلا عندنا من جهة تأليف الكتب المبوّبة مثل «الكافي» و «التهذيب» و «الإستبصار»
وزاد في ذلك إعانة كتاب «الوافي» للفاضل الكاشاني وكتاب «وسائل الشيعة» لمحمّد بن
الحسن الحرّ العاملي عظّم الله أجورهم .
ولا بدّ في الفحص
عن المخصّص من ملاحظة الكتب الفقهيّة سيّما الاستدلاليّة منها ليطّلع على موارد
الإجماع أيضا ، وذلك ممّا يعين على الاطلاع بحال الأخبار وخصوصها وعمومها أيضا ،
سيّما ملاحظة كتب المتأخرين من أصحابنا مثل «المعتبر» و «المنتهى» و «المختلف» و «المسالك»
و «المدارك» وغيرها. ولا يجب تتبّع جميع كتب الأخبار من أوّلها الى آخرها في كل
مسألة ، وكذلك الكتب الفقهيّة ، مع أنّه مما يوجب العسر الشديد والحرج الوكيد.
__________________
المقصد الثالث
فيما يتعلّق بالمخصّص
قانون
إذا تعقّب المخصّص
عمومات متعدّدة ، جملا كانت أو غيرها ، متعاطفة بالواو أو غيرها ، وصحّ عوده الى
كلّ واحد ، فلا خلاف في أنّ الأخيرة مخصّصة به جزما ، وإنّما الخلاف في غيرها ،
وفرضوا الكلام في الاستثناء ثمّ قاسوا عليه غيره.
فذهب الشيخ
والشافعية : الى أنّ الاستثناء المتعقّب للجمل المتعاطفة ظاهر في
رجوعه الى الجميع ، وفسّره العضدي بكلّ واحد.
وأبو حنيفة
وأتباعه الى أنّه ظاهر في العود الى الأخيرة .
والسيّد رحمهالله الى أنّه مشترك بينهما فيتوقّف الى ظهور القرينة .
والغزالي الى
الوقف ، فلا يدرى أنّه حقيقة في أيّهما .
__________________
وهذان القولان متوافقان لقول أبي حنيفة في الحكم وإن تخالفا في المأخذ ، لأنّ الاستثناء يرجع على القولين
الى الأخيرة فيثبت حكمه فيها ولا يثبت في غيرها كقول أبي حنيفة. لكن هؤلاء لعدم ظهور تناولها ، وأبو حنيفة لظهور عدم تناولها ، هكذا قرّره العضدي
وجماعة من الأصوليّين ، وليس مرادهم محض الموافقة في تخصيص الأخيرة. فإنّ قول
الشافعي أيضا موافق له في ذلك ، ولا أنّ غير الأخيرة باق على العموم على القولين
محمول على ظاهرها ليتّحدا في تمام الحكم مع قول الحنفيّة لينافي التوقّف والاشتراك
، بل مرادهم بيان موافقة القولين لقول أبي حنيفة من جهة لزوم تخصيص الأخيرة وعدم تخصيص غيرها ، وعدم التخصيص أعمّ من القول بالعموم ،
فعدم تخصيص الغير عند أبي حنيفة بحمله على العموم ، والعمل على ظاهر اللّفظ ،
ومأخذه الحمل على أصل الحقيقة ، وعندهما بالتوقّف في التخصيص وعدمه بسبب عدم معرفة
الحال ، ومأخذه إمّا تصادم الأدلّة أو الإجمال الناشئ عن الاشتراك ، فيظهر ثمرة
__________________
الخلاف بين الحنفيّة وبينهما في أمرين :
أحدهما : أنّ غير
الأخيرة في التخصيص غير معلوم الحال عندهما ، ومعلوم العموم عند الحنفيّة.
وثانيهما : أنّه
لو استعمل في الإخراج عن غير الأخيرة أيضا كان مجازا عند الحنفيّة حقيقة عند
السيّد محتملا لها عند الغزالي.
والعجب من الفاضل
المدقّق الشيرواني حيث نفى الإشكال في موافقة القولين الأخيرين للقول الثاني في
تمام الحكم ، وقال : يجب أن لا يعمل في غير الأخيرة أصحابهما إلّا على العموم ،
لأنّ له صيغة خاصّة به دالّة عليه دلالة معتبرة ، ولم يتحقّق في الكلام دلالة أخرى
يعارضها ، ومجرّد احتمال المعارض لا يكفي في الصّرف عنها ، وإلّا كان ذلك قائما
على تقدير عدم الاستثناء أيضا ، والمفروض أنّ أصحاب المذهبين بحثوا ونقّبوا في
المسألة الى آخر ما ذكره.
وفيه : أنّه لم
يظهر من كلام الأصوليّين نسبة ذلك الى صاحب القولين ، ولا يظهر من كلامهم في بيان الموافقة
إرادة ما ذكره ، بل كلامهم على ما ذكرنا أدلّ وأوفق.
ومرادهم مجرّد
نسبة المخصّص الى الجمل من حيث ثبوت التخصيص لا من حيث إرادة العموم من غير
الأخيرة وعدمه ، مع أنّ مقتضى تلك الأقوال أنّ
__________________
الخلاف إنّما هو
في الهيئة التركيبيّة من الاستثناء المتعقّب للجمل ، كما يظهر من ملاحظة أدلّتهم أيضا كما سيجيء.
فالقول باشتراك
تلك الهيئة بين الرّجوع الى الأخيرة فقط ، والرّجوع الى الجميع ، معناه أنّ تلك الهيئة حقيقة في كلّ واحد منهما ، ومقتضى كونه
حقيقة في الرّجوع الى الجميع ، أنّ العموم لم يبق على حاله في واحد منها ، ومقتضى
كونه حقيقة في الرّجوع الى الأخيرة بقاء العموم على حاله في غيرها ، والمفروض أنّ
الأمر مردّد حينئذ بين أنّ المراد من اللّفظ هل هو العمومات المخصّصة ، باحتمال
إرادة المعنى الأوّل من معنيي المشترك ، أو العمومات الغير المخصّصة ، باحتمال
إرادة المعنى الثاني.
والشّك في أنّ المراد من ذلك اللّفظ هل هو العامّ المخصّص أم
العامّ الغير المخصّص ، غير الشكّ في أنّ العام هل خصّ أم لا ، فيجري فيه أصالة
عدم التخصيص. وليس ذلك من قبيل العامّ الذي لم يظهر له مخصّص بعد الفحص والبحث
حتّى يقال أنّ له صيغة خاصّة دالة على معنى ولم يوجد له معارض ، فكون العامّ
مخصّصا أو غير مخصّص جزء مدلول اللّفظ فيما نحن فيه.
__________________
والشكّ في أنّ
المراد أيّ المدلولين لا إنّه أمر خارج عنهما يمكن نفيه بأصالة الحقيقة وأصالة عدم
التّخصيص ونحوهما. وظنّي أنّ ذلك واضح لا يحتاج الى مزيد الإطناب ، ويا ليته رحمهالله اختار موضع مقايسة ما نحن فيه بمبحث البحث عن المخصّص مقايسته بجواز العمل
بالعامّ المخصّص بالمجمل.
والحاصل ، أنّ
القائل بالاشتراك يتوقّف عن الحمل على العموم ، لأنّه لا يظهر إنّه أريد من الهيئة
المعنى الذي لازمه تخصيص الكلّ أو أريد منها المعنى الذي لازمه تعميم ما سوى
الأخيرة. والمتوقّف يتوقّف لما لم يتعيّن عنده المعنى الحقيقي للهيئة التركيبيّة
حتّى يبني على أصل الحقيقة أو الاشتراك ، مع أنّه يعلم إنّ للّفظ حقيقة معيّنة لا
بدّ من الحمل عليه ، ولم يبق العمومات على سجيّتها الأصليّة حتى يعرض عن حال
المعارضات الخارجيّة رأسا بأصالة العدم.
وهاهنا قول خامس
اختاره صاحب «المعالم» رحمهالله وهو القول بالاشتراك المعنوي.
وحاصله ، أنّ
الاستثناء موضوع لمطلق الإخراج ، واستعماله في أيّ فرد من أفراد الإخراج ، حقيقة ،
غاية الأمر الاحتياج الى القرينة في فهم المراد ، لكون أفراد الكلّيّ غير متناهية.
__________________
وظاهر هذا القول ،
بل صريحه أنّه لم يعتبر للهيئة التركيبيّة حقيقة جديدة ، وزعم أنّ ذكر الاستثناء
وإرادة الإخراج عن كلّ واحد حقيقة ، كما أنّ إرادة الإخراج عن الأخيرة فقط أيضا
حقيقة ، فلا يتفاوت الحال بتعقّبه لعامّ واحد أو لعمومات متعدّدة ، وتعيين كلّ فرد
من أفراد الإخراج يحتاج الى القرينة لكن لا من قبيل قرينة المشترك اللّفظي ، فإنّه
للتعيين لا للتفهيم.
ثمّ إنّه رحمهالله مهّد لتحقيق ما اختاره مقدّمة لا بأس بإيرادها مع توضيح
منّي وتحرير وإصلاح ، وهي : إنّ الواضع لا بدّ له من تصوّر المعنى في الوضع ، فإن
تصوّر معنى جزئيّا وعيّن بإزائه لفظا مخصوصا ك : زيد لولد عمرو أو ألفاظ مخصوصة
متصوّرة تفصيلا ك : زيد وضياء الدّين وأبي الفضل له ، أو إجمالا كوضع ما اشتقّ من الحمد له مثل : محمد وأحمد وحامد ومحمود ،
فيكون الوضع خاصّا لخصوص التصوّر المعتبر فيه ، أعني تصوّر المعنى والموضوع
له أيضا خاصّا وهو ظاهر.
وإن تصوّر معنى
عامّا تحته جزئيّات إضافية أو حقيقية فله أن يعيّن لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو
الإجمال بإزاء ذلك المعنى العامّ ، فيكون الوضع عامّا لعموم التصوّر المعتبر فيه
والموضوع له أيضا عامّا.
__________________
مثال الأوّل :
الحيوان ، ومثال الثاني : الإنسان والبشر ، ومثال الثالث : وضع المشتقّات لمعانيها
، مثل : فاعل الذّات قام به الفعل.
والمراد بالوضع
الإجمالي هو الوضع النوعي ، وقد يحصل اجتماع الألفاظ التفصيليّة في الأوضاع
النوعيّة ، كوضع فعال وفعول للمبالغة ، فيحصل الترادف في الوضع النوعي أيضا. وله
أن يعيّن لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو الإجمال بإزاء خصوصيات
الجزئيّات المندرجة تحته ، لأنّها معلومة إجمالا إذا توجّه العقل بذلك المفهوم
العامّ نحوها ، والعلم الإجمالي كاف في الوضع ، فيكون الوضع عامّا ، والموضوع له
خاصّا.
مثال الأوّل :
الحروف قاطبة ، فإنّ : (من) و (الى) و (على) مثلا لوحظ في وضعها معنى عام نسبي هو
الابتداء والانتهاء والاستعلاء ، ووضع تلك الحروف لجزئيّات تلك المعاني. ومثل لفظ
: (هذا) و (هو) لكلّ مفرد مذكّر.
ومثال الثاني : (ذي)
و (تي) و (تهي) لكلّ مفرد مؤنّث.
ومثال الثالث :
الوضع الهيئتي للأفعال التامّة ، فإنّها باعتبار النسبة وضعها حرفي نوعي إجمالي ،
وإن كان باعتبار المادّة من القسم الأوّل من هذين القسمين وضعها عامّ والموضوع له
عامّ .
__________________
وربّما قيل : إنّ
وضع المشتقّات من باب وضع الحروف وأسماء الإشارة ، وهو غلط واضح ، ولا بأس بتفصيل
الكلام فيه .
فنقول : إنّ وضع
المشتقّات كاسم الفاعل والمفعول ، يتصوّر على وجوه : أحدها : أن يقال : إنّ وضع
صيغة فاعل مثلا ، أي كلّ ما كان على زنة فاعل من أيّ مادّة بنيت ، إنّما هو لكلّ
من قام به تلك المادة المخصوصة.
وبعبارة أخرى : كلّ
واحد من الصّيغ المبنيّة على زنة فاعل ، موضوع لمن قام به مبدأ ذلك الواحد ، يعني
ضارب موضوع لمن قام به الضّرب ، وقاتل لمن قام به القتل ، وعالم لمن قام به العلم
وهكذا.
وعلى هذا فالوضع
عامّ والموضوع له عامّ ، لأنّ الواضع تصوّر حين الوضع معنى عامّا وهو كلّ واحد من
الذّوات القائمة بها أحداث ، ووضع بإزاء كلّ واحد منها ما بنيت من ذلك الحدث على
هيئة فاعل. وهذا من باب الوضع النوعي ، فإنّه قد لوحظ الألفاظ الموضوعة إجمالا في
ضمن الهيئة الخاصّة ، فقولنا : هيئة فاعل موضوع لمن قام به مبدأ ما بنيت منه ، في
قوّة قولنا : كلّما كان على زنة فاعل ... الخ ، فقد تصوّر الواضع الألفاظ إجمالا
عند وضع الهيئة.
والثاني : أن يقال
: صيغة فاعل وضعت لمن قام به المبدا ، يعني هذا الجنس من اللّفظ هو ما بنيت على
فاعل موضوع لهذا المفهوم الكلّي. وهذا أيضا كسابقه ، لكنّ المراد بالعامّ في
الأوّل هو العامّ الأصولي ، وفي الثاني العامّ المنطقي.
لا يقال : أنّ هذا
يستلزم كون ضارب وقاتل وعالم مثلا ، موضوعا لهذا المفهوم
__________________
الكلّي والمفروض
خلافه ، لأنّ معنى هذه المذكورات ليس هو نفس ذلك الكليّ ـ يعني من قام به المبدا ـ
بل معناها من قام به الضّرب والقتل والعلم ، لأنّا نقول : الذي يدلّ عليه الهيئة
هو نفس الكلّي ، وأمّا خصوصيّة قيام الضرب والقتل ونحوهما فهو من مقتضيات المادّة
والكلام في وضع الهيئة أو اللّفظ بواسطة الهيئة ، فالهيئة من حيث هي لا تدلّ إلّا
على هذا المعنى الكلّي ، والثاني مدلول المادة.
والثالث : أن يقال
: لفظ ضارب موضوع لمن قام به الضّرب ، وعالم لمن قام به العلم وهكذا ، وهذا أيضا
كسابقه في كون الوضع عامّا والموضوع له عامّا ، لكنّ الوضع فيه شخصي من جهة ملاحظة
الخصوصيّة في اللّفظ ، بخلاف السّابق ، فإنّه لم يعتبر فيه الخصوصية ، بل اعتبر فيه العموم ،
فوضعه نوعي ، وحقيقة الوضع النوعي يرجع الى بيان القاعدة ، وجعل وضع المشتقّات من
قبيل الوضع الشخصي ، بعيد.
إذا عرفت هذا
فاعلم أنّ جمعا من الأصوليين قالوا : إنّ وضع المشتقّات مثل وضع الحروف والمبهمات
من حيث إنّ الواضع للّفظ فيها تصوّر المعنى الكلّي ووضع الألفاظ بإزاء خصوصيّات
الأفراد ، إلّا أنّ الموضوع له في الحروف والمبهمات هو الجزئيّات الحقيقية ، وفي
المشتقّات هو الجزئيّات الإضافية.
وحاصله ، أنّ
الواضع حين الوضع تصوّر معنى كليّا وهو من قام به مبدأ ما وضع بإزاء جزئيّاته
الإضافية ، يعني : من قام به الضرب أو القتل مثلا ، ألفاظا متصوّرة بالإجمال ، وهو
ضارب وقاتل ونحوهما.
وفيه ما لا يخفى ،
إذ الواضع إن كان غرضه تعلّق بوضع الهيئة أي ما كان على
__________________
زنة فاعل لمن قام
به المبدا ، فحينئذ إنّما وضع لفظا كليّا منطقيّا لمعنى كلّي منطقي. وكما يتشخّص
كلّي اللّفظي في ضمن مثل ضارب ، فكذلك يتشخّص كلّي المعنى في ضمن من قام به الضرب
، ولا يستلزم ذلك وضعا جزئيّا لمعنى جزئي ، بل لفظة ضارب من حيث إنّه تحقّق فيها
الهيئة الكلّية موضوعة لمن قام به الضّرب من حيث إنّه تحقّق فيه المعنى الكلّي ،
أعني من قام به المبدا ، ولا يلزم من ذلك تجوّز في لفظ ضارب إذا أريد به من قام به
الضّرب ، كما أنّه لا يلزم التجوّز في إطلاق الكلّي على الفرد مثل : زيد إنسان.
وبالجملة ، وضع
اللّفظ الكلّي للمعنى الكلّي مستلزم لوضع اللفظ الجزئي للمعنى الجزئي ، لا أنّ
اللفظ الجزئي موضوع للمعنى الجزئي بالاستقلال بملاحظة المعنى الكلّي. وإن كان غرضه
تعلّق بوضع كلّ واحد ممّا كان على هذه الهيئة من الألفاظ ، فحينئذ إنّما وضع كلّ
واحد من أفراد اللّفظ الكلّي بعنوان العموم الأصولي لكلّ واحد ممّن قام به ،
موزّعا تلك الألفاظ على تلك المعاني.
فها هنا أيضا قد
وضع الألفاظ بعنوان العموم الأصولي بإزاء المعاني بدون أن يلاحظ معنى كليّا ثمّ
يضع لجزئيّاته الإضافيّة ، وأيضا فلا حاجة الى ملاحظة المعنى الكلّي في الوضع للجزئيّات حينئذ. وما
ذكروه من ملاحظة المعنى الكلّي في وضع الألفاظ المتعدّدة بإزاء الجزئيّات ، إنّما
ينفع لو أريد بتصوّر الكلّي جمع شتات الجزئيّات ليمكن أن يوضع لجميعها لفظ واحد
كهذا ، أو ألفاظ متعدّدة مترادفة مثل : «ته» و «تي» و «تهي» و «ذه» و «ذهي» ،
فيكون اللّفظ والمعنى الكلّي كلاهما جامعين لشتات الجزئيّات.
__________________
وفيما نحن فيه ليس
كذلك ، لأنّ لفظة ضارب يفيد معنى ، وقاتل تفيد معنى آخر ، وهكذا ، فلا فائدة في
تصوّر المعنى الكلّيّ لذلك ، فالألفاظ هنا موزّعة على الجزئيّات الإضافيّة بخلاف
أسماء الإشارة.
ثمّ إنّه رحمهالله بعد تمهيد المقدّمة المتقدّمة بنى قوله على أنّ وضع أداة
الاستثناء من قبيل وضع الحروف عامّ ، والموضوع له هو خصوصيّات الإخراجات ، والمفروض أنّ المستثنى أيضا صالح للعود الى الأخيرة والى
الجميع. وفرض الصلاحية بأن يكون وضع المستثنى أيضا عامّا سواء كان الموضوع له أيضا
عامّا كالمشتقّات والنّكرات ، أو كان الموضوع له خاصّا كما لو كان من قبيل
المبهمات ، ولا بدّ أن يكون مراده مثل الموصولات أو بأن يكون مشتركا بين معنيين يصلح من جهة أحدهما للرّجوع
الى الجميع ، ومن جهة الآخر للأخيرة فقط مثل : أكرم بني تميم ، واخلع بني أسد إلّا
فارسا ، إذا فرض كون شخص من بني أسد مسمّى
__________________
بفارس ، وفرض وجود
الفارس بمعنى الرّاكب في جميعهم ، فلفظ فارس مشترك بينه وبين الراكب ، وأنت خبير
بأنّ وجه الصلاحية لا ينحصر فيما ذكره ، بل يختلف باختلاف الأوضاع والأحوال ، فقد
يجري الصلاحية للجميع في الأعلام المختصّة أيضا في أسماء الإشارة أيضا إذا فرض
اتّحاد المستثنى منه مع اختلاف الجمل ، كما تقول : أضف بني تميم واخلعهم إلّا زيدا
وإلّا هذا .
نعم ، لا يتمّ ذلك
إذا اختلف المستثنى منه وإن اتّحد الحكم.
وأيضا فرض كون
المستثنى مشتركا على النّهج الذي ذكره ، يخرج الكلام عن محل النزاع ، إذ محلّ
النزاع ما لو كان المخصّص صالحا لأن يخصّص به كلّ واحد من العمومات السّابقة ، ولا
خلاف بين أرباب الأقوال في تخصيص الأخيرة بالنسبة الى هذا المخصّص الذي يصلح
للرجوع الى الجميع.
ولا ريب أنّ في
الصّورة المفروضة لا يمكن الحكم بالصلاحيّة أوّلا ، لاحتمال إرادة المعنى المختصّ بالأخيرة وهو المعنى
العلمي ، وهو لا يصلح للرجوع الى غيرها ، سيّما إذا لم يكن هذا الشخص راكبا ، وبعد
تعيين إرادة الراكب بالقرينة والرّجوع الى البحث فيه ، فيغني عن اعتبار الاشتراك
في الصلاحيّة كما لا يخفى ، فإنّما يدخل في المبحث بعد نفي احتمال إرادة المعنى العلمي ، إذ يصير حينئذ من
باب الموضوع له بالوضع العامّ.
وإن فرض المثال
بمثل : أكرم بني تميم ، وأضف بني خالد ، واخلع بني أسد إلّا
__________________
الزيدين ، مع فرض
وجود شخص مسمّى بزيد واحد في كلّ واحد من القبائل ، ومسمّى بزيدين في بني أسد ،
فهو وإن كان أقرب من المثال السّابق لكنّه أيضا خارج عن المبحث ، للزوم إرادة كلّ
واحد من العمومات على الاجتماع لا على البدل ، ولأنّ الظاهر أنّهم أرادوا صلاحية
المخصّص بالفعل لكلّ واحد ، لا صلاحيّة لفظه لإرادة معنيين يناسب أحدهما للأخير
بحيث لا يجوز استعماله للغير ، والآخر للجميع ، بحيث لا يجوز استعماله في الأخير.
فاللّائق في
المبحث حينئذ أن يقال : لفظ المخصّص صالح لأن يراد منه ما يختصّ بالأخيرة ، ولا
يمكن إرادته في غيرها ، وصالح لأن يراد منه ما يختصّ بالجميع ، ولا يمكن إرادة
الأخيرة فقط منه ، لا ما هو المذكور في ألسنة القوم في تحرير محلّ النّزاع من
صلاحية مفهوم المخصّص لكلّ واحد من العمومات كما هو الظاهر من كلماتهم.
والعجب أنّه رحمهالله فرض حصول الاشتراك في هذه الصورة فقط وعرّض على من قال بالاشتراك ، وقال : وقد اتّضح بهذا بطلان القول بالاشتراك مطلقا ، فإنّه لا تعدّد في وضع المفردات غالبا كما عرفت ، ولا
دليل على كون الهيئة التركيبيّة موضوعة وضعا متعدّدا لكلّ من الأمرين.
__________________
وفيه : أنّ القائل
بالاشتراك يقول : بأنّ الاستثناء المتعقّب للجمل مشترك بين الأمرين ، بمعنى أنّه
لا يعلم أنّه أريد بذلك الاستثناء الذي يصلح لكلّ من الأمرين الإخراج عن الأخيرة
أو الإخراج عن الكلّ ، لا بمعنى أنّا لا نعلم أنّه هل أريد بالمستثنى ما يصلح أن
يخرج من الكلّ أو ما لا يصلح إلّا للأخيرة ، وبينهما بون بعيد.
وبالجملة ، هو رحمهالله وإن أتعب باله في التنقيب والتدقيق وأسّس أساس التحقيق ،
لكنّه قد اختلط عليه الشّأن بعض الاختلاط ، ولم ينته أمره الى الإتقان في الارتباط
، والمتّهم هو فكري القاصر ، والله وليّ السرائر.
والتحقيق عندي ، أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّه لم يوضع أدوات الاستثناء
لإخراج شيء خاصّ من متعدّد خاصّ ، بل الظاهر أنّها وضعت بوضع عامّ لكلّ واحد من
الأفراد ، فوضع كلّها حرفيّ وإن كان بعضها اسما ك : غير وسوى.
وأمّا الأفعال ،
فوضعها أيضا حرفيّ ، لأنّ الإخراج إنّما هو باعتبار النسبة ، وهو معنى حرفي ،
والأسماء أيضا وإن كان لها وضع مستقل ، لكنّه لا بدّ أن يراد منها في باب
الاستثناء المعنى الحرفي ، والمستعمل فيه ليس إلّا خصوصيّات الإخراج ، وكون
خصوصيّة الإخراج جزئيّا حقيقيّا لا ينافي كون المخرج أمرا كلّيا ، كما
لا يخفى.
والحاصل ، أنّ
المعيار في الكلام هو عموم الوضع ، فلم يتصوّر الواضع حين
__________________
وضع تلك الأدوات
خصوصيّة إخراج خاصّ ، بل تصوّر عموم معنى الإخراج ووضع تلك الألفاظ لكلّ واحد من
جزئيّات الإخراج.
ثمّ إنّه لم يثبت
طريان وضع جديد للهيئة التركيبيّة الحاصلة من اجتماع الجمل مع الاستثناء ، والأصل
عدمه ، وعوده الى الأخيرة حقيقة لا بمعنى أنّه حقيقة في الرّجوع الى الأخيرة فقط ،
بل بمعنى أنّ رجوعه الى الأخيرة معنى حقيقي له ، ولم يثبت استعماله ولا جوازه معه
في غيره.
وبيان ذلك يتوقّف
على أمور :
الأوّل : أنّ وضع
الحقائق والمجازات وحدانيّ كما حقّقناه وبيّناه في مسألة استعمال اللّفظ المشترك
في معنييه ، ومن التأمّل فيه يظهر أنّ وضع الأدوات ، وكذلك وضع المستثنى ، لا بدّ
أن يكون وحدانيّا ، فلا يجوز إرادة إخراجين من الأدوات ، ولا إرادة فردين من المستثنى.
والثاني : أنّ
محلّ النّزاع هو جواز كون كلّ من الجمل موردا للإخراج على البدل ، لا كون المجموع موردا له كما يفهم من تفسير العضدي لقول
الشافعي من إرادة كلّ واحد لإرادة الجميع. ويؤيّده المثال الذي ذكره السيّد رحمهالله بقوله :
__________________
اضرب غلماني والق
أصدقائي إلّا واحدا ، فإنّ إخراج الواحد من كليهما محال ، إذ لفظة واحد موضوعة
لمفرد ما ، ويتخيّر المخاطب في اختيار أيّ فرد يريد إذا قيل له : جئني بواحد من
الغلمان ، لا يخرجه عن المفرديّة ، فلا يصحّ جريان الكلام والبحث في هذا المثال إلّا
بإرادة واحد من الأصدقاء وواحد من الغلمان ، فيتبادل إرادة الإخراج بالنسبة الى
كلّ واحد منهما في الواحد ، فمن يقول : إنّه يرجع الى الجميع ، يقول : إنّ المراد
اضرب غلماني إلّا واحدا منهم ، والق أصدقائي إلّا واحدا منهم ، وإن فسّر الجميع
بالمجموع لا كلّ واحد ، لكفى إخراج واحد من المجموع.
الثالث : إنّ جعل
قول القائل : لا أكلت ولا شربت ولا نمت إلّا باللّيل ، بمعنى لم أفعل هذه الأفعال
إلّا باللّيل ، مجاز وخروج عن الأصل ، لا يصار إليه إلّا بدليل.
وأيضا جعل قول
القائل : إلّا العلماء بعد قوله : اضرب بني تميم ، وأهن بني أسد ، واشتم بني خالد
، راجعا الى الجميع ، إنّما هو لأجل أنّ الجمع المحلّى باللّام حقيقة في العموم ،
وإرادة علماء بني خالد فقط منه توجب التخصيص ، وهو خلاف الأصل ، ولكن يعارضه لزوم تخصيص بني تميم وبني أسد ، أو إرادة هذه الجماعات من
مجموع الجمل ، فالأمر يدور فيه بين مجازات ثلاثة.
إذا تحقّق هذا
فنقول : كلّ استثناء يستدعي مستثنى منه واحدا ، فلا بدّ أن يكون كلّ من المستثنى
منه والاستثناء والمستثنى وحدانيّا ، فكما لا يجوز استعمال اللّفظ المشترك في أكثر
من معنى ، كما حقّقناه في محلّه ، ولا اللّفظ في معنييه الحقيقي والمجازي كما
بيّنا ، فكذلك لا يمكن إرادة فردين من الماهيّة بالنكرة المفردة ولو
__________________
على سبيل البدل.
ولو فرض إرادة الإرجاع الى أكثر من جملة ، فلا بدّ من إرادة معنى مفرد منتزع من
الجمل السّابقة ، مثل هذه الأفعال أو هذه الجماعات ونحو ذلك ، وهو مجاز لا يصار
إليه إلّا بدليل. ولمّا كان القرب مرجّحا للأخيرة ، فنرجعه إليها من جهة أنّه فرد
من أفراد الاستثناء ، لا من حيث إنّه خصوصيّة الأخيرة ، ولا نحكم بالخروج في غيرها
لكونه خلاف الوضع وخلاف الأصل.
والحاصل ، أنّه
إذا ثبت من الخارج كون المتعدّدة السّابقة في حكم الواحد ، فلا إشكال في الرجوع
الى الجميع وأنّها حقيقة أيضا ، وإن حصل التجوّز في بعض أجزاء الهيئة التركيبيّة
كما أشرنا اليه في المباحث السّابقة ، ولكنّه ليس من محلّ النزاع في شيء. لأنّ النزاع إنّما هو
في إرادة كلّ واحد منها على البدل ، وإلّا فلا وجه لإرجاعه اليها ، لا حقيقة ولا مجازا.
وحاصل الفرق بين
ما اخترناه وما اختاره صاحب «المعالم» رحمهالله ؛ هو انّه يقول : إنّ الواضع تصوّر معنى الإخراج عن
المتعدّد بعنوان العموم ووضع أدوات الاستثناء لكلّ واحد من خصوصيّات أفراده ،
فيشمل المعنى العامّ المتصوّر ما صدق عليه الإخراج عن المتعدّد الواحد ، والإخراج عن المتعدّد ، المتعدّد على البدل ،
__________________
وعن المتعدّد
المأوّل بالواحد ، وعن متعدّد واحد من المتعدّدات مثل الأخيرة فقط.
وكذلك الخصوصيّات
الموضوعة بإزائها تحتمل خصوصيّات جميع هذه المفاهيم ، فإذا استعمل الاستثناءفي أيّ
من المذكورات كان حقيقة وإن احتاج في التعيين الى القرينة.
ونحن نقول : إنّ
الواضع تصوّر معنى الإخراج عن المتعدّد ووضع اللّفظ بإزاء جزئيّاته ، وليس المعنى
العامّ المتصوّر إلّا مفهوم الإخراج عن متعدّد واحد ، سواء كان واحدا بالنوع ، أو
متعدّدات تأوّلت بالواحد مجازا كهذه الأفعال وهذه الجماعات ، وكذلك الخصوصيّات
الموضوعة بإزائها هو خصوصيّات هذا الكلّي.
ويدلّ على ما
اخترناه تبادر الوحدة وعدم تبادر الإخراجات المتبادلة ، فيكون في المتبادلة مجازا
إن صحّ .
وكما أنّه لا
يتبادر من قولنا : جاء رجل إلّا رجل واحد ، وإن كان قابلا للاستعمال في كلّ واحد
من أفراد الرّجال ، ولا يجوز إرادة آحاد كثيرة على التبادل من لفظ رجل ، لكون وضعه
وحدانيّا على ما حقّقناه ، فكذلك لا يتبادر من قولنا : اضرب غلماني ، والق أصدقائي
إلّا واحدا ، إلّا إخراج واحد إمّا من الغلمان أو من الأصدقاء ، وإنّما خصّصنا
الأخيرة واخترناه من جهة خارجية مثل القرب
__________________
أو الإجماع ، وإلّا لكان رجوعه الى الأوّل فقط أيضا جائزا بعنوان
الحقيقة ، لأنّه أيضا فرد من أفراد الإخراج.
وأمّا ما اختاره
في «المعالم» ، فلا يدلّ عليه دليل ، لمنع كون العموم المتصوّر حين
الوضع شاملا للصّور المذكورة المتقدّمة.
ودعوى تحقّق الوضع
لأفراد ذلك العموم ، المقصود الكذائي ، أوّل الكلام .
لا يقال : أنّ الوضع إنّما هو لأفراد الإخراج على المتعدّد ، وهو
مطلق ولا تقييد فيه. وما ذكرته من اعتبار الوحدة خلاف الأصل ولا دليل عليه ،
والوضع للماهيّة يستلزم جواز استعماله في كلّ الأفراد حقيقة ، لأنّا نقول : إنّا
لا نقول بأنّ الواضع اعتبر الوحدة حتّى يقال أنّه خلاف الأصل ، ولا دليل عليه ، بل
نقول : إنّه لم يثبت من الواضع إلّا الوضع في حال الوحدة ، لا بشرط الوحدة ، نظير
ما ذكرنا في مبحث المشترك ، فالإطلاق أيضا قيد يحتاج الى الدّليل. فما ذكرناه معنى
دقيق لا مطلق ولا مقيّد بشرط الوحدة ولا بشرط عدمها ، فالتّكلان على التوظيف
والتوقيف
__________________
مع انّا ندّعي
التبادر أيضا وهو دليل الحقيقة فيما ذكرنا .
وقد ظهر بما ذكرنا
بطلان ما ذكره صاحب «المعالم». وأمّا بطلان سائر الأقوال ، فمع ما ظهر ممّا ذكرنا
يظهر ممّا سيأتي في نقل أدلّتهم.
احتجّ السيّد رحمهالله بوجوه ضعيفة ، أقواها وجهان :
الأوّل : حسن
الاستفهام ، بأنّ المتكلّم هل أراد تخصيص الأخيرة أو الجميع.
وهو مدفوع : بأنّه
يحسن على القول بالوقف وعلى القول بالاشتراك المعنوي أيضا ، فإنّه إذا قيل لك :
جاء رجل بالأمس عندي ، فيحسن أن تقول : من الرّجل؟
وثانيهما : أنّ
الأصل في الاستعمال ، الحقيقة ، ولا ريب في استعمال الصورة المفروضة في الإخراج عن
الكلّ مرّة ، كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
خالِدِينَ فِيها)(لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا.) والإخراج عن الأخيرة أخرى ، كما في
__________________
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي
إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ ،) من غير قرينة على التجوّز.
وفيه : إنّ
الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة كما مرّ في محلّه.
واحتجّ الشافعيّة
بوجوه ضعيفة ، أقواها وجوه ثلاثة :
الوجه الأوّل :
أنّ حرف العطف يصيّر الجمل المتعدّدة في حكم المفرد ، وقرّروه على وجهين :
الأوّل : أنّ
الجمل في قولنا : زيد أكرم أباه ، وضرب أخاه ، وقتل عبده ، في قوّة قولنا : زيد
فعل هذه الأفعال. فكما أنّ ما يلي الجملة الواحدة من المخصّصات يرجع إليها ، فكذا
ما في حكمها.
وفيه : منع واضح ،
لأنّ العطف لا يقتضي إلّا مناسبة ما ومغايرة ما ، ووجوب إعطاء كلّ ما هو في قوّة
شيء ، حكم ذلك الشيء ممنوع ، والقياس باطل سيّما في اللّغة.
والثاني : أنّ حكم
الجمل المتعاطفة حكم الألفاظ المفردة ، فإنّ قولنا : اضرب الذين قتلوا وسرقوا
وزنوا إلّا من تاب ، في قوّة قولنا : اضرب الّذين هم قتلة وسرّاق وزناة.
وفيه : مع ما
تقدّم من المنع : إنّ ذلك مبنيّ على كون ذلك متّفقا عليه في المفردات ، والنزاع
موجودة فيه أيضا.
__________________
الثاني : أنّ
الاستثناء بمشيّة الله إذا تعقّب جملا ، يعود الى الجميع بلا خلاف ، فكذا
الاستثناء بجامع ، كون كلّ منها استثناء وغير مستقلّ.
وفيه : أنّ كونه
استثناء ، ممنوع ، ولو سلّم فالإجماع فارق.
وقد يجاب : بأنّ ذلك من باب الشرط لا الاستثناء ، وذلك يجوز في
الشرط وشرطيّته ، والجواز في الشرط كلاهما ممنوعان.
وبيانه كونه ليس
بشرط : أنّ الظّاهر من الشرط هو التعليق كما مرّ ، ولا ريب أنّ هذا الكلام لا يراد
به تعليق الفعل على المشيّة بلا ريب ، وكثيرا ما يذكر في المنجّزات المقطوع بفعلها
، وإنّما يذكر ذلك من باب التسليم والتوكّل ، وبيان الاعتقاد بأنّه لا مناص عن
مشيّة الله وإرادته وقدرته ، أو من جهة امتثال الأمر لئلّا يفوت المقصود.
وبالجملة ، المراد
منه غالبا إيقاف الكلام عن النفوذ والمضيّ ، فإذا قال : أفعل كذا غدا ، فهو جازم
في نفسه بأنّه يفعله ، لكن يظهر من نفسه أنّ صدور الفعل عنه لا يكون إلّا بمشيّة
الله ، فهو جازم في الإيقاع ، شاكّ في الوقوع ، لعدم الاعتماد على نفسه. ويؤيّد
ذلك أنّه يستعمل في الماضي أيضا ، مثل قولك : حججت وزرت إن شاء الله ، مع أنّ كلمة
إن تصيّر الماضي مضارعا ، ومراد القائل الحج والزيارة في المضيّ. ولا يذهب عليك
أنّ المراد ليس أنّهما مقبولتان إن شاء الله تعالى ، إذ هو خارج عن فرض المثال ،
بل المراد نفس الحجّ والزيارة ، ومراده من التعليق بالمشيّة أنّ حصولهما إنّما كان
بمشيّة الله وتوفيقه.
__________________
وأمّا بيان كونه
ليس باستثناء ، فهو عدم اشتماله على شيء من أدواته ولو تكلّف بتأويل
الشّرط بالاستثناء ، بأن يقال معناه : إلّا إن لم يشأ الله.
ففيه : الكلام
السّابق في الشرط ، من أنّ المراد إنّما هو الإيقاف عن النفوذ والمضيّ لا التعليق.
نعم ، قد يستعمل
هذه الكلمة في الشرط الحقيقي لو أريد به التعليق ، كما في صورة الشّكّ وعدم حصول
الأسباب الظاهرة الغالبة اللزوم لحصول المسبّبات مثل : أن يسأل عمّن جامع امرأة
مرّة ، هل انعقد ولد منك في الرّحم؟ فيقول : إن شاء الله انعقد وإن لم يشأ لم
ينعقد.
وهذا ليس من باب
المتداول في استعمال تلك الكلمة كما لا يخفى.
ثمّ إنّه لا محصّل
للإجماع المدّعى في عود هذه الكلمة الى الجميع ، إذ ذلك مسألة لغويّة ،
وانعقاد الإجماع على أنّ مراد كلّ من تكلّم بهذه الكلمة في الصّورة المفروضة هو
الرجوع الى الجميع ، شطط من الكلام ، إلّا أن يقال : المراد الإجماع في كلّ ما ورد
في كلام الشّارع ، أو يقال : إنّ المراد لزوم حمل كلام المسلم على ذلك ، لأنّه من توابع الإيمان والتوكّل
والإذعان بهذا الأمر.
الوجه الثالث :
أنّ الاستثناء صالح للرجوع الى الجميع ، والحكم بأولويّة البعض تحكّم ، فيجب عوده
الى الجميع. كما أنّ ألفاظ العموم لمّا لم يكن تناولها لبعض أولى من الآخر ،
تناولت الجميع.
__________________
وفيه : أنّ
الصّلاحيّة للجميع لا يوجب ظهوره فيه ، بل إنّما يوجب التجويز والشكّ ، والتعيين
موقوف على الدّليل ، وإخراج كلام الحكيم عن اللّغوية وعن الإجمال يحصل بتخصيص
الأخيرة ، وإن لم يكن من باب التعيين ، فلا وجه لإخراج الباقي عن العموم الذي هو
مقتضى الصّيغة ، سيّما إذا كان موافقا للأصل أيضا.
والقياس بألفاظ
العموم في غاية الغرابة ، فإنّ دلالتها إنّما هي بالوضع ، لا لرفع التحكّم.
نعم ، يتمّ هذا
القياس في مثل النّكرة المثبتة ، والجمع المنكّر ونحوهما ممّا يرجع الى العموم في
بعض المقامات كما بيّناه في محلّه ، صونا لكلام الحكيم عن اللّغويّة ،
مع أنّه أيضا تابع لحصول الفائدة ، فإذا حصل الفائدة بالأفراد الشّائعة أو أقلّ مراتب الجمع
فلا ضرورة الى الحمل على الجميع.
وقد يتوهّم على
القول بالاشتراك ، أنّ الظاهر هو العود الى الجميع ،
__________________
فلا يتوقّف على
القرينة نظرا الى غلبة الوقوع ، وهو مع ما فيه من منع الغلبة ، غير واضح المأخذ.
وقد أشرنا في تحقيق معنى التبادر أنّ الظهور الحاصل من الغلبة لا يكفي في الترجيح
في أمثال ذلك.
نعم ، ربّما حصل
التوقّف في ترجيح المجاز الرّاجح المشهور على الحقيقة النادرة ، ولكن أغلبية استعمال بعض
معاني المشترك لا يوجب ترجيح إرادته وإن بادر الذّهن الى انفهامه عند الإطلاق ،
ولم نقف على قائل به.
والسرّ في ملاحظة
الغلبة في جانب المجاز وترجيحه على الحقيقة أو التوقّف في ترجيحه ، هو احتمال حصول
النّقل وهجر الحقيقة ، وهو منتف فيما نحن فيه ، إذ كثرة استعمال لفظ العين مثلا في
النابعة والباصرة لا يوجب ضعفا في دلالتها على الذّهب ، وكونه من معانيها الحقيقية
، والاستعمال في المعنيين الأوّلين ، لم يحصل من جهة مناسبته في المعنى الثالث لهما وعلاقة كما كان ذلك في المجاز المشهور ، فافهم ذلك.
احتجّ الحنفيّة
بوجوه :
منها : أنّ
الاستثناء خلاف الأصل لاشتماله على مخالفة الحكم الأوّل ، فالدّليل يقتضي عدمه ،
تركنا العمل به [في] الجملة الواحدة لدفع محذور الهذريّة ،
__________________
فيبقى الدّليل في
باقي الجمل سالما عن المعارض. وإنّما خصّصنا الأخيرة لكونها أقرب ، ولأنّه لا قائل
بالعود الى غير الأخيرة خاصّة.
واعترض عليه : بأنّه إن كان المراد بمخالفة الاستثناء للأصل أنّه
موجب للتجوّز في لفظ العامّ ، فهو مسلّم ، سيّما على مذهب الجمهور ، ولكن تعليله بمخالفة الحكم الأوّل فاسد ، إذ لا مخالفة
فيه للحكم الأوّل على قول من الأقوال في وجوه تقرير الجملة الاستثنائية كما مرّ
سابقا .
وأيضا تعليل ترك العمل في الجملة الواحدة بدفع محذور الهذريّة غلط ، لدلالة نصّ الواضع ورخصته
النوعيّة على جواز الخروج عن أصالة الحقيقة عند قيام القرينة ، مع أنّ تخصيص
الجملة الأخيرة مقطوع به ، ولا حاجة فيه الى التمسّك برفع الهذريّة ، لأنّه لو صلح
بمجرّده سببا للخروج عن الأصل ، لجاز ف المنفصل في النطق عرفا أيضا. وإن كان
المراد أنّ ظاهر المتكلّم بالعامّ إرادة العموم وإرادة العموم إقرار ، والاستثناء مستلزم لإنكار بعضه ،
ولا يسمع الإنكار بعد الإقرار ، فالاستثناء مخالف للأصل ـ يعني هذه القاعدة ـ أو
أنّ إرادة العموم بعد ما بيّنا من الظهور مستصحبة ، والاستثناء مزيل له ، فهو
مخالف للاستصحاب.
__________________
ففيه ، أنّ
للمتكلّم ما دام متشاغلا بالكلام أن يلحق به ما شاء من اللّواحق ، فلا يجوز
للسّامع أن يحكم بإرادة العموم حتّى يتمّ الكلام ، ولو كان مجرّد صدور اللّفظ
مقتضيا للحمل على الحقيقة ، لكان التصريح بخلافه قبل فوات وقته منافيا له ، ووجب
ردّه ، ويتمشّى ذلك الى الأخيرة ، ولا ينفع في ذلك دفع محذور الهذريّة لما مرّ
، فما لم يقع الفراغ لم يتّجه للسّامع الحكم بإرادة الحقيقة لبقاء مجال
الاحتمال ، لكن لمّا كان تعلّقه بالأخيرة متحقّقا للزومه على كلا التقديرين فنجزم به ونتمسّك في انتفاء التعلّق بالباقي بالأصل ، فليس
هذا من القول بالاختصاص بالأخيرة في شيء.
أقول : ويمكن
تصحيح الاستدلال على كلا التقريرين في الجملة .
أمّا الأوّل فنقول
في تقريره : إنّ المراد أنّ الجملة الاستثنائية لمّا كان ظاهرها التناقض ، فأوجب
إخراج الكلام عن ظاهره بأحد التقريرات المتقدّمة في محلّه ، فالغرض من التعليل ،
أنّ الدّاعي على التجوّز هو مخالفة الاستثناء للحكم الأوّل ظاهرا كما صرّحوا به في
محلّه ، لا المخالفة النّفس الأمريّة. فمنع المخالفة النّفس الأمريّة بعد القول
بالتجوّز الناشئ عن توهّم المخالفة ، وحصول المخالفة الظاهريّة
__________________
غريب ، وإبطال
العلّة بمثل هذا الاعتراض عجيب.
فعلى هذا ، فيمكن تعميم العنوان أيضا بأن يقال : إنّ الاستثناء خلاف الأصل
يعني ـ موجب لخلاف الظاهر ـ لأنّه بظاهره مخالف للحكم الأوّل ، فيلزم فيه ارتكاب
خلاف ظاهر ، سواء كان ذلك هو التجوّز في لفظ العامّ أو أحد الأمرين الأخيرين . ولا ريب أنّ كلّها خلاف الظاهر.
ثمّ إنّ المستدل
لا ينكر ثبوت الرّخصة من الواضع ، وإنّ الاستثناء وضع للإخراج عن المتعدّد ، وإنّه
يصير قرينة للمجاز ، لكن القدر المسلّم الثابت هو ما تعلّق بمتعدّد خاصّ.
وأمّا لو ورد
استثناء محتمل للمتعدّدات ولم يعلم متعلّقه ، فلم يظهر من الواضع الرّخصة في
تعليقه بأيّها ، لكن وقوعه في كلام الحكيم لا بدّ أن لا يكون لغوا ، فيصير من باب
المجمل ، والعقل الحاكم بنفي اللّغو عن كلام الحكيم يحكم برجوعه الى واحد من
المتعدّدات ، لا أزيد منها ، لأنّ مقتضى الأصل عدم التعلّق بالكلّ ، ودفع الهذرية
يحصل بالإرجاع الى الواحد ، ثمّ تعيين ذلك البعض أيضا يحتاج الى دليل ، فيتمسّك
فيه بالأقربيّة وبالقطعيّة وبالإجماع ونحو ذلك. فالتمسّك برفع الهذريّة ليس لأجل
تصحيح أصل التعليق في الاستثناء ، فإنّه لا ريب أنّه من جهة الواضع ، وكذلك تخصيص
الأخيرة أيضا ليس من جهة دفع الهذريّة لرفعه بغيره
__________________
أيضا ، بل إنّما
هو من جهة الأقربيّة ونحوها.
فها هنا مقامات
ثلاثة اعتبرها المستدلّ وغفل عنها المعترض.
وأمّا العلاوة
التي ذكرها المعترض أخيرا .
ففيه : أنّ عدم سماع
الاستثناء المنفصل عن النطق إنّما هو لعدم ثبوت الرّخصة من الواضع في أصل تعليق
الاستثناء في مثله ، فأصل ترتيب الكلام فيه غلط مخالف لضوابط الوضع ، بخلاف ما نحن
فيه ، فإنّ استعماله بعد العمومات المتعدّدة صحيح وارد في كلام الفصحاء ، لكنّه
لحقه الإجمال فصار مثل المجملات ، فلا بدّ حينئذ لرفع القبح عن كلام الحكيم ودفع
لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، من الإرجاع الى أحد العمومات والتمسّك في نفيه
عن أكثر منه بالأصل ، والاكتفاء بالأخيرة إعمالا للدليلين.
وأمّا التقرير
الثاني : فمقتضاه أنّ توهّم التناقض وظهور المخالفة للحكم الأوّل في الاستثناء صار
سببا للعدول عن القاعدة ، وهي أنّه لا يسمع الإنكار بعد الإقرار ، فلمّا كان ظاهر
الجملة الاستثنائية سماع الإنكار بعد الإقرار مثلا ، فصار مخالفا للأصل ، فعدلنا
عنه في جملة واحدة لدفع الهذريّة ، الى آخر ما ذكرنا في
__________________
التقرير الأوّل .
وتحريره والفرق
بين التقريرين مع أنّ مقتضاهما واحد ، لأنّ فهم العموم أيضا من أجل كون اللّفظ حقيقة فيه ، أنّ هذه القاعدة غير مختصّة بالحقيقة ، وإن
اتّفق هنا اتّحاد موردهما فقد يحصل الإقرار والاعتراف بلفظ مجازي ، فمخالفة
الاعتراف ومناقضته مخالفة للقاعدة ، سواء دلّ على الاعتراف بأصالة الحقيقة أو غيره
، كما أنّ المخالفة بحسب الحقيقة والمجاز أيضا قد تكون بالتخصيص ، وقد يكون بغيره
، فاختلف التقريران مفهوما وإن اتّحد مصداقهما فيما نحن فيه في العامّ الذي له لفظ
حقيقي.
وأمّا بيانه في مخالفته للاستصحاب ، فهو غلط فاحش ، ولا يمكن تطبيقه إلّا على الاستثناء
البدائي وهو خارج عن المتنازع كما لا يخفى ، ولا معنى لاستصحاب ظهور الإرادة أيضا
كما لا يخفى.
وأمّا ما ذكره
المعترض في دفع هذا التقرير فما له منع ظهور الإرادة ، وأنت خبير
بما فيه ، إذ احتمال ذكر المنافي لا يخرج الحقيقة عن الظّهور في معناها الحقيقي ،
ينادي بذلك أصلهم المشهور في الاستثناء ، وعلاج ظهور التناقض فيه. ولا ريب أنّ
انتفاء احتمال التجوّز لا يحصل بعد انتهاء الكلام أيضا ، لاحتمال
__________________
المخصّص المنفصل ،
فوجود الاحتمال ما دام الكلام لم ينته ، غير مضرّ بظهور الدلالة على الحقيقة ، مع
أنّه لا يجتمع إنكار ظهور الإرادة في هذا التقرير مع قبول أنّ التجوّز خلاف أصل
الحقيقة في التقرير الأوّل ، لأنّ معنى قولهم : الأصل في اللّفظ الحقيقة ، أنّ
اللّفظ الذي له موضوع له معيّن واستعمل في شيء لم يظهر للسّامع ، لا بدّ أن يحمل
على معناه الحقيقي ما لم يجئ قرينة على خلافه.
ومقتضى ما ذكرنا
في مقدّمات المباحث السّابقة من أنّ المقصود في الوضع هو غرض التركيب ، لا ينافي
ما نقول هنا ، لأنّ التركيب يتمّ بقول القائل : أكرم العلماء ، ولا ينتظر في فهم
معناه التركيبي لمجيء جمل متعدّدة بعده ، ومجيء استثناء عقيب الكلّ ، فقد تمّ
الكلام النحويّ وإن لم يتمّ الكلام الاصطلاحي بعد. والمعيار في صحّة الفهم هو
الأوّل وإن كان للمتكلّم رخصة في جعل اللّواحق مربوطة بالسّوابق ، وذلك لا يوجب
عدم ظهور الحقيقة في معناها ، ولا نقول : أنّ مجرّد صدور اللّفظ يوجب الجزم بإرادة
الحقيقة حتّى ينافيه التصريح بخلافه ، بل نقول : انّ ظاهره إرادة الحقيقة ونحكم به
حكما ظنيّا لا قطعيّا ، وإذا جاء المنافي في تتمّة الكلام فيكشف عن بطلان الظنّ
ويتجدّد للنفس تصديق جديد بإرادة المعنى المجازي ، ولا غائلة فيه أصلا.
وأمّا قوله : فما لم يقع الفراغ لم يتّجه ... الخ.
ففيه : تناقض ، وهو مناف لما تقدّم من المعترض ، فإنّه قال سابقا أيضا :
إنّه
__________________
لا يحكم بالحقيقة
حتّى يتحقّق الفراغ وينتفي احتمال غيره. ولا ريب أنّه بعد الفراغ عن ذكر الجمل
والشروع في ذكر الاستثناء لا ينتفي احتمال التّخصيص كما هو المفروض ، فما معنى إبقاء غير الأخيرة على عمومه تمسّكا بالأصل ،
وما معنى الأصل هنا ، فقد عرفت بطلان إرادة الاستصحاب منه. وكذلك القاعدة على مذاق
المعترض ، فلم يبق إلّا الظاهر ، أعني أصل الحقيقة ، إذ ليس كلّ عموم موافقا لأصل
البراءة حتّى يقال أنّه هو المراد.
والتحقيق في
الجواب : أنّ هذا الدليل لا يدلّ على مدّعاهم ، بل هو موافق لمّا اخترناه من
الاشتراك المعنوي ، وإنّ ما ذكره المستدلّ ، قرائن لتعيين أحد أفراده ، وأين هذا
من إثبات كونه حقيقة مخصوصة في الإخراج عن الأخيرة ، فهذا دليل على ما اخترناه في
المسألة بلا قصور ولا غائلة.
ومنها : أنّه لو
رجع الى الجميع لرجع في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا.) مع أنّه لا يسقط الجلد بالتوبة اتّفاقا ، وخلاف الشعبي لا يعبأ به.
__________________
وفيه : أنّ مطلق
الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة ، فلا ينافي ذلك كونه حقيقة في الرجوع الى الجميع
والخروج عن مقتضاه في الجلد بالدليل الخارجي وهو الإجماع ، وأنّه حقّ الناس ، فلا
يسقط بالتوبة ، مع أنّه لا يدلّ على الاختصاص بالأخيرة لقبول الشهادة بعد التوبة
إلّا أن يمنعها المستدلّ.
ومنها : أنّ
الجملة الثانية بمنزلة السّكوت ، فكما لا يرجع المخصّص بعد السّكوت
والانفصال عن النطق الى ما تقدّمه ، فكذلك ما في حكمه.
وجوابه : المنع.
ودعوى أنّه لم
ينتقل من الجملة الأولى إلّا بعد استيفاء الغرض منها ، أوّل الكلام.
ومنها : أنّه لو
رجع الى الجميع ، فإن أضمر مع كلّ منها استثناء ، لزم خلاف الأصل ، وإلّا فيكون
العامل في المستثنى أكثر من واحد ، ولا يجوز تعدّد العامل على معمول واحد في إعراب
واحد لنصّ سيبويه عليه ، ولئلّا يجتمع المؤثّران المستقلّان على أثر واحد.
وأجيب : باختيار
الشقّ الثاني ومنع كون العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه ،
بل هو أداة الاستثناء كما هو مذهب جماعة من النّحاة لقيام معنى
__________________
الاستثناء بها.
والعامل هو ما يتقوّم به المعنى المقتضي للإعراب ، ولكونها نائبة عن أستثني ، كحرف
النداء عن أدعو.
سلّمنا ، لكن نمنع
امتناع اجتماع العاملين على معمول واحد ، ولا حجّة في نصّ سيبويه لاحتمال أن يكون
ذلك من اجتهاده لا من نقله ، كما أنّ رواية الثّقة حجّة على غيره لاجتهاده
ورأيه ، مع أنّه معارض بما نقل عنه من تجويزه نحو : قام زيد وذهب عمرو الظريفان ،
مع أنّه قائل بأنّ العامل في الصّفة هو العامل في الموصوف ، وبنصّ الكسائي على
الجواز ، وكذلك بتجويز الفرّاء بتشريك العاملين في العمل إذا كان مقتضاهما واحدا.
وربّما يؤيّد
الجواز بمثل : هذا حلو حامض ، لعدم جواز إخلائهما عن الضّمير ولا يختصّ أحدهما به ، فتعيّن أن يكون فيهما ضمير واحد.
وفيه إشكال ،
لاحتمال أن يقال : هما كالكلمة الواحدة وهو مزّ ، مع احتمال أن يكون حامض صفة لحلو
لا خبرا بعد خبر.
وأمّا حكاية عدم
اجتماع المؤثّرين المستقلّين.
__________________
ففيه ما لا يخفى ،
إذ العلل الإعرابية كالعلل الشرعيّة ، معرّفات وعلامات لا علل حقيقية ، ولا ريب في جواز اجتماع
المعرّفات.
أقول : ويرد عليه
أيضا مضافا الى ما ذكر ، النقض بصورة التجوّز ، فلو استعمل الهيئة المذكورة في الإخراج عن الجميع ،
فيكون مجازا على رأي المستدلّ ولم ينقل عنه القول ببطلان الاستعمال ، فيعود
المحذور عليهم . ولا يمكنهم دفع ذلك بالتزام الإضمار مع كلّ منهما من جهة
أنّه نفس التجوّز الّذي ذهبوا إليه.
فإنّ المراد
بالتجوّز المبحوث عنه ، هو استعمال لفظ وضع لإخراج شيء عن عامّ واحد في الإخراج عن
عمومات متعدّدة على التبادل ، وهو لا يستلزم الإضمار مع كلّ واحد ، فالإضمار خلاف
أصل آخر يجب التحرّز عنه على القول بالمجازيّة أيضا.
ثمّ إنّ تصحيح
التجوّز وبيان العلاقة في هذا المجاز ، دونه خرط القتاد ، ولا يصحّ جعله من باب
استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، إذ الإخراج عن الأخيرة ليس جزء للإخراج
عن كلّ واحد كما لا يخفى.
وأمّا التجوّز
بإرادة الجميع من حيث المجموع ، فهو خارج عن المتنازع ، مع أنّ لهذه العلاقة شرطا
وهو مفقود ، ولا العكس .
__________________
بتقريب أن يقال :
إنّه موضوع للإخراج المخصوص ، وهو الإخراج عن الأخيرة فاستعمل في الإخراج المطلق
الشامل للإخراج عن الأخيرة ، والإخراج عن غيرها ، فإنّ جزء الموضوع له هو مطلق
الإخراج ، أي الماهيّة الجنسيّة ، ولا ريب أنّه لم يستعمل فيه حينئذ ، بل استعمل في فرد خاصّ آخر منه وهو الإخراج عن كلّ
واحد ، وهذا ليس من باب إطلاق المشفر على شفة الإنسان ، إذ الشفة ماهيّة مشتركة
بينهما وبين غيرهما أيضا من شفاه الحيوانات ، ومع ملاحظة هذا النوع من العلاقة
يصحّ استعماله في كلّ شفة ، بخلاف ما نحن فيه ، لعدم جواز استعماله في كلّ إخراج.
نعم لو فرض الكليّ
الذي هو جزء الإخراج عن الأخيرة هو القدر المشترك بينه وبين الإخراج عن الجميع ،
لتمّ ما ذكر ، وليس فليس. وما ذكرنا أيضا ممّا يوهن هذا القول ويضعّفه.
هذا كلّه ، مع
أنّه لو تمّ هذا الاستدلال لا يضرّ ما اخترناه في المسألة أصلا ، فإنّا لا نقول
بجواز رجوعه الى كلّ واحد ، لا حقيقة ولا مجازا.
ومنها : أنّ الاستثناء من الاستثناء يرجع الى ما يليه دون ما
تقدّمه اتّفاقا ، فإذا قال القائل : ضربت غلماني إلّا ثلاثة إلّا واحدا ، كان
الواحد المستثنى راجعا الى الجملة التي تليه دون ما تقدّمها ، فكذا في غيره ، دفعا
للاشتراك .
__________________
وفيه أوّلا : أنّ
الكلام في الجمل المتعاطفة لا غير.
سلّمنا ، لكنّ
الاتّفاق فارق.
سلّمنا ، لكنّ
المانع في المقيس عليه موجود من جهة لزوم اللّغوية لو عاد الى غير الأخيرة أيضا ،
لأنّه لو رجع مع الرّجوع الى الاستثناء الأوّل الى المستثنى منه أيضا لزم أن يخرج
من المستثنى منه مثل ما أدخل فيه ، فيبقى الاستثناء الأخير لغوا ، كما لو قيل : له
عليّ عشرة إلّا ثلاثة إلّا واحدا ، فالكلام بعد استثناء الثلاثة اعتراف بالسّبعة.
وإذا أخرج من
الثلاثة واحد بالاستثناء الثاني ، يرجع الاعتراف الى الثمانية ، ثمّ إذا رجعناه
الى العشرة ثانيا ، فيخرج من العشرة أيضا واحدا ويصير اعترافا بالسّبعة وهو
المستفاد من الاستثناء الأوّل ، فيبقى الاستثناء الثاني لغوا.
وحجّة القول
بالتوقّف : هو تصادم الأدلّة وعدم ظهور شيء مرجّح لأحد الأقوال عنده.
ثمّ إنّك إذا أحطت
خبرا بما ذكرنا ، تقدر على استخراج الأدلّة على حكم سائر المخصّصات ، وإنّ الكلام
فيها واحد ، فلا حاجة الى الإعادة.
__________________
قانون
إذا تعقّب العامّ ضمير يرجع الى بعض ما
يتناوله ، فقيل : إنّه يخصّص
.
وقيل : لا . وقيل : بالوقف . وذلك مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ،) الى أن قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.) فإنّ الضمير في قوله تعالى : (بِرَدِّهِنَّ ،) بل في : (وَبُعُولَتُهُنَّ ،) للرجعيّات.
فعلى الأوّل يختصّ
التربّص بهنّ ، وعلى الثاني يعمّ البائنات ، وعلى الثالث يتوقّف.
احتجّ المثبتون :
بأنّ تخصيص الضمير مع بقاء عموم ما هو له يقتضي مخالفة
__________________
الضمير للمرجوع
إليه ، فلا بدّ من تخصيص العامّ لئلّا يلزم الاستخدام ، فإنّه وإن كان واقعا في الكلام ، لكنّه مجاز.
واحتجّ النافون :
بأنّ اللّفظ عامّ فيجب إجراؤه على عمومه ما لم يدلّ دليل على تخصيصه ، ومجرّد
اختصاص الضمير العائد في الظّاهر إليه ، لا يصلح لذلك ، لأنّ كلّا منهما لفظ
مستقلّ ، فلا يلزم من خروج أحدهما عن ظاهره ، خروج الآخر.
واحتجّ المتوقّفون
: بتعارض المجازين وتساقطهما وعدم المرجّح .
وقد يقال في ترجيح
الأوّل : بأنّ عدم التخصيص مستلزم للإضمار ، لأنّ المراد من قوله
تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَ) بعولة بعضهنّ ، والتخصيص أولى من الإضمار.
وقد يجاب عنه :
بأنّ الضمير كناية عن البعض ، فلا إضمار ، فالأمر مردّد بين التخصيص
والمجاز لا التخصيص والإضمار ، ولا ترجيح للتخصيص على المجاز.
وقد يقال : انّ ذلك تردّد بين التخصيصين ولا وجه لترجيح أحدهما على
الآخر.
__________________
وفيه ما فيه ، إذ
المراد التجوّز الحاصل من صرف الضمير عن ظاهر وضعه وهو المطابقة للمرجع
وهو لا يستلزم كونه من باب التخصيص وإن اتّفق تحقّقه في ضمنه في بعض الأحيان ، مع
أنّ العموم غير مسلّم في الضمير ، فإنّ وضعه للجميع لا غير ، فالأولى التمسّك
بترجيح التّخصيص على مطلق المجاز .
وقد يرجّح الثاني
، بأنّه يستلزم مجازا واحدا في الضمير بخلاف الأوّل ، فإنّ مجازيّة العامّ يستلزم
مجازيّة الضمير أيضا فيتعدّد المجاز.
وقد يجاب عن ذلك : بأنّه مبنيّ على كون وضع الضمير لما كان المرجع
ظاهرا فيه حقيقة له . لكنّ الحقّ أنّه حقيقة فيما هو مراد من المرجع ، ولو كان
معنى مجازيا.
وفيه : أنّ الضمير
وإن كان حقيقة في المراد لكنّ ظاهر اللّفظ كاشف عن المراد فهو المعيار ، فالمعتبر
فيه هو ظاهر اللّفظ.
إذا عرفت هذا ،
فالأظهر عندي هو القول الأوسط .
وبيانه يتوقّف على
ذكر فائدتين :
الأولى :
أنّ في معنى كون الأصل في الضمير
المطابقة للمرجع ، وكون وضع الضمير
في
__________________
الأصل لما هو ظاهر
فيه حقيقة له أو المراد منه غموضا . وذلك لأنّ وضع الضمائر قد عرفت أنّه من قبيل الوضع العامّ
وأنّ الموضوع له فيها كلّ واحد من خصوصيات الأفراد ، لكن بوضع واحد إجماليّ ،
وبذلك يمتاز عن المشترك كما أشرنا إليه في أوّل الكتاب.
وعلى هذا فضمير
المفرد المذكّر الغائب مثلا إذا استعمل في كلّ واحد من أفراد المفرد المذكّر
الغائب ، يكون حقيقة ، وكذلك اسم الإشارة ، مثل : هذا ، لكنّها تحتاج في إفادة
المعاني الى القرينة ، نظير استعمال النّكرة في الفرد المعيّن عند المتكلّم الغير
المعيّن عند المخاطب ، فلا دخل لحقيقة المرجع ومجازه في وضع الضمير بهذا المعنى.
نعم ، لمّا كان
المعتبر في وضع ضمير الغائب مثلا معهوديّة المرجع بين المتكلّم والمخاطب ولو
بمقتضى الحال والمقام ، فلا بدّ أن يستعمل ضمير الغائب في المفرد المذكّر الغائب
المعهود.
والعهد إن كان
باللّفظ الذي أريد به المعنى الحقيقي أو كان بغير اللّفظ كمقتضى المقام أو بلفظ
مجازيّ مقرون بالقرينة ، فلا إشكال في تحقّق الوضع الأصلي ووروده على مقتضاه
حينئذ.
__________________
وأمّا إذا كان
المرجع لفظا له حقيقة وأريد به المعنى المجازي ، فلمّا كان مقتضى أصل الحقيقة حمل اللّفظ على معناه
الحقيقي ، فيقتضي ذلك الأصل أنّ المراد من ذلك اللّفظ هو ما كان ظاهرا فيه ، ويحصل
العهد بينهما بدلالة الظّاهر ، فإذا دلّت القرينة على إرادة خلاف الظّاهر منه بعد
ذكر الضمير ، فيكشف عن عدم معهوديّة المرجع ، وذلك يستلزم استعمال الضمير في غير
ما وضع له ، وهذا هو معنى مجازيّة الضمير اللّازمة على تقدير تخصيص العامّ.
وبما ذكرنا تقدر
على فهم المجازيّة في سائر أنواع الاستخدام الذي يحصل
__________________
بغير إرادة بعض
أفراد الموضوع له من سائر العلائق.
والحاصل ، أنّ
مقتضى وضع الضمير الغائب رجوعه الى متقدّم معهود مفهوم بينهما بالدّلالة الحقيقيّة
والحاصلة بالقرينة ، وإذا ظهر بعد ذكر الضمير خلاف مقتضى العهد والدلالة ، ظهر
كونه مجازا.
الثانية :
إنّك قد عرفت سابقا
أنّ التشاغل بالكلام مع احتمال عروض ما يخرجه عن الظاهر من اللّواحق ، وبقاء مجال إلحاق اللّواحق ، لا يخرج اللّفظ الظاهر في معنى
مثل العموم عن الظاهر حتّى يثبت تعلّق اللّواحق به وإخراجه عن الظاهر. فالعامّ
المذكور أوّلا ظاهر في معناه الحقيقي حتّى يأتي ما تحقّق كونه مخصّصا له. وما
يتوهّم أنّ ذلك ينافي عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص ، ومقتضى ذلك
التوقّف عن الحكم بإرادة الحقيقة من العامّ حتى يتمّ الكلام ، فلا يحكم بالظهور في
معناه الحقيقي إلّا مع انتفاء احتمال إرادة المجاز.
ففيه : أنّ البحث
عن وجود المخصّص وعدمه ، غير البحث عن كون ذلك الشيء مخصّصا أم لا. والّذي يقتضيه
تلك القاعدة هو الأوّل لا الثاني.
وأيضا فأصالة
الحقيقة تقتضي الحكم بظهورها في المعنى الحقيقي ، وغلبة التخصيص تقتضي الحكم بعدمه
، فهو مراعى حتّى يتفحّص ، وبعد التفحّص والتأمّل في أنّ ذلك الذي وقع في الكلام
من اللّواحق هل يقتضي التخصيص أم لا ، فإذا لم
__________________
يحصل الظنّ
بالتخصيص فيحكم بأصل الحقيقة.
وبالجملة ، الذي
يضرّ بأصل الحقيقة هو ظنّ التخصيص ، ولا يجب في إعمال أصل الحقيقة الظنّ بعدم
المخصّص ، بل عدم الظنّ به كاف. هذا مع انّا لو فرضنا التفحّص من الخارج وثبت
تخصيص ما له من وجه آخر ، فلا وجه للتوقّف بعد ذلك كما أشرنا في القانون السّابق . وكذلك لو حصل الظنّ بالعدم من الخارج ، وبقي الإشكال في كون
اللّاحق في الكلام مخصّصا.
وبالجملة ، فرق
بيّن بين توقيف العامّ عن العمل حتى يحصل الظنّ بعدم المخصّص الواقعي ، وبين
توقيفه عن العمل حتّى يحصل الظنّ بعدم كون ما يحتمل كونه مخصّصا من اللّواحق في
الكلام أو غيرها مخصّصا له ، والكلام إنّما هو في الثاني.
إذا تمهّد هذا ،
فنقول في توضيح جميع المقامات المذكورة فيما نحن فيه :
إنّه إذا ابتداء
في الكلام بذكر العامّ ، مثل لفظ المطلّقات ، فنقول : أنّ ظاهرها العموم.
وإذا قيل : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ.)
فنقول : إنّ
المراد منها الغير المدخولات وغير اليائسات على الأقوى ، فبقي العامّ ظاهرا في الباقي ، إذ مرادنا من أصل العموم
أعمّ من الحقيقة الأوّلية أو الظهور الحاصل في الباقي.
وإن قلنا
بمجازيّته في الباقي أيضا ، فحينئذ المطلّقات أيضا ظاهرة في ذوات الأقراء مطلقا.
__________________
وإذا قيل : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.) علمنا أنّ الحكم بالردّ مختصّ بالرجعيّات ، لكن لم يظهر من
ذلك أنّ المرجع أوّلا هل كان هو الرجعيّات أو الأعمّ ، فأصل العموم بحاله. وإن كان
المراد به تمام الباقي لا نفس المدلول ، فلا دليل على تخصيص العدّة بالرجعيّات ،
وعدم ثبوت الإرجاع كاف ، ولا يجب ثبوت العدم.
فظهر أنّ احتمال
كون مخالفة الضمير مخصّصا للمرجع ، لا يضرّ لظهور المرجع في العموم ، مع أنّه يمكن
القلب بأنّ قاعدة لزوم مطابقة الضمير للمرجع أيضا عامّ ، ويمكن أن يكون مخصّصا بما
سبقه ظاهر ينافي حمله على مقتضى قاعدة المطابقة.
هذا مع أنّ الظاهر
أصل ، والضمير تابع ، والدلالة الأصلية أقوى من الدلالة التبعيّة ، والتصرف في
الأضعف أسهل.
__________________
قانون
لا خلاف في أنّ اللّفظ الوارد بعد سؤال ، أو عند وقوع حادثة ، يتبع السّؤال ، وتلك الحادثة في
العموم والخصوص إذا كان اللّفظ غير مستقلّ بنفسه ، بمعنى أنّه يحتاج الى انضمام
السّؤال إليه في الدلالة على معناه ، إمّا لذاته وباعتبار الوضع كقوله عليهالسلام «وقد سئل عن بيع
الرّطب بالتّمر : أينقص إذا جفّ».
«فقيل : نعم. فقال
: فلا إذن» .
أو بحسب العرف ،
مثل قولك : لا آكل ، في جواب من قال : كل عندي.
فإنّ أهل العرف
يفهم تقييد الجواب ، يعني لا آكل عندك.
وكذا لو كان مستقلا
مساويا للسّؤال في العموم والخصوص ، مثل ما لو قيل : ما على المجامع في نهار شهر
رمضان؟
فيقول : على
المجامع في نهار شهر رمضان الكفّارة.
أو أخصّ من
السّؤال مع دلالته على حكم الباقي على سبيل التّنبيه مع كون السّامع من أهل
الاجتهاد ووسعة الوقت لذلك ، لئلّا يفوت الغرض ، كأن يقال في جواب السّؤال عن
الزكاة في الخيل : في ذكور الخيل زكاة ، أو : ليس في إناثه زكاة. فإنّ الإناث لمّا
كانت هي محلّ النموّ ففي إثباتها في الذّكور يثبت في الإناث بطريق أولى ، ومن
نفيها في الإناث ينفى عن الذّكور كذلك.
ولو كان أعمّ منه
في غير محلّ السّؤال مثل قوله عليهالسلام «وقد سئل عن ماء
البحر :
__________________
هو الطهور ماؤه ،
الحلّ ميتته» فإنّ السّؤال عن الماء ، والجواب عن الماء وعن الميتة ،
فيتبع عموم الجواب في المقامين أيضا لعدم مانع من
ذلك.
وأمّا لو كان
اللّفظ أعمّ منه في محلّ السّؤال ، مثل قوله عليهالسلام «وقد سئل عن بئر
بضاعة : خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته»
. وقوله عليهالسلام «لمّا مرّ بشاة
ميمونة على ما رواه العامّة : أيّما إهاب دبغ فقد طهر» .
فاختلفوا فيه ،
والحقّ ـ كما هو مختار المحقّقين ـ أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص المحلّ .
وبعبارة أخرى
السّبب لا يخصّص الجواب.
وقيل : إنّ السبب
مخصّص للجواب .
__________________
لنا : أنّ المقتضي
ـ وهو اللّفظ الموضوع للعموم ـ موجود ، والمانع مفقود ، وما يتصوّر مانعا سنبطله ،
ولعمل العلماء والصحابة والتّابعين على العمومات الواردة على أسباب خاصّة ، بحيث
يظهر منهم الإجماع على ذلك ، كما لا يخفى ذلك على من تتبّع الآثار وكلام الأخيار.
احتجّوا : بأنّه
لو كان عامّا في السّبب وغيره ، لفاتت المطابقة بين الجواب والسّؤال.
وفيه : أنّ
المطابقة إنّما يحصل بإفادة مقتضى السّؤال ، والزيادة لا تنفي ذلك مع ما فيه من
كثرة الإفادة ، وبأنّه لو كان يعمّ غير السّبب لجاز تخصيص السّبب وإخراجه
بالاجتهاد كما يجوز في غيره ، والتالي باطل والمقدّم مثله.
__________________
وفيه : أنّ عدم
جواز إخراج السّبب إنّما هو لأجل أنّه بمنزلة المنصوص عليه المقطوع به ، وبأنّه لو
لم يخصّ بالسّبب لما كان لنقل السّبب فائدة ، مع أنّهم بالغوا في ضبطه وتدوينه ،
وليس ذلك إلّا لأجل الاختصاص به.
وفيه : أنّ
الفوائد كثيرة :
منها : معرفة شأن
ورود الحكم.
ومنها : معرفة كون
هذا الفرد بمنزلة المقطوع به لئلّا يخرج بالاجتهاد.
ومنها : معرفة
السّير والقصص ، وغير ذلك من الفوائد.
وبأنّ من حلف :
والله لا تغذّيت ، بعد قول القائل : تغذّ عندي ، لا يحنث بكلّ تغذّ ، بل إنّما
يحنث بالتغذّي عنده فقط ، فلو لم يكن السّبب مخصّصا لحصل الحنث بكلّ تغذّ ، وهو
باطل بالاتّفاق.
وفيه : أنّ العرف
دلّ على هذا التخصيص كما أشرنا إليه سابقا.
قانون
اختلفوا في جواز تخصيص العامّ بمفهوم
المخالفة بعد اتّفاقهم على جوازه
في مفهوم الموافقة
، والأكثر على الجواز .
حجّة الأكثرين :
أنّه دليل شرعيّ عارض بمثله ، وفي العمل به جمع بين الدليلين ، فيجب.
واحتجّ الخصم :
بأنّ الخاصّ إنّما يقدّم على العامّ بكون دلالته على ما تحته أقوى من دلالة العامّ على ذلك ،
والمفهوم أضعف دلالة من المنطوق ، فلا يجوز حمله عليه.
وقد أجيب عنه مرّة : بأنّ الجمع بين الدليلين أولى من إبطال أحدهما
، وإن كان أضعف.
وأخرى : بمنع كون العامّ أقوى ، بل لا يقصر المفهوم الخاصّ غالبا
عن العامّ
__________________
المنطوق ، سيّما
مع شيوع تخصيص العمومات.
أقول : وفي أوضاع
الحجّتين والجوابين مع ملاحظة ما قرّروه في باب التعادل والتّرجيح تشويش واضطراب.
وذلك لأنّهم ذكروا في باب التعادل ، أنّ تعادل الأمارتين وتساويهما من جميع الوجوه ، يوجب التخيير أو التساقط ،
والرّجوع الى الأصل أو التوقّف على اختلاف الآراء ، وأنّ ذلك إنّما هو بعد فقد
المرجّحات وعدم إمكان الجمع بين الدليلين. وكأنّه لا خلاف بين العلماء في وجوب
الجمع بين الدّليلين مع الإمكان ، وأنّ التخيير وغيره من الأقوال إنّما هو بعد فرض
عدم الإمكان. وممّن صرّح بكون ذلك إجماع العلماء ، الفاضل ابن الجمهور في «عوالي اللّئالئ» ، حيث قال بعد ذكر مقبولة عمر بن
__________________
حنظلة الواردة في ذكر المرجّحات : انّ كلّ حديثين ظاهرهما
التعارض يجب عليك أوّلا البحث عن معناهما وكيفيّات دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك
التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدّلالات ، فاحرص عليه واجتهد في تحصيله
، فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء ،
فإذا لم
__________________
تتمكّن من ذلك أو
لم يظهر لك وجهه فارجع الى العمل بهذا الحديث . انتهى.
فعلى هذا ، إذا
تعارض دليلان من الأدلّة مثل خبرين جامعين لشرائط القبول أو ظاهر آيتين أو نحو ذلك
، فلا بدّ أوّلا من ملاحظة الجمع والعمل بهما إمّا بالتخصيص أو بالتقييد إذا كان
بينهما عموم وخصوص أو إطلاق وتقييد ، أو بحمل أحدهما على بعض الأفراد وحمل الأخير
على بعض آخر إذا كان بينهما تناقض أو نحو ذلك ، ومع العجز عن ذلك لمانع خارجي ،
مثل التناقض في قضيّة شخصيّة أو إجماع على عدمه ، فيرجع الى المرجّحات ، ومع
التساوي ، فالأقوال المذكورة .
فقولهم : بالجمع
مع عدم ملاحظة المرجّحات تمسّكا بكونه جمعا بين الدليلين ، ينافي تعليل تقديم
الخاصّ على العامّ بكونه أقوى ، كما في حجّة الخصم.
وكذلك قول المجيب
الأوّل وغيره بالجمع بين الدليلين وإن كان أحدهما أضعف ، ينافي رجوعهم الى
المرجّحات واعتبار القوّة والضعف في المقامات ، مثل تخصيص القرآن بخبر الواحد
وغيره من مقامات الجمع ، فإنّهم يعتبرون التّرجيحات أيضا.
فالمناص عن هذا الإشكال وتحقيق المقام ومحصّل ما ذكروه في قاعدة التعادل والترجيح
مع تحرير منّي وتصحيح على ما اقتضاه الحال والمقام :
__________________
إنّ مرادهم في
مقام لزوم الجمع مع الإمكان من عدم الرّجوع الى المرجّحات الخارجيّة ، إنّما هو
بالنسبة الى الهجر والترك والإسقاط ، لا بالنسبة الى إرجاع أحدهما
الى الآخر ، فإنّ إرجاع أحد الدّليلين الى الآخر أو إرجاعهما الى ثالث ، يقتضي
إخراج اللّفظ عن الحقيقة الى المجاز ، إذ العمل بالمتخالفين مع بقائهما على
حقيقتهما ممّا لا يمكن بالضّرورة.
فكما يمكن إخراج
العامّ عن حقيقة العموم ، يمكن إخراج الخاص عن حقيقة الخصوص أيضا ، فلا بدّ في
توجيه التأويل الى أحدهما دون الآخر من مرجّح ، فلا ينافي عدم الرّجوع الى
المرجّحات فيما أمكن فيه الجمع من جهة القبول مطلقا والإسقاط مطلقا ، وجوب الرّجوع اليها في إرجاع التأويل الى
أحدهما دون الآخر .
ومرادهم من العمل
بالدليلين ، العمل بهما على ما هو مقتضى مدلولهما إمّا بالحقيقة أو بالمجاز الذي
يصحّ في محاورات أهل اللّسان ، وهو ما وجد فيه العلاقة المصحّحة المقبولة عند أهل
البيان ، والقرينة الصّارفة عن الحقيقة والمعيّنة لذلك المعنى المجازي كذلك ، بأن
تكون موجودة في اللّفظ أو مقارنة معها ، أو كاشفة عن كون اللّفظ مقترنة حين
التكلّم بقرينة تدلّ على هذا المعنى ، ولا يكفي في
__________________
ذلك مجرّد احتمال
اللّفظ لذلك .
وكذلك معنى إرجاع
أحدهما الى الآخر ، إبقاء أحدهما على حقيقته ، وإرجاع الآخر إليه كذلك .
ومعنى إرجاعهما
الى ثالث ، إثبات القرينة للتجوّز في كليهما ، بحيث يحصل من التجوّز فيهما معنى
ثالث.
مثال الأوّل : العامّ والخاصّ المطلقان ، فإنّ العمل بالخاصّ يوجب
العمل بالدليلين في الجملة ، أمّا في الخاصّ فبحقيقته ، وأمّا في العامّ فبمجازه
المتعارف وهو التخصيص. ومجرّد وقوع العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر في كلام متكلّم
واحد أو متكلّمين كانا في حكم واحد ، قرينة على إرادة التخصيص ، سيّما وفيه إشارات
من كلام الشّارع أيضا بأنّ في كلامه عامّا وخاصّا ولا بدّ من معرفتهما.
ومثال الثاني : إرجاع عامّين متنافيين الى خاصّين ، وذلك يحصل بين
المتناقضين مثل : أنّه ورد في الأخبار أنّ الأمّ أحقّ بحضانة الولد الى سبع سنين ،
وورد أيضا أنّ الاب أحقّ بحضانته الى سبع سنين ، فالجمع بينهما بأنّ المراد بالولد
في الأوّل الأنثى ، وفي الثاني الذّكر عمل بالدليلين ، وإخراج لكليهما عن حقيقتهما
بالتخصيص ، لكنّ الخاصّ هنا في الأخبار غير ظاهر ، فيشكل الاعتماد بهذا الجمع
لإخراج اللّفظ عن الحقيقة ، وعدم تنزيله على مجاز متعارف عند أهل اللّسان ، لعدم
القرينة عليه ، إلّا أن يجعل الشّهرة بين الأصحاب قرينة على أنّهما لعلّهما كانتا
مقترنتين بقرينة مفهمة لذلك.
__________________
وأمّا الذي وجد
فيه القرينة من الأخبار ، فأمره واضح ، مثل : الأخبار الواردة في أنّ العاري يصلّي
قائما ويومي ، والأخبار الواردة في أنّه يصلّي قاعدا ، فالمشهور أنّ الأخبار
الأوّلة محمولة على الأمن من المطّلع ، والثاني على العدم ، وبهذا التفصيل رواية
صحيحة كالمخصّص لكليهما وهي قرينة لذلك الحمل.
وأمّا مطلق الحمل
كيفما اتّفق كما يذهب إليه بعض من أفرط في التأويل ، فلا دليل عليه ، مثل : إنّ بعضهم إذا رأى خبرا ورد بلفظ
الأمر وآخر بلفظ النّهي في ذلك بعينه ، فيجعل الأمر بمعنى الإذن والنهي بمعنى مطلق
المرجوحيّة ويثبت بذلك الكراهة ، وهو خارج عن مدلول كليهما ، فإذا لم يكن قرينة
على ذلك حاليّة أو مقاليّة ، فلا يجوز ذلك بمجرّد انّه جمع بين الدليلين ، ولا
يكون عملا بكلام الشّارع لا بحقيقته ولا مجازه ، أمّا الحقيقة فظاهر ، وأمّا
المجاز ، فلأنّ المجاز هو المعنى الذي أفهمه القرينة ، وهو مسبوق بوجود القرينة
والعلم بها ، ومجرّد احتمال وجود قرينة توجب فهم المخاطبين المشافهين ، كذلك لا يجوز الحكم بإرادة ذلك ، ولا يورث الظنّ بإرادة ذلك.
فهذا ممّا لا يمكن فيه الجمع والعمل بالدليلين ولا بدّ من التخيير بعد اليأس عن
الترجيح ، مع أنّ هذا ليس عملا بالدّليل ، بل هو ذكر احتمال في معنى الدّليل.
فالتحقيق في جواب
حجّة الخصم منع كون المفهوم أضعف من العامّ المنطوق مطلقا ، سيّما مع غلبة تخصيص
العمومات وشيوعه ، ومع التساوي فيحمل العامّ
__________________
على الخاصّ لا
لمحض الجمع بين الدّليلين حتّى يرد أنّه لا دليل عليه كما بيّنا ، بل لأنّ
اجتماعهما مع تساويهما ، قرينة لإرادة ذلك في العرف ، سيّما مع غلبة التّخصيص
وشيوعه.
وأمّا ما يقال من
الرّجوع الى مراتب الظنّ باعتبار الموارد ، فحيثما حصل في المفهوم ظنّ أقوى من
العامّ فيخصّص به ، وإلّا فلا ، فهو خروج عن طريقة أرباب الفنّ ورجوع الى القرائن
، ومحطّ نظر الأصولي هو ملاحظة المقام خاليا عن القرائن ، وإلّا فمع الالتفات الى
المرجّحات الخارجة ، فيعتبر ذلك في إرجاع التأويل الى أحد الدليلين دون الآخر مع
ثبوتهما ، أو إليهما معا مع التساوي والإمكان أو التخيير بينهما أيضا.
فنقول : مع كون
الخاصّ أقوى ، فلا إشكال في ترجيح الخاصّ وإرجاع العامّ إليه وإخراجه عن حقيقته.
وأمّا مع كون
العامّ أقوى ، فلا يجوز إذا كان العامّ أقوى من جهة الاعتضاد ، أو كان المفهوم
أضعف من جهة خصوص المقام.
وأمّا مع التساوي
فالمرجّح للتخصيص هو شيوع التّخصيص ، وكونه خيرا من سائر المجازات لأجل ما ذكروه
في تعارض الأحوال ، من أنّ الغفلة عنه لا يوجب ترك المراد رأسا ، بخلاف سائر المجازات ، فليس
الاعتماد في التخصيص بمحض أنّه جمع بين الدّليلين كما ظنّه بعض المحقّقين ، لإمكان ذلك
__________________
بإبقاء العامّ على
حقيقته وتأويل الخاصّ بمجاز آخر ، فالاعتماد هنا أيضا على المرجّح ، فمع وجود
المرجّح في أحد الطرفين وموافقته لمحاورات أهل اللّسان من مراعاة شرائط المجاز ،
لا يجوز التجوّز في الطرف الآخر ، فرجع مآل الكلام جملة الى ما يترجّح في النظر
ويحصل به الظنّ من الأمارتين بعد ملاحظة قواعد اللّفظ وفهم المعاني. فهذا أيضا
يرجع الى ملاحظة التراجيح وبعد العجز عنه يرجع الى التخيير أو التوقّف. فالتخصيص
والتقييد وأمثالهما أيضا في الحقيقة يرجع الى الإثبات والإسقاط ، إلّا أنّ في ذلك
إثبات البعض ، وإسقاط البعض ، وفيما لا يمكن الجمع إسقاط الكلّ وإثبات الكلّ ، مع
أنّ القول بأنّ التخصيص فيما نحن فيه عمل بالدليلين مشكل ، بل هو إلقاء أحدهما
وإعمال الآخر. فإنّ التخالف إنّما هو في بعض مدلول العامّ ونفس الخاصّ ، ولا ريب
أنّ مع العمل بالخاصّ يلغى ذلك البعض ، وإن لوحظ مجموع مدلول اللّفظ في الجانبين ، فلا يخفى أنّ
المفهوم أيضا ليس تمام مدلول اللّفظ ، بل بعضه كما أشار إليه بعض الأعلام ، فلا مناص عن ملاحظة المرجّحات
في الكلّ ، أعني في العمل بالدليلين معا في الجملة ، وفي طرح أحدهما ، ويشهد به إطلاق الأخبار الواردة في علاج الأخبار المختلفة ، وسيجيء تمام الكلام في
آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
وفذلكة المقام في
ضابطة الجمع والترجيح أنّ التخالف الحاصل بين الدليلين
__________________
سبب لأن يكون
العمل بأحدهما تركا لظاهر الآخر وحقيقته ، أو تركا لظاهرهما معا ، ومع ترك الظاهر
إمّا يحصل قرينة على إرادة خلاف الظاهر من نفس المتعارضين ، أو الخارج ، فبذلك
يندرج في الدّلالة المجازيّة المتعارفة ويكون هذا أيضا مع القرينة من جملة الظواهر
، أو لا تحصل ومع ذلك فإمّا يمكن تأويل هناك بمعنى احتمال ينزل عليه المخالف ولو
لم يكن ظاهرا ، أو لا يمكن.
فحينئذ نقول : إن
أراد القوم من قولهم : الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، أنّه لا يجوز ردّ كلام
الشارع ولو بحمله على محتمل صحيح يناسب سائر كلماته وإن كان بعيدا ، ولم نجعله
شرعيّا دفعا للزوم التناقض كما فعله الشيخ رحمهالله في «التهذيب» لغرض دعاه الى ذلك ، كما ذكره في أوّل كتابه فلا غائلة فيه ، إلا أنّه لا يدلّ دليل
__________________
على وجوبه ، مع
أنّ الظاهر أنّ لفظ الأولى في كلامهم بمعنى الواجب ، كما في قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ.) وإن أرادوا أنّه يجب تنزيل المتخالفين على احتمالين بحيث
لا يوجب طرحهما ، ويكون ذلك مستندا شرعيّا ودليلا في جميع الموارد ، حتى في معنى
مجازي لم يظهر له قرينة في نفس المتعارضين ولا في الخارج ، بل لمحض احتمال عقليّ
لرفع التناقض ، فلا دليل على جواز ذلك فضلا عن وجوبه وجعله مستندا شرعيّا ، فإنّه
يؤول الى الخروج عن كلام الشّارع رأسا ، وفي العمل بأحدهما ، عمل بكلامه في الجملة
، فلا بدّ أن يكون مراد القوم من الأولويّة إمّا مطلق الرّجحان ، أو الوجوب فيما
يمكن جمع يوافق طريقة متفاهم أهل اللّسان كالتخصيص وغيره ، ويكون غيره داخلا في
غير الممكن ، فالمراد من الإمكان ما يعمّ الإمكان بملاحظة العرف.
ثمّ إنّ مجرّد
ظهور القرينة من نفس المتعارضين أو غيرهما على مجازيّة أحدهما أو كليهما ، لا يوجب
الذّهاب الى الاعتماد عليها وإعمالها ، إلّا إذا لم يوجب ترجيح المرجوح ، فإنّ حمل
اللّفظ على المجاز في الحقيقة خروج عن مقتضى الدليل لدليل آخر ، وهو لا يصحّ إلّا
إذا تساويا أو ترجّح القرينة على مقتضى حقيقة اللّفظ ، فلا بدّ من ملاحظة
التّرجيحات في مقام الإرجاع أيضا كما تراهم يعتبرون ذلك في القانون الآتي وغيره
أيضا.
ويظهر بذلك ضعف ما
ذكره العضدي وغيره من لزوم الجمع بين الدليلين ، وإن كان بإرجاع الأقوى الى
الأضعف.
__________________
وأمّا ظاهر كلام
ابن الجمهور ، فنمنع ما ادّعاه من الإجماع بظاهره ، إذ عندنا ما هو أقوى في العمل من ذلك الإجماع المنقول ،
من دلالة العقل على قبح ترجيح المرجوح ، مع أنّ الرّواية صريحة في إرادة
المتناقضين اللّذين لا يمكن الجمع بينهما ، وسؤال الرّاوي فيهما إنّما هو عنهما ،
والسبب ليس مخصّصا للجواب ، ولا يمنع الرّجوع في غير المتناقضين أيضا الى
التّرجيحات.
__________________
قانون
لا ريب في جواز تخصيص الكتاب بالكتاب
، ولا بالإجماع ، ولا بالخبر المتواتر ، ووجهها ظاهر .
__________________
واختلفوا في جوازه
بخبر الواحد على أقوال :
ثالثها : التفصيل
، فيجوز إن خصّ قبله بدليل قطعي .
ورابعها : التفصيل
أيضا بتخصيصه بما خصّ قبل بمنفصل قطعيّا كان أو ظنيّا.
وخامسها : التوقّف
، وقد ينسب الى المحقّق نظرا الى أنّه قال : الدّليل على العمل بخبر الواحد هو
الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة ، ومع وجود الدّلالة القرآنية يسقط
وجوب العمل به. وهذا ليس معنى التوقّف ، بل هو نفي للتخصيص كما لا يخفى ، والأظهر
الجواز كما هو مذهب أكثر المحقّقين.
واحتجّوا عليه :
بأنّهما دليلان تعارضا ، فإعمالهما ولو من وجه ، أولى.
ولا ريب أنّ ذلك
لا يحصل إلّا مع العمل بالخاصّ ، إذ لو عمل بالعامّ بطل الخاصّ ولغي بالمرّة.
__________________
وبعد ما حقّقنا لك
سابقا ، يظهر ما فيه ، لأنّ العامّ كما أنّه يخرج عن حقيقته بالتخصيص بسبب كونه
مجازا حينئذ ، ومع ذلك فنقول : إنّه قد عمل به ، فكذلك الخاصّ إن أريد به معنى
مجازي أيضا ، بحيث لا يوجب ترك ظاهر العامّ وحقيقته. فمحض كونه جمعا بين الدليلين
لا يوجب القول بالتخصيص ، مع ما عرفت من أنّه ليس جمعا بين الدليلين ، بل هو إلغاء
لأحدهما ، إذ المعارضة إنّما هو بين ما دلّ عليه العامّ من أفراد الخاصّ وهو ملغى بأجمعه
حينئذ ، فلا بدّ من بيان وجه التخصيص واختياره.
فالأولى أن يقال :
دليلان تعارضا وتساويا ، وأحدهما عامّ والآخر خاصّ ، وفهم العرف وشيوع التخصيص ،
وكونه أقلّ استلزاما لمخالفة المراد في نفس الأمر ، كلّها مرجّحة لاختيار تخصيص
العامّ بالخاصّ.
وأمّا وجه التساوي
، فستعرف.
احتجّ المانع : بأنّ الكتاب قطعيّ وخبر الواحد ظنّي ، والظنّ لا يعارض
القطع لعدم مقاومته له فيلغى.
و : بأنّ التخصيص
به لو جاز ، لجاز الفسخ ، وهو باطل.
أمّا الملازمة ،
فلأنّه تخصيص في الأزمان ، فهو من أفراد التخصيص ، أو أنّ العلّة في التخصيص هو
أولويّة تخصيص العامّ من إلغاء الخاصّ ، وهو موجود في النسخ.
وأمّا بطلان
التالي فبالاتّفاق.
__________________
والجواب عن الأوّل
: أنّ الكتاب وأن كان قطعيّ الصّدور ولكنّه ظنّي الدّلالة ، وخاصّ الخبر وإن
كان ظنّي الصّدور ولكنّه قطعيّ الدّلالة ، فصار لكلّ قوّة من وجه فتساويا ،
فتعارضا ، فوجب الجمع بينهما ، هكذا ذكروه.
وأنت خبير بأنّ
الخاصّ أيضا ليس بقطعيّ الدّلالة ، سيّما إذا كان عامّا بالنسبة الى ما تحته ،
لاحتمال مجاز آخر غير التخصيص من أنواع المجاز ، مضافا الى احتمال التخصيص فيما
كان عامّا أيضا.
نعم ، هو نصّ
بالإضافة الى العامّ ، وقطعيّ بهذا المعنى ، وهو لا يستلزم قطعيّته مطلقا ، وقد
مرّ توضيح ذلك في مبحث المفهوم والمنطوق.
فالتحقيق في
الجواب هو : أنّهما ظنّان تعارضا وتساويا ، ولأجل أنّ التخصيص أرجح أنواع المجاز
والفهم العرفي ، رجّحنا التخصيص.
وأمّا التساوي ،
فلأنّ المعيار في الاستدلال هو اللفظ من حيث الدلالة ، لا من حيث هو ، والذي نقطع
بصدوره هو لفظ العامّ.
وأما أنّ المراد
منه هل هو معناه الحقيقي أم لا ، فهو غير مقطوع به ، فالذي هو قطعيّ الصّدور هو
لفظ العامّ لا الحكم عليه بعنوان العموم ، فكون الحكم على العموم مراد الشّارع
مظنون ، وكذلك الحكم في الخاصّ على الخصوص مظنون.
والقول بأنّ
الخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره قبيح ، فثبت وجوب العمل بظاهر القرآن مع قطعيّة
المخاطبة به ، إنّما يتمّ بالنسبة الى من يوجّهه الخطاب ،
__________________
والخطابات
الشفاهيّة وما في منزلتها ، مخصوصة بالحاضرين ، كما تقدّم ، وربّما
كانت مقترنة بقرائن تخرجها عن الظاهر قد اختفى علينا كما ظهر في مواضع
كثيرة ، ووجوده في غير ما ظهر أيضا محتمل ، فلم يبق القطع بالمراد فيما لم يظهر ،
وخبر الواحد المخالف لظاهره يمكن أن يكون من جملة تلك القرائن ، وعدم اقتران
القرينة باللّفظ لا يوجب تأخير البيان عن وقت الحاجة ، إذ ربّما كانت مقترنة بها
من جهة الحال لا من جهة المقال ، أو كانت مقترنة بالقول منفصلة عن ظاهر القرآن أو لم تكن مقترنة بها ولم يكن حينئذ وقت
الحاجة ونحو ذلك. وشراكتنا للحاضرين في التكليف إنّما هو فيما علم المراد منها أو
ظنّ ، فإذا لم يمكن العلم بالمراد وأنّ تكليف الحاضرين أيّ شيء كان ، فلا ريب في
الاكتفاء بما ظنّ أنّه مراد ، فأين العلم!
وممّا ذكرنا ، يظهر النقض بحصول العلم بمدلول خبر الواحد أيضا لكونه
خطابا بما له ظاهر لمخاطبه ، فيحصل من ذلك قوّة أخرى في الخبر أيضا ، مع أنّ جواز
العمل بظاهر الكتاب من المسائل الاجتهادية قد خالف فيه الأخباريّون. والتمسّك في
حجيّته وإثبات جواز العمل به بالأخبار يحتاج الى دفع الأخبار المعارضة ، وبالإجماع
، مدفوع بمنعه في موضع النّزاع.
__________________
فظهر بطلان كلام
المحقّق أيضا بالمعارضة بالقلب ، فكما أنّ الإجماع لم يعلم انعقاده على جواز العمل بخبر الواحد فيما كان هناك
عامّ من الكتاب ، فلم يعلم انعقاد الإجماع على حجّية ظاهر الكتاب وعامّه فيما يثبت
من الأخبار الخاصّة ما يعارضه ، سيّما والقائلون بجواز التخصيص جماعة كثيرون ،
وعدم الاعتناء بمخالفتهم مشكل ، مع أنّ في كون العامّ حقيقة في العموم كلاما وهو أيضا من المسائل الاجتهادية ، وقد مرّ. وكذلك العامّ
المخصّص ، بل سدّ باب تخصيص الكتاب بخبر الواحد يوجب المنع من العمل بخبر الواحد ،
إذ قلّما وجد خبر لم يكن مخالفا لظاهر من عمومات الكتاب ، فلا أقلّ من مخالفته
لأصل البراءة الثابتة بنصّ الكتاب مثل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا ما آتاها) ونحو ذلك ، مضافا الى ما يظهر ذلك من تتبّع أحوال السّلف من العلماء
والصّحابة والتابعين كما أشار إليه بعض الأفاضل.
وبالجملة مع
ملاحظة ما ذكروا أضعاف ما ذكر ، ممّا لم يذكر من المضعفات لظاهر الكتاب لا يبقى
إلّا مجرّد دعوى حصول ظنّ من ظاهر الكتاب بمراد الله ، ولا ريب أنّ خبر الواحد
الجامع لشرائط العمل أيضا ، يورث ذلك الظنّ.
__________________
فإن قلت : إنّ الأخبار الكثيرة وردت بأنّ الخبر المخالف لكتاب الله
يجب طرحه وضربه على الجدار ونحو ذلك ، فكيف يصحّ الخروج عن ظاهر الكتاب بخبر الواحد.
قلت : تلك الأخبار
مختلفة متعارضة ، معارضة بمثلها أو بأقوى منها ، من تقديم العرض على مذهب العامّة
والأخذ بما خالفهم ونحو ذلك ، فهي على إطلاقها غير معمول بها ، مع أنّ الظاهر من
المخالفة هو رفع حكم الكتاب كليّا وإن كان يتحقّق بسلب البعض أيضا.
سلّمنا ، لكنّها
مخصّصة بذلك ، لمعارضتها بما هو أقوى منها من الأدلّة الدالّة على حجيّة خبر
الواحد مطلقا ، وما دلّ على جواز تخصيص الكتاب به من الأدلّة أيضا ، إذ قد عرفت
أنّ الخاص إنّما يقدّم على العامّ مع المقاومة ، مع أنّ من جملة أدلّة حجّية خبر الواحد
هو قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...) الخ. وآية النفر ، (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.) والعمل بهذه الأخبار يوجب تخصيصها ، وهو كرّ على ما فررت
منه.
وممّا ذكرنا ، يظهر بطلان ما قيل في هذا المقام أيضا من أنّ تخصيص
__________________
الكتاب بخبر
الواحد يستلزم تخصيص أدلّة خبر الواحد بهذه الأخبار ، فيلزم عدم جواز تخصيص الكتاب
بخبر الواحد لأنّ ما يستلزم ثبوته انتفاؤه ، فهو باطل ، وذلك لما عرفت من ضعف
الاستدلال بهذه الأخبار. فالقول بتخصيص الكتاب بخبر الواحد مخصوص بغير هذه الأخبار
في المخالفة الخاصّة ، فإنّها إمّا مهجورة أو مخصوصة بصورة المناقضة والمنافاة
رأسا.
وأمّا الجواب عن
الثاني : فعن الشقّ الأوّل من الترديد ، بأنّ المسلّم من التخصيص والذي ندّعيه هو
الفرد الخاصّ ، يعني التخصيص في الأفراد لا جميع أفراده أو ما يشملهما.
وعن الشقّ الثاني : فبإبداء الفارق بالإجماع المدّعى في النسخ أوّلا ، وبأنّ
التخصيص أغلب وأشيع وأرجح من النّسخ لكمال وضوح ندرته وغلبة التخصيص ثانيا.
وقد يتمسّك في
إبداء الفرق ، بأنّ التخصيص أهون من النّسخ لأنّه دفع لبعض المدلول قبل العمل به ،
والنّسخ رفع للمدلول المعمول عليه .
وقد يوجّه ذلك :
بأنّ حدوث الحادث محتاج الى العلّة ويكفي في بقائه علّة
__________________
الوجود ، فدفع
حصوله بسبب عدم ثبوت علّته أسهل من دفع ما ثبت ، لعدم احتياجه في الثبوت الى علّة
أخرى ، وهو مع أنّه لا معنى له في أحكام الله تعالى وأفعاله ، ولا يصعب عليه شيء
أبدا ، وأنّه موقوف على إثبات عدم احتياج البقاء الى المؤثّر الجديد ، وهو ممنوع.
وانّ حصول ما لم
يكن في الواقع والخارج ليس بأقلّ من بقاء ما ثبت ، فهو مردود بأنّه لا يرجع الى
محصّل ، إذ الإشكال في أنّ خاصّ الخبر إذا ورد مع عامّ الكتاب ، فهل يقتضي معاملة
أهل اللسان في فهم الألفاظ حمله على النّسخ ، أو التخصيص ، وأيّهما أرجح؟
وكون أحدهما أصعب
في نفس الأمر عن الآخر مع عدم أقلّيته بالنسبة الى الآخر [كالتخصيص] لا يوجب فهمه
من اللّفظ وحمله عليه.
نعم خصوص شيوع
التخصيص وأرجحيّته يوجب ترجيحه ، فبطل القول بعدم الفرق بذلك .
وربّما يقال في بيان الفرق بين النسخ والتخصيص : إنّ في النسخ يراد
دلالة اللّفظ على جميع الأزمنة وإن لم يكن وقوع المدلول مرادا ، بخلاف التخصيص ،
فإنّه لا يراد منه إلّا البعض أوّلا.
فظهر بذلك أنّه لا
رفع في التخصيص أصلا ، بخلاف النسخ ، فإنّ فيه رفعا في الجملة.
وفيه : أنّ ذلك
تحكّم من قائله ، فإنّ إمكان إرادة الدّلالة في العامّ ووجود
__________________
المصلحة في ذلك
أيضا قائم إن أريد مجرّد الإمكان ، وإن أريد الفعليّة في النّسخ دون التخصيص فهو
أيضا ممنوع ، لإمكان أن يكون المراد في النسخ أيضا الحكم في بعض الأزمان مجازا
ولكن تأخّر بيانه ، فالفرق بذلك مشكل.
احتجّ المفصّلون
بما يرجع حاصله بعد التحرير : الى أنّ الخاصّ ظنّي والعامّ قطعيّ ، فلا يقاومه
إلّا مع ظهور ضعف فيه ، وذلك عند الفرقة الأولى بأن يخصّص مرّة بدليل قطعيّ ، وعند
الفرقة الثانية بأن يخصص بمخصّص منفصل. وذلك لأنّ العامّ عند الفرقة الأولى يصير
بذلك مجازا في الباقي ، وعند الفرقة الثانية بهذا. والدلالة المجازيّة أضعف من
الدلالة الحقيقية كما سيجيء في باب التراجيح.
وجوابه : يظهر ممّا مرّ ، فإنّ القطعيّة إنّما كانت في المتن لا
في الدلالة ، والتخصيص إنّما يقع في الدلالة ، فلا ينافي قطعيّة المتن.
وحجّة المتوقّف :
تصادم أدلّة الطرفين ، وعدم المرجّح.
وجوابه : أنّا قد
بيّنا إثبات المرجّح.
__________________
قانون
إذا ورد عامّ وخاصّ متنافيا الظاهر
فإمّا أن يعلم
تاريخهما بالاقتران أو تقدّم الخاصّ أو تقدّم العامّ أو يجهل تاريخهما ، وإن كان
بجهالة تاريخ أحدهما ، فهذه أقسام أربعة.
واعلم أنّ مراد
الأصوليين بالعام والخاصّ في هذا المبحث هو العامّ والخاصّ المطلقان ، فإنّ
العامّين من وجه لا يمكن أن يكون موضوعا لهذا المبحث ، لأنّه لا يقال لهما العامّ
والخاصّ على الإطلاق ، بل هما عامّان من وجه ، وخاصّان من وجه ، ولأنّ الأدلّة
المذكورة في هذا المبحث لا تنطبق إلّا على الأوّل كما لا يخفى على من تأمّلها. فقد
تراهم يجعلون في طيّ هذه الأدلّة ؛ الخاصّ بيانا للعامّ ويفرّعون الكلام فيه على
جواز تأخير البيان ، وهو لا يتمّ في الثاني ، إذ كلّ منهما متّصف بما اتّصف به الآخر من استعداد
البيانيّة والمبينيّة وصيرورة أحدهما بيانا للآخر في بعض الأوقات ، وتخصيصه للآخر
ليس بذاته ، بل إنّما هو بضميمة المرجّحات الخارجية التي قدّمته على الآخر.
وأيضا قولهم في
الصّورة الآتية : بني العامّ على الخاصّ اتّفاقا أو على الأقوى أو نحو ذلك ، لا يجري في الثاني ، إذ لو أريد من بناء العامّ على الخاصّ في
__________________
الثاني بناء كلّ
منهما على الآخر فيلزم تساقطهما جميعا وبطلانهما رأسا كما لا يخفى ، وإن أريد بناء
أحدهما على الآخر ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، ولا مرجّح في أنفسهما كما هو
المفروض ، أي من حيث محض العموم والخصوص ، والاعتماد على المرجّحات الخارجيّة ليس
من جهة بناء العامّ على الخاصّ ، بل من جهة ترجيح أحدهما على الآخر في مادّة
التعارض.
وبالجملة ،
المعارضة بين العامّين بالمعنى الثاني مثل المعارضة بين المتناقضين ، لا بدّ فيه
من ملاحظة المرجّحات الخارجيّة في التخصيص ، يعني بعد ملاحظة المقاومة ونفي رجحان
أحدهما على الآخر أوّلا لاشتراك هذا المعنى بين المعنيين .
وقد غفل بعض
الأعاظم هنا وعمّم البحث ، واستشهد ببعض الشواهد الذي لا يشهد له
بشيء. ومنشأ اختلاط الأمر عليه اختلاط مباحث التخصيص ومبحث كيفيّة بناء العامّ على
الخاصّ في بعض الكتب الأصوليّة ، وأنت خبير بأنّهما مقامان متفاوتان فصّل بينهما
في كثير من كتب الاصول. فمن الشواهد الذي ذكره : أنّ محقّقي الأصوليّين استدلّوا في هذه المسألة على جواز
تخصيص الكتاب بالكتاب بآيتي عدّة الحامل والمتوفّى عنها زوجها ، مع أنّ بينهما عموما من وجه.
__________________
وفيه ما لا يخفى ،
إذ ذكر ذلك ابن الحاجب ومن تبعه في مقام بيان جواز تخصيص الكتاب بالكتاب ، وكلامهم
هذا في مقام الردّ على الظاهريّة حيث منعوا ذلك محتجّين بقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ ،) والتخصيص بيان ، فيجب أن يكون بالسنّة.
وأجابوا عن ذلك : بالمعارضة بقوله تعالى في صفة القرآن : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ،) وبأنّ معنى البيان منه صلىاللهعليهوآله تلاوته للآية المخصّصة ، وبأنّ بيانه مختصّ بالمشتبه ، ومع
وجود المخصّص من الكتاب ، لا اشتباه.
ويندفع كلام
الظاهريّة بمحض إثبات مطلق التّخصيص وإن كان بمعاونة المرجّح الخارجيّ ، وإطلاق
التّخصيص على قصر أحد العامّين من وجه على بعض أفراده بسبب العامّ الآخر ، لا يوجب كون مطلق البحث في بناء العامّ على الخاصّ
بقول مطلق أعمّ من المقامين كما لا يخفى.
هذا على مذهب العامّة ، وأمّا الإماميّة فلمّا كان مذهبهم
اعتبار أبعد الأجلين ، فيجمعون بين الآيتين على غير صورة التخصيص المصطلح بأنّ
المراد أنّ المتوفّى عنها زوجها تتربّص أربعة أشهر وعشرا ، إلّا إذا كانت حاملا
ولم تضع حملها بعد ؛ فتصبر حتّى تضع ، والحامل تصبر حتّى تضع الحمل إلّا إذا كان
متوفّى
__________________
عنها زوجها ولم
يبلغ مدة وضعه له أربعة أشهر وعشرا ، فتصبر بعد الوضع حتى يتمّ الشّهور ، وهذا ليس
معنى التخصيص المصطلح كما لا يخفى على المتدبّر البصير. والذي دعاهم الى ذلك
إجماعهم وأخبارهم المستفيضة ، مع أنّ الظاهر من آية أولات الأحمال ؛ المطلّقات فلا
تعارض.
وأمّا العامّة ،
فبنوا أمرهم في ذلك أوّلا على ترجيح عموم آية أولات الأحمال بسبب دلالة اللّفظ
واقترانها بالحكمة وغير ذلك ، ثمّ خصّصوا بها الآية الأخرى ، وتمام الكلام
فيها في الفروع ، مع أنّ تمثيل ابن الحاجب ونظرائه لا يصير حجّة على أحد.
وامّا المحقّقون
منّا مثل العلّامة في «التهذيب» وغيره فقد مثّلوا لجواز تخصيص الكتاب بالكتاب بآية القروء وآية أولات الأحمال. وكلامهم هذا ظاهر في العامّ والخاصّ
المطلقين ، فإنّ الظاهر من آية أولات الأحمال ، المطلّقات وهي أخصّ من آية ذوات
القروء مطلقا.
ومنها : أنّه
استشهد بكلام صاحب «المعالم» في حواشيه على كتابه ،
__________________
وسيجيء الإشارة
إليه ، والى أنّه لا دلالة فيها على المطلوب بوجه.
وبالجملة ، لا
مسرح لجعل موضوع هذا القانون القدر المشترك بينهما بوجه ، فلنرجع الى تفصيل الكلام
في الأقسام الأربعة ونقول :
القسم الأوّل :
وهو ما علم اقترانهما ، وهو قد يتصوّر في القول والفعل والفعلين مع احتمال إرادة
القولين المتّصلين من دون تراخ أيضا ، إن جعلنا المقارنة أعمّ من الحقيقة.
والحقّ فيه بناء
العامّ على الخاصّ ، من دون نقل خلاف إلّا عن بعض الحنفيّة ، فقالوا : إنّ حكم
المقارنة والجهل بالتاريخ واحد ، وهو ثبوت حكم التعارض في قدر ما يتناولانه فيرجع الى
المرجّحات الخارجيّة. وهذا قولهم في المقارنة الحقيقيّة دون القولين المتّصلين
عرفا ، فالخاصّ المتأخّر مخصّص عندهم فيها والعامّ المتأخّر ناسخ .
لنا : ما مرّ
مرارا من الفهم العرفي والرّجحان النفس الأمري والشيوع والغلبة ، واحتمال التجوّز
في الخاصّ مرجوح بالنسبة إليه.
__________________
وقد يستشكل : بأنّ
الأخبار وردت في تقديم ما هو مخالف العامّة أو ما هو موافق الكتاب
ونحو ذلك ، وهو يقتضي تقديم العامّ لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامّ أو
نحو ذلك.
وفيه : أنّ المبحث
منعقد لملاحظة العامّ والخاصّ من حيث العموم والخصوص لا بالنظر الى المرجّحات
الخارجية ، إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العامّ من جهة مرجّح
خارجي وهو خارج عن المتنازع.
وممّا ظهر لك من
اتّفاق العلماء ـ إلّا من شذّ منهم ـ على بناء العامّ على الخاصّ في صورة الاقتران من جهة محض
العموم والخصوص ، يتّضح لك بطلان تعميم المبحث بحيث يشمل العامّ والخاصّ من وجه
لما ذكرنا سابقا .
القسم الثاني :
وهو ما علم تقدّم العامّ وتراخي زمان صدور الكلام المشتمل على الخاصّ ، فإمّا أن
يكون ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ فيكون ناسخا لا تخصيصا للزوم تأخير
البيان عن وقت الحاجة.
__________________
وقد يستشكل ذلك في أخبارنا المرويّة عن أئمتنا عليهمالسلام فإنّه إذا كان الخاصّ في كلامهم فيلزم وقوع النّسخ بعد
النبيّ صلىاللهعليهوآله وهو باطل لانقطاع الوحي بعده.
وبهذا يظهر إشكال
آخر أورده بعضهم أيضا ، وهو أنّه يلزم عدم جواز العمل بأخبار الآحاد
المخصّصة للكتاب أو الأخبار النبويّة رأسا ، للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والأوّل : مدفوع :
بأنّ لزوم النسخ إنّما هو إذا علم أنّ هذا البيان والتخصيص كان من الرّسول صلىاللهعليهوآله بعد حضور وقت العمل ، لا مجرّد تراخي رواية الإمام عليهالسلام من حيث هو عن زمان العامّ ، فإنّ الأئمة عليهمالسلام حاكون عن النبيّ صلىاللهعليهوآله لا مؤسّسون للشريعة ، فلا بدّ في لزوم الحكم بالنسخ من
إثبات أنّ الخبر الخاصّ من حيث إنّه ناسخ ، متأخّر عن زمان العمل بالعامّ وهو غير
معلوم ، بل خلافه معلوم لاتّفاقهم ظاهرا على أنّ الأحكام الكلّيّة بعد الرّسول صلىاللهعليهوآله باقية الى يوم القيامة ، وإن لم يمتنع عقلا أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله أخبر خلفاءه بأنّ الحكم الفلاني باق بعدي الى الزّمان
الفلاني ثمّ ينسخ ، فعليكم بإجرائه الى ذلك الحين وإخفاء غايته ، ثمّ بيان الغاية
عند انتهاء المدّة.
وبذلك ظهر الجواب
عن إشكال لزوم تأخير البيان أيضا.
والحاصل ، أنّ
الأئمة عليهمالسلام ، يظهرون ما وصل إليهم عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وينشرون ما وقع في زمانه ويبيّنون ما أراده الله في كتابه
وما رام النبيّ صلىاللهعليهوآله من سنّته ، فحالهم مع الأمّة كحال الفقيه مع مقلّده. وقد
أشار الى بعض ما ذكرنا الفاضل المدقّق
__________________
الشيرواني في
حاشيته الفارسيّة على «المعالم».
فعلى هذا ، فلو
فرض أنّ أحد الرّواة سمع العامّ من إمامه وتأخّر سماع الخاصّ عنه عن زمان حضور وقت
العمل به من دون مانع ومن دون عذر ظاهر ، فلا بدّ أن يكون ظهور كونه مكلّفا
بالعامّ الى ذلك الحين من جهة اخرى غير النّسخ مثل تقيّة أو ضرورة أو نحو ذلك ،
علمها الإمام ولم يعلمها الرّاوي ، ولا يلزم بمجرّد ذلك القول بالنسخ حتى يلزم
المحذور ، فتأخير بيان الزّمان ونهايته أيضا قد يكون من غير جهة النّسخ ، فليفهم
ذلك.
وإن كان ورود
الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالعامّ فالأقوى كونه مخصّصا ، لجواز تأخير البيان عن
وقت الخطاب كما سنحقّقه.
وأمّا من لا يقول
بجوازه ، فإمّا يجعله ناسخا إن قال بجواز النّسخ قبل حضور وقت
العمل ، أو يجعله كالمتعارضين ، ويرجع الى المرجّحات الخارجية إن لم يقل بجوازه.
القسم الثالث :
وهو ما علم تقدّم الخاصّ ، فالأقوى وفاقا لأكثر المحقّقين أنّ العامّ يبنى على
الخاصّ . وذهب جماعة منهم السيّد
__________________
والشيخ الى كونه ناسخا للخاصّ.
لنا : رجحان
التّخصيص بما مرّ ، وترجيح الرّاجح واجب.
واستدلّ أيضا :
بأنّ فيه الجمع بين الدليلين في الجملة ، فلو عمل بالعامّ لزم إلغاء الخاصّ إن كان
ورود العامّ قبل حضور وقت العمل به ، ونسخه إن كان بعده ، والتخصيص أولى منهما.
وفيه : أنّ مجرّد
الجمع لا يصير دليلا على اختيار التخصيص ، لإمكانه بغيره ، بأن يرتكب تجوّز في
جانب الخاص ، فلا بدّ من ذكر مرجّح التخصيص ووجه اختياره على غيره ، وقد عرفت أنّ
التخصيص الذي ثبت رجحانه هو التّخصيص في أفراد العامّ لا في أزمانه ، فلا ينافي ما
ذكرنا كون النسخ نوعا من التخصيص أيضا.
واستدلّ أيضا :
بأنّا لو لم نخصّص العامّ وألغينا الخاصّ لزم إبطال القطعي بالظني وهو باطل
بالضّرورة .
__________________
بيان الملازمة :
إنّ دلالة الخاصّ على مدلوله قطعيّ ، ودلالة العامّ محتمل لجواز أن يراد به
الخاصّ. ومرجع هذا الاستدلال الترجيح من جهة قوّة الدّلالة بسبب النصوصيّة وإن لم
يكن قطعيّا في معناه كما أشرنا إليه مرارا ، ولا بأس به.
وترك صاحب «المعالم»
الاستدلال به ، وقال في «الحاشية» : إنّما عدلنا عنه في الأصل لأنّه لا يتمّ إلّا
في بعض صور المعارضة ، وهو ما يكون فيه الخاصّ خاليا من جهة عموم ليكون قطعيّ
الدّلالة ، إذ لو كان له عموم من جهة أخرى ، لم يكن قطعيّا ، فليتأمّل ، انتهى.
والظاهر أنّه أراد
ممّا يكون فيه الخاصّ خاليا من جهة عموم ما كان جزئيّا حقيقيا مثل المثال الذي
سنذكره ، فإنّ الخاصّ الكليّ أيضا عام وظاهر في معناه لا قطعيّ ،
وحسب الفاضل المدقّق انّه أراد بذلك ما كان الخاصّ أعمّ من وجه من العامّ ، وجعل
ذلك شاهدا على دعواه من عموم محلّ النزاع ، بل جعله صريحا في ذلك ، وأنت خبير بما
فيه.
أمّا أوّلا :
فلأنّه لا وجه لجعل المعارضة بين العامّ والخاصّ المطلقين من بعض صور المعارضة مشعرا بقلّته ، بل هو الأغلب.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ مقتضى ذلك أن يكون الدّليل الذي ذكره في الأصل من أنّ العمل بالعام يقتضي
إلغاء الخاصّ دون العكس جاريا في المعنيين ، وهو ممّا لا
__________________
مساغ له في العامّ والخاصّ من وجه ، لعدم الفرق بينهما.
فلنرجع الى الجواب
عمّا أورده صاحب «المعالم» على الدّليل ، ونقول : إنّ عموميّة الخاصّ لا تنفي
نصوصيّته وقطعيّته بالنسبة الى فرد ما من الخاصّ ، بخلاف العامّ ، فإنّه لا قطع
فيه إلّا على دلالته على فرد ما من العامّ ، مع أنّ احتمال التجوّز في الجزئي
الحقيقي أيضا قائم ، وكذا في الخاصّ والعامّ بالنسبة الى غير التخصيص من سائر
المجازات ، فالمراد بالقطعيّة هنا قطعيّة إرادة فرد ما منه بعد فرض أنّ المراد هو
المدلول الحقيقي في الجملة ، فلا وجه لترك هذا الدّليل في مقام الاستدلال.
احتجّ القائل
بالنسخ بوجهين [بوجوه] :
الأوّل : أنّ قول
القائل : اقتل زيدا ، ثمّ لا تقتل المشركين ، بمثابة أن يقول : لا تقتل زيدا ولا
عمروا ولا بكرا الى آخر الأفراد ، ولا شكّ أنّ هذا ناسخ ، فكذا ما هو بمثابته. وجوابه
: المنع عن التساوي ، فإنّ التنصيص يمنع التّخصيص بخلاف ما إذا كان بلفظ العامّ ،
واحتمال غير التخصيص من النسخ وغيره حينئذ مرجوح لما مرّ مرارا فتعيّن التخصيص.
والثاني : أنّ
المخصّص للعامّ بيان ، فكيف يتقدّم عليه.
وجوابه : أنّ
المقدّم ذات البيان ، وأمّا وصف البيانيّة فهو متأخّر.
وما قيل : إنّ وصف البيانيّة حينئذ مقارن للعامّ ، فهو وهم ، لأنّ
وصف البيانيّة
__________________
من حيث هي يتوقّف
على تقدّم ما يحتاج الى البيان ، وكيف كان فالبيان بوصف البيانيّة متأخّر عمّا
يحتاج الى البيان طبعا ، وإن تقدّم عليه وصفا من حيث الذّات.
القسم الرابع :
وهو ما جهل التاريخ ، والمعروف من مذهب الأصحاب العمل بالخاصّ وهو الأقوى لأنّه لا
يخرج عن أحد الأقسام السّابقة ، وقد عرفت في الكلّ رجحان تقديم الخاصّ ، إمّا من
جهة كونه ناسخا لوروده بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، أو لكونه مخصّصا كما
مرّ مفصّلا.
ثمّ إنّ الكلام في
هذه المقامات إذا كان الخاصّ ممّا يجوز نسخ العامّ به واضح ، وكذلك فيما
لا يجوز مع العلم بالتاريخ.
ويظهر الحال في
الترجيح ممّا مرّ في المباحث السّابقة وما سيجيء في مبحث النسخ ، فإطلاق الكلام
في هذه المقامات
إنّما هو بالنظر الى ملاحظة تقديم كلّ من العامّ والخاصّ على الآخر من حيث العموم
والخصوص ، وإلّا فيشكل الأمر فيما يتفاوت الحال فيه من جهة النّسخ ، والتخصيص في
صورة جهل التاريخ ، فقد يجوز التخصيص دون النّسخ كما لو كان العام من الكتاب أو
السّنة المتواترة ، والخاصّ من أخبار الآحاد وجهل التّاريخ ، فالقول بتقديم العمل
بالخاصّ مطلقا يستلزم تجويزه في صورة ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ في
نفس الأمر أيضا ، فيشكل الحكم بتقديم الخاصّ في صورة جهل التاريخ بقول مطلق.
__________________
وربّما يجاب عن هذا الإشكال في الصورة المفروضة : بأنّ الأصل عدم تحقق شرط النسخ وهو حضور وقت العمل ،
فينتفي المشروط فيبقى التخصيص.
وهو معارض بأنّ
الأصل عدم تحقّق شرط التّخصيص أيضا ، فإنّ تحقّقه في نفس الأمر أيضا مشروط بورود
الخاصّ قبل حضور وقت العمل.
وما قيل : إنّ الأصل تأخّر الحادث وهو يقتضي ورود الخاصّ بعد حضور
وقت العمل بالعامّ ، فهو معارض بأنّ حضور وقت العمل أيضا حادث والأصل تأخّره.
فالتحقيق في
الجواب ، إن أريد تعميم القول بتقديم العمل بالخاصّ في صورة جهل التاريخ ، مع كون
الخاصّ ممّا لا يجوز نسخ العامّ القطعيّ به ، أن يقال : إنّ شيوع التخصيص وغلبته
ومرجّحاته المتقدّمة يقتضي ترجيح التّخصيص ، بمعنى أنّ الرّاجح في النظر حصول ما
يستلزم التخصيص في نفس الأمر لا النّسخ ، بمعنى أنّ الظاهر أنّ الخاصّ ورد قبل
حضور وقت العمل ليثبت التّخصيص ، إلحاقا للشيء بالأعمّ الأغلب واتّباعا لمرجّحات
التخصيص.
وأمّا من يقول
بترجيح النّسخ على التخصيص فيما لو فرض تقدّم الخاصّ على العامّ كما نقلنا عن الشيخ
والسيّد ، فهو أيضا يتوقّف في مجهول التّاريخ لدوران
__________________
الخاصّ بين كونه
مخصّصا أو منسوخا ، ويظهر جوابه مما مرّ .
ثمّ إنّ ثمرة هذا
الإشكال وأثر ذلك في أخبار أئمتنا عليهمالسلام غير ظاهرة لعدم ورود المنسوخ في كلامهم كما أشرنا سابقا ،
ولا الناسخ من حيث إنّه ناسخ ، بل ما يؤثر عنهم عليهمالسلام إنّما هو حكاية ما علم من سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآله ومعاملاته وبياناته في الكتاب وسنّته.
نعم هم عليهمالسلام ربّما يقولون أنّ هذه الآية نسخت بهذه الآية ، وأمثال ذلك
، فلو ثبت بأخبارهم شيء فإنّما يثبت بها حال ما وقع في زمان الرّسول صلىاللهعليهوآله.
وأمّا الأخبار
النبويّة ، فعندنا قليلة جدّا.
وأمّا الكتاب فقد
ادّعى السيّد رحمهالله أنّ تاريخ نزول آياته مضبوط لا خلاف فيه.
وذلك في الجميع
محلّ نظر.
__________________
الباب الرابع
في
المطلق والمقيّد
قانون
المطلق على ما
عرّفه أكثر الأصوليّين : هو ما دلّ على شائع في جنسه ، أي على حصّة محتملة الصّدق على حصص كثيرة ، مندرجة تحت
جنس ذلك الحصّة ، وهو المفهوم الكلّي الذي يصدق على هذه الحصّة وعلى غيرها من
الحصص ، فيدخل فيه المعهود الذّهني ، ويخرج منه العامّ والجزئي الحقيقي والمعهود الخارجي . وهذا التعريف يصدق على النّكرة.
ويظهر من جماعة
منهم أنّه ما يراد به الماهيّة. منهم الشّهيد الثاني رحمهالله «في تمهيد القواعد»
حيث قال في مقام الفرق بين المطلق والعامّ : إنّ المطلق هو الماهيّة لا بشرط
شيء ، والعامّ هو الماهيّة بشرط الكثرة المستغرقة.
__________________
وصرّح بعضهم بالفرق بين المطلق والنّكرة ، وقد بيّنا ما عندنا في ذلك
في مبحث العامّ والخاصّ ، وأنّ التحقيق إمكان الاعتبارين وصحّة الجمع بين
التعريفين بملاحظة الحيثيّات ، فراجع ذلك المقام.
وأمّا ما ذكره
بعضهم في وجه جعل المطلق حصّة من الجنس لا نفس الحقيقة ، من أنّ الأحكام إنّما
تتعلّق بالأفراد لا بالمفهومات ، فيظهر لك ما فيه ممّا حقّقناه في مبحث جواز تعلّق
التكليف والأحكام بالطبائع.
فحينئذ نقول : إنّ
البيع مثلا في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) مطلق ، وبيع الغرر مقيّد. وكذلك الماء في مثل : «خلق الله
الماء طهورا لا ينجّسه شيء» . والماء القليل ، المفهوم من قوله عليهالسلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» .
كذلك : صم ولا تصم
في السّفر ، ونحو ذلك.
وعرّفوا المقيّد :
بما دلّ لا على شائع في جنسه ، فيدخل فيه المعارف والعمومات.
__________________
ولهم تعريف آخر
وهو : ما أخرج من شياع مثل : رقبة مؤمنة ، والاصطلاح الشّائع بينهم هو ذلك.
وعلى هذا فالمطلق
هو ما لم يخرج عن هذا الشّياع والنسبة بينهما عموم من وجه لصدقهما على هذا الرّجل ، وصدق الأوّل على زيد
دون الثاني ، والثاني على رقبة مؤمنة دون الأوّل ، وكذا بين المطلق والمعنى الثاني
لصدقهما على رقبة مؤمنة ، والأوّل على رقبة دون الثاني ، والثاني على هذا الرّجل
دون الأوّل.
إذا عرفت هذا فاعلم
أنّ الإطلاق والتقييد يؤول من وجه الى التعميم والتّخصيص كما سنشير إليه ، فجميع ما مرّ في أحكام معارضة العامّ والخاصّ وتخصيص
العام بالخاصّ والفرق بين الظنيّ والقطعيّ وعدمه وأقسام معلوميّة التاريخ وجهالته
وغير ذلك يجري هاهنا أيضا.
ويزيد هذا المبحث
بما سنورده وهو أنّه إذا أورد مطلق ومقيّد فإمّا أن يختلف حكمهما بمعنى كون
المحكوم به فيهما مختلفين ، وإن لم يختلف نفس الحكم الشرعي مثل : أطعم يتيما و : أكرم يتيما هاشميّا ، أو يتّحد
حكمهما مثل : أطعم يتيما ، أطعم يتيما هاشميا. أمّا على الأوّل فلا يحمل المطلق
على المقيّد إجماعا إلّا
__________________
عن أكثر الشافعيّة
على ما نقل عنهم ، فحملوا اليد في آية التيمم على اليد في آية الوضوء
فقيّدوها بالانتهاء الى المرفق لاتّحاد الموجب وهو الحدث ، وهو باطل لأنّه يرجع
الى إثبات العلّة والعمل بالقياس.
وفيه : منع القياس
أوّلا ، ومنع العلّة ثانيا.
والمختار وهو
مختار الأكثرين سواء كانا أمرين أو نهيين أو مختلفين ، وسواء كان موجبهما ، أي
علّة الحكم متّحدا أو مختلفا لعدم المقتضى للجمع وإمكان العمل بكلّ منهما رأسا ،
إلّا فيما كان أحدهما مستلزما لعدم الآخر ، مثل أن يقال : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، و
: لا تملك رقبة كافرة ، فإنّ العتق والملك وإن كانا مختلفين لكنّ العتق موقوف على
الملك ، فالعتق يستلزم الملك بل عدم الملك أيضا يستلزم عدم العتق فحينئذ يقيّد المطلق
بعدم الكفر فلا يجوز عتق الكافرة ، بل ولا يصحّ أيضا .
وأمّا على الثاني
: فإمّا أن يتّحد موجبهما أو يختلف ، أمّا الأوّل فإمّا أن يكون الحكمان مثبتين أو
منفيّين أو مختلفين ، فهذه أقسام ثلاثة :
الأوّل : مثل أن
يقول : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، و : إن ظاهرت فأعتق رقبة
__________________
مؤمنة ، ولا خلاف
بينهم في وجوب العمل بالمقيّد إمّا من باب البيان أو من باب النّسخ ، والمختار
أنّه من باب البيان سواء تقدّم على المطلق أو تأخّر عنه ، ولكن بشرط عدم حضور وقت
العمل إذا علم تقدّم المطلق فيكون ناسخا .
فها هنا مسألتان :
الأولى : وجوب حمل
المطلق على المقيّد.
والثانية : كونه
بيانا لا نسخا.
لنا على المقام
الأوّل : نظير ما مرّ في حمل العامّ على الخاصّ لشيوع التقييد وشهرته ورجحانه
وانفهامه في العرف ، فإنّه في الحقيقة أيضا نوع من التّخصيص كما سنشير إليه.
واحتجّ الأكثرون : بأنّه جمع بين الدليلين ، لأنّ العمل بالمقيّد يستلزم
العمل بالمطلق دون العكس ، وهذا بنفسه لا يتمّ لإمكان الاعتراض بأنّ الجمع لا
ينحصر في ذلك ، فلا بدّ من بيان المرجّح ولا يتمّ إلّا بما ذكرنا.
وأمّا سند هذا
المنع ، فقد يقرّر بوجوه :
الأوّل : أنّه
يمكن الجمع بينهما بحمل المقيّد على الاستحباب بمعنى حمل الأمر في قوله : أعتق
رقبة مؤمنة مثلا على الاستحباب ، فيكون المؤمنة أفضل أفراد الواجب التخييري .
__________________
والثاني : أن يحمل
الأمر فيه على الواجب التخييري ـ بمعنى التخييري المصطلح لا التخييري المستفاد من
العقل ـ فيما لو كان المأمور به كليّا قابلا لكثيرين ، فإنّه كان مستفادا من الأمر
بالمطلق بانضمام حكم العقل أيضا.
وفيهما : أنّهما
مرجوحان بالنسبة الى ما ذكرنا ، لما ذكرنا ، سيّما الأخير .
وقد يذبّ عنهما
أيضا : بأنّ حمل الأمر على الاستحباب مجاز جزما ، وكذا حمله على التخيير ، بخلاف
استعمال المطلق في المقيّد فإنّه ليس مجازا مطلقا ، بل له جهة حقيقة كما صرّحوا
به.
وفيه : أنّه إن
أريد بذلك مجرّد هذه الملاءمة لا كونه مستعملا فيه بعنوان الحقيقة فيما نحن فيه ،
فله وجه.
وإن أريد انّه
مستعمل في المقيّد فيما نحن فيه بعنوان الحقيقة في بعض الأحيان ، ففيه : أنّ هذا
الاستعمال ليس إلّا الاستعمال المجازي لإرادة الخصوصيّة منه حينئذ وإن لم يتعيّن
عند المخاطب.
نعم قد يمكن دعوى الحقيقة مع عدم التعيين عند المخاطب إذا أشعر
المقام بتعيينه عند المتكلّم في مثل : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،) وما نحن فيه
__________________
ليس من هذا القبيل
، لاستحالة تعليق الحكم على المبهم من الحكيم.
ولو فرض مثل ذلك ،
وحصل العلم بعد ذلك بسبب القرينة بإرادة ذلك ، فيكون حينئذ بيانا للمجمل ،
يعني يظهر بعد القرينة أنّه كان مجملا فيكون هذا من باب المجمل لا المطلق فيكون
مجازا في معناه ، فكيف كان فلا يخرج عن المجازيّة ، والى هذا ينظر قولهم بكون
المقيّد والخاصّ بيانا للمطلق والعامّ ، وتقسيمهم المجمل بما له ظاهر وما ليس له
ظاهر ، فعلم أنّ ذلك خروج عن الظاهر ، والظاهر هو الحقيقة.
فهذا الكلام في
ترجيح ما اخترناه من المجاز على ما ذكره المانع .
ولئن سلّمنا تساوي
الاحتمالين ، فنقول : إنّ البراءة اليقينيّة لا تحصل إلّا بالعمل
بالمقيّد كما ذكره العلّامة رحمهالله في «النهاية» .
وقد يعترض عليه :
بأنّه لم يحصل العلم بشغل الذمّة مع احتمال إرادة المجاز من المقيّد حتى يجب تحصيل
اليقين بالبراءة عنه ، فلا وجه لوجوب العمل به.
وفيه : أنّ
المكلّف به حينئذ هو القدر المشترك بين كونه نفس المقيّد أو المطلق ، ونعلم أنّا
مكلّفون بأحدهما ، فاشتغال الذمّة إنّما هو بالمجمل ولا يحصل البراءة منه إلّا
بالإتيان بالمقيّد.
وإنّما يتمّ كلام
المعترض لو سلّمنا أنّا مكلّفون بعتق رقبة ما ، ولكن لا نعلم هل
__________________
يشترط الايمان أم
لا ، فحينئذ يمكن نفيه بأصل البراءة ، وليس كذلك ، بل نقول : بعد تعارض المجازين وتصادم الاحتمالين ، يبقى
الشكّ في أنّ المكلّف به هل هو المطلق أو المقيّد؟ وليس هاهنا قدر مشترك يقيني
يحكم بنفي الزّائد عنه بالأصل ، لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن
الفصل ولا تفارق بينهما ، فليتأمّل.
والثالث : ذكر سلطان العلماء رحمهالله : أنّه يمكن العمل بهما من دون إخراج أحدهما عن حقيقته ،
بأن يعمل بالمقيّد ويبقى المطلق على إطلاقه ، فلا يجب ارتكاب تجوّز حتى يجعل ذلك
وظيفة المطلق. وذلك لأنّ مدلول المطلق ليس صحّة العمل بأيّ فرد كان حتّى ينافي
مدلول المقيّد ، بل هو أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد ، بل المقيّد في الواقع ، ألا
ترى أنّه معروض للقيد كقولنا : رقبة مؤمنة ، إذ لا شكّ أنّ مدلول رقبة في قولنا :
رقبة مؤمنة ، هو المطلق وإلّا لزم حصول المقيّد بدون المطلق مع أنّه لا يصلح لأيّ
رقبة كان ، فظهر أنّ مقتضى المطلق ليس كذلك وإلّا لم يتخلّف عنه.
وفيه : أنّ مدلول
المطلق وإن لم يكن ما ذكره ، ولكن مقتضاه هو ذلك بالوجهين اللّذين سنذكرهما . فمقتضاه ينافي مقتضى المقيّد ولا يمكن الجمع بين مقتضاه
ومقتضى المقيّد بدون تصرّف وإخراج عن الظاهر.
__________________
وقوله : بل هو أعمّ ... الخ.
إن أراد أنّ مدلول
المطلق هو الأمر الدّائر بين الأمرين ، أعني أيّ فرد كان على البدل والمقيّد ، فهو
باطل جزما ، لأنّ مدلوله الحصّة الشّائعة أو الماهيّة لا بشرط كما مرّ.
وإن أراد أنّه
معنى عام قابل لصدقه على المعنيين فهو صحيح ، ولكن مقتضاه صحّة العمل بأيّ فرد كان
منه ، فإن كان بضميمة حكم العقل لأنّ الطبيعة توجد في ضمن أيّ فرد يكون ،
والامتثال بها يحصل بالإتيان بأيّ فرد كان منه ، وأيضا الأصل براءة الذمّة عن
التعيين فهو يقتضي التخيير في الأفراد ، ولا ريب انّ هذا ينافي مقتضى المقيّد.
والظاهر أنّ مراد
القائل هو الشقّ الأوّل من التّرديد ، لأنّه ذكر في موضع آخر : إنّ المراد من المطلق ك : رقبة ليس أيّ فرد كان من أفراد
الماهيّة على البدل ، بل ربّما كان مدلوله معيّنا في الواقع وإن لم يكن اللّفظ
مستعملا في التعيين ، بل هذا أظهر وأكثر في الأخبار. نعم في الأوامر يحتمل
الاحتمالين ، فلا يكون التقييد تخصيصا وقرينة على المجاز انتهى ،
ملخّصا.
وأنت خبير بأنّ
كلّ ما تعلّق به الحكم الشّرعي على سبيل التعيين في الواقع فلا بدّ أن يكون معرفة
المخاطب للتعيين مقصودا فيه من الشّارع ، سواء قارنه ذكر التعيين أو فارقه ، وسواء
كان في صورة الإخبار كقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ
__________________
الْبَيْعُ) أو في صورة الإنشاء ، أمرا كان ك : اعتق ، أو نهيا ،
لتمكّن الامتثال ، فذكر لفظة المطلق وإرادة المعيّن الواقعي مجازا جزما.
نعم ، ربّما يصحّ
ذلك في القصص والحكايات مثل قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،) ومحلّ النزاع وموضع المبحث ليس من هذا القبيل ، فكلّما فرض
استعمال مطلق وإرادة فرد معيّن واقعيّ منه ولم يقترن بقرينة ، فهو حقيقة في بادئ
النّظر ، ويحصل العلم بكونه مجازا بعد ظهور القرينة.
والحاصل ، أنّ
استعمال المطلق في المقيّد حقيقة على وجهين ومجاز على وجه. ومآل الوجهين يرجع الى
كون المقصود بالذّات الحكم على الكلّي ويكون إرادة الفرد مقصودا بالعرض ، وذلك
يحصل في مثل : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،) وفي مثل : ائتني برجل ، إذا أراد فردا منه ، أيّ فرد يكون.
ومآل الوجه الآخر
الى ذكر المطلق وإرادة فرد خاصّ منه ، إمّا باقترانه بما يدلّ على ذلك ، أو
بانكشاف ذلك بعد ظهور القرينة ، وكلامنا إنّما هو في الأخير ، وهو المتداول في
مسائل المطلق والمقيّد.
فلو قيل : بعد
قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ،) جاء حبيب النجّار يسعى أو جاء حزقيل مؤمن آل فرعون يسعى ، يكون بيانا
__________________
للمجمل لا تقييدا
للمطلق ، فقد خبط القائل خبطا عظيما واختلط عليه الأمر ، فلا تغفل.
وقوله : ألا ترى أنّه معروض للقيد.
فيه : ما لا يخفى
، إذ لا شكّ انّ مدلول رقبة في قولنا : رقبة مؤمنة هو المقيّد لا المطلق ،
والمؤمنة قيد للمقيّد.
قوله : وإلّا لزم حصول المقيّد بدون المطلق.
فيه : أنّه لا
يستلزم ذلك محالا وقبيحا ، بل هو عين الحق. والذي لا يمكن تخلّف المقيّد عنه إنّما
هو المفهوم الكلّيّ ، القدر المشترك بينه وبين غيره من الأفراد ، وهو ليس معنى
الرّقبة في قولنا : رقبة مؤمنة.
وبالجملة ، لفظ
رقبة وإن كان دالّا على المعنى القدر المشترك بين الأفراد في الجملة ، لكنّه يقال
له : المطلق إذا استعمل وحده ، ويقال له : المقيّد إذا استعمل مع القيد ، فلا يلزم
من وجود المقيّد في الخارج وجود المطلق ، بل إنّما يلزم منه وجود ما وجد في المطلق
من المعنى الكلّي.
ثم إنّ هاهنا
كلاما من المحقّق البهائي رحمهالله في حواشي «زبدته» في مباحث المفاهيم ، وهو أنّه قال : قد
يقال أنّ القائلين بعدم حجّيّة مفهوم الصّفة قد قيّدوا المطلق بمفهومها في نحو :
اعتق في الظّهار رقبة ، اعتق في الظهار رقبة مؤمنة. فإذا لم يكن مفهوم الصّفة حجّة
عندهم ، كيف يقيّدون به المطلق ، فما هذا إلّا التناقض.
والجواب : إنّ
مفهوم الصّفة إمّا أن يكون في مقابله مطلق كما في المثال المذكور
__________________
أو لا ، نحو : جاء
العالم. ففي الثاني ليس مفهوم الصّفة حجّة عندهم ، فلا يلزم من الحكم بمجيء العالم
نفي مجيء الجاهل ، إلّا إذا قامت قرينة على إرادة ذلك.
أمّا الأوّل : فقد
أجمع أصحابنا على أنّ مفهوم الصّفة فيه حجّة كما نقله العلّامة طاب ثراه في «نهاية
الأصول». فالقائلون بعدم حجيّة مفهوم الصّفة يخصّون كلامهم بما إذا لم يكن في
مقابلها مطلق لموافقتهم في حجّيّة ما إذا كان في المقابل مطلق ، ترجيحا للتأسيس
على التأكيد . وقريب من هذا الاعتراض على القائلين بأنّ الأمر حقيقة في
الوجوب ، كيف قالوا : بأن الأمر الوارد عقيب الحظر حقيقة في الإباحة ، انتهى.
أقول : ولا خفاء
في بطلان الاعتراض ، ولا وقع لهذا الجواب.
أمّا الاعتراض
فلأنّ مفهوم قوله : اعتق في الظهار رقبة مؤمنة ، عدم وجوب عتق غير المؤمنة ، لا
حرمة عتق غير المؤمنة ، فلا ينافي جواز عتق الكافرة ، وحمل المطلق على المقيّد
إنّما هو من جهة ملاحظة المنطوق لا المفهوم ، فإنّ المطلوب إن كان عتق فرد واحد ،
فلا ريب انّ مع وجوب عتق المؤمنة لا يمكن الامتثال بغيرها ، وإن كان مطلق الطبيعة
فبعد وجود عتق المؤمنة وحصول الامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمنه فلا يبقى طلب حتى
يحصل الامتثال بغيرها ، فيكون الإتيان ثانيا حراما ، فلا منافاة بين القول بعدم حجيّة المفهوم ووجوب حمل
المطلق على المقيّد.
__________________
وإن أوّل قوله : اعتق رقبة مؤمنة ، بأنّ المراد منه أنّ كفارة الظّهار
عتق رقبة مؤمنة لا مجرّد إيجاب عتق رقبة مؤمنة ، فهو وإن كان يصحّح الاعتراض في
الجملة ، ولكنّه لا يتمّ أيضا ، إذ يكفي في نفي جواز الغير وحدة المطلوب مع ملاحظة
المنطوق ولا حاجة الى استفادته من المفهوم.
نعم ، يمكن جريان
هذا التوهم في العامّ والخاصّ المتوافقين في الحكم والنفي والإثبات مثل قولك :
أكرم بني تميم ، أكرم بني تميم الطّوال ، فإنّ نفي وجوب الإكرام في البعض ينافي
وجوبه في الكلّ ، ولا يجري في المطلق والمقيّد لعدم العموم الأفرادي في المطلق ،
ولذلك تراهم متّفقين في عدم وجوب حمل العامّ على الخاص ثمّة ، وإنّما خصّوا الحمل
بالعامّ والخاصّ المتنافي الظاهر.
وأمّا الجواب ففيه
: أنّه يفهم منه قبول التناقض في الجملة وقد ظهر لك بطلانه ، وأنّه لا حاجة الى
التمسّك بالإجماع ، والإجماع لا يثبت حجّية المفهوم في الموضع الخاصّ ، بل إنّما يثبت وجوب العمل بالمقيّد ، والظاهر أنّ
العلّامة رحمهالله أيضا لم يدّع الإجماع إلّا على ذلك ، ولم يحضرني الآن كتاب
«النهاية» لألاحظ. وأيضا التمسّك بترجيح التأسيس على التأكيد أيضا ممّا لا يناسب
المقام ، إذ هو ممّا يصلح مرجّحا لجميع موارد المفهوم ، ولا اختصاص له بما نحن فيه
.
__________________
وإن قيل : أنّه
فيما انحصر فائدة القيد في اعتبار المفهوم ، فنمنع الانحصار فيما نحن فيه ، إذ التأسيس يحصل بحمله على إرادة
الأفضليّة أيضا.
وممّا ذكرنا يظهر
أنّ ما نحن فيه ليس من قبيل الأمر الواقع عقيب الحظر ، وقد مرّ التحقيق فيه.
ولنا على المقام
الثاني : أنّه نوع من التخصيص ، فإنّ المستفاد من المطلق ومقتضاه ولو
بانضمام العقل إليه ، حصول الامتثال بأيّ فرد كان من أفراده ، فهو عامّ لكنّه على
البدل ، وقد عرفت في العامّ والخاصّ ، أنّ الخاصّ مبيّن لا ناسخ إلّا في صورة
تقدّم العامّ وحضور وقت العمل به ، فكذلك المطلق والمقيّد.
واحتجّ من قال
بكون المقيّد ناسخا إذا تأخّر عن المطلق ، والظاهر أنّه لا يشترط حضور وقت العمل
للنّسخ : بأنّ الدّلالة لا بدّ أن تكون مقارنة باللّفظ ، فلو كان المقيّد بيانا
للمطلق ، لكان المطلق مجازا فيه ، وهو فرع الدّلالة وهي منفيّة.
والجواب : منع
لزوم المقارنة ، ولا يلزم منه شيء إلّا تأخير البيان عن وقت الخطاب ، ولا دليل على
امتناعه .
وأجيب : أيضا
بالنّقض بصورة تقدّم المقيّد ، فالمطلق الوارد بعده لا بدّ أن يراد
منه المقيّد من دون دلالة ، وبتقييد الرّقبة بالسّلامة عندهم أيضا.
واعترض على الأوّل
: بأنّ تقدّم المقيّد يصلح قرينة لانتقال الذّهن من المطلق الى المقيّد ، بخلاف
العكس.
__________________
وعلى الثاني :
بمنع تناول الرّقبة للناقصة حتى يكون مجازا في السّليمة ، ولو سلّم فالمطلق ينصرف الى
الفرد الكامل والشّائع.
الثاني : وهو ما
كانا منفيّين مع اتّحاد الموجب ، حكمه وجوب العمل بهما اتفاقا ، ومثّل له الأكثرون
بقوله في كفّارة الظّهار : لا تعتق مكاتبا ، لا تعتق مكاتبا كافرا.
وأورد عليه : بأنّه من تخصيص العامّ لا تقييد المطلق ، فإنّ النّكرة
المنفيّة تفيد العموم.
وبدّله بعضهم بقوله : لا تعتق المكاتب ، لا تعتق المكاتب الكافر ، مع
تقييده ذلك بعدم قصد الاستغراق ، بل جعله من العهد الذهني.
وأورد عليه : بأنّ معناه حينئذ : لا تعتق مكاتبا ما من المكاتب ، على
سبيل البدل والاحتمال من غير قصد الى الاستغراق ، ويكتفى لامتثاله بعدم عتق فرد
واحد من المكاتب فقط ، ويحتمل حينئذ أنّ قوله : لا تعتق مكاتبا كافرا ، بيان لهذا
الفرد المنفي ، فمن أين يحصل الحكم بعدم إجزاء إعتاق المكاتب أصلا كما قالوا في
حكم هذه المسألة سيّما مع اعتبار مفهوم الصّفة .
__________________
أقول : ويمكن دفع
الإيراد عن مثال الأكثرين بإرادة الجنس ، فيكون التنوين تنوين التّمكن ، ويصحّ
المثال الثاني أيضا بإرادة الماهيّة أيضا كما بيّنا سابقا ، فلا حاجة الى جعله من باب العهد الذّهني ، مع أنّه أيضا
في معنى النّكرة. ولا يدفع الإشكال ، مع أنّ التقييد بعدم قصد الاستغراق لا فائدة
فيه ، إلّا أن يراد دفع توهّم أن يجعل من قبيل : (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ،) وإلّا فاللّام داخل على المنفي ، والنفي إنّما يفيد نفي
العموم لا عموم النفي ، فهو أوفق بالمطلق من العامّ.
وأمّا ما ذكره
المورد من أنّ معناه حينئذ ... الخ.
ففيه : أنّه إن
أراد أنّ مكاتبا ما من المكاتب على سبيل البدل ، والاحتمال مورد للنهي ، ومتعلّق
له مع وصف كونه محتملا ، فهو عين النّكرة المنفيّة المفيدة للعموم. وإن أراد بعد
اختيار المكلّف تعيينه في ضمن فرد معيّن ، فهو ليس معنى هذا اللّفظ ، بل يحتاج الى
تقدير وإضمار ، ومع ذلك فكيف يكون المقيّد بيانا له كما ذكره ، إذ البيان إنّما
حصل باختيار المكلّف ذلك الفرد.
وإن أراد جعله من
باب : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،) فهو مع ما فيه ممّا مرّ انّه ليس من موضوع المسألة في شيء فيه ، إنّ هذا ألصق
بالمثال
__________________
المشهور من هذا المثال ، فلا وجه للعدول عنه ، فبالضّرورة لا بدّ أن يكون مراد من
بدّل المثال بذلك ، غير هذا.
نعم يصحّ ما ذكره لو أخرج النهي عن معناه الى معنى إثباتي مثل أن يراد منه :
أبق على الرّق مكاتبا ما ، وحينئذ يتمّ معنى المطلق ويكتفي في الامتثال بعدم عتق
فرد واحد الى آخر ما ذكره.
لكنّك خبير بأنّه
خارج عن مقاصد الفروع وأغلب موارد الاستعمالات في الشّرع والعرف ، إذ المقصود من أمثال ذلك بيان مورد العتق لا بيان مورد إبقاء الرّق ،
فالمقصود بالذّات عتق غير المكاتب لا إبقاء الرّق للمكاتب ، مع أنّ إرادة فرد ما
بعد النهي بدون العموم ممّا يبعد فرضه غالبا ، إذ يصير المعنى حينئذ كون غير ذلك
المنفي من الأفراد محكوما عليها بذلك الحكم ، فيكون معنى : لا تعتق مكاتبا ، إمّا
اعتق من عداهم من العبيد ، وهو وإن كان يتمّ في مثل هذا المثال لو كان مالكا لمكاتب
ولغير مكاتب ، ولكن كيف يتمّ في مثل : لا تقتلوا الصّيد ، مثلا ، إذ حينئذ يكون
معناه : لا تقتلوا صيدا ما ، إلّا أن يخرج أيضا الى المعنى الإثباتي مثل أن يقال :
إذا أصبتم صيودا فأبقوا منها واحدا ويجوز لكم قتل الباقي ، وهذا كلّه خارج عن
العرف والعادة.
ثمّ إنّ الحكم
بوجوب العمل بالمطلق والمقيّد هنا لا يتمّ إلّا بفرضهما عامّا وخاصّا ، والظاهر
أنّ اتّفاقهم على ذلك مبنيّ على مثالهم المشهور ، وإلّا فعلى الفرض الذي ذكرنا من
إرادة الماهيّة لا بشرط ، فيمكن الجمع بينهما بحمل المطلق
__________________
على المقيّد ،
اللهمّ إلا أن يعتمد على الإجماع في ذلك ، بمعنى أن يكون ذلك كاشفا عن اصطلاح عند
أهل العرف متّفقا عليه ، وهو كما ترى.
وإن أريد الإجماع
الفقهيّ فلا يخفى بعده .
الثالث : وهو ما
كانا مختلفين مثل : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، وإن ظاهرت فلا تعتق رقبة كافرة ، فحكمه
حمل المطلق على المقيّد ، ووجهه ظاهر ممّا مرّ .
وأمّا الثاني : كإطلاق الرّقبة في كفّارة الظّهار وتقييدها في كفّارة
القتل ، فمذهب الأصحاب فيه عدم الحمل ، ولا فرق بين الأقسام المتصوّرة فيه من
كونهما مثبتين أو منفيّين أو مختلفين.
واختلف مخالفونا ،
فعن الحنفيّة المنع عنه مطلقا .
وعن أكثر
الشافعيّة أنّه يحمل عليه إن اقتضاه القياس ووجد شرائطه .
وعن بعضهم الحمل
مطلقا ، وحججهم واهية لا تليق بالذّكر.
والحقّ ما اختاره
الأصحاب ، لعدم المقتضي .
__________________
الباب الخامس
في المجمل والمبيّن والظاهر والمأوّل
قانون
المجمل : ما كان دلالته غير واضحة
، بأن يتردّد بين
معنيين فصاعدا من معانيه ، وهو قد يكون فعلا وقد يكون قولا.
أمّا الفعل ، فحيث
لم يقترن بما يدلّ على جهة وقوعه من الوجوب والنّدب وغيرهما ، كما إذا صلّى النبيّ
صلىاللهعليهوآله صلاة ولم يظهر وجهها.
وأمّا القول فهو
إمّا مفرد أو مركّب.
أمّا المفرد ،
فإمّا إجماله بسبب تردّده بين المعاني بسبب الاشتراك اللّفظي في
__________________
أوّل الأمر كالقرء
، أو بسبب الإعلال كالمختار أو بسبب الاشتراك المعنوي وهو فيما لو أراد منه فردا
معيّنا عنده ، غير معيّن عند المخاطب ، وذلك امّا في الإخبار مثل : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ ،) وامّا في الأوامر والأحكام مثل : (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) و : اعتق رقبة ،
إذا أريد بها المؤمنة. والى هذا ينظر قولهم : إنّ الخاصّ والمقيّد بيان لا ناسخ.
وقولهم فيما سيأتي : انّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب فيما له ظاهر .
ومرادهم ممّا له
ظاهر ، هو الظاهر على الظاهر ، وفي النّظر الأوّل.
ومرادهم بكونه
مبيّنا بالخاصّ المستلزم لإطلاق المجمل عليه ، هو المجمل في النّظر الثاني ، فلا يتوهّم التناقض بين وصف العامّ بالمجمل والظاهر.
والحاصل ، أنّ
مرادهم بكون العامّ والمطلق حينئذ مجملا ، وكون الخاصّ والمقيّد بيانا ، هو أنّ
الخاصّ والمقيّد يكشفان عن أنّ مراد المتكلّم بالعامّ والمطلق كان فردا معيّنا
عنده مبهما عند المخاطب ، وهذا هو الأكثري في الأحكام ، وإلّا فقد يقترن العامّ والمطلق بقرينة تدلّ
على إرادة مرتبة خاصّة من العامّ وفرد خاصّ من المطلق ، ولكنّه لم يقترن ببيان تلك
المرتبة ، فذلك مجمل في أوّل النّظر أيضا ،
__________________
ولكنّه مجاز حينئذ
، ولا يقال له أنّه ممّا له ظاهر ، فإنّ القرينة أخرجته من الظّهور في أوّل النّظر
أيضا.
وقد يجعل من
الإجمال باعتبار الاشتراك المعنوي قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ ،) باعتبار إمكان صدق الحقّ على كلّ واحد من الأبعاض ، مع أنّ
المراد هو العشر لا غير.
والتحقيق ، أنّه
يرجع الى الإشارة الى القدر المخرج من المال الذي قدّره الشّارع مثل الزّكاة مثلا
، فالإجمال بسبب الاشتراك المعنوي إنّما هو فيما لو قال : أخرج قدرا من مالك ،
وأراد قدرا معيّنا ولم يبيّن ، وأمّا إذا سمّى ذلك القدر بالحق ، فهاهنا الحق
معيّن ، لأنّ المراد منه هو القدر المذكور ، فالإجمال في الحقّ إنّما هو باعتبار
الإجمال في مسمّاه.
ومن الإجمال تردّد
اللّفظ بين مجازاته إذا قام قرينة على نفي الحقيقة وتساوت مجازاته.
وأمّا المركّب ، فإمّا أن يكون الإجمال فيه بجملته مثل قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ ،) المتردّد بين الزّوج ووليّ المرأة ، أو باعتبار تخصيصه
بمخصّص مجهول مثل : اقتلوا المشركين إلّا بعضهم ، مع إرادة البعض المعيّن ، و : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ
إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ،) و : (أُحِلَّ لَكُمْ ما
__________________
وَراءَ
ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ ،) لجهالة معنى الإحصان ، فإنّه قد يجيء بمعنى الحفظ كما في :
(أَحْصَنَتْ فَرْجَها
،) وقد يجيء بمعنى التزوّج.
وقد يكون الإجمال
بسبب تردّد مرجع الضمير بأن يتقدّمه شيئان يحتمل رجوعه الى كلّ منهما مثل : ضرب زيد عمروا أكرمته ، ومرجع الصّفة مثل : زيد طبيب
ماهر ، لاحتمال كون المهارة في الطبّ أو لزيد مطلقا.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم أنّ التكليف بالمجمل جائز عقلا ، واقع شرعا ، وتوهّم لزوم القبح لعدم
الإفهام فاسد ، لأنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان وقت الحاجة والفائدة فيه قبل الحاجة ،
الاستعداد والتهيّؤ للامتثال وتوطين النّفس ، ووقوعه في الآيات والأخبار أكثر من
أن يحتاج الى الذّكر ، وقد سمعت بعضها وستسمع.
ثمّ إنّ هاهنا
فروعا مهمّة :
الأوّل :
ذهب أكثر الأصوليّين
الى أنّه لا إجمال في آية السّرقة ، لا من جهة اليد ولا من جهة القطع .
__________________
وذهب السيّد
المرتضى رحمهالله وجماعة من العامّة الى إجمالها بسبب اشتراك اليد بين
جملتها وبين كلّ واحد من أبعاضها .
وقيل : بإجمالها
باعتبار القطع أيضا لاشتراكه بين الإبانة والجرح.
حجّة السيّد مع
تحرير منّي لها : أنّ اليد تطلق على الجملة وعلى كلّ بعض منه ، كما يقال : غوّصت يدي في الماء ، إذا غوّصه الى الأشاجع أو الى الزّند أو الى المرفق ، وأعطيته بيدي وكتبت بيدي ، مع
أنّهما إنّما حصلا بالأنامل ، والاستعمال دليل الحقيقة ، فثبت الاشتراك.
قال : وليس قولنا : يد يجري مجرى قولنا : إنسان ، كما ظنّه قوم
، لأنّ الإنسان يقع على جملة يختصّ كلّ بعض منها باسم ، من غير أن يقع إنسان على
أبعاضها ، بخلاف اليد. ويظهر من ذلك استدلال من يعتبر القطع أيضا في الإجمال.
والجواب : إنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة كما مرّ مرارا ، والتبادر علامة الحقيقة ، والمتبادر من
اليد إنّما هو المجموع الى المنكب.
والشّاهد على ما
ذكرنا أنّه إذا قيل : فلان بيده وجع ، يقال له : أيّ موضع من يده به وجع؟ لا أيّ
يد منه به وجع؟
__________________
نعم ، يصحّ
الاستفهام بالنسبة الى اليمنى واليسرى ، فعلم أنّه موضوع للمفهوم الكلّي الذي
مصداقه هو مجموع ذلك العضو.
ولا ريب أنّه لو
كان اليد موضوعا لكلّ واحد من الأجزاء لصحّ الاستفهام بأنّه أيّ الأيدي.
ومن القطع الإبانة
، والمقايسة بالإنسان وتمثيله في مقابل اليد دون زيد ، لأنّ الإنسان لم يوضع
إلّا للمفهوم الكلّي ، وإطلاقه على الشّخص من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد ، فهو
المناسب للمقايسة والتمثيل.
ولا يخفى عليك أنّ
كليهما مثل اليد فيقال : قبّلت زيدا أو إنسانا ، وإنّما قبّل وجهه ، أو : ضربت
زيدا أو إنسانا ، وإنّما ضرب رجله ، وهكذا ، بل الظاهر أنّ مرادهم في النّزاع في
ذلك إنّما هو بعنوان المثال.
وهذا الكلام يجري
في الرّجل والوجه والرأس والجسد واليوم واللّيل وغير ذلك ممّا يكون ذا أجزاء ،
وكلّ جزء منه مسمّى باسم على حدة ، ويطلق اسم المجموع على كلّ منها.
والتحقيق في الكلّ
، أنّ الأسامي في الكلّ موضوعة للمجموع ، وإطلاقها على الأبعاض مجاز.
نعم هاهنا معنى
دقيق خالجني في حلّ الإشكال في بعض موارد هذه المسألة ، وهو أنّهم اختلفوا في
حقيقة اللّيل والنهار ، وطال التّشاجر بينهم ، فقيل : بأنّه ما بين طلوع الفجر
الثاني الى غروب الشمس.
وقيل : ما بين
طلوع الشمس الى الغروب ، وقيل : بالاشتراك ، وقيل : يكون ما
__________________
بين الطلوعين
واسطة .
والتحقيق عندي
القول الأوّل ، ولكنّي أقول : إنّ من اشتغل من أوّل طلوع الشمس الى الغروب بعمل
فيصدق عليه أنّه عمل يوما حقيقة ، فلو صار أجير يوم برء ذمّته. وكذا لو وقع مورد
نذر ، وكذا لو دخل في بلد في أوّل طلوع الشمس يحسب ذلك اليوم من أيام إقامته.
وبيان ذلك ، أنّ
هذا من خواصّ الإضافة لا أنّ المضاف إليه حقيقة في هذا القدر ، فهذا عمل يوم حقيقة
وإقامة يوم حقيقة ، لا أنّه عمل في اليوم الحقيقي وإقامة في اليوم الحقيقي ، فهذا
حقيقة عرفيّة للتركيب الإضافي ، ولذلك يقال : نمت ليلة في هذه الدّار ، ويراد منه
القدر المتعارف بعد التعشّي والجلوس بعده ، وهو معنى حقيقي ، وعليه يتفرّع مقدار
المضاجعة في قسم الزّوجة ، وهكذا في النظائر. فلو قيل : فلان ضرب زيدا ، فلا ريب
أنّه حقيقة ، وإن كان الضرب وقع على بعض أعضائه ، وكذلك لو قال : جرح زيدا ، وكذلك
: جرح يده ورجله ، ونحو ذلك. ولكن إذا قيل : أبن يده عن جسده ، لا يتأمّل في أنّ
المراد هو مجموع العضو الى المنكب ، ولا يسأل : هل أبين كفّه أو ساعده أو عضده. وكذلك إذا
قيل : اغسل جسدك ، يفهم منه تمام الجسد. وأمّا إذا قيل : جرح يد زيد أو جسد زيد أو
ضرب على جسد زيد ، لا يفهم تمامه ، بل يكفي حصوله في الجملة ، ولذلك يحسن
الاستفهام بأنّه في أيّ موضع منه ، لا أيّ يد ولا أيّ جسد.
وعلى هذا ، فإذا
قيل : اغسلوا وجوهكم ، فيجب غسل تمام الوجه ، وكذلك :
__________________
اغسلوا أيديكم ،
لو لم يكن قوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ ،) وكذلك لو قيل : امسحوا رءوسكم. ولذلك اختلفوا في قوله
تعالى : (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ ،) مع ذكر الباء في كونه مجملا وعدمه.
ونحن قد تخلّصنا
عن الإجمال ببيان أئمتنا : من كون الباء للتبعيض بالنصّ الصّحيح.
واختلف الناس فيه
على أقوال : فذهب الحنفيّة الى أنّها مجملة وبيّنها النبيّ صلىاللهعليهوآله بمسح ناصيته. ودليله أنّ الباء إذا دخلت في محلّ المسح
تعدّى الفعل
__________________
الى الآلة
فيستوعبها دون المحلّ كما في الآية ، وإذا دخلت في آلة المسح تعدّى الفعل الى
محلّه فيستوعبه دون الآلة ، مثل : مسحت رأس اليتيم بيدي ، وموجب ذلك في الآية مسح
بعض الرأس ، والبعض يحتمل السّدس والرّبع وغيرهما.
وفيه : أنّ المراد
هو مطلق البعض ومسمّاه وهو يحصل في ضمن أيّ الأبعاض اختاره ، فلا إجمال.
وذهب جماعة منهم
الى وجوب مسح الكلّ لمنعهم مجيء الباء للتبعيض ، ويقولون انّه للإلصاق ،
والعضو حقيقة في المجموع.
وذهب بعضهم الى
القدر المشترك لمجيئها لكلا المعنيين ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل فتعيّن القدر
المشترك .
ووافقنا جماعة
منهم بأنّها للتبعيض ، مدّعين أنّها إذا دخلت على اللّازم كانت للتعدية ، وإذا
دخلت على المتعدّي كانت للتبعيض ، ولأنّ العرف إنّما يفهم في مثل : مسحت يدي
بالمنديل ، البعض.
وأجيب : بالمنع ،
وبأنّ الباء في المنديل للاستعانة والآليّة وهو يقتضي ذلك ، بخلاف ما نحن فيه.
والحقّ مجيئه
للتبعيض كما هو مذهب الكوفيين ، ونصّ الأصمعي على مجيئها له في نظمهم ونثرهم ، وهو
المنقول عن أبي علي الفارسي وابن كيسان ، وعدّه صاحب «القاموس» من معانيه ، وكذلك ابن هشام في
__________________
«المغني» ، فلا عبرة بإنكار سيبويه وابن جنّي ذلك مع أنّ الشهادة على الإثبات مقدّم ، ومع جميع ذلك
فصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام ناطقة بذلك.
الثاني :
اختلفوا في نحو قوله عليهالسلام
: «لا صلاة إلّا بطهور»
، و «لا صلاة إلّا
بفاتحة الكتاب» ، و «لا صيام لمن لم يبت الصيام من اللّيل» ، و «لا نكاح إلّا بوليّ» ، ممّا نفي فيه الفعل ظاهرا.
والمراد نفي صفة
من صفاته هل هو مجمل أم لا؟ على أقوال :
__________________
ثالثها : إن كان
الفعل المنفيّ شرعيّا كالصّلاة والصّيام ، أو لغويّا ذا حكم واحد فلا إجمال ، وإن
كان لغويّا له أكثر من معنى فهو مجمل.
والحقّ عدم
الإجمال كما اختاره الأكثر.
واحتجّوا عليه بما
تحريره وتوضيحه : إنّ الفعل المنفيّ في هذه التراكيب إن كان من قبيل العبادات ،
وقلنا بأنّها حقيقة شرعيّة في الصحيحة منها ، فحينئذ يصحّ نفي الذّات.
ويمكن حمل التركيب
على الحقيقة اللّغوية لعدم منافاة وجود عامّة أركان الصلاة التي يطلق عليها الصلاة
حقيقة على القول بكونها أسامي للأعمّ ، لنفي اسم الصلاة حقيقة عنها على هذا القول ، وحينئذ فإذا صحّ الحمل على المعنى الحقيقي فنحملها عليه
، إذ المانع عنه لم يكن إلّا عدم الإمكان باعتبار وجود الأركان في الجملة ، وقد
انتفى اعتبار ذلك على هذا القول ، فإذا صحّ الحمل على نفي الذّات ، فيعلم أنّ ذلك
بسببه ، كون ما فقد مع تلك الأركان من مثل الطهور والفاتحة شرطا أو جزء ، وإلّا
لما صحّ نفي الذّات ، فعلم بذلك النفي كونهما شرطا أو جزء أيضا ، فينتفي الإجمال
فلا إجمال.
وإن لم يكن من
قبيل العبادات أو كان ولم نقل بكونها حقائق في الصحيحة ،
__________________
بل تكون حقيقة في
الأعمّ ، فإن قلنا بثبوت معنى عرفي لهذه التراكيب ، بأن يقال : المراد من أمثالها
نفي الفائدة كما في قولهم : لا علم إلّا ما نفع ، ولا كلام إلّا ما أفاد ، فيحمل
عليه ويعبّر عن الفائدة بالصّحة إذا كان في مثل العبادات ، إذ الصّحة هو ترتّب
الأثر وهو مساوق الفائدة.
وإن لم نقل بثبوت
ذلك ، فالأمر متردّد فيها بين أن يكون المراد نفي الفائدة أو نفي الكمال ، وإذا
تردّد الأمر بين هذين المجازين فنقول : إنّ نفي الفائدة ، والصّحة أقرب الى
الحقيقة من نفي الكمال ، فيحمل عليه فلا إجمال أيضا.
أقول : وبما
حقّقنا في أوائل الكتاب تعرف أنّه لا حاجة إلى إقحام كونها حقيقة شرعيّة في
الصحيحة ، بل يكفي إرادة الشارع من الأركان المخترعة الصحيحة منها. ثمّ إنّ
التمسّك بأقربيّة المجاز ليس من باب إثبات اللّغة بالترجيح ، بل من باب تعيين أحد
المجازات بكثرة التعارف ، ولذلك يقال : هو العدم إذا كان بلا منفعة.
والمراد بكثرة
التعارف كثرة إرادة هذا المجاز وظهوره في العرف ، لا صيرورتها حقيقة فيه ليناقض ما
تقدّم .
احتجّ القائل
بالإجمال : باختلاف العرف في نفي الصّحة والكمال وتردّده ، فيلزم الإجمال.
والجواب : إن أريد أنّ أهل العرف مختلفون في الفهم ـ فبعضهم يدّعي
ظهور هذا وبعضهم ظهور ذلك ـ فلا إجمال عند أحد منهم ، وكلّ يحمل على ما يفهمه.
__________________
وإن أريد أنّ أهلّ
العرف متردّدون ، بمعنى عدم استقرار رأي أحدهم على شيء لتساوي الاحتمالين في كل
مورد.
قلنا : لا نسلّم
التردّد ، وإن سلّم فهو في البادئ . وأمّا بعد التأمّل ، فنفي الصحّة أرجح لكونه أقرب الى
الحقيقة ، فيقدّم على غيره.
وإن أريد أنّ
الألفاظ مختلفة في الفهم ، فيفهم من قوله : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» ، نفي الكمال ، ومن قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».
نفي الصّحة ، وهكذا.
قلنا : ممنوع ، بل
الظاهر في الكلّ نفي الصّحة ، والإجماع وسائر الأدلّة هو المخرج عن مقتضى الظاهر
في الأوّل.
ويظهر حجّة
المفصّل وجوابها ممّا تقدّم بالتأمّل.
والظاهر أنّ
المفصّل ممّن يدّعي كون الألفاظ الشرعيّة كلّها حقيقة في الصحيحة.
الثالث :
اختلفوا في التحليل والتحريم المضافين
الى الأعيان مثل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ
وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ،) و : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ،) و : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ
،) و : (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ
__________________
ذلِكُمْ
،) و : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ،) وغير ذلك ، وكذلك غير لفظ الحلّ والحرمة من الأحكام ،
والأكثر على عدم الإجمال .
واحتجّوا عليه : بأنّ استقراء كلام العرب يفيد أنّ في مثل ذلك ، المراد
هو الفعل المقصود من ذلك ، كالأكل من المأكول ، والشرب من المشروب ، واللّبس من
الملبوس والوطء من الموطوء ، وأنت خبير بأنّ المقامات في أمثال ذلك مختلفة ، إذ
الشيء قد يتّصف بكونه مأكولا وبكونه مبيعا وبكونه مشترى ، وهكذا المشروب فقد يقصد
بالخمر الشّرب وقد يقصد البيع وقد يقصد الشّرى وغير ذلك.
وكذلك قد يكون
الشيء الواحد مشتملا على أشياء كالميتة المشتملة على اللّحم والشّحم والإهاب والعظم والصّوف. والمقصود من الإهاب قد يكون هو
__________________
اللّبس وقد يكون
هو الاستسقاء به وغير ذلك ، فلا بدّ من ملاحظة ذلك. فإرادة المنكوح والموطوء من
الأمهات والبنات ونحوها ، والقول بأنّ المقصود منها ذلك لا معنى له إلّا بإرادة
بعض النسوان منها.
نعم ، مقابلة
المرأة بالرّجل وخلقة النسوان يصحّح أن يقال : المقصود المتعارف منها الوطي. وأمّا مع
عنوان الأم والبنت بدون قرينة على أنّ ذكرها في مقام بيان المحرّمات والمحلّلات من
حيث النكاح ، فيشكل دعوى ذلك. وكذلك الميتة في مقام لم يظهر قرينة على أنّ المراد
بيان المأكولات ، فالاستصباح والأكل واتّخاذ الصّابون بالنسبة الى الشّحم متساوية.
فلو قيل : حرّم
عليكم شحوم الميتة ، فلا يخفى أنّ الإجمال ثابت ، ولا كلام فيما ظهر من القرائن
إرادة فرد من الأفراد.
والظاهر أنّ مراد
المنكر هو عدم دلالة اللّفظ بالذّات على شيء مع تعدّد الأفعال ، لا في مثل آية
التحريم المنادية بأنّ المراد بيان من يجوز نكاحها من النساء ومن لا يجوز ، ولا
ريب أنّ الإجمال فيما لا قرينة فيه ثابت.
ويمكن دفع الإجمال
في أمثال ذلك بحملها على الجميع ، لئلّا يلزم القبيح في كلام الحكيم وعراه عن
الفائدة.
__________________
واحتجّ القائل
بالإجمال : بأنّ تحريم العين غير معقول فلا بدّ من إضمار فعل يصلح
متعلّقا له ، لأنّ الأحكام إنّما تتعلّق بأفعال المكلّفين ولا يمكن إضمار كلّ
الأفعال المتعلّقة بها ، لأنّ الإضمار خلاف الأصل ، فلا يرتكب إلّا بقدر الضّرورة
، وهي ترتفع بإضمار البعض ، ولا دليل على خصوصيّة شيء منها ، فيقع الإجمال.
وأجابوا عنه : بمنع عدم الدّليل على الخصوصيّة ، لأنّ ظهور ما هو
المقصود منه في العرف يرجّح ذلك.
أقول : وقد عرفت ما في ذلك.
فالتحقيق في
الجواب : أنّ ما لم يثبت من الخارج مرجّح لأحد المعاني فنحملها على الجميع ، إذ قد
لا يرتفع الضّرورة إلّا بذلك.
فقوله : وهو يرتفع بإضمار البعض ، مطلقا ممنوع.
__________________
قانون
المبيّن : نقيض المجمل ، فهو ما دلالته على المراد واضحة.
وهو قد يكون بيّنا
بنفسه مثل قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ.) فإنّ إفادته لشمول علمه تعالى لجميع الأشياء بنفس اللّغة
لا بشيء خارج.
وفي هذا المثال
تأمّل ، إذ العامّ ظاهر في الشّمول وليس بنصّ. نعم مع انضمام الخارج إليه يصير
نصّا ، لكنّه ليس مقتضى اللّغة ، وقد مرّ في الفرق بين النصّ والظّاهر في محلّه ما ينفعك هنا.
وقد يكون مع تقدّم
إجمال كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بعد حصول البيان بفعله عليه الصلاة والسلام ، والعامّ المخصّص وغيرهما .
وتسمية القسم
الأوّل بالمبيّن إمّا مسامحة ، وإمّا لأنّه من باب ضيّق فم الركيّة ، فإنّ أهل اللّغة وضعوه مبيّنا.
__________________
والبيان مأخوذ من
بان بمعنى ظهر ، أو من البين وهو الفرقة بين الشيئين. وهو إمّا المراد به فعل
المبيّن ، وهو التبيين كالكلام بمعنى التكليم والسّلام بمعنى التسليم ، وإمّا
الدّليل على ذلك أي ما به التبيين ، وإمّا متعلّق التبيين وهو المدلول ، ومعناه
حينئذ العلم من الدّليل.
وقد يسمّى ما به
البيان مبيّنا على لفظ الفاعل وهو يحصل بالقول إجماعا ، وبالفعل على الأقوى .
أمّا القول فمن
الله كقوله تعالى : (صَفْراءُ فاقِعٌ
لَوْنُها ...) إلخ. فإنّه بيان للبقرة في قوله تعالى : (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) على الأصحّ. ومن الرّسول كقوله صلىاللهعليهوآله : «فبما سقت السّماء العشر» ، فإنّه بيان لمقدار الزّكاة المأمور بإيتائها .
__________________
وأمّا الفعل فهو
قد يكون دلالته على البيان بمواضعه كالكتابة وعقد الأصابع والإشارة بالأصابع في
تعيين عدد أيّام الشهر ، وغيره أو بغيرها كما بيّن صلىاللهعليهوآله الصّلاة والحجّ بفعله وإتيانه بالأركان على ما هي عليه.
وقد يكون تركا ،
كما لو ركع عليهالسلام في الثانية بغير قنوت ، فإنّه يدلّ على عدم وجوبه.
ثمّ العلم بكون
الفعل بيانا ، إمّا يعلم بالضّرورة من قصده أو بقوله : أنّ ما فعله بيان للمجمل أو
أمره بأن يفعل مشابها لما فعله مثل قوله عليهالسلام : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» . فإنّه ليس فيه بيان قوليّ لأفعال الصّلاة ، بل إحالة على
ما فعله في الخارج ، فبطل ما توهّم أنّ هذا بيان قوليّ لا فعليّ.
أو بالدّليل
العقلي كما لو أمر بفعل مضيّق مجمل وفعل فعلا يصلح لكونه بيانا ، فالعقل يحكم
بأنّه بيان له ، ولا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وخالف بعض العامّة
في جواز كون الفعل بيانا ، محتجّا بأنّ البيان بالفعل
__________________
يوجب الطّول
فيتأخّر البيان مع إمكان تعجيله.
وفيه أوّلا : أنّه
قد يكون القول أطول من الفعل .
وثانيا : أنّه
يلزم تأخير البيان لو لم يشرع بالفعل بعد إمكان الشروع وبعد ما شرع ، فإذا احتاج
إتمامه الى زمان طويل لا يسمّى ذلك تأخير البيان عرفا ، كما لا يسمّى بذلك في
القول في الزّمان المحتاج إليه.
وثالثا : أنّه لا
قبح في هذا التأخير سيّما إذا كان أصلح.
ورابعا : أنّ
امتناع تأخير البيان مع إمكان التعجيل ، إنّما يسلّم قبحه إذا كان عن وقت الحاجة
وهو خارج عن الفرض.
__________________
قانون
ذهب أصحابنا
وجميع أهل العدل
الى امتناع تأخير بيان المجمل
عن وقت الحاجة ،
لاستلزامه تكليف ما لا يطاق.
وأمّا تأخيره عن
وقت الخطاب ، ففيه أقوال ثلاثة :
المشهور الجواز .
وفصّل بعضهم فجوّز في غير ما له ظاهر ، وأمّا ما له ظاهر كالعامّ
والمطلق والأمر الظاهر في الوجوب ، فلا يجوز فيه تأخير البيان رأسا ، وأمّا مع
البيان الإجمالي فلا بأس.
وربّما زاد بعض
العامّة عدم جواز تأخير البيان في المنسوخ أيضا ، فذهب الى
__________________
لزوم اقترانه
بالبيان الإجمالي ، بأن يقال وقت الخطاب : إنّ هذا الحكم سينسخ ، وهو في غاية
الضّعف ، للإجماع من العامّة والخاصّة على عدمه ، بل جعلوا تأخير بيان الناسخ من
شرائط النسخ.
لنا على الجواز
مطلقا : عدم المانع عقلا ووقوعه في العرف والشرع.
أمّا الأوّل ، فلما سنبيّن من ضعف ما تمسّك به المانع ، وإمكان المصلحة
في التأخير ، مثل توطين المكلّف نفسه على الفعل والعزم عليه الى وقت الحاجة ،
وتهيّؤه للفعل حتّى يكون عليه أسهل ، بل قد يكون التأخير أصلح ، لأنّ مع اقتران
البيان ربّما يعلم سهولة التكليف والتوطين عليه الى وقت الحاجة سهل.
وأمّا مع عدم
الاقتران ، فرّبما يحتمل كون المكلّف به أشقّ ممّا هو مراد في نفس الأمر ويوطّن
نفسه على الأشقّ والأسهل ، مع أنّ المطلوب منه هو الأسهل ، وفي صورة اقتران البيان
بإرادة الأسهل لا يوطّن إلّا على الأسهل ، ولا فرق في ذلك بين الأوامر والتكاليف
والحكايات والقصص.
فما توهّم بعض
القائلين بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب مطلقا ، من عدم جوازه في
الأخبار والحكايات نظرا الى أنّها ليس لها وقت الحاجة ، بل المراد منها التّفهيم ،
ولا بدّ أن يكون مقترنا بالخطاب ، لا وجه له ، إذ من الجائز أن يكون المراد من
الخبر لازم فائدته مثل أن يعتقد على ما هو ظاهر ، ليحصل به ما يحصل من حقيقة
المراد ، فيمكن تأخّر زمان الاحتياج الى بيان نفس المراد والعلم بأصل
__________________
الخبر وحصول
فائدته بذاته مثل أن يقال : قتل فلان ، مع أنّه ضرب ضربا شديدا لأجل تعذيب أوليائه
وتشويشهم أو لأجل تفريح أعدائه وتجربتهم [وتحريشهم] ، ثم يبيّن أنّ المراد الضّرب الشّديد.
وأمّا الثاني ، فكثير لا حاجة الى البيان.
أمّا في العرف ،
فلأنّه يصحّ عرفا أن يقول الملك لأحد من غلمانه : قد ولّيتك البلد الفلاني فاذهب
إليه الى وقت كذا ، وسأكتب لك كتابا فيه بيان ما تعمله هناك وأرسله إليك بعد
استقرارك في عملك.
وأمّا في الشرع ،
فمنها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وهي كانت معيّنة في الواقع ، وإلّا لما سألوا عن التعيين
بقولهم : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) و : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنا ما لَوْنُها.) ولم يبيّنه تعالى ، بقوله : (بَقَرَةٌ لا فارِضٌ
وَلا بِكْرٌ ،) وبقوله : (فاقِعٌ لَوْنُها
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.)
وقيل : انّه ليس
من هذا الباب لظاهر قوله : (أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً ،) فإنّه يفيد التخيير.
وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ،) فإنّه ظاهر في قدرتهم على الفعل ، وإنّما
__________________
وقع السّؤال
تعنّتا ، فشدّد الله عليهم. ونقل عن ابن عباس أنّه قال : لو ذبحوا أيّ بقرة
لأجزأتهم ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم .
وفي «عيون أخبار
الرضا عليهالسلام» عنه عليهالسلام : «لو عمدوا الى أيّ بقرة أجزأتهم ولكنّهم شدّدوا على
أنفسهم فشدّد الله عليهم» .
أقول : ظاهر تنكير
(بقرة) يندفع بالقرائن المتأخّرة.
وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.) يعني من جهة التّواني في الامتثال ومن جهة عظم ثمن البقرة
، فقد روي : أنّه بلغ الى ملء مسكها ذهبا فأرادوا أن لا يفعلوا ، ولكن اللّجاج
حملهم على ذلك واتّهامهم موسى حداهم عليه.
وأمّا قول ابن
عباس ، فعلى فرض تسليمه لا حجّة فيه.
وأمّا حديث العيون
فمعارض بما في تفسير الإمام عليهالسلام ، وبما في تفسير عليّ بن ابراهيم عن الصادق عليهالسلام وغيرهما.
ومنها : قوله
تعالى : (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ،) و : (وَالسَّارِقُ
__________________
وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ،) و : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما ،) مع تأخّر بيان تفاصيلها من الأركان والمقدار واشتراط الحرز
والنّصاب وتخصيص الزّاني بالمحصن.
وأمّا بيان
الفائدة في تأخير بيان ما له ظاهر فسيجيء.
وأمّا وقوعه في
العرف والشرع أيضا فأكثر من أن يحصى.
ومنها : الآيات
المتقدّمة في حكم السّارق والزّاني وغيرهما ، وكفاك ملاحظة عموم التكاليف للظانين
لبقائهم إلى آخر الامتثال جامعا للشرائط ، مع أنّ الصّائم قد يمرض ، والصّائمة قد
تحيض ، والمصلّي قد يموت بين الصلاة ، الى غير ذلك.
واحتجّ المانع
مطلقا ، أمّا على عدم التأخير في المجمل : فبأنّه لو جاز لجاز خطاب العربي بالزنجيّة من غير بيان
في الحال ، وهو قبيح لعدم فهم المراد.
وجوابه : منع
الملازمة للفرق بينهما ، فإنّ خطاب العربي بالزنجيّة لا يحصل منه العلم بشيء من
أصناف الكلام وضروب القول ، حتّى أنّه لا يميّز بين كونه خبرا أو إنشاء ، مدحا
أو ذمّا ، ثناء أو شتما ، بخلاف المجمل ، فإنّ المخاطب يفهم أنّه يريد به أحد
معانيه المحتملة ويوطّن نفسه على الامتثال بأيّهما تبيّن له أنّه مراد ، ولو فرض
في خطاب العربي بالزنجيّة حصول فهم في الجملة للسّامع بقرائن المقام ، وكان له
رجاء تفسير له ، فلا نسلّم بطلان اللّازم حينئذ.
__________________
وأمّا على عدم
الجواز فيما له ظاهر : فبما احتجّ به المفصّل ، وسنذكره ونجيب عنه.
واحتجّ المفصّل ،
أما في المجمل : فبما بيّناه فيما اخترناه.
وأمّا على عدم
جواز تأخير بيان ما له ظاهر : فيقبح خطاب الحكيم بلفظ له حقيقة وهو لا يريدها من
دون نصب قرينة على المراد ، بل ذلك دلالة له على غير المراد ، لأنّ الأصل في
اللّفظ حمله على معناه الحقيقي.
وأمّا المجمل ،
فلمّا لم يكن فيه مرجّح لإرادة أحد معانيه ، فيقتصر على ما اقتضاه الوضع الحقيقي ،
ويتوقّف بسبب الإجمال الحاصل في الوضع ، فليس فيه دلالة على غير المراد ، بل فيه
دلالة على المراد في الجملة أيضا ، بخلاف الحقيقة التي أريد منها المعنى المجازي بدون
نصب القرينة.
وبأنّ الخطاب وضع
للإفادة ، ومن سمع العامّ مثلا مع تجويزه أن يكون مخصّصا ويبيّن في المستقبل ، فلا
يستفيد في هذه الحالة به شيئا.
والتحقيق في
الجواب عن الدّليل الأوّل : أنّ مناطه لزوم القبح من جهة أنّه إغراء بالجهل ، وهو
قبيح .
وفيه : منع كليّة
الكبرى لغاية وفور التكليفات الابتلائية كتكليف إبراهيم عليهالسلام بذبح ولده.
وما قيل : أنّ
التكليف إنّما كان بالمقدّمات ، وجزعه إنّما كان من جهة خوفه
__________________
من أن يؤمر بنفس
الذّبح بعده ، لا يليق مدح إبراهيم عليهالسلام ذلك المدح ، وقد مرّ الإشارة الى ذلك .
والتكليفات
الامتحانيّة في العرف والعادة أكثر من أن تحصى ، وقد حقّقناه في مبحث تكليف الأمر
مع العلم بانتفاء الشرط. فإذا كان مصلحة في توطين المكلّف نفسه على ظاهر العموم الى وقت الحاجة أو على الوجوب في الأمر الى وقت الحاجة ،
ويحصل له هذا الثّواب ثمّ يبيّن له أنّ المراد هو الخصوص والندب ، فأيّ مانع منه.
وقد يجاب : بمنع
لزوم الإغراء . لأنّه يلزم حيث ينتفي احتمال التجوّز ، وانتفاؤه فيما قبل
وقت الحاجة موقوف على ثبوت منع التأخير مطلقا ، وقد فرضنا عدمه.
وما يقال : إنّ الأصل في الكلام الحقيقة ، معناه أنّه مع فوات وقت
القرينة وهو الحاجة في هذا المقام وتجرّده عنها يحمل على الحقيقة ، لا مطلقا. ألا
ترى أنّه لا يحمل اللّفظ على حقيقته حتّى يتمّ الكلام ، وأنّه يجوز تأخير القرينة
عن وقت التلفّظ كما في الجمل المتعاطفة المتعقّبة بمخصّص.
وأيضا : قد حكموا
بجواز إسماع العامّ المخصوص بأدلّة العقل وإن لم يعلم السّامع أنّ العقل يدلّ على
تخصيصه ، فيثبت جواز تأخير القرينة عن اللّفظ ، وعدم لزوم الإغراء.
وكذلك قد جوّزوا
إسماع العامّ المخصوص بالدليل السّمعي من دون إسماع
__________________
المخصّص. فكما أنّ
احتمال وجود المخصّص يوجب عدم الحمل على الحقيقة حتى يحصل الفحص ، فكذلك احتمال
ذكر القرينة في زمان الحاجة يوجب ذلك.
وفيه : أنّ الحمل
على الحقيقة هو مقتضى الظاهر والظنّ والمدار على الظّنون في مباحث الألفاظ ، ولا
ريب أنّ احتمال التجوّز ضعيف في جنب إرادة الحقيقة ، ولا ريب في حصول الظنّ بعد
الفراغ من الكلام بعدم القرينة ، وأنّ المراد هو الحقيقة.
وقد صرّحوا بأنّ
معنى الأصل في قولهم : الأصل هو الحقيقة ، هو الظاهر ، وما ذكره المجيب في معنى أصالة الحقيقة فهو مختصّ به .
وما استشهد به من جواز تأخير القرينة عن اللّفظ الى آخر الكلام فهو قياس مع الفارق ، لأنّ وقت تشاغل المتكلّم بالكلام
محتمل لما لا يحتمله حال السّكوت عنه كما يقتضيه العرف والعادة ، وذلك ليس لتفاوت زمان التأخير في الطّول والقصر كما توهّم ، بل
لمدخليّة التشاغل ، وعدم التشاغل في ذلك.
وأمّا الاستشهاد بالعامّ المخصوص بدليل العقل من دون إعلام السّامع ذلك.
ففيه : أنّه غير
مضرّ ، لأنّ إعطاء العقل للمكلّف رافع للإغراء ، ودلالته قرينة على إرادة التخصيص
، فإنّ العقل والشّرع متطابقان يفسّر كلّ منهما الآخر ، ومع عدم تعقّل المخاطب ،
فلا ريب في قبحه ، إلّا أن لا يتعقّل العموم ، بحيث يشمل الفرد
__________________
المخرج بالعقل ،
وهو أيضا كاف في عدم الإغراء.
ولو فرض تعقّله
للعموم وعدم تعقّله للتخصيص إلّا بعد زمان ، فهذا يكون من باب تأخير البيان عن وقت
الخطاب ، ونلتزم فيه الإغراء ، ونمنع قبحه كما مرّ .
وأمّا تجويز إسماع
العامّ المخصّص بالدّليل السّمعي ، فلا دخل له بما نحن فيه ، إذ العامّ إن كان ممّا خوطب به
المخاطب من لسان الشّارع مواجها له ، مريدا إفهامه والعمل على مقتضاه فعلا أو
تعليما للغير ، فيجري فيه ما سبق من عدم جواز تأخير بيان المخصّص عن وقت الحاجة.
وأمّا عن وقت
الخطاب ، فإذا أخّره فيلزم الإغراء جزما لأنّه يحمله على ظاهره.
فالتحقيق في
الجواب : منع قبح ذلك الإغراء حتّى يتبيّن له المخصّص ، إمّا
بذكره له قبل وقت الحاجة أو إحالته على راو أو أصل أو كتاب.
وأمّا إذا لم يكن
السّامع ممّن يراد فهمه للخطاب كالعجميّ القحّ والعاميّ البحت ، فهو ليس بمخاطب
بذلك حتى يترتّب عليه أحكام الخطاب ، بل هو مخاطب بالأخذ من العالم ، وكذلك من
يفهم الخطاب ، لكن لا يحتاج الى العمل به.
وأمّا إذا كان
العامّ من باب الأدلّة الواردة من الشّرع لا من باب الخطاب كما هو كذلك بالنسبة الى زماننا على ما هو الحق من اختصاص الخطابات
بالمشافهين ، فيخرج عن محلّ النزاع. فإنّ الكلام في لزوم الإغراء وقبح الخطاب ،
فخطابنا حينئذ هو العمل بمقتضى هذا العامّ الذي رأيناه أو سمعناه مع ما يقتضيه
__________________
سائر الأدلّة التي
لم نعثر عليها ، وهي في الأصول يقينا أو ظنّا ، لا خصوص العام ، وهذا المقام هو الذي يقولون : يجب الفحص عن المخصّص في الأصول. فخطابنا
حينئذ هو العمل بما نفهمه من مجموع الأدلّة ، ولا إجمال في هذا الخطاب ، وليس من
باب الخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره أيضا.
وهذا الفرض الحاصل
في زماننا الآن هو أيضا قد يحصل في زمن الشّارع أيضا ، إذ ليس كلّ أحد في زمن
الشّارع يسمع الخطابات شفاها ، عموما كان أو خصوصا ، بعنوان أن يراد منه فهمه
والعمل به ، بل الأئمة عليهمالسلام كانوا يقرّرون أصحابهم على العمل بما يفهمون من الجمع بين
أخبارهم وفهمهم واجتهادهم في تطبيق الرّوايات بالكتاب وبمذاهب العامّة وبسنّة
النبيّ صلىاللهعليهوآله وغيرها .
فالكلام في
الإذعان بكون العامّ باقيا على عموم أم لا ، في غير محلّ الخطاب الشّفاهي ، وما في
معناه غير الخطاب بالعامّ المخصوص شفاها مريدا به الإفهام ، مع عدم إسماع مخصّصه.
وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، وما ذكره المجيب من قبيل الثاني ، وبينهما بون بعيد.
هذا مع أنّ الشيوع
والغلبة في التخصيص زاحم أصالة الحقيقة في العامّ ، وذلك
__________________
لا يوجب تأسيس
القاعدة التي بني عليه الأمر ، وهو أنّ مجرّد احتمال التجوّز يوجب التوقّف عن
الحمل على أصل الحقيقة ، مع أنّا قد أشرنا في مبحث البحث عن المخصّص ، أنّ البحث عن
المجاز معنى ، والبحث عن المعارض معنى آخر ، ولزوم التوقّف عن العمل بظاهر الدّليل
حتى يتفحّص عن معارضه عامّا كان الدّليل أو غيره من الظواهر ، مثل الأمر والنّهي ،
غير التوقّف عن حمله على أصالة الحقيقة حتّى يعلم عدم القرينة على المجاز.
وهذا التوقّف الذي
أورده المجيب من باب الأوّل لا الثاني.
وقد يجاب : بالنقض
بالنّسخ.
وتوجيهه أنّ
المنسوخ لا بدّ أن يكون ظاهرا في الدّوام وإن كان عن القرائن الخارجية لا من دلالة
اللّفظ والحقيقة ، فبعد مجيء الناسخ يعلم أنّه غير مراد ، ومن هنا التجأ بعضهم الى القول بلزوم اقتران المنسوخ بالبيان الإجمالي وهو
باطل.
وأمّا الجواب عن
قوله : إنّ الخطاب وضع للإفادة ... الخ.
فهو أوّلا : منقوض
بتأخير بيان المجمل.
وثانيا : بأنّ
الفائدة حاصلة من العزم والتوطين على الظاهر.
__________________
تنبيه
قد عرفت وجوب البيان في الجملة.
فاعلم أنّ البيان
إنّما يجب لمن أراد الله إفهامه الخطاب دون من لا يريد إفهامه ، للزوم التكليف
بالمحال لو لاه في الأوّل دون الثاني.
ثمّ الأوّل ، قد
يراد منه فعل ما تضمّنه الخطاب إن تضمّن فعلا كالعالم في الصلاة.
وقد لا يراد منه
إلّا معرفة المضمون لإرشاد الغير ، كمسائل الحيض له.
والثاني ، قد لا
يراد منه العمل بمضمون الخطاب أيضا كالعوامّ بالنسبة الى مسائل الحيض.
وقد يراد فعله
كالعبادات بالنسبة الى العوامّ ، ومسائل الحيض بالنسبة الى النساء ، فإنّ وظيفتهم
الأخذ عن العالم.
__________________
قانون
قد عرفت معنى الظاهر في أقسام المحكم ، وتنبّهت على معنى المأوّل أيضا.
ونقول هاهنا أيضا
: الظاهر ما دلّ على معنى دلالة ظنيّة راجحة مع احتمال غيره ،
كالألفاظ التي لها معان حقيقة إذا استعملت بلا قرينة تجوّز ، سواء كانت لغويّة أو
شرعيّة أو غيرهما . ومنه المجاز المقترن بالقرينة الواضحة على ما أشرنا إليه سابقا.
وأمّا المأوّل فهو في الاصطلاح : اللّفظ المحمول على معناه المرجوح.
وإن أردت تعريف
الصحيح منه فزد عليه : بقرينة مقتضية له .
والقرينة إمّا
عقليّة ، مثل قوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ ،) ومثل : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ
يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).
__________________
وإمّا لفظيّة كحمل
آية الصدقة على بيان المصرف لا الاستحقاق والملك ، بقرينة ملاحظة ما قبلها وهو
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ)(فِي الصَّدَقاتِ
فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ
يَسْخَطُونَ.) فالآية ردّ عليهم وردع عمّا اعتقدوا أنّه يجور في ذلك ، بل
إنّه يصرفه في مصرفه.
وثمرة ذلك عدم
وجوب التوزيع على الأصناف ، وإحاطتهم.
وربّما تكون
القرينة مفصولة ، مثل الأخبار المخصوصة بالسّنّة والإجماع وغيرهما. وإن شئت جعلت
المجازات كلّها من باب المأوّل بالنسبة الى اللّفظ مع قطع النظر عن القرينة سواء
قارنها القرينة أو فارقها ، فمع ملاحظة الهيئة المركّبة من اللفظ والقرينة ظاهر ،
ومع قطع النظر عن القرينة مأوّل ، وهو بعيد.
والتحقيق أن يقال
: إنّ المجاز ما اقترن بالقرينة الدالّة على خلاف ما وضع له اللّفظ ، والمأوّل ما
لم يقترن به. وعلى هذا فاليد في الآية ليست بمجاز ، بل هي ظاهرة في معناها الحقيقي
عند عامّة العرب ، محمولة على خلاف ظاهرها عند أهل المعرفة ، والقرينة على هذا
الحمل هو العقل. وعلى هذا يظهر الفرق بين قولنا : رأيت أسدا يرمي ، وبين : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).
وعلى هذا فكلّ
المجملات التي لها ظاهر وتأخّر بياناتها عن وقت الخطاب مؤوّلات ، وكذلك العمومات
المخصّصة بما هو مفصول عنها ، وأطلق عليها المجاز توسّعا من أجل احتمال أن يكون
القائل أراد منها حين التكلّم ما ظهر إرادته
__________________
أخيرا ، ونصب
قرينة عليها حين التكلّم بها قد اختفت علينا. ولا يجوز ارتكاب التأويل إلّا مع تعذّر
الحمل على الظّاهر ، بأن يتحقّق عليه دليل يترجّح على ظهور اللّفظ.
وكما أنّ الرّاجح
متفاوت في مقدار الرّجحان ، فالمرجوح أيضا متفاوت ، فمنها قريب ومنها بعيد ومنها
أبعد.
وأمّا ما لا
يحتمله اللّفظ فلا يجوز تنزيله عليه. وتفاوت القرب والبعد إنّما يكون بسبب تفاوت
أفهام النّاظرين وانتقالاتهم وتفاوت القرائن ، فربّما يكون اللفظ عند أحدهم ظاهرا
وعند الآخر مؤوّلا وبالعكس.
وقد ذكر
الأصوليّون لأقسام التأويل وقريبها وبعيدها في كتبهم الأصوليّة أمثلة لا فائدة في
التعرّض لها والكلام عليها.
الباب السادس
في الأدلّة الشرعيّة
وفيه مقاصد :
المقصد الأوّل :
في الإجماع
قانون
الإجماع لغة : العزم والاتّفاق .
وفي الاصطلاح :
اتّفاق خاصّ يدلّ على حقيّة مورده.
واختلف العلماء في
حدّه ، ولا فائدة في ذكر ما ذكروه وجرحها وتعديلها ، فلنقتصر على تعريف واحد يناسب
مذهب العامّة ، ثمّ نذكر ما يناسب مذهب الخاصّة.
أمّا الأوّل : فهو أنّه اتّفاق
المجتهدين من هذه الأمّة على أمر دينيّ في عصر من الأعصار .
__________________
فقيد الاجتهاد
لعدم اعتبار وفاق العوام وخلافهم.
والتخصيص بهذه
الأمّة لأنّهم لا يقولون بحجّيّة إجماع سائر الأمم ، وإن اقتضى بعض أدلّتهم ذلك .
وأمّا الشيعة
فيلزمهم القول بالحجّيّة ، لأنّ حجّيّة الإجماع عندهم باعتبار دخول المعصوم عليهالسلام ، وهو لا يختصّ عندهم بزمان دون زمان.
وأمّا ما ذكره
العلّامة رحمهالله في أوّل نكاح «القواعد» وغيره : من أنّ عصمة الأمّة من
خواصّ نبيّنا صلىاللهعليهوآله .
فقد نقل المحقّق
البهائي رحمهالله عن والده عن مشايخه رحمهمالله : أنّ مراده العصمة من المسخ والخسف ونحو ذلك ، فلا اعتراض
عليه.
والتقييد بالأمر
الدّيني لإخراج ما ليس منه مثل العقليّات المحضة والدّيني
__________________
أعمّ من الاعتقادي
والفروعي.
وقيد عصر من
الأعصار ، لعدم اشتراط اجتماع ما مضى وما يأتي ، وإلّا فلم يتحقّق بعد إجماع.
وأمّا الثاني
: فهو اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم ، فقد يوافق ذلك مع ما حدّه العامة به ، وقد يتخلّف عنه ، فإنّهم يعتبرون اتّفاق جميع علماء
الأمّة ، ومع اتّفاق الجميع يظهر موافقة المعصوم عليهالسلام أيضا لعدم خلوّ العصر عن معصوم عندهم ، أو لأنّ مع اتّفاق
جميعهم يحصل العلم بأنّه مأخوذ من رئيسهم.
ثمّ إنّ أصحابنا
متّفقون على حجّيّة الإجماع ، ووقوعه موافقا لأكثر المخالفين ، ولكن منهم من أنكر
إمكان حصوله ، ومنهم من أنكر إمكان العلم به ، ومنهم من أنكر حجّيّته والكلّ ضعيف
، وأدلّتهم سخيفة ، وسنشير إليها بعد ذلك.
فلنقدّم الكلام في
مدرك حجّيّة الإجماع وكونه مناطا للاحتجاج ، ثمّ نتبعه بذكر الشّكوك والشّبهات في
المقامات الثلاثة .
__________________
ولمّا كان مدرك
حجّيّته مختلفا بالنسبة الى مذاهب العامّة والخاصّة ، فلنذكر أوّلا ما اعتمد عليه
الخاصّة ، ثمّ نذكر ما اعتمد عليه العامّة.
أمّا الخاصّة
فاعتمدوا في ذلك على كشفه عن رأي المعصوم عليهالسلام ، فلا حجّيّة عندهم في الإجماع من حيث إنّه إجماع ، بل لأنّه
كاشف عن رأي رئيسهم المعصوم ، ولهم في بيان ذلك وجوه ثلاثة :
أوّلها : ما اشتهر
بين قدمائهم ، وهو أنّهم يقولون : إذا اجتمع علماء أمّة النبيّ صلىاللهعليهوآله على قول فهو قول الإمام المعصوم القائم بعده ، لأنّه عليهالسلام من جملة الامّة وسيّدها ، فإذا ثبت اجتماع الامّة على حكم
، ثبت موافقته لهم.
فإن قيل : إن علم
أنّه قال بمثل ما قال سائر الأمّة ، فلا معنى للاعتماد على اتّفاق سائرهم ،
فالمعتمد هو قوله ، وإلّا فكيف يقول : إنّه موافق لهم.
قلنا : فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، وكلامنا إنّما هو في
العلم الإجمالي ، وما علم قوله فيه بالتفصيل فالكلام فيه هو ما ذكرت ، وذلك من باب كلّيّة الكبرى في الشكل الأوّل ، فإنّ العلم
بجسميّة الإنسان في ضمن قولنا : كلّ حيوان جسم ، إنّما هو بالإجمال لا بالتفصيل
حتى يستلزم الدّور ، كما أورده
__________________
بعض المتصوّفة على أهل الاستدلال.
وبهذا ، يندفع الشبهة التي أوردوها من عدم إمكان العلم بمذاهب
العلماء المنتشرين في شرق العالم وغربه مع عدم معرفتهم وعدم إمكان لقائهم ، فإنّ
العلم الإجمالي ممّا يمكن حصوله بلا شكّ ولا ريب ، كما في ضروريات المذهب وسيجيء
تمام الكلام.
وبالجملة ، مناط
هذا التقرير في حجيّة الإجماع ، إنّي علمت بالعلم الإجمالي أنّ جميع أمّة محمّد صلىاللهعليهوآله متّفقون على كذا ، وكلّ ما كان كذلك فهو حجّة ، لأنّ الإمام عليهالسلام في جملتهم فهو حجّة. وهذا هو السرّ في اعتبار هؤلاء وجود شخص مجهول النّسب في جملة المجمعين
ليجامع العلم الإجمالي ، ولو بدّلوا اعتبار وجود مجهول النّسب بعدم العلم بأجمعهم
تفصيلا ، لكان أولى ، ولعلّهم أيضا يريدون بمجهول النسب ذلك.
وحاصله ، فرض
إمكان صورة يمكن القول بكون الإمام فيهم إجمالا لا تفصيلا ، وعلى هذه الطريقة فإن
حصل العلم باتّفاق الجميع إجمالا ، فيتمّ
__________________
المطلوب ، وكذا إن
خرج منهم بعض من يعرف بشخصه ونسبه مع العلم الإجمالي باتّفاق الباقين ، ولكنّ
الإنصاف أنّ على هذه الطريقة لا يمكن الاطّلاع على الإجماع في أمثال زماننا إلّا على سبيل النّقل ، وإن قال بعضهم : إنّ المراد من
موافقة الإمام عليهالسلام موافقة قوله لقولهم لا دخول شخصه في أشخاصهم ، حتّى يستبعد
ذلك في الإمام المنتظر عليهالسلام.
وثانيها : ما
اختاره الشيخ رحمهالله في «عدّته» بعد ما وافق القوم في الطريقة السّابقة ، والظاهر أنّ له
موافقا من أصحابنا أيضا ممّن تقدّم عليه وممّن تأخّر في هذه الطريقة ، وهي أنّه
اعتمد في ذلك على ما رواه أصحابنا من الأخبار المتواترة ، من أنّ الزّمان لا يخلو
من حجّة ، كي إن زاد المؤمنون شيئا ردّهم وإن نقّصوا أتمّه لهم ،
ولو لا ذلك لاختلط على النّاس أمورهم.
ويظهر ثمرة هذه
الطريقة حيث لم يحصل العلم بالطريقة الأولى كما لو وجد في الإماميّة قول ولم يعرف
له دليل ولم يعرف له مخالف أيضا ، ولكن لم يعرف مع ذلك أيضا كونه قول الإمام
ومختاره.
فقال حينئذ : إنّا
نعلم انّه قول الإمام عليهالسلام ومختاره ، لأنّه لو لم يكن كذا لوجب عليه أن يظهر القول
بخلاف ما أجمعوا عليه لو كان باطلا ، فلمّا لم يظهر ظهر أنّه حقّ.
ويظهر ذلك منه في
مواضع وبعض عباراته في «العدّة» هو هذا : إذا ظهر قول
__________________
بين الطائفة ولم
يعرف له مخالف ولم نجد ما يدلّ على صحّة ذلك القول ولا على فساده ، وجب القطع على
صحّة ذلك القول وأنّه موافق لقول المعصوم عليهالسلام ، لأنّه لو كان قول المعصوم مخالفا له لوجب أن يظهره ،
وإلّا كان يقبح التكليف الذي ذلك القول لطف فيه ، وقد علمنا خلاف ذلك.
وقال قبل ذلك في
مقام آخر وهو ، فيما لو اختلف الإماميّة على قولين لا يجري فيهما
التخيير كالوجوب والحرمة مثلا ، وكان أحدهما قول الإمام عليهالسلام ولم يشاركه أحد من العلماء فيه ، وكان الجميع متّفقين على
الباطل ، فقال : ومتى اتّفق ذلك وكان على القول الذي انفرد به الإمام دليل من كتاب أو سنّة
مقطوع بها ، لم يجب عليه الظّهور والدّلالة على ذلك ، لأنّ ما هو موجود من الكتاب
والسنّة كاف في باب إزاحة التكليف ، ومتى لم يكن على القول الذي انفرد به دليل على
ما قلناه يعني على النحو الذي فرضه من الكتاب أو السنّة المقطوع بها وجب عليه
الظهور وإظهار الحقّ وإعلام بعض ثقاته حتّى يؤدّي الحقّ إلى الأمّة ، بشرط أن يكون
معه معجزة تدلّ على صدقه ، وإلّا لم يحسن التكليف.
وقد أورد عليه بعض
المحقّقين : بأنّه يكفي في إلقاء الخلاف بينهم بأن يظهر القول وإن لم
يعرفه العلماء أنّه إمام ، بل يكفي قول الفقيه المعلوم النّسب في ذلك أيضا ، بل
يكفي وجود رواية بين روايات أصحابنا دالّة على خلاف ما أجمعوا.
وفيه : نظر ظاهر ، إذ مناط كلام الشيخ ليس أنّ الإجماع على الخطأ لمّا
كان
__________________
باطلا وجب على
الإمام رفع ذلك ، وهذا يتمّ بنقض الإجماع ولو كان بوجود مخالف ، بل مناط كلامه أنّ
لطفه تعالى الدّاعي إلى نصب الإمام أوجب ردع الامّة عن الباطل ، وذلك لا يتمّ إلّا
بما يوجب ردعهم ، فلمّا لم يحصل ذلك علم أنّه راض على ما اجتمعوا عليه.
والتحقيق في جوابه
: منع ذلك ، وإنّما الواجب على الله نصبه عليهالسلام ، والواجب عليه عليهالسلام الإبلاغ والردع عن الباطل إن لم يمنعه مانع ولم يثبت حكمة
في غيبته واستتاره عليهالسلام لا مطلقا.
وبهذا ردّ هذا
القول السيّد المرتضى رحمهالله وقال : ولا يجب عليه الظهور لأنّه إذا كنّا نحن السّبب في
استتاره ، فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرّفه وبما معه من الأحكام ، يكون قد
أوتينا من قبل نفوسنا فيه ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا
الحقّ الذي عنده.
وحاصل هذا الكلام
؛ هو الذي ذكره المحقّق الطوسي رحمهالله في «التجريد» حيث قال : وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا.
هذا مع أنّا نرى
أنّ خلاف مقتضى اللّطف والتبليغ موجودا إلى غير النّهاية ، والأقوال المختلفة في
غاية الكثرة مع تعطّل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وإجراء الأحكام والحدود.
وقد يجاب عن وجود
الاختلاف في الأقوال : بأنّهم أوقعوا الخلاف وبيّنوا لنا علاجه ، وهو وإن كان كذلك
في الغالب ، لكنّ بعض الخلافات الذي لا يمكن ذلك
__________________
فيه لا يتمّ فيه
ما ذكر ، بل لا يتمّ في الغالب أيضا كما سيجيء.
وقد ينتصر لطريقة
الشيخ ردّا على الجواب الذي ذكرنا من أنّ عدم إظهار الإمام المخالفة لعلّه كان لأجل تقيّة أو
مصلحة بأنّ هذا هو الذي يذكره العامّة في الردّ على الشّيعة من أنّ الحكمة لعلّها
اقتضت خلوّ الزّمان عن الحجّة أيضا ، وبأنّ ذلك ينافي كون تقرير المعصوم عليهالسلام حجّة ، خصوصا تقرير كلّ الشيعة على أمر ، مع أنّ الحكمة
إذا اقتضت إبقاءهم على ذلك ، فيكون راضيا بما اتّفقوا عليه حتّى تتغيّر المصلحة
فيثبت المطلوب ، مع أنّه يمكنه ردعهم بأن يظهر بعنوان المجهول النّسب ويلقي الخلاف بينهم ويبيّن
لهم. ولا يكفي في ذلك وجود رواية أو مجتهد معروف مخالف كما توهّم ، لأنّه لا
يوجب ردعهم كما هو المعهود من طريقتهم من طرحهم الرّواية الشاذّة والقول النادر.
وأمّا عدم ردعهم
في المسائل الخلافية وعدم رفع الخلاف من بينهم ، فلأنّه رضي باجتهاد المجتهدين
وتقليد المقلّدين ، مع أنّهم أوقعوا الخلاف بينهم ، فيظهر منه في الخلافيّات أنّه راض بأحد طرفي النقيض لمجتهد ، وبآخر لمجتهد آخر.
__________________
وأمّا فيما
اجتمعوا عليه فليس إلّا رضاه بشيء واحد ، فلا يجوز مخالفته.
أقول : فرق بيّن
بين الحكمة الباعثة على نصب الإمام وعلى إنفاذه جميع الأحكام ، سيّما إذا تسبّب
لعدمه المكلّفون ، فلا يرد نقض العامّة ، وليس هنا مقام بسط الكلام ، وهذا واضح
سيّما في مسائل الفروع.
وأمّا كون تقرير
المعصوم عليهالسلام حجّة فهو إنّما يسلّم إذا علم اطّلاعه عليه وتمكّنه من
المنع لو كان باطلا ، ولم يمنع ، وهو فيما نحن فيه ممنوع.
وأمّا رضاه على
بقائهم على معتقدهم فهو لا ينافي جواز مخالفتهم بدليل دلّ المتأخّر منهم على
المخالفة ، إذ ذلك أيضا من باب الرّضا باجتهادهم في حال الاضطرار كما في
الخلافيّات ، إذ ليس في كلّ قول من الأقوال المتخالفة حديث أو آية ، بل ربّما
اعتمد بعضهم على دليل ضعيف من قياس ونحوه خطأ وغفلة ، ومع ذلك نقول بأنّ الإمام عليهالسلام راض باجتهاده وبتقليد مقلّده له ، فلعلّ اجتماع هؤلاء أيضا
يكون من هذا القبيل ، ولا مانع من مخالفتهم إذا دلّ عليه دليل لمن بعدهم إلّا
مخالفتهم للشّهرة.
فهذا الكلام يفيد
عدم جواز مخالفة الشّهرة ، وأنّه لا يمكن أن يثبت دليل يترجّح على الشّهرة ، وهو
ممنوع لم يقم عليه دليل ولا يفيد إثبات الإجماع كما هو مرادك. والعلم برضا الإمام عليهالسلام بذلك بالخصوص من حيث هو ، لا من حيث إنّه أيضا من
الاجتهادات المعفوّة.
وأمّا ردعهم
بعنوان مجهول النّسب ، فمع تجويز رضا الإمام عليهالسلام باجتهاد المجتهد وعمل المقلّد به كما ذكرت ، فلا دليل على
وجوب الرّدع عن هذا الاجتهاد
__________________
الخاصّ الذي اجتمع
عليه جماعة. ورضاه على هذا الاجتماع لا يسلم إلّا من جهة كونه باجتهادهم المعفوّ
عنهم ، وذلك لا يوجب عدم رضاه بمخالفتهم إذا أدّى دليل إلى مخالفتهم ، مع أنّ
جريان ما ذكره في مثل زماننا في غاية البعد ، بل لا وجه له.
نعم ، يمكن تتميم
هذه الطريقة فيما لو اجتمع الطائفة على فتوى ولم يعلم موافقة الإمام
لهم ، وكذا على قولين أو ثلاثة ، بالأخبار مثل قوله صلىاللهعليهوآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» . ونحوه ، بأن يقول : يمتنع اجتماعهم على الخطأ ، فلو كان
ما اجتمعوا عليه خطأ لوجب على الإمام عليهالسلام ردعهم عن الاجتماع ، ويلزمه الاكتفاء بمجرّد إلقاء الخلاف
، ولكنّ الكلام في إثبات دلالة تلك الأخبار وحجّيّتها ، وسيجيء الكلام فيها مع أنّ
مدلولها المطابقي يقتضي اجتماع كلّ الأمّة ، ومع عدم العلم بقول الإمام عليهالسلام يخرج عن مدلولها.
وثالثها : ما
اختاره جماعة من محقّقي المتأخّرين وهو أنّه يمكن حصول العلم برأي الإمام عليهالسلام من اجتماع جماعة من خواصّه على فتوى مع عدم ظهور مخالف لهم
، وكذلك يمكن العلم برأي كلّ رئيس بملاحظة أقوال تبعته ، فكما لو
__________________
فرض أنّ فقيها له
تلامذة ثقات عدول لا يروون [يردون] إلّا عن رأي فقيههم ولا يصدرون إلّا عن معتقده ، فاجتمعوا
على فتوى من دون أن يسندوه إلى فقيههم ولم يعلم مخالفة لأحدهم فيه ، يمكن حصول
العلم بذلك بأنّه رأي فقيههم ، فكذلك يمكن العلم بفتوى جمع كثير من أصحاب الصّادق
عليه الصلاة والسلام من قبيل زرارة بن أعين ومحمّد بن مسلم وليث المرادي وبريد بن
معاوية العجلي والفضيل بن يسار من الفضلاء الثّقات العدول وأمثالهم من دون ظهور
مخالف منهم ، أنّ ذلك فتوى إمامهم عليهالسلام ومعتقده. وطريقة ذلك هو الحدس والوجدان ، وهذه طريقة معروفة لا يجوز إنكارها ، فإذا حصل
العلم بذلك بمعتقد الإمام عليهالسلام ، فلا ريب في حجّيته ، بل يمكن أن يدّعى ثبوته في أمثال
زماننا أيضا بملاحظة تتبّع أقوال علمائنا ، فإنّه لا شكّ في أنّه إذا أفتى فقيه
عادل ماهر بحكم ، فهو بنفسه يورث ظنّا
__________________
بحقيّته وأنّه
مأخوذ من إمامه ، وإذا ضمّ إليه فتوى فقيه آخر مثله يزيد ذلك الظنّ ، فإذا انضمّ إليه آخر وآخر حتّى استوعب فتواهم بحيث
لم يعرف لهم مخالف ، فيمكن حصول العلم بأنّه رأي إمامهم ، وإذا انضمّ إلى ذلك
البعض المؤيّدات الأخر ، مثل أنّ جمعا منهم نسبوه في كتبهم إلى مذهب علمائنا ،
وجمعا منهم نفى الخلاف فيه ، وبعضهم ذكر المذهب مع سكوته عن ذكر مخالف ، بل وإذا
رأى بعضهم أو جماعة منهم ذكر في كتابه أنّه إجماعيّ ، فيزيد ذلك الدّعوى وضوحا ،
وإذا انضمّ إلى ذلك كون الطّرف المخالف مدلولا عليه بأخبار كثيرة صحيح السند ،
فيزيد وضوحا أكثر ممّا مرّ.
وإذا انضمّ إلى
ذلك عدم ورود خبر في أصل الحكم أو ورود خبر ضعيف غير ظاهر الدّلالة ، فيتّضح غاية
الوضوح.
وإذا انضمّ إلى
ذلك ملاحظة اختلاف مشاربهم ووقوع الخلاف بينهم في أكثر المسائل ، وقلّما يوجد خبر
ضعيف إلّا وبه قائل ، وملاحظة غاية اهتمامهم في نقل الخلافات ولو كان قولا شاذّا
نادرا ، بل القول النّادر من العامّة فضلا عن الخاصّة ، وملاحظة أنّهم لا يجوّزون
التقليد للمجتهدين سيّما تقليد الموتى ، وأنّ كثيرا منهم يوجبون تجديد النظر.
فلو قيل : لا يمكن
حصول العلم من جميع ذلك بأنّ الباعث على هذا الاجتماع هو كونه رأيا لإمامهم
ورئيسهم الواجب الإطاعة على معتقدهم ، سيّما ولا يجوّزون العمل بالقياس والاستحسان
والخروج عن مدلولات النصوص ، وخصوصا مع كون القياس وأمثاله من الأدلّة العقليّة
ممّا يختلف فيه المشرب غاية الاختلاف ، من جهة تخريج المناط بالمناسبات الذوقيّة
واستنباط العلّة بالترديد
__________________
والدوران ونفي
الفارق ونحو ذلك ، لكان ذلك مكابرة صرفة لا يستحقّ منكره الجواب ، بل الظاهر أنّ مدار كلّ من يدّعي
الإجماع من علمائنا المتأخّرين على هذه الطريقة ولا يتفاوت فيه زمان الغيبة
والحضور ، مع أنّه إذا كان يمكن حصول العلم بمذهب الرئيس إلى حدّ الضّرورة كما وصل
في ضروريّات الدّين والمذهب كوجوب الصّلوات الخمس ، ومسح الرّجلين ، وحلّية المتعتين ، فجواز حصول العلم إلى حدّ اليقين بالنظر أولى.
وكما أنّه يجوز أن
يصير بعض أحكام النبيّ صلىاللهعليهوآله والإمام عليهالسلام بديهيا للنساء والصبيان ، بحيث يحصل لهم العلم بالبديهة
أنّه من دين نبيّهم ومذهب إمامهم بسبب كثرة التضافر والتسامع ، فكذا يجوز أن يصير
بعض أحكامه يقينيّا نظريا للعلماء بسبب ملاحظة أقوال العلماء وفتاوى أهل هذا
الدّين والمذهب ، إذ الغالب في الضّروريات أنّه مسبوق باليقين النظري ، فكيف يمكن
حصول المسبوق بدون حصول السّابق؟
وبالجملة ، فعلى
هذه الطريقة ، الإجماع عبارة عن اجتماع طائفة دلّ بنفسه أو مع انضمام بعض القرائن
الأخر على رضا المعصوم عليهالسلام بالحكم ، ويكون كاشفا عن رأيه فلا يضرّه مخالفة بعضهم.
ولا يشترط فيه
وجود مجهول النّسب ، ولا العلم بدخول شخص الإمام عليهالسلام فيهم ، ولا قوله عليهالسلام فيهم ، ولا يتفاوت الأمر بين زمان الحضور والغيبة ، ويعلم
من ذلك أنّه لا يشترط وحدة العصر في تعريفهم الإجماع أيضا ، بل يجوز انضمام أهل
عصر آخر في إفادة المطلوب.
__________________
فإن قلت : أمثال
ذلك لا تكون إلّا من ضروريات الدّين أو المذهب .
قلت : إن كنت من
أهل الفقه والتتبّع ، فلا يليق لك القول بذلك ، وإن لم تكن من أهله فاستمع لبعض الأمثلة ، تهتدي إلى
الحقّ.
فنقول لك : قل أيّ
ضرورة دلّت على نجاسة ألف كرّ من الجلّاب بملاقاة مقدار رأس إبرة من البول ، فهل يعرف ذلك العوامّ
والنّسوان والصبيان ، وهل يعلم ذلك العلماء الفحول من جهة الأخبار المتواترة ، مع
أنّه لم يرد خبر واحد فضلا عن المتواتر؟ فإن قلت : إنّهم قالوا في ذلك هذا القول
من غير دليل ، فقد جفوت عليهم جدّا.
وإن قلت : دليلهم
غير الإجماع من آية أو عقل أو غيره ، فأت به إن كنت من الصّادقين ، وإلّا فاعتقد
بأنّ الدّليل هو الإجماع ، بل مدار العلماء في جميع الأعصار والأمصار على ذلك.
ووافقنا المنكرون على ذلك من حيث لا يشعرون ، بل لا تتمّ [يتم] مسألة من
المسائل الفقهيّة من الكتاب والسّنة إلّا بانضمام الإجماع إليه ، بسيطا أو
مركّبا ، فانظر إليهم يستدلّون على نجاسة أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه مطلقا
بقوله : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» مطلقا ، مع أنّ ذلك ليس مدلولا مطابقيّا للّفظ ولا تضمّنيا
ولا التزاميا ، إذ
__________________
وجوب الغسل أعمّ
من النجاسة ، والثوب غير البدن ، وغيره من الملاقيات المأكولة والمشروبة وغيرهما.
وكذلك البول غير الرّوث ، إلى غير ذلك من المخالفات ، فليس فهم النجاسة الشرعيّة
منه إلّا من جهة إجماعهم على أنّ العلّة في هذا الحكم هو النجاسة وليس من باب التعبّد ، وأنّه لا فرق بين الثوب والجسد ولا البول والرّوث ، وكذلك غيرهما
من المخالفات.
وكذلك في مسألة
نجاسة الماء القليل كلّ من يستدلّ على التنجيس فيستدلّ ببعض الأخبار الخاصّة ببعض
النجاسات ، وبعض المياه الخاصّة كالكلب والماء الذي ولغ فيه في الإناء. وكلّ من
يستدلّ على الطهارة يستدلّ ببعض آخر مختصّ ببعض النجاسات وبعض المياه ، كالجرذ
الميّتة ، والقربة من الماء ، مع أنّ في الخبر الأوّل فهم النجاسة من الأمر بالصبّ أو النّهي عن الوضوء ، ومن
الثاني من جهة الأمر بالتوضّي ، ولا ريب أنّ الصبّ لا يدلّ على
النجاسة ، وكذا النّهي عن التوضّي ، ومع ذلك لم يفصّلوا بالعمل بالرّوايتين ولم
يبقوهما على حالهما مع عدم التعارض بينهما ، وليس ذلك إلّا الإجماع المركّب ، وعدم
القول بالفرق بين المسألتين ، وليت شعري من ينكر حجّية الإجماع أو إمكان وقوعه أو
العلم به بأيّ شيء يعتمد في هذه المسائل ، فإن كان يقول : أفهم كذا من اللفظ ، فمع
أنّه مكابرة واقتراح وخروج عن اللغة والعرف ، فلم لا يفهم فيما لو أمر الشّارع
بالجهر في الصلاة للرجل ؛ وجوبه على المرأة ، ويفهم من قوله : اغسل ثوبك دون قوله
:
__________________
اغسلي ، وجوبه
عليها.
وبالجملة ، لو
أردنا شرح هذه المقامات وإيراد ما ليس فيها مناص عن الاحتجاج بالإجماع بسيطا أو
مركّبا ، لكنّا ارتكبنا بيان المعسور والمحال.
وفيما ذكرنا كفاية
لمن كان له دراية ، ومن لا دراية له لا يفيده ألف حكاية.
ثمّ لا بأس أن
نجدّد المقال في توضيح الحال لرفع الإشكال .
ونقول : كلّ طريقة
أحدثها نبيّ فبعضها ممّا يعمّ به البلوى ويحتاج إليه الناس في كلّ يوم أو في أغلب
الأوان ، كنجاسة البول والغائط ووجوب الصّلوات الخمس وأمثال ذلك ، فذلك بسبب كثرة
تكرّره وكثرة التسامع والتضافر بين أهل هذا الدّين والملّة ، يصير ضروريّا يحصل
العلم به لكلّ منهم ، ولكلّ من كان خارج هذه الملّة إذا دخل فيهم وعاشرهم يوما أو
يومين أو أزيد ، فيحصل له العلم بأنّ هذه الطريقة من رئيسهم ، والعمدة فيه
ملاحظتهم متلقّين ذلك بالقبول من دون منكر في ذلك ومخالف لهم أو منكر لا يعتدّ به
لندرته ، أو ظهور نفاقه وعناده ، فهذا يسمّى بديهي الدّين ، ودون ذلك بعض المسائل الغير العامّة البلوى التي لا يحتاج إليها
جميعهم ، ولكن علماء هذه الأمّة وأرباب أفهامهم المتردّدين عند ذلك النبيّ صلىاللهعليهوآله والرئيس الذين هم الواسطة بينهم وبينه ، غالبا يتداولون
هذه المسألة بينهم لأجل ضبط المسائل أو لرجوع من يحتاج في هذه المسائل إلى الرجوع
بهم ، فيحصل من الاطّلاع على اتّفاقهم في هذه المسألة وتسامعهم بينهم من دون إنكار
من أحدهم على الآخر ، العلم بأنّه طريقة رئيسهم ، فكما في البديهي ليس وجه حصول
__________________
اليقين إلّا
التّسامع والتضافر بدون إنكار المنكر مع ملاحظة اقتضاء العادة ذكر المخالفة لو كان
هناك مخالف ، فكذلك في الإجماعي. الوجه هو ملاحظة تسامع العلماء وتضافرهم
واتّفاقهم في الفتوى ، مع كون العادة قاضية بذكر الخلاف لو كان ، فوجود المخالف لو
فرض في عصر التتبّع وحصول الحدس فهو من باب النّادر الذي ذكرنا في الضّرورة ، بأن
يكون بحيث ثبت عندهم غفلته وخطأه من أجل شبهة ، أو لم يقفوا عليه وأدّى اجتهادهم
وسعيهم إلى الاعتماد على حدسهم الذي استقرّ عليه رأيهم ، إذ لا ننكر احتمال الخطأ
في مدّعي الإجماع كما سنحقّقه فيما بعد.
وبالجملة ، فكما
يمكن حصول العلم بضروريات الدّين من جهة تسامع وتضافر العلماء والعوامّ والنسوان ،
فيمكن حصول العلم بالنظريات من تسامع العلماء وتظافرهم ، وهذا نسمّيه إجماعا. ونظير
ذلك في المتواترات موجود ، فإنّ التواتر قد يحصل من دون طلب وتتبّع كما لو جاء ألف
رجل من مكّة وأخبروا بوجود مكّة ، فيحصل العلم اليقيني بذلك للعلماء والنّسوان
والصبيان ، وقد يحتاج ذلك إلى تتبّع وإعمال رويّة ، كقوله عليهالسلام : «إنّما الأعمال بالنيّات» ، على ما ذكروه ، فإنّ اليقين بكون ذلك قول النبيّ صلىاللهعليهوآله مختصّ بالعلماء ، بل ببعضهم لاحتياجه إلى معرفة الوسائط
وتعدّدها بالعدد المعتبر في كلّ طبقة ، فهناك النظر إلى كثرة الرّواة والنقلة وثمّة إلى كثرة المفتين والقائلين والعاملين.
ولنرجع إلى بيان
مدرك الإجماع على طريقة العامّة ، وهو من وجوه.
__________________
وليعلم أوّلا :
أنّه لا جدوى لنا في التعرّض إلى القدح في أدلّتهم التي أقاموها على حجّية الإجماع
، لأنّ الإجماع على مصطلحهم إذا ثبت فلا ريب أنّه حجّة عندنا أيضا.
ولكن نتعرّض لذكر أدلّتهم
، والكلام فيها على وجهين :
أحدهما : بيان نفس
الأمر.
والثاني : إظهار
أنّ ما تشبّثوا به في وجه حجّية الإجماع ، لا يمكن أن يعتمد عليه ، فيبطل كلّ ما
يعتمدون في إثباته عليه إلزاما عليهم بعد إبطال المستند ، ومن ذلك أصل مذهبهم
ودينهم. فنحن نلزمهم إمّا ببطلان طريقتهم من جهة عدم حجّية الإجماع إن كان مستنده
ما ذكروه على معتقدهم إلزاما ، أو بمنع تحقّق الإجماع المصطلح فيما يضرّنا تسليمه
في مذهبنا ، سواء سلّمنا مستندهم فيه أم لا ، مع أنّ حجّية الإجماع عندهم ليس
بوفاقي ، بل أنكره النظّام وجعفر بن
__________________
حرب ، وغيرهما ، على ما نقل عنهم .
وبعضهم أنكر إمكان
وقوعه ، وبعضهم العلم به ، ولكنّ جمهورهم على
__________________
حجّيته وإن اختلفوا أيضا في انحصارها في إجماع الصّحابة وأهل المدينة وعدم الانحصار.
واستدلّ القائلون
بحجيّته : بوجوه من العقل والنقل ، من الآيات والأخبار ، ونحن نقتصر بما هو أظهر
دلالة منها.
فأمّا الآيات ،
فمنها قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ)(مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) الآية .
فإنّه تعالى جمع
في الوعيد بين مخالفة سبيل المؤمنين ، ومشاقّة الرسول صلىاللهعليهوآله ، ولا ريب في حرمة الثاني فكذا الأوّل.
وفيه : أنّ الوعيد
على المجموع من حيث المجموع ، لا على كلّ واحد .
__________________
وما قيل : إنّ
مشاقّة الرّسول كافية فيه مستقلّا ، فلا حاجة إلى ضمّ غيره.
ففيه : أنّه كذلك
لكن متابعة غير سبيل المؤمنين غير مستقلّ بذلك حتّى تنضمّ إلى مشاقّة الرّسول ،
فلا يتمّ الاستدلال والتمسّك بأصالة الاستقلال في كلّ منهما ، وأنّ الأصل عدم
انضمام كلّ منهما إلى الآخر باطل ، لفهم العرف الانضمام في مثل قولك : من دخل
الدّار وجلس فله درهم ، مع أنّ القيد المعتبر في المعطوف عليه ، وهو تبيّن الهدى ؛
معتبر في المعطوف ، والهدى في المعطوف هو دليل الإجماع ، فلم يثبت حجّيته.
وأيضا سبيل
المؤمنين ليس على حقيقته ، ومن أقرب مجازاته دليلهم وهو مستند الإجماع لا نفسه.
هذا جملة ممّا
ذكروه في هذا المقام ، وقد أطنب الأصحاب في هذا المقام بما لا حاجة إلى إيرادها ، والأوجه أن يقال
: المراد بسبيل المؤمنين الإيمان ، وهو ما صاروا به مؤمنين.
__________________
ويرد عليها أيضا : أنّ مفهوم اتّباع غير سبيل المؤمنين ، عدم اتّباع
الغير لا اتّباع سبيل المؤمنين ، فلا يلزم تهديد ووعيد على تارك المتابعة رأسا.
لا يقال : أنّ ترك
المتابعة رأسا هو متابعة غير سبيل المؤمنين ، لأنّا نقول : المتابعة أمر وجوديّ
يحصل بحصول المتبوع ، والمفروض انتفاؤه.
ومنها : قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.) فإنّ وسط كلّ شيء عدله وخياره في اللّغة ، فمن عدّله الله
تعالى يكون معصوما عن الخطأ ، فقولهم حجّة.
ففيه : أنّ ذلك
يستلزم عدم صدور الخطأ عنهم مطلقا ، وهو باطل.
وما يقال : إنّ
ذلك إذا اجتمعوا ، لا مطلقا.
ففيه : أنّه تقييد
بلا دليل ، وتخصيص قبيح ، مع أنّ التعليل بقوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ظاهر في كون كلّ منهم شاهدا ، لا المجموع من حيث المجموع ،
فكذلك الامّة.
مع أنّ المراد
إمّا الشهادة في الآخرة كما ورد في الأخبار ، فهو إنّما يستلزم العدالة عند الأداء
لا التحمّل ، فلا يجب عصمتهم في الدنيا.
وإمّا في الدنيا
فهو إنّما يدلّ على قبول شهادتهم وهو لا يستلزم حجّية فتواهم ، فالآية متشابهة
الدّلالة ، فالأولى أن يقال : المراد بهم أئمّتنا عليهمالسلام كما روي في تفسيرها .
__________________
ومنها : قوله
تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فإنّ مفهومه عدم وجوب الردّ مع الاتّفاق.
وفيه : أنّ عدم
وجوب الردّ حينئذ أعمّ من أن يكون جواز العمل لكون إجماعهم حجّة ، بل إنّما كان من
أجل أنّ عند كلّ منهم ما يكفيهم من الدّليل على مطلبه من عقل أو نقل ، مع انّ عموم
الجمع في قوله : (تَنازَعْتُمْ ،) و (رُدُّوا ،) أفراديّ لا مجموعيّ ، كما لا يخفى.
وسيجيء انّ بعض
العامّة استدلّ بهذه الآية على عدم حجّية الإجماع .
وأمّا الأخبار
:
فمنها : ما ادّعوا
تواتر مضمونها معنى وأظهرها دلالة ، وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» . وفي لفظ آخر : «لم يكن الله ليجمع امّتي
__________________
على خطأ» .
ومنها : قوله صلىاللهعليهوآله : «كونوا مع الجماعة» ، و «يد الله على الجماعة» ونحو ذلك.
وفيه أوّلا : منع
صحتها وتواترها ، بل هي أخبار آحاد لا يمكن التمسّك بها في إثبات مثل هذا الأصل
الذي بنوا دينهم عليه ، فضلا عن فقههم ، ولم يثبت دلالتها على القدر المشترك على
سبيل القطع بحيث يفيد المطلوب.
وثانيا : منع
دلالتها.
أمّا أوّلا :
فلأنّ الظاهر من الاجتماع هو التجامع الإرادي لا محض حصول الموافقة اتّفاقا ، فلا
يثبت حجّية جميع الإجماعات ، إذ لا يتوقّف تحقّق الإجماع على اجتماع آرائهم على
سبيل اطّلاع كلّ منهم على رأي الآخر واختياره موافقة الآخر ، وتتميمه بالإجماع
المركّب أو بعدم القول بالفصل دور ، وهذا واضح ، إلّا أن يقال : مرادهم إثبات
الحجّية في الجملة لا مطلقا ، وبه يبطل السّلب الكلّي الذي يدّعيه الخصم.
وثانيا : أنّ لام
الخطأ جنسيّة ، لما حقّقناه سابقا في محلّه من أنّها حقيقة فيه ، ومقتضاه عدم جواز اجتماعهم على جنس الخطأ ، وهو قد يحصل
، بأن يختار كلّ واحد من الامّة خطأ غير خطأ الآخر ، وذلك يوجب عصمتهم ولا يقولون
به.
__________________
فهذا من أدلّة
الشيعة على القول بوجوب وجود الإمام المعصوم ، والعجب من المخالفين حيث قالوا
بمقتضاه من حيث لا يشعرون ، نقله المحقّق البهائي رحمهالله عن صاحب «المحصول» وهو نسبه فيه إلى أكثرهم ، وسيجيء في مسألة تعاكس شطري
الإجماع ، الكلام في ذلك.
نعم ، يمكن توجيه
الدّلالة على القول بجنسيّة اللّام ، بأن يقال : يفهم اتّحاد الفرد ، من لفظ
الاجتماع لا من لفظ الخطأ ، فيكون المراد : لا تجتمع امّتي على جنس الخطأ ، بأن
يختاروا فردا منها كالزّنا مثلا ، فما اجتمعوا عليه فهو صواب ، وهو تقييد بلا
دليل.
نعم ، يتمّ ذلك لو
جعل اللّام للعهد الذّهني فيصير من باب النّكرة المنفيّة مفيدا للعموم ، لكنّه أيضا معنى مجازي للّفظ.
وأيضا الظاهر من
اللّفظ سيّما على القول بكون الاجتماع بمعنى التجامع الإرادي ، أنّ اجتماع الأمّة
لا يحصل على ما خطائيّته ثابتة قبل الاجتماع ، فالغرض نفي اجتماع الأمّة على ما هو
خطأ ، لا أنّ ما اجتمعوا عليه يعلم أنّه ليس بخطإ.
وظاهر الأوّل أنّ
المعتبر في الخطأ كون خطئيّته ثابتة قبل الاجتماع ، فالغرض نفي اجتماع الأمّة على
ما هو خطأ عندهم ، لا أنّ ما اجتمعوا عليه يكشف عن أنّه صواب وليس بخطإ ، وإن قلنا
بكون الألفاظ أسامي للماهيّات النفس الأمرية .
__________________
والحاصل ؛ أنّ هذه
الرواية وما في معناها ظاهرة في مذهب الإمامية من لزوم معصوم في كلّ زمان ، ويؤيّده
أيضا ما رووه من قوله عليهالسلام : «لا يزال طائفة من امّتي على الحقّ حتّى تقوم السّاعة» . وهو أيضا يشعر بأنّ نفيه عليهالسلام اجتماعهم على الخطأ إنّما هو لأجل أنّه لا بدّ أن يكون
طائفة من أمّته على الحقّ ، كما نبّه عليه بعض المحقّقين. قال : وهو ما يقوله
أصحابنا من وجوب دخول المعصوم عليهالسلام في الإجماع حتّى يكون حجّة ، فيلزم المخالفين أن يقولوا
بأنّ حجّية الإجماع إنّما هو من أجل ذلك ، كما يقوله أصحابنا ، لا لأنّه إجماع من
حيث إنّه إجماع.
وأمّا قوله عليهالسلام : «لم يكن الله ليجمع امّتي على خطأ» .
فمع ما فيه من
أكثر ما مرّ من القدح في السّند والدّلالة ، أنّ ظاهرها مقبول عندنا ولا يصدر مثل
هذا القبيح عن الله تعالى ، ولكن لا ينفي صدوره عن الخلق ، ويظهر الكلام في الباقي
ممّا مرّ.
وأمّا الأدلّة
العقليّة التي أقاموها على ذلك : فأقواها أنّ العلماء أجمعوا على القطع بتخطئة
المخالف للإجماع ، فدلّ على أنّه حجّة ، فإنّ العادة تحكم بأنّ هذا العدد الكثير
من العلماء المحقّقين لا يجتمعون على القطع في شرعيّ بمجرّد تواطؤ
__________________
وظنّ ، بل لا يكون
قطعهم إلّا عن قاطع ، فوجب الحكم بوجود نصّ قاطع بلغهم في ذلك ، فيكون مقتضاه ،
وهو خطأ المخالف للإجماع حقّا ، وهو يقتضي حقيّة ما عليه الإجماع وهو المطلوب.
واجيب أوّلا :
بالنقض بإجماع الفلاسفة على قدم العالم ، وإجماع اليهود على أنّ لا نبيّ بعد موسى عليهالسلام وأمثال ذلك.
وردّ : بأنّ إجماع
الفلاسفة عن نظر عقليّ وتعارض الشبه ، واشتباه الصحيح والفاسد فيه كثير.
وأمّا في
الشرعيّات فالفرق بين القاطع والظنّي بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتميّز ،
وإجماع اليهود والنصارى عن الاتّباع لآحاد الأوائل لعدم تحقيقهم ، والعادة لا
تحيله بخلاف ما ذكرنا.
وبالجملة ، فإنّما
يرد نقضا إذا وجد فيه ما ذكرنا من القيود ، وانتفاؤه ظاهر.
وقد يعترض : بأنّه
لا حاجة في هذا الاستدلال إلى توسيط الإجماع على تخطئة المخالف ، لأنّه لو صحّ
لاستلزم وجود قاطع في كلّ حكم وقع الإجماع عليه.
ويجاب : بأنّ كلّ
المجمعين ليسوا بقاطعين على خطأ مخالفيهم ، بل ربّما يكون كلّ حكم
منهم ظنّيا مستندا إلى أمارة ، لكن يحصل لنا القطع بالحكم من اتّفاق الكلّ ، ولذلك
قال في الاستدلال : أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف ، ولم
__________________
يقل على تخطئة
المخالف .
واعترض عليه أيضا
: بأنّه مستلزم للدور ، لأنّه إثبات للإجماع بالإجماع.
وردّ : بأنّ وجود الإجماع الخاصّ ، دليل على حجّية الإجماع
لاستلزامه ثبوت أمر قطعي يدلّ عليها كما مرّ. فحجيّة الإجماع موقوفة على وجود هذا
الإجماع الخاصّ ، ووجود هذا الإجماع الخاصّ لا يتوقّف على حجّية مطلق
الإجماع ، وكذا دلالته على وجود قاطع يدلّ عليها لا تتوقّف على حجّية مطلق
الإجماع. هكذا قرّروا الدّليل والاعتراضات.
أقول : إن كان
مراد المخالفين من حجّية الإجماع هو حجّيته من حيث هو إجماع كما هو لازم طريقتهم ،
بل هو صريح أكثرهم ، فلا يتمّ الاستدلال ، لأنّ مرادهم إن كان من العلماء المجمعين
على القطع بتخطئة مخالف الإجماع ، علماء الإمامية أيضا ، ومن الإجماع الذي يخطأ
مخالفه ما اشتمل على الإمام المعصوم ، فلا ريب في حقيّة ما ذكروه ، ولكن ذلك لا
يثبت حجّية الإجماع من حيث هو ، فلا ينفعهم ، وإلّا فإن لم يعلم دخول المعصوم أو
علم خروجه عن الإجماع الذي يخطأ مخالفه ، فلا نسلّم إجماع جميع العلماء حتّى
الإمامية على القطع بتخطئة المخالف ، وبدونه نمنع حكم العادة على ما ذكروه.
__________________
ولو فرض موافقة
الإمامية على القطع بتخطئة المخالف ، وإن لم يعلم دخول المعصوم فيهم ، فحينئذ نقول : إن كان موافقة الإمامية في القطع في
التخطئة بحيث يحصل القطع معه بكونه قول المعصوم ، فيكون حجّية الإجماع الذي يحكم
بخطإ مخالفه للإجماع المصطلح عندنا ، لا لأجل اقتضاء العادة بذلك ، وبدونه فيمنع أيضا حكم العادة على ما ذكروه.
ويظهر ثمرة هذا
الكلام في أمثال زماننا حيث لا يمكن تحقّق الإجماع على مصطلح
العامّة بحيث يحكم بكون الإمام المنتظر فيهم ، وكذلك في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله مع فرض عدم معصوم آخر حال انعقاد الإجماع ، لأنّه لا
يستحيل ذلك عندنا أيضا ، مع أنّ القدر المسلّم في قضاء العادة ـ على
ما ذكروه ـ هو ما لو كان عدد المجمعين عدد التواتر حتّى يمكن القطع بتخطئة مخالفه.
والجواب : بأنّ
الدّليل ناهض في إجماع المسلمين من غير تقييد واشتراط ، فإنّهم خطّئوا المخالف
مطلقا لا يخفى ما فيه. فإنّ دعوى كونهم قاطعين بتخطئة المخالف لا بدّ أن تكون
قطعيّة ، ومجرّد ظهور اللّفظ في إرادة العموم لا يكفي في ذلك ، مع أنّ المجمعين
على القطع بالتخطئة لو ادّعوا ذلك في خصوص مثل هذا
__________________
الإجماع الذي لم
يبلغ عدده حدّ التواتر ، لم يسمع منهم ، ودعوى حكم العادة حينئذ على ما ذكر ، غير
مسموعة.
نعم ، يمكن أن
يقال : يتمّ الاستدلال بناء على كون المطلوب إثبات الحجّية في الجملة لا مطلقا.
وكيف كان ، فما
ذكروه من الأدلّة من العقل والنقل لو تمّت ، فلا يضرّنا ، بل ينفعنا ولو لم يتمّ ،
فأيضا لا يخلو من تأييد لإثبات حجّية الإجماع ، وأكثر أدلّتهم مطابقة لمقتضى مذهب
الشيعة في حجّية الإجماع ، يظهر لمن تأمّل فيها بعين التدقيق والإنصاف.
ولنذكر هنا شيئا
من الشّكوك والشبهات التي أوردوها في المقامات الثلاثة المتقدّمة ، ولنجب عنها :
فمنها : ما ذكروه
في نفي إمكانه ، وهو أنّ الاتّفاق إمّا عن قطعيّ أو ظنّي ، وكلاهما باطل.
أمّا القطعيّ
فلأنّ العادة تقتضي نقله إلينا ، فلو كان لنقل وليس فليس ، ولو نقل لأغنى عن
الإجماع .
وأمّا الظنّي
فلقضاء العادة بامتناع الاتّفاق عليه لاختلاف القرائح وتباينهم ، وذلك كاتّفاقهم
على أكل الزّبيب الأسود في زمان واحد ، فإنّه معلوم الانتفاء ، وما ذلك إلّا
لاختلاف الدّواعي.
وردّ : بمنع حكم
العادة بنقل القطعيّ إذا أغنى عنه ما هو أقوى عنه ، وهو
__________________
الإجماع ، ونقله
أيضا لا يغني عن الإجماع ، لظهور كمال الفائدة في تعدّد الأدلّة سيّما مع كون
القطعيّات متفاوتة في مراتب القطع.
و : بمنع استحالة
الاتّفاق على الظنّي ، سيّما إذا كان جليّا واضح الدّلالة معلوم الحجّية ، مع أنّا
سنثبت إمكان العلم به ، فكيف يمكن التشكيك في إمكانه.
ومنها : ما ذكروه
في نفي إمكان العلم به ، وهو أنّه لا يمكن العلم بفتوى جميع علماء الإسلام
لانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها ، بل لا يمكن معرفة أعيانهم فضلا عن أقوالهم ،
مع احتمال خفاء بعضهم ، لئلّا يلزمه الموافقة أو المخالفة أو انقطاعه لطول غيبته ،
فلا يعلم له خبر ، أو أسره في المطمورة أو كذبه في قوله ، رأيي كذا ، مع أنّ العبرة بالرّأي دون
اللّفظ مع احتمال رجوع بعضهم عمّا قال بعد الاستماع عن الآخر.
وفيه : أنّ هذه
شبهة في مقابل البديهة لحصول العلم بمذهب جميع علماء الإسلام ، بأنّ رأيهم وجوب
الصلوات الخمس وصوم رمضان ونحوهما ، ومذهب علماء الشيعة بأنّ رأيهم حلّيّة المتعة ومسح الرّجلين
، فإذا أمكن حصول العلم برأيهم على سبيل البديهة فكيف لا يمكن حصول اليقين بالنظر
، مع أنّ مرتبة البداهة متأخّرة عن النّظر.
ولا ريب أنّ أعيان
العلماء غير معروفة بأجمعهم في ذلك ، فضلا عن حصول الاستماع منهم. وليس الدّاعي
إلى ذلك أمر عقليّ حتّى يقال : إنّ العلم باجتماعهم
__________________
إنّما هو بحكم
العقل ، بأنّ العقلاء يجتمعون على ذلك لأجل عقلهم ، مع أنّ العقليات أيضا ممّا وقع
فيه الاختلاف كثيرا ، كما لا يخفى على المطّلع بها.
ومنها : ما ذكروه في نفي حجّيته.
فمنها : ما ذكره
العامّة مثل قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فظهر منها ، أنّ المرجع والمعوّل إنّما هو الكتاب والسنّة.
وفيه : أنّ كون
الكتاب تبيانا لا ينافي تبيانيّة غيره ، وأنّ المجمع عليه لا تنازع فيه.
ومثل قوله تعالى :
(وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ.)
وفيه : منع واضح .
وأمّا ما ذكره بعض
القاصرين من الخاصّة فهو أمور :
الأوّل : أنّه
يجوز الخطأ على كلّ واحد من المجمعين ، فكذا المجموع.
وهو بعينه الشّبهة
التي أوردوها على نفي التواتر.
وجوابه : الفرق
بين المجموع وبين كلّ واحد كما لا يخفى ، فإنّ للإجماع تأثيرا واضحا في حصول
الاعتماد ، بل هو في الإجماع أظهر منه في الخبر.
الثاني : أنّ
المعصوم لو كان معلوما بشخصه ، فلا حاجة إلى الإجماع ، وإلّا فلا
__________________
يمكن الاطّلاع على
رأيه وقوله.
وجوابه : أنّه قد
لا يمكن الوصول إلى خدمته ، ولكن يمكن العلم الإجمالي بقوله ورأيه ، وقد بيّنّا
إمكان العلم الإجمالي كما يحصل في الضّروريات ، وأنّه يمكن العلم برأيه في زمان
حضوره بسبب أقوال تبعته ، كما يمكن صيرورة الحكم بديهيّا في زمانه مع عدم الاستماع
من لفظه ، ومن ذلك يظهر عدم الفرق بين زمان الظّهور وزمان الغيبة.
الثالث : وقوع
الخلاف في حجّية الإجماع ، وفي أدلّة حجّيته كما مرّ.
وفيه : مع أنّ
علماء الشيعة المعتنين بأقوالهم لم يختلفوا في حجّيته ، وكذلك المحقّقون من
العامّة ، ونسبة بعض العامّة القول بعدم الحجّية إلى الشيعة افتراء أو اشتباه لفهم مقصد
الشيعة ، فإنّهم يمنعون حجّية الإجماع من حيث إنّه إجماع ، لا مطلقا ، وأنّ وجود
الخلاف لا ينفي الحجّية ، وكذلك اختلاف مدرك الحجّية ، كما يلاحظ في حجّية خبر
الواحد وغيره ، بل الخلاف موجود في اصول الدّين واصول المذهب ، بل في جميع
العقليّات إلّا ما شذّ وندر.
الرابع : وجود
المخالف في أكثر الإجماعات.
وفيه : أنّه إن
أراد أنّ وجود المخالف يمنع عن تحقّق الإجماع ، فهو إنّما يصحّ على طريقة العامّة ، مع أنّ بعضهم أيضا لا يعتبر خلاف النّادر ، وأمّا على
طريقتنا ، فلا يضرّ وجود المخالف.
أمّا على المختار
من الطرق الثلاثة ، فلما عرفت أنّ المناط هو حصول
__________________
الجزم بموافقة
المعصوم ولو باتّفاق جماعة من الأصحاب.
وأمّا على المشهور
بين القدماء ، فلأنّه لا يضرّ خروج معلوم النسب ، بل ولا المجهول النسب أيضا إذا
علم أنّه ليس بمعصوم ، بل يكفي فيه العلم الإجمالي بأنّ غير الخارجين الّذين علم
أنّهم ليسوا بإمام كلّهم متّفقون على كذا ، بحيث حصل العلم بأنّ الإمام فيهم ، مع
أنّه يحتمل تقدّم المخالف على تحقّق الإجماع أو تأخّره مع عدم اطّلاعه على الإجماع
، إذ لم نقل بأنّ كلّ إجماع تحقّق لا بدّ أن يحصل العلم به لكلّ أحد ، سواء كان في
حال الحضور أو الغيبة ، بل الأحكام الثابتة من الشّارع على أقسام : منها بديهيّ ، ومنها يقينيّ نظريّ للخواصّ ، ومنها ظنّيّ للخواصّ مجهول
للعوامّ.
والنّظريّ
اليقينيّ ربّما يكون يقينيا لبعض الخواصّ ظنّيا لبعض آخر ، ومرجوحا عند بعض آخر ، إذ أسباب الحدس والتتبّع مختلفة ،
فيتفاوت الحال بالنسبة إلى الناظر والمتتبّعين. ألا ترى أنّ الشيعة مجمعون على
حرمة العمل بالقياس ، مع أنّ ابن الجنيد ؛ قال بجوازه . ولا ريب أنّ الحرمة حينئذ إجماعيّ. وكذا
__________________
عدم وجوب قراءة
دعاء الهلال ، مع أنّ ابن أبي عقيل قال بوجوبه . وأنّ شهر رمضان يعتبر فيه الرّؤية لا العدد ، مع أنّ
الصّدوق رحمهالله خالف فيه ، وهكذا. ولا يتفاوت الحال بين زمان الحضور
والغيبة ، فتحقّق الإجماع في كلّ واحد من الأزمنة بالنسبة إلى الأشخاص إمّا يقينيّ
أو ظنّي ، واليقينيات مختلفة في مراتب القطع ، والظنّيات في مراتب الرجحان ، فلا
يلزم اطّراد الحكم ولا القول بأنّ الإجماع المتحقّق في نفس الأمر لا بدّ أن
يحصل به العلم لكلّ أحد ، ولا بدّ أن لا يوجد له مخالف.
نعم ، لا نضايق من
القول باحتمال السّهو والغفلة والاشتباه في الحدس ، وذلك لا يوجب بطلان أصل
الإجماع ، كما لا ينافي الغفلة والاشتباه والخطأ لبطلان [بطلان] أصول الدّين
والعقليّات مع حصول الخطأ فيها من كثير.
وإن أراد أنّ وجود
المخالف يمنع عن الاحتجاج بالإجماعات المنقولة ويورث العلم بخطإ المدّعين.
فإن أراد أنّا
نجزم مع وجود المخالف بخطئهم في الدعوى فهو في غاية الظهور من البطلان ، لما عرفت
من إمكان حصول العلم مع وجود المخالف.
__________________
وإن أراد أنّ ذلك
يورث ضعف الاعتماد عليه.
ففيه : مع أنّه
ممنوع لما ذكرنا أنّ ذلك لا يوجب بطلان مطلق الإجماع ولا مطلق الإجماع المنقول. ألا ترى أنّ خروج بعض أخبار
الآحاد عن الحجّية لا يوجب عدم حجّية مطلق الأخبار. وكذلك تخصيص العامّ ، وكثرة
تخصيصه لا يوجب خروج العامّ عن أصالة العموم ، وكذلك المخالفات الواقعة في سائر
المسائل وسائر العلوم لا يوجب عدم الاعتماد بأصل العلم.
تنبيهات
الأوّل :
إذا قال بعض المجتهدين بقول وشاع بين
الباقين من غير إنكار له وهو المسمّى بالإجماع السّكوتي ، فهو ليس بحجّة ، خلافا لبعض أهل الخلاف ، لأنّ الإجماع هو الاتّفاق ، ولم يعلم لاحتمال التصويب
على مذهب المخالفين ،
__________________
واحتمال التوقّف
والتمهّل للنظر أو لتجديد النظر ليكون ذا بصيرة في الردّ على مذهبنا في غير
المعصوم ، ولاحتمال خوف الفتنة بالإنكار أو غير ذلك من الاحتمالات ، فلا يكشف السّكوت عن الرضا.
نعم ، إذا تكرّر
ذلك في وقائع متعدّدة كثيرة في الأمور العامّة البلوى بلا نكير ، بحيث يحكم العادة
بالرضا ، فهو حجّة.
الثاني :
قال في «المعالم» : الحقّ امتناع
العلم بكون المسألة إجماعيّة في زماننا هذا وما ضاهاه إلّا من جهة النقل عن الأزمنة السّابقة على ذلك ، إذ
لا سبيل إلى العلم بقول الإمام عليهالسلام كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في
جملتهم ، ويكون قوله مستورا بين أقوالهم ، وهذا ممّا يقطع بانتفائه. فكلّ إجماع
يدّعى في كلام الأصحاب ممّا يقرب من عصر الشيخ رحمهالله إلى زماننا هذا ، وليس مستندا إلى نقل متواتر وآحاد حيث تعتبر
، أو مع القرائن المفيدة للعلم ، فلا بدّ أن يراد به ما ذكره الشهيد رحمهالله من الشّهرة. إلى أن قال : وإلى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف حيث قال : الإنصاف أنّه لا طريق إلى معرفة حصول
__________________
الإجماع إلّا في
زمن الصّحابة ، حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل.
أقول : لا ريب في
إمكان حصول العلم في هذا الزّمان أيضا كما أشرنا على الطريقة التي اخترناها ، فإنّه يمكن حصول العلم من تتبّع كلمات العلماء
ومؤلّفاتهم بإجماع جميع الشيعة من زمان حضور الإمام عليهالسلام إلى زماننا ، هذا بسبب اجتماعهم وعدم ظهور مخالف ، مع قضاء
العادة بأنّ المتصدّين لنقل الأقوال ، حتّى الأقوال الشاذّة والنادرة حتّى من
الواقفية وسائر المخالفين ، لو كان قول في المسألة من علمائنا لنقلوه ، وإذا مضاف
إلى ذلك دعوى جماعة منهم الإجماع أيضا ، وكذا سائر القرائن ممّا
أشرنا سابقا ، فيمكن حصول العلم بكونه إجماعيّا ، بمعنى كون اجتماعهم كاشفا عن
موافقتهم لرئيسهم.
وما قيل : إنّهم
لعلّهم اعتمدوا على دليل عقليّ ، لو وصلنا لظهر عدم دلالته على المطلوب ، ولم
يعتمدوا على ما صدر من المعصوم عليهالسلام من قول أو فعل أو تقرير.
ففيه : ما لا يخفى
، إذ هذا الكلام لا يجري في الأمور التي لا مجال للعقل فيها ، وجلّ الفقه ، بل
كلّها من هذا الباب ، وما يمكن استفادته من العقل فإن كان من جهة إدراك حسن ذاتيّ
أو قبح ذاتيّ ، فلا إشكال في كونه متّبعا سواء انعقد عليه الإجماع أو لا ، وإن كان
من باب استنباط أو تخريج أو تفريع ، فالعقل يحكم
__________________
والعادة تقتضي
بعدم اتّفاق آراء هذا الجمّ الغفير ، المتخالفة المذاق المتباينة المشرب على دليل
غير واضح المأخذ كما أشرنا سابقا ، سيّما وأصحابنا لا يعملون بأمثال ذلك ، وإن كان مأخوذا من النصّ ، فهو المطلوب.
نعم ، يظهر
الإشكال فيما لو استدلّوا بعلّة غير معلومة المأخذ ، كما استدلّوا في لزوم تقديم
الشّاهد والتزكية على اليمين إذا كان المثبت للحقّ هو الشّاهد مع اليمين ، وأنّه
لو قدّم اليمين وقعت ملغاة ، بأنّ وظيفة المدّعي هو البيّنة ، واليمين متمّم.
ويمكن أن يقال :
بأنّ هذا أيضا في الحقيقة اتّفاق آخر على أمر شرعيّ ، وهو كون اليمين متلبّسة بوصف
المتمميّة ، ولازمه التأخير ، فاتّفاقهم على هذا التعليل أيضا اتّفاق على أمر
شرعيّ. فإذا حصل من التتبّع اجتماع السّلف والخلف على أصل الحكم ، فلا يضرّ هذا
التعليل ولا يقدح في إمكان دعوى الإجماع ، إنّ هذه العلّة غير واضحة المأخذ ولا
دليل على حجّيتها ، لإمكان دعوى الإجماع على أصل العلّة أيضا.
__________________
نعم ، على ما
اختاره من الطريقة لا يتمّ دعوى حصول العلم بالإجماع في أمثال هذا
الزّمان ، بل يشكل ثبوته في زمان الحضور أيضا ، إلّا بأن يؤوّل كلامهم بما ذكرنا
سابقا ، من أن يراد من حصول العلم بأقوال العلماء حتّى الإمام ، العلم الإجماليّ
لا العلم بهم تفصيلا ، حتّى ينتفي فائدة الإجماع. ويكفي في ذلك عدم معرفة آرائهم
تفصيلا ، وإن فرض معرفتهم بأشخاصهم مفصّلا لو شاهدهم ولقيهم.
وبالجملة ، إنكار
إمكان العلم بالإجماع في هذا الزّمان مكابرة ، وإن كان انعقاده في الأزمنة
السّابقة.
وكيف يمكن قبول
إمكان حصول العلم بالبديهي بسبب التّسامع والتظافر للعوامّ والخواصّ ، ولا يمكن
دعوى العلم النظري للعلماء المتفحّصين المدقّقين.
وبالجملة ، فيمكن
حصول العلم الضروري بكون الشيء مجمعا عليه ، والعلم النظري ودونهما الظنّ المتاخم
للعلم ، إذ كثيرا ما يحصل لنا الظنّ المتاخم للعلم بكون المسألة إجماعيّة بسبب
القرائن والتتبّع العامّ ، ويختلف الحال في اليقين ومراتبه والظنّ ومراتبه بحسب
المتتبّعين ، ولعلّ الإجماع الظنّيّ أيضا يكون حجّة كما سنشير إليه فيما بعد ، لو
لم يكن هناك دليل أقوى منه.
وإلى ما بيّنا
يرجع كلام العلّامة رحمهالله في جواب ما نقله في «المعالم» عن بعض علماء أهل الخلاف ،
حيث قال : إنّا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزما قطعيّا ، ونعلم اتّفاق الأمّة
عليها علما وجدانيا حصل بالتسامع وتضافر الأخبار عليه.
__________________
وحاصله ، أنّه لا
ينحصر العلم بحصول الإجماع في زمن الصحابة ، بل يحصل في أمثال زماننا أيضا
بالتسامع والتضافر ، أنّ المسألة إجماعيّة من دون أن ينقل يدا بيد أصل الإجماع من الزّمان
السّابق إلى الزّمان اللّاحق ، وغفل صاحب «المعالم» عن مراده.
واعترض عليه :
بأنّ ذلك لا ينافي ما ذكره بعض العامّة ، حيث أراد حصول العلم الابتدائي ، وما
ذكره العلّامة ادّعاء حصول العلم بالنقل ، وإنّما دعاه إلى هذا الاعتراض إفراد
الضمير المجرور في كلمة عليه ، وقرينة المقام ومقابلة الجواب للسّؤال شاهد على أنّ مرجع
الضمير كلّ واحد من فتاوى العلماء المجمعين كما لا يخفى.
وممّا ذكرنا ، ظهر
ما في قوله : فكلّ إجماع يدّعى في كلام الأصحاب ... الخ. لأنّهم عدول
ثقات ، وادّعوا العلم بحصول الإجماع ، فلا يجوز تكذيبهم. ويكون لنا بمنزلة خبر صحيح أخبر به العدل عن إمامه بلا واسطة ،
مع أنّ ما ذكره موافقا للشهيد من إرادة الشّهرة ، لا يليق بمن هو دونهم بمراتب ، فكيف
وهم أمناء الأمّة ونوّاب الأئمّة عليهمالسلام ومتكفّلو أيتامهم ، الورعون المتّقون ، الحجج على الخلق
بعد أئمّتهم عليهمالسلام. وهذا منهم تدليس وخداع حيث يصطلحون في كتبهم
__________________
الأصولية أنّ
الإجماع هو الاجتماع الكاشف عن رأي إمامهم ويطلقونه في كتبهم الفقهية على محض
الشّهرة ، حاشاهم عن ذلك.
نعم ، تطرّق
الغفلة والاشتباه عليهم لا نمنعه ، واحتمال الخطأ لا يوجب الحكم ببطلانه في نفس
الأمر ، أو عدم جواز الاعتماد على الظنّ الحاصل به لو لم يزاحمه ظنّ أقوى ، أو لم
يظهر من الخارج قرائن تدلّ على غفلته في دعوى الإجماع واشتباهه في حدسه.
وكذلك لا وجه
لسائر التوجيهات التي ذكرها الشهيد رحمهالله في «الذّكرى» أيضا من أنّهم أرادوا بالإجماع عدم ظهور المخالف عندهم حين
دعوى الإجماع ، إلّا أن يرجع إلى الإجماع على مصطلح الشيخ وقد عرفت ضعفه ، وأنّه
خلاف مصطلح جمهورهم ، بل الشيخ أيضا يريد من الإجماع الذي يدّعيه مطلق مصطلح
المشهور كما سنشير إليه ، أو أرادوا الإجماع على روايته بمعنى تدوينه في كتبهم
منسوبا إلى الأئمّة عليهمالسلام أو بتأويل الخلاف على وجه يمكن مجامعته لدعوى الإجماع وإن
بعد ، كجعل الحكم من باب التخيير.
وكلّ ذلك بعيد لا
حاجة إليه.
فنقول : تلك
الإجماعات إجماعات نقلها العلماء ، ومن يقول بحجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد
يقول بحجّيتها ، إلّا أن يعارضها أقوى منها من الأدلّة ، وظهور الخلل في بعضها لا
يوجب خروج أصل الإجماع المنقول عن الحجّية أو كون جميع تلك الإجماعات باطلة في
نفسها.
__________________
الثالث :
قد عرفت أنّ الإجماع هو اتّفاق الكلّ أو
اتّفاق جماعة يكشف عن رأي الإمام ، فأمّا لو أفتى جماعة من الأصحاب ولم يعلم لهم مخالف ولم يحصل القطع بقول
الإمام عليهالسلام ، فهو ليس بإجماع جزما.
قال الشهيد في «الذّكرى»
: وهل هو حجّة مع عدم متمسّك ظاهر من حجّة عقلية أو نقلية. الظاهر ذلك ، لأنّ عدالتهم تمنع عن الاقتحام على الإفتاء بغير علم.
ولا يلزم من عدم الظّفر بالدّليل عدم الدّليل ، خصوصا وقد تطرّق الدّروس إلى كثير من الأحاديث ، لمعارضة الدّول المتخالفة ومباينة
الفرق المنافية وعدم تطرّق الباقين إلى الردّ له ، مع أنّ الظاهر وقوفهم عليه ، وأنّهم لا يقرّون ما يعلمون
خلافه.
فإن قلت : لعلّ
سكوتهم لعدم الظّفر بمستند من الجانبين .
قلت : فيبقى قول
اولئك سليما من المعارض. ولا فرق بين كثرة القائل بذلك أو قلّته ، مع عدم معارض ،
وقد كان الأصحاب يتمسّكون بما يجدونه في «شرائع» الشيخ أبي الحسن بن بابويه رحمهالله عند إعواز النّصوص لحسن ظنّهم به ، وإنّ فتواه كروايته .
__________________
وبالجملة ، تنزّل
فتاويهم بمنزلة روايتهم ، هذا مع ندور هذا الفرض ، إذ الغالب وجود دليل دالّ على
ذلك القول عند التأمّل.
وقال في «المعالم»
بعد ما نقل كلامه إلى قوله : عدم الدّليل : وهذا الكلام عندي ضعيف ، لأنّ
العدالة إنّما يؤمن معها تعمّد الإفتاء بغير ما يظنّ بالاجتهاد دليلا ، وليس الخطأ
بمأمون على الظّنون.
أقول : وسيجيء منه
رحمهالله في مباحث الأخبار استدلاله بما يدلّ على كفاية الظنّ مطلقا
إذا انسدّ باب العلم ، ولا ريب أنّ ما ذكر من الظّنون القويّة ، فلو لم يعارضه ما
هو أقوى منه فلا يبعد الاعتماد عليه ، سيّما إذا كان القائل به في غاية الكثرة ،
إلّا أنّ الفرض بعيد كما ذكره في «الذّكرى».
الرابع :
قال في «الذّكرى»
: ألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه ، فإن أراد في
__________________
الإجماع ، فهو ممنوع.
وإن أراد في
الحجّية ، فهو قريب لمثل ما قلناه ، يعني قوله : لأنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام
على الإفتاء بغير علم ، إلى آخر ما ذكره ، ولقوّة الظنّ في جانب الشّهرة سواء كان اشتهارا في الرّواية بأن يكثر
تدوينها ، أو الفتوى.
أقول : وقوله :
لقوّة الظنّ ، يحتمل أن يكون المراد به بيان كون الظنّ الحاصل من جانب المشهور
أقوى من الظنّ الحاصل من مخالفهم. ولمّا كان المفروض في المسألة السّابقة عدم
العلم بالمخالف ، فلم يتعرّض لذلك . وما ذكره رحمهالله قويّ ، ويؤيّده قوله عليهالسلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك واترك الشاذّ النّادر ، فإنّ
المجمع عليه لا ريب فيه» . فإنّ ملاحظة الحكم والتعليل في الرّواية يقتضي إرادة
الشهرة من المجمع عليه أو الأعمّ منه ، والعلّة المنصوصة حجّة ، والتخصيص
بالرّواية خروج عن القول بحجّية العلّة المنصوصة كما لا يخفى ، وعلى القول بكون
الأصل العمل بالظنّ بعد انسداد باب العلم إلّا ما أخرجه الدّليل ، يتقوّى حجّية
الشّهرة ، وإذا كان معها دليل ضعيف ، فأولى بالقبول سيّما إذا كان الدّليل الذي في
طرف المخالف أقوى ، بل كلّما كان الأدلّة والأخبار في جانب المخالف أكثر
__________________
وأصحّ ، يتقوّى
جانب الشّهرة ، ويضعف الطرق الأخر.
ثمّ إنّ صاحب «المعالم»
رحمهالله اعترض على الشهيد رحمهالله بمثل ما سبق ، وبأنّ الشهرة التي تحصل معها قوّة الظنّ هي الحاصلة قبل
زمن الشيخ رحمهالله ، لا الواقعة بعده. قال : وأكثر ما يوجد مشتهرا في كلام
الأصحاب حدث بعد زمن الشيخ كما نبّه عليه والدي في كتاب «الرّعاية» الذي ألّفه في
دراية الحديث مبيّنا لوجهه ، وهو أنّ أكثر الفقهاء الّذين نشئوا بعد زمن الشيخ
كانوا يتّبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به ، فلمّا جاء
المتأخّرون ، وجدوا أحكاما مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه ، فحسبوها شهرة بين
العلماء ، وما دروا أنّ مرجعها إلى الشيخ ، وأنّ الشّهرة إنّما حصلت بمتابعته. ثمّ
نقل عن والده تأييدا لما ذكره من كلام بعض أصحابنا.
وأنت خبير بأنّ
هذا الكلام في غاية البعد ، فإنّ توجيه كلام والده لا يمكن بمثل ما نقلناه عن
الشهيد رحمهالله فيما لو يعرف خلاف للجماعة ولم يظهر مستندهم في الحكم ،
فإنّ ذلك في المقام الذي لم يظهر مستند الحكم ، ولا بأس حينئذ
__________________
بمتابعتهم لحصول
الظنّ بأنّ قولهم كان عن دليل شرعي.
وأمّا القول :
بأنّ كلّ مشهور بعد زمان الشيخ هو من هذا القبيل ، فلا ريب أنّه اعتساف. وإن أبقينا كلامه على ظاهره من
تجويز تقليد الجماعة للشيخ مع تصريحهم بحرمة التقليد على المجتهد ، فهو جرأة
عظيمة.
ولا ريب أنّ ذلك
في معنى تفسيقهم ، مع أنّا نرى مخالفتهم له كثيرا ، بل أكثر من مخالفة القدماء
بعضهم لبعض ، واعتراضهم عليه في غاية الكثرة ، على أنّا نقول : إنّ كتب الشيخ
كثيرة ، وفتاويه في كتبه متخالفة ، بل له في كتاب واحد فتاوى متخالفة ، فهذه
الشّهرة حصلت في أيّ موضع وتبعيّة أيّ فتوى من فتاويه ، وتقليد أيّ كتاب من كتبه؟ إذ قلّما
يوجد قول بين الأصحاب إلّا وللشيخ موافقة فيه ، فربّما وافق الشّهرة فتواه في «النهاية»
وخالفت فتواه في «المبسوط» ، وربّما كان بالعكس ، وربّما كانت موافقة «للخلاف»
وهكذا.
وبالجملة ، هذا
الكلام من الغرابة بحيث لا يحتاج إلى البيان ، فإن كان اعتمادهم على كتاب «النهاية»
فسائر كتبه متأخّرة عنه ، فهي أولى بالإذعان ، مع أنّ المشهور ربّما كان موافقا «للخلاف»
و «المبسوط» وإن كان بالعكس ، فربّما كانت موافقة «للنهاية» وهكذا.
نعم ، يمكن ترجيح
الشهرة الحاصلة بين القدماء من جهة قربهم بزمان المعصوم عليهالسلام ، وإن كان لترجيح الشهرة بين المتأخّرين أيضا وجه ؛ لكونهم
أدقّ
__________________
نظرا وأكثر تأمّلا
، «فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» . فعلى المجتهد التحرّي والتأمّل وملاحظة رجحان الظنّ بحسب
المقامات ، وقد وجدنا المقامات مختلفة في غاية الاختلاف ، وترجّح عندنا شهرة
القدماء تارة وشهرة المتأخّرين أخرى ، وتارة وجدنا مشهورا لا أصل له ، وأخرى
وجدناها مستقلّة في الحكم ومحلّا للاعتماد.
ثمّ إنّ هاهنا
كلاما وهو : أنّ المشهور عدم حجّية الشهرة ، فالقول بحجّية الشهرة مستلزم للقول
بعدم حجّيتها ، وما يستلزم وجوده عدمه ، فهو باطل.
ويمكن دفعه : بأنّ
الذي يقوله القائل هو حجّية الشهرة في مسائل الفروع ، والذي يلزم عدم حجّيته هو
الشهرة في المسألة الأصولية ، وهي عدم حجّية الشهرة ، ولا منافاة.
ووجه الفرق ابتناء
المسألة الأصولية على دليل عقليّ يمكن القدح فيه ، وهو عدم الائتمان على الخطأ في
الظّنون ، وهو لا يقاوم ما دلّ على حجّية الشهرة ، وهو ما دلّ على حجّية الظنّ بعد
انسداد باب العلم إلّا ما أخرجه الدليل كما سيجيء ، والعلّة المنصوصة وغيرهما ، فما يحصل من الظنّ بصدق الجماعة في الحكم الفرعي ، أقوى
من الظنّ الحاصل من قول الجماعة بعدم جواز العمل بالمشهور.
__________________
الخامس :
قد يطلقون الإجماع على غير مصطلح
الأصوليّ ، كإجماع أهل العربية والأصوليين واللّغويين ، ومثل قولهم : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ،
وأجمع الشيعة على روايات فلان.
وهذا ليس كاشفا عن
قول الحجّة ، ولكنّه ممّا يعتمد عليه في مقام الترجيحات ومراتب الظّنون.
قانون
لا يجوز خرق الإجماع المركّب عندنا
، سواء كان مركّبا
عن قولين أو أكثر . فلا يجوز القول الزّائد على ما أجمعوا عليه ، وذلك قد
يحصل بملاحظة توارد حكمين أو أحكام متعدّدة من الأحكام الشرعية على موضوع واحد
بحسب أقوال الأمّة ، ثمّ حكم آخر من آخر.
وقد يحصل بملاحظة
توارد حكمين من فريقين منها على موضوع كلّي ، ثمّ حكم موافق لأحدهما في بعض أفراد
ذلك الموضوع ، وحكم آخر موافق لآخر في البعض الآخر من تلك الأفراد من فريق آخر.
مثال الأوّل : أنّ
القول من الشيعة منحصر في استحباب الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة مثلا والقول
بحرمته ، فالقول بوجوبه خرق للإجماع المركّب.
ومثل : أنّ
المشتري إذا وطئ الجارية الباكرة ثمّ وجد بها عيبا ، فقيل : لا يجوز الردّ. وقيل :
يجوز الردّ مع الأرش ـ وهو تفاوت ما بين الثيبوبة والبكارة ـ فالقول بردّها مجّانا
خرق للإجماع المركّب.
__________________
ومثال الثاني :
أنّ الشيعة مختلفة في وجوب الغسل بوطء الدّبر ، فمن قال : بوجوبه في المرأة ، قال
به في الغلام ، ومن لم يقل به ، لم يقل به في شيء منهما ، فالقول بوجوبه في بعض
أفراد الدّبر وهو دبر المرأة دون الرّجل ، خرق للإجماع المركّب.
وكذلك مسألة الفسخ
بالعيوب ، فإنّ الأمّة مختلفة فيه ، فقيل : يفسخ بها كلّها ، وقيل : لا يفسخ بها كلّها. فالقول بالفسخ في بعض العيوب
دون بعض خرق للإجماع المركّب ، وقد يسمّى هذا قولا بالفصل.
ويقال : لا يجوز
القول بالفصل ، ويتمسّكون بعدم القول بالفصل في تعميم الحكم في كلّ واحد من
القولين بالنسبة إلى أفراد الموضوع. وقد يقولون : إذا لم يفصل الأمّة بين مسألتين
في حكم ، فلا يجوز القول بالفصل بينهما ، وذلك إذا لم يكن هناك كلّيّ جامع لموضوع
المسألتين مثل الدّبر والعيب.
ومن أمثلته أنّ
بعضهم قال : بأنّ المسلم لا يقتل بالذمّي ، ولا يصحّ بيع الغائب ، وبعضهم يقتل
المسلم بالذمّي ويصحّ بيع الغائب ، فالقول بالقتل وعدم الصحّة قول بالفصل بين
المسألتين ، فقد يجتمع خرق الإجماع المركّب مع القول بالفصل ، فقد يتفارقان من الجانبين
، فمادّة الاجتماع هو مسألة وطء الدّبر والفسخ بالعيوب وأمثالهما ، ومادّة
الافتراق من جانب خرق الإجماع المركّب هو مسألة الجهر في ظهر الجمعة ، وردّ
الجارية الموطوءة وأمثالهما.
__________________
وأمّا من جانب
القول بالفصل ، فأمثلته كثيرة يتّضح في ضمن ما يتلى عليك فاستمع لتحقيق هذا المقام
على ما يستفاد من كلماتهم ، وهو أنّه إذا لم يفصل الأمّة بين مسألتين أو أكثر
، فإن نصّوا على عدم الفصل بينهما بأن يعلم من حالهم الاتّفاق على ذلك ، وإن لم
نجد التصريح به من كلامهم ، فلا يجوز الفصل ، سواء حكموا بعدمه في كلّ الأحكام ، أو بعض الأحكام ، وله صور ثلاث :
الاولى : أن يحكم
الأمّة بحكم واحد فيهما ، مثل أنّهم يستدلّون لوجوب الاجتناب عن البول بقوله عليهالسلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» . فالحكم من الأمّة للبول واحد ، وهو النجاسة ، وهم متّفقون
على عدم الفصل بين وجوب غسل الثوب عنه والبدن وتنزيه المأكول والمشروب والمساجد
والمصاحف وغير ذلك ، وكذلك سائر أحكام النجاسات ، فاتّفقوا على عدم الفصل بين
أحكام المذكورات بالنسبة إلى ملاقاة البول ، مع كون الحكم واحدا أيضا.
فهذا في الحقيقة
إجماعان بسيطان وليس لنا هنا إجماع مركّب.
وموارد هذه
الصّورة في الأحكام الشرعية فوق حدّ الإحصاء.
الثانية : أن يحكم
بعض الأمّة في المسألتين بحكم ، وبعض آخر بحكم آخر ، مثل أنّ بعضهم يقول بنجاسة
الماء القليل الذي في الإناء بولوغ الكلب ، وكذلك بنجاسة القليل الذي دخل فيه
الدّجاجة التي وطأت العذرة ، وكذلك غيرهما من أفراد الماء القليل وأقسام النجاسة.
__________________
والآخر يقول بعدم
تنجّسه بشيء منها في شيء من أفرادها . وهذا أيضا ممّا اجتمع فيه الإجماع المركّب مع الاتّفاق
على عدم الفصل.
فهناك إجماع بسيط
ومركّب ، وذلك أيضا في الأحكام الشرعية في غاية الكثرة.
الثالثة : أن لا
يعلم حكم منهم فيهما بخصوصه ، وإن اتّفقوا على الحكم بعدم الفرق بينهما ، وذلك في
الأحكام الاجتهادية التي لم يتعيّن فيها حكم ، بحيث ينعقد عليه إجماع بسيط أو
مركّب ، سواء كان في أوّل الاطّلاع على المسألة وابتداء البحث في خصوص حكمها ، أو
بعد الاطّلاع والفحص وقبل استقرار الأمر على حكم أو حكمين ، مثل : إنّا إذا لم نعلم حكم تذكية المسوخ ، فإذا ثبت جواز تذكية الذئب من جملتها من أجل ما دلّ على
جواز تذكية السّباع ، فنحكم بجواز التذكية في الباقي إن ثبت الاتّفاق على عدم
القول بالفصل. وهكذا في الحشرات بعد إثبات حكم المسوخ بما ذكرنا ، نقول بجواز
التذكية في الفأرة لكونها منها ، وقد أثبتنا جوازها فيها وهكذا ، وأمثال ذلك أيضا كثيرة ، وإن لم ينصّوا على عدم
الفصل ولم يعلم اتّفاقهم على ذلك ، ولكن لم يكن فيهم من فرّق بينهما أيضا ، فإن علم
اتّحاد طريق الحكم فيهما ، فهو في معنى اتّفاقهم على عدم الفرق.
__________________
مثاله : من ورّث
العمّة ورّث الخالة ، ومن منع إحداهما منع الاخرى لاتّحادهما في الطريقة ، وهي
قوله تعالى : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.) ومثله : زوج وأبوان ، وامرأة وأبوان ، فمن قال : للأمّ ثلث
أصل التركة كابن عبّاس ، قال به في الموضعين. ومن قال : لها ثلث الباقي بعد فرضهما
، قال في الموضعين ، إلّا ابن سيرين فقال في الزّوج بمثل قول ابن عبّاس دون
الزّوجة ، وعكس آخر .
وإن لم يعلم
اتّحاد الطريقة فقال العلّامة رحمهالله : الحقّ جواز الفرق لمن بعدهم ، عملا بالأصل السّالم عن
معارضة مخالفة حكم مجمع عليه ، أو مثله ، ولأنّ منع المخالفة يستلزم أنّ من قلّد مجتهدا في حكم أن
يوافقه في كلّ حكم ذهب إليه ، وهو ظاهر البطلان.
وقال في «المعالم»
رحمهالله : والذي يأتي على مذهبنا عدم الجواز ، لأنّ الإمام مع إحدى
الطائفتين قطعا.
أقول : وهذا لا
يتمّ إلّا مع العلم بعدم خروج قول الإمام عن القولين ، والمفروض عدم ثبوت الإجماع.
ويمكن التكلّف في إرجاع كلامه إلى صورة الإجماع ، ولكنّه بعيد ، فلنرجع إلى ما
كنّا فيه ، ونقول : لا يجوز خرق الإجماع المركّب ، يعني ما علم أنّ قول الإمام عليهالسلام ليس بخارج عن أحد الأقوال ، فإنّ الخروج عن الكلّ واختيار
غيره ، يوجب ترك قول الإمام يقينا.
__________________
فهذا هو الوجه
فيما اخترناه من المنع مطلقا .
وأمّا العامّة
فأكثرهم قد وافقنا على ذلك ، وذهب الأقلّون منهم إلى الجواز. وفصّل ابن الحاجب ومن
تبعه بأنّ الثالث إن كان يرفع شيئا متّفقا عليه كمسألة ردّ البكر مجّانا ، فلا
يجوز ، وإلّا فيجوز ، كمسألة فسخ النكاح ببعض العيوب ، لأنّه وافق في كلّ مسألة
مذهبا فلم يخالف إجماعا.
ويوضّحه مثل قتل
الذمّي وبيع الغائب المتقدّم ، فهما مسألتان خالف في إحداهما بعضا ، وفي الاخرى
بعضا ، وإنّما الممنوع مخالفة الكلّ فيما اتّفقوا عليه.
واستدلّ المانعون
منهم مطلقا : بأنّهم اتّفقوا على عدم التفصيل في مسألة العيوب ومسألتي الأمّ ،
فالمفصّل خالف الإجماع.
وردّ : بمنع
اتّفاقهم على عدم التفصيل ، فإنّ عدم القول بالفصل ليس قولا بعدم الفصل ، وإنّما
الممتنع مخالفة ما قالوا بنفيه ، لا ما لم يقولوا بثبوته ويوضّحه مسألة قتل الذمّي
وبيع الغائب.
واعترض : بأنّ من قال بالإيجاب الكلّي في مثل مسألة العيوب ، فيستلزم قوله بطلان السّلب الجزئي الذي هو نقيضه قطعا ، بل بطلان التفرقة. ومن قال بالسّلب
الكلّي يستلزم قوله بطلان الإيجاب الجزئي الذي هو نقيضه قطعا ، بل بطلان التفرقة.
__________________
والقول بالتفصيل
مركّب من الجزئيتين ، فالمركّب منهما باطل على القولين باعتبار أحد جزءيه قطعا .
ولا يخفى ما فيه ،
فإنّ دلالة القول بالقضيّة الكلّية وإن سلّمت من باب الالتزام البيّن بالمعنى
الأعمّ ، كما في دلالة الأمر بالشيء على النّهي عن الترك كما مرّ ، لكن بطلان أحد
جزءي المركّب إنّما يستلزم بطلان المركّب من حيث إنّه مركّب ، لا من حيث سائر
الأجزاء أيضا ، مع أنّه لا تركيب هنا حقيقيّا ، بل الجزئيتان كلّ منهما مسألة
برأسها اتّفق للقائل القول بهما مطلقا لا بشرط اجتماع كلّ منهما مع الآخر ، ولا
بشرط التركيب ، فلا دلالة في أحد من القولين إلّا على بطلان أحد من الجزئيتين ، فلم يثبت اجتماع
الفريقين على بطلان كلّ واحد منهما.
وأمّا ما قيل من أنّ اتّحاد الحكم في كلّ الأفراد لازم لقول كلّ الأمّة
، وإن لم يقولوا به صريحا ، والتفصيل ينافيه.
ففيه : أنّ
اللّازم لقولهم إنّما هو نفس اتّحاد الحكم في كلّ الأفراد بلزوم تبعيّ ، لا القول
باتّحاد الحكم في كلّ الأفراد ، وما يفيد في تحقّق الإجماع هو الثاني لا الأوّل.
__________________
سلّمنا لزوم
الثاني أيضا ، لكن لا يلزم من القول باتّحاد الكلّي في الحكم ، القول ببطلان القول
بالحكم الموافق في البعض ، إذ ليس في القول باتّحاد الكلّ في الحكم لزوم انضمام كلّ
منهما بالآخر ، لأنّ الحكم إنّما يتعلّق بكلّ واحد من الأفراد لا بالأفراد بشرط
تركيبها واجتماعها.
سلّمنا جميع ذلك ،
لكنّ المسلّم من العقاب على مخالفة الإجماع والقدر الثابت الحجّية من الإجماع ، هو
ما علم اتّفاقهم على شيء بدلالتهم المقصودة لا التبعيّات ، وأدلّتهم التي أقيمت
على ذلك إنّما تنصرف إلى ذلك.
فاستدلّ المانعون
أيضا : بأنّ فيه تخطئة كلّ فريق في مسألة.
وفيه : تخطئة كلّ
الأمّة ، والأدلّة السّمعية تنفيها.
وردّ : بأنّ
المنفيّ تخطئة كلّ الأمّة فيما اتّفقوا عليه ، وأمّا فيما لم يتّفقوا عليه بأن
يخطّئ كلّ بعض في مسألة غير ما خطّأ فيه الآخر ، فلا ينفى.
أقول : وقد مرّ
منّا ما يخدش في هذا الكلام وما يصلحه في خصوص الاستدلال بقوله صلىاللهعليهوآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» ، بجعل اللّام للجنس أو للعهد ، ولكن الأظهر على مذهبهم في هذا المقام هو قول المانع كما بيّنا .
__________________
احتجّ المجوّزون : بأنّ اختلافهم دليل على أنّ المسألة اجتهاديّة ، يعمل
فيها بما اقتضاه الاجتهاد وأدّى إليه ، فيجوز إحداث الثالث.
واجيب : بأنّ الاختلاف
إنّما يدلّ على جواز الاجتهاد إذا لم يكن هناك إجماع مانع ، فإذا اختلفوا على
قولين ولم يستقرّ خلافهم ، كانت المسألة اجتهاديّة ، وهنا استقرّ خلافهم على قولين
، فلا يجوز الثالث.
واحتجّوا أيضا : بمسألة الأمّ ، ومخالفة ابن سيرين وتابعيّ آخر وعدم إنكارهم
عليهما.
واجيب : بأنّه كان
قسما من الجائز ممّا لم يكن فيه مخالفة الإجماع كالفسخ بالعيوب.
ويشكل هذا الجواب
: بأنّ الظاهر أنّه ممّا اتّحد فيه طريق المسألتين إلّا أن يمنع عن ذلك ، وأمّا
عندنا ؛ فلا إشكال ، لعدم الثبوت .
ثمّ إنّ الكلام في
تحقّق الإجماع المركّب وحجّيته وأقسامه من القطعيّ والظنّيّ وغير ذلك ، نظير ما
مرّ في الإجماع البسيط ، فلا حاجة إلى الإعادة.
__________________
قانون
إذا اختلفت
الأمّة على قولين ولم يدلّ على
أحدهما دليل قطعيّ أو ظنّيّ يرجّحه على الآخر ، فمقتضى طريقة العامّة الرّجوع إلى
مقتضى الأصل إن لم يكن موجبا لخرق المتّفق عليه ، وإلّا فالتخيير.
وأمّا على مذهب
الإماميّة ، ففيه : قولان نقلهما الشيخ في «العدّة» .
أحدهما : إسقاط
القولين والتمسّك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم.
وثانيهما :
التخيير ، وإنّه يجري مجرى خبرين تعارضا ولم يكن مرجّح لأحدهما.
وردّ الشيخ القول
الأوّل : بأنّه يوجب طرح قول الإمام عليهالسلام ، واختار الثاني.
واعترضه المحقّق رحمهالله : بأنّ في التخيير أيضا إبطالا لقول الإمام عليهالسلام ، لأنّ كلّا من الطائفتين يوجب العمل بقوله ويمنع من العمل
بالقول الآخر ، فلو خيّرنا لاستبحنا ما حظره المعصوم عليهالسلام.
__________________
ولا يخفى ضعف هذا
الاعتراض ، فإنّ التخيير طريق في العمل للجاهل بالحكم ، لا قول في المسألة يوجب
طرح كلّ واحد من القولين كالتخيير في العمل بالخبرين المتعارضين.
وحكم كلّ واحد
منهما ببطلان القول الآخر ، وعدم صحّته في نفس الأمر ، لا ينافي تجويزه العمل به
للجاهل ، كما أنّه لا يجوز للمجتهد منع مقلّد مجتهد آخر عن تقليده وإن علم خطأه في
المسألة ، بل له أن يجوّز تقليده إذا كان أهلا للاجتهاد ، ويرخّصه فيه ، فإنّ
الترخيص في التقليد غير إمضاء نفس الحكم وإظهار الرضا به بالخصوص.
ثمّ إن فرض اتّفاق
الفريقين بعد الاختلاف على أحد القولين ، فقال الشيخ بجواز ذلك على القول بالرّجوع
بمقتضى العقل ، وإسقاط القولين لانعقاد الإجماع حينئذ على ما أجمعوا عليه.
وأمّا على مختاره
من التخيير ، فمنعه ، لأنّه يوجب بطلان القول الآخر ، والمفروض كان التخيير بينهما
، وهو ينافي البطلان ، وهو ضعيف ، لأنّ التخيير إنّما كان في العمل لجهالة قول
الإمام بخصوصه ، وبعد انعقاد الإجماع يتعيّن قول الامام ويظهر بطلان القول الآخر.
ولا منافاة بين
عدم ظهور البطلان وجواز العمل به في وقت ، وظهور البطلان وعدم جواز العمل به في
وقت آخر. ولا يجوز تعاكس الفريقين عند أصحابنا ،
__________________
للزوم رجوع
المعصوم عليهالسلام عن قوله ، اللهمّ إلّا إذا كان القولان منه ، وكان أحدهما
من باب التقيّة ، وهو خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلّا مع الثبوت.
وربّما يستدلّ على
عدم جواز التعاكس بقوله صلىاللهعليهوآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» ، بناء على كون اللّام للجنس
للزوم الاجتماع على جنس الخطأ حينئذ ، فإنّ من عدل عن الخطأ فيلزمه الخطأ أوّلا ،
ويلزم الفرقة الاخرى بعدولها عن الصّواب إلى ذلك الخطأ ، فصدر عن كلّ منهما جنس
الخطأ وإن كان في وقتين.
وربّما يستدلّ
بذلك على هذا ، على لزوم عدم خلوّ الزّمان عن المعصوم عليهالسلام ، لأنّ إتيان كلّ واحد من الأمّة خطأ وإن كان خطأ كلّ منهم
غير خطأ الآخر ، يوجب اجتماعهم على جنس الخطأ ، فلا بدّ من معصوم حتّى يصدق عدم
الاجتماع على الخطأ ، ويؤيّده قوله عليهالسلام : «لا يزال طائفة من امّتي على الحقّ» . بناء على كون اسم كلمة «لا يزال» كلمة «طائفة» ، لا ضمير
الشأن.
__________________
قانون :
الأقرب حجّية الإجماع المنقول بخبر
الواحد
لأنّه خبر ، وخبر
الواحد حجّة.
أمّا الأوّل :
فلأنّ قول العدل : أجمع العلماء على كذا ، يدلّ بالالتزام على نقل قول المعصوم عليهالسلام أو فعله أو تقريره الكاشفات عن اعتقاده على طريقة المشهور
أو على رأيه واعتقاده على الطريقة التي اخترنا ، فكأنّه أخبر عن اعتقاد المعصوم عليهالسلام إخبارا ناشئا عن علم ، فهو نبأ وخبر.
وأمّا الثاني :
فلما يجيء في مبحث الأخبار ، والفرق بين الطريقين ، أنّ الأوّل يفيد كونه حديثا مصطلحا ، والثاني أنّه خبر
لغة وعرفا.
وممّا ذكرنا ظهر وجه الاستدلال بآية النبأ .
__________________
وأمّا آية النفر ، فهي أيضا دالّة عليه كالخبر ، لأنّ تحصيل المعرفة به تفقّه ، والإخبار به إنذار.
وأمّا الإجماع
الذي نقلوه في حجّية خبر الواحد ، فلمّا كان بالنسبة إلينا منقولا فالتمسّك به
دوريّ ، ومن ظهر له القطع بذلك الإجماع بحيث يشمل هذا النبأ الذي هو مدلول
التزاميّ للإجماع المنقول الذي نحن نتكلّم فيه فهو ، وإلّا فلا وجه للاستدلال به.
وأمّا انسداد باب
العلم وانحصار الطريق في الظنّ ، فدلالته عليه واضحة ، لأنّ مقتضاه حجّية الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، لا ظنّ
خاصّ.
واستدلّوا أيضا
على حجّيته بالأولوية بالنسبة إلى خبر الواحد ، فإنّ الظنّيّ المنقول بخبر
الواحد إذا كان حجّة فالقطعيّ المنقول به أولى ، وسيجيء الكلام في توضيح هذا الاستدلال.
وبقوله عليهالسلام : «نحن نحكم بالظاهر» .
واجيب عن الأوّل : بأنّ الاطّلاع على الإجماع أمر بعيد ، فالظنّ بوقوعه
__________________
أضعف من الظنّ
بوقوع الخبر.
وربّما يمنع من
جهته ذلك التساوي أيضا.
وعن الأوّل
والثانيّ : بأنّهما لا يفيدان إلّا الظنّ ، وهو غير معتبر في
الأصول.
أقول : واحتمال
الخطأ في مدّعي الإجماع معارض بكثرة الحوادث اللّاحقة بالأخبار من حيث المتن
والسّند والدلالة والتعارض والاختلاف والاضطراب والسّهو والغفلة والنقل بالمعنى ،
مع الاشتباه في فهم المقصود ، والإجماع المنقول خال عن أكثر ما ذكر ، فيبقى مزيّة
العلم مرجّحا.
ودعوى لزوم القطع
في الأصول خالية عن شاهد ودليل ، وقد مرّ الإشارة إليه وسيجيء.
والحقّ ، أنّ
المقامات تختلف في الترجيح ، فربّ خبر يقدّم على إجماع منقول ، بل وإجماعين
منقولين ، وربّ إجماع منقول ، يقدّم على خبر صحيح ، بل وأخبار صحيحة ، فلا بدّ من
ملاحظة الخصوصيّات والمرجّحات الخارجية.
واحتجّ المنكر
للحجّية : بأنّ مقتضى الآيات والأخبار حرمة العمل بالظنّ في الفتوى
والعمل ، خرج خبر الواحد بالإجماع والآيتين وبقي الإجماع المنقول تحت الأصل. يعني إنّا لا نعلم أنّ
الإجماع انعقد على حجّية هذا الخبر
__________________
الذي هو المدلول
الالتزامي لنقل الإجماع ، أو لا نعلم الإجماع عليه لأنّه ليس بحديث.
أقول : أمّا
الآيتان ، فقد ذكرنا أنّهما تشملانه أيضا.
وأمّا الإجماع على
ما إدّعاه الشيخ وغيره ـ كما سيجيء ـ فهو لا يدلّ على حجّية الخبر مطلقا أيضا ، بل
غاية ما ثبت هو أخبار الآحاد مع وصف تداولها بين أصحاب الأئمّة عليهمالسلام ، ولا ريب أنّ حال زمانهم وزماننا متفاوت غاية التفاوت
بسبب قلّة الوسائط ، وإمكان حصول القرائن على صدوره عن الإمام عليهالسلام ، وقلّة الاختلال من جهة النقل والتقطيع وسائر التصرّفات . وكذلك بسبب تغاير الاصطلاحات وتفاوت القرائن في فهم
اللّفظ ، وبسبب علاج التعارض المتفاوت حاله بالنسبة إلى الزّمانين ، فالاعتماد على
الإجماع المدّعى الذي لم يعلم دعواه ولا وقوعه إلّا على العمل بأخبار الآحاد في
زمان الأئمّة عليهمالسلام لا يثبت الإجماع على جواز العمل به في زماننا أيضا ، فما
تقول في غالب أخبار الآحاد في زماننا نقوله في الإجماع المنقول.
فإن أردت إثبات
جواز العمل على الظّنون التي يحتاج إليها في العمل بأخبار
__________________
الآحاد في زماننا
من جهة المتن والسّند والدلالة وغيرها من الوجوه كلّها بالدليل من إجماع أو غيره ، فلا ريب أنّه تمحّل فاسد ، بل العمل بظواهر الآيات أيضا كذلك ، إذ لا ريب أنّ القدر الثابت من كون الآية حجّة ، هو
متفاهم المشافهين ، وتحصيل متفاهمهم يحتاج إلى استعمال ظنون شتّى لا يمكن دعوى
الإجماع على حجّية كلّ واحد واحد منها.
وبالجملة ، من
تتبّع الفقه وبلغ إلى حقيقته ، يعلم أنّ دعوى أنّه لا يجوز العمل فيه إلّا بظنّ
ثبت حجّيته من إجماع أو دليل قاطع آخر ؛ مجازفة ، فإذا لم يبق فرق بين الظّنون ،
فلا ريب أنّ الإجماع المنقول ممّا يفيد الظنّ ، بل ربّما يفيد لنا ظنّا أقوى من
ظاهر الخبر ، بل الآية أيضا ، فالآيات والأخبار الدالّة على عدم جواز العمل بالظنّ
مخصوصة بصورة إمكان تحصيل العلم أو بأصول الدّين فقط ، كما هو مورد أكثر الآيات.
نعم ، مثل القياس
الذي أجمع الشيعة على بطلانه وصار حرمته من باب ضروريّات المذهب ، فهو إنّما خرج
بالدّليل ، فاقتضى الدّليل جواز العمل بالظنّ إلّا ما أخرجه الدّليل ، ولذلك ذهبنا
سابقا إلى تقوية حجّية الشّهرة والإجماعات الظنّية ، ومن ذلك قاعدة الغلبة وإلحاق
الظنّ بالأعمّ الأغلب ، وإن كان ذلك ممّا يستفاد من الأخبار أيضا كما أشرنا في
أوائل الكتاب .
__________________
ثمّ إنّ الإشكال
في الإجماعات المنقولة بسبب وجود المخالف وتعارضها حتّى من مدّعيها كما مرّ
الإشارة إليه ، قد ظهر لك الجواب عنه.
ونقول هنا أيضا : إنّ وجود المخالف غير مضرّ في تحقّق الإجماع كما عرفت ،
ووقوع الخطأ من المدّعي أيضا في استنباطه أيضا لا ننكره ، وكم من هذا القبيل في
أخبار الآحاد ، مع أنّا نقول بحجّيتها ، فكذلك التعارض والاختلاف. فكما يمكن حصول
الاختلاف في الأخبار من جهة الغفلة والنسيان وسوء الفهم والنقل بالمعنى وغير ذلك ،
وهو لا يقدح في حجّية ماهية خبر الواحد ، فكذلك ما نحن فيه ، فإنّ مبنى الاطّلاع
على الإجماع غالبا ، على الحدس وهو ممّا يجري فيه الخطأ ، والخطأ في القطعيّات في غاية الكثرة ، ألا ترى أنّ بعض أرباب المعقول يدّعي أنّ
الجسم بعد الانفصال هو هو بالبديهة ، والآخر يدّعي أنّه غيره بالبديهة ، فتعارض
الإجماعات ، ومخالفتها مبتن على ذلك.
ألا ترى أنّ
السيّد رحمهالله ادّعى الإجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، وادّعى الشيخ
الإجماع على خلافه .
__________________
ووجهه : أنّ السيّد
رحمهالله كان ناظرا إلى طريقة المتكلّمين والناظرين في أصول العقائد
، وانضمّ إلى ذلك في نظره قرائن اخرى وغفل عن طريقة أهل الحديث ، وحكم بكون عدم
جواز العمل به مطلقا إجماعيّا.
والشيخ إلى طريقة
الفقهاء وأهل الحديث ، وغفل عن طريقة المتكلّمين ، وحكم بكون جواز العمل به
إجماعيا. وكما أنّ سبب حصول الاختلاف من جانب الشارع ممكن في الأخبار ، كما صرّحوا
عليهمالسلام به ، فكذلك فيما نحن فيه. فربّما انعقد إجماع على مستند
صدر قطعا من الإمام عليهالسلام ، وانعقد إجماع آخر على مستند آخر بعينه صدر عنه عليهالسلام قطعا ، وهذا ليس بمستبعد ولا مستنكر ، ووجه صدور المتخالفة
من الأحكام عنهم عليهمالسلام ظاهر من جهة التقيّة وغيرها ، فلا مانع من رجوع المدّعي عن دعواه أيضا من جهة هذه
الامور.
نعم ، هاهنا كلام
آخر ، وهو انّا بيّنا أنّ الطريقة التي اختارها الشيخ وغيره من الأصحاب الّذين
يعتمدون في إثبات موافقة قول الإمام عليهالسلام للمجمعين ، بأنّه لو كان اجتماعهم على الباطل ؛ لوجب على
الإمام عليهالسلام ردعهم عن الضلالة بنفسه أو بغيره ، ضعيفة ، ولا يمكن الاعتماد عليها ، فكيف يجوز الاعتماد على
إجماعاتهم المنقولة مع أنّكم لا تفرّقون بينها ، فإذا كان الإجماع المنقول من
مثلهم أو
__________________
محتملا لكون
مدّعيه قائلا بكونه إجماعا من هذه الجهة ، فكيف يمكن الاعتماد عليه ، وهو نظير
الإشكال الذي ذكره المنكرون لعلم الرّجال النافون للاحتياج إليه ، بأنّه كيف يعرف
عدالة الرّاوي مع وجود الاختلاف في معنى العدالة ، وعدم المعرفة بحال المزكّى
واعتقاده في العدالة ، وسنجيب عنه في محلّه إن شاء الله تعالى.
وأقول في دفع
الإشكال هنا : إنّ هذا الإشكال لا يرد على ما إدّعاه غير الشيخ ممّن لم يقل بهذه
المقالة ، وهم الأكثرون ، بل لم نقف على مصرّح بهذه الطريقة من بعد الشيخ ، وقد ردّ هذه الطريقة وزيّفها سيّدنا
المرتضى رحمهالله .
وأمّا الشيخ ومن
يوافقه في هذه المقالة ، فهم لا يقولون بانحصار العلم بثبوت الإجماع في هذه
الطريقة المدخولة ، بل يصرّحون بأنّ الاتّفاق كاشف عن قول الإمام عليهالسلام ، وبأنّ العلم يحصل من جهة الاتّفاق كغيرهم من الأصحاب ، والإجماع
الواقعي عنده أيضا هو ما ذكره القوم فلاحظ كتاب «العدّة» مصرّحا فيها بذلك في
مواضع.
نعم ذكر ذلك أيضا
في طريق معرفة قول الإمام عليهالسلام حيث لم يوجد للإماميّة مخالف في الحكم ولم يعلم اتّفاقهم ،
ولم يعرف بموافقة إمامهم لهم أيضا. فقال : من
__________________
عدم ظهور المخالفة
يعلم أنّه عليهالسلام راض بما اتّفقوا عليه ، وإلّا لوجب عليه الظهور بنفسه أو
بغيره وردعهم عن ذلك .
وكذلك لو كان
بينهم قولان لم يظهر لهم مخالف ولم يعلم موافقته عليهالسلام لهم ، فقال : إنّ
هذا يدلّ على أنّ الإمام عليهالسلام خيّرهم بين القولين وإلّا لظهر وأقامهم على الحقّ . فمتى ذكر الشيخ أنّ الأصحاب أجمعوا على كذا أو اتّفقوا
على كذا ، وهو أغلب ما يذكرونه في هذا المقام ، فهو دالّ على
الإجماع المصطلح عند جمهورهم ولا غبار عليه ، فإنّ اتّفاق الكلّ واجتماعهم ، كاشف
عن رأي رئيسهم بلا إشكال. مع أنّ الشيخ إذا اختلف اصطلاحه في الإجماع ، فالظاهر من
حاله أنّه إذا أراد حكاية الإجماع على غير الطريقة المستمرّة بين العلماء ، أن
يبيّن ذلك ، فإنّ نقلهم الإجماع في كتبهم لأجل أن يعتمد عليه من بعدهم ، فإخفاء
ذلك مع تعدّد اصطلاحه ، تدليس منه . فالظاهر منه حيث يطلق الإجماع إرادة المعنى المعهود كما
ذكروا ، نظير ذلك في الجواب عن الشّبهة في التعديل ، فإنّ ظاهر حال المزكّي أنّه
يذكر في كتابه ليكون معتمدا لكلّ من سيجيء بعده ، فإنّه إذا قال : فلان عدل ، لا
بدّ أن يريد منه العدالة التي تكون كافية عند الكلّ ، مع أنّ الغالب الشّائع في
__________________
الإجماعات هو ما
كان على طبق مصطلح المشهور ، فالمطلق في كلامهم ينصرف إلى الأفراد الغالبة ، مع
أنّ حصول مقام لم يعرف في الإمامية مخالف في الحكم ولم يبق احتمال ظاهر لوجود
المخالف ، قلّما ينفكّ عن حصول العلم بموافقة الإمام من جهة اتّفاقهم ، ولا يحتاج
إلى إثبات الموافقة من جهة الدّليل الذي ذكره الشيخ.
ومع هذا كلّه ،
فلا يخفى أنّ ما ذكره الشيخ أيضا لو لم يصر إجماعا ، فلا ريب أنّه يفيد ظنّا قويّا
قد يمكن الاعتماد عليه ، فليجعل الإجماعات المنقولة على قسمين ، وذلك لا يوجب نفي
حجّية الإجماع المنقول رأسا.
وهاهنا إشكال آخر
أيضا ، وهو أنّ بعضهم يعتمد على الإجماع الظنّي ، بمعنى أنّه يدّعي الإجماع بمظنّة
حصوله ، وآخرون لا يعتمدون إلّا على القطعي ، فكيف يجوز الاعتماد على مطلق
الإجماعات المنقولة مع عدم العلم بأنّها من قبيل الأوّل أو الثاني.
وفيه أيضا : أنّا
لو سلّمنا أنّهم يعتبرون ذلك ، فلا يخفى أنّهم يتكلّمون على ما هو مصطلحهم ،
ومصطلحهم في كتبهم الاصولية والفقهية هو القسم الثاني ، فيحمل إطلاقها عليه ، وكلّ
ما كان من قبيل الأوّل ، فيصرّحون بما يدلّ على ظنّيته ، مثل أنّهم يقولون :
الظاهر أنّه إجماعيّ أو لعلّه إجماعيّ ، وأمثال ذلك.
وأمّا قولهم :
أجمع العلماء على كذا ، واتّفقوا ، أو أنّه كذلك عند علمائنا ، ونحو ذلك ، فلا ريب
أنّها صريحة في دعوى العلم ، والعلم بمثل هذه الألفاظ وإرادة الظنّ بالاجتماع
تدليس ينافي عدالتهم حاشاهم من ذلك ، مع أنّه لا يبعد القول بحجّية الإجماع
المظنون كالإجماع المنقول نظير الشّهرة بالنسبة إلى الإجماع على ما
وجّهه الشهيد رحمهالله كما مرّ . ولكن لا بدّ من البيان لتفاوت المذاهب في الاحتجاج وتفاوت
المذكورات في القوّة والضعف.
ثمّ إنّ الإجماع
المنقول ، مثل الخبر المنقول يجري فيه أقسامه وأحكامه من الردّ والقبول والتعادل
والترجيح ، فينقسم بالمنقول بخبر الواحد والمتواتر والصحيح والضعيف والمسند
والمرسل وغيرها. وكذلك اعتبار المرجّحات من علوّ الإسناد وكثرة الواسطة والأفقهيّة
والأعدليّة وغير ذلك من المرجّحات ، والصحّة والضعف ، يحصل بسبب عدالة الناقل
وعدمها ، والإسناد والإرسال يحصل باتّصال السّند إلى الناقل وعدمه ، وحذف بعض
السّلسلة وعدمه مثل أنّ الشيخ سمع عن شيخه المفيد أنّ المسألة اجماعية ، فقال هو
أجمع الأصحاب من دون رواية عن شيخه فهذا موقوف ، أو روى ابن إدريس عن المفيد
بواسطة الشيخ بحذف الواسطة.
وأمّا كونه بخبر
الواحد أو متواترا ، فقد أورد المحقّق البهائي رحمهالله سؤالا فيه على القوم بأنّهم مطبقون على اشتراط الحسّ في التواتر ، وأنّه لا
يثبت بالتواتر إلّا ما كان محسوسا ، والإجماع هو تطابق آراء رؤساء الدّين على حكم
، والذي ينقل بالتواتر هو قولهم ، وقولهم بشيء لا يستلزم إذعانهم به في نفس الأمر
، وإن قال كلّ منهم : أنا مذعن بذلك لاحتمال التقيّة أو الكذب من بعضهم.
نعم ، يفيد الظنّ
بذلك لأصالة عدمهما ، وسيّما الثاني لمصادمته للعدالة.
فظهر بذلك ، أنّ
تقسيم الأصوليين الإجماع إلى قطعيّ ثابت بالتواتر ، وظنّيّ
__________________
ثابت بغيره ، بعيد
عن السّداد ، وكذا قول بعض المتكلّمين أنّ القطع بحدوث العالم حاصل من الإجماع
المتواتر على حدوثه.
أقول : وفرض تواتر
الإجماع وإن كان قلّما ينفكّ عن الضّروري وفرضه بدونه نادر ، سيّما مع كثرة
الوسائط ، ولكن يمكن أن يقال في جواب الإشكال.
أمّا أوّلا :
فيمنع انحصار التواتر في المحسوسات ، بل يمكن به إثبات غيره أيضا ، فيمكن حصول العلم بمسألة علمية باجتماع كثير من
العقلاء الأزكياء ، سيّما مع عدم قيام دليل على بطلان قولهم ، كما استدلّ بعضهم
على إثبات الصّانع ووحدته باتّفاق الأنبياء والأوصياء والعلماء قاطبة على ذلك ، فإنّ العقل يستحيل اجتماع أمثال ذلك على الخطأ.
فكذلك فيما نحن
فيه ، إذا نقل جماعة كثيرة يؤمن تواطؤهم على الخطأ ، أقوال المجمعين ، مع دعواهم
بمعرفتهم من حالهم ، إذعانهم بما قالوا ، وانّهم صادقون في ذلك ، فيمكن حصول العلم بصدقهم في نقل
القول ، وإصابتهم في إدراك مطابقة قولهم لرأيهم سيّما مع ملاحظة تطابقهم في ذلك واعتراف كلّ منهم بأنّي مذعن بما قلت. فثبت ممّا ذكرنا
أنّه يمكن حصول القطع بالإجماع بنقل هذه الجماعة الكثيرة.
والحاصل ، أنّ ذلك
نظير ما يعلم به اتّفاق كلّ العلماء إجمالا في أصل انعقاد الإجماع ، فإنّه كما
يمكن حصول العلم باتّفاق الكلّ بسبب العلم برأي أكثرهم وعامّتهم وإن كان ذلك بسبب
انضمام القرائن ، فيمكن حصول العلم بتحقّق
__________________
الإجماع بدعوى
جماعة كثيرة تحقّق الإجماع ، وإن كان بسبب انضمام بعض القرائن ، فمراد القوم
بالإجماع الثابت بالتواتر هو ذلك ، مع أنّه يكفي ثبوت أقوالهم بالتواتر ، فنفهم
نحن تحقّق الإجماع بسبب اجتماع أقوالهم ، فالتواتر إنّما هو في ملزوم الإجماع لا
في نفسه ، كما سنذكره في المتواتر بالمعنى.
وقال بعض الأفاضل في مقام الجواب : إنّه يمكن تحقّق التواتر على طريقة العامّة الّذين
يقولون بحجّية الإجماع من حيث إنّه إجماع واتّفاق ، بأن يقال : إنّ الرؤساء إذا
اتّفقوا على قول ، مثل أنّ الماء الكثير لا ينجس بالملاقاة ، لا بدّ أن يكون كذلك
في الواقع ، وليس علينا أن نبحث عن مطابقته لآرائهم ، لأنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» ، كما يدلّ على عدم اجتماعهم على الرأي الخطأ ، يدلّ على
عدم اجتماعهم على القول الخطأ أيضا ، فلو اجتمعت على هذا القول الكاذب ، لزم كذبه صلىاللهعليهوآله وهو محال.
فهذا القول
المتّفق عليه إن ثبت بالتواتر فقطعيّ ، وإلّا فظنّيّ لظنّية طريقه لا
__________________
لظنّية نفسه ، فهو
كالمتن القطعيّ الثابت بالسّند الظنّي.
قال الحاجبي في مقام الاستدلال : دلالة الإجماع قطعيّة ، ودلالة الخبر
ظنّية ، وإذا وجب العمل مع نقل الخبر الظنّي ، فوجوبه مع نقل القطعيّ أولى ، وليس
غرضه أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد يفيد القطع حتّى يمنع هذا.
وهذا مثل أن يقول
أحد : إنّ العمل بالظاهر المحكيّ عن المعصوم عليهالسلام مثلا إذا كان واجبا ، فالنصّ المحكيّ أولى ، انتهى.
أقول : ولا يخفى ما فيه ، فإنّه لا معنى محصّل للإجماع على
القول الخطأ ، والاتّفاق على القول الصّواب ، إذا اريد منه محض اللّفظ ، إلّا
اتّفاقهم في كيفيّة
__________________
قراءة اللّفظ
وإعرابه ، وإلّا فالظاهر من الاجتماع على القول هو الاجتماع على مؤدّاه ومفهومه ،
ومع ذلك فأيّ فائدة له في المسائل الفقهية ، إلّا أن يقال : فائدته هو صيرورة المتن قطعيّا ، أو إن كان الدّلالة ظنّية كالخبر
المتواتر.
قوله : إن ثبت بالتواتر فقطعيّ.
يعني أنّ هذا
اللّفظ حينئذ موافق للواقع ونفس الأمر على ما حقّق المقام ، لا إنّه قطعيّ الدلالة
على مراد المجمعين ، وحينئذ فلا معنى لقوله : وإلّا فظنّيّ لظنّيّة طريقه لا لظنّيّة نفسه ، فإنّ مراده
بذلك بقرينة المقابلة لا بدّ أن يكون أنّه بدون التواتر لا يعلم كون اللّفظ موافقا
للواقع ونفس الأمر ، لكن ذلك بسبب ظنّيّة طريقه لا بسبب ظنّيّة نفسه ، لأنّ نفسه
قطعيّ موافق لنفس الأمر ، وهو كما ترى .
وإن أراد من نفي
ظنّيّة نفسه كونه قطعيّ الدّلالة.
ففيه : أنّ المفروض قطع النظر عن الدلالة وعن مراد القائل ،
والمفروض عدم القطع بمرادهم أيضا ، فهل هذا إلّا تناقض!
فإن قلت : لعلّ
مراده نظير أن ينقل أحد آية ويذكر أنّه من القرآن لمن يعلم قطعا بأنّ القرآن قطعيّ
وموافق لنفس الأمر ومحدود معيّن ، ولكن لا يعلم أنّ هذه الآية
__________________
هل هي من القرآن
أم لا ، فهذا نقل قطعيّ بالظنّيّ.
قلت : ليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، بل من قبيل ما روي في
الشواذّ زيادة بعض الكلمات أو الآيات ، فالكلام في ذلك أنّا لا نعلم أنّ هذه الآية
قرآن أم لا ، لا أنّها من القرآن أم لا ، لأنّ الإجماعيات ليست متعيّنة في الخارج
بشخصها لا يتجاوزها حتّى يشكّ في أنّ ذلك هل هو منها أم لا ، بل الشكّ في أنّ هذا
إجماعيّ أم لا ، فتأمّل حتّى تفهم الفرق ولا يختلط عليك الأمر.
قوله : فهو كالمتن القطعيّ الثابت .
لم أفهم معنى هذا
التشبيه ، فإن أراد من المتن القطعيّ ، القطعيّ الوقوع ، فلا معنى له مع كون
السّند ظنّيا ، وإن أراد قطعيّ الدّلالة فالمفروض عدمه .
قوله : قال الحاجبي ... الخ.
لا يخفى أنّ الخبر
الذي يسمعه الرّاوي عن المعصوم عليهالسلام بلا واسطة ليس بخبر واحد ولا ظنّي ، بل هو قطعيّ الصّدور.
نعم هذا الخبر لمن
يرويه عنه عليهالسلام إذا لم يحتفّ بقرينة توجب القطع ، ظنّيّ ، ودلالته أيضا
ظنّيّة.
ومراد ابن الحاجب
وغيره في هذا المقام جواز نقل هذا الخبر عن الرّاوي بطريق الآحاد ، فإذا جاز نقل
ما هو ظنّي أنّه من الشارع دلالة وسندا ، فنقل ما هو
__________________
قطعيّ أولى
بالجواز.
ومراده من نقل
القطعيّ هو نقل مدّعي الإجماع ، فإنّ من يدّعي الإجماع فهو يحكي لغيره ما هو
يقينيّ له أنّه من الشّارع ، بخلاف من يروي عن الرّاوي عن الشارع ، فإنّه يحكي ما
هو ظنّيّ له أنّه من الشّارع ، فإن اقتصرت على ظنّيّة الدّلالة فيجوز ذلك المقايسة
بالنسبة إلى أوّل صدور الخبر أيضا.
قوله : وليس غرضه ... الخ.
لا يتوهّم هذا
المعنى أحد من كلامه .
قوله : فالنصّ المحكيّ أولى.
قد عرفت أنّ هذا
التشبيه لا يصحّ على ما بني عليه المقام ، وإن كان موافقا لغرض الحاجبي ، كيف وليس
موافقا لغرضه كما عرفت.
__________________
المقصد الثاني
في الكتاب
قانون
الحقّ جواز العمل
بمحكمات الكتاب نصّا كان أو ظاهرا ، خلافا للأخباريين حيث قالوا بمنع الاستدلال
بكلّه على ما نسب إليهم [إليه] بعضهم ، وقال : إنّ مذهبهم أنّ كلّ القرآن متشابه بالنسبة إلينا
، ولا يجوز أخذ حكم منه إلّا من دلالة الأخبار على بيانه ، وهو الأظهر من مذهبهم ،
أو بالظّواهر فقط على ما
__________________
يظهر من آخر.
وفصّل بعض الأفاضل
فقال : إن أرادوا أنّه لا يجوز العمل بالظواهر التي ادّعيت إفادتها للظنّ
المحتملة لمثل التخصيص والتقييد والنسخ وغيرها ، لصيرورة أكثرها متشابها بالنسبة
إلينا فلا يفيد الظنّ ، وما أفاد الظنّ منه قد منعنا عن العمل به ، مع قبول أنّ في
القرآن محكما بالنسبة إلينا أيضا ، فلا كلام معهم.
وإن أرادوا أنّه
لا محكم فيه أصلا ، فهو باطل.
أقول : وهذا
التفصيل غفلة عن محلّ النزاع ، فإنّ هذا التشابه على الوجه الذي ذكره لا اختصاص له
بالكتاب ، بل هو يجري في الأخبار أيضا ، وقد مرّ بيانه في باب وجوب البحث عن
المخصّص في العامّ ، بل النزاع في المقام إنّما هو بالنسبة إلى خصوص الكتاب ،
وإنّما نشأ هذا النزاع من جهة بعض الأخبار الذي دلّ على أنّ علم القرآن مختصّ
بالمعصومين عليهمالسلام ، وأنّه لا يجوز تفسيره لغيرهم ، وذلك لا يختصّ بوقت دون وقت وبزمان دون زمان.
وأمّا ما ذكره
المفصّل فهو إنّما يصحّ في زمان عروض الاختلالات ، لا في أوّل زمان النزول.
فنقول : الحقّ ،
القول بجواز العمل.
فأمّا في الصّدر
الأوّل الذي خوطب به المشافهون فلأنّ الضّرورة قاضية بأنّ الله تعالى بعث رسوله صلىاللهعليهوآله وأنزل إليه الكتاب بلسان قومه مشتملا على أوامر ونواهي
__________________
ودلائل لمعرفته ،
وقصصا عمّن غبر ووعدا ووعيدا وإخبارا بما سيجيء ، وما كان ذلك إلّا لأن
يفهم قومه ويعتبروا به ، وقد فهموا وقطعوا بمراده تعالى من دون بيانه صلىاللهعليهوآله ، وما جعل القرآن من باب اللّغز والمعمّى بالنسبة إليهم ،
مع أنّ اللّغز والمعمّى أيضا ممّا يظهر للذكيّ المتأمّل من أهل اللّسان والاصطلاح
، بل أصل الدّين ، وإثباته إنّما هو مبنيّ على ذلك ، إذ النبوّة إنّما تثبت
بالمعجزة ، ومن أظهر معجزات نبيّنا صلىاللهعليهوآله وأجلّها وأتقنها هو القرآن.
والحقّ ، أنّ
إعجاز القرآن هو من وجوه : أجلّها وأقواها بلاغته ، لا مجرّد مخالفة اسلوبه لسائر
الكلمات. ولا يخفى أنّ البلاغة هو موافقة الكلام الفصيح لمقتضى المقام وهو لا يعلم
إلّا بمعرفة المعاني.
والقول : بأنّ
العرب كانت تتوقّف في فهم المعاني على بيان النبيّ صلىاللهعليهوآله من دون أن يفهموه بأنفسهم ثمّ تعلم البلاغة شطط من الكلام
، مع أنّ الأخبار الدالّة على جواز الاستدلال به ولزوم التمسّك به ، قريب من
التواتر أو متواترا.
منها : ما ذكره
أمير المؤمنين عليهالسلام في خطبته المذكورة في «نهج البلاغة» قال فيها : «والصلاة
على نبيّه الذي أرسله بالفرقان ليكون للعالمين نذيرا وأنزل عليه القرآن ليكون إلى
الحقّ هاديا وبرحمته بشيرا ... فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة الله على
خلقه ، أخذ عليهم ميثاقه» . إلى آخر ما ذكره عليهالسلام من هذا النمط.
__________________
ومنها : خبر
الثّقلين الذي ادّعوا تواتره بالخصوص ، فإنّ الأمر بالتمسّك بالكتاب
سيّما مع عطف أهل البيت عليهمالسلام عليه صريح في كون كلّ منهما مستقلّا بالإفادة وعدم
افتراقهما كما في بعض رواياته لا يدلّ على توقّف فهم جميع القرآن ببيان أهل البيت عليهمالسلام ، فإنّ ذلك لأجل إفهام المتشابهات ، وما لا يعلم تأويله
إلّا الله والرّاسخون في العلم ، فإنّا مذعنون بما قاله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)(وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الآية . فإنّ المراد بالمتشابه هو مشتبه الدّلالة ، والمحكم في
مقابله.
وما قيل : إنّ
المراد من المتشابه مشتبه ، فيحتمل أن يكون الظاهر منه لجهالة معناه بالنسبة إلى
الواقع ، وكذلك المراد بالمحكم لما يستفاد من بعض الأخبار أنّ المحكم هو ما يرادف
النصّ أو المراد به الناسخ.
ففيه ما لا يخفى ،
إذ من المعاين الغنيّ عن البيان ، أنّ مجرى عادة الله في بيان
__________________
الأحكام على النطق
والكلام ، وأنّ الكلام كلّه لا يفيد اليقين ، بل أكثره مبتن على الظنّ من العمل
بأصل الحقيقة في الحقائق ، وبالقرائن في المجازات ، مع احتمال إرادة المجاز
واختفاء القرينة على السّامع واحتمال اشتباه القرينة بقرينة اخرى ، ولم يعهد من
نبيّ ولا وصي ، ولا متكلّم إنسيّ من حكيم وعاقل أو سفيه وجاهل ، التوقّف في حال
التكلّم مع مخاطبه في أنّه هل حصل له اليقين بمرامه أم اكتفى بالظنّ ، بل لو توقّف
وكرّر عليه القول واستفسر وبيّن له ثانيا أيضا ، فلا ينفكّ ذلك أيضا غالبا عن لفظ
آخر محتمل لتلك الوجوه وهكذا. وسيجيء زيادة توضيح لذلك.
فالمراد من
المتشابه هو ما لم يتّضح دلالته بأن يصير السّامع متردّدا لأجل تعدّد الحقائق أو
لأجل خفاء القرينة المعيّنة للمجاز ، لتعدّد المجازات وهكذا.
والحاصل ، ما لم
يكن له ظاهر اريد منه ، سواء لم يكن له ظاهر أو كان ولم يرد واشتبه دلالته في غيره ، فما وضح دلالته إمّا للقطع
بالمراد أو للظّهور المعهود الذي يكتفي العقلاء وأرباب اللّسان به ، فهو
المحكم ، ومقابله المتشابه.
فخذ هذا ودع عنك
ما استشكله بعضهم في هذا المجال لإطلاق المحكم في كلام بعض العلماء على ما يرادف
النصّ أو يدّعى استفادة ذلك من بعض الأخبار أيضا.
وأنّ في بعض
الأخبار ما يدلّ على أنّ المحكم هو الثّابت لا المنسوخ ، وأنّ المنسوخ من المتشابهات ، فإنّ الظاهر أنّ المراد من
كون المنسوخ من المتشابهات
__________________
أنّه مثلها في عدم
جواز العمل ، ومن أنّ الناسخ محكم ، أنّه يجب العمل به ، فهذه الآية محكمة لا
تشابه فيها ولا يحتاج في بيان المتشابه إلى كلام الأئمّة عليهمالسلام.
وممّا ذكرنا ،
يندفع ما يورد على الاستدلال برواية الثّقلين أيضا من أنّ الأمر بالتمسّك بكتاب
الله لا يدلّ على أنّه يمكنه الفهم بنفسه ، بل الذي لا بدّ منه هو الاستعداد للفهم
بعد الإفهام ، فإنّ لفظ : «ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا» لفظ النّبيّ صلىاللهعليهوآله لا لفظ الكتاب حتّى يكون معركة للنزاع.
ولا ريب أنّ
المتبادر منه التمسّك بلا واسطة ، والاحتياج إلى الترجمة للعجميّ مثلا ليس من باب
الاحتياج إلى بيان الإمام عليهالسلام ، فإنّه يشمل العربي القحّ أيضا ، فنحن لا نلتزم وجوب أن
يمكنه الفهم بنفسه ، بل يجوز احتياجه إلى المترجم لو كان عجميّا مثلا ، لا البيان
ولو كان عربيا أيضا.
وهذا لا ينافي
دلالة الحديث على عدم الاحتياج إلى بيان الإمام عليهالسلام بالمعنى الذي يحتاج إليه العربي أيضا.
ومنها : الأخبار
الكثيرة التي ادّعوا تواترها في عرض الحديث المشكوك فيه على كتاب الله. والمراد
بكتاب الله هو ما يفهمه أهل اللسان منه ، وما يتوهّم أنّ
__________________
العرض على بيان
الأئمّة للكتاب أيضا تمسّك بالكتاب وعرض على الكتاب غلط ، لأنّ الاعتماد حينئذ على
البيان لا على الكتاب ، كما لا يخفى.
ومنها : الأخبار
الكثيرة التي استدلّ فيها الأئمّة عليهمالسلام بالكتاب لأصحابه مرشدين إيّاهم لذلك واستدلال بعض الأصحاب
، به على بعضهم وهي كثيرة جدّا متفرّقة في مواضع شتّى لا نطيل بذكرها.
والحاصل ، أنّ هذا
المقصود من الواضحات التي لا تحتاج إلى البيان.
وأمّا أدلّة
الأخباريين فهي الأخبار التي دلّ بعضها على حصر علم القرآن في النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام مثل ما رواه الكليني عن الصادق عليهالسلام قال : إنّما يعلم القرآن من خوطب به .
ويدفعه : أنّ جميع
الحاضرين مجلس الوحي أو الموجودين في زمانه كانوا ممّن خوطب به ، فلا يختصّ به صلىاللهعليهوآله.
وما رواه أيضا في «الرّوضة»
عنه عليهالسلام : «واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد
من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس. قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان
كلّ شيء وجعل للقرآن ولعلم القرآن أهلا. إلى أن قال : وهم أهل الذّكر الّذين أمر
الله هذه الامّة بسؤالهم». الحديث.
وفيه : أنّه ظاهر
، بل صريح في أنّ المراد علم جميعه وهو مسلّم ، وفي معناهما أخبار أخر ، والجواب عن الكلّ
واحد. ولو فرض ورود حديث صحيح
__________________
صريح ، بل أخبار
صحاح أيضا في أنّ العلم منحصر فيهم رأسا وقطعا ولا يفهمه أحد سواهم ولا يجوز العمل
إلّا ببيانهم لنؤوّله [لنؤوّله] أو نذره في سنبله ، كيف ولا خبر يدلّ على ذلك
صريحا ولا ظاهرا.
ومنها : الأخبار
التي دلّت على عدم جواز التفسير بالرأي ، وأفتى بمضمونه المحقّق الطبرسي رحمهالله حيث قال في «مجمع البيان» : واعلم أنّ الخبر قد صحّ عن النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة القائمين مقامه عليهمالسلام أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصّحيح والنصّ
الصريح. قال : وروى العامّة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ .
وفيه : أنّ الظاهر
أنّ المراد بالتفسير كما ذكره المحقّق الطبرسي رحمهالله أيضا : كشف المراد عن اللّفظ المشكل.
وقيل : التفسير :
كشف الغطاء ، ولا ريب أنّه لا يجوز الحكم بالمراد من الألفاظ المشتركة والمجملة في
القرآن بالرأي ومجرّد الاستحسان العقليّ من دون نصّ صريح من الأئمّة عليهمالسلام أو دليل معتبر ، فلا منافاة بين المنع من التفسير بالرأي
وجواز العمل بالظواهر.
ويمكن أن يراد أنّ
من ترك متابعة مقتضى وضع اللّغة والتعارف في بيان المعنى ، وأبدع معنى للّفظ بمجرّد الاشتهار ، فهو ممنوع ، مع أنّا نرى أنّ المحقّق
__________________
الطبرسي كثيرا ما
يفسّر الألفاظ ويبيّن المعاني من دون نصّ وأثر.
وأمّا ما ذكره
المفصّل : من أنّه يجوز العمل في القطعيّات منه دون الظواهر
المحتملة للنسخ والتخصيص وغيره.
ففيه : ما مرّ من
أنّ محلّ النزاع إن كان ظاهر الكتاب من حيث إنّه هو ظاهر الكتاب ، فلا يضرّه هذه
المحتملات قبل طروّها ، مثل أوائل نزول الكتاب. فإذا نزل آية كان يجوز العمل بها
حتّى يثبت لها ناسخ أو مخصّص أو مقيّد.
وأمّا بعد سنوح
هذه العوارض فيعمل على مقتضاها إذا علم بها على وجهها ، وإلّا فالحال فيه هو الحال
في جميع ما يرد علينا في أمثال زماننا من متعارضات الأدلّة. والمجتهدون أيضا
يقولون بأنّه لا يجوز العمل بها حينئذ إلّا بعد ملاحظة المعارض ، ينادي بذلك
اتّفاقهم على لزوم الفحص عن المخصّص في العامّ ، ووجوب تحصيل القطع بالعدم أو الظنّ.
وما يدّعى أنّ
الحاصل من تتبّع الأخبار أنّ أصحاب الأئمّة عليهمالسلام كانوا يعملون بالأخبار العامّة بمحض الورود من دون فحص عن
المخصّص ، وأنّهم ما كانوا يعملون بالآيات كذلك ، وإجماعهم المستفاد من طريقتهم هو الدّاعي
لإخراج
__________________
الأخبار عن هذا
الحكم ، بخلاف الكتاب ؛ فهو من أغرب الدّعاوي.
فنحن نقول في
الكتاب نظير ما قلناه في الأخبار ، وأنّه يجب الفحص عن النّاسخ والمنسوخ والعامّ
والخاصّ ، ثمّ يعمل على ما يبقى ظاهرا بعد ذلك ، وهذا لا ينافي جواز العمل
بالظواهر على ما هو محلّ النزاع.
وأمّا الاستدلال
بما دلّ على حرمة العمل بالظنّ في مثل هذه الظواهر ، فإن كان بالآيات ، ففيه ، وإن
كان لا يتمّ إلّا إلزاما ، وإلّا عند هذا المفصّل إن ادّعى أنّ هذا من المحكمات
القطعية الدّلالة لا من الظواهر انّ دلالتها ممنوعة ، لظهورها في اصول الدّين. ثمّ
قطعيّتها لأنّها عمومات ، وإطلاقات مخصّصة بالظواهر لما بيّنا من
الأدلّة على حجّية الظنّ الحاصل من التخاطب. ثمّ الظنّ الحاصل بعد انقطاع سبيل
العلم إلى الأحكام في أمثال زماننا كما سنبيّنه.
ومن جميع ذلك ظهر
أنّ حجّية ظواهر القرآن على وجوه ، فبالنسبة إلى بعض الأحوال معلوم الحجّية مثل
حال المخاطبين بها ، وبالنسبة إلى غير المشافهين مظنون الحجّية ، وكونها مظنون
الحجّية ، إمّا بظنّ آخر علم حجّيته بالخصوص كأن نستنبط من دلالة الأخبار وجوب
التمسّك بها لكلّ من يفهم منها شيئا ، وإمّا بظنّ لم يعلم حجّيته بالخصوص ، كأن
نعتمد على مجرّد الظنّ الحاصل من تلك الظواهر ولو بضميمة أصالة عدم النقل وعدم
التخصيص والتقييد وغير ذلك ، فإنّ ذلك إنّما
__________________
يثبت حجيّته وقت
انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية وانحصار الأمر في الرّجوع إلى الظنّ ، ولمّا
كان الأخبار أيضا من باب الخطابات الشّفاهية فكون دلالتها على حجّية الكتاب معلوم
الحجّية ، إنّما هو للمشافهين بتلك الأخبار ، وطرد حكمها بالنسبة إلينا أيضا لم
يعلم دليل عليه بالخصوص ، فيدخل حينئذ أيضا في القسم الآخر فليكن على ذكر منك ، وانتظر لتتمّة الكلام.
__________________
قانون
قالوا
: القرآن متواتر ، فما نقل آحادا ليس بقرآن ، لأنّه ممّا يتوفّر الدّواعي على نقله ، وما هو كذلك ،
فالعادة تقضي بتواتر تفاصيله. أمّا الصغرى فلما تضمّنت من التحدّي والإعجاز ،
ولكونه أصل سائر الأحكام. وأمّا الثانية فظاهرة.
أقول : أمّا تواتر
القرآن في الجملة ووجوب العمل بما في أيدينا اليوم فممّا لا شكّ فيه ولا شبهة
تعتريه ، لكن تواتر جميع ما نزل على محمّد صلىاللهعليهوآله ، غير معلوم ، وكذا وجوب تواتره.
أمّا الثاني : فلأنّه إنّما يتمّ لو انحصر طريق المعجزة وإثبات النبوّة
لمن سلف وغبر فيه. ألا ترى أنّ بعض المعجزات ممّا لم يثبت تواتره ، وأيضا يتمّ لو
لم يمنع المكلّفون على أنفسهم اللّطف كما منعوه في شهود الإمام عليهالسلام.
وأمّا الأوّل ـ أعني
تواتر جميع ما نزل ـ فيظهر توضيحه برسم مباحث.
الأوّل : أنّهم
اختلفوا في وقوع التحريف والنقصان في القرآن وعدمه ، فعن أكثر الأخباريين أنّه وقع
فيه التحريف والزّيادة والنقصان ، وهو الظاهر من الكليني
__________________
وشيخه علي بن
إبراهيم القمّي والشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي صاحب «الاحتجاج».
وعن السيّد
والصّدوق والمحقّق الطبرسي وجمهور المجتهدين عدمه. وكلام الصّدوق في اعتقاداته
يعرب عن أنّ المراد بما ورد في الأخبار الدالّة على أنّ في القرآن الذي جمعه أمير
المؤمنين عليه الصّلاة والسلام كان زيادة لم تكن في غيره ، أنّها كانت من باب
الأحاديث القدسية لا القرآن ، وهو بعيد.
والأدلّة على
الأوّل على ما ذكره الفاضل السيّد نعمة الله رحمهالله في رسالته «منبع الحياة» وجوه :
منها : الأخبار
المستفيضة بل المتواترة ، مثل ما روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام لمّا سئل عن المناسبة بين قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.) فقال : لقد سقط بينهما أكثر من ثلث القرآن.
وما روي عن الصادق
عليهالسلام في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ) قال عليهالسلام : كيف يكون هذه الامّة خير أمّة وقد قتلوا ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله. ليس هكذا نزلت وإنّما
__________________
نزولها : كنتم خير
أئمّة ، أي الأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام .
ومنها : الأخبار
المستفيضة في أنّ آية الغدير هكذا نزلت : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ). إلى غير ذلك ممّا لو جمع لكان كتابا كثير الحجم.
ومنها : أنّ
القرآن كان ينزل منجّما على حسب المصالح والوقائع ، وكتّاب الوحي كانوا أربعة عشر
رجلا من الصّحابة وكان رئيسهم أمير المؤمنين عليهالسلام ، وقد كانوا في الأغلب ما يكتبون إلّا ما يتعلّق بالأحكام
، وإلّا ما يوحى إليه في المحافل والمجامع.
وأمّا الذي كان
يكتب ما ينزل عليه في منازله وخلواته فليس هو إلّا أمير المؤمنين عليهالسلام لأنّه عليهالسلام كان يدور معه صلىاللهعليهوآله كيفما دار ، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف. فلمّا
مضى رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى لقاء حبيبه وتفرّقت الأهواء بعده ، جمع أمير المؤمنين عليهالسلام القرآن كما انزل وشدّه بردائه وأتى به إلى المسجد ، فقال
لهم : هذا كتاب ربّكم كما انزل.
فقال عمر : ليس
لنا فيه حاجة ، هذا عندنا مصحف عثمان.
فقال عليهالسلام : لن تروه ولن يراه أحد حتّى يظهر القائم عليهالسلام. إلى أن قال : وهذا القرآن كان عند الأئمّة عليهمالسلام يتلونه في خلواتهم وربّما اطلعوا عليه لبعض خواصّهم.
كما رواه ثقة
الإسلام الكليني عطّر الله مرقده بإسناده إلى سالم بن سلمة ، قال : قرأ
__________________
رجل على أبي عبد
الله عليهالسلام وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرأها الناس. فقال
أبو عبد الله عليهالسلام : «مه كفّ عن هذه القراءة ، واقرأ كما يقرأها الناس حتّى
يقوم القائم عليهالسلام ، فإذا قام قرأ كتاب الله على حدّه ، وأخرج المصحف الذي كتبه
عليّ عليهالسلام» .
وقد يوجّه هذا
الحديث وأمثاله ممّا يدلّ على ثبوت شيء آخر نقص من هذا القرآن
الذي في أيدينا ، بأنّ المراد ما نقص المعنى وتغييره إلى ما ليس مراده تعالى أو
نقص ما فسّروه به. يعني أنّهم عليهمالسلام كتبوا في مصاحفهم تفسير الآيات وأصحابهم كانوا يتلفّظون
بها فمنعوهم عن ذلك أو أنّ أصحابهم كانوا يفسّرون الآيات بشيء لم يكن إظهاره صلاحا
لوقتهم ، فأمروهم بالكفّ عن ذلك حتّى يظهر القائم عليهالسلام فيظهره ، لا أنّه كان شيء في القرآن داخلا فأخرجوه ، وهو
بعيد ، بل لا يمكن جريانه في كثير من تلك الأخبار بوجه من الوجوه.
ثمّ قال السيّد بعد نقل الحديث : وهذا الحديث وما بمعناه قد أظهر العذر في
تلاوتنا من هذا المصحف والعمل بأحكامه.
ثمّ ذكر حكاية طبخ
عثمان ما عدا مصحفه من مصاحف كتّاب الوحي ، فلو لا حصول المخالفة بينهما لما ارتكب
هذا الأمر الشنيع الذي صار من أعظم المطاعن عليه.
ثمّ نقل عن كتاب «سعد
السعود» للسيّد بن طاوس رحمهالله أنّه نقل عن محمّد
__________________
بن بحر الرّهني من
أعاظم علماء العامّة في بيان التفاوت في المصاحف التي بعث بها عثمان إلى أهل
الأمصار قال : اتّخذ عثمان سبع نسخ ، فحبس منها بالمدينة مصحفا ، وأرسل إلى أهل
مكّة مصحفا ، وإلى أهل الشام مصحفا ، وإلى أهل الكوفة مصحفا ، وإلى أهل البصرة
مصحفا ، وإلى أهل اليمن مصحفا ، وإلى أهل البحرين مصحفا ، ثمّ عدّد ما وقع فيها من الاختلاف بالكلمات والحروف ، مع
أنّها كلّها بخطّ عثمان ، فكيف حال ما ليس بخطّه.
ثمّ ذكر السيّد
الاختلاف في القرآن الواقع في أزمان القرّاء ، وذلك أنّ المصحف الذي دفع إليهم خال
من الإعراب والنقط كما هو الآن موجود في المصاحف التي هي بخطّ مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام وأولاده المعصومين عليهمالسلام وقد شاهدنا عدّة منها في خزانة الرّضا عليهالسلام.
نعم ذكر جلال
الدّين السيوطي في كتابه الموسوم ب «المطالع السعيدة» : أنّ أبا الأسود الدؤلي
أعرب مصحفا واحدا في خلافة معاوية.
وبالجملة لمّا
دفعت إليهم المصاحف على ذلك الحال تصرّفوا في إعرابها ونقطها وإدغامها وإمالتها
ونحو ذلك من القوانين المختلفة بينهم على ما يوافق مذاهبهم في
__________________
اللّغة والعربية ،
كما تصرّفوا في النحو وصاروا إلى ما دوّنوه من القواعد المختلفة.
قال محمّد بن بحر
الرّهني : إنّ كلّ واحد من القرّاء قبل أن يتجدّد القارئ الذي بعده كانوا لا
يجيزون إلّا قراءة ، ثمّ لمّا جاء القارئ الثاني انتقلوا عن ذلك المنع إلى جواز
قراءة الثاني ، وكذلك في القراءات السبع فاشتمل كلّ واحد على إنكار قراءته ، ثمّ
عادوا إلى خلاف ما أنكروه ، ثمّ اقتصروا على هؤلاء السّبعة ، مع انّه قد حصل في
علماء المسلمين والعاملين [والعالمين] بالقرآن أرجح منهم ، مع أنّ زمان الصّحابة
ما كان هؤلاء السّبعة ولا عددا معلوما من الصّحابة للناس يأخذون القراءات عنهم.
ثمّ ذكر قول
الصّحابة لنبيّهم صلىاللهعليهوآله على الحوض : «كيف خلّفتموني في الثّقلين من بعدي؟» فيقولون
: «أمّا الأكبر فحرّفناه وبدّلناه وأمّا الأصغر فقتلناه ، ثمّ يذادون عن الحوض» .
وأمّا الدليل على
الثاني فقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ولا دلالة فيه أصلا كما لا يخفى.
وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
وفيه : أنّه لا
يدلّ على عدم التغيير في القرآن الذي بأيدينا ، فيكفي كونه محفوظا عند الأئمّة عليهمالسلام في حفظ أصل القرآن في مصداق الآية.
ولا ريب أنّ ما في
أيدينا أيضا محفوظ من أن يتطرّق إليه نقص آخر أو زيادة ،
__________________
مع احتمال أن يراد
من قوله تعالى : (لَحافِظُونَ)، لعالمون ، وأنّ القول بجواز التبديل فتح لباب الكلام على
إعجاز القرآن وعلى استنباط الأحكام منه.
وفيه : أنّه لم
يخرج بذلك عن كونه معجزا لبقاء الاسلوب والبلاغة اللّذين هما مناط الإعجاز بحالهما
، بل سائر وجوه الإعجاز أيضا مع أنّه لم يدلّ الإخبار على حصول الزّيادة.
وادّعى على عدمها
أيضا الإجماع الشيخ والطبرسي في «التبيان» و «مجمع البيان» والذي له مدخليّة في الإخراج عن حدّ الإعجاز هو الزّيادة
غالبا.
وكذلك لم يظهر وقوع التحريف في آيات الأحكام ، مع أنّه لو وقع
فليس بأعظم من غيبة الإمام عليهالسلام.
وما ورد من
الأخبار الدالّة على وجوب التمسّك بالكتاب والأمر باتّباعه وعرض الأخبار على كتاب
الله ، ونحو ذلك.
وفيه : أنّ ما ورد
من هذه الأخبار عن النبيّ صلىاللهعليهوآله لا ينافي ما ذكرنا ، فإنّه أمر أيضا بالتمسّك بالأوصياء مع
أنّهم صاروا ممنوعين عن التبليغ كما هو حقّه.
وأمّا ما ورد من
الأئمّة عليهمالسلام فلا ينافي تجويزهم العمل بها من باب التقيّة وحكم الله
الظاهري كما سنقول في القراءات السّبع المتواترة ما يقرب من ذلك ، أو نقول : انّا
لا نلتزم تغيير الأحكام فيما ذكر في الكتاب الذي بأيدينا اليوم ، بل هي صحيحة وإن
كان لا ينافي ذلك حذف بعض الكلمات عنه ، كذكر أسماء أهل البيت عليهمالسلام
__________________
والمنافقين ، وعدم
ذكر بعض الأحكام أيضا ، بل الظاهر من بعض الأصحاب دعوى الإجماع على عدم وقوع تحريف
وتغيير في الكتاب يوجب تغيير الحكم.
الثاني : أنّ
المشهور كون القراءات السّبع متواترة ، وهي المروية عن مشايخها السّبعة ، وهم نافع
وأبو عمرو والكسائي وحمزة وابن عامر وابن كثير وعاصم ، وادّعى على تواترها الإجماع ، جماعة من أصحابنا.
وبعضهم ألحق بها
القراءات الثلاث الباقية أيضا ، ومشايخها أبو جعفر ويعقوب وخلف وهو المشهور بين المتأخّرين.
وممّن صرّح بكونها
متواترة ، الشهيد في «الذّكرى» ، والشهيد الثاني في
__________________
«روض الجنان» بعد
نقل الشهرة عن المتأخّرين ، وشهادة الشهيد على ذلك. قال : ولا يقصر ذلك عن ثبوت
الإجماع بخبر الواحد ، فيجوز القراءة بها مع أنّ بعض محقّقي القرّاء من المتأخّرين
أفرد كتابا في أسماء الرّجال الّذين نقلوها في كلّ طبقة ، وهم يزيدون عمّا يعتبر
في التواتر ، فيجوز القراءة بها إن شاء الله تعالى .
انتهى كلامه.
وبعضهم زاد على
ذلك وهو مهجور.
وأنكر الزمخشري
تواتر السّبعة ووافقه على ذلك جماعة من الأصحاب. قال السيّد الفاضل المقدّم ذكره بعد اختياره عدم التواتر : وقد وافقنا عليه السيّد الأجل
عليّ بن طاوس في مواضع من كتاب «سعد السّعود» وغيره ، وصاحب «الكشّاف» عند تفسير قوله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ،) ونجم الأئمّة الرّضي رحمهالله في موضعين من «شرح الرّسالة» ، أحدهما عند قول ابن الحاجب
، وإن عطف على الضمير المجرور اعيد الخافض. ثمّ إنّ ظاهر الأكثر أنّها متواترة إن
كانت جوهريّة ، أي من قبيل جوهر
__________________
اللّفظ ، ك : ملك
ومالك ، ممّا يختلف خطوط المصحف والمعنى باختلافه لأنّه قرآن ، وقد ثبت اشتراط
التواتر فيه.
وأمّا إن كانت
أدائيّة ، أي من قبيل الهيئة ، كالإمالة والمدّ واللّين ، فلا ، لأنّ القرآن هو
الكلام ، وصفات الألفاظ ليست كلاما ، ولأنّه لا يوجب ذلك اختلافا في المعنى ، فلا
يتعلّق فائدة مهمّة بتواتره.
أقول : والظاهر
أنّ مراد الأصحاب ممّن يدّعي تواتر السّبعة أو العشرة هو تواترها عن النبيّ صلىاللهعليهوآله عن الله تعالى كما يشير إليه ما سننقله عن «شرح الألفية». ويشكل
ذلك بعد ما عرفت ما نقلناه في القانون [المبحث] السّابق .
نعم إن كان مرادهم
تواترها عن الأئمّة عليهمالسلام بمعنى تجويزهم عليهمالسلام قراءتها والعمل على مقتضاها ، فهذا هو الذي يمكن أن يدّعى
معلوميّتها من الشارع ، لأمرهم بقراءة القرآن كما يقرأ الناس وتقريرهم لأصحابهم
على ذلك.
وهذا لا ينافي عدم
علميّة صدورها عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ووقوع الزّيادة والنقصان فيه والإذعان بذلك ، والسّكوت
عمّا سواه أوفق بطريقة الاحتياط.
وأمّا الاستدلال
على كون السّبع من الله تعالى بما ورد في الأخبار أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ،
فهو لا يدلّ على المطلوب.
وقد ادّعى بعض
العامّة تواترها ، واختلفوا في معناه على ما يقرب من أربعين قولا.
__________________
وقال ابن الأثير
في «نهايته» في الحديث : «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها كاف شاف» ، أراد بالحرف
اللّغة ، يعني على سبع لغات من لغات العرب ، أي انّها متفرّقة في القرآن ، فبعضه بلغة قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه
بلغة هوازن ، وبعضه بلغة يمن ، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ، على
أنّه قد جاء في القرآن ما قرئ بسبعة ، وعشرة ، كقوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ،)(وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.)
وممّا يبيّن ذلك
قول ابن مسعود : إنّي قد سمعت القرّاء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علّمتم إنّما هو كقول أحدكم
: هلم وتعال وأقبل. وفيه أقوال غير ذلك هذا أحسنها . انتهى كلامه ، وعن «القاموس» مثل ذلك. مع أنّ الكليني روى
في الحسن كالصحيح عن الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إنّ الناس يقولون أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف. فقال : «كذبوا
أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد» .
والظاهر أنّه عليهالسلام كذّبهم لأجل فهمهم من النزول على سبعة أحرف النزول على
القراءات السّبع كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : «نزل على حرف واحد من عند
__________________
الواحد». فلا ينافي
صحّة الخبر إذا اريد منه اللّغات السّبع أو البطون السّبعة أو نحو ذلك ، مثل ما
روى أصحابنا عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة
أقسام كلّ قسم منها كاف شاف وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص» .
ومثلها روى
العامّة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله. وكذلك ما رووه أيضا عن زرارة عن الباقر عليهالسلام قال : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف
يجيء من قبل الرّواة».
ويؤيّد ما ذكرنا
أنّ المراد بالسّبعة ليس القراءات السّبع ، ما رواه في «الخصال» عن الصّادق عليهالسلام قال له حمّاد : إنّ الأحاديث تختلف عنكم ، قال : فقال : «إنّ
القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام عليهالسلام أن يفتي على سبعة وجوه. ثمّ قال : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسابٍ)». وما رواه العامّة عنه صلىاللهعليهوآله : «انّ القرآن نزل على سبعة أحرف لكلّ آية منها ظهر وبطن
ولكلّ حرف حدّ ومطلع» . وفي رواية اخرى : «إنّ للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى
سبعة أبطن».
__________________
نعم روى في «الخصال»
عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن آبائه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «أتاني آت من الله فقال : انّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن
على حرف واحد. فقلت : يا ربّ وسّع على أمّتي. فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ
القرآن على سبعة أحرف» . وهذه الرّواية مع ضعف سندها أيضا غير واضحة الدّلالة على
المطلوب.
وكيف كان فدعوى
تواتر السّبعة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله محلّ كلام.
وقد ذكر السيّد
المتقدّم ذكره في بيان منع تواترها أيضا : أنّهم نصّوا على أنّه كان لكلّ
قارئ راويان يرويان قراءته.
نعم اتّفق التواتر
في الطبقات اللّاحقة ، وأيضا تواترها عنهم كيف يفيدوهم من آحاد المخالفين استبدّوا بآرائهم كما تقدّم
، وإسنادهم إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله إن ثبت فلا حجّة فيه ، مع أنّ كتب القراءة والتفاسير مشحونة من قولهم : قرأ حفص
كذا ، وعاصم كذا ، وفي قراءة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وأهل البيت عليهمالسلام كذا ، بل ربّما قالوا :في قراءة رسول الله صلىاللهعليهوآله كذا كما يظهر من الاختلافات المذكورة في قراءة : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ).
والحاصل ، أنّهم
يجعلون قراءة القرّاء قسيمة لقراءة المعصومين عليهمالسلام ، فكيف يكون القراءات السّبع متواترة من الشارع. انتهى ما
ذكره.
أقول : ويمكن أن
يقال أنّ الراويين كانا يرويان القراءة عن شيخهم بمعنى أنّ
__________________
شيخهم كان يقرأ
كذا ، يعني أنّ الشيخ كان يختار هذه القراءة من جملة القراءات المتواترة ، فتخصيص
الراويين بالنقل إنّما هو لأجل إسناد الاختيار والترجيح ، لا رواية أصل القراءة
حتّى يستند في منع حصول التواتر بذلك ، وذلك لا ينافي مخالفتهم للمعصومين أيضا ،
لأنّهم كانوا يختارون ما نقل عنهم.
وقد يؤيّد عدم
تواتر السّبع أيضا باختلاف القرّاء في ترك البسملة ، فقد نقل متواتر عن قراءة كثير
منهم ترك البسملة ، مع أنّ الأصحاب مجمعون على بطلان الصّلاة بتركها ، فكيف يحكمون ببطلان المتواتر عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وفيه تأمّل .
وأمّا على ما
بنينا عليه من كون ذلك تجويزا عن الأئمّة عليهمالسلام فيصحّ الجواب باستثناء ذلك كما ورد في الأخبار المستفيضة
من كون البسملة جزء ، وانعقد إجماعهم عليه.
ثمّ إنّ الشهيد
الثاني رحمهالله قال في «شرح الألفية» : واعلم أنّه ليس المراد أنّ كلّ ما ورد من هذه القراءات
متواتر ، بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات ، فإنّ بعض ما
نقل عن السّبعة شاذّ ، فضلا عن غيرهم كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشأن ، والمعتبر
القراءة بما تواتر من هذه القراءات وإن ركب بعضها في بعض ، ما لم يترتّب بعضه على
بعض آخر بحسب العربية فيجب مراعاته كقوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ.) فإنّه لا يجوز الرّفع فيهما ولا
__________________
النصب وإن كان كلّ
منهما متواترا بأن يؤخذ رفع آدم من غير قراءة ابن كثير ، ورفع كلمات من قراءته ، فإنّ ذلك لا يصحّ ، لفساد المعنى. ونحوه : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) بالتشديد مع الرّفع أو بالعكس . وقد نقل ابن الجوزي في «النشر» عن أكثر القرّاء جواز ذلك أيضا واختار ما ذكرناه .
وأمّا اتباع قراءة
الواحد من العشرة في جميع السّور فغير واجب قطعا ، بل ولا مستحبّ ، فإنّ الكلّ من
عند الله نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين تخفيفا عن الامّة وتهوينا
على أهل هذه الملّة ، وانحصار القراءات فيما ذكر أمر حادث غير معروف في الزّمن
السّابق ، بل كثير من الفضلاء أنكر ذلك خوفا من التباس الأمر وتوهّم أنّ المراد
بالسّبعة هي الأحرف التي ورد في النقل أنّ القرآن انزل عليها ، والأمر ليس كذلك فالواجب القراءة بما تواتر ، انتهى .
قوله رحمهالله : وانحصار القراءات ... الخ متشابه المقصود ، والأظهر أنّه
ابتداء تحقيق ، يعني أنّها في الصدر الأوّل لم تكن منحصرة في السّبع والعشر ، بل
كانت أزيد من
__________________
ذلك ، وأنكر كثير
منهم ذلك حتّى لا يتوهّم أنّ المرخّص فيه في الصّدر الأوّل إنّما هو هذا القدر كما
يشير إليه ما نقلناه عن «النهاية». ثمّ إنّ ما توافقت فيه القراءات فلا إشكال ،
والمشهور في المختلفات التخيير لعدم المرجّح ، ويشكل الأمر فيما يختلف به الحكم في
ظاهر اللّفظ مثل : يطهرن ويطهّرن ، فإن ثبت مرجّح كما ثبت للتخفيف هنا ، فيعمل
عليه.
وممّا يؤيّد ما
ذكرنا وقوع الخلاف في هذه الآية ، وإلّا لتعيّن التخيير في العمل.
وقال العلّامة رحمهالله في «المنتهى» : وأحبّ القراءات إليّ ما قرأه عاصم من طريق أبي بكر بن عيّاش ، وطريق أبي عمرو بن العلاء ، فإنّها أولى من قراءة حمزة
والكسائي لما فيها من الإدغام والإمالة وزيادة المدّ ، وذلك كلّه تكلّف ، ولو قرأ
به ، صحّت صلاته بلا خلاف.
الثالث : لا عمل
بالشواذّ لعدم ثبوت كونها قرآنا .
__________________
وذهب بعض العامّة
إلى أنّها كأخبار الآحاد يجوز العمل بها ، وهو مشكل لأنّ إثبات السنة بخبر الواحد قام الدّليل عليه
بخلاف الكتاب ، وذلك كقراءة ابن مسعود في كفّارة اليمين ، فصيام ثلاثة أيّام
متتابعات ، فهل ينزل منزلة الخبر لأنّها رواية أم لا ، لأنّها لم
تنقل خبرا ، والقرآن لا يثبت بالآحاد. ويتفرّع عليه وجوب التّتابع في كفّارة
اليمين وعدمه ، ولكن ثبت الحكم عندنا من غير القراءة.
__________________
المقصد الثالث
في السنة
وهو قول المعصوم عليهالسلام أو فعله أو تقريره الغير العاديات وفيه مطلبان :
المطلب الأوّل :
في القول
قانون
الحديث هو ما يحكي قول المعصوم عليهالسلام
أو فعله أو تقريره.
والظاهر أنّ حكاية
الحديث القدسي داخلة في السنّة ، وحكاية هذه الحكاية
__________________
عنه صلىاللهعليهوآله داخل في الحديث. وأمّا نفس الحديث القدسي فهو خارج عن السنّة والحديث والقرآن. والفرق بينه وبين
القرآن ، أنّ القرآن هو المنزل للتحدّي والإعجاز ، بخلاف الحديث القدسي .
وقد يعرّف الحديث بأنّه : قول المعصوم عليهالسلام أو حكاية قوله أو فعله أو تقريره ، ليدخل فيه أصل الكلام
المسموع عن المعصوم عليهالسلام. والأنسب بقاعدة النقل هو عدم الدّخول لكون كلامه عليهالسلام في الأغلب أمرا أو نهيا ، بخلاف حكايته ، فإنّه دائما
إخبار.
ونفس الكلام
المسموع هو الذي يسمّونه بالمتن ، ومتن الحديث مغاير لنفسه .
__________________
ومذهب أصحابنا أنّ
ما لا ينتهي إلى المعصوم عليهالسلام ليس حديثا.
وأمّا العامّة
فاكتفوا فيه بالانتهاء إلى أحد الصّحابة أو التابعين أيضا. والكلام فيما يرد على
التعريفات وإصلاح طردها وعكسها يشغلنا عنه ما هو أهمّ ، فلنقتصر على ذلك.
ثمّ إنّ الخبر قد
يطلق على ما يرادف الحديث ، كما هو مصطلح أصحاب الدراية.
وقد يطلق على ما
يقابل الإنشاء ، وقد عرفت تعريفه على الأوّل.
وأمّا على الثاني
فهو كلام لنسبته خارج يطابقه أو لا يطابقه.
والمراد بالخارج
هو الخارج عن مدلول اللفظ وإن كان في الذّهن ليدخل مثل : علمت ، وليس المراد به
ثبوته في جملة الأعيان الخارجية لينافي كونها أمرا اعتباريا ، لا أمرا مستقلا
موجودا. وأيضا الموجود الخارجي على ما ذكره بعض المحقّقين هو ما كان الخارج ظرفا لوجوده لا لنفسه ، ولا ريب أنّ
الخارج ظرف لنفس النسبة لا لوجودها ، فيقال : زيد موجود في الخارج ، بمعنى أنّ
وجود زيد في الخارج لا نفسه.
__________________
وأمّا حصول القيام
لزيد مثلا فليس وجوده في الخارج حتّى يكون موجودا خارجيا ، بل هو نفسه في الخارج.
فالحاصل ، أنّ الموجود الخارجي هو زيد لا وجوده ، والقيام لا حصوله
، لأنّه لو فرض للحصول والوجود وجود حتّى يكونان موجودين خارجيين لزم التسلسل فيقال لحصول القيام أنّه أمر خارجيّ لا موجود خارجي ،
وكذلك لوجود زيد.
وبالجملة ، النسبة
في الخبر ثابتة في الواقع سواء التفت الذهن إليها أم لا.
وأمّا الإنشاء فإنّما يثبت بنفسه نسبته بالتفات الذّهن إليها وإيقاعها ،
ويوجد الحكم بنفس الكلام الإنشائيّ.
فقولنا : بعت ،
إذا استعمل على وضعه الحقيقيّ ، فلا بدّ أن يكون البيع واقعا في نفس الأمر قبل هذا
الكلام حتّى يطابقه ، بخلاف (بعت) الإنشائي ، فإنّ البيع يوجد بهذا اللفظ ، ولا
ينافي ذلك جواز التعليق على شيء ، كما في الظهار ، مثل أن يقول رجل لزوجته : إن
كلّمت فلانا فأنت عليّ كظهر امّي ، فإنّ الظّهار وإن كان لا يحصل بمجرّد التنطّق ،
بل يبقى معلّقا بحصول الشّرط ، ولكن الحكم الحاصل من هذا اللفظ إنّما يحصل به ،
ولا خارج له أصلا ، وحيلولة حائل عن أثره وتأخيره عن المؤثّر لا ينافي حصوله به ،
ومن هذا القبيل صيغة الإجارة مع تأخّر زمان الإجارة عن
__________________
الصّيغة ، وصيغة
الأمر المعلّق على شرط.
وقيل في تعريف
الخبر : إنّه كلام يحتمل الصدق والكذب .
وقيل : التصديق والتكذيب.
وقد يفرّع على ذلك
ما لو قال لإحدى زوجاته : من أخبرتني بقدوم زيد فهي عليّ كظهر امّي ، فأخبرته
إحداهنّ بذلك كاذبة ، فيقع الظّهار لصدق الخبر. وهو يشكل بأنّ المتعارف في ذلك
إرادة الخبر الصادق ، بل الصدق إنّما هو مدلول الخبر ، والكذب إنّما هو احتمال
عقليّ ، فإن علم أنّ المراد مطلق الخبر ، فكذلك.
وقد يتوهّم أنّ
تعريف الخبر بذلك مع أنّهم عرّفوا الصدق : بأنّه الخبر عن الشيء ، على ما هو به
يستلزم الدور .
وقد يجاب عنه :
بأنّ المراد بالخبر في تعريف الصدق هو مطلق الإعلام ، فلا دور ، أو أنّ المراد تعريف
صدق المتكلّم لا الكلام ، والصدق في تعريف الخبر هو صدق الكلام ، وإن شئت تعريف
صدق الخبر فيقال : صدق الخبر هو مطابقته للواقع ولا إشكال.
__________________
وقد اختلفوا في
تعريف صدق الخبر وكذبه على أقوال : المشهور الأقوى أنّ الصدق مطابقة الواقع ،
والكذب عدم مطابقته ، للتبادر ، والإجماع على أنّ اليهودي إذا قال : الإسلام حقّ ،
يحكم بصدقه ، وإذا قال خلافه يحكم بكذبه.
وذهب النّظام ومن تبعه إلى أنّ الصدق مطابقته لاعتقاد المخبر وإن لم
يطابق الواقع ، والكذب عدمها وإن طابق الواقع ، فقول القائل : السّماء تحتنا
معتقدا ذلك ، صدق ، و : السّماء فوقنا غير معتقد ذلك كذب .
والمراد بالاعتقاد
ما يعمّ الظنّ ، وهو الاعتقاد الرّاجح مع احتمال النقيض عند المخبر ، والعلم ، وهو الحكم الذّهني الجازم الثابت المطابق للواقع الذي لا
يزول بتشكيك المشكّك. والجهل المركّب وهو الحكم الجازم الغير المطابق سواء زال
بتشكيك المشكّك أم لا. والاعتقاد المشهور أي الحكم الذّهني الجازم الذي يقبل
التشكيك.
ثمّ إن أرادوا من
قبول التشكيك في الاعتقاد المشهور ، القبول في بعض أفراده ، فيشمل العلم ، وإلّا فيخرج عنه
العلم وما لا يقبل التشكيك من أفراد الجهل المركّب ، ويدخل فيه الاعتقاد الجازم
المطابق للواقع الذي يقبل التشكيك.
وربّما قيل : إنّ العلم هو الحكم الجازم الذي لا يقبل التشكيك ،
والاعتقاد
__________________
المشهور هو ما
يقبله.
وقسّم الاعتقاد
إلى هذين ، والظنّ وهو مفوّت للجهل المركّب.
وما قيل في دفعه :
إنّ الجهل المركّب ما يقبل التشكيك مطلقا ، بمعنى أنّه يمكن زواله بإقامة البرهان.
فيرد عليه : أنّ
العلم أيضا ربّما يقبل التشكيك بإلقاء الشّبهة.
فإن قلت : المراد
من قبول التشكيك احتمال نفس الأمر للخلاف لا مجرّد حصول الشكّ للمخبر.
فيرد عليه : أنّ
الاعتقاد الجازم المشهوري الذي يقبل التشكيك ، ربّما يكون مطابقا للواقع أيضا.
وكيف كان ، فالخبر المعلوم والمظنون والمجزوم به بالاعتقاد المشهوري ، صادق عند
النّظام ، بخلاف الموهوم.
يعني إذا دلّ
الخبر على الطرف الذي هو مرجوح عند المخبر ، فهو كاذب ، وكذا
__________________
ما كان مشكوكا
عنده لعدم كونه مطابقا لاعتقاده ، وإن كان بسبب انتفاء الاعتقاد رأسا.
والمراد أنّ مدلول
الخبر متّصف بالكذب ، وإلّا فلا حكم للشاكّ حتّى يقال أنّ خبره صادق أو كاذب.
واحتجّ النّظام :
بقوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ.) فإنّه تعالى حكم بكونهم كاذبين في قولهم : إنّك لرسول الله
صلىاللهعليهوآله ، مع أنّه مطابق للواقع ، فاتّصافه بالكذب إنّما يكون من
جهة مخالفة اعتقادهم .
وأجيب عنه بوجوه :
أحدها : أنّهم كاذبون فيما تضمّنه شهادتهم من ادّعائهم من صميم
القلب ، كما يدلّ عليه تأكيد الكلام بأنواع التأكيدات من ذكر كلمة : إنّ ، واللّام
، والجملة الاسمية.
لا يقال : أنّ هذا
لا يبطل قوله ، لأنّ دعوى المواطاة وكون الشّهادة من صميم القلب مخالف
لمعتقدهم أيضا ، لأنّا نقول أنّه غير مطابق للواقع أيضا ، فلم يثبت أنّ وصفه
بالكذب ، لما ذكره دون ما ذكرنا.
وثانيها : أنّه
راجع إلى دعوى الاستمرار ، كما يشهد به الجملة المضارعة [المضارعية].
__________________
وثالثها : أنّه
راجع إلى لازم فائدة الخبر ، وهو كونهم عالمين بذلك معتقدين له.
ورابعها : أنّ
المنافقين قوم متّسمون بالكذب ، وهو عادتهم وسجيّتهم ، فلا تغترّ بشهادتهم ، ولا
تعتمد عليهم ، فإنّ الكذوب قد يصدق.
وخامسها : أنّهم
كاذبون في تسميته شهادة ؛ لاشتراط مواطاة القلب واللّسان في مفهوم الشّهادة.
وتوجيهه : أنّ
تسميتهم كأنّه إخبار بأنّ ذلك شهادة ، فيؤول التسمية إلى الخبر ، وإلّا فالتسمية
ليست بخبر. وربّما يمنع اشتراط المواطاة في مفهوم الشهادة.
وسادسها : أنّه
على فرض تسليم رجوع التكذيب إلى قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللهِ). فالمراد أنّهم كاذبون في اعتقادهم الفاسد لأنّهم يعتقدون
أنّ هذا غير مطابق للواقع.
وسابعها : أنّه
راجع إلى حلفهم على أنّهم لم يقولوا : (لا تُنْفِقُوا عَلى
مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ،) ولم يقولوا : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ).
وذهب الجاحظ إلى أنّ الصدق مطابقة الواقع ، والاعتقاد والكذب مخالفتهما
معا ، وأنّ هناك واسطة.
__________________
وحاصله ، أنّ
الخبر إمّا مطابق للواقع أو لا ، وكلّ منهما إمّا مع اعتقاد المطابقة أو اعتقاد
عدمها ، أو الشكّ أو عدم الشّعور. والصدق هو المطابقة مع اعتقاد المطابقة ، والكذب
هو المخالفة مع اعتقاد المخالفة ، والسّت البواقي وسائط بينهما.
واستدلّ على ثبوت
الواسطة بقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ.) فإنّ الكفّار حصروا إخبار النبيّ صلىاللهعليهوآله عن الحشر والنشر ، أو عن نبوّته صلىاللهعليهوآله في الافتراء ، وهو الكذب ، والإخبار حال الجنّة على سبيل
منع الخلوّ كما هو ظاهر مفاد كلمة أم ، والهمزة.
ولا بدّ أن يكون
المراد من الثاني غير الكذب ، لاقتضاء الترديد مغايرته معه وغير الصّدق لاعتقادهم
عدمه ، ولعدم دلالة قولهم : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) على إرادة ذلك ، فلا بدّ أن يكون هناك واسطة يحمل عليها
قولهم ، لأنّهم عقلاء من أهل اللّسان ، وعارفون باللّغة ، وكون الخبر صادقا في نفس
الأمر لا ينافي كونه واسطة بينهما على زعمهم.
والحاصل ، أنّهم
اعتقدوا أنّ هذا الخبر خبر ، وليس من قسم الصّدق ، ولا من قسم الكذب ، بل هو شيء
ثالث ، وخطأهم في أنّه شيء ثالث ، لا ينفي صحّة إطلاقهم الخبر على شيء ثالث ،
وإطلاقهم دليل على صحّة الإطلاق عليه.
واجيب : بأنّ الترديد بين الافتراء وعدم الافتراء. والافتراء هو
الكذب عن عمد ، ولا عمد للمجنون ، فهذا ترديد بين نوعي الكذب.
وتوضيحه : أنّ
القصد إمّا داخل في مفهوم الافتراء أو هو المتبادر من
__________________
الأفعال المنسوبة
إلى ذوي الإرادات ، ولذلك ذكر في خيار المجلس المستفاد من قوله عليهالسلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» ، أنّ التفارق على غير الاختيار ، لا يوجب انقطاع الخيار ،
بل لا يبعد إجراء ذلك في نفي الأفعال فيعتبر في عدم الافتراق أيضا القصد والاختيار
. ولو سلّم عدم المدخليّة للقصد في الموضوع له ، ولا من جهة الاستعمال ، فنقول
: إنّ الدّليل لمّا دلّ على ما اخترناه من مذهب المشهور ، فنحمله هنا على إرادة
القصد ولو كان مجازا جمعا بين الأدلّة.
وربّما يجاب : بأنّه ترديد بين الكذب وما ليس بخبر ، فإنّ الكلام الذي
لا قصد معه ليس بخبر.
وفيه : أنّ مدخلية
القصد في كون الكلام خبرا ممنوع ، إلّا أن يمنع كونه كلاما حينئذ وهو كما ترى.
واعلم أنّ هذه
الآية على فرض تسليم دلالتها ، فإنّما تدلّ على ثبوت الواسطة لا على تحقيق معنى
الصدق والكذب ، فإنّ غاية ما ثبت من الآية إطلاق الكذب فيها على ما خالف الواقع
والاعتقاد بزعمهم ، وأمّا انحصاره فيه ، فلا. وإذا لم يثبت حقيقة الكذب منها
فالصدق بالطريق الأولى . ثمّ على فرض تسليم إثبات
__________________
الواسطة فإنّما
تثبت واسطة واحدة من الوسائط وهو الخبر لا عن شعور الغير المطابق للواقع كما هو
معتقدهم على ما فهمه العضدي.
وذكر شيخنا
البهائيّ رحمهالله : إنّ الثابت بها ثلاث وسائط : الخبر لا عن قصد وشعور ،
ومع الشكّ في مطابقة الواقع ، ومع اعتقادها ، بأن يكون في زعمهم الفاسد أنّ الشكّ
في الصدق لا يكون إلّا عن مجنون ، فكيف اعتقاد الصّدق!
أقول : توضيحه ،
أنّ الكفّار يقولون : إنّ خبره صلىاللهعليهوآله مخالف للواقع جزما ، فإن كان مع إخباره بثبوته يعتقد عدم
المطابقة للواقع ، فهو كذب ، ولا ينافي طريقة العقل ، وإن كان يعتقد المطابقة
للواقع أو يشكّ في المطابقة وعدمها ، فهو مجنون ـ يعني شبيه بالمجنون ـ حيث إنّ
الشكّ في المطابقة وعدمها لا يصدر عن عاقل ، ولا ينبغي أن يصدر مثله إلّا عن
المجنون ، فضلا عن اعتقاد المطابقة.
ويرد على ما ذكره
: أنّه لا يثبت إلّا واسطتين ، لأنّه لا يبقى حينئذ مجال لإدخال ما لا قصد فيه ولا
شعور في الكلام ، لأنّ التشبيه بالمجنون إمّا من جهة خيالاته وأفكاره ، أو من جهة
مطلق تكلّماته وأطواره ، ولا يمكن الجمع بينهما في التشبيه ، فإنّ خبره صلىاللهعليهوآله أمر واحد وجزئيّ حقيقيّ موجود في الخارج لا يقبل إلّا أحد
المحتملات الثلاثة : إمّا كونه لا عن شعور العياذ بالله ، أو عن
اعتقاد المطابقة ، أو مع الشكّ ، ولا يجتمع أحد الاحتمالات مع الآخر في الوجود.
فإمّا يقال أنّه يقول لا عن شعور كالمجنون ، أو يقال أنّه يشكّ كالمجنون ، أو
يعتقد المطابقة
__________________
كالمجنون ، بل لا
يمكن الجمع في الأخيرين أيضا إلّا من باب الاستلزام الفرضيّ .
والحاصل ، أنّه لا
يمكن الجمع في تشبيه الخبر بين ذي الاعتقاد ، ولا عن شعور.
فالتحقيق ، أنّ
الآية لا تثبت إلّا المخبر لا عن قصد وشعور ، لو اريد التشبيه في طور كلام المجنون
وحاله ، أو المخبر عن اعتقاد مع عدم المطابقة للواقع ، لو اريد التشبيه بأفكار
المجنون وخيالاته ، ولا يبعد ترجيح الأوّل لكونه آكد في سقوط الاعتبار صورة ومعنى
، ولمقابلته بالافتراء الذي هو الكذب عن عمد. فما ذكره العضدي أظهر ووافقه الجماعة أيضا ، فلاحظ الشهيد الثاني رحمهالله أيضا في «تمهيد القواعد» حيث جعل مذهب الجاحظ
__________________
ثلاثية . ثالثها : الإخبار بدون اعتقاد.
والظاهر أنّ
المراد بالاعتقاد هو قابليّته ليدخل الشكّ أيضا ، ولذلك لم يلتفت الجماعة.
ثمّ إنّ لي هنا
كلاما طارفا لم يلتفت إليه من قبلي ، هداني إليه التأمّل فيما ذكره شيخنا البهائي رحمهالله من فروع هذه المسألة في «حواشي زبدته» فقال : وممّا يتفرّع على كون صدق الخبر وكذبه مطابقته
للواقع وعدمها أم لا ، إنّ المدّعي لو قال بعد إقامة البيّنة : كذب شهودي ، فعلى
المذهب المختار تسقط دعواه ، وكذا على مذهب الجاحظ ، وعلى مذهب النّظام لا تسقط
دعواه.
ولو قال : لم يصدق
شهودي ، فإنّ دعواه على المختار تسقط دون المذهبين الأخيرين.
ولو قال له المنكر
: صدق شهودك ، فهو إقرار على المذهبين دون مذهب النّظام.
ولو قال : لم
يكذبوا ، فهو إقرار على المختار دون المذهبين الأخيرين.
وممّا يتفرّع على
هذا الخلاف أيضا ما لو قال المنكر : إن شهد فلان فهو صادق ،
__________________
فعلى المذهب
المختار ومذهب الجاحظ ، هو إقرار كما هو مذكور في كتب الفروع ، لأنّه لو لم يكن
الحقّ ثابتا لم يكن صادقا إن شهد ، وأمّا على مذهب النّظام فليس إقرارا. انتهى
كلامه رحمهالله.
أقول : الذي يظهر لي أنّ مناط الأقوال الثلاثة في جواز وصف
الخبر بالصدق والكذب والحكم عليه بأنّه صدق أو كذب عند التحقيق ، هو اعتقاد مطابقة
الواقع وعدمه ، فإنّ النّظام أيضا مراده من كون الصدق هو مطابقة الاعتقاد هو كون
اعتقاده أنّ هذا الحكم ثابت في الواقع ، فالذي يصفه بالصدق هو ما يعتقد مطابقته
للواقع ، وكذلك الجاحظ لا يصف به إلّا ما يعتقده كذلك.
وأمّا المشهور ،
فلمّا لم يكن ظهور الواقع إلّا باعتقاد أنّه واقع ، فوصفهم بالصدق إنّما يكون بعد
اعتقادهم المطابقة ، فالاعتقاد ممّا لا بدّ من ملاحظته في وصف الخبر بالصدق
والكذب.
فإن قلت : إنّ
الصدق والكذب أمران نفس الأمريّان ، والخبر إنّما يتّصف بالصدق والكذب النفس الأمريّين لا ما
يعتقد صدقه أو كذبه ، فلو كان شيء مطابقا للواقع واعتقد أحد عدمه وحكم بكذبه ، ثمّ
ظهر له فساد اعتقاده ، فيحكم بأنّه كان صادقا. فلو نذر أحد أن يعطي بمن أخبر بصدق شيئا ، فأعطاه بشخص لم يعتقد في
حقّه الصدق لكنّه كان في نفس الأمر صادقا ، فيبرّ نذره إذا ظهر له بعد ذلك انّه
كان صادقا ، وبالعكس.
__________________
قلت : اتّصافه بما
هو كذلك في نفس الأمر إنّما هو في نفس الأمر ، لا عندنا ، والذي يثمر في الفروع هو
ما عرفنا اتّصافه به في نفس الأمر واعتقدناه ، وبرّ النذر في الصّورة المفروضة
وعدمه في عكسها ، ممنوع ، مع أنّه يجري ذلك على المذهبين الأخيرين أيضا ، فإنّه
إذا تغيّر الاعتقاد ، فيحكم النّظام أيضا بخلاف المعتقد في ذلك الخبر ، وكذلك
الجاحظ ، فالخبر الموافق للاعتقاد عند النّظام صدق ما دام كذلك ، وإذا تبدّل
فيتّصف بالكذب ، بمعنى أنّ ذلك الخبر كذب رأسا ؛ لا أنّه صار كذبا الآن. ولا معنى
لكون الخبر صدقا في وقت ، كذبا في آخر ، في نفس الأمر ، بل إنّما ذلك من جهة
الاعتقاد.
ثمّ اعلم أنّ معنى
قولنا : كتب فلان ، أنّه فعل ما هو كتابة في نفس الأمر ، لا ما هو كتابة عنده ،
فلا بدّ في الإسناد من ملاحظة المسند والمسند إليه ثمّ الإسناد ، فالكتابة أمر
مستقلّ ملحوظ في ذاته قبل الإسناد ، غاية الأمر أنّه يتقيّد بإدراك لمدرك ضرورة ، يعني أنّ من يلاحظ نسبتها إلى فلان يعرفها ويعلم أنّها
كتابته ثمّ يسندها إلى فلان.
إذا عرفت هذا
وتأمّلت فيما ذكرنا ، تعلم أنّه لا محصّل للتفريعات التي ذكرها رحمهالله.
لأنّ قول المدّعي
: كذب شهودي ، معناه : كذب شهودي في الواقع لا في اعتقاد الشّهود ـ يعني قالوا
قولا كاذبا في الواقع ـ ، على أيّ قول كان من الأقوال
__________________
الثلاثة ، وهو
يستلزم بطلان حقّه على الأقوال الثلاثة ، فإنّ كلّ واحد منها يعتبر فيه اعتقاد
مطابقة الواقع وعدمه كما بيّنا.
والحاصل ، أنّ
معنى قول المدّعي كذب شهودي ، هو أنّي أعتقد عدم مطابقته للواقع على ما بيّنا لك سابقا
، وهو إقرار ببطلان حقّه ، فإنّ الإقرار أيضا تابع للاعتقاد الواقع ، وكلّما
دلّ عليه فهو يثبته وإن لم يقصده ، وليس معنى كذبوا ، أنّهم أخبروا من غير علم
واعتقاد ، فإنّ هذا معنى قولنا : كذبوا في اعتقادهم ، بمعنى قالوا
قولا مخالفا لمعتقدهم. وإذا صرّح بهذا المضمون فهو كما ذكره لا يستلزم سقوط الحقّ
، ولكن ليس هذا تفريعا على لفظ الكذب المطلق.
وبالجملة ، كما
أنّ نفس المخبر إذا قال : خبري كذب. معناه على مذهب النّظام إنّ خبري غير موافق
لاعتقادي ، فكذلك غيره ممّن وصف ذلك الخبر بالكذب ، على هذا المذهب لا بدّ أن يريد
أنّه غير موافق لاعتقاده ، وحينئذ فهو إقرار بعدم ثبوته في الواقع كما مرّ.
وتوضيح هذا المطلب
: أنّ الخبر كما ذكروه هو كلام كان له خارج يطابقه أو لا يطابقه. والمراد بالخارج
هو خارج المدلول وإن كان في الذّهن ، كما أشرنا.
ولا ريب أنّ
النّسبة الّتي هو خارج المدلول إمّا هو الّذي مكتوب في اللّوح المحفوظ ، أو ما
يدركه المدرك ويزعمه أنّ هو ذلك المكتوب ، وهذا هو الاعتقاد وإن لم يكن مطابقا
للمكتوب في الواقع. فحقيقة مذهب المشهور في الصدق هو مطابقة مدلول الكلام والنّسبة
الذّهنية الحاصلة منه لما هو مكتوب في اللّوح
__________________
المحفوظ من حيث هو
مكتوب هناك ، وإن أخطأ الواصف به في فهم المطابقة واعتقاده في نفس الأمر. وحقيقة
مذهب النظّام هو مطابقته لما يعتقده المدرك أنّه كذلك في اللّوح المحفوظ ، من حيث
إنّ اعتقاده ذلك ، فوصف الخبر بالصدق والكذب على كلّ المذاهب يلاحظ بالنسبة إلى
الخبر من حيث هو خبر ، لا من حيث صدوره عن المخبر. فإذا قال أحد : زيد قائم ،
والمفروض في اللّوح المحفوظ قيام زيد ، وكان اعتقاد المخبر عدم قيامه ، فالخارج
عند المخبر عدم القيام ، يعني يعتقد أنّ ما في اللّوح المحفوظ هو عدم القيام.
فقوله : زيد قائم ، عند المخبر كذب ؛ لأنّه مخالف لمعتقده من حيث إنّه مخالف لمعتقده ، وأمّا غير المخبر ممّن يسمع هذا الكلام ويعتقد قيام زيد
، فهو صدق عنده على مذهب النّظام أيضا لكونه موافقا لاعتقاده ، وهكذا ، فالخبر عند
النّظّام أيضا لا بدّ أن يتّصف بالصدق والكذب مطلقا ، فإنّ الخبر هو نفس الكلام
الموصوف ، لا الكلام مع اتّصافه بكونه صادرا عن المخبر.
فما يتوهّم أنّ
مذهب النظّام ، أنّ الصدق هو مطابقة اعتقاد المخبر فقط ، والكذب هو مخالفة اعتقاد
المخبر فقط ، فذلك يستلزم أن يكون مذهبه عدم اتّصاف الخبر بالنسبة إلى معتقد غير
المخبر بصدق ولا كذب ، وهو واه جدّا ، لأنّ الخبر هو نفس الكلام لا هو من حيث إنّه
صادر عن المخبر ، ولا بدّ له من خارج اعتقادي على مذهبه ، وهو يختلف بحسب الاعتقادات ، فلا بدّ أن يكون
مراد النظّام من المخبر في قوله : صدق الخبر ، هو مطابقته لاعتقاد المخبر ، هو
مطلق من يلاحظ الخبر لا
__________________
نفس من تكلّم به
وأخبر به فقط.
والذي أوجب
التعبير بهذه العبارة في مذهب النظّام وأوقع المتوهّم في الوهم هو الاستدلال بقوله
تعالى إنّهم : (لَكاذِبُونَ ،) من حيث إنّ الواصف بالكذب هو الله تعالى ، مع أنّ علمه تعالى
مخالف لما اعتقدوه ، فوصف الله تعالى هذا الخبر بالكذب لأجل محض كونه مخالفا
لاعتقاد المخبرين.
ويدفعه : أنّ ذلك
الاستدلال لا بدّ أن يكون بالنظر إلى اعتقاد المخبرين يعني (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بالنظر إلى اعتقادهم أنّهم موصوفون بالكذب عند أنفسهم وفي
اعتقادهم ، وبالنظر إلى ملاحظة مخالفته لمعتقدهم ، لا أنّه كذب عند غيرهم أيضا
ممّن لم يعتقد ذلك ، وإلّا فيلزم أن ينحصر اتّصاف الخبر بكونه صدقا أو كذبا بالنظر
إلى ملاحظة حال المخبر فقط ، ولم يكن بالذّات متّصفا بصدق ولا كذب ، فتأمّل حتّى
لا تتوهّم أنّ ما ذكرناه هو ما ذكروه في الجواب عن الاستدلال بالآية بعد تسليم رجوع الكذب إلى
قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللهِ ،) بأنّ المراد إنّهم :(لَكاذِبُونَ) في زعمهم ، فإنّه معنى آخر.
وحاصله ، أنّهم
يزعمون ويعتقدون أنّ هذا كذب لمخالفته للواقع ، لا إنّهم كاذبون لأجل مخالفته لمعتقدهم.
__________________
والحاصل ، أنّ
مذهب النظّام لا بدّ أن ؛ يكون أنّ الصدق والكذب هما مطابقة الخبر لاعتقاد من
يطّلع على الخبر ويلاحظه ، سواء كان نفس المخبر أو غيره. والاستدلال بالآية بتقريب
أنّ الله تعالى أطلق الكذب على مثل ذلك ، فإنّ ما شهدوا به كذب لكونه مخالفا
لاعتقادهم.
والجواب عنه : منع
رجوع قوله تعالى : (لَكاذِبُونَ)، إلى هذا الخبر أوّلا ، ومنع كونه لأجل مخالفته لمعتقدهم من حيث إنّه مخالف لمعتقدهم ، بل لأجل أنّه مخالف للواقع
بحسب معتقدهم ، من حيث إنّه مخالف للواقع في معتقدهم ثانيا.
ومن جميع ما ذكرنا
يظهر جواب آخر عن استدلال النظّام غير ما ذكرنا سابقا ، وهو أنّ ذلك حينئذ تقييد
لإطلاق الآية وخلاف ظاهرها ، فلا بدّ من حملها على أحد الوجوه المتقدّمة لئلّا
يلزم ذلك ، وإن كان ولا بدّ من التقييد ، فتقيّده بما ذكروه في جوابه على النهج الذي قرّرناه هاهنا.
ثمّ بالتأمّل فيما
ذكرنا تقدر على معرفة بطلان سائر الفروع التي ذكرها رحمهالله ، ووافقه الشهيد الثاني رحمهالله في «تمهيد القواعد» في ذكر الفرع الأخير ، لكنّه رحمهالله لم ينقل فيه مذهب النظّام ، بل اكتفى بنقل مذهب المشهور
ومذهب الجاحظ ، كالعلّامة رحمهالله في «التهذيب» ، ثمّ قال : إذا عرفت ذلك ، فمن فروع القاعدة ما
__________________
لو قال : إن شهد
شاهدان بأنّ عليّ كذا ؛ فهما صادقان ، فإنّه يلزمه الآن على القولين معا ، لأنّا قرّرنا أنّ الصدق هو
المطابق للواقع ، وإذا كان مطابقا على تقدير الشهادة ؛ لزم أن يكون ذلك عليه ،
لأنّه يصدق كلّما لم يكن ذلك عليه على تقدير الشهادة لم يكونا صادقين ، لكنّه قد حكم بصدقهما
على تقديرها ، فيكون ذلك عليه الآن. ومثله ما لو قال : إن شهد شاهد عليّ ،
إلى آخره .
أقول : إن أراد
أنّه يثبت الحقّ على المذهبين دون مذهب النظّام.
ففيه ما مرّ ، بل
هاهنا أوضح لظهور أنّ مراد القائل ليس مجرّد أنّ ما يخبره الشاهد هو مطابق
لاعتقاده فقط ، وأنّ هذا الاحتمال في غاية البعد من هذا الإطلاق في هذا المثال ،
وإن كان القائل على مذهب النظّام أيضا.
وإن أراد نفس
تفريع المسألة على معنى الصدق على المذهبين.
ففيه نظر آخر لا
دخل له بما نحن فيه ، وهو منع استلزام ذلك ثبوت الحقّ ، بل الحقّ خلافه ؛ وفاقا
للمتأخّرين ، وتفصيله في كتب الفروع.
ثمّ إنّ العضديّ
قال في آخر كلامه : وهذه المسألة لفظية لا يجدي الإطناب فيها كثير نفع .
والظاهر أنّه أراد
من كون المسألة لفظية هو كون الخلاف في تفسير اللّفظ لا
__________________
المعنى المشهور
للنزاع اللّفظي كما يظهر من التفتازاني أيضا. ولكن يمكن أن يكون مراده من عدم
النفع هو ما ذكرنا لا ما ذكره التفتازاني ، فإنّه قال في شرح هذا الكلام : المسألة
لفظية أي لغوية لا يتعلّق بعلم الاصول كثير تعلّق ، إذ المقصود تحقيق المعنى الذي
وضع لفظ الصدق والكذب بإزائه ، وليس المراد أنّه نزاع لفظي يتعلّق بالاصطلاح على
ما يشعر به كلام الآمدي ، لأنّه لا قائل بنقل اللّفظين عن معناهما اللّغوي. انتهى .
وفيما ذكره تأمّل
، إذ كون المسألة لغوية لا يوجب عدم تعلّقها بعلم الأصول ، ولا يوجب عدم النفع
بسبب كونه غير متعلّق بالأصول ، ولا ريب أنّ كثيرا من المسائل الأصولية من المسائل
اللّغوية ، كالنزاع في أنّ صيغة (افعل) للوجوب أو لا ، وكذا صيغة (لا
تفعل) للحرمة أم لا ، وأنّ الجمع المحلّى باللّام يفيد العموم أم لا ، وكذا المفرد
المحلّى ، وهكذا.
فإن قيل : نعم ،
ولكن هناك فرق ، وهو أنّ ما يبحث عنه في علم الأصول من هذه المسائل ، هو ما كان
بمنزلة القاعدة لاستخراج المسائل الفرعية ، كالنّزاع في
__________________
الأوضاع الهيئيّة
كصيغة (افعل) ، والمشتقّ والجمع المحلّى ، وأمثال ذلك ، مركّبا كان أو مفردا ،
ومثل أنّ الضمير المتعقّب للعام هل يخصّصه أم لا في مثل : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)،
ومثل أنّ الضمير الذي سبقه مضاف ومضاف إليه مثل : له عليّ ألف درهم إلّا نصفه
، هل يرجع إلى الأقرب أو الأبعد مع إمكانهما ، فيتفرّع عليه استثناء نصف الدّرهم أو الخمس
مائة ، بل وبعض الأوضاع الماديّة أيضا من جهة العموم والخصوص وغيرهما ، كالنزاع في كلمة (كلّ) أنّه للعموم أم لا ، وكذلك (من) و
(ما) وأنّهما لذوي العقول أو لغيرهم ، بل في أصل منسبك اللّفظ فيما حصل فيه تغيير
الاصطلاح ، كالنزاع في أنّ الصلاة والصوم معناهما الأركان المخصوصة أم لا ، ممّا
ادّعي فيها ثبوت الحقيقة الشرعية وغيرها ، بل وكثير من القواعد المذكورة في علم
العربية ، مثل معاني الحروف ك : (الباء) ، و (من) ، و (إلى) وغير ذلك.
وبالجملة ، ما
يتعلّق بمعرفة حال استخراج الأحكام الشرعية بأن ينازع في أنّ اللّفظ هل يفيد هذا
الحكم ، أم هذا الحكم كصيغة الأمر والنّهي أو هل يفيد عموم الحكم أو خصوصه ، وهل
يفيد إخراجه عن الحكم أم لا ، كألفاظ العامّ والخاصّ. وكذلك ما يتعلّق بالموضوعات
التي اخترعها الشارع ، فهل تصرّف الشارع في أوضاع الألفاظ ليحمل على معانيها التي
اصطلحها أم لا ، وهكذا.
__________________
ولا يبحث في علم
الأصول عن سائر الأوضاع المادية ، مثل أنّ الصّعيد هو التراب أو وجه الأرض ، وهل الإنفحة هو الكرش أو الشيء الأصفر الذي ينجمد فيه اللّباء وهكذا.
ولا ريب أنّ الصدق والكذب من قبيل الصّعيد والإنفحة ، لا من قبيل صيغة (افعل)
وأمثالها ، ولا من باب الصّلاة والصّوم وأمثالهما لعدم تجدّد اصطلاح فيهما ، كما
أشار إليه التفتازاني.
قلت : ولكن نرى
أنّ الاصوليين يبحثون عن معنى الخبر والإنشاء والأمر والنّهي وأمثالها لما يترتّب
عليها من الثمرات ، وذلك لأجل احتمال تجدّد الاصطلاح أو دعوى ثبوته وتغاير العرف
واللّغة فيها ، ولمّا كان معرفة أمثال المذكورات ممّا يتوقّف عليه معرفة الأحكام
الشرعية وطريق استنباطها ، ولذلك يبحث عنها في علم الأصول ، فكذلك ما يتوقّف معرفة
المذكورات عليها ، فإذا كان لفظ مستعمل في تعريف المذكورات ، وكان مختلفا فيه في
اللّغة ؛ فلا يتمّ معرفة المذكورات إلّا بتحقيق معنى ذلك اللّفظ ، فلفظ الصدق
والكذب ممّا يتوقّف عليه معرفة الخبر ، ولا يتمّ البحث عن حال الخبر ولا يتميّز
حقيقته إلّا بمعرفتهما ، فليس حالهما مثل حال الصّعيد والإنفحة.
فالتحقيق ، أنّ
البحث في هذين اللّفظين من هذه الجهة لا من حيث دعوى تغيير الاصطلاح كما نقل عن
الآمدي ، ولا أنّه محض الكلام في المعنى اللّغوي حتّى لا يكون له تعلّق بمباحث
الأصول.
__________________
فبقي الكلام في
أنّ البحث في تفسير اللّفظين والخلاف في معناهما هل هو نزاع لفظيّ بالمعنى المشهور
أو نزاع حقيقي؟ وقد عرفت الوجه ، وأنّ الظاهر أنّه ليس بلفظيّ ، لكن لا ثمرة فيه
يعتدّ بها.
ثمّ إنّ كلام
العضديّ لمّا كان في آخر المبحث قابلا لما ذكرنا لأنّه ذكر المذاهب الثلاثة. ثمّ
قال : والذي يحسم النزاع الإجماع على أنّ اليهوديّ إذا قال : الإسلام حقّ ، حكمنا
بصدقه ، وإذا قال خلافه حكمنا بكذبه.
وهذه المسألة
لفظية لا يجدي الإطناب فيها كثير نفع ، فيمكن تنزيل ما ذكره من كون المسألة لفظية
، إلى ما ذكرنا.
وأمّا كلام غيره ،
فلا يمكن تنزيله على ذلك ، بل مرادهم أنّ النزاع في ثبوت الواسطة لفظيّ ، منهم
السيّد عميد الدّين في «شرح التهذيب» بل هو الظاهر من ابن الحاجب ، حيث عقد المسألة لبيان حصر الخبر في القسمين ، ونقل
القول بالواسطة عن الجاحظ. وقال في آخر كلامه : وهي لفظيّة ، ومرجع الضمير المسألة
المعقودة.
ونقله الفاضل
الجواد في «شرح الزبدة» أيضا وتنظّر فيه ، قال بعد نقل قول الجاحظ
بإثبات الواسطة وردّه : واعلم أنّ النزاع في هذه المسألة كاللّفظيّ ، فإنّا
__________________
نقطع أنّ كلّ خبر
فإمّا مطابق للمخبر عنه ، أو لا ، فإن اكتفى في الصدق بالمطابقة كيف كان والكذب
بعدم المطابقة كيف كان ، وجب القطع بأنّه لا واسطة ، وإن اعتبر العلم بالمطابقة
أيضا في الصدق والعلم بالعدم في الكذب ، يثبت الواسطة بالضّرورة ، وهو الخبر الذي
لا يعلم فيه المطابقة ، كذا قيل. وفيه نظر يعلم وجهه بأدنى ملاحظة ، انتهى.
أقول : وجه النظر
، أنّ النزاع في إثبات الواسطة بعينه هو النزاع في معنى الصدق والكذب وليس شيئا
على حدة حتّى يتفرّع عليه ويصير النزاع لفظيا ، فلذلك عدل العضدي عمّا هو ظاهر عبارة ابن الحاجب ، وفسّر
اللّفظي بما هو خلاف المشهور ، وقال : إنّه ليس فيها كثير نفع ، إذ
النزاع اللّفظي المصطلح لا نفع فيه أصلا ، لا إنّه قليل النفع ، فأخذ بمجامع
المسألة وتوابعها ولوازمها ، ونظر إلى مآل المنازعات ، وجعله نفس الخلاف في معنى
الصّدق والكذب ، وقال : إنّه خلاف لغويّ قليل الفائدة.
فقوله : لا يجدي
الإطناب فيها كثير نفع ، صفة تقييديّة لا توضيحيّة. ولو كان الفروع التي ذكرها
شيخنا البهائي رحمهالله كما ذكره ، لكان فيه نفع كثير ، فتأمّل في أطراف هذا الكلام ومعانيه وتعمّق النظر في
غمار مقاصده ومبانيه ولا تنظر إلى تفرّدي به كأكثر مقاصد الكتاب ، ولا تلحظ إليه
بعين الحقارة وإليّ بعين العتاب ، ثمّ بعد ذلك فإمّا قبولا وإمّا إصلاحا وإمّا
عفوا ، والله الموفّق للصواب.
__________________
تنبيهان :
الأوّل : المعتبر في الاتّصاف بالصدق
والكذب هو ما يفهم من الكلام ظاهرا لا ما هو المراد منه ، فلو قال : رأيت حمارا ، وأراد منه البليد من دون نصب قرينة
، فهو يتّصف بالكذب ، وإن لم يكن المراد مخالفا للواقع.
وكذلك إذا رأى
زيدا واعتقد أنّه عمرو ، وقال : رأيت رجلا ، فهو صادق ، لأنّ المفهوم من اللّفظ
مطابق للواقع ، بل والاعتقاد أيضا ، وإن لم يكن معتقده في شخص الرّجل موافقا للواقع ، فهو
على مذهب الجاحظ أيضا صدق.
والمعتبر في
مطابقة الواقع هو مطابقته واقعا ، ولكن يكفي في الكشف عن ذلك اعتقاد المطابقة وإن
كان مخالفا لنفس الأمر. ونظيره ما أشرنا اليه في العدالة ، فإنّ اعتقاد كونه عدلا
في نفس الأمر ، يكفي في اتّصافه بالعدالة.
نعم ، ذلك
الاتّصاف دائر مدار عدم ظهور الفساد ، ثمّ يتبدّل.
الثاني : المشهور أنّ الصّدق والكذب من
خواصّ النسبة الخبريّة دون التقييديّة ، مثل : يا زيد الفاضل ، وغلام زيد.
وقيل بعدم الفرق
بينهما في ذلك ، لأنّ النسبة التقييدية أيضا إمّا مطابق للواقع أو غير مطابق
للواقع ، ف : يا زيد الإنسان ، صادق ، و : يا زيد الفرس ، كاذب ، و : يا زيد
الفاضل ، محتمل.
والتحقيق على ما
ذكره بعض المحقّقين : أنّ النسبة الذهنية في المركّبات
__________________
الخبرية تشعر من حيث هي هي بوقوع نسبة اخرى خارجة عنها ، ولذلك احتملت
عند العقل مطابقتها أو لا مطابقتها.
وأمّا النسبة
الذّهنية في المركّبات التقييديّة فلا إشعار لها من حيث هي هي ، بوقوع نسبة اخرى
تطابقها أو لا تطابقها ، بل إنّما أشعرت بذلك من حيث إنّ فيها إشارة إلى نسبة اخرى
خبريّة.
بيان ذلك ، إنّك
إذا قلت : زيد فاضل ، فقد اعتبرت بينهما نسبة ذهنية على وجه يشعر بذاتها بوقوع
نسبة اخرى خارجة عنها ، وهي أنّ الفضل ثابت له في نفس الأمر ، لكن تلك النسبة
الذهنية لا تستلزم تلك النسبة الخارجية استلزاما عقليّا ، فإن كانت النسبة
الخارجية المشعر بها واقعة ، كانت الأولى صادقة ، وإلّا فكاذبة ، وإذا لاحظ العقل
تلك النسبة الذهنية من حيث هي هي ، جوّز معها كلا الأمرين على السّواء ، وهو معنى
الاحتمال.
وأمّا إذا قلت :
يا زيد الفاضل ، فقد اعتبرت بينهما نسبة ذهنية على وجه لا يشعر من حيث هي هي ؛
بأنّ الفضل ثابت له في الواقع ، بل من حيث إنّ فيها إشارة إلى معنى قولك : زيد
فاضل ، إذ المتبادر إلى الأفهام أن لا يوصف شيء إلّا بما هو ثابت له في الواقع ،
فالنسبة الخبرية يشعر من حيث هي هي بما يوصف باعتباره بالمطابقة والّلامطابقة ، أي
الصدق والكذب ، فهي من حيث هي هي محتملة لهما. وأمّا التقييديّة فإنّها تشير إلى
نسبة خبرية ، والإنشائية تستلزم نسبا خبرية ،
__________________
فهما بذلك
الاعتبار يحتملان الصدق والكذب ، وأمّا بحسب مفهومهما ، فلا تصحّ ، إنّ الحقّ هو
المشهور من كون الاحتمال من خواصّ الخبر ، انتهى .
ويمكن أن يكون
مرادهم بالاختصاص هو الإطلاق العرفيّ حقيقة ، يعني أنّهم لا يصفون بالصدق والكذب
حقيقة إلّا أنّ النسبة الخبريّة المقصودة بالذّات ، فإطلاقهما على غيرهما مجاز.
ويتفرّع على ذلك ، الأحكام المتعلّقة بالصدق والكذب ، فمن نذر لمن قال صدقا
درهما ، وقال أحد : يا زيد الفاضل ، لا يبرّ النذر بإعطائه وإن وافق فضله للواقع ،
كما يقتضيه أصل الحقيقة.
__________________
قانون
الخبر ينقسم إلى ما هو ما معلوم الصدق
ضرورة أو نظرا ، أو معلوم الكذب (١) ، وما لا يعلم صدقه وكذبه. وهو إمّا يظنّ صدقه أو كذبه ، أو
يتساويان. فهذه أقسام ستّة.
فالأوّل : إمّا ضروري
بنفسه كبعض المتواترات أو بغيره ، كقولنا : الواحد نصف الاثنين ، فإنّ ضروريّته
ليست من مقتضى الخبر من حيث إنّه هذا الخبر ، بل لمطابقة الخبر لما هو كذلك في نفس
الأمر ضرورة.
والثاني : مثل خبر الله تعالى والمعصومين عليهمالسلام ، والخبر الموافق للنظر الصحيح.
__________________
والثالث : هو
الخبر الذي علم مخالفته للواقع.
والرابع : مثل خبر
العدل الواحد.
والخامس : مثل خبر
الكذوب.
والسادس : مثل خبر
مجهول الحال.
ثمّ ينقسم الخبر
باعتبار آخر إلى متواتر وآحاد.
أمّا المتواتر ،
فعرّفه الأكثرون : بأنّه خبر جماعة يفيد بنفسه القطع بصدقه .
وذكروا أنّ التقييد
بنفسه ، ليخرج خبر جماعة علم صدقهم لا بنفس الخبر ، بل إمّا بالقرائن الزّائدة على
ما لا ينفكّ الخبر عنه عادة من الأمور الخارجية ، كما سيجيء في الخبر المحفوف
بالقرائن ، وإمّا بغير القرائن كالعلم بمخبره ضرورة أو نظرا.
ومرادهم بالقرائن
التي لا ينفكّ عنها الخبر عادة ، هو ما يتعلّق بحال المخبر ، ككونه موسوما بالصدق
وعدمه ، والسّامع ، ككونه خالي الذهن وعدمه ، والمخبر عنه ، ككونه قريب الوقوع
وعدمه ، ونفس الخبر ، كالهيئات المقارنة له الدالّة على الوقوع وعدمه ، فقد يختلف
الحال باختلاف الأمور المذكورة.
أقول : ويشكل ما
ذكروه بأنّهم اشترطوا في التواتر تعدّد المخبرين وكثرتهم إلى حدّ يؤمن تواطؤهم على
الكذب عادة. ولا ريب أنّ مقتضى ذلك أن يكون للكثرة مدخلية في حصول العلم بحيث لو
لم تكن لم يحصل العلم.
وقولهم : إنّ
التقييد بنفسه احتراز عمّا لو حصل العلم من القرائن الخارجية عن لوازم الخبر من
الأمور المتقدّمة ، يقتضي أنّه إذا حصل العلم بسبب خبر جماعة
__________________
خاصّة من حيث
خصوصيّات الخبر يكون متواترا مطلقا ، سيّما مع ملاحظة ما يذكرونه في نفي تعيين العدد ، وأنّ
المدار بما يحصل منه العلم ، وهو يختلف باختلاف المواقع ، فلا يقتضي اعتبار ما ذكر
؛ اعتبار الكثرة فيه.
فعلى هذا ، لو
أخبر ثلاثة بواقعة وحصل العلم بها من جهة خصوص الواقعة وملاحظة صدق المخبرين وخلوّ
ذهن السّامع من الشبهة ، يلزم أن يكون هذا متواترا ، مع أنّ الظاهر أنّهم لا
يقولون به.
والحاصل ، أنّ
اشتراط الكثرة أمر زائد على اعتبار كون المخبرين جماعة ، فالمعتبر هو الجماعة
الكثيرة لا مطلق الجماعة ، فالتعريف على ما ذكروه غير مطّرد . فلو لم نمنع من مدخليّته حال المخبرين والسّامعين ونفس
الخبر في حصول العلم ، فلا بدّ أن نعتبرها في حصول العلم بالكثرة ، فالأولى أن يقال أنّه خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب
عادة ، وإن كان للوازم الخبر مدخلية في إفادة ذلك الكثرة العلم.
ثمّ إنّ الحقّ
إمكان تحقّق الخبر المتواتر وحصول العلم به ، وقد خالف في ذلك السمنيّة والبراهمة
، وهما طائفتان من أهل الهند أولاهما عبدة الأوثان ، قائلة بالتناسخ ، والثانية من الحكماء على زعمهم ، وكلاهما نافيتان
للأديان والنبوّات.
__________________
وبعضهم خصّ المنع
بما لو كان الخبر عمّا مضى ، لا الموجود.
لنا : الجزم بوجود
البلدان النائية كالهند والصين ، والأمم الخالية كقوم فرعون وقوم موسى عليهالسلام ضرورة من دون تشكيك ، كالجزم بالمشاهدات. وللسّمنية شبه
واهية ، مثل أنّهم قالوا أوّلا : إنّه كاجتماع الخلق الكثير على أكل طعام واحد ،
وهو محال عادة.
وفيه : مع أنّه
مدفوع بوقوعه ـ كما ذكرنا ـ قياس مع الفارق ، لوجود الدّاعي فيما نحن
فيه دون ما ذكروا.
وثانيا : أنّه لو
حصل العلم به ، لزم اجتماع النقيضين لو تواتر نقيضه أيضا.
وفيه : أنّ هذا
الفرض محال.
وثالثا : لو حصل
العلم به ، لحصل بما نقله اليهود والنصارى عن نبيّهم ، بأنّه لا نبيّ بعده ، فيبطل
دين محمّد صلىاللهعليهوآله.
وفيه : منع تحقّق
التواتر فيما ذكروه ، لاشتراط تساوي الوسائط في إفادة العلم بالكثرة ، وبخت نصّر
قد استأصل اليهود فلم يبق منهم عدد التواتر. وكذلك النصارى في أوّل الأمر لم
يكونوا عدد التواتر ، مع أنّ عدم العلم بتساوي الطبقات يكفي في المنع ، ولا يهمّنا
إثبات العدم.
واعلم أنّ هاهنا
دقيقة لا بدّ أن ينبّه عليها ، وهو أنّه قد يشتبه ما يحصل العلم فيه بسبب التسامع
والتضافر وعدم وجود المخالف بالتواتر ، فمثل علمنا بالهند والصين ورستم وحاتم ،
ليس من جهة التواتر ، لأنّا لم نسمع إلّا من أهل عصرنا ، وهم لم يرووا لنا عن
سلفهم ذلك أصلا ، فضلا عن عدد يحصل به التواتر ، وهكذا.
__________________
وذلك وإن لم
يستلزم عدم حصول التواتر في نفس الأمر ، إلّا أنّ علمنا لم يحصل من جهته ، بل
الظاهر أنّه من جهة أنّ أهل العصر قاطبة مجمعون على ذلك ، إمّا بالتصريح أو بظهور
أنّ سكوتهم مبنيّ على عدم بطلان هذا النقل ، فكثرة تداول ما ذكر على الألسنة وعدم
وجود مخالف في ذلك العصر ، ولا نقل عمّن سلف في غيره ؛ تفيد القطع بصحّته ، وذلك
نظير الإجماع على المسألة ، وليس ذلك من باب التّواتر. فالظاهر أنّ وجود البلاد
النائية والأمم الخالية لنا من هذا الباب ؛ لا من باب التواتر ، بل الذي يحصل لنا من باب التواتر في هذا العصر ليس من
باب تلك الأمثلة. والمثال المناسب لهذا العصر هو نقل زلزلة وقعت في بلدة ، فتكاثر
الواردون والمشاهدون لذلك ، وتضافروا في الإخبار حتّى حصل القطع. فعلى هذا ،
فاجتماع اليهود والنصارى على الخبر أو على ملّتهم ليس من إحدى القبيلتين.
أمّا التواتر
فلعدم العلم بتساوي الطبقات ، بل العلم بالعدم كما ذكرنا.
وأمّا الإجماع ،
فلوجود المخالفة من المسلمين وغيرهم ، فلا تغفل ، فإنّ أكثر الأمثلة التي يذكرون
في هذا الباب من باب الثاني لا الأوّل وكم من فرق بينهما.
ورابعا : أنّ
الكذب يجوز على كلّ واحد من الآحاد ، فيجوز على الجميع لأنّه عبارة عن الآحاد.
__________________
وفيه : منع اتّحاد
حكم المجموع مع الآحاد ، فإنّ العسكر يفتح البلاد ويظفر ولا يتمشّى ذلك من كلّ
واحد ، والعشرة من حكمها أنّ الواحد جزئها بخلاف الواحد ، فلا يلزم من حصول العلم من إخبار الجميع بسبب التعاضد
والتّقوي حصوله من كلّ واحد.
وذكروا غير ذلك
أيضا من الشبه الواهية الظاهرة الدفع ، مع أنّها تشكيكات في مقابلة الضرورة فلا
يستحقّ الجواب ، كالشبّه السّوفسطائية المنكرين للحسيّات ، فإنّ غاية مراتب الجواب
، الضّرورة ، وهم ينكرونها.
ولهم شبهتان اخريان إنّما تردان على من قال بأنّ العلم الحاصل
من التواتر ضروريّ كما هو المشهور ، وهو أنّه لو حصل العلم به بالضّرورة لما
فرّقنا بينه وبين سائر الضروريات ، واللّازم باطل ، لأنّا نفرّق بين وجود الإسكندر
وكون الواحد نصف الاثنين ، وأنّه لو كان ضروريا لما اختلف فيه ، ونحن لكم مخالفون .
وفيهما : مع
أنّهما لا يردان إلّا على القول بكون العلم به ضروريا لا مطلقا ، أنّه يرد على
الأوّل : أنّ الفرق إنّما هو من جهة تفاوت الضّروريات في حصول العلم من جهة كثرة
المؤانسة ببعضها دون بعض.
وعلى الثاني : أنّ
الضرورة لا تستلزم عدم المخالف كما نشاهد في السّوفسطائية ، وإنّما هو من جهة بهت وعناد.
__________________
تنبيهات
الأوّل :
إنّهم اختلفوا في كيفيّة العلم الحاصل
بالتواتر ، فالمشهور أنّه
ضروريّ ، وقال الكعبي وأبو الحسين والجويني وإمام
__________________
الحرمين إنّه نظري ، وعن الغزّالي الميل إلى الواسطة .
وذهب السيّد رحمهالله إلى التوقّف في موضع ، وإلى التفصيل في موضع آخر .
وارتضاه الشيخ في «العدّة»
، والأقرب عندي القول بالتفصيل.
احتجّ المشهور :
بأنّه لو كان نظريا لتوقّف على توسّط المقدّمتين ، واللّازم منتف لأنّا نعلم علما قطعيّا بالمتواترات ، مثل
وجود مكّة وهند وغيرهما مع انتفاء ذلك.
__________________
وأيضا لو كان
نظريّا لما حصل لمن لا قدرة له على النظر كالعوامّ والصبيان. وأيضا يلزم أن لا
يعلمه من ترك النظر قصدا إذ كلّ علم نظري ، فإنّ العالم به يجد نفسه أوّلا شاكّا
ثمّ طالبا ، ونحن لا نجد أنفسنا طالبين لوجود مكّة.
ويمكن دفع الأوّل
: بأنّا نمنع عدم الاحتياج إلى توسّط المقدّمتين في المتواترات مطلقا ، نعم يتمّ
فيما حصل القطع من جهة التواتر اضطرارا ، فإنّ المتواترات على قسمين :
قسم منها : ما
يحصل بعد حصول مبادئها اضطرارا وبدون الكسب ، كالمشاهدات وضروريات الدّين ووجود
مكّة وهند وأمثال ذلك.
ومنها : ما هو
مسبوق بالكسب ، كالمسائل العلميّة التي لا بدّ أن يحصل التتبّع فيها من جهة ملاحظة
الكتب وملاقاة أهل العلم والاستماع منهم اصولية كانت أو فروعيّة. ولا ريب أنّ
التتبّع واستماع الخبر يتدرّج في حصول الرّجحان في النظر إلى حيث يشرف المتتبّع
على حصول العلم ، فيلاحظ حينئذ المقدّمات من كون هذه الأخبار مسموعة ومنوطة بالحسّ
، وأنّ هؤلاء الجماعة الكثيرين لا يتواطئون على الكذب ، ثمّ يحصل له القطع
بمضمونها ، فهذا متواتر نظري.
ومن علامات
النظريّ ، أنّ بعد حصول العلم أيضا إذا ذهل عن المقدّمتين قد يتزلزل القطع ويحتاج
إلى مراجعة المقدّمات ، وهو ممّا يحصل في كثير من المتواترات ، بخلاف الضروريّ.
فالضروريّ وإن كان أيضا لا ينفكّ عن المقدّمات ، لكنّها لا تحتاج إلى المراجعة
إليها والاعتماد عليها ما دام ضروريا ، فإن كان مراد المشهور هو ذلك فمرحبا بالوفاق ، وإن كان مرادهم أنّ كلّ متواتر لا يحتاج
__________________
إلى النظر مطلقا ،
فهو مكابرة. وإلى ما ذكرنا ينظر كلام سيّدنا المرتضى رحمهالله حيث قال : إنّ أخبار البلدان والوقائع والملوك وهجرة النبيّ صلىاللهعليهوآله ومغازيه وما يجري هذا المجرى ، يجوز أن يكون العلم بها
ضرورة من فعل الله تعالى ، ويجوز أن تكون مكتسبة [يكون مكتسبا] من أفعال العباد.
وأمّا ما عدا ذلك
مثل العلم بمعجزات النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وكثير من أحكام الشريعة والنصّ الحاصل على الأئمّة عليهمالسلام ، فنقطع على أنّه مستدلّ عليه ، وهذا هو التفصيل الذي أشرنا إليه وارتضاه الشيخ في «العدّة» .
والظاهر أنّ القول
بالتوقّف المنسوب إليه أيضا إنّما هو في القسم الأوّل من الضّروريّات.
ومنشأ التوقّف
الشكّ والتأمّل في أنّ العلم هل يحصل بجعل الله تعالى اضطرارا من دون اختيار العبد
بعد حصول المقدّمات ، أو يحصل من جهة كسب العبد والتأمّل في المقدّمات من كون
المخبرين عددا يمتنع كذبهم ، وأنّهم أخبروا عن حسّ ، وإن لم يكن متفطّنا بها حين
حصول العلم ، إذ يصدق حينئذ أنّ العلم ناشئ عن الكسب وإن لم يتفطّن بالمكتسب عنه
حين العلم ، إذ لا فرق بين المعلومات الموصلة إلى المطلوب التي كانت حاصلة بالعلم
الإجمالي أو التفصيلي. فإنّ من
__________________
أسّس أساسا وأصّل
أصلا وقاعدة يتفرّع عليه فروع كثيرة ، فقد اكتسب في ذلك ، فكلّما ترتّب عنده نتيجة
على ما أصّله بسبب علمه به إجمالا ، يصدق أنّه من كسبيّاته ، وإن احتمل أيضا أن
يكون مع ذلك إلقاء العلم في روعه بفعل الله تعالى ، ومجرى عادته عقيب إخبار هذا
القدر من المخبرين.
وممّا ذكرنا ، ظهر أنّ المتواتر بعد العلم بالتواتر أيضا يمكن أن يكون
نظريا ، فضلا عن ابتداء الأمر.
وأمّا الدّليل الثاني
، ففيه : أنّ العوامّ والصبيان أيضا لهم معلومات نظرية بالضّرورة ، وأنّهم
يستفيدون ذلك من المقدّمات ، ويترتّب في نظرهم مقدّمات الدّليل ويحصل لهم النتيجة
، لكنّهم لا يتفطّنون بها من حيث هي كذلك ، والمقدّمات العادية لا إشكال فيها ولا
دقّة ؛ بحيث لم تحصل للعوامّ والصبيان ، بل مدار العالم وأساس عيش بني آدم غالبا
على المقدّمات العادية التي يفهمها أكثر العقلاء ، وإلّا فلا نجد أحدا من غير
العلماء والأزكياء يعلم ضرّه من نفعه وخيره من شرّه ، مع أنّ ذلك مبتن على قاعدة
إدراك الحسن والقبح العقليّ ولزوم الاجتناب عن المضارّ وحسن ارتكاب المنافع.
والنظريّ هو ما كان العلم به موقوفا على المقدّمتين ، لا بالعلم بهما . ويظهر ممّا ذكرنا ، الجواب عن الدّليل الثالث ، فلا نعيد.
__________________
واحتجّ القائلون
بكونه نظريا : بأنّه لو كان ضروريا لما احتاج إلى توسّط المقدّمتين ، والتالي باطل
لأنّه يتوقّف على العلم بأنّ المخبر عنه محسوس ، وأنّ هذه الجماعة لا يتواطئون على
الكذب.
وأجيب : بمنع
التوقّف على ذلك ، إذ العلم بالصدق ضروري حاصل بالعادة ، ووجود صورة الترتيب
للمقدّمتين لا يستلزم الاحتياج إليه ، على أنّ مثل ذلك موجود في كلّ ضروري. فإنّ
قولنا : الكلّ أعظم من الجزء ، يمكن أن يقال لأنّ الكلّ مشتمل على جزء آخر غيره ،
وما هو كذلك فهو أعظم.
وممّا ذكرنا من
بيان التفصيل يعرف حقيقة الحال ، وأنّ الحقّ هو التفصيل.
وأمّا مذهب
الغزّالي فالذي نقل عنه في كتابه «المستصفى» أنّه قال : العلم الحاصل بالتواتر ضروري ، بمعنى أنّه لا
يحتاج إلى الشعور به بتوسّط واسطة مفضية إليه ، مع أنّ الواسطة حاضرة في الذّهن ،
وليس ضروريا بمعنى أنّه حاصل من غير واسطة ، كقولنا : الموجود لا يكون معدوما ،
فإنّه لا بدّ فيه من حصول مقدّمتين :
إحداهما : أنّ
هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع.
الثانية : أنّهم
قد اتّفقوا على الإخبار عن الواقعة ، لكنّه لا يفتقر إلى ترتيب المقدّمتين بلفظ
منظوم ، ولا إلى الشّعور بتوسّطهما وإفضائهما إليه.
__________________
وقال التفتازاني : إنّ حاصل كلامه أنّه ليس أوّليا ولا كسبيا ، بل من قبيل القضايا التي قياساتها معها ، مثل
قولنا : العشرة نصف العشرين.
وأنت بعد التأمّل
فيما ذكرنا تعرف أنّه ليس من هذا القبيل ، وأنّ الحقّ ما ذكرنا من التفصيل.
والظاهر أنّ ما
ذكره الغزالي نوع من النظري لا واسطة ، ولذلك نسب العلّامة في «التهذيب» القول بالنظرية إليه ، ولعلّ مراده الغزالي ، أنّه من باب
نظريات العوامّ ، فإنّهم وإن استفادوها من المقدّمتين ، لكنّهم لم يتفطّنوا بهما ،
بكيفيّتهما المترتّبة في نفس الأمر ، فكأنّ الغزالي قسّم النظري إلى قسمين بالنسبة
إلى الناظرين ، وهو في الحقيقة تقسيم للناظرين لا للنظري ، فكأنّه قال : العالم
والعامّيّ كلاهما مساويان في النظر فيما نحن فيه ؛ دون سائر النظريات.
__________________
الثاني :
إنّهم بعد ما عرّفوا المتواتر بما نقلنا
عنهم ، قالوا : إنّ هذا
المعنى يتحقّق بأمور ، فيشترط في تحقّق هذا الخبر الذي يفيد العلم بنفسه أمور :
منها ما يتعلّق بالمخبرين ، ومنها ما يتعلّق بالسّامع.
فأمّا الأوّل : فهو
كون المخبرين بالغين في الكثرة حدّا يمتنع معه في العادة تواطؤهم على الكذب ، وكون
علمهم مستندا إلى الحسّ ، فإنّه في مثل حدوث العالم لا يفيد قطعا ، واستواء
الطرفين والواسطة ، بمعنى أن يبلغ كلّ واحد من الطبقات حدّ الكثرة المذكورة
، وذلك فيما لو حصل هناك أكثر من طبقة ، وإلّا فلا واسطة ولا تعدّد في الطبقات.
وربّما زاد بعضهم
اشتراط كون إخبارهم عن علم ، ولا دليل عليه ، بل يكفي حصول العلم من اجتماعهم وإن كان بعضهم ظانّين ،
مع كون الباقين عالمين.
وأقول : الكثرة
المذكورة التي اشترطوا هنا إن كانت مأخوذة في ماهيّة المتواتر ، فالتعريف مختلّ
لعدم دلالته على ذلك ، إذ مع ملاحظة مدخليّة لوازم الخبر في حصول العلم وعدم ضرره
في الحدّ ، فلا حاجة إلى الكثرة ، فإذا حصل العلم بخبر ثلاثة بسبب صدقهم وصلاحهم
وثقتهم سيّما مع انضمام حال نفس الخبر ، فيحصل العلم ويصدق الحدّ على ذلك ، فيكفي
ذلك في تحقّق التواتر ، وإن لم تكن مأخوذة في ماهيّته ، فما معنى قولهم : ويشترط
في حصول التواتر وتحقّقه
__________________
كون المخبرين في
الكثرة إلى هذا الحدّ ، إذ ذلك من مقوّمات الماهيّة عندهم ، وإلّا فلا معنى لكون
ذلك شرطا لحصول العلم بالمتواتر بعد ما أخذوا إفادة العلم بنفسه في تعريفه ، فإنّ
ما يفيد العلم بنفسه لا يتوقّف حصول العلم بسببه على شرط آخر ، كما لا يخفى.
وأيضا قولهم : ويشترط في حصول التواتر كون المخبرين في الكثرة إلى هذا
الحدّ ، إمّا أن يراد به اعتبار الكثرة المطلقة باعتبار الجعل والاصطلاح في
التواتر ، فما معنى تقييده بكونهم حدّا يمتنع تواطؤهم على الكذب ، وما وجه تخلية
التعريف عن لفظ الكثرة ، إذ المراد كثرة الجماعة لا الكثرة مطلقا حتّى تشتمل الثلاثة ، مع أنّه ممّا يناقش في صدقه في
الثلاثة أيضا ، فلا يحسن أن يقال أنّ الثلاثة أيضا كثير.
وإمّا أن يراد به
الكثرة المقيّدة بما ذكر ، وحينئذ فنقول : إن أريد من امتناع تواطؤهم على الكذب عادة من جهة
نفس الكثرة مع قطع النظر عن لوازم الخبر وعن كلّ شيء ، فمع أنّهم لا يقولون به ،
لا يلائم تخصيصهم الاحتراز بما كان العلم من جهة القرائن الخارجة عن لوازم الخبر ،
بل لا بدّ أن يحترزوا من القرائن اللّازمة للمخبر أيضا ، فالمتواتر حينئذ هو ما
كان إفادته العلم من جهة الكثرة ؛ لا غير ، مع أنّه ليس لذلك معيار معيّن ، بل
يختلف باختلاف لوازم الخبر جزما ، ولذلك لم يعيّن
__________________
الجمهور للمتواتر
عددا خاصّا.
وإن اريد امتناع
تواطئهم على الكذب بملاحظة خصوصيات المواضع وتفاوت لوازم الخبر ، فيرجع هذا إلى
أنّ هذا الشرط لمحض إدراج قيد الكثرة ، إذ امتناع تواطئهم على الكذب بحسب لوازم
الخبر ، كان مستفادا من قولهم : يفيد بنفسه العلم ، فيرجع الكلام فيه إلى البحث
الأوّل ، وهو أنّ التعريف مختلّ للزوم إدراج قيد الكثرة فيه ، وأنّ
قولهم : بنفسه ، لا يغني عنه.
وبالجملة ،
كلماتهم هنا في غاية الاختلاف ، فالأولى في التعريف ما ذكرنا سابقا ، والذي يحضرني من كلام القوم ما يوافق ما اخترته ،
التعريف الذي اختاره السيّد عميد الدين رحمهالله في «شرح التهذيب» حيث قال : هو في الاصطلاح عبارة عن خبر
أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم.
وأمّا الثاني : فهو كون السّامع غير عالم بما أخبر به لاستحالة تحصيل
الحاصل ، وأن لا يكون قد سبق بشبهة أو تقليد إلى اعتقاد نفي موجب الخبر.
وهذا الشرط ممّا
اختصّ به سيّدنا المرتضى ، ووافقه المحقّقون ممّن تأخّر عنه ، وهو شرط وجيه . وبذلك يجاب عن كلّ من خالف الإسلام ومذهب الإماميّة في
إنكارهم حصول العلم بما تواتر من معجزات النبيّ صلىاللهعليهوآله والنصّ على
__________________
الوصيّ ، وكذلك
كلّ من أشرب قلبه حبّ خلاف ما اقتضاه المتواتر ، لا يمكن حصول العلم له إلّا مع تخليته عمّا شغله عن ذلك إلّا نادرا.
الثالث :
اختلفوا في أقل عدد التواتر .
والحقّ : أنّه لا
يشترط فيه عدد ، وهو مختار الأكثرين. فالمعيار هو ما حصل العلم بسبب كثرتهم ، وهو
يختلف باختلاف الموارد ، فربّ عدد يوجب القطع في موضع دون الآخر.
وقيل : أقلّه
الخمسة ، وقيل : اثني عشر ، وقيل : عشرون ، وقيل : أربعون.
__________________
وقيل : سبعون ، وقيل غير ذلك .
وحججهم ركيكة
واهية لا يليق بالذكر ، فلا نطيل بذكرها وذكر ما فيها .
وقد اشترط بعض
الناس هنا شروطا أخر لا دليل عليها ، وفسادها أوضح من أن يحتاج إلى الذّكر. فمنهم
من شرط الإسلام والعدالة ، ومنهم من اشتراط أن لا يحويهم بلد ليمتنع تواطئهم ، ومنهم من اشترط اختلاف النسب ، ومنهم من
اشترط غير ذلك والكلّ باطل.
ونسب بعضهم إلى الشيعة اشتراط دخول المعصوم عليهالسلام فيهم ، وهو افتراء أو اشتباه بالإجماع.
__________________
تتميم : إذا
تكثّرت الأخبار في الوقائع واختلفت ، لكن اشتمل كلّ منها على معنى مشترك بينها
بالتضمّن أو الالتزام ، وحصل العلم بذلك القدر المشترك بسبب كثرة الأخبار ، فيسمّى
ذلك متواترا بالمعنى ، وقد مثّلوا بذلك بشجاعة عليّ عليه الصلاة والسلام ، وجود
حاتم ، فقد روي عنه عليهالسلام : أنّه فعل في غزوة بدر كذا ، وفي أحد كذا ، وفي خيبر كذا
، وهكذا ، وكذلك عن حاتم أنّه أعطى فلانا كذا وفلانا كذا وهكذا. فإنّ كلّ واحد من
الحكايات الأوّل يستلزم شجاعته عليهالسلام ، وكلّ واحد من الحكايات الأخر يتضمّن جود حاتم ، لأنّ
الجود المطلق جزء الجود الخاصّ.
وفيه مسامحة ،
لأنّ الجود صفة للنفس وليس من جملة الأفعال حتّى تتضمّنه ، بل هو مبدأها وعلّتها ،
فذلك أيضا من باب الاستلزام.
وتحقيق المقام أنّ
التواتر يتصوّر على وجوه :
الأوّل : أن
يتواتر الأخبار باللفظ الواحد ، سواء كان ذلك اللفظ تمام الحديث مثل : «إنّما
الأعمال بالنيّات» ، على تقدير تواتره كما ادّعوه ، أو بعضه كلفظ : «من كنت
مولاه فعليّ مولاه» ، ولفظ : «إنّي تارك فيكم الثّقلين» ، لوجود تفاوت في سائر الألفاظ الواردة في تلك الأخبار.
والثاني : أن
يتواتر بلفظين مترادفين أو ألفاظ مترادفة مثل : إنّ الهرّ طاهر ،
__________________
والسنّور طاهر ،
أو الهرّ نظيف والسنّور طاهر ، وهكذا ، فيكون اختلاف الأخبار باختلاف الألفاظ
المترادفة.
والثالث : أن
يتواتر الأخبار بدلالتها على معنى مستقلّ وإن كان دلالة بعضها بالمفهوم والأخرى
بالمنطوق ، وإن اختلف ألفاظها أيضا مثل : نجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة
الحاصلة من مثل أن يرد في بعض الأخبار أنّ الماء القليل ينجس بالملاقاة. وفي آخر :
الماء الأنقص من الكرّ يتنجّس بالملاقاة. وفي آخر : «إذا كان الماء قدر كرّ لم
ينجّسه شيء» ، بل ويتمّ ذلك على وجه فيما كان النجاسة في تلك الأخبار
مختلفة كما في قوله عليهالسلام : «ولا تشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستسقى منه
الماء» . وقوله عليهالسلام حين سئل عن التوضّي في ماء دخله الدّجاجة التي وطأت العذرة
: «لا إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ» ، وهكذا. فإنّ المطلوب بالنسبة إلى الماء القليل وهو
انفعاله أمر مستقلّ مقصود بالذّات ، لا أنّه قدر مشترك منتزع من أمور ، فإنّ الحكم
لمفهوم الماء القليل لا لخصوصيات أفراده التي يشترك فيها هذا المفهوم ، وذلك أيضا
أعمّ من أن يكون الأخبار منحصرة في بيان هذا المطلب المستقلّ أو مشتملة على بيان
مطلب آخر أيضا.
والرابع : أن
يتواتر الأخبار بدلالة تضمّنية على شيء مع اختلافها ، بأن يكون ذلك المدلول
التضمّني قدرا مشتركا بين تلك الآحاد ، مثل أن يخبر أحد أنّ زيدا
__________________
اليوم ضرب عمروا ،
وآخر أنّه ضرب بكرا ، وآخر أنّه ضرب خالدا ، وهكذا إلى أن يحصل حدّ التواتر مع فرض
الواقعة واحدا ، فإنّه يحصل العلم بوقوع الضرب من زيد وإن لم يحصل العلم بالمضروب.
وكذلك لو اختلفوا في كيفيّات الضّروب . ومن ذلك ورود الأخبار فيما تحرم عنه الزّوجة من الميراث ،
بأن يقال : إنّ حرمانها في الجملة يقينيّ لكن الخلاف فيما تحرم عنه ، فالقدر
المشترك هو مطلق الحرمان الموجود في ضمن كلّ واحد من الحرمانات.
والخامس : أن يتواتر
الأخبار بدلالة التزامية بكون ذلك المدلول الالتزامي قدرا مشتركا بينهما ، مثل أن
ينهينا [ينهانا] الشّارع عن التوضّي عن مطلق الماء القليل إذا لاقاه العذرة ، وعن
الشرب عنه إذا ولغ فيه الكلب ، وعن الاغتسال عنه إذا لاقاه الميتة ، وهكذا ، فإنّ
النّهي عن الوضوء في عرف الشارع يدلّ بالالتزام على النجاسة ، وهكذا الشرب
والاغتسال ، فإنّه يحصل العلم بنجاسة الماء القليل بذلك.
والسادس : أن
يتكاثر الأخبار بذكر أشياء تكون ملزومات للازم ، يكون ذلك اللّازم منشأ لظهور تلك
الأشياء ، مثل الأخبار الواردة في غزوات عليّ عليهالسلام ،
__________________
وما ورد في عطايا
حاتم ، وذلك يتصوّر على وجهين :
الأوّل : أن يذكر
تلك الوقائع بحيث تدلّ بالالتزام على الشجاعة والسّخاوة مثل أن يذكر غزوة خيبر
بالتفصيل الذي وقع ، فإنّه لا يمكن صدورها بهذا التفصيل والتطويل والمقام الطويل
والكرّارية من دون الفرار [الفرارية] ، إلّا عن شجاع بطل قوي بالغ أعلى درجة
الشّجاعة ، وهكذا غزوته عليهالسلام في أحد وفي الأحزاب وغيرها ، فباجتماع هذه الدّلالات يحصل
العلم بثبوت أصل الشجاعة التي هي منشأ لهذه الآثار ، وهكذا عطايا حاتم.
والفرق بين هذا
وسابقه أنّ الدلالة في الأوّل مقصودة جزما ، والأخبار مسوقة لبيان ذلك الحكم الالتزامي
، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه قد لا يكون بيان الشّجاعة مقصودا أصلا ؛ وإن دلّ عليها
تبعا ، فحصول العلم فيما نحن فيه ، من ملاحظة كلّ واحد من الأخبار ثمّ تلاحق كلّ
منها بالآخر.
والثاني : أن يذكر
تلك الوقائع لا بحيث تدلّ على الشّجاعة ، مثل أن يقال : أنّ فلانا قتل في حرب كذا
رجلا ، وقال آخر : أنّه قتل في حرب آخر رجلا ، وهكذا ، فبعد ملاحظة المجموع ؛ يحصل
العلم بأنّ مثل ذلك الاجتماع ناشئ عن ملكة نفسانية هي الشّجاعة ، وليس ذلك بمحض
الاتّفاق ، أو مع الجبن أو لأجل القصاص ونحو ذلك.
وكذلك في قصّة
الجود والقدر المشترك الحاصل من تلك الوقائع على النهج السّابق هو كلّي القتل والإعطاء وهو لا يفيد الشّجاعة ولا الجود ،
ولكنّ الحاصل من ملاحظة المجموع من حيث المجموع هو الملكتان ، ولعلّ من جعل
__________________
الجود من باب
الدلالة التضمّنية ، غفل عن هذا واختلط عليه الفرق بين الجود والعطاء ، ولعلّ كلام
العضدي ناظر إلى هذا الوجه ، حيث قال : واعلم أنّ الواقعة الواحدة لا تتضمّن السّخاوة
ولا الشّجاعة ، بل القدر المشترك الحاصل من الجزئيّات ذلك وهو المتواتر ، لا لأنّ آحادها صدق قطعا ، بل بالعادة.
انتهى.
والظاهر أنّه فرض
المقام خاليا عن وجه يدلّ على الشجاعة بالالتزام ، ومع هذا الفرض فالأمر كما ذكره
من عدم دلالة كلّ واحد من الوقائع على الشّجاعة
__________________
والسخاوة ، ولذلك
قال : بل القدر المشترك الحاصل من الجزئيات ، يعني الحاصل من ملاحظة مجموع الجزئيات
، لا كلّ واحد منها هو الشّجاعة والسّخاوة لإفادتها بكثرتها الملكة النفسانية.
وأمّا قوله : لا
لأنّ آحادها صدق. يعني أنّ المتواتر في سائر الأقسام لا ينفكّ عن صدق الآحاد بناء
على المشهور في معنى الصّدق بلا شبهة.
وإن كان من جهة
الدلالة الالتزامية الحاصلة مع كلّ منها أو التضمّنية الحاصلة مع كلّ منها كما في
الصّورتين السّابقتين . وأمّا في ذلك فلا يستلزم صدق واحد من الوقائع فضلا عن جميعها ، ولكن
بالعادة يحصل العلم بالقدر المشترك. يعني ما هو قدر مشترك في كونه لازما لها ، وهو
الشّجاعة والسّخاوة من سماع تلك الواقعات ، وإن لم يحكم العقل بصدق واحد من
الواقعات بعنوان القطع ، إذ لا مشترك بينها في الدلالة حينئذ ، والقدر المشترك
إنّما يحصل من جميعها.
هذا ويظهر من
العضدي في هذا المقام أنّه حصر المتواتر المعنوي في الوجه الثاني من الوجهين.
ومقتضاه انّه يحصل
بمجموع الآحاد الدّلالة على القدر المشترك بعنوان القطع ، لا أنّ الدلالة كانت
حاصلة في كلّ واحد من الآحاد ولكن القطع حصل بمجموعها ،
__________________
وإلّا فكان
اللّازم عليه أن ينبّه على أنّ ذلك مناقشة في المثال ، مع أنّ المثال الذي ذكروه قابل لكلا الوجهين كما عرفت ، وإدخال الوجه الأوّل
تحت المتواتر اللّفظي وكذا بعض ما تقدّمه من الأقسام مشكل.
على هذا فجميع
أقسام المتواتر يجمعها قسمان :
أحدهما : أن يدلّ
على آحاد الأخبار على شيء يوجب كثرتها مع دلالتها على ذلك الشيء ، القطع بحصول ذلك
الشيء ، وذلك هو ما عدا الوجه الثاني من القسم السّادس من الأقسام.
والثاني : أن يحصل
من مجموع آحاد متكثّرة الدلالة على شيء وكانت مقطوعا بها. ويمكن أن يمثّل للوجه
الثاني بالأخبار التي وردت في نجاسة الماء القليل بالخصوصيات المعيّنة من جهة
النجاسة ومن جهة الماء معا ، فإنّ بملاحظة مجموعها يمكن دعوى القطع بأنّها تدلّ
على نجاسة مطلق الماء القليل ، بل الظاهر أنّ الحكم كذلك. ولو كان الحكم بالنجاسات
المخصوصة كان واردا في مطلق الماء القليل كما هو مضمون بعض الأخبار ، فإنّ
عموم الموضوع لا ينفع مع خصوص الحكم.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم أنّ ما ذكروه في تعريف التواتر من اشتراط كونه منوطا بالحسّ ، فإن أرادوا إدراج المشترك المعنوي في التعريف ، فلا بدّ
أن يقال : انّ المتواتر هو ما يكون نقل المخبرين منوطا بالحسّ وموجبا بنفسه العلم بذلك
__________________
المحسوس أو بالقدر المشترك بين الآحاد الموجود في ضمنها الذي هو غير محسوس في نفسه ،
وإن عرض له المحسوسيّة بسبب وجوده في ضمن الفرد أو يلازمه ، سواء كان فهم اللزوم
من جهة كلّ واحد من الآحاد أو من مجموعها.
فعلى هذا يندفع
الإشكال الذي أورده المحقّق البهائي رحمهالله على الإجماع المنقول بالخبر المتواتر كما أشرنا سابقا ،
فيكون هذا القسم من الخبر المتواتر ، والإجماع المتواتر من قبيل أصل الإجماع ،
وفهم اتّفاق آراء الكلّ ومطابقة آرائهم لأقوالهم.
فكما أنّ هناك
الأقوال محسوسة ومطابقة الآراء مدركة بالعقل ، فكذلك في الإجماع المتواتر ، والخبر
المتواتر معنى بالمعنى الأخير .
ويمكن أن يقال في
الوجه الأوّل من الوجهين : أنّ العلم بحصول فرد محسوس من الأفراد مع العلم
بمقارنتها مع لازمها الذي دلّ عليه كلّ واحد من الآحاد ، يحصل للسّامع وكذلك فيما
قبله .
__________________
قانون
خبر الواحد : ما لم ينته إلى حدّ
التواتر ، كثرت رواته أم قلّت.
وقيل : ما أفاد
الظنّ ، ويبطل عكسه بخبر لا يفيد الظنّ.
والمستفيض : ما
زاد نقلته على ثلاثة ، كذا ذكره ابن الحاجب ، وقرّره العضدي.
وقال التفتازاني
في تفسيره : أيّ خبر لا يفيد العلم بنفسه سواء لم يفد العلم أصلا أو أفاد بالقرائن
الزّائدة. قال : وعلى هذا لا واسطة بين الخبر المتواتر وخبر الواحد ، فالمستفيض
نوع منه.
أقول : قد عرفت
أنّهم عرّفوا المتواتر بأنّه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم ، واحترزوا بالتقييد
بنفسه عمّا لو حصل العلم من القرائن الخارجة عمّا لا ينفكّ الخبر عنه عادة ؛ كشقّ
الثوب والصّراخ والجنازة في المثال الآتي.
فظهر أنّ مدخليّة
القرائن الدّاخلة في حصول العلم لا تضرّ بكونه متواترا وإن كان للكثرة أيضا مدخلية
في حصول العلم ، فإذا كان خبر الواحد بقرينة المقابلة هو ما لم ينته إلى حدّ
التواتر ، يعني لم يكن ممّا حصل العلم به من جهة الكثرة ، فيكون له فردان ، فرد لا
يثبت به العلم أصلا ، وفرد لا يثبت به العلم من جهة الكثرة ، وإن حصل من جهة
القرائن الدّاخلة أو الخارجة ، إذ لم يقم دليل على امتناع حصول العلم بخبر الواحد
بملاحظة القرائن الداخلة كما سنذكره ، أو الخارجة كما هو مختار الأكثر ، فعلى هذا
، فللخبر الواحد أقسام كثيرة :
__________________
منها : ما يفيد
القطع من جهة القرائن الدّاخلة.
ومنها : ما يفيد
القطع من جهة القرائن الخارجة.
ومنها : ما يفيد
الظنّ.
ومنها : ما لا
يفيده أيضا.
وعلى هذا
فالمستفيض يمكن دخوله في كلّ من القسمين ؛ فيكون قسما ثالثا ، ولا مانع من تداخل الأقسام وهذا هو
ظاهر ابن الحاجب والعضدي. فإذا لم يبلغ الكثرة إلى حيث يكون له في العرف والعادة
مدخليّة في الامتناع من التواطؤ على الكذب مثل الثلاثة والأربعة والخمسة وإن حصل
العلم من جهة القرائن الدّاخلة ، فهو مستفيض قطعي ، وإن زاد على المذكورات بحيث
يمتنع التواطؤ على الكذب بمثل هذا العدد في بعض الأوقات ، ولكن لم يحصل فيما نحن
فيه ، فهذا مستفيض ظنّي.
ويمكن إلحاق
الأوّل بالمتواتر ، على وجه مرّ الإشارة إليه من القول بكون خبر الثلاثة إن كان
قطعيّا متواترا ، وإلحاق الثاني بخبر الواحد.
ويمكن جعلهما
قسمين من خبر الواحد على ما بيّنا من جعل خبر الواحد أعمّ من الظنّي.
وبالجملة ، كلام
القوم هنا غير محرّر ، ويرجع النزاع إلى أنّ خبر الواحد الخالي عن القرائن
الزّائدة هل يفيد العلم أم لا؟ وعلى الأوّل فهل هو مطّرد أم لا؟
وعلى الثاني فهل
يفيد العلم مع القرائن الزّائدة أم لا؟ فهناك أقوال أربعة .
__________________
واعلم أنّ القول
بإفادة العلم مع قطع النظر عن القرائن الداخلة والخارجة في خبر غير العدل لم يعهد
من أحد منهم ، وكذلك اشتراط العدالة في الخبر المحفوف بالقرائن الخارجية.
ومحلّ نزاعهم في
غير المحفوف بالقرائن الخارجية مخصوص بخبر العدل ، وفيه أعمّ.
فلنقدّم الكلام في
خبر العدل الخالي عن القرائن الخارجية ، فالمشهور عدم إفادته العلم مطلقا.
وذهب أحد من
العامّة إلى أنّه يفيد العلم مطّردا.
وذهب قوم إلى أنّه
يفيده غير مطّرد ، وهذا أظهر ، لأنّا كثيرا ما نجد بالوجدان حصول العلم من خبر
العدل الواحد بملاحظة القرائن اللّازمة للخبر التي لا ينفكّ عنها عادة ، وإن لم
يكن هناك قرينة خارجة ، إذ قد عرفت أنّ اعتبار القرائن الدّاخلة لم يخرج عن تعريف
الخبر الواحد ، ولكن ذلك لا يطّرد كما هو مشاهد بالوجدان ، بل لا يبعد القول بحصول
ذلك في خبر غير العدل أيضا.
وما استدلّ به
القائل بالاطّراد في خبر العدل من أنّه لو لم يفد العلم لما وجب
__________________
العمل به ، بل لم
يجز لقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) و : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.) والتالي باطل للإجماع ، فالمقدّم مثله ، فهو باطل ، لأنّ
الإجماع إنّما هو الباعث على العمل بالظنّ وهو قاطع ، ولمنع تعلّق النّهي بالعمل
بالظنّ في الفروع ، وإنّما هو في الأصول كما مرّ وسيجيء.
واحتجّ الجمهور
بوجوه ثلاثة :
الأوّل : أنّه لو
حصل بلا قرينة ، يعني خارجية ، لكان عاديّا ، إذ لا علّية عندنا ولا ترتّب إلّا بإجراء الله عادته بخلق شيء عقيب شيء آخر ،
ولو كان عاديّا لاطّرد كالخبر المتواتر ، وانتفاء اللّازم بيّن.
الثاني : أنّه لو
حصل العلم به لأدّى إلى تناقض المعلومين إذا أخبر عدلان بأمرين متناقضين ، فإنّ
ذلك جائز بالضّرورة ، بل واقع ، واللّازم باطل ، لأنّ المعلومين واقعان في الواقع
، وإلّا لكان العلم جهلا ، فيلزم اجتماع النقيضين.
الثالث : لو حصل
العلم به ؛ لوجب القطع بتخطئة من يخالفه بالاجتهاد ، وهو خلاف الإجماع.
والجواب عن الأوّل
: منع بطلان التالي إن أراد أنّه لا يفيد القطع إذا فرض صورة اخرى مثله ، إذ نحن
نقول في الصورة التي فرضنا كون خبر الواحد مفيدا للعلم من جهة القرائن الداخلة ،
أنّه إذا فرض مثل هذا الخبر في موضع آخر لم يتفاوت فيه
__________________
القرائن المذكورة
أيضا ، يفيد العلم .
فإن أراد من عدم
الاطّراد عدم الإفادة في مثل ذلك الموضوع أيضا ، فهو ممنوع.
وإن أراد في جميع
أفراد خبر الواحد ، فلا يضرّنا كالمتواتر ، فإنّه أيضا يختلف باختلاف الموارد كما
صرّحوا به ، فكلّ ما أرادوا من الاطّراد وجريان العادة في المتواتر ، فنريد نظيره
فيما نحن فيه.
وقد يورد على هذا
الدليل : بأنّ دعوى الملازمة لغو ، إذ لو كان عقليّا لثبت
الاطّراد بالطريق الأولى ، وإرادة نفي كون ذلك على سبيل الاتّفاق من ذلك ، يأباه
التعليل بقوله : إذ لا علّيّة ولا ترتّب. انتهى.
وفيه : أنّ هذا
الدّليل من الأشاعرة ، وهم لمّا جعلوا عدم العلّية والترتّب العقلي مفروغا عنه ،
فغرضهم أنّ الأمر هنا منحصر في كون الترتّب عاديا وكونه بسبب جريان عادة الله به ،
ومقتضاه الدّوام ، فلا يكون من باب محض الاتّفاق ، ولا ينافيه التعليل بقوله : إذ
لا عليّة ولا ترتّب. انتهى. فإنّ الحصر بالنسبة إلى محض الاتّفاق.
__________________
وعن الثاني : أنّ
هذا الدّليل إنّما ينهض على القائل بالاطّراد ، ونحن لا نقول به في كلّ خبر عدل ،
فنمنع لزوم حصول العلم بالمتناقضين. وأنّ هذا الفرض غير متحقّق كما مرّ نظيره في
شبه السومناتيّة في المتواتر. ولو فرض انّ أحدا ادّعى حصول العلم بخبر بسبب
القرائن الداخلة ، وآخر بنقيضه ، ظهر أنّ أحدهما أخطأ في دعوى العلم. وكذلك لو
ادّعى أوّلا حصول العلم بخبر ، ثمّ ظهر له العلم بنقيضه بخبر آخر.
فقوله : إنّ ذلك
جائز بالضّرورة ، بل واقع إن أراد مجرّد صدور خبر عدلين في طرفي النقيض ، فهو كذلك
، لكنّا لا نقول بحصول العلم منهما .
وإن أراد حصول
العلم بشيء لأحد من خبر بسبب القرائن الداخلة ، ولآخر بنقيضه ، فهو جائز الوقوع ،
لكنّ ذلك كاشف عن الخطأ في دعوى العلم ، ونظيره في البراهين غير محصور.
وعن الثالث : إن
أراد ما لو حصل العلم به للمخالف بالاجتهاد أيضا ، فلا ريب أنّ المخالف له مخطئ
جزما ، ودعوى الإجماع على خلافه باطل قطعا.
وإن أراد ما لو لم
يحصل العلم به للمخالف ، فهو كما ذكره من جواز المخالفة ، ولا غائلة فيه
، إذ ربّما يحصل لأحد العلم بشيء ولا يحصل لآخر ،
__________________
وكلّ مكلّف بما
حصل له. والظاهر أنّ الدليلين الأخيرين في مقابل من يقول بالاطّراد.
وأمّا الخبر
المحفوف بالقرائن الخارجة ، فالأظهر فيه أنّه قد يفيد القطع ، وذهب قوم إلى المنع .
لنا : أنّه لو
أخبر ملك بموت ولد له مشرف على الموت ، وانضمّ إليه القرائن من صراخ وجنازة وخروج
المخدّرات على حالة منكرة غير معتادة من دون موت مثله ، وكذلك الملك وأكابر مملكته
، فإنّه يحصل بذلك العلم بصحّة الخبر ويعلم به موت الولد وجدانا ضروريا لا يعتريه
شكّ وريب ، بل وقد يحصل من دون ذلك.
وأمّا ما أورد
عليه من الشّكوك ومنع العلم ، إذ لعلّه غشي عليه فأفاق أو مات ولد آخر له فجأة
واعتقده المخبر أنّه المشرف على الموت.
ففيه : أنّها
احتمالات عقلية لا تنافي العلوم العادية ، مع أنّا نفرض الواقعة بحيث لا يبقى هذه
الاحتمالات. وكذلك ما قيل : إنّ ذلك العلم لعلّه من جهة القرائن من دون مدخليّة
الخبر ، كالعلم بخجل ووجل الوجل ، وارتضاع الطفل اللّبن من الثدي ونحوها ، فإنّ
القرينة قد تستقلّ بإفادة العلم.
مدفوع : بأنّه حصل
بالخبر بضميمة القرائن ، إذ لو لا الخبر لجوّز موت شخص آخر.
__________________
والحقّ ، أنّ
إمكان حصول العلم بديهيّ لا يقبل التشكيك.
واحتجّ المنكرون
بالوجوه الثلاثة المتقدّمة .
والجواب عنها يظهر
ممّا ذكرنا ثمّة ، فلا نعيدها.
ثمّ إنّ بعضهم ذكر
أنّ الخبر المحفوف بالقرائن القطعيّة لم يقع في الشرعيّات.
أقول : إمكان
حصوله للحاضرين المستمعين من الصّحابة والتابعين والمقاربين عهد الأئمّة عليهمالسلام ممّا لا يمكن إنكاره ، وكذلك المحفوف بالقرائن الداخلة.
وأمّا في أمثال
زماننا ، فلم نقف عليه في أخبارنا ، وما ذكره بعض أصحابنا كالشيخ رحمهالله في أوّل «استبصاره» من القرائن المفيدة للقطع مثل موافقة الكتاب والسنّة
والإجماع والعقل ، فهو ليس ممّا يفيد القطع ، إذ غاية الأمر موافقة الخبر لأحد
المذكورات ، وهو لا يفيد قطعيّة صدوره ولا دلالته. ولو فرض كون مضمونه قطعيّا بسبب
أخذ من تلك القرائن ، فهو الخبر المقرون بالقرينة الدالّة على صحّة مضمون الخبر ،
لا صحّة نفس الخبر. وموضوع المسألة إنّما هو الثاني لا الأوّل ، فأخبارنا اليوم
كلّها ظنّية إلّا ما ندر ، ومخالفة الأخباريين في ذلك ودعواهم قطعيّتها ممّا لا
يصغى إليه. ولعلّنا نتكلّم في ذلك بعض الكلام في باب الاجتهاد والتقليد.
__________________
قانون
اختلفوا في حجّية خبر الواحد العاري عن
القرائن المفيدة للعلم بصدق نفسه وبصدق مضمونه وإن كان نصّا في الدّلالة. وإنّما قيّدنا بذلك لأنّه قد
يكون مضمونه قطعيّا باعتبار موافقته لدليل قطعيّ ، ولم يتعرّضوا هنا للخلاف فيه
لعدم فائدة مهمّة في الخلاف من حيث حجّيته في نفسه مع ثبوت قطعيّة مضمونه.
وقد يكون هو بنفسه
قطعيّا لكن يكون مضمونه ظنّيا ، باعتبار كون دلالته ظاهرا لا نصّا. وخلافهم في هذا
المقام أيضا ليس فيه ، بل النزاع في جواز العمل به هو النزاع في جواز العمل بالظنّ
مطلقا.
وأمّا الخبر الذي
كان صدقه قطعيّا بنفسه وبمضمونه ؛ فخروجه عن البحث ظاهر. فانحصر البحث فيما لم
يحصل العلم به من حيث السند والمضمون [والمتن] جمعا.
والحقّ ، أنّه
يجوز التعبّد به عقلا ـ أي لا يلزم من تجويز العمل به محال أو
__________________
قبيح ـ بلا خلاف
فيه من أصحابنا ، إلّا ما نقل عن ابن قبّة ، وتبعه جماعة من الناس تمسّكا بأنّه يؤدّي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ،
وأنّه لو أجاز التعبّد به في الأخبار عن المعصوم عليهالسلام لجاز عن الله تعالى أيضا ، لجامع كون المخبر عادلا في
الصّورتين ، وفيه ما فيه.
ويمكن توجيه
الاستدلال الأوّل : بأنّ للمحرّمات مثلا قبحا ذاتيّا ، وكذا الواجبات ، وربّما يحرم شيء لكونه سمّا أو موجبا لفساد في العقل أو
الجسم كالخمر والميتة الموجبتين للقساوة وظلمة القلب ، وتلك خاصيّتهما ، ولا تزول
بالجهل ، فإذا جوّز العمل بخبر الواحد المفيد للظنّ ، فلا يؤمن عن الوقوع في تلك
المفسدة ، فتجويز العمل به ، مظنّة الوقوع في المهلكة.
ويمكن دفعه :
بأنّا نرى بالعيان أنّ الشارع الحكيم جوّز لنا أخذ اللّحم من أسواق المسلمين ، وحكم بالحلّ وإن لم نعلم كونه مذكّى ،
وكذلك رفع المؤاخذة عن الجاهل والناسي وغيرهما. فعلم من ذلك أنّه تدارك هذا النقص
من شيء آخر من الشرائع من الأعمال الشاقّة والمجاهدات الصّعبة وسائر التكليفات ،
فلا مانع من أن يجوز العمل بالظنّ الحاصل من خبر الواحد ، وإن كان في نفس الأمر
__________________
موجبا لارتكاب
الحرام وترك الواجب.
ثمّ اختلفوا في
جواز العمل به شرعا ، والمراد بهذا الجواز هو المعنى العامّ الشامل للوجوب ، بل
المراد الوجوب ، لأنّه إذا جاز العمل به شرعا ، فلا بدّ أن يجب أن يعمل على مقتضاه
بعنوان الوجوب في الواجب ، وبعنوان الاستحباب في المستحبّ ، وهكذا.
والحقّ جواز العمل
به بالمعنى المذكور كما هو مختار جمهور المتأخّرين ، خلافا لجماعة من قدمائنا كالسيّد وابن زهرة وابن البرّاج
وابن إدريس.
والحقّ أنّه يدلّ
على ذلك ، السّمع والعقل كلاهما ، كما سيجيء ، خلافا لجماعة حيث أنكروا دلالة العقل عليه.
لنا وجوه :
الأوّل :
قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما
فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).
__________________
وجه الدلالة :
أنّه سبحانه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق ، فينتفي عند انتفائه ، عملا
بمفهوم الشّرط ، وإذا لم يجب التبيّن عند مجيء غير الفاسق ، فإمّا أن يجب القبول
وهو المطلوب ، أو الردّ وهو باطل ، لأنّه يقتضي كونه أسوأ حالا من الفاسق ، وهو
واضح الفساد ، هكذا ذكره كثير من الاصوليين .
والوجه عندي :
أنّه ليس من باب مفهوم الشرط ، لأنّ غاية ما يمكن توجيهه على ذلك أن يكون المعنى إن جاءكم خبر الفاسق فتبيّنوا ،
ومفهومه إن لم يجئكم خبر الفاسق فلا يجب التبيّن ، سواء لم يجئكم
خبر أصلا أو جاءكم خبر عدل ، فالمطلوب داخل في المفهوم وإن لم يكن هو هو.
وفيه : أوّلا :
أنّ ظاهر الآية إن جاءكم الفاسق بالخبر ، ومفهومه إن لم يجئ الفاسق بالخبر ، لا إن
لم يجئ خبر الفاسق.
وثانيا : أنّ
المراد بالتبيّن والتثبّت طلب ظهور حال خبر الفاسق والثبات والقرار حتّى يظهر حال
خبر الفاسق ، فكأنّه قال : تبيّنوا خبر الفاسق. فالمفهوم يقتضي عدم وجوب تبيّن حال
خبر الفاسق ، لا خبر العادل ، للزوم وحدة الموضوع
__________________
في المفهوم
والمنطوق في الشرط والجزاء.
نعم ، لمّا كان
مقدّم المفهوم إن لم يجئكم خبر الفاسق ، بحيث يشمل عدم خبر أصلا أو مجيء خبر عادل
، وتاليه لا يجب تبيّن خبر الفاسق بحيث يشمل ما لو لم يكن هناك خبر أصلا أو كان
ولكن كان خبر العادل ، فيندرج فيه خبر العادل ، ولكن لا يدلّ على عدم وجوب تبيّنه
، مع أنّ ذلك خروج عن حقائق الكلام وترك للعرف والعادة بمجرّد احتمال كون السّالبة
منتفية الموضوع ، ولا ريب أنّه مجاز لا يصار إليه. وقسمة المنطقيين السّالبة إلى
الموجود الموضوع والمنتفي الموضوع ، لا توجب كونه معنى حقيقيّا لها أو عرفيا ،
والكتاب والسنّة إنّما وردا على مصطلح أهل اللّغة والعرف لا مصطلح أهل الميزان ،
فالاعتماد على مفهوم الوصف ، فإنّا وإن لم نقل بحجيّته في نفسه لكنّه قد يصير حجّة بانضمام
قرينة المقام كما أشرنا إليه في مباحث المفاهيم. وعلى فرض إمكان تصوير
مفهوم الشرط في هذا الكلام ، فلا يخفى أنّ حجّية مثل هذا المفهوم الوصفيّ أوضح من
حجّية هذا الفرد من المفهوم الشرطي.
نعم ، لو جعل معنى
الآية : إن كان المنبئ فاسقا فتبيّنوا ، لصار ذلك من باب مفهوم الشرط ، وهو خلاف
الظاهر ، وكيف كان ؛ فيتّجه الاستدلال بالآية.
والخدشة في
الاستدلال بأنّ المفهوم نفي وجوب التبيّن وهو لا يدلّ إلّا على جواز العمل ،
والمقصود إثبات الوجوب لا وجه لها ، لما أشرنا إليه من معنى الجواز ،
__________________
ولعدم القائل
بالفصل ، فمن قال بالجواز ، قال بالوجوب ، وسيجيء تمام الكلام.
ثمّ إنّ هذا
الاستدلال إنّما ينهض على من جوّز العمل بالمفاهيم ، وبالظنّ الحاصل من الظّواهر في مسائل الاصول ، وقد عرفت في المباحث السّالفة التحقيق فيهما وستعرف في الثاني أيضا.
واعترض أيضا : بأنّ سبب نزول الآية ، أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله بعث وليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصّدّقا ، فلمّا قرب إلى ديارهم ركبوا مستقبلين فحسبهم
مقاتليه فرجع وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوآله بأنّهم ارتدّوا ، فنزلت الآية.
وأيضا التعليل
بقوله : أن تصيبوا إلى آخره ، إنّما يجري فيه وفي مثله ، لا مطلق الخبر ، والمقصود
إثبات حجّية مطلق الخبر.
والأوّل : مردود
بما حقّقنا سابقا من أنّ العبرة بعموم اللفظ ، ولفظ فاسق ، وبنبإ ،
__________________
ينزّلان على
العموم كما لا يخفى ، إذ لو كان المراد الخصوص ، لناسب العهد والتعريف باللّام.
والثاني : بأنّ
التعليل لبيان أنّ خبر الفاسق معرّض لمثل هذه المفسدة العظمى ؛ لا أنّه كذلك مطلقا
وفي جميع الأفراد ، وذلك لا يوجب اختصاص التبيّن بمثل هذه الواقعة ، مع أنّ ذلك
أيضا يفيد المطلق ، إذ مفهومه يقتضي عدم التثبّت في مثل هذه الواقعة وغيرها لخبر
العادل ، عملا بالعلّة المنصوصة في المنطوق.
وقد يعترض أيضا : بأنّ العمل بخبر العدل لا يصحّ في مورد نزول الآية ،
لعدم جواز العمل بخبر العدل الواحد في الارتداد ، فلا يدلّ على حجّية خبر العدل
مطلقا.
فعلى هذا ،
فالنكتة في ذكر الفاسق ؛ التنبيه على فسق الوليد وتعييره عليه ، وإلّا فكان يكفي
أن يقول : إن جاءكم أحد ، ونحوه.
وفيه : أنّ عدم
جواز العمل بخبر العدل في الردّة لا يضرّ بحجّية المفهوم لإمكان التخصيص ، يعني
إخراج المورد عن عامّ المفهوم بدليل خارجي ، والمناسب للتعيير حينئذ هو التعريف والعهد
، فالعدول عنه بعد ترك ذكر مثل أحد ونحوه يدلّ على أنّ ذلك من جهة اعتبار المفهوم
، مع أنّ عدم قبول خبر العدل الواحد في الرّدّة إنّما هو إذا لم ينضمّ إليه آخر ،
بخلاف خبر الفاسق ، فإنّه لا يقبل أصلا ، فكأنّه اريد إن جاءكم فاسق بخبر ، وإن
كان خبر غير الارتداد فلا تقبلوه أصلا ، لا منضمّا ولا منفردا إلّا مع التثبّت ،
بخلاف خبر العدل ، فإنّه يقبل في الجملة ، أمّا في غير الردّة ؛ فمطلقا ، وأمّا في
الرّدّة ؛ فمع انضمام الغير.
__________________
الثاني
:
قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.)
وجه الدلالة أنّه
تعالى أوجب الحذر عند إنذار الطوائف للأقوام ، وهو يتحقّق بإنذار كلّ طائفة من
الطوائف لقومهم ، ولمّا لم يدلّ لفظ الفرقة على كونهم عدد التواتر ، فلفظ الطائفة
أولى بعدم الدّلالة ، بل الظاهر أنّ الفرقة يطلق على الثّلاثة فيصدق الطائفة على
الاثنين ، بل الواحد أيضا.
ولا يضرّ ضمير
الجمع في قوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا) في شموله للواحد أيضا ، لأنّه عبارة عن الطوائف ، ولا يلزم
من ذلك لزوم اعتبار الإنذار من جميع الطوائف ، لصدق حصوله بإنذار كلّ واحد منهم ،
كلّ واحد من الأقوام ، ثمّ يصدق حصوله بملاحظة كلّ واحد منهم بالنسبة إلى قومهم.
وكيف كان ، فالمقصود بيان حجّية خبر الواحد [في الجملة] ، لا حجّية مجرّد خبر رجل
واحد ، مع أنّه لا قائل بالفرق في جانب المنع.
وأمّا دلالة الآية
على وجوب الحذر ، فلأنّ التهديد المستفاد من كلمة (لو لا) يدلّ على وجوب النفر ، وتعليل النفر بالتفقّه يدلّ على
وجوبه ، وكذا تعليله بالإنذار ، ومن المستبعد جدّا وجوب الإنذار وعدم وجوب إطاعة
المستمع ، بل المتبادر وجوب الإطاعة للمنذرين.
__________________
والمشهور في وجه
الدّلالة ، أنّ كلمة لعلّ للترجّي ، وهو ممتنع على الله تعالى فلا بدّ من إخراجها
عن ظاهرها ، وأقرب مجازاتها الطلب الذي هو في معنى الأمر الظاهر في الوجوب ، وهو
فاسد لما بيّناه في مبحث الأمر .
وقيل : انّ أقرب
مجازاتها مطلق الطلب ، ونحمله على الوجوب لأنّه لا معنى لندب الحذر وجوازه ، فإنّه
إن حصل المقتضي له فيجب ، وإلّا فلا يحسن.
وردّ : بأنّ ندب الحذر لا معنى له إذا كان المقتضي موجودا قطعا أو
ظنّا ، وأمّا مع احتمال وجود المقتضي ، فربّما كان الحذر مندوبا كالحذر عن الطهارة
بالماء المشمّس مخافة حصول البرص.
أقول : نعم ، ولكن
لا معنى لاستحباب الحذر هنا بمعنى أن يقال : يستحبّ الحذر عمّا أنذر به بخبر
الواحد بمعنى العمل بمدلوله مطلقا ، فإنّه قد يكون خبر الواحد
دالّا على الوجوب ، ولا معنى لاستحباب الحذر عن ترك العمل بهذا الخبر بأن يقال :
يستحبّ أن يعمل بهذا الواجب. وكذلك لا يصحّ حمل الطلب على القدر المشترك بينهما ،
بمعنى أنّه يجب العمل بخبر الطائفة إذا حصل منه القطع ، ويستحبّ إذا حصل منه الظنّ
، فإنّ معناه حينئذ استحباب الحذر عن الإنذار الظنّي الحاصل على سبيل الإيجاب.
وحاصل الكلام ،
أنّ القول باستحباب العمل بخبر الواحد المفيد للوجوب مع بقاء الوجوب على معناه
الحقيقي ، ممّا لا يتصوّر له معنى محصّل ، فإنّ استحباب
__________________
الواجب لا يتصوّر
إلّا في أفضل فردي الواجب التخييري ، والمفروض أنّه لا يتصوّر له فرد آخر حينئذ
سوى العمل بمقتضى الأصل ، فإنّ الكلام في العمل بخبر الواحد من حيث هو ، لا إذا
كان معارضا لظاهر الآية أو الإجماع أو غيرهما ، والتخيير بين العمل بالأصل والعمل
بخبر الواحد لا معنى له ، لأنّه إمّا يعتبر مفهوم الأصل في مقابل مفهوم خبر الواحد
كليين ، فيقال إنّ المكلّف مختار بين أن يعمل على مقتضى الأصل ، بأن يقول : لا حكم
في المسألة بالخصوص من الشّارع ، لأنّ الأصل عدم الحكم الشّرعي ، وبين أن يعمل على
مقتضى خبر الواحد ، بأن يقول : ورد في المسألة حكم من الشّارع ، فيرجع هذا إلى
التخيير بين الإذعان بثبوت الحكم وعدم ثبوته ، ولكن يستحبّ الإذعان بثبوت الحكم.
وإمّا يعتبر الأصل
الخاصّ في مقابل الخبر الخاصّ ، مثل أن يقول : الأصل براءة الذمّة عن مقتضى الوجوب
الذي هو مدلول هذا الخبر الخاصّ مثلا فيقال : أنّ المكلّف مخيّر بين أن يعلم ذمّته
بريئة عن هذا التكليف ، وبين أن يعلم ذمّته مشغولة بمقتضى مدلول الخبر ، وعلى أيّ
الفرضين لا يصلح جواز اعتقاد الوجوب الذي هو مدلول الخبر.
وما يتوهّم أنّ
هذا من باب التخيير في الرّجوع إلى المجتهدين المخالفين في الرأي أو إلى الخبرين
المتعارضين المتساويين من جهة الترجيح ، فهو باطل ، لأنّ التخيير في هاتين
الصّورتين إنّما هو في حال الاضطرار وإرشاد بطريقة العمل في صورة جهالة الحكم ،
وعدم وجود ما يفيد القطع بالحكم.
__________________
ولا ريب أنّه لا
يعلم في هاتين الصّورتين كون خصوص أحد الحكمين من الشارع ، بل يحتمل أن يكون كلّ منهما حقّا ، ولكن لمّا لم يتعيّن
، ولا سبيل إلى العلم ، فرخّص لنا الشّارع حينئذ إلى الأخذ بأيّهما شئنا ، من باب
التسليم.
وأمّا فيما نحن
فيه ، فليس كذلك ، إذ هو إنشاء الحكم الأوّلي حين حضور الشّارع ، والأصل الثابت بالعقل
والشّرع متيقّن الثبوت من الشّرع جزما ، وليس من باب الأحكام الاضطرارية في حال
عدم التمكّن ، فالتخيير فيما نحن فيه من باب التخيير بين خصال الكفّارة المصرّح به
في الكتاب والسنّة ، لا من باب التخيير الذي دلّنا عليه الإلجاء والاضطرار حين
جهالة الحكم.
وهذا التخيير قد
يتصوّر بين جواز العمل بالأصل ، وجواز العمل بخبر الواحد ، وقد يتصوّر بين الأصل
وخبر الواحد ، والأوّل إنّما هو من باب المسائل الأصولية المبحوث عنها.
والذي يمكن أن يستدلّ عليه برجحان الحذر المستفاد من الآية على ما بنى
عليه المأوّل ، إنّما هو من باب المسائل الفقهية المستنبطة من آحاد أخبار الآحاد و ، حمله على الاستحباب
إنّما يصحّ إذا قطع النظر عن دلالتها على
__________________
الوجوب مثلا. يعني
إذا عارض خبر الواحد للأصل ، فيجوز العمل بكلّ منهما ، لكن يستحبّ اختيار العمل
بخبر الواحد ، فهو في معنى التخيير في المطلوب بخبر الواحد بين الإتيان به وعدمه
وهو صريح في نفي الوجوب ، ولا يجامع إتيانه على سبيل الوجوب كما توهّمه. فهذا
إخراج للخبر عن المدلول الحقيقي.
وأمّا التخيير بين
الاعتقاد بجواز العمل بالأصل ، وبين الاعتقاد بجواز العمل بخبر الواحد عند عدم
دليل آخر رافع للأصل الذي هو من المسائل الأصولية ، فهو غلط ، إذ لا يتوهّم فيه
تعارض وتناقض حتّى يستلزم التخيير وأرجحيّة أحدهما ، فإنّ الاعتقاد بجواز العمل
بالأصل قبل العثور على الدليل ، لا ينافي الاعتقاد بجواز العمل بخبر الواحد في
الصورة المفروضة.
فإن قلت : نعم ، ولكن اعتقاد جواز العمل بخبر الواحد لا ينافي استحباب
العمل.
قلت : بعد ثبوت
التكليف في الجملة ، ولزوم الامتثال بالتكاليف ، فكلّ ما يجوز استخراج الحكم منه
فيتمكّن من العمل به فيحصل مقدّمة الواجب ، فيجب الإتيان به ، فلا معنى للاستحباب.
فإن قلت : نعم ،
ولكن يقدر على استنباطه من الأصل فهو مخيّر بينهما.
قلت : المفروض أنّ
الأصل إنّما يصحّ العمل به قبل إمكان معرفة الحكم ، وبعد الإمكان فلا يجوز ، لهذا
اشترط الأصوليون في جواز العمل بأصل البراءة الاستقراء والتتبّع ، بل أوجبوا ذلك
في العامّ مع أنّه أولى بعدم الوجوب ، فكيف
__________________
يقال بالاستحباب مع
أنّه لا دليل على الاستحباب في ذلك.
بقي الكلام في
تأويل كلمة (لعلّ) بناء على ما اخترناه وأثبتناه في محلّه. فيمكن جعلها من باب
اللّام في قوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً)(.) بأن يكون استعارة تبعيّة فيشبه حصول الخوف والإطاعة مرّة وعدمه اخرى ، إمّا من جهة
تفاوت الإنذارات بالقطع والظنّ ، أو المخبرين بالصدق والكذب ، أو المستمعين
بالإطاعة وعدمها بالترجّي ، لأنّ المترجّى قد يحصل وقد لا يحصل ، واستعير كلمة (لعلّ)
لذلك.
ويمكن أن يجعل
حكاية عن حال المنذرين ، فإنّهم مترجّون لحصول الحذر.
وما يقال : أنّه
لا يدلّ إلّا على وجوب الحذر عند الإنذار وهو التخويف ، فهو أخصّ من المدّعى .
مدفوع : بعدم
القول بالفصل ، وبأنّه يثبت بذلك غيره بطريق الأولى ، إذ إثبات الحرمة والوجوب
أصعب من الكراهة والاستحباب للمسامحة في دليلهما دون الأوّلين ، ولموافقتهما للأصل
وكمال مباينة الأوّلين له.
__________________
وقد اعترض على
الاستدلال أيضا : بأنّ مقتضى الآية الوجوب الكفائي على كلّ فرقة ، ولا يقول به
أحد.
واجيب : بأنّه
مخصّص بالدّليل ، والأولى أن يقال أنّ المراد بالفرقة في الآية الجماعة العظيمة
التي تحتاج إلى منذر مستقلّ ، مثل بني حرب أو بني أسد ونحوهما ، لا محض ما يصدق
عليه الفرقة لغة ، فيصحّ الوجوب الكفائي في الكلّ .
واعترض أيضا :
بإمكان حمل التفقّه على التفقّه في اصول الدّين. وهو أيضا بعيد لأنّ المفهوم منه في العرف هو الفروع ، مع أنّه أهمّ
بالتهديد على ترك النفر فيه ، لاستقلال العقل فيه غالبا دون الفروع ، مع أنّ
الخطاب متعلّق بالمؤمنين واتّصافهم بكونهم مؤمنين لا يكون إلّا بعد كونهم عالمين
بما يعتبر في الإيمان.
واعترض أيضا :
بأنّ التفقّه ظاهر في الاجتهاد ومعرفة الأحكام ، فلا يدلّ الآية إلّا على لزوم عمل
المقلّد بفتوى المجتهد ، وهو خارج عن المبحث ، وهو اتّفاقي.
وأجيب : بمنع ثبوت كونه حقيقة في ذلك في عرف الشّارع ، بل هو
اصطلاح جديد ، فيحمل على معناه اللّغوي وهو مطلق الفهم ، وهو صادق على سماع الخبر
ونقله مع أنّه مستلزم لتخصيص القوم بالمقلّدين ، وهو أيضا مجاز.
نعم ، يمكن أن
يدّعى أنّ المتبادر من الفهم والإنذار هو الفتوى لا نقل الخبر ، فتأمّل.
__________________
هذا كلّه مبنيّ
على المشهور في تفسير الآية.
وأمّا على التفسير
الآخر ، وهو أن يكون المراد بالطوائف المجاهدين ، وأن يكون التفقّه واجبا على
المتخلّفين ، فيمكن توجيه الاستدلال أيضا بملاحظة ما سبق كما لا يخفى.
الثالث :
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ)الآية. فإنّ المنقول عن النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام أيضا من الهدى ، ويظهر وجه الاستدلال ممّا بيّنّا سابقا من
التبادر ، فإنّ الظاهر من وجوب إظهاره أنّه يجب على السّامع الامتثال به ، فتأمّل.
__________________
الرابع :
اشتهار العمل بخبر الواحد في زمان رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، وعمل الصّحابة عليه من غير نكير. وذكر الخاصّة والعامّة
وقائع كثيرة ذكروا فيها عمل الصحابة به يحصل من مجموعها العلم باتّفاقهم الكاشف عن
رضاه عليهالسلام ، بل كان عليهالسلام يأمر به ويجوّزه ، حيث كان يرسل الرّسل والولاة إلى
القبائل والأطراف لتعليم الأحكام بدون اعتبار عدد التّواتر ، وكذلك أصحاب الأئمّة عليهمالسلام ومن يليهم من أصحابنا القدماء ، كان طريقتهم رواية أخبار
الآحاد وتدوينها وضبطها والتعرّض لحال رجالها وتوثيقها وتضعيفها وتقرير الأئمّة عليهمالسلام على ذلك ، بل أمرهم بالعمل بها كما يستفاد من تتبّع أخبار
كثيرة لا نطيل بذكرها ، فليراجعها من أرادها في مظانّها ، بل من الواضح الجليّ الذي لا يقبل الإنكار أنّ كلّ واحد
من أصحاب الأئمّة عليهمالسلام
__________________
المتردّدين عندهم
السائلين عنهم ، كانوا يأخذون الخبر وينقلون إلى غيرهم للعمل ، ولم يكن يحصل بخبر
كلّ واحد منهم العلم للسّامع ، ومع ذلك كان أئمّتهم عليهمالسلام مطّلعين على طريقتهم ويقرّرونهم على ذلك ، واحتمال أنّ كلّ
ذلك كان من القرائن المفيدة للعلم ؛ ممّا يأباه العقل السليم والفهم المستقيم.
فحصل من جميع ما
ذكرنا ، أنّ إطباقهم على هذه الطريقة من غير نكير منهم ، إجماع منهم على الجواز ،
فيدلّ عليه الإجماع وتقرير المعصوم عليهالسلام بل أمره ، وصرّح بالإجماع الشيخ في «العدّة» حيث قال : وأمّا ما اخترته من المذهب فهو أنّ خبر الواحد
إذا كان من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة ، وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أو أحد من الأئمّة عليهمالسلام وكان ممّن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم تكن
هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ، لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على
ذلك كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجبا للعلم ، ونحن نذكر القرائن فيما بعد ،
جاز العمل به.
والذي يدلّ على
ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي
أوردوها في تصانيفهم ودوّنوها في أصولهم ، لا يتناكرون
__________________
ذلك ولا يتدافعونه
، حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه : من أين قلت هذا ، فإذا
أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور ، وكان رواية ثقة لا ينكرون حديثه ، سكتوا
وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله ، هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلىاللهعليهوآله ومن بعده من الأئمّة عليهمالسلام إلى زمان الصّادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام الذي انتشر عنه العلم ، فكثرت الرّواية من جهته ، فلو لا
أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا ، لما أجمعوا على ذلك ولا أنكروه ، لأنّ إجماعهم
لا يكون إلّا عن معصوم عليهالسلام لا يجوز عليه الغلط والسّهو.
والذي يكشف عن ذلك
أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظورا في الشّريعة عندهم ، لم يعملوا به أصلا ،
وإذا شذّ واحد منهم وعمل به في بعض المسائل أو استعمله على وجه المحاجّة لخصمه ،
وإن لم يعلم اعتقاده ، تركوا قوله وأنكروا عليه وتبرّءوا من قوله ، حتّى انّهم
يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس. فلو كان العمل بخبر
الواحد يجري هذا المجرى ، لوجب فيه أيضا مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه. انتهى ما أردت نقله.
وقال العلّامة رحمهالله في «النهاية» : أمّا الإمامية فالأخباريّون منهم لم
يعوّلوا في أصول الدّين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهمالسلام.
والأصوليون منهم
كأبي جعفر الطوسي رحمهالله وغيره وافقوا على قبول خبر الواحد ولم
__________________
ينكره سوى المرتضى
رحمهالله وأتباعه لشبهة حصلت لهم ، انتهى .
ويظهر منه رحمهالله أنّ المخالف إنّما هو السيّد ومن تبعه من بعده ، ويظهر
دعوى الإجماع أيضا من المحقّق رحمهالله على ما نقل عنه .
وبالجملة ، من
تتبّع سيرة العلماء وتتبّع أحوال أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام ولاحظ الأخبار الدالّة على رخصتهم في العمل بكتب أصحابهم
والرجوع إليهم والأخبار الواردة في بيان علاج الأخبار المتخالفة ، سيّما مع ملاحظة
أنّ ذلك هو طريقة العرف والعادة وجميع أرباب العقول ، بل مدار
العالم وأساس عيش بني آدم غالبا كان على ذلك ، يظهر له العلم بجواز العمل بخبر الواحد في الجملة.
وما يستبعد من
أنّه لو كان العمل بخبر الواحد جائزا وواقعا في زمان الأئمّة عليهمالسلام لم يختف على مثل السيّد رحمهالله مع قربه بزمانهم عليهمالسلام وكمال فطانته واطّلاعه.
فهو مدفوع
باستبعاد أنّه لو كان وجوب الاقتصار باليقين الحاصل من مثل الأخبار المتواترة أو
المحفوفة بالقرينة ونحوها ثابتا ، وكان المنع من العمل بخبر الواحد طريقة الأئمّة عليهمالسلام ومذهبا لهم ، لصار شائعا من باب حرمة القياس ، ولم يختف
على مثل الشيخ رحمهالله حتّى ادّعى إجماعهم على جواز العمل ، بل التحقيق أنّ
الاشتباه إنّما حصل للسيّد رحمهالله ومن تبعه لما بيّنا ولما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.
__________________
الخامس
:
الأدلّة الدالّة على حجّية ظنّ المجتهد
في حال غيبة الإمام عليهالسلام
من أمثال زماننا
المتباعدة عن زمان الأئمّة عليهمالسلام.
واعلم أنّ ما
تقدّم من الأدلّة إنّما يدلّ على حجّية المراد بخبر الواحد ، فإنّه هو المتبادر من
النبأ والإنذار ، وهو المستفاد من الإجماع الذي نقلناه.
وأمّا حجّية ما
يفهم من لفظ الخبر ، والظنّ الحاصل من جهة دلالته ، وأنّ هذا المظنون هو المراد أو
غيره ، مع تفاوت ذلك بسبب أفهام النّاظرين والمعاصرين للأئمّة عليهمالسلام والمتباعدين ، فهو يحتاج إلى دليل آخر من إجماع على حجّية
أمثال هذه الظّنون أو غيره من الأدلّة التي تدلّ على حجّية ظنّ المجتهد في أمثال
زماننا.
فهذه الأدلّة
دلالتها على حجّية خبر الواحد ليس من حيث إنّه خبر الواحد ، ولا تشمل جميع الأزمان
والأوقات ، بل هي إنّما تتمّ في أمثال زماننا وتدلّ على حجّية مطلق الظنّ ، وهي
حقيقة أدلّة على جواز عمل المجتهد بالظنّ إلّا ما أخرجه الدّليل ، في مقابل قول من
لا يجوّز العمل إلّا باليقين أو بالظنّ الذي ثبت فيه الرّخصة من الشّارع.
والأوّل أشهر
وأظهر ، بل الظاهر من طريقة الفقهاء هو الأوّل.
ولعلّ وجه نزاعهم
في خبر الواحد واستدلالهم على حدّه ، إنّما هو لأجل إثبات
__________________
حجيّته بذاته من
قبل الشّارع ليتمّ حجّيّته في زمان إمكان العلم أيضا أو لأجل دفع توهّم حرمة العمل
به ؛ خصوصا كالقياس ، لأجل ما ادّعاه السيّد رحمهالله من الإجماع على الحرمة ، كما سيجيء ، وإلّا فهذه الأدلّة
على جواز العمل بالظنّ عند الاضطرار يكفيهم في جواز العمل بخبر الواحد ، وكذلك
استدلالهم في حجّية ظواهر الكتاب لدفع ما توهّمه الأخباريّون من المنع.
وعلى هذا فقس سائر
المقاسات التي استدلّوا على حجّيتها بالخصوص من القياس المنصوص
العلّة ومفهوم الموافقة واستصحاب حال الشّرع وغيرها. والأدلّة
على ذلك من وجوه ، وأنت إذا تأمّلتها تقدر على استنباط حجّية خبر الواحد منها .
الأوّل : أنّ باب العلم القطعيّ في
الأحكام الشرعية منسدّ في أمثال زماننا في غير الضّروريات غالبا ، ولا ريب أنّا مشاركون لأهل زمان المعصومين عليهمالسلام في التكاليف ، وليس في غير ما علم ضرورة أو إجماعا أو حكم
به العقل القاطع ما يدلّ على الحكم باليقين. فإنّ الكتاب بنفسه لا يفيد إلّا الظنّ
، وكذلك أصل البراءة ، والضّرورة والإجماع ، والعقل القاطع لا يثبت بها شيء ينفعنا في الفقه غالبا ، بل هي إنّما تثبت بعض الأحكام
إجمالا ولا يحصل منها التفصيلات. وعلى هذا فينحصر الامتثال في العمل بالظنّ ،
وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق. ويندرج في ذلك الظنّ الحاصل من الخبر الواحد ،
فإنّه لا فارق بين أفراد الظنّ من حيث هو ، فإذا
__________________
حصل منه ظنّ أقوى
من غيره فيجب متابعته ، بل لا معنى حينئذ لكونه أقوى ، بل الظنّ إنّما هو من جهته وملاحظة القوّة والضعف إنّما هو بملاحظة كلّ منهما على حدة
، لا مجتمعا .
وقد أورد على ذلك : بأنّ انسداد باب العلم لا يوجب العمل بالظنّ من
حيث إنّه ظنّ ، لأنّه يجوز أن يعتبر الشارع ظنونا مخصوصة بخصوصها ، لا من حيث
إنّها ظنّ كظاهر الكتاب وأصل البراءة لا لأنّهما ظنّ ، بل للإجماع على حجّيتهما.
وفيه : أنّ حجّية
ظواهر الكتاب من حيث الخصوص بعد تسليم معلوميته مطلقا ، لا يثبت إلّا أقلّ قليل من
الأحكام ، كما لا يخفى على المطّلع ، والإجماع على أصالة البراءة فيما ورد في
خلافه خبر الواحد ، أوّل الكلام ، إن لم ندّع الإجماع على خلافه.
وقد أورد على هذا الدليل أيضا : أنّ انسداد باب العلم بالأحكام
الشرعية غالبا لا يوجب جواز العمل بالظنّ فيها حتّى يتّجه ما ذكره ، لجواز أن لا
يجوز العمل بالظنّ. فكلّ حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع ، نحكم به ، وما لم
يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراءة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ولا للإجماع على
وجوب التمسّك بها ، بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا إلّا
بالعلم به أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم. ففيما انتفى الأمران فيه ،
يحكم العقل
__________________
ببراءة الذمّة عنه
، وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّا بمقتضاها حتّى
يعارض بالظنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها ، بلّ لما ذكرنا من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا
ما لم يحصل العلم لنا به ، ولا يكفي الظنّ به ، ويؤكّد ذلك ما ورد من النّهي عن اتّباع الظنّ.
وعلى هذا ، ففيما
لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة مثلا ، فالخطب سهل ، إذ
نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور .
وأمّا فيما لم تكن
مندوحة عنه كالجهر بالتسمية والإخفات بها في الصّلوات الإخفاتية التي قال بوجوب
كلّ منهما قوم ، ولا يمكن لنا ترك التسمية ، فلا محيد لنا عن الإتيان بأحدهما ،
فنحكم بالتخيير فيهما لثبوت وجوب أصل التسمية ، وعدم ثبوت خصوص الجهر أو الإخفات ،
فلا حرج لنا في فعل شيء منهما. وعلى هذا ، فلا يتمّ الدّليل المذكور لأنّا لا نعمل
بالظنّ أصلا.
أقول : وفيه نظر من وجوه :
أمّا أوّلا :
فلأنّ قوله : وما لم يحصل العلم به نحكم فيه ... الخ. إن أراد منه عدم حصول العلم
الإجمالي أيضا ، فهو كذلك ، لكنّه خلاف المفروض.
__________________
وإن أراد منه عدم
حصول العلم التفصيلي.
ففيه : أنّ عدم
العلم التفصيلي لا يوجب البراءة مع ثبوت التكليف بالمجمل سيّما مع التمكّن
بالإتيان به ، بأن يأتي بالمحتملات بحسب القدرة والاستطاعة.
فإن قيل : لا
نسلّم العلم الإجمالي بالتكليف بغير الضّروريات في أمثال زماننا ، بل إنّما
تكليفنا هو العمل بالضّروريات واليقينيات.
قلنا : التكليف
بغير الضّروريات يقيني : فإنّا نعلم بالضّرورة أنّ في الصلاة واجبات كثيرة علينا
غير ما علم منها ضرورة ، مثل وجوبها أو مطلق مسمّى الركوع والسجود أيضا ، مع أنّا
لا يمكننا معرفة تلك التفصيلات إلّا بالظّنون ، وأيضا الضّروريات أمور إجمالية
غالبا لا يمكن الامتثال بها إلّا بما يفصّلها ، فالحكم بين المسلمين وقطع الدّعاوي
ثبت وجوبه مثلا بالضّرورة أو بالإجماع ، لكن معرفة كيفية ذلك يحتاج إلى الظّنون
التي يشتمل عليها كتب الفقهاء غاية الأمر حصول القطع في كيفيته ، بأنّ البيّنة على
المدّعي واليمين على من أنكر ، لكن معرفة حقيقة المدّعي والمنكر والتمييز بينهما ،
ومعرفة معنى البيّنة أنّه رجل أو امرأة أو واحد أو متعدّد ، أو يشترط فيه العدالة
أم لا ، وأنّ العدالة أيّ شيء وبأيّ شيء تثبت ، وأنّ الحكم أيّ شيء ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصل للفقيه إلّا باستعمال الظّنون
، كما لا يخفى على من ارتبط بالفقه قليلا فضلا عن المتدرّب فيه ، وهكذا جميع أبواب
الفقه من العبادات والمعاملات والأحكام ، فمن قال إنّه يمكن
__________________
الاعتماد على ما
علم ضرورة أو بالإجماع في تحصيل الفقه ، فقد تغافل ، ولعلّه هنا في مقام المجادلة
والتدقيق في نفس الدّليل ، وأنت خبير بأنّه لا وجه له.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ قوله : بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا ... الخ.
هذا أوّل الكلام ،
لأنّ حكم العقل إمّا أن يريد به الحكم القطعي أو الظنّي ، فإن كان الأوّل ، فدعوى
كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا ، أوّل الكلام ، كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة
المثبتين والنافين من العقل والنقل.
سلّمنا كونه
قطعيّا في الجملة ، لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع ، وأمّا بعد ورود الشرع
، فالعلم بأنّ فيه أحكاما إجمالية بعنوان اليقين يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعا ، كما لا يخفى.
سلّمنا ذلك أيضا ،
ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصّحيح في خلافه وإن أراد الحكم الظنّي كما يشعر به كلامه أيضا ، سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظنّ أو من
جهة استصحاب الحالة السّابقة ، فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظواهر الآيات والأخبار التي
لم يثبت حجّيتها بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشّرع ، ثمّ بعد ورود الخبر
الواحد إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه.
__________________
وأمّا ثالثا :
فلأنّ قوله : ويؤكّد ذلك ... الخ.
يرد عليه : أنّها
عمومات لا تفيد إلّا الظنّ وإن كان سندها قطعيّا ، بل هي ظاهرة في غير الفروع ،
وشمول عموم ما دلّ على حجّية ظاهر القرآن لما نحن فيه ، ممنوع. لأنّه إن كان هو
الإجماع ، ففيما نحن فيه أوّل الكلام وإن كان غيره ، فهو ليس إلّا الظّنون الحاصلة
من الأخبار ، وإن فرض التواتر في تلك الأخبار ، فقد مرّ الكلام في الاستدلال بها .
وأمّا رابعا :
فلأنّ قوله : إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل ... الخ.
فيه : أنّ ذلك لا
ينطبق على مدّعاه ، إذ المفروض أنّ رجحان غسل الجمعة يقينيّ ، ولكنّه مردّد بين
الوجوب والاستحباب ، لا ثالث لهما.
وما ذكره من الحكم
بجواز الترك وأصل البراءة إن أراد نفي الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب ، فهو لا
يلائم ما ثبت يقينا من الشّرع.
وإن أراد إثبات
الاستحباب ، فهو ليس إلّا معنى ترجيح أحاديث الاستحباب على أحاديث الوجوب بسبب
الاعتضاد بالأصل. وأمّا الحكم بسبب الأصل ، انّ الرّجحان الثابت بالإجماع والضّرورة لا بدّ أن يكون هو الرّجحان الاستحبابي دون
الوجوبي ، فهو لا يتمّ إلّا بترجيح أصل البراءة على الاحتياط ، وهو موقوف على
حجّية هذا الظنّ.
وبالجملة ، الجنس
لا بقاء له بدون الفصل ، والثابت من الشّرع أحد الأمرين ،
__________________
وأصل البراءة لا
ينفي إلّا المنع عن الترك ، وعلى فرض أن يكون الرّجحان الثابت بالإجماع هو الحاصل
في ضمن الوجوب فقط في نفس الأمر ، فمع نفي المنع من الترك بأصل البراءة ، لا يبقى
رجحان أصلا لانتفاء الجنس بانتفاء فصله ، وأصل البراءة من المنع عن الترك لا يوجب
كون الثابت بالإجماع في نفس الأمر هو الاستحباب ، فكيف يحكم بالاستحباب؟
نعم ، يصحّ ترجيح
الحديث الدالّ على الاستحباب ، على الحديث الدالّ على الوجوب ، بسبب اعتضاده بأصل
البراءة ، وهذا ليس مراده ، وإنّما المناسب لما رامه من المثال هو أن يقال في نجاسة عرق الجنب من الحرام مثلا ،
أنّ خبر الواحد الوارد في ذلك أو الإجماع المنقول الدالّ على ذلك لا حجّة فيه ،
والأصل براءة الذمّة عن وجوب الاجتناب. وحينئذ فالجواب عن ذلك يظهر ممّا قدّمنا ، من منع حصول الجزم أو الظنّ
بأصل البراءة مع ورود الخبر الصحيح.
وبما ذكرنا ، ظهر
أنّ حكم غسل الجمعة نظير الجهر بالتسمية والإخفات على ما فهمه.
والحاصل ، أنّ
الكلام فيما كان خبر الواحد الظنّي في مقابل أصل البراءة وفي غسل الجمعة ، الحكم
بمطلق الرّجحان القطعيّ الحاصل من الإجماع ، والنوعين من الأخبار الواردة فيه في
مقابل أصل البراءة.
قوله : وأمّا فيما
لم تكن مندوحة ... الخ.
إن أراد أنّ هذا
التخيير الذي هو في معنى أصل البراءة في مقابل الدّليل الظنّي
__________________
وهو مقدّم ، فهو
فاسد ، إذ بعد ملاحظة تعارض دليلي القولين لا شيء في مقابل أصل البراءة حتّى يقال
أنّه ظنّيّ ولا نعمل به ، بل يرجع الكلام فيه ، إلى مثل جريان أصل البراءة فيما لا
نصّ فيه ومقابله حينئذ هو أدلّة التوقّف والاحتياط وهو لا يقول به ، والمستدلّ أيضا لا يقول به.
وإن أراد أنّ هذا
التخيير إنّما هو في العمل بأيّهما اختار من القولين ، وعلى فرض اختيار كلّ منهما
يصير واجبا عليه ، فلا معنى لأصل البراءة حينئذ ، نظير التخيير بين الرّجوع إلى
المجتهدين كما مرّ ، فإنّ المفروض أنّ القول منحصر في وجوب الجهر أو وجوب الإخفات
، وأنّ أحدهما ثابت في نفس الأمر جزما ، لا أنّ الأصل عدم وجوب شيء ، والدّليل
الظنّي دلّ على وجوب أحدهما فينفيه أصل البراءة ، فبعد ثبوت التخيير أيضا يثبت حكم
جزما ، والتخيير في الرجوع إلى الدليلين أو القولين غير التخيير في اختيار أحد
المدلولين ليكون تخييرا في أصل المسألة كما مرّ الإشارة إليه مرارا.
إذا عرفت هذا ،
ظهر أنّه لا مناص عن العمل بالظنّ ، وأنّه حجّة إلّا ما صرّح الشارع بحرمته
وثبت حرمته من جانبه مثل القياس والاستحسان ونحوهما . والعبرة بقوّة الظنّ والمعيار هو الرّجحان في النظر ،
فإذا حصل الظنّ بمدلول خبر
__________________
الواحد أكثر ممّا
دلّ عليه أصل البراءة وغيره ، فيقدّم عليه ، وذلك ليس من قبيل ما نصّ الشّارع
باعتباره من الظّنون ، كشهادة العدلين وغيرها ، فإنّه قد يحصل الظنّ بشاهد واحد
أكثر من شاهدين ولا يعتبر ذلك ، لأنّ الشّارع جعل الشّاهدين من حيث إنّهما شاهدان
مناطا للحكم ، لا من حيث الظنّ الحاصل بهما ، كالفتوى والإقرار وغيرهما .
والثاني
: أنّه لو لم يجب العمل بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح وهو بديهيّ البطلان ، ذكره العلّامة في «النهاية» وغيره.
وتوضيحه : أنّ لفظ
الترجيح في قولنا : ترجيح المرجوح بمعنى الاختيار. ولفظ المرجوح عبارة عن القول
بأنّ الموهوم حكم الله أو العمل بمقتضاه ، والرّاجح عبارة عن القول بأنّ المظنون
حكم الله تعالى أو العمل بمقتضاه ، ومبدأ الاشتقاق في لفظ الرّاجح والمرجوح هو
الرّجحان ، بمعنى استحقاق فاعله المدح أو الذمّ ، لا بمعنى كون الشيء ذا المصلحة
الدّاعية إلى الفعل كما هو المصطلح في لفظ المرجّح والمرجوح في تركيب الترجيح بلا
مرجّح ، وترجيح المرجوح المصطلحين عند
__________________
نزاعهم في أنّ
الترجيح بلا مرجّح محال وخلافه ، وكذا ترجيح المرجوح.
وبالجملة ، المراد
أنّ الفتوى والعمل بالموهوم مرجوح عند العقل ، والفتوى والعمل بالرّاجح حسن.
ووجهه أنّ الأوّل
يشبه الكذب ، بل هو هو ، بخلاف الثاني ، ولا يجوز ترك الحسن واختيار القبيح .
وأورد على هذا :
بأنّه إنّما يتمّ إذا ثبت وجوب الإفتاء والعمل ، ولا دليل عليه من العقل ولا من
النقل ، إذ العقل إنّما يدلّ على أنّه لو وجب الإفتاء أو العمل ، يجب اختيار
الرّاجح ، وثبوت وجوب الإفتاء لا يحكم به العقل.
وأمّا النقل
فلأنّه لا دليل على وجوب الإفتاء عند عدم القطع بالحكم. والإجماع الذي ادّعوه على
وجوب الإفتاء على المفتي فيما نحن فيه ، ممنوع ، إذ الأخباريون الّذين يعتبر
فتواهم في انعقاد الإجماع مخالفون في ذلك ، ويقولون بوجوب التوقّف أو الاحتياط عند
فقد ما يفيد القطع.
أقول : وهذا
الإيراد في جانب المقابل من الإيراد المتقدّم في الدّليل الأوّل وكما أنّه إفراط ،
فهذا تفريط ، وإذ قد أبطلنا العمل بأصل البراءة ثمّة ، فبطلان التوقّف والاحتياط
هنا أولى.
فإنّا نقول أوّلا
: وجوب العمل بالمقطوع به في الفرعيّات أوّل الكلام وما دلّ
__________________
عليه من ظواهر
الآيات ، مع أنّ ظواهرها ليست بحجّة عند الأخباريين ، ليست إلّا ظنونا ، مع أنّ
الظاهر منها اصول الدّين.
سلّمنا ، لكنّها
مخصوصة بحال الإمكان ، ودعواهم أنّ الأخبار قطعيّة وأنّهم يعملون بالقطع ، في غاية
الوهن ، فإنّ عيان وجوه الاختلال في متنها وسندها ودلالتها وتعارضها الموجبة لعدم
الوثوق بها فضلا عن حصول اليقين منها ، يغني عن البيان ، وقد أشرنا إليه سابقا ،
وسنشير مع أنّه لا دليل على حجّيتها ، إذ الآيتان على فرض تسليم دلالتهما فهما من ظواهر القرآن وقد عرفت
حالها ، مع أنّ آية النفر ظاهرة في التفقّه ، وآية النبأ معلّلة بما علّل . ولا ريب أنّه إذا وجد ظنّ أقوى من الظنّ الحاصل من خبر
الواحد ، لا يجري العلّة فيه.
وأمّا الإجماع فهو
لم يثبت على حجّيتها مطلقا وفي جميع الأحوال والأزمان خصوصا فيما كان هناك ظنّ
أقوى منه .
لا يقال : ثبوت
الإجماع على جواز العمل بها في زمن الصّحابة والتابعين يكفي في ثبوته مطلقا لعدم
القول بالفصل.
لأنّا نقول أوّلا
: لم نعلم الإجماع على عدم القول بالفصل ، بل بعضهم منعوا عن ثبوت الإجماع إلّا في
الصدر الأوّل فيفرّق بين الزّمانين.
__________________
وثانيا : إنّ
الاعتماد على الإجماع المركّب ، إنّما هو إذا لم يعلم مستند المجمعين. ونحن علمنا
أنّ مستند المجمعين من جانب القول بالحجّية هو الآيتان والإجماع ، وقد عرفت حال
الآيتين.
وأمّا الإجماع فلم
يثبت إلّا في الصدر الأوّل ، ولا معنى حينئذ للتمسّك بعدم القول بالفصل لأحد شطري
الإجماع المركّب ، إذ تحقّق ذلك الشّطر حينئذ إنّما هو بهذا
الإجماع البسيط ، ولم يتحقّق إلّا في هذا القدر ، فليفهم ذلك.
وبالجملة ، عدم
إمكان القطع في الفقه في أمثال زماننا غالبا ، ممّا لا يجوز إنكاره في غير
الضّروريات ، والضروريات لا تكفينا كما أشرنا ، وأيضا العمل بالتوقّف أو الفتوى بالتوقّف أيضا يحتاج إلى
دليل يفيد القطع ، فإن تمسّكوا فيه بالأخبار الدالّة على ذلك عند عدم العلم ، فمع
أنّ تلك الأخبار لا تفيد القطع كما بيّنا لعدم تواترها ، معارضة بما دلّ على أصالة
البراءة ولزوم العسر والحرج ، ولو فرض ترجيح تلك الأخبار عليها ، فلا ريب أنّه
ترجيح ظنّي أيضا ، مع أنّه قد لا يمكن الاحتياط في العمل ولا التوقّف ، كما لو دار
المال بين شخصين ، ولا يقتضي
__________________
الاحتياط إعطاؤه
بأحدهما دون الآخر أو كان بين يتيمين.
فإن قلت : إنّا لا
نتعرّض للمال في العمل ولا نحكم به لأحدهما في الفتوى. قلت : ابقاؤه قد يوجب
التّلف فكيف تجترئ بأن تقول : إنّ الله تعالى يرضى عنك بذلك ، وأيّ شيء ذلك ، على
أنّ دليل هذا العمل قطعيّ ، وأنّه لا يجوز العمل على مقتضى الظنّ الحاصل للمجتهد ،
فترك الفتوى وترك العمل أيضا يحتاج إلى الدّليل ، فلعلّ الله يعذّبك على عدم
الاعتناء ، وحرمة العمل بالظنّ لم يثبت من أدلّتها بحيث يوازي الضّرر المظنون في
إتلاف مال اليتيم وتعطيل الأمر والتزام العسر والحرج. فلنأت بمثال من جهة التقريب
، فنقول : إنّ المشهور بين أصحابنا أنّ لكلّ من أولاد الابن وأولاد البنت من مال
جدّهما نصيب من يتقرّبان به ، فالثلثان لأولاد الابن والثلث لأولاد البنت ، خلافا
للسيّد رحمهالله ومن تبعه ، حيث يجعلون الجميع مقام أولاد الجدّ فيقسّمون
بينهم للذكر مثل حظّ الأنثيين.
ثمّ المشهور بعد
اعتبار الفرق بين أولاد الابن وأولاد البنت يجعلون حصّة كلّ واحد من الفريقين
بينهم للذكر مثل حظّ الأنثيين ولا دليل لهم ظاهرا إلّا الشّهرة ، فإن جعلنا
الشّهرة حجّة فهو ، وإلّا فلا بدّ أن يوقف المال ويهلك الأيتام من الجوع. والتمسّك
بالأخبار الواردة في أنّ كلّ رحم يرث نصيب من يتقرّب به لا يعطى إلّا أنّ لكلّ
واحد من الفريقين نصيب والدهم ، ولا يعطى كيفية القسمة بينهم بأنفسهم. والعمل
بعموم آية : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) كما ذهب إليه السيّد ومن تبعه ، فمع أنّه يوجب الرجوع إلى
قول السيّد في الأصل ، وأنّه في نفسه ممنوع
__________________
لكون الأولاد
حقيقة في ولد الصّلب إنّما هو ظاهر آية ولا حجّة فيه عندهم ، فلا بدّ للأخباريين
هنا من بيان دليل قطعيّ على جواز التوقّف والاحتياط وإرشادهم إيّانا سبيل الاحتياط
إذا كان الفريقان كلاهما أيتاما صغارا فقارا لا حيلة لهم في المعيشة إلّا أخذ
مالهم.
وبالجملة ، من سلك
سبيل الفقه واطّلع على أحكامه وعاشر الناس ولاحظ وقائعهم المختلفة ومقتضياتهم
المتناقضة ، وتتبّع الأدلّة ومؤدّاها وتأمّل فيها حقّ التأمّل وميّزها حقّ التميّز
، وعرف الفرق بين زمان المعصوم عليهالسلام وغير زمانه ، يعلم أنّ ما ذكره الأخباريّون محض كلام بلا
محصّل.
ولو فرضنا في
مسألة قيام الشّهرة في أحد طرفي المسألة وخبر واحد في الطرف الآخر من دون عامل أو
مع عامل نادر ، فعلى الأخباريّ أن يثبت أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد تشمل مثل هذا
المقام ، فلا يجوز العمل بالشّهرة.
فإن قال : لا أقول
بنفي العمل ولا بوجوبه ، بل أتوقّف وأحتاط.
فأقول : كيف تصنع
فيما لا يمكن ذلك فيه ، بل أقول لك هنا كلاما هو بمنزلة السرّ لمختار العاملين
بالظّنون في أمثال ذلك ، وهو : إنّ العاقل البصير لا بدّ أن يلاحظ مضارّ طرفي
الفعل والترك في كلّ ما يريد ، ولا يقتصر على أحد الطرفين ، ولذلك أمثلة كثيرة
منها : الاجتناب عن مساورة عامّة الناس لكون غالبهم غير محترزين عن النجاسات ،
فإنّ الاحتياط عن النجاسة حسن ، لكنّ الاجتناب عن كسر قلوب
__________________
المؤمنين وتضييق
الأمر والمفاسد المترتّبة على ذلك ممّا ليس هنا مقام تعداده أيضا حسن ، بل أحسن.
وكذلك الاحتياط في
الفتوى والعمل حسن ، لكنّ إقامة المعروف وإغاثة الملهوف ورفع المفاسد وقطع
الدّعاوي بين الناس ، والإصلاح بينهم أيضا حسن ، بل أحسن وهكذا.
فإذا ورد عليك
مسألة وتردّد أمرك بين أن تحكم فيها بما أدّى إليه ظنّك وأن تحتاط ، فكما تحتاط في
الفتوى والعمل بالظنّ من جهة ما دلّك عليه من الآيات والأخبار الدالّة على حرمة
العمل بالظنّ وبتذكّرها تثبط عن الدّخول فيه ، فتذكّر حينئذ أيضا ما ورد عليك من الآيات
والأخبار الدالّة على إقامة المعروف والإصلاح بين الناس ، وأنّه لا حرج في الدّين
ولا عسر ولا ضيق ، وأنّ التسبيب لتلف الأموال والنفوس وتعطيل أحكام الشرع مذموم.
وعليك أن تحتاط من
أن يكون ذلك من جهة الوسواس وتسويل الشيطان ، فإنّ الشيطان قد يصير عالما صالحا
متنسّكا لأجل تغرير الصّلحاء والعبّاد. ألا ترى إنّه يوسوس في أحكام النجاسات
ونيّة العبادات إلى أن يجعل الإنسان متأذّيا عن طاعة الله ، ولا يتعرّض لحال أمر
الإنسان في الاجتناب عن المحرّمات المالية وحقوق الناس وغيرها ، فترى الوسواسيين
مجتنبين عن الطاهر اليقيني بسبب احتمال قربه بالنجس ، ولا يحتاطون أبدا من أكل
لحوم السّوق ، مع ظهور أنّ أكثر الجزّارين ممّا لا يعتمد على دينهم وتقواهم ، بل
ولا يدرون كثير منهم مسائل الذّبح والتذكية ، فلعلّه أكل لحم الميتة غالبا ، وكذلك
لا يجتنبون عن أكل السّكر ، بل ولبس
__________________
منسوجات أهل الكفر
، مع أنّ الغالب أنّهم ملاقوها بالرّطوبة. وكما أنّ عدم التنزّه عن النجاسة يوجب
الهلاك ، فكذلك أكل الحرام.
وهكذا الكلام في
فتوى القصاص ، فربّما يظهر لفقيه لزوم القصاص ويحتاط لأجل التحرّز عن الدّخول في
أحكام الدّماء وينسى عمّا ذكره الله في كتابه أنّ : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
،) وعن النظر إلى حال أولياء الدّم ، مع ما بهم من الوجع
والألم وأنّ تركه ربّما يوجب زيادة قتل النفوس وغير ذلك ، بل أقول لك أنّه ربّما
يكون ظنّ أحدهم متاخما للعلم ، بل يصير إلى حدّ العلم العادي ولا يجترئ على فتوى
القصاص ، فإن سألته عن ذلك يجيب بأنّه يخاف الله عن سوء الحساب ، وإن تتبّعت حاله
لا تجد يقينه بالمعاد وعذاب جهنّم أكثر ممّا ظهر له من حقيقة الأمر ، فكيف يصير الفرع
زائدا على الأصل.
وبالجملة ، لا بدّ
من ملاحظة طرفي الإفراط والتفريط أعاذنا الله من الميل إلى الهوى ومتابعة النفس
وإطاعة الشيطان ، ومع ذلك كلّه ، فلا تغترّ بما نهيتك عن التزام الاحتياط ويصير
ذلك سببا للمسامحة في الدّين والمساهلة في الفتوى ، فإنّ ذلك أيضا من الموبقات
المهلكة ومن أعظمها ، بل عليك بالاقتصاد وبذل الجهد والوسع ثمّ العمل بمقتضاه.
الثالث : إنّ مخالفة ما ظنّه المجتهد
حكم الله ، مظنّة للضرر ، ودفع الضرر المظنون واجب .
وردّ : بمنع أنّ
مخالفة الظنّ مظنّة للضرر ، لأنّ علمنا بوجوب نصب الدّلالة من الشارع على ما يتوجّه التكليف به ، يؤمننا الضّرر عند صدق المخبر
، مع أنّه
__________________
منقوض برواية
الفاسق ، بل برواية الكافر. فإنّ الظنّ يحصل عند خبره ، ولا يمكن أن يقال أنّه
مخرج بالإجماع ، لأنّ الدّليل العقلي لا يختلف العقلي لا يختلف بحسب مظانّه ، ولا
بدّ أن يكون مطّردا.
وربّما يمنع وجوب دفع الضّرر المظنون ، بل هو أولى للاحتياط. وعلى
تقدير التسليم فإنّما يسلم في العقليات الصّرفة المتعلّقة بأمر المعاش ، دون
المسائل الشرعية المتعلّقة بالمعاد ، فإنّ العقل يستقلّ بمعرفة حكم العقليات دون
الشرعيات.
أقول : مراد
المستدلّ أنّه إذا علم بقاء التكليف ضرورة وانحصر طريق معرفة الحكم الشرعي في
الظنّ ، فيجب متابعته ولا يجوز تركه بأن يقال : الأصل براءة الذمّة من هذا التكليف ، إذ ما
ظنّه حراما أو واجبا ، فيظنّ أنّ الله تعالى يؤاخذه على مخالفته ، وظنّ المؤاخذة
موجب لوجوب التحرّز عقلا ، ولا وجه لمنع ذلك.
وما ذكره من السّند فيه ، أنّ وجوب نصب الدّلالة القطعية بالخصوص
على الشارع حينئذ ممنوع ، وهو أوّل الكلام. ألا ترى أنّ الإمامية تقول بوجوب
اللّطف على الله تعالى ونصب الإمام عليهالسلام لإجراء الأحكام والحدود ورفع المفاسد
__________________
والإصلاح بين
الناس وإقامة المعروف ، ومع ذلك مخفيّ عن الأمّة وإن كان بسبب ظلم ظالميهم.
وكما أنّ المجتهد
صار نائبا عنه بالعقل والنقل ، وكان اتّباعه واجبا كاتّباعه ، فكذلك ظنّ المجتهد
بقولهم ودينهم وشرائعهم صار نائبا عن يقينه بها.
وكما كان يجب أن
يكون الإمام عليهالسلام عارفا بجميع
الأحكام بحيث لو احتاجت الأمّة أعلمهم بها وإن لم تكن محتاجة بالفعل إليها ، فكذلك
يجب للمجتهد الاستعداد لجميع الأحكام بقدر طاقته ليرفع احتياج الأمّة عند احتياجهم
، وإن لم يكن فعليّة الاجتهاد واجبا ، ولا ريب أنّه لا يمكن له تحصيل الكلّ
باليقين ، فناب ظنّه مقام يقينه.
ولمّا لم يكن
إثبات اليقين بحجّية أخبار الآحاد وظواهر الكتاب في زماننا لما أشرنا سابقا ،
فغاية الأمر حصول ظنّ بحجّيتها لنا. والاعتماد على أصل البراءة قد عرفت حاله ،
وكذلك التوقّف والاحتياط مع عدم دليل عليهما.
نعم إذا فرض عدم
حصول ظنّ للمجتهد في مسألة أصلا ، فيرجع فيه إلى أصل البراءة.
لا يقال : أنّه
على هذا التقرير يرجع مآل هذا الدّليل إلى الدّليل الأوّل ، لأنّ مرجع الدّليل
الأوّل إلى لزوم تكليف ما لا يطاق في معرفة الأحكام لو لم يعمل بظنّ المجتهد ،
ومرجع هذا الدّليل إلى أنّ ترك العمل بالظنّ يوجب الظنّ بالضّرر.
قوله : مع أنّه
منقوض برواية الفاسق.
فيه : أنّ عدم
جواز العمل بخبر الفاسق إذا أفاد الظنّ ، أوّل الكلام ، إذ اشتراط
__________________
العدالة معركة
للآراء ، والاستدلال بالآية غاية الظنّ ، ولم يحصل العلم بحجّية هذا الظنّ كما مرّ
، مع انّ الشيخ صرّح بجواز العمل بخبر المتحرّز عن الكذب وإن كان فاسقا بجوارحه ،
ولا ريب أنّ ذلك من القرائن الدّاخلة لا القرائن الخارجة ، مع أنّ المشهور بينهم
جواز العمل بالخبر الضّعيف المعتضد بعمل الأصحاب ، ولا ريب أنّ ذلك لا يفيد إلّا الظنّ ، وغايته أن يثبت حجّية هذا الظنّ بما
ورد من الأخذ بالمشهور بين الأصحاب ، وهو مع أنّه قد يعارض بغيره من المرجّحات ،
ظنّ حاصل من خبر الواحد ، بل من الترجيح الحاصل بين مختلفاتها وقد عرفت حاله. والحاصل
، أنّا إن لم نجوّز العمل بخبر الفاسق فإنّما هو لأجل عدم حصول الظنّ به أو لحصول
الظنّ بعدمه ، لا لأنّه فاسق وإن حصل الظنّ به.
وهكذا يقال إذا
أورد النقض بالقياس أيضا ، بل نقول : انّ الواجب على المجتهد العمل بمقتضى ما
يؤدّيه إلى الظنّ بالحكم من الأدلّة التي تتداول إلّا خبر الفاسق مثلا أو القياس مثلا ، وذلك إمّا لأنّهما
لا يفيدان الظنّ ، وذلك هو علّة منع الشّارع عنهما أو لأنّهما مستثنيان من
الأدلّة المفيدة للظنّ ، لا أنّ الظنّ الحاصل منهما مستثنى من مطلق الظنّ .
وهذا الكلام يجري
في الوجه الأوّل أيضا ، لأنّ تكليف ما لا يطاق إذا
__________________
اقتضى العمل
بالظنّ بعد انسداد باب العلم ، فلا معنى لاستثناء الظنّ الحاصل من القياس.
والجواب : إنّ
تكليف ما لا يطاق وانسداد باب العلم من جهة الأدلّة المقتضية للعلم أو الظنّ
المعلوم الحجّية مع بقاء التكليف ، يوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ ، يعني في نفسه
، ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّا أقوى.
وبالجملة ، ما
يدلّ على مراد الشارع ولو ظنّا ، ولكن لا من حيث إنّه يفيد الظنّ ، لا أنّه يوجب
جواز العمل بالظنّ المطلق النفس الأمري. وهذا المعنى قابل للاستثناء ، فيقال : إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه ويدلّ
على مراد الشارع إلّا بالقياس ، وبعد وضع القياس من البين ، فإذا تعارض باقي
الأدلّة المفيدة للظنّ فحينئذ يعتبر الظنّ النفس الأمريّ ويلاحظ القوّة والضعف ،
بل لا يبقى حينئذ ظنّ ضعيف ، بل الأقوى يصير ظنّا والأضعف وهما.
ويمكن أن يقال :
أنّ في مورد القياس لم يثبت انسداد باب العلم بالنسبة إلى مقتضاه ، فإنّا نعلم
بالضّرورة من المذهب حرمة العمل على مؤدّى القياس ، فنعلم أنّ حكم الله غيره وإن
لم نعلم أنّه أيّ شيء هو ، ففي تعيينه يرجع إلى سائر الأدلّة وإن كان مؤدّاها عين
مؤدّاه ، فليتأمّل ، فإنّه يمكن منع دعوى بداهة حرمة القياس حتّى في موضع لا سبيل
إلى الحكم إلّا به.
فإن قلت : لو لم
يحصل الظنّ بشيء حين انسداد باب العلم حتّى بالقياس أيضا ،
__________________
فما المناص في
العمل والتخلّص عن لزوم تكليف ما لا يطاق ، فإن عملت بأصل البراءة حينئذ ، فلم لم
تعمل به أوّلا؟
قلت : المناص
حينئذ هو المناص حين تعارض الأدلّة لمن لم يرجّح شيئا مع وجود الأدلّة المعلومة
الحجّية ، فيتوقّف في الفتوى أو يبني على أصل البراءة. وكذلك في الظّنون الغير
المعلوم الحجّية ، إذا تعارضت أو فقدت ، فقد يتوقّف أو يعمل على أصالة البراءة ،
وعدم جواز العمل بأصل البراءة أوّلا ، لأنّ الثابت من الأدلّة أنّ جواز العمل عليه
موقوف على اليأس من الأدلّة بعد الفحص ، فكما يعتبر العمل عليه بعد اليأس من
الأدلّة في الأدلّة الاختيارية ، فكذا الحال في الأدلّة الاضطرارية.
فإن قلت : ما ذكرت
من منع بقاء الحرمة عند انحصار العمل في مثل القياس مثلا أو غيره من الظّنون التي
لم يثبت حرمتها بالخصوص أيضا ؛ يدفعه منع بقاء التكليف حينئذ أيضا.
قلت : ما دلّ على
حرمة العمل بالقياس وغيره من الظّنون أيضا ، ليس بأقوى دلالة وأشمل أفرادا وأوقاتا
ممّا دلّ على بقاء التكليف إلى آخر الأبد.
فغاية الأمر عدم
الوجوب فما الدّليل على الحرمة؟
ثمّ أجدّد المقال
في هذا المجال ليظهر جليّة الحال ، وأقول غير آل جهدي في إقامة الدّليل على
الظّنون وإثبات العلم في حجّية بعضها بالخصوص مميّزا إيّاها عن غيرها : إنّه لا
ريب ولا شكّ أنّ الله بعث رسولا وأنزل كتابا وسنّن شرائع وأحكاما وأراد من عباده
العمل عليها. وطريق إبلاغ الأحكام إلى العباد على ما
__________________
هو وفق مجرى عادته
تعالى ، إنّما هو بالنطق والكلام غالبا ، ونطقه تعالى مع عباده ليس إلّا بلسان رسوله ، إمّا
بتلاوة كتابه عليهم ، أو بحكمه بنفسه وبيانه إيّاها بلسانه الشريف. فما حصل العلم
بمراد الله تعالى للمخاطبين المشافهين من الكتاب أو سنّته صلىاللهعليهوآله فلا كلام فيه ، وفي أنّه حجّة على العباد ويجب متابعتهم
وحصول العلم من الخطاب ولو بضميمة المقام ، ممّا لا يداني إمكانه ريب وشكّ. وكذلك
ما حصل الظنّ به لهم من العمل على مقتضى الحقائق والمجازات بحمل الألفاظ على
حقائقها عند عدم القرينة على خلافها ، والبناء على القرائن في الحمل على المعاني
المجازية ، لأنّ ذلك كان طريقة العرف والعادة من لدن خلقة آدم عليهالسلام إلى يومنا هذا ، وأنّهم كانوا يبنون المحاورات على ذلك ،
يعلم ذلك بملاحظة أحوال العرف والعادة علما وجدانيّا ، فالشّارع اكتفى في
المحاورات مع أصحابه بما حصل لهم الظنّ به في التكاليف أيضا.
والسرّ في ذلك مع
أنّ المحقّق عند أصحابنا هو التخطئة ، وانّ حكم الله الواقعي واحد في نفس الأمر
بالواقع ، أنّ عمدة العماد في التديّن والإيمان بالله هو أصل التوحيد وخلع الأنداد
والأضداد ، والتسليم والانقياد وتوطين النفس على تحمّل المشاقّ الواردة من قبله
تعالى. فالأحكام الفرعية وإن كانت من الأمور الحقيقيّة المتأصّلة الناشئة من
المصالح النفس الأمرية ، لكن العمدة في تأسيسها هو الابتلاء والامتحان وتقوية
الايمان بسبب الامتثال بها ، والتقرّب بها من جهة أنّه
__________________
إطاعة ، فإذا فهم
المكلّف من خطاب الشّارع فهما علميّا بنفس الحكم ، وامتثل به ، فهو جامع
للسّعادتين ، أعني الفوز بالمصلحة الخاصّة الكامنة فيه ، والفوز بالمصلحة العامّة
التي هي نفس الانقياد والإطاعة.
وإذا فهم فهما
ظنّيا على مقتضى محاورة لسان القوم الذي أنزل الله الكتاب وبعث الرّسول عليه ، فهو
وإن فقد المصلحة الخاصّة ، لكنّه أدرك المصلحة العامّة ، بل عوّض المصلحة الخاصّة
أيضا ، لئلّا يخلو عمله عن الأجر وفاقا للعدل لحصول الانقياد بدونه أيضا.
وبعد ملاحظة هذا
السرّ يندفع ما يتوهّم أنّه كيف يجمع هذا مع القول بكون الأحكام ثابتة في نفس
الأمر في كلّ شيء على نهج مستقرّ ثابت ، وأنّ التصويب باطل.
والحاصل ، أنّ
المقصود بالذّات من الخطاب وإن كان حصول نفس الحكم النفس الأمري ، لكن يظهر من جعل
الشارع مناط تفهيمه النطق بالألفاظ التي جرى عادة الله بأنّها لا تفيد اليقين في
الأغلب ، أنّه راض بهذا الظنّ ويكتفي به عمّا أراده في نفس الأمر ، لأنّه غير فاقد
للمصلحة أيضا كما عرفت.
فهذا الظنّ ممّا
علم حجّيته ، وهذا هو الذي اتّفق العلماء على حجّيته من دون خلاف بينهم ، قائلين
أنّ الظنّ في موضوعات الأحكام من مباحث الألفاظ وغيرها حجّة إجماعا.
ثمّ إنّ هذا
الكلام إذا نقل إلى غير المشافهين المشاركين لهم في التكليف بمقتضاه ، فإن كان
نقله بمعناه ، بمعنى أنّ مراده الواقعي صار يقينيا لهم وعلموا أنّه أراد ذلك لا
غير ، فلا كلام فيه أيضا. وإن كان نقله بلفظه ، بمعنى أنّه حصل لهم العلم بأنّ هذا
هو لفظ الشّارع ، فالإشكال حينئذ في أنّ الظنّ الحاصل لهم من هذا اللفظ القطعي
الصّدور ، حجّة عليهم أم لا.
فنقول حينئذ : إنّ
هذا اللفظ على قسمين : قسم يحتمل أن يكون ممّا يقصد به بقاءه في الدّهر والاستفادة منه ، كتأليفات المصنّفين ، وقسم لا يقصد به
ذلك ، بل إنّما قصد به تفهيم المخاطبين وان كان غيرهم أيضا مشاركون لهم في أصل
الحكم. فأمّا الكتاب العزيز ، فهو وإن كان يمكن أن يكون من القسم الأوّل ، وذلك لأنّا وإن لم نقل بعموم خطاب المشافهة للغائبين كما
حقّقناه في محلّه ، لكنّا نقول بأنّ الله تعالى يريد من جميع الأمّة فهمه والتدبّر
فيه والعمل على مقتضاه ، خلافا للأخباريين كما بيّناه سابقا ، فيكون هذا الظنّ
أيضا حجّة بالخصوص ، لأنّ طريقة العرف والعادة في تأليف الكتب وإرسال المكاتيب
والرسائل إلى البلاد البعيدة ، سيّما مع مخالفة الألسنة ومباينة الاصطلاحات تقتضي
ذلك ، فإنّ المصنّفين وأهل المكاتيب والرسائل لا يريدون ممّن يبلغ إليه كتابهم
إلّا العمل على مقتضاه بقدر فهمهم ووسعهم ، فالذي يجب على الله أن يكتفي عنّا بما
نفهمه من كتابه إمّا يقينا أو ظنّا ، ولكن لم يثبت ذلك ثبوتا علميّا لاحتمال أن
يكون الكتاب العزيز من باب القسم الثاني سيّما الخطابات الشّفاهية منه ، وسيّما ما اشتمل على الأحكام الفرعية ، ولا ينافي ذلك
تعلّق الغرض ببقائه أبد الدّهر أيضا لحصول الإعجاز وسائر الفوائد مع ذلك أيضا.
فإن قلت : إنّ
أخبار الثّقلين وغيرها ممّا دلّ على العرض على كتاب الله تعالى ،
__________________
تفيد أنّ الكتاب
من القسم الأوّل.
قلنا أوّلا : ننقل
الكلام إلى تلك الأخبار ونقول : إنّ الاستدلال بها فيما نحن فيه موقوف على أن يكون
تلك الأخبار من قبيل القسم الأوّل ، لا من باب مجرّد الخطاب الشفاهي مع الأصحاب.
وثانيا : أنّه لا
قطع لنا بكونها ظنّي الدّلالة بالنسبة إلى المشافهين في هذا المعنى ، كما ذكرنا
القدح من الأخباريين في دلالتها وإن كان خلاف الظاهر ، فإنّ غايتها الظنّ بكون
جواز العمل بما يظنّ من جهة الكتاب جائزا لهم ولا قاطع لحجّية هذا الظنّ. ويمكن أن يكون المراد تمسّكوا
بها إذا فسّرها الأئمّة عليهمالسلام كما ذكره الأخباريون وإن كان خلاف الظاهر.
وإن سلّمنا أنّ
تعاضد تلك الأخبار بعضها ببعض مع قرائن خارجية يفيد القطع بجواز العمل ، فذلك أيضا
لا يفيد إلّا جواز العمل في الجملة . وأمّا لو حصل ظنّ أقوى من ظاهر الكتاب من جهة خبر الواحد
وغيره من الأدلّة التي لم يثبت حجّيتها بالخصوص ، فلا قطع ، لوجوب العمل على ظاهر
الكتاب حينئذ.
__________________
وأمّا السنّة
المعلومة الصّدور عنه صلىاللهعليهوآله فيحتمل ضعيفا أن تكون مثل المصنّفات والمكاتيب ، ولكنّ
الأظهر أن يكون المراد منها تفهيم المخاطبين وبلوغ نفس الحكم إلى من سواهم بواسطة
تبليغهم ، ومع ذلك فلا يعلم من حاله رضاه عليهالسلام بما يفهمه الغير المشافهين حتّى يكون ظنّا معلوم الحجّية.
فهذا هو القدر الذي يمكن أن يقال أنّه الظنّ المعلوم الحجّية.
وأمّا أصل البراءة
فهو ليس من الظّنون التي علم حجّيتها ، بل هو من الأدلّة الظنّية كما أشرنا وسنشير
إليه في محلّه.
وأمّا خبر الواحد
فقد عرفت أنّه لا دليل على وجوب العمل به ، إذ أقوى أدلّته الإجماع وهو على فرض
تسليمه لا يثبت إلّا حجّيته في الجملة وفي زمان خاص ، وفي نوع خاصّ إذ حجّيته في الأعصار المتأخّرة عن زمن الصّحابة غير
معلومة. وكذلك القدر المسلّم منه خبر العادل ، والمسلّم منه العادل المعلوم
العدالة ، والمسلّم منه ما لم يعارضه مثله أو لم يعارضه أضعف منه إذا كان معمولا
به وهو مهجورا ولم يسنحه السّوانح من المعارضات والإشكالات في علاج
__________________
التعارض وغيره
ممّا ليس هنا محلّ البسط ، وقد أشرنا إلى بعضها في مباحث التخصيص وغيرها. وأكثر
هذه السّوانح يعود إلى كيفية الاستنباط من الكتاب والسنّة المتواترة أيضا باعتبار
حصول العلم بالتخصيص والتقييد بالنظر إلى العمومات في الجملة ، واحتمال ورودها فيما لم نطّلع عليه ، فيجب
البحث والفحص إلى أن يحصل الظنّ بعدمه كما مرّ في محلّه ، لما بيّنا أنّها من باب
الخطابات الشّفاهية المقصودة منها تفهيم المخاطبين ، واحتمال أن يكون معهم من
القرائن ما يفيد أنّ المراد خلاف ظاهرها ، كما علم في كثير من المواضع بالإجماع
وغيره ، واحتمال أن يكون من هذا الباب أيضا يكفي . وثبوت اشتراكنا معهم في أصل التكليف بالإجماع لا يوجب
اشتراكنا معهم في كيفية الفهم من هذه الأدلّة وتوجّه الخطاب إلينا ، ولا إجماع على
مساواتنا في العمل بالظنّ الحاصل منها لنا.
فالحاصل ، أنّ
العمل على مقتضى الظنّ المعلوم الحجّية مجرّد كلام لا يحصل منه الفقه ، فبعد حصول
العلم ببقاء التكليف بالتفصيلات المجملة ، كيف يمكن تحصيل العلم بها بمجرّد حصول
العلم بجواز العمل بخبر الواحد الذي علم كون راويه عادلا على النهج المتّفق عليه ،
مع كونه غير معارض بشيء آخر ، خاليا عن
__________________
السّوانح التي لا
مناص عنها إلّا بالعمل بالظنّ ، مع أنّه إن لم نقل بامتناع وجوده في أخبارنا ، فهو في غاية الندرة ، ولا إجماع ولا دليل
قطعي آخر يدلّ على حجّية الظّنون الحاصلة من جهة المعالجات كما لا يخفى ، سيّما مع ملاحظة الاختلاف في الأخبار التي
وردت في علاج التعارض بينها .
وكذلك الكلام في
الكتاب والسنّة المتواترة باللفظ مع غاية ندرة علميّة مدلولهما. وكذلك أصل البراءة
إن سلّمنا كونه ظنّا معلوم الحجّية ، إذ العلم بحجّيتها مع وجود خبر صحيح يفيد ظنّا أقوى منه أو ظنّ آخر
ممنوع.
ودعوى الإجماع على
حجّيتها حتّى فيما نحن فيه غير مسموعة.
ونقل الإجماع لا
يفيد لنا إلّا الظنّ لو ثبت ، فيصير حال الظّنون المعلومة الحجّية عندنا مثل حال
نفس الأحكام المعلومة إجمالا بالضّرورة من الدّين. فكما أنّ العلم الإجمالي بنفس
الأحكام لا يفيد في التفصيلات ، فكذلك العلم بجواز العمل بالظنّ الإجمالي في
استفادتها لا يفيد فيها ، إذ العلم بجواز العمل بظاهر الكتاب والسنّة المتواترة في
الجملة أو مع خبر الواحد في الجملة أيضا ، مع عدم العلم بحجّية ما
يستفاد منها مفصّلا ، بضميمة ما لا مناص لنا عنه في علاج الاختلالات الحاصلة من
المعارضات اليقينية والمحتملة ، كيف يجدينا فيما نريده من العمل بأحكام الله تعالى
مع الاجتناب عن العمل بظنّ لا نعلم حجّيته بالخصوص ، وليس
__________________
ذلك غالبا إلّا
مثل من يتكلّف في جعل إحدى مقدّمتي قياسه قطعيّة مع كون الأخرى ظنّية ، فهل ينفعه
ذلك في صيرورة النتيجة قطعية ، أو من يحصّل العلم في بعض أجزاء صلاته مثلا مع كون
سائر الأجزاء ظنّية ، فهل ينفعه ذلك في صيرورة صلاته يقينية مع ملاحظة عدم كون
الجزء مطلوبا بذاته وغير مفيد منفردا في نفسه. ولو فرض ثبوت حكم مستقلّ من جهة الظّنون المعلومة الحجّية مستقلا من دون حاجة إلى
غيرها ، فهو في غاية الندرة ، ونتكلّم فيما لا يمكن ذلك فيه مع ثبوت التكليف فيه
يقينا. فثبت من جميع ذلك أنّه لا مناص من العمل بالظنّ ، إلّا ما أخرجه الدّليل ،
كالقياس والاستحسان ونحوهما .
فمن جميع ما ذكرنا
ثبت حجّية خبر الواحد ، وهذا هو الدليل المعتمد في إثبات حجّيتها.
ثمّ قد ظهر لك
ممّا حقّقنا المقام ، أنّه لا فرق بين مسائل أصول الفقه وفروعه في جواز البناء على
الظنّ ، وأنّه لا دليل على اشتراط القطع في الأصول .
نعم لا بدّ في
إثبات حجّية ظنّ المجتهد من دليل قطعي ، وسنشير في موضعه أنّه من الأصول الكلامية
لا الأصول الفقهية. وإذا صار ظنّه حجّة فلا فرق بين الأصول والفروع ، وسيجيء زيادة
توضيح لهذا في مبحث الاجتهاد والتقليد.
فلنرجع إلى ذكر أدلّة النافين لحجّية
خبر الواحد
وهو أيضا من وجهين
:
أحدهما : هو الدّليل على حرمة العمل
بالظنّ ، إلّا ما أثبته الدّليل حذوا لما
__________________
ذكرناه في خامس
الأدلّة .
وثانيهما : في نفي حجّية خبر الواحد
بالخصوص.
أمّا الأوّل : فهو
الآيات والأخبار الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ.) وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.) وغير ذلك.
فإنّ النّهي
والذمّ على اتّباع الظنّ دليل على الحرمة ، وخبر الواحد لا يفيد إلّا الظنّ
بالفرض.
والجواب : أمّا عن
آية النّهي فإنّها مختصّة بالنبيّ صلىاللهعليهوآله ، ولا دليل على مشاركة غيره له في جميع الخطابات.
سلّمنا ، لكنّ الخطاب
شفاهي ، فلعلّه كان قرينة تدلّ على خلاف المقصود من اختصاصها بأصول الدّين ، أو
بما ينسب إلى المسلمين كما يظهر من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ ،) ومن إرادة المعنى الرّاجح من العلم مجازا ، مع أنّ اشتراك
غير المشافه للمشافه إنّما هو بالإجماع والضّرورة ، وهما منتفيان في موضع النّزاع
، وهو صورة انسداد باب العلم.
وأيضا التمسّك
بهذه الآية يفيد حرمة العمل بالظنّ ، فالتمسّك بالظنّ الحاصل بها هو ما نفاه نفس
الآية ، وكلّ ما يستلزم وجوده عدمه فهو محال .
__________________
ودعوى قطعيّة
حجّية الظنّ الحاصل من الكتاب قد عرفت الكلام فيه ، وأنّه ليس بثابت في الأصل ، وعلى فرض الثبوت فلم يثبت
فيما كان هناك خبر واحد يدلّ على حكم بالخصوص ، مع أنّ الآية إنّما تفيد العموم لو
كانت كلمة ما نكرة ، ولو كانت موصولة فلا تنافي جواز اتّباع بعض الظّنون.
وأمّا مثل قوله
تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) فعلى خلاف الأصل ، فإنّ الظاهر من ليس كلّ ، أنّه سور
للسّلب الجزئي.
وأمّا عن آية
الذمّ ، فمع أنّه يرد عليه بعض ما ذكر فيه انّها ظاهرة في أصول الدّين بالنظر إلى سياقها ، وإن قلنا
بأنّ السّبب والمحلّ لا يخصّص اللفظ.
سلّمنا العموم في
جميع الآيات لكن ما ذكرنا من الأدلّة يخصّصها ، لأنّ الخاصّ مقدّم على العامّ.
وأمّا الثاني :
فهو ما ذكره السيّد المرتضى رحمهالله في «جواب المسائل التبانيات»
__________________
من أصحابنا لا
يعملون بخبر الواحد ، وأنّ ادّعاء خلاف ذلك عليهم ، دفع للضرورة. قال : لأنّا نعلم
علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب ولا شكّ ، أنّ علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى
أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشّريعة ولا التعويل عليها ، وأنّها ليست
بحجّة ولا دلالة ، وقد ملئوا الطوامير وسطّروا الأساطير في الاحتجاج على
ذلك والنقض على مخالفيهم ، ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنّه مستحيل من طريق
العقول أن يتعبّد الله بالعمل بأخبار الآحاد ، ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد
مجرى ظهوره في إبطال القياس في الشريعة وخطره .
وقال في المسألة
التي أفردها في البحث عن العمل بخبر الواحد ، إنّه بيّن في جواب «المسائل التبانيات» : أنّ العلم الضّروري حاصل لكلّ مخالف للإمامية أو موافق ،
بأنّهم لا يعملون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم ، وأنّ ذلك قد صار شعارا لهم
يعرفون به ، كما انّ نفي القياس في الشريعة من شعارهم الذي يعلمه منهم كلّ مخالط
لهم.
__________________
وتكلّم في «الذّريعة»
على التعلّق بعمل الصّحابة والتابعين بأنّ الإمامية تدفع ذلك وتقول : إنّما
عمل بأخبار الآحاد من الصحابة المتآمرون الّذين يحتشم التصريح بخلافهم والخروج من جملتهم
، فإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرّضا بما فعلوه ، لأنّ الشرط في دلالة
الإمساك على الرّضا أن لا يكون له وجه سوى الرّضا من تقيّة وخوف وما أشبه ذلك ،
هكذا نقله عنه في «المعالم» .
والجواب عنه : منع
ما ادّعاه ، ولا يحصل لنا العلم بالإجماع الحقيقي على ذلك ، لو لم
يحصل على عدمه ، والاتّكال على نقله الإجماع رجوع إلى العمل بخبر الواحد ، مع أنّه
لو سلّم الإجماع فإنّما يسلّم فيما لو لم ينقطع باب العلم ، والمفروض في زماننا
انقطاعه كما مرّ. فالقدر المسلّم منه في زمان أصحاب الأئمّة عليهمالسلام لكونهم قادرين على تحصيل العلم ، بل ولبعضهم لعدم تمكّن
كثير منهم من العلم أيضا.
ووجه امتناع أصحاب
الأئمّة عليهمالسلام عن العمل بأخبار الآحاد لعلّه كان لأجل تمكّنهم ، بل
الظاهر أنّ السيّد رحمهالله أيضا كان متمكّنا لقرب عهده بصاحب الشّرع ووجود القرائن والأمارات ، ولذلك
قال : إنّ معظم الفقه يعلم بالضّرورة من مذاهب أئمّتنا عليهمالسلام ، وبالأخبار المتواترة ، وما لم يتحقّق فيه ذلك ، فيعوّل
فيه على إجماع
__________________
الإمامية ، وفي
سائر المتخالفات يرجع إلى التخيير بين الأقوال.
وأنت خبير بأنّه
لا يحصل لنا سبيل إلى العلم بتفاصيل الفقه بشيء ممّا ذكر ، فكيف يكون حالنا متّحدة
مع حال السيّد رحمهالله وأصحاب الأئمّة عليهمالسلام ، مع أنّ السيّد أيضا يكتفي بالظنّ فيما لا سبيل فيه إلى
العلم.
هذا إذا أردنا
إثبات حجّية الخبر في أمثال زماننا ، وكان غرضنا إبطال القول بحرمة العمل به في
أمثال هذا الزّمان ، وأمّا لو أردنا إثبات جواز العمل به مطلقا ومع تمكّن العلم ، فيحتاج إلى تتميم الأدلّة المخصوصة
بإثبات حجّية خبر الواحد مطلقا . والظاهر من الإجماع الذي إدّعاه الشيخ والعلّامة هو ذلك.
بقي الكلام في
تحقيق الحقّ في هذا الإجماع المدّعى على طرفي النقيض من السيّد والشيخ ، ووجه ذلك
المخالفة .
فاعلم ، أنّ إنكار
العمل بخبر الواحد في الجملة ممّا لا ريب فيه أنّه كان مذهبا للإمامية ، وعلى ذلك
تنزّل دعوى السيّد وإن غفل في تعميم الدّعوى.
وذكر في «المعالم»
في وجه المخالفة في الدّعويين ، أنّ السيّد كان اعتماده في هذه الدّعوى على
ما عهده من كلام أوائل المتكلّمين منهم ، والعمل بخبر الواحد بعيد عن طريقتهم ،
حتّى قال بعضهم : باستحالته عقلا ، وتعويل الشيخ
__________________
والعلّامة رحمهالله كان على ما ظهر لهما من حال علمائنا المعتنين بالفقه
والحديث حيث أوردوا الأخبار في كتبهم واستراحوا إليها في المسائل الفقهية.
وأقول : الذي هو
صريح كلام الشيخ في «العدّة» موافقته للسيّد في إنكار الإمامية للعمل بخبر الواحد
، لكنّه ذكر أنّه هو ما رواه المخالفون في كتبهم.
وأمّا الذي رواه
أصحابنا الإمامية في كتبهم وتداولوه بينهم ، فاتّفقوا على العمل بها ، وصاحب «المعالم»
رحمهالله بعد ما ذكر في وجه الدّعويين ما ذكرنا أوّلا كتب في «الحاشية»
أنّ ذلك كان قبل وقوفه على كتاب «العدّة» ثمّ نقل رحمهالله في «الحاشية» في وجهها ما نقلناه عن الشيخ واستبعده عن الصّواب ، لأنّ الاعتراف
بإنكار عمل الإمامية بأخبار الآحاد لا يعقل صرفه إلى روايات مخالفيهم ، لاشتراط
العدالة عندهم ، وانتفاؤها في خبرهم كاف في الإضراب عنها ، فلا وجه للمبالغة في
نفي العمل بخبر يروونه.
أقول : ويمكن دفع
الاستبعاد بأنّ الإمامية لمّا كانوا مخالطين مع المخالفين ، وكان المخالفون من
مذهبهم جواز وضع الأحاديث ، كما لا يخفى على من اطّلع على طريقتهم ، ومنها : ما
اشتهر أنّ سمرة بن جندب اختلق رواية عن رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآله بأمر معاوية في إزاء أربعمائة ألف درهم ، بأنّ آية اشتملت
على مذمّة عظيمة في شأن عليّ عليهالسلام ، وآية أخرى مشتملة على مدح عظيم نزلت في شأن قاتله ، وكذا
غيره من المعروفين بالكذب ، وما كانوا متمكّنين عن التصريح بتكذيبهم ، ومنع قبول
أخبارهم من حيث إنّها أخبارهم ، فاحتالوا فيه مناصا ، واعتمدوا في احتجاجاتهم على
أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم فلا يثبت به شيء ، وتخلّصوا بذلك عن تهمتهم فاشتهر بينهم هذا المطلب بهذا الاشتهار ، حتّى ظنّ السيّد
ونظراؤه أنّ ذلك كان مذهبا لهم في خبر الواحد ، وإن كان من طرق الأصحاب في فروع
المسائل.
والحقّ ، أنّ
الغفلة إنّما وقع عن السيّد في التعميم ، وأنّ العمل بخبر الواحد من طرق الأصحاب
كان جائزا عند الإمامية وعليها شواهد كثيرة لا تخفى على المتتبّع المتأمل.
ثمّ إنّ صاحب «المعالم»
رحمهالله تصدّى لرفع التنافي بين الدعويين وبيان الموافقة بين
المدّعيين ، وقال : الإنصاف أنّه لم يتّضح من حال الشيخ وموافقيه مخالفة
السيّد ، إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين عليهمالسلام واستفادة الأحكام منهم ، وكانت القرائن المعاضدة لها
متيسّرة كما أشار إليه السيّد ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد ليظهر مخالفتهم لرأيه فيه.
__________________
ثمّ استشهد على
ذلك بكلام المحقّق. وأنت إذا تأمّلت كتاب «العدّة» تعرف أنّ هذا الكلام بعيد
بمراحل عن الصّواب ، وكذلك لا شهادة في كلام المحقّق له ، ووجه غفلته رحمهالله أنّه لم يكن عنده كتاب «العدّة» حين تأليف «المعالم».
والحاصل ، أنّ في «العدّة»
مواضع متعدّدة من كلامه رحمهالله ، ينادي بأعلى صوتها ، أنّ كلامه في الأخبار المجرّدة عن
القرائن الدّالّة على صحّة الخبر وصحّة المضمون لا حاجة لنا إلى نقلها.
نعم ، خصّ الشيخ
القول بجواز العمل بأخبار الإمامية التي دوّنتها في الكتب المتداولة الدّائرة بين
الأصحاب ، سواء رواها الإمامية أو غيرهم أيضا إذا كان سليما عن المعارض ، وهذا هو
الذي نقله المحقّق عنه أيضا ، وأنت خبير بأنّ مجرّد ذلك لا يوجب كون تلك الأخبار
مقرونة بالقرائن المفيدة للقطع بالصدور ، سيّما مع تصريحه في مواضع كثيرة بما يدلّ
على أنّها غير موجبة للعلم ، فلاحظ ، مع أنّ كون تلك الأخبار مقترنة بالقرائن
المفيدة للقطع لأصحاب الأئمّة عليهمالسلام لا يفيد كونه كذلك عند الشيخ أيضا ، ولا دلالة في كلام
الشيخ على أنّها كانت كذلك عند هذا.
ولكنّ الحقّ
والتحقيق ، أنّ الاعتماد في الاستدلال بخبر الواحد في أمثال زماننا على الإجماع
أيضا مشكل. لأنّ ما نقله الشيخ وإن كان يفيد عموم حجّية الكتب المتداولة ، لكنّه
لفظ عامّ ، والاعتماد على عموم لفظ الإجماع المنقول في إثبات خبر الواحد دوريّ ، والعلم بجواز العمل بجميعها لأنفسنا غير معلوم ، فلا
__________________
يمكننا اليوم دعوى
الإجماع على حجّية جميع ما في الكتب المتداولة ، مع أنّ الإجماع لا يثبت إلّا جواز
العمل في الجملة ، وقطعيّة حجّية بعضها في الجملة مع الإجمال والاشتباه لا يحصل
منه شيء.
ودعوى الإجماع على
العمل بالنحو الّذي رخّصوه في الجمع والترجيح وتقديم بعضها على بعض ، مع عدم حصول
العلم بنفس الكيفيّة وخصوصيّتها لاختلاف وجوه الجمع والترجيح بالنسبة إلى الأخبار
وغيرها ، ممّا لا يسمن ولا يغني.
فظهر من جميع ذلك
، أنّ ذلك أيضا بعد التسليم حجّة إجماليّة لا يحصل العلم بتفاصيلها.
فالمرجع في حجّية
خبر الواحد حقيقة إنّما هو الدّليل الخامس كما أشرنا سابقا.
ثمّ إنّ بعض
المتأخّرين تمسّك بالأخبار الواردة في أمرهم عليهمالسلام بحفظ الكتب والعمل بها ، ولو سلّم التواتر فيها ، فإنّها
أيضا لا تفيد إلّا الإجمال كما بيّنا ، والله العالم.
__________________
قانون
ذكر العلماء للعمل بخبر الواحد شرائط
ترجع إلى الرّاوي ، وهي :
البلوغ والعقل
والإسلام والإيمان والعدالة والضبط.
والتحقيق ، أنّ
هذه الشرائط إنّما تتمّ إذا ثبت جواز العمل بخبر الواحد من الأدلّة الخاصّة به ،
وعلى القول بجواز العمل به من حيث هو.
وأمّا إذا كان
بناء العمل عليه من جهة أنّه مفيد للظنّ كما هو مقتضى الدّليل الخامس ، فلا معنى
لهذه الشرائط ، بل الأمر دائر مدار حصول الظنّ ، فحينئذ اشتراط هذه الشرائط لا بدّ
أن يكون للتنبيه على أنّ الخالي عن المذكورات لا يفيد الظنّ أو لبيان مراتب الظنّ
أو لإثبات تحريم العمل بالخالي عن الشرائط كالقياس ، وقد عرفت أنّه ليس كذلك ، إذ
قد يحصل الظنّ بخبر الفاسق والمخالف ما لا يحصل من غيره ، مع قطع النظر عن القرائن
الخارجية أيضا.
وستعرف الكلام في
دعوى حرمة العمل في الخالي عنها في الأكثر ، مع ما عرفت من الإشكال في صحّة
الاستثناء فيما ذكرناه في استثناء القياس.
وأمّا تفصيل القول
في الشرائط :
فأمّا البلوغ
والعقل ، فنقلوا الإجماع على عدم قبول خبر المجنون المطبق ، والصبيّ الغير
المميّز.
وأمّا المجنون
الأدواريّ ، فلا مانع من قبول روايته حال إفاقته إذا انتفى عنه أثر الجنون.
__________________
وأمّا الصبيّ
المميّز ، فالمعروف من مذهب الأصحاب وجمهور العامّة المنع ، ودليله الأصل وعدم شمول أدلّة حجّية خبر الواحد له ، وربّما يستدلّ
بالأولوية بالنسبة إلى الفاسق ، فإنّ للفاسق خشية من الله ربّما منعه عن الكذب
بخلاف الصبي .
وفيه : تأمّل.
وذهب آخرون إلى القبول قياسا على جواز الاقتداء به.
وردّ : ببطلان
القياس أوّلا ، وبمنع الأصل ثانيا. وبوجود الفارق ثالثا. فإنّهم يجيزون الاقتداء بالفاسق ولا يقبلون خبره.
هذا إذا رواه قبل البلوغ ، وأمّا إذا رواه بعده وسمعه قبله فلا إشكال في القبول
إذا جمع سائر الشرائط ، ولذلك قبل الصّحابة رواية ابن عبّاس وغيره ممّن تحمّل الرّواية قبل البلوغ.
__________________
وما ذكره بعض
الأصحاب من أنّ وجه ردّ الصدوق رحمهالله ما يرويه محمّد بن عيسى عن يونس ، هو هذا لا وجه له .
وأمّا الإسلام ،
فظاهر بعضهم دعوى الإجماع على ذلك ، مستندا إلى قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا).
__________________
أمّا الإجماع ،
فيشكل دعواه مطلقا حتّى في صورة انسداد باب العلم.
نعم يفيد دعواه في
تضعيف الظنّ الحاصل بخبره .
والحاصل ، أنّه
يمكن الاعتماد على الإجماع وإن كان منقولا لو ثبت حجّية خبر الواحد بالخصوص ، ولو
في صورة إمكان تحصيل العلم ، وأمّا في غيره ، فلا إلّا إذا أوجب نفي الظنّ.
وأمّا الاستناد
إلى الآية ، فإن كان مستند الإجماع هو أيضا هذه الآية ، فلا يبقى اعتماد على
الإجماع أصلا ، وإن كان المستند نفس الآية.
ففيه : منع
الدّلالة ، لمنع إطلاق الفاسق على الكافر المؤتمن الغير العاصي بجوارحه حقيقة ،
والاستدلال بطريق الأولوية حينئذ ممنوع ، فإنّه قد يكون الاعتماد على الكافر
الثّقة أكثر من الفاسق الغير المتحرّز عن الكذب.
نعم ، يمكن أن
يقال : لو سلّم عدم تبادر الكافر من الفاسق ، فلا نسلّم تبادر عدمه ، فغاية الأمر
الشكّ ، فيحتمل أن يكون الكافر فاسقا ، ولمّا كان الحكم معلّقا على الفاسق ، وهو
اسم لما هو في نفس الأمر كذلك كما سنبيّنه ، فيشترط قبول الخبر بعدمه ، ولا نعلم
إلّا بالعلم بعدم كونه فاسقا.
والجهالة كما قد تكون في كون الشيء من الأفراد المعلومة الفردية لمفهوم
،
__________________
فقد تكون في كون
الشيء من أفراد ذلك المفهوم مطلقا ، وهما سيّان فيما نحن بصدده.
ويمكن أن يقال :
مع تسليم صدق الفاسق على الكافر أيضا ، لا تدلّ الآية على عدم قبول روايته إذا كان
ثقة ، لأنّ معرفة كونه ثقة نوع تثبّت في خبره ولو كان إجمالا ، كما سنبيّنه في خبر
المخالفين.
وكيف كان ، فلا
ثمرة يعتدّ بها في خصوص العمل برواياتنا وإن كان يثمر في غير الرّواية المصطلحة
ممّا يحتاج إليه في الموضوعات.
وأمّا الإيمان ،
والمراد به كونه إماميّا اثني عشريّا ، فالمشهور بين الأصحاب اشتراطه لقوله تعالى
: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ)،
والكلام فيه مثل ما تقدّم ، بل أظهر. ومقتضى هذا الشرط عدم جواز العمل بخبر
المخالفين ولا سائر فرق الشّيعة.
وقال الشيخ في «العدّة»
: بجواز العمل بخبر المخالفين إذا رووا عن أئمّتنا عليهمالسلام ، إذا لم يكن في روايات الأصحاب ما يخالفه ولا يعرف لهم
قول فيه ، لما روي عن الصادق عليهالسلام أنّه قال : «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي
__________________
عنّا فانظروا إلى
ما رووه عن علي عليهالسلام فاعملوا به» .
ولأجل ما قلناه
عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلّوب ونوح بن درّاج والسّكوني وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهمالسلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.
وردّ : بمنع صحّة الرّواية التي استدلّ بها الشيخ ، وبمنع إجماع
الطائفة على العمل بخبر هؤلاء لو أريد من عمل الطائفة إجماعهم ، سيّما إذا انفرد
بعض العامّة بروايته ، لاحتمال أن يراد من قوله عليهالسلام : «رووه» اجتماعهم على روايته. وما ذكرنا سابقا من حصول
التشبّث الإجمالي يجري هنا أيضا فيمن وثّقه الأصحاب منهم كالسّكوني ، فإنّ المحقّق
رحمهالله في «المعتبر» وثّقه في مسائل النّفاس ، وكذلك غيره.
__________________
وأمّا على البناء
على الدّليل الخامس ، فالأمر واضح ممّا بيّنا. وأمّا سائر فرق الشيعة مثل
الفطحيّة ، والواقفية ، والناووسية ، وغيرهم فقال الشيخ أيضا في «العدّة» : إن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة
العمل بخلافه ، وجب أن يعمل به إذا كان متحرّزا [متحرّجا] في روايته موثوقا به في
أمانته وإن كان مخطئا في أصل الاعتقاد ، ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار
الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره ، وأخبار الواقفية مثل سماعة بن مهران وعلي بن
أبي حمزة وعثمان بن عيسى ومن بعد هؤلاء ممّا رواه بنو فضّال
__________________
وبنو سماعة والطّاطريون
وغيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلاف.
وردّه المحقّق : بأنّا لا نعلم إلى الآن أنّ الطائفة عملت بأخبار هؤلاء ،
ولعلّه أراد منع إجماعهم على العمل وأنّه لا حجّية في عمل البعض ، وإلّا فلا مجال لإنكار
العمل مطلقا.
واختلف كلام
العلّامة رحمهالله ، ففي «الخلاصة» أكثر من قبول روايات فاسدي المذهب مع
اشتراطه الإيمان في «التهذيب» . ونقل صاحب «المعالم» رحمهالله عن والده في «فوائد الخلاصة» أنّه حكى عن فخر المحقّقين
أنّه سئل والده عن أبان بن عثمان فقال : الأقرب عندي عدم قبول روايته ، لقوله تعالى
: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) ولا فسق أعظم من عدم الإيمان ، وأشار بذلك إلى ما رواه
الكشّي من أنّ أبانا كان من الناووسية.
__________________
أقول : والأظهر
قبول أخبار الموثّقين منهم ، إذ لو قلنا بصدق العدالة مع فساد العقيدة وعدم إطلاق
الفاسق عليهم ، فيدلّ على حجّية مفهوم الآية ، كما سيجيء ، وإن لم نقل بذلك وقلنا
بكونهم فسّاقا لأجل عقائدهم ، فيدلّ على الحجّية منطوق الآية ، لأنّ التوثيق نوع
من التثبّت ، سيّما مع ملاحظة العلّة المنصوصة. فإنّ التثبت إنّما يحصل بتفحّص حال كلّ واحد من الأخبار ، أو تفحّص حال
الرّجل في خبره ، فإذا حصل التثبّت في حال الرّجل وظهر أنّه لا يكذب في خبره ،
فهذا تثبّت في خبره ، لاتّحاد الفائدة ، وإن أبيت عن ذلك مع ظهوره ، فالعلّة المنصوصة تكفي عن ذلك.
وأمّا على البناء
على الدليل الخامس ، فالأمر واضح .
وأمّا العدالة ،
فهي في الأصل الاستقامة والاستواء ، فالكيفية الحاصلة من تعديل القوى النفسانية
وكسر سورة كلّ منها بعد فعلها وانفعالها من الطّرفين ، بحيث يحصل شبه مزاج منها ،
عدالة.
وأمّا القوّة
العاقلة إذا اعتدلت بين طرفي إفراطها وهو الجربزة وتفريطها وهو البلادة ، تسمّى حكمة ، والقوّة الشّهوية إذا
اعتدلت بين الشّره والخمود ،
__________________
تسمّى عفّة ،
والقوّة الغضبية إذا اعتدلت بين التّهور والجبن ، تسمّى شجاعة وحلما.
وأمّا في عرف
الفقهاء والأصوليين فالمشهور بين المتأخّرين أنّها ملكة في النفس ، تمنعها من فعل
الكبائر والإصرار على الصغائر ومنافيات المروّة. يعني ما يدلّ على خسّة
النفس ودناءة الهمّة بحسب حاله ، سواء كانت صغيرة كالتطفيف بحبّة أو سرقتها ، أو
مباحا كلبس الفقيه لباس الجندي والأكل في الأسواق في بعض الأوقات والأزمان ،
والكاشف عن تلك الكيفية هو المعاشرة المطّلعة على تلك الملكة يقينا أو ظنّا أو
شهادة عدلين.
والمختار الاكتفاء بحسن الظاهر وظهور الصّلاح ، وكون الشّخص ساتر
العيوب ومجتنبا عن الكبائر ، مواظبا للطاعات على ما اشتمل عليه صحيحة عبد الله بن
أبي يعفور المرويّة في كتاب «من لا يحضره الفقيه» وغيره.
__________________
وأمّا الاكتفاء
بظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق كما هو مذهب جماعة من القدماء فهو ضعيف.
وتفصيل الكلام
والخلافات في معنى العدالة والكاشف عنها وأدلّتها ونقضها وإبرامها ، قد أوردناه في
كتبنا الفقهية ، فالمشهور اشتراط العدالة في قبول الرّواية ، واكتفى الشيخ بكون
الرّاوي ثقة متحرّزا عن الكذب في الرّواية وإن كان فاسقا بجوارحه ، وهذه عبارته في
«العدّة» : فأمّا من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال
الجوارح وكان ثقة في روايته متحرّزا فيها ، فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره ، ويجوز
العمل به ، لأنّ العدالة المطلوبة في الرّواية حاصلة فيه ، وإنّما الفسق بأفعال
الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره ، ولأجل ذلك قبلت الطائفة
أخبار جماعة هذه صفتهم.
وعن ظاهر جماعة من
متأخّري الأصحاب الميل إلى العمل بخبر مجهول الحال ، كما هو مذهب بعض العامّة ،
والظاهر أنّ هذا القول ليس من جهة اختيار هذه الجماعة الاكتفاء في الكاشف عن
العدالة بظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق ، كما هو مذهب بعض العامّة ، بل لأنّ آية التثبّت وغيرها تدلّ على جواز العمل بخبر
المجهول وإن لم نقل بكونه عادلا بسبب عدم ظهور الفسق.
حجّة المشهور قوله
تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) الآية.
__________________
وجه الدلالة أنّ
الفاسق هو من ثبت له الفسق ، لا من علم أنّه فاسق ، فإذا وجب التثبّت عند خبر من
له هذه الصّفة في الواقع ، فيتوقّف القبول على العلم بانتفائها. وهو يقتضي اشتراط
العدالة ، إذ لا واسطة بين الفاسق والعادل في نفس الأمر فيما يبحث عنه من رواة
الأخبار ، لأنّ فرض كون الرّاوي في أوّل سنّ البلوغ مثلا ، بحيث لم يحصل له ملكة
قبل البلوغ ولم يتجاوز عن أوّل زمان التكليف بمقدار يحصل له الملكة ، ولم يصدر عنه
فسق أيضا فرض نادر لا التفات إليه.
وأمّا في غير ذلك فهو إمّا فاسق في نفس الأمر ، أو عادل ، والواسطة إنّما
تحصل بين من علم عدالته ، ومن علم فسقه ، وهو من يشكّ في كونه عادلا أو فاسقا وذلك
الواسطة إنّما هو [هي] في الذّهن لا في نفس الأمر.
وبالجملة ، تقدّم
العلم بالوصف لا مدخلية له في ثبوت الوصف ، والواجبات المشروطة بوجود شيء ، إنّما
يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجودها ، فبالنسبة إلى العلم ، مطلق
لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بقدر استطاعة الحجّ لعدم علمه بمقدار المال
، لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ، ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه
محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.
نعم ، لو شكّ بعد
المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا ، فالأصل عدم الوجوب
حينئذ. فمقتضى تعليق الحكم على المتّصف بوصف في نفس الأمر لزوم الفحص ، ثمّ العمل على مقتضاه.
__________________
فإذا قيل : أعط
كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة درهما ، يقتضي إرادة السّؤال عن من جمع الوصفين لا
الاكتفاء بمن علم اجتماعهما فيه ، ويؤيّده التعليل المذكور في الآية ، فإنّ الوقوع في النّدم يحصل بقبول خبر من كان فاسقا في
نفس الأمر وإن لم يحصل العلم به فيه.
وأمّا خبر العدل ،
وإن ظهر كذبه فيما بعد ، فلا ندم عليه ولا ذمّ فيه على عدم الفحص ، لأنّه عمل على مقتضى الدّليل
ومقتضى طريقة العرف والعادة ، بخلاف مجهول الحال. ومن حكاية التعليل يظهر أنّ في
صورة فرض ثبوت الواسطة أيضا ، لا يجوز العمل ، لعدم الاطمئنان بخبر مثله ، فهو قد
يوجب النّدم أيضا ، مع أنّ العلم بتحقّقها متعذّر لعدم إمكان العلم بانتفاء
المعاصي الباطنية عادة ، وقد تصدّى بعضهم لبيان أنّ المراد ، الفاسق النفس الأمري بما لا كرامة فيه
، فقال : إذا علّق أمر بشيء ، فالظاهر أنّ المراد ما هو مدلول ذلك الشيء بحسب
الواقع.
فإذا قيل : زيد
صالح ، أو فاسق ، أو شاعر ، أو كاتب ، فالمراد اتّصافه بالصّفة المذكورة بحسب نفس
الأمر لا بحسب معتقد المخاطب ، وإلّا انتفى من الكلام الذي لا قرينة على إرادة
إفادة معنى الخبر المتعارف إفادة معنى الخبر ، وانحصر الإفادة حينئذ في إفادة لازم
معنى الخبر.
وأيضا لو كان
المراد هو مدلول الكلام بحسب معتقد المخاطب ، لصحّ للمخاطب الجزم بكذب المتكلّم
بمحض عدم اعتقاده بما أخبر به.
__________________
وأيضا ليس إثبات
المتكلّم تحقّق صلاح زيد مثلا في نفس الأمر ، إثباتا لما أخبر به.
وأيضا لا يصحّ طلب
الدّليل عمّا أخبر به ، لأنّه حينئذ بمنزلة أن يقول : أقم الدّليل على أنّي معتقد
بصلاح زيد ، وبطلان اللوازم أظهر من أن يحتاج إلى البيان. فظهر أنّ المتبادر من
الفاسق هو الفاسق بحسب نفس الأمر. انتهى.
وفيه ما لا يخفى
من الاشتباه بين النسبة الخبرية المصرّحة واللّازمة للنسبة التقييدية الحاصلة في
كلّ واحد من المحكوم عليه والمحكوم به بالنسبة إلى ذاتهما ، والوصف العنواني
الثابت لهما ، فإنّ معنى قولنا : زيد صالح ، أنّ ما هو زيد في الواقع صالح في
الواقع ، وكلمة في الواقع ، في الموضعين قيد لطرفي النسبة. والمراد بالواقع هنا مقابل اشتراط علم المخاطب لا مقابل الإمكان ، والواقع في
الواقع لا بحسب اعتقاد المتكلّم .
وأمّا النسبة
الخبرية المستفادة من الجملة ، فلا يلزم أن تكون مقيّدة بالواقع. نعم ، ظاهر
المتكلّم دعوى مطابقته للواقع ، وأنّه معتقد لذلك ، ووضع الجملة الخبرية لإفادة
هذه النسبة ولا يجري فيه توهّم إرادة ثبوت النسبة ، على معتقد المخاطب حتّى يلزم انحصار فائدة الجملة في إفادة لازم معنى الخبر
وغيره
__________________
من اللوازم
المذكورة ، فالملازمة المدّعاة في كلامه ممنوعة ، وإن كان بطلان اللوازم ظاهرا.
وحجّة القول
بالعمل بخبر مجهول الحال : أنّ الله تعالى علّق وجوب التثبّت على فسق المخبر ،
وليس المراد الفسق الواقعي ، وإن لم يعلم به ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق.
فتعيّن أن يكون المراد الفسق المعلوم ، فانتفاء الأمر بالتثبّت ليس بالردّ ، للزوم
كونه أسوأ حالا من معلوم الفسق ، وهو باطل ، فهو بالقبول أولى.
وممّا بيّنا يظهر
لك جوابه ، من أنّ المراد بالفسق هو الفسق النفس الأمري ، وبعد إمكان تحصيل العلم
به أو الظنّ فلا يلزم تكليف بما لا يطاق ، وقد يتمسّك بالأصل في نفي الفسق ، وهو
باطل ، لأنّ الأظهر أنّ العدالة أمر وجودي ، فالأصل بالنسبة إليهما سواء ، مع أنّه
معارض بغلبة الفسق في الوجود ، وأنّه مقتضى الشّهوة والغضب اللّتين هما غريزتان في
الإنسان ، والرّاجح وقوع مقتضاهما ما لم يظهر عدمه.
والحاصل ، أنّ مجهول الحال ملحق بالفاسق في الحكم ، وأمّا قبول قول
المسلم المجهول الحال في التذكية والطّهارة ورقّ الجارية ونحوها ، فهو من دليل خارجيّ من
القاعدة المقتضية لحمل فعل المسلم وقوله على الصحّة ومطابقته للأصل في بعضها ، وأمّا إخراج الخبر والشّهادة من البين ،
فلأنّهما مخصّصان بالدّليل الخاصّ ، والسرّ فيهما أنّهما يثبت بهما الحكم على
الغير غالبا ، ولذلك لا يسمع قول المدّعي بمجرّده ولو كان عدلا.
__________________
وأمّا حجّة الشيخ ، فالظاهر أنّها أيضا آية التثبّت ، لا ما فهمه صاحب «المعالم»
رحمهالله من كلام المحقّق ، أنّ دليل الشيخ هو مجرّد عمل الطائفة.
وردّه تبعا
للمحقّق أمّا أوّلا : فبمنع العلم بحصول العمل من الطائفة.
وأمّا ثانيا :
فبأنّ عملهم إنّما يدلّ على قبول تلك الأخبار المخصوصة لا مطلقا. فلعلّه كان
لانضمام القرائن إليها ، لا بمجرّد الخبر. ولا يخفى ما ذكرناه على من لاحظ كلام الشيخ وتأمّل فيه.
ووجه الاستدلال
بآية التثبّت : انّ معرفة حال الرّاوي بأنّه متحرّز عن الكذب في الرّواية تثبّت
إجماليّ محصّل للظنّ بصدق الرّاوي ، فيجوز العمل به كما مرّ في أخبار الموثّقين من المخالفين وسائر فرق
الشّيعة ، والظّاهر كفاية الظنّ ، فإنّ الظّاهر من الآية أنّه إذا حصل الاطمئنان
من جهة خبر الفاسق بعد التثبّت بمقدار يحصل من خبر العدل فهو يكفي ، سيّما العدل
الذي ثبت عدالته بالظنّ والأدلّة الظنّية ، فإنّ المراد بالعادل النفس الأمري ، هو
ما اقتضى الدّليل إطلاق العادل عليه في نفس الأمر ، لا ما كان عادلا في نفس الأمر
، والدليل قد يفيد القطع وقد يفيد الظنّ. وأمّا بناء على الدّليل الخامس في أمثال
زماننا ، فالأمر واضح.
نعم ، قال المحقّق
: دعوى التحرّز عن الكذب مع ظهور الفسق مستبعد ، واستجوده في «المعالم» .
__________________
أقول : وجه
الاستبعاد أنّ الداعي على ترك المعصية قد يكون هو الخوف عن فضيحة الخلق ، وقد يكون
لأجل إنكار الطبيعة لخصوص المعصية ، وقد يكون من أجل الخوف عن الحاكم ، وقد يكون هو الخوف عن الله تعالى ، وهذا هو
الذي يعتمد عليه في عدم حصول المعصية في السرّ والعلن ، بخلاف غيره ، فمن كان فاسقا بالجوارح ولا يبالي عن معصية الخالق ،
فكيف يعتمد عليه في ترك الكذب.
والتحقيق أنّ إنكار
حصول الظنّ مطلقا حينئذ لا وجه له ، كما نرى بالعيان أنّ كثيرا ممّن لا يجتنب عن
أكل المال الحرام ، أنّه يهتمّ في الصلاة وترك الشرب والزّنا وغيرها. وكذلك كثيرا
ممّن هو مبتلى بأنواع الفسوق أنّه لا يستخفّ بكتاب الله وسائر شعائره ، وكذلك
الكذب خصوصا في الرّواية بالنسبة إلى الأئمّة عليهمالسلام ، كما هو ظاهر كلام الشيخ ، فمجرّد ظهور سائر الفسوق عمّن
يعظم في نظره الكذب على الإمام عليهالسلام ، لا يوجب عدم حصول الظنّ بصدقه ، وكذلك إذا كان طبيعته
مجبولة على الاجتناب عن الكذب.
نعم ، إن كان ترك
الكذب محضا من جهة أنّ الشّارع منعه وأوعد عليه ، لا يحصل الظنّ به مع صدور ما هو
أعظم منه ، ممّا يدلّ على عدم الاعتناء بوعيده تعالى ونواهيه ، فالأقوى إذن ما ذهب
إليه الشيخ ، ويرجع هذا في الحقيقة إلى
__________________
التثبّت الإجمالي
أو إلى مطلق العمل بالظنّ عند انسداد باب العلم.
ومن جميع ما ذكرنا
، يظهر لك حال الحسن من أقسام الخبر ، وأنّ حجّيته أيضا من جهة حصول التثبّت
الإجمالي ، وهو تابع لما ذكروه في مدح الرّجل ، فيتّبع ما أفاده دون غيره.
وأمّا الضبط ، فلا
خلاف في اشتراطه ، إذ لا اعتماد ولا وثوق إلّا مع الضبط ، لأنّه قد يسهو فيزيد في
الحديث أو ينقص أو يغيّر ويبدّل [أو يبدل] بما يوجب اختلاف الحكم واختلال المقصود
، وقد يسهو عن الواسطة مع وجودها ، وبذلك قد يحصل الاشتباه بين السّند الصحيح
والضعيف وغير ذلك.
والمراد به من
يغلب ذكره سهوه لا من لا يسهو أبدا ، وإلّا لما صحّ العمل إلّا عن
معصوم عن السّهو ، وهو باطل إجماعا عن العاملين بالخبر. فمفهوم الآية المقتضي
لقبول خبر العدل مطلقا مخصّص بالضّابط لإشعار المنطوق به من حيث التعليل ،
ولإجماعهم ظاهرا.
وأمّا بناء على
العمل بمقتضى الدّليل الخامس ، فالأمر واضح.
ومراد علماء
الرّجال حيث يقولون في مقام التزكية : فلان ثقة ، هو العدل الضابط ، إذ لا وثوق
إلّا مع الضبط ، ولذلك اختاروا هذا اللفظ.
لا يقال : أنّ
العدالة كافية عن هذا الشّرط ، لأنّ العدل لا يروي إلّا ما تحقّقه.
لأنّا نقول : إنّ
العدل لا يكذب عن عمد ، لا عن سهو ، فإنّه قد يسهو عن كونه غير
__________________
مضبوط عنده أو عن
كونه ساهيا ، والظاهر أنّه يكفي في إطلاق الضبط كثرة الاهتمام في نقل الحديث بأنّه
بمجرّد سماع الحديث يكتبه ويحفظه ويراجعه ويزاوله بحيث يحصل له الاعتماد وإن كان
كثير السّهو ، إذ ربّما يكون الإنسان متفطّنا ذكيّا لا يغفل عن درك المطلب حين
الاستماع ، ولكن يعرضه السّهو بعد ساعة أو أكثر ، فمثل هذا إذا كتب وأتقن حين
السّماع ، فقد ضبط الحديث وهو ضابط.
وبمثل هذا يمكن أن
يجاب عمّا يقال : إنّ حبيبا [حبيب] الخثعمي ممّن وثّقوه في الرّجال ، مع أنّ الصّدوق رحمهالله روى في الفقيه أنّه سأل أبا عبد الله عليهالسلام فقال : إنّي رجل كثير السّهو فما أحفظ على صلاتي . الحديث.
ويمكن أن يقال في
وجهه : إنّ كثرة السّهو في الصلاة لا تنافي الضّبط في الرّواية ، أو أنّ المراد
كثير الشّك لكثرة استعمال السّهو في الشّك.
واعلم أنّ معرفة
الضّبط أيضا ، إمّا تحصل بممارسة حال الرّاوي باختبار رواياته واعتبارها بروايات
الثّقات المعروفين بالضبط والإتقان وموافقتها لها ولو من حيث المعنى فقط ، أو
بشهادة العدول. وقد ذكرنا أنّ قولهم : ثقة ، شهادة على ذلك.
__________________
تنبيه :
المعتبر في شرائط الرّاوي هو حال الأداء لا حال التحمّل ، كما أشرنا إليه في الصبي ،
فلا إشكال في جواز الرّواية عمّن تاب ورجع عمّا كان عليه من مخالفة في دين أو فسق
في حال استقامته ، وكذا في عدم الجواز عمّن خلط بعد الاستقامة في حال الخلط إن كان
فسقا مطلقا ، وعلى المشهور إن كان مخالفة في المذهب أيضا.
قال الشيخ في «العدّة»
: فأمّا ما يرويه الغلاة والمتّهمون والمضعّفون وغير هؤلاء ، فما يختصّ
الغلاة بروايته ، فإن كانوا ممّن عرف لهم حال استقامة وحال غلوّ ، عمل بما رووه
حال الاستقامة ، وترك ما رووه في حال خطائهم ، فلأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطّاب محمّد بن
أبي زينب في حال استقامته ، وتركوا ما رواه في حال تخليطه ، وكذلك
القول في أحمد بن هلال العبرتائي وابن أبي
__________________
العزاقر وغير هؤلاء. وأمّا ما يروونه في حال تخليطهم فلا يجوز
العمل به على كلّ حال. انتهى.
ومقتضى ما ذكرنا
ترك رواياتهم مع جهل التاريخ إلّا أن يكون موثّقا عند من يعمل بالموثّق كما هو
الأظهر.
وقد يتأمّل في ذلك
، لأنّ خطأ مثل أبي الخطّاب لم يكن بعنوان السّهو والغفلة ، بل دعته الأهواء
الفاسدة إلى تعمّد الكذب ، والظاهر أنّه لم يكن في المدّة التي لم يظهر منه الكفر
، بريئا من غاية الشقاوة ، لكن جعل إخفاء المعصية وإظهار الطّاعة وسيلتين إلى ما
أراد من الرئاسة وإضلال الجماعة ، فكيف يمكن الاعتماد على روايته ورواية أمثاله في
وقت من الأوقات. وربّما يجعل هذا مؤيّدا لضعف القول بكون عثمان بن عيسى وعلى بن أبي حمزة ثقتين.
__________________
أقول : فما نراه
من أخبار أمثال هؤلاء قد عمل به الأصحاب ولم يظهر لنا تاريخ الرّواية ، فعلينا أن
نرجع إلى القرائن الخارجية ، إذ لعلّهم عملوا بها لاعتمادهم على القرائن الخارجية
لا لكون الرّواية في حال الاستقامة ، فعلينا أن نجتهد في القرائن أيضا ، ومن
القرائن المفيدة للرجحان هو عمل جمهور الأصحاب.
والحاصل ، أنّ
المعيار في أمثال ذلك قوّة الظنّ من القرائن الخارجية ، فلا بدّ من التأمّل
والتفحّص ، فمثل ما يرويه الأصحاب عن الحسين بن بشّار وعلي بن أسباط ممّن كانوا من غير الإمامية ثمّ تابوا ورجعوا واعتمد
الأصحاب على
__________________
روايتهم. ومثل
عليّ بن محمّد بن رباح وعليّ بن أبي حمزة وإسحاق بن جرير من الواقفية ، الذين كانوا على الحقّ ثمّ توقّفوا ، وروى
عنهم ثقات الأصحاب وصرّح أجلّاء المتأخّرين بقبول روايتهم مع جهل التاريخ ، فيمكن
الوثوق على روايتهم لأجل ما ذكر ، لأنّ المعهود من حال أصحاب الأئمّة عليهمالسلام كمال اجتنابهم عن الواقفية وأمثالهم من فرق الشيعة ، وكان
معاندتهم معهم وتبرّيهم عنهم أزيد منها عن العامّة ، سيّما الواقفية ، حتّى أنّهم
كانوا يسمّونهم الممطورة ـ أي الكلاب التي أصابها المطر ـ ويتنزّهون عن صحبتهم
والمكالمة معهم ، وكان أئمّتهم عليهمالسلام يأمرونهم باللّعن عليهم والتبرّي عنهم ، فرواية ثقاتهم
وأجلّائهم عنهم ، قرينة على أنّ الرّواية كانت حال الاستقامة ، وأنّ الرّواية عن
أصلهم المعتمد المؤلّف قبل فساد العقيدة أو المأخوذ عن المشايخ المعتمدين من
أصحابنا ، ككتب علي بن الحسن الطّاطري ، فإنّ الشيخ ذكر في «الفهرست» انّه روى
كتبه عن الرّجال الموثوق بهم وبروايتهم.
قال المحقّق
البهائي في كتاب «مشرق الشمسين» : والظاهر أنّ قبول المحقّق (طاب ثراه) رواية عليّ بن أبي حمزة مع شدّة تعصّبه في مذهبه
__________________
الفاسد ، مبنيّ
على ما هو الظاهر من كونها منقولة عن أصله ، وتعليله رحمهالله يشعر بذلك ، فإنّ الرّجل من أصحاب الأصول.
وكذلك قول
العلّامة بصحّة رواية إسحاق بن جرير عن الصادق عليهالسلام ، فإنّه ثقة من أصحاب الاصول أيضا ، وتأليف أمثال هؤلاء
اصولهم كان قبل الوقف ، لأنّه وقع في زمن الصادق عليهالسلام ، فقد بلغنا عن مشايخنا (قدّس الله أرواحهم) أنّهم من دأب
أصحاب الأصول ، أنّه إذا سمعوا من أحد الأئمّة حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم
لئلّا يعرض لهم نسيان لبعضه ، أو كلّه بتمادي الأيّام وتوالي الشّهور والأعوام.
__________________
قانون
تعرف عدالة الرّاوي بالملازمة والصّحبة
المتأكّدة حتّى يظهر سريرته علما أو ظنّا ، وباشتهارها بين العلماء وأهل الحديث ،
كالصّدوق ، فإنّ علماء الرّجال لم يذكروا له توثيقا ، واشتهاره بذلك كفانا من
غيره.
وبشهادة القرائن
الكثيرة المتعاضدة ، مثل كونه مرجع العلماء والفقهاء ، وكونه ممّن يكثر عنه الرّواية من لا يروي إلّا
عن عدل ، ونحو ذلك من القرائن. وبالتزكية من العالم بها ، إمّا بأن يقول : هو عدل ، أو ما
يشمله ، أو يقبل شهادته إن كان ممّن يرى العدالة شرطا أو نحو ذلك.
واختلفوا في أنّ
الواحد هل يكفي في التزكية أو لا بدّ من المتعدّد؟ على قولين ، وبنى كثير منهم ذلك
على أنّ التزكية رواية أو شهادة ، فعلى الأوّل يكفي دون الثاني.
ولا بدّ في ذلك من
تمهيد مقدّمة : وهو أنّ الرّواية والشهادة والفتوى كلّها من
__________________
أفراد الخبر
المقابل للإنشاء. والشّهادة في اللّغة إخبار عن اليقين ، وعلى ما عرّفها الفقهاء
إخبار جازم بحقّ لازم للغير من غير الحاكم ، فحكم الله ورسوله صلىاللهعليهوآله وخلفائه عليهمالسلام ، والحاكم ليس بشهادة.
وقال الشهيد رحمهالله في «القواعد» : الشّهادة والرّواية تشتركان في الجزم وتنفردان في أنّ
المخبر عنه إذا كان أمرا عامّا لا يختصّ بمعيّن فهو الرّواية ، كقوله : «لا شفعة
فيما لا يقسم» ، فإنّه شامل لجميع الخلق إلى يوم القيامة ، وإن كان
لمعيّن ، فهو الشّهادة ، كقوله عند الحاكم : أشهد بكذا لفلان.
وقد يقع لبس
بينهما في صور :
الأولى : رؤية
الهلال ، فإنّ الصوم مثلا لا يتشخّص بمعيّن ، فهو رواية ، ومن اختصاصه بهذا العامّ
دون ما قبله وما بعده ، بل بهذا الشهر ، فهو كالشهادة ، ومن ثمّ اختلف في
التعدّد.
الثانية : المترجم
عند الحاكم من حيث إنّه يصير عامّا للترجمة ، ومن إخباره عن كلام معيّن ، والأقوى التعدّد في الموضعين.
الثالثة : المقوّم
من حيث إنّه منصوب لتقويمات لا نهاية له ، فهو رواية ، ومن أنّه إلزام لمعيّن .
__________________
الرابعة : القاسم
من حيث نصبه لكلّ قسمة ، ومن حيث التعيين في كلّ قضيّة.
الخامسة : المخبر
عن عدد الرّكعات والأشواط ، من أنّه لا يخبر عن إلزام حكم لمخلوق ، بل للخالق
سبحانه وتعالى ، فهو كالرّواية ، ومن أنّه إلزام لمعيّن لا يتعدّاه.
السادسة : المخبر
بالطهارة أو النجاسة ترد فيه الشّهادة ، ويمكن الفرق بين قوله : طهّرته ونجّسته لاستناده إلى
الأصل هناك ، وخلافه في الإخبار بالنجاسة ، أمّا لو كان ملكه فلا شكّ
في القبول.
السابعة : المخبر
عن دخول الوقت.
الثامنة : المخبر
عن القبلة.
التاسعة : الخارص .
والأقرب في هذه
الخمسة الاكتفاء بالواحد إلّا في الإخبار بالنجاسة ، إلّا أن تكون
يده ثابتة عليه بإذن المالك.
__________________
أمّا المفتي ، فلا
خلاف في أنّه لا يعتبر فيه التعدّد ، وكذا الحاكم ، لأنّه ناقل عن الله تعالى إلى
الخلق ، فهو كالرّاوي ولأنّه وارث النبي صلىاللهعليهوآله أو الإمام عليهالسلام الذي هو واحد.
وأمّا قبول الواحد
في الهديّة ، وفي الإذن في دخول دار الغير فليس من باب الشهادة ، لا
لأنّه رواية إذ هو خاص ، بلّ شهادة ، لكن اكتفي فيها بالواحد عملا بالقرائن
المفيدة للقطع ، ولهذا قبل وإن كان صبيّا ، ومنه إخبار المرأة في إهداء العروس إلى
زوجها.
ولو قيل : بأنّ
هذه الأمور قسم ثالث خارج عن الشّهادة والرّواية ، وإن كان مشبها للرواية ، كان قويّا وليس إخبارا ، ولهذا لا يسمّى الأمين المخبر
عن فعله شاهدا ولا راويا مع قبول قوله وحده [كقوله] : هذا مذكّى أو ميتة لما في
يده. وقول الوكيل : بعت ، أو أنا وكيل ، أو هذا ملكي. انتهى ما أردنا ذكره .
أقول : ولا يخفى
على المتأمّل في كلامه رحمهالله ، ما فيه من المسامحة في البيان ، واشتباه ما هو المقصود
من الرّواية والشهادة ووجه التفرقة بينهما وحكمهما. فإنّ من يقول بأنّ الواحد يكفي
في الرّواية دون الشّهادة ، إن أراد بالرّواية الخبر المصطلح الذي هو واحد من
أدلّه الفقه بناء على حجّية خبر الواحد لا مطلق الخبر المقابل للإنشاء ، فهو لا
يتمّ لأنّه لا معنى حينئذ للتفريعات التي ذكروها من حكاية رؤية الهلال ، والمترجم
وغيرهما ممّا ذكروه ، ولا لجعل التذكية رواية بهذا المعنى
__________________
مطلقا كما لا يخفى.
وإن قيل : أنّ
المراد مقابلة الشّهادة بسائر أفراد الخبر ، والغرض من الرّواية هو سائر أفراد
الخبر ، فيشمل الخبر المصطلح وغيره أيضا.
ففيه : أنّه لا
معنى حينئذ لاشتراط كون المخبر عنه في الخبر عامّا ، وفي الشهادة خاصّا ، إذ قد
يكون المخبر عنه في الخبر خاصّا مع كونه غير شهادة ، كإخبار زيد بمجيء ولده من
السّفر مثلا ، مع أنّ أكثر الروايات إخبار عن الخاص لأنّه إخبار عن سماع خاصّ أو
رؤية خاصّة ، فإنّ قول الرّاوي : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله كذا ، والإمام كذا ، إخبار عن جزئي حقيقي.
وإن اعتبر نفس
إلزام الحقّ في الشّهادة ، فلا وجه لتخصيص الفرق بالتخصيص والتعميم كما يظهر منه رحمهالله في أوّل كلامه ، ولا لتخصيص الحقّ بالمخلوق في الشّهادة كما يظهر من أواسط كلامه ، إذ قد يكون
الشّهادة في حقّ الله تعالى كالشّهادة على شرب الخمر لإجراء الحدّ ، وجعله رحمهالله الأمور المذكورة أخيرا قسما ثالثا أيضا ينافي إرادة المعنى
الأعمّ أيضا.
والظّاهر أنّ مرادهم من الرّواية هنا مطلق الخبر غير الشهادة ، لا الخبر
المصطلح ، فالتقرير الواضح حينئذ أن يقال : إنّ كلّ خبر يسمع فيه الواحد ، إلّا
الشّهادة ، وهو إخبار جازم عن حقّ لازم للغير عن غير الحاكم.
__________________
ووجهه : أنّ أقوال
المسلمين وأفعالهم محمولة على الصّدق والصّحة كما حقّق في محلّه ، وذلك يقتضي الاكتفاء بالواحد في الجميع ، وذلك فيما لا
يسري حكمه إلى غير المخبر واضح.
وأمّا إذا أوجب
تكليفا للغير ، فيعارضه أصالة البراءة عن التكليف ، فلا بدّ في إثبات التكليف من
ظنّ بالصدّ أزيد من أصل كونه قول المسلم ، لرفع الظنّ الحاصل بأصل البراءة ، وهو
إمّا بعدالة الرّاوي علاوة على الإسلام ، أو بالتثبّت المحصّل للظنّ بالصّدق ،
فهذا خبر مثبت للتكليف. وإن كان مع ذلك معارضا بفعل مسلم آخر أو قوله وكان في واقعة خاصّة فقد ينبغي فيه التعدّد كما في الشّهادة ،
فلا بدّ حينئذ من ملاحظة أدلّة حجّية خبر الواحد ، هل تفيد حجّية الخبر المصطلح أو
مطلق خبر الواحد. وقد عرفت أنّ آية النفر ظاهرة في الفتوى ، غايته دخول الخبر
المصطلح فيه أيضا ، وأمّا غيرهما فلا.
وأمّا آية النبأ
فهو وإن كان أعمّ من ذلك ، لكنّه ينافي ما ذكروه من اشتراط عموم المخبر عنه في
الخبر ، فإنّه أعمّ من ذلك ، بل حكاية وليد الّتي هو شأن نزول الآية ، واقعة خاصّة ، وهي بالشهادة
أشبه.
وكيف كان فالشهادة
داخلة فيه ، ولذلك استدلّ الفقهاء في ردّ شهادة الفاسق والمخالف بهذه الآية ،
وحينئذ فلا دلالة فيها على قبول الواحد ، اذ مقتضاها لا بدّ أن يكون : إن كان
عادلا لا يجب التوقّف من حيث تحصيل الصّدق ، بل يجوز العمل به
__________________
حينئذ في الجملة ،
وإن كان من جهة كونه أحد شطري البيّنة ، وذلك لا يفيد إلّا جواز العمل في الجملة ،
لا خصوص العمل إذا كان واحدا مطلقا كما هو المطلوب. وإرادة المعنيين معا بالنسبة إلى الشهادة وغير الشهادة
استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ ، وهو باطل كما حقّقناه سابقا ، وجعل
الأصل والظّاهر من الآية العمل بالواحد ، والقول بأنّ الشّهادة مخرج بالدليل مع
كون الآية واردة فيما هو من باب الشهادة على ما هو شأن نزول الآية محلّ إشكال ،
سيّما وهو مستلزم لتخصيص المنطوق بالخبر أيضا ، لأنّ الظنّ الحاصل بالتثبّت لا
يفيد في الشّهادة.
وأمّا الإجماع فهو
ظاهر في الخبر المصطلح.
وأمّا الدّليل
الخامس ، فهو لا يفيد الاعتماد على الواحد من جهة أنّه خبر الواحد ، بل لأنّه ظنّ
، ولا مناص عن الظنّ عند انسداد باب العلم.
فالحقّ والتحقيق ،
أنّ هذا البناء باطل ، إذ ليس ذلك من باب الخبر المصطلح ، ولا دليل على كفاية الواحد بالخصوص
في غير الشّهادة من أقسام الخبر ، ولا دليل على كونه من باب الشّهادة لعدم صدق
تعريفها عليه عند التأمّل ، فإنّ المراد من التزكية ليس إثبات حقّ لازم للمخلوق أو
للخالق ، وإفادته لذلك بالأخرة بعد العمل بالرّواية بسبب التعديل ، مشترك الورود
في الخبر والشهادة ، مع أنّ العلم معتبر في الشّهادة غالبا ، بخلاف ما نحن فيه ،
لاستحالة العلم بالعدالة عادة.
سلّمنا أنّه شهادة
، لكن لا دليل على وجوب التعدّد في مطلق الشهادة ، فإنّ بعض الأصحاب قد اعتبر
الواحد في بعض الموادّ ، بل اعتبروا المرأة الواحدة أيضا
__________________
في بعض الأحيان ، ولا دليل على عدم كون التزكية ممّا يقبل فيه الواحد ،
فالأولى أن يقال : إنّ ذلك من باب الظّنون الاجتهادية المرجوع إليها عند انسداد
باب العلم ، وليس من باب الشهادة ولا الرّواية المصطلحة.
ثمّ إنّه يمكن
توجيه كلام الشهيد حيث قال : وينفردان في أنّ المخبر عنه ... الخ.
بأنّ المراد أنّ
العموم إنّما يوجد في الرواية دون الشهادة ، لا أنّ المخبر عنه في الرّواية دائما
يكون عامّا. ويلزمه أنّ الشهادة دائما مخصوصة ، وهو كذلك.
ومراده بيان أحد
المميّزات لا الجميع حتّى يرد أنّ بينهما فرقا آخر ، وهو أنّ الشهادة إخبار بحقّ
لازم للغير البتة ، ولا يلزم أن يوجد ذلك في الرواية ، بل لا يوجد فيها إلّا على
سبيل التبعية والاستلزام كالفتوى.
وأمّا قوله : إنّ
الصوم مثلا لا يتشخّص لمعيّن ، فلا وجه له ، لأنّ الإخبار عن رؤية الهلال الجزئي
المتشخّص لا عموم فيه بالضرورة ، وذلك يوجب إثبات حقّ الله تعالى وهو الصوم الخاصّ
الحاصل في الشّهر الخاصّ على عباده ، كإثبات الحدّ على شارب الخمر.
وتوهّم عموم
الصائم والمفطر مدفوع ، بأنّ المراد بالعموم والخصوص هنا : أنّ أكثر
الرّوايات مفيد للحكم لموضوع مفروض وإن لم يتحقّق ولم يتصوّر تحقّقه كالفتاوى ،
فقوله عليهالسلام : «لا شفعة فيما لا يقسّم» . يعني كلّما وجد ما لا يقسّم فحكمه
__________________
أنّه لا شفعة فيه
، لا أنّ الأملاك الموجودة الغير المقسومة حكمه كذا ، بخلاف رؤية الهلال فإنّه
يثبت الصّوم والإفطار لواجدي الشرائط من الحياة والعقل والبلوغ وغيرها بالفعل ، بل
لأهل البلاد الخاصّة ، بخلاف مثل : يجب الصّوم للرؤية والفطر للرؤية ، وكذلك الشّهادة على الوقف العامّ ، فإنّ المصلحة العامّة
مصلحة خاصّة ورد عليها الوقف بالخصوص ، فهو حقيقة متعيّن من حيث المورد وإن لزمه
الشيوع والاستمرار بالتّبع في أفراد الموقوف عليه وأشخاصه ، وكذلك الشّهادة على
النسب ، فإنّها تثبت شيئا معيّنا خاصّا ولكن الانتساب إلى آخر الأبد يتبعه.
وأمّا المترجم فهو
أيضا إخبار عن جزئي معيّن مشخّص.
وتوجيه كلامه في
العموم هنا بأن يقال : مراد المترجم أنّ كلّ من يقول بمثل هذا الكلام فمراده هذا
ولا يخفى بعده.
وأمّا القاسم
والمقوّم فيظهر توجيه العموم ممّا ذكرنا في المترجم ، والتوجيه فيهما أظهر من
المترجم.
وأمّا قوله الخامس
المخبر عن عدد الرّكعات والأشواط ... الخ.
ففيه : ما قدّمناه
، من عدم انحصار الشّهادة في حقّ الخلق.
ثمّ إنّ تحقيق هذه
المسائل ، والتكلّم في كلّ واحد منها ، ليس وظيفة هذا الكتاب ، وحظّ الأصولي في
هذا الباب ، التفرقة بين الشّهادة وغيرها من الأخبار حتّى يجعل الشّهادة أصلا
ويطلب فيها العدد ، وهو مشكل ، إذ ما ذكروه من
__________________
المميّزات للشهادة
كثيرا ما يتخلّف عن العدد ، فدعوى لزوم العدد في الشّهادة إلّا ما أخرجه الدّليل ،
ليس بأولى من دعوى كفاية مطلق الخبر ، إلّا ما أثبته الدّليل ، فالمتّبع هو ما
اقتضاه الأدلّة في خصوصيات المقامات : إلّا أن يتمسّك بالاستقراء وتتبّع موارد
الأحكام ، فإنّه يقتضي كون الأصل فيها العدد وأنّ ما اكتفي فيه
بالواحد فإنّما خرج بدليل خاصّ.
بقي الكلام في
الفرق بين الفتوى والحكم ، وهو أنّ الفتوى هو إخبار عن الله تعالى بأنّ حكمه في
هذه القضيّة كذا ، ومن خواصّه عدم المنع من مخالفته من المجتهد والمقلّد. أمّا
المجتهد فظاهر ، وأمّا المقلّد ، فلأنّ له أن يستفتي عن آخر ، ومع التعدّد فيختار
الأعلم ثمّ الأورع ، ومع التساوي يتخيّر.
والحكم هو إنشاء
إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية وغيرها مع تقارب المدارك فيها ممّا يتنازع فيه الخصمان بمصالح
المعاش ، هكذا عرّفه الشهيد في «القواعد» . وحكمه أنّه لا يجوز لغيره نقضه وإن كان مجتهدا مخالفا له
في الرأي ، لاستلزام ذلك عدم استقرار الأحكام ، والمصلحة في شرع الأحكام هو حصول
النظام ، وذلك ينافيه.
وقال في «القواعد»
: فبالإنشاء يخرج الفتوى لأنّها إخبار ، والإطلاق والإلزام نوعا الحكم ،
وغالب الأحكام إلزام. ومثّل للإطلاق بإطلاق مسجون لعدم ثبوت الحقّ عليه ، وبإطلاق
حرّ من يد من ادّعى رقّه بلا بيّنة ، وغير ذلك. قال :
__________________
وبتقارب المدارك
في المسائل الاجتهادية يخرج ما ضعف مدركه جدّا كالعول والتعصيب وقتل المسلم بالكافر ، فإنّه لو حكم به حاكم وجب نقضه ،
وبمصالح المعاش تخرج العبادات ، فإنّه لا مدخل للحكم فيها ، فلو حكم الحاكم بصحّة
صلاة زيد لم يلزم صحّتها ، بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذلك ، وإلّا فهي فاسدة.
وكذا الحكم بأنّ مال التجارة لا زكاة فيه ، وأنّ الميراث لا خمس فيه ، فإنّ الحكم
به لا يرفع الخلاف ، بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك.
نعم ، لو اتّصل
بها أخذ الحاكم ممّن حكم عليه بالوجوب مثلا ، لم يجز نقضه. فالحكم المجرّد عن
اتّصال الأخذ إخبار كالفتوى ، وأخذه للفقراء حكم باستحقاقهم ، فلا ينقض إذا كان في
محلّ الاجتهاد.
ولو اشتملت
الواقعة على أمرين أحدهما من مصالح المعاد والآخر من مصالح المعاش ، كما لو حكم
بصحّة حجّ من أدرك اضطراري المشعر وكان نائبا ، فإنّه لا أثر له في براءة ذمّة
النائب في نفس الأمر ، ولكن يؤثّر في عدم رجوعهم عليه بالأجرة ، انتهى . وسيجيء تحقيق الكلام في أواخر الكتاب.
إذا تمهّد هذا
فنقول : ذهب الأكثرون إلى كفاية المزكّي الواحد في الرّواية وهو مذهب العلّامة في «التهذيب»
، وذهب المحقّق ومن تبعه إلى أنّه لا يقبل
__________________
فيه إلّا ما يقبل في تزكية الشّاهد ، وهو شهادة عدلين. وعن بعض
العامّة عدم اعتبار التعدّد فيهما .
فلنقدّم الكلام في
معنى هذا النّزاع ، ثمّ نتعرّض إلى ذكر أدلّة الأقوال ، فإنّه غير محرّر في كلام
القوم.
وأقول : إنّ حجّية
خبر الواحد ، إمّا من حيث أنّه ظنّ ، كما هو مقتضى الدّليل الخامس ، أو من حيث هو
خبر ، كما هو مقتضى آية النبأ ، أو من حيث أنّه الخبر المصطلح ، أعني المرويّ عن
المعصوم عليهالسلام كما هو مقتضى الاستدلال بالإجماع.
ثمّ إنّ اشتراط
العدالة لا معنى له على الأوّل إلّا باعتبار إعلام طرق الظنّ والتنبيه عليها ،
والتنبيه على أنّ خبر الفاسق لا يفيد الظنّ ، كما أشرنا إليه سابقا.
وأمّا على الثاني
، فمقتضاه قبول خبر العدل مطلقا ، سواء كان رواية مصطلحة أو شهادة أو غيرهما ،
ولذلك استدلّ الأصحاب بآية النبأ على اشتراط عدالة الشّاهد أيضا ، ومقتضاه قبول
خبر العدل الواحد في التزكية مطلقا .
ولمّا ثبت من دليل
خارجي اشتراط التعدّد في نفس الشّهود ، فيرجع الكلام هنا في أنّ التزكية شهادة أم
لا ، وبعد ثبوت كونها شهادة فلا فرق بين الرّاوي والشّاهد ،
__________________
وكذا مع عدمه ،
فالقول بالتفصيل لا معنى له ، إذ عدالة الرّاوي إن ثبت بتزكية الواحد فهو عدل يجوز
قبول شهادته أيضا والاقتداء به ، وإلّا فلا يقبل في قبول الرّواية أيضا ، لأنّ
معنى العدالة شيء واحد ، ولا معنى لكون الشّخص عادلا بالنسبة إلى أمر دون أمر.
وأمّا ما يفهم من
كلام الشيخ في «العدّة» من الفرق بين عدالة الرّاوي وغيره ، فمع أنّ مراده أنّ
مجرّد الوثوق بالصدق كاف ، لا إنّ محض ذلك عدالة ، وإن كان فاسقا بالجوارح فلا
ينفع في محلّ النزاع ، إذ هو مطرح نظر جميع العلماء ، فلا بدّ أن يوافق مذاق
الجميع ، فيرجع الكلام في هذا الفرق أيضا إلى أنّ المدار هو حصول الظنّ ، وأنّ
مجرّد حصول الظنّ يكفي في الرّواية وهو رجوع إلى الوجه الأوّل ، أعني الاعتماد على
الدّليل الخامس وجعل المعيار هو مطلق الظنّ ، ولا يفيد ذلك إثبات اشتراط العدالة
في الخبر من حيث إنّه خبر.
والحاصل ، أنّ
سبيل العلم بالأحكام الشرعية إذا كان منسدّا ، فالمدار على الظنّ ، والظنّ يحصل
بالخبر بمجرّد تعديل واحد. وأمّا إثبات حقوق الله أو حقوق الناس فالمدار فيهما [فيه]
على العلم أو البيّنة أو اليمين ، فلم ينحصر المناص فيهما في العمل بمطلق الظنّ ، فمثل إخبار الطبيب عن إنبات اللّحم وشدّ العظم للرضاع ،
وعن كون الصّوم مضرّ للمريض ، وإخبار أهل الخبرة بالقيمة والأرش ونحو ذلك ، فهي
مثل الفتوى فيكفي فيها الواحد ، ولا وجه للحكم بوجوب الاثنين ، كما وقع من بعض
الفقهاء.
__________________
وتوضيحه : أنّ
الأحكام المتعلّقة بالموضوعات التي ليس بيانها وظيفة الشّارع مثل أن يقول : يجوز
الصّلاة في الخزّ أو إنبات اللّحم محرّم أو المرض المضرّ مبيح للإفطار ونحو ذلك ،
لا شبهة في أنّها إنّما تعلّقت بما هو في نفس الأمر كذلك ، فإن حصل للمكلّف العلم
به ، فهو ، وإلّا فيرجع إلى الظنّ ، لاستحالة التكليف بالمحال. والعدالة من هذا القبيل
، فالمعتبر في الطبيب وأهل الخبرة والمزكّي هو كونه معتمدا بحيث يحصل الظنّ ، فليس
ذلك من باب الرّواية ولا من باب الشهادة ، فخبر هؤلاء بالنسبة إلى كون ما ذكروه
مطابقا لنفس الأمر بمعتقدهم وبحسب ظنّهم ، واعتبار العدالة في هؤلاء لأجل حصول
الاعتماد بعدم كذبهم في ذلك وعدم مسامحتهم في اجتهادهم.
فبهذا يحصل الظنّ
، بل قد يكتفى بما يحصل الظنّ وإن كان أهل الخبرة فاسقا ، بلّ وكافرا أيضا ، بل
وظاهر الفقهاء جواز الاعتماد على كلام الأطباء إذا أفاد الوثوق مطلقا وهو مقتضى
الأخبار الواردة في مسألة القيام في الصلاة ، ويقتضي [مقتضي] ذلك تخصيص آية
التثبّت عند خبر الفاسق بما لم يفد الظنّ ، فالأصل يقتضي الاكتفاء بالواحد في مطلق
التزكية ، إلّا أنّ تزكية الشاهد خرج بالدليل من الإجماع كما ادّعى بعضهم ، أو
لأجل ما ذكرنا من مقابلة حقّ المسلم ، ولذلك خصّ حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على
الصحّة بما لو لم يعارضه مثله أو أقوى منه ، مع تأمّل في الأخير لكون الخبر أيضا
قد يكون كذلك كما أشرنا من أنّه أيضا قد يثبت حقّا على أحد بالأخرة.
ولكن يبقى الإشكال
الذي أوردناه أوّلا من أنّ العدالة شيء واحد ، والمشروط
بالعدالة مشروط
بمهيّة العدالة ، فمتى ثبت سبب ثبوت العدالة فيتحقّق العدالة في الخارج ويحصل شرط القبول في مشروطها ، فما معنى
الفرق وأيّ معنى للإجماع على ثبوت العدالة في الرواية دون الشهادة.
ويمكن دفعه : بأنّ
المراد أنّ قبول شهادة العدل موقوف على كون مزكّيه اثنين دون الرّواية ، لا أنّ
ثبوت العدل فيها مشروط بتزكية اثنين دون الرّواية ، فهو شرط لقبول العدلين لا لثبوت العدالة.
وأمّا مثل مترجم
القاضي وإخبار المقلّد مثله بفتوى المجتهد وإعلام المأموم الإمام بوقوع ما شكّ فيه
، وإخبار النائب عن إيقاع الحجّ ونحو ذلك ، فيكفي فيه الواحد لأنّه خبر ، ويعتبر
فيه العدالة الظنّية الحاصلة من تزكية واحد.
وأمّا مثل الإخبار
عن القبلة أو الوقت أو نحو ذلك ، فإن كان المراد الإخبار عن القبلة التي بناء عمل
المسلمين عليها في هذا البلد ، وكذا الوقت ، فهو إخبار ، وإن كان المراد الإخبار
عن اجتهاده ، فهو مثل ما مرّ من أنّه خبر عن مطابقة ما اجتهد فيه. فالخبر المطلق
إمّا فتوى من فقيه أو من هو في معناه من أهل الخبرة ، أو شهادة ، أو مجرّد إخبار
عن نفس الأمر ، ويختلف أحكامها حسب ما ذكرنا ، فلاحظ وتأمّل وميّز بينها حتّى لا
يختلط عليك الأمر.
وأمّا على الثالث
، فإثبات اشتراط العدالة إمّا من جهة آية النبأ ، وقد مرّ الكلام فيه ، ومقتضاه
كفاية المزكّي الواحد ، وإمّا من جهة الإجماع ، والإجماع لم يثبت على أزيد من
العدالة الثابتة بمزكّ واحد.
__________________
فلنرجع إلى ذكر
أدلّة الأقوال : أمّا على المذهب المختار ، فأمّا بناء على الدليل الخامس كما هو المعتمد في الاستدلال ، فظاهر لحصول الظنّ بتزكية الواحد.
وأمّا على غيره من الأدلّة ، فلآية النبأ ، وتقريبه صدق النبأ على التزكية
من جهة الإخبار عن موافقة المعتقد كما بيّنا ، ولكن يخدشه أنّه لا يدلّ إلّا على
قبوله في الجملة كما مرّت الإشارة إليه في الشهادة ، إلّا أن يثبت [يتشبّث]
بالعموم وإخراج الشهادة بالدليل كما أشرنا سابقا.
وأمّا ما أورد
عليه بأنّه مؤدّ إلى حصول التناقض في مدلول الآية ، لأنّه يدلّ على أنّ قبول خبر
الواحد موقوف على انتفاء الفسق في نفس الأمر كما مرّ ، وانتفاء الفسق في نفس الأمر
لا يعلم إلّا مع العلم بالعدالة ، فشرطه قبول الخبر هو العلم بالعدالة ، وخبر
المزكّي الواحد لا يفيد العلم وإن كان عدلا ، فإن اعتبرنا تزكية العدل الواحد ،
فقد علمنا بالخبر مع عدم حصول العلم بعدالة الرّاوي لعدم إفادته العلم ، وهذا
تناقض ، فلا بدّ من حملها على ما سوى الإخبار بالعدالة .
ففيه : أنّ المراد
بالفاسق النفس الأمري ، والعادل النفس الأمري ، هو ما يجوز
__________________
إطلاق العادل
والفاسق عليه ، فنفس الأمر هنا مقابل مجهول الحال لا مقابل مظنون الفسق والعدالة. ألا
ترى أنّا نكتفي في معرفة العدالة بالاختبار والاشتهار وهما لا يفيدان العلم غالبا
، بل العدلان أيضا لا يفيد العلم ، فمن ظننّاه عادلا بأحد الأمور المذكورة فنقول
أنّه عادل ، ويؤيّده قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) وكذلك المرض المبيح للتيمّم والإفطار وإنبات اللّحم وشدّ
العظم وغير ذلك ، فإنّه يطلق على ما هو مظنون أنّه كذلك. والكلام فيها وفي العدالة
على السّواء.
سلّمنا لكن لا ريب
أنّ مع انسداد باب العلم يكتفى بالظنّ في الأحكام والموضوعات جميعا ، مع أنّ اشتراط العلم
بالعدالة مستفاد من المنطوق ، فلا مانع من تخصيصه بمفهومها حيث أفاد بعمومه قبول
خبر العدل الواحد في التزكية.
وما قيل : إنّ تخصيص المنطوق بالمفهوم ليس أولى من العكس ، بل
العكس أولى.
فيدفعه : أنّ المفهوم
إذا كان أقوى بسبب المعاضدات الخارجة ، فيجوز تخصيص المنطوق به ، وهو معتضد
بالشهرة وغيره من الامور التي ذكرنا ، مع أنّه مخصّص بشهادة العدلين جزما وهو لا
يفيد العلم ، وذلك أيضا يوجب وهنا في
__________________
عمومه ، وإن كان
العامّ المخصّص حجّة في الباقي على التحقيق.
والمشهور بين
المتأخّرين في الاستدلال على هذا المذهب ، هو أنّ العدالة شرط في الرّواية ، وشرط الشيء فرعه ، والاحتياط في الفرع لا يزيد على
الاحتياط في الأصل ، وقد اكتفي في الأصل وهو الرّواية بواحد ، فيكفي الواحد في
الفرع أيضا ، أعني العدالة ، وإلّا زاد الاحتياط في الفرع على الأصل ، وأنت خبير بضعف هذا الاستدلال . ويشبه أن يكون مبناه القياس كما ذكره بعض العامّة.
وما يظهر من بعض
أصحابنا أنّه قياس الأولوية أيضا ، ممنوع ، بل لا يبعد دعوى أنّ ثبوت الحكم في الأصل أقوى منه في
الفرع ، لأنّ الأصل وهو الرّواية معلوم أنّه ليس بشهادة ، فلا يعتبر فيه التعدّد
جزما ، بخلاف الفرع ، لاحتمال كونه شهادة كما ادّعاه صاحب القول الآخر وإن كان
ضعيفا على ما اخترناه. وهذا قياس لم يقل به العامّة أيضا.
وما قيل في دفع ذلك : بأنّ الأصل مشروط بثلاثة : الرّاوي ومزكّييه
، والفرع باثنين وهما المزكّيان ، فالفرع لم يزد على الأصل ، فهو مدفوع بأنّك تقبل
رواية
__________________
عدل واحد زكّاه
عدلان ، ولا تقبل تزكية عدل واحد زكّاه عدلان ، فيثبت زيادة الفرع على الأصل.
والتحقيق في
الجواب : منع عدم جواز زيادة الفرع على الأصل بهذا المعنى ، إذ لا دليل عليه من
عقل ولا نقل.
وما قيل : إنّ المتبادر من الشرط أن لا يكون وجوده واعتباره زائدا
على المشروط كما هو شأن المقدّمات وإنكاره مكابرة.
فيدفعه : أنّ ذلك
لو سلّم فإنّما هو من جهة التبعيّة لا من حيث هو ، ألا ترى أنّ الإيمان شرط لصحّة
الصلاة مع أنّ وجوده واعتباره زائد على المشروط من جهة اعتبار اليقين فيه ،
والاكتفاء بالظنّ في المشروط وكونه من أصول الدّين وهي من فروعه ، مع أنّ فرض
التعدّد في الفرع دون الأصل أيضا موجود في الأحكام الشرعيّة ، فإنّ بعض الحقوق
يثبت بشهادة واحد ، بل امرأة واحدة ، كربع ميراث المستهلّ وربع الوصيّة ، مع أنّ تزكية الشاهد لا بدّ فيه من عدلين.
وأمّا ما مثّل به من ثبوت وجوب الحدّ بالقذف بخبر الواحد ، وهو مشروط
بثبوت القذف وبلوغ القاذف ، وكلّ منهما يتوقّف ثبوته على الشاهدين ، ففيه نظر. فإنّه
إن أريد من خبر الواحد حكم الحاكم ، فهو فرع الشهادة لا أصلها ، وإن أريد منه
الرّواية الدالّة على أصل المسألة ، فهو ليس بمشروط بثبوت القذف بالشاهدين ، بل المشروط
به هو إجراؤه في المادّة المخصوصة.
__________________
وما قيل في دفعه : من أنّ هذا شهادة وثبوت التعدّد فيها لا يوجب
ثبوته في غيرها. وبعبارة أخرى ، أنّ هذا مخرج بالدّليل.
ففيه : أنّ عدم
زيادة الفرع على الأصل إن سلّم فهو قاعدة عقليّة لا تقبل التخصيص. وممّا يؤيّد
بطلان اشتراط التعدّد ، أنّ المدار في أمثال زماننا بتزكية الشيخ والنجاشي
والعلّامة وأمثالهم وهم ينقلون تعديل أكثر الرّواة عن غيرهم ، وموافقة اثنين منهم
في التزكية إنّما تنفع لو علم أنّ مذهب كلّ واحد منهم في التزكية اشتراط العدد ،
وهو غير معلوم ، بل خلافه معلوم من حال بعضهم كالعلّامة حيث اكتفى في كتبه
الأصولية بالمزكّي الواحد . فالقول باشتراط التعدّد في أمثال زماننا إنّما يتمّ لو
كان هؤلاء المزكّون عرفوا العدالة من جهة المعاشرة أو بشهادة العدلين ، وأنّى
للمشترط بإثباته .
واحتجّ من اعتبر
اثنين بوجهين :
الأوّل : أنّها شهادة
ومن شأنها اعتبار التعدّد.
وقد يجاب بالمعارضة : بأنّها خبر ومن شأنه قبول الواحد ، وأنت بعد
التأمّل فيما ذكرناه في المقدّمة ، تعرف ضعف المعارضة.
نعم ، يتّجه في
الجواب منع كونها شهادة أوّلا ، فيبقى تحت باقي أقسام الخبر الذي يقبل فيها خبر
الواحد لآية النبأ أو يدخل تحت ما هو من قبيل الفتوى وأنّه ظنّ من الظّنون
الاجتهادية الحاصلة لأرباب الخبرة بكلّ مسلك ، كمعرفة المرض
__________________
المضرّ والقيمة
والأرش ونحو ذلك. وإن اعترته الخبريّة بالعرض أيضا ، من جهة أنّه إخبار عمّا هو
مطابق لظنّه ، ومنع كلّية الكبرى ثانيا ، وسنده ما مرّ من ثبوت ربع ميراث المستهلّ وربع الوصيّة ،
وثبوت هلال رمضان برجل واحد عند بعض علمائنا ، وإن أمكن دفع ذلك بأنّ اعتبار
التعدّد صار أصلا في الشهادة من جهة تتبّع الآيات والأخبار ، فخروج ما خرج بالدليل
لا يضرّ ببقاء الباقي تحت الأصل حتّى يثبت المخرج ، فالأولى منع الصغرى.
والثاني : أنّ مقتضى اشتراط العدالة اعتبار حصول العلم بها ، ولا
يحصل بالواحد ، واكتفينا بالعدلين مع عدم إفادته العلم ، لقيامه مقامه شرعا.
ويظهر جوابه ممّا
أسلفناه سابقا من منع اعتبار العلم فيها ، كيف وكلّ ما جعلوه طريقا لمعرفة العدالة
لا يفيد إلّا الظنّ.
سلّمنا ، لكنّه
إنّما يسلّم إذا أمكن تحصيل العلم ، ومع انسداد بابه يكفي الظنّ كما مرّ ، وهو
يحصل بالمزكّي الواحد. ثمّ إنّ الظاهر كفاية تزكية غير الإمامي العادل أيضا مثل
عليّ بن الحسن بن فضّال وغيره ، لأنّه نوع تثبّت ، ويؤيّده أنّ الفضل ما شهد به
الأعداء . ومقتضى طريقة المشهور عدم الاعتبار ، والأقوى اعتباره
__________________
لإفادته الظنّ وهو
على ما اخترناه من البناء على الدليل الخامس في أصل حجّية الخبر أوضح.
وأمّا الجرح ،
فالكلام فيه هو الكلام في التزكية. ونقل عن المحقّق البهائي رحمهالله قول بالفرق بين التزكية والجرح إذا صدر عن غير الإمامي ،
فيقبل الأوّل دون الثاني. والحقّ ما اخترناه لما ذكرناه.
ومن جميع ما ذكر
يظهر أنّه لا وجه للجرح في مثل أبان بن عثمان لأجل ما رواه الكشّي عن عليّ بن الحسن بن فضّال أنّه كان
من الناووسية ، فإنّ كون الرجل غير إمامي إن كان جرحا ، فالجارح مجروح ،
وإلّا فلا وجه لكون أبان مجروحا.
__________________
فعلى هذا فما نقله
فخر المحقّقين عن والده ، وذكرناه في القانون السّابق ، فيه ما فيه إلّا أن يكون
اطّلاعه على هذا من جهة غير هذه الرّواية.
__________________
قانون
اختلف الأصوليون في قبول الجرح والتعديل
مطلقين
بأن يقال : فلان
عدل أو ضعيف من دون ذكر سبب العدالة والضعف على أقوال :
ثالثها : قبولها
في التعديل دون الجرح.
ورابعها : العكس.
وخامسها : أنّهما
إن كانا عالمين بالأسباب قبل وإلّا فلا.
وسادسها : القبول
مع العلم بالموافقة فيما يتحقّق به الجرح والتعديل.
والأقوال الأربعة من العامّة ، والخامس من العلّامة رحمهالله ، والسادس هو مختار الشهيد الثاني رحمهالله وقبله السيّد عميد الدّين في «شرح التهذيب» وهو الأقوى.
حجّة الأوّلين :
أنّه إن كان من ذوي البصائر بهذا الشأن ، لم يكن معنى للاستفسار ، وإن لم يكن منهم
، لم يصلح للتزكية.
__________________
وفيه : أنّه مع
اختلاف المجتهدين في معنى العدالة والجرح وعدد الكبائر وغير ذلك ، فلا يكفي كونه
ذا بصيرة ، إذ لعلّه يبني كلامه على مذهبه ولا يعلم موافقته للحاكم والمجتهد إلّا
أن يقال إطلاقه مع عدم العلم بالموافقة ، واحتمال عدم الموافقة تدليس ، وظاهر
العدل عدم التدليس.
وبذلك يندفع إشكال
احتمال غفلته عن هذا المعنى ، فإنّ المعيار هو الظاهر ، وأنت خبير بأنّ الكلامين
في محلّ المنع.
نعم ، يتمّ ذلك
فيما إذا كان تزكيته لأجل عامّة المكلّفين أو لمن كان قوله حجّة عليه ، ومن هذا
يحصل الجواب عن إشكال مشهور وهو أنّ مذاهب علماء الرجال غير معلومة لنا الآن فكيف نعلم
موافقتهم لما هو مختارنا في العدالة حتّى يرجع إلى تعديلهم ، إذ هم يطلقون العدالة
والجرح ولا نعلم سببه عندهم ، بل ونرى العلّامة أنّه يبني تعديله على تعديل الشيخ
مثلا ، مع أنّا نعلم مخالفتهما في المذهب.
وتوضيحه : أنّ احتمال أن يكون تعديلهم على وفق مذهبهم خاصّة مع
كونهم عارفين بالاختلاف وتفاوت المذاهب ، مع أنّ تأليفهم إنّما هو للمجتهدين
وأرباب النظر لا لمقلّديهم في زمانهم ، إذ لا يحتاج المقلّد إلى معرفة الرجال.
والظّاهر أنّ
المصنّف لمثل هذه الكتب لا يريد اختصاص مجتهدي زمانه به حتّى يقال أنّه صنّفه للعارفين
بطريقته ، سيّما وطريقة أهل العصر من العلماء عدم الرجوع إلى كتب معاصريهم من جهة
الاستناد غالبا ، وإنّما ينفع المصنّفات بعد موت مصنّفه غالبا وسيّما إذا تباعد
الزّمان .
__________________
فعمدة مقاصدهم في
تأليف هذه الكتب بقاؤها أبد الدّهر وانتفاع من سيجيء بعدهم منهم ، فإذا لوحظ هذا
المعنى منضمّا إلى عدالة المصنّفين وورعهم وتقواهم وفطانتهم وصداقتهم وحذاقتهم ،
يظهر أنّهم أرادوا بما ذكروا من العدالة المعنى الذي هو مسلّم الكلّ حتّى ينتفع
الكلّ.
واحتمال الغفلة
للمؤلّف عن هذا المعنى حين التأليف سيّما مع تمادي زمان التأليف والانتفاع به في
حياته ، في غاية البعد ، وخصوصا من مثل هؤلاء الفحول الصالحين.
فلو : إنّ ما ذكرت
معارض بأنّ إرادة المعنى الأعلى وإن كان مستلزما لتعميم النفع ، ولكنّه مفوّت
لفائدة أخرى ، وهي أنّه قد يكون مذهب المجتهدين اللّاحقين أنّ العدالة هو المعنى
الأدنى ، فلا يعلم حينئذ هل كان الرّاوي متّصفا بهذا المعنى أم لا ، فلو لم يسقط
المؤلّف اعتبار هذا المقدار ، لكان النفع أكثر.
قيل : مع أنّ هذا النفع بالنسبة إلى الأوّل أقلّ ، لمهجوريّة
القول بكون العدالة هو ظاهر الإسلام عند المتأخّرين.
فيه : أنّا نراهم
كثيرا ما يمدحون الرجل بمدائح كثيرة توجب العدالة بمعنى حسن الظاهر ، بل وأكثر منه
، ومع ذلك لا يصرّحون بعدالتهم ، فمن لحق بهؤلاء وليس مذهبه في العدالة هو المعنى
الأعلى ، فليأخذ بمقتضى هذا المدح ويجعله عدالة. هذا من أعظم الشواهد أنّهم أرادوا
بالعدالة هو المعنى الأعلى ، فهم لاحظوا الأطراف وأخذوا بمجامع النفع ، سيّما
وقولهم ثقة لا يحتمل مجرّد ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق كما هو واضح ، بل
الظاهر أنّه ليس مجرّد حسن الظاهر أيضا ،
__________________
فإنّ الوثوق غالبا
لا يحصل إلّا مع اعتبار الملكة.
ويؤيّده أنّ
العلماء اكتفوا بمجرّد التعديل ولم يتأمّلوا من هذه الجهة ولم يحصل تشكيك لهم من
هذه الجهة.
ويظهر ممّا مرّ
حجّة القول الثاني ، فإنّ أسباب الجرح والتعديل كليهما مختلف فيها ، فلا بدّ من
بيانها.
وفيه : أنّ ذلك
حسن لو لم يعلم الموافقة وعدم المخالفة.
وحجّة القول
الثالث وهو مذهب الشافعي وكثير من الأصحاب : اختلاف المذاهب في الأحكام الشرعية ،
فربّما جرح بما ليس جرحا.
وفيه : أنّه لا
فرق بين الجرح والتعديل ، بل العدالة تابع للجرح فإنّها ترك لما هو موجب للجرح.
وما يقال : إنّ التعديل يصعب ذكر أسبابه لكثرة أسبابها ، بخلاف
الجرح فإنّه يثبت بسبب واحد ، لا ينفع في دفع هذا البحث.
وحجّة القول
الرابع : انّ مطلق الجرح كاف في إبطال الثقة برواية المجروح وشهادته ، وليس مطلق
التعديل كذلك ، لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر فيها ، فلا بدّ من ذكر السّبب.
وفيه ، أيضا ما
مرّ من أنّ الجرح ممّا يختلف فيه ، فكيف يكتفى بمطلقه في إبطال الاعتماد ، مع أنّ
التسارع إلى البناء على الجرح أغلب وأقرب إلى طباع الناس من العدالة لعدم اجتنابهم
كثيرا من الظنّ ، مضافا إلى أنّ تسارع الناس إلى البناء
__________________
على الظاهر في
العدالة مبنيّ على القول المهجور عند عامّة متأخّري أصحابنا ، بل وأكثر متقدّميهم أيضا.
وحجّة القولين
الأخيرين لا يحتاج إلى البيان ، وكذلك ضعف أوّلهما وقوّة الثاني.
__________________
قانون
إذا تعارض الجرح والتعديل ،
فقيل : يقدّم الجرح مطلقا .
وقيل : التعديل
مطلقا.
وقيل : بالتفصيل ، فإن أمكن الجمع بينهما بمعنى أن لا يلزم تكذيب أحدهما في
دعواه ، فيقدّم الجرح ، لأنّ التعديل لا ينافي عدم الاطّلاع ببعض ما يوجب الفسق
فكلاهما صادقان ، بمعنى أنّه معذور في اجتهاده في التعديل ، وهذا مصدّق في إخباره عن
الفسق ، ولا فرق في ذلك بين التصريح بسبب الجرح وعدمه ، وذلك مثل قول المفيد رحمهالله في محمّد بن سنان أنّه من ثقات الكاظم عليهالسلام وقول الشيخ أنّه ضعيف ، لجواز اطّلاع الشيخ على ما لم
يطّلع عليه المفيد.
وإن لم يمكن الجمع
بينهما كما لو عيّن الجارح السّبب ونفاه المعدّل ، كما لو قال الجارح : رأيته في
أوّل الظهر يوم الجمعة يشرب الخمر ، وقال المعدّل : إنّي رأيته في ذلك الوقت بعينه
أنّه يصلّي ، فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى المرجّحات ، كالكثرة والأعدليّة
والأورعيّة وغير ذلك.
__________________
ومن هذا القبيل
توثيق الشيخ ومدح الكشّي والعلّامة لداود بن كثير الرّقي وروايته في شأنه أنّ
الصادق عليهالسلام قال : «أنزلوا داود الرّقّي منّي بمنزلة المقداد عن رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، ومن سرّه أن ينظر إلى رجل من أصحاب القائم عليهالسلام فلينظر إلى هذا» ـ يعني داود ـ.
وقيل : انّه موافق
لما رواه الصدوق أيضا وتضعيف النجاشي ، وقول ابن الغضائري فيه : بأنّه كان فاسد المذهب ضعيف
الرواية لا يلتفت إليه. فيرجع إلى الأكثريّة سيّما وتضعيف ابن الغضائري ممّا لا
يعتمد عليه غالبا وإن جبر ضعفه بتضعيف النجاشي المعتمد.
والأقوى عندي
وفاقا لجماعة من المحقّقين من أصحابنا ، الرجوع إلى المرجّحات في القسم الأوّل أيضا ، غاية الأمر هنا معارضة الظاهر مع النصّ ، فإنّ
الجرح في حكم النصّ ، والتعديل في حكم الظاهر ، هذا فيما صرّح بالسبب ، وإلّا فمثل
قولهم : ضعيف ، أو : مجروح ، أيضا ظاهر.
والظّاهر قد يقدّم
على النصّ بسبب المرجّحات كما مرّت الإشارة إليه في باب التخصيص.
ومن هذا الباب
تقديم قول النجاشي في داود بن الحصين أنّه ثقة على قول الشيخ إنّه واقفي ، فإنّه
وإن أمكن القول بكونه موثّقا جمعا بين القولين ، ولكن الظاهر من النجاشي حيث يطلق
الثقة ويسكت عن حال المذهب ، أنّ الرجل
__________________
إماميّ ، فلا يمكن
الجمع بينهما ، وكون النجاشي أضبط من الشيخ يرجّح كونه إماميّا إن لم يكافئه
نصوصيّة كلام الشيخ.
وكذلك الكلام في
ترجيح تعديل الشيخ والنجاشي على جرح ابن الغضائري في إبراهيم بن سليمان وغيره.
والحاصل ، أنّ
المعتمد الرّجوع إلى المرجّحات مطلقا ، وكلّ ما ذكرنا في هذا القانون وسابقه ، من الشواهد
على كون التزكية من باب الظّنون الاجتهادية لا الرّواية والشهادة ، وأنّ المعيار
هو حصول الظنّ على أيّ نحو يكون ، كيف لا والمزكّون لم يلقوا أصحاب الأئمّة عليهمالسلام وإنّما اعتمدوا على مثل ما رواه الكشّي ، وقد يفهمون منه
ما لا دلالة فيه أو فيه دلالة على خلافه ، بل وكلّ منهم قد يعتمد على تزكية من
تقدّم عليه ، الحاصلة باجتهاده ، ومن ذلك قد يتطرّق الخلل من جهة فهم كلام من
تقدّمه أيضا ، فضلا عن عدم كونه موافقا للحقّ أو كونه موافقا ، مثل أنّ العلّامة رحمهالله وثّق في الخلاصة حمزة بن بزيع مع أنّه لم يوثّقه أحد ممّن
اعتمد عليه العلّامة ، ولعلّه توهّمه من جهة عبارة النجاشي كما نبّه عليه جماعة من
المحقّقين. فإنّ النجاشي قال في ترجمة محمّد بن إسماعيل بن بزيع : إنّ ولد بزيع
ليس منهم حمزة بن بزيع. وذكر بعد ذلك : كان من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم. ومراده
محمّد لا حمزة.
ولعلّك تقول :
فإذا كان الأمر كذلك فيلزم أن يكون مثل العلّامة رحمهالله مقلّدا لمن تقدّمه ، وكذلك من تقدّمه لمن تقدّمه ، فإنّهم
قلّما ثبت لهم عدالة الرّواة من جهة
__________________
الاشتهار كسلمان
وأبي ذرّ ، أو من جهة المزكّيين اللّذين عاشرا الرّاوي ، ومع ذلك فلم يميّزوا
بينهم ولم يفرّقوا بين من ثبت عدالته عندهم من مثل ما ذكر ، أو من جهة الاجتهاد ،
ويلزم من جميع ذلك جواز تقليد المجتهد للمجتهد.
وإذا كان كذلك فلا
فرق بين ما ذكر وبين أن يقول الصدوق مثلا أو الكليني مثلا : إنّ ما ذكرته من
الرّوايات صحيحة أو يقول العلّامة : هذه الرّواية صحيحة مع كون السند مشتملا على
من لم يوثّقه أحد من علماء الرّجال.
قلت : إنّ اشتراط
العدالة في الرّاوي إمّا للإجماع ، أو للآية.
أمّا الأوّل فلم
يثبت إلّا على اشتراطه ، لقبول الخبر من حيث هو ، وإلّا فلا ريب أنّ أكثر الأصحاب
يعملون بالأخبار الموثّقة والحسنة والضعيفة المعمول بها عند جلّهم.
وأمّا الآية
فمنطوقها يدلّ على كفاية التثبّت في العمل بخبر الفاسق فضلا عن مجهول الحال ، وهذا
نوع تثبّت ، مع أنّا قد حقّقنا سابقا أنّ المعيار في حجّية خبر الواحد والمعتمد هو
الدليل الخامس والمعتبر هو حصول الظنّ ، وإنّما ذكرنا سائر الأدلّة على فرض
تسليمها لبيان إمكان إثبات حجّيتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم أيضا.
وكذلك الكلام في
إثبات العدالة ، فأيّ مانع من الاعتماد على هذا الظنّ وليس ذلك من باب التقليد ،
بل لأنّه مفيد للظنّ للمجتهد كما يرجع إلى قول اللّغوي ، بل واجتهادات المصنّفين
في اللغة ، وذلك لا ينافي حرمة تقليدهم في الفروع الشرعية ، فإذا حصل الظنّ من جهة تصحيح الصدوق للرواية وتصحيح
__________________
العلّامة رحمهالله للسند ، ولم يحصل ظنّ أقوى منه من جهة تزكية غيره للرّاوي
صريحا أو غير ذلك ، فيتّبع ولا مانع عنه.
تنبيه :
اعلم ، أنّ القول في المزكّي والجارح هو
القول في الأدلّة المتعارضة ، فكما أنّه لا يجوز العمل بكلّ خبر
حتّى يتفحّص عن معارضه ، وبالعامّ قبل الفحص عن مخصّصه ، فكذلك لا يجوز العمل بقول
أحد من علماء الرجال في رجل معيّن حتّى يتفحّص عن معارضه ، هذا حال علماء الرجال
بالنسبة إلى رواة الأخبار.
وأمّا مطلق
التزكية والجرح فليس كذلك ، مثل أن يزكّي عدل في هذا الزّمان رجلا موجودا في هذا
الزّمان عند الحاكم مع عدم ظهور خلاف في ذلك ، نظير العامّ المسموع من الإمام عليهالسلام حين المخاطبة.
وقد بيّنا الفرق
بين زمان الغيبة والحضور في مبحث العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص ، ولا فرق
بين قول النجاشي مثلا أنّ داود بن الحصين ثقة ، وبين قول العلّامة في رواية كان هو
في سنده مثلا صحيح في أنّه لا بدّ أن يراجع رجال الشيخ وغيره في معرفة حال وجود
المعارض وعدمه.
ويتطرّق الإشكال
في تصحيح السّند من جهة أخرى أيضا ، وهو احتمال الاشتباه في تعيين الرجل ، إذ أكثر
الرجال مشترك ، فلا بدّ من الاجتهاد في تعيين المشتركات أيضا أوّلا ثمّ العمل على
ما أدّى إليه النظر في الجرح والتعديل في خصوص الرجل ، فالاعتماد على تزكية المزكّي
للرجل المعيّن إنّما هو في تزكيته.
وأمّا في السّند
المعيّن ففي ذلك وفي كون الرجل هو الرجل الذي رأيه فيه العدالة والجرح.
هذا كلّه إذا
تعيّن الرجل أو السّند ، وأمّا إذا قال : حدّثني عدل من أصحابنا ، فإن كان ذلك
المزكّي والمزكّى من جملة رواة أصحابنا الّذين وقع الخلاف في جرحهم وتعديلهم ، فلا
يمكن الاعتماد ، لعدم إمكان الفحص عن حاله بسبب جهالته. وكذلك لو قال عالم في
كتابه في حقّ حديث مجهول السند أنّه صحيح.
وأمّا لو كان ذلك
في غير ما وقع الاختلاف فيه ، كما لو أخبرنا أحد في زماننا هذا ، وقال : أخبرني
عدل بكذا ، فيمكن الاعتماد عليه إذا كان المخبر والمستمع عارفين بأسباب الجرح
والتعديل ، متّفقين في الرأي أو مقلّدين لمجتهد واحد ، إذا لم يكن المخالفة في
الجرح والتعديل ، وفي هذا البلد موجودة في حقّ العدول.
وأمّا ما ذهب إليه
المحقّق من الاكتفاء بقول العدل : حدّثني عدل ، بل بما دونه حيث
قال : إذا قال : أخبرني بعض أصحابنا ، وعنى الإمامية ، يقبل وإن لم يصفه بالعدالة
إذا لم يصفه بالجرح ، لأنّ إخباره بمذهبه شهادة بأنّه من أهل الأمانة ولم يعلم منه
الجرح المانع من القبول ، فإن قال عن بعض أصحابه ، لم يقبل لإمكان أن يعني نسبته
إلى بعض الرّواة أو أهل العلم ، فيكون البحث فيه كالمجهول ، انتهى.
فهو في غاية البعد
مع قوله ، باشتراط العدالة في الرّاوي ، لعدم انحصار أصحابنا في
العدول. ولعلّ مراده أنّ هذا نوع مدح يوجب التثبّت لتعبيره بلفظ الصاحب المفيد
للاختصاص.
ثمّ إنّه لا فرق
فيما تقدّم جميعا بين ما أخبر عدل واحد أو عدلان على القولين في اعتبار المزكّي
الواحد أو المتعدّد ، كما لا يخفى.
__________________
قانون
إذا أسند العدل الحديث إلى المعصوم عليهالسلام ولم يلقه أو ذكر الواسطة مبهمة ، مثل أن يقول : عن رجل ، أو
: عن بعض أصحابنا ، ويقال له المرسل.
ففيه خلاف بين
العامّة والخاصة.
فقيل : بالقبول
مطلقا.
وقيل : بعدمه
مطلقا.
وقيل : بالقبول إن
كان الرّاوي ممّن عرف أنّه لا يرسل إلّا مع عدالة الواسطة كمراسيل ابن أبي عمير.
والأوّل : منقول
عن محمّد بن خالد البرقي من قدماء أصحابنا ، ونسبه ابن الغضائري إلى ابنه أحمد أيضا.
والثاني : أحد
قولي العلّامة في «التهذيب» .
__________________
والثالث : قوله
الآخر. وذهب الشيخ إلى قبوله إن كان الرّاوي ممّن عرف أنّه لا يروي إلّا عن
ثقة مطلقا ، وإلّا فيشترط أن لا يكون له معارض من المسانيد الصحيحة ، ويظهر من
المحقّق التوقّف.
والأقوى هو القول
الثالث ، لا لأنّ ذلك تعديل للواسطة حتّى يقال أنّه على فرض تسليمه شهادة على
عدالة مجهول العين ، ولا يصحّ الاعتماد عليه لاحتمال ثبوت الجارح كما تقدّم ، بل لأنّه يفيد نوع تثبّت
إجماليّ ، إذ غايته أنّ العدل يعتمد على صدق الواسطة ويعتقد الوثوق بخبره وإن
لم يكن من جهة العدالة عنده أيضا.
ولا ريب أنّ ذلك
يفيد ظنّا بصدق خبره ، وهو لا يقصر عن الظنّ الحاصل بصدق خبر الفاسق بعد التثبّت ،
ولذلك نعتمد على مسانيد ابن أبي عمير مثلا ، وإن كان المرويّ عنه المذكور ممّن لا
يوثّقه علماء الرّجال ، فإنّ رواية ابن أبي عمير عنه يفيد الظنّ بكون المرويّ عنه
ثقة معتمدا عليه في الحديث لما ذكر الشيخ في «العدّة» : أنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة ، ولما ذكره الكشّي :
أنّه ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه.
ولما ذكروا أنّ
أصحابنا يسكنون إلى مراسيله ، وغير ذلك. وكذلك نظرائه مثل
__________________
البزنطي وصفوان بن يحيى والحمّادين وغيرهم .
والحاصل ، أنّ ذلك
يوجب الوثوق ما لم يعارضه أقوى منه.
وبالجملة ، حجّية
الخبر لا تنحصر في الصحيح وخبر العدل ، بل المراد من
__________________
اشتراط العدالة في
قبول الخبر ، هو أنّه شرط في قبوله بنفسه.
وأمّا من جهة
ملاحظة التثبّت والاعتضادات الخارجية فلا ريب أنّه لا ينحصر الحجّة في خبر العدل.
وغرضنا إثبات حجّية مثل هذه المراسيل لا إثبات أنّ أمثالها صحيحة في الاصطلاح ،
والواسطة عادل.
واحتجّ المثبت مطلقا
بوجوه أقواها أمران :
الأوّل : أنّ
رواية العدل عن الأصل المسكوت عنه تعديل له ، لأنّه لو روى عن غير العدل ولم يبيّن
حاله لكان ذلك غشّا وتدليسا وهو مناف للعدالة.
وفيه : أوّلا :
أنّه إنّما يتمّ فيما لو أسقط الواسطة ، لا ما أبهمه.
وثانيا : أنّه
يتمّ لو انحصر أمر العدل في روايته عن العدل أو عن الموثوق بصدقه ، وهو ممنوع كما
لا يخفى على من تتبّع. ويشهد بذلك ما يظهر من كلام الصدوق رحمهالله في أوّل «من لا يحضره الفقيه» حيث قال أنّ دأبه في هذا
الكتاب ليس دأب المصنّفين.
والثاني : أنّ
إسناد الحديث إلى المعصوم عليهالسلام يقتضي صدقه لمنافاة إسناد الكذب العدالة ، فيتعيّن قبوله.
وفيه : مع أنّه لا
يتمّ في صورة إبهام الواسطة إنّما يدلّ على كون الواسطة عادلا أو موثوقا بصدقه ،
وهو توثيق لمجهول العين ، فلعلّ له جارحا والأولى بناء على ما مرّ تحقيقه ، منع
كون ذلك إسنادا حقيقيّا ، بل لعلّه يريد الإسناد الظنّي الحاصل بمجرّد إخبار
المسلم.
ويمكن دفعه : بأنّ
الظاهر أنّ العدل يعتبر ظنّا فوق ذلك الظنّ بصدوره
__________________
عن المعصوم عليهالسلام ، فإمّا يتّكل على عدالة الأصل ، أو التثبّت الحاصل له
المفيد لصدقه.
ودعوى أنّ الإسناد
لا بدّ أن يكون من جهة حصول العلم به في غاية البعد كما هو الغالب في الأخبار ،
فالإنصاف أنّ ذلك لا يخلو عن قوّة ، سيّما في غير المواعظ والمندوبات والمقامات
الخطابية ، فإنّ العدل لا ينسب إلى المعصوم عليهالسلام في مقام بيان الأحكام إلّا ما حصل له الظنّ بالصدق ، إمّا
من جهة العدالة أو التثبّت وكلاهما يفيد الظنّ.
واحتجّ النافي
مطلقا : بما مرّت الإشارة إليه ، من أنّ شرط قبول الرّواية معرفة عدالة الرّاوي ،
ولم يثبت لعدم دلالة رواية العدل عليه كما مرّ ، وإن كان مثل ابن أبي عمير أيضا.
فإنّ عدالة الواسطة إن ثبت بإخباره ، فهو شهادة منه على عدالة مجهول العين ، وإن
علم ذلك من استقراء مراسيله والاطّلاع عن خارج على أنّه لا يروي إلّا عن ثقة ، فهو
في معنى الإسناد ، ولا نزاع فيه ، ويظهر الجواب عنه ممّا مرّ .
واحتجّ الشيخ لما
ذكره أخيرا : بعمل الطائفة على المراسيل مطلقا إذا لم يعارضها من المسانيد الصحيحة
، فإن أراد الإجماع ، فلم يثبت ، وإلّا فلا حجّة فيه على الإطلاق.
__________________
قانون
لا خلاف بين أصحابنا ظاهرا في جواز نقل
الحديث بالمعنى، وذهب بعض
العامّة إلى المنع عنه مطلقا ، وبعضهم في غير المرادف.
وشرط الجواز هو
كون الناقل عارفا بمعاني الألفاظ بوضعها ، وبالقرائن الدالّة على خلافه ، وأن لا
يقصر الترجمة عن إفادة المراد ، وإن اقتصر على نقل بعضه فلا يضرّ إذا لم يكن مخلّا
بما ذكر . وأن يكون مساويا له في الخفاء والجلاء.
وعلّله بعضهم بأنّ الخطاب الشرعيّ تارة يكون بالمحكم ، وتارة بالمتشابه
، لحكم وأسرار لا يصل إليها عقول البشر وهو غير واضح ، إذ المتشابه إذا اقترن بقرينة تدلّ السامع على
المراد ، فلا يضرّ نقله بالمعنى ، فإنّه ليس بمتشابه عند السامع ، بل هو كأحد
الظواهر ، فلا يضرّ تغييره.
وإن لم يقترن
بقرينة فحمله على أحد المعاني المحتملة من دون علم من جانب الشارع ، باطل ، ولا
معنى لاشتراط المساواة في الخفاء والجلاء حينئذ ، بل
__________________
الشّرطان
السّابقان يكفيان مئونة ذلك.
نعم ، لو أريد مثل
ما لو نقل غير السّامع من الرّواة الوسائط وأدّاه ، بمعنى أدّى إليه اجتهاده
بملاحظة سائر الأخبار والأدلّة ، فهو كذلك ، إذ ربّما كانت الرّواية في الأصل متشابهة بالنسبة إلى
السّامع أيضا ، والحكمة اقتضت ذلك أو الحكمة اقتضت أن يوصل إلى المراد بالاجتهاد
والفحص ، فحينئذ فلا بدّ للناقل من ذكر اللّفظ المتشابه وتعقيبه بالتفسير الذي
فهمه.
وهذا ليس من باب
النقل بالمعنى ، بل هو مسألة أخرى ذكروها بعنوان آخر وسنشير إليها ، اللهمّ إلّا أن يكون المراد أنّه لو أدّى المعصوم
المطلوب بلفظ متشابه بالذّات ، مبيّن للسامع بانضمام القرائن فيجب على الناقل ذكر
هذا اللفظ المتشابه ، وإن عقّبه ببيان ما قارنه بالعرض من القرينة المبيّنة له
بانضمام أحوال التحاور والتخاطب بناء على الفرق بين أقسام الدلالات ، مثل ما لو
حصل من المشترك مع القرينة أو من اللّفظ الآحادي المعنى.
ويظهر من ذلك أنّه
ينبغي مراعاة النصّ والظاهر أيضا ، بل وأقسام الظواهر ، إذ في عدم مراعاة ذلك يحصل
الاختلاف في مدلول الأخبار في غاية الكثرة.
فإذا ذكر الإمام عليهالسلام لفظ القرء في بيان العدّة وفهم الرّاوي بقرينة المقام
الطهر مثلا ، فلا يروي الحديث بلفظ الطهر ، إذ ربّما كان فهم الرّاوي خطأ لاشتباه
القرينة عليه.
فلو أراد بيان ذلك
، فليذكر لفظ القرء ثمّ يفسّره بما فهمه. وكذا في النصّ والظاهر ، مثلا إذا قال
الإمام عليهالسلام : لو بقي من اليوم بمقدار صلاة العصر ؛ فهو مختصّ
__________________
به ، فنقله
الرّاوي بقوله : إذا بقي من اليوم بمقدار أربع ركعات العصر ؛ فهو مختصّ به ، مريدا
به صلاة العصر أيضا ، إذ يتفاوت الأمر بين اللّفظين بملاحظة شمول صلاة العصر
لركعتي المسافر وأقلّ منه كصلاة الخوف وأمثال ذلك ، وكذلك في صلاة العشاء ونصف
الليل.
ومن أجل ذلك الفرق
أفردت في هذه المسألة من الأصحاب في جواز الإتيان بصلاة المغرب والعشاء كليهما إذا
بقي من نصف الليل بمقدار أربع ركعات فإنّهم يخصّونه بالعشاء ، وأنا أجمع بينهما
لما استفاض من النقل الصحيح أنّ : «من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت» فيصدق على هذا أنّه يدرك وقت الصلاتين وإن لم يدرك وقت
الثلاث والأربع.
وبالجملة ، فلا
بدّ لناقل الحديث بالمعنى من ملاحظة العنوانات المتعاورة على مصداق واحد مع اختلاف الحكم باختلافها ، وملاحظة تفاوت
الأحكام بتفاوت العنوانات أهمّ شيء للمجتهد في المسائل الشرعية ، فبأدنى غفلة
يختلّ الأمر ويحصل الاشتباه.
هذا ، وأمّا ضبط
مراتب الوضوح والخفاء بالنسبة إلى مؤدّى الألفاظ فهو ممّا يصعب إثبات اشتراطه ، إذ
الظاهر أنّ المعصوم عليهالسلام إنّما يقصد من الإخبار غالبا تفهيم المخاطب ورفع حاجته في
الموارد الخاصّة المحتاج إليها بحسب اتّفاق الوقائع التي دعتهم إلى السّؤال عنه عليهالسلام أو علم المعصوم عليهالسلام احتياجهم إليها ،
__________________
فهم عليهمالسلام يكلّمون أصحابهم بقدر فهمهم لا إنّهم يتكلّمون على معيار
خاصّ يكون هو المرجع والمعوّل حتّى يعتبر في نقله للآخر ذلك المقدار ، بل الناقل
للغير أيضا لا بدّ أن يلاحظ مقدار فهم مخاطبه لا كلّ مخاطب ، وهكذا ، فنقل المطلوب
بعبارة أوجز إذا كان المخاطب ألمعيا فطنا ذكيّا ، لا مانع منه ، وكذلك نقله أبسط وأوضح
إذا كان بليدا غبيّا.
وكيف كان ، فالحقّ
جواز نقل الحديث بالمعنى مع الشّرائط المذكورة.
لنا : أنّ ذلك هو
الطريقة المعهودة في العرف والعادة من لدن آدم عليهالسلام إلى زماننا هذا ، والشارع عليهالسلام أيضا بناؤه في المحاورات على طريقة العرف والعادة ، فإنّ المقصود
في العرف والعادة ، هو إفهام المراد من دون اعتبار خصوصية لفظ وأنّه مرسل بلسان
قومه ، ومن ذلك نقل الرّاوي إلى العجميّ باللّسان العجميّة ، وكذا الناقل من
المجتهد إلى أهله وعياله.
والأخبار الواردة
عنهم عليهمالسلام منها : ما رواه محمّد بن مسلم في الصحيح قال : قلت لأبي عبد الله
عليهالسلام : «أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص. قال : إن كنت تريد معانيه
فلا بأس» .
والظاهر أنّ
المراد من الزيادة والنقصان ما لا مدخليّة له في تغيير المراد بقرينة جلالة شأن
الرّاوي وجواب الإمام عليهالسلام.
وقوله عليهالسلام : إن كنت تريد معانيه ، يعني إن لم تقصد نسبة اللّفظ إلينا
، فإنّه كذب.
__________________
ولا يخفى أنّ
أفراد العامّ كلّها من مدلولات العامّ وكذلك لوازم المفهوم ، فيصدق أنّ الكلّ
معاني اللّفظ ، فإذا أراد أن ينقل عن الإمام عليهالسلام أنّه قال : اتّقوا الله ، مثلا ، فيقول : قال الإمام عليهالسلام : خافوا من الله واجتنبوا عمّا نهاكم الله عنه من الشّرك
والفسق وشرب الخمر والزّنا ، إلى غير ذلك ، وواظبوا على ما أوجبه عليكم من إقامة
الصلاة وإيتاء الزّكاة ونحو ذلك ، فيصدق على ذلك أنّه نقل لمعاني كلام الإمام عليهالسلام ، بل وكذلك أيضا لو كان ممّا دلّ عليه بالإشارة أيضا : مع
إشكال فيه لحصول الغفلة ووجود الثمرة بين الخطابات الأصليّة والتبعيّة كما أشرنا
سابقا.
ويدلّ على المختار
أيضا : أنّه تعالى قصّ القصّة الواحدة بعبارات مختلفة ، ومن المعلوم أنّها
وقعت بغير العربيّة أو بعبارة واحدة منها ، بل يمكن أن يقال : لم يقع بإحدى تلك
العبارات ، لأنّ هذا الكلام على هذا الطّور الغريب والأسلوب العجيب ، منحصر في
القرآن الذي هو منزل على سبيل الإعجاز ، فتأمّل.
ويظهر جواز ذلك
لمن تتبّع الآثار والأخبار ، فإنّ تتبّعها يفيد أنّ ذلك كان طريقة أصحاب النبيّ
وآله صلوات الله عليهم أجمعين.
واحتجّ المنكر :
بأنّ ذلك يوجب اختلال المقصود واستحالة المعنى ، سيّما مع كثرة الطبقات وتطاول
الأزمنة وتغيير كلّ منهم اللّفظ لاختلاف أهل اللّسان ، بل العلماء في فهم الألفاظ
واستنباط المقصود.
وفيه : أنّ بعد ما
ذكرنا من الشروط ، لا وقع لهذا الاحتجاج ، سيّما وذلك
__________________
معارض بما مرّ من
الأدلّة ، فلو فرض الاشتباه والغفلة مع ذلك ، فهو معفوّ ، مع أنّ اعتبار النقل
باللفظ في الجميع يقرب من المحال ، بل هو محال عادة.
نعم يتمّ في مثل
الأدعية التي اعتبر فيها الألفاظ المخصوصة ، وطريقتهم في ذلك غالبا أنّهم كانوا
يملون على أصحابهم وهم يكتبون ، ولذلك ندر الاختلاف فيها ، بخلاف الأخبار ، وبقوله
عليهالسلام : «نصر الله من سمع مقالتي فرعاها [فوعاها] ثمّ أدّاها كما
سمعها ، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» . وأداؤه كما سمعه إنّما يتحقّق بنقل اللّفظ المسموع.
وفيه : منع الصحّة
أوّلا ، ومنع الدلالة على الوجوب ثانيا كما لا يخفى ، ومنع الدلالة على وجوب
التأدية بلفظه ثالثا ، لصدق التأدية كما سمعه عرفا بمجرّد أداء المعنى كما هو.
مع أنّ الظاهر أنّ
هذا الحديث واحد وقد اختلف ألفاظه ، ففي رواية كما ذكر ، وفي أخرى : نضّر الله ،
بالضاد المعجمة ، وفي أخرى : رحم الله ، وفي رواية : إلى من لا فقه له. فهذا
الحديث لنا لا علينا ، إلّا أن يمنع الظّهور ويتمسّك بأصالة عدم التغيير
، وهو معارض بأصالة عدم التعدّد.
__________________
وأمّا المفصّل :
فيظهر ضعف قوله ممّا تقدّم.
بقي الكلام فيما
وعدنا ذكره ، وهو أنّ الرّاوي الثقة إذا روى مجملا وفسّره بأحد محامله
، فالأكثر على لزوم حمله عليه ، بخلاف ما لو روى ظاهرا وحمله على خلاف الظّاهر ،
لأنّ فهم الرّاوي الثقة قرينة وليس له معارض من جهة اللّفظ لعدم دلالة المجمل على
شيء ، بخلاف الثاني ، فإنّ فهمه معارض بالظاهر الذي هو حجّة.
أقول : وكما أنّ
مقتضى الظّاهر العمل عليه ، فمقتضى المجمل السّكوت عنه ولا يتفاوت الحال ، مع أنّ
الظّاهر إنّما يعتبر ، لأنّ الظّاهر أنّه هو الظّاهر عند المخاطب بالحديث ، لا
لظهوره عندنا ، لأنّ الخطاب مختصّ بالمشافهين كما بيّناه في محلّه ، فإذا ذكر
المخاطب به أنّ مراده هو ما هو خلاف الظّاهر ، فالظّاهر اعتباره غاية الأمر التوقّف.
وأمّا تقديم
الظّاهر ، فلا.
وبالجملة ،
فالمعيار هو حصول الظنّ.
__________________
خاتمة :
فيها مباحث :
الأوّل :
اصطلح المتأخّرون من أصحابنا بتنويع خبر
الواحد باعتبار اختلاف أحوال رواته
في الاتّصاف
بالإيمان والعدالة والضبط وعدمها ، بأنواع أربعة :
الأوّل : الصحيح ،
وهو ما كان جميع سلسلة سنده إماميّين ممدوحين بالتوثيق مع الاتّصال ، ولا يضرّه الشذوذ وإن سقط عن الحجّية ، خلافا لبعض
العامّة حيث اعتبر في وصفه بالصحّة عدم الشذوذ وعدم كونه معلّلا ، يعني مشتملا على علّة خفيّة في متنه أو سنده لا يطّلع
عليها إلّا الماهر ، كالإرسال فيما ظاهره الاتّصال أو مخالفته لصريح العقل أو الحسّ.
واعتبار عدم كونه
معلّلا أيضا مستغنى عنه ، إذ ما ظهر كونه منقطعا أو ما شكّ فيه ، فلا يصحّ الحكم
بأنّه متّصل السند إلى المعصوم عليهمالسلام بالإمامي العدل الثقة ، فإنّ ظاهر هذا التعريف هو ما حصل
اليقين بذلك أو ما ترجّح في النظر كونه كذلك.
فالمعلّل أعني ما
حصل الشكّ في ذلك ، خارج عن التعريف ، فوصف بعضهم مثل ذلك بالصحّة مع ظهور كونه
معلّلا عند آخر مبنيّ على غفلة الواصف وخطأه
__________________
في اجتهاده ،
وترجيحه انّه غير معلّل.
وأمّا عيب المتن
فلا مدخليّة له بهذا الاصطلاح.
الثاني : الحسن ،
وهو ما كانوا إماميّين ممدوحين بغير التوثيق ، كلّا أو بعضا ، مع توثيق الباقي.
الثالث : الموثّق
، وهو ما كان كلّهم أو بعضهم غير إماميّ مع توثيق الكلّ ، وقد يسمّى بالقويّ أيضا.
وقد يطلق القويّ
على ما كان رجاله إماميّين مسكوتا عن مدحهم وذمّهم ، كنوح بن درّاج وأحمد بن عبد الله بن جعفر الحميري وغيرهما.
وأمّا لو كان رجال
السّند منحصرا في الإماميّ الممدوح بدون التوثيق ، وغير الإماميّ الموثّق ، ففي
لحوقه بأيّهما خلاف يرجع إلى الترجيح بين الموثّق والحسن ، لأنّ السند يتبع في
التوصيف أخسّ رجاله ، كالنتيجة تتبع أخصّ مقدّمتيها. والأظهر كون الموثّق أقوى ،
فيتّصف بالحسن.
نعم قد يصير الحسن
أقوى بسبب خصوص المدح في خصوص الرّجل ، وهو لا يوجب ترجيح ماهيّته.
ثمّ إنّه قد يطلق
الصحيح مضافا إلى راو معيّن على خبر كان سنده إلى هذا الرجل متّصفا بصفات رجال
الصحيح وإن لحقه بعد ذلك ضعف وإرسال ، مثل أن
__________________
يقال : يدلّ على
ذلك صحيحة ابن أبي عمير عن رجل عن الصادق عليهالسلام. ولا ريب أنّ ذلك ليس من الصحيح المصطلح الذي هو حجّة
بنفسه ، بل هو غفلة أو اصطلاح لإعلام تصحيح السّند إلى الرجل المعيّن.
وأمّا قولهم :
أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن عبد الله بن بكير مثلا ، فهو ليس من هذا القبيل ، كما توهّم ، من وجهين :
__________________
أحدهما : أنّه ليس
المراد فيه الصحّة المصطلحة.
والثاني : أنّه
أريد منه بيان الوثوق بما قبل عبد الله بن بكير أيضا ، وقد يطلق على جملة محذوفة من السند للاختصار ، جامعة لأوصاف رجال
صحيح السند ، مثل أن يقال : روى الشيخ في الصحيح عن فلان ، وإن لم يكن الفلان ولا
ما قبله متّصفا بها.
ويثمر ذلك في
الأغلب فيما كان الفلان ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ، ونحو ذلك
ممّا يدلّ على اعتبار ذلك الحديث بسبب روايته. والاصطلاحان المذكوران يجريان في القسمين الآخرين أيضا.
الرابع : الضعيف ،
وهو ما لم يجتمع فيه شرائط أحد الثلاثة. وقد عرفت ممّا سبق كون الصحيح والموثّق
حجّة ، وكذلك الحسن إذا أفاد مدحه التثبّت الإجمالي.
وأمّا الضعيف فلا
حجّة فيه إلّا إذا اشتهر العمل به ، وحينئذ يسمّى مقبولا ، وهو حجّة حينئذ سيّما
إذا كان الاشتهار بين قدماء الأصحاب.
نعم ، يجوز
الاستدلال به في المندوبات والمكروهات ، للأخبار المستفيضة المعتبرة ، جملة منها الدالّة على أنّ : «من بلغه ثواب على عمل
ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه». رواها العامّة والخاصّة
وغيرها من الأدلّة ، وقد بيّناها وحقّقناها في كتاب «مناهج الأحكام» وغيره.
ثمّ إنّ نسبة هذا
الاصطلاح إلى المتأخّرين ، لأنّ قدماء الأصحاب لم يكن ذلك
__________________
معروفا بينهم ، بل
كانوا يطلقون الصحيح على كلّ حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، مثل وجوده في
كثير من الأصول الأربعمائة ، أو تكرّره في أصل أو أصلين فصاعدا بطرق متعدّدة ، أو
وجوده في أصل أحد من الجماعة الّذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم كصفوان
بن يحيى وأحمد بن أبي نصر ويونس بن عبد الرحمن ، أو على تصديقهم كزرارة ومحمّد بن مسلم وفضيل بن يسار ،
أو على العمل بروايتهم كعمّار السّاباطي ونظرائه ممّن عدّه الشيخ في كتاب «العدّة»
، أو وقوعه في أحد الكتب المعروضة على الأئمّة عليهمالسلام فأثنوا على مؤلّفيها ككتاب عبد الله الحلبي المعروض على الصادق عليهالسلام وكتاب يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري
عليهالسلام أو كونه
__________________
مأخوذا عن أحد
الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، ككتاب الصلاة لحريز بن عبد
الله السّجستاني ، وكتب بني سعيد ، وعلي بن مهزيار ، وكتاب حفص بن غياث القاضي وأمثالها .
وعلى هذا الاصطلاح
جرى ابن بابويه في «من لا يحضره الفقيه» فحكم بصحّة ما أورده فيه مع عدم كون
المجموع صحيحا باصطلاح المتأخّرين ، وقد أشار إلى هذه الطريقة القدماء وبيّنها
شيخنا البهائي رحمهالله في «مشرق الشمسين» ، ثمّ قال ما حاصله : إنّ الباعث للمتأخّرين على عدولهم عن
طريقة القدماء ووضع هذا الاصطلاح ، هو تطاول الأزمنة بينهم وبين صدر السّالف
واندراس بعض الأصول المعتمدة لتسلّط الظلمة والجابرين من أهل الضلال والخوف من إظهارها
وانتساخها ، وانضمّ إلى ذلك اجتماع ما وصل إليهم من الأصول في الكتب المشهورة في
هذا الزّمان ، فالتبست المأخوذة من الأصول المعتمدة بغيرها ،
__________________
واشتبهت المتكرّرة
فيها بغير المتكرّرة وخفي عليهم كثير من القرائن ، فاحتاجوا إلى قانون يتميّز به
الأحاديث المعتبرة عن غيرها فقرّروا هذا الاصطلاح وقال :أوّل من سلك هذا الطريق
العلّامة .
أقول : ولا يتمّ
ذلك إلّا بعد ملاحظة أنّ التوثيق والتعديل أيضا كان أحد القرائن الموجبة للاعتماد
عند القدماء أيضا. والظّاهر أنّه كان كذلك ، كما يستفاد من طريقتهم في تعديل
الرجال وتوثيقهم وأخبارهم المنقولة في الرجوع إلى الأعدل
__________________
والأفقه وغيرهما.
فالظّاهر أنّ
القدماء أيضا كانوا يعتبرون ذلك ، كما أنّ المتأخّرين أيضا قد يسلكون مسلك القدماء
في التصحيح بسبب الاعتضاد بالقرائن أيضا ، فيطلقون الصحيح على ما ظهر لهم من
القرائن الوثوق عليه ، ولكن ذلك نادر. والإطلاق في كلامهم محمول على مصطلحهم ،
وذلك تجوّز منهم اعتمادا على القرائن ، أو غفلة.
والعمدة أنّهم قد
يعتمدون على الحديث مع عدم التصريح بالعدالة وإن كان توصيفهم إيّاه بالصحّة مجازا
على مصطلحهم ، فلا بدّ من التفطّن لتلك القرائن وعدم الاقتصار على الصحيح والحسن
المصطلحين كما اقتصر بعض المتأخّرين من أصحابنا لحصول التثبّت الموجب لظنّ الصدق
بغيرهما أيضا ، فمن أسباب الوثاقة وقرائنها ، ما نقلناه سابقا.
ومنها : قولهم :
عين و : وجه.
فقيل : إنّهما
يفيدان التوثيق ، وأقوى منهما : وجه من وجوه أصحابنا ، وأوجه منه : أوجه من فلان ،
إذا كان المفضّل عليه ثقة.
ومنها : كون
الرّاوي من مشايخ الإجازة ، فقيل : أنّه توثيق ، وقيل : أنّه في أعلى درجات
الوثاقة ، وقيل : أنّ مشايخ الإجازة لا يحتاجون إلى التنصيص على تزكيتهم ، وربّما
نسب كون ذلك توثيقا إلى كثير من المتأخّرين.
ومنها : كونه
وكيلا لأحد من الأئمّة عليهمالسلام لما قيل : انّهم لا يجعلون الفاسق وكيلا.
ومنها : رواية
الأجلّاء عنه ، سيّما الّذين يردّون رواية الضعفاء والمراسيل كأحمد بن محمّد بن
عيسى.
ومنها : أن يروي
عنه الّذين قيل فيهم أنّهم لا يروون إلّا عن ثقة ، مثل صفوان بن يحيى والبزنطي
وابن أبي عمير ، وذهب جماعة من المتأخّرين إلى أنّ ذلك من
أمارات الوثاقة
وقبول الرّواية ، ويقرب منهم عليّ بن الحسن الطاطري ، ومحمّد بن إسماعيل بن ميمون
، وجعفر بن بشير.
ومنها : اعتماد
القمّيين عليه.
ومنها : وقوعه في
سند حصل القدح فيه من غير جهة .
ومنها : وجود
الرّواية في «الكافي» و «الفقيه» لما ذكرا في أوّلهما ، وما وجد في كليهما فأقوى ، وإذا انضمّ إليهما «التهذيب» و
«الإستبصار» فأقوى ، وأقوى ، وهكذا.
ومنها : إكثار
الكليني الرّواية عن رجل أو الفقيه.
ومنها : كونه
معمولا به عند مثل السيّد وابن إدريس ، ممّن لا يجوّز العمل بخبر الواحد.
ومنها : قولهم :
معتمد الكتاب ، وقولهم : ثقة في الحديث ، و : صحيح الحكايات.
ومنها : قولهم :
سليم الجبنة ، إن أريد سليم الأحاديث ، وقيل : سليم الطريقة.
ومنها : قولهم
فقيه من فقهائنا ، أو : فاضل ديّن ، أو : أصدق من فلان ، إذا كان
__________________
المفضّل عليه
جليلا.
ومنها : توثيق ابن
فضّال وابن عقدة ، وربّما يعتمد على توثيق ابن نمير ومن ضارعه أيضا.
ومنها : رواية
الثقة عن رهط ، أو عن غير واحد أو عن أشياخه.
ومنها : أن يذكره
واحد من الأجلّاء مترحّما عليه أو مترضّيا.
ومنها : أن يقول
الثقة : حدّثني الثقة.
ومنها : أن يروي
محمّد بن أحمد بن يحيى عنه ، ولم يكن من جملة ما استثناه القمّيون ، وعن جماعة من
المحقّقين أنّ فيه شهادة على العدالة والصحّة.
وكذلك استثناء
محمّد بن عيسى عن رواة يونس بن عبد الرحمن ، ففيه شهادة على وثاقة غيره.
ومنها : قولهم :
أسند عنه ، يعني سمع منه الحديث على وجه الإسناد ، إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه
التوثيق أو الحسن ممّا هو مذكور في كتب الرّجال وغيرها في المواضع المتفرّقة ،
ويمكن استنباطها للفقيه الماهر بالتتبّع في الموارد الخاصّة ، فاجعل المعيار حصول
الظنّ ، وإن اكتفي بالتعديل الصريح في العمل بالأخبار يلزم خلوّ أكثر الأحكام عن
الدليل ، ويلزم مخالفة طريقة جلّ العلماء ، سيّما على القول باشتراط العدلين في
التزكية ، وقد أشرنا إلى معنى اشتراط العدالة ووجه الإجماع المنقول فيه.
__________________
الثاني :
إنّهم ذكروا
للخبر أقساما أخر باعتبارات شتّى كلّها ترجع إلى الأقسام الأربعة ، بعضها مختصّ بالضعيف ، وبعضها مشترك بين
الكلّ في الجملة ، وذكر تفصيلها وتعريفاتها وإن كان وظيفة علم الدّراية ، إلّا
أنّا نذكر هنا أكثرها لتكثير الفائدة.
فمنها : المسند ،
وهو ما اتّصل سنده إلى المعصوم عليهمالسلام ، بأن لا يعرضه قطع بسقوط شيء منه.
ومنها : المتّصل ،
ويسمّى الموصول ، وهو ما اتّصل إسناده بنقل كلّ راو عمّن فوقه ، سواء رفع إلى
المعصوم عليهالسلام كذلك أو وقف على غيره ، فهو أعمّ من الأوّل.
ومنها : المرفوع
وهو ما أضيف إلى المعصوم عليهالسلام من قول أو فعل أو تقرير ، سواء اعتراه قطع أو إرسال في
سنده أم لا.
ومنها : المعلّق ،
وهو ما حذف من أوّل إسناده واحد أو أكثر ، فإن علم المحذوف فهو كالمذكور ، وإلّا فهو كالمرسل.
__________________
ومنها : العالي
الإسناد ، وهو القليل الوسائط .
ومنها المعنعن ،
وهو ما يقال في سنده ، فلان عن فلان بدون ذكر التحديث والإخبار ، والأظهر أنّه
متّصل كما عليه الأكثر إذا لم يظهر قرينة على عدم اللّقاء وأمن التدليس .
ومنها : المدرّج ، وهو أن يدرج في الحديث كلام بعض الرّواة فيظنّ أنّه منه .
ومنها : المشهور ،
وهو الشّائع عند أهل الحديث ، بأن ينقله جماعة منهم.
ومنها : الشاذّ ،
وهو ما رواه الثقة مخالفا لما رواه الأكثر ، فإن رواه غير الثقة فهو المنكر
والمردود .
ومنها : الغريب ،
وهو إمّا غريب الإسناد والمتن ، بأن ينفرد بروايته واحد ، أو غريب الإسناد خاصّة ،
كخبر يعرف متنه عن جماعة من الصّحابة مثلا إذا انفرد
__________________
بروايته واحد عن
آخر غيرهم أو غريب المتن خاصّة ، بأن ينفرد بروايته واحد ثمّ يرويه عنه جماعة
ويشتهر فيسمّى غريبا مشهورا لاتّصافه بالغرابة في طرفه الأوّل ، وبالشهرة في طرفه
الآخر.
ومنها : المصحّف ،
وهو إمّا في الرّاوي ، كتصحيف بريد بالباء الموحّدة المضمومة والرّاء المهملة
بيزيد بالياء المثنّاة التحتانية والزّاء المعجمة ، أو في المتن ، وهو كثير.
ومنها : الغريب
لفظا ، وأكثره مذكور في الكتب الموضوعة لغريب الحديث كالنهاية لابن الأثير ،
والفائق للزمخشري وغيرهما .
ومنها : المقبول ،
وهو ما نقلوه وعملوا به سواء كان رواته ثقة أم لا.
ومنها : المزيد
على غيره ، ممّا في معناه ، إمّا في المتن ، كأن يزيد فيه ما لا يفهم من الآخر ، أو
في السند ، كأن يرويه أحدهم من اثنين والآخر من ثلاثة سواء كان في الوسط أو في
الآخر.
__________________
ومنها : المسلسل
وهو ما تتابع فيه رجال الإسناد على صفة أو حالة من قول أو فعل ، كالمسلسل بالتحديث
بأن يقول : حدّثنا فلان ، قال : حدّثنا فلان ، وهكذا أو بالأسماء ، نحو : أخبرنا
محمّد ، عن محمّد أو بالأباء نحو فلان عن أبيه ، عن فلان عن أبيه عن فلان ، وغير
ذلك كالمسلسل بالمصافحة والمشابكة وأخذ الشّعر وغير ذلك ، فإن اتّصل السّند كذلك إلى المعصوم عليهالسلام فتامّ ، وإلّا فبحسبه .
وهذه المذكورات
ممّا يشترك فيه أصول الأنواع الأربعة.
وأمّا ما يختصّ
بالضعيف.
فمنها : المقطوع ،
وقد يقال له المنقطع ، وهو الموقوف على التابعيّ ومن في حكمه ، وقد يطلق على الأعمّ من ذلك فيشمل المعلّق والمرسل
والمنقطع الوسط وغير ذلك. ثمّ إن كان السّاقط من السند أكثر من واحد ، يسمّى معضلا
بصيغة اسم المفعول بمعنى المشكل ، وإلّا فمنقطع.
ومنها : المرسل
وهو ما رواه عن المعصوم عليهالسلام أو غيره من لم يدركه أو لم يلقه
__________________
من دون واسطة أو
بواسطة مبهمة ، كرجل أو بعض أصحابنا. واختصاص هذا القسم بالضعيف مبنيّ على اصطلاح
المتأخّرين ، وإلّا فقد عرفت أنّ بعض المراسلات في قوّة الصّحيح في الحجّية.
ومنها : الموقوف ،
وهو ما روي عن صاحب المعصوم عليهالسلام من غير أن يسنده إلى المعصوم عليهالسلام.
وأمّا المضمر كأن
يقول صاحب المعصوم عليهالسلام : سألته عن كذا ، قال كذا ، فإن كان من مثل زرارة ومحمّد
بن مسلم وأضرابهما من الأجلّاء ، فالأظهر حجّيته ، بل الظاهر أنّ مطلق الموثّقين
من أصحابنا أيضا كذلك ، لأنّ ظاهر حال أصحاب الأئمّة أنّهم لا يسألون إلّا عنهم عليهمالسلام.
والذي صار سببا
للإضمار إمّا التقيّة أو تقطيع الأخبار من الأصول ، فإنّهم كانوا يكتبون في صدر
سؤالاتهم : سألت فلانا عليهالسلام عن فلان ، قال كذا ، وسألته عن كذا ، قال كذا ، وهكذا ،
ثمّ بعد تقطيعها وجمعها في الكتب المؤلّفة صار مشتبها ، والأظهر الاعتماد على
القرائن وأشخاص الرّواة.
ومنها : المدلّس ،
كأن يقول الرّاوي : قال فلان ، على وجه يوهم روايته عنه بلا واسطة مع أنّه ليس
كذلك ، فإن قال : حدّثني ، فهو كذب ، وهكذا إن أسقط عن السّند رجلا مجروحا لتقوية
الحديث ، أو يذكر بعض الرّجال باسم أو لقب أو نسبة غير مشتهر به ، فإنّ كلّ ذلك قبيح مذموم إلّا لأجل تقيّة أو غيرها من
الأغراض الصحيحة.
ومنها : المضطرب ،
وهو ما اختلف فيه الرّواية إمّا بالسّند كأن يرويه تارة بواسطة وأخرى بدونها ، أو
في المتن كحديث تميّز الدّم المشتبه بدم الحيض
__________________
والقرحة ، بأنّ
خروجه عن الأيمن علامة الحيض ـ كما في بعض النسخ ـ أو من الأيسر كما في الآخر .
ومنها : المعلّل ،
وقد مرّ الإشارة إليه.
ومنها : المقلوب ،
وهو حديث يروى بطريق فيغيّر كلّ الطريق أو بعض رجاله ليرغب فيه ، وهو مردود إلّا
إذا كان سهوا فيغتفر عن صاحبه .
__________________
ومنها : الموضوع ، وهو معلوم.
الثالث :
لا بدّ لراوي الحديث من مستند يصحّ من
جهته رواية الحديث ويقبل منه.أمّا الرّواية عن المعصوم عليهالسلام فله وجوه ، أعلاها السّماع ، ولفظه أن يقول : سمعت المعصوم
عليهالسلام يقول كذا ، أو أسمعني أو شافهني أو حدّثني. ثمّ إن يقول :
قال كذا ، لاحتمال كون السّماع حينئذ بواسطة وإن كان خلاف الظاهر ، ثمّ إن يقول :
أمر بكذا ونهى عن كذا ، فإنّه يحتمل ـ مضافا إلى احتمال الواسطة ـ الغفلة في فهم
الأمر والنّهي أو إطلاق الأمر والنّهي على ما فهمه بالدلالة التبعيّة من النّهي عن
ضدّه أو الأمر به ، وإن كان بعيدا.
وأمّا مثل : أمرنا
بكذا ، أو نهينا عن كذا ، ونحو ذلك بصيغة المجهول أو من السنّة كذا أو قول
الصّحابي كنّا نفعل كذا وأمثال ذلك فهي أدون الكلّ ، ويتبع العمل بها وقبولها
الظهور من جهة القرائن.
وأمّا الرّواية عن
الرّاوي فله أيضا وجوه ، أعلاها السّماع من الشيخ سواء كان بقراءة من كتابه أو
بإملائه من حفظه ، فيقول : سمعته ، أو : حدّثني ، أو : أخبرني إن قصد الشيخ سماعه ، وإن قصد إسماع غيره فيقول : حدّث فلانا وأنا أسمع.
__________________
وعلّل الشهيد كونه أعلى بأنّ الشيخ أعرف بوجوه ضبط الحديث وتأديته ، ولأنّه
خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآله وسفيره إلى أمّته والأخذ عنه كالأخذ منه ، ولأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله أخبر الناس أوّلا وأسمعهم ما جاء به ، والتقرير على ما جرى
بحضرته صلىاللهعليهوآله أولى ، ولأنّ السّامع أربط جأشا وأوعى قلبا ، وشغل القلب
وتوزّع الفكر إلى القارئ أسرع.
وفي صحيحة عبد
الله بن سنان قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : «يجيئني القوم فيستمعون منّي حديثكم فأضجر ولا أقوى. قال
: فاقرأ عليهم من أوّله حديثا ومن وسطه حديثا ومن آخره حديثا» . فعدوله إلى قراءة هذه الأحاديث مع العجز يدلّ على أولويته
من قراءة الرّاوي وإلّا أمر (لأمر) بها ، انتهى .
وفي دلالة الصحيحة
على مدّعاه تأمّل ظاهر.
ثمّ دونه القراءة
على الشيخ مع إقراره به وتصريحه بالاعتراف بمضمونه ويسمّى ذلك عرضا ، والظاهر أن
يكون السّكوت مع توجّهه إليه وعدم مانع عن المنع والردّ من غفلة أو إكراه أو خوف ،
وانضمام القرائن بالرّضا كافيا ، وعبارته : قرأت على فلان وأقرّ به واعترف ، أو : حدّثنا ، أو : أخبرنا
فلان قراءة عليه ، وبدون قوله قراءة عليه ، عند جماعة.
والحقّ المنع إذا
لم يقم قرينة على إرادة ذلك ، فإنّ ظاهره سماعه من الشيخ ،
__________________
وعن السيّد المنع
عنه مقيّدا أيضا محتجّا بأنّها مناقضة ، لأنّ معنى الإخبار والتحديث هو السّماع
منه.
وقوله : قراءة
عليه ، يكذّبه ، وهو مدفوع بأنّ كلّ مجاز كذلك ، فينسدّ باب المجاز.
ومن وجوه التحمّل
الإجازة ، وهو إخبار إجمالي بأمور مضبوطة معلومة مأمون عليها من الغلط والتصحيف
ونحوهما ، وذلك إمّا بشخص الكتاب كقوله : أجزت لك رواية هذه النسخة المصحّحة ، أو بنوعه المتعيّن في
نفس الأمر الصحيح في الواقع مثل «تهذيب» الشيخ أو «استبصاره» مثلا.
ثمّ إنّه لا إشكال
في جواز النقل والرواية والعمل بسبب الإجازة ، وعبارته الشائعة : أنبأنا ، ونبّأنا
، ويجوز : حدّثنا وأخبرنا أيضا ، والأظهر عدم الجواز على الإطلاق إلّا مع القرينة
، بل يقول : أنبأنا بهذا الكتاب إجازة ، كما ذكرنا في القراءة على الشيخ.
والإجازة على
أقسام :
الأوّل : إجازة
معيّن بمعيّن كقوله : أجزتك التهذيب ، أو هذه النسخة منه. وهذا على أقسام
الإجازة.
والثاني : إجازة
معيّن بغير معيّن ، كأن يقول : أجزت لك مسموعاتي ، فيقتصر على ما ثبت عنده أنّه من
مسموعاته.
الثالث : إجازة
غير معيّن بمعيّن ، كقوله : أجزت التهذيب لكلّ الطلبة ، أو : لأهل زماني.
__________________
الرابع : إجازة
غير معيّن بغير معيّن ، ك : أجزت مسموعاتي لكلّ أحد من أهل زماني.
الخامس : إجازة
المعدوم إمّا منفردا أو عطفا على الموجود ، وفي جوازه خلاف.
وفائدة الإجازة
إنّما تظهر في صحّة الأصل الخاصّ المعيّن وحصول الاعتماد عليه ، أو ما لم يثبت
تواتره من المروي عنه ، وإلّا فلا فائدة فيها في المتواترات ، كمطلق الكتب الأربعة
عن مؤلّفيها.
نعم ، يحصل بها
بقاء اتّصال سلسلة الإسناد إلى المعصوم عليهالسلام وذلك أمر مطلوب للتيمّن والتبرّك.
ويظهر ممّا ذكرنا الكلام في قراءة الشيخ والقراءة عليه أيضا ، فيحصل منه
التصحيح والخلاص من التصحيف والتحريف وغير ذلك .
ومن أنحاء التحمّل
المناولة ، وهي إمّا مقرونة بالإجازة أو خالية عنها. فالأوّل : هو
أن يدفعه كتابا ويقول : هذا سماعي ، أو : روايتي عن فلان فاروه عنّي ، أو : أجزت
لك روايته عنّي ، ولا إشكال في جواز روايته .
والثاني : أن
يناوله الكتاب مقتصرا على قوله : هذا سماعي من فلان ، والأكثر على عدم جواز
الرّواية عنه بذلك حينئذ.
ومنها : الكتابة ،
وهو أن يكتب مسموعه لغائب أو حاضر بخطّه أو يأذن لثقة أن
__________________
يكتبه أو كتب :
إنّ الفلان سماعي ، فإن انضمّ ذلك بالإجازة وكتب : فاروه عنّي ، أو
أجزت لك روايته ، فلم ينقل خلاف في جواز الرّواية بشرط معرفة الخطّ والأمن من
التزوير ، وإن خلا عن ذكر الإجازة ، ففيه خلاف ، والأكثر على الصحّ حدّثنا مكاتبة.
ومنها : الوجادة ،
وهي أن يجد الإنسان أحاديث بخطّ راويها ، معاصرا كان له أو لا. ولم يجوّزوا
الرّواية بمجرّد ذلك ، بل يقول : وجدت ، أو : قرأت بخطّ فلان ، وفي جواز العمل به
قولان .
__________________
المطلب الثاني
في الفعل والتقرير
قانون
فعل المعصوم عليهالسلام حجّة كقوله ، لكن الشّأن في تحقيق محلّه وتعيين ما يحكم
بمتابعته.
فنقول : أمّا
الأفعال الطبيعة [الطبيعيّة] كالأكل والشرب والنوم والاستيقاظ ، فالكلّ مباح له
ولنا بلا إشكال ، وذلك إذا لم يلحقه حيثيّة واعتبار وخصوصيّة كالاستمرار على
القيلولة وأكل الزبيب على الرّيق مثلا ، فإنّها بذلك تندرج في الأقسام الآتية.
وأمّا ما يتردّد
بين كونه من أفعال الطبائع أو من الشرع ، ففي حمله على أيّهما وجهان ، نظرا إلى
أصالة عدم التشريع ، وإلى أنّه صلىاللهعليهوآله بعث لبيان الشرعيّات.
قال الشهيد رحمهالله في «القواعد» : وقد وقع ذلك في مواضع.
__________________
منها : جلسة
الاستراحة ، وهي ثابتة من فعله عليهالسلام وبعض العامّة زعم أنّه عليهالسلام إنّما فعلها بعد أن بدّن وجمل [حمل] اللّحم
فتوهّم انّه للجبلة .
ومنها : دخوله في
ثنيّة كداء وخروجه من ثنيّة كدا [كداء] ، فهل ذلك لأنّه صادف طريقه أو
لأنّه سنّة؟ ويظهر الفائدة في استحبابه لكلّ داخل.
ومنها : نزوله
بالمحصّب لمّا نفر في الأخير ،
__________________
وتعريسه لمّا بلغ ذا الحليفة ، وذهابه بطريق في العيد ورجوعه بآخر . والصحيح حمل ذلك كلّه على الشرعي. انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول : ويرجع
الكلام فيه إلى ما لم يعلم وجهه ، وسيجيء التفصيل والتحقيق ، ثمّ إنّه لا إشكال
أيضا فيما علم اختصاصه به عليهالسلام كوجوب التهجّد وإباحة الوصال
__________________
في الصّوم ،
والزّيادة على أربع في النكاح الدّائم.
وأمّا غيرهما ، فإمّا أن لا نعلم وجهه وقصده به من الوجوب أو الندب أو
غيرهما ، أو نعلم وجهه.
وعلى الأوّل فإمّا
أن نعلم أنّه قصد به التقرّب أم لا. وعلى الأوّل فيتردّد فعله لنفسه بين الواجب
والمندوب.
وعلى الثاني
فيتردّد فعله لنفسه بينهما وبين المباح والمكروه لو قلنا بصدوره عنهم ، لاستحالة
صدور المحرّم عنهم عندنا ، فهذه أقسام ثلاثة.
وهذا كلّه إذا لم
يكن فعله بيانا لمجمل ، وسيجيء الكلام فيه.
فأمّا ما لم يعلم
وجهه ، فهل يجب علينا متابعته مطلقا أو يستحبّ مطلقا أو يباح أو يجب التوقّف ؟
فيه أقوال ،
أقواها القول الثاني.
لنا : أصالة
البراءة من الوجوب وعدم دليل قائم عليه كما ستعرف ، واحتمال الإباحة مقهور
بأكثريّة الرّاجح في أفعالهم ، ولأنّ ذلك مقتضى الاحتياط لاحتمال الوجوب ، بل والندب أيضا ؛ فيستحبّ
، ولأنّ ذلك مقتضى عمومات ما دلّ على حسن التأسّي بعد نفي دلالتها على الوجوب.
__________________
واحتجّ القائل
بالوجوب : بوجوه ضعيفة أقواها الآيات الآمرة باتّباعه عليهالسلام مثل قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.)
وفيه : أنّ
المتابعة والتأسّي هو الإتيان بمثل فعل الغير على الوجه الذي فعله ، لأنّه فعله ،
ففعل ما فعله بقصد الندب بعنوان الوجوب ، ليس متابعة له.
فكما يمكن التجوّز
في مادّة الصيغة لإبقاء هيئتها على حقيقتها ، يمكن العكس بإرادة الطلب الرّاجح ، سيّما والأوّل مستلزم
للتخصيص أيضا جزما ، لعدم الوجوب في كثير من الأفعال ، وفي خصوص الخواصّ إجماعا ، مع أنّه إذا بقي الاتّباع على معناه الحقيقي ،
وهو إتيان الفعل على ما فعله لأجل أنّه فعله على الوجه الذي فعله ، فالوجوب
المتعلّق بهذا المعنى من جهة صيغة الأمر إنّما يتعلّق بالقيد لا بالمقيّد ، فلا
مجاز أصلا.
ومنه يظهر الجواب
عن قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي).
ووجه الاستدلال
بها : أنّه جعل وجوب المتابعة معلّقا على محبّة الله التي هي واجبة اتّفاقا.
وما أجيب : بأنّ
وجود الشرط غير مستلزم للمشروط ، فهو فاسد لابتنائه على الخلط بين معاني الشرط ،
وجعله هنا عبارة عن الشرط الأصوليّ.
ومثل قوله تعالى :
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
__________________
اللهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ.) وتقديره : من كان يرجو الله واليوم الآخر فله فيه أسوة
حسنة ، ويلزمه بعكس النقيض أنّ من لم تكن فيه أسوة حسنة ، فليس ممّن يرجو الله
واليوم الآخر ، وهذا تهديد ووعيد على ترك الأسوة ، وهو دليل الوجوب.
ويظهر الجواب عنه
ممّا تقدّم ، فإنّ التأسّي هو متابعة الفعل لأجل أنّه فعله على الوجه الذي فعله لا
بعنوان الوجوب مطلقا ، والقدح في عموم أسوة في مقام الجواب ممّا لا كرامة فيه ،
لإرجاعه إلى العموم في أمثال هذا المقام في العرف والعادة.
والجواب عن سائر
الآيات مثل : (وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ ،)(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ،)(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) أوضح.
فإنّ إطاعة موافقة
الأمر هو حقيقة في القول.
والمراد بالمأتيّ
القول بالتبادر سيّما مع مقابلة قوله : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا).
وغاية ما يدلّ
عليه الآية الأخيرة الإباحة ، سيّما وهو في مقام توهّم الحظر ، وأين هو من الوجوب.
وأمّا الاستدلال
بالاحتياط ، ففيه مع أنّه لا يتمّ لأجل احتمال الحرمة ، لاحتمال كون ما فعله من
الخصائص ، لا دليل على وجوبه ، بل إنّما يتمّ لو سلّم فيما ثبت
__________________
التكليف يقينا
وتوقّف براءة الذمّة على العمل ، وهو أوّل الكلام.
وأنت بعد التأمّل
في جميع ما ذكرنا تقدر على استنباط دليل القائل بالإباحة والتوقّف.
والجواب عنهما :
فالقائل بالإباحة يقول أنّ تعارض الاحتمالات من الرّجحان والحظر يوجب الرجوع إلى
الأصل ، وهو الإباحة ، والمتوقّف يتوقّف.
ويظهر الجواب ممّا
مرّ ، مضافا إلى أنّ احتمال الحظر من جهة كونه من الخصائص نادر ولا يلتفت إليه ،
فإنّ الغالب موافقة النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام لأمّتهم وتابعيهم ، فالأصل هو المشاركة ، إلّا ما أخرجه
الدليل.
وأمّا ما علم وجهه
، بمعنى أنّه يعلم أنّه واجب عليه أو مندوب أو غيره ولم يعلم أنّه من خصائصه ،
فالأظهر لزوم اتّباعه ، بمعنى اشتراكنا معه على الوجه الذي يفعله.
وذهب بعضهم لذلك
في العبادات دون المناكحات والمعاملات ، وآخر إلى إنكار ذلك كلّه.
لنا : الأدلّة
المتقدّمة للقائلين بالوجوب في المسألة السّابقة وضعف احتمال الاختصاص فيما لم
يعلم كونه من الخصائص. وأمّا ما علم أنّه ليس منها ، فلا إشكال فيه.
وضعف قول المنكر
مطلقا فيها أيضا ، أظهر.
وجوابه فيما
يحتملها عدم الالتفات إلى النادر ، سيّما مع قيام الأدلّة على حسن التأسّي.
__________________
وأمّا المفصّل فلا دليل يعتدّ به.
وقد استدلّ على
المختار مضافا إلى ما مرّ بإجماع العصابة على الرجوع في الأحكام إلى أفعاله كقبلة
الصّائم ، لما روته [رواه] أمّ سلمة عن فعله عليهالسلام ، والغسل بمجرّد التقاء الختانين وإن لم ينزل ، لما روته [رواه]
عائشة عن فعله عليهالسلام ، نظرا إلى أنّ وجه الأوّل معلوم ، فإنّه للإباحة ، وأنّ
الغسل من التقاء الختانين ظاهر في أنّه كان يفعله بعنوان الوجوب ، لأنّه صلىاللهعليهوآله كان يجعله غسل الجنابة ويترتّب عليه أحكامه ، وغسل الجنابة
واجب جزما.
والظاهر أنّ الحكم
في الترك هو الحكم في الفعل.
وممّا يتفرّع على
هذا التأسّي به صلىاللهعليهوآله في التباعد عن الناس عند التخلّي المعلوم أنّه كان على
سبيل الاستحباب.
ثمّ إنّ معرفة وجه
فعله صلىاللهعليهوآله إمّا يعرف بنصّه بأنّ هذا الذي فعلته ؛ فعلته بعنوان
الوجوب ، أو يعلم أنّه كان امتثالا لأمر يدلّ على الوجوب ، مثل قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ ،) الدالّ على الوجوب أو أمر يدلّ على مجرّد الرّخصة ، أو أمر
ندبي ، والتمثيل لذلك بقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا.)(فَكاتِبُوهُمْ) سهو لعموم الخطاب فيهما ، أو يعلم بانضمام القرائن كما
أشرنا في قبلة الصّائم والتباعد عند التخلّي أو غير ذلك من القرائن.
ومنها : أصالة عدم
الوجوب الدالّة على الإباحة إليه إذا فقد الدليل على الوجوب والندب.
__________________
قانون
إذا وقع الفعل بيانا لمجمل فيتبعه في
الوجه ،
ويظهر منه وجهه
ممّا سبق.
ثمّ إنّك قد عرفت
في باب المجمل والمبيّن حكم كون الفعل بيانا ، وأقسام ما يدلّ على بيانيّته .
فاعلم أنّ المعصوم
عليهالسلام إذا صدر منه فعل في مقام البيان ، فما علم مدخليّته ، وما
علم عدم مدخليّته فيه من الحركات والسّكنات وغيرهما ، فلا كلام فيه.
وما لم يعلم ، فإن
كان ممّا استحدثه ولم يكن متلبّسا به قبل الفعل ، فالظاهر دخوله في البيان.
وما كان متلبّسا
به قبله ، كالسّتر في الصّلاة ، بل مثل الطهارة لصلاة الميّت إذا كان فعلها في
حالة توضّأ قبلها للصلاة اليومية ، فالظّاهر عدم المدخليّة ، إلّا أن يثبت بدليل
من خارج.
وكذلك الكلام في
عوارض ما استحدثه ، مثل التقصير والتطويل والسّرعة والبطء الغير المعتدّ بها عرفا ، فمثل تفاوت القراءة بسبب طلاقة اللّسان وعدمها في
التكلّم ، ومثل تطويل الغسل في كلّ واحد من أعضاء الوضوء وتعجيلها بحيث يتفاوت في
المصداق العرفيّ غالبا لا يعتدّ بها ، لاقتضاء العرف ذلك وعدم انضباط ذلك تحت حدّ
محدود لا يتجاوز عنه ، فالتكليف به تكليف بما لا يطاق.
__________________
وأمّا التفاوت
الفاحش الخارج عن حدّ متعارف الأوساط ، فالظّاهر اعتباره ، فيشكل الاكتفاء بوضوء
يغسل كلّ واحد من أعضائه في ظرف ساعة مثلا.
وأمّا ما يشكّ في
دخوله في البيان وعدمه مثل التوالي بين الأعضاء في الوضوء بحيث إذا فرغ من عضو شرع
في الآخر بلا فصل ، وكذلك غسل الوجه من الأعلى ، وكذلك اليد ، وكذلك المسح من
الأعلى ، فإنّ ذلك كلّه ممّا يشكّ في دخوله ، لأنّ الغسل العرفيّ للأعضاء يصدق مع
الفصل وعلى أيّ وجه اتّفق ، لكن اختيار هذا الفرد من الماهيّة هنا ممّا يشكّ في
أنّه هل هو بمجرّد الاتّفاق لأنّه فرد من ماهيّة الغسل ، أو أنّه معتبر.
وكذلك الكلام فيما
لو علم اشتمال المجمل على واجبات ومندوبات وحصل الشكّ في بعضها أنّه من الواجبات
أو المندوبات ، كالسّورة في الصلاة ، ففيه الإشكال المتقدّم في أوائل الكتاب ، من
أنّه يمكن الاعتماد على الأصل ونفي الجزئيّة والوجوب بأصالة عدمهما أم لا.
وقد بيّنا أنّ
التحقيق إمكان جريان الأصل في ماهيّة العبادات كنفس الأحكام الشرعية ، وأنّه لا
فرق بينهما ، فاعتبار المذكورات في الماهيّة موقوف على ثبوتها من دليل خارجي.
وممّا حقّقنا لك
في القانون السّابق ، يظهر أنّ الأقوى في أمثال المذكورات هو البناء على الاستحباب
لدخوله في الفعل الذي لم يعلم وجهه.
وقد عرفت أنّ
التحقيق فيها الاستحباب لحسن التأسّي والاحتياط ، وأمّا الوجوب فلا دليل عليه.
__________________
وما يتوهّم من أنّ
اشتغال الذمّة بالمجمل يقينيّ ، وتحصيل البراءة اليقينيّة واجبة ، فيحكم بالوجوب.
فقد عرفت جوابه في
أوّل الكتاب ، وأنّ الاشتغال بأزيد ممّا يقتضيه ظنّ المجتهد فيما لا يمكن تحصيل
العلم به بشخصه ، ممنوع ، ولا دليل على وجوب الاحتياط.
ومن ذلك يظهر أنّ
مقتضى ما ذكره الشهيد من حمل الأفعال المتردّد في كونها من أفعال الجبلّة والعادة
أو الشرع والعبادة على الشرعيّ ، هو الحمل على الاستحباب لا غير ، لعدم
الدليل على ما فوقه.
__________________
قانون
تصرّف المعصوم عليهمالسلام إمّا
بالإمامة
،
كالجهاد والتصرّف في بيت المال ، أو بالقضاء كرفع النزاع بين الخصمين بالبيّنة أو
اليمين أو الإقرار أو علمه ، أو بالفتوى والتبليغ. وتصرّفاته في العبادات كلّها من
باب التبليغ ، وفي غيرها قد يشتبه بين القضاء والفتوى كقوله صلىاللهعليهوآله لهند زوجة أبي سفيان : «خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف» . حيث شكت إليه صلىاللهعليهوآله وقالت : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ولولدي ما
يكفيني. فلو كان فتوى ، فيثبت منه جواز التقاصّ للمسلّط بإذن الحاكم وغيره ، ولو
كان قضاء فلا يجوز الأخذ إلّا بقضاء قاض.
قال الشهيد في «القواعد»
: لا ريب أنّ حمله على الإفتاء أولى ، لأنّ تصرّفه صلىاللهعليهوآله بالتبليغ أغلب ، والحمل على الغالب أولى من النادر. وقد
يشتبه بين التصرّف بالإمامة والفتوى ، كقوله عليهالسلام : «من أحيا أرضا ميتة فهي له» . فعلى الأوّل كما هو قول الأكثر ، لا يجوز الإحياء إلّا
بإذن الإمام عليهالسلام. وعلى الثاني
__________________
يجوز ، كما ذهب
إليه بعض أصحابنا .
ويرد عليه : إنّ
التصرّف بالتبليغ أغلب ، فلا بدّ من الحمل عليه كالسّابق ، فلا يشترط الإذن.
وأجاب عنه الشهيد رحمهالله : بأنّ اشتراطه يعلم من دليل خارج ، لا من هذا الدليل.
__________________
قانون
الحقّ أنّ نبيّنا صلىاللهعليهوآله
قبل البعثة كان متعبّدا ، ولكن لا بشريعة من
قبله من الأنبياء عليهمالسلام.
وقيل : لم يكن
متعبّدا بشيء.
وقيل : كان
متعبّدا بشريعة من قبله على اختلاف في مذاهبهم ، فقيل : بشريعة نوح عليهالسلام ، وقيل : بإبراهيم عليهالسلام ، وقيل : بموسى عليهالسلام ، وقيل : بعيسى عليهالسلام ، وقيل : بكلّ الشّرائع ، وقيل بالوقف .
لنا : أنّ ضرورة
ديننا يقتضي أفضليّته صلىاللهعليهوآله عن كلّ الأنبياء ، وفيما ذكروه يلزم تقديم المفضول ، وهو
قبيح.
ولأنّه لو كان كذا
، لكان إمّا بالوحي أو بالتعليم من علمائهم.
والأوّل هو معنى
الرّسالة ، والموافقة لا يقتضي المتابعة.
وأمّا الثاني ،
فلو ثبت لافتخر أهل الأديان بذلك ، ولو افتخروا به لشاع ، ولم يعاشر أهل الكتاب
ولم يأخذ منهم شيئا وإلّا فالعادة تقتضي بنقله ، ولا من كتبهم ، لأنّه صلىاللهعليهوآله كان امّيا لا يقرأ ولا يكتب مع ما روى الخاصّة والعامّة
أنّه صلىاللهعليهوآله قال : «كنت نبيّا وآدم عليهالسلام بين الماء والطين» . وأيضا كون عيسى في المهد نبيّا ويحيى في الصّبى دون
نبيّنا صلىاللهعليهوآله إلى أربعين سنة ينافي أفضليّته.
__________________
وأمّا بطلان القول
بعدم تعبّده بشيء فأوضح ، لاستلزامه كمال النقص وكونه أسوأ حالا من آحاد الناس ،
مع ما ورد ممّا كان يفعله من الأعمال والحجّ في الأخبار.
وأمّا بعد البعثة
، فالحقّ أيضا أنّه لم يكن متعبّدا بشريعة من قبله ، وتوافقه مع غيره في كثير منها
ليس نفس المتابعة.
واختلف الناس فيه
أيضا.
فقال بعضهم
بمتابعة شرع من قبله في الجملة ، مستدلّا بظواهر بعض الآيات.
لنا : ما تقدّم من
الأدلّة : (إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحى)،
وأنّ شرعه كان ناسخا وكان ينتظر الوحي في كلّ مسألة ولا يتمسّك بالأديان
السّابقة ، وإخباره عن التوراة برجم الزّانية لإتمام الحجّة على اليهود وإظهار
علمه.
وأمّا الآيات مثل
قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) و :(فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) و : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى
بِهِ نُوحاً ،) فهي محمولة على أصول العقائد ، وإلّا فلم يجز النّسخ ،
سيّما مع ملاحظة قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).
وكذلك المراد بهدى
الجميع ما اتّفق الجميع فيه وهو أصول العقائد ، وإلّا
__________________
فأديانهم مختلفة .
ويظهر من ذلك الجواب عن سائر الآيات.
فائدة :
إذا ثبت بطريق صحيح أمر من الشّرائع
السّابقة
ولم يثبت نسخه في
ديننا ، فهل يجوز لنا اتّباعه أم لا؟ مثل أن يذكر في القرآن أو في الأخبار
المتواترة حكم من الأحكام في شرع من الشّرائع السّابقة مثل قوله تعالى في شأن يحيى
عليهالسلام : (مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً) ونحو ذلك.
اختلف الأصوليّون
فيه على قولين.
والأقوى أنّه إن
فهم أنّه تعالى أو نبيّه صلىاللهعليهوآله نقل ذلك على طريق المدح لهذه الأمّة أيضا ، وبحيث يدلّ على
حسنه مطلقا ، فنعم ، وإلّا فلا.
وربّما يقال : إنّ
عدم علم النّاسخ كاف في استصحاب بقائه ، فهو حجّة مطلقا ، وهو مبنيّ على القول
بكون حسن الأشياء ذاتيّا ، وهو ممنوع ومناف للقول بالنسخ ، بل التحقيق أنّه
بالوجوه والاعتبارات وإن كنّا لا نمنع الذاتيّة في بعض الأشياء ، لكن إعمال
الاستصحاب لا يمكن إلّا مع قابليّة المحلّ ، كما سيجيء تحقيقه.
ويتفرّع على
المسألة فروع ذكرها في «تمهيد القواعد» :
منها : الاحتجاج
على أرجحيّة العبادة على التزويج ، بالآية المتقدّمة .
__________________
ومنها : لو حلف
ليضربنّ زيدا مثلا مائة خشبة ، فضربه بالعثكال ونحوه لقوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) لأيّوب عليهالسلام ، والضغث هو الشماريخ القائمة على الساق الواحد وهو
المسمّى بالعثكال.
قال في «تمهيد
القواعد» : وهذا الحكم مرويّ عندنا في اليمين بشروط خاصّة ، وفي الحدود كذلك ، لا
مطلقا.
ومنها : الاحتجاج
بقوله تعالى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ،) وعلى صحّة كون عوض الجعالة مجهولا.
ومنها : الاحتجاج
بقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، على اشتراط الإخلاص إن لم نضمّ إليها قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) فقد يفسّر القيّمة بالثابتة التي لا تنسخ.
__________________
قانون
تقرير المعصوم عليهالسلام
حجّة ،
وهو أن يفعل
بحضوره فعل ، أو اطّلع على فعل في عصره ولم ينكر ، فهو يدلّ على الجواز إن لم
يمنعه مانع من خوف أو تقيّة أو سبق منعه عليه أو معلوميّة عدم الفائدة في المنع ، ونحو
ذلك من المصالح. وأصالة عدمه تكفي في المقام ، وكذلك إذا اطّلع أنّ المكلّف اعتقد
شيئا على خلاف الواقع. والدليل على ذلك لزوم النّهي عن المنكر سيّما على المعصوم عليهالسلام ، وأنّ التقرير على الحرام حرام لكونه إعانة على الإثم ،
فالظّاهر من السّكوت الرضا بفعله.
قال المحقّق في «المعتبر»
: وأمّا ما يندر فلا حجّة فيه ، كما روي أنّ بعض الصّحابة قال : كنّا نجامع فنكسل
على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله فلا نغتسل لجواز أن يخفى فعل ذلك على النبيّ صلىاللهعليهوآله. فلا يكون سكوته صلىاللهعليهوآله عنه دليلا على جوازه.
لا يقال : قول
الصحابيّ : كنّا نفعل ، دليل على عمل الصّحابة أو أكثرهم ، فلا يخفى ذلك عن
الرّسول صلىاللهعليهوآله لأنّا نمنعه إذ قد يخبر بمثل ذلك عن نفسه أو عن جماعة يمكن
أن يخفى حالهم على النبيّ صلىاللهعليهوآله.
إيقاظ :
قيل : إنّ الحكم الذي حكم به المعصوم عليهالسلام
في الرّؤيا حجّة ، لما ورد من أنّ «من
رآه فقد رآه وأنّ الشيطان لا يتمثّل به» .
__________________
وردّ : بأنّه فرع
أن يعرفه بصورته في اليقظة حتّى يصدق عليه أنّه رآه ، فلا يتمّ الإطلاق.
وأجيب : بأنّه ورد
أنّه رأى أحد رسول الله صلىاللهعليهوآله في المنام في زمان مولانا الرّضا عليهالسلام فقال عليهالسلام : هو رسول الله صلىاللهعليهوآله «من رآه فقد رآه» . ومن المعلوم أنّ الرّائي لم يرهصلىاللهعليهوآله.
ويدفعه : أنّ
كثيرا ما نرى في المنام صورتهم ، ويظهر في اليقظة أنّه كان عالما صالحا تروئي
بصورته إظهارا لجلالته ، كما في حكاية رؤيا المفيد رحمهالله حيث رأى في المنام فاطمة الزهراء صلوات الله عليها
والحسنين عليهماالسلام معها قالت له في المنام : يا شيخ علّمهما الفقه ، فجاءت في يومه والدة السيّدين المرتضى والرضيّ
__________________
رحمهمالله بهما وقالت : يا شيخ علّمهما الفقه. وكيف كان ، فالاعتماد
مشكل ، سيّما إذا خالف الأحكام الشرعيّة الواصلة إلينا ، مع أنّ ترك الاعتماد
مطلقا حتّى فيما لو لم يخالفه شيء أيضا مشكل ، سيّما إذا حصل الظنّ بصحّته ،
وخصوصا لمن كان أغلب رؤياه صادقة ، سيّما بملاحظة ما رواه الكليني رحمهالله في الحسن لإبراهيم بن هاشم عن هشام بن سالم عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : «رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على
سبعين جزء من أجزاء النبوّة» .
وفي الصحيح عن
معمّر بن خلّاد عن الرضا عليهالسلام قال : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان إذا أصبح قال لأصحابه : «هل من مبشّرات. يعني به
الرؤيا» ، وفي معناه روايات أخر .
قد تمّ المجلّد
الأوّل من القوانين المحكمة في الاصول المتقنة.
__________________
فهرس الآيات
(أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ
...)........................................ ٥٩
و ٢٠٨
(أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ)......................... ١٩٦
(ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ)................................................ ٢١٨
(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)................................ ١٥
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما)..................................... ٢٢٠
(إِلَى الْمَرافِقِ).............................................................. ٢٠٣
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ
بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ ...)............ ٤١٥
(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)................................... ١٩٣
و ٤٥١
(إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ...)........................... ١١٢
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً).............................................. ٢١٨
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)........................................ ٣٢٦
(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...)...................... ٨٥
و ١٦٠ و ٤٠٣ و ٤٦١
(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ).......................................... ٤٦٣
و ٤٦٦ و ٤٦٩
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغاوِينَ).................... ٤٠
(إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ)................................................... ٣٤٦
، ٣٥٦
(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ)................................... ٦٩
(إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ)................................................... ٣٥٦
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).................................................... ٥٦٤
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئاً)......................... ٤٥٠
(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)........................... ١١٢
(أَحْصَنَتْ فَرْجَها).......................................................... ١٩٦
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)................................. ١٩٦
(أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)................................................... ٢٠٩
(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)............................................. ٣٤٧
(أَقِمِ الصَّلاةَ).............................................................. ٥٥٧
(أَقِيمُوا الصَّلاةَ)...................................................... ٥٩
و ٢١٢
(أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)................................................................ ٣٤٧
(أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)........................................... ١٩٦
و ٢١٣ و ٢١٨
(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)........................................... ١٩٦
(بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ).................................................... ٢١٨
(تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).......................................................... ١٦٦
(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)......................................... ٥٦٤
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)................................... ٢٠٨
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ).................................. ٢٠٨
(خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).............................................................. ٧
(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)................................................ ٧
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً)....................................... ٥٦٤
(صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها)......................................................... ٢١٣
(عِبادِي).................................................................... ٤١
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)......................................... ٣٣٣
(فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)................................................... ٢١٨
(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)........................ ٢٥٤
و ٢٦٣
(فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ)......................... ٤٠
(فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)........................................................... ٥٦٤
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ)....................................... ٣٣٤
(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)........................................ ٣٣
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ)......... ٥٥٥
(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ ...).................... ٤٠٨
(فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)........................................................ ٤٣٦
(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها).......................................... ٢١٨
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي)............................................ ٥٥٤
(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ
...)...................... ٦٩
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ
مِنَ الرِّزْقِ).................... ٢٠٩
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)............................................................ ٣٢٢
(لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا
الْأَذَلَ)............................ ٣٤٦
(لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ)........................................... ٣٤٦
(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).................................... ٣٢٦
(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)............................................. ١٥٩
(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).................................................. ١٦٦
(لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)................................................ ٢٥٣
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)....... ٥٥٥
(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً).................................................... ٤١٣
(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).......................................................... ٣٣١
(مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً)....................................... ٥٦٥
(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ)............................................................. ٤٩٩
(وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).................................................... ٥٥٤
(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)........................................................... ١٨٦
(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)..................................................... ٥٥٧
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ* شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا)............... ١٢٤
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)......................................... ٢٢٠
(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)...................................................... ٢١٢
(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)........................................... ٣٤٥
(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ).................................... ١٣٠
(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)........................................................ ٢٠٣
(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)........................................................... ١٥
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى
...)...................................... ٣٢٢
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)......................................... ٢٨٥
(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ).................................................... ١٩٦
(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)........................................................... ١٧٩
(وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).......................................................... ٥٥٥
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)................................................ ٢١٩
(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).......................................... ٢٦٣
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)............................................ ٩
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)......................................... ١٤٩
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)..................................................... ١٣٠
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)............................................. ١٣٧
و ٣٦٠
(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)........................................ ٦٣
و ١٨٦
(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)................. ٦٨
و ١٨٣ و ١٨٦ و ١٩٣ و ١٩٦
(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى)........................................ ١٨٦
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً).......................................................... ٥٦٦
(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)........................................................ ٥٦٦
(وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ).......................................................... ٣٣١
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)........................ ٢٥٣
(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ
شُرَكاؤُهُمْ)....................... ٣٢٩
(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا).............................................................. ٣٣٥
(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).......................................... ٧
(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)....................................... ٣٩٦
و ٤٥٠
(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)........................................ ٥٦٦
(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)......................................... ١٦٠
و ٥٥٥
(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)......................................... ٤١
(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).................................. ٥٦٦
(وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)................................................. ٢١٨
و ٢١٩
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً)....................................... ٢٩
(وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)..................................................... ٥٥٥
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا
...)..................... ٢٢٩
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)................................ ٥٦٤
(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى
...)........................... ٢٥١
(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)....................................... ٢٦٣
(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)................................... ٣٣٢
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ* الْأَلْبابِ)................................................... ٣١٣
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)................... ٤٥٠
(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)............................................... ١٣٤
(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)............................................... ٢٢٨
و ٢٢٩
(يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)......................................... ٢٢٨
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ).................................................. ٤٣٣
فهرس الروايات
إذا كان الماء قدر
كرّ لم ينجّسه شيء.................................... ١٧٩
و ٣٨٦
إذا نزلت بكم حادثة
لا تجدون حكمها فيما روي عنّا............................. ٤٦٤
اغسل ثوبك من
أبوال ما لا يؤكل لحمه................................... ٢٤٥
و ٢٨٣
البيّعان بالخيار
ما لم يفترقا...................................................... ٣٤٨
إنّ القرآن نزل
على سبعة أحرف................................................ ٣٣٢
إنّ القرآن واحد
نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرّواة.............. ٣٣٢
إنّ الله تبارك
وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام.................................. ٣٣٢
إنّ للقرآن ظهرا
وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن................................. ٣٣٢
إنّما الأعمال
بالنيّات................................................... ٢٤٨
و ٣٨٥
إنّي تارك فيكم
الثّقلين......................................................... ٣٨٥
أتاني آت من الله
فقال : انّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن............................... ٣٣٣
أسمع الحديث منك
فأزيد وأنقص. قال : إن كنت تريد معانيه فلا بأس............... ٥٢٥
أمّا الأكبر
فحرّفناه وبدّلناه وأمّا الأصغر فقتلناه.................................... ٣٢٦
أنتم أفقه النّاس
إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتصرف على وجوه................ ٨٦
أنزلوا داود
الرّقّي منّي بمنزلة المقداد عن رسول الله................................... ٥١٢
خذي لك ولولدك ما
يكفيك بالمعروف.......................................... ٥٦١
خلق الله الماء
طهورا لا ينجّسه شيء............................................. ١٧٩
رأي المؤمن ورؤياه
في آخر الزمان على سبعين جزء من أجزاء النبوّة.................... ٥٦٩
صلّوا كما
رأيتموني أصلّي....................................................... ٢١٤
علينا أن نلقي
إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا.................................... ٨٧
فإنّ أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله
مثل القرآن ، منه ناسخ ومنسوخ....................... ٨٦
فبما سقت السّماء
العشر...................................................... ٢١٣
فربّ حامل فقه إلى
من هو أفقه منه............................................. ٢٧٩
فقيل : نعم. فقال
: فلا إذن................................................... ١٣٨
كذبوا أعداء الله
، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد...................... ٣٣١
كلّكم جائع إلّا
من أطعمته...................................................... ٤٢
كنت نبيّا وآدم عليهالسلام بين الماء والطين............................................ ٥٦٣
كونوا مع الجماعة............................................................. ٢٥٥
كيف خلّفتموني في
الثّقلين من بعدي؟........................................... ٣٢٦
لا إلّا أن يكون
الماء كثيرا قدر كرّ............................................... ٣٨٦
لا تجتمع امّتي
على الخطأ....................... ٢٤١
و ٢٥٤ و ٢٨٨ و ٢٩٢ و ٣٠٥
لا صلاة إلّا
بطهور..................................................... ٢٨
و ٢٠٥
لا صلاة إلّا
بفاتحة الكتاب..................................................... ٢٠٨
لا صلاة لجار
المسجد إلّا في المسجد............................................ ٢٠٨
لا صيام لمن لم
يبت الصيام من اللّيل............................................ ٢٠٥
لا نكاح إلّا
بوليّ........................................................ ٢٨
و ٢٠٥
لا يزال طائفة من
امّتي على الحقّ........................................ ٢٧٥
و ٢٩٢
لمّا مرّ بشاة
ميمونة على ما رواه العامّة : أيّما إهاب دبغ فقد طهر.................... ١٣٩
لم يكن الله ليجمع
امّتي على خطأ....................................... ٢٥٥
و ٢٥٧
لو عمدوا الى أيّ
بقرة أجزأتهم ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم......................... ٢١٩
من أحيا أرضا ميتة
فهي له..................................................... ٥٦١
من أدرك ركعة من الوقت
فقد أدرك الوقت....................................... ٥٢٤
من بلغه ثواب على
عمل ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه.......................... ٥٣٢
من رآه فقد رآه
وأنّ الشيطان لا يتمثّل به................................. ٥٦٧
و ٥٦٨
من كنت مولاه
فعليّ مولاه..................................................... ٣٨٥
مه كفّ عن هذه
القراءة ، واقرأ كما يقرأها الناس حتّى يقوم القائم................... ٣٢٤
نزل القرآن على
سبعة أحرف كلّها كاف شاف................................... ٣٣١
نزل على حرف واحد
من عند الواحد............................................ ٣٣١
نصر الله من سمع
مقالتي فرعاها [فوعاها]......................................... ٥٢٧
واعلموا أنّه ليس
من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من......................... ٣١٦
وقد سئل عن بئر
بضاعة : خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء..................... ١٣٩
وقد سئل عن بيع
الرّطب بالتّمر : أينقص إذا جفّ............................... ١٣٨
وقد سئل عن ماء
البحر : هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته............................ ١٣٩
ولا تشرب سؤر
الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستسقى منه الماء.................. ٣٨٦
هل من مبشّرات.
يعني به الرؤيا................................................. ٥٦٩
يجيئني القوم
فيستمعون منّي حديثكم فأضجر ولا أقوى............................. ٥٤٦
يد الله على
الجماعة........................................................... ٢٥٥
فهرس الموضوعات
المقصد الثاني :
في بيان بعض مباحث التخصيص.................................... ٧
قصر العام على بعض
ما يتناوله.................................................... ٧
قانون : العام إذا
خصّص ففي كونه حقيقة في الباقي أو مجازا......................... ١٨
الغرض من وضع
الألفاظ المفردة ليس إفادة معانيها.................................. ١٨
الاستثناء من
النفي إثبات وبالعكس............................................... ٢٧
في تقرير الدلالة
في الاستثناء..................................................... ٣٠
الاستثناء
المستغرق لغو.......................................................... ٣٩
قانون : في حجّة
العام المخصّص بمجمل وبمبيّن..................................... ٥٩
تنبيه : الكلام في
الباقي من الاستثناء.............................................. ٧٠
قانون : العمل
بالعام قبل الفحص عن المخصّص................................... ٧٢
المقصد الثالث :
فيما يتعلّق بالمخصّص............................................ ٩٣
قانون : إذا تعقّب
المخصّص عمومات متعدّدة...................................... ٩٣
قانون : في تعقّب
العام ضمير يرجع إلى بعض ما يتاوله............................ ١٣٠
قانون : اللفظ
الوارد بعد سؤال يتبع السّؤال في العموم والخصوص.................... ١٣٨
قانون : تخصيص
العام بمفهوم المخالفة........................................... ١٤٢
قانون : تخصيص
الكتاب بالكتاب والكلام فيه بالإجماع وبالخبر المتواتر............... ١٥٤
قانون : ورود عام
وخاص متنافيا الظّاهر.......................................... ١٦٤
الباب الرابع : في
المطلق والمقيّد.................................................. ١٧٨
قانون : المطلق................................................................ ١٧٨
المقيّد........................................................................ ١٧٩
الباب الخامس : في
المجمل والمبيّن والظّاهر والمأوّل.................................. ١٩٦
قانون : المجمل................................................................ ١٩٦
قانون : المبيّن................................................................. ٢١٢
قانون : الكلام في
تأخير بيان المجمل عن وقت الحاجة وتأخيره عن وقت الخطاب...... ٢١٦
تنبيه : الكلام في
البيان........................................................ ٢٢٧
قانون : الظّاهر
والأوّل......................................................... ٢٢٨
الباب السّادس :
في الأدلّة الشرعيّة.............................................. ٢٣١
المقصد الأوّل :
في الإجماع..................................................... ٢٣١
الإجماع في
الأخبار............................................................ ٢٥٤
تنبيهات..................................................................... ٢٦٧
١)
في الإجماع السّكوتي..................................................... ٢٦٧
٢) في العلم بكون المسألة إجماعية في
زماننا.................................... ٢٦٨
٣) فيما لو افتى جماعة من الأصحاب ولم
يعلم لهم مخالف........................ ٢٧٤
٤) إلحاق المشهور بالمجمع عليه............................................... ٢٧٥
في إطلاق الإجماع
على غير مصطلح الأصولي..................................... ٢٨٠
قانون : خرق
الإجماع.......................................................... ٢٨١
قانون : اختلاف
الأمّة على قولين.............................................. ٢٩٠
قانون : الإجماع
المنقول بخبر الواحد.............................................. ٢٩٣
المقصد الثاني :
في الكتاب..................................................... ٣١٠
قانون : العمل
بمحكمات الكتاب............................................... ٣١٠
قانون : القرآن
متواتر.......................................................... ٣٢١
المقصد الثالث :
في السنّة...................................................... ٣٣٨
المطلب الأوّل :
في القول....................................................... ٣٣٨
قانون : الحديث.............................................................. ٣٣٨
تنبيهان : ١)
المعتبر في الاتصاف بالصّدق والكذب............................... ٣٦٤
٢) الصّدق والكذب من
خواص النسبة الخبرية دون التقييديّة..................... ٣٦٤
قانون : كيفيّة
أقسام الخبر فيما هو معلوم الصّدق والكذب وفيما لا يعلم............. ٣٦٧
تنبيهات : ١) في
كيفيّة العلم الحاصل بالتواتر..................................... ٣٧٣
٢) ما يتعلّق بالمخبرين وبالسّامع في المتواتر..................................... ٣٨٠
٣) أقل عدد التواتر........................................................ ٣٨٣
تتميم : في
المتواتر بالمعنى....................................................... ٣٨٥
تصوّرات في
المتواتر............................................................ ٣٨٥
قانون : الخبر
الواحد........................................................... ٣٩٣
قانون : حجيّة خبر
الواحد العاري عن القرائن..................................... ٤٠١
في أدلّة خبر
الواحد........................................................... ٤٠٣
قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ
فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)..................................... ٤٠٣
قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)........................................ ٤٠٨
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى)................... ٤١٥
اشتهار العمل بخبر
الواحد...................................................... ٤١٦
الأدلّة الدالّة
على حجّيّة ظنّ المجتهد في حال الغيبة................................ ٤٢٠
في أدلّة النافين
لحجيّة خبر الواحد بالخصوص..................................... ٤٥٠
قانون : شرائط
للعمل بخبر الواحد............................................... ٤٥٩
الأظهر قبول أخبار
الموثّقين..................................................... ٤٦٧
حجّة القول بالعمل
بخبر مجهول الحال............................................ ٤٧٣
في الضبط................................................................... ٤٧٦
تنبيه : المعتبر
في شرائط الرّاوي حال الأداء لا حال التحمّل......................... ٤٧٨
قانون : عدالة
الرّاوي.......................................................... ٤٨٣
قانون : الجرح
والتعديل........................................................ ٥٠٦
قانون : تعارض
الجرح والتعديل................................................. ٥١١
تنبيه : في المزكي
والجارح........................................................ ٥١٥
قانون : اسناد
العدل الحديث إلى المعصوم ولم يلقه أو ذكر واسطة مبهمة.............. ٥١٧
قانون : جواز نقل
الحديث بالمعنى............................................... ٥٢٢
خاتمة........................................................................ ٥٢٩
في تنويع خبر
الواحد باعتبار أحوال رواته......................................... ٥٢٩
الصّحيح..................................................................... ٥٢٩
الحسن والموثّق................................................................ ٥٣٠
الضعيف.................................................................... ٥٣٢
في أقسام أخرى
للخبر الواحد باعتبارات شتى..................................... ٥٣٩
في مستند الرّاوي.............................................................. ٥٤٥
أقسام الإجازة................................................................ ٥٤٧
المطلب الثاني :
في الفعل والتقرير................................................ ٥٥٠
قانون : فعل
المعصوم عليهالسلام..................................................... ٥٥٠
قانون : فعل
المعصوم عليهالسلام في مقام البيان........................................ ٥٥٨
قانون : تصرّف
المعصوم عليهالسلام.................................................. ٥٦١
قانون : في تعبّد
نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة.......................................... ٥٦٣
فائدة : في حكم
ثبوت أمر من الشرائع السّابقة ولم يثبت نسخه في شريعتنا........... ٥٦٥
قانون : تقرير
المعصوم عليهالسلام.................................................... ٥٦٧
إيقاظ : في
الرّؤيا وحجّتها...................................................... ٥٦٧
فهرس الآيات................................................................ ٥٧١
فهرس الرّوايات............................................................... ٥٧٧
فهرس الموضوعات............................................................. ٥٨١
|