


الاهداء
إلى سيّدي ومولاي
وشفيعي ورجاي الحسين ابن أمير المؤمنين عليهماالسلام الشهيد والغريب الذي ذبحوه عطشانا ظلما وعدوانا فلم يرحموا
له صغيرا ولم يراقبوا له ذمة ولم يراعوا له قريبا.
السلام عليك يا
أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك وأناخت برحلك عليك مني سلام الله أبدا
ما بقيت وبقي اللّيل والنهار ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم.
السّلام على
الحسين وعلى عليّ بن الحسين
وعلى أولاد الحسين
وعلى أصحاب الحسين.
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله رب
العالمين وأفضل الصلوات وأتمّ التسليم على محمد وآله الطاهرين ، واللّعنة الدّائمة
على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدّين.
إلهي أنا الجاهل
في علمي ، فكيف لا أكون جهولا في جهلي.
إلهي إن ظهرت منّي
المحاسن ، فبفضلك ولك المنّة عليّ وإن ظهرت المساوئ منّي فبعدلك ولك الحجّة عليّ.
إلهي ما ألطفك بي
مع عظيم جهلي ، وما أرحمك بي مع قبيح فعلي.
إلهي من كانت
محاسنه مساوئ فكيف لا تكون مساوئه مساوئ ، ومن كانت حقائقه دعاوي فكيف لا تكون
دعاويه دعاوي.
إلهي علّمني من
علمك المخزون وصنّي بسترك المصون.
إلهي أخرجني من
ذلّ نفسي وطهّرني من شكّي وشركي قبل حلول رمسي.
إنّك على كل شيء
قدير والحمد لله وحده ربّ العالمين
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله الذي
علّم القرآن خلق الانسان علّمه البيان ، وأنعم علينا بالولاء والايمان ، وهدانا
الى أحسن الأديان وفهّمنا فقه الاسلام ، وأفضل الصلاة وأتمّ السّلام على أفضل
الرّسل وأعظم الأنام ، وعلى آله الأئمة الأعلام مسالك الرّضوان وسبل دار السّلام ،
الّذين علّمونا الصلاة والصيام والشّرائع والأحكام ، وعرّفونا أصول معالم الحلال
والحرام ، فهدونا الى صحاح عباداتنا وأرشدونا الى صلاح معاملاتنا وفلاح فعالنا
وسائر تروكنا ، على من قتلهم وأذاهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أبد
الآبدين.
وبعد ...
فهذا كتاب شرحت
فيه وعلّقت به على أحد أكبر الآثار والموسوعات الأصولية في الحوزات العلمية ،
والّذي بقي ردحا من الزّمن وردا يرده طلبة العلم والمعرفة ، يرتقون به الى درجة
الاجتهاد وأسباب الفضيلة وسلّما الى الآخرة.
فقصدت فيه الى
إظهار العبارة وايضاح الاشارة باختصار ، وعمدت به الى بعض الرّموز المكنونة
فدعيتها الى البروز باقتصار أو علّقت على فرع علمي بإيجاز من غير إخلال ، ولربّما
أتيت على اللّفظ المستغرب فيه فأردفته بما يزيل الاستغراب او الاستهجان.
وهكذا حقّقت متونه
وعرّبت مضامينه ، وهذّبت مطالبه وجمعت شوارده ،
ورتبت مسائله
وفوائده وأخرجت قوانينه ومقاصده ، وأبرزت أبوابه وتفريعاته وأحكمت تنبيهاته
وتتميماته ، وميّزت ايقاظاته وتذنيباته ، وهكذا فعلت في مقدماته حتى وصلت الى
خاتمتيه.
فكم تفحّصت في كتب
لمفردة وردت فيه لزمن طويل أو لكلمة قد خلت من شدّة في المعاجم اللّغوية لوقت كثير
أو لضبط قول قائل بين الأقاويل.
ولو أنني عملت في
تأليف كتاب مستقلّ في الأصول ؛ لكان أسهل عليّ همّة ومنالا ؛ وأقل مدة وعبأ من
التحقيق والشرح والتعليق على كتاب دراسي ، لأنّ العمل في الثاني يفتقر الى مزيد من
الدّقة وكثير من التّتبع وتوجّه كبير الى السّياق ، حيث إنّ مثل هذه الكتب
الدراسية مليئة بالألغاز ومفعمة بالألفاظ والعبارات ذات الوجوه المتعدّدة ، فعلى
الشّارح أن يعمل في حلّها ، وعلى المعلّق أن يقلّب في معانيها. ويمكن القول بأنّ
مثل هذا ، جهد في ضرب من ضروب الطلاسم ، وبعد كل هذا وذاك ، ربما سيأتي غدا حاسد
أو غير ملتفت أو غير منصف ليقول : إنّ الأمر سهل بسيط لم يتعد الشرح والتعليق.
وهكذا عملت في
إحياء هذا السّفر العظيم ببث الحركة والقوّة والرّوح فيه وإحضاره الى ساحة العلم
والعلماء وميدان الفضل والفضلاء بحلّة جديدة وطريقة حديثة تؤدي لتقبّله والتوجّه
إليه.
وقد يقول قائل :
بأنّ هذا الكتاب قد مضى عليه الزّمان وأصبح بعيدا عن الأذهان بعد أن طواه النسيان
وصار في ذاكرة الأيام.
فإنّني آخذ بالقول
عليه : بأنّ هذا الكتاب لا ريب أنّه من أكبر الموسوعات العلمية الأصولية وواحد من
مفاخر الإمامية وتراثهم ، ومن العيب والمخجل أن ننظر إليه بأدنى انتقاص ، علما
بأنّه لو أردنا حكم العلم والفضل لوجدنا بأنّه إن لم يكن من الكتب الرّاجحة في هذا
الفنّ ؛ فهو من أهم المصادر وأولاها وأهمها ، فله
السّبق والصّدارة
، وهو من بين الكتب السّابقة التي أسست للكتب اللّاحقة ، وانّ التهافت في هذا
العلم سبب من أسباب تجلّي النظريّات العلمية الصحيحة من السّقيمة ، واعتقد انّ
لهذا المصنّف أثرا في ذلك.
ويجدر القول بأنّ
بحوث هذا الكتاب بمثابة دورة أصولية كاملة وعلى مبنى كاتبه ، ويبدو أنّها ذات أهميّة
غير قليلة ، ولقوّة الاستدلال فيها ولدقة بيانها ومبانيها يمكن أن يرتقي الانسان
من خلالها ويتعلّم على التدرّج العلمي فيها وعلى طريقة الاستنباط منها ، بل وما
جعلت متون دراسية من قبل إلّا لتدريب الطالب وتفهيمه للوصول الى أمثال هذه
المطالب.
واعتقد أنّ من لا
يطالع «القوانين» قد لا يصل الى حظ واف من العلم أو يحرم من بعض المطالب معرفة
وإحاطة أو قدرة على التصرّف في بعض الأدلّة العلميّة وتفرّعاتها.
ف : «القوانين»
كتاب لا يستغنى عنه ولا تستقلّ بضاعته ، فعلى طلبة هذا العلم أن يقبلوا عليه
ليتحقّق عندهم الإقبال على هذا الفنّ ، وأن يستأنسوا به لكي يأنسوا فقها بطريقة
الفقهاء.
فهذا الكتاب من
أمّهات مراجع علم الأصول ، وموسوعة شاملة لجميع مبانيه وكثير مسائله ، قلّما لا
تجده عند كلّ متخصّص في هذا العلم ، ويكاد لا يستغنى عنه.
ولم أجد موسوعة
أصولية طرحت جلّ مسائله وعالجت ما ذكره العامة والخاصة في كتبهم كمثله ، فهو من
ناحية الشمولية أجاد ومن ناحية ثقل المادة أبدع ، ولئن نوقضت قليل من آرائه وردّ
على بعض أقواله لا يعني أن نتجاهله ونرميه بين زوايا الجدران ليصبح في النسيان.
فمع أنّ هناك بعض
الآراء التي تعود له قد نسخت بعد الاستدلال على بطلانها وعدم وجاهتها ، وهذا لا
يعني أنّها مسخت ، فلأنّها طرح علمي ، تبقى محلا
للاستفادة ، وانّ
ببطلان البعض لا يعني إلغاء الكلّ.
وأنا أبحث فيه
لمست منتهى الدّقة ، ووقفت وتأملت في مدى التواضع الذي كان عليه هذا المحقق ،
فغايته الفضيلة ورغبته في الحقيقة العلميّة ، فلا يريد أن ينتصر لقوله ويتفوّق
لنفسه ، وإنّما للعلم وللعلم فقط ، بل إنّما يتفانى في كل وجوده لأجل ذلك ، فانظر
إليه في بعض المطالب وهو يقول : فتأمل في أطراف هذا الكلام ومعانيه وتعمّق النظر
في غمار مقاصده ومبانيه ، ولا تنظر الى تفرّدي به كأكثر مقاصد الكتاب ، ولا تلحظ
إليه بعين الحقارة وإليّ بعين العتاب ، ثم بعد ذلك فإمّا قبولا وإمّا إصلاحا وإمّا
عفوا والله الموفّق للصواب.
وقد ترى اليوم من
يمكن القول انّه في طور المراهقة العلمية أو من آنس من نفسه علما قليلا ليستشكل
على هذا المحقّق أو ذاك المارد في العلم والفضل وليتعالى في الميادين العلمية أو
غيرها ، وتأخذه الكلمات والنظريّات ليظهر من نفسه علما وقدرة ، وإذا ما أحسّ من
آخر سكوتا من غير بكم ظنّه عجزا.
فما أكثر في هذا
الزّمان الابتداع والادّعاء ، وأكثر منه من يتلقاه بالقبول ويروّج له في الأسواق
كما يروّج للسّلع الباطلة لأجل المصالح الفاسدة ، والعياذ بالله العظيم من ذلك.
ويبقى القول :
بأنّ هذا الكتاب لا يحتاج الى مزيد من الترويج له ، فحضوره يبقى قويّا عند أهل
الخبرة والمعرفة ، وقد ذاكرني أحد المدرّسين الكبار فقال فيه : إنّ مطالب كتاب «القوانين»
تفتح الذّهن وتوقّده. وسمعت وكما ينقل ومصدره الصدور كما في المثال بالفارسيّة : (از
سينه به سينه) أنّ طبيبا نصرانيّا بعد أن أطلع على كتاب «القوانين» وقدرة صاحبه
فيه على الدقّة في التحقيق قال : إنّ صاحب هذا المؤلّف سوف تتأخّر حاسة سمعه في
أواخر عمره لكثرة تفكره ، لما كان قد أبداه في تحقيقه لمطالب هذا السّفر القيّم ؛
وهذا الذي تحقّق وصار.
ونقل أنّه حتّى
إذا أتمّ «القوانين» أصيب من جراء شدّة تعمّقه وتفكره بثقل في سمعه ، وعند ما جيء
بكتاب «القوانين» إلى السيّد مهدي بحر العلوم في النجف الأشرف ، وبعد أن رآه وأحاط
ببعض مطالبه ومطاويه ، وقبل أن يعرف مصنّفه قال لمن جاء به : يا هذا لقد لاحظت هذا
الكتاب ولم أدر لمن هو إلّا أنّ صاحبه قد أصيب ببعض مشاعره لا محالة أم لا بدّ له
من آفة تنزل على سمعه أو بصره.
فقيل له : بلى
إنّه من تأليفات مولانا الميرزا القمّي ، وقد أصيب بعد فراغه منه بثقل السّامعة ،
فتعجّب الحاضرون من فراسة السيّد.
وأمّا في المنهج
العملي :
بداية كان في ضبط
نصوص متن الكتاب وتقويمها ، ولشهرة الكتاب وكاتبه ولمكانته وأهميته فقد وجدت له
نسخا خطيّة كثيرة ، ونظرا لتداوله كثيرا بين أيدي العلماء والطلاب الفضلاء ، وكما
يقال : قد عنى بتدريسه واتقانه والتفنّن في فروعه وأغصانه جملة العلماء الأخيار
وكافة فضلاء الأعصار في هذه الأمصار ، وأيم الله إنّه لحقيق بذلك ، بل فوق ذلك حيث
إنّه من جهة استحكام مطالبه ومآربه مفيد في الغاية لقوّة التصرّف في ميدان الأفكار
، ومشحّذ الأذهان في مقام يريح الأنظار بحيث لا يليق غيره بالتدريس عند الفحول ،
وهو الغاية القصوى في متن علم الأصول.
وهذا كلّه ساعد في
أن تكون نسخه كلّها متقاربة مضبوطة ومحفوظة من كثير الأخطاء وكبيرها ، فالمشهور
ليس كالمجهول يمكن التلاعب في ألفاظه.
ورغم ذلك فقد كنت
أتفحّص بعضها عند ما أحسّ بشبهة ، فأقف عندها حتى أصل لحلّها أو لمخرج لها.
وكان جلّ عملي على
نسخ ثلاث خطيّة هي للمجلّد الأوّل في مباحث الألفاظ والأدلّة الشرعيّة ، نسخة بخط
عبد الرحيم بن محمد تقي التبريزي والمصحّحة أصلا وفرعا من محمد علي والميرزا رضا
والمطبوعة في سنة ١٢٩٠ للهجرة ،
ونسخة بخط أحمد
التفرشي والمطبوعة في دار السلطنة في تبريز سنة ١٣١٥ للهجرة ، ونسخة رائجة في
الكثير من المكتبات وهي بخط عبد الرحيم بن محمد تقي التبريزي المطبوعة في العشر
الأواخر من شهر ذي الحجة الحرام سنة ١٣٠٣ للهجرة ، وهي في خط غير خط النسخة
السّابقة على ما يظهر.
وبعد الضبط لنصوص
الكتاب ومقابلة نسخه وتقويمها ، شرعت في تقطيع النص وترقيمه الحديث بما يناسب
لتسهيل الكتاب وترتيبه ويساعد على فهمه وصياغته ، وعملت في تخريج ما يحتاج الى
تخريجه من الآيات والرّوايات وبعض الأقوال وأصحابها ومصادرها ، وكنت قد تركت تخريج
وتتبع صفحات بعض المصادر بعد ما رأيت أنّ المصنّف في المتن قد ذكرها فلا حاجة
لتخريجها ، لأنّ المطّلع على هذا الكتاب حتما على معرفة بأنّه إن نقل قول لقائل
مثلا في مبحث الأوامر في مسألة تتعلّق بالأمر ، غالبا فإنّها في كتاب المنقول عنه
لا تكون في مبحث المطلق والمقيّد أو الاجماع مثلا ، فإنّ ذكر الصّفحات مع تعدّد
الطبعات كما هو في مثل هذه الأيام قد يكون قليل الجدوى ، ففي معرفة المبحث ومسألته
كفاية عند أهل الفضل.
كما كنت قد جعلت
بين معقوفتين الكلمات المختلفة بين نسخة واخرى ، وكنت قد عملت في تصحيح بعض النصوص
الشرعية أو العبارات والكلمات التي يمكن أن تكون من النسّاخ أو أنّها بالأصل قد
ذكرت في المضمون وليس كما هو المنصوص كمثل ذكره : (اعتق رقبة مؤمنة) وهذه ليست
بعينها كما في القرآن المجيد ، وإنّما الذي في القرآن هو قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ). ففي مثل هذا كنّا قد أثبتنا الصحيح المقصود ، وهكذا نهجنا
في مثل ذلك من الكلمات.
نعم هناك بعض
الكلمات والجمل يخيّل للوهلة الأولى للقارئ انّها خاطئة ومع
الدقّة تجدها
صائبة ، فلذا اثبتناها على ما هي عليه ولم نتصرّف في شيء منها حفظا للأمانة.
وليعلم أنّ
للمصنّف إلماما كبيرا في البلاغة والنحو وقد صنّف بعض الكتب والرسائل فيهما ، فلا
يعتقدنّ أحد بخطئه عند ذكره لغير مألوف من بعض كلمات أو لمحل رجوع بعض ضمائر أو
لتذكير وتأنيث أو لتعريف وتنكير ، لأنّني كثيرا ما لاحظت صواب ما يقوله ، عند
الدقّة في قوله وتتبع الجملة من أوّلها ، والتقدير لكلمات فيها ، فيحكم المتعجّل
بأنّ المصنّف مخطئ بينما هو مصيب.
هذا وربّما ستلاحظ
أنّه في بداية الكتاب قد أكثرت من الشرح وتوقفت على كثير من الألفاظ تحقيقا وشرحا
وتعليقا ، ثم عدلت عن ذلك المنهج بعد أن تنبّهت لضرورة الاقتصار على الأهم
والاختصار على الأقل ، ولو أنّ هذه الطريقة توالت لبلغ هذا كثيرا ولتعدّدت أجزاؤه
وكبر حجمه ، وهذا ينافي ما رأيته من التسهيل ليصبح الكتاب محلّا للقبول وأهلا لمن
يراعي الاختصار في مثل هذا المجال.
وقد تجد أنّ هناك
بعض المطالب الأصولية أو البعض الذي له صلة بمسألة اعتقادية لم آت على التعليق
عليها إمّا لأنّها خطيرة وما وددت التعرّض إليها ببيان قليل يمكن أن يؤدّي لإخلال
بها ، فوقفت عندها أو مررت عليها وتركتها دون الخوض والغمار في الكلام عنها.
وهناك بعض تعاليق
قد ذكرتها لفائدة ما فيها ، وذكرت القائل لها ، وكنت قد أعرضت في بعضها عن ذكر
القائل لها ، نعم عبّرت في ذيلها هذا ما أفاده أو على ما أفاده في الحاشية ونحو
هذا ، وذلك لأنّه لم يكن عندي من متسع لأجهد نفسي في التحقّق من القائل لها بعد ما
أجهدتها في التدبّر بهذه الأقوال والتطلّع إليها قبيل استنساخها تبعا لما كنت أراه
لأهميّتها أو لأمر آخر.
كما كنت قد وقفت
على بعض الحواشي والتي كان بعض أصحابها قد خفي عليهم تمام المطلب ، فعملت في
تصحيحها بعد أن أشرت إليها ، ومن هنا الذي لا بد أن يعرف هو أن ليس كل شرح وتعليق
بصحيح ، وليس بالضرورة كل شارح ومعلّق بمصيب ، فلا بد أن ينظر في مقام العلم الى
ما ذكر وليس الى من ذكر ، والى ما قال وليس الى من قال.
نعم إنّ هذا لا
يعني أن نطلق العنان ونتجاسر فنقع في المحذور ، لأنّه في بعض الأحيان من قال قد
قال قوله عن حكمة بالغة وربما قد خفيت علينا ، فلا بد من التدبّر بالقول ، سيّما
إذا كان لأهل الفضل الّذين يعتدّ بكلامهم ويعوّل على علمهم ويحترم رأيهم.
كما كنت قد ترجمت
بعض الرجال الأصوليين وأغمضت عن بعض ، ذلك لأنّ البعض الآخر ذاع صيتهم وعمّت
شهرتهم وألفت الحوزة ذكرهم وقلّ أن يجهلهم طالب علم لما لهم من أياد شهد لهم بها
القاصي والدّاني.
ويبقى القول دفعا
لما يمكن أن يرد ، إنّني لمّا تأملت ووجدت بأنّ القارئ لهذا الكتاب من المفترض أن
يكون من الفضل وطلاب المراحل العالية ، فأخذت بعين الاعتبار هذا النضوج ، فأتيت
على شرح ما لاحظت عبارته تحتاج الى بيان والتعليق بناء على نضوج القارئ وفضيلته.
نعم لا أقول
بأنّني أحطت بكل شيء وأحصيت كل ما جاء ، بل إنّما تركت الكثير من القيل والقال
وكذا الى ما جاء من التعاليق والأقوال من صاحبيّ «الكفاية» و «الرّسائل» وغيرهما
من المعاصرين للميرزا ومن بعده ، لأنني اعتبرت انّ طلاب هذه المباحث سوف يأتون بعد
ما يحيطون بآراء الميرزا الى آراء غيره ، فيتعرّفون على تعاليقهم وأقوالهم على
أقواله ، وذلك تنظيما للتدرّج ورعاية للتفهم وابتغاء
في الاختصار
وتأهيلا للتبصّر والاستبصار.
وهذا بناء على من
يقدّم «القوانين» على «الكفاية» و «الرّسائل» ، وأمّا من يؤخّره درسا أو مطالعة
عنهما فإنّ الأمر سهل غير عسير ، فبمطالعته التالية يرى اليسير ولا يحتاج بعد
احاطته الى من له يشير.
وهكذا أتممت عملي
بنفسي ، دون الاستعانة بغيري ، إذ إنّني طالما كنت أخشى على المتن وشرحه من أن
يلحق به العبث نتيجة لعدم التخصّص ، وهي مشكلة اليوم ومحنته التي نعانيها في بعض
الكتب والآثار العلمية المهمّة التي طبعت أخيرا بحلل جميلة ولكن أتت بأخطاء كبيرة
مطبعيّة وغيرها أو حذف كثير منها ، وذلك إمّا لأنّ الّذين عملوا بها وأشرفوا عليها
ما كانوا من أهل الاختصاص ، وإمّا لمصالح خاصة بأصحاب المصالح ، فحذفت وغيّرت ،
وهذا وللأسف قد حصل حتّى في كتب حديثيّة كما سمعت.
مثل هذا دعاني لأن
أتولّى عملي بنفسي فلا يعمله غيري وأدّعيه لنفسي ، شاكرا لمن آزرني ممن صفّ أحرف
الكتاب ـ الأخ جعفر الوائلي ، والأخ السيّد محمّد إمام ، ولمن ساهم في التصحيح
والمقابلة الأخ كريم عبد الرضا والأخ الفاضل السيّد محمّد باقر الحسيني الأشكوري وولدي
الشريف علي ، ولكلّ من ساهم في الإنجاز والطبع. وكنت قد أمضيت أشهرا كثيرة وأنا
أبحث في هذا الكتاب في حجرة من حجرات مدرسة إمام العصر عليهالسلام ، فشكرا للمؤسّس لها وللقيّم عليها آية الله الشيخ ميرزا
أحمد الدشتي النجفي أطال الله في عمره وفي عافيته
وفي النهاية
يسعدني وأنا في الختام أن أقدّم هذا الأثر النفيس والموسوعة الأصولية الهامّة من
آثار وموسوعات قدمائنا الأفذاذ ، الّذين كانوا قد بذلوا المهج وخاضوا اللّجج
وقدموا كل غال ونفيس ، فضربوا الأكباد وهجروا سكينة الرّقاد
وشدّوا العزيمة
ولم يجعلوا لأي ثمين سواه قيمة ؛ صونا لهذه العلوم من الغروب والأفول وحفظا لها من
الاندثار والانحسار ، تقرّبا منهم الى الله الواحد القهّار العالم بالخفايا
والأسرار ، فكان النتاج آثارا نفيسة تدلّ على رسوخ قدمه وعلوّ كعبه وسموّ همّته
تصنّفه من الأخيار وتبديه من الأبرار ، وقبرا له أصبح اليوم مزارا في الليل
والنهار وتؤدّى عنده النذور لمؤمنين ومؤمنات قد نذروا لله التسبيح والصلوات
والوجوه والخيرات.
وإنّي لسعيد في أن
افتح العيون وأرفع السّتار وأرشد الأذهان وأشدّ العقول على سرّ هذا الكتاب ،
وكأنني إن شاء الله سأرى بعد هذه الطبعة ستتسابق إليه الأيدي والدّور الى نشره ،
وستليه طبعات وبذلك يكون فخري ، لأنني أوصلت هذا الكتاب بعد حين من الدّهر الى
الميادين العلمية بحلّة جميلة وليعود محورا في هذا الفن ومحلا يتطلّع إليه الفضلاء
، وليعود الميرزا القمي بعد قرنين من الزّمن بكتابه الذي طالما كان ينظر إليه
بإكبار بين الخاصة والعامة ، وقلّما كانوا لا يذكرونه إلّا بإعجاب وإعلاء.
جعلنا الله وإيّاه
ممن يؤول الى دار السّلام ، في مقام مع من يرتضيه نكون ، نرتل ونقول : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ.)
والمبتغى من كلّ
من ينظر فيه أن يخصّني ويخصّه بدعوة صالحة بظهر الغيب من لسان الغير.
اللهمّ اختم بعفوك
أجلي وحقّق في رجاء رحمتك أملي وسهّل إلى بلوغ رضاك سبلي وحسّن في جميع أحوالي
عملي.
وقد وقع الفراغ من تدوينه على يد
رضا حسين علي صبح
ليلة التاسع من ربيع الأوّل وهي ليلة اليوم السعيد / ١٤٢٧ ه
في حرم السيدة المعصومة عليهماالسلام قم المقدسة
ترجمة المصنّف
هو الميرزا ابو
القاسم ابن المولى محمد حسن ، أو يقال له ابن الحسن الگيلاني الشفتي الرشتي الأصل
، الجابلاقي المولد والمنشأ ، والقمي الجوار والمدفن.
ولد في عام ١١٥٠
أو ٥١ أو ٥٢ هجري قمري في «جابلاق» أحد نواحي مدينة بروجرد الايرانية ، وهو ينحدر
من أصول گيلانية.
شرع في دراسة
العلوم الأدبية عند أبيه منذ صغره ، وبعد بلوغه انتقل الى بلدة خوانسار حيث درس
على السيد حسين الخوانساري جد صاحب «روضات الجنات» الفقه وأصوله سنوات عدة ، وقد
تزوّج بأخته.
بعد ذلك توجّه الى
مدينة كربلاء المقدسة فدرس على الآقا محمد باقر بن محمد أكمل البهبهاني المشتهر
بالوحيد. ويعدّ الميرزا من الجيل الأوّل من الأجيال التي تعاقبت المدرسة الأصولية
بعد الوحيد ، ومن الطبقة الأولى الأصولية بعد أفول الطريقة الإخبارية المناهضة
لعلم الأصول.
وبعد أن أجازه
استاذه عاد فقيها ليسكن (درّه باغ) من قرى «جابلاق» ، ثم انتقل الى (قلعه بابو) في
«جابلاق» ، حيث أخذ يقوم بمهامه الدينية ويدرّس النحو والمنطق في «شرح الجامي» و «حاشية
الملا عبد الله».
بعد ذلك غادر الى
مدينة اصفهان وصار يدرّس في مدرستها (كاسه گران) ، ثم انتقل الى مدينة شيراز في
أيّام سلطان كريم خان الزّندي فبقي سنتين أو ثلاثا ، ثم عاد الى قرية (قلعة بابو)
حيث بقي يدرّس الفقه وأصوله فيها حتى صارت له
شهرة عظيمة ، فطلب
منه الاقامة في مدينة قم المشرّفة ؛ فأجاب أهلها ، وأخذ يدرّس ويعلّم فيها ويرشد ،
يؤم الجمعة والجماعة ويتولّى أمور الناس وشئونهم ، فيحل نزاعهم ويصلح أعمالهم
ويهديهم الى دينهم ودنياهم ويكثر من التصانيف بها حتى شاع ذكره في البلاد ورجع
إليه في التقليد العباد.
وهو يروي عن جماعة
منهم استاذه الوحيد البهبهاني (ت : ١٢٠٦) ، وعن الشيخ محمد مهدي بن بهاء الدين
محمد الفتوني العاملي (ت : ١١٨٣) ، والآقا محمد باقر الهزار جريبي النجفي (ت :
١٢٠٥).
وفي «الروضات» :
انّه كانت بينه وبين السيد علي الطباطبائي «صاحب الرياض» مخالفات ومنافرات كثيرة
في المسائل العلميّة ، (قال) : وذكر لي شيخنا الفقيه المتبحر السيد صدر الدين الموسوي
العاملي ، أنّه كان في تلك الأيّام بكربلاء فكان صاحب «الرياض» يناظره في كثير من
مسائل الفقه والأصول حيثما اجتمع به.
ويقول في «الأعيان»
: انّه يحكى انّه لما زار العتبات الشريفة بعد مجاورته بقم وأراد علماء النجف
الاشرف مناظرته في مسألة حجيّة الظنّ المطلق اختاروا لذلك السيد حسين ابن السيد
أبي الحسن موسى الحسيني العاملي أخا جد والد (السيد محسن الأمين) ، وكان مبرّزا في
علم الأصول ، فأورد عليه ايرادات كثيرة لم يجب الميرزا عن جميعها في المجلس ثم
ذكرها في قوانينه في ذلك المبحث بصورة فإن قلت قلت ، فالأسئلة الكثيرة في ذلك
المبحث هي للسيد حسين المذكور.
وممن يروي عنه من
تلاميذه الشيخ أسد الله التستري كما في «مقابيسه» ، وصاحب «الاشارات» الكرباسي ، و
«المحصول» السيد محسن الأعرجي ، والسيد عبد الله شبر ، والسيّد جواد العاملي صاحب «مفتاح
الكرامة» ، وينقل السيد الامين في «الأعيان» وأيضا تلميذاه السيد محمد مهدي
الخوانساري
صاحب الرّسالة
المبسوطة في أحوال أبي بصير ، وابن أخيه السيد علي شارح المنظومة للسيد بحر العلوم
شرحا لم يتم ، وفي «روضات الجنات» : انّه كان كثير العناية بهما شديد المحبة لهما
كثير الاعتماد عليهما مصرّحا بفضلهما واجتهادهما على جميع تلاميذه.
في «الأعيان» :
كان مجتهدا محقّقا فقيها أصوليا علّامة رئيسا مبرّزا من علماء دولة السلطان فتحعلي
شاه القاجاري ، واشتهر بين العلماء بالمحقق القمّي ، وفي عباراته شيء من الاغلاق ،
وانفرد بعدة أقوال في الأصول والفقه عن المشهور ، كقوله بحجيّة الظنّ المطلق ،
واجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي ، وجواز القضاء للمقلد برأي المجتهد ، وغير
ذلك.
وقد قيل في حقه :
هو أحد أركان الدّين والعلماء الربانيّين والأفاضل المحقّقين وكبار المؤسّسين وخلف
السّلف الصّالحين. كان من بحور العلم وأعلام الفقهاء المتبحّرين ، طويل الباع كثير
الاطلاع حسن الطريقة معتدل السّليقة له غور في الفقه والأصول مع تحقيقات رائقة ،
وله تبحّر في الحديث والرّجال والتاريخ والحكمة والكلام ، كما يظهر كل ذلك من
مصنّفاته الجليلة ، هذا مع ورع واجتهاد وزهد وسداد وتقوى واحتياط ، ولا شك في كونه
من علماء آل محمد وفقهائهم المقتفين آثارهم والمهتدين بهداهم.
وفي «روضات
الجنّات» : كان محقّقا فى الأصول مدقّقا في المسائل النظرية ، شأنه أجلّ من أن
يوصف ، ورعا جليلا كثير الخشوع غزير الدّموع طيّب المعاشرة جيّد الخط بقسميه
المشهورين.
وفي «قصص العلماء»
: عيلم تدقيق وعلم تحقيق علّامة فهامة مقنّن القوانين وناهج مناهج الصدق واليقين ،
قدوة العلماء العاملين وأسوة الفقهاء الراسخين
ورئيس الدنيا
والدين ، أزهد أهل زمانه وأورع المتورعين وأعلم وأفقه المعاصرين.
وقال تلميذه الشيخ
أسد الله صاحب المقابيس : الشيخ المعظّم العالم ، العلم المقدم مسهّل سبيل التدقيق
والتحقيق مبيّن قوانين الأصول ومناهج الفروع كما هو حقيق ، المتسنّم ذروة المعالي
بفضائله الباهرة الممتطي صهوة المجد بفواضله الزّاهرة ، بحر العلوم الخائض
بالفوائد والفرائض ، الكاشف بفكره الثاقب عن غوالي الخرائد ، شمس النجوم المشرقة
بأنوار العوائد على الأوائل والأماجد والأداني والأباعد ، الأمجد الأعبد الأزهد
الأورع الأتقى الأسعد الأوحد شيخنا ومولانا ومقتدانا الذي لم يعلم له في الفقهاء
سمي الميرزا ابو القاسم بن الحسن الگيلاني القمّي أدام الله عليه عوائد لطفه الأبدي
وفيضه السّرمديّ ، وهو صاحب «القوانين في الأصول» و «المناهج» و «الغنائم» و «مرشد
العوام» الفارسي في الفقه ، وغيرها من الرّسائل والمسائل والفوائد العظيمة المنافع
العميمة العوائد.
وذكر ميرزا محمد
عبد النبي النيسابوري في كتاب رجاله الكبير فقال فيه : أصولي مجتهد مصوّب معاصر
يروي عن شيخنا محمد باقر البهبهاني.
وقوله : مصوّب
افتراء منه ، فليس في الامامية من يقول بالتصويب الباطل الذي هو بمعنى انّ ما أدى
إليه نظر المجتهد فهو حكم الله الواقعي ، لا هو ولا غيره.
ولعلّه يريد به
التصويب في الحكم الظّاهري الذي هو بمعنى المعذورية.
ويحكى أنّه رحمهالله كان ورعا جليلا بارعا نبيلا ، كثير الخشوع غزير الدّموع
دائم الأنين باكي العينين ، وكان مؤيّدا مسدّدا كيّسا في دينه فطنا في أمور آخرته
شديدا في ذات الله مجانبا لهواه مع ما كان عليه من الرّئاسة وخضوع ملك عصره
وأعوانه له ، فما زاده إقبالهم إليه إلّا إدبارا ولا توجّههم إلّا فرارا ، فكان
حريصا من الاقتراب الى السّلطان ، وكثيرا ما كان يقول له : اعدل فإني أتخوّف على
نفسي من الارتباط
معك فأدخل تحت
قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).
ولمّا رغب
السّلطان وقرّر تزويج ابنته من ابن الميرزا القمي وهو الولد الذّكر الوحيد له ،
حاول الميرزا أن يكون حائلا من تحقّق هذا الزّواج خوفا منه على دين ابنه أن يستدرج
الى البلاط الملكي فيورطونه في مظالمهم ، ولمّا كانت محاولاته تلك لم تفلح لأجل
عزم السّلطان وإصراره على ذلك ، مما جعل الميرزا يتضرّع الى الله سبحانه وتعالى
والطلب منه تعالى أن يقبض روح ابنه قبل التورّط معهم ، وبعد اتمام الدّعاء مات ابن
الميرزا غريقا.
وفيما يحدّث عن
جدّه واجتهاده في تحصيله للعلم ، انّه كان يضع على السّراج طاسة أمامه ، فإذا غلبه
النوم ووضع يده على الطاسة نام فقط بمقدار ما تسخّن الطاسة ، بعد ذلك لا يطيق وضع
يده عليها فينتبه.
ويظهر لي من خلال
تتبعي لكلماته في «قوانينه» ونقله لكلمات الآخرين ، أنّه كان حافظا لكثير من
الأقوال استظهارا ، وفي أثناء تصنيفه للكتاب المذكور كان يذكرها فيقولها او يكتبها
من دون أن يعود الى كتاب.
في تصانيفه :
وهي هامة وكثيرة
وفي علوم شتى وفنون متعدّدة بالعربية والفارسية.
منها : «القوانين
المحكمة في الأصول» وفرغ منه في سنة ١٢٠٥ كما في «الذريعة».
«حاشية في الأصول
شرح على شرح المختصر» ، لأنّ الحاجب العضدي شرح تهذيب العلّامة في الأصول.
«غنائم الأيّام
فيما يتعلّق بالحلال والحرام» في الفقه الاستدلالي في قسم العبادات.
«مناهج الأحكام»
فقهي في الطهارة والصلاة وكثير من أبواب المعاملات.
«جامع الشتات في
أجوبة المسائل» ويعبرون عنه بكتاب سؤال وجواب ، مرتب على أبواب الفقه ، وهو كتاب
مهم ونفيس ومفيد لكل فقيه وأكثره (بالفارسية).
«معين الخواص» في
فقه العبادات مختصر (بالعربية).
«مرشد العوام [العوالم]
لتقليد أولي الأفهام» مختصر (بالفارسية).
«رسالة في الأصول
الخمسة الاعتقادية والعقائد الحقة الاسلامية» (بالفارسية).
«رسالة في قاعدة
التسامح في أدلّة السّنن والكراهة».
«رسالة في جواز
القضاء والتحليف بتقليد المجتهد».
«رسالة في عموم
حرمة الرّبا لسائر عقود المعاوضات».
«رسالة في الفرائض
والمواريث» (مبسوط).
«رسالة في حكم
الغناء»
«رسالة في القضاء
والشهادات» (مبسوط).
«رسالة في الطلاق».
«رسالة في الوقف».
«منظومة في
المعاني والبيان».
«تعليقة على شرح
جد والد صاحب «روضات الجنّات» لعبارة شرح «اللمعة» في صلاة الجماعة».
«رسالة في الرّد
على الصوفية الغلاة».
«رسالة في الشروط
الفاسدة في البيع».
كتابة مفصلة ذات
فوائد أرسلها من النجف الاشرف.
«مجموعة نصائح
ومواعظ» (رسالة مفصّلة الى فتحعلي شاه).
«حاشية على قوانين
الأصول».
«ديوان شعر»
بالفارسية والعربية يقارب خمسة آلاف بيت.
وقيل وجد بخطه ما
يدل على أنّه كتب أكثر من ألف رسالة في مسائل شتى من العلوم. وهناك رسائل كثيرة
وقد طبعت بعضها أخيرا في خراسان بعد أن جمعت في مجلّدات.
وبعد عمر طواه
وأمضاه بالعبادة بالطّاعة رحل الى رحمة الله تعالى في مدينة قم المقدسة عام ١٢٣١ ه.
ق ، وأرّخ في مادة تاريخية : (از اين جهان به جنان صاحب قوانين رفت) ودفن في مقبرة
تعرف ب : (شيخان) قريب الحرم المطهّر للسيدة فاطمة المعصومة عليهاالسلام وعلى آبائها الطاهرين.
خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله الّذي
هدانا الى اصول الفروع وفروع الاصول ، وأرشدنا الى شرائع الأحكام بمتابعة الكتاب وسنّة الرّسول ، وقفّاهما ببيان أهل الذّكر
__________________
ومعادن التنزيل ،
الّذين هم الخلفاء من آل الرسول صلّى الله عليهم ، صلاة كثيرة متتالية مقترنة
بالكرامة ، متلقاة بالقبول ما دامت عقد المشكلات منحلّة بأنامل الدّلائل وظلم الشبهات ، منجلية بأنوار العقول.
أما بعد ، فهذه
نبذة من المسائل الأصولية ، وجملة من مباني المسائل
__________________
الفقهية ، جعلتها تذكرة لنفسي وللطالبين ، وتبصرة لمن استرشد في سلوك نهج الحقّ المبين ، وذخيرة مرجوّة لأجل
فقري وفاقتي يوم الدّين ، حداني الى رسمها مذاكرة جمع من فضلاء الأصحاب ، ومباحثة جملة من
أزكياء الأحباب ، وكان ذلك عند قراءتهم عليّا اصول كتاب «معالم الدّين» للفاضل
المحقّق المدقّق الشيخ حسن بن الشيخ زين الدّين ، حشرهما الله مع الأئمّة الطّاهرين صلوات الله عليهم
أجمعين.
__________________
فافتلذت ثمار تحقيقات عند التنزّه في بساتين عوائده ووضعت هذه الوريقات على ترتيبه ، وأضفت مسائل الى مسائله ،
وفوائد الى فوائده ، ونبّهت على ما في بعض إفاداته ، وأعرضت عن كثير من زوائده ،
وإذا وجدت وضع شيء منها على خلاف المعهود من مصنّفات القوم ، فعذره الحرص على
تكثير الفائدة مع عدم اقتضاء المقام إلّا لذلك ، فاقتصرت بأدنى مناسبة في الإقحام ، بجعل الزّوائد إمّا مقدّمة لأصل أو خاتمة أو غير ذلك. وربّما
أضفت أصلا عليه حسب ما ساعدني الوقت والمجال ، وأفردت قانونا في هذه القاعدة التي
لم تذكر فيه على وفق مقتضى الحال ، وسمّيته ب : «القوانين
__________________
المحكمة » ورتّبته على مقدّمة وأبواب وخاتمة .
وهذا الكتاب ، مع
أنّ مؤلّفه قصير الباع وقاصر الذراع وليس محسوبا
__________________
من جملة من يرتكب
هذا الشأن ويؤسّس هذا البنيان ، وليس في مضمار الاستباق إلّا كراكب القصب أو كراجل التفّت ساقه بالسّاق ، فهو من فضل الله ، مشتمل على ما لم يشتمل عليه زبر السّابقين ، ومخرج لجواهره ما اختفى من الحقائق في كنوز
كلمات الفائقين ، فإن وجدتها بعد استيفاء الفكر واستقصاء النظر حقيقا بالقبول ،
فلله الحمد على ذلك ، وإلّا فالملتمس منك الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلّا
بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.
أمّا المقدّمة
:
__________________
__________________
__________________
ففي بيان رسم هذا العلم وموضوعه ، ونبذ من القواعد اللّغويّة .
__________________
واعلم أنّ قولنا :
«أصول الفقه» علم
لهذا العلم ، وله اعتباران من جهة الإضافة ومن جهة العلميّة.
فأمّا رسمه
باعتبار العلميّة فهو : «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط
__________________
الأحكام الشرعيّة
الفرعية ».
فخرج ب : «القواعد»
العلم بالجزئيّات.
وبقولنا : «الممهّدة»
المنطق والعربية وغيرهما مما يستنبط منه الأحكام ، ولكن لم يمهّد لذلك.
وب : «الأحكام» ما
يستنبط منها الماهيّات وغيرها.
__________________
وب : «الشرعيّة»
العقليّة.
وب : «الفرعيّة»
الأصوليّة.
وأمّا «رسمه»
باعتبار الإضافة ، ف : «الأصول» جمع أصل وهو في اللّغة ما يبتنى عليه شيء ، وفي
العرف يطلق على معان كثيرة ، منها الأربعة المتداولة في ألسنة الأصوليين وهي :
الظّاهر ، والدليل ، والقاعدة ، والاستصحاب ، والأولى هنا إرادة اللّغوي ليشتمل أدلّة الفقه إجمالا ، وغيرها من عوارضها ، ومباحث الاجتهاد والتقليد وغيرهما .
__________________
و «الفقه» في
اللّغة : الفهم .
وفي العرف : هو
العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.
والمراد ب : «الأحكام»
هي النسب الجزئيّة ، وب : «الشرعيّة» ما من شأنه أن يؤخذ من الشّارع وإن
استقلّ بإثبات بعضها العقل أيضا.
فخرج ب : «الشرعيّة»
العقلية المحضة التي ليس من شأنها ذلك ، كبيان أنّ الكلّ أعظم من الجزء والنقيضان
لا يجتمعان.
وب : «الفرعيّة»
ما يتعلّق بالعمل بلا واسطة ، فخرج بها الأصولية وهو ما لا
__________________
يتعلّق بالعمل بلا
واسطة ، وإن كان لها تعلّق بعيد .
__________________
وهاهنا إشكال
مشهور بناء على تعريف الحكم الشرعي بأنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين ،
مع كون الكتاب من أدلّة الأحكام ، وهو أيضا خطاب الله ، فيلزم اتّحاد الدليل
والمدلول .
واستراح الأشاعرة
عن ذلك بجعل الحكم هو الكلام النفسي ، والدليل هو اللّفظي.
وفيه : مع أنّ
الكلام النفسي فاسد في أصله ، انّ الكتاب مثلا حينئذ كاشف عن المدّعى ، لا أنّه
مثبت الدعوى ، فلا يكون دليلا في الاصطلاح.
__________________
والذي يخالجني في حلّه ، هو جعل الأحكام عبارة عمّا علم ثبوته من الدّين
بديهة بالإجمال ، والأدلّة عبارة عن الخطابات المفصّلة. فإنّا نعلم أوّلا بالبديهة
أنّ لأكل الميتة وأكل الرّبا أو غيرهما حكما من الأحكام ، ولكن لا نعرفه بالتفصيل
إلّا من قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) ، (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ونحو ذلك.
وهاهنا إشكال آخر
، وهو : إنّ الأحكام كما ذكرت هي النسب الجزئية ، فموضوعاتها خارجة ، وقد تكون نفس العبادة ، ولا ريب أنّ
معرفة ماهيّة العبادة وظيفة الفقه ، فلا ينعكس الحدّ .
ويمكن دفعه :
بالتزام الخروج ، لأنّ تلك الموضوعات من جزئيّات موضوع العلم ، وتصوّر الموضوع وجزئيّاته من مبادئ العلم ، والمبادئ قد
تبين في ذلك العلم وقد تبين في غيره. وتصوّر الموضوع وأجزائه وجزئياته يحصل
__________________
غالبا في أصل
العلم ، ولا منافاة بين خروجه عن تعريف العلم ودخوله في طيّ مسائله.
وقولنا : «عن أدلّتها»
من متعلّقات العلم لا الأحكام ، فخرج علم الله وعلم الملائكة والأنبياء ، ويمكن
إخراج الضّروريّات أيضا عن ذلك ، فإنّها من جملة القضايا التي قياساتها معها ، ولا يسمّى ذلك في العرف استدلالا ، ولا العلم الحاصل
معها علما محصّلا من الدّليل وإن كان تلك الضّرورة علّة لتلك العلوم في نفس الأمر.
وأمّا إخراج مطلق
القطعيّات عن الفقه ـ كما يظهر من بعضهم ـ فلا وجه له ، إذ الاستدلال قد يفيد القطع ، وقبله لم يكن
قطع بالحكم.
وخرج ب : «التفصيلية»
علم المقلّد في المسائل ، فإنّه ناشئ عن دليل إجمالي
__________________
مطّرد في جميع المسائل ، وهو أنّ كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم
الله في حقّي ، هكذا قرّره القوم.
أقول : ويرد عليه
، أنّ ذلك الدّليل الإجمالي بعينه موجود للمجتهد ، وهو أنّ كلّ ما أدّى إليه ظنّي
فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي.
فإن قلت : نعم ،
ولكن له أدلّة تفصيليّة أيضا مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ) ونحوهما ، والمراد هنا تلك ، وليس مثلها للمقلّد.
قلت : للمقلّد
أيضا أدلّة تفصيليّة ، فإنّ كلّ واحد من فتاوى المفتي في كلّ واقعة دليل تفصيلي
لكلّ واحد من المسائل ، فالأولى في الإخراج التمسّك بإضافة الأدلّة الى الأحكام
وإرادة الأدلّة المعهودة ، فإنّ الإضافة للعهد ، فيكون التفصيليّة قيدا توضيحيّا.
ثم إنّ ما ذكرته ،
بناء على عدم الإغماض عن طريقة القوم رأسا. وإلّا فأقول : إنّ ما ذكره القوم من
كون التفصيليّة احترازا عن علم المقلّد ، إنّما يصحّ إذا كان ما ذكروه من الدّليل
الإجمالي للمقلّد دليلا لعلمه بالحكم ، وليس كذلك ، بل هو دليل لجواز العمل به
ووجوب امتثاله وكونه حجّة عليه. كما أنّ الدّليل الإجمالي الذي ذكرناه للمجتهد هو
أيضا كذلك ، فلا يحصل بذلك احتراز عمّا ذكروه.
ويمكن أن يقال :
أنّ قيد «التفصيلية» لإخراج الأدلّة الإجمالية كما بيّنّا سابقا
__________________
من أنّ ثبوت
الأحكام في الجملة من ضروريّات الدّين ، فما دلّ على ثبوت الأحكام إجمالا من
الضرورة وغيرها مثل عمومات الآيات والأخبار الدالّة على ثبوت التكاليف إجمالا ،
أدلّة لكن إجمالا لا تفصيلا. وهذا لا يسمّى فقها ، بل الفقه هو معرفة تلك الأحكام
الإجمالية من الأدلّة التفصيليّة.
والعجب من فحول
العلماء كيف غفلوا عن ذلك ، ولم يسبقني الى ما ذكرته أحد فيما أعلم.
ثمّ إنّهم أوردوا
على الحدّ بأمرين :
الأوّل : أنّ «الفقه»
أكثره من باب الظنّ لابتنائه غالبا على ما هو ظنّي الدلالة أو السّند ، فما معنى
العلم ؟
واجيب عنه بوجوه ،
أوجهها :
أنّ المراد ب : «الأحكام»
الشرعيّة أعمّ من الظاهريّة والنفس الأمريّة ، فإنّ
__________________
ظنّ المجتهد بعد
انسداد باب العلم ، هو حكم الله الظاهري بالنسبة إليه ، كالتقيّة في زمان المعصوم
، فإذا سمع المكلّف من لفظه يحصل العلم به مع أنّه ليس بحكم الله النفس الأمريّ ،
ولكن هو حكم الله بالنسبة إليه ، والى ذلك ينظر قول من قال : إنّ الظنّ في طريق الحكم لا في نفسه ، وإنّ ظنيّة الطريق
لا ينافي قطعيّة الحكم ، وذلك لا يستلزم التصويب كما توهّمه بعض الأصحاب .
__________________
ومنها : أنّ
المراد ب «العلم» هو الظنّ أو الاعتقاد الرّاجح فيشمل الظنّ ، وهو مجاز يبعد
استعماله في الحدود .
ومنها : أنّ
المراد به العلم بوجوب العمل به.
ومنها : أنّ
المراد العلم بأنّه مدلول الدّليل.
وكلّها بعيد.
والثاني : أنّ
المراد بالأحكام إن كان كلّها ـ كما هو مقتضى ظاهر اللّفظ ـ فيخرج عنه أكثر
الفقهاء لو لم يخرج كلّهم ، وإن كان البعض ، فيدخل فيه من علم بعض
المسائل بالدّليل.
والجواب : أنّا
نختار أوّلا : إرادة الكلّ ، ولكنّ المراد بالعلم التهيّؤ والاقتدار والملكة التي بها يقتدر على استنباط الأحكام من الأدلّة ، ولا
ينافي ذلك ما مرّ
__________________
من الأجوبة عن
السّؤال الأوّل ، من جهة أنّها مبتنية على جعل العلم بمعنى الإدراك ما هو الظّاهر
فيما ذكر متعلّقه ، سواء كان الإدراك يقينيا أو ظنيّا. والملكة لا تتّصف بالظنيّة
والعلميّة ، لأنّا نقول : الملكة معنى مجازيّ للعلم بمعنى الإدراك ،
فتتّصف بالظنيّة والعلميّة باعتبار الإدراك أيضا .
__________________
فنقول بناء على
جعل العلم بمعنى اليقين : إنّ المراد الملكة التي يقتدر بها على الإدراكات
اليقينيّة ، وبناء على جعله بمعنى الظنّ ؛ الملكة التي يقتدر بها على الإدراكات
الظنيّة ، غاية الأمر أنّه يلزم على إرادة الظنّ من العلم سبك مجاز من مجاز ، فالعلم بالحكم مجاز عن الظنّ به ،
والظنّ به مجاز عن ملكة يقتدر بها على تحصيل الظنّ به ، وكذلك يلزم ذلك على
الوجهين الأخيرين .
فالعلم على أوّل
الوجهين استعارة للظنّ بمشابهة وجوب العمل. كما أنّ في الصّورة السّابقة كان
استعارة بمشابهة رجحان الحصول ، أو مجازا مرسلا بذكر الخاصّ وإرادة العامّ ، ثمّ
يترتّب على ذلك إرادة الملكة من ذلك بعلاقة السّببيّة والمسبّبيّة.
ويظهر من ذلك
الكلام في الوجه الأخير أيضا ، وهو أردأ الوجوه ، وأمّا على ما اخترناه من الوجه الأوّل فلا يلزم ذلك .
وثانيا : إرادة
البعض ، ونقول : إمّا أن يمكن تحقّق التجزّي ، بأن يحصل للعالم الاقتدار على
استنباط بعض المسائل عن المأخذ ـ كما هو حقّه دون بعض ـ أو لا يمكن.
__________________
فعلى الثاني ، فلا
ينفكّ الفرض عن المجتهد في الكلّ.
وعلى الأوّل كما
هو الأظهر ، فإمّا أن نقول بحجّيته وجواز العمل به كما هو الأظهر أو لا.
وعلى الأوّل فلا
إشكال أيضا لأنّه من أفراد المحدود.
وعلى الثاني ، فإن
قلنا : إنّ التعريف لمطلق الفقه فيصحّ أيضا.
وإن قلنا : إنّه
للفقه الصحيح ، فيقع الاشكال في إخراجه.
واستراح من جعل
العلم في التعريف عبارة عما يجب العمل به ، بأنّ ذلك خرج عن العلم ، فإنّه ليس بذلك .
ويمكن دفعه على ما
اخترناه أيضا : بأنّه لم يثبت كون ما أدركه حكما شرعيّا حقيقيا ولا
ظاهريا ، لأنّ الدّليل لم يقم على ذلك فيه .
وأمّا موضوعه : فهو أدلّة الفقه وهي : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ،
والعقل.
__________________
وأمّا الاستصحاب ،
فإن اخذ من الأخبار فيدخل في السنّة ، وإلّا فيدخل في العقل.
وأمّا القياس فليس
من مذهبنا.
__________________
قانون
اللّفظ قد يتّصف بالكلّية والجزئيّة باعتبار ملاحظة المعنى كنفس المعنى ، فما يمنع نفس تصوّره
عن وقوع الشركة ؛ فجزئي ، وما لا يمنع ؛ فهو كلّي.
فإن تساوى صدقه في
جميع أفراده ؛ فهو متواط ، وإلّا ؛ فمشكّك .
وهذا التقسيم في
الاسم واضح ، وأمّا الفعل والحرف ؛ فلا يتّصفان بالكلّيّة والجزئية في الاصطلاح ،
ولعلّ السرّ فيه ، أنّ نظرهم في التقسيم الى المفاهيم المستقلّة التي يمكن تصوّرها
بنفسها والمعنى الحرفي غير مستقلّ بالمفهوميّة ، بل
__________________
هو أمر نسبيّ
رابطيّ وآلة لملاحظة حال الغير في الموارد المشخّصة المعيّنة ، ولا يتصوّر انفكاكها أبدا
عن تلك الموارد ، فهي تابعة لمواردها ، وكذلك الفعل بالنسبة الى الوضع النسبي ،
فإنّ له وضعين : فبالنسبة الى الحدث كالاسم ، وبالنسبة الى نسبته الى فاعل ما
كالحرف.
وأمّا أسماء
الإشارة والموصولات والضمائر ونحوها .
فإن قلنا بكون
وضعها عاما والموضوع له خاصا ، فيشبه الحروف لمناسبتها في الوضع ، فلا بدّ أن لا
يتّصف بالكلّية والجزئية ، وإنّما المتّصف هو كلّ واحد من الموارد الخاصّة.
ولعلّ ذلك هو
السرّ في عدم التفات كثير منهم في تقسيماتهم للمعاني والألفاظ إليها.
وأمّا على القول
بكون الموضوع له فيها عاما كالوضع كما هو مذهب قدماء أهل العربية ، فهو داخل في الكلّي ؛ فيكون مجازا بلا حقيقة ، لأنّ
الاستعمال لم يقع
__________________
إلّا في الجزئيات.
ثمّ إنّ اللّفظ
والمعنى إمّا يتّحدا ؛ بأن يكون لفظ واحد له معنى واحد فاللّفظ متّحد المعنى
والمعنى متّحد اللّفظ أو لا.
فإن تكثّر كلّ
منهما ؛ فالألفاظ متباينة ، سواء توافقت المعاني أو تعاندت.
وإن تكثّرت
الألفاظ واتّحد المعنى ؛ فمترادفة.
وإن اتّحد اللّفظ
وتكثّرت المعاني ، فإن وضع لكلّ منها مع قطع النظر عن الآخر ومناسبته ، سواء كان
مع عدم الاطلاع كما لو تعدّد الواضعون أو عدم التذكّر أو مع التذكّر ولكن لم يلاحظ
المناسبة ؛ فمشترك ، ويدخل فيه المرتجل .
وربّما جعل قسيما
له نظرا الى أنّ المشترك هو ما لم يلاحظ فيه المعنى الآخر ، وإن كان من جهة عدم
المناسبة أيضا بخلاف المرتجل ، فيلاحظ فيه عدم المناسبة فيحصل فيه نوع تبعيّة ،
وفيه تعسّف .
__________________
فعلى هذا يخرج
المبهمات من المشترك على القولين لعدم تعدّد الوضع المستقلّ بالنسبة
الى كلّ واحد من الجزئيات.
أمّا على قول
قدماء أهل العربيّة فظاهر.
وأمّا على القول
الآخر ، فلأنّ الملحوظ حين الوضع هو المعنى الكلّي ووضع لكلّ واحد من الجزئيات
بوضع واحد لا متعدّد.
ولا ينافي ذلك
ثبوت الاشتراك في الحروف بالنسبة الى المفهومات الكلّيّة كالتبعيض والتبيين ، وإن لم نقل باشتراكها في خصوص الموارد الجزئية.
وإن اختصّ الوضع
المستقلّ بواحد ، فهو الحقيقة ، والباقي مجاز إن كان الاستعمال فيها بمجرّد
المناسبة والعلاقة مع القرينة.
وإن كانت مجرّد
الشهرة ليدخل المجاز المشهور كما سيجيء ، أو منقول إن ترك المعنى الحقيقي أوّلا
ووضع لمعنى آخر بمناسبة الأوّل ، أو استعمل المعنى المجازي وكثر استعماله الى أن
وصل الى حدّ الحقيقة.
فالمنقول قسمان : تخصيصيّ ، وتخصّصي.
والثاني يثمر بعد
معرفة تاريخ التخصيص.
وهذا كلّه في
الأسماء ظاهر ، وأمّا الأفعال والحروف ؛ فالحقيقة والمجاز فيهما إنّما هو بملاحظة
متعلّقاتها وتبعيّتها كما في نطقت الحال : (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا).
__________________
هذا بحسب المواد .
وأمّا الهيئة ،
فقد يتّصف الفعل بالحقيقة والمجاز والاشتراك والنقل ، كالماضي للإخبار والإنشاء ،
والمضارع للحال والاستقبال ، والأمر للوجوب والندب.
ولا يذهب عليك أنّ
الحيثيّة معتبرة في هذه الأقسام ، فقد يكون المشترك مباينا أو مرادفا ، والمرادف
مباينا ، الى غير ذلك فلاحظ ولا تغفل.
__________________
قانون
فى الحقيقة والمجاز اللّفظ إن استعمل فيما وضع له من حيث هو كذلك ؛ فحقيقة ،
وفي غيره لعلاقة ؛ فمجاز .
والحقيقة تنسب الى
الواضع ، وفي معنى الوضع استعمال اللّفظ في شيء مع القرينة مكرّرا الى أن يستغني
عن القرينة فيصير حقيقة.
فالحقيقة باعتبار
الواضعين والمستعملين في غير ما وضع له الى حدّ الاستغناء عن القرينة ، تنقسم الى
اللّغوية والعرفيّة الخاصّة مثل الشرعية والنحوية والعامة ، وكذلك المجاز بالمقايسة .
واعلم أنّ المجاز
المشهور المتداول في ألسنتهم ، المعبّر عنه بالمجاز الرّاجح
__________________
يعنون به الرّاجح
على الحقيقة ، يريدون به ما يتبادر به المعنى بقرينة الشهرة.
وأما مع قطع النظر
عن الشهرة فلا يترجّح على الحقيقة ، وإن كان استعمال اللّفظ فيه أكثر ، وسيجيء
تمام الكلام.
وأما المجاز الذي
صار في الشهرة بحيث يغلب على الحقيقة ويتبادر ولو مع قطع النظر عن الشهرة ، فهو حقيقة
كما بيّنا.
قانون
طرق معرفة الحقيقة والمجاز اعلم أنّ الجاهل بكلّ اصطلاح ولغة ، إذا أراد معرفة حقائق
ألفاظه ومجازاته فله طرق :
الأوّل : تنصيصهم بأنّ اللّفظ الفلاني
موضوع للمعنى الفلاني ، وأنّ استعماله في
الفلاني خلاف موضوعه.
الثاني : التبادر وهو علامة الحقيقة ، كما أنّ تبادر الغير علامة المجاز.
والمراد بالتبادر
أنّ الجاهل بمصطلح هذه الطائفة إذا تتبّع موارد استعمالاتهم ومحاوراتهم ، وعلم من
حالهم أنّهم يفهمون من لفظ خاصّ معنى مخصوصا بلا معاونة قرينة حالية أو مقالية ، ولو كان شهرة في الاستعمال في المعنى الغير الموضوع له ،
وعرف أنّ ذلك الفهم من جهة نفس اللّفظ فقط ، يعرف أنّ هذا اللّفظ موضوع عندهم لذلك
المعنى وينتقل إليه انتقالا إنّيا فيكون التبادر معلولا للوضع.
__________________
وأمّا العالمون
بالأوضاع ، فلا يحتاجون إلى إعمال هذه العلامة إلّا من جهة إعلام الجاهل.
ولمّا كان استناد
الانفهام إلى مجرّد اللّفظ وعدم مدخلية القرينة فيه أمرا غامضا لتفاوت الأفهام في
التخلية وعدمه ، وتفاوت القرائن في الخفاء والوضوح ، فمن ذلك يجيء الاختلاف في دعوى التبادر من الأجانبة بالاصطلاح المذكور. فقد يكون الانفهام عند أهل هذا
الاصطلاح من جهة القرائن الخفيّة ، ويدّعي الغافل التبادر بزعم انتفاء القرينة ،
ويدّعي خصمه المتفطّن التبادر في معنى آخر ، وهكذا.
ولذلك أوجبوا
استقراء غالب موارد الاستعمال ليزول هذا الاحتمال ، فالاشتباه والخلط ؛ إمّا لعدم
استفراغ الوسع في الاستقراء ؛ وإمّا لتلبيس الوهم وإخفاء القرينة على المدّعى ، ولذلك
قالوا : إنّ الفقيه متّهم في حدسه بالنسبة الى العرف وإن كان هو من أهل العرف ،
لكثرة وفور الاحتمالات وغلبة مزاولة المتخالفة من الاستعمالات مع ما يسنحه من
المنافيات من جهة الأدلّة العقلية والنقلية ،
__________________
فلذلك قد يدّعي
أحدهم أنّ الأمر بالشيء لا يدلّ على النّهي عن ضدّه الخاص عرفا بأحد من الدّلالات كما هو الحقّ ، ويدّعي آخر دلالته لما التبس عليه الأمر من
جهة الأدلّة العقلية التي قرّبت إليه مقصوده.
وكذلك في مقدّمة
الواجب ، فلا بدّ أن يرجع الى عرف عوامّ العرب ، فإنّهم هم الّذين لا يفهمون شيئا
إلّا من جهة وضع اللّفظ ، فالفقيه حينئذ كالجاهل بالاصطلاح وإن كان من جملة أهل
هذا الاصطلاح.
وبالجملة ، لا بدّ
من بذل الجهد في معرفة أنّ انفهام المعنى إنّما هو من جهة اللّفظ لا غير.
وبما ذكرناه ؛ يندفع ما يتوهّم ، أنّ التبادر كما هو موجود في المعنى الحقيقي.
فكذلك في المجاز المشهور ، فلا يكون علامة للحقيقة ولا لازما خاصّا لها ، بل هو
أعمّ من الحقيقة.
وتوضيح ذلك : أنّ
المجاز المشهور ، هو ما يبلغ في الاشتهار بحيث يساوي الحقيقة في الاستعمال أو
يغلبها [يغلب] ، ثمّ إنّ الأمر فيه الى حيث يفهم منه المعنى بدون القرينة ،
ويتبادر ذلك حتّى مع قطع النظر عن ملاحظة الشهرة أيضا ، فلا ريب أنّه يصير بذلك
حقيقة عرفيّة كما ذكرنا سابقا ، وهذا أيضا وضع ، فالتبادر كاشف عنه ، وإن لم يكن
كذلك ، بل كان بحيث يتبادر المعنى بإعانة الشّهرة وسببيّته وإن لم يلاحظ تفصيلا ، وهو الذي ذكره الأصوليّون في باب تعارض الأحوال.
__________________
واختلفوا في
ترجيحه على الحقيقة المرجوحة في الاستعمال .
فالحقّ ، أنّ هذا
مجاز ، والتبادر الحاصل في ذلك ليس من علائم الحقيقة ، والذي اعتبر في معرفة
الحقيقة هو التبادر من جهة اللّفظ مع قطع النظر عن القرائن ، وإن كانت القرينة هي
الشّهرة ، والموجود فيما نحن فيه إنّما هو من جهة القرينة.
وبعد ما بيّنا لك
سابقا ، لا مجال لتوهّم أن يقال إنّ الجاهل بالاصطلاح إذا رأى أنّ أهل هذا الاصطلاح
يفهم من اللّفظ هذا المعنى ، ولا يظهر عليه أنّ ذلك من جهة الشهرة أو من جهة نفس
اللّفظ فينفي القرينة بأصل العدم ويحكم بالحقيقة مع أنّه في نفس الأمر مجاز ،
فالتبادر لا يثبت الحقيقة فقط ، وذلك لأنّ أصل العدم لا يثبت إلّا عدم العلم
بالقرينة ، وما ذكرنا مبنيّ على لزوم العلم بعدم القرينة حتّى يختص بالحقيقة ، هذا
إذا قلنا بلزوم تحصيل العلم في الأصول.
وأمّا على القول
بعدمه كما هو الحق والمحقّق ، فهذا الظنّ الحاصل من الأصل مع التتبّع في محاورات
أهل ذلك الاصطلاح يقوم مقام العلم كما في سائر المسائل الأصولية والفقهية وغيرها . فاعتقاد كونها حقيقة مع كونها مجازا في
__________________
نفس الأمر غير
مضرّ ، مع أنّ هذا لا يتصوّر إلّا في فرض نادر كما لا يخفى ، فلا يوجب القدح في القواعد
المبتنية على الغالب.
وينبّه على ما
ذكرنا ، البناء على أصالة الحقيقة فيما لم يظهر قرينة المجاز ، وإن كان المراد هو
المجاز في نفس الأمر.
فإن قلت : فأيّ
فائدة في هذا الفرق ، وما الفرق بين المجاز المشتهر إلى أن يفهم منه المعنى مع قطع النظر عن الشّهرة ، وما
يتبادر منه المعنى مع ملاحظة الشّهرة ، بل هذا مجرّد اصطلاح ولا يثمر ثمرة في
الأحكام؟
قلت : الفرق واضح
، فإنّ الحقيقة في الأوّل مهجورة ، وفي الثاني غير مهجورة.
فإن قلت : إذا
كانت الحقيقة الأولى محتاجة فى الانفهام الى القرينة فهو أيضا في معنى المهجور ،
فيصير معنى مجازيّا كالصّورة الاولى.
__________________
قلت : ليس كذلك .
أمّا أوّلا :
فلأنّ احتياج الحقيقة حينئذ الى قرينة إنّما هو لعدم إرادة المعنى المجازي ، فإنّ
دلالة اللّفظ على المعنى الحقيقي موقوف على انتفاء قرينة المجاز حقيقة أو حكما ولا
شبهة في ذلك ، فإنّ انفهام الحيوان المفترس من الأسد موقوف على فقدان يرمي مثلا ،
ولمّا لم يمكن إزالة الشّهرة التي هي قرينة في هذا المجاز حقيقة ، فيكتفى
بانتفائها حكما بنصب قرينة تدلّ على المعنى الحقيقي ، كما أشار إليه الفاضل
المدقّق الشيرواني .
وأمّا ثانيا : فلأنّ اللّفظ يستعمل في المعنى الحقيقي حينئذ أيضا بلا
قرينة ، غاية الأمر حصول الاحتمال ، فينوب ذلك مناب الاشتراك ، ولا يسقط عن كونه
حقيقة ، ولا يلزم الاشتراك المرجوح أيضا .
ألا ترى أنّ صاحب «المعالم»
رحمهالله مع أنّه جعل الأمر في أخبار الأئمة عليهمالسلام
__________________
مجازا راجحا في
الندب مساويا للحقيقة من جهة التبادر وعدمه ، لم يقل بصيرورته مجازا في الوجوب في
عرفهم ، فإنّ الذي يصحّ أن يحمل كلامه عليه دعوى شيوع استعمال الأمر في كلامهم في
الندب خاليا عن القرينة وانفهام إرادة الندب من رواية اخرى أو إجماع أو غير ذلك ،
فإنّ كثرة الاستعمال مع القرينة لا يستلزم ما ذكره كما لا يخفى ، وهو لا ينكر أنّ
الأمر في كلامهم أيضا مستعمل في الوجوب بلا قرينة ؛ وإن علم الوجوب من الخارج ،
ولا يتفاوت الأمر حينئذ بين تبادر المجاز الرّاجح أو حصول التوقّف .
والظاهر أنّ من
يقول بتبادر المجاز الرّاجح أيضا ، لا يقول بعدم جواز الاستعمال في اللّفظ بلا
قرينة ، غاية الأمر توقّف الفهم على القرينة ، ومطلق ذلك التوقّف لا يستلزم
المجازية ، ولذلك اختلفوا في مبحث تعارض الأحوال في حكم اللّفظ إذا دار بين
الحقيقة والمجاز الرّاجح.
فقيل : بتقديم
الحقيقة من جهة رجحان جانب الوضع.
وقيل : بتقديم
المجاز الرّاجح ؛ لترجيح جانب الغلبة ، فإنّ الظنّ يلحق الشيء
__________________
بالأعمّ الأغلب .
ومثل ما ذكرنا مثل
المشترك إذا اشتهر في أحد معانيه مثل : العين في الباصرة أو هي مع الينبوع أو هي
مع الذّهب ، فإنّه لا ريب أنّه عند إطلاقها ينصرف الذّهن الى أحد المذكورات لا الى
غيرها من المعاني ، ومع ذلك فلا يجوز الاعتماد على هذا الانصراف.
وبالجملة ،
التبادر مع ملاحظة الشّهرة لا يثبت كونها حقيقة ، ولا يخرج الحقيقة الأولى عن
كونها حقيقة ، فتأمّل وافهم واستقم ، وبالتأمّل فيما حقّقنا تعلم معنى كون تبادر
الغير علامة للمجاز.
الثالث : صحة السّلب يعرف بها المجاز
كما تعرف الحقيقة بعدمها . والمعتبر فيه أيضا اصطلاح التخاطب ، فصحّة السّلب وعدمها
في اصطلاح لا يدل إلّا على كون اللّفظ مجازا أو حقيقة في ذلك الاصطلاح ، كما عرفت
في التبادر.
والمراد صحّة سلب
المعاني الحقيقية عن مورد الاستعمال وعدمها ، مثل قولهم للبليد : ليس بحمار ، وعدم
جواز : ليس برجل. وزاد بعضهم في نفس الأمر
__________________
احترازا عن مثل
قولهم للبليد : ليس بإنسان ، ولا حاجة إليه ، لأنّ المراد صحّة سلب المعاني الحقيقيّة حقيقة ، والأصل
في الاستعمال الحقيقة ، فالقيد غير محتاج إليه وإن كان مؤدّاه صحيحا في نفس الأمر.
وقد اورد على ذلك
: باستلزامه الدّور المضمر بواسطتين ، فإنّ كون
__________________
المستعمل فيه
مجازا لا يعرف إلّا بصحة سلب جميع المعاني الحقيقية ، ولا يعرف سلب جميع المعاني
الحقيقة إلّا بعد معرفة أنّ المستعمل فيه ليس منها ، بلّ هو لاحتمال الاشتراك ،
فإنّه يصحّ سلب بعض معاني المشترك عن بعض ، وهو موقوف على معرفة كونه مجازا ، فلو
أثبت كونه مجازا بصحة السّلب لزم الدّور المذكور.
وأمّا لزوم الدّور
في عدم صحّة السّلب ، فإنّ عدم صحة سلب المعنى الحقيقي موقوف على معرفة المعنى
الحقيقي ، فلو توقّف معرفة المعنى الحقيقي على عدم صحّة سلب المعنى الحقيقي لزم
الدّور ، هكذا قيل.
والحقّ ، أنّ
الدّور فيه أيضا مضمر ، لأنّ معرفة كون الإنسان حقيقة في البليد موقوف على معنى
حقيقي للإنسان يجوز سلبه عن البليد ، كالكامل في الإنسانية ، ومعرفة عدم هذا
المعنى موقوف على معرفة كون الإنسان حقيقة في البليد.
نعم لو قلنا : إنّ
قولنا : عدم صحّة سلب الحقائق علامة الحقيقة سالبة جزئيّة ، كما هو الظاهر فلا
يحتاج الى إضمار الدّور ، لكنّه لا يثبت إلّا الحقيقة في الجملة ، وبالنسبة كما
سنذكره.
__________________
وعلى هذا فلم لم
يكتفوا في جانب المجاز أيضا بالموجبة الجزئية ، ويقولوا إنّ صحّة سلب بعض الحقائق
علامة للمجاز في الجملة وبالنسبة ؟
وقد أجاب عنه
بعضهم : بأنّ المراد إنّا إذا علمنا المعنى الحقيقي للفظ ومعناه المجازي ولم نعلم
ما أراد القائل منه ، فإنّا نعلم بصحّة سلب المعنى الحقيقي عن المورد [الموارد] ،
أنّ المراد المعنى المجازي وذلك ظاهر.
ثمّ قال : إنّ ذلك
الدّور لا يمكن دفعه في جانب جعل عدم صحّة السّلب علامة للحقيقة ، لعدم جريان هذا
الجواب فيه ، ويبقى الدّور فيه بحاله ، فإنّا إذا علمنا المعنيين ولم نعلم أيّهما
المراد ، فلا يمكن معرفة كونه حقيقة لعدم صحّة سلب المعنى الحقيقي ، فإنّ العامّ
المستعمل في فرد مجاز مع امتناع سلب معناه الحقيقي عن مورد استعماله ، وأنت خبير
بما فيه.
__________________
أمّا أوّلا :
فلأنّه خروج عن محلّ البحث ، فإنّ الكلام فيما علم المستعمل فيه ولم يتميّز
الحقائق من المجازات ، لا فيما علم الحقيقة والمجاز ولم يعلم المستعمل فيه ، ولا
ريب أنّ الأصل في الثاني هو الحمل على الحقيقة.
وأمّا ثانيا :
فلأن سلب المعنى المجازي حينئذ أيضا يدلّ على إرادة المعنى الحقيقي ، فلا اختصاص
لهذه العلامة بالمجاز.
لا يقال : أنّ
المجازات قد تتعدّد ، فنفي الحقيقة لا يوجب تعيين بعضها ، لأنّ هذا القائل قد عيّن المجاز ، والمفروض أيضا إرادة تعيين شخص المجاز لا
مطلقة ، مع أنّ لنا أيضا أن نقول : سلب مطلق المعنى المجازي علامة للحقيقة ،
فافهم.
وأمّا ثالثا : فما
ذكره في عدم صحّة السّلب للحقيقة ، فمع أنّه يرد عليه ما سبق من كونه خروجا عن
المبحث.
فيه : أنّ العامّ
إذا استعمل في الخاصّ فهو إنّما يكون مجازا إذا اريد منه الخصوصيّة لا مطلقا ، ومع
إرادة الخصوصيّة فلا ريب في صحة سلب معناه الحقيقي بهذا الاعتبار ، وإنّما يختلف
ذلك باعتبار الحيثيّات .
وقد اجيب أيضا : بأنّ المراد سلب ما يستعمل فيه اللّفظ المجرّد عن
القرينة وما يفهم منه كذلك عرفا ، إذ لا شكّ في أنّه يصحّ عرفا أن يقال للبليد :
إنّه ليس
__________________
بحمار ، ولا يصحّ
أن يقال : ليس برجل ولا ببشر أو بإنسان.
وفيه : أنّ ذلك
مجرّد تغيير عبارة ولا يدفع السّؤال فإنّ معرفة ما يفهم من اللّفظ عرفا مجرّدا عن القرائن هو
بعينه معرفة الحقائق سواء اتّحد المفهوم العرفي وفهم معيّنا أو تعدّد بالاشتراك ففهم
الكلّ إجمالا وبدون التعيين ، وذلك يتوقّف على معرفة كون المستعمل فيه ليس هو عين
ما يفهم عرفا على التعيين أو من جملة ما يفهم عرفا على الإجمال ، فيبقى الدّور
بحاله .
ويمكن أن يقال :
لا يلزم من نفي المعاني الحقيقيّة العلم بكون المستعمل فيه مجازا ، بل يكفي عدم
ثبوت كونه حقيقة لسبب عدم الانفهام العرفي ، فإذا سلب ما علم كونه حقيقة العرفي ؛
يحكم بكون المستعمل فيه مجازا ، لأنّ احتمال الاشتراك مدفوع بأنّ الأصل عدمه ،
والمجاز خير من الاشتراك ، فهذه العلامة مع هذا الأصل والقاعدة يثبت المجازيّة.
وفيه : أنّه مناف
لإطلاقهم بأنّ هذه علامة المجاز أو الحقيقة ، فإنّ ظاهره كونه سببا تامّا لفهم
المجازية أو الحقيقية لا جزء سبب ، مع أنّ ذلك إنّما يتمّ عند من يقول بكون المجاز
خيرا من الاشتراك وظاهرهم الإطلاق .
__________________
والذي يختلج
بالبال في حلّ الإشكال وجهان :
الأوّل : أن يقال
: إنّ المراد بكون صحّة السّلب علامة المجاز ، أنّ صحة سلب كلّ واحد من المعاني
الحقيقية عن المعنى المبحوث عنه علامة لمجازيّته بالنسبة الى ذلك المعنى المسلوب ،
فإن كان المسلوب الحقيقي واحدا في نفس الأمر ، فيكون ذلك المبحوث عنه مجازا مطلقا
، وإن تعدّد فيكون مجازا بالنسبة الى ما علم سلبه عنه لا مطلقا ، فإذا استعمل العين بمعنى النابعة في الباصرة الباكية
لعلاقة جريان الماء ، فيصحّ سلب النّابعة عنها ، ويكون ذلك علامة كون الباكية معنى
مجازيا بالنسبة الى العين بمعنى النّابعة ، وإن كانت حقيقة في الباكية أيضا من جهة
وضع آخر.
فإن قلت : إنّ سلب العين بمعنى الذّهب عنها بمعنى الميزان ، لا
يفيد كون الميزان معنى مجازيّا لها لعدم العلاقة.
قلت : هذا لو
أردنا كونه مجازا عنها بالفعل ، وأمّا إذا كان المراد كونه مجازا بالنّسبة إليها
لو استعمل فيه ، فلا يرد ذلك ، وهو كاف فيما أردنا. وما ذكرنا في المثال إنّما هو
من باب المثال ، فافهم.
وبالجملة : قولهم
للبليد : ليس بحمار ، إذا أريد به سلب الحيوان النّاهق الذي هو معنى حقيقي للحمار
في الجملة جزما ، فيكون البليد معنى مجازيا بالنسبة الى ذلك المعنى الحقيقي ، وإن
احتمل أن يكون الحمار موضوعا بوضع آخر للحيوان القليل الإدراك ، ويكون البليد
حقيقة بالنسبة إليه حينئذ.
__________________
وممّا ذكرنا ؛ يظهر حال عدم صحّة السّلب بالنسبة الى المعنى الحقيقي ،
فإنّ المراد عدم صحّة سلب المعنى الحقيقي في الجملة ، فيقال : إنّه علامة لكون ما
لا يصحّ سلب المعنى الحقيقي عنه معنى حقيقيّا بالنسبة الى ذلك المعنى الذي لا يجوز
سلبه عنه ، وإن احتمل أن يكون للفظ معنى حقيقي آخر يصح سلبه عن المبحوث عنه فيكون
مجازا بالنسبة اليه ، فلا يتوقّف معرفة كون المبحوث عنه حقيقة على العلم بكونه
حقيقة حتّى يلزم الدّور.
وكيف يتصوّر صدق جميع الحقائق على حقيقة لو فرض كون اللّفظ مشتركا حتّى
يجعل ذلك منشأ للإشكال كما توهم في جانب المجاز ، إذ هذا التصوّر مبنيّ على جعل قولهم عدم
صحّة سلب الحقائق سلبا كليّا كما في المجاز ، وأمّا لو جعل سلبا جزئيّا فلا يرد
ذلك ، ولا يحتاج الى إضمار الدّور ، ولكنّه لا يناسب حينئذ إثبات الحقيقة مطلقا ،
بل يناسب إثباتها في الجملة ، فليعتبروا في المجاز أيضا كذلك ويضيفوا إليه ملاحظة
النسبة حتى يرتفع الدّور.
والحاصل ، أنّ
معرفة كونه حقيقة في هذا المعنى الخاصّ موقوف على معرفة الحقيقة في الجملة ، وذلك
لا يستلزم دورا.
الثاني : أن يكون
المراد من صحّة السّلب وعدم صحّة السّلب ، سلب المعنى
__________________
الحقيقي وعدمه
عمّا احتمل فرديّته له ، بأن يعلم للفظ معنى حقيقي ذو أفراد وشكّ في دخول المبحوث
عنه فيها وعدمه.
وحاصله ، أنّ
الشّك في كون ذلك مصداق ما علم كونه موضوعا له ، لا في كون ذلك موضوعا له أم لا.
مثل : أن نعلم أنّ للماء معنى حقيقيّا ونعلم أنّ الماء الصّافي الخارج من الينبوع
من أفراده ، ونعلم أنّ الوحل خارج منها ولكن نشكّ في ماء السّيل الغليظ أنّه هل
خرج عن هذه الحقيقية أم لا. وكذا الجلّاب المسلوب الطّعم والرّائحة هل دخل فيها أم لا ، فيختبر
بصحّة السّلب وعدمه ، وهذا ايضا لا يستلزم الدّور ، فافهم ذلك.
وهذان الوجهان
ممّا لم يسبقني إليهما أحد فيما أعلم والحمد لله.
الرابع : الاطّراد وعدم الاطّراد ، فالأوّل علامة للحقيقة ، والثاني للمجاز.
__________________
فنقول : هيئة
الفاعل حقيقة لذات ثبت له المبدا ، فالعالم يصدق على كلّ ذات ثبت له العلم ، وكذا
الجاهل والفاسق.
وكذلك (اسأل)
موضوع لطلب شيء عمّن شأنه ذلك.
فيقال : اسأل زيدا
أو اسأل عمروا الى غير ذلك ، بخلاف مثل : اسأل الدّار ، فنسبة السّؤال مجازا الى
شيء وإرادة أهلها غير مطّرد ، فلا يقال : اسأل البساط واسأل الجدار.
وبيان ذلك يحتاج
الى تمهيد مقدمة وهي :
إنّ الحقائق وضعها شخصيّ ، والمجازات
نوعيّ.
والمراد بالأوّل :
أنّ الواضع عيّن اللّفظ الخاصّ المعيّن بإزاء معنى خاصّ معيّن ، سواء كان المعنى
عامّا أو خاصّا ، وسواء كان وضع اللّفظ باعتبار المادّة أو الهيئة.
أمّا ما وضع باعتبار
المادّة ؛ فيقتصر فيه على السّماع ، بخلاف ما وضع باعتبار الهيئة ؛ فيقاس عليه ،
كأنواع المشتقّات إلّا ما خرج بالدّليل كالرّحمن والفاضل والسّخي والمتجوّز ونحوها
للمنع الشرعي ، وإنّ أسماء الله توقيفيّة.
والمراد بالثاني :
أنّ الواضع جوّز استعمال اللّفظ فيما يناسب معناه الحقيقي بأحد من العلائق
المعهودة ، فالمجازات كلّها قياسي لعدم مدخليّة خصوص المادّة
__________________
والهيئة فيها ، بل
المعتبر فيها هو معرفة نوع العلاقة بينها وبين المعاني الحقيقية.
وبعبارة اخرى : لا
يحتاج المجاز الى نقل خصوصيّاته من العرب ، بل يكفي أن يحصل العلم أو الظنّ برخصة
ملاحظة نوع العلاقة في الاستعمال فيها من استقراء كلام العرب ، فيقاس عليه كلّ ما
ورد من المجازات الحادثة وغيرها ، ولا يتوقّف على النقل ، وإلّا لتوقّف أهل
اللّسان في محاوراتهم على ثبوت النقل ، ولما احتاج المتجوّز الى النظر الى العلاقة
، بل كان يكتفي بالنّقل ، ولما ثبت التجوّز في المعاني الشرعيّة المحدثة مع عدم معرفة
أهل اللّغة بتلك المعاني ، وبطلان اللّوازم بيّن .
وذهب جماعة الى اشتراط نقل آحادها لوجهين :
__________________
أحدهما : أنّه لو
لم يكن كذلك للزم كون القرآن غير عربيّ ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً
عَرَبِيًّا).
توضيحه : أنّ ما
لم ينقل من العرب فهو ليس بعربيّ ، والقرآن مشتمل على المجازات فلو لم يكن
المجازات منقولة عنهم يلزم ما ذكر.
وفيه : أوّلا :
النقض بالصّلاة والصوم وغيرهما على مذهب غير القاضي .
وثانيا : أنّ ما
ذكر يستلزم كون مجازات القرآن منقولا عن العرب لا جميع المجازات.
وثالثا : لا نسلّم
انحصار العربي فيما نقل بشخصه عن العرب ، بل يكفي نقل النوع.
ورابعا : لا نسلّم
كون القرآن بسبب اشتماله على غير العربيّ ، غير عربي ، لأنّ المراد كونه عربيّ
الاسلوب ، مع أنّه منقوض باشتماله على الروميّ والهندي
__________________
والمعرّب كالقسطاس
والمشكوة والسّجّيل .
وخامسا : لا نسلّم
بطلان كونه غير عربيّ ، فإنّه مسلّم لو أريد بضمير (أَنْزَلْناهُ) مجموع القرآن ، لم لا يكون المراد البعض المعهود كالسّورة
التي هذه الآية فيها ، بتأويل المنزل والمذكور ، لأنّ القرآن مشترك معنوي بين
الكلّ والبعض فيطلق على كلّ واحد من أجزائها.
وثانيهما : أنّه
إن كان نقل نوع العلاقة كافيا ، لجاز استعمال النّخلة في الحائط والجبل الطويلين
للشباهة ، والشبكة للصيد ، وبالعكس للمجاورة ، والابن للأب ، وبالعكس للسببية
والمسبّبية وهكذا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
وقد أجيب عن ذلك : بأنّ ذلك من جهة المانع لا عدم المقتضي ، وإن لم
يعلم المانع بالخصوص.
أقول : الصواب في
الجواب أن يقال : إنّ المقتضي غير معلوم ، فإنّ الأصل عدم جواز الاستعمال لكون
اللّغات توقيفية إلّا ما ثبت الرّخصة.
فنقول : إنّ
المجاز على ما حقّقوه هو ما ينتقل فيه عن الملزوم الى اللّازم ، فلا بدّ فيه من
علاقة واضحة توجب الانتقال ، ولذلك اعتبروا في الاستعارة أن يكون
__________________
وجه الشّبه من
أشهر [أظهر] خواصّ المشبّه به ، حتى إذا حصل القرينة على عدم إرادته انتقل الى
لازمه ، كالشجاعة في الأسد ، فلا يجوز استعارة الأسد لرجل باعتبار الجسميّة أو
الحركة ونحوهما. وكذلك الحال في المشبّه فلا بدّ أن يكون ذلك المعنى أيضا فيه
ظاهرا ، ولذلك ذهب بعضهم الى كون الاستعارة حقيقة. فإنّ التجوّز في أمر عقلي ، وهو
أن يجعل الرّجل الشجاع من أفراد الأسد ، بأن يجعل للأسد فردان حقيقي وادّعائي ،
فالأسد حينئذ قد اطلق على المعنى الحقيقي بعد ذلك التصرّف العقلي ، وهذا المعنى
مفقود بين النخلة والحائط والجبل ، فإنّ المجوّز لاستعارة النخلة للرّجل الطّويل
هو المشابهة الخاصّة من حصول الطّول مع تقاربهما في القطر ، وهو غير موجود في
الجبل والحائط.
وهكذا ملاحظة
المجاورة ، فإنّ المجاورة لا بدّ أن يكون بالنسبة الى المعنيين معهودا ملحوظا في
الأنظار كالماء والنّهر والميزاب ، لا كالشّبكة والصّيد ، فإنّ المجاورة فيهما
اتفاقية ، بل المستفاد من المجاورة المعتبرة هو المؤانسة ،
والتنافر بين الشبكة والصّيد واضح.
وأمّا الأب والابن
، فعلاقة السّببية والمسبّبية فيهما أيضا خفية عرفا ، وليس أظهر خواصّ الابن والأب
حين ملاحظتهما معا السببيّة والمسبّبيّة.
__________________
نعم التربية
والرّئاسة والمرءوسيّة من الخواصّ الظاهرة فيهما ، مع أنّ التقابل الحاصل من جهة
التضايف يوجب قطع النظر عن سائر المناسبات.
وبالجملة ، لمّا
كان الغرض من المجاز الانتقال من الملزوم الى اللّازم ، فلم يظهر من العرب إلّا
تجويز العلاقة الظّاهرة.
ألا ترى أنّ
استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ليس بمحض علاقة الجزئية والكليّة ، بل لوحظ
فيه كمال المناسبة بين الجزء والكلّ ، بأن يكون ممّا ينتفي بانتفاء الجزء كالرّقبة
للإنسان والعين للرّبيئة باعتبار وصف كونه ربيئة.
وبالجملة ،
الرّخصة الحاصلة في النّوع يراد بها الحاصلة في جملة هذا النوع ، وإن كان في صنف
من أصنافها أو في أفرادها الشائعة الظاهرة. وهكذا فالاستقراء في كلام العرب لم
يحصل منه الرّخصة في مثل هذه الأفراد من الشّباهة والسببيّة والمجاورة ونحوها ،
إلّا أنّه حصل الرّخصة في نوعها بعمومه وخرج المذكورات بالدّليل ، فلاحظ وتأمّل.
إذا تقرّر ذلك
فنقول : قد أورد على كون الاطّراد دليل الحقيقة ، النّقض بمثل : (أسد) للشجاع ،
فإنّه مطّرد ومجاز ، فيتخلّف الدّليل عن المدلول ، وعلى كون عدم الاطّراد دليل
المجاز النقض بمثل : الفاضل والسّخي فإنّهما موضوعان لذات ثبت له الفضيلة والسّخاء
، ولا يطلق عليه تعالى مع وجودهما فيه ، والقارورة فإنّها موضوعة لما يستقرّ فيه
الشيء ، ولا يطلق على غير الزّجاجة.
__________________
وأجيب عن الثاني مضافا الى ما ذكرنا : بأنّ (الفاضل) موضوع لمن
من شأنه الجهل ، و (السّخي) [والسخاء] موضوع لمن من شأنه البخل فلا يشمله
تعالى بالوضع ، و (القارورة) للزجاج لا كلّ ما يستقرّ فيه الشيء.
أقول : والقارورة
منقولة وقد ترك المعنى الأوّل وإلّا لجاز الاطّراد.
والتحقيق أن يقال : إن أريد بكون عدم الاطّراد دليل المجاز ، أنّه
يقتصر فيه بما حصل فيه الرّخصة من نوع العلاقة ولو في صنف من أصنافه ، فلا ريب أنّ
المجاز حينئذ ينحصر فيما حصل فيه الرّخصة وهو مطّرد.
وإن أريد أنّه بعد
حصول الرّخصة في النوع غير مطّرد ، فقد عرفت أنّه ليس كذلك.
فنقول : إنّ عدم جواز : اسأل الجدار مثلا إنّما هو لعدم مناسبة
الأهل للجدار المناسبة الظاهرة المعتبرة في المجاز. وكذلك : اسأل الشّجر و : اسأل
الإبريق ، ونحو ذلك ، فذلك لعدم انفهام الرّخصة فيه ، لا لوجود المانع كما نقلنا
عن بعضهم ، ألا ترى أنّه يجوز أن يقال : اسأل الدّار ، و : اسأل البلدة ، و : اسأل
الرّستاق و : اسأل المزرعة
، و : اسأل البستان ، وغير ذلك.
__________________
ومثله اطّراد
الأسد لذات ثبت له الشجاعة وإن كان من سائر أفراد الحيوان غير الانسان.
وبالجملة ، المجاز
أيضا بالنسبة الى ما ثبت نوع العلاقة فيه مطّرد ولو كان في صنف من أصناف ذلك
النوع.
قانون
إذا تميّز المعنى الحقيقي من المجازي ؛
فكلّما استعمل اللّفظ خاليا عن القرينة فالأصل الحقيقة ، أعني به الظاهر ، لأنّ مبنى التّفهيم والتّفهم على الوضع
اللّفظي غالبا ، ولا خلاف لهم في ذلك.
قانون وأمّا إذا استعمل لفظ في معنى أو
معان لم يعلم وضعه له ، فهل يحكم بكونه
حقيقة فيه أو مجازا ، أو حقيقة إذا كان واحدا دون المتعدّد ، أو التوقّف لأنّ
الاستعمال أعم؟
المشهور الأخير ،
وهو المختار لعدم دلالة الاستعمال على الحقيقة ، والسيّد المرتضى على الأوّل لظهور
الاستعمال فيه ، وهو ممنوع.
والثاني : منقول
عن ابن جنّي ، وجنح إليه بعض المتأخّرين ، لأنّ أغلب لغة العرب مجازات ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب وهو أيضا ممنوع ، ولو
سلّم فمقاومته للظنّ الحاصل من الوضع ممنوع.
__________________
والثالث : مبنيّ على أنّ المجاز مستلزم للحقيقة ، فمع الاتّحاد لا
يمكن القول بمجازيّته ، وأمّا مع التعدّد ؛ فلمّا كان المجاز خيرا من الاشتراك
فيؤثر عليه ويترتّب على ذلك لزوم استعمال أمارات الحقيقة والمجاز في
التمييز ، وحيث لم يتميز ؛ فالوقف.
وردّ : بمنع
استلزام المجاز للحقيقة ، بل إنّما هو مستلزم للوضع ك : (الرّحمن) ، والحقيقة
مستلزم للاستعمال ، وأنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.
ثمّ اعلم : أنّ
عدم العلم بالوضع مع العلم بالمستعمل فيه ، يتصوّر على وجهين :
الأوّل : أن يعلم
لفظ استعمل في معنى واحد أو في معان متعدّدة ، ولم يعلم أنّه موضوع لذلك المعنى أو
المعاني أم لا ، فيحتمل عندنا أن يكون المستعمل فيه نفس الموضوع له ، ويحتمل أن
يكون له معنى آخر وضع له ، ويكون هذا مجازا عنه فلا يعرف فيه الموضوع له أصلا ، لا
معيّنا ولا غير معيّن.
وعلى هذا يترتّب
القول بكون مبنى القول الثالث على كون المجاز مستلزما للحقيقة لا على الوجه الآتي ولكنّ ذلك الفرض مع وحدة المستعمل فيه فرض
__________________
نادر ، بل لم نقف
عليه أصلا.
والثاني : أن يعلم
الموضوع له الحقيقي في الجملة ، وهو يتصوّر أيضا على وجهين :
أحدهما : انّا
نعلم أنّ له معنى حقيقيّا ، ونعلم أنّه استعمل في معنى خاصّ أيضا ولا نعلم أنّه هل
هو أو غيره ، وذلك الجهالة إنّما هو بسبب جهالة نفس الموضوع له ، لا بسبب جهالة الوضع ، مثل إنّا نعلم أنّ ليلة القدر
موضوعة لليلة خاصّة ، واستعمل فيها أيضا مثل قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ) ولكن لا نعلمها بعينها ، فإذا أطلقها الشّارع على ليلة
النصف من شعبان مثلا ، أو ليلة الإحدى والعشرين من شهر رمضان مثلا ، فهل يحكم
بمجرّد ذلك الإطلاق أنّها هي الموضوع له اللّفظ ، أو يقال أنّ الاستعمال أعمّ من
الحقيقة إذ يمكن أن يكون إطلاقها عليها من باب الاستعارة ويكون نفس الموضوع له
اللّفظ شيئا آخر.
هذا إذا لم يكن من
باب التّنصيص أو الحمل الظاهر في بيان الموضوع له ، كما لو انحصر الاستعمال في
الواحد ، وقال بأنّ ليلة القدر هي هذه ، وذلك مثل أن يقول : اقرأ في ليلة القدر
هذه اللّيلة فلانا ، ولو تعدّد المستعمل فيه حينئذ فيتّضح عدم دلالة الاستعمال على
شيء ، ويلزم السيّد ومن قال بمقالته القول بتعدّد
__________________
الموضوع له لو
عمّموا المقال حينئذ ، وهو كما ترى.
والثاني : انّا نعلم
أنّ اللّفظ مستعمل في معنى أو أكثر ، ونعلم أنّ له معنى آخر حقيقيّا معيّنا في نفس
الأمر أيضا ، ولكن نشكّ في أنّ المستعمل فيه أيضا حقيقة أم لا ، وذلك يتصوّر على
وجهين :
أحدهما : أن نشكّ
في أنّه هل هو فرد من أفراد المعنى الحقيقي ، أو مجاز بالنسبة إليه.
وثانيهما : أن
نشكّ في أنّ اللّفظ هل وضع له أيضا بوضع على حدة فيكون مشتركا ، أم لا. مثل : إنّا
نعلم أنّ للصلاة معنى حقيقيّا في الشّرع قد استعمل فيه لفظها وهو المشروط بالتكبير
والقبلة والقيام ، فإذا استعملت في الأفراد المشروطة بالطهارة والرّكوع والسجود
منها أيضا ، نعلم جزما أنّها من معانيها الحقيقيّة ، وإذا أطلقت على صلاة الميّت ،
فهل هذا الإطلاق علامة الحقيقة ، بمعنى أنّ المعنى الحقيقي للصلاة هو المعنى
الأوّل العامّ لا المشروط بالطّهارة والرّكوع والسّجود أيضا ، أو أنّها موضوعة
بوضع على حدة لصلاة الميّت أيضا ، أو الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز؟
فالمشهور على
التوقّف ، لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، والسيّد يحملها على الحقيقة ، فإن ظهر عنده أنّها من
أفراد الحقيقة المعلومة ؛ فيلحقها بها ، وإلّا فيحكم بكونها حقيقة بالوضع المستقلّ
فيكون مشتركا لفظيّا ، وكذلك إذا رأينا
__________________
إطلاق الخمر على
الفقّاع .
ويظهر الثمرة في عدم إجراء حكم الحقيقة على المشكوك فيه على المشهور ،
وإجرائه على مذهب السيّد على الاحتمال الأوّل ، والتوقّف في أصل حكم الحقيقة حتّى
يظهر المراد منها بالقرائن على الثاني.
مثلا : إذا رأينا
أنّ الشارع حكم بوجوب نزح تمام ماء البئر للخمر ، الخالية عن قرينة المراد ، مع
علمنا بأنّ المسكر المأخوذ من العنب خمر حقيقة ، فيتردّد الأمر بين أن يكون المراد
أنّ الفقّاع مثل الخمر في الحرمة فيكون مجازا ، فلا يثبت به جميع أحكام الحقيقة
فيه ليتفرّع عليه نزح جميع ماء البئر ، وبين أن يكون المراد منه الخمر الواقعي ،
إمّا بمعنى أنّ الخمر اسم للقدر المشترك بينهما فيدخل الفقّاع في الخمر المطلق
المحكوم عليها بوجوب نزح الجميع ، أو بمعنى أنّ الخمر كما أنّه موضوع للمتّخذ من
العنب المسكر فكذلك موضوع للفقّاع أيضا ، فحينئذ يتوقّف حتّى يظهر من القرينة أنّ
أيّ المعنيين هو المراد في الخمر المطلق المحكوم عليها بوجوب نزح الجميع.
فظهر بما ذكرنا ،
أنّ المراد بالمعنى في قولنا : أمّا إذا استعمل لفظ في معنى أو معان ما ذا ، وأنّ
المراد بالمعاني ما ذا ، وأنّ الأوّل إنّما يتمّ بالنظر الى الوجه الأوّل إذا
اتّحد المستعمل فيه المعلوم .
__________________
وأمّا مثل كلمة
الرحمن فهو خارج عن المتنازع فيه ، إذ المجازيّة فيه مسلّمة.
إنّما النزاع في
أنّ له حقيقة أم لا ، وذلك لا ينافي القول بصيرورتها حقيقة عرفية فيه تعالى.
وممّا حقّقنا ،
ظهر لك أنّه لا منافاة بين قول مشهور بوجوب التوقّف ، لأنّ الاستعمال أعمّ من
الحقيقة في صورة تعدّد المستعمل فيه ، وقولهم بأنّ المجاز خير من الاشتراك.
أمّا في صورة
التردّد بين كون المستعمل فيه مجازا أو فردا من أفراد ما هو القدر المشترك بينهما
؛ فظاهر لعدم اشتراك لفظيّ هناك يرجّح للمجاز عليه ، وهو غالب موارد قولهم : إنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، يعنون بذلك أنّه لا يثبت حكم ما ، هو من أفراد الكلّي
حقيقة لهذا المشكوك فيه بمجرّد اطلاق الإسم عليه.
وأمّا في صورة
التردّد بين كون المستعمل فيه حقيقة أو مجازا ، كما لو سلّم كون صيغة افعل حقيقة
في الوجوب ، وشكّ في كونه حقيقة في الندب أيضا لأجل الاستعمال ؛ فمرادهم بقولهم :
إنّ الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة وأنّه أعمّ ، الردّ على السيّد ومن قال
بمقالته.
فإذا قطعنا النظر
عن غير الاستعمال ، فلا يوجب الاستعمال إلّا التوقّف ، لأنّه لا يمكن ترجيح
المجازيّة بدليل آخر ، فلذلك يقولون : بأنّ الصّيغة في الندب مجاز ولا يتوقّفون في
ذلك ، فتبصّر حتى لا يختلط عليك الأمر.
ولا بأس أن نشير
الى بعض الغفلات ، فمنها ما وقع عن صاحب «المدارك» قال في منزوحات البئر : واعلم
أنّ النصوص إنّما تضمّنت نزح الجميع في الخمر ، إلّا أنّ
__________________
معظم الأصحاب لم
يفرّقوا بينه وبين سائر المسكرات في هذا الحكم واحتجّوا عليه بإطلاق الخمر في كثير من
الأخبار على كلّ مسكر ، فيثبت له حكمه وفيه بحث ، فإنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة ،
والمجاز خير من الاشتراك .
ونظير ذلك ايضا
قال في ردّ من أوجب نزح الجميع للفقّاع مستدلّا بإطلاق الخمر عليه في الأخبار ،
وأنت خبير بعدم صحّة الجمع بين قوله : فإنّ الإطلاق أعمّ ، وقوله : والمجاز خير من
الاشتراك ، ويظهر وجهه بالتأمّل فيما حقّقناه.
وأمّا نظر جمهور
علمائنا رحمهالله في الاستدلال بتلك الأخبار ، فليس الى كون المسكرات خمرا
حقيقة أو الفقّاع خمرا كذلك ، بل وجه استدلالهم هو أنّ الاستعارة والتّشبيه المطلق
يقتضي اعتبار المشابهة في جميع الأحكام لوقوعه في كلام الحكيم ، أو الأحكام
الظاهرة الشّائعة ، ومنها حكم النجاسة ومقدار النزح ، فقد ذكروا في مثل ذلك وجوها
ثلاثة :
أحدها : الإجمال ،
لعدم تعيين وجه الشّبه.
والثاني : العموم
، لوقوعه في كلام الحكيم.
والثالث :
التّشريك في الأحكام الشّائعة ، وهو أظهر الاحتمالات. ومن هذا القبيل قولهم : «الطواف
في البيت صلاة» .
__________________
قانون
قد ذكرنا أنّ
الأصل في التفهيم والتفهّم هو الوضع ، وأيضا الأصل والظاهر يقتضيان من عدم إرادة
الزّائد على المعنى الواحد ، وعدم وضع اللّفظ لأكثر من معنى حتّى يكون مشتركا أو
منقولا ، وعدم إرادة معنى آخر من اللّفظ غير المعنى الأوّل بسبب علاقة حتّى يكون
مجازا ، فحيث علم وجود هذه المخالفات وإرادة هذه الأمور من اللّفظ بقرينة حاليّة أو مقاليّة ،
فهو وإن احتمل إرادة هذه الأمور ولم يكن قرينة عليها ، فلا ريب أنّه يجب الحمل على
الموضوع له الأوّلي كما تقدّم .
وأمّا لو كان
الاحتمال والتردّد [الترديد] بين هذه الامور المخالفة لأصل الموضوع له المتجدّدة الطارئة له ، الحاصلة بسبب دواع
خارجيّة ، فيتصوّر هناك صور عديدة يعبّر عنها الاصوليّون ب «تعارض الأحوال» يحصل
من دوران اللّفظ
__________________
بين بعض من
الاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار والمجاز ، وبعض آخر .
__________________

والتّخصيص
والإضمار وإن كانا قسمين من المجاز ، لكنّه لمّا كان لهما مزيد اختصاص وامتياز
افردوهما من أقسام المجاز وجعلوهما قسيما له ، وذكروا لكلّ واحد منها مرجّحا على
الآخر ، مثل.
أنّ المجاز أرجح
من الاشتراك لكثرته وأوسعيّته في العبارة ، وكونه أفيد ، لأنّه لا
توقّف فيه أبدا بخلاف المشترك. والاشتراك أرجح من المجاز من حيث أبعديّته عن الخطأ إذ مع عدم القرينة يتوقّف ،
بخلاف المجاز ، فيحمل على الحقيقة ، وقد يكون غير مراد في نفس الأمر ، وأنّ المجاز
يصحّ من كلّ من المعنيين فيكثر الفائدة ، بخلاف المجاز من النقل ، لأنّ النقل
يقتضي الوضع في المعنيين على التعاقب ونسخ الوضع الأوّل بخلاف الاشتراك ، والنسخ
يقتضي بطلان المنسوخ ، والاشتراك ، يقتضي التوقّف فيكون أولى ، وأنّ الاشتراك أكثر
من النقل.
والإضمار أرجح من
الاشتراك لاختصاص الإجمال الحاصل بسبب الإضمار ببعض الصّور ، وذلك حيث لا يتعيّن
المضمر ، وتعميمه في المشترك ، وأنّ الإضمار أوجز وهو من محاسن الكلام.
__________________
والتخصيص أرجح من
الاشتراك لأنّه خير من المجاز ، وهو خير من الاشتراك.
والمجاز أرجح من
النقل لاحتياج النقل الى اتّفاق أهل اللّسان على تغيير الوضع ، والمجاز يفتقر الى
قرينة صارفة هي متيسّرة ، والأوّل متعسّر ، والمجاز فوائده أكثر من النقل ، ويظهر
من ذلك ترجيح الإضمار عليه أيضا.
والتخصيص أرجح من
النقل لأنّه أرجح من المجاز وهو أرجح من النقل.
والتّخصيص أرجح من
المجاز لحصول المراد وغيره مع عدم الوقوف على قرينة التّخصيص ، والمجاز إذا لم
تعرف قرينة يحمل على الحقيقة وهي غير مرادة.
والتّخصيص أرجح من
الإضمار لكونه أرجح من المجاز المساوي للإضمار.
الى غير ذلك من
الوجوه التي ذكروها ، وفي كثير منها نظر إذ أكثرها معارض بمثلها ، والبسط في
تحقيقها وتصحيحها لا يسعه هذا المختصر.
وحاصل غرض
المستدلّ في الترجيح بهذه الوجوه إبداء كون صاحب المزيّة الكاملة أولى بالإرادة
للمتكلّم ، فلا بدّ من حمل كلامه على ما هو أكمل وأحسن وأتمّ فائدة ، فلا يختار
المتكلّم ما هو أخسّ وأنقص وأقل فائدة إلّا في حال الضّرورة ، وحال الضّرورة نادرة
بالنسبة الى غيرها ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.
وفيه : انّا نمنع
أنّ غالب المتكلّمين في غالب كلماتهم يعتبرون ذلك.
فإن قيل : الحكماء
منهم يعتبرون ذلك ، وما يجدي للاصوليّ هو ملاحظة كلام الشارع ، وهو حكيم.
__________________
فيقال : إنّ الحكمة
لا تقتضي ذكر الأتمّ والأحسن غالبا ، بل ربّما يقتضي ذكر الأنقص.
نعم ، إذا كان
المراد إظهار البلاغة للإعجاز ونحوه ، فيعتبر ما له مزيد دخل بموافقة مقتضى المقام
، والخلوص عن التعقيد اللّفظيّ والمعنويّ ، وما يرتبط بالمحسّنات اللّفظية
والمعنويّة ، ولكن مقتضى المقامات مختلفة ، وما هذا شأنه من كلامهم ليس له مزيد
دخل في بيان الأحكام الشرعيّة الذي هو محطّ نظر الأصوليّ ، ومع تسليم ذلك ، فنمنع
حجّية مثل هذا الظنّ .
والتحقيق أنّ
المجاز في نفس الأمر أغلب من غيره من المذكورات في أكثر كلام المتكلّمين ، ولا
يمكن إنكار هذه الغلبة ، وكذلك التخصيص أغلب أفراد المجاز في العامّ لا مطلقا.
وأمّا حصول الغلبة
في غيرها ، فغير معلوم ، بل وندرتها معلومة ، وعلى هذا يقدّم المجاز على الاشتراك
والنقل ، بل ولا يبعد ترجيحه على الإضمار أيضا ، ويقدّم التخصيص على غيره من أقسام
المجاز وغيرها لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.
__________________
وأمّا حجّية مثل
هذا الظنّ ، فيدلّ عليه ما يدلّ على حجيّة أصالة الحقيقة مع احتمال إرادة المجاز ،
وخفاء القرينة ، فكما أنّ الوضع من الواضع ، فهذه الامور المخالفة له الطارئة عليه
أيضا من جانب الواضع ، ولذا يقال : إنّ المعنى المجازيّ وضع ثانويّ ، فكما يكتفى
في المعنى المجازي بالقرائن المعهودة المعدودة ، فكذا يكتفى في معرفة أنّ ذلك
اللّفظ مجاز لا مشترك ولا منقول ، بقرينة الغلبة ، سيّما والأصل عدم الوضع الجديد
، وعدم تعدّده ، وعدم الإضمار ، وغير ذلك ، ولم نقف على من منع اعتبار مثل هذا
الظنّ من الفقهاء.
وبالجملة ، فلا
مناص عن العمل بالظنّ في دلالة الألفاظ ، خصوصا على قول من يجعل الأصل جواز العمل
بالظنّ إلّا ما خرج بالدّليل ، مع أنّه يظهر من تتبّع تضاعيف الأحكام الشرعيّة
والأحاديث ، اعتبار هذا الظنّ ، فلاحظ وتأمّل. وإن شئت أرشدك الى موضع واحد منها ،
وهو ما دلّ على حلّيّة ما يباع في أسواق المسلمين وإن أخذ من يد رجل مجهول الإسلام
، فروى إسحاق بن عمّار في الموثّق عن العبد الصالح أنّه قال : «لا بأس بالصلاة في فرو اليماني وفيما صنع
__________________
في أرض الإسلام».
قلت : فإن كان
فيهما غير أهل الإسلام؟ قال : «إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس» . ويدلّ على ذلك العرف أيضا ، فلاحظ.
__________________
قانون :
كلّ لفظ ورد في
كلام الشّارع ، فلا بدّ أن يحمل على ما علم إرادته منه ، ولو كان معنى مجازيا. وإن
لم يعلم المراد منه ، فلا بدّ من أن يحمل على حقيقة اصطلاحه سواء ثبت له اصطلاح
خاصّ فيه أو لم يثبت ، بل كان هو اصطلاح أهل زمانه.
وإن لم يعلم ذلك
أيضا ، فيحمل على اللّغوي والعرفي إن وجد أحدهما بضميمة أصالة عدم النقل ، فإذا
وجد واحد منهما واتّحد ، فهو ، وإن تعدّد ، فيتحرّى في تحصيل الحقيقة باستعمال أماراتها
أو القرينة المعيّنة للمراد ، ثمّ يعمل على مقتضاه من الترجيح أو التوقّف.
وإن وجد كلاهما ، فإن كان المعنى العرفي هو عرف المتشرّعة ، فهو محلّ
__________________
النزاع في ثبوت
الحقيقة الشرعيّة ، وإلّا فالمشهور تقديم العرف العامّ لإفادة الاستقراء ذلك.
وقيل : يقدّم
اللّغة لأصالة عدم النقل ، والأوّل أظهر.
وأمّا ثبوت الحقيقة
الشرعيّة ، ففيه خلاف ، والمشهور بينهم أنّ النزاع في الثبوت مطلقا والنّفي مطلقا.
والحقّ كما يظهر
من بعض المتأخّرين التفصيل .
وتحرير محلّ
النزاع هو أنّ كثيرا من الألفاظ المتداولة على لسان المتشرّعة ـ أعني بهم من
يتشرّع بشرعنا فقيها كان أو عاميّا ـ صارت حقائق في المعاني الجديدة التي استحدثها
الشارع ولم يكن يعرفها أهل اللّغة ، مثل الصلاة في الأركان المخصوصة ، والصوم في
الإمساك المخصوص ، الى غير ذلك ، فهل ذلك بوضع الشارع إيّاها في إزاء هذه المعاني
بأن نقلها من المعاني اللّغوية ووضعها لهذه المعاني الجديدة ، أو استعملها مجازا
في هذه المعاني مع القرينة وكثر استعمالها فيها الى أن استغنى عن القرينة فصارت
حقائق ، أو لم يحصل الوضع الثانوي في كلامه بأحد من الوجهين وكان استعماله فيها
بالقرينة؟
__________________
ويظهر ثمرة النزاع
إذا وجدت في كلامه بلا قرينة.
فإن قلنا بثبوت
الحقيقة ، فلا بدّ من حملها على هذه المعاني وإلّا فعلى اللّغوي.
وقد طال التّشاجر
بينهم في الاستدلال ، ولكلّ من الطرفين حجج واهية . وأقوى أدلّة النافين أصالة عدم النقل.
وأقوى أدلّة
المثبتين : الاستقراء ، فيدور الحكم مدار الاستقراء.
وقد يستدلّ
بالتبادر ، بأنّا إذا سمعنا هذه الألفاظ في كلام الشارع ، يتبادر في
أذهاننا تلك المعاني ، وهو علامة الحقيقة. وهذا الاستدلال من الغرابة بحيث لا
يحتاج الى البيان ، إذ من الظاهر أنّ المعتبر من التبادر هو تبادر المعنى من
اللّفظ عند المتحاورين بذلك اللّفظ ، فإذا سمع النحويّ لفظ الفعل من اللّغوي
وتبادر الى ذهنه ما دلّ على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، لا يلزم
منه كونه حقيقة فيه عند اللّغوي أيضا.
وربّما زاد بعضهم
مصادرة وقال : الظاهر أنّ ذلك التبادر استعمال الشارع لا
__________________
لأجل إلف المتشرّعة بهذا المعنى.
ثمّ أغرب وقال :
إنّ التبادر معلوم ، وكونه لأجل أمر غير الوضع ، غير معلوم ، يعني وضع الشارع ،
وهو مقلوب عليه بأنّ التبادر معلوم وكونه من أجل وضع الشارع غير معلوم ، وعلى
المستدلّ الإثبات ولا يكفيه الاحتمال.
وكيف كان ، فالحقّ
ثبوت الحقيقة الشرعية في الجملة ، وأمّا في جميع الألفاظ والأزمان ، فلا.
والذي يظهر من
استقراء كلمات الشارع ، أنّ مثل الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والركوع والسجود
ونحو ذلك ، قد صارت حقائق في صدر الإسلام ، بل ربّما يقال أنّها كانت حقائق في هذه
المعاني قبل شرعنا أيضا ، لكن حصل اختلاف في الكيفية ،
__________________
وحصولها فيها وفي
غيرها من الألفاظ الكثيرة الدّوران في زمان الصّادقين عليهماالسلام ومن بعدهما ؛ ممّا لا ينبغي التأمّل فيه كما صرّح به جماعة
من المحقّقين .
وأمّا مثل لفظ
الوجوب والسنّة والكراهة ونحو ذلك ، فثبوت الحقيقة فيها في كلامهما عليهماالسلام ومن بعدهما أيضا محلّ تأمّل ، فلا بدّ للفقيه من التتبّع
والتحرّي ، ولا يقتصر ولا يقلّد.
ثمّ إنّ ما ذكرناه
من الوجهين في كيفية صيرورتها حقيقة ، فالأوّل منهما في غاية البعد ، بل الظاهر هو
الوجه الثاني .
وعليه فلا تحصل
الثّمرة إلّا فيما علم أنّه صدر بعد الاشتهار في هذه المعاني الى أن استغنى عن
القرينة ، فإن علم أنّه كان بعده ، فيحمل على الحقيقة ، وإلّا فيمكن صدوره قبله ،
وحينئذ فيمكن إرادة المعاني الجديدة واختفى [واختفت] القرينة.
ويمكن إرادة
المعنى اللّغويّ ، والأصل عدمها ؛ فيحمل على اللّغويّ وهذا أقرب ،
__________________
فليرجع الى
التفصيل الذي ذكرنا وليتأمّل وليتتبّع لئلّا يختلط الأمر ، والله الهادي.
ثمّ اعلم أنّه قد
نسب الى بعض المنكرين للحقيقة الشرعيّة ، القول بأنّ الشارع لم يستعمل تلك
الألفاظ في المعاني المخترعة ، بل يقول : إنّه استعملها في المعاني اللّغوية ،
والزّوائد شروط لصحّة العبادة. فالصلاة مثلا مستعملة في الدّعاء وكونه مقترنا
بالرّكعات شرط لصحّة الدّعاء ، والشرط خارج عن المشروط.
وكذلك الغسل هو
غسل مشروط بزوائد ، وهكذا ، فلا نقل عنده ولا حقيقة جديدة.
وردّ : بأنّه
يلزمه أن لا يكون المصلّي مصلّيا إذا لم يكن داعيا فيها كالأخرس ، أو لم يكن
متّبعا كالمنفرد وهو باطل.
ويلزم هذا القائل نفي التركيب والماهيّات المخترعة عند الشارع.
__________________
ويظهر الثمرة في
إمكان جريان أصل العدم في إثبات الأجزاء والشرائط وعدمه.
وبيان ذلك أنّه لا
خلاف ولا ريب في كون الأحكام الشرعية توقيفيّة لا بدّ أن يتلقّى من الشارع.
وأمّا موضوعات
الأحكام ، فإن كان من قبيل المعاملات فيرجع فيها الى العرف واللّغة وأهل الخبرة
كالبيع والأرش ونحوهما. وكذلك كلّ لفظ يستعمل في كلام الشارع لإفادة الحكم أو
لإفادة بيان ماهيّة العبادة ، كالغسل بفتح الغين والمسح ونحوهما. وإن كان من قبيل
العبادات كالصلاة والغسل ونحوهما فهو أيضا كنفس الأحكام ، فإنّها حقائق محدثة من
الشارع لا يعلمها إلّا هو.
وأمّا هذا القائل
فيرجع فيها أيضا الى اللّغة والعرف ، كالمعاملات ، لأنّه لم يقل بكونها
منقولات ، غاية الأمر أن يقارنها بما يثبت عنده من الشرائط.
فإن قلنا بجعل
الماهيّات الجديدة من جانب الشارع وإحداثها ، فيصير العبادات من باب مركّب ذي
أجزاء ينتفي بانتفاء أحد أجزائه ، فلا بدّ في حصول الامتثال به من حصول العلم
بجميع أجزائه وشرائطه ، فإذا شكّ في كون شيء جزء له أو شرطا له ، فلا يمكن القول
بأنّ الأصل عدم المدخليّة ، للزوم العلم بالإتيان بالماهيّة المعيّنة ، ولا يكفي
في ذلك عدم العلم بعدم الإتيان.
وامّا على القول
بعدم تركيب جديد ، فالمكلّف به هو المعنى اللّغوي ولا تأمّل
__________________
فيه ، والباقي
أمور خارجة عنه يمكن نفي ما شكّ في ثبوته من الشرائط الخارجة بأصل العدم
كالمعاملات.
وأمّا بناء دفع
كلام هذا القائل بالبناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه ، بأن
يقال بطلان قوله على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح ، فإنّ الصلاة اسم لهذا المركّب
، وكذا الغسل والوضوء ، فكيف يحملها على الدعاء ، والغسل بفتح الغين؟
وعلى القول بعدمها
، فبعد وجود القرينة الصّارفة عن اللّغويّ لا بدّ أن يحمل على الشّرعيّ لكونه أشهر
مجازاته وأشيعها ، فهو غريب لما عرفت من أنّه منكر للحقيقة الشرعيّة ، بل منكر
للماهيّات المحدثة.
ثمّ بعد القول
ببطلان مذهب هذا النافي والبناء على المشهور من كون تلك العبادات ماهيّات محدثة ،
فهل يجوز إجراء أصل العدم فيها ، بمعنى إنّا إذا شككنا في كون شيء جزء لها أو شرطا
لصحّتها فهل يمكن نفيه بأصالة العدم ، أو لا بدّ من الإتيان بما يوجب اليقين بحصول
الماهيّة في الخارج؟
فيه خلاف ، ولا
بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدّمة وهي :
إنّهم اختلفوا في
كون العبادات أسامي للصحيحة أو الأعمّ منها ، وهذا الخلاف أيضا لا يتوقّف على القول بثبوت الحقيقة
الشرعية فيها ، بل يكتفى فيه بثبوت الحقيقة المتشرّعة ، ومطلق استعمال الشّارع تلك
الألفاظ فيها.
فالنّزاع في
الحقيقة في أنّه متى أطلق لفظ دالّ على تلك الماهيّة المحدثة ، فهل
__________________
يراد الصحيحة منها
أو الأعم؟
والثمرة في هذا
النزاع تظهر فيما لم يعلم فساده ، فهل يحصل الامتثال بمجرّد عدم العلم بالفساد
لصدق الماهيّة عليها ، أو لا بدّ من العلم بالصحّة؟
فمع الشكّ في
مدخليّة شيء في تلك الماهيّة جزء كان أو شرطا ، فلا يحكم بمجرّد فقدان ذلك
بالبطلان على الثاني ، بخلاف الأوّل ، للشكّ في الصحّة.
وما يظهر من كلام
بعضهم من التفرقة بين الشكّ في الجزء والشرط ، وأنّ الأوّل مضرّ على القول الثاني
أيضا ، فلعلّه مبنيّ على أنّ المركّب لا يتمّ إلّا بتمام الأجزاء ، فكيف يقال يصدق
الاسم على الثاني مع الشكّ في جزئية شيء آخر له!
وفيه : أنّ مبنى
كلام القوم على العرف ، وانتفاء كلّ جزء لا يوجب انتفاء المركّب عرفا ، ولا يوجب
عدم صدق الاسم في التعارف ، ألا ترى أنّ الإنسان لا ينتفي بانتفاء أذن منه أو إصبع
عرفا بخلاف مثل رأسه ورقبته.
والحاصل ، أنّه لا
ريب في أنّ الماهيّات المحدثة أمور مخترعة من الشارع ، ولا شكّ أنّ ما أحدثه
الشارع متّصف بالصحّة لا غير ، بمعنى أنّه بحيث لو أتى به
__________________
على ما اخترعه
الشارع يكون موجبا للامتثال للأمر بالماهيّة من حيث هو أمر بالماهيّة.
لكنّهم اختلفوا
هذا الاختلاف بوجهين :
أحدهما : أن نقول
: إذا وضع الشارع أسماء لهذه المركّبات أو استعمل فيها بمناسبة ، فهو يريد تلك
الماهيّة على الوجه الصحيح بالمعنى المذكور من الحيثيّة المذكورة.
وهذا القدر متيقّن
الإرادة ، ولكنّه لمّا كان الماهيّة عبارة عن المركّب عن الأجزاء بأجمعها من دون
مدخليّة الشرائط ، والشرائط خارجة عنها ، ولا مانع من وضع اللّفظ بإزاء الماهيّة
مع قطع النظر عن كونها جامعة للشرائط ، ولا من وضعه بإزاء الماهيّة مع ملاحظة
اجتماعها لشرائط الصحّة ، فاختلفوا في أنّ الألفاظ هل هي موضوعة للماهيّة مع
اجتماع الشرائط أو الماهيّة المطلقة؟
فمراد من يقول :
إنّها أسام للصحيحة منها ، أنها أسام للماهيّة مجتمعة لشرائط الصحّة الزّائدة على
الصحة الحاصلة من جهة الماهيّة من حيث هي.
__________________
ومراد من يقول :
بأنّها أسام للأعمّ ، أنّها أسام لنفس الماهيّة الصحيحة من حيث هي القابلة
للصحّة الزّائدة على هذه الحيثيّة وعدمها.
والحاصل ، أنّ
الأوّل : يقول بأنّ الصلاة مثلا اسم للأركان المخصوصة حال كونها جامعة للشرائط ،
مثل الطهارة عن الحدث والخبث والقبلة ونحو ذلك ، انّها اسم للأركان المخصوصة والشرائط معا.
والثاني : يقول
بأنّها اسم للصلاة بدون اشتراط اجتماعها للشرائط ولا مع الشرائط ، فحينئذ تظهر
الثّمرة فيما لو حصل الشّكّ في شرطيّة شيء لصحّة الماهيّة.
فعلى القول بكونها
أسامي للصحيحة الجامعة لشرائط الصحّة ، فلا بدّ من العلم بحصول الموضوع له في
امتثال الأمر بها ، ولا يحصل إلّا مع العلم باجتماعه لشرائط الصحّة.
وأمّا على القول
الآخر ـ أعني وضعها لنفس الأجزاء المجتمعة مع قطع النظر عن الشرائط ـ فيحصل امتثال
الأمر الوارد بالعبادة بمجرّد الإتيان بها وبما علم من شرائطها.
وما يقال : إنّ
الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط ، معناه الشكّ في تحقّق الشرط المعلوم
الشرطيّة ، لا الشكّ في أنّ لهذا الشيء شرطا يتوقّف صحّته عليه أم لا.
__________________
والوجه الثاني :
أنّ مع قطع النظر عن الشرائط أيضا ، قد يحصل الإشكال بالنّظر الى ملاحظة الأجزاء ،
فإنّ النقص في أجزاء المركّب قد لا يوجب سلب اسم المركّب عنه عرفا ، كما ذكرنا في
الإنسان المقطوع الأذن أو الأصبع ، فالصلاة إذا كانت في الأصل موضوعة للماهيّة
التامّة الأجزاء ولكن لم يصحّ سلبها عنه بمجرّد النّقص في بعض الأجزاء ، فيتمّ
القول بكونها اسما للأعمّ من الصّحيحة ، فيرجع الكلام الى وضعها لما يقبل هذا
النقص الذي لا يوجب خروجها من الحقيقة عرفا ، وذلك لا يستلزم كون الناقصة مأمورا
بها ومطلوبة ، لأنّ مجرّد صدق الإسم عند الشارع لا يوجب كونها مطلوبة له.
ويظهر الثمرة
حينئذ فيما لو نذر أحد أن يعطي شيئا بمن رآه يصلّي ، فرأى من صلّى ونقص طمأنينته في
إحدى السّجدتين مثلا ، أو لم يقرأ السّورة في إحدى الركعتين ، فبرّ النذر بذلك لا
يستلزم كون تلك الصلاة مطلوبة للشارع ومأمورا بها ، فكونها مصداق الإسم معنى
وكونها مأمورا ومطلوبا يحصل به الامتثال معنى آخر ، إذ لا بدّ في الامتثال ـ مضافا
الى صدق الإسم ـ كونها صحيحة أيضا ، ويتفاوت الأحكام بالنسبة الى الأمرين .
ويظهر الثمرة فيما
لو أريد إثبات المطلوبيّة والصحّة حينئذ بمجرد صدق الإسم فيما لو شكّ في جزئيّة
شيء للصلاة ولم يعلم فسادها بدونه ، فعلى القول بكونها اسما للأعمّ يتمّ المقصود ،
وعلى القول بكونها اسما للصحيحة التامّة الأجزاء
__________________
الجامعة للشرائط ،
فلا ، لعدم معلوميّة تماميّة الأجزاء حينئذ وجامعيّته لشرائط الصحّة من الحيثيّة
التي قدّمنا ذكرها ، وغيرها من سائر شرائط الصحّة.
ثمّ إنّ الأظهر
عندي هو كونها أسامي للأعمّ بالمعنيين كما يظهر من تتبّع الأخبار ، ويدلّ عليه عدم صحّة السّلب عمّا لم يعلم فساده وصحّته ،
بل وأكثر ما علم فساده أيضا ، وتبادر القدر المشترك منها.
ويلزم على القول
بكونها أسامي للصحيحة لزوم القول بألف ماهيّة لصلاة الظهر مثلا ، فصلاة الظهر
للمسافر شيء وللحاضر شيء آخر ، وللحافظ شيء وللناسي شيء آخر ، وكذلك للشّاك
وللمتوهّم والصحيح والمريض والمحبوس والمضطرّ والغريق الى غير ذلك من أقسام
النّاسي في جزئيّات مسائل النسيان والشاكّ في جزئيّات مسائله ، وهكذا الى غير ذلك.
وأمّا على القول
بكونها أسامي للأعمّ فلا يلزم شيء من ذلك ، لأنّ هذه أحكام مختلفة ترد على ماهيّة واحدة
، مع أنّ الصلاة شيء والوضوء والغسل والوقت والسّاتر والقبلة وغيرها أشياء
أخر ، وكذلك اتّصاف الصلاة بالتلبّس بها.
__________________
فالظاهر أنّ لكلّ
شيء منها أسماء أخر ، ولا دخل في اشتراط شيء بشيء اعتباره في تسميته به . وممّا يؤيّد كونها أسامي للأعمّ ، اتّفاق الفقهاء على أنّ
أركان الصلاة هي ما تبطل الصلاة بزيادتها ونقصانها عمدا أو سهوا ، إذ لا يمكن زيادة الركوع مثلا عمدا إلّا عصيانا ، ولا
ريب في كونها منهيّا عنه ، ومع ذلك يعدّ ركوعا.
لا يقال : أنّ
مرادهم صورة الركوع ، لا الرّكوع الحقيقي وإن لم يكن صحيحا ، فإنّ من انحنى في
الصلاة بمقدار الركوع لأجل أخذ شيء من الأرض سيّما مع وضع اليد على الرّكبة بحيث
يحسب الناظر أنّه قد ركع ، فلا يوجب بطلان الصلاة من أجل زيادة الرّكن ، فالمراد
إطلاق الإسم في عرف المتشرّعة حقيقة ، وهو لا يتحقّق إلّا مع كون الركوع اسما
للأعمّ من الصّحيحة.
واحتجّوا : بالتبادر وصحّة السّلب عن العاري عن الشرائط. وكون الأصل
في مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» الاستعمال في نفي الحقيقة ، لأنّه المعنى الحقيقي ،
وفي الأوّلين منع.
ولعلّ المدّعي
لذلك إنّما غفل من جهة الأوامر ، فإنّ الأمر لا يتعلّق بالفاسد ، وهذا فاسد لعدم
انحصار محلّ النّزاع في الأوامر ، فالأمر قرينة لإرادة الصّحيحة ، وذلك لا يستلزم
وضعها لها.
وأمّا قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بطهور» . فيتوجّه المنع فيما ادّعوه في خصوص
__________________
هذا التركيب كما
لا يخفى على من لاحظ النظائر كقوله عليهالسلام : «لا عمل إلّا بنيّة» و «لا نكاح إلّا
بوليّ» ، و «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» ، وغير ذلك . فإنّ القدر المسلّم في أصالة الحقيقة إنّما هو في مثل :
لا رجل في الدّار.
وأمّا مثل هذه
الهيئات التركيبيّة التي نفس الذّات ، موجودة فيها في الجملة جزما ، وليس المراد
فيها إلّا نفي صفة من صفاتها ، فلا يمكن دعوى أصل الحقيقة فيها ، وفيما يشكّ كونه
من هذه الجملة مثل ما أقحم فيه خصوص الصلاة والصيام ونحوهما ممّا يحتمل فيه هذا
الاحتمال السّخيف وهو كونها أسامي للصحيحة ، بحيث يمكن عرفا نفي الذّات
بمجرّد انتفاء شرط من شروطها ، بل ومع الشّك في حصول شرط من شروطها فهو لا يخرج
هذه الهيئة عمّا هو ظاهر فيه في العرف ، ولذلك تداولها العلماء هذا التداول في
مبحث المجمل والمبيّن ، ولم يحتملوا إرادة نفي الحقيقة والذّات إلّا على تقدير هذا
القول الضعيف ، وذلك ليس لأنّ الأصل الحمل على الحقيقة ، بل الأصل هنا خلافه ، بل
لأنّ دعوى كون هذه الألفاظ أسامي للصحيحة صارت قرينة لحمل هذه العبارة على مقتضى
الحقيقة القديمة التي هي الموضوع له لكلمة لا.
__________________
فقالوا : بأنّ
حملها على نفي الذّات حينئذ ممكن ، فحينئذ نقول : حمل هذه العبارة على نفي الذّات
مع كونها ظاهرة في نفي صفة من صفاتها ، إنّما يمكن إذا ثبت كون الصلاة اسما
للصحيحة ، وإلّا فهي منساقة بسياق نظائرها ، سيّما مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد».
فإذا أردنا إثبات
كون الصلاة اسما للصحيحة بسبب مقتضى الحقيقة القديمة ، فذلك يوجب الدّور إلّا أن يكون مراد المستدلّ أنّ أصالة الحقيقة يقتضي ذلك ،
خرجنا عن مقتضاه في غيرها بالدليل وبقي الباقي.
فبهذا نقول : إنّ
مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بطهور» ، ممّا كان الفعل المنفي عبادة خارج عن سياق النظائر ، وبأنّ على مقتضى الأصل ، فلا ريب أنّ ذلك خلاف الإنصاف ،
فإنّ هذه في جنب الباقي ليست إلّا كشعرة سوداء في بقرة بيضاء ، ولذلك لم يتمسّك
أحد من العلماء الفحول في ذلك المبحث لإثبات نفي الإجمال بأصالة الحقيقة ،
وتمسّكوا بالقول بكونها موضوعة للصحيحة من العبادات ، والإنصاف أنّ كون هذه منساقة
بسياق النظائر من الأدلّة على كون العبادات أسامي للأعمّ ، فهو على ذلك أوّل ممّا أراده
المستدلّ.
__________________
وأيضا نقول بعد
التسليم : إنّ هذا إنّما يدلّ على أنّ الصلاة التي لا طهور لها ولا فاتحة فيها ،
ليست بصلاة ، ولا يدلّ على أنّ الصلاة اسم للصحيحة كما لا يخفى ، إذ لو حصل
الفاتحة والطهور للصلاة وشككنا أنّ السّورة أيضا واجبة مع الفاتحة أم لا. فهذا
الحديث لا ينفي كون الصلاة ، الخالية عنها صلاة ولا يدلّ على أنّ الصلاة اسم لكلّ
ما جامع جميع الشرائط.
ثمّ اعلم أنّ
الشهيد رحمهالله قال في «القواعد» : الماهيّات الجعليّة كالصلاة والصّوم
وسائر العقود ، لا تطلق على الفاسد إلّا الحجّ ، لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على
ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة وهو الدخول فيها ، فلو أفسدها بعد ذلك لم
يزل الحنث ويحتمل عدمه لأنّه لا يسمّى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. وأمّا لو
تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعا ، انتهى .
والظّاهر أنّ
مراده اكتفى بمسمّى الصحّة في الحنث ، يعني لو حلف على ترك الصلاة مثلا في مكان
مكروه يحصل الحنث بمجرّد الدخول.
وأقول : يظهر من
قوله رحمهالله : إلّا الحج لوجوب المضيّ فيه ، أنّ كلامهم في الأوامر
والمطلوبات الشرعيّة وأنّ مرادهم أنّ الفاسد لا يكون مطلوبا له إلّا في الحجّ ،
فإنّه يجب المضيّ في فاسده لا في مطلق التّسمية والاصطلاح ولو لأغراض أخر مثل
كونها علامة للإسلام وموجبا لجواز أكل الذبيحة بمجرّد ذلك حيث قلنا بذلك
__________________
ونحو ذلك ، وذلك
لأنّه رحمهالله إن كان أراد من الإطلاق أعمّ من الإطلاق الحقيقي ، فلا ريب
أنّ إطلاق الصلاة مثلا على الفاسدة واستعمالها فيها في كلام الشارع والمتشرّعة ،
فوق حدّ الاحصاء.
وإن أراد منه
الإطلاق الحقيقي ، فلا معنى لتخصيص الحقيقة بالحجّ والتفصيل إذ محض الأمر بالمضيّ
لا يوجب كون اللّفظ حقيقة فيه. فظهر أنّ مراده الإطلاق على سبيل الطلب والمطلوبية
، فإنّ التسمية في كلام الشارع ممّا لا يقابل بالإنكار.
ولنشر الى بعض ما
يفيد ذلك ، وهو ما رواه الكليني في الموثّق كالصّحيح لأبان بن عثمان ، عن الفضل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه
الصلاة والسلام قال :«بني الإسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية
، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه. يعني
الولاية» .
فإنّ الظاهر
الواضح أنّ المراد بالأربع هو الأربع من الخمس ، والتحقيق أنّ عبادة هؤلاء فاسدة كما دلّ عليه الأخبار وكلام الأصحاب ، فالأخذ
بالأربع على هذا الوجه لا يمكن إلّا مع جعلها أسامي للأعمّ وذلك لا ينافي كون
المطلوب في نفس الأمر هو الصحيح ، والاكتفاء في التسمية بالأعمّ كما نشير إليه من
أنّ
__________________
التّسمية عرفيّة ،
وإن كان المسمّى شرعيّا.
ومن جملة ما ذكرنا
قوله عليهالسلام : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» . فإنّ صيرورة الصّلاة صحيحة إنّما يكون بأن لا تكون في
أيّام الحيض والتسمية بالصلاة إنّما كانت قبل هذا النّهي ، وليس المعنى أنّ الصلاة
التي لا تكون في حال الحيض ، اتركيها في حال الحيض ، بل المعنى : اتركي الصلاة في
حال الحيض ، وإدّعاء أنّ التسمية وإثبات الشرط هنا قد حصلا بجعل واحد ، يكذّبه
الوجدان السليم ، لتقدّم التسمية وضعا وطبعا.
وما ذكر إنّما
يصحّ إذا قيل معناه أنّ الأركان المخصوصة التي هي جامعة الشرائط ولكونها في غير
هذه الأيام واسمها صلاة على القول بكونها اسما للصحيحة لا تفعليها في هذه الأيام ،
والمفروض أنّ كونها في غير هذه الأيّام إنّما استفيد من قوله : لا تفعليها [فيها]
في هذه الأيام.
وأمّا على القول
بكونها أسماء للأعمّ فلا يرد شيء من ذلك ، إذ يصحّ المنع عن الصلاة مع قطع النظر
عن كونها في هذه الأيام.
وممّا ذكرنا يظهر ما في قوله رحمهالله : لأنّه لا يسمّى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. ولعلّ
نظره ونظر من وافقه الى أنّ الظاهر من حال المسلم في نذر الفعل
__________________
أو الحلف عليه هو
قصد الفعل الصحيح ، فالحنث إنّما هو لأجل الصحّة ، وعدم الصحّة لا لأنّه ليس بصلاة
، فتعدّوا من عدم الصحّة الى نفي الذّات ، فلو نذر أحد أن يصلّي ركعتين في وقت
خاصّ ، فالقائلون بكونها اسما للأعمّ أيضا يقولون بأنّ الفاسدة لا تكفي ، وكذا لو
نذر أن يعطي مصلّيا شيئا ، فلا يبرّ نذره بإعطائه لمن علم فساد صلاته.
ويظهر الثمرة فيما
لو جهل حاله بالخصوص من جهة نفس الأمر لعدم المعرفة بحال المصلّي أو من جهة نفس
الحكم للاختلاف الحاصل من جهة الأدلّة في حقيقة العبادة ، ولا مرجّح عنده لاعتبار
الصحّة عنده أو عند المصلّي الذي يريد أن يعطيه مثلا.
وعلى هذا ، فلو
حلف أن لا يبيع الخمر ، فيحنث ببيعها وإن كان بيعها فاسدا كما ذهب إليه الأكثر لأجل تحقّق البيع.
ولا ينافي ذلك حمل
فعل المسلم على الصحّة كما كان ينافيه في المثال المتقدّم . والظاهر أنّ ذلك أيضا لكون البيع اسما للأعمّ ، وسنشير
الى جريان الخلاف في المعاملات أيضا.
وممّا يؤيّد كونها
أسامي للأعمّ ، أنّه لا إشكال عندهم في صحّة اليمين على ترك الصلاة في مكان مكروه
أو مباح مثلا وحصول الحنث بفعلها ، ويلزمهم على ذلك المحال ، لأنّه يلزم حينئذ من
ثبوت اليمين نفيها ، فإنّ ثبوتها يقتضي كون الصلاة منهيّا عنها ، والنّهي في
العبادة مستلزم للفساد ، وكونها فاسدة مستلزم لعدم تعلّق اليمين بها ، إذ هي إنّما
تتعلّق بالصحيحة على مفروضهم ، فيحكم بصحّتها ، وبعد
__________________
تعلّق اليمين لا
يتحقّق الحنث لعدم تحقّق الصلاة الصحيحة.
والقول بأنّ
المراد الصلاة الصحيحة لو لا اليمين ، لا يجعلها صحيحة في نفس الأمر حقيقة كما هو
مراد القائل.
ويجري هذا الكلام
في المعاملات أيضا إن قلنا بدلالة النّهي على الفساد فيها أيضا ، ومما يؤيّده أيضا
أنّه يلزم على القول بكونها أسامي للصحيحة أن يفتّش عن أحوال المصلّي إذا أراد أن
يعطيه شيئا لأجل النذر إذا لم يعلم مذهبه وصحّة صلاته في نفس الأمر ، فإنّ حمل فعل
المسلم على الصحّة لا يكفي هنا ، فإنّ غاية ذلك حمل فعل المسلم على الصّحيح عنده ،
والصحّة قد تختلف باختلاف الآراء ، فإذا رأى من نذر شيئا للمصلّي رجلا صالحا يصلّي
بجميع الأركان والأجزاء ، ولكن لا يدري أنّه هل صلّى بغسل غير الجنابة بلا وضوء أو
مع الوضوء ، وهو يرى بطلان الصلاة به ، وذلك الصالح قد يكون رأيه أو رأي مجتهده
الصحّة ، والمفروض أنّ المعتبر في وفاء الناذر على تكليفه ملاحظة الصحيح عنده
المطابق لنفس الأمر بظنّه ، وكذلك ملاحظة غيره من الاختلافات في الأجزاء وسائر
الشروط ، ولا ريب أنّ الصحيح من العبادة ليس شيئا واحدا حتى يبنى عليه في المجهول
الحال على حمل فعل المسلم على الصحّة ، ولم نقف الى الآن على من التزم هذه
التفحّصات والتّدقيقات ، ويعطون على من ظاهره الوفاء ، وليس ذلك إلّا لأجل كونها
أسامي للأعمّ ، ولعلّه لأجل ذلك لا يتفحّص المؤمنون في الأعصار والأمصار عن مذهب
الإمام في جزئيّات مسائل الصلاة ، مثل أنّه هل يعتقد وجوب السّورة أو ندبها أو
وجوب القنوت أو ندبه ، ويأتمّون به بعد ثبوت عدالته.
نعم ، إذا علم
المخالفة فلا يصحّ الاقتداء فيما يعتقده باطلا ، مثل ما لو ترك الإمام السّورة أو
نحو ذلك ، فما لم يعلم بطلانه ، يجوز الاقتداء به ، ويصحّ صلاته ،
لأنّه ائتمّ بمن
يحكم بصحّة صلاته شرعا ، والقدر الثابت من المنع هو ما علم بطلانه ، وإن كان صحيحا
عند الإمام ، فليس هذا إلّا من جهة كفاية مسمّى الصلاة ما لم يعلم المأموم بطلانها
على مذهبه ، لا انّه لا يصحّ الاقتداء حتّى يعلم أنّه صحيح على مذهبه.
بقي الكلام في
بيان بعض ما أشار اليه الشهيد رحمهالله وهو أمور :
الأوّل : أنّه
يستفاد منه أنّ الحقائق الشرعيّة كما تثبت في العبادات ، تثبت في المعاملات أيضا ،
وهو كذلك . وقد يظهر من بعضهم اختصاص ذلك بالعبادات ، وهو ضعيف ، وعلى هذا
فيمكن عطف قوله رحمهالله : وسائر العقود ، على تالييه إلّا الماهيّات الجعليّة أيضا
.
الثاني : أنّ
الخلاف في كون الألفاظ أسامي للصحيحة أو الأعمّ ، لا يختصّ بمثل الصلاة والصوم ،
بل يجري في سائر العقود أيضا ، وهو أيضا كذلك.
__________________
قال المحقّق رحمهالله في «الشرائع» في كتاب الأيمان : إطلاق العقد ينصرف الى العقد الصحيح دون
الفاسد ، ولا يبرّ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ ، وكذا غيره من العقود.
وقال الشهيد
الثاني رحمهالله في «شرحه» : عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في
الفاسد ، لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما ، كمبادرة المعنى الى ذهن السّامع عند
إطلاق قولهم : باع فلان داره وغيره ، ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه حتى لو ادّعى
إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا ، وعدم صحّة السّلب وغير ذلك من خواصّه ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه الى الصّحيح والفاسد
أعمّ من الحقيقة.
أقول : ويمكن حمل
كلام المحقّق على ما ذكرنا من أنّ الظاهر والغالب في المسلمين إرادة الصحيح ،
فينصرف إليه ، لا لأنّ اللّفظ حقيقة فيه فقط ، فلا ينصرف الى غيره لكونه مجازا.
وأمّا ما ذكره
الشّارح من دعوى التبادر ، فإن أراد به ما ذكرنا فلا ينفعه ، وإن أراد كونه المعنى
الحقيقي ، ففيه المنع المتقدّم ، وعدم سماع دعوى الفساد في صورة الإقرار أيضا لما
ذكرنا كنظائره.
__________________
وأمّا تمسّكه بعدم
صحّة السّلب ، فلم أتحقّق معناه ، لأنّا لا ننكر كونه حقيقة ، إنّما الكلام في
الاختصاص وهو لا يثبته.
وأمّا قوله رحمهالله : وانقسامه الى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة ، فإن أراد
أنّ التقسيم ليس بحقيقة في تقسيم المعنى فيما أطلق المقسّم ، بل أعمّ من تقسيم
اللّفظ والمعنى.
ففيه : أنّ
المتبادر من التقسيم هو تقسيم المفهوم والمعنى ، لا ما يطلق عليه اللّفظ ولو كان
مجازا ، وإن أراد أنّ الدّليل لمّا دلّ على كون الفاسد معنى مجازيّا فلا بدّ أن
يراد من المقسّم معنى مجازيّ يشملهما ، فهو مع أنّه لا يساعده ، ظاهر كلامه رحمهالله أوّل الكلام.
الثالث : أنّ
الدّخول في العمل على وجه الصحّة يكفي في كونه صحيحا.
أقول : والأظهر
عدم الاكتفاء ، فإنّ الدّخول على وجه الصّحيح غير الإتيان بالفعل الصّحيح ،
والمفروض أنّ الحلف إنّما وقع على الثاني ، فإنّ الصلاة والصيام ليسا من باب
القرآن المحتمل وضعه للمجموع ، وللكلام المنزل على سبيل الإعجاز المتحقّق في ضمن
كلّ من أبعاضه ، بل هما اسمان للمجموع ، وعلى ما ذكره يلزم الحنث وإن لم يتمّها
فاسدا أيضا وهو كما ترى ، بل هذا لا يصحّ على المختار أيضا ، بل يمكن أن يقال :
إنّه لا يحصل الحنث على المختار لو أتمّه فاسدا أيضا عالما بالفساد لما ذكرناه في
توجيه كلامه رحمهالله ومن وافقه ، من إرادة الصحيحة في أمثال ذلك وإن بني على
المختار.
إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الظاهر أنّه لا إشكال في جواز إجراء أصل العدم
في ماهيّة العبادات كنفس الأحكام والمعاملات ، بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه
__________________
كما يظهر من كلمات
الأوائل والأواخر ، ولم نقف على تصريح بخلافه في كلام الفقهاء.
وأمّا ما نراه
كثيرا في كلماتهم من التمسّك بالاحتياط واستصحاب شغل الذمّة ، فهو إمّا مبنيّ على
مسألة الاحتياط والقول بوجوبه وستعرف ضعفه ، أو تأييد الدّليل به ، فلاحظ «الانتصار»
وقد يتمسّك بالإجماع وطريقة الاحتياط في إثبات أصل الحكم كما تمسّك به في وجوب صلاة العيدين ، خلافا للشافعي ، وفي مسألة المنع
عن صلاة الأضحى وغير ذلك.
وأمّا استدلالهم
بالأصل في ماهيّة العبادات فهو فوق حدّ الإحصاء ، وكيف كان فالمتّبع هو الدّليل ،
ولا ينبغي التوحّش مع الانفراد إذا وافقنا الدليل ، فكيف وجلّ الأصحاب إن لم نقل
كلّهم متّفقون في عدم الفرق ، فمن يعمل بالأصل لا يفرّق بين العبادات وغيرها.
فنقول : إنّ من
اليقينيّات أنّا مكلّفون بما جاء به محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأحكام والشرائع والعبادات ، أو كما أنّ سبيل القطع
بمعرفة الأحكام كما وردت منسدّ لنا ، فكذلك بمعرفة ماهيّة العبادات ، وكما يمكن أن
يقال : التكليف بالعبادات أمر بشيء غير معلوم لنا ولا يحصل الامتثال بها إلّا
بإتيانها بماهيّاتها كما وردت ، وكما أنّ
__________________
انسداد باب العلم
مع بقاء التكليف بالضّرورة ، وقبح تكليف ما لا يطاق يوجب جواز العمل بالظنّ في
الأحكام بعد التفحّص والتجسّس عن الأدلّة ، وحصول الظنّ بسبب رجحان الدّليل على
المعارضات أو بسبب أصالة عدم معارض آخر ؛ فكذلك في ماهيّة العبادات. وكما لا يمكن
في ماهية العبادات التمسّك بالأصل قبل الفحص والتّفتيش واستفراغ الوسع ؛ فكذلك لا
يمكن ذلك في نفس الأحكام ، وسيجيء الكلام في ذلك مستقصى في مباحث التخصيص ومباحث
الاجتهاد والتقليد.
فنقول : إنّه لا
مانع من إجراء أصالة العدم في إثبات ماهيّة العبادات كنفس الأحكام ، إذ لو قيل :
إنّ المانع هو أنّ اشتغال الذمّة بالعبادة في الجملة قاطع لأصالة العدم السّابق ،
فيصير الأصل بقاء شغل الذمّة حتّى يثبت المبرئ ، فمثله موجود في الأحكام أيضا ،
فإنّ اشتغال الذمّة بتحصيل حقيقة كلّ واحد واحد من الأحكام الذي علم إجمالا
بالضرورة من دين محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم قاطع ، ولذلك اشترطوا في إعمال أصل البراءة وأصالة العدم
في الأحكام الشرعيّة ، الفحص عن الأدلّة أوّلا ، فنحن نعلم جزما أنّ لغسل الجمعة
مثلا حكما من الشارع ولا نعلمه ، فبعد البحث والفحص وعدم رجحان دليل الوجوب نقول :
الأصل عدم الوجوب ، والأصل عدم معارض آخر يترجّح على ما ظهر علينا من أدلّة
الاستحباب ، ولا يمكننا ذلك قبله ولا يوجب امتزاج أمور متعدّدة وثبوت حكم فيها الفرق في ذلك.
فكما نتفحّص من
حكم المفرد وبعد استفراغ الوسع نستريح الى أصل البراءة
__________________
وأصل العدم في عدم
ما يدلّ على خلاف ما فهمناه وظننّاه من قبل الأدلّة ، فكذلك في ماهية العبادات
المركّبة ، فإذا حصل لنا من جهة الأخبار والإجماعات المنقولة بانضمام ما وصل إلينا
من سلفنا الصالحين يدا بيد ، أنّ ماهيّة الصلاة لا بدّ فيها من النيّة والتكبير
والقراءة والرّكوع والسجود وغيرها من الأجزاء المعلومة ، وشككنا في أنّ الاستعاذة
قبل القراءة في الرّكعة الأولى مثلا هل هو أيضا من الواجبات ـ كما ذهب إليه بعض
العلماء ـ أم لا ، ورأينا أنّ دليله على الوجوب معارض بدليل آخر
على الندب ، فمع تعارضهما وتساقطهما ، يبقى احتمال الوجوب ، لإمكان ثبوت دليل آخر
يدلّ عليه ، فحينئذ يجوز لنا نفيه بأصل العدم ، وأصالة عدم الوجوب فإنّه يفيد
الظنّ بالعدم ، ويحصل من مجموع الأمرين الظنّ بأنّ ماهيّة العبادة هو ما ذكر لا
غير.
وإن قلت : بلزوم
تحصيل اليقين.
قلنا : بمثله في
نفس الحكم ، مع أنّا نقول : لم يثبت انقطاع أصل البراءة السّابقة وعدم اشتغال
الذمّة السّابقة إلّا بهذا القدر ، فكيف يحكم بانقطاعه رأسا حتى يقول : لا يمكن
التمسّك بالأصل لانقطاعه بالدليل ، مع أنّ ذلك يجري في الحكم الشرعي أيضا ، فإنّ
من المعلوم أنّ أصل العدم في الأحكام الشرعية أيضا انقطع بثبوت حكم مجمل لكلّ واحد
من الموضوعات ، فكيف يحكم بأنّ الأصل عدم هذا الحكم وثبوت حكم آخر؟ والحاصل ، أنّا
إذا بنينا على كفاية الظنّ عند انسداد باب العلم ، فلا فرق بين الحكم وماهيّة
العبادات ، هذا مع أنّ لنا أن نقول في الأخبار أيضا ما يدلّ على بيان
__________________
الماهيّة ، وأنّ
العبادات هي هذه ، مثل صحيحة حمّاد الواردة في بيان آداب الصلاة
__________________
ونحوها ، فحينئذ
يتّضح عدم الفرق بينها وبين نفس الأحكام في إجراء أصالة العدم.
وقد ظهر ممّا
ذكرنا إمكان إثبات ماهيّة العبادات بضميمة أصل العدم مطلقا ، سواء حصل لنا ظنّ من
جهة خبر أنّ هذا هو الماهية ، أو حصل الظنّ من جهة مجموع ما ورد من الأدلّة في
خصوص جزء جزء وأصالة عدم شيء آخر.
وأمّا ما يقال : إنّ السبيل منحصر في الإجماع ، فلا نفهم معناه ، فإن
أراد أنّه لا بدّ أن ينعقد الإجماع على أنّ هذا هو الماهيّة لا غير ، فلا سبيل لنا
الى مثل هذا الإجماع ولم يدّعه أحد من العلماء ، وإن إدّعاه أحد فهو أيضا ظنّ مثل
الظنّ الحاصل من تلك الرّواية أو من الأصل ، ولا يتمّ إلّا بضميمة أصالة عدم دليل آخر يدلّ على ثبوت
جزء آخر له أو شرط آخر له ، وإن أراد أنّ ما حصل الإجماع على صحّته ، فالماهيّة
موجودة فيه جزما.
ففيه : أنّ هذا
ليس إثبات الماهيّة وتعيينها ، بل هو إثبات لما اندرج فيه الماهيّة جزما لاحتمال
اشتمالها على المستحبّات التي ليست داخلة في ماهيّة العبادة ، مع أنّ ذلك ممّا لا
يمكن غالبا ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء من الأجزاء ، مثل الجهر
ب «بسم الله» في الصلاة الإخفاتيّة ، وبطلان الصلاة بتذكّر إسقاط الرّكوع بعد
إكمال السجدتين ، مع ملاحظة القول بلزوم حذفهما وتدارك الركوع فيما بعده.
__________________
وربّما يتكلّف في
دفع هذا الإشكال ، بأنّ المخالف في المسألة إذا سلّم أنّه لو كان دليله باطلا ،
لكان الماهيّة هي على وفق ما اقتضاه دليل خصمه ، سواء صرّح بذلك التسليم أم لا.
فهذا يكفي في كون الماهيّة إجماعيّة عند الخصم ، إذا ظهر له بطلان دليل المخالف
وغفلته عن الحق.
وفيه : مع أنّ هذا
إنّما يتمّ بالنسبة الى المخالفة الخاصّة دون سائر المخالفات وذلك لا يثبت الماهيّة مطلقا. إنّ ظهور بطلان دليل المخالف
غالبا إنّما هو بحسب اجتهاد الخصم ، وقد يكون الغفلة في نفس الأمر من جهة الخصم لا
المخالف ، مع أنّ هذا الاحتمال حاصل بالنسبة الى المخالف أيضا بالنظر الى دليل
الخصم فيصير الإجماع تابعا لاجتهاد المجتهد وهو كما ترى ، ويزيد شناعة ذلك لو
تعدّد الأقوال أزيد من اثنين ، كما في الجهر ب «بسم الله» ، فإنّ الأقوال
فيه ثلاثة : الحرمة ، والوجوب والاستحباب.
وإن قلت : الإجماع
حينئذ يحصل بتكرير الصلاة ، فيصير الأمر أشنع ، ومآل [ومال] هذا القول الى وجوب
الاحتياط ، وهو مع أنّه لم يقم عليه دليل من العقل والنقل ، يوجب العسر والحرج أو
الترجيح بلا مرجّح.
وأمّا ما أورد على
إعمال الأصل في ذلك ، بأنّه إنّما يتمّ إذا جاز العمل
__________________
بالاستصحاب حتّى
في نفس الحكم الشرعي ، مع أنّه معارض بأصالة عدم كونها العبادة المطلوبة ، وإنّ
شغل الذمّة اليقيني مستصحب حتى يثبت خلافه.
ففيه : مع أنّ
المحقّق في محلّه ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ حجيّة الاستصحاب مطلقا ، إنّ
مرادهم من عدم حجّيته في إثبات نفس الحكم الشرعي أن يكون الاستصحاب مثبتا لنفس
الحكم ، مثل أن يقال : إنّ المذي غير ناقض للوضوء مثلا لاستصحاب الطهارة السابقة ،
فاستصحاب الطهارة هو المثبت لعدم كون المذي ناقضا ، وأصل العدم منفردا لا يثبت به
الماهيّة ، بل هي بضميمة سائر الأدلّة المثبتة لها كما لا يخفى ، مع أنّه مقلوب
على المعترض بأنّه كيف يجوز التمسّك في إثبات استحباب غسل الجمعة مثلا بعد تعارض
الأدلّة بأصالة عدم شيء آخر يدلّ على الوجوب فيحكم بالاستحباب ، فإنّ الذي يثبت من
نفس أدلّة الطرفين إنّما هو القدر الرّاجح لاشتراكهما في الرّجحان ، فيبقى نفي
الوجوب وتعيين نفس الاستحباب مستفادا من نفس الاستصحاب وأصالة العدم ، إذ ليس مطلق
الرّجحان معنى الاستحباب.
وأمّا المعارضة
بأصالة عدم كونها العبادة المطلوبة .
ففيه : أنّ الموجود
الخارجي كما يحتمل كونه غير العبادة المطلوبة ، يحتمل كونه هي ، فجعل أحدهما هو
الأصل دون الآخر ، ترجيح بلا مرجّح.
نعم ، يمكن أن
يقال : الأصل عدم تحقّق العبادة المطلوبة في الخارج ، بمعنى عدم حصول اليقين
بالإتيان بالعبادة المطلوبة ، ولا محصّل لهذا الاستصحاب لإبقاء
__________________
المكلّف به في
الذمّة ، وهو يرجع الى استصحاب شغل الذمّة اليقيني .
وجوابه : أنّ
اشتغال الذمّة اليقيني مقتض لليقين بإبراء الذمّة إذا أمكن ، والظنّ الاجتهادي
الحاصل من الأصل بضميمة سائر الأدلّة قائم مقام اليقين كما هو متّفق عليه عندهم ،
مع أنّ شغل الذمّة بأزيد من ذلك لم يثبت من الأدلّة ، وأصل البراءة السّابق لم
ينقطع إلّا بمقدار ما ثبت اشتغال الذمّة به ، وما ثبت علينا من الأدلّة وسلّمنا هو
اشتغال ذمّتنا بما يظهر علينا من الظّنون الاجتهادية ثبوته.
وقد يتمسّك في إثبات ماهيّة العبادات بطريق آخر ، وهو أن يرجع الى
اصطلاح المتشرّعة ، ويقال : المتبادر في اصطلاحهم هو هذا ، فهو مطلوب الشّارع ،
أمّا على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، فظاهر ، وأمّا على القول بالعدم فمع
القرينة الصّارفة عن اللّغوي يحمل عليه لكونه أقرب مجازاته وأشيعها ، لكن يشكل ذلك
على القول بكون ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة الجامعة لشرائط الصحة مطلقا ، وعلى القول بكونها اسما للأعمّ من الصّحيحة لو كان
الإشكال والتّشكيك في الأجزاء ، وأمّا لو كان الإشكال في ثبوت شرط لها ، فيصير مثل
المعاملات في جواز الاكتفاء بما يفهم منه عرفا ، وينفي الشّرط المحتمل بالأصل ،
وإنّما قلنا أنّه لو كان الحيرة والإشكال في الأجزاء فلا يتمّ هذا الطريق على
القول بكونها أسامي للأعمّ ، فلأنّ غاية ما يتبادر من الصلاة مثلا هو ذات الركوع
والسجود ، فيخرج صلاة الميّت.
وكذلك يمكن عندهم سلب اسم الصلاة عن صلاة وقع فيها فعل كثير يمحو
__________________
صورة الصلاة ، ولا
يثبت بهما ماهيّة الصلاة بتمامها كما لا يخفى.
وفيه نظر من وجوه
:
أمّا أولا : فلأنّ
دعوى الحقيقة الشرعية وثبوت الحقيقة المتشرّعة إنّما هو في المعنى المحدث الذي
أبدعه الشارع في مقابل المعنى اللّغوي ، ويكفي في تصوّر إرادة ذلك المعنى دون
المعنى اللّغوي أو معنى آخر ، التصوّر في الجملة ، فلا يلزم في ذلك تصوّره بالكنه
وبجميع الأجزاء والشرائط. وما ذكره من الرجوع إلى عرف المتشرّعة والشارع إنّما
يناسب تمايز المعاني بوجه ما ، لا من جميع الوجوه بحيث يكون تصوّر الكنه شرطا في
كونه مرادا من اللّفظ ، فالتفصيل المذكور لا دخل له في إثبات ما هو بصدده.
وأمّا ثانيا :
فنقول : إذا بنينا بيان الماهيّة بالرّجوع الى مصطلح المتشرّعة أو الشّارع ، فنقول
: هاهنا مقامات من الكلام :
الأوّل : بيان تلك
الماهيّة المخترعة وتميّزها من بين ما هي من صنفه من المخترعات ، مثل أن يقال :
المعنى المخترع الذي نقل الشارع اسم الصلاة إليه ، هل هو ذات الركوع والسجود أو
المشروط بالقبلة والقيام؟ فنرجع الى عرف المتشرّعة ونثبت به مراد الشارع.
والثاني : أنّ بعد
بيان أنّ المراد أيّهما ، قد يقع الإشكال في كون بعض ما يحتمل كونه فردا للموضوع
له فردا له ، مثل : إنّا نعلم أنّ ذات الرّكوع والسّجود هو معنى الصّلاة ، لكن
نشكّ في أنّ الصّلاة المذكورة إذا كانت بحيث وقع في بينها فعل كثير
__________________
غاية الكثرة ، هل هو فرد حقيقي لها أم لا ، نظير ما تقدّم في ماء
السّبيل في مسألة عدم صحّة السّلب ، والّذي يناسب ما نحن فيه هو المقام الثاني لا
المقام الأوّل ، فذكر تبادر ذات الركوع والسجود ، وصلاة الميّت لا يناسب المقام.
وأمّا ثالثا :
فنقول : لا يتفاوت الحال بتعدّد القولين في ألفاظ العبادات ، إذ حقيقة المتشرّعة تابعة لما هي عليها
عند الشّارع ، فإن كانت عند الشّارع هي الصحيحة ؛ فكذلك عند المتشرّعة ، وإن كانت
الأعمّ ؛ فكذلك عند المتشرّعة ، واختلاف عرف المتشرّعة وعدم انتظامها لا يوجب عدم
الإعتداد بها ، وقد بيّنا سابقا أنّ الاختلاف اليسير غير مضرّ في الحقيقة عرفا وإن
أضرّ بها عقلا ، والمعيار هو العرف ، خرج ما ثبت فساده بالدّليل ، وبقي ما شكّ في
فساده تحت الحقيقة العرفيّة.
لا يقال : أنّ هذه
التسمية شرعيّة وليست بعرفيّة حتى يجعل من الأمور العرفيّة ، لأنّا نقول : المسمّى
شرعيّة ، والتسمية ليست بشرعيّة ، فالتسمية مبنيّة على طريق العرف والعادة ، فإنّ
الشارع أيضا من أهل العرف ، فالمسمّى وإن كان من الأمور التوقيفيّة المحدثة من
الشّارع ، لكن طريق التّسمية هو الطريق العرفي ، فافهم.
وبالجملة ، لا فرق
بين العبادات والمعاملات في ذلك ، ألا ترى أنّهم استشكلوا في المعنى العرفي للغسل ، فقيل :
يدخل فيه العصر في الثياب ، وقيل : يدخل في ماهيّته إخراج الماء منه ، وقيل : يحصل بالماء المضاف ، وقيل : يشترط المطلق وهكذا.
وبعضهم فرّق بين صبّ الماء والغسل ونحو ذلك.
__________________
فكما يؤخذ في
ألفاظ المعاملات بما هو المتداول عند عامّة أهل العرف وأغلبهم ، فكذلك يؤخذ في
ألفاظ العبادات ما هو المتداول عند المتشرّعة سواء قلنا بأنّها أسام للصحيحة أو
الأعمّ.
فنقول مثلا :
المتبادر عند المتشرّعة لو كان الصلاة المتلبّسة بالركوع والسجود والقراءة والقيام
والتشهّد والسلام مع كونها مصاحبة للطهارة من الحدث والخبث ، وحصل الشكّ في أنّ
الماهيّة هل تتمّ بهذا المجموع ، أم يجب فيه كون المصلّي في مكان مباح أيضا ،
فيمكن إجراء أصل العدم فيه ، نظير اشتراط الدّلك في غسل غير الثياب والعصر فيها.
وكذا لو قلنا :
إنّ المتبادر من الصلاة هو ذات التكبير والقيام والفاتحة والركوع والسجود ، وشككنا
في كون التشهّد والسّلام أيضا جزء لها وفي كون السّورة أيضا جزء لها أم لا ، أو هل
هو مشروط بشرط آخر أم لا.
نعم ، إذا علمنا
مدخليّة شيء آخر فيه ولم نعلمه بعينه ، فلا يمكن إجراء الأصل حينئذ ، ويجب إبراء
الذمّة بالإتيان بالمحتملات ، وهذا غير ما نحن فيه.
ثمّ إنّ الفرق بين
الشكّ في الجزء والشرط أيضا قد عرفت أنّه لا وجه له ، لما نبّهناك عليه هنا وأشرنا إليه في المقدّمة أيضا ، مع أنّ تحديد الشرط والجزء في غاية الإشكال ، ولعلّ نظر من فرّق بينهما الى
أنّ الشرط خارج عن
__________________
الماهيّة والجزء
داخل فيها ، وأنت خبير بأنّ الشرط أيضا قد يكون داخلا في الماهيّة. فإنّ قولنا :
الطمأنينة بمقدار الذّكر شرط في صحّة الركوع ، في قوة قولنا : يجب الكون الطويل
بالمقدار المعلوم في حال الركوع.
وكما يمكن أن يقال
: يجب الطمأنينة في القيام بعد الرّكوع ، يمكن أن يقال : يجب المقدار الزّائد عن
تحقّق طبيعة القيام بعد الرّكوع ، وهكذا.
تنبيه
يمكن أن يستفاد ممّا ذكرنا في هذا المقام من باب التأييد والإشارة والإشعار كون ماهيّة
الصلاة مثلا هو التكبير والقيام والرّكوع والسّجود ، ويكفي في تحقّق كلّ ذلك مجرّد
حصول الماهيّة.
وأمّا الزّائد على
الماهيّة وغيرها من الواجبات ، فشروط وزوائد ، ولعلّه الى ذلك ينظر اصطلاح العلماء
في الأركان ، وجعل الرّكن في كلّ من المذكورات المسمّى ، وأنّ بانتفاء كلّ منها
ينتفي المركب وجعل لباقي الواجبات أحكام أخر ، فليتأمّل.
تذنيبان
قد ذكرنا تقديم
عرف الشارع على غيره ، وهو فيما خصّ به ممّا حصل فيه الحقيقة الشرعية واضح ، لأنّ
تعيينه ووضعه لهذا المعنى الذي أحدثه إنّما هو لأجل تفهيم المكلّفين المخاطبين ،
فإذا خاطبهم به فلا بدّ أن يحمل على إرادة هذا المعنى.
وأمّا فيما لم
يخصّ به ، بل كان عرفا لأهل زمانه ، فكذلك أيضا ، كالدّينار .
__________________
وقد يقع الإشكال
فيما لو اختلف عرفه الخاص الذي لا يختص به ، بل يوافقه طائفة من قومه مع عرف طائفة
اخرى منهم كلفظ الرّطل الذي اختلف فيه أهل المدينة والعراق ، فإذا خاطب الإمام عليهالسلام مع كونه من أهل المدينة مع من كان من أهل العراق ، فهل
يقدّم عرف الرّاوي أو المرويّ عنه ؟ فيه إشكال.
__________________
والحقّ الرجوع الى
القرائن الخارجية ، ومع عدمها التوقّف .
الثاني :
إذا اطلق الشارع لفظا على شيء مجازا مثل قوله عليهالسلام : «الطواف بالبيت صلاة» . و : «تارك الصلاة كافر» ، وكذا تارك الحجّ ، ونحو ذلك ، فالظّاهر أنّ المراد منه المشاركة في الحكم الشرعي.
وفيه وجوه :
القول : بالإجمال
لعدم ما يدلّ على التعيين.
والقول : بالعموم
للظهور ، ولئلّا يلغو كلام الحكيم.
والقول بتساويهما
في الأحكام الشّائعة لو كان للمشبّه به حكم شائع ، وإلّا فالعموم ، والأوجه الوجه
الأخير.
والظاهر أنّه إذا
قال : فلان بمنزلة فلان أيضا كذلك ، بل هو أظهر في العموم لصحّة الاستثناء مطلقا.
__________________
قانون
اختلفوا في جواز
إرادة أكثر من معنى من معاني المشترك في إطلاق واحد على أقوال.
وتحقيق الحق في ذلك يتوقّف على بيان
مقدّمات :
الأولى : أنّ المشترك حقيقة في كلّ واحد
من معانيه ، وقد عرفت أنّ
الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له ، أي فيما عيّن الواضع اللّفظ للدلالة
عليه بنفسه في اصطلاح به التخاطب ، وقيد الاستعمال مبنيّ على اعتبار الاستعمال في
الحقيقة ، والقيد الثاني لإخراج المجاز ، فإنّ دلالته على المعنى ليس بنفسه ، بل
إنّما هو من جهة القرينة.
وأمّا المشترك ،
فإنّه وإن كان قد عيّن في كلّ وضع للدلالة على المعنى بنفسه ، لكنّ الإجمال وعدم
الدّلالة إنّما نشأ من جهة تعدّد الوضع ، فالقرينة في المشترك إنّما هي لأجل تعيين
أحد المعاني المدلول عليه إجمالا ، لا لنفس الدّلالة. فإنّ الدلالة حين الإطلاق
حاصلة إجمالا ، لكنّها غير معيّنة حتى تنصب القرينة ، بخلاف المجاز ، فإنّا إذا
علمنا من قرينة أنّ المعنى الحقيقي غير مراد ، فنتوقّف في المعنى المراد حتى يعيّن
بقرينة اخرى ، ولا يتحقّق لنا من نفسه شيء لا إجمالا ولا
__________________
تفصيلا ، وهذا
معنى ما يقال : إنّ المجاز يحتاج الى قرينتين : صارفة ومعيّنة ، بخلاف المشترك ،
وقد يكتفى بقرينة واحدة إذا اجتمع فيه الحيثيّتان .
لا أقول : إنّ
مدلول المشترك عند الإطلاق واحد من المعنيين غير معيّن كما يتوهّم من ظاهر كلام
السّكّاكي ، بل مدلوله واحد معيّن عند المتكلّم غير معيّن عند
المخاطب لطريان الإجمال بسبب تعدّد الوضع.
وأمّا القيد
الأخير ؛ فهو لإخراج الاستعمال فيما وضعت له في اصطلاح آخر. فاستعمال الفعل في
مطلق الحدث في اصطلاح النحوي ليس حقيقة ، وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة ،
وقد يستغنى عنه باعتبار الحيثيّة كما أشرنا اليه في أوّل الكتاب .
الثانية : أنّ اللّفظ المفرد ـ أعني ما
ليس بتثنية وجمع
ـ إذا وضع لمعنى
كلّي
__________________
أو جزئي حقيقي ،
فمقتضى الحكمة في الوضع أن يكون المعنى مرادا في الدلالة عليه بذلك منفردا.
توضيحه : أنّ غرض
الواضع من وضع الألفاظ هو التفهيم بنفسه ، فلو كان في دلالة اللّفظ الموضوع بإزاء
معنى كلّي أو جزئي مدخليّة لشيء آخر ، أو كان للمعنى شريك آخر في إرادة الواضع بأن
يريد دلالة اللّفظ عليه أيضا ، لما كان ذلك المعنى هو تمام الموضوع له ، ولا بدّ
من التنبيه عليه.
لا أقول : إنّ
الواضع يصرّح بأنّي أضع ذلك اللّفظ لهذا المعنى بشرط أن لا يراد معه شيء آخر وبشرط
الوحدة ، ولا يجب أن ينوي ذلك حين الوضع أيضا ، بل أقول : إنّما صدر الوضع من الواضع مع الانفراد ، وفي حال
الانفراد لا بشرط الانفراد حتى تكون الوحدة جزء للموضوع له كما ذكره بعضهم ، فيكون المعنى الحقيقي للمفرد هو المعنى في حال الوحدة ،
لا المعنى والوحدة ، فلا يتم ما يفهم من
__________________
بعض المحقّقين أيضا من أنّ الموضوع له هو المعنى لا بشرط الوحدة ولا
عدمها ، فقد يستعمل في الواحد وقد يستعمل في الأكثر ، والموضوع له هو ذات المعنى
في الصورتين ، فإنّ الموجود الخارجي الذي هو الموضوع له مثلا هو جزئي حقيقي وإن
كان قد يكون الموضوع له كليّا بالنسبة الى أفراده.
واعتبار الكليّة
والجزئيّة الجعليّتين الحاصلتين من ملاحظة انضمامه مع الغير وعدمه إنّما هو
باعتبار المعتبر ، ومع عدم الاعتبار ، فالمتّبع هو ما حصل العلم بكونه موضوعا له وهو ليس إلّا
المعنى في حال الانفراد ، لا بشرط الانفراد ، ولا لا بشرط الانفراد .
فإن شئت توضيح ذلك
فاختبر نفسك في تسميتك ولدك ، هل تجد من نفسك الرّخصة بأن تقول : إني وضعت هذا الاسم له بشرط أن يراد الوحدة أو لا بشرط الوحدة ولا عدمها. فهذا الإطلاق والتقييد إنّما هو باعتبار الوضع
لا الموضوع له ، والمفروض عدم ثبوت ذلك الاعتبار من الواضع ، والأصل عدمه.
والحاصل ، أنّ
المعنى الحقيقي توقيفي لا يجوز التعدّي فيه عمّا علم وضع الواضع له ، وفيما نحن
فيه لا نعلم كون غير المعنى الواحد موضوعا له اللّفظ ،
__________________
فلا رخصة لنا في
استعمال اللّفظ بعنوان الحقيقة إلّا في المعنى حالة الوحدة لا بشرط الوحدة.
الثالثة : المجاز مثل الحقيقة في أنّه
لا يجوز التعدّي عما حصل الرخصة من العرب في نوعه ، فإنّ الحقيقة كما أنّها موضوعة بوضع شخصي ، فالمجاز موضوع
بوضع نوعي ، ولا بدّ من ملاحظة الوضع النوعي أيضا ، وأنّ الرخصة في أي نوع حصل.
والحاصل ، أنّه لا
يجب الرخصة من العرب في كلّ واحد من الاستعمالات الجزئية إذا حصل الرخصة في كليها
، وهذه الرخصة ليست بنصّ من العرب وتصريح منه ، بل يحصل لنا من استقراء استعمالاته
الجزئية ، العلم بتجويزه لهذا النوع من الاستعمالات في ضمن أيّ فرد من أفراد ذلك
النوع ، وقد ذهب المحقّقون من علماء الأدب الى عدم وجوب الرّخصة في الجزئيّات.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم ، أنّه قد يوجد تلك الاستعمالات في جزئيّات صنف من أصناف نوع من أنواع
العلاقات المعتبرة في المجاز أو نوع من أنواع جنس منها ، ولم يوجد في صنف آخر من
ذلك النّوع ولا نوع آخر من ذلك الجنس. فالذي نجد الرّخصة من أنفسنا هو الحكم
بالتجويز فيما لم نطّلع عليه من سائر جزئيّات ذلك الصّنف المستعمل في بعضها بسبب
استقراء ما وجد فيه الاستعمال ، لا في جزئيّات الصّنف الآخر ، وهكذا الكلام في النوع من الجنس.
مثلا إذا رأينا
العرب يستعمل اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، لكنّا وجدنا ذلك فيما كان للكلّ
تركّب حقيقي خارجي ، وكان الجزء ممّا له قوام في تحقّق الكلّ ،
__________________
كالرّقبة في
الإنسان والعين في الربيئة ، فلا يجوز القياس باستعمال سائر الأجزاء في المركّبات
الحقيقيّة ، وجميع الأجزاء في المركّبات الاعتبارية.
وكذلك وجدنا أنّهم
يستعملون اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، إذا كان المركّب مركّبا حقيقيّا ،
كالأصابع في الأنامل في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ، واليد في الأصابع الى نصف الكفّ في آية السّرقة ، والى
المرفق في آية الوضوء ، والى الزّند في آية التيمم ، فلا يجوز القياس في غير المركّبات الحقيقية.
وأيضا إنّا وجدنا
العرب تستعمل الألفاظ الموضوعة للمعاني الحقيقية في المعاني المجازية مع القرينة
الصارفة منفردا منفردا ، أعني لا يريد في الاستعمال الواحد إلّا معنى مجازيا
واحدا.
وبالجملة ،
المجازات المستعملة وحداني غالبا ، ولم يحصل لنا العلم بترخيصهم في استعمال اللّفظ
في مجازين ، وعدم العلم بالرّخصة كاف في عدم جواز الاستعمال ، فإنّ جواز الاستعمال
مشروط بحصول العلم أو الظنّ بالرّخصة.
الرابعة : المتبادر من التثنية والجمع
هو الفردان ، أو الأفراد من ماهيّة واحدة لا الشيئان أو الأشياء المتّفقات في الإسم ؛ فيكون حقيقة في
ذلك ، فإنّ التبادر علامة الحقيقة ، وتبادر الغير من علائم المجاز.
__________________
فإن شئت اختبر
نفسك في مثل : رأيت مسلمين أو مسلمين ، فإنّه يتبادر منه رجلان مسلمان أو رجال
مسلمون لا الرّجلان المسمّيان بمسلم والرجال المسمّون بمسلم ، فيعتبر في الأعلام
المثنّيات والمجموعات مفهوم كلّي في مفردها مجازا ، مثل المسمّى بمسلم أو المسمّى
بزيد مثلا ، ثمّ يثنّى ويجمع.
ويؤيّد ما ذكرنا
ويؤكّده ، أنّه لو قلنا بكفاية مجرّد اتّفاق اللّفظ في التثنية والجمع ؛ للزم
الاشتراك في مثل عينين إذا جوّزنا استعماله حقيقة في الشّمس والميزان ، أو البصر
والينبوع ، فلا بدّ من التوقّف ، فيلزم هاهنا قرينة اخرى ، لأنّ التثنية للنوعين
لا للفردين من نوع ، والمجاز خير من الاشتراك فيتكثّر الاحتياج الى القرائن.
الخامسة : المتبادر
من النّكرة المنفيّة المفيدة للعموم ، هو نفي أفراد ماهيّة واحدة.
وأيضا الإسم
المنكر إذا اعتبر خاليا عن اللّام والتنوين ، وعلامة التثنية والجمع حقيقة في
الماهيّة لا بشرط شيء ، وإذا لحقه التنوين يراد به فرد من أفراد تلك الماهيّة غير
معيّنة ، وإذا لحقه الألف والنون أو الواو والنون مثلا يراد به فردان أو أفراد من
تلك الماهيّة ، وإذا لحقه الألف واللّام فإمّا أن يشار بها الى الفرد أو لا ،
فالثاني يراد به تعريف الجنس وتعيينه ، والأوّل ؛ فإمّا أن يراد به الإشارة الى
فرد غير معيّن ، فهو المعهود الذّهني وهو في معنى النّكرة ، أو الى فرد معيّن ،
فهو المعهود الخارجي ، أو الى جميع الأفراد ، فهو الاستغراق.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم أنّ دخول حرف النّفي على النّكرة لا تفيد إلّا نفي أفراد
__________________
تلك الماهيّة.
وإذا ثبت أنّ اللّفظ المشترك حقيقة في كلّ واحد من المعاني منفردا منفردا ، فلا
شيء يوجب دخول معنى آخر من معانيه فيما دخله حرف النفي.
إذا تمهّد لك هذه
المقدّمات ؛ فنقول :
استعمال المشترك في أكثر من معنى يتصوّر
على وجوه :
منها : استعماله
في جميع المعاني من حيث المجموع.
ومنها : استعماله
في كلّ منها على البدل ، بأن يكون كلّ واحد منها مناطا للحكم ، والفرق بينهما
الفرق بين الكلّ المجموعي والأفرادي .
ومنها : استعماله
في معنى مجازي عام يشمل جميع المعاني ، وقد يسمّى ذلك
__________________
بعموم الاشتراك ،
والظاهر أنّه لا إشكال كما أنّه لا خلاف في جواز الأخير.
وأمّا الأوّل
فالظاهر أنّه لا إشكال في عدم الجواز ، أمّا حقيقة فظاهر ، وأمّا مجازا فلاشتراط
استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، بكون الجزء ممّا ينتفي الكلّ بانتفائه مع
اشتراط كون الكلّ ممّا له تركّب حقيقيّ كما مرّت إليه الإشارة وهو منتف فيما نحن
فيه.
وامّا المعنى
الثاني ، فهو محلّ النزاع ، فقيل فيه أقوال :
ثالثها : الجواز
في التثنية والجمع دون المفرد.
ورابعها : الجواز
في النفي دون الإثبات.
ثمّ اختلف
المجوّزون على أقوال :
ثالثها : كونه
مجازا في المفرد وحقيقة في التثنية والجمع.
والأظهر عندي عدم
الجواز مطلقا.
أمّا في المفرد ،
فعدم الجواز حقيقة لما عرفت في المقدّمة الثانية من أنّ اللّفظ المفرد موضوع
للمعنى حال الانفراد ، والعدول عنه في استعماله فيه في غير حال الانفراد ليس
استعمالا فيما وضع له حقيقة.
وأمّا عدم الجواز
مجازا فلما عرفت في المقدمة الثالثة ، من عدم ثبوت الرّخصة في هذا النوع من
الاستعمال ، فلو ثبت إرادة أكثر من معنى ، فلا بدّ من حمله على معنى مجازيّ عامّ
يشمل جميع المعاني.
وأمّا ما ذكره
بعضهم من أنّ العلاقة فيه هو أنّ اللّفظ الموضوع للكلّ ـ وهو
__________________
كلّ واحد من
المعاني مع الوحدة المعتبرة في الموضوع له ـ قد استعمل في المعنى بإسقاط قيد
الوحدة وهو جزء الموضوع له ، فيظهر ما فيه ممّا ذكرنا في المقدّمات ، مع أنّ ذلك
يستلزم وجود سبعين مجازا في استعمال واحد في مثل العين بالنسبة الى سبعين حقيقة ،
وهو أجنبيّ بالنسبة الى موارد استعمالات العرب.
وأمّا في التثنية
والجمع حقيقة ، فلما عرفت في المقدّمة الرابعة من أنّهما حقيقتان في فردين أو
أفراد من ماهيّة ، لا في الشّيئين المتّفقين في اللّفظ والأشياء كذلك ، وللزوم
الاشتراك وتكثّر الاحتياج الى القرائن لو كان كذلك ، والمجاز خير من الاشتراك.
وأمّا مجازا ،
فلعدم ثبوت الرّخصة في هذا المجاز ، فإنّ الظاهر أنّ المجاز في التثنية والجمع
إنّما يرجع الى ما لحقه علامتهما ، لا الى العلامة والملحق به معا ، فإنّ الألف والنّون
ونحوهما لا يتفاوت فيهما الحال في حال من الأحوال ، فإنّ لفظ عينان أو عينين مثلا
يراد به الشيئان ، سواء أردت منهما الفردين من عين أو شيئين مسمّيين بالعين ،
إنّما التفاوت في لفظ العين ، فيراد في أحد الاستعمالين منهما [منها] ، أعني الاستعمال الحقيقيّ
الماهيّة المعيّنة الواحدة ، ويشار بالألف والنّون ونحوهما الى الفردين منها أو
أكثر ، وفي الاستعمال الآخر لا يمكن إرادة كلّ واحد ، بأن يكون مجازا مرسلا من باب
استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، فلا بدّ أن يراد منها المسمّى بالعين
ليكون كليّا له أفراد ، فيشار بالألف والنون حينئذ الى الفردين من المسمّى بالعين
أو أكثر ، وهذا واضح ممّا ذكرنا ، وهذا المجاز خارج عن المتنازع ويكون من قبيل
عموم الاشتراك.
__________________
اللهمّ إلّا أن
يقال : إنّ مدلول العلامات ليس مجرّد الإشارة الى الاثنينيّة أو التعدّد ، بل
الاثنينيّة الخاصّة والتعدّد الخاصّ ، أعني ما يراد بها اثنان من ماهيّة أو أفراد
منها ، فيكون التثنية والجمع مستندا بوضع على حدة ، فيمكن حينئذ القول بالتجوّز في
هذا اللّفظ بأجمعه فيستعمل اللّفظ الموضوع لإفادة الفردين من ماهيّة ، أو الأفراد
من ماهيّة في شيئين متّفقين في الإسم لا لكونهما فردين من المسمّى بهذا الإسم ، بل
لكونهما مشابهين لفردين من ماهيّة معيّنة ، وعلاقة المشابهة اشتراكهما في الإسم
وصدق الإسم عليهما لفظا وإن لم يرتبطا معنى.
والحاصل ، تشبيه
الاشتراك اللّفظي بالمعنوي ، فيكون استعارة ، إلّا أنّ ذلك لا يثمر فائدة بعد
تجويز إرادة الفردين من المسمّى بالعين مجازا. وذلك لأنّ ثمرة النّزاع في استعمال
اللّفظ حقيقة ومجازا يحصل بذلك المجاز ، فإذا علم بالقرينة عدم إرادة المعنى
الحقيقي ، فيصحّ الحمل على هذا المجازي ـ أعني عموم الاشتراك ـ فثبوت المجاز الآخر
الذي هو داخل في محلّ النّزاع غير معلوم ، وعدم الثبوت يكفي في ثبوت العدم ، غاية
الأمر جوازه ، وهو لا يفيد وقوعه ؛ فتأمّل ، مع أنّ المجاز الأوّل أقرب وأشيع فهو
أولى بالإرادة.
لا يقال : يمكن
القول بوجود ثمرة ضعيفة حينئذ ، نظير الثمرة الحاصلة في الفرق بين قول المعتزلة
والأشاعرة في الواجب التخييري ، لأنّ مورد الحكم هنا
__________________
الفردان على التقديرين
، لا الطبيعة كما لا يخفى على المتأمّل ، فتأمّل. ولم أقف على من ذهب الى المذهب
الذي ذكرته في مجازيّة التثنية والجمع من كونه من باب الاستعارة.
وأمّا في النّفي
فيظهر الكلام فيه ممّا مرّ ، وأنّه حقيقة في نفي جميع أفراد ماهية واحدة ، وأنّ التجوّز فيه إنّما
يكون بإرادة فرد من أفراد المسمّى بالعين مثلا ، فيكون خارجا عن المتنازع ، ويجري
التكلّف الذي ذكرته في التثنية والجمع من اعتبار الاستعارة.
ثمّ إنّ بعض من جوّز استعمال المشترك في أكثر من معنى حقيقة ، أفرط في
القول حتّى قال : إنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرائن ، فلا إجمال عنده في المشترك عند التجرّد عن القرينة.
واستدلّ على ذلك
بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) و : (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). فإنّ الصلاة من الله الرّحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ،
والسّجود من الناس وضع الجبهة على الأرض ، ومن غيرهم على نهج آخر.
__________________
وأجيب عن ذلك بوجوه
:
الأوّل : منع ثبوت
الحقيقة الشرعيّة ، فالمراد هو المعنى اللّغوي ، أعني غاية الخضوع ، أو جعل ذلك من
باب عموم الاشتراك لو سلّم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيراد منه غاية الخضوع ، ومن
الصلاة الاعتناء بإظهار الشّرف.
والمراد من غاية
الخضوع ما يعمّ الخضوع التكليفي والتكويني ، ولهذا لم يذكر في الآية جميع الناس مع
ثبوت الخضوع التكويني في الكلّ.
الثاني : أنّ ذلك
مجاز لا حقيقة ، وهذا الجواب لا يتمّ على ما اخترناه .
الثالث : أنّه على
فرض تسليم كون ذلك حقيقة أيضا لا يتمّ الاستدلال بهما على ظهورهما في إرادة الجميع
عند التجرّد عن القرائن ، إذ القرينة على إرادة الجميع هاهنا موجودة.
وأمّا حجج سائر المذاهب فيظهر بطلانها من ملاحظة ما ذكرنا.
واحتجّ من جوّز
الاستعمال حقيقة مطلقا : بأنّ الموضوع له هو كلّ واحد من المعاني لا بشرط الوحدة
ولا عدمها ، وهو متحقّق في حال إرادة الواحد والأكثر.
والجواب عنه : أنّ
الموضوع له هو كلّ واحد من المعاني في حال الانفراد كما مرّ في المقدّمات.
واحتجّ من جوّز في
المفرد مجازا ، وفي التثنية والجمع حقيقة.
أمّا على الجواز
في المفرد : فبأنّ المانع منتف لضعف ما تمسّك به المانع كما سيجيء.
__________________
وأمّا على كونه
مجازا : فيتبادر الوحدة منه عند الإطلاق ، فيكون الوحدة جزء للموضوع له ، فإذا
استعمل فيه عاريا عن الوحدة فيكون مجازا ، لأنّه استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في
الجزء.
وأمّا على كونه
حقيقة في التثنية والجمع : فبأنّهما فى قوّة تكرار المفرد ولا يشترط فيهما
الاتّفاق في المعنى ، بل يكفي الاتّفاق في اللّفظ ، كما يقال : زيدان وزيدون .
وفيه : أنّ المانع
ليس منحصرا فيما تمسّك به المانع ، بل المانع هو أنّ اللّغات توقيفيّة ، والوضع لم
يثبت في المفرد إلّا في حال انفراد المعنى في الإرادة كما حقّقنا سابقا.
وأمّا مجازيّته ،
فيتوقّف على حصول الرّخصة في نوع هذا المجاز كما أشرنا ، وإن كان ولا بدّ ،
فالأولى أن يقال : العلاقة هو استعمال اللّفظ الموضوع للخاصّ في العامّ كما لا
يخفى.
وأمّا كونه حقيقة
في التثنية والجمع.
ففيه : أنّ
المتبادر منهما هو الاتّفاق في المعنى ، كما بيّنّا سابقا.
وحجّة من خصّ
المنع بالمفرد دون التثنية والجمع : أنّ التثنية والجمع متعدّدان في التقدير ،
فيجوز تعدّد مدلوليهما بخلاف المفرد ، والمدّعى في المفرد حقّ.
والجواب عن
التثنية والجمع يظهر ممّا مرّ ، إلّا أن يراد به ما ذكرنا من الاستعارة.
وحجّة من خصّ
الجواز بالنّفي : أنّ النّفي يفيد العموم فيتعدّد ، بخلاف الاثبات ، ومدّعاه في
المثبت حقّ.
__________________
وجوابه عن التجويز في النفي : أنّه إنّما يفيد عموم النّفي في
أفراد الماهيّة المثبتة ، لا في المشتركات في الإسم كما حقّقناه ، إلّا ان يراد
الاستعارة كما أشرنا .
واحتجّ المانع
مطلقا : بأنّه لو جاز الاستعمال في المعنيين ، لكان ذلك بطريق الحقيقة ، إذ المراد
بالمعنى هو المعنى الحقيقي ، فيلزم التّناقض ، إذ يكون حينئذ له ثلاثة معان : هذا
وحده ، وهذا وحده ، وهما معا ، وإرادتهما معا مستلزم لعدم إرادة : هذا وحده وهذا
وحده ، وبالعكس ، والمفروض استعماله في المعاني الثلاثة.
واجيب عنه : بأنّ المراد ليس إرادة المعاني مع بقائه لكلّ واحد منها
منفردا ، بل نفس المدلولين مع قطع النظر عن الانفراد ، فيرجع النّزاع الى أنّ ذلك
ليس استعمالا في المعنيين ، وهذا مناقشة لفظيّة.
والأولى في
الاستدلال على المنع ، ما ذكرنا.
__________________
قانون
اختلفوا في جواز استعمال اللّفظ في
المعنى الحقيقي والمجازي على نهج استعمال المشترك في أكثر من معنى ، بأن يكون كلّ واحد منهما محلّا
للحكم وموردا للنفي والإثبات ، فمنهم من منع مطلقا ، ومنهم من جوّز مجازا ، ومنهم من جعله حقيقة ومجازا بالنسبة الى المعنيين .
والأقوى المنع
مطلقا ، لما عرفت في مقدّمات المسألة السّابقة من أنّ وضع الحقائق والمجازات
وحدانية نظرا الى التوظيف والتوقيف . فمع القرينة المانعة عن إرادة ما وضعت له وإرادة معنى
مجازي لا يمكن إرادة ما وضعت له كما ذكرنا ، بل ولا غيره من المعاني المجازيّة
الأخر ، ويتمّ بذلك عدم جواز إرادة المعنيين من اللّفظ.
وقد يستدلّ على
ذلك : بأنّ المجاز ملزوم للقرينة المعاندة للمعنى الحقيقي ،
__________________
وملزوم معاند
الشيء معاند له. ومناط هذا الاستدلال عدم جواز اجتماع الإرادتين عقلا ، كما أنّ
مناط ما ذكرنا ، عدم الرّخصة من الواضع.
وقد اعترض على هذا الاستدلال : بأنّ غاية ما ثبت ، كون المجاز ملزوما
لقرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي منفردا.
وأمّا عن إرادة
المعنى الحقيقي مطلقا فلا. يعني : إنّ (يرمي) في قولنا : رأيت أسدا يرمي ، يدلّ
على أنّ المراد من الأسد ليس الحيوان المفترس فقط. وأمّا هو مع الرّجل الشّجاع
فلا.
وأيضا ، فقد يستعمل اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، مثل : (الرّقبة)
في الإنسان ، ولا ريب في ثبوت إرادة المعنى الحقيقي مع المجازي.
وكما يمكن دفع ذلك
: بأنّ مرادنا من القرينة المانعة عن إرادة المعنى الحقيقي هي المانعة عن إرادته
بالذّات ، لا مطلقا ؛ فكذا يمكن أن يقال بأنّ مرادنا منها المانعة عن إرادته
منفردا ، فمن أين يحكم بأنّ المراد هو الأوّل لا الثاني! فكما لا يجب كونها مانعة
عن إرادة المعنى الحقيقي في ضمن المجازي ، كذا لا يجب كونها مانعة عن إرادة المعنى
الحقيقي مع المجازي ، بحيث يكون كلّ منهما موردا للنفي والإثبات.
أقول : ويمكن
الجواب عن الأوّل : بأنّ ذلك مبنيّ على كون اللّفظ موضوعا للمعنى لا بشرط الانفراد
ولا عدمه ، حتى يصحّ القول بكون اللّفظ مستعملا حينئذ
__________________
في المعنى الحقيقي
والمجازي ، وقد عرفت في الأصل السّابق بطلانه.
ولكن يدفعه : أنّ ذلك مناقشة لفظيّة ، فإنّ مآله يرجع الى عدم تسمية
ذلك استعمالا في المعنى الحقيقي والمجازي مع بقاء المعنى الحقيقي على حقيقته ،
وإلّا فلا ريب أنّه يصدق عليه أنّه استعمال في المفهومين كما مرّ نظير ذلك في جواب
حجّة المانع مطلقا في المبحث السّابق ، فالأولى في الاستدلال هو ما ذكرنا.
وأمّا الجواب عن
الثاني : فبأنّ إرادة الجزء في المركّب ، كإرادة الرّقبة من الإنسان إذا استعملت
وأريد منها الإنسان ؛ غير معلوم ، لا مجتمعا مع الكلّ ولا بالذّات ، بل عدمه معلوم
، غاية الأمر انفهامها بالتّبع لا بمعنى القصد إليها بدلالة الالتزام ، أو
انفهامها من اللّفظ عرفا كما في دلالة التنبيه ، بل بمعنى كونها لازم المراد ،
فيكون من باب دلالة الإشارة الغير المقصودة من اللّفظ كدلالة الآيتين على أقلّ
الحمل ، وهذه الدّلالة متروكة في نظر أرباب الفنّ.
__________________
وأيضا : المراد من
الاستعمال في الشيء هو الاستعمال قصدا لا الاستعمال فيما يستتبعه ويستلزمه تبعا ،
كما لا يخفى.
وقد يعترض أيضا : بأنّ النزاع المفيد في هذا المقام هو أنّه هل يجوز
استعمال اللّفظ في الموضوع له وغيره ، أم لا؟ وليس يلزم في كلّ ما استعمل في غير
الموضوع له أن يكون له قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له ، غاية الأمر أن يسمّى ذلك
استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقي والكنائي لا الحقيقي والمجازي ، فإنّ الكناية
أيضا استعمال اللّفظ في غير الموضوع له مع جواز إرادة ما وضع له ، فلم يثبت عدم
جواز الاستعمال بالتزام القرينة المعاندة للحقيقة ، لعدم ضرورة الالتزام.
والجواب عن ذلك :
أمّا أوّلا ، فبما
قيل : إنّه إنّما يتمّ لو قلنا أنّ الكناية هي إرادة المعنى الغير الموضوع له من
اللّفظ مع جواز إرادة الموضوع له ، فيتمّ حينئذ جواز إرادة المعنيين من اللّفظ بلا
احتياج الى القرينة المانعة.
وأمّا إن قلنا :
بأنّها إرادة المعنى الحقيقي لينتقل منه الى المعنى المجازي ؛ فلا ، إذ لا ينفكّ
حينئذ استعمال اللّفظ في غير ما وضع له عن القرينة المانعة عن إرادة ما وضع له ،
فلا يصحّ فرض المعترض ؛ إذ اللّفظ لم يستعمل حينئذ في المعنى الموضوع له والغير
الموضوع له معا.
__________________
وصرّح بأنّ لهم في
تعريف الكناية طريقين المحقّق التفتازاني في «شرح المفتاح» .
وأمّا ثانيا :
فبأنّا نجعل البحث فيما يتناقضان وقامت القرينة المانعة ، فلا يمكن جعله من باب
الكناية.
ويدفعه : أنّه إن
أريد بقيام القرينة المانعة قيام ما يمنع عن إرادة المعنى الحقيقي منفردا ومجتمعا
مع المعنى المجازي ؛ فهو خارج عن محلّ النّزاع ، فإنّ النّزاع في هذه المسألة مثل
المسألة السّابقة فيما يمكن إرادة المعنيين بالذّات ، لا فيما لا يمكن أصلا.
وإن أريد كونها
مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي منفردا ، فهو لا ينافي كونه من باب الكناية ،
فتأمّل.
وقد يعترض أيضا :
بأنّ القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة في المجاز إنّما تمنع عن إرادتها بتلك
الإرادة بدلا عن المعنى المجازي.
وأمّا بالنظر الى
إرادة اخرى منضمّة إليها فلا ، إذ المراد من إرادة المعنى الحقيقي والمجازي من
اللّفظ معا ، هو كون كلّ واحد منهما مرادا بإرادة على حدة بالاعتبارين.
وهذا الاعتراض
مستفاد من كلام سلطان العلماء رحمهالله.
وفيه : أنّ دخول
المجاز في الإرادة حينئذ إنّما هو من باب دخول الخاص في العامّ الاصولي على ما
صرّح هو رحمهالله به أيضا في حواشي «المعالم». وقال : إنّه هو المراد في
المشترك أيضا.
__________________
ولا يخفى أنّ
إرادة كلّ واحد من الأفراد في ضمن العامّ ليس بإرادة ممتازة عن غيره ، بل المراد
كلّ واحد منها بعنوان الكلّ الأفرادي ، وليس هنا إرادتان متضامّتان فيعود المحذور
من لزوم اجتماع المتنافيين.
نعم ، له وجه إن
أريد من البدليّة إرادة هذا وهذا ، لا كلّ واحد كما هو التحقيق ، مع أنّ من الظاهر
أنّ الاستعمال لا تعدّد فيه. وظاهر كلمات علماء البيان أنّ المجاز يستلزم قرينة
معاندة لاستعمال اللّفظ في المعنى الحقيقي ، فالاستعمال واحد وإنّما هو لأجل
الدّلالة على المعنى ، والإرادة تابعة له.
واحتجّ من قال
بالجواز : بعدم تنافي إرادة الحقيقة والمجاز معا ، فإذا لم يكن
هناك منافاة ، فلم يمتنع اجتماع الإرادتين عند المتكلّم.
ويظهر جوابه ممّا
تقدّم ، ولعلّه نظر الى تعدّد الإرادة ، وقد عرفت بطلانه.
وزاد من قال مع
ذلك بكونه حقيقة ومجازا : بأنّ اللّفظ مستعمل في كلّ واحد من المعنيين ، فلكلّ
واحد من الاستعمالين حكمه .
وفيه : مع ما عرفت
، أنّ الاستعمال لا تعدّد فيه ، مع أنّه لو صحّ فإنّما يتمّ على القول بكون اللّفظ
موضوعا للمعنى لا بشرط ، وقد عرفت بطلانه.
واحتجّ من قال
بكونه مجازا : بأنّ ذلك يستلزم سقوط قيد الوحدة المعتبرة في الموضوع له ، فيكون
مجازا. يعني : إنّ المعنى الموضوع له هو المعنى الحقيقي وحده ، فإذا أريد كلّ واحد
من المعنيين على سبيل الكلّ الأفرادي ـ كما هو محلّ
__________________
النزاع ـ فيستلزم
ذلك إسقاط قيد الوحدة ، فيكون مجازا ، لا إنّه يراد به معنى ثالث يشمل المعنيين
حتى يكون من باب عموم المجاز الذي لا نزاع فيه.
والجواب عن ذلك
بعد بطلان أصل الجواز ، واضح.
وأمّا ما فصّل : بأنّ المراد في محلّ النزاع من المعنى المستعمل فيه إن
كان هو المعنى الحقيقي حتّى مع قيد الوحدة ، فالمانع مستظهر ، لأنّ المجاز معاند
للحقيقة حينئذ من وجهين : من جهة القرينة المانعة ، ومن جهة اعتبار الوحدة.
وإن أرادوا مطلق
المدلول من دون اعتبار الانفراد ، اتّجه الجواز ، لأنّ المعنى الحقيقي حينئذ يصير مجازا بإسقاط قيد الوحدة
، فالقرينة اللّازمة للمجاز لا تعانده .
ففيه : مع أنّ ذلك
يستلزم عدم الفرق بين الكناية والمجاز حينئذ ، لأنّ المفروض أنّ المجازية إنّما
حصلت بإسقاط قيد الوحدة ، ومع إسقاطه صحّت إرادته مع المعنى المجازي ، أنّ القرينة
كما أنّها مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي ، لا بدّ أن تكون مانعة عن إرادة المعنى
المجازي الآخر أيضا ، وإلّا لم يتعيّن المراد ، إلّا أن يقول إنّ القرينة مانعة عن
المجازات الأخر ، إلّا أن يقوم قرينة على إرادة بعضها كما فيما نحن فيه ، فإنّ
المفروض وجوب إقامة قرينة اخرى على إرادة المعنيين معا كما في المشترك أيضا ،
وإلّا فكيف يعلم إرادة المعنيين من اللّفظ ، ومع ما عرفت من كون أوضاع الحقائق
والمجازات وحدانيّة ، فالأمر أوضح.
__________________
قانون
المشتقّ كاسم الفاعل والمفعول والصّفة المشبّهة ، حقيقة فيما تلبّس
بالمبدإ دون ما وجد المبدا فيه في حال التكلّم فقط ، كما توهّمه بعضهم حتّى يكون قولنا : زيد كان قائما فقعد أو سيصير قائما
مجازا.
والظاهر أنّ هذا
وفاقيّ كما إدّعاه جماعة ومجاز فيما لم يتلبّس بعد ، سواء أريد بذلك إطلاقه على من
يتلبّس بالمبدإ في المستقبل ، بأن يكون الزّمان مأخوذا في مفهومه أو إطلاقه عليه
بعلاقة أوّله إليه . والظاهر أنّ ذلك أيضا اتّفاقيّ كما صرّح به جماعة.
وقد يتوهم أنّ إطلاق النّحاة اسم الفاعل مثلا على مثل (الضّارب) في
قولنا : زيد ضارب غدا ، ينافي دعوى الإجماع ، وهو باطل لما حقّقنا سابقا من أنّ
__________________
الاستعمال أعمّ من
الحقيقة ، وفيما انقضى عنه المبدأ ـ أعني إطلاق اللّفظ المشتق وإرادة ما حصل له
المبدا في الماضي من الأزمنة بالنسبة الى زمان حصول النّسبة في المشتق الى من قام
به ـ خلاف. وقد يعبّر : بإرادة ما حصل له المبدأ وانقضى قبل زمان النّطق ، فيعتبر
المضيّ بالنسبة الى زمان النطق ، وما ذكرناه أحسن .
ويظهر الثمرة في مثل قولنا : كان زيد قائما فقعد ، فعلى ما ذكرنا حقيقة
، وعلى ما ذكره هذا القائل يكون محلّا للخلاف.
نعم ، إذا قلنا :
كان زيد قائما أمس ، باعتبار كونه قائما قبل الأمس ، فيصير محلّا للخلاف على ما
ذكرنا أيضا.
ومن هذا يظهر لك
جواز إجراء هذين التعبيرين فيما لم يتلبّس بعد بالمبدإ أيضا ، فتأمل.
وهناك تعبيران
آخران :
أحدهما : استعمال
المشتق في المنقضي عنه المبدأ بعلاقة ما كان عليه.
وثانيهما :
استعماله فيما حصل له المبدا في الجملة ، أي ما خرج من العدم الى الوجود من دون
اعتبار القدم والحدوث والبقاء والزّوال.
والظاهر أنّ
المعنى الأخير أيضا ممّا وقع فيه النزاع كما سيظهر بعد ذلك.
وأمّا المعنى
الأوّل ، فالظاهر عدم الخلاف في كونه مجازا.
__________________
والمشهور بينهم في
محلّ الخلاف قولان : المجاز مطلقا ، وهو مذهب أكثر الأشاعرة ، والحقيقة مطلقا ،
وهو المشهور من الشّيعة والمعتزلة .
وهناك أقوال أخر
منتشرة ، والظاهر أنّها محدثة من إلجاء كلّ واحد من الطرفين في مقام العجز عن ردّ
شبهة خصمه ، ففصّل جماعة وفرّقوا بين ما كان المبدا من المصادر السيّالة كالتكلّم والإخبار وغيره ، فاشترطوا البقاء في الثاني دون
غيره.
وأخرى ففرّقوا بين ما لو كان المبدا حدوثيّا أو ثبوتيا ، فاشترطوا البقاء
__________________
في الأوّل دون
الثاني .
وأخرى ، ففرّقوا
بين ما طرأ الضدّ الوجودي على المحلّ ، سواء ناقض الضدّ الأوّل ـ كالحركة والسّكون
ـ أو ضادّه وغيره فاشترطوا البقاء في الأوّل دون الثاني.
وفصّل بعضهم ، بين ما كان المشتق محكوما عليه أو به ، فاشترط في الثاني
دون الأوّل.
والأقوى كونه
مجازا مطلقا.
لنا وجوه :
الأوّل : تبادر
الغير منه ، وهو المتلبّس بالمبدإ ، وهو علامة المجاز.
والثاني : أنّه لا
ريب في كونه حقيقة في حال التلبّس ، فلو كان حقيقة فيما انقضى عنه أيضا للزم
الاشتراك ، والمجاز خير منه ، كما مرّ مرارا.
وما يقال : من أنّ
المشتقّ إنّما يستعمل في المعنى الأخير من الثلاثة المتقدّمة ، وهو أعمّ من الماضي
والحال ، واستعمال العامّ في الخاص حقيقة إذا لم يرد منه الخاصّ من حيث الخصوصيّة
؛ فلا مجاز ولا اشتراك.
ففيه : أنّه مناف
لكلمات أكثرهم ، وكثير منهم ادّعى الإجماع على كونه حقيقة في الحال ، ولو كان
حقيقة في ذلك المعنى العامّ أيضا ، للزم الاشتراك أيضا.
وممّا ينادي
ببطلان ذلك ، أنّ المستدلّين بكونه حقيقة فيما انقضى عنه المبدا ،
__________________
يستدلّون باستعمال
النّحاة ، فإنّهم يستعملونه في الماضي وفي الحال وفي الاستقبال ولا يريدون به
المعنى الأعمّ جزما.
الثالث : أنّه إذا
كان جسم أبيض ثمّ صار أسودا ، فينعدم عنه حينئذ مفهوم الأبيض جزما ، وإلّا للزم
اجتماع المتضادّين ، فإطلاق لفظ الأبيض حين انعدام مفهومه ، إطلاق على غير ما وضع
له.
ويرد عليه : أنّه
إنّما يسلم لو لم يكن مراد من لا يشترط بقاء المبدا هو المعنى العامّ وإلّا فلا
منافاة حينئذ ولا يلزم اجتماع الضدّين.
الرابع : انّا لا
نفهم من لفظ المشتقّ إلّا الذّات المبهمة والحدث والنسبة ، ولكن يتبادر منه حصول
المبدا في زمان صدق النّسبة الحكميّة . ولا يذهب عليك أنّ هذا الزمان ليس بأحد من الأزمنة
المعهودة ، بل هو أعمّ من الجميع ، فلسنا ندّعي دلالته على زمان ، كيف وقد أجمع
أهل العربيّة على أنّ الدّال على الزّمان إنّما هو الفعل ، ألا تراهم أنّهم
يقيّدون حدّ الفعل بأنّه ما يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ليخرج اسم الفاعل وما في
معناه!
ولا منافاة بين
ذلك ، وبين ما يقولون : إنّ اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال يعمل عمل النّصب ،
وبمعنى الماضي لا يعمل ، فإنّ مرادهم بالاقتران بأحد الأزمنة في حدّ الفعل إنّما
هو بسبب الوضع.
ومرادهم في اسم
الفاعل إنّما هو بالقرينة فيكون مجازا.
وقد يوجّه بأنّ
هذا هو مقتضى الوضع الثانوي الحاصل بسبب كثرة الاستعمال.
__________________
وأمّا في الفعل ؛
فبمقتضى الوضع الأوّل ، وهو بعيد ، فإنّ غاية ما يمكن أن يدّعى فيه الوضع الثانوي والتبادر
من جهته إنّما هو الحال ، فتأمّل ، فإنّ ذلك أيضا لا ينطبق على الزّمان المعهود
كما ذكرنا ، بل المتبادر هو التلبّس.
والحاصل ، أنّ
تحقّق المبدا شرط في صحّة الإطلاق حين النّسبة ، كالجوامد بعينها ، فلا يقال للهواء المنقلب عن الماء هو ماء حقيقة.
ومرادنا من هذه
النّسبة أعمّ من الخبرية الصّريحة أو اللّازمة للنّسبة التقييدية ، فإنّ قولنا :
رأيت ماء صافيا يتضمّن النّسبة الخبريّة ويستلزم الإخبار عن الماء بالصّفاء ،
فيلاحظ حال هذه النّسبة ، ويعتبر الاتّصاف بالمبدإ حين تحقّق هذه النسبة وذلك فيما
نحن فيه في الزّمان الماضي ، فهو حقيقة وإن صار في زمان التكلّم كدرا. وقد يكون
كذلك في الحال ، وقد يكون في الاستقبال ، كقولك : سأشتري خمرا ، فإنّه حقيقة وإن
كان ما سيشتريه لم يصر حين التكلّم خمرا.
حجّة القائلين
بكونه حقيقة : أنّ المشتقّ قد استعمل في الأزمنة الثّلاثة والأصل في الاستعمال
الحقيقة ، خرج الاستقبال بالاتّفاق وبقي الباقي.
وفيه : أنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة كما بيّنّا سابقا.
وقد استدلّ بعضهم
بعد الاستدلال بذلك ، بأنّ معنى المشتق من حصل له المشتقّ منه ، أي خرج من القوّة
الى الفعل ، فيشمل الماضي حقيقة.
__________________
وفيه : ـ مع أنّه
ينافي لاستدلاله الأوّل ، لأنّ مفاده إرادة الخصوصيّة لا المعنى العامّ ـ منع قد
عرفته.
حجّة مشترطي بقاء
المبدا فيما لم يكن المبدأ من المصادر السيّالة : امتناعه فيها ، لأنّها تنقضي
شيئا فشيئا ، فهو قبل حصول أجزائه غير متحقّق ، وبعده منعدم.
والحقّ اعتبار
العرف في ذلك ، ولا ريب أنّ العرف يحكم على من يتكلّم وهو مشتغل به ولو بحرف منه ،
أنّه متكلّم ، ولا يضرّه السّكوت القليل بمقدار التنفّس أو أزيد ، بل بمقدار شرب
الماء أيضا في بعض الأحيان.
وحجّة من اشترط
البقاء في الحدوثيّ دون الثبوتيّ : أنّه لو كان شرطا مطلقا ، للزم أن يكون إطلاق
المؤمن على النائم مجازا إذ لا تصديق في حال النوم.
وأجيب عن ذلك :
بأنّ ما حصل للنّفس من التصديق ، هو حاصل في الخزانة حال النوم ، وإن لم يكن حاصلا
في المدركة حينئذ.
وحجّة من خصّ
الاشتراط بما طرأ على المحلّ ضدّ وجودي : أنّه لو لم يكن كذا ، يلزم كون إطلاق
النائم على اليقظان ، والحامض على الحلو ، باعتبار النّوم السّابق والحموضة
السّابقة حقيقة ، وهو خلاف الإجماع ، وأيضا يلزم أن يكون أكابر الصّحابة كفّارا
حقيقة.
وقد يجاب عن
الثاني : بأنّ ذلك إنّما هو من جهة الشّرع لا اللّغة.
والحقّ : المنع في
الجميع لغة وعرفا أيضا.
وحجّة من اشترط
البقاء في المحكوم به دون المحكوم عليه : هو أنّه لو
__________________
اشترط في المحكوم
عليه أيضا للزم عدم جواز الاستدلال بمثل قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)
، و : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا)
، ونحو ذلك ، بالنّسبة الى من لم يكن زانيا أو سارقا حال الإطلاق ، بل المعتبر
اتّصافه في أحد الأزمنة الثّلاثة.
ووجه هذا
الاستدلال ، أنّهم يستدلّون بهذه الآيات وظاهرهم إرادة الحقيقة ، فيكون المشتقّ
حينئذ حقيقة في كلّ واحد من الأزمنة.
أقول : ويلزم من
ذلك أنّ ذلك القائل يقول بكون المشتقّ حقيقة في المستقبل أيضا.
وقد يوجّه : بأنّ
مراده حينئذ أنّ المحكوم عليه حقيقة فيما تلبّس بالمبدإ في الجملة ، يعني المعنى
العامّ السّابق أو ما هو أعمّ منه ليشمل الاستقبال ، وكيف كان فهو باطل.
أمّا أوّلا :
فلأنّ هذا الكلام مبنيّ على أنّ المراد بالحال وأخويه في محلّ النزاع ، هو حال
النطق وما قبله وما بعده ، وقد عرفت خلافه.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ المشتقّ كونه حقيقة في الحال مع الخصوصيّة ممّا لا خلاف فيه ، وإن كان
محكوما عليه ، فلو جعلناه حقيقة في القدر المشترك أيضا للزم الاشتراك ، والمجاز
أولى منه ، وكونه محكوما عليه قرينة للمجاز ، مع أنّ الاستدلال بها على من لم
يتلبّس بعد حين الإطلاق أو لم يوجد أيضا هو من قبيل الاستدلال بالخطابات الشفاهيّة
، فإنّ تلك الخطابات لا تثبت إلّا أصل التكليف.
وأمّا خصوص
تكليفنا فإنّما يثبت بدليل خارج ، كالإجماع وغيره.
__________________
وأمّا على ما
حقّقنا موضع النّزاع من عدم مدخلية الزّمان أصلا وعدم اعتبار حال النطق ، فلا
إشكال ، إذ المراد أنّ المتلبّس بالزّنا أو السّرقة مثلا حكمه كذا ، سواء كان
تلبّسه حال النطق أو قبله أو بعده ، ولا يضرّ ثبوت الحكم بعد حال الانقضاء وإن طال
المدّة ، لأنّ إجراء الحكم ثابت حينئذ بالاستصحاب وغيره من الأدلّة.
تتميم
ينبغي أن يعلم أنّ مبادئ المشتقّات
مختلفة ، فقد يكون المبدا
حالا كالضّارب والمضروب ، وقد تكون ملكة ، وقد يعتبر مع كونه ملكة كونه حرفة وصنعة
مثل : الخيّاط والنجّار والبنّاء ونحوها ، وقد يكون لفظ يحتمل الحال والملكة
والحرفة كالقارئ والكاتب والمعلّم ، والتلبّس وعدم التلبّس يتفاوت في كلّ منها ،
فالّذي يضرّ بالتلبّس في الملكة هو زوالها بسبب حصول النسيان ، وفي الصناعة
الإعراض الطويل بدون قصد الرّجوع.
وأمّا الإعراض مع
قصد الرّجوع ـ ولو كان يوما أو يومين ، بل وشهرا أو شهرين أيضا مع إرادة العود ـ فغير
مضرّ. ويصدق على من لم ينس ، ومن أعرض وقصد العود في العرف أنّه متلبّس بالمبدإ
فيهما ، وإن طرأ الضدّ الوجودي لأصل ذلك الفعل أيضا.
وأمّا في الأحوال
فالتلبّس فيها أيضا يختلف في العرف ، فأمّا في المصادر السيّالة ، فيكفي الاشتغال
بجزء من أجزائه ، وأمّا في غيرها كالسّواد والبياض وغيرهما من الصّفات الظاهرة
والباطنة ، فالمعتبر بقاء نفس الصّفات.
وقد اختلط على بعض
المتأخّرين ، واشتبه عليه الأمر وأحدث مذهبا في
__________________
التفصيل ، فقال :
إنّ إطلاق المشتق باعتبار الماضي حقيقة إن كان اتّصاف الذّات بالمبدإ أكثريا ،
بحيث يكون عدم الاتّصاف بالمبدإ مضمحلّا في جنب الاتّصاف ، ولم يكن الذّات معرضا
عن المبدا وراغبا عنه ، سواء كان المشتق محكوما عليه أو به ، وسواء طرأ الضدّ
الوجودي أو لا. لأنّهم يطلقون المشتقّات على المعنى المذكور من دون نصب القرينة ،
كالكاتب والخيّاط والقارئ والمتعلّم والمعلّم ونحوها ، ولو كان المحلّ متّصفا
بالضدّ الوجودي كالنّوم ونحوه.
والقول بأنّ
الألفاظ المذكورة ونحوها ، كلّها موضوعة لملكات هذه الأفعال ؛ ممّا يأبى عنه
الطّبع السليم في أكثر الأمثلة ، وغير موافق لمعنى مبادئها على ما في كتب اللّغة ،
انتهى.
وبعد ما حقّقنا لك
، لا يخفى عليك ما فيه.
إذا تحقّق ذلك
فنقول : إنّ ما جعلوه ثمرة النزاع من مثل كراهة الجلوس تحت الشّجرة المثمرة ،
ينبغي التأمّل في موضع الثمرة منها ، فإنّ المثمرة يجوز أن يكون المبدا فيها هو
الملكة ، فإنّ للشجرة أيضا يتصوّر نظير ما يتصوّر للإنسان ، وعلى هذا فلا يضرّ عدم
وجود الثمرة بالتلبّس بالمبدإ فيها إلّا أن يحصل للشجرة حالة لا يحصل معها الثمرة
أصلا بالتجربة ونحوها ، شبيه النسيان للإنسان ، ويجوز أن يكون هو الحال.
والحال أيضا يحتمل
معنيين : أحدهما : صيرورته ذا ثمرة مثل : أغدّ البعير .
والثاني : المعنى
المعهود الحالي.
فعليك بالتأمّل
والتفرقة في كلّ موضع يرد عليك.
__________________
الباب الأول
في الأوامر والنّواهي
وفيه مقصدان :
الأوّل :
في الأوامر
الأمر على ما ذكره
أكثر الاصوليين هو طلب فعل بالقول استعلاء. والأولى اعتبار العلوّ مع ذلك كما
اختاره جماعة ، وسنشير اليه في آخر المبحث .
والمراد بالعالي
من كان له تفوّق يوجب إطاعته عقلا أو شرعا.
وقيل : هو الطلب
من العالي.
وما قيل :
باشتراكه مع ذلك بين الفعل والشأن وغير ذلك ، بعيد لعدم تبادرها ، المجاز خير من
الاشتراك ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.
وظنّي أنّ من يقول
بأنّ الأمر ـ أعني المركّب من (أم ر) حقيقة في الوجوب ، هو ممّن يقول بالقول
الأوّل ، ولا بدّ أن يقول به ليناسب تعريفه الاصطلاحي معناه
__________________
العرفي ، إذ
الاستعلاء ظاهر في الإلزام ، إذ لا معنى لإظهار العلوّ في المندوب ، وإدّعائه كما
لا يخفى ، وهو الأظهر عندي للتبادر وللآيات والأخبار مثل : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ) الخ و : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ) ، و : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك» وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول الله؟ حيث طلب صلىاللهعليهوآلهوسلم مراجعتها إلى زوجها : لا ، بل إنّما أنا شافع .
فكلّ ما ثبت كونه
أمرا وصدق عليه هذا المفهوم ، يستفاد منه الوجوب ، لأنّ كون المشتقّات من هذا
المبدا حقيقة في الوجوب ، وكون المبدا أعمّ كما ترى ، فالوجوب مأخوذ في مفهوم
الأمر.
فالتعريف الأوّل
مناسب لمعناه العرفي المتبادر منه ، ومن يقول بعدم إفادته الوجوب ولا يأخذ الوجوب
في مفهوم الأمر ، فهو إمّا ممّن يقول بأنّ الأمر هو الطلب من العالي لا من حيث
إنّه مستعل ، وقد عرفت بطلانه ، أو يأخذ الاستعلاء في مفهوم النّدب أيضا ويجعله
أعمّ من الندب ، وستعرف بطلانه.
__________________
واحتج من قال بعدم إفادة لفظ الأمر الوجوب : بتقسيم الأمر الى
الواجب والنّدب. وهو لا يستلزم كونه حقيقة فيهما ، إذ لو أريد أنّ الأمر الحقيقي ينقسم ، فهو
غير مسلّم ، وإن أريد الأعمّ ، فلا ينفع ، مع أنّه ينقسم الى ما ليس بحقيقة فيه
اتّفاقا ، كالتسخير والتعجيز ونحوهما .
وكذلك الكلام في
قولهم : إنّ المندوب طاعة ، والطاعة فعل المأمور به ، فإنّ الطاعة إمّا فعل
المأمور به الحقيقي أو فعل المندوب ، لا فعل المأمور به الحقيقي فقط ، وإن أريد
الأعمّ من المأمور به الحقيقي ، فلا يجديهم نفعا.
ولمّا كان العالي
قد يطلب الشيء ولكن لا على سبيل الاستعلاء ، كالمندوب ، فإنّه إرشاد وهداية ، ولا
يلزم فيه اعتبار الاستعلاء ، فلا بدّ أن يميّز بين أقسام طلبه بالتميّز بين
الألفاظ التي يطلب بها حتّى يعلم أيّها أمر وأيّها ندب وإرشاد.
وقد ظهر لك ، أنّ
الطلب إذا كان بما يشتقّ من أصل الأمر كقوله : آمرك بكذا ، أو أنت مأمور بكذا ،
ونحو ذلك ، يفيد الوجوب وهو أمر حقيقة.
وأما إذا كان
الطلب من العالي بغير ما يشتقّ من لفظ الأمر ، كالصّيغ الموضوعة للطّلب مثل : افعل
وأخواته ، ورويد وأخواته ، فهو الذي جعله الأصوليّون
__________________
أصلا على حدة ،
ومحلّ نزاع برأسه.
فنزاعهم في دلالة
هذه الألفاظ على الوجوب يتصوّر على صور :
إحداها : أنّ
العالي إذا طلب شيئا بهذا اللّفظ ، هل يفهم منه الإلزام والحتم الذي يستلزم
مخالفته الذّم والعقاب اللّذين هما لازم مخالفة السّافل للعالي حين الإلزام حتى
يثبت خلافه فيكون حقيقة في ذلك ، أو مطلق الرّجحان ، أو غير ذلك؟
وثانيتها : أنّ
هذه الألفاظ مع قطع النظر عن القائل والقرينة ، هل تفيد الإلزام والحتم أم لا ،
مثل أن يسمع لفظ : افعل ، من قائل من وراء الجدار ولم يعرف حال المتكلّم والمخاطب
، فهل يفهم منه الإلزام ، ثم يعرف الذّمّ واللّوم على التّرك وعدمهما بعد معرفة
حالهما أم لا؟
وثالثتها :
الصّورة بحالها ، ولكنّه [لكنّها] هل يفهم منه [منها] الإلزام من العالي المستحقّ
تاركه اللّوم والعقاب أو لا؟
وبعبارة اخرى : هل
يفهم منها أنّ القائل بها شخص عال أوجب الفعل على المخاطب أم لا؟
ومرجع الأولى الى
الثانية ، إذ الّذي ظهر من الصّيغة هو مجرّد الحتم والإلزام ، وحصول الذّم والعقاب
على الترك إنّما هو من لوازم خصوص المقام.
وعلى هذا فيمكن
إجراء النّزاع في الصّيغة إذا صدرت عن السّافل والمساوي أيضا ، فإنّ طلبهما أيضا
قد يكون على سبيل الحتم واللّزوم ، وقد يكون غير ذلك من المعاني.
__________________
وعلى هذا فما
استدلّ به بعض القائلين بكونها حقيقة في النّدب ، من أنّ الفرق بين الأمر والسّؤال
ليس إلّا تفاوت رتبة الطالب ، فالوجوب شيء زائد ، والسّؤال إنّما يدلّ على الندب ،
فكذا الأمر .
فجوابه التحقيقي
بعد منع اختصاص الفرق بذلك لما عرفت ، ثمّ تسليمه هو : أنّ النزاع إنّما هو في الصّيغة ،
والقائل بكونها للوجوب يقول به في السّؤال أيضا ، يعني به الحتم والإلزام ، غاية
الأمر أنّ حصول الذمّ والعقاب ثمّة يحصل بالترك بخصوص المقام دون ما نحن فيه.
والحاصل ، أنّ
صيغة افعل مع قطع النّظر عن القرائن ، تفيد الوجوب اللّغوي ، وبضميمة المقام يتمّ
الوجوب الاصطلاحي ، وهذا هو مراد القائل بكونها حقيقة في الوجوب.
نعم ، يمكن الفرق
بين الصّورتين الأوليين بإمكان المناقشة في الصّورة الأولى ،
__________________
بأنّ الدّلالة على
الإلزام لعلّه يكون من جهة أنّه صدر عن العالي ، فلا يتمّ القول بالدّلالة على
الإلزام لغة في السّؤال أيضا.
ولا يظهر من ذلك
حال الصّيغة إذا صدرت عن السّائل أنّها حقيقة فيه أو مجاز ، فاستدلالهم في دلالة
الصيغة على الوجوب بذمّ العقلاء على الترك إذا قال السيّد لعبده : افعل ، ولم يفعل
ـ كما سيجيء ـ ليس على ما ينبغي. اللهمّ إلّا أن يجعل النزاع في خصوص الصيغة إذا
صدرت عن العالي ، وهو لا يلائم الجواب المذكور عن دليل القائل بالنّدب أيضا.
وأمّا على الصّورة
الثالثة ، فلا يرد السّؤال المتقدّم أصلا ولا يتمشّى الجواب المتقدّم قطعا ، كما
لا يخفى.
والفرق بين
الصّورتين ، هو أنّ حصول الذّم والعقاب خارج عن مدلول اللّفظ في الصّورة الاولى ،
وداخل فيه في الصّورة الأخيرة ، فلا بدّ أن يكون افعل ـ مثلا ـ حقيقة في كلّ من
الأمر والسّؤال ، والالتماس إذا أراد كلّ منهم اللّزوم والحتم على الصّورة الأولى
، وحقيقة في الأمر فقط على الصّورة الأخيرة ، فيكون استعماله في الالتماس والسّؤال
مجازا.
والذي يترجّح في
النّظر القاصر هو الصّورة الأخيرة ، وإن لم يساعدها تحرير محلّ النزاع في كلام
كثير منهم.
واعلم أنّ ما
ذكرناه من الصّور الثلاث يجري في لفظ (أم ر) أيضا ، والكلام فيه الكلام في الصيغة
بعينه.
ويظهر الثمرة في
كون هذا اللّفظ من الملتمس والسّائل مجازا أو حقيقة أيضا.
وعليك بالتأمّل
فيما ذكرنا والتحفّظ به ، فإنّ كلام القوم هاهنا مشوّش فربّما وقع الاشتباه بين
المادّة والصّيغة ، وربّما حصل الخلط وعدم التميّز بين الصّور المتقدّمة ، والله
الهادي.
قانون
اختلف الاصوليّون
في صيغة افعل وما في معناه على أقوال :
المشهور بين
الاصوليين أنّه حقيقة في الوجوب لغة. وذهب جماعة : الى أنّها حقيقة في النّدب ، وقيل : بالاشتراك بينهما معنى. وعلم الهدى رحمهالله ، بالاشتراك بينهما لفظا لغة ، وبكونها حقيقة في الوجوب في
عرف الشّارع . و : توقّف بعضهم في الوجوب والندب . وقيل : بالاشتراك بينهما والإباحة لفظا ، وقيل : معنى. وهاهنا مذاهب أخر ضعيفة.
__________________
والأقرب الأوّل للتبادر عرفا ، ويثبت في اللغة والشّرع بضميمة
أصالة عدم النّقل.
لا يقال : أنّا لا
نفهم من الصيغة غير طلب الفعل ، ولا يخطر ببالنا التّرك فضلا عن المنع منه ، فإنّ
معنى الوجوب وغيره ، أمر بسيط إجمالي ، وهو الطّلب الحتميّ الخاص ، ولكنّه ينحلّ عند العقل بأجزاء ، كسائر الماهيّات
المركّبة ، كالإنسان والفرس وغيرهما.
فهذا الطّلب
البسيط الإجمالي الخاصّ إذا تحلّل عند العقل ، ينحلّ الى طلب الفعل مع المنع من
التّرك ، فانظر الى العرف ، ترى أنّ السيّد إذا قال لعبده : افعل كذا ، فلم يفعل ،
عدّ عاصيا وذمّه العقلاء للترك ، وإن لم يكن هناك قرينة تدلّ على الوجوب.
وما يتوهّم من
منافاة ذلك لاستعمال الشّارع إيّاها متعلّقا بأمور كثيرة ،
__________________
بعضها واجب وبعضها
مندوب ، مثل قوله : اغتسل للجمعة وللزيارة وللجنابة ولمسّ الميّت وغير ذلك.
مدفوع : بأنّه لا
يتصوّر في ذلك قبح إلّا لزوم تأخير البيان عن وقت الخطاب ، سيّما فيما له ظاهر ،
وقبحه ممنوع. وكون ذلك في كلّ المواضع موضع الحاجة ، سيّما موضع معرفة الوجه
واعتقاد أنّ هذا واجب وذلك مندوب ، أيضا غير ظاهر.
والحاصل ، أنّ
الدّليل قام على تعيين الحقيقة ، ولا مانع من استعماله في المعنى المجازي وهو عموم
المجاز بقرينة من خارج ، ولا يجب وجود القرينة في اللّفظ ، وكذلك استعمال الصّيغة
في المندوبات فقط بدون قرينة في اللّفظ.
وقد استدلّ أيضا :
بآيات منها قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ) الخ. هدّد سبحانه مخالف الأمر وحذّره من العذاب ، وهو يفيد
الوجوب. وما ذكرنا هو مدلول السّياق لا صيغة ليحذر ليستلزم الدّور. والمصدر المضاف
يفيد العموم حيث لا عهد ، فلا يرد أنّ الأمر لا عموم فيه ، والعموم الأفرادي
لا المجموعي ليرد النّقض بترك مجموع المندوبات لكونه معصية وكلّ واحد
منها على البدليّة لا السّالبيّة الكلّيّة ، بمعنى : لا يأتون بشيء من أوامره ليرتفع بالموجبة
الجزئية فيلزم عدم العقاب على بعضها ، والأولى أن يقال : المراد بالأمر ، الطبيعة
الكلّيّة ، وهو مستلزم للعموم لوجودها في ضمن كلّ فرد.
__________________
وكيف كان ، فهذه الآية إنّما تدلّ على وجوب الأمر الشّرعي لا الوجوب
لغة ، وأيضا لا تدل على دلالة الصّيغة على الوجوب ، بل الأمر.
وما قيل : من أنّ الأمر حقيقة في الصّيغة المخصوصة ، والتّهديد على
مخالفة ما صدق عليه الأمر من الصّيغ.
ففيه ما لا يخفى ،
إذ الأمر إنّما يسلم صدقه على الصّيغة إذا كان الطّلب بها على سبيل الاستعلاء
المستلزم للوجوب.
وأمّا إذا أريد
منها مجرّد الندب أو الإرشاد أو الأذن أو غير ذلك ، فلا يصدق عليه أنّه أمر.
والحاصل ، أنّ
قولهم في تعريف الأمر مطابقا لمعناه العرفيّ طلب بالقول على سبيل الاستعلاء ، أو
طلب بالقول من العالي ، يعتبرون في ذلك حيثية العلوّ سيّما في التعريف الأوّل ،
وهو مستلزم للوجوب عرفا ، ولا ريب أنّ صيغة افعل الصادرة عن العالي ليس يعتبر فيها
الاستعلاء في جميع موارد استعمالها ، فكيف يقال باستلزام دلالة الأمر على الوجود ،
دلالة الصّيغة المطلقة عليه حتّى يجدي في المواضع الخالية عن القرينة التي هي محطّ
نظر الاصولي.
وأيضا فعلى هذا
فلا معنى للنّزاع في دلالة صيغة افعل على الوجوب ، ويكفي في ثبوت ذلك إثبات دلالة
لفظ الأمر عليه ، وهو كما ترى خلاف ما اتّفقت عليه كلمة الأصوليّين.
__________________
ـ والتحقيق ـ أنّ
لفظ الأمر حقيقة في الطّلب الاستعلائي على سبيل الوجوب ، وهو المتبادر منه عرفا ،
وصيغة افعل كثيرا ما تستعمل في غير هذا المعنى ، فكون الأمر حقيقة في الوجوب لا
يستلزم كون افعل حقيقة فيه ، ولذلك أفردوا البحث في كلّ منهما. فما اخترناه من كون
الصّيغة للوجوب إنّما هو للتبادر في الصّيغة لا من أجل كونها مصداقا للأمر ، وإن
كنّا نقول بكون الأمر أيضا حقيقة في الوجوب ، لما دللنا عليه سابقا. وممّا ينادي
بذلك قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك» . فإنّ طلبه صلىاللهعليهوآلهوسلم للسّواك بصيغة افعل في غاية الكثرة.
وأمّا ما يقال :
إنّه لا بدّ من تضمين الإعراض ونحوه ليكون متعلّقا بكلمة المجاوزة ، فهذا لا
يدلّ إلّا على التهديد على المخالفة على سبيل الإعراض والتولّي ، وهو يتمّ إذا كان
الأمر للندب أيضا.
ففيه : أنّ ذلك
ليس إلّا من جهة صحّة التركيب النحوي ، ولا يشترط في ذلك اعتبار التولّي كما لا
يخفى ، ومنها قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ). فإنّ الاستفهام إنكاريّ لاستحالته على الله ، وهو يفيد التهديد ، والتهديد لا يجوز إلّا على ترك
الواجب ، وهذه الآية أيضا لا تدلّ إلّا على دلالة الأمر على الوجوب ، بل وخصوص أمر
الشّارع ، إلّا أن يقال : المراد به قوله تعالى : (اسْجُدُوا)
قبل هذا ، وإنّ
المتبادر من التعليل هو كون العلّة مخالفة الأمر من حيث إنّه أمر ، لا من حيث هو
أمره تعالى ، فتأمّل.
__________________
وما يتوهّم من أنّ التهديد لعلّه من جهة اكتناف الصّيغة بقرينة حاليّة
تدلّ على الوجوب لا من جهة دلالة نفس الصيغة ، يدفعه أصالة عدمه.
لا يقال : أنّ هذا
إنّما يتمّ لو ثبت اتّحاد عرفنا مع عرف الملائكة ، لأنّ حكاية أحوال كلّ أهل لسان
الآخرين إنّما تصحّ من الحكيم إذا تكلّم بما يفيد المطلب من لسان الآخرين ويستعمل
حقيقتهم في حقيقتهم ومجازهم في مجازهم وهو ظاهر.
وما يقال أيضا :
إنّ الاستفهام تقريريّ لإتمام الحجّة ، فالغرض إقرار إبليس باستكباره ، وإنّ
المخالفة إنّما كانت من جهة الاستكبار حيث قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) وهذا يتمّ إذا كان الأمر للندب أيضا.
ففيه : أنّ الاستكبار من إبليس لعنه الله ليس على الله ، بل على
آدم عليهالسلام فيرجع بالنسبة الى الله الى محض المخالفة التبعيّة الغير
المقصودة بالذّات ، المتولّدة من المخالفة الحاصلة من الحميّة والعصبيّة ، وهذه
شيء ربّما يعدّ من تبعها نفسه في عداد المقصّرين فافهم.
ومنها : قوله
تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) ذمّهم سبحانه على مخالفة الأمر. واحتمال كون الذّم على ترك
الأمر مشاقّة وتكذيبا خلاف الظاهر ، وقوله تعالى بعد ذلك : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) الخ. لا يدلّ على ذلك ، لجواز ذمّهم على
__________________
الجهتين إن كانوا
هم المكذّبين ، واختصاص الذمّ بهم والويل للمكذّبين إن كانوا غيرهم ، واحتمال ثبوت
القرينة على الوجوب ينفيه الأصل.
واحتجّ من قال
بكونها حقيقة في النّدب : بما مرّ في القانون السّابق ، وبقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «وإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» . فإنّ الردّ الى مشيّتنا يفيد الندب.
وفيه : أنّ
الاستطاعة غير المشيّة ، بل لعلّ ذلك يفيد الوجوب ، مع أنّ بيان المعنى يشعر بعدم
كونها حقيقة في النّدب ، وإلّا لما احتاج الى البيان ، ولو سلّم جميع ذلك فإنّما
يدلّ على أنّ أمر الشارع كذلك ، لا لأنّ الأمر في اللّغة كذا.
والكلام في عدم
دلالته على حكم الصّيغة نظير ما مرّ .
حجّة القول بكونها
حقيقة في الطّلب مضافا الى ما مرّ في أوائل القانون مع جوابه : أنّ الحقيقة الواحدة خير من الاشتراك والمجاز ، لو قيل
بوضعها لكلّ منهما على حدة أو لأحدهما فقط.
وجوابه : أنّ
المصير الى المجاز في الندب لدلالة الدّليل الذي قدّمناه ، وإنّه خير من
__________________
الاشتراك بينه
وبين الوجوب ، مع أنّ المجاز لازم على ما ذكروا أيضا إذا استعمل في كلّ من
المعنيين بقيد الخصوصيّة ، مع أنّ لزوم المجاز حينئذ أكثر ، لأنّ المجاز على
المختار مختصّ بالندب إلّا أن يقال بالتساوي من جهة الاستعمال في عموم المجاز على
المختار أيضا ، وهو مجاز شائع لا شذوذ له كما توهّمه صاحب «المعالم» .
حجّة الاشتراك
اللّفظي بينهما لغة : الاستعمال فيهما ، والأصل فيه الحقيقة ، وقد عرفت أنّ
الاستعمال أعمّ منها ، ونحن قد دللنا على كونها حقيقة في الوجوب فقط.
وحجّة الدّلالة
على الوجوب شرعا : احتجاج بعض الصّحابة على بعض في المسائل بالأوامر المطلقة من
غير نكير ، وإجماع الإماميّة على ذلك .
والأوّل مدفوع :
بأنّ الظاهر أنّ استدلالاتهم من جهة دلالته لغة والأصل عدم طروّ وضع جديد ،
والإجماع لو سلّم ، فلا ينفي كونها حقيقة فيه في اللّغة أيضا.
وقد يستدلّ على
ذلك : ببعض الآيات والأخبار مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ). فإنّ امتثال الأمر طاعة ، وترك الطاعة عصيان.
وفيه : منع كليّة
الكبرى ، مع أنّه لو تمّ ذلك لتمّ في الدلالة عليه لغة أيضا ، ولا
اختصاص لذلك بالشّرع ، إذ الواجب ليس إلّا ما يعدّ تاركه عاصيا. ومثل قوله
__________________
تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). مضافا الى الآيات الدّالة على مذمّة من لم يطعهم ، مثل : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً). ومثل الأخبار الدّالة على وجوب إطاعة الأئمّة عليهمالسلام ، وأنّ إطاعتهم مفترضة وهي كثيرة.
وفيه : أنّ
الطّاعة هو الانقياد للأمر والإذعان بما يحكم ، إن واجبا فواجب ، وإن ندبا فندب.
والحاصل ، أنّا لا
نسلّم دلالة هذه الآيات والأخبار إلّا على عدم جواز المخالفة ، وهو لا يستلزم إيجاب
جميع ما طلبوا بصيغة افعل وما في معناها ، مع أنّ الظاهر أنّ المراد من الأخبار
أنّهم عليهمالسلام أحقّ بالاتّباع من الجبت والطاغوت وأشياعهما كما قيل ،
والاتّباع أعمّ من المدّعى كما لا يخفى.
حجّة التوقّف : عدم ثبوت كونها حقيقة في شيء ، لأنّ الطريق منحصر في
النقل ، والآحاد منه لا يفيد العلم ، والمتواتر منه مفقود ، لأنّ العادة تقضي
بالاطّلاع لمن يبحث ويجتهد ، وليس ، فليس.
والجواب : منع
اشتراط العلم أوّلا ، بل يكفي الظنّ. ومنع الانحصار ثانيا لثبوته بما ذكرنا من
الأدلّة.
ويظهر حجّة
الباقين ، بملاحظة ما ذكرنا ، وكذا جوابه.
__________________
تنبيه
قال في «المعالم» : يستفاد من تتبّع تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة عليهمالسلام ، أنّ استعمال صيغة الأمر في النّدب كان شائعا في عرفهم ،
بحيث صار من المجازات الرّاجحة المساوي احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة عند
انتفاء المرجّح الخارجي ، فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به
عنهم ، وتبعه بعض من تأخّر عنه ، كصاحب «الذخيرة» .
ويرد عليه : أنّ
هذا إنّما يصحّ إذا ثبت استعمالهم في الندب بلا قرينة حالية أو لفظيّة ، ونفهم
إرادة النّدب من دليل آخر ولم يثبت.
وأيضا قد عرفت أنّ
المجاز الرّاجح رجحانه إنّما هو مع قطع النّظر عن الوضع ، وأمّا معه فمساواته مع
الحقيقة ممنوع إلّا إذا غلب في المجاز ، بحيث يصير وضعا جديدا ، فيصير حقيقة في
المعنى الثاني ، وأنّى له بإثباته فيما نحن فيه ، مع أنّه لم يدّعه أيضا.
والحاصل ، أنّ
مجرّد كثرة الاستعمال في المعنى المجازي لا يوجب الخروج عن الحقيقة وإن كان
الاستعمال في غاية الكثرة ، بل وأكثر من استعماله في الحقيقة
__________________
بكثير ، ألا ترى
أنّ الألفاظ الّتي ادّعوا صيرورتها حقائق شرعية في المعاني الشرعيّة ، استعمالها
في المعاني الشرعيّة أكثر من اللّغوية ، ومع ذلك يحملها المنكرون عند التجرّد عن
القرينة على المعاني اللّغويّة وهو رحمهالله منهم ، وكذلك العامّ مع أنّه بلغ في التخصيص الى أن قيل : ما من
عامّ إلّا وقد خصّ.
وأيضا ، تلك الكثرة
إنّما حصلت بملاحظة مجموع روايات مجموع الرّواة عن مجموع الأئمّة عليهمالسلام ، والذي يضرّ على سبيل التسليم هو الكثرة بالنسبة الى كلّ
واحد واحد ، فافهم.
__________________
قانون
إذا وقع الأمر عقيب الحظر أو في مقام
ظنّه أو توهّمه ، فاختلف القائلون
بدلالته على الوجوب ، في كونه حقيقة في الوجوب ، أو مجازا في الندب ، أو الإباحة ،
أو التوقّف أو تابعيّتها لما قبل الحظر إذا علّق الأمر بزوال علّة عروض النّهي .
والأقوى كونه
للإباحة بمعنى الرّخصة في الفعل ، ويلزمه بيّنا رفع المنع السّابق للتبادر ، بمعنى
أرجحيّته في النظر من الوجوب ، إذ ما تقدم من تقدّم الحقيقة على المجاز اتّفاقا ، إنّما هو إذا دار
الأمر بين المعنى الحقيقي والمجازي إذا خلا المقام عن قرينة مرجّحة لأحدهما.
وأمّا مع القرينة
الموجبة للجزم بإرادة المجاز فيقدّم المجاز ، اتّفاقا ، وكذا مع إفادتها الظنّ به
مع كون أصل الحقيقة في النظر أيضا. فالمقصود أنّ ملاحظة المقام
__________________
والالتفات الى هذه
القرينة ـ أعني وقوع الصّيغة عقيب الحظر ـ يوجب تقديم إرادة المعنى المجازي وهو
الإباحة على الحقيقي فيدور ترجيح المعنى الحقيقي ، أو المجازي مع القرينة على حصول
الترجيح والظهور ، ولمّا كان قرينة الشّهرة ليست من قبيل القرائن الأخر ، وكانت
منضبطة ؛ أفردوا الكلام فيها في باب تعارض الأحوال ، وإلّا فالدّوران والتعارض
حاصل في جميع القرائن ، لكنّها غير منضبطة ، فالترجيح فيها يتفاوت بالنسبة الى
تفاوت الناظرين وبالنسبة الى المقامات ، فاضبط ذلك.
ويدلّ على ذلك
أيضا تتبّع موارد الاستعمال ، فإنّك لو تتبّعتها وتأمّلتها بعين الإنصاف تجد ما
ذكرنا. ولو بقي لك شكّ في موضع ، فألحقه بالغالب ، لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ
الأغلب.
وهذه قاعدة نفيسة
مبرهن عليها بالعقل والعرف والشّرع ، قد حرم عن فوائدها من لم يصل الى حقيقتها ،
وقد أشرنا إليه سابقا.
ثمّ إنّ بعضهم
لاحظ مثل قول المولى لعبده : اخرج من المحبس الى المكتب ، ومثل قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ). و : (وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، وأمر الحائض والنّفساء بالصّلاة والصّوم بعد رفع المانع
وقال بالوجوب ، مضافا الى أنّ
__________________
المقتضي ـ وهو
الأدلّة ـ على دلالتها على الوجوب موجود ، والمانع منه مفقود ، لأنّ الإباحة لا
تنافي الوجوب.
وفيه : أنّا نقول
: إنّ المراد من الأمر هنا مجرّد رفع الحظر لما ذكرنا ، فلا دلالة فيها على أزيد من ذلك.
وأمّا عدم منافاته
لثبوت الوجوب فهو مسلّم ، لكنّ الوجوب ليس من جهة هذا الأمر ، فالمانع عن الدّلالة
من جهة هذا الأمر موجود ، وأكثرهم قد قرّروا هذا الدّليل على نهج آخر أضعف ، وهو
أنّ المقتضي موجود ، أعني صيغة الأمر ، لما تقدّم من الأدلّة ، والمانع لا يصلح
للمانعيّة ، وهو ما ذكره الخصم من أنّ الوجوب ضدّ للحظر ، ولا يجوز الانتقال منه
إليه ، لأنّ الإباحة أيضا ضدّ له.
أقول : بل المانع
هو قرينة المقام كما بيّنّا ، ودلالة الأدلّة على دلالة مطلق الصّيغة على الوجوب ؛
لا تنافي عدم دلالتها عليه في خصوص موضع باعتبار القرينة ، كما في سائر المجازات.
وأمّا المثال
المذكور والآيات المذكورة ، فالجواب عنها : أنّ محلّ النزاع هو ما إذا حظر عن شيء
تحريما أو تنزيها ثمّ أمر به من دون اكتنافه بشيء يخرجه عن حقيقته الجنسيّة أو
النوعيّة.
والمراد من قولنا : إنّ ما ورد الأمر به حينئذ ليس واجبا ، بل
إنّما هو أمر مرخّص فيه : إنّ الوجوب لا يراد من هذا الأمر من حيث هو هذا الأمر ،
ولا نمنع من ثبوت الوجوب من موضع آخر ، فحينئذ نقول : مثل قول المولى للعبد بعد
نهيه عن
__________________
الخروج عن المحبس
: اخرج الى المكتب ؛ خارج عن موضع النّزاع ، فإنّ الأمر ليس بعين ما نهي عنه ، بل
المحظور خروجه من المجلس من حيث هو خروج عن المجلس. والمأمور به هو خروجه ذاهبا
الى المكتب ، ولا يضرّ هذا بدلالة الأمر على الوجوب.
وأمّا قوله تعالى
: (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ). فهو لرفع الحظر لا غير ، والوجوب إنّما هو لثبوته قبل
الحظر وعدم حصول النسخ ، فيرجع الى الحكم السّابق ، وهذا ليس من دلالة (اقتلوا)
على الوجوب في شيء.
وكذلك ترخيص
الحائض والنفساء ووجوب الحلق بعد النّهي عنه أيضا ثابت بدليل خارجي ، لأنّه أيضا
من النّسك.
ولعلّك بالتأمّل
فيما ذكرنا تقدر على استخراج أدلّة القائلين بالتّابعيّة لما قبله والتوقّف ، والجواب عنها.
وأمّا القائل
بالندب ، فلعلّه نظر الى أنّ الندب أقرب المجازات للوجوب ، فإذا انتفى الدلالة
عليه ببعض ما ذكر ، فيحمل عليه ، وأنت بعد ملاحظة ما ذكرنا تقدر على إبطال ذلك
أيضا.
وأمّا توهّم
اختصاص كونها حقيقة في الإباحة في عرف الشّارع ، فهو ضعيف لعدم الفرق بينه وبين العرف
العامّ.
__________________
قانون
المشهور أنّ صيغة افعل لا تدلّ إلّا على
طلب الماهيّة .
وقيل : تدلّ على
التكرار مدّة العمر إن أمكن عقلا وشرعا ويكون تركه إثما.
وقيل : على المرّة
. ويظهر من بعضهم أنّ مراد القائلين بالمرّة هو الدّلالة على الماهيّة
المقيّدة بالوحدة لا بشرط التكرار ولا عدمه ، فالزّائد على المرّة لا يكون امتثالا ولا مخالفة.
ومن بعضهم دلالتها
على عدم التكرار ، فتكون الزّيادة إثما.
والقائلون
بالماهيّة أيضا بين مصرّح بحصول الامتثال لو أتى به ثانيا وثالثا وهكذا ، فلا إثم
على ترك الزّيادة على المرّة ، ويحصل الثواب بفعل الزّائد ،
__________________
وبين قائل بأنّ
الامتثال إنّما يحصل بالمرّة ، ولا معنى للامتثال عقيب الامتثال ، وحينئذ فيمكن أن
يكون من قبيل الاحتمال الأوّل في المرّة ، فلم يكن عقاب كما لم يكن ثواب ، فينتفي
ثمرة النزاع بينهما.
ويمكن أن يكون من
قبيل الاحتمال الثاني فيها ، فينتفي ثمرة النزاع بينهما أيضا.
وما ذكرنا من
الاحتمالين ينشأ من القول بكون ما لم يرد عليه من الشارع دليل ، تشريعا حراما ،
كما هو المشهور المحقّق وعدمه .
والحقّ هو الأوّل
، وعلى هذا ، فلا يظهر بين القولين في المرّة أيضا ثمرة.
والأقرب عندي
أنّها لا تدلّ إلّا على طلب الماهيّة ، وأنّ الامتثال إنّما يحصل بالمرّة الأولى ، لأنّ الأمر
يقتضي الإجزاء ، والإتيان به ثانيا وثالثا تشريع محرّم ، لكون أحكام الشّرع
توقيفيّة موقوفة على التوظيف.
لنا : أنّ الأوامر
وسائر المشتقّات مأخوذة من المصادر الخالية عن اللّام والتنوين ، وهي حقيقة في
الطبيعة لا بشرط شيء اتّفاقا ، كما صرّح به السّكاكي .
وما قيل : من أنّ
اسم الجنس موضوع للماهيّة مع قيد الوحدة المطلقة ، فإنّما يسلم إذا كان مع التنوين
والوحدة والتكرار ، مثل سائر صفات الطبيعة ، قيود خارجة عنها ، فلا دلالة للّفظ
الدالّ على الطبيعة الكلّية على شيء من قيودها ، لأنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ ،
والهيئة العارضة لهذه المادة لا تفيد أزيد من طلبها بحكم
__________________
العرف ، والتبادر
بعنوان الإيجاب والإلزام كما مرّ ، والأصل عدم إرادة شيء آخر معها.
فما قيل : من أنّ
المادة إن لم تدلّ على القيد ؛ فالهيئة تدلّ عليه ، في معرض المنع. ومقايسة
القائلين بالتكرار ، الأمر بالنهي بجامع الطّلب ، باطل ، لأنّه في
اللّغة ومع الفارق ، لأنّ نفي الحقيقة كما هو مدلول النّهي ،
يقتضي استغراق الأوقات ـ كما سيجيء ـ بخلاف إيجادها ، والتروك تجامع كلّ فعل بخلاف
تكرار المأمور به.
وقولهم : بأنّه لو لم يكن الدلالة على التكرار لما تكرّر الصّوم
والصّلاة مع أنّه معارض بالحجّ.
مدفوع : بأنّه من
دليل خارج كما توضّحه كيفيّة التكرار المقرّرة.
واحتجاجهم : بأنّ الأمر يستلزم النّهي عن الضدّ والنّهي يفيد دوام
الترك ويلزمه دوام فعل المأمور به.
فيه : منع
الاستلزام أوّلا ، إن أريد الخاص كما سيجيء ، ومنع استلزام دوام الترك دوام الفعل
ثانيا ، إلّا في ضدّين لا ثالث لهما كالحركة والسّكون ، لعدم استحالة ارتفاع
الضدّين مطلقا ، فلا يتمّ الإطلاق. ومنع دلالة النّهي على التكرار مطلقا ثالثا كما
سيجيء. ومنع دلالة خصوص النّهي الذي في ضمن الأمر على الدّوام دائما ، بل إنّما هو
تابع للأمر ، إن دائما فدائما وإن في وقت ففي وقت.
__________________
وإن أريد من الضدّ
العامّ ـ أعني الترك ـ فيسقط المنعان الأوّلان ويجيء عليه الباقي.
واحتجاج القائل
بالمرّة : بامتثال العبد عرفا لو أمره السيّد بدخوله الدار فدخل
مرّة ، مردود بأنّ ذلك لعلّه من جهة الإتيان بالطّبيعة كما ذكرنا ، لا لأنّ الأمر ظاهر في المرّة.
واعلم أنّ ما ذكرنا
من حصول الثمرة وعدمها فيما بين القول بالمرّة والماهيّة ، إنّما هو في الإتيان
بالأفراد متعاقبة ، وأمّا لو أوجد أفرادا متعدّدة في آن واحد ، مثل أن يقول
المأمور بالعتق لعبيده المتعدّدة : أنتم أحرار لوجه الله.
فقيل : على القول
بالماهيّة يحصل الامتثال بالجميع.
وأمّا على القول
بالمرّة ، فأمّا على القول الثاني فيها ، فيبنى ذلك على جواز اجتماع الأمر والنّهي مع اختلاف
الجهة.
فإن قلنا بجوازه
كما هو الأصحّ ، فيستخرج المطلوب بالقرعة لو احتيج الى التعيين ويكون غيره معصية ،
فإنّ الظاهر أنّ المراد بالمرّة هو الفرد الواحد لا مجرّد كونه في الزّمان الواحد
، وإن لم نقل بجوازه فلا يحصل الامتثال أصلا.
وأمّا على القول
الأوّل فلا إثم ، ويستخرج المطلوب بالقرعة أيضا.
هذا وقد ذكرنا أنّ
الأقوى بالنظر الى هذا القول أيضا حصول الإثم.
__________________
بقي الكلام في قول
من يصرّح بحصول الامتثال بالإتيان ثانيا ، وهكذا مع قوله بالماهيّة كصاحب «المعالم»
رحمهالله .
والتحقيق ، أنّه
إن أراد حصول الامتثال في الجملة ، أي ولو في ضمن المرّة الأولى فحسن ، وإلّا
فنقول : أنّه لا معنى للامتثال عقيب الامتثال ، فإنّ الامتثال قد حصل بالأولى
جزما.
وما يتوهّم أنّه يكون من باب الواجب المخيّر بين الواحد والاثنين
والأزيد.
ففيه : أنّه إن
أريد التخيير المستفاد من العقل في الواجبات العينيّة فإنّ الكلّي المكلّف به عينا
لا يمكن الإتيان به إلّا بإتيان الأفراد ، فيكون الأفراد من باب مقدّمة الواجب ،
والعقل يحكم بجواز الإتيان بأيّ فرد يتحقّق في ضمنه الكلّي ، فلا ريب أنّه مع ذلك
يوجب الإتيان بالمرّة الأولى سقوط الواجب عن ذمّة المكلّف ، فلا يبقى بعد واجب
حتّى يمكن الإتيان بمقدّمته ، فضلا عن الوجوب.
وإن أريد التخيير
المستفاد من النقل المدلول عليه بهذا الأمر.
__________________
ففيه : منع ظاهر ،
مع أنّه لا معنى للتخيير بين فعل الواجب وتركه. وليس هذا من باب التخيير بين القصر
والإتمام في الأماكن الأربعة ، فإنّهما حقيقتان مختلفتان ولو بالقصد والنيّة ،
وجعل الشّارع بخلاف ما نحن فيه ، بل ليس من قبيل التسبيحة والثلاث في الركوع
والسّجود والركعة.
فإذا عرفت هذا ،
فيرد على هذا القائل أيضا : أنّه إن كان يقول باتّصاف المرّة الثانية والثالثة
وهكذا بالوجوب ، فهو قول بالتكرار ، وإن كان يقول بالنّدب ، فمع أنّه قول جديد
مستلزم لاستعمال اللّفظ في معنييه الحقيقي والمجازي على القول بكون الصّيغة حقيقة
في الوجوب ، وأنت بعد التأمّل فيما ذكرنا من التحقيق ، تعرف أنّه لا يتمّ ما
نقلناه آنفا من القول بحصول الامتثال في الجميع ، على القول بالماهيّة في صورة
الإتيان بالأفراد مجتمعة أيضا.
وكذلك تتمّة ما
نقلناه من البناء على اجتماع الأمر والنّهي على القول الثاني في المرّة وغيره ،
فتأمّل حتّى يظهر لك حقيقة الأمر.
تذنيب
الأمر المعلّق على شرط ، أو صفة ، يتكرّر بتكرّر الشّرط والصّفة عند القائلين بدلالته على
التكرار قولا واحدا ، لوجود المقتضي وعدم المانع ، غاية الأمر تقليل التكرار
بالنسبة الى الأمر المطلق ، وأمّا غيرهم فذهبوا الى أقوال :
ثالثها : دلالته
عليه مع فهم العلّيّة ، يعني كون الشّرط أو الوصف علّة ، فيكون
__________________
من باب المنصوص
العلّة.
والسيّد المرتضى رحمهالله هنا أيضا من المانعين مطلقا ، لعدم اعتباره المنصوص العلّة
مطلقا.
وسيجيء إن شاء
الله تعالى أنّ الحق حجّيتها ، فالأقرب إذا التفصيل.
وتحرير المقام ،
أنّ كلّ ما دلّ على العموم من أدوات الشرط مثل : كلّما ، ومهما ونحوهما ، فلا ينبغي التأمّل في تكرّر الأمر بتكرّر الشّرط.
وأمّا ما لم يدلّ
على العموم مثل : إن وإذا ، فلا يفيد التكرار أصلا ، إلّا أن يقال بحملها على
العموم ، لوقوعها في كلام الحكيم ، وكون الشرط لغوا لولاه.
وأمّا الصّفة ،
فهي أيضا لمّا لم تدلّ على العلّيّة على ما هو التحقيق كما سيجيء إن شاء الله
تعالى ، بل فيها إشعار بالعلّيّة ، والمعتبر هو العلّة الثابتة كما صرّحوا به ،
فلا اعتبار بها أيضا.
وأمّا إذا فهم
العلّيّة الثابتة بمعونة الخارج ، فيفيد العموم والتّكرار بتكرّر العلّة سواء كان
في الشّرط أو الصّفة ، مثل : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا).
وإن زنى فاجلدوا ،
ونحوهما.
واحتجّ القائلون
بالتّكرار مطلقا : بالاستقراء ، فإنّ قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا). (وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُوا). (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
__________________
فَتَيَمَّمُوا) و : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) و : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا). الى غير ذلك من الآيات والأخبار يتكرّر الأمر فيها بتكرّر
الشّرط ، فكذا فيما يحصل الشكّ إلحاقا بالغالب.
وفيه : أنّ حمله
على التّكرار فيما ذكر ، إنّما هو لأجل فهم العلّيّة ، وهو مسلّم عندنا.
واحتجّ النّافي :
بمثل إن دخلت السّوق فاشتر اللّحم ، أو : أعط هذا درهما إن دخل الدّار ، فلا يفهم منه
التّكرار.
وفيه : أنّ ذلك
لعدم فهم العلّيّة ، وذلك لا يستلزم الاطّراد.
وقيل : إنّ ذلك
للقرينة ، فإنّ من قال لعبده : إذا شبعت فاحمد الله ، فهم منه التّكرار ، وهو
مقلوب عليه ، بل ذلك أيضا لفهم العلّيّة.
__________________
قانون
لا دلالة لصيغة الأمر على وجوب الفور كما ذهب إليه جماعة ، وليست مشتركة بينه وبين جواز التراخي
، كما ذهب إليه السيّد رحمهالله ، بل هي لطلب الماهيّة ، وأيّهما حصل حصل الامتثال ، كما
ذهب إليه جماعة من المحقّقين .
وأمّا القول
بتعيين التراخي ، فلم نقف على مصرّح به.
لنا : نظير ما مرّ
في القانون السّابق.
واستدلال القائلين
بالفور : بمذمّة العبد إذا أخّر في السّقي عند قول مولاه : اسقني.
مدفوع : بأنّه
للقرينة ، ولا نزاع فيه ، مثل استدلالهم بذمّ إبليس على تركه السّجود ، بقوله
تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ). مع إمكان أن يعتذر بعدم دلالة الأمر على الفور ، لأنّ
الفاء في قوله : (فَقَعُوا) ، يفيد التوقيت ، فلم يثبت دلالتها على الفور ، وإنّ الذمّ
لعلّه من جهة الاستكبار.
__________________
وأيضا ينافيه قوله
: (خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). لأنّه كاشف عن الإعراض أوّلا.
وأمّا استدلالهم : بأنّه لو جاز التأخير لجاز الى وقت معيّن ، وإلّا لزم أن
يجوز الى آخر وقت الإمكان وهو مجهول . وتكليف المكلّف بعدم التأخير عن وقت لا يعلمه تكليف
بالمحال ، ولا دلالة في الصّيغة على وقت معيّن.
فاجيب عنه مرّة : بأنّا نجوّز التأخير الى حصول ظنّ الموت ، وهو ممكن
الحصول غالبا كسائر الواجبات الممتدّة بامتداد العمر ، ومرّة بالنقض بصورة
التّصريح بجواز التأخير.
واخرى : بأنّ جواز التأخير لا يستلزم وجوبه ، فالامتثال ممكن.
وأورد عليه : أنّ هذا وإن كان يرفع تكليف المحال ، إلّا أنّه التزم
بوجوب الفور في العمل لتحصيل براءة الذمّة ، وإن لم يثبت كونه مدلول الصّيغة لغة ،
إذ جواز التأخير حينئذ مشروط بمعرفة لا يمكن تلك المعرفة ، فينحصر الامتثال
بالمبادرة ، فيجب الفور.
__________________
وردّ : بأنّ جواز التأخير ليس بمشروط بمعرفة المكلّف بآخر أزمنة
الإمكان ، بل إنّما يتوقّف على عدم كونه آخر أزمنة الإمكان ، والموقوف على معرفة
آخر أزمنة الإمكان إنّما هو العلم بجواز التأخير ، لا نفس الجواز ، فإنّ الجواز في
نفس الأمر لا يتوقّف على العلم بالجواز ، بل يكفي فيه عدم العلم بالمنع ، على ما
يقتضيه أصالة الإباحة.
على هذا فيصير مآل
كلام المجيب تسليم أنّه يجب عدم تأخير الفعل عن آخر أزمنة الإمكان ، ويمكن تحصيل
البراءة بالمبادرة ، مع عدم لزوم وجوب المبادرة ، فلو بادر فيخرج عن عهدة التكليف
، ولو لم يبادر وفعله ثانيا ، فكذا ، وهكذا ، ولو لم يفعل حتّى خرج الوقت فيصير
آثما ، فلم يلزم من ذلك فور ، ولا خروج الواجب عن الوجوب.
وتوهّم كون البدار
مقدّمة للواجب ـ أعني عدم تأخير الفعل عن آخر أزمنة الامكان ـ مدفوع : بمنع
التوقّف.
نعم ، إنّما
يتوقّف حصول العلم بعدم تأخيره عن آخر أزمنة الإمكان في أوّل زمان التكليف بذلك ،
ووجوبه ممنوع .
وما يقال : من أنّ
تحصيل البراءة اليقينيّة المسبّبة عن شغل الذمّة يقينا يستلزم الفور لإمكان أن يفاجئه الموت في الجزء الثاني من الوقت فضلا عن
غيره ، فيأثم بالترك ؛ فهو ممنوع مثل سائر الواجبات الموسّعة أو الممتدّة بامتداد
العمر ،
__________________
فإنّ غاية الأمر
وجوب تحصيل اليقين بالمأمور به ، وأمّا وجوبه فورا فيحتاج الى الدّليل.
نعم ، يتمّ ذلك
على القول بوجوب الاحتياط مع احتمال وجوب الفور ، إمّا باشتراطه في الصّحّة ، أو
في مجرّد حصول الإثم وهو ممنوع .
وكيف كان فهذا
الدّليل مع تمامه لا يدلّ على كون الصيغة للفور ، بل يدلّ على وجوب العمل بالفور
من الخارج .
واستدلّوا أيضا : بالاستقراء ، فإنّ مقتضى النسب الخبريّة مثل : زيد قائم
، وعمرو عالم ، والإنشائيّة ك : أنت طالق ، وهو حرّ ، قصد الحال ، فكذا الأمر
إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.
وظنّه بعضهم قياسا. وردّه : بأنّ القياس غير جائز ، سيّما في اللّغة وسيّما مع
الفارق. فإنّ الأمر لا يمكن توجيهه الى الحال ، لاستحالة طلب الحاصل ، بل الى
الاستقبال ، وهو إمّا الأقرب الى الحال المعبّر عنه بالفور ، أو ما بعده ، فلا
يتعيّن الأوّل إلّا بدليل.
وردّ : بعدم إرادة الحال الحقيقي ، والحال العرفي متحقّق في
الأمر أيضا.
والكلام في
الاستفهام نظير الكلام في الأمر ، فإنّ التفهيم لا يمكن في آن الاستفهام،
__________________
وكذلك النّهي.
وفيه : أنّ ذلك يستلزم تفاوت مدلولات الموادّ المستقرأة فيها ،
إذ الفرق واضح بين هو حرّ ، وهي طالق ، وبين الاستفهام ، والقدر المشترك لا يثبت
المطلوب ، إلّا أن يقال أنّ المعلوم من هذه الموادّ إرادة أحد المعنيين ، إمّا
حصول مدلولها مقارنا لحصولها ، أو في الآن المتّصل بها ، ولمّا لم يكن الأوّل في
الأمر ، فتعيّن الثاني.
والتحقيق : أنّ
مطلوب المستدلّ ، إن كان أنّه حصل له من الاستقراء أنّ النسب الخبرية والإنشائية
الصادرة عن المتكلّم حاصلة في الحال الحاضر ، فهو لا يجديه. لأنّه لا إشكال في أنّ
النسبة الإنشائية في الأمر ، وهي الطّلب القائم بنفس المتكلّم ، حاصلة في الحال ،
فلا يمكن النزاع فيه.
وإن كان أنّ مفاد
تلك الجمل ومدلولاتها حاصلة في الحال ، كقيام زيد وعلم عمرو وطلاق هند وحريّة بلال
فهو ، مع أنّه منقوض بمثل : كان زيد قائما ، وعمرو سوف يجيء ، وموقوف على كون
المشتقّ حقيقة في الحال المقابل للاستقبال ، لا حال التلبّس كائنا ما كان ، وقد
عرفت أنّ التحقيق خلافه ، لا يمكن الوثوق على مثل هذا الاستقراء في إثبات اللّغة.
وهناك طريق آخر
يمكن إثبات المطلوب به ، وهو أنّ النّحاة ذكروا أنّ الأمر للحال ، وغرضهم من
اقتران معنى الفعل بأحد الأزمنة هو المعنى الحدثي ، وإن شئت قلت : انتسابه الى
الفاعل مقترن بأحد الأزمنة ، وأمّا نسبة المتكلّم فكلّها واقعة في حال التكلّم ،
فعلى هذا إذا انضمّ الى ذلك أصالة عدم النّقل ، فيثبت كونها للحال لغة ، فيثبت
الفور.
__________________
ولكنّه مدفوع :
بأنّ كلام النّحاة مع أنّه لم يثبت اتّفاقهم على ذلك ، يضعّفه خلاف علماء الأصول
والبيان ، فالظاهر أنّ نظرهم الى الأغلب من إمكان حصول الطبيعة في الحال.
والحاصل ، أنّ
الأمر مأخوذ من المضارع ، ولا فرق بينهما في الاشتراك بين الحال والاستقبال.
وقد استدلّوا أيضا : بقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية. وبقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) الآية. بتقريب أنّ المراد من المغفرة سببه لاستحالة
المسارعة الى فعل الله ، وفعل المأمور به سبب ، إذ قد يكون بعض الواجبات سببا
لإزالة الذّنوب ، كما ورد في الصّلوات الخمس والحجّ وغيرهما ، سيّما على القول
بالإحباط كما هو الحقّ ، ويثبت في الباقي بعدم القول بالفصل ، فلا يرد أنّ سبب
المغفرة إنّما هو التوبة ، وهو فوريّ اتّفاقا ، ولا حاجة الى الاستدلال ، ولا يتمّ
المطلوب بعدم القول بالفصل أيضا لاتّفاق الفريقين فيه.
وكذا لا يرد على
إرادة فعل المأمور به بناء على الإحباط ، أنّ هذا إنّما يتمّ فيما حصل الذّنب ،
فلا يعمّ جميع الأوامر.
وأمّا ما يقال من أنّ بعض المستحبّات أيضا ممّا ورد كونه سببا للمغفرة ،
فلا بدّ من حمل الأمر على الاستحباب.
ففيه : أنّ العامّ
يخصّص والمطلق يقيّد ، والتخصيص والتقييد أولى من غيرهما
__________________
من المجازات ،
وكذلك الكلام في قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ).
وقد يجاب عن الآيتين بالحمل على الاستحباب ، لمنافاة مدلول الهيئة
للمادّة لو حملت على الوجوب ، لعدم إطلاق المسارعة والاستباق عرفا إلّا على
الموسّع ، فالحكم بوجوب الفور إثبات للتضييق ، والإتيان بالمضيّق عرفا ليس بمسارعة
واستباق ، فإنّ المأمور بصوم شهر رمضان إذا صام فيه ، لا يقال أنّه مسارع.
وفيه : أنّه كما
يمكن تحقّق المسارعة عرفا بملاحظة الوسعة في زمان الرخصة ، كذلك يمكن تحقّقها
بملاحظة الوسعة في زمان الصّحّة. فعلى القول بالصّحّة في صورة التأخير في الفوري
يصدق عرفا المسارعة بإتيانه في أوّل زمان الصّحّة ، كما يقال لمن حجّ في العامّ
الأوّل من الاستطاعة أنّه سارع في حجّه ، وكذلك لمن عجّل في أداء دينه حين القدرة
ومطالبة الدائن ، وهذا واضح مع أنّ قابليّة الأوامر المطلقة للتوسعة يكفي في صدق
المسارعة عرفا ولا يلزم ثبوتها بالفعل.
فالتحقيق في
الجواب بعد منع نهوض هذا الاستدلال على إثبات الفور لغة وعرفا ، بل ولا شرعا : أنّ
الآيتين لو سلّم ظهورهما في الوجوب مع ملاحظة هذه المذكورات فهو ظهور.
وما ذكرنا من
التبادر في الماهيّة في الأوامر المطلقة ظهور ، ولا ريب أنّ هذا أقوى منه ، فيحمل
الآيتان على الاستحباب ، فكيف ولا ظهور في آية المسارعة
__________________
أصلا ، فإنّ الأمر
بالمسارعة الى سبب المغفرة كما هو مناط الاستدلال لا يفيد إلّا وجوب المسارعة الى
السّبب في الجملة ، فإذا تعدّد الأسباب كما فيما نحن فيه ، فإنّ أحد الأسباب فيه التوبة التي فوريّتها مجمع عليها ، فلا يفيد إلّا فوريّة
أحدها ، وهو لا يستلزم المطلوب كما لا يخفى.
واحتج السيّد رحمهالله : بالاستعمال وأنّ الأصل فيه الحقيقة ، وبحسن الاستفهام
ولا يحسن إلّا مع الاحتمال في اللّفظ.
وفيه : أنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، وتبادر الماهيّة لا بشرط ، ينفي غيرها ، وأنّ
الاستفهام يحسن على القول بالماهيّة أيضا احتياطا عن أن يكون مراد الآمر بعض
الأفراد مجازا ، لشيوع استعمال الكلّي في الفرد مجازا.
وذلك لا يدلّ على عدم انفهام الماهيّة مستقلّة ووجوب التوقّف حتى يثبت
الاشتراك ، بل إنّما ذلك لرجحان الاحتياط ، ولذلك يصحّ التخيير في الجواب مع عدم
ارتكاب خلاف الظاهر ، خلافا لصورة الاشتراك ، فإنّه إمّا لا يجوز ـ كما اخترناه
وحقّقناه سابقا ـ أو يجوز مجازا.
ثم إنّ الفور على
القول به ، تحديده موكول الى العرف ، ويتفاوت بتفاوت المأمور به ونحوه ، كالسّفر
القريب الغير المحتاج الى زمان معتدّ به للتهيّؤ له ، والبعيد المحتاج إليه ، إن
لم نقل بأنّ الكلام في المجرّد عن القرائن.
وهذه الامور قرائن
لجواز التأخير في الجملة ، فتأمّل.
__________________
تذنيب
اختلف القائلون بكون الأمر للفور في
ثبوت التكليف على من ترك الامتثال فورا في الزّمان المتأخّر وعدمه ، وفرّعوا الكلام فيه على أنّ معنى : افعل ،
هل هو : افعل في الزّمان الثاني ، وإن لم تفعل ففي الثالث ، وهكذا ، أو معناه :
افعل في الزّمان الثاني مع السّكوت عمّا بعده .
وأمّا كون المعنى
عدم الفعل في الزّمان المتأخّر فلم نقف على مصرّح به.
قيل : وهذا الكلام غير مفيد ، والفائدة في بيان صحّة المبنى.
والتحقيق : أنّ أدلّة القول بالفور على تسليمها ، صنفان :
منها : ما يدلّ
على أنّ الصّيغة بنفسها دالّة على الفور ، ومنها : ما يدلّ على وجوب المبادرة
بالامتثال ، كآية المسارعة والاستباق ، فمن اعتمد على الأوّل ، فيلزمه القول
بالسّقوط ، لصيرورته من باب الموقّت ، ومن اعتمد على الثاني ، فيلزمه القول
بالثبوت ، لإطلاق أصل الأمر.
وردّه بعض
المحقّقين : بمنع صيرورته كالموقّت على الأوّل ، لاحتمال إرادة
التعجيل بالمأمور به ، فإن لم يفعل فيجب التعجيل أيضا في الزّمان الثاني ، وهكذا. ومنع
عدم وجوب الموقّت مع فوات الوقت على تقدير تسليم كونه من قبيله ، وبأنّ وجوب الفور
إن اقتضى التوقيت وخصوصيّة الزّمان المعيّن ، فلا يتفاوت الأمر بين
__________________
ما ثبت وجوبه من
الصّيغة أو من الخارج ، كما إذا ثبت التوقيت من دليل خارج في الموقّت ، فإنّ من
يقول بفوات الموقّت بفوات وقته ، [و] لا يفرّق بين ما ثبت التوقيت من خارج أم لا.
فالأولى تفريع
المسألة على أنّ التكليف بالموقّت هل هو تكليف واحد أو تكليفان؟
وهل ينتفي المقيّد
بانتفاء القيد أم لا؟ كما ذكروا في مسألة تبعيّة القضاء للأداء وعدمها.
أقول : والظاهر من
الصّيغة على القول بدلالتها بنفسها على الفور هو الوجوب في أوّل الوقت لا ما ذكره ، والظاهر هو الحجّة ، وهو تكليف واحد.
والحقّ ، أنّ
المقيّد ينتفي بانتفاء القيد ، فلا يبقى تكليف ، مع أنّ الأصل عدمه.
ولا يجب التنصيص
بالتوقيت ، وثبوت وجوب الموقّت بعد فوات الوقت خلاف التحقيق ، لأنّ الجنس لا بقاء
له بعد انتفاء الفصل ، كما حقّق في محلّه.
فالحقّ ، أنّ
القضاء في الموقّت إنّما هو بفرض جديد ، وما ذكر أنّه لا يتفاوت الأمر بين ما ثبت
وجوبه من الصيغة أو من الخارج .
ففيه : أنّ في
الثاني تكليفين ، والأوّل لا ينتفي بانتفاء الثاني ، بخلاف الأوّل لأنّه
تكليف واحد ، وقياسه بالموقّت قياس مع الفارق ، إذ ربّما يفهم من الموقّت
__________________
عدم الوجوب بعد
الوقت أيضا ، ويسلم المساواة لو كان معنى الموقّت مجرّد الوجوب في الوقت.
وبالجملة ، عدم
الحكم إمّا من جهة عدم الدّليل أو من جهة الدّليل على العدم.
والظاهر أنّ
الموقّت من الثاني ، وما يثبت فيه الفور من دليل خارج من الأوّل ، ولذلك ترى الأصوليّين نازعوا في حجّية مفهوم الزّمان وعدمها.
ومعنى حجّية
المفهوم المخالف ، هو كون اللّفظ ذا دلالتين : منطوقيّة ، ومفهوميّة ، متخالفتين
في النفي والإثبات ، فافهم ذلك ، وانتظر لزيادة توضيح في مباحث المفاهيم.
__________________
قانون
اختلف الاصوليّون في أنّ الأمر بالشيء
هل يقتضي إيجاب مقدّماته مطلقا أم لا؟ على أقوال :
ثالثها : اقتضاء
الإيجاب في السّبب دون غيره .
ورابعها : في
الشّرط الشرعي دون غيره .
وتحقيق هذا الأصل
يقتضي تمهيد مقدّمات :
الأولى : أنّ
الواجب كما أنّه ينقسم باعتبار المكلّف الى العينيّ والكفائيّ ، وباعتبار المكلّف
به الى التعيّني والتخييري ، وباعتبار الوقت الى الموسّع والمضيّق ، وباعتبار
المطلوبية بالذّات وعدمها الى النفسي والغيري ، وباعتبار تعلّق الخطاب به بالأصالة وعدمه الى الأصلي والتّبعي ، وغير ذلك ، فكذا ينقسم
__________________
باعتبار مقدّماته
الى المطلق والمشروط ، وقد يطلق عليه المقيّد.
وتسمية الثاني
بالواجب مجاز في الحقيقة تسميته باسم ما يؤول إليه ، ولذلك لم نقيّد الأمر في صدر
المبحث بالمطلق مع كون المبحث مختصّا بمقدّماته.
والواجب المطلق :
هو ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، وإن كان في العادة أو في نظر
الأمر.
والمقيّد : ما
توقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده كذلك.
الثانية : أنّ الأمر المطلق حقيقة في
الواجب المطلق على الأصحّ
للتبادر ، واستحقاق العبد التارك للامتثال ، المعتذر بأنّ أمر المولى لعلّه كان
مشروطا بشرط للذمّ ، ولأصالة عدم التقييد.
ويظهر من السيّد
المرتضى رحمهالله القول بالاشتراك ، فيلزمه التوقّف حتّى يظهر من الخارج ،
ودليله الاستعمال.
والجواب : أنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة.
نعم ، استثنى
السيّد الواجب بالنسبة الى السّبب ، فقال بكونه مطلق ، بالنسبة إليه مطلقا لعدم
إمكان الاشتراط ، لعدم انفكاك المسبّب عن السّبب ، وستعرف الكلام فيه.
الثالثة : ما يتوقّف عليه الواجب إمّا
سبب أو شرط.
والسّبب : هو ما
يلزم من وجوده وجود الشيء ، ومن عدمه عدمه لذاته. فخرج الشّرط والمانع.
__________________
فإنّ الشّرط : هو
ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده ، وجوده.
والمانع : ما لا
يلزم من عدمه عدم شيء ، بل يلزم من وجوده عدم شيء.
وأمّا التقييد
بقولنا : لذاته ، احتراز عن مقارنة وجود السّبب عدم الشّرط أو وجود المانع ، فلا
يلزم الوجود أو قيام سبب آخر حالة عدم الأوّل مقامه ،
__________________
فلا يلزم العدم ،
ويدخل في الشّرط جميع العلل الناقصة من المقدّمات العقليّة والعاديّة والشرعيّة.
والسبب والشرط قد
يلاحظان بالنسبة الى الحكم الشرعي ، فيكونان من الأحكام الوضعيّة ، وقد يلاحظان
بالنسبة الى موضوع الحكم ، ولا يتوقّفان على وضع الشّارع حينئذ ، وإن كان قد يكون
بوضعه ، وكلامنا إنّما هو في الثاني.
وبعبارة اخرى ،
إنّما الكلام في مقدّمات الواجب لا في مقدّمات الوجوب ، وكلّ منهما إمّا شرعيّ أو
عقليّ أو عاديّ.
فالسّبب الشرعيّ
كالصّيغة بالنّسبة الى العتق الواجب ، والوضوء والغسل بالنسبة الى الطهارة عن
الحدث ، والغسل بالنسبة الى إزالة الخبث.
والعقليّ كالنّظر
المحصّل للعلم الواجب.
والعاديّ كجزّ
الرّقبة في القتل الواجب.
والشرط الشرعيّ
كالوضوء بالنسبة الى الصلاة.
والعقليّ كترك
الأضداد في الإتيان بالمأمور به.
والعاديّ كغسل شيء
من العضد لغسل اليد في الوضوء. وشاع التمثيل لذلك بأمر المولى عبده بالكون على
السّطح ، فالسّلّم ونصبه من الشروط والصعود سبب.
إذا عرفت هذا ، يظهر لك أنّ ما يستفاد من بعض الكلمات ، أنّ السّبب هو
__________________
ما يستحيل انفكاكه
عن المسبّب مطلقا مساوقا للعلّة التامّة ، والجزء الأخير منها ليس كما ينبغي
، وخلاف ما صرّحوا به في الكتب الأصوليّة .
ثمّ إنّ مقدمة
الواجب تنقسم الى ما يتوقّف عليها وجوده كما مرّ أو يتوقّف عليها صحّته ، كالطهارة للصلاة على القول بكون
العبادات أسامي للأعمّ أو يتوقّف عليها العلم بوجوده ، كتوقّف العلم بالإتيان بالصلاة
الى القبلة عند اشتباهها على الإتيان بأكثر من صلاة ، ولو اعتبرنا كون الواجب
تحصيل العلم ، فيكون هذا أيضا مقدّمة للوجود.
وأيضا ، المقدّمة
إمّا تكون فعلا أو تركا.
ومن المقدّمات
الفعليّة تكرار نفس الواجب كالصلاة الى أكثر من جانب وفي أكثر من ثوب عند اشتباه القبلة
والثوب الطّاهر.
ومن المقدّمات
التركيّة ترك الإناءين المشتبهين ، ونظيره من الشبه المحصورة.
الرابعة : الواجب بالنّسبة الى كلّ
مقدّمة غير مقدورة مشروط ، فتقييد كثير من الاصوليّين المقدّمات بالمقدورة هاهنا ؛ لا وجه له إلّا
توضيح هذا المعنى ، وإلّا فليس مقدّمات الواجب المشروط ممّا يتنازع في وجوبها ، بل
عدم وجوبها مجمع عليه ، والمقدوريّة أعمّ من المقدوريّة بالذّات أو بواسطة ،
فالأفعال التوليديّة كلّها مقدورة إذا حصل القدرة على المباشريّة.
واعلم أنّ الإطلاق
والتقيّد للواجبات إضافيّة بالنّسبة الى المقدّمات ، فقد يكون
__________________
الشيء واجبا مطلقا
بالنّسبة الى مقدّمة ، ومشروطا بالنسبة الى اخرى.
الخامسة : قد يقال : الواجب المطلق
ويراد منه الإطلاق بالنظر الى اللّفظ ، وقد يضاف الى ذلك اقتضاء الحكمة والعدل ذلك أيضا ، وإلّا لزم التّكليف
بالمحال ، وهذا أخصّ من الأوّل.
وأيضا النزاع
في وجوب مقدّمات الواجب يجري فيما يثبت
وجوب الواجب من غير لفظ : افعل ، وما في معناه أيضا ، كالإجماع والعقل وغيرهما ،
وإن كان سياق الاستدلال يتفاوت في بعض الموادّ.
السادسة : الوجوب المتنازع فيه هو
الوجوب الشّرعي ، لأنّ الوجوب
العقليّ بمعنى توقّف الواجب عليه ، وأنّه لا بدّ منها في الامتثال ممّا لا يريب
فيه ذو مسكة .
والمراد من الوجوب
الشرعيّ هو الأصليّ الذي حصل من اللّفظ وثبت من الخطاب قصدا.
وبالجملة ، النزاع
في أنّ الخطاب بالكون على السّطح ، هل هو تكليف واحد وخطاب بشيء واحد ، أو تكليفات
وخطاب بأمور أحدها الكون والثاني نصب السّلّم والتدرّج بكلّ درجة درجة وغيرهما؟
__________________
ويظهر الثمرة فيما
لو وجب عليه واجب بالنّذر واليمين ونحوهما ، وفي ثبوت العقاب والثواب على ترك كلّ
من المقدّمات وفعلها.
وربّما يقال : إنّ القائل بوجوب المقدّمة أيضا لا يقول بترتّب الثواب
والعقاب على فعل المقدّمات وتركها ، بل الثمرة تظهر في جواز الاجتماع مع الحرمة ،
فلو كانت المقدّمة واجبة شرعا ، فلا يجوز أن يجتمع مع الحرام.
وفيه : مع أنّه
خلاف ما صرّح به بعضهم أنّ وجوب المقدّمة من باب التوصّل . والواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام ، غاية الأمر عدم
الثواب حينئذ. وأمّا البطلان ، فلا.
نعم ؛ يمكن ذلك
فيما لو كانت المقدّمة أيضا من العبادات التوقيفيّة ، كالوضوء والغسل. ولا ريب أنّ
ذلك حينئذ إنّما هو من جهة كونها مطلوبة بالذّات ، مع جهالة علّة تخصيصها باشتراط
الواجب بها وتوقّفه عليها ، لا من جهة الوجوب الحاصل من إيجاب ذي المقدّمة ، فإنّ
الواجب قد يجتمع فيه التوصّليّة والتوقيفيّة بالاعتبارين .
__________________
وممّا يؤيّد ما
ذكرنا ، من أنّهم يقولون بثبوت العقاب ، استدلالهم في دلالة الأمر بالشيء على
النّهي عن الضدّ ، بأنّ ترك الضدّ واجب من باب المقدّمة فيكون فعله حراما ، فثبت
حرمة الضدّ ، ويترتّب عليه أحكامه من الفساد وغيره.
فإنّ القائل بأنّ
الأمر بالشيء يقتضي النّهي عن الضدّ ، ليس مراده طلب الترك التبعيّ كما سنحقّقه ،
بل مراده الخطاب الأصلي. ووجه التأييد أنّ النّهي المستلزم للفساد ليس إلّا ما كان
فاعله معاقبا.
السابعة : دلالة الالتزام إمّا لفظيّة
وإمّا عقليّة.
واللّفظيّة على
قسمين : إمّا بيّن بالمعنى الأخصّ ، لدلالة صيغة افعل على الحتم والإلزام عند من
يدّعي التبادر فيه كما هو الحق ، والمراد به دلالة اللّفظ عليه ، وكونه مقصود
اللّافظ أيضا.
وإمّا بيّن
بالمعنى الأعمّ كدلالة الأمر بالشّيء على النّهي عن الضدّ العامّ ، بمعنى الترك.
فبعد التأمّل في
الطرفين والنسبة بينهما ، يعرف كون ذلك مقصود المتكلّم أيضا بذلك الخطاب.
وأمّا العقليّة ،
فهو أن يحكم العقل بعد التأمّل في الخطاب وفي شيء آخر ، كون ذلك الشيء لازما مرادا
عند المتكلّم ، وإن لم يدلّ عليه ذلك الخطاب بالوضع ولم
__________________
يقصده المتكلّم
أيضا بذلك الخطاب ، بل ولم يستشعر به أيضا ، كوجوب المقدّمة على ما سنحقّقه ، ودلالة الآيتين
على أقلّ الحمل ونحو ذلك. فهذا الحكم وإن كان ، إنّما حصل من العقل لكن
حصل بواسطة خطاب الشّرع ، ويقال لذلك إنّه خطاب حصل بتبعيّة الخطاب الشّرعي ، وإن
كان الحاكم باللّزوم هو العقل. ولا يخفى أنّ هذه الدلالة معتبرة أيضا محكمة في
المسائل ، سواء كان من أحكام الوضع ، كأقلّ الحمل المستفاد من الآيتين ، أو من
أحكام الطلب.
وأمّا الوجوب
المذكور ـ أي وجوب المقدّمة ـ فلمّا كان هو أيضا تبعيّا كأصل الخطاب به ، بمعنى
أنّه لازم لأجل التوصّل الى ذي المقدّمة ، وحكمه حكم الخطابات الأصليّة التوصّلية
كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق وغسل الثوب النّجس للصلاة ، فلم يحكم بكونه واجبا
أصليّا ولم يثبت له أحكام الواجب الأصلي الذّاتي ، فلا عقاب عليه لعدم ثبوت العقاب
على الخطاب التبعي ، كما سنشير إليه. ويجتمع مع الحرام لأجل كونه توصّليا ، نظير
الإنقاذ والغسل الواجبين لاستخلاص النفس المحترمة ، والصلاة في الثّوب الطاهر ،
ولذلك يحصل المطلوب بالحرام أيضا ، بل بفعل الغير أيضا ، فيرجع هذه الدلالة أيضا
الى البيّن بالمعنى الأعمّ ، لكن بالنسبة الى المأمور به لا الأمر ، نظير توابع
الماهيّة في الوجود وغاياتها.
وأمّا القائل
بوجوب المقدّمة ، فلا بدّ أن يقول بوجوب آخر غير الوجوب التوصّلي ، ويقول بكونه
مستفادا من الخطاب الأصلي ، وإلّا فلا معنى للثمرات التي
__________________
أخذوها لمحلّ
النزاع ، فلا بدّ لهم من القول بأنّها واجبة في حدّ ذاتها أيضا ، كما أنّها واجبة
للوصول الى الغير ليترتّب عليه عدم الاجتماع مع الحرام ، وأن يكون بالخطاب الأصلي
ليترتّب العقاب عليه ، وأنّى لهم بإثباتها .
ثمّ إنّ هاهنا
معنى آخر للاستلزام العقلي ، وهو أنّ العقل يحكم بوجوب المقدّمة عند وجوب ذي
المقدّمة ، يعني أنّ وجوب أصل الفعل يحصل من الأمر ، ووجوب مقدّمته يحصل من العقل
وهو من أدلّة الشرع.
فهاهنا خطابان
أصليّان للشارع تعالى ، أحدهما بلسان الرّسول الظاهر ، وثانيهما بلسان الرّسول
الباطن ، والى هذا ينظر استدلالهم الآتي على إثبات وجوب مطلق المقدّمة.
وأنت خبير بأنّ
ذلك لا يتمّ [حين] انفراد كلّ منهما عن الآخر حتّى يثبت الوجوب الذّاتيّ للمقدّمة
، فتأمّل.
ولعلّنا نتكلّم
بعض الكلام في تتميم هذا المرام في مباحث المفهوم والمنطوق.
الثامنة : قد أشرنا أنّ وجوب المقدّمة
من التوصّليّات.
والمراد بالواجب
التوصّليّ : هو ما علم أنّ المراد به الوصول الى الغير ، وليس هو مطلوبا في ذاته ،
ولذلك يسقط وجوب الامتثال به بفعل الغير أيضا ، كغسل الثوب النّجس للصلاة ،
وبالإتيان به على الوجه المنهيّ عنه كالغسل بالماء المغصوب ، ونحو ذلك. وهذا هو
السرّ في عدم اشتراط النّية فيها ، دون الواجبات
__________________
التي لم يحصل
العلم بانحصار الحكمة منها في شيء ، أو علم أنّ المراد منها تكميل النفس ورفع
الدّرجة وحصول التقريب ، فإنّها لا تصحّ بدون النيّة لعدم حصول الامتثال عرفا إلّا
بقصد إطاعة الأمر.
إذا عرفت هذا ؛
فاعلم أنّ المقدّمة لا تنحصر فيما كان مقدورا للمكلّف ، أو فيما أتى به ، أو فيما
تفطّنه وكان مستشعرا به. وقد ذكرنا سابقا أنّ الواجب بالنسبة الى المقدّمات الغير
المقدورة مشروط ، وكلامنا هنا في مقدّمات الواجب المطلق ، لكن لا بدّ أن يعلم أنّه
قد يكون الغير المقدور مسقطا عن المقدور ، وفعل الغير نائبا عن فعل المكلّف ، وما
لا يتفطّنه ولا يستشعر به أيضا من المقدّمات ، فإنّ من وجب عليه السّعي في تحصيل
الماء للوضوء إن فاجأه من أعطاه الماء ، فسقط عنه ذلك السّعي ، ويكون فعل الغير
نائبا عن فعله.
فالمقدّمة هو
القدر المشترك بين المقدور وغيره ، والقدر المشترك بينهما مقدور ، وثمرة النّزاع
إنّما تحصل فيما كان مقدورا للمكلّف وفعله.
فالقائل بوجوب
المقدّمة ، إنّما يقول بوجوب القدر المشترك ، والكلام في حصول الثواب وعدمه
بالنسبة الى مثل هذه المقدمة ، هو الكلام في مثل حصوله على غسل الغير ثوبه من دون
اطّلاعه.
نعم ، إنّما يثاب
على نيّته لو نوى ذلك ثمّ ناب عنه فعل الغير.
فظهر من جميع ذلك
، أنّ الواجب قد يكون مطلقا ، وإن كان مقدّمته قدر المشترك بين المقدور وغير
المقدور ، فليكن على ذكر منك.
__________________
إذا تمهّد لك هذا
، فنقول : القول بالوجوب مطلقا لأكثر الاصوليّين ، وبعدمه مطلقا نقله البيضاوي في «المنهاج» عن بعض الاصوليّين ، والشهيد الثاني رحمهالله في «تمهيد القواعد».
وبوجوب الشرط
الشرعيّ لابن الحاجب ، وبوجوب السّبب دون غيره للواقفيّة ، ونسبه جماعة الى السيّد رحمهالله وهو وهم ، لأنّه جعل الواجب
__________________
بالنسبة الى السبب
مطلقا ، وبالنسبة الى غيره محتملا للإطلاق والتقييد ، فيحكم بوجوب السّبب مطلقا
لعدم احتمال التقييد ، ويتوقّف في غيره لاحتمال كون الوجوب مقيدا بالنسبة إليه.
وهذا بعينه قول
المشهور في مقدّمات الواجب المطلق.
والأقرب عندي عدم
الوجوب مطلقا.
لنا : الأصل وعدم دلالة الأمر عليه بإحدى من الدّلالات ، أمّا
المطابقة والتضمّن فظاهر ، وأمّا الالتزام فلانتفاء اللّزوم البيّن ، وأمّا الغير
البيّن فهو أيضا منتف بالنسبة الى دلالة اللّفظ ، إذ لا يقال ـ بعد ملاحظة الخطاب
والمقدّمة والنسبة بينهما ـ أنّ هاهنا خطابين وتكليفين كما هو واضح ، ولذلك يحكم
أهل العرف بأنّ من أتى بالمأمور به ، امتثل امتثالا واحدا ، وإن أتى بمقدّمات لا
تحصى.
وكذا لو ترك
المأمور به لا يحكم إلّا بعصيان واحد ، ولا يحكم العقل والعرف بترتّب المذمّة
والعقاب على ترك المقدّمة في نفسها ، إذ المذمّة والعقاب إمّا لقبحه ، أو لحصول
العصيان بتركها ، ولا يستحيل العقل كون ترك شيء قبيحا بالذّات ، ولا يكون ترك
مقدّمته قبيحا بالذّات ، وحصول العصيان يدفعه فهم العرف كما بيّنّا.
نعم ، يمكن القول
باستلزام الخطاب لإرادتها حتما بالتّبع ، بمعنى أنّه لا يرضى بترك مقدّمة ، ولا
يجوز تصريح الأمر بعدم مطلوبيّتها للزوم التناقض من باب دلالة الإشارة ، ولا
يستلزم استفادة شيء من الخطاب كونه مقصودا للأمر مشعورا به له حتّى يقال إنّه
ربّما نأمر بشيء ولا يخطر ببالنا المقدّمة ، فكيف يكون واجبا؟
ألا ترى أنّا نحكم
باستفادة كون أقلّ الحمل ستّة أشهر من الآيتين ، مع عدم كونه
__________________
مقصودا في
الآيتين.
والحاصل ، أنّه لا
مانع من استفادة وجوب المقدّمة تبعا بالمعنى المتقدّم ، ولا يكون على تركها ذمّ
ولا عقاب ، بل يكون الذمّ والعقاب على ترك ذي المقدّمة ، وقد سبقنا الى هذا
التحقيق جماعة من المحقّقين .
وأمّا المدح
والثواب على فعلها ، فالتزمه بعض المحقّقين ، ونقله عن الغزالي ، ولا غائلة فيه ظاهرا ، إلّا أنّه قول بالاستحباب ، وفيه إشكال ، إلّا أن
يقال باندراجه تحت الخبر العامّ فيمن بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب
أوتيه وإن لم يكن كما بلغه . فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ حتّى فتوى الفقيه.
احتجّ الأكثرون :
بالإجماع ، نقله جماعة ، وربّما ادّعى بعضهم الضّرورة
__________________
وبأنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، وحينئذ فإن بقي
التكليف لزم التكليف بالمحال وإلّا لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا ،
وكلاهما باطلان ، وأنّ العقلاء يذمّون تارك المقدّمة مطلقا.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الإجماع في المسائل الاصولية غير ثابت الحجّية ، ودعوى بعضهم الضّرورة مع
دعوى الجماعة الإجماع يقرب كون مراد الأكثرين أيضا الوجوب بالمعنى الذي اخترناه ،
لا الوجوب الأصليّ ، لغاية بعده.
وعن الثاني : إنّا
نختار الشقّ الأوّل .
ونجيب أوّلا :
بالنقض بما لو ترك عصيانا على القول بالوجوب ، إذ لا مدخليّة في الوجوب في القدرة.
فإن قلت : العصيان
موجب لحصول التكليف بالمحال ولا مانع منه إذا كان السّبب هو المكلّف ، كما فيمن دخل
دار قوم غصبا ، أو زنى بامرأة ، فهو مكلّف بالخروج وعدمه ، وإخراج فرجه من فرجها
وعدمه.
قلنا : فيما نحن
فيه أيضا صار المكلّف هو سببا للتكليف بالمحال ، لأنّ الفعل كان مقدورا له أوّلا
فهو بنفسه جعله غير مقدور.
وثانيا : بالحلّ
وهو أنّ المقدور لا يصير ممتنعا ، إذ الممتنع هو التكليف بشرط عدم المقدّمة لا حال
عدم المقدّمة ، نظير تكليف الكفّار بالفروع حال الكفر.
وإن فرضت الكلام
في آخر أوقات الإمكان على ما هو مقتضى جواز الترك ، فنلتزم بقاء التكليف أيضا لعدم
استحالة مثل هذا التكليف ، لأنه بنفسه تسبّب
__________________
للتكليف بالمحال
وصيّر المقدور ممتنعا باختياره ، ولا يستحيل العقل مثل ذلك.
ولا يذهب عليك أنّ
هذا الجواب يوهم أنّا نقول بجواز تصريح الآمر بجواز ترك المقدّمة ، فحينئذ يستظهر
القائل بالوجوب ، ويقول : إنّ ذلك قبيح عن الحكيم فكيف يجوز تجويز الترك منه؟ وما
لا يجوز تجويز تركه يكون واجبا.
ولكنّا إنّما
قرّرنا هذا الدّليل ، والجواب على مذاق القوم.
وأمّا على ما
اخترناه وحقّقناه فلا يرد ما ذكر ، لأنّا لا نقول بجواز تجويز ترك المقدّمة ، وإن
قلنا بجواز التصريح بعدم العقاب على ترك المقدّمة ، وإنّ العقاب إنّما هو على ترك
ذي المقدّمة ، ولا يستلزم ذلك عدم الوجوب التبعي أيضا.
وأمّا على مذاق
القوم ، فقد يجاب عن هذا الإشكال : بأنّ هذا التجويز إنّما هو بحكم العقل لا الشرع حتّى
يكون سفها وعبثا ، وإنّا وإن استقصينا التأمّل في جواز انفكاك حكم العقل هاهنا من
الشّرع ، فلم نقف على وجه يعتمد عليه .
وقد يوجّه ذلك ؛ بأنّ أصالة البراءة التي هي حكم العقل تقتضي جواز الترك
فيما لا نصّ فيه ، وهو بمعزل عن التحقيق ، إذ المراد من حكم العقل هنا ، إن كان مع
قطع النظر عن ورود الأمر من الشّرع بوجوب ذي المقدّمة ، فلا اختصاص له بالعقل ،
وأمّا معه ، فلا يمكن الحكم للعقل أيضا ، إذ هو من أدلّة الشرع ، مع أنّه لا يجري
فيما يستقلّ بوجوبه العقل كمعرفة الله ، ولا قائل بالفرق.
__________________
وبالجملة ، لا بدّ
من التفرقة بين قول المولى للعبد : كن على السّطح ، وأجزت لك أن لا تنصب السّلّم ،
أو لا تصعد ، وبين قوله : كن على السّطح ، وإن لم تكن عليه فأعاقبك على ترك الكون
، ولا أعاقبك على ترك النّصب ، ولا على ترك الترقّي على كلّ واحد من الدّرجات ،
والذي نجوّزه هو الثاني ، والذي يرد عليه الاعتراض هو الأوّل.
وعن الثالث ؛ منع
كون المذمّة على ترك المقدّمة لذاتها ، بل إنّما هو لأجل ترك ذي المقدّمة حيث لا
ينفكّ عن تركها ، ولهم حجج أخرى ضعيفة ، أقواها ما ذكرنا .
حجّة القائلين
بوجوب السّبب دون غيره : أمّا في غير السّبب فما مرّ ، وأمّا في السّبب فهو أنّ المسبّب لا يتخلّف عن السّبب
وجودا وعدما ، فالقدرة لا تتعلّق بالمسبّب ، بل القدرة على المسبّب ، باعتبار
القدرة على السّبب لا بحسب ذاته ، فالخطاب الشرعيّ وإن تعلّق على الظاهر بالمسبّب
إلّا أنّه يجب صرفه بالتأويل الى السّبب ، إذ لا تكليف إلّا بالمقدور من حيث هو
مقدور ، فإذا كلّف المكلّف كان تكليفا بإيجاد سببه ، لأنّ القدرة إنّما تتعلّق
بالمسبّب عن هذه الحيثيّة ،
__________________
بخلاف ما إذا كانت
المقدّمة شرطا للواجب غير مستلزم إيّاه ، كالطهارة للصلاة والمشي للحج ، فإنّ
الواجب هاهنا يتعلّق به القدرة بحسب ذاته ، فلا يلزم أن يكون إيجابه إيجابا
للمقدّمة.
وحاصله ، أنّ
المسبّب لا ينفكّ عن السّبب قطعا ، ووجوده واجب حينئذ ويمتنع عند عدمه ، فالتكليف
بالمسبّب إمّا تكليف بإيجاد الموجود أو الممتنع ، وكلاهما محال فلا يصحّ تعلّق
التكليف به ، فالتكليف متعلّق بالسّبب.
وجوابه : أنّ
المقدور لا يصير ممتنعا ، فإنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وكذلك
الامتناع بالاختيار .
وبالجملة ،
المسبّب مقدور وإن كان بواسطة السّبب ، ولذلك ذهب المحقّقون الى جواز كون المطلوب بالأوامر هو المفهومات
الكلّيّة وإن لم يمكن وجودها إلّا في ضمن الفرد ، مع أنّ الامتناع بالمعنى المذكور
يتمشّى في الشروط أيضا.
وقد يورد عليه
أيضا : بأنّ ذلك مستلزم لارتفاع التكليف ، إذ كلّ سبب مسبّب أيضا ، لاحتياج الممكن
الى المؤثّر حتى ينتهى الى الواجب.
وقد يجاب : بأنّ المراد بالمسبّب هاهنا ما له واسطة مقدورة بينه
وبين
__________________
المكلّف ، لا كلّ
ما له علّة ، وانتهاء العلل الى الواجب تعالى لا يستلزم الجبر كما يشهد به الضرورة
، والشّبهة المشهورة لا يعتنى بها في مقابلة البديهة.
وما يقال : إنّ النزاع في السّبب قليل الجدوى لأنّ تعليق الأمر
بالمسبّب نادر ، بل الغالب التعليق بالأسباب كالأمر بالوضوء والغسل دون رفع الحدث
مثلا.
ففيه ما لا يخفى ،
إذ التعليق بالمسبّبات أيضا كثير إن لم نقل بكونه أكثر ، كالأمر بالكفّارة ،
والأمر بالعتق ونحوهما ، فإنّ الصيغة سبب العتق ، والعتق سبب الكفّارة ، ولاحظ
تعلّق التكاليف بالكلّيات مع أنّ الفرد إنّما هو السّبب لوجود الكلّي.
فالحاصل ، أنّ
المختار عدم دلالة الأمر بالمسبّب على وجوب السّبب كغيره من المقدّمات بدلالة ما
قدّمنا سابقا ، نعم يمكن أن يقال : إنّ الأمر بالمسبّب أمر بالسّبب إذا كان
المسبّب فعل الغير ، ومثل الأمر بالإحراق فإنّه حقيقة أمر بإلقاء الحشيش في النار
مثلا ، لأنّ الإحراق إنّما هو فعل النّار ، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالإحراق هنا
هو ما يمكن حصوله من المكلّف من المبادئ المستلزمة للإحراق مجازا ، لا أن يكون نفس
الإحراق مأمورا ويكون دالّا على وجوب السّبب باللّزوم العقلي من جهة استحالة حصول
الإحراق عنه ، وهذا هو مقتضى استدلال المستدلّ أيضا ، فعلى هذا يخرج الكلام عن
موضوع هذا الأصل ومحلّ النزاع ، فإنّ الظاهر أنّ من يقول بدلالة الأمر على وجوب
السّبب ، لا يقول بدلالته عليه مطابقة ، فالأمر حقيقة إنّما يوجّه هناك الى السّبب
مطابقة وإن كان باللّفظ المجازيّ ، فافهم ذلك فإنّه دقيق.
__________________
ثمّ إنّ ما ذكرنا مبنيّ على أن لا يكون الأفعال التوليديّة مستندة الى العلّة الأولى حقيقة ، وإلّا فلا مانع من إسناد
الإحراق الى المخاطب ، كما في أمر الملك أحد أمرائه بفتح البلاد ، فلا يتفاوت
المقام في دعوى كون الأمر بالمسبّب مستلزما للأمر بالسّبب بعنوان اللّزوم العقلي
لا الدّلالة المجازية المطابقية ، ولكنّ ظاهر كلام المستدلّ هو المعنى الثاني ،
فيختلف موضع النزاع بالنسبة الى السّبب وغيره من المقدّمات ، ومع ذلك فقد عرفت
بطلان دليله بما لا مزيد عليه.
حجّة القول بتخصيص
الوجوب بالشرط الشرعي : أنّه لو لم يكن واجبا ، لم يكن شرطا ، والتالي باطل ،
فالمقدّم مثله.
أمّا الملازمة ،
فلأنّه لو لم يجب لجاز تركه ، وحينئذ فإمّا أن يكون الآتي بالمشروط آتيا بتمام
المأمور به أم لا ، والثاني باطل ، لأنّ المفروض أنّ المأمور به منحصر في
المشروط ، فيلزم تماميّة المأمور به بدون الشرط ، فيلزم عدم توقّفه على الشّرط ،
هذا خلف.
وأمّا بطلان
التالي فواضح .
والدّليل على عدم
الوجوب في غيره يظهر ممّا تقدم.
__________________
والجواب : اختيار
الشقّ الثاني ، وأنّ عدم الإتيان بتمام المأمور به لا يلزم أن يكون من جهة عدم
الإتيان ببعض المأمور به بل يجوز أن يكون لفوات وصف من أوصاف المأمور به يختلف
كيفية المأمور به بسببه ، وكون ما يستلزم عدمه عدم المأمور به واجبا أوّل الكلام ،
وسيجيء بيان أنّ علّة الحرام ليست بحرام كما تقدّم أنّ سبب الواجب ليس بواجب.
ومن هذا يندفع ما
قيل ، أنّ الواجب هو الصلاة المتّصفة بكونها صادرة عن المتطهّر ، فالأركان
المخصوصة مع الطهارة حينئذ يكون سببا لإيجاد الهيئة المحصّلة لحقيقة المأمور به ،
فيكون واجبا لكونه سببا ، مع أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا قلنا أنّ الجزء يجب بوجوب
الكلّ ، وسيجيء الكلام فيه.
وتحقيق المقام هو
ما تقدّم من إثبات الوجوب الحتميّ التبعيّ ، ولكنّه ليس بمحلّ النزاع في شيء ، ثمّ
إنّ سوق هذه الحجّة يجري في غير الشّرط الشرعي من المقدّمات العقليّة والعادية
أيضا ، ولا اختصاص لها بالشّرط الشرعيّ والجواب ، الجواب.
__________________
تنبيهات
الأوّل :
ربّما يتوهم أنّه لا خلاف في وجوب المقدّمة إذا كانت المقدّمة هو إتيان
أمور يحصل الواجب في ضمنها ، كالصّلاة الى أكثر من جانب ، والإتيان بالظهر والجمعة
معا عند من اشتبه عليه المسألة وأوجب الاحتياط ونحو ذلك ، لأنّه عين الإتيان
بالواجب ، بل هو منصوص في بعض الموارد كالصلاة الى أربع جهات.
وفيه ما [لا] يخفى
على المتأمل ، سيّما بعد ما بيّنّا من معنى الوجوب ، وثمرة النزاع والإجماع
المتوهّم ممنوع.
وأمّا الكلام في
النصّ الوارد في بعض هذه الموارد ، فنحن أيضا لا نتحاشى عن القول بالوجوب هناك ،
ولا اختصاص به بهذا المورد ، بل الكلام فيه هو الكلام في مثل الوضوء إذا لوحظ
وجوبه المستفاد من النصّ ، إذ الوجوب فيهما الحاصل من النصّ عليه هو الوجوب الغيري
، والفرق بين المنصوص وغير المنصوص إنّما يحصل في كون الخطاب به أصليّا أو تبعيّا
، فوجوب سائر المقدّمات تبعيّ ، ووجوب مثل ذلك أصليّ.
ولا يذهب عليك أنّ
ما ذكرنا هنا لا ينافي ما سبق منّا من منع وجوب الشرط الشرعيّ من المقدّمات ، إذ
الشرطيّة غير الوجوب كما هو مصرّح به في كلام الأعلام ، مع أنّ ما تقدّم من الكلام
إنّما هو في الوجوب المستفاد من إيجاب نفس الواجب ، وهو باق بحاله بالنسبة الى مثل الوضوء أيضا.
__________________
والحاصل ، انّا
نقول بأنّ الأمر بالصلاة ليس أمرا بالوضوء ، وذلك لا ينافي كون الوضوء شرطا من قبل
الشّارع ، ولا كونه مأمورا به بخطاب على حدة ، بل لا نضايق في ترتّب العقاب على ترك الوضوء من جهة خصوص الأمر به ،
وإن كان وجوبه المعتبر كما هو مدلول أصل لفظ الأمر ، ومصرّح به في كلام جماعة من
المحقّقين ، ونفى الخلاف في وجوب هذا القسم الذي تعلّق به الوجوب على حدة ،
المحقّق الشيرازي في حاشية «العضدي».
الثاني :
صرّح جماعة بوجوب التروك المستلزمة
للترك الواجب ، كالمطلّقة
المشتبهة فيما بين الأربع أو أقلّ ، والدينار المحرّم في الدنانير المحصورة
ونحوهما من باب المقدّمة.
والذي يترجّح في
النظر هو عدم الوجوب ، وإن قلنا بوجوب المقدّمة ، إذ الواجب إنّما هو الاجتناب
عمّا علم حرمته ، لا عن الحرام النفس الأمري ، لعدم الدّليل على ذلك ، والأصل
والأخبار المعتبرة يساعدنا.
وكيف ما كان ، فالذي
نمنع وجوبه هو اجتناب الجميع ، وأمّا إذا بقي منه بمقدار نجزم بارتكاب الحرام ،
فلا نجوّزه.
وتمام التحقيق في
ذلك سيجيء إن شاء الله تعالى في أواخر الكتاب.
__________________
الثالث :
الظاهر أنّ الكلام في دلالة الواجب على
وجوب جزئه ، كالكلام في سائر
مقدّماته ، والقدر المسلّم من الدلالة هو التبعيّ إلّا أن ينصّ عليه بالخصوص
بعنوان الوجوب ، كما مرّ في حكم المقدّمة الخارجة. وربّما نفي الخلاف عن الوجوب في
الجزء لدلالة الواجب عليه تضمّنا ، وهو ممنوع .
وقد جعل العلّامة من فروع المسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، من جهة أنّ
الكون الذي هو جزء الصلاة واجب بسبب وجوب الواجب ، فلا يجوز أن يكون منهيّا عنه.
__________________
قانون
الحق أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النّهي
عن ضدّه الخاصّ مطلقا
وأمّا الضدّ
العامّ فيقتضيه التزاما .
وتوضيح المقصد يقتضي رسم مقدّمات.
الاولى :
الضدّ الخاصّ للمأمور به هو كلّ واحد من
الامور الوجوديّة المضادّة له عقلا أو شرعا.
وأمّا العامّ فقد
يطلق على أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، وهو يرجع الى الأوّل ، وقد يطلق على
الترك إمّا بجعله عبارة عن الكفّ ، أو مجازا للمناسبة والمجاورة ، والمراد في هذا
المبحث هو المعنى الثاني .
الثانية :
انّ ترك الضدّ ممّا يتوقّف عليه فعل
المأمور به لاستحالة وجود الضدّين في محلّ واحد.
فوجود أحدهما
يتوقّف على انتفاء الآخر عقلا ، فالتوقّف عقليّ
__________________
وإن كان الضدّ
شرعيّا ، إذ المراد بعد فرضه ضدّا . وقد أغرب بعض المحقّقين فأنكر كونه مقدّمة وقال : إنّه من المقارنات الاتّفاقيّة ،
فلو كان ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ، فكون فعل الضدّ مقدّمة لترك ضدّه أولى
بالإذعان ، ولمّا كان منشأ توهّم التوقّف هو المقارنة الاتّفاقية ، حصل ذلك
الاشتباه في المقامين ، مع أنّه محال.
وغرضه من المقام
الثاني هو شبهة الكعبي الآتية ، فإنّه جعل فعل المباح
__________________
مقدّمة لترك
الحرام . يعني أنّه لمّا قارن ترك الحرام لفعل المباح ، فتوهّم أنّ
المباح مقدّمة له ، فكما انّ ذلك باطل لأنّه من باب محض الاتّفاق ، فكذا فيما نحن
فيه.
وأنت خبير بأنّ
الفرق بينهما في كمال الوضوح ، فإنّ ترك الحرام قد يتخلّف عن جميع الأفعال مع وجود
الصّارف ، ومع عدم التخلّف فلا يتوقّف عليه غالبا ، بخلاف فعل المأمور به فإنّه لا
يمكنه التخلّف أبدا.
وقوله : مع أنّه
محال ، الظاهر أنّه أراد منه لزوم الدّور ، وهو أغرب من سابقه لأنّ المقامين متغايران. وإن أراد أنّ ترك الضدّ كما أنّه
مقدّمة لفعل الضدّ الآخر على ما قلت ، ففعل الضدّ الآخر أيضا علّة لترك هذا الضد.
ففيه : أنّ في هذا
الكلام اشتباه التوقّف بالاستلزام ، فإنّ ترك أحد الضدّين لا يتوقّف على فعل الضدّ
الآخر ، لجواز خلوّ المكلّف عنهما جميعا.
نعم ، فعل الضدّ
الآخر يستلزم ترك الآخر ، وأين هذا من التوقّف.
والظاهر ، أنّ
منشأ توهّمه النظر إلى أنّ ترك الضدّ يتخلّف غالبا من فعل ضدّه ، فحسب من ذلك انّه
لا مدخليّة لترك الضدّ في فعل ضدّه ، وحسب أنّ مقدّمة الشيء
__________________
هي ما يتوقّف عليه
الفعل في نظر المكلّف مع تفطّنه بكونه ممّا يتوقّف عليه ، وأمّا مع وجود الصّارف
عن المكلّف به وعدم حصوله في الخارج ، فلا يتحقّق واجب في الخارج حتّى يتحقّق
توقّف.
ثمّ طرد الكلام
غفلة إلى حال الاشتغال والتفطّن ، وأنكر التوقّف هنا أيضا.
وأنت خبير بأنّ
عدم تفطّن المكلّف بالتوقّف لا يوجب عدم التوقّف في نفس الأمر.
والثاني : إنّما
هو معنى ما لا يتمّ إلّا به لا الأوّل ، مع أنّ هذا الكلام يجري في سائر المقدّمات
أيضا.
فإن قلت : إذا ترك
الواجب لصارف عنه ، فينتفي الواجب ، فما معنى وجوب المقدّمة مع أنّ وجوبه للتوصّل
الى الواجب ، فإذا كان معنى المقدّمة هو ما يتوقّف عليه الواجب في نفس الأمر ،
سواء تفطّن به المكلّف أم لا ، وسواء أتى بالواجب أم لا ، فكيف يصحّ لك الحكم
بالوجوب شرعا حينئذ ، كما هو مقتضى القول بوجوب المقدّمة على ما ذكرت؟
قلت : علم الأمر
بعدم الامتثال لا يؤثّر في قدرة المكلّف ، وإلّا لزم الجبر ، وتوهّم كون الخطاب بالمقدّمة حينئذ قبيحا ، لأنّ مع عدم الواجب لا معنى لطلب
المقدّمة ، لأنّها ليست مطلوبة في نفسها ، ومع وجود الصارف لا يمكن صدوره ، مدفوع
بالنقض بأصل الواجب أوّلا ، وبمنع امتناع الواجب ثانيا ، وبأنّ التكليف
__________________
للامتحان ثالثا . فاللّازم على القائل بوجوب المقدّمة القول بالعقاب على
ترك المقدّمات ، التي لو فعل الواجب كان موقوفا عليه ، وعدم وجود الواجب وعدم
التأثير في الوجود في الخارج ، وفي نظر المكلّف لا يضرّ ، وهذا من أفصح ما يلزم القائل بوجوب المقدّمة ، فإنّ إجراء أحكام الواجب
على تلك المقدّمات أصعب شيء. فمن كان عليه أداء دين مع المطالبة ، وكان له صارف عن
أدائه ، يلزمه عدم صحّة عباداته من أوّل العمر الى آخره. غاية ما في الباب ، أنّه
لا يترتّب ثواب على ترك الضدّ لو لم يتفطّن المكلّف له في صورة الامتثال بالمأمور
به ، لو قلنا بأنّ الامتثال بالنّهي إنّما يكون بالكفّ لا بنفس أن لا يفعل ، وذلك
مع أنّه غير مسلّم ـ كما سيجيء ـ لا ينفي ترتّب العقاب على فعله على القول بوجوب
المقدّمة.
الثالثة :
المباح يجوز تركه ، خلافا للكعبي ، فإنّه قال بوجوب المباح ، والمنقول عنه
مشتبه المقصود ، فقد يقال : إنّ مراده أنّ كلّ ما هو مباح عند الجمهور ، فهو واجب
عنده ، لا غير ، وقد يقال : إنّ مراده أنّ كلّ ما كان مباحا بالذّات فهو
واجب بالعرض ، وعلى أيّ التقديرين فالنزاع معنويّ والمنقول عنه في دليله وجهان :
أحدهما : أنّ ترك
الحرام واجب ، وهو متلازم الوجود مع فعل من الأفعال ، فكلّ ما يقارنه فهو واجب ،
لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.
__________________
وثانيهما : أنّه
لا يتمّ ترك الحرام إلّا بإتيان فعل من الأفعال ، وهو واجب ، فذلك الفعل أيضا واجب
، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، فهو واجب.
والجواب عن الأوّل
: منع ذلك ، فإنّ الممتنع هو اجتماع الضدّين في محلّ واحد لا في المتقارنين في
الوجود ، إلّا في العلّة والمعلول عند بعضهم .
وامّا الثاني :
فأجيب عنه بوجوه :
الاوّل : أنّ هذا
لا يختصّ بالمباح فقد يتمّ بالواجب.
وفيه : أنّه لا
يرفع الإشكال ، لأنه يقول حينئذ بكونه أحد افراد الواجب المخيّر.
والثاني : منع
وجوب المقدّمة.
والتحقيق في
الجواب إنّ ذلك ليس بمقدّمة مطلقا ، إذ الصارف يكف في ترك الحرام.
نعم ، لو تحقق فرض
لا يمكن التخلّص إلّا بإتيان شيء ، فنقول بوجوبه إن قلنا بوجوب المقدّمة ، وذلك لا
يثبت الكليّة المدّعاة خصوصا إن قلنا بأنّ المراد من ترك الحرام هو نفس أن لا يفعل
فإنّه يحصل غالبا ولا يحتاج الى شيء أصلا ، بل وقد يكون المكلّف حينئذ خاليا عن كل
فعل إن قلنا ببقاء الأكوان ، وعدم
__________________
احتياج الباقي الى
المؤثّر ، فكذلك إن قلنا بكونه الكفّ ، إذ كثيرا ما لا يتصوّر فعل الحرام حتى يجب الكفّ
عنه فحينئذ لا يكون المباح أحد أفراد الواجب المخيّر أيضا ، اللهمّ إلّا أن يقال
بالنظر الى ما حقّقناه سابقا في مقدّمات القانون السّابق من انّ المقدمات قد تكون
غير مقدورات ، وانّه قد يقوم غير المقدور مقام
__________________
المقدور انّ
المباح أحد أفراد الواجب المخيّر ، ولكن قد يقوم مقامه ومقام سائر أفراده بعض
الأمور الغير المقدورة مثل عدم شرط الحرام ووجود المانع عنه ونحو ذلك. فالصّارف
ايضا من أحد أفراد الواجب المخيّر لو كان هو ترك الإرادة بالاختيار ، ومن جملة ما
يقوم مقام تلك الأفراد لو كان شيئا خارجا عن الاختيار.
وأنت خبير بأنّ
هذا في الحقيقة تخيير بين الأمور المقدورة ، والغير المقدورات مسقطات لها لا أنّه
تخيير بين المقدورات وغير المقدورات كما قد يتوهّم ، مع أنّا لو سلّمنا التخيير
مطلقا فلا نأبى عن كونه أحد أفراد الواجب المخيّر بهذا المعنى ، ولكن ليس هذا مراد
الكعبيّ.
وأمّا ما ذكره
المحقّق السّابق الذكر ، من أنّه لا مدخليّة للمباح في ترك الحرام أصلا ومطلقا ، وأنّه من مقارناته الاتفاقية مطلقا.
ففيه ما فيه ، إذ
كثيرا ما نجد من أنفسنا توقّف ترك الحرام على فعل وجودي بحيث لو لم نشتغل به
لفعلنا الحرام ، ولا يمكن إنكاره.
وأطلنا الكلام في
إبطال توهّمه وتوضيحه فيما علّقناه على «تهذيب» العلّامة.
الرابعة :
موضع النزاع ما إذا كان المأمور به
مضيّقا والضدّ موسّعا ، ولو كانا موسّعين فلا نزاع ، وأما لو كانا مضيّقين فيلاحظ ما هو الأهم.
__________________
وقد يفصّل بأنّ
الفعلين إمّا كلاهما من حقّ الله أو حق الناس أو مختلفان ، وعلى التقديرات إمّا
معا موسّعان أو مضيّقان أو مختلفان ، فمع ضيق أحدهما الترجيح له مطلقا ، ومع سعتهما التخيير
مطلقا.
وأمّا الثاني ،
فمع اتحاد الحقيقة التخيير مطلقا ، إلّا إذا كان أحدهما أهم في نظر الشّارع كحفظ
بيضة الإسلام ، ومع اختلافهما فالترجيح لحقّ الناس إلّا مع الأهميّة.
إذا تمهّد هذا
فنقول :
يكثر النزاع في
اقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن ضدّه بكل من المعنيين وعدمه ، وفي كيفيّة الاقتضاء
بالعينية أو التضمن أو الاستلزام اللّفظي أو العقلي.
ولمّا كان بعض
الخلافات والأقوال في المسألة في غاية السّخافة فنقتصر
__________________
الكلام في بيان
مقامين :
الاوّل : الأقوى أنّ الامر بالشيء يقتضي
النّهي عن ترك المأمور به التزاما لا تضمّنا كما توهّم بعضهم ، إذ المنع من الترك ليس جزء مفهوم الأمر ، فإنّ معنى افعل
هو الطّلب الحتمي الجازم ، ويلزمه إذا صدر عن الشّارع ترتب العقاب على تركه
والممنوعيّة عنه ، فالمنع عن التّرك لو سلّم كونه جزء معنى الوجوب لا يلزم منه كون
جزء معنى افعل كما توهم.
وبتذكّر ما أسلفنا
في مباحث دلالة الصّيغة على الوجوب تتبصّر هنا ، فالصيغة تدلّ عليه التزاما بيّنا
بالمعنى الأعمّ. والقول بالعدم منقول عن السيّد رحمهالله وبعض العامّة محتجا : بأنّ الآمر قد يكون غافلا فلا يتحقّق
النّهي.
وفيه : أنّ الغفلة
مطلقا حتى إجمالا ممنوع وهو يكفي ، ولذلك قلنا بكون اللّزوم بيّنا بالمعنى الأعم
مع أنّ القصد غير معتبر في الدّلالة كما في دلالة الإشارة ، ولكن ذلك خارج عن محل
النزاع. وكما أنّ القول بالعينيّة في الضدّ الخاصّ إفراط فهذا القول تفريط ، ولا
ثمرة في هذا النزاع .
الثاني : الحق عدم دلالة الأمر بالشّيء
على النّهي عن الضدّ الخاص ، والمثبتون بين من يظهر منه الالتزامية اللّفظية ، ومن يظهر منه الالتزامية
العقليّة.
لنا : أنّه لا
دلالة لقولنا : أزل النجاسة عن المسجد ، على قولنا : لا تصلّ ، ونحوه بإحدى من
الدّلالات الثلاث.
__________________
أمّا المطابقة
فظاهر وكذا التضمّن ، وقد مرّ ما يمكن لك إبطاله به بطريق أولى.
وأمّا الالتزام
فاللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ فيه منتف كما هو ظاهر ، ولم يدّعه الخصم أيضا كما
يظهر من أدلّتهم الآتية.
وأمّا البيّن
بالمعنى الأعمّ فأيضا غير موجود ، لأنّه لا يلزم من تصوّر الأمر وتصوّر الضدّ
والنسبة بينهما كون الآمر قاصدا حرمة الضدّ ، وسنبطل ما تثبّت به الخصم في ذلك.
نعم يدلّ عليه
دلالة تبعية من قبيل دلالة الإشارة ، ولكن ذلك ليس ممّا يثمر فيما نحن فيه ، فإنّ
ترك الضدّ من مقدمات المأمور به ووجوب تركه تبعي ، والوجوب التبعي لا يفيد إلا أنّ
ترك الضّد مطلوب الأمر تبعا ، بمعنى أنّ المقصود بالذّات هو الإتيان بالمأمور به ،
وطلب ترك الضّد إنما هو لأجل الوصول إليه فلا يثبت بذلك عقاب على ترك الترك ،
بمعنى فعل الضدّ ، فلا يثبت فساد كما مرّت الإشارة .
واحتجّ المدّعون
للدلالة اللّفظية : بأنّ أمر الايجاب طلب فعل يذمّ على تركه اتّفاقا ولازم
إلّا على فعل لأنّه المقدور وهو ليس إلّا الكفّ أو فعل ضدّه ، والذّم بأيّهما كان
يستلزم النّهي عنه إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه.
وفيه : منع انحصار
الذمّ على الفعل لما سنحققه من أنّ مطلق ترك الفعل ايضا مقدور بسبب القدرة على
استمراره ولا نحتاج الى الكفّ مع أنّ الكفّ لا يتحقق في ترك المأمور به عرفا
لمدخليّة الزّجر والإكراه في مفهومه.
__________________
وإن أريد به مطلق
صرف عنان الإرادة فيكفي في ذلك الكفّ ، ولا يثبت بذلك حرمة الأضداد الخاصّة ، لعدم
انفكاكها عنه بهذا المعنى.
سلّمنا ، لكن نقول
: إنّ هذا الاستلزام تبعي لا أصلي كما مرّ ولا يضر ، بل القدر المسلّم في الكفّ
أيضا هو ذلك. والذي هو مراد القائلين هو الحكم الأصلي لا التبعي كما يظهر من ترتب
الثمرات في الفقه .
واحتج المثبتون
للاستلزام العقلي بوجوه ، ويريدون بالاستلزام العقلي ، أنّ العقل يحكم بأنّ مراد
المتكلّم ذلك أصالة ، لا العقلي بمعنى التبعي ، فإنّه ليس من محطّ النزاع في شيء.
الأوّل : أنّ ترك
الضدّ مما لا يتمّ فعل المأمور به إلّا به فيكون فعله حراما وهو معنى النّهي عنه .
وقد اجاب عنه بعض
المحقّقين : بمنع كون ترك الضدّ من مقدّمات المأمور به ، وقد عرفت
بطلانه بما لا مزيد عليه.
والتحقيق في
الجواب : منع وجوب المقدّمة أصالة وتسليمه تبعا ، وهو لا ينفع المستدلّ كما تكرّرت
الإشارة.
وقد أجيب أيضا : بأنّ وجوب المقدّمة توصّلي والوجوب للتوصّل يقتضي
__________________
اختصاصه بحالة
الإمكان ، ومع وجود الصّارف عن فعل المأمور به لا يمكن التوصّل إليه بترك الضّد.
وفيه : ما لا يخفى
، إذ اختيار الصّارف بالاختيار لا ينفي إمكان تركه ، واختيار الفعل والتوصّل إليه
بالمقدّمة كما في تكليف الكافر بالعبادة ، فكما انّه مكلّف بأصل الواجب مكلّف
بإتيان ما يتوصّل إليه على القول بوجوب المقدّمة ، وقد مر في المقدّمة الثانية ما
ينفعك هنا.
وقد أجيب أيضا :
بأنّ دليل القول بوجوب المقدّمة لو سلّم فإنّما يسلّم في حال إرادة الفعل ، وإذا
كان له صارف فلا يريد الفعل فلا يلزم تكليف ما لا يطاق أو خروج الواجب عن الوجوب.
وفيه : أنّه يدلّ
على الوجوب في حال إمكان الإرادة ولا يشترط فعليّتها.
نعم وجودها لا بدّ
أن يكون في حال الإرادة فهو غير محل النزاع.
ويظهر ما ذكرنا
ايضا من التأمّل في المقدّمة الثانية .
الثاني : أنّ فعل الضدّ مستلزم لترك
المأمور به المحرّم ، والمستلزم للمحرّم محرّم .
وقد أجيب : بأنّ الاستلزام إن أريد به محض المقارنة في الوجود وعدم
الانفكاك في الوجود الخارجي فنمنع الكبرى ، وإلّا لثبت قول الكعبي بانتفاء المباح.
__________________
وإن أريد به كونه
من جملة مقدّماته وإن لم يكن سببا وعلّة.
ففيه : أيضا منع
الكبرى ، بل الصغرى أيضا.
وإن أريد عليّة
فعل الضّدّ لترك المأمور به أو كونهما معا معلولين لعلّة ثالثة ، فهو وإن كان
يستلزم ذلك لاستبعاد حرمة المعلول من دون العلّة كوجود المسبّب من دون السّبب ، ولأنّ انتفاء التحريم في أحد المعلولين يستدعي انتفائه
في العلّة فيختصّ المعلول الآخر الذي هو المحرّم بالتحريم من دون علّته ، ولكنّهما
ممنوعان فيما نحن فيه ، إذا العلّة في ترك المأمور به إنّما هو الصّارف وهو عدم
الإرادة فهو المانع أبدا ، سيّما بملاحظة أنّه مقدّم على فعل الضّدّ طبعا ، إلّا
أن يجبر على فعل الضّدّ وكان الصارف منتفيا وهو خارج عن محلّ النزاع لسقوط التكليف
حينئذ. فليس فعل الضدّ علّة ولا هو مع ترك المأمور به معلولا لعلّة ثالثة ، إذ ما
يتصوّر كونه علّة لهما هو الصّارف عن المأمور به وهو ليس علّة لفعل الضدّ ، بل قد
يكون من مقدّماته.
أقول : الظاهر أنّ
مراد المجيب من العلّة هو السّبب ، والتحقيق أنّ ما ذكره ايضا لا يستلزم التحريم
لو ثبت فكيف ولم يثبت. فإنك قد عرفت أن وجوب المسبّب لا يدلّ على وجوب السّبب
ومثله الكلام في علّة الحرام ، بل الظّاهر أنّه كذلك لو أراد من العلّة ، العلّة
التامّة أيضا. وكذلك إذا كانا معلولين لعلّة واحدة ، إذ انتفاء التحريم في معلول
إنّما يقتضي عدم تحريم علّته من حيث إنها علّته ، فلا يلزم عدم تحريمها مطلقا
فيكون حراما بالنسبة الى المعلول الآخر.
__________________
وبالجملة ، لا
دليل على كون علّة الحرام حراما ، فإنّ ذلك إمّا من جهة كونها مقدّمة للحرام ،
فيدلّ على حرمتها النّهي عن ترك الواجب.
وفيه : أنّ توقّف
تحقيق ترك الواجب عليها ممنوع أوّلا.
سلّمنا ؛ لكن
الخطاب تبعي توصّلي عقلي ، وقد تقدّم أنّه لا يثبت التحريم المقصود ، نظير وجوب
المقدّمة.
وإمّا من جهة
استفادة ذلك من سائر أحكام الشرع وتتبّع مواردها.
وفيه : أنا لم نقف
على ما يفيد ذلك ، بل المستفاد من تتبّعها خلافه ، ويرشدك الى ذلك ملاحظة فتوى
الفقهاء بكراهة صنائع تنجرّ الى الحرام .
وإما من جهة حكم
العقل صريحا وهو أيضا ممنوع ، لأنّ العقل لا يستحيل كون الشيء حراما من دون علّته
، بل لا يستبعد ، فلا مانع من الحكم بحرمة الزّنا مع حليّة أكل الطّعام الذي يوجب
القوّة عليه إلّا من باب التكليف التبعي.
الثالث : لو لم يحرم الضّد وتلبّس به
كالصلاة بالنسبة الى إزالة النّجاسة مثلا ، فإن بقي الخطاب بالإزالة لزم التكليف
بالمحال ، وإلّا خرج الواجب المضيّق عن وجوبه
. وقد أجيب : بأنّ
الأوامر الدالة على وجوب الإزالة ونحوها فورا مخصوصة بما لم يكن المكلّف متلبّسا
بواجب.
والأولى في الجواب
اختيار الشّق الأوّل ، وتسليم جواز هذا التكليف لكون المكلّف هو الباعث عليه فيعاقب
على ترك الإزالة ويحكم بصحّة الصلاة ولا منافاة.
__________________
تنبيهان
الأوّل :
أنّ بعض المحقّقين
ذكر أدلّة المثبتين والنافين وضعّفهما ، ثم قال : ولو أبدل النّهي عن الضدّ
الخاص بعدم الأمر به فيبطل لكان أقرب.
وحاصله ، أنّ
الأمر بالشيء وإن لم يقتض النّهي عن ضدّه لكن يقتضي عدم الأمر بالضدّ اقتضاء
عقليّا لامتناع الأمر بالمتضادين في وقت واحد ، فإذا لم يكن الضدّ مأمورا به فيبطل
لأنّ الصحّة إنّما هو مقتضى الأمر وبدونه يبطل ، فإنّ الأصل عدم الصّحة.
وفيه : أوّلا :
أنّ ذلك على تسليم صحّته إنّما يتمّ في العبادات ، وأمّا في المعاملات فلا يتم
مطلقا .
وثانيا : منع
اقتضائه عدم الأمر مطلقا إذ الذي يقتضيه الأمر بالشيء عدم الأمر بالضدّ إذا كان
مضيّقا ، وأمّا إذا كان موسّعا كما هو المفروض فلا ، ولا استحالة في اجتماع الأمر
المضيّق والأمر الموسّع ، فإنّ معنى الموسّع إنّه يجب أن يفعل في مجموع ذلك الوقت
، بحيث لو فعل في أيّ جزء منه امتثل ولم يتعيّن عليه الإتيان
__________________
في آن معيّن من
أناته.
وهذا نظير ما
سيجيء تحقيقه من جواز اجتماع الأمر والنّهي في الشيء الواحد مع تعدّد الجهة ، فإنّ
ذلك من سوء اختيار المكلّف كما إذا اختار المكلّف إيقاع مطلق الصلاة في خصوص
الدّار الغصبي.
الثاني :
أنّ النزاع في أن النّهي عن الشيء هل هو
أمر بضدّه أم لا بعينه ، هو النزاع في
الأمر في إدّعاء العينيّة والاستلزام ، ويمكن استنباط الأدلّة بملاحظة ما سبق.
والحق عدم
الاقتضاء ، ولو دلّ لدلّ على الأمر بضدها ، بخلاف الأمر فإنّه يقتضي النّهي عن
جميع الأضداد ، والأمر الندبي أيضا فيه قولان.
وقد يقال : لو دلّ
على النّهي عن الضدّ تنزيها لصار جميع المباحات مكروهة ، لاستحباب استغراق الوقت
بالمندوبات فتأمّل .
والحق عدم
الدّلالة فيه أيضا.
ويظهر من ذلك
الكلام في المكروه وضدّه أيضا.
__________________
قانون
لا خلاففي ورود الأمر بواحد من أمرين أو أمور
على سبيل التخيير ظاهرا .
، فذهب أصحابنا
وجمهور المعتزلة الى أنّه كل واحد منها على البدل ، فلا يجب الجميع ولا
يجوز الإخلال بالجميع وأيّها فعل كان واجبا في نفسه ، لا أن يكون بدلا عمّا هو
واجب.
وذهب الأشاعرة الى
انّه أحد الأبدال لا بعينه .
__________________
وهناك أقوال أخر
شاذة.
فمنها : أنّه هو
الجميع ويسقط بفعل البعض.
ومنها : أنّه
معيّن عند الله ولكن يسقط به وبالآخر ، وهما أيضا للمعتزلة.
ومنها : ما تبرأ
كل من الفريقين منه ونسبه الى الآخر ، وهو انّ ما يفعله المكلّف ويختاره فهو
الواجب عند الله ، فيختلف باختلاف المكلّفين.
وكلّها باطلة
مخالفة للإجماع والاعتبار . فأجود الأقوال القولان الأوّلان .
ولكنّ الاشكال في تحقق معنى التخيير على مذهب الأشاعرة من جهة انّ الكلّي
لا تعدّد فيه ، ولا تخيير فيه وإلّا لزم التخيير بين فعل الواجب وعدمه.
ويندفع : بأن
المراد المخيّر ، في أفراده فالوصف بحال المتعلّق [التعلّق] ،
__________________
ويشكل هذا
بالواجبات العينيّة ، فإنّها أيضا كلّيات مخيّر في أفرادها.
ويمكن دفعه : بأنّ
الكلي في المخيّر جعلي منتزع من الأفراد تابع لها في الوجود كأحد الأبدال ، بخلافه
في العينيات ، فإنّه متأصّل وعلّة للأفراد سابق عليها طبعا.
وقد يجتمع
الاعتباران كالكفّارة بالنسبة الى الخصال ، فالخطاب بالكفّارة عينيّ يستتبع
التخيير في أفرادها ، والخطاب بإحدى الخصال تخييريّ.
ويبقى الكلام في
ثمرة النزاع بين الفريقين ، فربّما قيل : إنّ النزاع لفظيّ وليس كذلك ، ولكنّه قليل الفائدة في الفقه.
وممّا يمكن أن
يكون ثمرة النزاع أنّه إذا نذر أن يأتي بثلاث واجبات شرعيّة تعلّق الوجوب من
الشّارع بها بنفسها ، فيبرّ نذره بالإتيان بخصال الكفّارة الثلاث مطلقا على الأوّل
، بخلاف مذهب الأشاعرة ، فإنّ الخطاب لم يتعلّق بالخصال ، بل بالمفهوم الكلّي
المنتزع منها.
وأمّا الدّليل على
المذهبين ، فالأوّلون يتمسّكون بالتبادر من قوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ)(إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). فإنّ الظّاهر منه إيجاب الإطعام والكسوة والتحرير على
سبيل
__________________
البدليّة.
والأشاعرة يقولون : كلمة (أو) لأحد الشيئين أو الأشياء مبهما ، وإذا جاز تعلّق
الأمر بواحد مبهم كما هو محقّق ومستقيم ، والنصّ دلّ بظاهره عليه ، يجب العمل بمقتضى ظاهره ، ولكلّ وجه.
ولمّا كان أصل هذا
المبحث قليل الفائدة ، فلنقتصر على ذلك ولا نطيل الكلام بالكلام في سائر الأقوال
وعليها ، وقد أطلنا الكلام في تعليقاتنا على «التّهذيب».
فائدة
قد عرفت أنّ
المكلّف بالواجبات العينيّة أيضا مخيّر في إتيانها في ضمن أيّ فرد شاء ، وهذا
التخيير عقليّ.
فاعلم أنّ الأفراد
قد يكون بعضها أزيد من بعض ، فالامتثال بالأمر بالتصدّق يمكن بدرهم وبدينار ،
وبمطلق الذّكر في الركعتين الأخيرتين على القول به يحصل بتسبيحة وبأكثر ، وهكذا.
وكذا الواجبات
التخييريّة فقد تكون متّفقات في الحقيقة مختلفات في الزّيادة والنقصان ، كالقصر
والإتمام في المواطن الأربعة ، والأربعين والخمسين في بعض منزوحات البئر ، والستّة
والخمسة في ضرب التأديب.
واختلفوا في اتّصاف الزّائد بالوجوب على
أقوال :
أظهرها ثالثها ،
وهو : أنّه إن كان حصوله تدريجيّا ، بحيث يوجد الناقص قبل
__________________
القدر الزّائد ،
كما في التّسبيحة في الأوّل ، والأربعين في الثاني ، فالمتّصف بالوجوب هو الأوّل
لا غير لحصول الطبيعة في الأوّل ، وبه يحصل الامتثال ، وحصول أحد الأفراد في
الثاني ، وإن لم يكن ذلك فواجب كلّه ، لكونه فردا من الواجب.
نعم اختياره مستحبّ ، لكونه أكمل الأفراد ، فيكون ثوابه أزيد. وهذا هو
دليل من أطلق الوجوب ، وغفل عن صورة التدريج.
وأمّا القائل
باستحباب الزّائد ، فيستدلّ بأنّه : يجوز تركه لا إلى بدل ، فلا
يجب.
وفيه : أنّ الأقلّ
بدل عن المجموع ، وعلى ما ذكره يلزم تكرار المسح ، فيمن يمسح بثلاث أصابع ، إذا قصد كون
الاثنين مستحبّا ، والواحد واجبا.
وعلى ما ذكرنا
فالواجب واحد وهو أكمل أفراده ، ويمكن جعل التمام ماهيّة مخالفة للقصر ، فلا يكون
تخييرا بين مجرّد الزّائد والناقص ، ولذلك لا يجوز الاكتفاء بالرّكعتين إذا نوى
التمام أوّلا ، فتدبّر في الأمثلة والأمكنة ، فلا تغفل.
__________________
قانون
لا خلاف في جواز
الأمر بالشيء في وقت يساويه ، كصوم رمضان ، كما لا إشكال في عدم جواز الأمر بشيء
في وقت ينقص عنه للزوم المحال ، وإطلاق الأداء على مجموع الصلاة المدرك ركعة منها
في الوقت اصطلاح ، أو من جعل الشارع ؛ للنصّ الصحيح المستفيض بأنّ : «من أدرك ركعة
من الوقت فقد أدرك الوقت» ، فيكون ذلك شرعا بمنزلة إدراك الوقت أجمع. ويتفرّع عليه
كونه مؤدّيا للجميع ، ويضعّف كونه قاضيا مطلقا أو لما وقع في خارج الوقت كما صرّح به في «تمهيد القواعد» .
واختلفوا في جواز
الأمر بشيء في وقت يزيد عليه ، ويطلق عليه الواجب الموسّع.
والحقّ ، وقوعه
وفاقا لأكثر المحقّقين ؛ لإمكانه عقلا ووقوعه شرعا.
أمّا جوازه عقلا ؛
فلأنّه لا مانع منه إلّا ما تخيّله [يختلّه] الخصم ، من لزوم ترك الواجب ، وهو
باطل جزما ، لأنّه يلزم لو ترك في جميع الوقت ، فكما أنّه يجوز تخيير الشارع بين
أفراد مختلفة الحقائق ، فيجوز تخييره بين أفراد متّفقة الحقائق
__________________
متمايزة بخصوصيات
أجزاء الوقت.
ونظير ذلك التوسعة
في المكان كوقوف عرفات وغيرها .
وأمّا وقوعه فللأمر بصلاة الظهر ، وصلاة الزّلزلة وغيرهما ، فلمّا كان
تطبيق أوّل جزء من الفعل بأوّل جزء من الوقت ، وآخره بآخره غير مراد إجماعا ، وغير
ممكن عادة في الأغلب ، وكذا تكريره الى انقضاء الوقت ولا مرجّح لأحد من الأجزاء
على الآخر ، فينبغي أن يراد ما ذكرنا جوازه عقلا هو التخيير بين الإيقاعات الممكنة
في أجزاء ذلك الوقت.
والخصم لمّا أحال
التوسيع للزوم خروج الواجب عن الوجوب ، فيلزمه التجشّم في تأويل أمثال هذه
الأوامر. فافترقوا على مذاهب : فذهب بعض الشافعيّة الى اختصاص الفعل بأوّل الوقت ، ونقل ذلك عن ظاهر المفيد وابن أبي عقيل ، بل نقل عنهما العقاب على التأخير وصيرورته قضاء .
__________________
والظاهر أنّ
مرادهم بالعقاب هو إذا تركه رأسا ، لا بمعنى كون العقاب على الترك في الجميع ، لكي
يرتفع النزاع ، بل بمعنى العقاب على الترك في الأوّل ، ولكنّهم يقولون بالعفو حتما
بعد فعله ثانيا ، ولا كذلك المضيّقات ، فإنّه لا عفو حتميّا فيها ، فالتوسعة في
وقت العفو.
احتجّوا : بأنّه لو لم يكن الوقت هو الأوّل ، للزم كونه قبل الوقت
، وهو باطل ، كما في الصلاة قبل الزّوال.
وفيه : أنّه إنّما
يتمّ في مقابل من خصّه بالآخر مع انّ بطلان التالي على قوله أيضا ممنوع للنقض
بتقديم الزّكاة نفلا وتقديم غسل الجمعة يوم الخميس.
وأمّا نحن ففي
فسحة عن ذلك وغيره .
__________________
وبعض الحنفيّة الى
اختصاصه بالآخر ، محتجّا بلزوم المعصية في التأخير لولاه ، وهو منفي بالإجماع.
وفيه : أنّ
الإجماع ممنوع لو أريد أصل المعصية ، ومع حصول العفو فلا يضرّ.
كما ورد أنّ : «أوّل
الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» ، فحصل الفارق .
__________________
وقيل : إنّه مراعى
، فإن أدرك آخر الوقت ظهر كونه واجبا ، وإلّا فهو نفل ، ففعله في الأوّل نفل
، لكنّه قد يسقط الفرض.
ولعلّه أراد أنّ
الوجوب مشروط بإدراك مجموع الوقت ، وهو في غاية الوهن بعد ما بيّنا.
وقد ذكروا في
تفسيره وجوابه وجوها ذكرناها في حواشي «التهذيب» لا فائدة في ذكرها.
وعلى ما اخترناه
من كونه من باب التخيير في الإيقاعات ، فهل يجب في كلّ من التروك بدليّة العزم عليه ثانيا حتى يتضيّق الوقت فيتعيّن الواجب أو لا؟ قولان
: أظهرهما العدم ، لعدم الدّليل ، وعدم دلالة الأمر عليه بأحد من
__________________
الدّلالات ، وأمّا
سائر الأدلّة فمدخولة ، مثل أنّه لا بدّ من مساواة البدل والمبدل ، والفعل واحد
والعزم متعدّد ، ومن لزوم تساويهما في الحكم ، والفعل مسقط للتكليف دون العزم.
وفيهما معا ، أنّ
المبدل منه هو الإيقاعات إلى أن يتضيّق ، فيتعيّن. ومثل دعوى القطع بأنّ الامتثال
بالفعل يحصل من غير جهة البدليّة.
وفيه : أنّ ثبوت
البدليّة لا يقتضي قصد الفعل من جهتها.
وقد يجاب أيضا : بأنّ البدل هاهنا تابع مسبّب عن ترك مبدله ،
كالتيمّم بدل الوضوء ، وكخصال الكفّارة على القول بالترتيب ، وكتحصيل الظّنّ بوقوع
الكفائي عند تركه ، فإطلاق البدل عليه اصطلاح ، وجهة البدلية لا يعتبر في مثل ذلك.
احتجّوا : بأنّه لو جاز الترك بلا بدل ، لما فصل عن المندوب.
وفيه : أنّه لا
كلام لنا في الفرد الأخير ، وأمّا في الباقي فالبدل محقّق ، وهو كلّ واحد من
الجزئيّات المتمايزة بالوقت ، وبلزوم خلوّ الترك عن بدل فيما إذا مات فجأة ولا إثم
لجواز التأخير.
وفيه : أنّ الواجب
ما يستحقّ تاركه العقاب في الجملة ، ويصدق عليه أنّه لو
__________________
لم يفعله ولا سائر
الأفراد مع ظنّ الموت أو مع فرض بقائه إلى آخر الوقت ، لاستحقّ العقاب.
وسيجيء أنّه يجوز
التأخير مع ظنّ السّلامة ، فالموت فجأة مع عدم التقصير لا يخرجه عن الوجوب ،
وبأنّه لولاه لزم تساويه في الوقت وقبله ، فيخرج عن الوجوب.
وفيه : أنّ تركه
في الوقت ليس بدون البدل ، وهو الجزئي الآخر من جنسه بخلاف ما قبل الوقت.
وبأنّه : ثبت فيه
حكم خصال الكفّارة لسقوط كلّ بفعل الآخر وحصول العصيان بتركهما.
وفيه : أنّ سقوط
كلّ بفعل الآخر بمجرّده لا يستلزم الوجوب إن أريد مجرّد الرّخصة في الترك. وإن
أريد حصول العصيان أيضا بتركهما ، فهو أوّل الكلام ، فإنّ الكلام إنّما هو قبل تضييق الوقت ، مع أنّ كون
الرخصة في الترك لأجل اختيار العزم لا الفرد الآخر ، أوّل الكلام. ومع تسليم وجوب
العزم ، فقد يقال أنّه ليس من جهة أنّه بدل الفعل ، بل لأنّ غير الغافل يجب عليه
العزم على الواجبات ، إجمالا أو تفصيلا حين استشعرها كذلك ، وهو من أحكام الإيمان ولوازم المؤمن ، ولا اختصاص له
بالواجب الموسّع ولا بها بعد الوقت ، بل يجب ولو قبل عشرين سنة. فوجوب العزم ليس
من جهة أنّه بدل الواجب ، ولكن لمّا كان العزم على الفعل بعد وقوعه ممتنعا ،
فيتوهّم بعد الفعل أنّه كان أحد الواجبين التخييريّين وأسقطه الآخر ،
__________________
مع أنّه قد يتأمّل
في أصل وجوبه أيضا ، لأنّ غاية الأمر أنّه يجب على المؤمن أن لا يعزم على الترك حين
الالتفات.
وأمّا وجوب العزم
على الفعل ، ففيه إشكال ، ولا تلازم بينهما كما توهّم لثبوت الواسطة. ويؤيّده ما
قيل أنّه لو وجبا لعزم ، فيلزم انضمام بدل آخر في بعض الأحيان مثل العزم على صوم
رمضان أو اختيار سفر مباح ولم يقل به أحد.
تتميم
التوسعة في الوقت إمّا محدود كالظهر ،
أو غير محدود
مثل : ما وقته
العمر كالحجّ وصلاة الزّلزلة والنذر المطلق. ويتضيّق الأوّل بتضيّق وقته أو بظنّ
الموت ، والثاني بظنّ الموت. ومثل ظنّ الموت الظنّ بعدم التمكّن ، فيعصي من ضاق
عليه الوقت بالتأخير اتّفاقا ، لأنّ اليقين بالبراءة لا يحصل إلّا بذلك ، وتحصيله
واجب عند اشتغال الذمّة يقينا. والمراد اليقين في موافقة الأمر والإطاعة ، لا إنّ
براءة الذمّة لا يحصل بالإتيان فيما بعد لو ظهر بطلان الظنّ ، فافهم ذلك.
ثمّ لو ظهر بطلان
الظّنّ ، فالظاهر بقاء المعصية ، لأنّه مكلّف بالعمل بالظنّ وقد خالفه ؛ فصار
عاصيا ، كما لو وطء امرأته بمظنّة الأجنبيّة ، وشرب خلّا بمظنّة الخمر ونحو ذلك ،
فلا ريب في العصيان ، إنّما الإشكال في أنّه قضاء أو أداء.
الأشهر الأقوى
الثاني ، لأنّه وقع في وقته.
__________________
وقيل : إنّه قضاء لوقوعه بعد الوقت بحسب ظنّه ، وضعفه ظاهر.
وأمّا ظانّ السّلامة
الذي فاجأه الموت ، فلا عصيان عليه بالتأخير.
وقيل : بالعصيان
فيما وقته العمر للزوم خروجه عن الوجوب لولاه ، بخلاف الموقّت ، فإنّه يجوز
التأخير فيه إلى تضيّق الوقت وتعيّن الوجوب ، وهو تحكّم بحت ، لأنّ ذلك يرد في
المحدود لو ظنّ السّلامة الى آخر الوقت ، مع أنّ غير المحدود أيضا يتضيّق وقته ،
ويتعيّن عند ظنّ الموت.
تنبيه
فى التخيير في اللوازم وممّا يتفرّع على توسيع الوقت والتخيير فيه ، التخيير في
لوازمه ، بدلالة الإشارة ، فلا يمكن التمسّك باستصحاب ما يلزم المكلّف في أوّل
الوقت في جزء آخر ، فالمكلّف في أوّل الظهر إنّما هو مكلّف بمطلق صلاة الظهر ،
فعلى القول باعتبار حال الوجوب في مسألة القصر في السّفر ، لا يمكن التمسّك
باستصحاب وجوب التمام أوّل الوقت ، لأنّ المكلّف مخيّر في أوّل الوقت بأداء مطلق
الظّهر في أيّ جزء من الأجزاء.
__________________
ويمكن المخالفة في
الأجزاء في نفس الأمر بالقصر والإتمام ، والصّلاة بالتيمّم والغسل والوضوء وصلاة
الخوف وصلاة المريض وغير ذلك ، فتخيير المكلّف بإيقاعها في هذه الأجزاء تخيير في
لوازمها ، فافهم ذلك واضبطه.
وإن شئت تقريرا
أوضح فاعتبر الإشارة من ملاحظة ما دلّ على توسيع الظهر مع ما دلّ على إباحة السّفر
مطلقا مثلا ، كما يستفاد أقلّ الحمل من الآيتين ، فتأمّل.
قانون
الواجب الكفائيّ ما قصد به غرض يحصل
بفعل البعض ،
ولا يتعلّق الغرض
بحصوله من كلّ واحد من المكلّفين أو بعض معيّن منهم ، كخصائص النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا ريب في جوازه عقلا ووقوعه شرعا ، كالجهاد المقصود
منه حفظ الإسلام وإذلال الكفّار ، وصلاة الميّت المقصود منه احترام الميّت.
والحقّ ، أنّه
واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض ، لا كما قيل : بتعلّقه بالمجموع ، ولا كما قيل : بتعلّقه بالبعض الغير المعيّن .
لنا : أنّهم لو
تركوا جميعا لذمّوا بالترك واستحقّوا العقاب جميعا ، باتّفاق الخصم ، وهو معنى
الوجوب. وأمّا السّقوط بفعل البعض ، فإجماعي.
حجّة القول الثاني
: أنّه لو تعيّن على كلّ واحد كان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحقّقه ،
فيكون نسخا فيفتقر الى خطاب جديد ، ولا خطاب ، فلا نسخ فلا يسقط ، بخلاف الإيجاب
على الجميع من حيث هو ، فإنّه لا يستلزم الإيجاب على كلّ واحد ، ويكون التأثيم
للجميع بالذّات ، ولكلّ واحد بالعرض .
وأجيب : بأنّ سقوط
الأمر قبل الأداء قد يكون بغير النسخ ، كانتفاء علّة الوجوب ، كاحترام الميّت مثلا
، فإنّه يحصل بفعل البعض ، ولهذا ينسب السّقوط إلى
__________________
فعل البعض ، و :
بأنّ الوجوب لو لم يتعلّق بكلّ واحد ، فكيف ينوي كلّ واحد منهم الوجوب؟
وحجّة الآخرين
وجوه :
الأوّل : أنّ
الوجوب لو كان على الكلّ لما سقط بفعل البعض.
وفيه : أنّه
استبعاد محض ، ومثله يجري في الواجبات العينيّة أيضا ، كإسقاط دين رجل بأداء
متبرّع عنه.
الثاني : كما انّه
يجوز الأمر بواحد مبهم اتّفاقا ، يجوز الأمر ببعض مبهم . فإنّ ما يحصل مانعا هو الإبهام وقد لغي ، وقد يسقط بفعل
أيّ بعض كان ، فيكون واجبا على بعض مبهم.
وفيه : أنّه قياس
مع الفارق ، لأنّكم تقولون بتأثيم الكلّ على ترك ذلك البعض المبهم فيما نحن فيه ،
بخلاف الأمر بواحد مبهم ، فإنّ التأثيم ليس على ترك الواحد ، بل التأثيم للكلّ حين
ترك الكلّ ، دليل على الوجوب على الكلّ ، ولا معنى لعقاب شخص عن شخص آخر.
فثمرة النزاع إذا
إنّما هو في اتّصاف كلّ واحد منها بالوجوب وعدمه إذا صدر عن الكلّ ، ويتفرّع عليه
ثمراته .
__________________
الثالث : قوله
تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) الآية. فإنّ التنديم والتهديد على طائفة منكرة مبهمة.
واجيب : بأنّ
المراد بيان ما يسقط الوجوب ، جمعا بين الأدلّة ، مع أنّ اشتغال الجميع يوجب
اختلال النظام والعسر والحرج ، وكما أنّ الشروع واجب ، فالإتمام أيضا واجب ،
فالسّقوط إنّما هو بعد التفقّه.
ثمّ إنّ الواجب
الكفائيّ لا يسقط إلّا مع حصول العلم بفعل الآخر.
وهل يعتبر الظنّ
الشرعيّ مثل شهادة العدلين ونحوها فيه؟
قولان : الأقرب
الاعتبار.
والظاهر أنّ مجرّد
العلم بحصول الفعل من مسلم يكون كافيا ، حملا لفعله على الصّحة بمقتضى الأدلّة القاطعة ، فلا يعتبر العدالة.
وتمام هذا الكلام
في الفروع.
__________________
قانون
اختلفوا في أنّ الأمر المعلّق بالكلي ظاهرا ، هل المطلوب به هو الماهية أو الجزئي المطابق للماهيّة الممكن الحصول؟
وصرّح بعضهم بوصفه بالحقيقي أيضا لأنّه هو الموجود في الأعيان.
والأقرب الأوّل للتبادر عرفا ، ولأنّ الأوامر مأخوذة من المصادر الخالية
عن اللّام والتنوين ، وهي حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء. ونقل فيه السّكاكي إجماع
أهل العربيّة ، ولا يفيد [الهيئة] إلّا طلب [طلب إلّا] ذلك الحدث ، مع أنّ الأصل
عدم الزّيادة.
والظاهر أنّ من
يدّعي أنّ المطلوب هو الفرد أيضا ، لا ينكر ذلك بحسب اللّفظ
__________________
والعرف واللّغة ،
ولكنّه يدّعي ذلك بثبوت القرينة على خلافه من جهة العقل. فقد تراهم لا ينكرون ذلك
في شيء من الموارد ، مثل أنّهم يقولون في مبحث إفادة الأمر للمرّة أو التكرار أو
الفور وعدمه ، وغير ذلك ، أنّ الأمر لا يقتضي إلّا طلب الماهيّة . فلعلّ مرادهم أنّ حقيقة اللفظ وإن كان يقتضي ذلك ، إلّا أنّ العقل يحكم بأنّ
المراد هنا هو الفرد ، لأنّ مطلوب الشّارع هو ما أمكن وجوده ، وما لا يمكن وجوده
يستحيل طلبه من الشّارع للزوم التكليف بالمحال ، والماهيّة ممّا لا وجود له في
الأعيان ، فثبت أنّ المطلوب هو الفرد.
وجوابه : أنّ
المستحيل وجوده في الخارج هو الطبيعة بشرط أن لا يكون مع قيد وتشخّص. وأمّا هي لا
بشرط شيء ، فيمكن وجودها بإيجاد الفرد ، والممكن بالواسطة ممكن ، فيجوز التكليف به
، فيكون الفرد من مقدّمات حصولها ؛ فيجب من باب المقدّمة ، وذلك لا يستلزم نفي
مطلوبيّة الطبيعة.
فإن قلت : النزاع
في هذا الأصل متفرّع على النزاع في وجود الكلّيّ الطبيعيّ وعدمه ، وما ذكرته إنّما
يتمّ على تقدير تسليم وجوده ، ولعلّ الخصم لا يسلّم ذلك.
قلت : أوّلا : إنّ
ما حقّقه المحقّقون هو وجوده ، وإنّ وجوده عين وجود الأفراد وبيّنوه في محلّه.
__________________
وثانيا : إنّ
المقام يتمّ بدون ذلك أيضا ، فإنّ منكري وجود الكلّي الطبيعي لا ينكرون أنّ العقل ينتزع من الأفراد صورا كليّة مختلفة ، تارة من
ذواتها ، واخرى من الأعراض المكتنفة بها ، بحسب استعدادات مختلفة واعتبارات شتّى ،
كما صرّحوا به ، وإن لم يكن لتلك الصّور وجود إلّا في العقل ، وتلك
الصّور هو الكلّي الطبيعيّ على مذاق هؤلاء . ولا ريب أنّ له نوع اتّحاد مع الفرد لصدقها عليه عرفا ،
وعدم وجودها في الخارج إنّما يظهر بعد التدقيق الفلسفي.
وأمّا أهل العرف
فلا يفهمون ذلك ولا يفرّقون بين ما كان وجوده متأصّلا ومتحقّقا ، أو
بالإضافة والاعتبار .
فيفهمون من الأمر
أنّ مطلوب الأمر هو هذه الطبيعة المطلقة لا بشرط ، غاية الأمر استحالة تحقّقها في
نفس الأمر إلّا بإيجاد الفرد ، ولا ضير فيه مع القدرة عليه بالواسطة ، ويكفي في
انفهامهم ذلك ، تولّد الأمر الانتزاعيّ ممّا به الانتزاع وإن كان أمرا اعتباريا.
وحاصل المرام ،
أنّ أهل العرف يفهمون من ذلك ، الخصوصيّات المعيّنة لا مدخليّة لها في الامتثال ،
ويكفي تحقّق هذا المفهوم في الخارج على أيّ نحو
__________________
يكون ، وإن كان
اعتقادهم بتحقّقه في الخارج فاسدا في نفس الأمر ، ولا يضرّ فساد هذا الاعتقاد في
حصول الامتثال.
نعم ، هذا النزاع
يثمر في المسائل الحكميّة ، على أنّا نقول : غاية ما دلّ عليه دليلكم أنّ المطلوب
لا بدّ أن يكون هو الفرد ، وأمّا تعيّنه وتشخّصه وإرادة فرد معيّن ، فلم يدلّ عليه
دليل ، لا من اللّفظ ولا من العقل.
ولا ريب أنّ فردا
ما من الطبيعة أيضا كلّيّ ولا تحقّق له في الخارج على مذاقكم ، وإرادة فرد خاصّ
تحكّم بحت.
فإن قلت : إنّا
نريد من فرد ما أحد الأفراد ، بمعنى أنّ المطلوب هو كلّ واحد من الجزئيّات
المعيّنة المشخّصة على سبيل التخيير ، فيتعلّق الطلب بكلّ واحد منها على سبيل
التخيير ، وليس ذلك من باب التعلّق بالكلّي.
قلت : قد مرّ
الفرق بين الجواب التخييري والعيني ، وأنّ تخيير المكلّف في أفراد الواجب العينيّ
ليس من باب الوجوب التخييري ، وإلّا لما بقي فرق بينهما ، مع أنّهم نازعوا في
الواجب التخييري على أقوال شتّى ، ولم ينازعوا فيما نحن فيه أصلا ، وهو من أعظم
الشواهد على أنّ المطلوب هنا شيء واحد ، وأنّ التخيير بين الأفراد إنّما هو من باب حكم العقل من
جهة وجوب المقدّمة ، أو من خطاب الشرع أيضا بخطاب تبعيّ ، لا أن يكون خطابا
متأصّلا كما هو مقتضى قول الخصم ، فإنّه يقول : إنّ مطلوب الشارع في الأمر
المتعلّق بالكلّيّ هو الأفراد تخييرا بالأصالة.
__________________
ونحن نقول : بأنّ
وجوب المقدّمة يقتضي الرّخصة في إتيان أيّها شاء ، تبعا للخطاب بالكلّي.
وأيضا الأفراد في الواجبات التخييريّة لا بدّ أن تكون منظورة بالذّات
ومفصّلة ، والمطلوب هنا التخيير في إتيان هذه الطبيعة في ضمن أيّ فرد من الأفراد
شاء ، فالتخيير بينهما ليس من حيث إنّها أشياء متأصّلة بذاتها ، بل من حيث إنّها
مصاديق لهذا المفهوم ، فيئول الكلام في وجوبها إلى تحصيل الامتثال بإيجاد المفهوم
وتحصيله في الخارج ولو في نظر أهل العرف ، وممّا يلزمهم ، كون أكثر خطابات الشّرع
مجازا.
فإن قلت : على ما
ذكرت من كفاية مطلق اتّحاد الكلّيّ مع الفرد ، فيصحّ إطلاق الكلّي وإرادة الفرد
حقيقة ، وإن كان الاتّحاد غير واقع في نفس الأمر ، فلا مجاز.
قلت : فرق بيّن
بين قولنا : ايتيني برجل ، و : آتاني رجل ، و : سلّم أمري إلى الرّجل لا إلى
المرأة ، والمسلّم في كون الكلّي حقيقة في الفرد هو الصّورة الأولى ، وفي الثانية
إشكال . فإنّ المراد منه شخص خاصّ ، وإنّما علّق الحكم على المطلق أوّلا ليسري الى
الفرد ، والمطويّ في ضمير المتكلّم إنّما هو الرّجل الخاص مثل قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ) فلم يعلّق الحكم أوّلا على الفرد الخاصّ ، ولم يقصد من اللّفظ دلالته على الخصوصيّة ، وبذلك يمكن
__________________
إدراجه تحت
الحقيقة أيضا.
وأمّا الثالثة :
فلا التفات فيه إلى الفرد ، لا أوّلا وبالذّات ، ولا ثانيا ، ولكن لمّا لم يمكن
الامتثال إلّا بالفرد ، وجب من باب المقدّمة. ولا ريب أنّ الأوامر من قبيل الثالث
، فلا ريب أنّ إرادة الفرد من ذلك مجاز.
فتأمّل وانتظر
لتمام التحقيق في باب العموم والخصوص.
وأمّا ما قيل : من أنّ الخلاف في هذا الأصل إنّما نشأ من عدم التمييز
بين الماهيّة لا بشرط ، وبينها بشرط لا ، وحمل كلام النافي على إرادة الثاني ، فهو
بعيد من أنظار العلماء .
تنبيه وتحقيق
اعلم أنّ صيغة الأمر مثل : اضرب ، لها
اعتبارات ثلاث ، يلاحظ الكليّة والجزئية بالنسبة إليها :
الأوّل : ملاحظة
كونها كليّا بالنسبة إلى الطلب الراجح.
فعلى القول بكونه
حقيقة فيه ، فاستعماله في كلّ واحد من الوجوب والندب ؛ استعمال في أفرادها.
والثاني :
ملاحظتها بالنسبة إلى أفراد الضّرب.
والثالث :
ملاحظتها بالنسبة إلى المخاطبين.
__________________
وهذه المواضع
متغايرة بالذّات وبالحكم . ووضعها بالنسبة إلى الثالث حرفيّ نسبيّ ، والموضوع له هو
الأفراد فلا مجاز في استعمالها في الأفراد على ما هو التحقيق في وضع الأفعال
والحروف.
وأمّا الأوّلان
فقد عرفت حكم الثاني منهما هاهنا مفصّلا ، والوضع هنا وضع المشتقّات ، والملحوظ
فيه هو المادّة.
وأمّا الأوّل ،
فالظاهر أنّه من باب : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ) وكونه حقيقة حينئذ إنّما هو لأجل التعلّق بالطبيعة.
والظاهر أنّ الوضع
فيه أيضا كسابقه ، وإنّما هو متعلّق بالهيئة لا بالمادّة ، ولكن مع قطع النظر عن
النسبة إلى الفاعل ، وقد اشتبه الأمر على بعض الفحول فحسب وضع الأمر من حيث كيفيّة الطلب وضعا حرفيّا كوضعه
بالنّسبة إلى ملاحظة النّسبة إلى الفاعل ، فتأمّل وانتظر لتمام الكلام.
__________________
قانون
الحقّ عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء
شرطه.
وتنقيح ذلك يستدعي
رسم مقدّمة ، وهي أنّ الواجب المشروط ـ أعني ما توقّف وجوبه على ما توقف عليه
وجوده ـ إمّا أن يعلم بتنصيص الأمر على الاشتراط مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). ويجب الصّيام على من كان حاضرا ، ونحو ذلك. أو يعلم بحكم
العقل ، مثل توقّف الواجب على التمكّن منه ، فيتوقّف وجوبه أيضا لئلّا يلزم تكليف
ما لا يطاق.
ومعنى الشرطيّة أي
التعليق على ما يفهم منه هنا ممّا لا يصحّ على العالم بالعواقب ، ولا يحسن الشرط
منه على ظاهره ، فإنّ ظاهره الجهل بالوقوع ، وهو ينافي العلم ، فينحلّ الاشتراط
حينئذ إلى حكمين مطلقين : ثبوتيّ بالنسبة إلى الواجد ، وسلبيّ بالنسبة الى الفاقد.
نعم اشتراطه إنّما
هو بالنسبة إلى المكلّف والأمر الجاهلين ، فالعمومات الشاملة
__________________
بظاهرها لكلّ
المكلّفين ، منها : ما يحصل العلم بكونها مطلقا ، وهو إذا جمع المكلّف جميع
الشرائط العقليّة والشرعيّة ومضى من الوقت مقدار ما يتمكّن من أدائه فيه.
ومنها : ما يحصل
العلم بكونها مطلقا بالنسبة الى الشّروع فيه ، كالفرض السّابق في أوّل الوقت لمن
لم يخبره صادق ببقائه إلى التمام.
ومنها : ما يحصل
الظنّ بالإطلاق بالنسبة إليهما ، كالصّحيح السّليم الذي يظنّ بقاؤه إلى أن يتمّ
الواجب. ولا ريب انّه مع هذا الظّن يجب الإقدام على الواجب بعد دخول وقته ، بل قبل
الدّخول فيما يتوقّف عليه أيضا ، كالحجّ عن البلد النائي [الثاني] ، وهذا ممّا لا
ريب فيه ، بل لا يمكن صحّة التكاليف الشرعيّة إلّا بذلك ، سيّما في المضيّقات.
ومدار إرسال الرّسل ، وإنزال الكتب ، وشرع الشرائع ، بل مدار نظام العالم ،
وانتظام عيش بني آدم على ذلك ، فيكفي الظنّ ويجب التعبّد به.
والقول بأنّ
التكليف يتجزّأ بالنسبة الى أجزاء المكلّف به ، فهو مع أنّه في محلّ المنع بالنسبة الى الدّلالات
المقصودة من اللّفظ كما ذكرنا في مقدّمة الواجب ، لا يتمّ العلم قبل حصول ذلك
الجزء ، وبعد تحقّقه يخرج عن المتنازع فيه ، مع أنّ الكلام في نفس التكليفات لا
أجزائها.
والمراد بالشرط في
محلّ النزاع ، هو شرط الوجوب ، سواء كان شرطا للوقوع أيضا كالقدرة والتمكّن من
المقدّمات العقلية المحضة وعدم السّفر وعدم الحيض للصّوم فيما جعله الشارع شرطا
للوقوع أو لا ، كتملّك النصاب من الزّراعة في الزّكاة.
__________________
وأمّا جعل إرادة
المكلّف من ذلك فهو لا يتمّ إلّا على مذهب الجبريّة.
وبالجملة ، لا
كلام فيما كان مقدّمة للوقوع فقط ، كالطهارة بالنسبة الى الصلاة لأنّه يجب تحصيله
كالواجب ، ولا يلزم من أمر الآمر إذا علم انتفاؤه نقص وقبح ، وإن علم أنّه يتركه
اختيارا ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
إذا تقرّر هذا ،
فنقول : إنّ هاهنا مقامين من الكلام :
الأوّل : أنّه هل
يجوز توجيه الأمر إلى المكلّف الفاقد للشرط مع علم الآمر بانتفائه ، وإن لم يكن
نفس الفعل المأمور به ، بل كان المراد مصلحة اخرى حاصلة من نفس الأمر من العزم على
الفعل وتوطين النّفس على الامتثال والابتلاء والامتحان أم لا؟
والثاني : أنّه هل
يجوز إرادة نفس المأمور به مع العلم بعدم الشّرط أم لا؟
والظاهر أنّ
كليهما ممّا وقع النزاع فيه ، ولكنّ المتداول في ألسنة الاصوليين المفيد في
تعريفاتهم [تفريعاتهم] هو النزاع الثاني. وقد اختلط المقامان على كثير منهم ، كما يظهر من استدلالاتهم :
والحقّ في الأوّل
الجواز.
ولا يحضرني الآن
كلام من أنكر جواز ذلك إلّا العميدي رحمهالله في «شرح التهذيب» حيث قال : إنّ ذلك غير جائز لما يتضمّن
من الإغراء بالجهل لما يستلزم
__________________
من اعتقاد المأمور
إرادة الآمر الفعل المأمور به منه ، ويظهر ذلك من صاحب «المعالم» أيضا في أواخر المبحث .
وفيه : أنّه لا
قبح في ذلك.
أمّا أوّلا : فلما
بيّنا أنّه قلّما يحصل العلم للمأمور بكونه مكلّفا بأصل الفعل لاحتمال انتفاء شرط
التمكّن ، بل المدار على الظنّ ، فلا يستلزم الاعتقاد الجازم ، ولا يضرّ الظنّ مع
انكشاف فساده كما هو المشاهد في العمومات الشاملة لقاطبة المكلّفين ، مع أنّ كثيرا
منهم لا يتمكّن عن الإتمام ، وإلّا لانتفى الواجب المشروط غالبا. غاية الأمر كون
ذلك الاستعمال مجازيّا تأخّرت عنه قرينته ، وتأخيرها إنّما يقبح إذا كان عن وقت
الحاجة ، وأمّا عن وقت الخطاب فلا قبح فيه ، كما سيجيء تحقيقه.
وأمّا ثانيا :
فذلك يستلزم نفي النسخ المجمع عليه ظاهرا ، فإنّ ظاهر الحكم التأبيد . وعلى القول بجوازه قبل حضور وقت العمل ، فالملازمة أظهر.
والحاصل ، أنّ
الأمر حقيقة في طلب نفس الفعل ، ومجاز في طلب العزم عليه والتوطين له لقصد
الامتحان وغيره ، وانكشاف عدم الشّرط قرينة على ذلك متأخّرة عن الخطاب.
__________________
وما قيل : إنّ الامتحان لا يصحّ في حقّه تعالى لأنّه عالم
بالعواقب.
ففيه ما لا يخفى ،
إذ لا تنحصر فائدة الامتحان في خصوص حصول العلم للآمر ، بل قد يكون للغير ،
وللمكلّف ، ولإتمام الحجّة كما لا يخفى.
وبما ذكرنا يعلم الجواب عمّا يقال في هذا المقام أيضا ، بأنّه لو جاز
الأمر لمجرّد مصلحة في نفس الأمر ممّا ذكر ، لما دلّ الأمر على وجوب المقدّمة ، ولا النهي
عن ضدّه ، ولا على كون المأمور به حسنا ، فإنّ الدّلالة على المذكورات إنّما هي من
خواصّ الصّيغة ، فلا يخرج عنها إلّا بالقرينة على المجاز ، ومجرّد الاستعمال لا
يوجب الحقيقة حتّى يحصل الاشتراك الموجب للإجمال المانع عن الدّلالة ، ومن عدم
إرادة المذكورات في بعض الأحيان ، لا يلزم عدم دلالة اللّفظ من حيث هو.
وأمّا المقام
الثاني : فذهب أصحابنا فيه الى عدم الجواز ، وجمهور العامّة على الجواز ، وربّما [وبما]
أفرط بعضهم فجوّزه مع علم المأمور بانتفاء الشّرط أيضا.
لنا : أنّه تكليف
بما لا يطاق ، أمّا فيما انتفى فيه ما يتوقّف عليه الفعل عقلا فواضح. وأمّا فيما
انتفى فيه ما جعله الشّارع شرطا للوجوب والوقوع معا ، كعدم
__________________
السّفر والحيض
ونحوهما ، فلأنّه رخّص في السّفر ، ومنع في حال الحيض ، فبعد اختيار السّفر يحرم
الصوم ، فلا يجوز فعله ؛ فيمتنع شرعا ، وكذلك يحرم في حال الحيض ؛ فيمتنع فعله
شرعا ، فتكليفه بالوجوب والحرمة معا مع اتّحاد الجهة ، ممتنع كما سيجيء . ولا فرق عندنا بين الممتنع بالذّات والممتنع بالغير في قبح التكليف به إلّا فيما صار الامتناع من جهة سوء
اختيار المكلّف ، فلا يرد ما أجاب به ابن الحاجب وغيره بأنّ ما لا يصحّ التكليف به هو المحال الذّاتي لا
__________________
الإضافي ، ولا ما أورده من النقض بلزوم عدم صحّة التكليف مع جهل الآمر أيضا لاشتراك
امتناع الامتثال.
وفيه : انّا لا
نقول بانحصار جهة قبح التكليف في امتناع الامتثال ، بل هو ذلك مع علم الآمر به ،
والقبح إنّما هو في هذه الصّورة .
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : أنّ حسن
الأمر قد يكون لمصالح تتعلّق بنفسه دون المأمور به ، كالعزم والتوطين ، ونحوهما.
وفيه : أنّ هذا
خروج عن المتنازع.
والثاني : أنّه لو
لم يصحّ التكليف بما علم عدم شرطه ، لم يعص أحد ، واللّازم باطل بالضّرورة من
الدّين. وأمّا الملازمة فلأنّ كلّ ما لم يقع فقد انتفى شرط من شروطه ، وأقلّها
إرادة المكلّف.
وفيه : أنّ الكلام
في شرط الوجوب ، والإرادة من شرط الوقوع لا غير.
نعم يصحّ ذلك على القول بكون العبد مجبورا في الإرادة ، وبطلانه بديهيّ.
والثالث : لو لم
يصحّ ، لم يعلم أحد أنّه مكلّف ، وهو باطل بالضّرورة.
أمّا الملازمة
فلأنّه مع الفعل ، وبعده ينقطع التكليف عنه ، وقبله لا يحصل العلم ببقائه على صفات
التكليف إلى التمام ، والمراد العلم بالإتيان به فيما بعد ، فلا يضرّ
__________________
حصول العلم
بالواجب الموسّع بعد تقضّي الوقت بمقدار الواجب مستجمعا للشرائط مع عدم الفعل ،
فيلاحظ هذا الكلام بالنسبة الى جزء جزء من الزّمان يمكن إيقاع الفعل فيه.
وفيه : منع
الملازمة لو أراد من العلم أعمّ من الظنّ المعلوم الحجّية كما مرّت الإشارة إليه.
ومنع بطلان التالي لو أراد خصوص العلم. ودعوى الضرورة فيه مكابرة وعناد ، مع أنّ انقطاع التكليف حال الفعل أيضا محلّ كلام.
والرابع : لو لم
يصحّ ، لم يعلم إبراهيم عليهالسلام وجوب ذبح ولده لانتفاء شرطه عند وقته ، وهو عدم النّسخ ،
وقد علمه قطعا ، وإلّا لم يقدم على قتل ولده ، ولم يحتج إلى فداء.
وأجيب عنه :
بالمنع من تكليف إبراهيم عليهالسلام بالذّبح الحقيقي ، بل إنّما كلّف بمقدّماته كالإضجاع ،
وتناول المدية ونحو ذلك بدليل قوله تعالى : (قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا).
وأمّا جزعه
فلإشفاقه عن أن يؤمر بعد ذلك بالذّبح نفسه لجريان العادة بذلك.
وأمّا الفداء
فيجوز أن يكون عمّا ظنّ انّه سيؤمر به ، أو عمّا لم يؤمر به من المقدّمات ، إذ لا
يجب أن يكون الفدية من جنس المفدّى.
وفيه : أنّ ذلك لا
يناسب امتحان مثل إبراهيم عليهالسلام واشتهاره بالفضل لذلك ،
__________________
وكذا ولده إسماعيل
عليهالسلام ، ولا اشتهاره بذبيح الله ، ولا ما ورد أنّ المراد بذبح
عظيم هو الحسين صلوات الله وسلامه عليه. والاستشهاد بتصديق الرّؤيا معارض ب : (أَنِّي
أَذْبَحُكَ) مع كون المجاز في الأوّل أظهر ، كما لا يخفى.
وقد يجاب أيضا : بأنّ ذلك من باب البداء الذي يقول به الشيعة.
وهو مشكل ، لأنّ
البداء إنّما هو في الأفعال التكوينية الإلهيّة لا الأحكام ، والذي يجري في الأحكام هو النسخ .
نعم ، قد يطلق كلّ
منهما على الآخر مجازا فيقال : إنّ النسخ بداء في الأحكام كما أنّ البداء نسخ في
الأفعال.
__________________
ويمكن توجيهه : بأنّ المراد حصول البداء فيما ظهر له من الله تعالى وعلم
من قبله انّه يذبحه ويصدر عنه الذّبح بقرينة قوله تعالى : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ) ، لا أمرني تعالى بذبحك ، فيكون في المعنى إخبارا عن حصول
هذا الفعل في الخارج بدون منع عن الله تعالى ، ثمّ بدا لله فلم يقع في الخارج ،
مثل إخبار عيسى عليهالسلام عن موت العروس ثمّ ظهور خلافه .
لكن يرد عليه :
أنّ رؤيته عليهالسلام ذبحه في المنام مسبّبة عن أمره تعالى به ، فيدور الكلام.
ويشهد بذلك قوله تعالى حكاية عن إسماعيل عليهالسلام : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما
تُؤْمَرُ). فالأولى جعله إمّا من باب النّسخ ، والقول بجوازه قبل العمل سيّما
__________________
عند حضور وقته ،
أو من باب إرادة العزم والتوطين ، فتأمّل. مع أنّ حصول العلم لإبراهيم عليهالسلام في معرض المنع لم لا يكون بسبب الظنّ المتّبع في مثل هذا
المقام ، مع أنّ الوجوب الشرطيّ فيما لو كان المكلّف واحدا والحال واحدا أيضا مشكل ،
فتدبّر.
وممّا يتفرّع على
المسألة لزوم القضاء على المكلّف إذا دخل الوقت وجنّ ، أو حاضت المرأة قبل مضيّ
زمان يسع الصّلاة ، وانتقاض التيمّم ممّن وجد الماء ، وإن لم يمض زمان يتمكّن عن
المائيّة أو منع عنها مانع فلا يكون مكلّفا بالمائيّة فلا ينتقض ، والمشهور
انتقاضه ، ولعلّه من جهة ظواهر النصوص .
ومنها : ما لو منع
عن الحجّ في العام الأوّل ثمّ مات أو تلف ماله ، فلا قضاء ، وفروع المسألة كثيرة ،
وربّما جعل منها لزوم الكفّارة على من أفطر في شهر رمضان ثمّ مرض في ذلك اليوم ،
أو حصل له مفطر آخر ، من سفر ضروريّ أو غير ضروري ونحو ذلك.
وفيه : إشكال ؛ إذ
لا دليل على انحصار الكفّارة في إفطار الصّوم التامّ النفس الأمريّ ، بل قد يجب
لأنّه فعل فعلا حراما وأفطر صوم رمضان بحسب ظنّه الذي عليه المعوّل في التكليف ،
ولذلك وقع الخلاف فيه بين الأصحاب.
__________________
قانون
اختلفوا في أنّ الشارع إذا أوجب شيئا
ثمّ نسخ وجوبه ، هل يبقى الجواز أم لا؟
والظاهر أنّ
الجواز الثابت بالبراءة الأصليّة ثابت حينئذ جزما ، وإنّما الإشكال في بقاء الجواز
الذي استفيد من الأمر ، فمحلّ النزاع هو ثبوت حكم آخر شرعيّ من الإباحة بالمعنى
الأخصّ أو الاستحباب وعدمه.
فالأقوى عدمه ، بل
يرجع إلى الحكم السّابق من البراءة أو الإباحة أو التحريم ، بالنظر الى الموارد ،
مثل أن يكون من العبادات فيحرم ، لكونها تشريعا بدون الإذن ، أو العادات والتلذّذات فيكون مباحا ، أو المعاملات ، فالأصل البراءة من اللّزوم
لأصالة عدم ترتّب الأثر ، أو بالنظر إلى الأقوال فيما لم يرد فيه
__________________
نصّ ، فإنّ منهم
من قال فيه بالتحريم ، ومنهم من قال غير ذلك ، فيما يتوهّم من أنّ المراد رجوع الحرمة المنسوخة مثلا ، لو فرضت ثبوتها قبله أيضا باطل.
وبالجملة ، المراد
عدم بقاء الجواز المستفاد من الأمر بالدّلالة التضمّنيّة مطلقا ، لا رجوع الحكم
السّابق ، وإن كان حكما شرعيّا منسوخا.
ومحلّ النزاع ما
إذا قال : نسخت الوجوب أو رفعته ، أو : نسخت المنع عن الترك ، ونحوها. أمّا لو
حرّمه أو صرّح بنسخ مجموع مدلول الأمر ، فلا إشكال.
احتجّوا على بقاء
الجواز : بأنّ الأمر الإيجابيّ دلّ على الجواز مع المنع من الترك
، فالمقتضي للجواز موجود ، ونسخ الوجوب لا يحصل معه اليقين برفعه ، لحصول معناه
برفع المنع عن التّرك ، فإنّ رفع المركّب يحصل برفع أحد جزءيه ، وعدم بقاء الجنس
مع انعدام الفصل إنّما يسلم لو لم يخلفه فصل آخر ، ولا ريب أنّ رفع المنع عن
التّرك يستلزم جواز الترك ، فمع انضمامه الى جواز الفعل ، يحصل الإباحة.
وفيه : أنّ الجنس
والفصل وجودهما في الخارج متّحد ، ووجودهما إنّما هو في ضمن الفرد ، فلا معنى
للتفكيك بينهما ، مع أنّ المحقّقين منهم صرّحوا بكون الفصل علّة لوجود الجنس ، مع أنّ الأحكام منحصرة في الخمسة ، فلا يتصوّر
__________________
الانفكاك عن واحد
من الفصول الأربعة التي يتركّب الجواز معها.
وما قيل في الاحتجاج من نيابة الفصل الآخر.
ففيه : أنّ تحصّل
الجنس في ضمن الفصل الأوّل غير تحصّله في ضمن فصل آخر ، فإذا انتفى التحصّل الأوّل
فما الذي أوجب حصوله ثانيا؟
فإن قلت : إنّ
وجوده مستصحب .
قلت : علّية الفصل
لوجود الجنس والتفرقة بين التحصّلين لا يجامع القول بالاستصحاب ، وإن تقارن رفع الفصل وجود فصل
آخر في الخارج.
سلّمنا ، لكنّه معارض باستصحاب عدم القيد ، فإنّ جواز الترك
حال
__________________
ثبوت الوجوب كان
منعدما يقينا ، وحصوله الآن مشكوك فيه.
فإن قلت : لا ريب
في حصول القيد ، لأنّ جواز التّرك حاصل برفع الوجوب مطلقا ، فمع استصحاب الجواز يتمّ المطلوب.
قلت : سلّمنا ذلك
، لكنّ الأصل عدم الارتباط والتقييد.
فإن قلت :
الارتباط والتقييد أمر اعتباريّ ، وبعد حصول الطرفين واتّحاد المورد فلا معنى لعدم
اعتبار ذلك.
قلت : سلّمنا ذلك
، لكن نقول : الأصل عدم تيقّن اللّحوق وهو مستصحب ، غاية الأمر حصول ظنّ باللّحوق
بالاستصحاب ، ولا يقين ، لا لأنّ الانضمام في نفسه يحتاج إلى دليل ، بل لأنّ
اليقين بالانضمام يحتاج إلى اليقين بثبوت المنضمّ إليه ، وهو غير متيقّن ، لأنّه
كما يحتمل تعلّق النسخ بالمنع عن الترك فقط ، يحتمل التعلّق بالمجموع فلا يبقى قيد
ولا مقيّد. فعدم اليقين بالانضمام إنّما هو لعدم اليقين ببقاء المنضمّ إليه ، فكما
أنّ بقاء المنضمّ إليه ـ أعني الجواز ـ مستصحب حتّى يثبت اليقين بخلافه ، فكذلك
عدم لحوق القيد به متيقّن حتّى يثبت اليقين بخلافه ، والاستصحاب لا يوجب اليقين
فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان فيبقى
__________________
المورد بلا حكم.
وبعبارة اخرى ،
فكما أنّ الأصل بقاء الجواز الذي في ضمن الوجوب ، فالأصل عدم تحقّق الإباحة
بالمعنى الأخصّ أو الاستحباب ، فإنّ جميع الأحكام الشرعيّة ، الأصل عدمها.
ومن طريق بيان
المبحث علم أنّ الباقي على القول بالبقاء هو الاستحباب لا الإباحة ولا غيرها ممّا توهّم ، فإنّ جنس الوجوب هو الطّلب الراجح.
ثمّ إنّ هذا الأصل
وإن قلّ فروعه ، بل لا يحضرني الآن له فرع إلّا ما توهّمه بعض الأصحاب من تفريع جواز الجمعة بعد انتفاء الوجوب العينيّ بسبب فقد
شرطه ، أعني حضور الإمام عليهالسلام أو نائبه ، أو تحريمه لبقائه بلا دليل ، والعبادة بلا دليل
حرام وهو باطل كما ستعرفه ، لكن له نظير كثير الفروع عظيم الفائدة وهو
__________________
ما اشتهر في
ألسنتهم من أنّ بطلان الخاصّ لا يستلزم بطلان العامّ ، والتحقيق خلافه كما بيّنا.
فمن فروعه : أنّ
القضاء تابع للأداء ، والتحقيق خلافه.
ومنها : أنّ
الوضوء لا يجزي عن الغسل إذا تعذّر.
ومنها : أنّه لو
نذر إيقاع صلاته في مكان لا رجحان فيه.
والتحقيق أنّه لو
نذر إيقاع صلاة الظهر مثلا أو نافلته في مكان لا رجحان فيه ، فلا ينعقد على القول
باشتراط الرّجحان في النذر ، وأمّا لو نذر إيقاع ركعتين مبتدأة في المكان المذكور فينعقد ، لا لأنّ عدم اعتبار الخاصّ لا
يستلزم عدم اعتبار العامّ فلا بدّ أن ينعقد ويفعلها ولو في غير ذلك الموضع ، بل
لأنّ مورد النّذر هو ذلك الفرد ، وهو راجح باعتبار الكلّيّ الموجود فيه.
ومنها : ما لو باع
العبد المأذون ، أو أعتقه ، ففي الإذن أو انعزاله وجهان ، بل الوجهان يجريان لو
صرّح بكونه وكيلا أيضا. فإنّ الإذن الحاصل من جهة كونه مالكا قد ارتفع ، وبقي
كلّيّ الإذن ، إلى غير ذلك من الفروع ، مثل أن ينذر أضحيّته حيوان خاصّ فمات قبل
ذلك ، فلا يجب آخر ، بل الظاهر أنّه كما لا يجري الاستصحاب في الأجزاء العقليّة لإثبات الأحكام الشرعيّة ، كذلك لا يمكن
__________________
الاستدلال عليه
بمثل قولهم عليهمالسلام : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» . «والميسور لا يسقط بالمعسور» . «وإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» . بخلاف الأجزاء الخارجيّة فيجب غسل الأقطع بقيّة العضو في
الوضوء ، ونحو ذلك.
وأمّا انتفاء
الشّرط ، فليس ممّا نحن فيه في شيء ، فبانتفائه ينتفي المشروط
رأسا وهو ليس بنسخ جزما وبديهة ، لتجدّده آناً فآنا في جميع الأزمان ، ومسألة صلاة
الجمعة المتقدّمة من هذا القبيل.
وممّا قرّرنا يظهر
لك بعد التأمّل حال نسخ الاستحباب ونسخ الكراهة وغيرهما.
وكذلك الكلام في
أقسام العامّ والخاصّ.
__________________
قانون
الحقّ أنّ الأمر يقتضي الإجزاء .
وتحقيق هذا الأصل
يقتضي رسم مقدّمات :
الأولى :
الإجزاء : هو كون الفعل مسقطا للتعبّد به ، وإنّما يكون إذا أتى المكلّف به مستجمعا
لجميع الامور المعتبرة فيه.
وقيل : هو عبارة
عن إسقاط القضاء ، كما سيجيء نظيره في الصّحّة ، وهو أخصّ من الصّحة ، إذ مورد
الصّحّة أعم من موارد التعبّد فيشمل العقود والإيقاعات ، بخلاف الإجزاء فإنّه
مختصّ بموارد التعبّد.
فالظاهر أنّ
الإجزاء في العبادات هو اللّازم المساوي للصّحّة فيها.
وتعريف الإجزاء
بهذا اللّفظ قد وقع في كلام بعضهم ، وهو موهم لخلاف المقصود ، والأولى أن يعبّر عن
المعنى الأوّل بحصول الامتثال ، وعن الثاني بسقوط فعله ثانيا ، أعمّ من الإعادة
والقضاء ، فإنّ ما لا يكون مسقطا للقضاء ،
__________________
لا يكون مسقطا
للإعادة بطريق أولى.
والظاهر أنّ مراد
من عبّر بما ذكر ، هو ذلك أيضا ، وإن لم يساعده العبارة.
ويشهد بذلك اتفاقهم على دلالة الأمر على الإجزاء بالمعنى الأوّل دون
الثاني.
الثانية
: كون الأمر مقتضيا
للإجزاء ، هو إذا أتى به المكلّف على ما هو مقتضى الأمر والمفهوم منه مستجمعا
لشرائطه المستفادة له من الشّرع بحسب فهمه وعلى مقتضى تكليفه كما عرفت ،
الثانية :
ولكنّ الإشكال في حقيقة الأمر
وتعيينه ،
فإنّ التكليف قد
يكون بشيء واحد في نفس الأمر وقد حصل العلم به للمكلّف واستجمع جميع الأمور المعتبرة فيه على سبيل اليقين ، وقد
يكون كذلك ولكنّ المكلّف لم يحصل له سوى الظنّ به ، وباستجماع تلك الأمور ، كما يحصل للمجتهد
__________________
في الفتاوى ، فإنّ
اعتماده على الظنّ المستفاد حجّيته عموما من العقل والنّقل.
وقد يكون كذلك ،
ولكنّ الشّارع نصّ بالخصوص على كفاية الظنّ عن اليقين ، كالطهارة المظنونة بسبب الشّك
في حصول الحدث.
وكذلك قد يكون
التكليف بشيء أوّلا مع الإمكان ، وببدله ثانيا مع عدمه كالتيمّم عن الماء.
والإشكال في أنّ
المكلّف مكلّف بالعمل بالظنّ ما دام غير متمكّن عن اليقين ، ومحكوم
بإجزاء عمله كذلك ، أو مطلقا .
وبعبارة اخرى : هل
هو مكلّف باليقين والعمل بمقتضاه في الحال والماضي إلّا في حال عدم التمكّن منه ، أو هو منقطع بالظنّ ، ولا
يترتّب على الماضي شيء ؟
وكذلك الكلام في
المبدل والبدل ، فمن تيمّم لعذر ثمّ تمكّن من الماء في الوقت ، فإن قلنا أنّ
المكلّف به هو الوضوء في الوقت ، إلّا في حال عدم التمكّن منه وبعبارة اخرى : إنّه
مكلّف بإبداله بالتيمّم ما دام متعذّرا فيجب عليه الإعادة في الوقت.
وإن قلنا : إنّ
التكليف الأوّل انقطع والتكليف الثاني أيضا مطلق ، فلا.
__________________
والظاهر أنّ هذا
لا يندرج تحت أصل ويختلف باختلاف الموارد ، فلا بدّ من ملاحظة الخارج.
ثمّ إنّ الظاهر
أنّ التكليف يتعدّد بحسب اختلاف الأزمان والأحوال ، والمكلّف به في الأوامر
المطلقة إنّما هو الطبيعة لا بشرط المرّة ولا التكرار ، والطبيعة تتحصّل بوجود فرد
منها ، فصلاة الظهر قد تجب مع الوضوء في وقت ، ومع التيمّم في آخر ، فبأيّهما حصلت
فقد حصلت ، فحينئذ نقول : موضع الخلاف إن كان بالنسبة إلى كلّ واحد من الحالات فلا
إشكال في الإجزاء بمعنييه ، لحصول الامتثال وعدم وجوب الإعادة والقضاء بسبب نقصان
بالنسبة إلى ذلك التكليف ، وإنّما يكون عدم الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الآخر ،
فوجوب القضاء أو الإعادة لمن انكشف فساد ظنّ طهارته إنّما هو لعدم حصول الصلاة
بالطهارة اليقينيّة ، لا للاختلال في الصلاة بالطهارة الظنّيّة ، ففعلها ثانيا
إنّما هو لعدم الإتيان بالأولى لا الثانية ، وكذلك فعل الصلاة ثانيا بالمائيّة لأجل اختلال المبدل لا
البدل ، ولذلك لا تعاد بالطهارة الترابيّة.
وإن كان بالنسبة
الى مطلق الأمر أعمّ من المبدل والبدل ، فلا أظنّ مدّعي الدّلالة على سقوط القضاء
، يدّعي السّقوط ، حتّى بالنسبة الى المبدل.
ولعلّ النزاع في
هذه المسألة لفظيّ ، فإنّ الذي يقول بالإجزاء ، إنّما يقول بالنظر إلى كلّ واحد من
الأوامر بالنسبة إلى الحال التي وقع المأمور به عليها ، ومن يقول بعدمه ، إنّما
يقول بالنسبة إلى مطلق الأمر الحاصل في ضمن البدل والمبدل.
__________________
الثالثة :
محلّ النزاع في هذه المسألة يحرّر على
وجهين :
الأوّل : هو أنّ إتيان المأمور به على
وجهه ، هل هو مسقط للتعبّد به ، بمعنى أنّه لا يقتضي ذلك الأمر فعله ثانيا قضاء أم لا؟
والظاهر أنّ
المخالف حينئذ يقول إنّه لا مانع من اقتضائه فعله ثانيا قضاء في الجملة ، لا أنّه
لا بدّ أن يقتضي فعله ثانيا دائما ، كما لا يخفى.
والثاني : أن يكون معنى إسقاط القضاء
أنّه لا يجوز أن يكون معه أمر آخر
يفعله ثانيا قضاء أو يجوز ؟
والظاهر أنّ
النزاع على الثاني يكون لفظيّا ، إذ لا يمكن إنكار إمكان ذلك ، فيعود النزاع
في تسميته ذلك قضاء . ونحن أيضا نسقط هذا التقرير ونجري في الاستدلال على
التحرير الأوّل ، ونقرّر الأدلّة على ما يطابقه.
ثمّ إنّ هذا
الكلام مع قطع النظر عن الخلاف الآتي في كون القضاء تابعا للأداء أو بفرض جديد ،
فالخلاف يجري على القولين كما لا يخفى.
وكذلك مع قطع
النظر عن كون الأمر للطبيعة أو المرّة أو التكرار ، إذ نفي المرّة للغير إنّما هو
بالتّنصيص ، وإسقاط القضاء على القول بالإجزاء إنّما هو من جهة
__________________
عدم الدّليل ، إذ
بعد حصول الإجزاء حصل الامتثال ، فلا أمر يمتثل به ثانيا ، فيسقط لأنّه تشريع.
وكذلك ثبوت فعله
ثانيا في التكرار إنّما هو بالأصالة ، والتكرار فيما نحن فيه على القول بعدم
دلالته على الإجزاء إنّما هو من باب القضاء أو الإعادة.
الرابعة :
القضاء يطلق على خمسة معان :
الأوّل : هو الفعل
كقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ) ، و : (فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ).
الثاني : فعل ما
فات في الوقت ، المحدود بعد ذلك الوقت سواء كان وجب عليه في الوقت ، كتارك الصلاة
عمدا مع وجوبه عليه أم لم يجب ، كالنائم والناسي والحائض والمسافر في الصوم ، أو
وجب على غيره كقضاء الوليّ ، وهذا هو المعنى المصطلح عليه المنصرف إليه الإطلاق.
الثالث : استدراك
ما تعيّن وقته إمّا بالشروع فيه كالاعتكاف ، أو بوجوبه فورا كالحجّ إذا أخلّ [أفسد]
، فيطلق على المأتيّ به ثانيا القضاء وإن لم ينو به القضاء.
الرابع : ما وقع
مخالفا لبعض الأوضاع المعتبرة فيه ، كما يقال : التّشهد والسّجدة
__________________
يقضى بعد التسليم.
الخامس : ما كان بصورة
القضاء المصطلح عليه في فعله بعد خروج الوقت المحدود ، كقولهم : الجمعة يقضى ظهرا .
إذا تمهّد هذه
المقدمات فنقول :
اختلف الأصوليّون
في أنّ إتيان المأمور به على وجهه ؛ هل يقتضي الإجزاء ، بمعنى سقوط القضاء بعد
اتّفاقهم على اقتضائه الامتثال؟
على قولين ، المشهور
نعم ، وخالف فيه أبو هاشم وعبد الجبار .
__________________
لنا : أنّ الأمر
لا يقتضي إلّا طلب الماهيّة المطلقة ، بدون اعتبار مرّة ولا تكرار كما مرّ تحقيقه.
ومعناه أنّ
المطلوب به إيجاد الطبيعة ، وهو يحصل بإيجاد فرد منه ، والمفروض حصوله ، فحصل
المطلوب ، فلا يبقى طلب آخر ، فقد سقط الوجوب ، بل المشروعيّة أيضا ، لما مرّ
تحقيقه في نفي دلالة الأمر على التكرار.
فلو قيل : إنّ
حصول الامتثال بالنسبة إلى ذلك الأمر إنّما هو بالنسبة إلى بعض الأحوال دون بعض ،
وإنّما السّاقط هو الأمر بالبدل دون المبدل.
فأقول : إنّ ذلك
باطل من وجهين :
الأوّل : أنّ ذلك
خروج عن المتنازع ، إذ ما ذكرته يصير أمرين ، وكلامنا في الأمر الواحد.
والثاني : أنّ
المكلّف بالصلاة مع الوضوء مثلا إنّما هو مكلّف بصلاة واحدة كما هو مقتضى صيغة
الأمر ، من حيث إنّ المطلوب بها الماهيّة لا بشرط ، فإذا تعذّر
__________________
عليه ذلك ، فهو
مكلّف بهذه الصلاة مع التيمّم ، وهو أيضا لا يقتضي إلّا فعلها مرّة ، وظاهر الأمر
الثاني إسقاط الأمر الأوّل ، فعوده يحتاج إلى دليل ، والاستصحاب وأصالة العدم وعدم
الدّليل كلّها يقتضي ذلك ، مضافا الى فهم العرف واللّغة ، وما ترى أنّ الصلاة بظنّ
الطهارة تقضى بعد انكشاف فساد الظنّ ، فإنّما هو بأمر جديد ودليل خارجي.
نعم لو ثبت من
الخارج أنّ كلّ مبدل إنّما يسقط عن المكلّف بفعل البدل ما دام غير متمكّن عنه ،
فلما ذكر وجه ، وأنّى لك بإثباته ، بل الظاهر الإسقاط مطلقا .
فيرجع النزاع في
المسألة إلى إثبات هذه الدّعوى إلّا أنّ الأمر مطلقا يقتضي القضاء أو يفيد سقوطه ،
فالمسألة تصير فقهيّة لا اصوليّة .
وقد استدلّوا على
المشهور أيضا بوجهين آخرين :
الأوّل : أنّه لو
كان مكلّفا بذلك الأمر بعينه بفعل ما أتى به على وجهه ثانيا فيلزم تحصيل الحاصل ،
وهو محال.
وإن كان مكلّفا
بذلك الأمر بإتيان غير المأتيّ به أوّلا فيلزم أن لا يكون المأتيّ به أوّلا تمام
المأمور به ، هذا خلف.
أمّا الثاني ،
فظاهر ، وأمّا الأوّل ، فهو مبنيّ على ما حقّقناه من أنّ حصول الامتثال
__________________
لا يبقى معه طلب
آخر ، فتحصيل الامتثال الثاني لا يتمّ الّا بإعادة الامتثال الأوّل ، وهو تحصيل
الحاصل.
وبذلك يندفع ما يقال : إن فعله ثانيا مثل المأتيّ به أوّلا ، لا نفسه ،
فإنّ ذلك إنّما يصحّ لو كان فعله ثانيا بأمر آخر كما يستفاد من التحرير الثاني في
محلّ النزاع.
وأمّا على التحرير
الأوّل ، فلا يبقى طلب وأمر حتّى يستدعي إثباته ثانيا بحيث يكون غير الأوّل.
وأمّا ما قيل في
ردّه : من أنّ المطلوب هو الطبيعة لا الأفراد ، ولا شكّ في أنّ تحصيل الطبيعة بعد
حصوله أوّلا تحصيل للحاصل ، فهو قريب من الهذيان ، إذ ذلك يستلزم أن يكون فعل جميع
الأنواع المندرجة تحت جنس بعد فعل واحد منها تحصيل للحاصل.
الثاني : أنّه لو
لم يكتف بإتيان المأمور به على وجهه في حصول الامتثال واقتضى الأمر فعله ثانيا ،
لزم كون الأمر للتكرار ، وهو خلاف التحقيق ، أو خلاف المفروض.
ويرد عليه : انّ منكر الدلالة على الإجزاء لا يقول بأنّ الأمر يقتضي
ذلك بحيث لا يتخلّف منه بالذّات ، كما يقوله القائل بالتكرار ، بل يقول أنّه لا
مانع من اقتضاء ذلك كما أشرنا في المقدّمات .
__________________
وأيضا التكرار على
القول به إنّما هو على مقتضى العقل والعادة إلّا أن يمنع مانع عنه ، كما مرّ في
مبحثه ، وما نحن فيه ليس كذلك.
احتجّ المانع :
بوجوب إتمام الحجّ الفاسد ، فلو كان الأمر مقتضيا للإجزاء لكان إتمامه مسقطا للقضاء .
وفيه : أنّ القضاء
للفائت وهو الحجّ الصحيح وإتمام الفاسد ، أمر على حدة ولا يجب له قضاء ، وبأنّه لو
كان مسقطا للقضاء لما وجب القضاء على من صلّى بظنّ الطهارة ثمّ انكشف فساد ظنّه.
وقد أجيب عن ذلك
بوجوه ضعيفة :
منها : أنّ تسمية
ذلك قضاء مجاز ، بل هو أمر على حدة.
وفيه : أنّه
مستلزم للواسطة بين القضاء والأداء وليس بإعادة أيضا.
ومنها : منع بطلان
اللّازم.
والتحقيق في
الجواب يظهر بعد التأمّل فيما ذكرنا.
فنقول : إنّ هذا
القضاء إنّما يجب من جهة دلالة الدليل على أنّ المطلوب هو الصلاة بالطهور ، ويجوز
الاكتفاء بالظنّ ما لم يحصل اليقين بخلافه ، فإذا حصل ، فيقضى الفائت ، فالقضاء
إنّما هو للمبدل بالدليل لا البدل ، فيصحّ إطلاق القضاء
__________________
المصطلح عليه
حقيقة.
هذا وإنّي لم أقف
في كلماتهم على تصريح بما ذكرنا ، ووجدنا كلماتهم مختلطة في بيان المقصود ، فعليك بالتأمّل
فيما يرد عليك من الفروع لكي لا تخبط ، والله الهادي.
__________________
قانون
اختلفوا في أنّ
الأمر إذا كان مقيّدا بوقت إذا فات فيه ، فهل يجب بعده بذلك الأمر أم لا؟
وهذا هو الخلاف
المشهور بينهم من أنّ القضاء تابع للأداء أو بفرض جديد.
والحقّ أنّ الأمر
لا يقتضي إلّا الإتيان في الوقت ، ووجوب القضاء يحتاج الى أمر جديد ، وبنى العضدي المسألة على أنّ قولنا : صم يوم الخميس ، المركّب في
اللّفظ والذّهن من شيئين ، هل المأمور به فيه شيئان ، فيبقى أحدهما بعد انتفاء
الآخر ، أو شيء واحد؟
وقال : إنّ هذا
الخلاف ـ أعني كون المطلق والمقيّد شيئين في الوجود الخارجي أو شيئا واحدا ـ مبنيّ
على الخلاف في أنّ الجنس والفصل متمايزان في الوجود الخارجي أم لا.
والظاهر أنّ مراده
التنظير ، وإلّا فالقيد ـ أعني الزّمان ـ خارج عن الماهيّة.
__________________
وردّه بعض
المحقّقين : بأنّ كونهما شيئين في الخارج لا يقتضي كون القضاء بالفرض
الأوّل ، ولا ينافي كونه بفرض جديد لاحتمال أن يكون غرض الأمر إتيانهما مجتمعا ،
فمع انتفاء أحدهما ، ينتفي الاجتماع ، وكذا لا يجدي كونهما شيئا واحدا في نفي كون
القضاء بالفرض الأوّل وإثبات كونه بفرض جديد ، لاحتمال كون المراد المطلق لا بشرط
الخصوصيّة ، وذكر الخاصّ لكونه محصّلا للمطلق بلا نظر الى خصوصيّة الشيء المذكور ،
فلا ينتفي المطلق بانتفاء هذا القيد ، فالنافي كون القضاء بالفرض الأوّل مستظهر
لثبوت الاحتمال الغير المستلزم للقضاء ، وعلى المثبت نفي ذلك الاحتمال.
وفيه : أنّ احتمال اعتبار الاجتماع وإن كان يعضده أصالة البراءة
عن القضاء ، ولكن يعضد الاحتمال الآخر أصالة عدم اعتبار الاجتماع واستصحاب البقاء
، فاشتغال الذمّة بمجمل التكليف مستصحب ، لا يحصل البراءة منه إلّا بالقضاء ولا
يكفي فيه البراءة الاحتمالية.
واحتمال إرادة
المطلق من المقيّد لا يكفي في نفي البراءة الأصلية ، مع أنّ الظاهر من
المقيّد هو الفرد الخاصّ بشرط الخصوصيّة ، والحجّة إنّما هو الظاهر.
هذا ، ولكن يرد
على العضدي أيضا ، أنّ مجرّد تمايز الجنس والفصل في
__________________
الخارج لا يجدي في
كون القضاء بالفرض الأوّل إلّا إذا ثبت جواز انفكاك أحدهما عن الآخر ، ومجرّد
التمايز في الوجود الخارجي لا يوجب الانفكاك ، سيّما على القول بكون الفصل علّة
للجنس.
وأمّا على القول
بعدمه ، فنقول : إنّ المفروض عدم تحقّق الجنس في الخارج إلّا في ضمن أحد الفصول ،
فمع انتفاء أحدها ، ينتفي الجنس ، ونيابة الفصل الآخر عنه ؛ الأصل عدمه كما مرّ
تحقيقه في مسألة نسخ الوجوب.
ونظير الجنس
والفصل فيما نحن فيه هو الصّوم وإيقاعه في يوم الخميس أو في يوم آخر ، ونيابة يوم
آخر عن الخميس يحتاج الى جعل الشّارع.
وما يتوهّم ، أنّ
يوما ما مأخوذ في الصوم فلا ينفع في المقام في شيء ، إذ الصوم الذي هو عبارة عن
إمساك يوم ما ، يعتبر تقييده بالخميس ، أو يوم ما غير الخميس ، لا يوم ما مطلقا
الذي كان مأخوذا في مفهوم الصوم ، فإذا انتفى الخميس ، فلا يبقى إلّا إمساك يوم ما
مطلقا ، ولا وجود له في الخارج.
فإن شئت توضيح ذلك
فاجعل قولك : صم يوم الخميس ، بمعنى أمسك في يوم الخميس ، متلبّسا بالشرائط
المقرّرة.
والتحقيق : أنّ
الفرق بين ما نحن فيه وبين الجنس والفصل واضح ، ولا يصحّ التنظير ولا التفريع ، لإمكان تحقق المقيّد بدون القيد ، بخلاف الجنس بدون
__________________
الفصل ، فيمكن
الامتثال بمطلق الإمساك في المثال المذكور ، وكذلك بمطلق صلاة ركعتين في قولنا :
صلّ ركعتين يوم الجمعة ، بخلاف مثل : نسخت الوجوب ، كما مرّ.
فالحقّ والتحقيق ،
أمّا في حكاية الجنس والفصل ، فما مرّ من عدم التمايز ، وإلّا لما جاز الحمل ب :
هو هو ، وانّه لا يبقى الجنس بدون الفصل ، وانّ الأصل عدم لحوق فصل آخر.
وأمّا فيما نحن
فيه ، فإنّ المتبادر من المقيّد هو شيء واحد ، والتبادر هو الحجّة ، فلا نفهم من
قول الشّارع : صم الخميس إلّا تكليفا واحدا والزّائد منفيّ بالأصل ، فإذا انتفى
الخميس ، فينتفي المأمور به ، بل يستفاد منه ـ على القول بحجّية مفهوم الزّمان
ومفهوم اللّقب وغيرهما ـ الدّلالة على العدم أيضا.
ومن ذلك يظهر أنّه
لا يمكن إجراء الاستصحاب فيه أيضا لانتفاء الموضوع ، ولا قولهم عليهمالسلام : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» و : «الميسور» الخ ، ونحو ذلك .
وكذلك الكلام في
غير الوقت من القيود ، فلا فرق بين المفعول فيه كما نحن فيه والمفعول به والحال
وغيرهما ، فلا يصحّ تفريع بعضهم على ذلك وجوب الغسلات الثلاث بالقراح لو فقد
السّدر والكافور ، إلّا أن يثبت بدليل من خارج.
وقد استدلّ على
المختار أيضا : بأنّ الأمر قد يستتبع القضاء كاليوميّة ، وقد لا يستتبع كالجمعة
والعيد ، فهو أعمّ ، والعامّ لا يدلّ على الخاص.
وفيه : ما لا يخفى
، إذ ذلك إنّما يصحّ لو كان الاستتباع من جهة الأمر الأوّل ، وهو ممنوع.
وقد يوجّه : بأنّ
المراد أن مقتضى الشيء لا يتخلّف عنه ، فالتخلّف شاهد على
__________________
عدم الاقتضاء.
وفيه : أيضا ما لا
يخفى ، إذ التخلّف لعلّه من جهة دليل آخر ، فهو مقتض إلّا أن يمنع مانع.
وقد يستدلّ أيضا :
بلزوم كون القضاء أداء ومساويا للأوّل لو كان بالأمر الأوّل ؛ فلا يعصى بالتأخير.
وفيه : أنّ الخصم
يدّعي الترتيب لا التخيير والتسوية.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : أنّ
الزمان ظرف من ظروف المأمور به غير داخل فيه ، فلا يؤثّر اختلاله في سقوطه ، ويعلم
جوابه ممّا سبق ، مع أنّه لو لم يكن له مدخليّة لجاز تقديمه عليه أيضا ، فتأمّل.
الثاني : أنّ
الوقت كأجل الدّين ، فكما يجب أداءه بعد انقضاء الأجل ، فكذا المأمور به إذا لم
يؤدّ في الوقت.
وفيه : أنّه قياس
مع الفارق ، إذ وجوب أداء الدّين توصّلي ، والمصلحة المطلوبة باقية وهي براءة
الذّمة وإيصال الحق الى صاحبه ، بخلاف العبادات ، فإنّ المصالح فيها مخفيّة ،
ولعلّ للوقت مدخليّة في حصول مصلحتها.
وبالجملة ،
العبادات توقيفيّة لا يجوز التجاوز فيها عن التوظيف ، بخلاف المعاملات ، وسيجيء
تحقيقه.
الثالث : لو وجب
بأمر جديد لكان أداء ، لأنّه أمر بالفعل لا بعد الوقت ، فيكون مأتيّا به في وقته.
وجوابه : أنّ
الأداء ما لا يكون استدراكا لمصلحة فائتة ، وما نحن فيه استدراك للمصلحة الفائتة.
قانون
الأظهر أنّ الأمر بالأمر ، أمر .
فإذا قال القائل
لغيره : مر فلانا أن يفعل كذا ، أو قل له أن يفعل كذا ، فهذا أمر بالثالث ، مثل أن
يقول : ليفعل فلان كذا ، لفهم العرف والتبادر.
واحتمال أن يكون
المراد أوجب عليه من قبل نفسك ، بعيد مرجوح ، وإن كان ما ذكرنا مستلزما للإضمار
وهو من قبلي.
ويؤيّده ، إنّا
مأمورون بأوامر الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الله تعالى ، بل إذا اطّلع الثالث على الأمر قبل أن يبلّغه
الثاني ولم يفعل ، واطّلع الآمر على ذلك ، فيصحّ أن يعاقبه على الترك وأن يذمّه
العقلاء على ذلك.
احتجّوا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «مروهم بالصّلاة وهم أبناء سبع» .
فإنّه لا وجوب على
الصّبيان إجماعا.
و : بأنّ القائل
لو قال لغيره : مر عبدك بأن يتّجر ، لم يتعدّ.
ولو قال لذلك
العبد : لا تتّجر ، لم يناقض كلامه الأوّل.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الإجماع أوجب الخروج عن الظّاهر.
__________________
وعن الثاني : أنّ
القرينة دالّة على أنّه للإرشاد ، ولذلك نقول باستحباب عبادة الصبيّ ، ونضعّف
كونها محض التمرين.
ومن فروع المسألة
ما لو قال زيد لعمرو : مر بكرا بأن يبيع هذا الفرس.
فهل لبكر قبل أن
يأمره عمرو أن يتصرّف فيه أم لا؟
وهل يصحّ بيعه أم
لا؟
وأمّا الأمر
بالعلم بالشيء ، فهل يستلزم حصول ذلك الشيء في تلك الحالة أم لا؟
الأظهر : لا.
فإنّ الأمر طلب
ماهيّة في المستقبل ، فقد يوجد وقد لا يوجد.
فقول القائل :
اعلم أنّي طلّقت زوجتي ، لا يوجب الإقرار بالطلاق ، بالنّظر الى القاعدة ، ولكنّ
المتفاهم في العرف في مثله الإقرار وإن لم يتمّ على تلك القاعدة ، فافهم.
المقصد الثاني
في النّواهي
قانون النّهي هو طلب ترك الفعل بقول من
العالي على سبيل الاستعلاء.
ويدخل فيه التحريم على ما هو المتبادر من هذه المادّة في العرف أيضا.
وأمّا مثل : اكفف
عن الزّنا فيدخل في الأمر من حيث ملاحظة الكفّ بالذّات وانّه فعل من الأفعال ،
ونهي من حيث إنّه آلة لملاحظة فعل آخر وهو الزّنا ، وحال من الأحوال.
وربّما قيل بكونه
مشتركا بين التحريم والكراهة أو قدر مشترك بينهما.
والأقرب الأوّل. ويظهر
وجهها ممّا تقدّم في الأمر .
وأمّا صيغة : لا
تفعل وما في معناها ، فالأشهر الأظهر أنّها أيضا حقيقة في الحرمة.
__________________
وقيل : بأنّها
حقيقة في الكراهة.
وقيل : بالاشتراك
لفظا .
وقيل : معنى ،
وقيل : بالوقف .
لنا : التبادر
عرفا ، وكذلك لغة وشرعا ، لأصالة عدم النقل والاحتمالات المتقدّمة في صيغة الأمر آتية هنا ، فعليك بالتأمّل وتطبيقها على ما
نحن فيه.
وكذلك يظهر أدلّة
سائر الأقوال وأجوبتها ممّا تقدّم .
وربّما يستدلّ على
المشهور بقوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا). أنّ صيغة افعل للوجوب ، ووجوب الانتهاء عن الشيء ليس إلّا
تحريم فعله ، فدلّ على تحريم المنهيّ عنه.
__________________
وفيه : أنّ هذا
إنّما يتمّ لو قلنا : كل صيغة لا تفعل ، نهي ، وهو مسلّم إن لم نقل
بكون النّهي بلفظه مأخوذا في معناه التحريم ، وهو خلاف التحقيق كما عرفت.
فحينئذ ، فلا يصدق
النّهي على صيغة لا تفعل إلّا ما علم إرادة الحرمة منه.
والنزاع في صيغة
لا تفعل ، مجرّدة عن القرائن لا فيما علم كونه للحرمة ، فحينئذ يكفي صدق النّهي
عليها في إفادة الحرمة ، ولا حاجة الى دليل آخر ، كما مرّ نظيره في الأمر ، وإن لم يجعل لفظ نهى ينهى مأخوذا في معناه الحرمة كما هو
مبنى الاستدلال ظاهرا.
ففيه ، أوّلا : ما
بيّناه من أنّ الحقّ خلاف ذلك.
وثانيا : أنّ هذا
الاستدلال يدلّ على عدم الدلالة لغة وإلّا لما احتاج الى الاستدلال.
وأمّا في خصوص
نهيه صلىاللهعليهوآلهوسلم فصيرورته بذلك مدلولا حقيقيّا له أيضا ، محلّ الكلام ، بل
يصير ذلك من باب الأسباب والعلامات ، ولا يفيد أنّ مدلول لا تفعل ، في كلامه يصير
كذلك حقيقة ، بلّ إنما يدلّ على أنّ كلّ ما منعه بقوله : لا تفعل ، يجب الانتهاء
عنه.
__________________
وثالثا : أنّ حمل
الأمر على الاستحباب مجاز ، وتخصيص كلمة الموصول مجاز آخر ، ولا محالة لا بدّ من
إخراج المكروهات ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وأرجحيّة التخصيص يعارضه لزوم
إخراج الأكثر ، مع أنّه يحتمل أن يكون المراد أنّه يجب الإذعان على مقتضى مناهيه ،
وامتثالها على طبق مدلولاتها إن حرمة فبالانزجار البتّ ، وإن كراهة فبالانزجار
تنزيها ، والاعتقاد على مقتضاهما في المقامين.
وبالجملة ،
المطلوب الإذعان على مقتضاه.
ورابعا : أنّه لا
يدلّ إلّا على حكم مناهي الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وانفهام حرمة مخالفة الله تعالى عن حرمة مخالفته صلىاللهعليهوآلهوسلم بالفحوى لا يدلّ على دلالة لفظ لا تفعل في كلامه تعالى على
ذلك ، لعدم الملازمة بينهما كما هو واضح بيّن إلّا أن يتشبّث بعدم القول بالفصل.
وفيه أيضا : إشكال
.
ثمّ إنّ صاحب «المعالم»
رحمهالله ومن تبعه تأمّلوا في دلالة المناهي الواردة في كلام
أئمّتنا عليهمالسلام على الحرمة بعد تسليمها في أصل الصّيغة لما ذكروه في صيغة
الأمر من جهة كثرة الاستعمال في المكروهات وصيرورتها فيها من المجازات الرّاجحة
المساوية للحقيقة .
والجواب عنه : هو
نفس الجواب عمّا تقدّم في الأمر ، فلاحظ.
__________________
قانون
اختلفوا في أنّ المراد من النّهي هو
الكفّ ، أو نفس أن لا تفعل ؟ والأقرب الثاني.
لنا : صدق الامتثال
عرفا بمجرّد ترك العبد ما نهاه المولى ، مع قطع النظر عن ملاحظة أنّه كان مشتاقا
إلى الفعل فكفّ نفسه عنه.
فإن قلت : العدم
الأزليّ سابق ويمتنع التأثير فيه للزوم تحصيل الحاصل ، مع أنّ أثر القدرة متأخّر
عنها .
قلت : الممتنع هو
إيجاد العدم السّابق لا استمراره ، وأثر القدرة يظهر في الاستمرار ، فإذا ثبت
إمكان رفعه بإتيان الفعل ، فيثبت إمكان إبقائه باستمرار التّرك ، إذ القدرة
بالنسبة إلى طرفي النقيض متساوية ، وإلّا لكان وجوبا أو امتناعا.
فإن قلت : لو كان
المطلوب هو العدم ، لزم أن يكون ممتثلا ومثابا بمحض
__________________
الموافقة
الاتفاقيّة ، أو بسبب عدم القدرة على الفعل أو عدم إرادته أو غير ذلك .
قلت : أوّلا :
إنّه معارض بالكفّ بقصد الرّياء.
وثانيا : إنّ
الكلام إنّما هو على ظاهر حال المسلم.
وثالثا : إنّا لا
ندّعي الكليّة ، بل ندّعي إمكان حصول الامتثال بمجرّد ترك الفعل ، فإنّ الثواب
موقوف على الامتثال ، سواء كان محتاجا في التّرك إلى الكفّ أو فعل ضدّ آخر أو لم
يكن ، بل يكفي في ذلك قوّة الدّاعي الحاصل بتوطين النّفس على الامتثال والانتهاء
عن كلّ ما نهي عنه وإن لم يكن قادرا على الفعل ، بل وغير مستشعر أيضا.
ويؤيّد ذلك ، أنّه
لو لم يكن نفي الفعل مقدورا للزم عدم العقاب على ترك الواجب إلّا مع الكفّ عنه ،
وهو باطل جزما.
فإن قلت : على ما
ذكرت أيضا يؤول الكلام إلى أنّ المكلّف به ليس نفس ترك الفعل كيف كان ، بل هو أمر
وجوديّ ، وهو إبقاء العدم واستمراره ، ولو كان بمجرّد توطين
النّفس على الامتثال بمجرّد تصوّر تمكّن أن يصدر عنه الفعل وإن لم يكن قادرا عليه
بالفعل أيضا ، وإلّا فقد يكون مكلّفا بالكفّ وقد يكون مكلّفا بفعل أحد الأضداد
الوجوديّة غير الكفّ ، فالذي يكون مقدورا له هو أحد هذه الأمور على التفصيل ،
فالمطلوب إنّما هو ذلك الأمر الوجوديّ كالأمر بإحراق
__________________
الحطب فإنّه حقيقة
أمر بإلقاء الحطب في النار.
قلت : قد مرّ
الكلام في نظيره في مقدّمة الواجب ، فتذكّر .
ونقول هنا : إنّ
ذلك من قبيل طلب حركة المفتاح المقدورة بحركة اليد ، ولا مانع منه ، لأنّ المقدور
بواسطة المقدور مقدور ، وإن كان غير مقدور بلا واسطة ، فعدم الفعل في الآن الثاني
من التكليف مقدور بواسطة أحد الأمور المذكورة ، فهو المكلّف به بالذّات ، وسائر
الأمور مكلّف بها بالتّبع من باب المقدمة.
ومن جميع ما ذكرنا
يظهر حجّة القول الآخر وجوابه ، وعدم حسن الاقتصار على الكفّ فقط.
فائدتان
الأولى : قد عرفت
أنّهم اختلفوا في دلالة النهي عن الشيء على الأمر بضدّه على حذو ما ذكروه في الأمر ، ويشكل الفرق بين هذا المقام
وما تقدّم.
وعلى القول بكون
المطلوب هو الكفّ ، يتوجّه القول بالعينيّة هنا.
ويمكن الفرق بأنّ
الكلام ثمّة كان في دلالة لفظ النّهي على الأمر ، مع قطع النظر
__________________
عن الأدلّة
الخارجية مثل امتناع تعلّق التكليف بالعدم ونحوه ، بخلافه هاهنا ، وهو أيضا مشكل
لعموم الكلام ثمّة أيضا.
وعلى أيّ تقدير
فهاهنا إشكال آخر ، وهو أنّه على القول بكون المطلوب بالنّهي هو الكفّ يئول الأمر
إلى النّهي عن ضدّ الكفّ أيضا على القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده
فيلزم الدّور فتأمّل .
الثانية :
اختلفوا في أنّ هذا الترك هل هو من قبيل
الفعل أم لا.
ذهب المحقّقون إلى
الأوّل ، ويظهر الثمرة في مثل ما لو علّق الظّهار على فعل ليس فيه رضى الله فتركت
صوما أو صلاة وما لو القي في النار وتمكن عن الخلاص فلم يتخلّص حتى مات
فهو قاتل نفسه ، وإلّا فيجب القصاص.
__________________
قانون
اختلفوا في دلالة النّهي على التكرار
على قولين
: فعن الأكثر أنّه للتكرار . والأقوى العدم .
لنا : ما مرّ
مرارا أنّ الأوامر والنّواهي وغيرها مأخوذة من المصادر الخالية عن اللّام والتنوين
، وهي حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء ، ولا يزيد الهيئة على المادة إلّا الطلب
الحتميّ التحريميّ أو الإيجابيّ ، والأصل عدم شيء آخر ، فمن يدّعيه فعليه بالبيان
، مع أنّا نرى بالعيان استعماله في كلّ واحد من المعنيين ، كالزّنا وصلاة الحائض
ونهي الطبيب عن الضّار في المرض ، فاللّفظ قابل لهما ومستعمل فيهما ، والمجاز
والاشتراك خلاف الأصل حتّى يثبت بالدّليل.
احتجّوا : بأنّ النّهي طلب ترك الطبيعة ومنع المكلّف عن إدخال
الماهيّة في الوجود ، وهو إنّما يتحقّق بالامتناع عن إدخال كلّ فرد ، كما أنّ
الطلب الإيجابيّ يحصل الامتثال فيه بإتيان فرد.
__________________
وفيه : أنّ ذلك لا
يفيد ذلك ولو كان مدخول الطلب التحريميّ الماهيّة بشرط الوحدة أو
بشرط العموم المجموعيّ أيضا مع كونهما مفيدين للعموم في الجملة ، فضلا عمّا لو كان
المدخول هو الطبيعة المطلقة ، كما هو القدر المسلّم في مبدإ الاشتقاق ، إذ كما أنّ
المطلوب يحتمل الإطلاق والتقييد ، كذلك الطّلب أيضا يحتملهما ، فكما يصحّ أن يقال
: أطلب منك عدم الزّنا الحاصل ما دام العمر أو عدم الزّنا في شهر أو سنة ، كذلك
يصحّ أن يقال : أطلب منك ما دام العمر ترك الزّنا ، أو أطلب في هذا الشهر منك ترك
الزّنا ، ولا دلالة في اللّفظ على أحد التقييدين . فطلب ترك الطبيعة إنّما يقتضي ترك جميع أفراد الطبيعة في
الجملة لا دائما ، وأين المطلقة من الدائمة! فلا يمكن إثبات الدّوام والتكرار
للنهي ، لا من جهة المادّة ولا من جهة طلب الترك. اللهمّ إلّا أن يتشبّث بالتبادر
العرفيّ كما يظهر من بعضهم وهو خلاف ما ذكره المستدلّ ، مع أنّه في معرض المنع أو
يتشبّث في ذلك بأنّ طلب التّرك مطلق ، وإرادة ترك الطبيعة في وقت غير معيّن إغراء
بالجهل ، فوقوعه في كلام الحكيم يقتضي حمله على العموم.
وهذا وجه وجيه ،
ولكنّه أيضا خلاف ظاهر المستدلّ.
وعلى هذا ، فما
أنكرناه هو دلالة الطبيعة عليه باعتبار الدّلالة اللّفظية ، كما هو المعيار في
نظائر المبحث ، وإلّا فلا نمنع الحمل على العموم ، وحينئذ فصلاة
__________________
الحائض ، وما نهاه
الطبيب ، قد قيّد أوّلا بالوقت والزمان المطلوب تركه فيه ولوحظ مقيّدا بذلك ثمّ
وقع عليه النهي ، ولذلك يحمل إطلاقه في ذلك الزّمان بالنسبة الى جميع أجزائه ، وإن
كان مطلقا بالنسبة إليها.
ولا يذهب عليك أنّه لا يمكن إجراء هذه الطريقة في الأمر وإدّعاء حمل
مطلقه على الدّوام لحصول الامتثال هنا بفرد ما ، وعدم لزوم اللّغو والقبح في كلام
الحكيم ، بخلاف ما نحن فيه.
نعم ، يجري هذا
الكلام في مثل : (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) ، كما سيجيء هذا. ولكن لك أن تمنع إجراء هذه الطريقة في
النّهي أيضا ، بأن يقال : لا يلزم من الإطلاق في الصّيغة كون المطلوب ترك الطبيعة
في وقت غير معيّن حتّى يلزم الإغراء القبيح ، بل نقول : المراد مطلق طلب ترك مطلق
الطبيعة ، وربّما يحصل الامتثال بترك جميع أفراد المنهيّ عنه في الآن المتأخّر عن
النّهي في زمان يمكن حصول الفعل فيه.
ثمّ إنّ التكليف
بترك الطبيعة وتكراره على القول بالتكرار ، هل هو تكليف واحد أو تكليفات [تكليفان]
، فيحصل الامتثال بتركه على الثاني دون الأوّل؟
مقتضى الاستدلال
على التكرار ، بأنّ المطلوب ترك الطبيعة ، وهو لا يحصل إلّا بتركه دائما عدم
الامتثال بالترك في بعض الأوقات ، ومقتضى ما ذكرنا من انفهام التّكرار ، ومن وقوع
المطلق في كلام الحكيم ، هو حصول الامتثال بموافقة مطلق النّهي وإن عصى بترك استمراره.
__________________
وأمّا على
الاستدلال بالتبادر ، فلا بدّ من التأمّل ، فإن تبادر مع تقييد التروك المفروضة
بحسب الأوقات بعضها ببعض ، فلا يحصل الامتثال إلّا بالدّوام وإلّا فيحصل الامتثال
بفعل البعض ، وترتّب العقاب على ترك الآخر.
والحقّ على ما
اخترناه ، حصول الامتثال بالترك في الجملة ، إلّا ما أخرجه الدّليل
، كترك الأكل في الصوم ، وليس ذلك لدلالة النهي ، بخلاف قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ، فإنّ الامتثال يحصل بتركه في شهر أو عام أو أقلّ أو
أكثر.
ثمّ إنّ ما ذكرنا
من حصول الامتثال بترك الطبيعة في الجملة إنّما هو بالنسبة إلى الزّمان والأفراد
المتعاقبة بحسب تماديه ، وأمّا الأفراد المتمايزة بسائر المشخّصات ، فكلا. فمن ترك
الزّنا بامرأة معيّنة وارتكب الزّنا مع الاخرى ، فلا يحصل له الامتثال حينئذ لأجل
ذلك الترك ، فإنّ الطبيعة لم تترك حينئذ مع أنّ الامتثال بالترك الآخر حينئذ ممنوع
لعدم المقدوريّة ، لأنّ المقدور ما يتساوى طرفاه ، فكما لا يمكن تحصيل زناءين في
آن واحد ، لا يمكن ترك أحدهما في آن ارتكاب الآخر.
وبالجملة ، فلا
بدّ من ترك الطبيعة رأسا في آن من الأوان ليتحقّق الامتثال ، ولا يحصل إلّا بترك
جميع الأفراد.
__________________
تنبيه
كلّ من قال بكون النّهي للدّوام ، لا
بدّ أن يقول بكونه للفور ، ليتحقّق الدّوام.
وأمّا من لا يقول
به ، فلا يلزمه عدم القول به من هذه الجهة.
فما ادّعاه بعضهم من أنّ كلّ من لا يقول بالتكرار يلزمه عدم القول بالفور.
وفيه ما فيه ، مع أنّ الشيخ في «العدّة» ذهب الى كونه للفور ، ولا يقول بالتكرار.
نعم ذهب العلّامة
في «التهذيب» الى عدم الفور ، مع عدم قوله بالتكرار ، ولا يلزم أن يكون
ذلك للتّلازم بين القولين ، فمن يقول بالفور مع عدم قوله بالتكرار ، فلعلّه يدّعي
التبادر في الفور ، ويقول : إنّ العقلاء يذمّون العبد المسوّف لامتثال المولى في النهي.
وأمّا على ما
ذكرنا من إخراج الكلام عن الإغراء بالجهل ، فيلزم القول بالفور أيضا.
__________________
قانون
اختلف العلماء في جواز اجتماع الأمر
والنّهي في شيء واحد.
وموضع النّزاع ما
إذا كان الوحدة بالشّخص لكن مع تعدّد الجهة.
وأمّا الواحد
بالشّخص الذي لم يتعدّد الجهة فيه ، بأن يكون موردا لهما من جهة واحدة ، فهو ممّا
لا نزاع في عدم جوازه إلّا عند بعض من يجوّز التكليف بالمحال ، وربّما منعه بعضهم تمسّكا بأنّ هذا التكليف محال ، لا
انّه تكليف بالمحال . ولعلّه نظر الى كون الأمر والطلب مسبوقا بالإرادة واجتماع
إرادة الفعل والترك محال.
وأمّا الواحد
بالجنس فهو أيضا ممّا لا نزاع في جواز الاجتماع فيه بالنسبة الى أنواعه وأفراده ،
كالسّجود لله تعالى ، وللشّمس والقمر ، وإن منعه بعض المعتزلة أيضا نظرا الى جعل
الحسن والقبح من مقتضيات الماهيّة الجنسيّة وهو في
__________________
غاية الضّعف. وكما
أنّ المخالف الأوّل أفرط ، فهذا قد فرّط .
ثمّ إنّ القول بجواز
الاجتماع هو مذهب أكثر الأشاعرة ، والفضل بن شاذان رحمهالله من قدمائنا ، وهو الظاهر من كلام السيّد رحمهالله في
__________________
«الذريعة» ، وذهب إليه جلّة من فحول متأخّرينا كمولانا المحقّق
الأردبيلي ، وسلطان العلماء ، والمحقّق الخوانساري ، وولده المحقّق ، والفاضل المدقّق
الشيرواني ، والفاضل الكاشاني ، والسيّد الفاضل صدر الدّين وأمثالهم رحمهمالله تعالى ، بل ويظهر من الكليني حيث نقل كلام الفضل بن شاذان في كتاب الطلاق ولم يطعن عليه ، رضاه بذلك ، بل ويظهر من كلام الفضل أنّ
ذلك كان من مسلّمات الشيعة ، وإنّما المخالف فيه كان من العامّة ، كما أشار إلى
ذلك العلّامة
__________________
المجلسي رحمهالله في كتاب «بحار الأنوار» أيضا ، وانتصر لهذا المذهب جماعة من أفاضل المعاصرين.
والقول بعدم
الجواز هو المنقول عن أكثر أصحابنا والمعتزلة ، وهذه المسألة وإن كانت من المسائل
الكلاميّة ، ولكنّها لمّا كانت يتفرّع عليها كثير من المسائل الفرعية
، ذكرها الاصوليّون في كتبهم ، فنحن نقتفي آثارهم في ذلك.
والذي يقوى في
نفسي ويترجّح في نظري هو جواز الاجتماع ، وقد جرى ديدنهم في هذا المقام بالتّمثيل
بالصلاة في الدّار المغصوبة ، فإنّ المفروض أنّها شيء واحد شخصيّ ، ومحطّ البحث
فيها هو الكون الذي هو جزء الصّلاة ، فهذا الكون هو شيء واحد ، فإنّه هو الذي يحصل
به الغصب ويحصل به جزء الصلاة ، فهذا الكون شيء واحد له جهتان ، فمن حيث إنّه من
أجزاء الصلاة مأمور به ، ومن حيث إنّه تصرّف في مال الغير وغصب ، منهيّ عنه.
لنا على الجواز وجوه :
الأوّل : أنّ الحكم إنّما تعلّق
بالطبيعة
على ما أسلفنا لك
تحقيقه ، فمتعلّق الأمر طبيعة الصلاة ، ومتعلّق النّهي طبيعة الغصب ، وقد أوجدهما
المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد ، ولا يرد من ذلك قبح على الأمر ، لتغاير متعلّق
المتضادّين فلا يلزم التكليف بالمتضادّين ، ولا كون الشيء الواحد
محبوبا ومبغوضا من جهة واحدة.
فإن قلت : الكلّيّ
لا وجود له إلّا بالفرد ، فالمراد بالتكليف بالكلّي هو إيجاد
__________________
الفرد وإن كان متعلّقا بالكلّيّ على الظاهر ، وما لا يمكن وجوده
في الخارج يقبح التكليف بإيجاده في الخارج.
قلت : إن أردت عدم
إمكان الوجود في الخارج بشرط لا ، فهو مسلّم ولا كلام لنا فيه.
وإن أردت استحالة
وجوده لا بشرط ، فهو باطل جزما ، لأنّ وجود الكلّيّ لا بشرط ، لا ينافي وجوده مع
ألف شرط ، فإذا تمكّن من إتيانه في ضمن فرد فقد تمكّن من إتيانه لا بشرط ، غاية
الأمر توقّف حصوله في الخارج على وجود الفرد ، والممكن بالواسطة لا يخرج عن
الإمكان وإن كان ممتنعا بدون الواسطة ، وهذا كلام سار في جميع الواجبات بالنسبة الى المقدّمات ، فالفرد هنا
مقدّمة لتحقّق الكلّيّ في الخارج ، فلا غائلة في التكليف به مع التمكّن عن المقدّمات.
فإن قلت : سلّمنا
ذلك ، لكن نقول : إنّ الأمر بالمقدّمة ، اللّازم من الأمر بالكلّيّ على ما بنيت
عليه الأمر ؛ يكفينا ، فإنّ الأمر بالصّلاة أمر بالكون ، والأمر
بالكون أمر بهذا الكون الخاصّ الذي هو مقدّمة الكون الذي هو جزء الصلاة ، فهذا
الكون الخاصّ مأمور به ، وهو بعينه منهيّ عنه ، لأنّه فرد من الغصب ، والنّهي عن الطبيعة يستلزم النّهي عن جميع أفراده ولو
كان ذلك أيضا من باب مقدّمة الامتثال
__________________
بمقتضى النّهي ،
فإنّ مقدّمة الحرام حرام أيضا ، فعاد المحذور ، وهو اجتماع الأمر والنّهي في شيء
واحد شخصيّ.
قلت : نمنع أوّلا
وجوب المقدّمة ، ثمّ نسلّم وجوبه التبعيّ الذي بيّنّاه في موضعه ، ولكن غاية الأمر
حينئذ توقّف الصّلاة على فرد ما من الكون ، لا الكون الخاصّ الجزئيّ ، وإنّما
اختار المكلّف مطلق الكون في ضمن هذا الشخص المحرّم.
فإن قلت : نعم ،
لكن ما ذكرت من كون الأمر بالكلّيّ مقتضيا للأمر بالفرد يقتضي كون كلّ واحد ممّا
يصدق عليه فرد ما مأمورا به من باب المقدّمة أيضا ، والأمر وإن لم يتعيّن تعلّقه
بالكون الخاصّ عينا ، لكنّه تعلّق به تخييرا ، فعاد المحذور ، لأنّ الوجوب
التخييري أيضا يقبح اجتماعه مع الحرام.
قلت : أمّا أوّلا
، فهذا ليس بواجب تخييري كما حقّقنا لك في مبحث الواجب التخييري ، وإلّا لم يبق
فرق بين الواجبات العينيّة والتخييريّة.
وحاصله ، أنّ
التخيير في أفراد الواجب العيني بحكم العقل ، ووجوب الأفراد فيه تابع لوجوب الكلّي
، والأمر في التخييري بالعكس ، فوجوب الأفراد في العيني توصّلي ، ولا مانع من اجتماعه
مع الحرام ، كما يعترف به الخصم .
وثانيا : إنّا
نمنع التخيير بين كلّ ما يصدق عليه الفرد ، بل نقول : إذا أمر الشّارع بالكلّي فإن
انحصر في فرد أو انحصر الفرد المباح في فرد ، فيصير الفرد والشخص أيضا عينيّا كأصل
الكلّي ، وإلّا فإن كان الكلّ مباحا ، فالتخيير بين الجميع ، وإلّا ففي
__________________
الأفراد المباحة ،
فليس ذلك الفرد الغير المباح مطلوبا ، ولكنّه لا يلزم منه بطلان الطبيعة الحاصلة
في ضمنه ، لأنّ الحرام قد يصير مسقطا عن الواجب في التوصّليّات ، بل التحقيق أنّ
قولهم أنّ الواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام على مذاق الخصم ، لا بدّ أن يكون معناه أنّه مسقط عن الواجب ، لا انّه
واجب وحرام ، كما لا يخفى.
وقد حقّقنا لك في
مقدّمة الواجب أنّ المقدّمة التي هي موضع النزاع في الوجوب وعدمه ، هي المقدورات
المباحة التي كانت من أفعال المكلّف ، وإلّا فقد يصير مقدّمة الواجب شيئا غير
مقدور ، بل من غير فعل المكلّف ، مثل غسل الثوب الذي حصل من الغير من دون اطّلاعه
، وقد يكون شيئا حراما ويتمّ الواجب به. فغاية الأمر سقوط التكليف هنا بسبب حصول
الطبيعة في الخارج ، وذلك لا يستلزم كون المقدّمة مطلقا مطلوبا للأمر ، وكلّ واحد
ممّا يمكن أن يتحقّق به الواجب ، واجبا تخييريا.
نعم ، لو فرض
انحصار تحقّق الصلاة مثلا في الدّار المغصوبة ، فنحن أيضا نقول بامتناع الاجتماع ،
فلا بدّ إمّا من الوجوب ، أو التحريم.
فإن قلت : هذا
إنّما يتمّ على القول بوجود الكلّي الطبيعي ، وهو ممنوع .
قلت : مع أنّ
الثابت في موضعه عند المحقّقين هو الوجود.
__________________
قد بيّنا لك في
مسألة تعلّق الأمر بالكلّي المناص عن ذلك على القول بعدمه أيضا.
فان قلت : القدر
المشترك الانتزاعي من الأفراد التي من جملتها المحرّم ، كيف يجوز طلبه ، وكيف
يمتاز عن الحرام ويتخلّص عنه؟
قلت : إنّ ماهيّة
الصلاة المنتزعة من الأفراد ، هي منتزعة عنها باعتبار أنّها أفراد للصلاة لا
باعتبار أنّها غصب ، والمنتزع عنها من هذا الاعتبار هو ماهيّة الغصب.
الثاني : أنّه لو لم يجز ذلك ، لما وقع
في الشرع وقد وقع كثيرا ، منها العبادات المكروهة ، فإنّ الاستحالة المتصوّرة إنّما هي
من جهة اجتماع الضدّين ، والأحكام الخمسة كلّها متضادّة بالبديهة ، فلو لم يكن
تعدّد الجهة في الواحد الشخصي مجديا ، للزم القبح والمحال ، وهو محال على الشّارع
الحكيم ، مع أنّ هذا يدلّ على المطلوب بطريق أولى ، إذ النهي في المكروهات تعلّق
بالعبادات دون ما نحن فيه. وبعبارة اخرى : المنهيّ عنه بالنّهي التنزيهيّ أخصّ من
المأمور به مطلقا ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ النسبة بينهما فيما نحن فيه ، عموم من
وجه.
ومن كلّ ذلك ظهر ،
أنّ العقل لا يدلّ على امتناع الاجتماع في المنهيّ عنه تحريما أيضا ، لو كان أخصّ
من المأمور به مطلقا أيضا ، وإن أمكن إثباته من جهة فهم العرف كما سنحقّقه إن شاء
الله تعالى. ولذلك أفرد الاصوليّون الكلام في المسألتين ، وما نحن فيه أشبه
بالمقاصد الكلامية ، وإن كان لإدراجه في المسائل الاصولية أيضا وجه ، ولكنّ المسألة الآتية أنسب بالمسائل الاصولية لابتنائه على
__________________
دلالة الألفاظ ،
وإن كانت راجعة الى الاصول الكلامية أيضا على بعض الوجوه .
فلنرجع الى تحرير
الدّليل ونقول : معنى قول الشارع : لا تصلّ في الحمّام ، و : لا تتطوّع وقت طلوع الشمس ، انّ ترك هذه الصلاة أرجح من
فعلها ، كما هو معنى المكروه ، مع أنّها واجبة أو مستحبّة. ومعنى الوجوب
والاستحباب هو رجحان الفعل إمّا مع المنع من الترك ، أو عدمه ، ورجحان الترك
ورجحان الفعل متضادّان لا يجوز اجتماعهما في محلّ واحد.
وقد أجيب عن ذلك (٢) بوجوه :
الأوّل : أنّ المناهي التنزيهيّة راجعة الى شيء خارج من العبادة بخلاف التحريمية بحكم
الاستقراء. فالنّهي عن الصلاة في الحمّام إنّما هو عن التعرّض للرشاش ، وفي معاطن الإبل عن إنفار البعير ، وفي البطائح عن تعرّض السّيل ، ونحو ذلك ، فلم يجتمع الكراهة والوجوب.
وفيه أوّلا : منع
هذا الاستقراء وحجّيته.
وثانيا : أنّ معنى
كراهة تعرّض الرّشاش ، أنّ الكون في معرض الرّشاش مكروه ، وهذا الكون هو بعينه
الكون الحاصل في الصّلاة ، فلا مناص عن اجتماع الكونين
__________________
في كون واحد.
وإن قلت : إنّ
مطلق الكون في معرض الرّشاش لا كراهة فيه ، إنّما المكروه هو التعرّض له حال
الصلاة.
قلت : إنّ المعنى
حينئذ أنّ الصلاة في الحمّام منهيّ عنها لكونها معرض الرّشاش ، فالنهي أيضا تعلّق
بالصلاة ، وعاد المحذور.
وإن قلت : إنّ
مطلق التعرّض للرشاش مكروه والنّهي عن الصلاة في الحمّام لأنّه من مقدّماته وعلله
، فيعود المحذور أيضا.
وثالثا : أنّ
الفرق بين قولنا : لا تصلّ في الحمّام و : لا تصلّ في الدّار المغصوبة ، تحكّم
بحت.
قلنا : إن نقول
أنّ حرمة الصّلاة في الدّار المغصوبة إنّما هو لأجل التعرّض للغصب وهو خارج عن
حقيقة الصلاة ، واتّحاد كون الغصب مع كون الصّلاة ليس بأوضح من اتّحاد كون التعرّض
للرشاش مع كون الصلاة.
ورابعا : أنّ هذا
لا يتمّ في كثير من الحمّامات ، وفي كثير من الأوقات ، وتخصيص ما دلّ على كراهة
الصلاة بما لو كان في معرض الرّشاش ، والحكم بعدم الكراهة في غيرها أيضا في غاية
البعد ، وكون العلّة والنكتة هو ذلك في أصل الحكم ، كرفع أرياح الآباط في غسل الجمعة
لا يستلزم كون الكراهة دائما لذلك ، كما نشاهد في غسل الجمعة.
هذا كلّه فيما ورد
من الشّارع النّهي عنه.
وأمّا في مثل
الصلاة في مواضع التهمة ممّا يكون من جزئيّات عنوان هذا
__________________
القانون ، فلا
يجري فيه هذا الكلام ، فلا بدّ للخصم أن يقول ببطلانها جزما ، ولم يعهد ذلك منه ،
ولا مناص له عن ذلك بوجه ، فهذا أيضا يدلّ على بطلان مذهبه.
الثاني : أنّ المراد بالكراهة هو كونه
أقلّ ثوابا. ، يعني انّ الصّلاة
في الحمّام مثلا أقلّ ثوابا منها في غيره ، ومرادهم أنّ لمطلق الصلاة مع قطع النظر
من الخصوصيّات. ثوابا. ، وقد يزيد عن ذلك من جهة بعض الخصوصيّات كالصلاة في
المسجد. ، وقد ينقص كالصلاة في الحمّام. ، وقد يبقى بحاله كالصلاة في البيت. ، فلا
يرد ما يقال إنّه يلزم من ذلك كون جلّ العبادات مكروهة. لكون بعضها دون بعض في
الثواب ، فيلزم كراهة الصلاة في مسجد الكوفة مثلا لأنّها أقلّ ثوابا منها في
المسجد الحرام ..
وحاصل هذا الجواب : أنّ مراد الشارع من النّهي. أنّ ترك هذه الصلاة واختيار
ما هو أرجح منها ، أحسن. ، فاترك الصلاة في الحمّام واختر الصلاة في المسجد أو
البيت ، وأنت خبير بأنّ ذلك. أيضا ممّا لا يسمن ولا يغني ، فإنّ الترك المطلوب
المتعلّق بهذا الشخص من الصلاة من جهة هذا النهي. لا يجتمع مع الفعل المطلوب من
جهة مطلق الأمر بالصلاة. ، مع أنّك. اعترفت بأنّ الخصوصيّة. أوجبت نقصا لهذا الفرد
الموجود. عن أصل العبادة ، فمع هذه المنقصة إمّا أن يطلب فعلها بدون تركها ، أو
تركها بدون فعلها ، أو كلاهما ، فعلى الأوّل يلزم عدم الكراهة ، وعلى الثاني عدم
الوجوب ، وعلى الثالث يلزم المحذور.
وإن قلت : إنّ
المراد بالنّهي ليس هو الطلب الحقيقي ، بل هو كناية عن بيان حال الفعل بأنّه أقلّ
ثوابا عن غيره ، فلا طلب حتّى يلزم اجتماع الأمر والنّهي.
__________________
قلت : مع أنّ هذا
تعسّف بحت لا يجدي بالنسبة إلى نفس الأمر .
فنقول : مع قطع
النظر عن دلالة هذا النّهي عن طلب الترك ، فهل هذا الفعل في نفس الأمر مطلوب الفعل
، أو مطلوب الترك ، أو مجتمعهما ، الى آخر ما ذكرنا ، على أنّا نقول : ترك الفرد
لكونه أقلّ ثوابا واختيار ما هو أعلى منه إنّما يصحّ فيما له بدل من العبادات ،
وأمّا فيما لا بدل له كالتطوّع في الأوقات المكروهة على القول بها ، والتطوّع
بالصيام في السّفر أو الأيام المكروهة ، فلا يصحّ ما ذكرت بوجه ، لأنّ كلّ آن يسع
لصلاة ركعتين يستحبّ فيه ركعتان ، وكذلك كلّ يوم من الأيام يستحبّ فيه الصيام.
وما يقال : إنّ الأحكام واردة على طبق المعتاد وعادة أغلب الناس ،
بل كاد أن يكون كلّهم ، عدم استغراق أوقاتهم بالنوافل.
فإن كان المراد
منه أنّه لم يكلّف في هذا الوقت الذي يصلّي فيه بدلا عن الصلاة المكروهة بنافلة ،
وهذا الذي يوقعها فيه هو الصلاة التي كانت وظيفة الوقت المرجوح ، فهذا ليس بأولى
من أن يقال : إنّ هذا هو الصلاة التي هي وظيفة هذا الوقت ، ولم يكلّف في الوقت
المكروه بصلاة.
وإن كان المراد
أنّه لمّا علم الشّارع أنّه لا يستغرق أوقاته بالنوافل فقال له : لا تصلّ وظيفة هذا
الوقت المكروه وصلّ وظيفة الوقت الآخر ، فهذا اعتراف منك
__________________
بأنّ الراجح ترك
الصلاة المكروهة من دون بدل ، مع أنّ هذا الكلام في مثل صوم يوم الغدير وأوّل رجب وأيّام البيض والأيّام
المخصوصة من شعبان وغيرها كما ترى ، فإنّ صوم مثل الغدير الذي يتّفق مرّة في عرض
السّنة ليس ممّا يخالف العادة ويترقّبه المؤمنون ، بل يتبرّك به الفسّاق ، ومع ذلك
ينهى عنه الشارع في السّفر ، ولا يريد منه بدله الذي لا وجود له أصلا ، بل لا معنى
له مطلقا كما عرفت.
فإن قلت : فما
تقولون أنتم في العبادات المكروهة ، فهل يترجّح فعلها على تركها أو بالعكس؟
قلت : المناهي
التي وردت عن العبادات تنزيها كلّها ، إنّما تعلّقت بها باعتبار وصفها ، وليس فيها
ما تعلّقت بذاتها ، وإن فرضت تعلّقها بذاتها مثل أن تقول : إنّ قراءة القرآن
مكروهة للحائض ، على التقريب الذي سنبيّنه في جعل صلاة الحائض من جملة ما نهي عنه
لذاتها ، فلا إشكال عندنا في رجحان تركها ومرجوحيّة فعلها ، ولا حاجة فيه إلى
تكلّف أصلا ، وإنّما لم نحكم صريحا بكونها كالصّلاة ، لاحتمال أن يقال : أنّ
المنهي عنه هو قراءة ما زاد على سبع أو سبعين ، فيرجع الى النّهي باعتبار الوصف
أيضا.
والحاصل ، أنّ
المفروض إن كان المتعلّق بالذّات فقد عرفت ، وإلّا فلنا أن نقول برجحان الفعل على
الترك ، وبالمرجوحيّة ، ولا إشكال في أحد منهما ، فإنّ العقل لا يستبعد من أن يكون
لأصل العبادة مع قطع النظر عن الخصوصيّات رجحان ، وللخصوصيّة التي تحصل معها في
فرد خاصّ مرجوحيّة من جهة تلك
__________________
الخصوصيّة ، وهذه
المرجوحيّة قد توازي الرّجحان الثابت لأصل العبادة وتساويه أو تزيد عليه أو تنقص
عنه.
فعلى الأوّل يصير
متساوي الطرفين ، وعلى الثاني يصير تركه راجحا على فعله ، وعلى الثالث بالعكس ،
ففيما له بدل من العبادات كالصلاة في الحمّام ، فلا إشكال ، لأنّ النّهي عن
الخصوصيّة لا يستلزم طلب ترك الماهيّة ، فنختار غير هذه الخصوصيّة سواء فيه
الأقسام الثلاثة المتقدّمة .
وأمّا فيما لا بدل
له كالصيام في الأيام المكروهة والنافلة في الأوقات المكروهة ، فنقول : هي إمّا
مباحة أو مكروهة على ما هو المصطلح ، فيكون تركه راجحا على فعله ، بل الثاني هو
المتعيّن هناك لئلّا يخلو النّهي عن الفائدة على ظاهر اللّفظ ، فيغلب المرجوحيّة
الحاصلة بسبب الخصوصيّة على الرّجحان الحاصل لأصل العبادة ويرفعه ، ولذلك كان
المعصومون عليهمالسلام يتركون تلك العبادات وينهون عنها ، وإلّا فلا معنى
لتفويتهم عليهمالسلام تلك الرّجحان والمثوبة على أنفسهم وعلى شيعتهم بمحض كونها
أقلّ ثوابا من سائر العبادات ، سيّما إذا لم يتداركه بدل كما عرفت في دفع التوجيه
المتقدّم .
فإن قلت : فكيف
يمكن بها نيّة التقرّب ، وكيف يصير ذلك عبادة ، مع أنّ العبادة لا بدّ فيها من رجحان جزما؟
__________________
قلت : إنّ القدر
المسلّم في اشتراط الرّجحان إنّما هو في أصل العبادات وماهيّتها ، وأمّا لزوم ذلك
في جميع الخصوصيّات ، فلم يثبت.
وأمّا قصد التقرّب
، فهو أيضا يمكن بالنسبة الى أصل العبادة وإن كان لم يحصل القرب لعدم استلزام قصد
التقرّب حصول القرب ، وإلّا فلا يصحّ أكثر عباداتنا التي لا ثواب فيها أصلا لو لم
نقل بأنّ فيها عقابا من جهة عدم حضور القلب ووقوع الحزازات الغير المبطلة على ظاهر الشرع فيها ، مع أنّ قصد التقرّب
لا ينحصر معناه في طلب القرب والزّلفى والوصول الى الرّحمة ، فإنّ من معانيه
موافقة أمر الآمر ، فهذه العبادة من حيث إنّها موافقة لأمر الآمر يمكن قصد التقرّب
بها وإن لم يحصل القرب بها من جهة مزاحمة منقصة الخصوصية ، ألا ترى أنّ الإمام
موسى بن جعفر عليهما الصلاة والسّلام كان يترك النّوافل إذا اهتمّ أو اغتمّ كما ورد في الرّوايات ، وأفتى بمضمونه في «الذكرى» ، فترك التكلّم والمخاطبة مع الله سبحانه متكاسلا ومتشاغلا
أولى من فعله ، ولذلك ارتكبه الإمام عليهالسلام ، ولو كان مع ذلك فيه رجحان ، لكان تركه بعيدا عن مثله ،
سيّما متكرّرا وسيّما في مثل الرّواتب المتأكّدة غاية التأكيد المتمّمة للفرائض ،
ومع ذلك فلا ريب في صحّتها لو فعل بهذه الحالة ، وجواز قصد التقرّب بها.
__________________
وأمّا الفرائض ،
فعدم جواز تركها مع ذلك فإنّما هو لحماية الحمى ، ولئلّا يفتح سبيل تسويل النّفس
ومكيدة الشيطان فيما هو بمنزلة العمود لفسطاط الدّين ، فإنّ أكثر أحكام الشّرع من هذا الباب ، كتشريع
العدّة مطلقا ، وإن كان العلّة فيها عدم اختلاط الأنساب. فلعلّ صورة العبادة تكفي
في صحّة قصد التقرّب ما لم يثبت له مبطل من الخارج ، وإن لم يكن ممّا يحصل له ثواب
في الخارج ، فحينئذ فإن ورد في أمثال هذه العبادات المكروهة معارض ، فلا بدّ من
طرحها كما ورد في بعض الأخبار الضّعيفة أنّ الإمام عليهالسلام صام في السّفر في شعبان ، مع أنّه ليس بصريح في كونه
مندوبا ، بل ربّما كان منذورا بقيد السّفر أو غير ذلك من الاحتمالات ، فأمّا لا
بدّ من نفي الكراهة فيما لا بدل له ، أو من القول برجحان تركه مطلقا. والأظهر في
صوم السّفر الكراهة ، وفي التطوّع في الأوقات المكروهة العدم ، ففيما يثبت الكراهة
، فالكلام فيه ما مرّ ، وفيما لم يثبت ، فلا إشكال.
الثالث (٢) : أنّ المراد بكراهة
العبادات مرجوحيّتها بالنسبة الى غيرها من الأفراد ، وسمّاه بعضهم بخلاف الأولى ، فرجحانها ذاتيّة والمرجوحيّة إضافيّة ولا منافاة بينهما
كالقصر في المواطن الأربعة ، فهو مرجوح بالنّسبة الى التمام مع كونه أحد فردي
الواجب المخيّر.
وكما أنّه يجتمع
الوجوب النفسي مع الاستحباب للغير كاستحباب غسل الجنابة
__________________
للصلاة المندوبة
على القول بوجوبه لنفسه ، وكذلك الوجوب الغيريّ مع الاستحباب النفسيّ على القول
الآخر ، فكذا يجتمع الرّجحان الذّاتي مع الكراهة للغير ، كصلاة الصّائم مع انتظار
الرفقة. والمكروهات للغير كثيرة ، مثل الاتّزار فوق القميص للصلاة ومصاحبة الحديد
البارز لها ونحوهما.
وفيه : أنّ المراد
بالمرجوحيّة الإضافية إن كان مع حصول منقصة في ذاتها أيضا يستحقّ الترك بالنسبة
الى ذاتها أيضا ، فيعود المحذور ، وإلّا فيصير معناه كون الغير أفضل منه وأرجح.
وحينئذ فنقول :
ذلك الغير ربّما يكون ممّا يوازي أصل الطبيعة في الثواب فيصير ما نحن فيه مرجوحا
بالنسبة الى أصل الطبيعة أيضا ، فيحصل بذلك لهذا الفرد أيضا منقصة ذاتية.
لا يقال : أنّ هذه
المنقصة إنّما هي من جهة الخصوصيّة لا من جهة أصل العبادة ، لأنّ ذلك خلاف أصل
المجيب ، فإنّ مبناه عدم اعتبار تعدّد الجهة.
ثمّ إنّ الكلام لا
يتمّ في غير هذه الصّورة أيضا ، أعني ما كان مرجوحا بالنسبة الى سائر الأفراد التي
لها مزيّة على أصل الطبيعة ، ولا يجدي ما ذكره المجيب ، إذ نقول حينئذ بعد تسليم
كونه راجحا بالذّات ومرجوحا بالنسبة الى الغير ، فإمّا أن يكون فعل ذلك مطلوبا ،
أو تركه أو كلاهما ، الى آخر ما ذكرنا في ردّ الجواب الثاني .
__________________
فإن قلت : مطلوب
فعله لذاته ومطلوب تركه من جهة أنّه مفوّت للمصلحة الزّائدة الحاصلة في الغير ،
فقد كررت على ما فررت عنه ، فإنّ المطلوب شيء واحد ولا يعتبر عندك تعدّد الجهة.
فإن قلت : لمّا
جاز الفعل والترك معا فلا يلزم التكليف بالمحال.
قلت : إنّا نتكلّم
فيما لو أراد الفعل واختار الفرد المرجوح ، وجواز الفعل والترك لا يجوّز اجتماع
المتضادّين في صورة اختياره ، وهو واضح ، مع أنّه لا فارق بين قولنا : لا تصلّ في
الدّار المغصوبة ، و : لا تصلّ في الحمّام ، فاعتبر فيه الرّجحان الذّاتي
والمرجوحيّة الإضافية أيضا.
وما يقال : إنّ
الفارق أنّ الصّلاة ثمّة عين الغصب ، وهاهنا غير الكون في الحمّام ، مع ما فيه من التكليف الواضح ،
وإنّ ذلك إنّما هو بعد تسليم أنّ الاتّحاد في الوجود الخارجي يوجب ارتفاع
الاثنينيّة في الحقيقة.
يرد عليه : أنّ
ذلك مبنيّ على الخلط بين ما عنون به القانون وبين ما سيجيء فيما بعد ، فالنهي ثمّة
تعلّق بالصلاة في الدّار المغصوبة لا بالصلاة لأنّها غصب بعينها والغصب منهيّ عنه
، والذي ذكرناه من النقض إنّما كان من باب الأولويّة والاكتفاء بلزوم اجتماع
المتنافيين مطلقا ، وليس مثالنا في العبادة المكروهة مطابقا للمبحث في النّوع.
ولزم ممّا ذكرنا ،
القول بذلك فيما لو كان المنهيّ عنه أخصّ من المأمور به أيضا ، وإن شئت تطبيق
المثال على المقامين فطابق بين قولنا : صلّ ولا تغصب ، وبين قولنا : صلّ ولا تكن
في مواضع التّهمة ، وطابق بين قولنا : لا تصلّ في الحمّام ، و :
__________________
لا تصلّ في الدّار
المغصوبة ، فإن كنت تقدر على أن تقول : إنّ المرجوحيّة في الصلاة في مواضع التّهم
إضافيّة بالنسبة إلى غيرها في المثال الأوّل ، فنحن أقدر بأن نقول : مرجوحيّة
الصلاة في الدّار الغصبيّة إضافيّة بالنسبة الى الصلاة في غيرها في المثال الثاني.
والنّقض الأوّل
الذي أوردناه في الاستدلال إنّما هو بالفقرة الأولى من المثال الثاني على الفقرة الأولى من المثال الأوّل.
والمعارضة التي
ذكرناها في دفع جوابك إنّما هو بالفقرة الثانية من المثال الثاني بالنّسبة الى ما
ذكرته في الفقرة الأولى منه.
وما دفعت به
المعارضة يناسب لو أردنا بالمعارضة ، المعارضة بالفقرة
__________________
الأولى من المثال
الأوّل بالنّسبة الى الفقرة الأولى من المثال الثّاني.
قوله : وكما أنّه
يجتمع ... الخ .
فيه : أنّه رجوع
عن أوّل الكلام ، فإنّ المرجوحيّة بالنسبة الى الغير غير المرجوحيّة للغير
، وكذلك الوجوب والاستحباب ، وقد اختلطا في هذا المقام ، ويشهد به التشبيه
بالغسل والتمثيل بالاتّزار ، مع أنّ الكلام في الواجب النفسيّ والغيريّ أيضا هو
الكلام فيما نحن فيه ، وهو أيضا من المواضع التي أشرنا الى ورودها في الشّرع
بملاحظة اعتبار الجهة ، ولا يصحّ ذلك إلّا بهذه الملاحظة ، مع أنّ الاستحباب
النفسي على القول بالوجوب لغيره إنّما هو إذا لم يدخل وقت مشروط بالطهارة ، وبعد
دخوله فيجب للغير ، فيختلف الزّمان.
__________________
وأمّا على القول
الآخر ، فالاستحباب الغيريّ معناه أنّه يستحب أن يكون هذا الفعل في حال كون المكلّف
مغتسلا ، لا انّه يستحبّ الغسل له ، إلّا أن يقال : استحباب الفعل في حال الغسل لا يتمّ إلّا بالغسل ، وما لا يتمّ
المستحبّ إلّا به فهو مستحبّ ، فيستحبّ الغسل.
فالمناص هو اعتبار
تعدّد الجهة وإلّا فلا يصحّ التكليف ، لأنّ المكلّف به على مذهب المجيب هو الفرد ،
وهو شيء واحد شخصيّ لا تعدّد فيه أصلا.
ومن المواضع التي
ذكرناها هو الصّلاة في المسجد ، فإنّ المستحبّ والواجب أيضا متضادّان ، وكذلك أفضل
أفراد الواجب التخييري ، فإنّه واجب من حيث كونه فردا من الكلّي ، ومستحبّ من حيث
الشّخص.
وما أدري ما يقول
المجيب هنا قبالا لما ذكره في الفرد المرجوح ، اللهمّ إلّا أن يقول : الفرد الأفضل
راجح بالنّسبة الى الفرد الآخر وإن كان فاقدا لذلك الرّجحان ، والمزيّة الموجودة
في الأفضل بالنّظر الى أنّه أحد فردي المخيّر لا بالنسبة الى ذاته ، فحينئذ يخرج
عن المقابلة.
ومنها : ما ورد في
الأخبار الكثيرة وأفتى به الفقهاء من تداخل الأغسال الواجبة والمستحبّة ، وكذلك
الوضوءات ونحو ذلك. واضطرب فيه كلام الأصحاب في توجيه هذا المقام ، وذهب كلّ منهم
الى صوب ، والكلّ بعيد عن الصواب.
وأمّا على ما
اخترناه فلا إشكال ، وقد بيّنّا ذلك في كتاب «مناهج الأحكام» .
__________________
الثالث : أنّ
السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه في ذلك
المكان ، فإنّا نقطع أنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنّهي عن الكون.
وأجيب عنه : بأنّ
الظاهر في المثال المذكور إرادة تحصيل خياطة الثوب بأيّ وجه اتّفق سلّمنا ، لكنّ المتعلّق
فيه مختلف ، فإنّ الكون ليس جزء من مفهوم الخياطة بخلاف الصلاة سلّمنا ، لكن نمنع
كونه مطيعا والحال هذه ، ودعوى حصول القطع بذلك في حيّز المنع ، حيث لا نعلم إرادة
الخياطة كيفما اتّفقت .
وفيه : أنّ هذا الكلام بظاهره مناقض لمطلب المجيب من تعلّق الحكم بخصوصيّة الفرد ، فإنّ إرادة الخياطة بأيّ
وجه اتّفق ، هو معنى كون المطلوب هو الطبيعة.
وأيضا فإنّما
الكلام في جواز اجتماع الأمر والنّهي في نفس الأمر عقلا وعدمه ، والظهور من اللّفظ
لا يوجب جوازه إذا كان مستحيلا عقلا ، اللهمّ إلّا أن يقال : مراد المجيب ، أنّ
وجوب الخياطة توصّليّ ، ولا مانع من اجتماعه مع الحرام ، وهذا معنى قوله : بأيّ
وجه اتّفق.
وفيه : ما أشرنا
من أنّ المحال وارد على مذهب المجيب في صورة الاجتماع ، توصّليّا كان الواجب أو
غيره. نعم يصير الحرام مسقطا عن الواجب ، لا انّ الواحد يصير واجبا وحراما ، وليس
مناط الاستدلال نفس الصحّة بأن يتمسّك بها في
__________________
جواز الاجتماع
حتّى يجاب بالانفكاك في التوصّلي ، ويقال بأنّه صحيح من أجل إسقاط الحرام ، ذلك لا
لجواز الاجتماع ، فلا يدلّ مطلق الصّحة على جواز الاجتماع مطلقا ، بل مناطه أنّ
الامتثال العرفيّ للأمر بنفسه شاهد على جواز الاجتماع.
وكلام المستدلّ من
قوله : مطيع عاص من جهتي الأمر والنّهي ، صريح في أنّ حصول الإطاعة من جهة موافقة
الأمر ، لا لأنّ الحرام مسقط عن الواجب. فلا فائدة في هذا الجواب .
وبالجملة ، فالقول
باجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام على مذهب المجيب إنّما يصحّ إذا أريد به سقوط
الواجب عنه بفعل الحرام.
وأمّا على المذهب
المنصور ، فيصحّ بإرادة ذلك وإرادة حصول الإطاعة من جهة كونه من أفراد المأمور به
في بعض الأحيان أيضا.
هذا كلّه مع ما
ذكرنا من أنّ وجوب الفرد من باب المقدّمة ، فيكون هو أيضا توصّليّا ، سيّما ومحلّ
البحث الذي هو الكون الذي هو جزء الصلاة ، وجوبه بالنسبة الى أصل الصلاة توصّليّ
كما ذكرنا في مقدّمة الواجب.
نعم ، قد يحصل
للجزء وجوب غيريّ أيضا كما أشرنا في ذلك المبحث ، وبسببه يختلف الحكم.
قوله : فإنّ الكون ليس جزء من مفهوم الخياطة .
فيه : أنّ إنكار
كون تحريك الأصبع وإدخال الإبرة في الثّوب وإخراجه عنه ،
__________________
جزء للخياطة ،
والفرق بينه وبين حركات القيام والركوع والسجود مكابرة ، ولعلّه حمل الكون في كلام
المستدلّ على خصوص الكون الذي هو من لوازم الجسم ، فإنّه هو الذي يمكن منع جزئيّته
، كما يمكن منع ذلك في الصلاة أيضا.
ولا ريب أنّ مراد
المستدلّ المنع من جميع صور الكون في هذا المكان ، أو ما يشتمل عليه الخياطة
لينطبق على مدّعاه.
قوله : حيث لا نعلم إرادة الخياطة كيفما اتّفقت .
فيه : أنّ أهل
العرف قاطعون بأنّه ممتثل حينئذ ، ولو عاقبة المولى على عدم الامتثال من جهة
الخياطة ، لذمّه العقلاء أشدّ الذّم ، ولكن لو عاقبه على الجلوس في المكان ، لم
يتوجّه عليه ذمّ.
نعم ، لو علم أنّ
مراده الخياطة في غير هذا المكان ، وأنّ الخياطة في هذا المكان ليست مطلوبة ، لكان
لما ذكره وجه .
وأمّا بمجرّد عدم
العلم بإرادة الخياطة كيفما اتّفقت ، فمنع الامتثال بعد ملاحظة فهم العرف ، مكابرة
، ومع ذلك كلّه فذلك مناقشة في المثال. فلنمثّل بما ذكره بعض المدقّقين بأمر المولى عبده بمشي خمسين خطوة في كلّ يوم ، ونهاه عن
الدّخول في الحرم ، فإذا مشى المقدار المذكور الى داخل الحرم ، يكون عاصيا مطيعا
من الجهتين.
__________________
احتجّوا : بأنّ الأمر طلب لإيجاد الفعل ، والنّهي طلب لعدمه ،
فالجمع بينهما في أمر واحد ممتنع ، وتعدّد الجهة غير مجد مع اتّحاد المتعلّق ، إذ
الامتناع إنّما نشأ من لزوم اجتماع المتنافيين في شيء واحد ، وذلك لا يندفع إلّا
بتعدّد المتعلّق ، بحيث يعدّ في الواقع أمرين ، هذا مأمور به ، وذلك منهيّ عنه ،
ومن البيّن أنّ التعدّد في الجهة لا يقتضي ذلك ، والكون الحاصل في الصّلاة في الدّار المغصوبة شيء واحد
ويمتنع أن يكون مأمورا به ومنهيّا عنه ، فتعيّن بطلانها.
وأيضا ، كيف يجوز
على الله تعالى أن يقول للمصلّي إذا أراد الصلاة في الدّار المغصوبة : لا تركع
فإذا ركعت لعاقبتك ، ويقول أيضا : اركع هذا أو غيره وإلّا لعاقبتك.
أقول : ويظهر
الجواب عن ذلك بالتأمّل فيما مرّ ، ونقول هاهنا أيضا.
قوله : فالجمع
بينهما في أمر واحد ممتنع إن أراد انّ الأمر بالصلاة من حيث إنّه هو هذا الفرد
الذي بعينه هو الغصب ، والنهي عن الغصب الذي بعينه هو الكون الحاصل في الصلاة
ممتنع الاجتماع ، فهو كما ذكره ، لكن الأمر والنّهي لم يردا إلّا مطلقين.
والحاصل ، أنّ
جهتي الأمر والنّهي هنا تقييديّتان لا تعليليّتان كما أشار إليه
__________________
بعض المحقّقين ، وما ذكره من عدم إجداء تعدّد الجهة ، ممنوع.
قوله : بحيث يعدّ في الواقع أمرين.
إن أراد بذلك لزوم
تعدّدهما في الحسّ ، ففيه منع ظاهر.
وإن أراد مطلق
التعدّد ، فلا ريب أنّهما متعدّدان ، ولم ينتف إحدى الحقيقيتين في الخارج بسبب
اتّحاد الفرد ، ولم يصيرا شيئا ثالثا أيضا ، بل هما متغايران في الحقيقة متّحدان
في نظر الحسّ في الخارج ، وذلك كاف في اختلاف المورد ، وقد عرفت ورودها في الشّرع
في غاية الكثرة ، فإنّ الجنب الذي يغتسل يوم الجمعة غسلا واحدا عن الجنابة والجمعة
، يجوز ترك هذا الغسل له من حيث إنّه جمعة ، ولا يجوز تركه من حيث إنّه جنابة ،
ولا تعدّد في الخارج في نظر الحسّ مطلقا.
وكذلك المكروهات
وغيرها ممّا مرّ.
__________________
قوله : وأيضا كيف
يجوز ... الخ.
قد عرفت أنّ
الشارع لا يقول له : لا تركع ، ولا : اركع هذا ، أو غيره ، بل يقول : لا تغصب.
ويقول : اركع ، ولا يقول : اركع هذا الرّكوع ، لما مرّ أنّ التخيير اللّازم
باعتبار وجوب المقدّمة إنّما هو بالنسبة الى الأفراد المباحة.
نعم ذلك مسقط عن
المباح كما أشرنا. والتكليف الباقي في حال الفعل على تسليم تعلّقه حال الفعل إنّما هو
بإتمام مطلق المكلّف به لا مع اعتبار الخصوصيّة وبشرطها ، فلا يرد أنّه يستلزم
مطلوبية الفرد الخاص.
فإن قلت : إنّ
الحكيم العالم بعواقب الامور ، المحيط بجميع أفراد المأمور به ، كيف يخفى عليه هذا
الفرد ، فإذا كان عالما به فمقتضى الحكمة أنّه لا يريده ، فلا يكون من أفراد
المأمور به ، فيكون باطلا.
قلت : لعلّ هذا
البحث استدراك من أجل ما ذكرنا من كون دلالة الواجب على مقدّماته تبعيّا ومن باب الإشارة
، وإنّ محاورات الشّارع على طبق محاورات العرف ، والمعتبر في الدّلالة هو المقصود
من اللّفظ ، وهو استدراك حسن.
__________________
لكنّا نجيب عنه :
بأنّ المأمور به إيجاب الطبيعة لا الفرد.
ولا نقول نحن :
إنّ هذا الفرد ممّا أمر به الشارع ، وإيجاد الطبيعة لا يستلزم خصوصيّة هذا الفرد.
فإن قلت : نعم ،
لكن لمّا رخّص الشارع في إيجاد الطبيعة مطلقا وأمرنا بإيجادها في ضمن الأفراد من
باب المقدّمة ، فلا بدّ أن يكون إيجادها في ضمن هذا الفرد مستثنى من الإيجادات.
قلت كاشفا للحجاب
عن وجه المطلوب ورافعا للنّقاب عن السرّ المحجوب : إنّه لا استحالة في أن يقول
الحكيم : هذه الطبيعة مطلوبي ولا أرضى بإيجادها في ضمن هذا الفرد أيضا ، ولكن لو
عصيتني وأوجدتها فيه ؛ لعاقبتك لما خالفتني في كيفيّة الإيجاد لا لأنّك لم توجد
مطلوبي ، لأنّ ذلك الأمر المنهيّ عنه شيء خارج عن العبادة.
فهذا معنى
مطلوبيّة الطبيعة الحاصلة في ضمن هذا الفرد ، لا أنّها مطلوبة مع كونها في ضمن
الفرد ، فقد أسفر الصّبح وارتفع الظلام ، فإلى كم قلت وقلت.
ومن ذلك يظهر
الجواب عن الإشكال في نيّة التقرّب ، لأنّ قصد التقرّب إنّما هو في الإتيان
بالطبيعة لا بشرط ، الحاصلة في ضمن هذا الفرد ، لا بإتيانه في ضمن هذا الفرد
الخاصّ المنهيّ عنه .
ثم إنّ هاهنا
تنبيهين :
الأوّل : أنّ مقتضى عدم جواز اجتماع
الأمر والنهي في شيء واحد ، عدم إمكان كون الشيء الواحد مطلوبا ومبغوضا.
__________________
وأمّا اقتضاء ذلك
تخصيص الأمر بالنّهي والحكم بالبطلان دون العكس ، فكلّا ، فإنّ قول الشّارع : صلّ ، مطلق ، والأمر يقتضي الإجزاء
في ضمن كلّ ما صدق عليه المأمور به كما مرّ.
وقوله : لا تغصب ،
أيضا مطلق يقتضي حرمة كلّ ما صدق عليه أنّه غصب ، والقاعدة المبحوث عنها بعد استقرارها على عدم الجواز ، لا يقتضي إلّا لزوم إرجاع
أحد العامّين الى الآخر ، فما وجه تخصيص الأمر والقول بالبطلان كما اختاروه ، بل
لنا أن نقول : الغصب حرام ، إلّا إذا كان كونا من أكوان الصلاة ، كما تقول :
الصلاة واجبة ، إلّا إذا كانت محصّلة للغصب.
ولذلك ذهب بعض
المتأخرين الى الصحّة مع القول بعدم جواز الاجتماع في أصل المسألة ،
ويؤيّده بعض الأخبار الدالّة على أنّ للناس من الأرض حقّا في
الصلاة ، فلا بدّ من الرّجوع الى المرجّحات الخارجيّة.
وقد ذكروا في وجه ترجيح النّهي وجوها.
__________________
منها : أنّ دفع
المفسدة أهمّ من جلب المنفعة.
وهو مطلقا ممنوع ،
إذ في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعيّن.
ومنها : أنّ النهي
أقوى دلالة لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد ، بخلاف الأمر ، وقد مرّ ما يضعّفه في
مبحث تكرار النّهي .
ومنها : ما يقال
إنّ الاستقراء يقتضي ترجيح محتمل الحرمة على محتمل الوجوب ، كحرمة العبادة في
أيّام الاستظهار والتجنّب عن الإناءين المشتبهين ، ونحو ذلك.
وفيه : أنّه لم
يظهر أنّ هذا الحكم في أمثال ذلك لأجل ترجيح الحرمة على الوجوب ، بل لعلّه كان
لدليل آخر ، مع أنّ الحرمة في الإناءين مقطوع بها بخلافه هنا ، بل يمكن القلب بأنّ
الاجتناب عن النجاسة واجب ، وترك الوضوء حرام ، مع أنّ ذلك الاستقراء على فرض
ثبوته ، لم يثبت حجّيته مع معارضته بأصل البراءة.
وكذلك ما دلّ من
الأخبار على تغليب الحرام على الحلال معارض بما دلّ على أصل الإباحة فيما تعارض فيه النصّان.
__________________
وبالجملة ، فلا
بدّ من مرجّح يطمئنّ إليه النفس ، ثمّ الحكم على مقتضاه بالصحّة أو البطلان.
الثاني : أنّ ما عنون به القانون ، هو
الكلام في شيء ذي جهتين يمكن انفكاك كلّ منهما عن الآخر.
وأمّا ما يمكن
الانفكاك عن أحدهما دون الآخر ، كقوله : صلّ ولا تصلّ في الدّار المغصوبة ، فقد
مرّت الإشارة الى جواز الاجتماع فيه عقلا ولغة وإن فهم العرف خلافه ، وسيجيء
الكلام فيه.
وأمّا ما لا يمكن الانفكاك عن أحد
الطرفين مثل من دخل دار غيره غصبا ففيه أقوال:
الأوّل : إنّه مأمور
بالخروج وليس منهيّا عنه ولا معصية في الخروج.
والثاني : إنّه
عاص لكن لم يتعلّق به النّهي عن الخروج.
والثالث : إنّه
مأمور به ومنهيّ عنه أيضا ، ويحصل العصيان بالفعل والترك كليهما ، وهو مذهب أبي
هاشم وأكثر أفاضل متأخّرينا ، بل هو ظاهر الفقهاء وهو
__________________
وهو الأقرب ، فإنّهما دليلان يجب إعمالهما ، ولا موجب للجمع والتقييد
، إذ الموجب إمّا فهم العرف كما في العامّ والخاص المطلقين على ما أشرنا اليه
وسنبيّنه ، أو العقل كما لو دخل في دار الغير سهوا ، فإنّ الأمر بالخروج والنّهي
عنه موجب لتكليف ما لا يطاق ، فهو مأمور بالخروج لا غير.
وأمّا فيما نحن
فيه ، فإنّه وإن كان يلزم تكليف ما لا يطاق أيضا ولكن لا دليل على استحالته إن كان
الموجب هو سوء اختيار المكلّف ، كما يظهر من الفقهاء في كون المستطيع مكلّفا
بالحجّ إذا أخّره اختيارا وإن فات استطاعته.
لا يقال : إنّ
الخروج أخصّ من الغصب مطلقا ، وفهم العرف يقتضي الجمع بين العامّ والخاصّ إذا كانا
مطلقين.
لإنّا نقول : إنّ
الخروج ليس مورد الأمر من حيث هو خروج ، بل لأنّه تخلّص عن الغصب ، كما أنّ الكون
في الدّار المغصوبة ليس حراما إلّا من جهة أنّه غصب ، والنسبة بين الخروج والغصب
عموم من وجه.
والظاهر أنّ ذلك
الأمر إنّما استفيد من جهة كونه من مقدمات ترك الغصب الواجب ، ومقدّمة الترك أعمّ
من الخروج. وإن انحصر أفراده في الخروج بحسب العادة ، فإنّ الظاهر أنّ العامّ الذي
أفراده الموجودة في الخارج منحصرة في الفرد
__________________
بحسب العادة ، بل
في نفس الأمر أيضا لا يخرج عن كونه عامّا في باب التعارض. فلو فرض ورود الأمر
بالخروج أيضا بالخصوص ، فالظّاهر أنّه من جهة أنّه الفرد الغالب الوجود لإمكان
التخلّص بوجه آخر ، إمّا بأن يحمله غيره على ظهره ويخرجه من دون اختياره ، أو غير
ذلك.
فليضبط ذلك فإنّه
فائدة جليلة لم أقف على تصريح بها في كلامهم.
وأمّا القول
الأوّل ، فاختاره ابن الحاجب وموافقوه ، مستدلّين بأنّه إذا تعيّن الخروج ، للأمر دون النّهي
بدليل يدلّ عليه ، فالقطع بنفي المعصية عنه إذا خرج بما هو شرطه من السّرعة ،
وسلوك أقرب الطرق وأقلّها ضررا ، إذ لا معصية بإيقاع المأمور به الذي لا نهي عنه.
وفيه : ما عرفت
أنّه لا وجه لتخصيص النّهي بذلك الأمر ، فالنّهي باق بحاله ويلزمه حصول المعصية
أيضا.
وأمّا القول
الثاني ، فاختاره فخر الدّين الرّازي وقال : إنّ حكم المعصية
__________________
عليه مستصحب مع
إيجابه الخروج .
وفيه : أنّه لا
معنى للمعصية إلّا في ترك المأمور به أو فعل المنهيّ عنه ، فإذ لا نهي ، فلا معصية
، مع أنّ النّهي أيضا مستصحب ، ولا وجه لتخصيصه كما مرّ.
ثم يمكن أن يقال
على أصولنا : أنّ النزاع بين هذا القول وبين ما اخترناه لفظيّ ، إذ
مبنى ما اخترناه من اجتماع الأمر والنّهي جعل التكليف من قبيل التكليف الابتلائي
والتنبيه على استحقاق العقاب ، لا طلبا للتّرك في نفس الأمر ، مع علم الأمر بأنّه
لا يمكن حصوله مع امتثال الأمر.
ومراد المنكر هو
طلب حصول الترك في الخارج.
وقد يوجّه كلامه
بوجه آخر بعيد.
__________________
قانون
اختلف الأصوليّون في دلالة النّهي على
الفساد في العبادات والمعاملات على أقوال.
وتحقيق المقام يستدعي رسم مقدّمات :
الأولى :
المراد بالعبادات هنا ما احتاج صحّتها
الى النيّة.
وبعبارة أخرى ؛ ما
لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ، سواء لم يعلم المصلحة فيها أصلا ، أو علمت
في الجملة ، واحتياجها الى النيّة وهو قصد الامتثال والتقرّب ، من جهة ذلك. فإنّ
امتثال الأمر لا يحصل إلّا بقصد إطاعته في العرف والعادة ، والموافقة الاتفاقيّة
لا تكفي.
نعم ، لو علم
انحصار المصلحة في شيء خاصّ ، فبعد حصوله لا يبقى وجوب الامتثال لكونه لغوا فيسقط
الموافقة الاتفاقيّة الإتيان بالفعل ثانيا ، لا انّ ذلك هو نفس الامتثال.
والمراد
بالمعاملات هنا ما قابل ذلك ، أي ما لا يحتاج صحّتها الى النيّة ، سواء كان من
الوجبات كغسل الثياب والأواني ، أو من العقود أو الإيقاعات ، فإنّ المصالح فيها
واضحة لا يتوقّف حصولها على قصد الامتثال ، وإن لم يحصل الثواب في الواجبات وحصل
العقاب في إتيانها وإتيان المعاملات على الطريق المحرّم ، ولذلك لا يكلّف من غسل
ثوبه بماء مغصوب ، أو بإجبار غيره عليه أو بحصوله من مسلم دون اطّلاعه بإعادة
الغسل ، وكذلك ترتّب الآثار على الأفعال
المحرّمة في
المعاملات كترتّب المهر والإرث والولد لمن دخل بزوجته في حال الحيض ، وغير ذلك.
الثانية :
الأصل
في العبادات والمعاملات هو الفساد ، لأنّ الأحكام الشرعية كلّها توقيفية ، ومنها الصحّة ، والأصل عدمها ، وعدمها
يكفي في ثبوت الفساد ، وإن كان هو أيضا من الأحكام الشرعيّة ، لأنّ عدم الدليل
دليل على العدم.
وأمّا استدلال بعض
الفقهاء بأصالة الصحّة وأصالة الجواز في المعاملات ،
__________________
فالظاهر أنّ مراده
من الأصل العموم أو مطلق القاعدة ، وإن كان مراده غير ذلك فهو سهو ، إلّا أن يراد به أصالة
جواز إعطاء ماله بغيره وأخذ مال غيره مثلا لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ، ولكنّ ذلك لا يفيد الصحة الشرعية بمعنى اللّزوم وترتّب
الآثار.
وما يقال : إنّ
الأصل في معاملات المسلمين الصحة فهو معنى آخر.
والمراد به إنّ ما
تحقّق صحيحه عن فاسده في نفس الأمر ولم يعلم أنّ ما حصل في الخارج هل هو من الصحيح
أو الفاسد ، فيحمل على الصحيح إذا صدر من مسلم ، لا بمعنى أنّ صحة أصل المعاملة
تثبت بمجرّد فعل المسلم. فالمذبوح المحتمل كونه على الوجه المحرّم والمحلّل ، يحمل
على المحلّل إذا صدر عن مسلم ، لا أنّ الأصل في الذّبح أن يكون صحيحا ، بل الأصل
عدم التذكية والحرمة حتّى تثبت التذكية الصحيحة ، وصدوره عن المسلم قائم مقام ثبوت
التذكية الصحيحة في نفس الأمر ، وهذا الأصل إجماعي مدلول عليه بالأدلّة المتينة
القويمة ، مصرّح به في الأخبار الكثيرة.
الثالثة :
محلّ النزاع في هذا الأصل ، ما تعلّق
النهي بشيء بعد ما ورد عن الشارع له جهة صحة ثمّ ورد النّهي عن بعض أفراده أو خوطب به عامّة المكلّفين
ثمّ استثنى عنه
__________________
بعضهم ، فمثل
الإمساك ثلاثة أيام ، والقمار ونحو ذلك ليس من محلّ النزاع في شيء ، إذ الكلام
والنزاع في دلالة النّهي على الفساد وعدمه ، وما ذكر فاسد بالأصل ، لأنّ الأصل عدم
الصحّة ، وأمّا الفساد فيدلّ عليه عدم الدّليل.
وممّا ذكرنا ،
يظهر أنّ ما تقدّم من اجتماع الأمر والنّهي فيما كان بين المأمور به والمنهيّ عنه
عموم من وجه ، سواء اتّحدا في الوجود أم لا ، أيضا خارج عن هذا الأصل ، ولذا أفرده القوم وأفردناه
بالذّكر.
وبالجملة ، النزاع
في هذا الأصل فيما كان بين المأمور به والمنهيّ عنه ، أو المأمور والمنهيّ عموم
وخصوص مطلقا.
ثمّ اعلم أنّ النّهي
المتعلّق بكلّ واحد من العبادات والمعاملات إمّا يتعلّق به لنفسه أو لجزئه أو
لشرطه أو لوصفه الدّاخل أو لوصفه الخارج أو لشيء مفارق له متّحد معه في الوجود أو
لشيء مفارق غير متّحد في الوجود.
والمراد بالمتعلّق
به لنفسه ، أن يكون المنهيّ عنه طبيعة تلك العبادة أو المعاملة ، مع قطع النظر عن
الأفراد والعوارض والأوصاف كالزّمان والمكان وغير ذلك.
مثاله النّهي عن
صلاة الحائض وصومها ونحو ذلك.
لا يقال : أنّ النّهي هنا تعلّق بالصلاة باعتبار وقوعها حال الحيض
، فالمنهيّ
__________________
عنه هو الصلاة
الكائنة في حال الحيض ، فالنهي إنّما تعلّق بها لوصفها.
ويؤيّده ما قيل : إنّ مفهوم الصيغة إنّما يرد على المادة بعد
اعتبار قيودها وحيثيّاتها. فقولنا : زيد أعلم من عمرو في الهيئة ، و : عمرو أعلم
من زيد في الطبّ ، معناه أنّ علم الهيئة في زيد أكثر من عمرو ، وعلم الطبّ في عمرو
أكثر من زيد.
وبذلك يندفع ما
أورد على قولهم : إنّ صيغة التفضيل تقتضي الزّيادة في أصل الفعل ، مع قطع النظر عن
الأفراد من أنّه يلزم أن يرجع العقل عمّا فهمه أوّلا في مثل ذلك المثال ، فيكون معنى قولنا : لا تصلّ الحائض ، انّ الصلاة الحاصلة
في حال الحيض منهيّ عنها ، فيكون المنهيّ عنه لنفسه منحصرا في مثل المثالين
المتقدّمين . لأنّا نقول : إنّ الحيض من مشخّصات الموضوع لا المحمول ، وما ذكر في التأييد من جعل القيود من متعلّقات المادة ،
ممنوع.
سلّمنا عدم كونه
قيدا للموضوع لم لا يكون من قيود الحكم والنسبة الحكميّة .
فإن سلّمنا كون
القضية عرفيّة عامّة بأن يكون المراد : الحائض منهيّة عن الصلاة ما دامت حائضا
، فليس معناها أنّها منهيّة عن الصلاة الكائنة في حال
__________________
الحيض ، بل المراد
أنّها منهيّة في حال الحيض عن الصلاة.
والحاصل ، أنّ
المنهيّ عنه لنفسه إنّما هو بعد ملاحظة حال المكلّف لا مطلقا ، فالطاهر مكلّف
بالصلاة ، والحائض منهيّة عنها.
وأمّا ما وقع
النّهي عنه مع قطع النظر عن ملاحظة حال المكلّف أيضا كالإمساك ثلاثة أيّام فيما هو
في صورة العبادة ، والزّنا والقمار فيما هو في صورة المعاملة ، فهو خارج عن محلّ
النزاع كما ذكرنا.
وأمّا المعاملة
المنهيّ عنها لنفسها ، فمثل نكاح الخامسة لمن عنده أربع ، وبيع العبد والسفيه ،
ونحو ذلك ، ويظهر وجهه ممّا تقدم في صلاة الحائض.
وأمّا المنهيّ عنه
لجزئه فكالنهي عن قراءة العزائم في الصلاة ، وكبيع الغاصب مع جهل المشتري على
القول بأنّ البيع هو نفس الإيجاب والقبول الناقلين للملك.
وأمّا على القول
الآخر فالأمثلة كثيرة واضحة.
والنّهي عن الجزء
أيضا يحتمل أن يكون لنفسه أو لجزئه أو لشرطه ، الى آخر الاحتمالات ، ويظهر حكمها
بملاحظة أحكام أصل الأقسام ، وكذلك الشّرط.
وأمّا المنهيّ عنه
لشرطه ، فإمّا بأن يكون لفقدان الشرط كالصلاة بلا طهارة وبيع الملاقيح ، فإنّ القدرة على التسليم حال البيع شرطه ، وهو مفقود
فيه.
__________________
أو لكون الشّرط
منهيّا عنه لوصفه اللّازم أو المفارق أو غير ذلك من الاحتمالات مثل كون السّاتر
غصبا في الصلاة ، والوضوء بالماء المتغيّر للصلاة ، وكالنهي عن الذّبح بغير الحديد
في غير الضّرورة.
وأمّا المنهيّ عنه
لوصفه الدّاخل ـ ويقال له الوصف اللّازم ـ كالجهر والإخفات للقراءة ، فإنّها لا
تنفكّ عن أحدهما ، فالنّهي عن كلّ منهما نهي عن الوصف اللّازم ، والنّهي عن صوم
يوم النّحر ، فكون الصوم في يوم النّحر من أوصافه اللّازمة ، وكبيع الحصاة وهو أن يقول : بعتك ثوبا من هذه الأثواب ، والمبيع ما وقع
عليه هذه الحصاة إذا رميت ، فإنّ النّهي عن ذلك البيع ، لوصفه الذي هو كون تعيين
المبيع فيه بهذا النّهج ، وكالنّهي عن ذبح الذمّي ، وكالبيع المشتمل على الرّبا .
وأمّا المنهيّ عنه
لوصفه الخارج ؛ فهو مثل قوله : لا تصلّ في الدّار المغصوبة ، فإنّ كون الصلاة في
الدّار الغصبيّة وصف خارج عن حقيقة الصلاة وليس من مقوّماتها ومميّزاتها.
نعم ، كونها في
هذه الدّار من أحد مقوّماتها كالدّار الأخرى والمكان الآخر ، لكن اعتبار وصف كونها
دار الغير وكونها غصبا ، لا مدخليّة له في ذلك.
والظاهر أنّ قوله
: لا تصلّ متكتّفا ، أيضا مثل ذلك إذا لم يعلم قبل النّهي اعتبار هذا النوع من
الوصف في الصلاة من الشارع وجودا ولا عدما ، فهو نهي عن وصف خارج
__________________
أيضا ، وكالنّهي
عن ذبح مال الغير ، وبيع العنب ليعمل خمرا ، وبيع تلقّي الرّكبان .
وأمّا المنهيّ عنه
لشيء مفارق اتّحد معه في الوجود ، فكقول الشّارع : صلّ ولا تغصب ، والنّهي عن
المكالمة مع الأجنبية وإجراء صيغة البيع معها على القول بكون المعاطاة بيعا ،
وكالبيع وقت النداء إن قلنا بأنّ النّهي إنّما هو عن تفويت الجمعة وإلّا فهو من
القسم الأوّل.
وأما المنهيّ عنه
لشيء مفارق غير متّحد معه في الوجود فكالنهي عن النظر الى الأجنبيّة حال الصلاة أو
البيع ، وهذان القسمان خارجان عن محلّ النزاع في هذه المسألة ، وذكرناهما تطفّلا ،
وقد تقدّم الكلام في الأوّل منهما مستقصى ، وكلام القوم في تفصيل الأقسام والأمثلة
مغشوشة مختلطة أعرضنا عن ذكره والكلام فيه ، وإنّما استوفيناها لذلك ، وإلّا فلا
يتفاوت الحال بين تلك الأقسام في أكثر الأقوال الآتية .
الرابعة :
اختلف الفقهاء والمتكلّمون في معنى
الصحّة والفساد في العبادات ، فعند المتكلّمين هو موافقة الامتثال للشريعة ، وعند الفقهاء إسقاط القضاء ،
وذكروا في ثمرة النزاع ما لو نذر أن يعطي من صلّى صلاة صحيحة درهما ، فهل يبرّ بأن
أعطى من صلّى بظنّ الطهارة إذا ظهر له كونه فاقدا لها في نفس الأمر؟
فعلى الأوّل : نعم
، لأنّه موافق للشريعة ومطابق للامتثال بما أمر به الشارع في هذا الحال.
__________________
وعلى الثاني : لا
، لأنّه غير مسقط للقضاء ، فلو علم به بعد الصلاة يجب عليه القضاء.
وما يقال : إنّه مسقط للقضاء بالنسبة الى هذا الأمر ـ أعني الأمر
بالصلاة المظنون الطهارة ، وأنّ الذي لا يسقط قضاؤه هو الصلاة مع يقين الطهارة ـ فيمكن
دفعه : بأنّ المراد إسقاط القضاء بالنسبة الى كلّيّ التكليف المحتمل وقوعه على
وجوه متعدّدة ، بعضها مقدّم على بعض بحسب التمكّن والعجز ، وظنّ الطهارة ويقينها
لا يؤثّران في وحدة صلاة الظهر بحسب النوع.
وقد يجاب : إنّ ذلك الاعتراض مبنيّ على كون القضاء تابعا للأداء ،
وهو باطل.
وفيه ما لا يخفى ،
إذ لا يمكن ثبوت القضاء لهذه الصلاة الواقعة بظنّ الطهارة بالفرض الجديد أيضا على
المعنى المصطلح ، إلّا مع فوت هذه الصلاة أيضا ، فهي مسقطة للقضاء على القولين .
والظاهر أنّ مراد
الفقهاء إسقاط القضاء يقينا وفي نفس الأمر ، وإلّا فالصلاة بظنّ الطهارة أيضا
مسقطة للقضاء ظنّا ، فلا بدّ على مذهبهم إمّا القول باختلاف وصف الفعل بالصحّة ،
وبالفساد باعتبار زمان ظهور الخلاف وعدمه ، فيصحّ في آن دون آن يجعله مراعى ، فلا
يوصف بالصحّة فيما لو ظنّ الطهارة ، إلّا إذا حصل اليقين ، أو بكونه
__________________
صحيحا ويحكم عليه
بالصحّة الى أن ينكشف الفساد فيحكم بالفساد ، من أوّل الأمر.
وكلامهم في ذلك
غير محرّر ، ولعلّ مرادهم هو الاحتمال الأخير .
ومراد المتكلّمين
من موافقة الشريعة هو الموافقة ولو ظنّا ، وإلّا فالتكليف في نفس الأمر إنّما هو
بالصلاة مع الوضوء الثابت في نفس الأمر ، وإنّما قام الظنّ بكون هذه الصلاة هي
الصلاة مع الطهارة الثابتة في نفس الأمر مقام اليقين به بتجويز الشارع ، فلا
منافاة بين موافقة الشريعة وثبوت القضاء مع كون القضاء إنّما يتحقّق بفوات الأداء
، لأنّ المكلّف يجوز له التعبّد بالظنّ ما دام غير متمكّن عن اليقين.
وعلى هذا ، فلا
بدّ أن يكون مراد الفقهاء من القضاء هو الأعمّ من الإعادة ، فإنّ الإعادة واجبة
على من حصل له العلم بعدم الوضوء بعد الصلاة في الوقت أيضا ، بل بطريق أولى. فما
أسقط القضاء في تعريفهم ، كناية عن عدم اختلال المأمور به بحيث يوجب فعله ثانيا لو
ثبت في الشريعة وجوب فعله ثانيا ، إمّا من جهة عدم حصول الامتثال ، فيجب إعادته
مطلقا إن قلنا بكون القضاء تابعا للأداء أو ثبت بأمر جديد بالفعل خارج الوقت أيضا
، وفي الوقت فقط إن لم يكن كذلك.
وإمّا من جهة أمر
جديد وإن حصل الامتثال ظاهرا. أو المراد من قولهم : ما أسقط القضاء ، هو ما أسقط
القضاء إن فرض له قضاء ، فلا يرد النقض في عكس التعريف بصلاة العيد الصحيحة إن
أريد بما أسقط القضاء في الحدّ هو ما ثبت له قضاء في الشريعة ، ولا في طرده
بفاسدته إن أريد بما أسقط القضاء ما ثبت معه القضاء وإن كان من جهة عدم مشروعيّته
القضاء.
وأمّا في العقود والإيقاعات ، فهي عبارة عن ترتّب الأثر الشرعي عليها ، كتملّك
__________________
العين في البيع
وجواز التزويج بآخر في الطلاق ، ونحو ذلك ، وقد يعرف مطلق الصحّة بذلك ولا بأس به ، وحينئذ فلا بدّ من بيان المراد من الأثر في
العبادات عند الفقهاء وعند المتكلّمين بأنّه حصول الامتثال أو سقوط القضاء.
وأمّا البطلان ،
فهو مقابل الصحّة ويعلم تعريفه بالمقايسة ، وهو مرادف للفساد ، خلافا للحنفيّة حيث
يجعلون الفساد عبارة عمّا كان مشروعا بأصله دون وصفه ؛ كالبيع الرّبوي ، فيصحّحونه
مع إسقاط الزيادة.
والبطلان عبارة
عمّا لم يكن مشروعا بأصله ووصفه كبيع الملاقيح ، ومثّلوا للباطل بالصلاة في الدّار
المغصوبة ، وللفاسد بصوم العيد ، ووجهه غير معلوم إلّا أنّه لا مشاحّة في الاصطلاح
وإن كان بناؤهم على تغيير الاصطلاح.
إذا تمهّد ذلك ، فنقول : الأقوال
في المسألة خمسة
الأوّل : الدلالة
على الفساد مطلقا .
والثاني : عدمها
مطلقا ، نقله فخر الدّين عن أكثر أصحابه ، [والأوّل عن بعضهم] وهو مذهب جمهور الشافعيّة والحنابلة .
__________________
والثالث : الدلالة
في العبادات لا في المعاملات مطلقا ، وهو مذهب أكثر أصحابنا وبعض العامّة .
الرابع : الدلالة
فيها شرعا لا لغة ، وهو مذهب السيّد رحمهالله وابن الحاجب.
والخامس : الدلالة
في العبادات شرعا لا لغة ، وقد نسبه بعض الأصحاب الى أكثرهم ، والأقرب القول الثالث.
لنا على دلالته على الفساد في العبادات
: أنّ المنهيّ عنه ليس بمأمور به فيكون فاسدا ، إذ الصحّة في العبادات هو موافقة الأمر ، ولا يمكن ذلك إلّا
مع الامتثال ، وإذ لا أمر فلا امتثال.
فإن قلت : إنّ هذا
إنّما يتمّ لو لم يكن أمر أصلا ، ولكنّ الأمر موجود وهو الأمر بالعامّ فيكفي
موافقة العمومات ، فالصلاة في الدّار المغصوبة وإن لم يكن مأمورا بها بالخصوص
لكنّها مأمور بها بالعموم ، فثبت الصحة وهو موافقة الأمر ، بل وإسقاط القضاء أيضا
، لأنّ القضاء المصطلح لا يتحقّق إلّا مع فوات المأمور به كما مرّ الإشارة في مبحث
دلالة الأمر على الإجزاء ، فلا مانع من كونها مأمورا بها ومنهيّا عنها من جهتين
كما أشرنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي.
__________________
قلت : نعم ، لا
يستحيل العقل ذلك ولا مانع أن يقول الشارع : صلّ ، و : لا تصل في الدّار المغصوبة
، ولكن لو صلّيت فيها لعاقبتك على إيقاعها فيها ، ولكنّك أتيت بمطلوبي ، ولا يدلّ
اللّغة أيضا على خلافه ، ولم يثبت اصطلاح من الشارع فيه أيضا ، ولكنّ المتبادر في
العرف من مثل ذلك التخصيص ، بمعنى أنّ هذا الفرد من العامّ خارج عن المطلوب ،
والعرف إنّما هو المحكم لا إنّ المنهيّ عنه محض الصّفة دون الموصوف كما يقول
الحنفيّة.
هذا في غير
المنهيّ عنه لنفسه ، وأمّا هو فالتخصيص فيه أظهر وأوضح ، لأنّ التخصيص فيه
بالنسبة الى المكلّفين لا التكليف ، كما أشرنا .
وأمّا النقض
بالمعاملات ، بأنّ التجارة أيضا قد تكون واجبة وقد تكون مستحبّة ، ولا
أقلّ من الإباحة ، ولا ريب في تضادّ الأحكام ، فلا بدّ فيه من التخصيص أيضا.
ففيه : أنّ منافاة
الوجوب والاستحباب للتحريم لا تنافي صحّة المعاملات بمعنى ترتّب الأثر ، فالتجارة
بالنسبة الى الوجوب والاستحباب من العبادات أو بطلانها من هذه الحيثيّة ، بمعنى
عدم الثواب أو حصول العقاب لا ينافي صحّتها من جهة ترتّب الأثر ،
وكذلك الكلام في الإباحة ، فإنّ منافاة التحريم معها لا تنافي ترتّب
__________________
الأثر عليها ،
وسيجيء تمام الكلام.
وأمّا عدم الدلالة على الفساد في
المعاملات فلأنّ مدلول النّهي إنّما هو التحريم ، وهو لا ينافي الصحّة بمعنى ترتّب الأثر كما لا يخفى ، فيصحّ
أن يقال : لا تبع بيع التلقّي ، ولا بيع الملاقيح ، ونحو ذلك ، ولكنّك لو بعت لعصيت ،
ولكن يصير الثّمن ملكا لك والمثمن ملكا للمشتري.
وما يقال : من أنّ
التصريح بذلك قرينة للمجاز ، وأنّ الظاهر عن النّهي ليس بمراد.
ففيه : أنّ
القرينة دافعة للمعنى الظاهر من اللّفظ ومناقضة له كما في (يرمي) بالنّسبة الى
الأسد ، ولا مناقضة هنا ولا مدافعة كما لا يخفى ، فلم يدلّ على الفساد عقلا ولم
يثبت دلالته من جانب الشرع أيضا كما سيجيء.
وأمّا اللّغة والعرف فكذلك أيضا ، لعدم دلالته على الفساد بأحد من الدلالات.أمّا
الأوّلان فظاهر ، وأمّا الالتزام فلعدم اللّزوم.
وقد يفصّل
: بأنّ ما كان مقتضى الصحّة فيه من المعاملات منحصرا فيما
__________________
يناقض التحريم ،
فيدلّ على الفساد فيه دون غيره.
وتوضيحه : أنّ
المعاملات ممّا لم يخترعه الشارع ، بل كانت ثابتة قبل الشرع ، فما جوّزه الشارع
وقرّره وأمضاه فيترتّب عليه الآثار الشرعية ، سواء كان ذلك الأثر أيضا ثابتا قبل
الشّرع أو وضعه الشّارع ، وما لم يجوّزه ، فلا يترتّب عليه الآثار الشرعية ، فإن
كان تجويزه بلفظ يناقض التحريم ، مثل الحليّة والإباحة والوجوب ونحو ذلك كما في : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، و : (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) ، المستثنى عن النّهي عن أكل المال بالباطل و : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ونحوها. فالنّهي في أمثال ذلك يدلّ على الفساد ، لأنّ
النّهي يدلّ على الحرمة ، فإذا كان بيع مخصوص حراما ، أو عقد مخصوص كذلك ، فلا
يكون ذلك من جملة ما أحلّ الله ولا ممّا يجب الوفاء به لامتناع اجتماع الحرمة
والحلّيّة ، والحرمة والوجوب ، فيخصّص عموم : أحلّ ، وأوفوا مثلا بذلك ، فيخرج
عمّا يثبت له مقتضى الصحّة ، فيصير فاسدا من جهة رجوعه الى الأصل وهو عدم الدّليل
على الصحّة ، وقد مرّ في المقدّمات أنّ عدم الدّليل على الصحّة هو الدليل على
الفساد ، وما كان من جهة اخرى لا تناقض التحريم فلا يدلّ كما في قوله عليهالسلام : «إذا التقى الختانان
__________________
وجب المهر» . فلا ينافي وجوب المهر للحرمة في حال الحيض ونحو ذلك.
وهذا إنّما يتمّ
بناء على ما سلّمناه وحقّقناه من التنافي عرفا وانفهام التخصيص وإلّا فلا منافاة
ولا استحالة في اعتبار الجهتين في غير ما كان المنهيّ عنه نفس المعاملة بعين ما
مرّ.
ويشكل بأنّ انحصار
المقتضي في البيع في مثل : (وَأَحَلَّ اللهُ) ونحوه ، ممنوع ، لم لا يكون المقتضي فيه مثل قوله عليهالسلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» . وكذلك سائر العقود ، ولا يمكن التمسّك بأصالة تأخّر ذلك
إذ الأصل في كلّ حادث التأخّر.
فإن قلت : لمّا
كان الأصل في المعاملات الفساد ، كما مرّ في المقدّمات ، فهو يعاضد كون المقتضي
ممّا يوجب الفساد ، لأنّ غاية الأمر تعارض الاحتمالين وتساقطهما.
قلت : لا تعارض
بينهما ولا تناقض حتّى يوجب الترجيح ، والأصل إعمال الدليلين مع الإمكان ، فيخصّص
النّهي عموم : (وَأَحَلَ) ، ويبقى مدلول قوله : «البيّعان
بالخيار» بحاله مستلزما للّزوم بعد الافتراق وإن كان حراما ، وقلّما كان عقد من
العقود يخلو عن مثل ذلك.
ثمّ إنّ ذلك
المفصّل جعل ذلك عذرا للفقهاء ، حيث يستدلّون بالنّهي على الفساد في البيوع
والأنكحة ردّا على من ادّعى إجماع العلماء على دلالة النهي على
__________________
الفساد ، حيث
يستدلّون في جميع الأعصار والأمصار بالنهي على الفساد .
وقال : إنّ ذلك
الاستدلال إنّما هو في الموضع المذكور ، لا في كلّ موضع ، وأنت خبير بأنّ أكثر تلك
الاستدلالات في البيع والنكاح ونحوهما ، وقد عرفت الحال. والتحقيق أنّ النّهي لا
يدلّ على الفساد فيها مطلقا ، ويحتاج ثبوت الفساد الى دليل من خارج ، من إجماع أو
نصّ أو غير ذلك من القرائن الخارجيّة.
حجّة القول بالدلالة مطلقا في العبادات
والمعاملات
:
أنّ العلماء كانوا يستدلّون به على الفساد في جميع الأعصار والأمصار من غير نكير.
وردّ : بأنّه
إنّما يدلّ على الفساد شرعا.
والحقّ في الجواب
: إنّ عمل العلماء ليس بحجّة إلّا أن يكون إجماعا وهو غير معلوم ، وإنّ الأمر يقتضي الصحّة والإجزاء ،
والنّهي نقيضه ، والنّقيضان مقتضاهما نقيضان ، فالنّهي يقتضي الفساد الذي هو نقيض
الصحّة.
وفيه مع عدم
جريانه فيما ليس مقتضاها الأمر ، وأنّ أصل المقايسة باطلة ، لأنّ الأمر يقتضي الصحّة لأجل موافقته والامتثال به ،
والفساد المستفاد
__________________
من النّهي لو سلّم
، فإنّما هو لأجل مخالفته ، وتسليم التناقض أو حمل التناقض في الاستدلال على مطلق التقابل ، إنّما تمنع كون مقتضى المتناقضين متناقضين أو متقابلين إذ قد يشتركان
في لازم واحد .
سلّمنا ، لكن نقيض
قولنا : يقتضي الصحّة ، لا يقتضي الصحّة ، لا انّه يقتضي عدم الصحّة ، والذي يستلزم الفساد هو
الثاني ومقتضى الدّليل هو الأوّل .
حجّة القول بالدلالة مطلقا شرعا فقط
: استدلال العلماء كما مرّ ، ومرّ جوابه ، مع أنّ ذلك لا يستلزم كونه من جهة الشرع ، فلا وجه
للتخصيص ، وإدّعاء الحقيقة الشرعية في الفساد كما يظهر من بعضهم أيضا في معرض
المنع.
__________________
احتجّوا أيضا :
بأنّه لو لم يفسد ، لزم من نفيه حكمة يدلّ عليها النّهي ، ومن ثبوته حكمة يدلّ
عليها الصحّة ، واللّازم باطل لأنّ الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا
، وكان الفعل وعدمه متساويين فيمتنع النّهي عنه لخلوّه عن الحكمة ، وإن كانت حكمة
النّهي مرجوحة فهو أولى بالامتناع ، لأنّه مفوّت للزائد من مصلحة الصحّة ، وهو
مصلحة خالصة إذ لا معارض لها من جانب الفساد كما هو المفروض ، وإن كانت راجحة ،
فالصحّة ممتنعة لخلوّها عن المصلحة ، بل لفوات قدر الرّجحان من مصلحة النّهي ، وهو
مصلحة خالصة لا يعارضها شيء من مصلحة الصحّة.
وجوابه : أنّ كون
مصلحة أصل النّهي راجحة لا يقتضي مرجوحيّة ترتّب الأثر بالنسبة الى عدمه ، فترك
الفعل أوّلا راجح على فعله ، أمّا لو فعل وعصى ، فترتّب الأثر عليه راجح على عدمه
، ولا منافاة بينهما أصلا ، إذ رجحان النّهي إنّما هو على الفعل ، ورجحان الترتّب
إنّما هو على عدم الترتّب ، وهاتان المصلحتان ثابتتان للنهي ، وترتّب الأثر بالذّات لا انّه يعرض مصلحة
الترتّب بعد اختيار الفعل كما توهّم المدقّق الشيرازي.
وقد يستدلّ : بما ورد في بعض الأخبار ، من صحّة عقد المملوك إذا كان بغير إذن مولاه ثمّ رضي به
، معلّلا بأنّه لم يعص الله تعالى ، بل عصى سيّده ، فإنّه يدلّ على أنّه إذا كان
فيه معصية بالنسبة إليه تعالى وكان منهيّا عنه ، فيكون فاسدا.
__________________
وفيه : أنّه على
خلاف المطلوب أدلّ ، فإنّ المراد من المعصية في الرّواية لا بدّ أن يكون هو مجرّد
عدم الإذن والرّخصة من الشّارع ، وإلّا فمخالفة السيّد أيضا معصية.
والحاصل ، أنّه
لمّا كان في مثل هذا العقد إذن من الله تعالى من جهة العمومات وغيرها ممّا يدلّ
على صحّة الفضولي بعد الإجازة ، فيصحّ ، وعدم إذن السيّد غير مضرّ.
وبالجملة ، المراد
أن ليس العقد خاليا عن مقتضى الصحّة وإن كان معلّقا على إذن المولى أيضا.
واحتجّوا على عدم الدّلالة لغة : بأنّ فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه ، ولا دلالة للنّهي
على ذلك بوجه ، وهو مسلّم في المعاملات على ما حقّقناه ، وأمّا في العبادات فقد
بيّناه ، ويشكل الجمع بين هذا الاحتجاج والاحتجاج السّابق ، لأنّ مقتضاه كون الفساد من مقتضيات التحريم ، وهو مدلول
النّهي اللّغوي ، فكيف ينكر دلالته عليه لغة ، إلّا أن يكون مراد المستدلّ نفي
الدّلالة اللّفظية ، والذي اقتضاه التحريم إنّما هو من باب الاستلزام العقليّ ، أو
أنّه مبنيّ على القول بكون دلالة النّهي على التحريم أيضا شرعيّا فقط.
حجّة القول بعدم الدّلالة مطلقا : هو
عدم استحالة النّهي ، ثمّ التصريح بالصحة كما مرّ. ويظهر الجواب ممّا مرّ.
وأمّا القول
الخامس فلم نقف له على حجّة يعتدّ بها ، ويمكن استنباط دليله والجواب عنه ممّا
تقدّم .
__________________
تذنيبات
الأوّل :
أنّهم اختلفوا في المنهيّ عنه لوصفه ،
فذهب أبو حنيفة الى أنّه يرجع الى الوصف لا الموصوف ، فصوم يوم النّحر حسن لأنّه
صوم ، وقبيح لأنّه في يوم النّحر.
ويلزمه القول
بحلّيّة البيع الرّبوي والمبيع به بعد إسقاط الزّيادة.
والشافعيّ وأكثر
المحقّقين على أنّه يرجع الى الموصوف أيضا ، وهو الحقّ بناء على ما حقّقناه من فهم
العرف في التخصيص ، وإن كان العقل لا يحكم به.
ومناط من أرجع
الكراهة الى الوصف في المناهي التنزيهية دون التحريميّة ، لعلّه هو ادّعاء
الاستقراء ، وقد عرفت بطلانه .
الثاني :
المنهيّ عنه لشرطه إن كان من جهة فقدان الشرط ، فليس الفساد فيه من جهة النّهي
، بل إنّما هو لأنّ فقدان الشرط يستلزم انتفاء المشروط.
وإن كان باعتبار
حزازة في الشرط ، بأن يكون منهيّا عنه لوصفه أو لجزئه أو نحو ذلك ، فلا يتمّ الحكم
بالفساد أيضا مطلقا.
وإن قلنا :
بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، ويكون النهي دالّا على الفساد في الجملة أيضا ، إذ
قد يكون الشّرط من قبيل المعاملات ويكون وجوبه توصّليا ، كغسل الثوب والبدن ونحو
ذلك ، ولا يضرّه كونه منهيّا عنه.
__________________
نعم إنّما يصحّ
فيما كان من قبيل العبادات كالوضوء.
وممّا ذكرنا في
مسألة اجتماع الأمر والنهي يظهر أنّ هذا الإشكال يجري في المنهيّ عنه لجزئه أيضا
في الجملة ، فراجع وتأمّل.
الثالث :
أفرط أبو حنيفة وصاحباه
فقالا : بدلالة النّهي على الصحة ، وهو في غاية الظهور من البطلان ،
لأنّ النّهي حقيقة في التحريم ، وليس ذلك عين الصّحة ولا مستلزما لها بوجه من
الوجوه. والظاهر أنّهم أيضا لم يريدوا أنّ النهي يدلّ على الصحّة ، بل مرادهم أنّ
النهي يستلزم إطلاق الإسم.
فقول الشارع : لا
تصم يوم النّحر ، وللحائض : تصلّي ، يستلزم إطلاق الصوم على ذلك الصوم ، وكذلك
الصلاة. والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وذلك مبنيّ على كون العبادات وما في معناها
من المعاملات التي ثبت لها حدود وشرائط من الشارع أسامي للصحيحة منها ، فلو لم يكن
مورد النّهي صحيحا لم يصدق تعلّق النّهي على أمر شرعي ، فيكون المنهيّ عنه مثل
الإمساك والدعاء ونحو ذلك ، وهو باطل ، إذ نحن نجزم بأنّ المنهيّ عنه أمر شرعي.
وفيه : أوّلا منع
كونها أسامي للصحيحة.
سلّمنا ، لكن
المنهيّ عنه ليس الصلاة المقيّدة بكونها صلاة الحائض مثلا ، بل
__________________
المراد أنّ الحائض
منهيّ عن مطلق الصلاة الصحيحة.
فإن قالوا : إنّ
الحائض إمّا تتمكّن من الصلاة الجامعة للشرائط أو لا. والثاني باطل لاستلزامه طلب
غير المقدور ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، واستمرار العدم مع عدم القدرة على الإيجاد
لا يجدي في مقدوريّتها فتعيّن الأوّل ، والنّهي لا يدلّ على الفساد ، فهي باقية
على صحّتها.
قلنا : نختار
الأوّل ونقول : إنّها متمكّنة عن الصلاة الصحيحة الشرعية في الجملة وإن لم تكن
صحيحة بالنسبة الى خصوص الحائض ، ولا ريب أنّ الصلاة الجامعة للشرائط غير عدم
كونها فى أيام الحيض ، صحيحة بالنظر الى سائر المكلّفين ، وبالنظر إليها قبل تلك
الأيّام وعدم تمكّنها من الصلاة الصحيحة بالنسبة الى نفسها ، وامتناعها عنها إنّما
هو بهذا المنع ، والنهي وطلب ترك الممتنع بهذا المنع لا مانع منه ، مع أنّ قاعدتهم
منقوضة بصلاة الحائض ونكاح المحارم اتّفاقا ، وتخصيص الدّليل القطعي ممّا لا
يجوز ، وحمل المناهي الواردة عن صلاة الحائض على المنع اللّغويّ غلط لاستحباب
الدّعاء لها بالاتّفاق ، وكذلك حمل النكاح على مجرّد الدخول ، ارتكاب خلاف ظاهر لا
دليل عليه ، والله الهادي.
__________________
الباب الثاني
في المحكم والمتشابه والمنطوق والمفهوم
وفيه مقصدان :
الأوّل :
في المحكم والمتشابه
قال العلّامة رحمهالله في «التهذيب» : اللّفظ المفيد إن لم يحتمل غير معناه فهو : النصّ ، وهو
الرّاجح المانع عن النقيض.
وإن احتمل وكان
راجحا فهو : الظّاهر.
والمشترك بينهما وهو مطلق الرّجحان : المحكم.
وإن تساويا فهو :
المجمل.
ومرجوح الظّاهر :
المأوّل.
والمشترك بينه
وبين المجمل وهو نفي الرّجحان : المتشابه.
وفسّر الشارح
العميدي المفيد بالدّال على المعنى بالوضع ، وزاد قيدا آخر وهو أن الاحتمال وعدم
الاحتمال إنّما هو بالنظر الى اللّغة التي وقع بها التخاطب ، قال : وإنّما قيّدنا
بذلك لأنّ اللّفظ قد يكون نصّا بالنظر الى لغة لعدم احتمال إرادة غير معناه بحسب
تلك اللّغة ، ومجملا بالقياس الى لغة أخرى. ومثّل للظاهر بلفظ الأسد
__________________
وللمجمل بلفظ
القرء ، ولم يمثّل للنصّ.
وقال شيخنا
البهائي رحمهالله في «زبدته» : اللّفظ إن لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة فهو نصّ ، وإلّا
فالرّاجح ظاهر ، والمرجوح مأوّل ، والمساوي مجمل ، والمشترك بين الأوّلين محكم ،
وبين الأخيرين متشابه.
ومثّل الشارح الجواد
رحمهالله للنصّ بالسّماء والأرض ، وللظّاهر في أواخر الكتاب بالأسد
والغائط ، والصلاة بالنسبة الى اللّغة والعرف والشرع على الترتيب.
وقال شيخنا
البهائي في «الحاشية» على قوله : لغة : أي بحسب متفاهم اللّغة ، نحو : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).
فقوله : لغة ، قيد
لقوله : لم يحتمل ، ويجوز أن يكون قيدا للفعلين معا . أمّا جعله قيدا للأخير ـ أعني ـ يفهم دون الأوّل فلا ،
لقيام الاحتمال العقلي في أكثر النصوص ، انتهى.
ثم مثّل في
الحاشية أيضا للظاهر والمأوّل بقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ). فحملها على المسح ظاهر ، وعلى الغسل الخفيف ، كما فعله في
__________________
الكشّاف مأوّل.
وظاهر كلام
العميدي تخصيص هذا التقسيم بالدّال بالوضع لغة ، فلا يشمل المجازات ، وكلام غيره
أعمّ ، وهو أقرب ، لأنّ المجازات أيضا تنقسم الى هذه الأقسام ، فإنّ القرائن قد
تفيد القطع بالمراد وقد لا تفيد إلّا الظنّ ، وقد يكون مجملا.
ثمّ إنّ كلام
القوم هنا لا يخلو عن إجمال ، فإنّ الفرق بين السماء والأرض والأسد بجعل الأوّلين
نصا والثالث ظاهرا ، تحكّم بحت ، إذ احتمال التجوّز هو الدّاعي الى ظنّيّة
الدّلالة وكون اللّفظ ظاهرا ، وهو قائم في السماء والأرض كما لا يخفى ، إذ ليس هذا
التقسيم بالنظر الى الوضع الأفرادي ، فإنّ القطع فيه وعدم القطع ، إنّما هو من جهة ثبوت
اللّغة بالتواتر والآحاد ، وبعد الثّبوت ، فالتقسيم إنّما هو بالنظر الى الوضع
التركيبي وفي إفادة المراد من اللّفظ في الكلام المؤلّف كما لا يخفى ، فكما يجوز
احتمال المجاز في إطلاق الأسد في قولك : رأيت أسدا بإرادة الرّجل الشجاع وينفى
بأصالة الحقيقة ، فكذلك يجوز في قولك : انظر الى السماء وانظر الى الأرض ، بإرادة
مطلق الفوق والتّحت كما لا يخفى. فالتمثيل بالسّماء والأرض كما وقع من الشارح
الجواد ليس في محلّه ، ولعلّه غفل عن مراد شيخنا البهائي بتمثيله بقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) والفرق واضح .
__________________
وتحقيق المقام :
أنّ هذا التقسيم لا بدّ أن يعتبر بالنسبة الى دلالة اللّفظ مطلقا. حقيقة كان أو
مجازا ، ولا بدّ أن يناط القطع في الإرادة والظنّ بها بالقرائن الخارجية ، فإنّ
دلالة اللّفظ على ما وضع له حقيقة موقوفة على عدم القرينة على إرادة المجاز ، فإن
ثبت القرينة على عدم إرادة المجاز ، فنقطع بإرادة المعنى الحقيقي ، وإذا لم يكن
هناك قرينة على نفي التجوّز ، فبأصالة العدم وأصالة الحقيقة يحصل الظنّ بإرادة
الحقيقة ، فإرادة المعنى الحقيقي من اللّفظ قد يكون قطعيّا وقد يكون ظنيّا.
ولعلّ مراد شيخنا
البهائي رحمهالله أنّ السموات والأرض في هذا التأليف نصّ في المخلوقين
المعلومين بسبب قرينة المقام ، وهو أيضا محلّ تأمّل ، لاحتمال إرادة العالم العلويّ والسّفليّ وإن اشتمل على
هذين المخلوقين أيضا من باب عموم المجاز ، وإن أراد جميع الكلام ، فالتأمّل فيه
أظهر .
__________________
ثم إنّ مراده من
التقييد بقوله : لغة ، لا بدّ أن يكون هو ما قابل العقليّ لا اللّغة فقط.
ثم إن أراد بهذا
التقييد جواز الاحتمال العقلي ، بمعنى أنّ العقل يجوّز أن يراد من ذلك اللّفظ غير
المعنى الموضوع له ، مع قطع النظر عن هذا الاستعمال الخاصّ ، فهو صحيح ، ولكنّه لا
دخل له فيما نحن فيه ، إذ الكلام في الاستعمال الخاصّ.
وإن أراد تجويز
العقل بالنظر الى هذا الاستعمال الخاص مع صحّته ، فهو ليس بقطعيّ بالنظر إليه بملاحظة تلك اللّغة أيضا ،
ومع كونه غلطا فهو خارج عن مورد كلامهم أيضا ، إذ الغلط في الكلام لا يصدر عن
الحكيم الذي كلام الأصوليين على كلامه.
وإن أراد بذلك
تفاوت الظّهور ، فلا ريب أنّ مراتب الظّواهر مختلفة ، وذلك لا يجعل الأظهر نصّا
بالنسبة الى الظّاهر ، وهكذا ، ولا يحصل التغاير. فالنصّ هو ما لا يحتمل غير
المعنى عقلا أيضا بالنظر الى هذه اللّغة والاستعمال ، وهذا القطع يحصل بحسب
القرائن الخارجيّة ويتفاوت بتفاوتها.
واعلم أنّ
النصوصيّة والظهوريّة أمور إضافيّة ، فقد ترى الفقهاء يسمّون الخاصّ نصّا والعامّ
ظاهرا ، وقد يطلقون القطعيّ على الخاصّ والظنّيّ على العامّ ، مع أنّ الخاصّ أيضا
عامّ بالنسبة الى ما تحته ، مع احتمال إرادة المجاز من الخاصّ أيضا من جهة اخرى
غير التخصيص ، وكونه ظاهرا بالنسبة الى المعنى المجازي ، فلاحظ : اكرم العلماء ولا
تكرم الاشتقاقيّين ، لاحتمال إرادة البصريين من
__________________
الاشتقاقيين دون
الكوفيين ، واحتمال إرادة الصرفيين منهم لمشابهتهم في العلم.
فالمراد
بالنصوصيّة هو بالنسبة الى العام ـ يعني ـ إنّ دلالة الاشتقاقيّين عليهم قطعيّ من
حيث تصوّرهم في الجملة وإن كان بعنوان المجاز ، بخلاف دلالة العلماء عليهم ، فإنّ
دلالته عليهم إنّما هي بضميمة أصالة الحقيقة وأصالة عدم التخصيص ، وهما لا يفيدان
إلّا الظنّ.
المقصد الثاني :
في المنطوق والمفهوم
وهما وصفان
للمدلول. ويظهر من بعضهم أنّهما من صفات الدّلالة.
والأوّل أظهر ،
ولا مشاحّة في الاصطلاح.
فالمنطوق : هو ما
دلّ عليه اللّفظ في محلّ النطق.
والمفهوم : هو ما
دلّ عليه اللّفظ لا في محلّ النطق.
هكذا عرّفوهما ،
وفيه مسامحة ، فإنّ المعيار في الفرق بينهما هو كون ما له المدلول أي الموضوع في
محلّ النطق وعدمه. والمقصود من المدلول هو الحكم أو الوصف ، فلا يتمّ جعل قوله : (في
محل النطق) حالا من الموصول إلّا بارتكاب نوع من الاستخدام.
ولو جعل الموصول كناية
عن الموضوع يلزم خروجه عن المصطلح وارتكاب نوع استخدام في الضمير المجرور ، وكيف
كان ، فالأمر في ذلك سهل ، فالمهمّ بيان الفرق.
فنقول : إنّ
المنطوق هو مدلول يكون حكما من أحكام شيء مذكور أو حالا من أحواله.
والمفهوم مدلول
يكون حكما من أحكام شيء غير مذكور أو حالا من أحواله.
وأمّا نفس ذلك
المدلول فقد لا يكون مذكورا في المنطوق أيضا ، كما ستعرف والله الهادي.
__________________
قانون
المنطوق : إمّا صريح أو غير صريح.
فالأوّل : هو
المعنى المطابقيّ أو التضمّني ، ولي في كون التضمّني صريحا إشكال ، بل هو من
الدلالة العقلية التبعية ، كما مرّت الإشارة إليه في مقدّمة الواجب ، فالأولى جعله
من باب الغير الصريح.
وأمّا الغير
الصريح فهو المدلول الالتزاميّ وهو على ثلاثة أقسام :
المدلول عليه
بدلالة الاقتضاء ، والمدلول عليه بدلالة التنبيه والإيماء ، والمدلول عليه بدلالة
الإشارة ، لأنّه إمّا أن يكون الدلالة مقصودة للمتكلّم أو لا.
فأمّا الأوّل فهو
على قسمين :
الأوّل : ما
يتوقّف صدق الكلام عليه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان» . فإنّ المراد رفع المؤاخذة عنها وإلّا لكذب ، أو صحّته
عقلا كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). فلو لم يقدّر الأهل لما صحّ الكلام عقلا أو شرعا ، كقول
القائل : أعتق عبدك عنّي على ألف ، أي مملّكا لي على ألف ، إذ لا يصحّ العتق شرعا
إلّا في ملك ، وهذا يسمّى مدلولا بدلالة الاقتضاء.
واعلم أنّ الذي
يظهر من تمثيلهم بالأمثلة المذكورة ، أنّ دلالة الاقتضاء مختصّة بالمجاز في
الأعراب ، أو ما يكون قرينته العقل ولم يكن لفظيا.
فعلى هذا ، فدلالة
قولنا : رأيت أسدا يرمي ؛ على الشّجاع ونحو ذلك ، يكون من
__________________
باب المنطوق
الصّريح ، أو لا بدّ من ذكر قسم آخر ليشمل سائر المجازات.
والثاني : ما لا
يتوقّف صدق الكلام ولا صحّته عليه ، ولكنّه كان مقترنا بشيء لو لم يكن ذلك الشيء
علّة له لبعد الاقتران فيفهم منه التعليل ، فالمدلول هو علّيّة ذلك الشيء لحكم
الشارع ، مثل قوله عليهالسلام : «كفّر» بعد قول الأعرابي : هلكت وأهلكت ، واقعت أهلي في نهار
رمضان ، فيعلم من ذلك أنّ الوقاع علّة لوجوب الكفّارة عليه.
وهذا يسمّى مدلولا
بدلالة التنبيه والإيماء ، وهذا في مقابل المنصوص العلّة ، فيصير الكلام في قوّة أن يقال : إذا واقعت فكفّر.
وأمّا التعدية الى
غير الأعرابي وغير الأهل ، فإنّما يحصل بتنقيح المناط وحذف الإضافات مثل الأعرابيّة وكون المحلّ أهلا وغير ذلك.
وربّما يفرّط في
القول فيحذف الوقاعيّة ويعتبر محض إفساد الصيام ، وتمام
__________________
الكلام في ذلك
سيجيء إن شاء الله تعالى في أواخر الكتاب.
وأمّا الثاني :
فهو ما يلزم من الكلام بدون قصد المتكلّم على ظاهر المتعارف في المحاورات ، مثل
دلالة قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) مع قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) على كون أقلّ الحمل ستة أشهر ، فإنّه غير مقصود في الآيتين
، والمقصود في الأولى بيان تعب الأمّ في الحمل والفصال ، وفي الثانية بيان أكثر
مدّة الفصال.
هذه أقسام
المنطوق.
وأمّا المفهوم ؛ فإمّا أن يكون الحكم المدلول عليه بالالتزام موافقا للحكم المذكور في النفي
والاثبات ، فهو مفهوم الموافقة ، كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضّرب ، ويسمّى
بلحن الخطاب وفحوى الخطاب .
وسيجيء الكلام في
بيانه في أواخر الكتاب ، وإلّا فهو
مفهوم المخالفة ويسمّى بدليل الخطاب ، وهو أقسام :
مفهوم الشّرط
والغاية والصّفة والحصر واللّقب وغير ذلك ، وسيجيء تفصيلاتها .
__________________
ثمّ إنّ تقسيم
المنطوق والمفهوم كما ذكرنا ، هو المشهور.
وربّما يتأمّل في
الفرق بين المفهوم والمنطوق الغير الصريح فيجعل ما سوى الصريح مفهوما ، ولعلّ وجهه
كون ما له المدلول غير مذكور في بعض الأمثلة التي ذكروها للمنطوق الغير الصريح ،
فإنّ أقلّ الحمل مثلا غير مذكور في الآيتين ، فإنّه هو الموضوع لا مطلق الحمل.
وكذلك حرمة الضرب
حكم من أحكام الوالدين ، وهما مذكوران صريحا في الآية .
وقد يذبّ عن ذلك
باعتبار الحيثيّات والاعتبارات ، فإن جعل المفهوم في آية التأفيف هو الحرمة
وموضوعه هو الضرب ، فهو غير مذكور ، وإن جعل المفهوم هو حرمة الضرب والموضوع هو
الوالدين ، فهو مذكور ، وكذلك الحمل وأقلّ الحمل.
__________________
قانون
اختلف الأصوليّون في حجّية مفهوم الشرط
، ولا بدّ في تحقيق هذا الأصل من رسم مقدمات :
الأولى :
أنّ لفظ الشرط يستعمل في معان.
قال في «الصّحاح» : الشرط معروف ، وكذلك الشريطة ، والجمع شروط وشرائط ، وقد
شرط عليه كذا بشرط ويشرط واشترط عليه.
ويفهم من ذلك أنّه
أراد به مجرّد الإلزام والالتزام ولو بمثل النذر واليمين.
وعن «القاموس» : إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه.
واستعمله النّحاة
فيما تلا حرف الشّرط مطلقا أو ما علّق عليه جملة وجودا ، يعني حكم بحصول مضمونها
عند حصوله ، وقد يستعمل في العلّة.
وفي مصطلح الأصوليّين
: ما يستلزم انتفاؤه انتفاء المشروط به ولا يستلزم وجوده وجود المشروط ، فمن
مصاديق الاستعمال الأوّل النذر والعهد ونحوهما ، والشرط في ضمن العقد ، مثاله :
أنكحتك ابنتي ، وشرطت عليك أن لا تخرجها عن البلد.
__________________
ومن مصاديق الثاني
: ما عملت من خير تجزى به ، وإن كان مثقال ذرّة ، وقد تسمّيه النّحاة إن الوصليّة
، ومثل : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ، ومثل : إن كان هذا إنسانا كان حيوانا.
ومن مصاديق الثالث
: (وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).
ومن مصاديق
الرّابع : الوضوء شرط الصّلاة ، والقبض في المجلس شرط صحّة الصّرف
، وحلول الحول شرط لوجوب الزّكاة.
وأمّا العلامة فقد
جعله بعضهم من جملة إطلاقاته ، ولكنّه خلاف ما صرّح به أهل اللّغة ،
فإنّ أشراط السّاعة هي جمع شرط بالتحريك وهو العلامة ، وكذلك بعض الاستعمالات
الأخر مثل : شرط الحجّام إذا شقّ الجلد بمبضعته ولم يدم مأخوذ من المتحرّك.
الثانية :
الجملة الشرطية أيضا تستعمل في معان
كثيرة.
أحدها : ما يفيد
تعليق وجود الجزاء على وجود الشّرط فقط ، مثل قولهم : إن
__________________
كان هذا إنسانا
كان حيوانا ، وليس عدمه معلّقا على عدمه ، ومنه قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا).
وهذا الاستعمال
مبنيّ على قاعدة أهل الميزان حيث يجعلون هذا التركيب لبيان الدّليل على العلم
بانتفاء المقدّم بسبب انتفاء التالي ، ويقولون : إنّ استثناء نقيض التالي ينتج رفع
المقدّم بخلاف العكس ، يعني يعلم من انتفاء الحيوانيّة انتفاء الإنسانيّة ، ومن
انتفاء الفساد انتفاء تعدّد الآلهة.
والثاني : ما يفيد
تعليق عدم الجزاء على عدم الشرط أيضا مثل : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»
. فعدم التنجيس وجوده معلّق على وجود الكرّيّة وانتفاؤه معلّق على انتفائه ،
وهذا هو مصطلح أهل العربيّة ومتعارف لسان أهل العرب ، فظاهر هذا الاستعمال كون
الأوّل سببا للثاني ، والنظر إنّما هو الى ظاهر الحال مع قطع النظر عن نفس الأمر.
وما قيل : من أنّ الأوّل إذا كان سببا فلا يفيد انتفاؤه انتفاء
المسبّب لجواز
__________________
تعدّد الأسباب ،
بل العكس أولى بالإذعان كما يشهد به قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ).
ففيه أوّلا : أنّه
ناشئ من الخلط بين الاصطلاحين.
وقوله : بل العكس
أولى.
فيه : أنّ العكس
هو كون انتفاء الثاني علّة لانتفاء الأوّل ، ولم يقل به أحد ، بل هو علّة للعلم بانتفاء الأوّل ، فلا وجه لهذا الكلام
بظاهره.
وثانيا : أنّ
المراد انحصار السّبب في الظّاهر.
وثالثا : أنّ
الأصل عدم سبب آخر ، وإذا علم له سبب آخر فالسّبب هو أحدهما لا بعينه لا معيّنا.
ومن هذا الباب : «لو
لا عليّ لهلك عمر» ، وقول الحماسي :
ولو طار ذو حافر
قبلها
|
|
لطارت ولكنّه لم
يطر
|
فإنّ رفع المقدّم
لا ينتج رفع التالي على قاعدة أهل الميزان ، وحينئذ يبقى
__________________
الإشكال في إطلاق
الشرط على السّبب .
والظاهر أنّه لأنّ قولنا : مفهوم الشّرط حجّة ، معناه مفهوم الجملة
الشرطيّة أي ما يقول له النحاة شرطا ، وهو الواقع بعد إن وأخواته معلّقا عليه حصول
مضمون الجملة التي بعده كما هو محلّ نزاع الأصوليين ، كما يشهد به قولهم : الأمر
المعلّق بكلمة إن عدم عند عدم شرطه ، ونحو ذلك ، لا إذا كان ذلك الواقع بعد إن
وأخواته شرطا اصوليّا أيضا. فإنّ الواقع بعد هذه الحروف قد يكون شرطا وقد يكون
سببا ، فكما يجوز أن يقال : إن قبضت في المجلس يصحّ الصّرف ، يجوز أن يقال : إذا
غسلت ثوبك من البول فيطهر ، مع انّه إذا كان ذلك الواقع شرطا اصوليّا فلا معنى
لكون انتفاء الحكم بانتفائه مفهوما له ، بل هو معنى الشرط نفسه.
فالحاصل ، أنّ
حدوث تلك الهيئة يغيّره عن معناه ويصيّره سببا على الظاهر.
فقولهم : مفهوم
الشّرط حجّة ، معناه أنّ ما يفهم من تلك الجملة الشرطيّة التي يسمّونها النحاة
شرطا في محل السّكوت ، حجّة.
وبعبارة اخرى ،
تعليق الحكم على شيء بكلمة إن وأخواتها ، يفيد انتفاء الحكم بانتفاء ذلك القيد
بدلالة التزاميّة لفظية بيّنة ؛ فيكون حجّة ، سواء فهم منه الشرطيّة المصطلحة
للأصوليّين أو السّببيّة ، فلا منافاة إذن بين الشرطيّة والسّببيّة لتغاير
الموضوعين بالنظر الى الاصطلاح.
__________________
فما يقال : من أنّ قولنا : إن قبضت في المجلس يصحّ الصّرف. هو عبارة
أخرى عن قولنا : شرط صحّة الصرف القبض في المجلس. والفرق هو الاسميّة والحرفيّة
كالفرق بين من وإلى والابتداء والانتهاء إن أريد به الشرط الأصولي كما هو الظاهر ،
فلا يتمّ ، إذ قد بيّنا أنّ الظّاهر من الجملة الشرطية على تقدير الحجّية ، وفهم
انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، هو السببيّة كائنا ما كان ، فكيف يصير مساوقا
للشرط الأصولي.
فحاصل قولنا :
مفهوم الشرط حجّة ، أنّ مفهوم الجملة الشرطية سببيّته الأولى للثانية وإلّا لزم
التناقض.
وإن أريد به معنى
آخر مثل أن يقال : المراد بالشّرط هو ما علّق على انتفائه انتفاء شيء آخر وتوقّف
وجود الآخر عليه ليشمل السّبب أيضا ، وإنّ الجملة الشرطية أيضا تفيد هذا المعنى ،
فهذا وإن كان أوجه من سابقه ، لكنّه أيضا لا يتمّ ، لأنّ الجملة الشرطيّة أخصّ من
هذا ، إذ لا تفيد إلّا السّببيّة.
الثالث : ما يكون
شرطا لصدور الحكم عن القائل لا لثبوته في نفس الأمر مثل : إن نزل الثلج فالزّمان شتاء ، فإنّه قد لا ينزل الثّلج في
الشتاء.
الثالثة :
قد أشرنا أنّ محل النزاع هو الجملة
الواقعة عقيب ان وأخواتها ، فالظاهر أنّه لا فرق بين أدوات
الشّرط وما دلّ على التعليق ، صريحا أو تضمّنا ، فالأسماء
__________________
المتضمّنة معنى
الشّرط كالحروف ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً)
(أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). وموثّقة ابن بكير ناطقة بحجيّة مفهومها بالخصوص.
إذا تمهّد ذلك
فنقول : ذهب الأكثرون الى أنّ تعليق الحكم على شيء بكلمة إن وأخواتها يدلّ على
انتفاء ، الحكم عند انتفائه.
وذهب جماعة الى
العدم ، والأوّل أقرب.
__________________
لنا : إنّ
المتبادر من قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، ان لم يجئك فلا يجب عليك إكرامه. لا ،
لا تكرمه ، كما توهّم ، وهو علامة الحقيقة ، فإذا ثبت التبادر في العرف ثبت في
الشرع واللّغة لأصالة عدم النقل.
وأمّا ما قيل : معناه في العرف الشرط في : إكرامك إيّاه مجيئه إيّاك ،
فليس على ما ينبغي.
وكذا ما ذكره
العلّامة رحمهالله في «التهذيب» حيث قال : الأمر المعلّق بكلمة ان ، يعدم عند عدم الشرط
لأنّه ليس علّة لوجوده ولا مستلزما له ، فلو لم يستلزم العدم ، العدم خرج عن كونه
شرطا ، ويؤدّي مؤدّاه كلام غيره أيضا.
وهذان الكلامان
مبنيّان على الخلط بين اصطلاح النّحاة واصطلاح الأصوليّين في الشرط ، وقد عرفت أنّ
المتبادر هو السّببيّة ظاهرا وإن كان مدخول إن بالذّات شرطا مع قطع النظر عن دخول
إن ، فهذان الكلامان ناظران الى اعتبار لفظ الشرط ، والغفلة عن أنّ الشرط معناه في
الأصول هو ما ذكره لا مطلقا ، ونحن لمّا أثبتنا التبادر لهذه الهيئة التركيبيّة
فنقول : سائر الاستعمالات التي ذكرت كلّها مجازات ، لتبادر غيرها ولأنّه خير من
الاشتراك.
فما يقال : من
أنّها مستعملة في جميع هذه المعاني والاشتراك والمجاز كلاهما
__________________
خلاف الأصل ، فلا
بدّ أن يكون حقيقة في القدر المشترك ، وهو ما علّق عليه وجود المشروط ، لا وجه له
بعد وضوح الدّليل.
هذا الكلام في
الجملة الشرطيّة ، وأمّا لفظ الشرط فهو وإن كان خارجا عن محلّ النزاع ، لكن لمّا
حصل الغفلة لبعض الفحول هنا ، فخلط الاصطلاحات.
فتحقيق القول فيه
، أنّ المتبادر منه في العرف أحد من المعنيين.
أمّا ما يتوقّف
عليه وجود شيء وينتفي بعدمه أعمّ من أن يكون وجوده علّة أم لا.
وأمّا معنى
الإلزام والالتزام فلا وجه لحمله على المعنى الأصولي ، حيث ما ورد هذا.
واحتجّوا على حجّية مفهوم الشّرط أيضا : بأنّه لو لم يفد التعليق انتفاء الحكم عند انتفاء
الشّرط لكان التعليق لغوا يجب تنزيه كلام الحكيم عنه.
وفيه أوّلا : أنّ
الخروج عن اللّغويّة لا ينحصر في اعتبار هذه الفائدة ، بل يكفي مطلقها ، وأصالة
عدم الفائدة الأخرى لا تنفي احتمالها ، مع أنّ الغالب وجود الفوائد.
وثانيا : أنّ هذا
لا يناسب القول بالحجّيّة ولا يوافق القول بالدلالة اللّفظية كما هو المعهود في
هذا المقام في ألسنة القائلين بالحجّيّة ، فإنّ المعيار في أمثال هذه
المقامات إثبات الحقيقة والتشبّث بأصالة الحقيقة ، ليكون قاعدة في اللّفظ
__________________
المخصوص ولا يخرج
عن مقتضاه إلّا فيما دلّ دليل على خلافه من الخارج ، ولذلك يتمسّكون بالتبادر وفهم
أهل اللّسان ، كما يستفاد من استدلالهم ببعض الأخبار المذكورة في كتب الأصول.
وأمّا إثبات
الكليّة اللّفظيّة من جهة الدلالة العقلية ، بمعنى أنّ العقل يحكم بأنّ كلّ موضع
لم يظهر للشرط فائدة أخرى سوى ما ذكر ، فلا بدّ من حمله على إرادة ذلك ، فمع أنّ
ذلك لا اختصاص له بحجّيّة المفاهيم فضلا عن خصوص مفهوم الشرط ، ولا يقتضي تأصيل
أصل على حدة ، لحكم مفهوم الشرط أو مطلق المفهوم ، بل هو يجري في جميع المواضع ،
وإنّه إنّما يتمّ لو وجد مقام لم يحتمل فائدة اخرى توجب الخروج عن اللغوية ، وهو
ممنوع.
يرد عليه : أنّه
يؤول النزاع حينئذ بين المثبت والمنكر الى تجويز اللّغو في كلام الحكيم وعدمه لو
وجد مثل هذا الفرض ، ولا أظنّ أحدا من المنكرين يرضى بذلك ، بل الظاهر منهم أنّهم
إنّما ينكرون وجود موضع لا يحتمل فائدة أخرى وانّ ذلك إثبات اللّغة بالعقل.
__________________
وما يقال : من أنّ
الاستقراء يحكم بأنّ كلّما وجد لفظ لا يتصوّر له فائدة سوى فائدة معيّنة ، فهو
موضوع له ، فهو بمعزل عن التحقيق ، غاية الأمر استفادة كون المعنى مرادا من اللّفظ
، وأمّا كونه مدلولا بالدلالة اللّفظيّة ، فكلّا.
فإن قيل : إنّما
نحن نقول بأنّ مفهوم الشرط حجّة ، إذا لم يظهر فائدة سوى انتفاء الحكم عند انتفائه
ظهورا مساويا لها أو أزيد منها.
وبالجملة ، إذا
كان هذه أظهر الفوائد ، لا إذا لم يحتمل فائدة اخرى أيضا.
قلنا : هذا أيضا
لا يثبت الدلالة اللّفظية.
وأمّا العقليّة
الحاصلة بسبب القرائن الخارجيّة ، فالظاهر أنّ المنكر أيضا يعترف بحجّيته ، ولكنّه
لا يصير قاعدة كليّة بخصوص المقام كما هو مقتضى القواعد الأصوليّة . فالّذي يليق بقواعد الفنّ إثبات أظهريّتها من بين الفوائد
مطلقا ، لا أنّه إذا كان أظهر الفوائد في موضع يكون حجّة في ذلك الموضع.
واحتجّ النافون : بأنّ تأثير الشرط هو تعليق الحكم به ، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط
آخر ، ولا يخرج من أن يكون شرطا ، ألا ترى أنّ انضمام أحد الرجلين الى الآخر ، شرط
في قبول شهادة الآخر وقد ينوب عنه انضمام امرأتين أو اليمين ، فلا يفيد تعليق
الحكم بشرط انتفاء الحكم عند انتفائه لجواز ثبوت بدل له.
وظاهر هذا
الاستدلال تسليم فهم السببيّة كما ذكرنا ، لكن المستدلّ به يتمسّك في نفي الحجّيّة باحتمال النائب
، فلا يكفي مجرّد تعليق الحكم بالشرط في
__________________
نفي الحكم عند
انتفائه ، وأنت خبير بأنّ الاحتمال لا يضرّ بالاستدلال بالظواهر ، وإلّا لانسدّ
باب الاستدلال في الآيات والأخبار.
فنقول : فيما لم
يثبت شرط آخر ولم يعلم تحقّق سبب آخر ، الأصل عدمه.
لا يقال : هذا
ينافي ما ذكرت سابقا ، أنّ معنى حجّيّة المفهوم هو كون ذلك المعنى مدلولا للّفظ في
محلّ السكوت ، وهذا ليس من قبيل دلالة اللّفظ ، اذ لا يتمّ ذلك إلّا بانضمام أصالة
عدم تعدّد السّبب.
لأنّا نقول :
التبادر يقتضي انحصار المدلول ، ويفيد تعيّن السببيّة في الظّاهر ، وذلك الاحتمال
هو احتمال التجوّز في الكلام الذي يجري في جميع الألفاظ المستعملة في معانيها
الحقيقية ، ولا يعتنى به أبدا ، وإلّا لما كان للتمسّك بأصل الحقيقة معنى ، وهو
خلاف الإجماع ، وإن ثبت من دليل آخر وجود سبب آخر كالمثال المذكور ، فحينئذ نقول :
الشرط أو السبب أحد المذكورات كما أنّ الظّاهر من الأمر الوجوب العيني ، فإذا ورد أمران
متضادّان في محلّ واحد ، نحملهما على التخيير ، وذلك لا يوجب خروج صيغة الأمر عن
كونها حقيقة في العيني.
واحتجّوا أيضا :
بقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ، فإنّه لا يجوز الإكراه مطلقا ، فلا يصحّ التعليق لو أريد
به انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط.
__________________
وجوابه : أنّ السّالبة هنا بانتفاء الموضوع.
وما يقال : أنّ الواسطة ممكن ، فلا يستلزم نفي إرادة التحصّن إرادة
البغاء حتّى لا يمكن الإكراه ، فقد يحصل الذّهول عنهما.
فهو مدفوع :
بأنّها تنتفي عند التنبيه.
وقد يجاب أيضا : بأنّ مفهوم الشرط إنّما يكون حجّة إذا لم يظهر له
فائدة سواه وهو متحقّق هنا ، مثل تنبيه الموالي على أنّهنّ إن أردن التحصّن مع ما
بهنّ من الضعف والقصور فأنتم أولى بذلك.
ويظهر لك ما في
هذا الجواب ممّا أسلفنا لك سابقا .
ويمكن أن يقال :
إنّ الشرط هنا ورد مورد الغالب ، إذ الغالب في تحقّق الإكراه هو مع إرادة التحصّن
، فلا حجّة فيه كما سيأتي.
والأولى أن يقال :
إنّ مطلق الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة ، وبعد ثبوت الحقيقة فهذا استعمال مجازيّ
لكون المجاز خيرا من الاشتراك.
أو يقال : إنّ
اللّفظ يقتضي ذلك ، ولكنّ القرينة الخارجية مانعة ، ولو لا القرينة على عدم إرادة
المفهوم من الإجماع القاطع لعملنا على مفهومه ، فالإجماع هو
__________________
القرينة على عدم
إرادة ذلك ، وأولى المعاني التي يمكن حمل الآية عليها حينئذ هو التنبيه على علّة الحكم ، فإنّ القيد الوارد بعد النّهي
على ما ذكره بعض المحقّقين ، إمّا أن يكون للفعل مثل : لا تصلّ إذا كنت محدثا
، أو للترك مثل : لا تبالغ في الاختصار إن حاولت سهولة الفهم ، أو للعلّة مثل : لا
تشرب الخمر إن كنت مؤمنا ، وما نحن فيه من هذا القبيل.
أقول : ومن هذا
القبيل قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ) الآية.
__________________
قانون
اختلفوا في أنّ تعليق الحكم على وصف
يدلّ على انتفائه عند انتفاء الوصف أم لا
، سواء كان الوصف
صريحا مثل : أكرم كلّ رجل عالم ، أو : في السّائمة زكاة ، و : «ليّ الواجد يحلّ عقوبته» أو مقدّرا كقوله عليهالسلام : «لئن يمتلى بطن الرّجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا» ، فامتلاء البطن من الشّعر كناية عن الشّعر الكثير ،
فمفهومه أنّه لا يضرّ الشّعر القليل.
احتجّ المثبتون
: بمثل ما تقدّم في مفهوم الشرط من لزوم اللّغو في كلام الحكيم ، فلو لم يفد انتفاء الحكم عند انتفائه لعري
الوصف حينئذ عن الفائدة ، ولعدّه العقلاء مستهجنا ، مثل قولك : الإنسان الأبيض لا
يعلم الغيب ، وبأنّ أبا عبيدة الكوفي فهم من قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ليّ الواجد يحلّ عقوبته
__________________
وعرضه» ، أنّ ليّ غير الواجد لا يحلّ عرضه. وقال : إنّه يدلّ على
ذلك ، وهو من أهل اللّسان.
والجواب عن الأوّل
: يظهر ممّا سبق ، فإنّه يلزم اللّغو لو لم يحتمل فائدة اخرى ، والفوائد المحتملة
كثيرة ، مثل الاهتمام بحال المذكور مثل : (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ، او احتياج السّامع إليه أو سبق بيان غيره ، أو ليستدلّ
السّامع على المسكوت عنه فيحصل له رتبة الاجتهاد ، أو غير ذلك ممّا ذكروه .
فإن قيل : نقول
بذلك إذا كان ذلك أظهر الفوائد.
فيجاب عنه : بما
تقدّم في مفهوم الشرط .
__________________
وبالجملة ،
التعليل بلزوم العراء عن الفائدة وإخراج الكلام عن اللّغويّة لا يقتضي إلّا ثبوت
فائدة ما ، فإذا ثبت من القرينة الخارجية أظهريّة هذه الفائدة المتنازع فيها ، فلا
أظنّ المنكر متحاشيا عن القول بمقتضاه أيضا.
وما يظهر إنكاره
من بعضهم لاحتمال إرادة الغير ؛ كما يظهر نظيره من السيّد رحمهالله في مفهوم الشّرط ، حيث اكتفى في نفي الاستدلال بمجرّد
احتمال تعدّد السّبب ، فهو ضعيف لما بيّنّا. ومن هذا القبيل ، قول أبي عبد الله عليهالسلام في صحيحة الفضيل قال : قلت له عليهالسلام : ما الشرط في الحيوان. قال عليهالسلام : «ثلاثة أيّام للمشتري». قلت : وما الشرط في غير الحيوان.
قال عليهالسلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» .
وأمّا الاستهجان
فممنوع ، وما يتراءى هجنته في المثال المذكور ، فإنّما هو لكون أصل الحكم في هذا المثال من باب توضيح
الواضحات ، وكذلك ذكر الوصف هنا ، وإلّا فقد يكون فائدة الوصف مجرّد التوضيح ، بل
نقل عن الأخفش وجماعة من أئمة العرب أنّ وضع الصّفة للتوضيح فقط لا للتقييد ، وأنّ
مجيئها للتقييد خلاف الوضع ، غاية الأمر تعارض ذلك مع ما نقل من فهم أبي عبيدة
وظهور خلافه في أفهامنا أيضا ، فيتساقطان ، فيبقى عدم الدّلالة على المدّعى.
__________________
وأمّا الجواب عن
الثاني : فيظهر ممّا ذكرنا من المعارضة ، مع أنّ فهمه لعلّه كان عن اجتهاده في اللّغة وكلام
اللّغويين.
واحتجّ النافون
: بأنّه لو دلّ لدلّ بإحدى الثلاث
، وكلّها منتفية. أمّا المطابقة والتضمّن فظاهر ، وإلّا لكان منطوقا ، وأمّا
الالتزام فلعدم اللّزوم الذّهني لا عقلا ولا عرفا.
ولي في المسألة التوقّف ،وإن كان الظّاهر في النظر أنّه لا يخلو عن إشعار كما هو
المشهور ، إذ التعليق بالوصف مشعر بالعليّة ، لكن لا بحيث يعتمد عليه في الاحتجاج
إلّا أن ينضمّ إليه قرينة ، كما في صحيحة الفضيل المتقدّمة. ومن هذا القبيل القيود
الاحترازية في الحدود والرسوم. وأمّا مثل قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) ، فدلالته على عدم كفاية عتق الكافر ، ليس من جهة مفهوم
الوصف كما توهّم ، ولا من جهة مجرّد الإجماع عليه كما نقله العلّامة رحمهالله في «النهاية» ، بل لأنّ اتّحاد الموجب المطلق والمقيّد مع
كون التكليف شيئا واحدا
__________________
يوجب العمل على
المقيّد ، لأنّ العمل على المطلق ترك للمقيّد ، بخلاف العكس.
وبالجملة ، القيد
مطلوب ، فمع تركه لا يحصل الامتثال ، فعدم الامتثال بعتق الكافرة إنّما هو لعدم
صدق الامتثال بالمؤمنة التي ورد الخطاب بها مع كون المطلوب رقبة واحدة.
ثمّ إنّ هاهنا فوائد :
الأولى : أنّهم ذكروا
أنّ حجّيّة مفهوم الشرط والوصف ونحوهما إنّما هو إذا لم يكن على طبق الغالب مثل : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ). ولا يحضرني منهم كلام في بيان ذلك.
وعندي أنّ وجهه ،
أنّ النادر إنّما هو المحتاج حكمه الى التنبيه ، والأفراد الشّائعة تحضر في
الأذهان عند إطلاق اللّفظ المعرّى ، فلو حصل احتياج في الانفهام من اللّفظ فإنّما
يحصل في النادر. فالنكتة في الذكر لا بدّ أن يكون شيئا آخر لا تخصيص الحكم بالغالب
، وهو فيما نحن فيه التشبيه بالولد.
وممّا بيّنا ، ظهر
السّرّ في عدم اطّراد الحكم فيما إذا ورد مورد الغالب في غير باب المفاهيم أيضا.
ألا ترى انّا لا
نجوّز التيمّم لواجد الماء لمن منعه زحام الجمعة عن الخروج ، مع أنّ الشّارع أطلق
الحكم بالتيمّم لمن منعه زحام الجمعة عن الخروج.
وأيضا قالوا
باشتراط عدم كون المخالف أولى بالحكم مثل : (وَلا تَقْتُلُوا
__________________
أَوْلادَكُمْ
خَشْيَةَ إِمْلاقٍ). والنكتة فيه التنبيه على خطائهم في العلّة والحجّة ،
ويمكن إرجاعه الى القسم الأوّل.
وبالجملة ،
المعتبر في دلالة اللّفظ على المعنى الحقيقي هو عدم القرينة الظّاهرة على إرادة
الخلاف ، فكلّما ظهر قرينة على إرادة غيره فنحملها عليه. لا لأنّ الحجّيّة إنّما
هو إذا لم يظهر للقيد فائدة اخرى كما هو مقتضى الدّلالة العقليّة ، بل لثبوت
القرينة على الخلاف كما هو مقتضى الدّلالة اللّفظيّة.
الثانية : قد توهّم بعضهم
: أنّ فائدة المفهوم وثمرة الخلاف إنّما تظهر إذا كان المفهوم مخالفا للأصل ، مثل : ليس في الغنم المعلوفة زكاة
، أو : ليس في الغنم زكاة إذا كانت معلوفة ، أو : الى أن تسوم.
وأمّا إذا كان
موافقا للأصل ، كما في قوله : «في الغنم السّائمة زكاة» . فلا ، لأنّ نفي الزّكاة هو مقتضى الأصل.
وقال : إنّ دعوى الحجّيّة إنّما نشأ من الغفلة عن ذلك لكون
المفهوم مركوزا في العقول من جهة الأصل ، واستشهد على ذلك بكون الأمثلة المذكورة
في استدلالاتهم من هذا القبيل.
وأنت خبير بما فيه
، لكمال وضوح الثمرة والفائدة في الموافق للأصل
__________________
أيضا ، لأنّ
المدّعي للحجّيّة يقول بأنّ هاهنا حكمين من الشّارع ، فلا يحتاج الى الاجتهاد في
طلب حكم المعلوفة ، كما انّ المنكر يحتاج ، وكونه موافقا للأصل لا يكفي إلّا بعد
استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بعدم الدّليل ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في
محلّه.
وأيضا الأصل لا
يعارض الدّليل ، ولكنّ الدّليلين يتعارضان ، ويحتاج المقام الى الترجيح ، فإذا
اتّفق ورود دليل آخر على خلاف المفهوم ، فيعمل عليه من دون تأمّل على القول بعدم
الحجّيّة ، ويقع التعارض بينه وبين المفهوم على القول بالحجّيّة.
وربّما يترجّح
المفهوم على المناطيق إذا كان أقوى ، فضلا عن منطوق واحد. وما جعله منشأ للغفلة
، هو غفلة عن المتوهّم ، إذ كلماتهم مشحونة بالحكم في المخالف للأصل والموافق ،
والأمثلة واردة على القسمين كما لا يخفى على المتتبّع.
الثالثة : مقتضى المفهوم المخالف أنّما
هو رفع الحكم الثابت للمذكور على
الطريقة الثابتة للمذكور ، وقد وقع هنا توهّمان :
أحدهما : ما أشرنا سابقا إليه من أنّ مفهوم قولنا : أعط زيدا ان
أكرمك ، لا تعطه إن لم يكرمك ، وهو باطل ، لأنّ رفع الإيجاب هو عدم الوجوب ، وهو
أعمّ من الحرمة التي هي مقتضى النّهي.
نعم إذا كان الحكم
الموافق هو الجواز بالمعنى الأعمّ ، يكون مفهومه الحرمة ،
__________________
كما في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كلّ ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب» . فإنّ مفهومه ، أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يتوضّأ من سؤره
ولا يشرب. فإنّه وإن كان مفهومه الصّريح نفي الجواز ، لكنّه ملزوم للحرمة.
وثانيهما : ما صدر
عن جماعة من الفحول ، قال بعضهم : إنّ مفهوم قولنا : كلّ غنم سائمة فيه الزّكاة ، ليس كلّ غنم معلوفة فيه
الزّكاة. وإنّ هذا يصدق على تقدير أن يجب في بعض المعلوفة الزّكاة ، وعلى تقدير أن
لا يجب في شيء منها. ومفهوم قولنا : بعض السّائمة كذلك ، هو عدم صدق قولنا : بعض
المعلوفة كذلك.
ويلزمه أن يصدق
قولنا : لا شيء من المعلوفة كذلك ، ويلزمه أن يقول : إنّ مفهوم قولنا : لا شيء من
المعلوفة كذلك ، هو بعض السّائمة كذلك.
وردّ بعضهم على صاحب «المعالم» حيث ادّعى أنّ مفهوم قولنا : كلّ حيوان
مأكول اللّحم ، يتوضّأ من سؤره ويشرب منه ، هو أنّه لا شيء ممّا لا يؤكل لحمه
يتوضّأ من سؤره ويشرب ، بأنّ هذه دعوى لا شاهد له عليها من العقل والعرف ،
والعلّامة رحمهالله على الشيخ رحمهالله كذلك .
وأنت خبير بأنّ
ذلك التوهّم يشبه بأن يكون إنّما نشأ من بعضهم من جعل
__________________
المفهوم نقيضا
منطقيّا للمنطوق ، وإن كان صدور مثل ذلك في غاية البعد من مثلهم ، بل ممّن دونهم
بمراتب ، لاختلاف الموضوع ، ولذلك يتصادقان أيضا .
والظّاهر أنّ مراد
من أطلق النقيض على المفهوم كفخر الدّين الرّازي ، إنّما هو أنّ المفهوم رافع لحكم
المنطوق ، فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه.
والمراد رفع ذلك
الحكم عن غير الموضوع.
والحقّ هو ما فهمه
الشيخ وصاحب «المعالم». فإنّ الحكم المخالف في جانب المفهوم إنّما يستفاد من جهة
القيد في المنطوق ، فكلّ قدر يثبت فيه القيد وتعلّق به من أفراد الموضوع فيفهم انتفاء الحكم بالنسبة
الى ذلك القدر ، وإلّا لبقي التعليق بالنسبة إليه بلا فائدة.
وما يقال : من أنّ
الفائدة تحصل في الجملة ، بثبوت المخالفة في الجملة ، فهو بمعزل عن التحقيق ، إذ
يبقى التصريح بتعلّقه بالجميع بلا فائدة.
فمفهوم قولنا :
كلّ غنم سائمة فيه الزّكاة ، لا شيء من المعلوفة كذلك. فإنّ وجوب الزّكاة معلّق
على سوم كلّ غنم ، فيرتفع بمعلوفيّة كلّ غنم.
وما قيل : أنّ ذلك
لعلّه لعدم وجود أمر مشهور مشترك بين أفراد المنطوق وبعض أفراد المسكوت عنه ،
يعني أنّ جميع أفراد ما يؤكل لحمه مثلا يجوز الشرب والتوضّؤ من سؤره فنطق به في
الكلام ، وإنّما لم يشرك بعض الأفراد الغير المأكول أيضا مع كونه شريكا للمنطوق ،
لأجل عدم لفظ مشهور جامع لهما ، فيبقى
__________________
بيانه الى وقت
الحاجة.
ففيه : أنّه لا
ينحصر الإفادة في وجود اللّفظ المشهور المشترك ، فقد يصحّ أن يقال مثلا : كلّ
حيوان يجوز التوضّؤ من سؤره إلّا الكلب مثلا. وكذلك في قوله : كلّ غنم سائمة فيه
الزّكاة ، مع ثبوت الحكم لبعض المعلوفة أيضا ، يمكن أن يقال : كلّ غنم فيه الزكاة
إلّا النوع الفلاني ، فلا ينقطع المناص حتى يلتزم تأخير البيان وغيره من الحزازات
، فلا بدّ للقيد من فائدة ، والمفروض أنّه ليس إلّا نفي الحكم عن غير محلّ النطق ،
مع أنّ القول بكون استعمال القيد هنا لذلك ، لا لإخراج غير المقيّد عن الحكم ، خروج عن مقتضى القول
بحجّيّة المفهوم ، إذ هو إمّا مبنيّ على التبادر من اللّفظ ، أو على لزوم خلوّ
كلام الحكيم عن الفائدة لولاه ، كما تقدّم ، وهو إنّما يصحّ لو لم يكن هناك فائدة أخرى.
وأمّا ما ذكره
بعضهم : انّ مفهوم قولنا : بعض الغنم السّائمة فيه الزّكاة ... الخ.
إن أراد به أن تكون
السّائمة صفة لبعض الغنم وبيانا له لا للغنم فقط كما هو المناسب لطريقة أهل الشرع
، فمفهومه أن ليس في البعض الآخر الذي هو المعلوفة زكاة ، لا ما ذكره.
وإن أراد البعض
الغير المعيّن ، بل يكون السّائمة صفة للغنم لا للبعض كما هو الظاهر من كلامه وهو
الموافق لطريقة أهل الميزان ، فحينئذ يتوجّه الحكم نفيا وإثباتا الى البعض ، فإنّه
القيد الأخير لا السّوم ، والنفي والإثبات إنّما يرجعان الى
__________________
القيد الأخير على
التحقيق ، فمفهومه حينئذ أنّ البعض الآخر من السّائمة ليس يجب فيه الزكاة ، وهذا
ممّا يعزّ ويقلّ وروده في كلام الشارع ، فإنّه تكليف بمبهم مجهول.
وبالجملة ،
فالمستفاد من العقل والعرف هو ما فهمه الشيخ وصاحب «المعالم» رحمهالله لا ما فهموه.
فالتحقيق أن يقال : إن جعلنا السّؤر من جملة الحكم ، وجعلنا الموضوع نفس الطبيعة المقيّدة ،
فالأقرب ما ذكره هؤلاء. وإن جعلناه جزء الموضوع ، بأن يرجع القيد الى كلّ واحد
ممّا يشمله السّؤر ، فالأقرب ما اخترناه .
مثلا إمّا نقول :
الحيوان المأكول اللّحم حكمه أنّه يجوز استعمال سؤر كلّ واحد من أفراده ، أو نقول
لكلّ واحد من أفراد الحيوان المأكول اللّحم : حكمه جواز استعمال سؤره ، فلا بدّ أن
يتأمّل في أنّ معنى قولنا : كلّ ما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ، موافق لأيّهما ،
وأيّهما يتبادر منه في العرف.
والأظهر الثاني ،
للتبادر ، فيكون الوصف قيدا لكلّ واحد من الأفراد ، فالمفهوم يقتضي نفي الحكم حيث
انتفى ذلك القيد
الرابعة : لا دلالة في قولنا : في الغنم
السّائمة زكاة ، على نفي الزّكاة من معلوفة الإبل بإحدى من الدّلالات.
واستدلّ فخر
الدّين على ذلك ، بأنّ دليل الخطاب نقيض المنطوق فلمّا تناول
__________________
المنطوق سائمة
الغنم كان نقيضه مقتضيا لمعلوفة الغنم دون غيرها.
وهذا الاستدلال
ضعيف لما أشرنا إليه ، والأولى ما ذكرنا.
احتجّ بعض
الشافعيّة على الدلالة : بأنّ السّوم يجري مجرى العلّة فيثبت الحكم بثبوتها وينتفي
بانتفائها ، وفهم العليّة العامة ممنوع وإلّا لكان وجها وجيها.
__________________
قانون
الحقّ ، أنّ مفهوم الغاية حجّة وفاقا لأكثر المحقّقين .
والظاهر أنّه أقوى
من مفهوم الشرط ، ولذلك قال به كل من قال بحجّية مفهوم الشرط وبعض من لم يقل بها.
والمراد بالغاية
هنا النهاية لا المسافة كما هو عند النحاة ، بخلافها في قولهم الى لانتهاء الغاية.
فالمراد أنّ تعليق الحكم بغاية يدلّ على مخالفة حكم ما بعد النهاية لما قبلها ، وأمّا نفس
النهاية ففيها خلاف آخر ذكروها في مبحث بيان أنّ الى لانتهاء الغاية ، فلنقدّم
الكلام فيه لتقدّمه على ما بعده.
فنقول : اختلفوا
فيه على أقوال ثالثها : دخولها في المغيّا إن كانتا من جنس واحد كقولك : بعتك هذا
الثوب من هذا الطرف الى هذا الطرف ، وإلّا فلا ، كقول القائل : صوموا الى اللّيل.
والظاهر أنّ
دليلهم في ذلك عدم التمايز فيجب إدخاله من باب المقدمة كما في إدخال المرفق في
الغسل ، بخلاف ما لو اختلفا في الماهيّة وتميّزا في الخارج ، فلا يظهر حينئذ ثمرة
بين هذا القول وبين القول بالعدم مطلقا.
ورابعها : التوقّف
لتعارض الاستعمالات وعدم الترجيح.
__________________
والحق عدم الدّخول
لأنّه الأصل ، بمعنى انّ اللّفظ لا يدلّ على الدّخول والأصل عدم إرادة المتكلّم
ذلك ، وإلّا فقد يكون الدخول موافقا للأصل ، بل المتبادر من اللّفظ عدم الدخول
فيكون ذلك أيضا مفهوما من التعليق بكلمة الى.
وأمّا دخول المرفق
في آية الوضوء فإنّما هو من دليل خارج ، لا لأنّ الى بمعنى مع ، لأنّ الحق انّه
لانتهاء الغاية ، وكونه بمعنى مع مجاز ، وإنّما يصار إليه من جهة الدليل الخارجي.
ثم إنّ التوقّف لا
يستلزم القول بالاشتراك كما توهمه فخر الدّين وأبطله بأنّه لا يمكن القول بالاشتراك لعدم
جواز وضع الشيء لوجود الشيء وعدمه.
أمّا أوّلا :
فلأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، والإجمال أعمّ من الاشتراك ولا ينحصر التوقّف في صورة
الاشتراك.
وأمّا ثانيا :
فلجواز الاشتراك بين الوجود والعدم كما في القرء. وأمّا ما قاله فخر الدّين : من
أنّه لغو لخلوّ الكلام عن الفائدة حين التردّد بين الوجود والعدم ، لأنّ التردّد
بين النفي والإثبات حاصل لكلّ واحد قبل إطلاق اللّفظ أيضا .
ففيه : أنّه قد
يحصل الفائدة بمثل قول القائل : اعتدّي بقرء.
فتأمّل في ذلك
فإنّه يمكن إرجاع الطهر الى الوجودي أيضا.
__________________
إذا عرفت هذا
فلنرجع الى أصل المسألة ، والحقّ ما قلناه ، لأنّ المتبادر من قول القائل : صوموا الى اللّيل ، انّ
آخر وجوب الصّوم اللّيل ولا يجب بعده.
ومن قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) عدم حرمة المقاربة بعد حصول الطهر ، فلو ثبت الصيام بعد
اللّيل أيضا أو حرمة المقاربة بعد حصول الطّهر أيضا لما كان الغاية غاية ، وهو
خلاف المنطوق .
فإن قلت : إنّه لو
كان خلاف المنطوق فيكون الكلام مع التصريح بعدم إرادة المفهوم مجازا ، ولم يقل به
أحد.
وأيضا فإن كان
المراد من قولك : آخر وجوب الصوم اللّيل ما ينقطع عنده الصوم فقد صار هذا المفهوم
من جملة المنطوق ، وإن كان المراد ما ينتهى عنده الصوم سواء انقطع أو لم ينقطع فلا
خلاف المنطوق في المسكوت ، أعني ما بعد الغاية.
قلت : إن أردت من
التصريح بعدم إرادة المفهوم مثل ان يقول المولى لعبده : سر الى البصرة ولا أريد
منك عدم السّير بعنوان الوجوب بعده ، فهو مجاز وهو لازم كل من يقول بحجيّة مفهوم
الغاية ، فكيف تقول بأنّه لم يقل به أحد. وإن علم من المتكلّم إرادة الحقيقة ، فلا
بدّ أن يحمل ذلك على النسخ إن قلنا بجواز النسخ فيما كان آخره معلوما خصوصا إذا
كان قبل حضور وقت العمل ، وإلّا فيقبح صدوره عن الحكيم.
__________________
وإن أردت من ذلك
مثل أن يقول : سر الى البصرة ومنها الى الكوفة ومنها الى بغداد.
ففيه : أنّ أمثال
ذلك يقال في العرف لتحديد المنازل أو لإعلام المعالم فيتجدّد [فيتحدد] المسافة من كلّ علم ومنزل فلكلّ مسافة
مبدأ ونهاية يلاحظان بالنسبة إليها ويعتبران بخصوصها ، فلا يرد تجوّز ولا يحصل منه
نقض على القاعدة.
وكذلك لا يتمّ
النّقض بمثل قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى) ، مع ثبوت إسرائه الى السماء.
وكذلك قول الفقهاء
إذا صام المسافر الى نصف النهار ثم سافر لا يجوز له الإفطار كما صدر من بعض
الفضلاء ، فإنّ القرينة قائمة على إرادة الخلاف ومطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة ،
والاستعمال في المعنى المجازي لا يوجب خروج اللّفظ عن كونه حقيقة في غيره.
والنكتة في الأوّل
انّ المحسوس المعاين في نظر الكفّار المتعنّتين إنّما كان ذلك الذي ذكر في الآية ،
وكان يمكن إثبات هذه الدّعوى بما يحصل لهم المشاهدة كإخباره صلىاللهعليهوآلهوسلم عن غيرهم وعمّا وقع فيهم في أثناء الطريق ، وكان تحصل
المعجزة بمجرّد ذلك أيضا. فالمذكور ما بعد إلى ، إنّما هو المنتهى فيما هو مقصود
البيان لهم الممكن التسليم عندهم.
وكذلك المراد من
قولهم : إذا صام المسافر الى نصف النهار هو الإمساك المخصوص المشروط بالشروط لا نفس الصوم وإلّا فلا معنى للصوم
الحقيقي
__________________
الى نصف النهار.
ففي الحقيقة مفهوم
الغاية هنا حجّة بمعنى انّ المعتبر فيما له مدخليّة في عدم جواز الإفطار هو
الإمساك الى نصف النّهار ، فالإمساك ما بعد نصف النّهار لا مدخلية له في ذلك ،
فكأنّه قال الموجب لعدم الإفطار إنّما هو الإمساك الى نصف النهار ، وهكذا الكلام
فيما يرد عليك من نظائر هذه.
وأمّا قولك :
وأيضا الى آخره.
فنقول : هناك شقّ
ثالث ، وهو انّ المراد هو الآخر والمنتهى لا بشرط شيء مطلقا ، لا خصوص ملاحظة انّ ما بعد الآخر ونفسه مخالف لما قبله
وينقطع الحكم عنده ، ولا عموم ذلك ، بمعنى أن يلاحظ انّ اللّيل آخر مثلا سواء كان ما بعد
الدّخول مخالفا أو موافقا منقطعا عنده الصوم أم لا ، ثم ندّعي استلزام ذلك المطلق
كون حكم ما بعده مخالفا لما قبله.
احتجّ المنكرون :
بعدم دلالة اللّفظ على ذلك بإحدى من الدلالات.
أمّا الأوّلان
فظاهر ، وأمّا الالتزام فلعدم اللّزوم ، وبالاستعمال فيهما معا ، فيكون للقدر
المشترك لكون المجاز والاشتراك خلاف الأصل.
ويظهر الجواب
عنهما بالتأمّل فيما ذكرناه.
__________________
قانون
مفهوم الحصر
حجّة.
والمراد به على ما
ذكره جماعة من المحقّقين هو أن يقدّم الوصف على الموصوف الخاص خبرا له مثل :
الأمير زيد والشّجاع عمرو ، فيستفاد منه الحصر لأنّ الترتيب الطبيعي خلافه والعدول
عنه إنّما هو لذلك. وقد يقال : إنّ الأولى تعميم المبحث في كل ما قدّم وكان حقّه
التأخير على ما ذكره علماء المعاني.
وفيه إشكال لتعدّد
الفائدة مثل : الاهتمام بالذكر أو التلذّذ أو غير ذلك ،
__________________
فلا بدّ إمّا من
دعوى التبادر وهو غير مسلّم في الجميع أو ذكر دليل آخر ، وسيجيء الدّليل في خصوص
ما نحن فيه.
واختلفوا في كون الدلالة فيما نحن فيه
من باب المفهوم أو المنطوق.
والصّواب ترك هذا
النزاع ، لأنّ الحصر معنى مركّب من إثبات ونفي وما له المدلول مذكور في أحدهما ،
فيستفاد المجموع من المجموع . وإن جعل عبارة عن نفي الحكم المذكور عن الغير ، فلا ريب
انّه مفهوم على ما مرّ.
والدليل على إفادة
الحصر أمران :
الأوّل : التبادر
، فإنّ المتبادر من قولنا : العالم زيد ، انّ العالميّة لا يتجاوز عن زيد الى عمرو
وبكر وغيرهما.
والثاني : أنّه لو
لم يفد الحصر للزم الإخبار بالأخصّ عن الأعمّ وهو باطل.
وتقريره انّ
المراد بالصّفة إن كان هو الجنس فيستحيل حمل الفرد عليه ، لأنّ الحمل يقتضي
الاتّحاد ، والفرد الخاص ليس عين حقيقة الجنس فينبغي أن يراد منه مصداقه وهو ليس
بفرد خاصّ لعدم العهد وعدم إفادة العهد الذهني فيحمل على الاستغراق فيصير المعنى
انّ كلّ ما صدق عليه العالم فهو زيد ، وهذا لا يصحّ إلّا إذا انحصر مصداقه في
الفرد ، لاستحالة اتحاد الكثيرين مع الواحد وذلك إمّا حقيقة كما لو فرض انحصار
الإمارة في الخارج ، وإمّا إدّعاء ومبالغة كما في قولنا : الشجاع
عمرو والرّجل بكر.
__________________
فالمراد هو
المصداق الكامل وقد لا يحتاج الى صرف الصّفة الى استغراق الأفراد بأن يدّعى وحدة
الجنس مع هذا الفرد كما في قولك : هل سمعت بالأسد ، وتعرف حقيقته ، فزيد هو هو
بعينه كما ذكره عبد القاهر في الخبر المحلّى باللّام ، وهو الظّاهر من الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ). وهذا معنى أعلى من الحصر في المبالغة وهو بعينه جار في
قولنا : الأمير زيد.
واحتج النافون : بأنّ ذلك لو صحّ لصحّ في العكس. يعني في مثل زيد الأمير وعمرو العالم
، لجريان ما ذكر فيه أيضا.
وبأنّه لو كان الأصل مفيدا له دون العكس لتطرّق التغيير في مفهوم الكلمة بسبب
التقديم والتأخير مع عدم تطرّق في المفردات ، وإنّما وقع في الهيئة التركيبيّة.
أقول : أمّا
الجواب عن الأوّل.
فأمّا أوّلا :
فبالقول بالموجب كما صرّح به علماء المعاني ، ويظهر وجهه مما سبق.
وأمّا ثانيا :
فبالفرق بين صورة التقديم والتأخير ، فإنّ الموضوع هو الذّات والمعروض والمحمول هو
الوصف والعارض ، ولذلك اصطلح المتكلّمون على إطلاق الذّات على المبتدأ والوصف على
الخبر.
__________________
فإذا وقع الوصف
مسندا إليه فالمراد به الذّات الموصوفة به ، فالمراد بالأمير في قولنا : الأمير
زيد ، الذّات المتّصفة بالإمارة ، فإذا اتّحد الذّاتان بحسب [بسبب] الحمل فيلزم
الحصر ، أعني حصر الإمارة في زيد ، وإن اقتضى قاعدة الحمل كون المراد بزيد هو
المسمّى ولم يفد انحصار وصفه في الإمارة.
وإذا وقع مسندا فالمراد به كونه ذاتا موصوفة به وهو عارض للأوّل
والعارض أعمّ ، والحمل وإن كان يوجب الاتّحاد لكن حمل الأعمّ على الأخصّ معناه صدق
الأعمّ على الأخصّ وذلك لا يوجب عدم وجوده في ضمن غيره كما في الكلّي الطبيعي
بالنسبة الى أفراده.
فالمراد من
الاتّحاد ، أنّ المحمول موجود بوجود الموضوع أو انّ المحمول والموضوع موجودان
بوجود واحد ، لا إنّهما موجود واحد.
وبهذا يندفع ما
يورد هنا ، أنّ الحمل لو اقتضى الاتّحاد وأوجب القصر فيما نحن فيه
للزم ذلك في الخبر المنكر أيضا مثل زيد إنسان ، فإنّ المراد من إنسان هو مفهوم فرد
ما لا مصداقه ، كما اشتهر بينهم انّ المراد بالمحمول هو المفهوم ومن الموضوع هو
المصداق ، والمصداق هنا إمّا فرد معيّن هو زيد أو غير زيد ، وإرادة كل منهما محال
لاستحالة حمل الشّيء على نفسه وعلى غيره. ومفهوم فرد ما قابل لجميع الأفراد ، فإذا
اتّحد مع الموضوع في الوجود بسبب الحمل لزم الحصر لما ذكرنا انّ ذلك لا يفيد إلا
اتحاده مع الموضوع في الوجود ، لا إنّهما موجود واحد.
والحق ، أنّ صورة
العكس أيضا يفيد الحصر ، لا لإفادة الحمل ذلك من حيث
__________________
هو حتّى يرد انّ
الاتّحاد الحملي لا يقتضي ذلك ، بل لأنّ حمل الجنس أو الاستغراق يفيد ذلك.
أمّا الاستغراق
فظاهر ، وأمّا الجنس فلأنّ المقصود منه إن كان مجرّد صدق هذا الجنس ولو من حيث
إنّه فرد منه لتمّ ذلك بحمل المنكر مثل زيد أمير ، فيبقى التعريف لغوا ، فعلم منه
أنّ المقصود انّ زيدا هو حقيقة الأمير وماهيّته ، فيفيد المعنى الذي هو أعلى من
الحصر كما مرّ إليه الإشارة ، وأشار إلى ما ذكرنا المحقّق الشريف في بعض حواشيه.
فظهر من جميع ما
ذكر انّ قولنا : الأمير زيد يدلّ على الحصر من وجهين :
أحدهما : تقديم
المتأخر بالطبع وإن صار موضوعا الآن.
والثاني : التعريف
على ما مرّ بيانه .
وأمّا صورة العكس
فمن جهة واحدة هو التعريف.
وأما الجواب عن
الثاني ، فيظهر ممّا تقدم أيضا.
وتوضيحه منه بطلان
التالي لو أريد به مجرّد المغايرة في إرادة الذّات والصّفة ، ومنع الملازمة إن
أريد غير ذلك ، والتحقيق قد مرّ .
ثم إنّ الكلام لا
يختصّ بالمعرّف باللّام ، بل كلّما يراد به الجنس حكمه ذلك مثل قولك : صديقي زيد ،
حيث لا عهد خارجي ، فإنّه يحمل على الجنس أو الاستغراق
__________________
كما في قولك :
ضربي زيدا قائما ، فالجهتان المتقدّمتان حاصلتان فيه .
وأمّا صورة العكس
، فلا يجري ما قدّمنا في المعرّف باللّام فيه ، بل الظاهر انّ معناه زيد صديق لي
على طريق الإضافة اللّفظية.
ثم قد ظهر لك ممّا
مرّ من تعدّد الجهتين ، أنّ المسند إليه إذا كان معرّفا باللّام يفيد حصره في
المسند وإن لم يكن حقّه التأخير أيضا ، كما في قولهم : الكرم التقوى ، والعلماء
الخاشعون ، والكرم في العرب ، والإمام من قريش ، كما صرّح به علماء المعاني. ولا
يلزم منه كون كلّ ما في العرب كريما ، ولا كلّ من في القريش إماما ، كما لا يلزم
في زيد قائم أو انسان انحصار القائم والانسان في زيد.
وأمّا الحصر بإنّما ، والمراد به نفي غير المذكور أخيرا كقولك : إنّما زيد قائم في قصر الموصوف على الصّفة وإنّما
القائم زيد في العكس.
فالأشهر الأقوى
فيه الحجّية للتبادر عرفا ، ونقله الفارسي عن النّحاة
__________________
وصوّبهم . وكذلك لغة أيضا مع أصالة عدم النقل ، ويدلّ عليه أيضا
استدلال العلماء بمثل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّما الأعمال بالنيّات ، و : إنّما الولاء لمن أعتق ، على نفي العمل من دون نيّة ونفي الولاء لغير المعتق من
دون نكير.
وإن كان يمكن
القدح فيه ، بأنّه مقتضى التعريف في المسند إليه كما مرّ ، فقوله عليهالسلام : إنّما الأعمال بالنيّات ، في قوّة الموجبة الكليّة
المناقضة للسالبة الجزئية ، وأنت خبير بكمال وضوح الفرق بين الملحوق بإنّما وعدمه
، وإن قلنا بدلالة تعريف المسند إليه أيضا ، ولا أظنّ أنّ من يعتمد على دلالة
تعريف المسند إليه على ذلك لا يعتمد على دلالة إنّما عليه مع كمال وضوحه ، وكيف
كان ، فالعمدة هو التبادر في سائر الموارد.
وقد يستدلّ بصحّة
انفصال الضمير معه في مثل قول الفرزدق : وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو
مثلي. فإنّ الوجوه المجوّزة للفصل مفقودة سوى ان يكون الفصل لغرض ، وهو أن يكون
المعنى ما يدافع عن أحسابهم إلّا أنا.
وقد يستدلّ أيضا :
بأنّ ، إنّ للإثبات وما للنفي ولا يجوز أن يكونا لإثبات ما بعده ونفيه ، بل يجب أن
يكونا لإثبات ما بعده ونفي ما سواه أو على العكس ، والثاني
__________________
باطل بالاجماع [باطل]
فتعيّن الأوّل وهو ضعيف ، لأنّ إنّ ، إنّما هو لتأكيد الكلام نفيا كان أو إثباتا
كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً).
وما النافية لا
تنفي إلّا ما دخلت عليه بإجماع النحاة ؛ فهي كافّة كما في ليتما ولعلّما وغيرهما
كما صرّح به ابن هشام وغيره.
فالتحقيق ، أنّه
كلمة متضمّنة لمعنى ما ، وإلّا بحكم التبادر واستعمال الفصحاء وقد نوقض بقوله تعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) لعدم انحصار المؤمنين في المذكور ، و : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ) لعدم انحصار إرادة الله في إذهاب الرّجس عنهم و : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي السّاعة لإنذاره غيرهم أيضا.
وفيه : أنّ المراد
في الأوّل الكمّل منهم.
وفي الثاني أنّ
إرادة إذهاب الرّجس مقصور على أهل البيت عليهمالسلام في زمانهم لا غيرهم ، لا انحصار مطلق إرادة الله في ذلك ،
إذ عرفت أنّ النفي يرجع إلى غير المذكور أخيرا.
وفي الثالث
الإنذار النافع ، وعلى فرض التسليم ، فالمجاز خير من الاشتراك ومطلق الاستعمال لا
يدلّ على الحقيقة ، وقد أثبت التبادر كونها حقيقة فيما ذكرنا. واحتج
منكر الحجيّة : بأنّه لا فرق بين
: إنّ زيدا قائم وإنّما زيد قائم. وما زائدة
__________________
فهي كالعدم وقد
عرفت الفرق.
واختلف المثبتون
أيضا فقيل : انّه بالمنطوق لأنّه لا فرق بين : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) ، وبين : (لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ).
ويظهر لك بطلانه ممّا
مرّ في تعريف المفهوم والمنطوق وقد أشرنا إليه آنفا أيضا.
وأمّا ما وإلّا
فلا خلاف في حجّية مفهومهما ظاهرا.
والظاهر أنّ
الدلالة فيهما بالمنطوق ، فلا وجه لجعله من باب المفهوم.
__________________
قانون
الحقّ ، أنّه لا حجّية في مفهوم الألقاب ، لعدم دلالة اللّفظ عليه بإحدى من الدلالات ، ولأنّه لو
دلّ لكان قولنا : زيد موجود ، وعيسى رسول الله كفرا ، لاستلزامهما نفي الصّانع
ورسالة نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم .
واحتجّ الدّقاق وبعض الحنابلة على الدّلالة بأنّ التخصيص بالذّكر لا بدّ
__________________
له من مخصّص ونفي
الحكم عن غيره صالح له ، والأصل عدم غيره.
وأيضا قول القائل
: لست زانيا ولا أختي زانية ، يدلّ على أنّ المخاطب واخته زانيان. وأوجب الحنابلة
الحدّ عليه لهذا.
والجواب عن الأوّل
: أنّ تعلّق الإرادة مخصّص وليس الإسم واللّقب قيدا زائدا في الكلام حتى يحتاج الى
فائدة خاصة في ذكره ، وفائدته فائدة أصل الكلام.
وعن الثاني : أنّ
القرينة قائمة على إرادة التعريض.
وأمّا مفهوم العدد
، فمذهب المحقّقين عدم الحجّية . فلو قيل : من صام ثلاثة أيام من رجب كان له من الأجر كذا
، فلا يدلّ على عدمه إذا صام خمسة.
نعم يحتاج جوازه
الى الرّخصة من الشارع ، لأنّ العبادة توقيفية يحتاج الى
__________________
التوظيف ، لا لأنّ
القول الأوّل ناف له ، فإذا صام الزّائد من باب عموم الصوم فلا ضرر أصلا.
وكذلك الكلام في
عدد الأذكار والتسبيحات ، ولكن في بعض الأخبار المنع عن التعدي ، والظّاهر انّه من
جهة اعتقاد انّ الزّائدة مثل المأمور به في الأجر لا لعدم الجواز.
وأمّا إذا قيل يجب
عليك صوم عشرة أيّام فلا يجوز الاكتفاء بالخمسة لعدم الامتثال بالمنطوق حينئذ ، لا
لأنّ المفهوم يقتضي ذلك ولورود الأمر بخمسة أخرى ، فلا يعارض السّابق بأن يقال :
انّ مفهوم القول الأوّل يقتضي عدمها ، فلا بدّ من الترجيح.
وامّا في بعض
المواضع الذي لا يجوز التعدي الى ما فوق وما تحت فإنّما هو بدليل خارجيّ ، فعدم
جواز زيادة الحدّ مثلا على الثمانين أو المائة جلدة فإنّما هو لحرمة الإيذاء من
دون إذن من الشّارع ؛ فيقتصر على التوظيف ، وعدم قبول الشاهد الواحد إنّما هو
لفقدان الشّرط وهو الشاهدان ، فهو مقتضى المنطوق كما أشرنا.
وكذلك كون الماء
أقلّ من كرّ أو قلّتين في النجاسة ، ولذلك ترى انّ الأكثر أيضا لا ينجس ، ولأنّ
المناط في الحكم هو الكثرة وعدم نقص الماء عن هذا المقدار لا عدم كونه أكثر من ذلك
أيضا.
__________________
وبالجملة ،
الأعداد المعتبرة في الشّرع قد يتوافق حكمها مع الأقلّ والأكثر ، وقد يتخالف
فاستعماله عامّ والعامّ لا يدلّ على الخاصّ.
وقد يتوهّم أنّ تحديد أقل الحيض بالثلاثة وأكثره بالعشرة إنّما أستفيد
من مفهوم العدد في قوله عليهالسلام : أقلّ الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيّام . فإنّه لا يجوز التجاوز ولا الاقتصار بالأقل.
وفيه ما لا يخفى ،
فإنّ تحديد الأقل لا يتمّ إلّا بعدم تحقق الحيض في يومين وإلّا لكان هو الأقل ،
وبأن لا يكون الأربعة أقلّ وإلّا فلا يتحقّق بثلاثة ، وليس هذا من مفهوم العدد في
شيء ، وقس عليه حال الأكثر .
والظاهر أنّ
الكلام في المقدار والمسافة وأمثالهما هو الكلام في العدد.
وأمّا مفهوم الزّمان والمكان فهو أيضا كذلك . وذهب الى حجّيتهما جماعة ، ويظهر الاحتجاج والجواب ممّا تقدّم.
__________________
فإن قلت : إذا قيل : بعه في يوم كذا ، وخالف الوكيل فالعقد غير
صحيح ، وكذا غيره من العقود.
قلت : لأنّ
التقييد في الوكالة تابع للّفظ ومختصّ بما قيّده لا من حيث المفهوم ، بل من حيث
انحصار الإذن في ذلك ، ولذلك لم يخالف من ردّ المفهوم في اختصاص الوكالة والوقف
ونحوهما بما قيّده وصفا وشرطا وزمانا ومكانا وغيرها ، وصرّح بما ذكرنا الشهيد
الثاني رحمهالله في «تمهيد القواعد» .
__________________
الباب الثالث
في العموم والخصوص
وفيه مقدّمة ومقاصد
:
أمّا المقدّمة :
فالعامّ : هو اللّفظ الموضوع للدّلالة
على استغراق أجزائه أو جزئيّاته ، كما عرّفه شيخنا البهائي رحمهالله
.
واحترز بقيد
الموضوع للدلالة عن المثنّى والجمع المنكر وأسماء العدد ، فإنّها لم توضع للدلالة
على ذلك وإن دلّت.
وقوله : أجزائه أو
جزئيّاته لدخول مثل الرّجال على كل من المعنيين الآتيين من إرادة العموم الجمعي أو
الافرادي.
وهذا اصطلاح ،
وإلّا فلا مانع من جعل العشرة المثبتة أيضا عامّا كما يشهد به صحّة الاستثناء.
فالعامّ على قسمين إمّا كلي يشمل أفراده
أو كلّ يشمل أجزائه.
والعامّ المعهود الغالب
الاستعمال في كلامهم هو المعنى الأوّل ، ولذلك ذكروا انّ دلالة العموم على كلّ
واحد من أفراده دلالة تامّة ، ويعبّرون عنه بالكلي التفصيلي والكلي العددي
والأفرادي ، وليست من باب الكلّ ، أي الهيئة الاجتماعيّة المعبّر عنه بالكلي
المجموعي ، ويظهر الثمرة في المنفي.
__________________
فلو كان الجمع
المضاف في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ). بمعنى الكلي المجموعي ، فلم يدلّ على حرمة قتل البعض ،
بخلاف المعنى الأوّل ، نظير ضربت العشرة وما ضربت العشرة.
وسيجيء أنّ العموم
قد يستفاد من جهة المقام لاقتضاء الحكمة ذلك ، وهو أيضا ليس من العامّ المصطلح وإن
ترتب عليه أحكامه.
__________________
المقصد الأوّل
في صيغ العموم
قانون
اختلفوا
في كون ما يدّعى كونها موضوعا للعموم من الألفاظ موضوعا له
أو مشتركا بينه وبين الخصوص
أو حقيقة في الخصوص
على أقوال :
فقيل : بالتوقّف . ثم القائلون بثبوت الوضع للعموم اتّفقوا في بعض الألفاظ
واختلفوا في الأخر.
فلنقدّم الكلام في
الخلاف في أصل الوضع ، فالأشهر الأظهر كونها حقيقة في العموم.
__________________
لنا : التبادر ،
فإنّ أهل العرف يفهمون من قولنا : ما ضربت أحدا ، ومن دخل داري فله درهم ، ومتى
جاء زيد فأكرمه ، ونحو ذلك العموم. فلو قال السيّد لعبده ، لا تضرب أحدا ، ثم ضرب
العبد واحدا لاستحقّ بذلك عقاب المولى.
وللاتّفاق على
دلالة كلمة التوحيد عليه ، وللاتّفاق على لزوم الحنث على من حلف أن لا يضرب أحدا بضرب واحد.
وانّ من ادّعى ضرب رجل لو أردت تكذيبه قلت : ما ضربت أحدا ، فلولا انّه سلب كلّي
لما ناقض الجزئية ، فإنّ سلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي ، ولقصّة ابن الزبعرى
فإنّه لما سمع قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال : لأخصمنّ محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمّ جاءه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : يا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم أليس عبد موسى
وعيسى والملائكة ، ففهمه دليل العموم لأنّه من أهل اللّسان ، وأدلّ من ذلك جوابه صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث قال : ما أجهلك بلسان قومك أما علمت انّ ما لما لا
يعقل ، فلم ينكر العموم وقرّره. وأمّا استعمال كلمة ما في ذوي العقول أو أعلى منهم
كما في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما
بَناها) ، فإنّما هو خروج عن الحقيقة لنكتة.
وفي رواية أخرى
أجاب صلىاللهعليهوآلهوسلم : بأنّ المراد عبادة الشياطين التي أمرتهم بعبادة
__________________
هؤلاء فنزل قوله
تعالى : (الَّذِينَ سَبَقَتْ
لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ).
حجّة القائلين بأنّها حقيقة في الخصوص
وجهان :
الأوّل : أنّ الخصوص متيقّن المراد من هذه الألفاظ حيث استعملت سواء أريد منها الخصوص فقط أو
في ضمن العموم ، بخلاف العموم فإنّه مشكوك الإرادة. ولمّا كان الوضع مسلّما للخصم
ولا بدّ له من مرجّح فالأولى أن يقول انّه موضوع للمتيقّن المراد ، فإنّه أوفق
بحكمة الواضع حيث إنّ غرضه من الوضع التفهيم.
وبهذا التقرير اندفع ما أورد على الدّليل بأنّه إنّما يدلّ على تيقّن
الإرادة لا على الوضع.
والجواب : أنّ هذا
إثبات اللّغة بالترجيح العقلي وهو باطل لأنّ طريقه منحصر في النقل ، إمّا صريحا
محضا بالتواتر أو الآحاد أو بإعانة تصرّف من العقل كما لو استفيد من مقدّمتين
نقليّتين وضع مثل عموم الجمع المحلّى باللّام ، فإنّه ثبت بواسطة مقدّمتين
مستفادتين من النقل.
أحدهما : ما ثبت
من أهلّ اللّغة جواز الاستثناء منه بأيّ فرد أمكن إرادته من الجمع واحتمل شموله له
في كل موضع.
وثانيتهما : ما
ثبت انّ الاستثناء هو إخراج ما لولاه لدخل ، ويحصل من ذلك أنّه يجوز إخراج كل فرد
من الجمع ، ثم العقل يحكم بأنّ الشيء ما لم يكن داخلا في شيء لا يمكن إخراجه منه.
فثبت انّ جميع الأفراد داخل فيه ، وهو معنى كونه
__________________
موضوعا للعموم
وهكذا.
وأمّا العقل المحض
فلا مدخليّة له في إثبات اللّغات.
وأمّا التبادر
وصحّة السّلب ونحوهما ، فإنّما هي أدلّة للفرق بين الحقيقة والمجاز ، لا لاثبات
أصل الوضع.
ولا بأس بتوضيح
المقام وإن كان خارجا عمّا نحن فيه ، لتنبيه الغافلين.
فنقول : إنّ الوضع
لا يثبت إلّا بالنقل عن الواضع لبطلان مذهب عبّاد بن سليمان الصيمري وأصحاب التكسير
من أنّ دلالة اللّفظ على المعنى إنّما نشأت من مناسبة ذاتيّة وإلّا لتساوت
المعاني بالنّسبة الى اللّفظ فإمّا أن يكون هناك تخصيص وترجيح في الدّلالة على
المعنى أو لا. فعلى الثاني يلزم التخصّص من غير مخصّص ، وعلى الأوّل التخصيص بلا
مخصّص وهما محالان.
والجواب : امّا
بأنّ المرجّح هو الإرادة إمّا من الله تعالى لو كان هو الواضع كخلق الحوادث في أوقاتها أو من الخلق لو كان هو الواضع كتخصيص الأعلام
__________________
بالأشخاص أو بمنع
انحصار المرجّح فيما ذكروه لم لا يكون شيء آخر مثل سبق المعنى الى الذّهن من بين
المعاني في غيره تعالى ، ومصلحة اخرى فيه تعالى مع أنّه يدفعه الوضع للنقيضين
والضدّين ، واقتضاء اللّفظ بالذّات لذلك في وقت دون وقت أو شخص دون
شخص ممّا لا معنى له ، لأنّ الذّاتي لا يتخلّف ، ولذلك وجّه السّكاكي هذا المذهب
وأوّله بأنّ مراده انّ الواضع لم يهمل المناسبة بين اللّفظ والمعنى كما هو مذهب
أهل الاشتقاق. فذكروا انّ الفصم ـ بالفاء ـ لكسر الشيء مع عدم الإبانة ، والقصم ـ بالقاف
ـ له مع الإبانة ، للفرق بين الفاء والقاف في الشدّة والرّخاء كالقسمين من الكسر.
فثبت انّ طريق ثبوت الوضع هو النقل لعدم إمكان حصول العلم به من جهة اخرى.
والمرجّحات
العقليّة والمناسبات الذوقية ممّا لم يثبت جواز الاستناد إليها في إثبات الأشياء
التوظيفيّة التوقيفيّة كالأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، ولذلك لا يجوز إثباته بالقياس
أيضا كما جوّزه قوم من العامّة فيما لو دار التّسمية بالاسم مع معنى في المسمّى
وجودا وعدما ، كالخمر فإنّها دائرة مع تخمير العقل وجودا وعدما ، فقبله عصير وبعده
خلّ والدوران يفيد العليّة ، فكأنّ الواضع قال سمّيت هذا خمرا
__________________
لأنّه يخمر العقل
، فكأنّه جوّز تسمية كل ما فيه هذه العلّة خمرا ، فيكون ترخيصا منه بالعموم كترخيصه في سائر الكلّيات كما
أشرنا إليه في أوائل الكتاب ، وهو باطل لعدم ثبوت حجّية القياس ، مع أنّ جماعة
ممّن جوّز العمل بالقياس لم يجوّزه في اللّغة.
وقد يقلّب
الدّوران على المستدلّ ، بأنّ التسمية دارت مع المعنى والمحل وهو ماء العنب أيضا ،
فإنّ المجموع إذا وجد وجدت التسمية ، فإذا انتفى انتفت ، فالعلّة مركّبة.
ثم لا يذهب عليك
أنّ رفع كل فاعل لم يسمع رفعه من العرب ونصب كل مفعول لم يسمع نصبه ونحو ذلك ،
وكذلك إطلاق الرّجل على من لم يطلقه العرب وكذلك أقسام المجازات وأنواع العلائق
ليس من باب القياس ، بل هو المستفاد من استقراء كلام العرب وتتبّع تراكيبهم بحيث
حصل الجزم بتجويزهم ذلك ، وهذا ممّا لا خلاف في جواز الاعتماد عليه.
وأمّا الاعتماد
على التبادر وعدم صحّة السّلب ورجحان المجاز على الاشتراك ونحو ذلك ، فليس من باب
إثبات الوضع بالعقل ، بل إنّما هو للتمييز والتفرقة بين الحقائق والمجازات.
والحاصل ، أنّ
الأجنبي باصطلاح قوم ، الجاهل بأوضاع كلماتهم إذا رأى انّهم يستعملون لفظا في معان
متعدّدة ولا يعرف أيّها حقيقة وأيّها مجاز ، فلا ريب انّه
__________________
يعرف انّ في ذلك
الاصطلاح ألفاظا مفردة موضوعة للمعاني الشخصيّة أو النوعيّة ، وألفاظا مركّبة
موضوعة للمعاني النّوعيّة ، وألفاظا مستعملة في غير الموضوعات لها بعلاقة مجوز
نوعها من الواضع ونحو ذلك كما هو الدأب والدّيدن في جميع اللّغات والاصطلاحات.
ويعلم أنّ ما
يتكلّمون به قد بلغ إليهم من واضع اصطلاحهم حقيقة كان أو مجازا ، ولكنّه يريد أن
يميّز بين الحقيقة والمجاز ، ويعرف انّ المعاني المتعدّدة التي يستعملون فيها لفظا
واحدا على التناوب أيّها حقيقة وأيها مجاز فيتفحّص عن أحوالهم ، فإمّا يصرّحون له
بنقل الوضع أو يظهر عليه من مزاولة محاوراتهم خواصّ الحقيقة في البعض وخواصّ
المجاز في الآخر ، فمن خواصّ الحقيقة التبادر وعدم صحّة السّلب ، ومن خواصّ المجاز
تبادر الغير وصحّة السّلب ، ومن العلم بالعرض الخاصّ يحصل العلم بالمعروض ، ومعرفة
خاصّة الشيء من خارج لا يحتاج الى النقل من الواضع ، فالمقصود بالذّات من استعلام
هذه الخواص تحصيل العلم بالوضع بعنوان الحقيقة لا تحصيل العلم بمطلق الوضع وإن حصل
العلم بالوضع في ضمنه أيضا ، فإنّ القدر المشترك بين الوضع الحقيقي والمجازي
حاصل لذلك الجاهل ، إنّما إشكاله في تعيين الخصوصيّة ، فطلب تحصيل العلم بالقدر
المشترك تحصيل الحاصل.
فإن قلت : نعم ،
ولكن ذلك لا ينفي القول بإثبات اللّغة بالعقل ، فإنّ اللّغة هو اللّفظ الذي وضع
لمعنى سواء كان بالوضع الشّخصي أو النّوعي الحقيقي أو
__________________
المجازي فأيّها ثبت بالعقل فيلزم ثبوت اللّغة بالعقل ، والمفروض هنا إثبات
المعنى الحقيقي مثلا بالتبادر وهو دليل عقلي مع أنّ إثبات الوضع للخصوص على ما
ذكره المستدلّ هنا أيضا إثبات للحقيقة لا لمطلق اللّغة.
قلت : المراد من
عدم ثبوت اللّغة بالعقل عدم إمكان الاستدلال عليه من طريق اللّمّ ، من دون
الاستناد الى وضع الواضع من حيث هو وضع الواضع.
وأمّا طريق الإنّ
والاستناد الى وضع الواضع من حيث هو فلا مانع منه ، فإنّ التبادر وعدم صحّة السّلب
والنقل المتواتر والآحاد كلّها معلولات للوضع ودلالتها إنيّة ، غاية الأمر كون
بعضها قطعيّا وبعضها ظنيّا ، فلا بدّ أن يوجّه ما ذكروه من أنّ طريق إثبات اللّغة
إمّا تواتر أو أحاد ، بأنّ مرادهم انّ طريقه إما قطعيّ أو ظنّي. فخبر الواحد
والتبادر والتواتر وعدم صحّة السّلب والاستقراء يعني كون هذه الهيئة الخاصة مثلا مستعملا في معنى خاصّ في
أكثر الموارد ، وأمثال ذلك كلّها من الظنّيات وكلّها معلول للوضع.
وأمّا خامريّة
العقل وكون الأقل متيقّن المراد وأمثالهما ، فهي على فرض تسليمها من العلل الموجدة
للوضع التي يستدلّ بوجودها على العلم بوجود الوضع أيضا ، وهذا هو الممنوع.
ومثل التبادر
وأخواته في أدلّة الوضع من جملة التوقيفيّات قبالا للنقل
__________________
المتواتر ،
والآحاد مثل اتفاق العلماء الكاشف عن رأي المعصوم عليهالسلام ، وتقرير الكاشف عنه قبالا للأخبار المتواترة والآحاد في
الشرعيّات ، فافهم ذلك واضبطه.
فلنرجع الى ما
كنّا فيه فنقول وقد يعارض الدّليل على فرض التسليم : بأنّ العمل على العموم أحوط
وهو باطل ، لأنّ ذلك إنّما يتمّ في الواجب ، فقد يكون التكليف بالإباحة هكذا قيل.
وأورد عليه : بالمنع في الواجب مطلقا أيضا كما في : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) فإنّ قتل النفس
المحترمة أشدّ من مخالفة الأمر.
الثاني (٣) : أنّه اشتهر في الألسن حتّى
صار مثلا أنّه ما من عامّ إلّا وقد خصّ منه ، وهو وارد على سبيل المبالغة وإلحاق القليل بالعدم ،
والظاهر يقتضي كونه حقيقة في الأغلب مجازا في الأقل تقليلا للمجاز.
وأجيب : بأنّ احتياج خروج البعض عنها الى التخصيص بمخصّص ظاهر في
أنّها للعموم ، ويوهن التمسّك بمثل هذه الشهرة.
أقول : فيه نظر . أمّا في الأوّل ، فلأنّ احتياج الخروج الى مخصّص عند
المستدلّ ليس لظهور العامّ في العموم ، بل لأنّ اللّفظ عنده موضوع لبعض ما صدق
__________________
عليه مفهوم الصيغة
من غير تعيين ، ولمّا كان ذلك البعض محتملا لكل واحد من الأبعاض فالتخصيص إنّما
يحتاج إليه لبيان المراد من لفظ العامّ ، لأنّ العامّ ظاهر في الجميع حتى يحتاج
إرادة البعض الى المخصّص. ولعلّ هذا التوهّم نشاء من لفظ وقد خصّ منه ، وتعبير
المستدلّ بذلك إنّما هو ذهاب على ممشى الخصم وتكلّم باصطلاحه ، وإلّا فحاصل مراد
المستدلّ انّ غالب استعمال الألفاظ التي يدّعي عمومها في بعض ما يصلح له اللّفظ ،
والغلبة علامة الحقيقة ، فالتحقيق في الجواب منع كون غلبة الاستعمال دليلا
للحقيقة.
سلّمنا ، لكنّه
يصير دليلا إذا لم يثبت الدليل على كونها حقيقة في الأقلّ وقد بيّنا الأدلّة.
وأمّا في الثاني ، فلأنّ متمسّك المستدلّ ليس هو نفس الاشتهار ، بل لأنّ
ذلك المطلوب حقيقة له والمثل مطابق للواقع ، حتى أنّ ذلك المثل أيضا مخصّص في نفس
الأمر بأنّ الله بكلّ شيء عليم ، وإنّما قال وارد على سبيل المبالغة ، لأنّه لو
كان المراد ظاهره لكان كاذبا للزوم التخصيص في نفس المثل.
واحتجّ القائل بالاشتراك : بالاستعمال فيهما ، وظاهر الاستعمال الحقيقة .
وفيه : أنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز كما مرّ مرارا.
وبأنّه لو كانت
حقيقة في العموم لعلم إمّا بالعقل أو بالنقل ، ولا مجال للعقل ،
__________________
والنّقل إما تواتر
أو آحاد ، والآحاد لا يفيد اليقين ولو كان متواترا لاستوى الكلّ.
وفيه : أنّ
التمييز بين الحقيقة والمجاز لا ينحصر في نصّ الواضع أو النقل عنه صريحا ، بل قد
يعلم بوجود الخواصّ كما أشرنا. والخاصّة موجودة فيها وهو التبادر كما بيّنا ، مع
أنّه لا دليل على وجوب تحصيل اليقين ، ولا يلزم استواء الكلّ في المتواتر لاختلاف
الدّواعي والموانع.
وحجّة التوقّف : عدم ظهور المأخذ ، وقد عرفته.
__________________
قانون
صيغ العموم على القول بوضع اللّفظ له كثيرة.
منها : لفظ «كلّ»
، والأظهر انّه حقيقة في العموم وإرادة الهيئة الاجتماعيّة منه مجاز ، لتبادر خلافه وهو العموم الافرادي.
وكذلك لفظ «الجميع»
وما تصرّف منه ك : «أجمع» و «جمع» و «جمعاء» و «أجمعين» وتوابعه المشهورة .
ومنها : لفظ سائر
على إطلاقيه ، وإن كان أظهر في إرادة الباقي ، فإنّه ظاهر في تمام الباقي.
ومنها : «كافّة» و
«قاطبة» .
و «من» و «ما»
الشرطيتان والاستفهاميتان ، وأمّا الموصولتان فلا عموم فيهما إلّا أن يتضمّن معنى
الشرطيّة ، ويفهم ذلك من الخارج ، وإلّا فالأظهر الحمل على الموصولة ، ولا عموم
إلّا أن يجعل من باب إطلاق الجنس كما سيجيء في المفرد المحلّى باللّام.
والأظهر الأقوى
أنّ «ما» حقيقة في غير أولي العلم . ودعوى أنّه حقيقة في
__________________
الأعمّ منه كما
ذهب إليه جماعة ممنوعة .
وكذلك النّكرتان
الموصوفتان لا عموم فيهما نحو : مررت بمن أو بما معجب لك. وعن بعضهم إلحاق ما الزّمانية مثل : (إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً) ، والمصدرية إذا وصلت بفعل مستقبل مثل : يعجبني ما تصنع.
ومنها : «أي» في
الشّرط والاستفهام. وعن جمهور الأصوليّين : انّها عامّة في أولي العلم وغيرهم إلّا
أنّها ليست للتكرار بخلاف «كلّ» ، فلو قال لوكيله : أي رجل دخل المسجد فأعطه
درهما ، اقتصر على إعطاء واحد ، بخلاف ما لو قال : كلّ رجل ، فإنّه يعطي الجميع ،
فعلى هذا يكون عموم «أيّ» عموما بدليّا كما في المطلق بخلاف «كلّ».
__________________
ومنها : «مهما» و
«إذما» و «أيّان» و «أنّى» .
ومنها : «متى» و «حيث»
و «أين» و «كيف» و «إذا الشرطية» إذا اتّصلت بواحد منها ما. وأمّا إذا كانت منفردة فقد يحمل
على العموم إذا اقتضاه الحكمة مثل «إن».
وهناك ألفاظ أخر
مذكورة في «تمهيد القواعد» وغيره والمعيار في الكلّ التبادر ، فإن فهم التبادر فيثبت
الحقيقة وإلّا فإن اقتضاه الحكمة أيضا فكما عرفت ، وإلّا فلا عموم.
وسنفرد الكلام في
بعضها للإشكال والخلاف فيه بالخصوص.
__________________
قانون
اختلف أصحابنا بعد اتّفاقهم ظاهرا في
إفادة الجمع المحلّى باللّام للعموم في دلالة المفرد المحلّى عليه.
وتنقيح المطلب يستدعي رسم مقدّمات.
الأولى
المراد بالمفرد هنا اسم الجنس ، ولا بدّ من بيان المراد من الجنس واسم الجنس والفرق بين اسم
الجنس وعلم الجنس والنّكرة والمعرّف بلام الجنس والجمع واسم الجمع.
فاعلم ، أنّ
المراد من الجنس هو الطبيعة الكليّة المقرّرة في نفس الأمر مع قطع النظر عن وضع
لفظ له ، فمفهوم الرّجل بمعنى ذات ثبت له الرّجوليّة الذي هو مقابل مفهوم المرأة
هو الجنس ، ولا يعتبر في تحقّق مفهومه وحدة ولا كثرة ، بل ويتحقّق مع الواحد وما
فوقه والقليل والكثير. ولفظ رجل اسم يدلّ على ذلك الجنس ، لكنّهم اختلفوا في أنّ
المراد باسم الجنس هو الماهيّة المطلقة لا بشرط شيء فيكون مطابقا للمسمّى أو
الماهيّة مع وحدة لا بعينها ويسمّى فردا منتشرا.
والأقوى الأوّل.
وذلك لأنّ الأسماء
التي يتعاور عليها المعاني المختلفة بسبب تعاور
__________________
الألفاظ الغير
المستقلّة عليها كاللّام والتنوين والألف والنّون وغيرها من التغييرات والمتمّمات ، لا بدّ أن يكون لها مع قطع
النظر عنها معنى شخصي وضع اللّفظ له ، كما أنّه يحصل لها بسبب لحوق هذه اللّواحق
أوضاع نوعيّة مستفادة من استقراء كلامهم . والقول بثبوت الوضع الشخصي بالنسبة الى كل واحد من المعاني بملاحظة كلّ واحد
من اللّواحق في كل واحد من الأسماء لعلّه جزاف ، فيستفاد من ملاحظة تعاور المعاني
المختلفة على اللّفظ بسبب تعاور الملحقات بحسب المقامات ، أنّ هناك مفهوما مشتركا
بينها مع قطع النّظر عن اللّواحق يوجد منه شيء في الكلّ ويتفاوت بحسب المقامات ،
وليس ذلك في مثل رجل إلّا معنى الماهيّة لا بشرط .
لا يقال : الإسم
لا يخلو عن شيء من اللّواحق ولا يجوز استعماله بدون شيء منها ، فلم لا تقول : بأنّ
رجلا منوّنا مثلا موضوع لكذا ، ومعرّفا باللّام موضوع لكذا ، وملحقا به الألف
والنّون لكذا ، وهكذا. فلا يجب فرض الرّجل خاليا عن تلك اللّواحق حتّى يلزم له
إثبات معنى ، ويقال : إنّه موضوع للجنس والماهيّة لا بشرط ، لأنّا نقول أوّلا :
إنّ مفهوم الرّجل لا بشرط مع قطع النّظر عن التعيين في الذّهن مفهوم مستقلّ يحتاج
الى لفظ في التفهيم.
__________________
وثانيا : أنّه
أيضا مستعمل في الأسماء المعدودة ولا ريب انّه ليس بمهمل ، بل موضوع وليس له معنى
إلّا ما ذكرناه .
وثالثا : أنّ كلّ
اللّواحق ليس ممّا يفيد معنى جديدا ولا يجب أن يؤثّر في المعنى تأثيرا.
فمنشأ التوهّم في
هذه الاعتراض ، لزوم إتمام الإسم بأحد المذكورات.
ويدفعه : أنّ
تنوين التمكّن أيضا ممّا يتمّ به الإسم ، ولكنّه ليس الغرض منه إلّا أمرا متعلّقا
بالإعراب كما في جاءني زيد. فقولك : رجل جاءني لا امرأة ، إنّما يراد به بيان
الماهيّة ، وكذلك : أسد عليّ وفي الحروب نعامة .
وكيف كان ،
فالظاهر انّ لفظ رجل إذا خلا عن اللّام والتنوين موضوع للماهيّة لا بشرط ، ويؤيّده
ما نقلنا سابقا عن السّكاكي اتفاقهم على كون المصادر الخالية عن اللّام والتنوين
حقيقة في الماهيّة لا بشرط.
وعلى هذا فأصل
مادّة الرّجل مع قطع النّظر عن اللّواحق اسم جنس وموضوع للماهيّة لا بشرط شيء ،
وإذا دخل التنوين فيصير ظاهرا في فرد من تلك الطبيعة ، فالمراد به الطبيعة
الموجودة في ضمن فرد غير معيّن. ومن هنا غلط من أخذ الوحدة الغير المعيّنة في
تعريف اسم الجنس وأدخلها في معناه ، نظرا الى أنّ المقصود من الوضع التركيب لا
تفهيم المعنى ، والإسم لا يستعمل بدون التنوين
__________________
واللّام وغيرهما
من المتمّمات ، وأنت خبير بأنّ الخاصّ لا يدلّ على العامّ وكونه كذلك في بعض
الأحيان لا يستلزمه مطلقا ، فإنّ ذلك لا يتمّ في مثل الرّجل خير من المرأة.
فإن قلت : إنّما
أخذ هذه في تعريف المنكر منه .
قلت : مع أنّه
ينافي إطلاق القائل لا يتمّ في مثل المثالين المتقدّمين ، وفي مثل قولك لمن يسأل عن شبح يتردّد في كونه رجلا أو
امرأة : انّه رجل. فإنّ المراد من التنوين هاهنا ليس الإشارة الى الفرد الغير
المعيّن ، بل المراد إنّه هذه الماهيّة لا غيرها ، والى هذا ينظر من قال : إنّ اسم
الجنس موضوع للماهيّة المطلقة. فقولنا : رجل في جاءني رجل ، نكرة لا اسم جنس ، ولذا جعلوا النّكرة قسيما
لاسم الجنس ، وإلّا فالنّكارة قد تلاحظ بالنسبة الى الطبيعة ، أيضا بحسب ملاحظة
حضورها في الذّهن وعدمه. فرجل في المثال المتقدّم نكرة باعتبار عدم ملاحظة تعيّن الطبيعة. وفي المثال
المتأخّر باعتبار ملاحظة عدم تعيّن الفرد.
وبالجملة ، فهنا
أربعة أمثلة : رجل إذا خلا عن اللّام والتنوين ، وهذا رجل يعني لا امرأة ، وجاءني
رجل أو جئني برجل ، والرّجل خير من المرأة.
__________________
أمّا الأوّل :
فالمراد به الطبيعة لا بشرط بلا ريب. ولعلّ القائل بدخول الوحدة الغير المعيّنة
غفل عن هذا لأنّ نظره الى المركّبات لا الى مثل الأسماء المعدودة لندرة استعمالها
في المحاورات ، وإلّا فلا بدّ أن يقول بدخول الوحدة فيه أيضا.
وأمّا الثاني :
فهو اسم جنس منكّر بمعنى التنكير في أصل الطبيعة مقابل تعيينها في الذّهن.
وأمّا الثالث :
فهو نكرة بمعنى أنّ المراد منه فرد من ذلك الجنس إمّا غير معيّن أصلا كما في جئني
برجل أو عند السّامع كما في جاءني رجل ، وعلى قول من يقول بدخول الوحدة الغير
المعيّنة في الجنس فيكون اسم جنس ، فلا يبقى فرق عند هذا القائل بين اسم الجنس
والنّكرة ، ولا يصحّ له جعل النّكرة قسيما لاسم الجنس إذا كان المراد اسم الجنس
الغير المعرّف.
وأمّا الرابع :
فهو تعيين للطبيعة وإشارة الى حضورها في الذّهن على المختار ، ومعنى مجازي لاسم
الجنس على القول الثاني لعدم إرادة الوحدة والكثرة جزما ، فقد استعمل في جزء ما
وضع له ، وسيجيء الكلام في باقي أقسام المعرّف باللّام.
وحاصل الكلام
وتتميم المرام ، أنّ رجلا مثلا مع قطع النظر عن اللّام والتنوين له وضع ، والقول
بأنّه لا بدّ أن يكون الوضع إمّا مع التنوين أو اللّام أو غيرهما يحتاج الى دليل.
فإنّ لحوق تلك الملحقات في أحاد جميع الألفاظ ليس مسموعا من العرب ، بل المرخّص
فيه من العرب إنّما هو نوعها ، ولا ريب أنّ هذه اللّواحق تتعاور على لفظ واحد على
مقتضى المقام.
والقول بثبوت
تقديم رخصة بعضها على بعض بأن يقال مثلا رخّص العرب أوّلا
__________________
في استعمال اللّفظ
مع التنوين لإفادة الوحدة ثم مع اللّام لسلب ذلك وإرادة الماهيّة ، ثم مع الألف
والنون لسلب ذلك وإرادة التثنية وهكذا ، جزاف واعتساف.
فالقول : بأنّ
الجنس المعرّف باللّام كان أصله منوّنا ثم عرّف باللّام أو بالعكس وهكذا ، قول بلا
دليل وترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ من إثبات شيء خال عن جميع تلك العوارض يتساوى
نسبته الى الجميع. فلا بدّ من القول بأنّ اللّفظ مع قطع النّظر عن اللّواحق له
معنى وإنّما يتفاوت المعنى بسبب إلحاق الملحقات بمقتضى حاجة المتكلّمين بحسب
المقامات ، ولا ريب إنّهم اتّفقوا في مثل رجل انّ هذه الحروف الثلاثة بهذا الترتيب
موضوعة للماهيّة المعهودة ، وإنّما وقع الخلاف في اعتبار حصولها في ضمن فرد غير
معيّن وعدمه ، والمانع مستظهر والوضع توقيفيّ ، مع أنّ السّكاكي نقل إجماع أهل العربيّة
على أنّ المصادر الخالية عن اللّام والتنوين موضوعة للماهيّة لا بشرط شيء ، ويبعد
الفرق بينها وبين غيرها ، فحينئذ نقول : اسم الجنس عبارة عمّا دلّ على الماهيّة
الكليّة لا بشرط شيء ، وهو الإسم الخالي من الملحقات وقد يلحقه تنوين التمكّن كما
في مثل : هذا رجل لا امرأة ، ومنه قول الشاعر : أسد عليّ وفي الحروب نعامة. وقد
يلحقه الألف واللّام للإشارة الى نفس الطبيعة وتعيينه في مثل : الرّجل خير من المرأة
، وفي هذه الأمثلة التفات الى جانب الفرد لا واحدا ولا أكثر.
__________________
وأمّا إذا لحقه
التنوين المفيد للوحدة ، فحينئذ يصير نكرة ولا يقال له حينئذ اسم الجنس ، فالمراد
به فرد من ذلك الجنس. وإذا لحقه الألف والنّون فيصير تثنية ، فالمراد به فردان من
ذلك الجنس ، وهكذا الجمع. وإذا لحقه الألف واللّام فإن أريد بها الإشارة الى فرد
خاصّ باعتبار العهد في الخارج فهو المعهود الخارجي ، وهو إمّا باعتبار ذكره سابقا كقوله تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ) ، و : (الْمِصْباحُ فِي
زُجاجَةٍ) ، فيقال له العهد الذكري أو باعتبار حضوره كقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، ومنه : يا أيّها الرّجل : وهذا الرّجل.
وكما يشار بهذه
اللّام الى الفرد المعيّن المعهود ، فقد يشار بها الى الصنف المعيّن من الجنس ،
كما يستفاد ذلك من إرجاع المفرد المحلّى باللّام الى الأفراد المتعارفة وسنشير
إليه.
وكما يمكن إرادة
الفرد المعيّن من الطبيعة الداخلة عليها اللّام بلام العهد هذه ، فيمكن إرادة أحد
معنيي المشترك اللّفظي أيضا كما هو أحد الاحتمالين في الإرجاع الى الأفراد الغالبة
كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى. وإن أشير بها الى تعيين الماهيّة فهي
لتعريف الجنس وتعيينه من غير نظر الى الفرد كما في قولك : الرّجل خير من المرأة ، وهو قسمان :
__________________
قسم يصحّ إرادة
الأفراد منه لكنّه لم يرد كما في المثال المذكور وكما في المعرّفات مثل : الإنسان
حيوان ناطق.
وقسم لا يمكن
إرادة الأفراد منه كقولك : الحيوان جنس والإنسان نوع ، ثمّ قد يراد بذلك الماهيّة باعتبار الوجود ، يعني يطلق المعرّف بلام الجنس ويراد منه فرد ما موجود في الخارج من
دون تعيين لمعهوديّته في الذّهن. وكونه جزئيا من جزئيّاتها مطابقا لها ، يصحّ
إطلاقها عليه كما في قولك : ادخل السّوق واشتر اللّحم. وذلك إنّما يكون إذا قامت [قام]
القرينة على عدم جواز إرادة الماهيّة من حيث هي ولا من حيث وجودها في ضمن جميع
الأفراد كالدّخول فيما نحن فيه ، وهو في معنى النّكرة وإن كان يجري عليه أحكام
المعارف.
وقد يراد بها
الماهيّة باعتبار وجودها في ضمن جميع الأفراد كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) وجعل المعهود الخارجي خارجا عن المعرّف بلام الجنس هو
المذكور في كلام القوم.
ووجهه : أنّ معرفة الجنس لا يكفي في تعيين شيء من أفراده ، بل
يحتاج الى معرفة اخرى.
وفيه : أنّ
الاستغراق وإرادة فرد ما أيضا لا يكفي فيهما معرفة الجنس ، بل يحتاجان الى أمر
خارج وهو ما يدلّ على عدم إمكان إرادة الماهيّة من حيث هي
__________________
فيهما وعدم إمكان
إرادة البعض الغير المعيّن أيضا في الاستغراق ، فالأولى أن يجعل المقسم اسم الجنس
إذا عرّف باللّام ، ويقال إمّا يقصد باللّام محض تعيين الطبيعة والإشارة إليها كما
هو أصل موضوع الألف واللّام ولم يقصد أزيد منه بأصل العدم فيما يحتمل غيره فهو
تعريف الجنس ، وإما أن يقصد به الطبيعة باعتبار الوجود ، فإمّا أن يثبت قرينة على
إرادة فرد خاصّ فهو العهد الخارجي ، وإلّا فإن ثبت قرينة على عدم جواز إرادة جميع
الأفراد فهو للعهد الذّهني ، وإلّا فللاستغراق.
ويبقى الكلام في
أمور :
الأوّل : أنّه هل
يكفي مجرّد المعهوديّة في الخارج في حمل اللّفظ عليه أو يحتاج الى شيء آخر .
والثاني : أنّ
الحمل على العهد الذّهني كيف صار بعد عدم إمكان الحمل على الاستغراق.
والثالث : ما وجه الحمل على الاستغراق إذا لم يعهد شيء في الخارج ، وهل هو
من باب دلالة العقل أو اللّفظ ، وسيجيء الكلام فيها.
ثمّ إنّ الفرق بين
العهد الذّهني والنّكرة ليس إلّا من جهة أنّ الدلالة على الفرد في العهد بالقرينة
وفي النّكرة بالوضع. والظاهر انّه أيضا يستعمل في كلا معنيي النّكرة ، أعني ما كان
من باب : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ) ، ومن باب : جئني برجل.
__________________
وأمّا الفرق بين
علم الجنس واسم الجنس ، فهو انّ علم الجنس قد وضع للماهيّة المتّحدة مع ملاحظة
تعيينها وحضورها في الذّهن كأسامة ، فقد تراهم يعاملون معها معاملة المعارف بخلاف
اسم الجنس ، فإنّ التعيين والتعريف إنّما يحصل فيه بالآلة مثل الألف واللّام ،
فالعلم يدلّ عليه بجوهره واسم الجنس بالآلة.
وأمّا الكليّ
الطبيعي فلا مناسبة بينه وبين اسم الجنس ، والمناسب له إنّما هو نفس الجنس وليس
كلّ جنس يكون كليّا طبيعيّا فالجنس أعمّ ، فإنّ الكلّي الطبيعيّ معروض لمفهوم
الكليّ ونفس الكليّ جنس ، فالجنس أعمّ مطلقا.
وأمّا الفرق بين
اسم الجمع واسم الجنس فهو أنّ اسم الجنس يقع على الواحد والاثنين بالوضع بخلاف اسم
الجمع.
الثانية
لا اختصاص للجنسيّة بالمفردات ، بل قد
يحصل في الجمع أيضا لا بمعنى انّ
المراد من الجمع هو الجنس الموجود في ضمن جماعة كما يقال في النّكرة انّه الجنس
والطبيعة مع قيد وحدة غير معيّنة ، بل بمعنى انّ الجماعة أيضا مفهوم كلّي ، حتّى
أنّ جماعة الرّجال أيضا مفهوم كلّي. فلك تصوير جميع الصّور المتقدّمة فيه ، فيقال
لفظ رجال مع قطع النظر عن اللّام والتنوين موضوع لما فوق الاثنين ، وهو يشمل
الثلاثة والأربعة وجميع رجال العالم ، فقد ينوّن ويراد به الوحدة ـ أعني جماعة
واحدة ـ مثل النّكرة الأفراديّة في المفرد ، وقد ينوّن لمحض التمكّن ويراد
__________________
به الماهيّة بدون
ملاحظة التعيين كما في قول الشاعر : أقوم آل حصن أم نساء؟! وقد يعرّف ويراد به الجنس والماهيّة مثل : والله لا أتزوّج
الثيّبات ، بل الأبكار ، إذا أراد جنس الجمع. وقد يراد به الجمع المعهود إذا كان
هناك عهد خارجي ، وقد يراد به العهد الذهني كقوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ
سَبِيلاً) ، إن قلنا بكون الجملة صفة للمستضعفين ، بل وقد يثنّى
ويقال رجالان وقد يجمع كرجاجيل [كرياجيل] وجمالات الى غير ذلك.
وأمّا التّثنية
فلا يجري جميع ما ذكر فيه ، فإنّ القدر المشترك بين كل واحد من الجموع ومجموعها
موجود وهو مفهوم جماعة الرّجال ، بخلاف رجلان ، فإنّ مفهوم اثنان من الرّجال مشترك
بين كلّ واحد من الاثنينيات بخلاف المجموع ، فإنّه ليس من أفراد اثنين من الرّجال
، ولكن التثنية أيضا قد يراد به النّكرة وقد يراد به العهد الخارجيّ ، بل العهد
الذهني أيضا ، وقد يراد به الاستغراق ، فالجنسيّة تعرض الجمع كما انّ الجمعية تعرض
الجنس.
ثم إنّ الجمع
المعرّف باللّام قد يراد به الجنس ، بمعنى أنّ الجمع يعرّف بلام الجنس فيسقط عنه
اعتبار الجمعيّة ويبقى إرادة الجنس ، فحينئذ يجوز إرادة الواحد أيضا عنه ، وإلى
هذا ينظر قولهم في تعريف الحكم : بأنّه خطاب الله المتعلّق
__________________
بأفعال المكلّفين
، حيث نقض بالخواصّ مثل وجوب صلاة اللّيل على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بأنّ المراد جنس الفعل وجنس المكلّف ولكنّه مجاز ، لأنّ
انسلاخ معنى الجمعيّة لا يوجب كون اللّفظ حقيقة في المفرد كما صرّحوا بأنّ قولهم
فلان يركب الخيل مجاز ، وبنوا فلان قتلوا فلانا وقد قتله واحد منهم ، مع أنّ
انسلاخ الجمعيّة لا يوجب انسلاخ العموم ، فعلى القول بأنّه حقيقة في العموم كما هو
المشهور والمعروف فيكون حينئذ أيضا مجازا.
نعم يمكن أن يقال
بعد التجوّز وإرادة الجنس ، فلا يكون إرادة الواحد مجازا بالنسبة الى هذا المعنى
المجازي ، ومثل قوله تعالى : (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) يحتمل انسلاخ الجمعية وجنس الجمع كليهما ، ولعلّ الثاني
أظهر .
الثالثة
قد علمت أنّ الألفاظ الموضوعة للمفاهيم
الكليّة لها وضع شخصي مع قطع النظر عن
اللّواحق ، ووضع نوعي بالنظر الى لحوقها.
فاعلم أنّ الوضع
النوعي الحاصل بسبب اللّواحق قد يكون حقيقيّا ، وقد يكون
__________________
مجازيا كسائر
الحقائق والمجازات ، فيحصل الإشكال هنا في أنّ المعاني المستفادة بسبب لحوق اللّام
أو التنوين أو غيرهما أيّها حقيقة وأيّها مجازا ، إذ كما انّ وضع المجازات نوعي
باعتبار ملاحظة أنواع العلائق ، فقد يكون وضع الحقائق أيضا نوعيّا باعتبار الضمّ
والتركيب ، فمعنى تعريف الماهيّة وتعيينها بسبب لحوق اللّام مما لا
ينبغي الريب في كونه معنى حقيقيّا للمفرد المعرّف باللّام.
وأمّا دلالته على
العهد الذهني أو الخارجي او الاستغراق ففيه إشكال.
ويظهر من
التفتازاني في «المطوّل» أنّ استعماله في العهد الذهني حقيقة ، فإنّه أطلق وأريد
منه الجنس وفهم الفرد من القرينة كما في قولك : جاء رجل ، فإنّ المعنى المستعمل
فيه اللّفظ هو ما كان الغرض الأصلي من استعمال اللّفظ هو الدلالة عليه ، والمقصد
الأصلي هنا إرادة الجنس لكن فهم إرادة فرد منه بانضمام قرينة المقام. ويلزم من ذلك
كونه في الاستغراق أيضا حقيقة ، إذ هو أيضا من أفراد تعريف الجنس ، وبسبب قيام
القرينة على عدم إرادة فرد معيّن أو غير معيّن يحمل عليه ، بل ويلزم ذلك في العهد
الخارجي أيضا على ما بيّناه من عدم الفرق ، وضعف إخراجه عن تعريف الجنس وإدخال
صاحبيه فيه .
ويظهر ذلك من غيره
من العلماء أيضا ، وهذا إنّما يتمّ لو جعلنا اسم الجنس هو الماهيّة لا بشرط ، وإلّا فعلى
اعتبار الوحدة الغير المعيّنة فيه ، يصير مجازا بسبب التعريف لإسقاط الوحدة عنه ،
وإرادة الوحدة الثانية بسبب المقام في العهد
__________________
الذهني أو الكثرة
في الاستغراق إنّما هو بقرينة المقام لا بسبب ما كان في أصل الموضوع له ، وإلّا لم
يتمّ في الاستغراق جزما.
وأنا أقول :
الظاهر أنّ المعرّف بلام الجنس لا يصحّ إطلاقه على المذكورات بعنوان الحقيقة ،
لأنّ مدلول المعرّف بلام الجنس هو الماهيّة المعرّاة عن ملاحظة الأفراد مع التعيّن
، والحضور في الذّهن وذكره وإرادة فرد منه ، استعمال اللّفظ في غير ما وضع له.
لا يقال : التّعرية
عن ملاحظة الأفراد ليس عبارة عن ملاحظة عدمها ولا منافاة كما يقال : هذا رجل لا
امرأة ، وهو حقيقة جزما ، لأنّا نجيب عنه بنظير ما أشرنا إليه في مبحث استعمال
اللّفظ المشترك في المعنيين ، من أنّ الوضع توقيفيّ كالأحكام الشرعيّة ، وأنّ
اللّفظ المشترك موضوع لكلّ من المعاني في حال الوحدة لا بشرط الوحدة ، وأنّه لا
رخصة في إرادة غيره معه ، ولا ريب أنّ حال عدم الملاحظة مغاير لحال اعتبار
الملاحظة ، وذكر اللّفظ الموضوع لمعنى وإرادة معنى آخر منه غير حمل
اللّفظ الموضوع لمعنى على معنى آخر مغاير له في الجملة.
والثاني : قد لا
يستلزم المجازيّة كما في قولك : هذا رجل ، فإنّ المراد هنا صدق رجل على المشار
إليه ، وغايته إفادة اتّحاد وجودهما ، لا كونهما موجودا واحدا كما أشرنا في مفهوم
الحصر ، فقولك : زيد الرّجل ، يغاير معنى : زيد رجل ، ولذلك يحمل الأوّل على
المبالغة ، لأنّ معناه أنّ زيدا نفس الطبيعة المعيّنة ، ومعنى الثاني
__________________
أنّه يصدق عليه
أنّه رجل.
إذا عرفت هذا ،
علمت أنّ القول بكون الأقسام المذكورة من أقسام المعرّف بلام الجنس وأنّه حقيقة في
الكلّ غير صحيح ، فلا بدّ إمّا من القول بالاشتراك اللّفظي ، أو كونه حقيقة في
بعضها ومجازا في الآخر.
والذي يترجّح في
النظر هو كونه حقيقة في تعريف الجنس مجازا في غيره ، للتبادر في تعريف الجنس. فمن
يدّعي الحقيقة في العهد أو الاستغراق ، لا بدّ له من إثبات وضع جديد للهيئة
التركيبيّة ، أو يقول باشتراك اللّام لفظا في إفادة كلّ واحد منهما ، وتعيينها
يحتاج الى القرينة والتبادر وغيره ممّا سنذكر ، سيّما أصالة عدم إرادة الفرد يرجّح
ما ذكرنا .
وعلى ما ذكرنا من
التقرير في الجمع مطابقا للمفرد ، لا بدّ أن يقال : إنّه أيضا حقيقة في الجنس إذا
عرّف باللّام ، لكن الغالب في استعماله الاستغراق ، فلعلّه وضع جديد للهيئة
التركيبيّة وسنحقّقه إن شاء الله تعالى.
وبقي الكلام في
النّكرة وأنّه حقيقة في أيّ شيء ، فقولنا : رجل جاءني لا امرأة ، و : جاءني رجل ، و : جئني برجل ، ونحو ذلك ، أيّها نكرة حقيقة وأيّها مجازا أم مشترك
بينهما لفظا أو معنى.
ويظهر الثمرة في
الخالي عن القرينة ، كقولنا : رجل جاءني ، فيحتمل إرادة واحد من الجنس لا اثنين
كما هو معنى النّكرة المصطلحة المجعولة قسيما لاسم الجنس ،
__________________
ويحتمل إرادة نفس
الماهيّة بدون اعتبار حضورها في الذّهن ، والظّاهر أنّه حقيقة في النّكرة المصطلحة
، فإطلاقها على اسم الجنس المنكر يكون مجازا ، ويحتمل كونها حقيقة في الأعمّ .
تنبيه
اعلم ، أنّ استعمال الكلّي في الفرد
يتصوّر على وجوه لا بدّ من معرفتها
ومعرفة أنّ أيّها حقيقة وأيّها مجاز.
منها : حمل الكلّي على الفرد صريحا ،
مثل أن يقال : زيد إنسان ، فالإنسان قد حمل على زيد ولكن لم يستعمل في زيد ، بل
استعمل في مفهومه الكليّ الذي زيد أحد أفراده ، وتنوينه تنوين التمكّن لا التنكير.
لا يقال : أنّ
الحمل يقتضي الاتّحاد ، فإذا كان المراد بالإنسان هو المفهوم الكلّي ، فيلزم أن
يكون الإنسان منحصرا في زيد ، لأنّا نقول : الاتّحاد الحملي لا يقتضي إلّا اتّحاده
مع الموضوع في الوجود ولا يقتضي كونهما موجودا واحدا وإلّا لبطل قولهم : الأعم ما
يصدق على الأخصّ صدقا كلّيّا دون العكس.
فالحاصل ، أنّ
زيدا والإنسان موجودان بوجود واحد ، وإن أمكن أن يوجد الإنسان مع عمرو أيضا بوجود
واحد ، وهكذا. ولو أريد كونهما موجودا واحدا فلا ريب أنّه لا يصحّ إلّا على سبيل
المبالغة ، وهذا هو مآل قولهم : إنّ الانسان حمل
__________________
على زيد مع
الخصوصيّة ، يعني أنّ زيدا لا غير إنسان ، وكونهما موجودا واحدا.
وبهذا الوجه
يستفاد الحصر في مثل قولهم : زيد الشّجاع ، على أحد الوجوه ، وحينئذ فلا مجاز في
اللّفظ أصلا ، بل المجاز إنّما هو في الإسناد ، وهو خارج عمّا نحن فيه ، ومن هذا
يعلم حال قولنا : زيد الإنسان ، معرّفا باللّام وإنّ إسناده مجازي.
فالأولى أن يخرج
هذا من أقسام إطلاق الكليّ على الفرد.
ومنها : أن يطلق الكليّ ويراد به الفرد
، وهذا يتصوّر على
أقسام :
مثل : جاءني رجل ،
و : جئني برجل ، و : هذا الرّجل فعل كذا.
فلو أريد اتّحاد
المفهوم مع الفرد في كلّ منها ، بأن يكون المراد جاءني شخص هو الرّجل لا غير ، بأن يكون
مع الفرد موجودا واحدا ويكون هو هو ، فلا ريب أنّه مجاز في الجميع ، وهذا معنى
قولهم : إذا أطلق العامّ على الخاصّ مع قيد الخصوصيّة فهو مجاز.
وإن أريد كونهما
موجودين بوجود واحد فهو حقيقة ، لكنّ فهم ذلك يحتاج الى لطف قريحة.
وبيانه ، أنّا قد
حقّقنا لك أنّ اللّفظ الموضوع للكليّ وهو الجنس ، أعني الشامل للقليل والكثير
المنشئان بالشئون المختلفة ، هو مادّة اللّفظ المفرد بدون اللّام والتنوين أو إذا دخله تنوين التمكّن أيضا في بعض الصّور ، وأمّا
فيما دخله تنوين التنكير فلا ريب أنّه يحصل له معنى آخر بوضع نوعي هو معنى النّكرة
كسائر
__________________
التصرّفات الأخر
الموجبة لتنويع الأوضاع ، كالتثنية والجمع وغيرهما. ففي قولنا : جاء رجل ، أريد
شخص معيّن في الخارج عند المتكلّم ، غير معيّن عند المخاطب ، ومعناه حينئذ في ظرف
التحليل ، جاء شخص متّصف بأنّه رجل ، فيستلزم تلك النسبة التقييدية المستفادة من
المادّة ، والتنوين نسبة خبريّة وهو قولنا : هو رجل ، بالحمل المتعارفي ، والكلام
فيه هو الكلام في : زيد إنسان ، كما مرّ ، ولا مجاز في أطرافه ولا في نسبته كما
بيّناه. ولو أريد : جاء شخص هو لا غير رجل ، فيستلزم المجاز في اللّفظ بظاهر
الإطلاق ، فإنّ الحبيب النجّار لا غير مثلا معنى مجازي للّفظ المركّب من (ر ج ل).
فإن قلت : إرادة
الخصوصيّة من الفرد لا يستلزم انحصار الكليّ في الفرد ، بل معناه أنّ هذا الشخص مع
الخصوصية رجل ، فاستعمل اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ بطريق الحمل المتعارفي ،
وهو لا ينافي تحقّق الرجل في غير هذا الشخص أيضا.
والحاصل ، أنّ
اللّفظ هنا استعمل في الفرد مع قيد الخصوصية وأطلق عليه ، والمفروض أنّه لم يوضع إلّا للماهيّة ، فاستعماله في الماهيّة والتشخّص
__________________
استعمال في غير ما
وضع له ، وهو مجاز ، وذلك لا يستلزم الحصر ، فما معنى قولك : لا غير ، في هذا المقام؟
قلت : هذا كلام ناشئ عن الغفلة عن فهم الحقيقة والمجاز.
وتحقيق المقام ،
أنّ الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضع له ، المستلزمة في ظرف التحليل للحمل
الذّاتي ، فإنّا إذا سمعنا أنّ العرب وضع لفظ الأسد لنوع من الحيوان واشتبه علينا
هذا النوع ، فإذا وصف لنا هذا الحيوان وتميّز من بين الحيوانات ، وقيل لنا : هذا
الأسد ، فلا ريب أنّ هذا حمل ذاتي وانّ المجاز أيضا هو استعمال اللّفظ الموضوع
لمعنى في معنى آخر ، بأن يفيد أنّ هذا ذاك بعنوان الحمل الذّاتي لا الحمل
المتعارفي ، فإنّ أسدا في قولنا : رأيت أسدا يرمي ، لم يستعمل إلّا في الرّجل
الشّجاع ، ولم يستعمل في زيد مثلا.
نعم استعمل الرّجل
الشّجاع الذي أريد من هذا اللّفظ في زيد على نهج يتضمّن الحمل المتعارفي ، إذ التشبيه إنّما
وقع بين مفهوم الأسد ومفهوم الرّجل الشجاع ، بمعنى أنّ زيدا شبّه من جهة أنّه رجل
شجاع بالحيوان المفترس لا من حيث الخصوصيّة ، واستعير لفظ الأسد الموضوع له لزيد من حيث إنّه رجل شجاع لا من حيث الخصوصيّة ، فلفظ :
أسد في هذا التركيب مجاز من حيث إنّه أريد منه الرّجل الشجاع ، وحقيقة من حيث إطلاقه على فرد منه. فإطلاق
أسد
__________________
على زيد ، له
جهتان : من إحداهما مجاز وهو إطلاقه عليه من حيث إنّه رجل شجاع ، ومن الاخرى حقيقة
وهو إطلاقه عليه من حيث إنّه فرد من أفراد الرّجل الشجاع ، وهذا الأخير بعد جعل
الأسد عبارة عن الرّجل الشجاع ، ففي هذا المثال لم يوجد الحمل المتعارفي للمعنى
الحقيقي بالنسبة الى زيد من حيث إنّه رجل شجاع ، بل حمله ذاتي ، فإنّ الرجل
الشّجاع ليس من أفراد المعنى الحقيقي إلّا على مذهب السّكاكي من باب الادّعاء ،
حتّى يمكن أن يقال : حمل الأسد عليه لا يفيد انحصار أفراده فيه.
فظهر أنّ إطلاق
المعنى الحقيقي على المعنى المجازي ليس إلّا من باب الحمل الذّاتي ، فإذا كان من
باب الحمل الذّاتي فهو يفيد كونهما موجودا واحدا إدّعاء ، وهذا معنى انحصار
المحمول في الموضوع وانحصار المستعمل في المستعمل فيه. وإذا عرفت هذا في الاستعارة
يظهر لك الحال في غيرها من أنواع المجاز ، فإنّ قولنا : رعينا الغيث ، أطلق فيه
الغيث على النبات بعنوان الحمل الذّاتي إدّعاء. يعني أنّ النبات غيث لا
بمعنى أنّه فرد من أفراد الغيث الحقيقي ، بل هو هو.
نعم ، لمّا أريد
منه النبات الخاصّ الذي رعوه ، فإطلاق الغيث بعد جعله بمعنى النبات على الفرد ،
حقيقة من باب إطلاق الكليّ على الفرد بالحمل المتعارفي ، ولا منافاة بين كون
اللّفظ مجازا في معنى ، وحقيقة في حمله على بعض أفراد ذلك المعنى المجازي من جهة إطلاق
الكلّي على الفرد.
إذا تحقّق لك هذا
؛ فاعلم أنّ استعمال العامّ في الخاصّ ـ يعني الكليّ في الفرد ـ
__________________
إن كان من باب
الحمل المتعارفي ، بأن كان المراد بيان اتّحاد العامّ مع الخاصّ في الوجود لا
كونهما موجودا واحدا.
وبعبارة أخرى :
أطلق العامّ على الفرد باعتبار الحصّة الموجودة فيه ، فهو حقيقة كما بيّنا ، لأنّ
المجاز لا بدّ فيه من الحمل الذّاتي.
وأمّا إذا أريد
الخاصّ بشرط الخصوصيّة ومع اعتبار القيد ، فلا يمكن فيه الحمل المتعارفي ، إذ لا
وجود للإنسان بهذا المعنى في فرد آخر ، لاستحالة تحقّق الخصوصيّة في موارد متعدّدة
ضرورة ، وإمكان صدقه على عمرو بالحمل المتعارفي إنّما هو بانسلاخ الخصوصيّة ، ومع
الانسلاخ فهو معنى آخر هو الموضوع له ، لا هذا المعنى.
والمراد من الحمل
المتعارفي حمل المشترك المعنوي على أفراده ، لا من قبيل حمل المشترك اللّفظي على
معانيه أو حمل المعنى الحقيقي والمجازي على معنييه.
ومن التأمّل في
جميع ما ذكرنا ظهر لك أنّ قولنا : إنّ العامّ إذا أطلق على الخصوص باعتبار
الخصوصيّة ، معناه ادّعاء ، كون العامّ منحصرا في الخاصّ ، وغفلة المعترض هنا
تدعوه الى أن يقول : لا نسلّم ذلك ، فإنّ إرادة الخصوصيّة هنا لا تمنع استعماله في
خصوصيّة أخرى ، فلا يفيد الحصر وقد عرفت بطلانه ، فإنّ ما يستعمل في غير هذه
الخصوصيّة ليس هذا المعنى ، بل هو المعنى الحقيقي ، والخصوصيّة عنه منسلخة بالمرّة
حتى يصحّ استعماله في الخصوصيّات المتعدّدة ، وكلامنا في هذا المعنى المجازي.
فظهر بطلان قوله :
وهو لا ينافي تحقّق الرّجل في غير هذا الشخص .
__________________
وعلى هذا فمدخول
اللّام الذي يفيد العهد الخارجي حقيقة في المشار إليه مثل : هذا الرجل خير من هذه المرأة ونحو ذلك. وذلك لأنّ اللّام
للإشارة الى شيء يتّصف بمدخولها إمّا اتّصافا يستلزم الحمل الذّاتي كما في تعريف
الحقيقة أو الحمل المتعارفي كالعهد الخارجي.
وأيّا ما كان فلفظ
المدخول مستعمل في معناه الحقيقي ، ولا ينافي ذلك كون المعرّف باللّام حقيقة في
تعريف الجنس مجازا في العهد الخارجي كما حقّقناه ، مع أنّ الكلام في كون لفظ الكلّي حقيقة في الفرد أو
مجازا ، ولفظ الكليّ هو مدخول اللّام ، فلا مدخليّة في تحقّق هذا الإطلاق للّام
وغيرها من العوارض ، فإن أشير باللّام الى الفرد كما في العهد الخارجي فيتّضح
المقصود ، وأمّا إذا أشير الى تعيين الجنس ، فلا بدّ أن يراد من
مدخوله نفس الطبيعة المعرّاة عن الفرد. فما اشتهر بينهم من أنّ المفرد المحلّى
بلام الجنس إذا استعمل في إرادة فرد ما ويقال له المعهود الذّهني فهو حقيقة غير
واضح ، لأنّ معيار كلامهم في ذلك ، هو أنّه من باب إطلاق الكليّ على الفرد وهو
حقيقة ، ولا ريب أنّ المعرّف بلام الجنس معناه الماهيّة المتّحدة المتعيّنة في
الذّهن المعرّاة عن ملاحظة الأفراد عموما وخصوصا ، وإطلاقه وإرادة الماهيّة
باعتبار الوجود خلاف المعنى الحقيقي.
فإن قلت : إنّ الماهيّة المعرّاة عن ملاحظة الأفراد لا تستلزم
ملاحظة عدمها.
__________________
قلت : نعم لكنّها
تنافي اعتبار وجود الأفراد ، وإن لم تنافي تحقّقها في ضمن الأفراد الموجودة مع
أنّه لا مدخليّة للّام في دلالة لفظ الكلّي على فرده ، فيصير اللّام ملغاة. فإنّ
اللّفظ الموضوع للكلّي من حيث هو كلّي مدخول اللّام لا المعرّف باللّام ، مضافا إلى أنّه لا معنى لوجود الكليّ في ضمن فرد ما ، لأنّه لا
وجود له إلّا في ضمن فرد معيّن ، مع أنّ المعرّف باللّام قد وضع للماهيّة المعرّاة
في حال عدم ملاحظة الأفراد ، ولذلك مثّلوا له بقولهم : الرّجل خير من المرأة ،
ورخصة استعمالها في حال ملاحظة الأفراد لم تثبت من الواضع كالمشترك في أكثر من
معنى.
لا يقال : يرد هذا
في أصل المادّة بتقريب أنّها أيضا موضوعة للماهيّة في حال عدم ملاحظة الأفراد
، لأنّا نقول إنّ استعمالها على هذا الوجه أيضا مجاز ، وما ذكرناه من كونها حقيقة ، إنّما كان من جهة
الحمل لا من جهة الإطلاق ، وهو غير متصوّر فيما نحن فيه لعدم صحّة حمل الطبيعة على
فرد ما .
والحاصل ، أنّ
وجود الكليّ واتّحاده مع الفرد إنّما يصحّ في الفرد الموجود الذي هو مصداق فرد ما
لا مفهوم فرد ما ، والمطلوب هنا من المعرّف بلام
__________________
الجنس هو مفهوم
فرد ما ، ومفهوم فرد ما لا وجود له حتى يتحقّق الطبيعة في ضمنه.
وبالجملة ، مقتضى
ما ذكروه أنّ المراد بالمعرّف باللّام إذا أطلق وأريد منه العهد الذّهني هو
الطبيعة بشرط وجودها في ضمن فرد ما ، لا حال وجودها في الأعيان الخارجيّة ، ولا
معنى محصّل لذلك إلّا إرادة مفهوم فرد ما من الطبيعة من اللّفظ ، ولا شبهة أنّ مفهوم فرد ما مغاير للطبيعة
المطلقة ولا وجود له.
نعم مصداق فرد ما
يتّحد معها في الوجود وليس بمراد جزما ، فهذا من باب اشتباه العارض بالمعروض.
فإن قلت : هذا بعينه يرد على قولك : جئني برجل ، فإنّه أريد منه
الماهيّة بشرط الوجود في ضمن فرد ما ، يعني مصداق فرد ما لا مفهوم فرد ما ، فلم قلت هنا : إنّها حقيقة ولم تقل فيما
نحن فيه؟
قلت : كونه حقيقة
من جهة إرادة النّكرة الملحوظة في مقابل اسم الجنس ، وله وضع نوعي من جهة التركيب
مع التنوين ، ونفس معناه فرد ما ، وهو أيضا كليّ ، وطلبه يرجع الى طلب الكليّ لا
طلب الفرد ولا طلب الكليّ في ضمن الفرد ،
__________________
فالمطلوب منه فرد
ما من الرّجل لا طبيعة الرّجل الحاصلة في ضمن فرد ما ، إلّا أنّ الإتيان بالكليّ
يتوقّف على الإتيان بمصداق فرد ما ، وهو فرد معيّن في الخارج بتعيين المخاطب ، فلو
أردت من قولك : جئني برجل ، جئني بالطبيعة الموجودة في ضمن الفرد ، فهو مجاز أيضا
لعدم الوجود بالفعل اللّازم لصحّة الإطلاق بالفعل ، بخلاف هذا الرّجل مشيرا الى
الطبيعة الموجودة بالفعل في ضمن فرد.
وأمّا مثل : جاء
رجل ، فإن أريد منه النّكرة فهو بعينه مثل : هذا الرّجل ، لأنّه أطلق على الطبيعة
الموجودة ، فإنّ الرّجل الجائي هو مصداق فرد ما لا مفهومه ، وطبيعة فرد ما موجودة
في ضمنه ، وإن أريد منه اسم الجنس فيصحّ أيضا حقيقة لإطلاقه على الطبيعة الموجودة.
ومع هذا كلّه ،
فالعجب من هؤلاء إنّهم أخرجوا العهد الخارجي عن حقيقة الجنس وهو أولى
بالدّخول!
ولعلّهم توهّموا
أنّ هاهنا لما أطلق وأريد الفرد بخصوصه فهو مجاز ، وهو توهّم فاسد ، لأنّ هذا ليس
معنى إرادة الخصوصيّة كما بيّنا ، فإنّ قولنا : هذا الرّجل ، أيضا من باب العهد
الخارجي الحضوري. ولا ريب أنّ المشار إليه هو الماهيّة الموجودة في الفرد ، لا إنّ
المراد أنّ المشار إليه هو هذا الكليّ لا غير حتّى يكون مجازا.
وظنّي ، أنّ توهّم
القول بكون المعرّف بلام الجنس حقيقة في العهد الذهني ، إنّما نشاء من أنّهم
لمّا رأوا الأحكام المتعلّقة بالطبائع على أنواع :
منها : ما يفيد حكما للماهيّة من حسن أو
قبح أو حلّ أو حرمة ونحو ذلك مثل :
__________________
البيع حلال ،
والرّبا حرام ، والصلاة واجبة ، والصوم جنّة من النار ، والخمر كذا ، والخنزير كذا
، واللّحم كذا وأمثال ذلك مما لا يحتاج تصوّر معناه ولا تحقّقه الى ملاحظة فرد.
ومنها : ما يفيد طلب تحصيل الماهيّة مثل : صم وصلّ واشتر اللّحم ، وجئني باللّحم وغير ذلك. وفي
هذه الأمثلة يدلّ الأمر على إيجاد الماهيّة في ضمن الفرد ، والإتيان بفرد منها
دلالة طبعيّة غير مقصودة بالذّات من باب المقدّمة ، وهذا لا يسمّى مدلولا حقيقيّا
للّفظ ، فالمقصود بالذّات من قول القائل : اشتر اللّحم ، طلب نقل طبيعة اللّحم لا
بشرط الى المشتري من دون التفات الى فرد ، ولكن يلزمه وجوب كون فرد ما مطلوبا
بالتّبع وهو عين [غير] المعرّف بلام الجنس ، ولم يرد من اللّفظ فرد ما مطلقا ، فظنّوا
أنّ هذا المعنى التّبعي هو مدلول اللّفظ.
فإن قلت : إنّ
مراد هؤلاء أيضا هو ما ذكرت لا غير.
قلت : ليس كذلك ،
بل صرّحوا بأنّ المعرّف باللّام مستعمل في فرد ما ، لا انّ العقل يحكم تبعا بوجوب
إيجاد فرد ما ، وإن شئت لاحظ كلام
التّفتازاني في «المطوّل» : وقد يأتي المعرّف بلام الحقيقة لواحد من الأفراد باعتبار عهديّته في الذّهن لمطابقة ذلك الواحد الحقيقة ،
يعني يطلق المعرّف بلام الحقيقة الذي هو موضوع للحقيقة المتّحدة في الذّهن على فرد
موجود من الحقيقة باعتبار كونه معهودا في الذّهن وجزئيّا من جزئيّات تلك الحقيقة
مطابقا إيّاها ، كما يطلق الكلّي الطبيعي على كل من جزئياته الى آخر ما ذكره.
__________________
وصرّح في موضع آخر
: بأنّه إنّما أطلق على الفرد الموجود منها باعتبار أنّ الحقيقة موجودة فيه.
وفي موضع آخر :
والحاصل ، أنّ اسم الجنس المعرّف باللّام إمّا أن يطلق على نفس الحقيقة من غير نظر
الى ما صدقت الحقيقة عليه من الأفراد وهو تعريف الجنس والحقيقة ونحوه علم الجنس كأسامة
، وإمّا على حصّة غير معيّنة وهو العهد الذّهني ومثله النّكرة كرجل ، وإمّا
على كل الأفراد وهو الاستغراق ومثله كلّ مضافا الى نكرة. وقد صرّح بذلك في مواضع
أخر .
ثم قال في آخر
كلامه : فإن قلت المعرّف بلام الحقيقة وعلم الجنس إذا أطلقا على واحد كما في : ادخل
السّوق و : رأيت أسامة مقبلة ، أحقيقة هو أم مجاز؟
قلت : بل حقيقة إذ
لم يستعمل إلّا فيما وضع له. الى أن قال : وسيتّضح هذا في بحث الاستعارة.
وحاصل ما ذكره هنا
، أنّ لفظ الأسد لم يوضع للرّجل الشّجاع ، ولا لمعنى عام يشمل الرّجل الشّجاع
والحيوان المفترس كالحيوان المجتري ، وإلّا لكان استعمال الأسد في الرّجل الشّجاع
في قولنا : رأيت أسدا يرمي حقيقة لا مجازا
__________________
لغويّا ، نقل هذا
عن الجمهور ، واستشهد بذلك على أنّ استعمال العامّ في الخاصّ حقيقة كما إذا رأيت
زيدا فقلت : رأيت إنسانا أو رجلا ، فلفظ إنسان ورجل لم يستعمل إلّا فيما وضع له ،
لكنّه قد وقع في الخارج على زيد ، وكذا إذا قال القائل : أكرمت زيدا وأطعمته وكسوته. فقلت : نعم ما فعلت.
ثم قال : وقد سبق
في بحث التعريف باللّام إشارة الى الحقيقة ، وهذا كلّه كما ترى يشهد بأنّه أراد
أنّ المعرّف بلام الجنس إذا أطلق على فرد ما يكون حقيقة.
والحاصل ، أنّي
أقول : لو أريد من المعرّف بلام الجنس فرد ما ، بل الطبيعة التي توجد في ضمن فرد
ما فهو مجاز ، وهم يقولون إنّه حقيقة ، فتبصّر بعين الاعتبار وانظر الى ما قيل لا
الى من قال.
لا يقال : كيف
تجترئ على مخالفة أئمة الفنّ في ذلك ، وهذا من مباحث الألفاظ.
لأنّا نقول : هذا
الكلام مبني على اجتهادهم في فهم إطلاق الكليّ على الفرد وليس ذلك أمرا مقصورا على
النقل ، بل فيه للفكر والاجتهاد مدخليّة فتفكّر وتدبّر ، مع أنّ الفاضل الچلبي نقل الاعتراض على دعوى الحقيقة ، فالقول به أيضا غير عزيز مضافا الى ما يظهر من غيره أيضا .
__________________
والحاصل ، أنّهم
إن أرادوا أنّ مثل : ادخل السّوق و : اشتر اللّحم أو نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ، لتعريف الجنس ، ولكنّ العقل يحكم بسبب المقام انّ إتيان
فرد ما مطلوب بالتّبع وهو حقيقة من جهة انّه مستعمل في نفس الموضوع له وهو الجنس
فنعم الوفاق ، لكنّه غير موافق للكلمات المتقدّمة ، فإنّها صريحة في الإطلاق على
الفرد.
وما يتوهّم
من الفرق بين الإطلاق والاستعمال ، بأنّ الإطلاق يطلق على ما هو غير
مقصود بالذّات بخلاف الاستعمال ، فهو كلام يرجع حاصله الى ما ذكرناه من الدّلالة
التبعيّة ، فلا ريب أنّ رجل في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ) ليس من هذا القبيل ، وكذلك : رأيت اسدا ورجلا ونحو ذلك ،
فكيف يحوّل تحقيق المقام على ما يذكره في باب الاستعارة؟
وإن أرادوا انّه
أطلق وأريد منه فرد ما أو جميع الأفراد وهو حقيقة لوجود الكليّ في ضمنها مثل :
رأيت إنسانا ، وجاء رجل ، فهو مجاز لا حقيقة لاستعمال اللّفظ في غير ما وضع له كما
بيّنا.
فغاية الأمر أنّ
وجود الكليّ في ضمن الفرد علاقة للمجاز ، وكذا مناسبة الكليّ لفرد ما علاقة له.
بقي الكلام في بيان مطلب من قال : انّ
صيغة افعل حقيقة في القدر المشترك
بين الوجوب والندب ، وهو الطلب الرّاجح ، لأنّه قد استعمل فيهما ، فلو كان حقيقة
في
__________________
أحدهما أو كليهما
لزم المجاز والاشتراك فهو للقدر المشترك.
وما أجيب عن ذلك : بأنّه يلزم على هذا تعدّد المجاز لو استعمل في كل
منهما ، لأنّ استعمال ما هو موضوع للكلّي في الفرد مجاز.
وما ردّ به : من
أنّ ذلك إذا أريد الفرد مع قيد الخصوصيّة لا مطلقا .
فإنّه لا يخلو عن
إشكال وإغلاق ، وذلك لأنّ صيغة افعل مشتملة على مادّة وهيئة ، ووضعها بالنسبة إلى
المادة عامّ ، والموضوع له عامّ ، وأمّا بالنسبة الى الهيئة فهي متضمّنة لإسنادين :
أحدهما إسناد الفعل إلى المتكلّم من حيث الطلب.
والثاني إسناده
الى المخاطب من حيث قيام الفعل به وصدوره عنه ، ووضعها بالنسبة إليهما وضع حرفي ،
والمتّصف بالوجوب والنّدب والرّجحان هو النسبة الطّلبية الصادرة عن المتكلّم.
فعلى هذا ،
فالموضوع له كل واحد من الجزئيّات على التحقيق في وضع الحروف ، فإذا
استعمل الصّيغة في الموارد الخاصّة فهي مستعملة بنفسها فيما وضع
__________________
له ، لا انّها من
قبيل استعمال العامّ في فرده ، بل هو استعمال اللّفظ الموضوع باعتبار معنى عام
للجزئيّات الخاصّة في تلك الجزئيّات. فكما انّ كل طلب خاصّ من كل متكلّم خاصّ
وانتساب الفعل الى كلّ مخاطب خاصّ نفس الموضوع له للصيغة ، واستعمال الصيغة فيها
حقيقة مثل : إنّ زيدا إذا قال لعمرو : اضرب أو بكرا [بكر] ، قال لخالد : اضرب
وهكذا ، فكلّ منهما مستعمل فيما وضع له. فكذلك الكيفيّة الطارئة للنسبة في هذه
المواضع من الوجوب والنّدب أو الطلب الرّاجح أيضا راجعة إلى نفس ما وضع له ، فلا
يصحّ القول : بأنّ ذلك استعمال للعام في الخاصّ حتّى يتفرّع عليه الجواب المذكور
أيضا.
فعلى هذا القول ، إن قلنا : بأنّ الصيغة موضوعة لجزئيّات الطلب الحتمي
الإيجابي بعد تصوّر ذلك المفهوم الكليّ حين الوضع وجعله آلة لملاحظة الموضوع له ،
فإذا استعمل في مورد خاصّ لإفادة الإيجاب مثل : أن يقول زيد لعبده : افعل كذا ،
فهو مستعمل في نفس ما وضع له ، وهكذا في النّدب وكذا الطّلب الرّاجح ولا فرق.
فالمستدلّ في هذا
المقام ، إن أراد انّ الملحوظ حين الوضع هو الطلب الرّاجح ، بمعنى عدم ملاحظة
الوجوب والاستحباب والغفلة عن وجه الرّجحان وكيفيّته ، فيكون أفراده حينئذ أيضا
الطّلبات [الطلبيات] الرّاجحة الصادرة عن خصوصيّات المتكلّمين بدون قصد ندب وإيجاب
، فإنّ هذا ممكن بالنظر إلى الطلب ، وإن كان المطلوب لا يخلو في نفس الأمر عن
أحدهما ، فلا يخفى أنّ
__________________
الأفراد حينئذ
إنّما تتشخّص وتتميّز بتميّز المتكلّمين والمخاطبين لا بتفاوت الطلب وملاحظة
الوجوب والنّدب ، فلو استعمل حينئذ في الوجوب أو الندب فيكون مجازا.
وإن أراد القدر
المشترك المنتزع من الوجوب والندب بمعنى الأمر الدّائر بين الأمرين ، فحينئذ يصحّ
كلام المستدلّ من أنّه حقيقة فيهما على المختار في الموضوع له ، ويظهر بطلان كلام
المجيب ، ولعلّ المستدلّ أراد ذلك.
نعم لو فرض حينئذ
استعمال الصّيغة في القدر المشترك بين الأمرين بالمعنى الأوّل ، أعني الطّلب
الرّاجح الخالي من ملاحظة الوجوب والندب وعدم الالتفات إليهما أصلا ، فيكون مجازا.
كما يلزم هذا لو
قيل بوضعها للوجوب فقط أو للنّدب فقط أيضا ، فعليك بالتأمّل في موارد إطلاق الكليّ
وتمييز أنواعها وأقسامها حتى لا يختلط عليك الأمر ، هدانا الله وإيّاك الى صراط
مستقيم.
الرابعة :
مقتضى ما ذكرنا
من التقرير في الجمع ، أوّلا : أن يكون عموم الجمع بالنسبة الى
الجماعات كالمفرد بالنسبة الى
الأفراد ، فإنّ جنس الجماعة إذا عرّف بلام الجنس وأريد منه الاستغراق ، لا بدّ أن
يراد منه استغراقه لجميع ما يصدق عليه
__________________
مدخوله ، فيكون
عمومه يشمل الجماعات ، فيكون معنى : جاءني الرّجال ، جاءني كلّ جماعة من جموع
الرّجال.
وأورد عليه : بأنّ ذلك يستلزم جواز صحّته إذا لم يجئه رجل أو رجلان.
وردّ : بأنّ رجلا
أو رجلين إذا انضمّ الى غيرهما ممّن جاءوا أو بعضهم ، يصير أيضا جمعا آخر ، فلم
يصدق مجيء كلّ جمع من الجموع ، والمراد ثبوت الحكم لآحاد كلّ جمع لا مجموع كلّ جمع
حتّى لا ينافي خروج الواحد أو الاثنين ، فلا يصحّ : جاءني جمع من الرّجال باعتبار
مجيء فرد أو فردين.
وأورد عليه أيضا بأنّ : إرادة ذلك تستلزم تكرارا في مفهوم الجمع المستغرق ،
لأنّ الثلاثة مثلا جماعة ، فتندرج فيه بنفسها وجزء من الأربعة والخمسة وما فوقهما
فتندرج فيه أيضا في ضمنها ، بل نقول : الكلّ من حيث هو كلّ جماعة ، فيكون معتبرا
في الجمع المستغرق ، وما عداه من الجماعات مندرجة فيه ، فلو اعتبر كلّ واحد واحد
منها أيضا لكان تكرارا محضا ، ولذلك ترى الأئمّة يفسّرون الجمع المستغرق إمّا بكلّ
فرد فرد ، وإمّا بالمجموع من حيث المجموع .
__________________
وأورد عليه
، أوّلا : بالنّقض بقوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) و : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ
أُخْتَها) ونحو ذلك.
وفيه : أنّ الحزب
والأمّة في الآيات قد اعتبرت منفردة منفردة ، ولم يعتبر فيه للأحزاب المتداخلة
باعتبار مفهوم الجزئيّة حكم على حدة ، وهكذا في الأمّة ، فاليهود أمّة ، والنصارى
أمّة ، والمجوس أمّة ، وإن كان يصدق على كلّ واحد من أصناف اليهود أمّة أيضا ، وهكذا غيرهم.
وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّه إن أريد بالتكرار أنّ من يحكم بإكرام العلماء لا بدّ
أن يلاحظ ثبوت الحكم للثلاثة مرارا متعدّدة فهو باطل جزما.
وإن أريد أنّه لا
بد أن يكون الحكم ثابتا له في نفس الأمر مرارا متعدّدة بحسب مقتضى اللّفظ مع أنّه
ليس كذلك ، فهو أيضا ممنوع.
وإن أريد أنّ لنا
أن نعتبر دخول الثلاثة في الحكم باعتبارات ، فلا يضرّ على أنّه يجوز أن يشترط
حينئذ عدم تداخل الجماعات وأجزائها ، لئلّا يلزم التكرار المذكور ، فاعتبار العموم
بالنسبة الى كلّ فرد فرد إنّما يكون مع إبطال الجمعيّة ، واعتباره بالنسبة الى كلّ
واحد من الجموع مع بقائه على حالته الأصلية من اعتبار الجميعة ، والظاهر أنّه ايضا
يفيد عموم الأفراد ضمنا.
وأمّا اعتباره
بالنسبة الى المجموع من حيث المجموع فلا يفيد ذلك ، فيصحّ
__________________
أن يقال للرّجال :
عندي درهم على هذا إذا كان الكلّ مشتركا في استحقاق درهم واحد ولا يثبت به
لكلّ واحد منهم درهم.
إذا تمهّد هذه ، فنقول : أمّا الجمع المعرّف باللّام ، فالظاهر أنّه لا خلاف بين أصحابنا في إفادته العموم. ولا يضرّ في ذلك ما ذكرنا من جواز إرادة
الجنس والعهد وغيره ، بل الظاهر أن المتبادر هو العموم الأفرادي لا الجمعي ولا
المجموعي فينسلخ منه معنى الجمعيّة. فالظاهر أنّ هذا وضع مستقلّ للهيئة التركيبيّة
على حدة وصار ذلك سببا لهجر المعنى الذي كان يقتضيه الأصل المقرّر في المقدمات ، من إرادة جنس الجمع على طريق المفرد
المحلّى.
وكيف كان فالدليل
قائم على كونه حقيقة في العموم فيكون في غيره مجازا ، والدّليل الاتفاق ظاهرا ،
والتبادر وجواز الاستثناء مطّردا.
لا يقال : لعلّ
جواز الاستثناء لاحتمال إرادة العموم ، وذلك لا يفيد إرادة العموم عند المتكلّم ،
لأنّا نقول : المراد من جواز الاستثناء ، جوازه بالنظر الى ظاهر اللّفظ مطلقا في
كل مقام لم يقم قرينة على خلافه ، لا الجواز العقلي بسبب إمكان أن يكون موردا
للاستثناء كما لا يخفى.
__________________
وأمّا دلالة جواز
الاستثناء مطّردا على العموم فقد مرّ ، وكذلك الجمع المضاف عند جمهور الأصوليّين.
ومن فروع
المسألتين ما لو أوصى للفقراء أو فقراء البلد ، فإن كانوا محصورين صرف إليهم جميعا
مع الإمكان وإلّا فيصرف الى ثلاثة فصاعدا ، لأنّ المقام قرينة عدم إرادة الحقيقة.
وأمّا المفرد المعرّف باللّام فقيل : بإفادته العموم ، وقيل : بعدمه .
وطريقة تقسيمهم
الجنس المعرّف باللّام الى أقسامه تقتضي القول بكونه حقيقة في الجميع لكن لا على سبيل
الاشتراك ، بل من باب استعمال الكلّي في الأفراد كما أشرنا إليه.
__________________
وقد يستشمّ من بعضهم
القول بالاشتراك اللّفظي.
وأمّا القائل
بإفادته العموم فمذهبه أنّه حقيقة في الاستغراق ، ولعلّه يدّعي وضع الهيئة
التركيبيّة للاستغراق.
والأظهر عندي كونه
حقيقة في الجنس للتبادر في الخالي عن قرينة العهد والاستغراق ، ولأنّ المدخول
موضوع للماهيّة لا بشرط إذا خلا عن التنوين واللّام ، واللّام موضوع للإشارة
والتعيين لا غير ، فمن يدّعي الزيادة فعليه بالإثبات.
وحاصل هذا
الاستدلال يرجع الى اعتبار الوضع الأفرادي في كل واحد من اللّام
والمدخول والرّخصة النوعيّة في مجرّد التركيب مع قطع النظر عن خصوصيّات التراكيب ، فلا يرد أنّ هذا إثبات اللّغة بالتّرجيح ، إلّا أنّه
يمكن أن يقال بعد الرخصة النوعيّة الحاصلة في أنواع الإشارة احتمال إرادة المتكلّم بالنسبة الى الكلّ مساو ، فلا يجري
أصل العدم في واحد منها ، والكلام في أنّ مدخول اللّام حقيقة في الطبيعة لا بشرط ،
والأصل الحقيقة ، لا يثبت الحقيقة في الهيئة التركيبيّة ، فالأولى التمسّك
بالتبادر.
نعم يمكن
الاستدلال هكذا ، في مقابل من يعترف بكون تعريف الجنس معنى له إمّا متوحّدا أو بكونه أحدا لمعاني المشترك فيها اللّفظ
إلزاما بأن يقال : كونه
__________________
حقيقة فيه اتّفاقي
والأصل عدم غيره ، والمجاز خير من الاشتراك.
ويبقى الكلام مع
من يدّعي كونه حقيقة في الاستغراق وسنبطله إن شاء الله تعالى.
ويدلّ عليه أيضا عدم اطّراد الاستثناء ، بمعنى أنّه لا يصحّ في العرف
في كل موضع وإن لم يوجد هنا قرينة إرادة خلاف العموم أيضا لقبح : جاءني الرّجل
إلّا البصري ، وأكرم الرّجل إلا السّفهاء.
وأمّا الاستدلال
بجواز : أكلت الخبز وشربت الماء ، وعدم جواز : جاءني الرّجل كلّهم ، فضعيف لأنّ
عدم إمكان أكل جميع الأخباز وشرب جميع المياه قرينة على عدم العموم ، وعدم جواز
التأكيد بما يؤكد به العامّ لعلّه مراعاة للمناسبة اللّفظية.
واحتجّوا بما حكاه
بعضهم عن الأخفش : أهلك الناس الدّرهم البيض والدّينار الصّفر.
وأجيب عنه : بأنّه
لا يدلّ على العموم ، لأنّ مدلول العامّ كلّ فرد ، ومدلول الجمع مجموع الأفراد .
وفيه ما فيه ، لما
عرفت من أنّ عموم الجمع أيضا أفراديّ.
وبقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا).
وفيه : أنّ ما
يدلّ على كون اللّفظ للعموم اطّراد الاستثناء في جميع ما يحتمل
__________________
اللّفظ للعموم
وغيره على السّوية ، لا مطلق جواز الاستثناء ، والاستثناء هنا قرينة على استعمال
اللّفظ في الاستغراق مجازا ، ومن ذلك يظهر التحقيق في الجواب عن الأوّل أيضا ،
فإنّ التوصيف بالعام قرينة على إرادة الاستغراق ، ونحن لا ننكر مطلق الاستعمال.
وما يقال في الجواب عن الوجهين : أنّ الظاهر أنّه لا مجال لإنكار
إفادة المفرد المعرّف باللّام العموم في بعض الموارد حقيقة ، كيف ودلالة أداة التعريف
على الاستغراق حقيقة ، وكونه أحد معانيها ممّا لا يظهر فيه خلاف بينهم. فالكلام
حينئذ إنّما هو في دلالته على العموم مطلقا بحيث لو استعمل في غيره لكان مجازا على
حدّ جميع صيغ العموم التي هذا شأنها ، والدليل لا يثبت إلّا إفادته العموم في
الجملة ، وهو غير المتنازع فيه ، فإنّما هو مبنيّ على الاشتراك اللّفظي أو على
إطلاق الكلّيّ على الفرد ، وقد عرفت بطلانهما.
ثمّ اعلم ، أنّا
وإن ذهبنا الى أنّ اللّفظ لا يدلّ على العموم لكنّه لازم ما اخترناه من كونه حقيقة
في تعريف الجنس ، إذ الحكم إذا تعلّق بالطبيعة من حيث هي والمفروض أنّها لا تنفكّ
عن شيء من أفرادها ، فيثبت الحكم لكلّ أفرادها.
والقول : بأنّ
الطبائع إنّما تصير متعلّقة للأحكام باعتبار وجودها ، كلام ظاهري ، بل الطبائع بنفسها تصير متعلّقة للأحكام
ومتّصفة بالحسن والقبح ، وغاية ما يمكن أن يقال : إنّه لا وجود لها إلّا بالأفراد.
__________________
وفيه : أنّا نقول
بتعلّقها بها لا بشرط شيء ، لا بشرط أن لا يكون معها شيء حتّى لا يمكن التكليف بها
، وإذا تمكّن المكلّف من الإتيان بها في ضمن الفرد فيصدق عليه أنّه متمكّن منها
كما أشرنا في مبحثه ، ولا فرق بين تعلّق الأمر به أو تعلّق الحلّ والجواز
والحرمة ونحوها .
نعم ، بعد
الامتثال بفرد في الأوامر ، يسقط التكليف ، وذلك لا يستلزم عدم التخيير في الإتيان
بأيّ فرد يمكن حصول الطبيعة في ضمنها.
وأمّا في مثل : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فلا سقوط للحلّ ، والجواز بمجرّد ثبوته لفرد منه أو
أفراد ، ومن لا يجوّز تعلّق الحكم بالطبائع فقد سلك هنا مسلكا آخر في استفادة العموم
إذا وقع المفرد المحلّى في كلام الحكيم ، فقال : بأنّ الطبيعة لمّا لم يمكن تعلّق
الحكم بها ولا عهد خارجي يكون مرادا بالفرض ، ولا فائدة في إرادة فرد ما للزوم
الإغراء بالجهل ، فتعيّن إرادة الاستغراق.
وهذا الكلام يجري
على مذاق من يقول بالاشتراك اللّفظي وغيره .
وأمّا المفرد
المضاف ، فالظاهر أنّ المراد به الطبيعة ، فيستفاد منه العموم
باعتبار الطبيعة على ما اخترناه ، وباعتبار الحكمة على التقرير الآخر.
__________________
ثم إنّ الشهيد
الثاني رحمهالله قال في «تمهيد القواعد» : إذا احتمل كون أل للعهد وكونها
لغيره كالجنس أو العموم ، حملت على العهد لأصالة البراءة عن الزّائد ، ولأنّ
تقدّمه قرينة مرشدة إليه. ومن فروعها ما لو حلف لا يشرب الماء ، فإنّه يحمل على
المعهود حتى يحنث ببعضه ، إذ لو حمل على العموم لم يحنث.
ومنها : إذا حلف
لا يأكل البطيخ ، قال بعضهم : لا يحنث بالهندي وهو الأخضر.
وهذا يتمّ حيث لا
يكون الأخضر معهودا عند الحالف إطلاقه عليه إلّا مقيّدا.
ومنها : الحالف لا
يأكل الجوز ، لا يحنث بالجوز الهندي ، والكلام فيه كالسّابق إذ لو كان إطلاقه عليه
معهودا في عرفه حنث به ، إلّا أنّ الغالب خلافه ، بخلاف السّابق فإنّه على العكس .
أقول : بعد
الإغماض عمّا بيّنا من أنّه حقيقة في الجنس ، وأصالة الحقيقة تقتضي إرجاعه الى
إرادة الماهيّة ، نقول : إنّ أصالة البراءة لا تقتضي الحمل على العهد مطلقا ، إذ قد تقتضي الحمل على الجنس أو العموم ، فإذا قال
الشارع : يجوز السّجود على الحجر ، فإذا جوّزنا السّجود على أيّ حجر كان ، فلا يجب
علينا تكلّف تحصيل المعهود لو فرض حصول غير المعهود ، مثل المغناطيس ، وأمثلته في
أحكام الشرع كثيرة ، مع أنّ ما ذكره في حكاية شرب الماء ، مع المناقشة في عدم كونه
مثالا لما نحن فيه ، إذ العهد فيه إنّما هو في الشّرب لا الماء ، يقتضي خلاف ما
ادّعاه.
وبالجملة ، فأصالة
البراءة قد تقتضي الحمل على المعهود كما في المثالين
__________________
الأخيرين ، وقد
تقتضي الحمل على العموم ، مع أنّ فيما يقتضي الحمل على العهد إنّما يتمّ ما ذكره
في الجنس إن أريد به ما يستلزم العموم كما حقّقناه. وإن أريد به ما يشمل المعهود
الذّهني فلا نوافقه أيضا ، لأنّه قد يكون أصالة البراءة مقتضية
للتنكير ، وإن حمل العهد في كلامه على الأعمّ من الذّهني ، فمع بعده أيضا لا يتمّ ، لأنّ أصالة البراءة قد تقتضي الحمل على
العموم مع أنّه لا يناسب قوله : ولأنّ تقدّمه قرينة مرشدة إليه.
هذا كلّه ، مع
أنّه لا يقتضي ما ذكره إلّا عدم ثبوت التكليف في غير المعهود لعدم العلم بأزيد منه
، لا أنّ المتكلّم استعمل اللّفظ في العهد ، فالأولى أن يقال في موضع أصالة
البراءة أصالة عدم ثبوت الحكم إلّا في المعهود ، يعني إذا دار الأمر بين إرادة
الجنس والعهد والعموم ، فالمعهود مراد بالضّرورة ، لدخوله تحتهما ، والأصل عدم ثبوت الحكم في غيره.
وحينئذ يرد عليه : أنّه يتمّ لو لم يحتمل الجنس إرادة وجوده في ضمن فرد ما
، فإنّ المعهود حينئذ غير معلوم المراد جزما.
نعم ، لو أريد
بالجنس ما يستلزم العموم كما بيّناه سابقا ، فلذلك وجه ، لكن يبقى
__________________
عليه الأنظار
الأخر.
وأمّا قوله : ولأنّ تقدّمه قرينة مرشدة إليه.
ففيه : أنّه إن
أراد أنّه حصل العلم بسبب تقدّمه أنّه هو المراد أو الظنّ ، فيكون ذلك قرينة
معيّنة لأحد المعاني المشتركة ، فحينئذ لا يبقى احتمال لإرادة المعاني الأخر ، ولا
يناسب ذلك التمسّك بمقتضى أصالة البراءة.
وإن أراد أنّ
التقدّم والمعهوديّة يجوّز إرادة العهد ويصحّحه ، فهو ليس إلّا جعل المقام قابلا
للاحتمال وتحقيقا للإجمال بسبب إرادة كلّ واحد من المعاني المشتركة ، ومجرّد
صلاحيّة إرادة أحد المعاني من المشترك لا يرجّح إرادته كما لا يخفى.
ثمّ ما يظهر لي ،
أنّ ما لبس المقام وخلط الكلام في هذا المرام هو ما تعارف بينهم أنّ المطلق ينصرف
الى الأفراد الشّائعة ، فجعل الشهيد الثاني رحمهالله الأفراد الشّائعة معهودة ، وجعل الألف واللّام إشارة الى
الصنف المعهود المتعارف في المحاورات ، ثمّ عمّم الكلام في مطلق العهد ، ونظر الى أنّ التقدّم في اللّفظ يرشد الى إرادة المذكور
سابقا في العهد الذّكري ، والتقدّم في التعارف والاصطلاح يرشد الى إرادة الأفراد
المتعارفة فيما كان العهد من جهة ذلك ، فعلى هذا يكون التقدّم قرينة معيّنة
للإرادة ، لا مجوّزة.
ويرد عليه حينئذ ،
مضافا الى ما سبق : أنّ التقدم في الذّكر لا يعيّن إرادة
__________________
المذكور ، وإلّا
فلم يبق الاحتمال المذكور في صدر المقال.
وأمّا تعيين
التعارف ذلك ، فالظاهر أنّه لا مدخليّة للألف واللّام فيه ، بل هو
لانصراف جوهر اللّفظ إليه كما هو شأن المطلق وانصرافه الى الأفراد الشّائعة. فلنقدّم
الكلام في معنى انصراف المطلق الى الأفراد الشّائعة حتى يتّضح المرام.
فنقول : إنّ ذلك
لعلّه مبنيّ على ثبوت الحقيقة العرفيّة لذلك اللّفظ في الأفراد المتعارفة بحيث هجر
المعنى الحقيقي ، والمحقّق فيما دار الأمر بين أن يكون المراد في كلام الشّارع هو
الحقيقة العرفيّة أو اللّغويّة هو تقديم العرف ، وإثبات الحقيقة العرفيّة ، دونه
خرط القتاد ، ولذلك لم يعتبر ذلك علم الهدى رحمهالله ، ويراعي أصل الوضع ويجري الحكم في جميع الأفراد النّادرة .
وأمّا إذا لم يثبت
الحقيقة العرفية بمعنى هجر اللّغوي ، بل حصل حقيقة عرفيّة للّفظ في المعاني
المتعارفة ، مع بقاء المعنى الحقيقي أيضا ، فيصير اللّفظ مشتركا بين الكلّيّ وبعض
الأفراد ، لكن يكون استعماله في أحد المعنيين أشهر ، كما في العين بالنسبة الى
الباصرة والنابعة من بين سائر المعاني ، أو حصل هناك مجاز مشهور
__________________
بسبب غلبة
الاستعمال ، فيشكل الحمل على الأفراد الشّائعة فقط ، لعدم مدخليّة مجرّد
الشّهرة في أحد معاني المشترك في ترجيحه ، ولمعارضة الشّهرة في المجاز المشهور
بأصالة الحقيقة ، إلّا أنّ إرادة الأفراد الشّائعة لمّا كان متحقّق الحصول على أيّ
تقدير ، فتعيّن إرادته ويصير الباقي مشكوكا فيه ، وذلك ليس لترجيح المجاز المشهور
أو أحد معنيي المشترك بسبب اشتهاره ، بل لدخوله في اللّفظ على أيّ التقديرين.
إذا تقرّر هذا ،
فنقول : إنّ العهد الذي جعله معيار الكلام هو هذا المعنى ، وهذا لا مدخليّة له في
اللّام ، اللهمّ إلّا أن يكون اللّام إشارة الى أحد معنيي المشترك اللّفظي كما
أشرنا الى إمكانه سابقا ، إلا أنّه ليس في ذلك كثير فائدة مع إفادة جوهر اللّفظ
ذلك ، وحينئذ يبقى الكلام في تعميم المقام بحيث يشمل العهد الذّكري.
__________________
قانون
المشهور أنّ الجمع المنكّر لا يفيد
العموم
، خلافا للشيخ ، فقال : بإفادته العموم نظرا الى الحكمة ، والجبّائي يحمل المشترك عنده على جميع معانيه.
احتجّوا : بأنّه
قابل لآحاد الجماعات ، ومنها الجميع ، ودلالته على الجميع تحتاج الى دليل ،
والدلالة اللّفظية مفقودة ، فإنّها منحصرة في الثلاثة ، وانتفاء الأوّلين معلوم
وكذا الثالث ، لعدم اللّزوم ، فإنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ ، نعم ،
__________________
أقلّ المراتب
معلوم المراد جزما ، ولا دلالة على ما فوقه.
احتجّ الشيخ :
بأنّ اللّفظ يدلّ على القلّة والكثرة ، فإذا صدر عن الحكيم ولم يبيّن القلّة ،
فعلم عدم إرادتها ، فيحمل على إرادة الكلّ حيث لا قرينة على غيره ، لئلّا يلغو
كلام الحكيم .
واحتجّ الجبائيّ :
بأنّا لو حملناه على الجميع لحملناه على جميع حقائقه ، فكان أولى.
وأجيب عن الأوّل : بأنّ الأقلّ معلوم الإرادة جزما ، فيعمل عليه ويتوقّف في
الباقي حتى يتبيّن ، وهو لا ينافي الحكمة.
وعن الثاني : بمنع كون اللّفظ حقيقة في كلّ واحد من المراتب ، بل هو
للقدر المشترك بينها ، مع أنّ ما ذكره من لزوم حمل المشترك على جميع المعاني إذا
لم يظهر قرينة على التعيين ، فهو ممنوع ، بل التحقيق التوقّف والإجمال حتى يظهر
المراد.
أقول : والتحقيق أن يقال :
إنّ الجمع المنكّر يتصوّر استعماله على
صور :
الأولى : الإخبار
عنه ، بمثل : جاءني رجال ، وله عليّ دراهم.
__________________
والثانية : الحكم
عليه بشيء ، مثل : أحلّ الله بيوعا.
والثالثة : الأمر
بإيجاده ، مثل : أقم نوافل.
والرابعة : جعله
متعلّقا للمأمور به ، مثل : أعط ثلث مالي رجالا أو علماء أو أضفهم في أيّام وصم
أيّاما ، ونحو ذلك.
أمّا الصّورة
الأولى : فقد لا يراد من الإخبار معرفة حال المخبر عنه ، ولا يقصد إلّا إسناد
الفعل إليه ، والمقصود بيان تحقّق ذلك الفعل من فاعل معيّن عند المتكلّم غير
متعيّن عند المخاطب ، كما في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ). ففي مثل ذلك لا يقتضي الحكمة حمل اللّفظ على العموم أصلا
، ويبقى في الجمع إفادة الكثرة ، ولمّا لم يتعيّن من اللّفظ ، فيعلم أنّ الأقلّ
مراد جزما. فالذي نستفيده من المثالين الأوّلين بعنوان الجزم ، هو مجيء ثلاثة رجال وثبوت ثلاثة دراهم.
وأمّا الصورة
الثانية : فإذا كان المراد بيان الحكم للبيوع ، فلا بدّ من معرفة أشخاصها بصيغة
خاصّة بها أو بما يعمّها ، فلا يتأتّى الجواب المذكور فيها.
وحملها على الأقلّ
ينافي الحكمة لعدم التعيين ، إلّا أن يرجع ذلك المثال أيضا الى الصورة الأولى ،
فيكون الإشكال في تعيين البيع لا في تعيين البيوع ، بأن يقال : لا إجمال في بيان
العدد بحيث ينافي الحكمة وهو المقصود بالذّات في هذا المثال كما في : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ). وإنّما يحتاج الى البيان في غيره ،
__________________
وهو تعيين أشخاص
البيع كتعيين الرّجل ، فيحتاج في المثال المذكور الى الذّكر والتفصيل ، وهو خلاف
المفروض ، فإنّ المفروض أنّ المقصود في مثله بيان حكم شخص البيع ومعلوميّة حاله
كما هو شأن الحكيم في بيان الحكم.
وممّا ذكرنا ، يظهر أنّ ما أورد على الجواب المذكور بالنّقض ، بأنّه إذا حصل عدم المنافاة للحكمة بحمل اللّفظ على
القدر المتيقّن من مدلوله ، فيجري ذلك في المفرد المعرّف أيضا ، فما وجه حمله على
العموم نظرا الى الحكمة ، لا يتمّ إلّا أن ينزّل كلام المستدلّ والمجيب على بعض هذه الصّور لا مطلقا ، لأنّ إرادة حليّة بيع غير معيّن في قوله تعالى
: (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) ، لا يعقل له فائدة وحكمة أصلا ، بخلاف الكلام في مطلق الجمع المنكر.
وأمّا الصّورتان
الأخيرتان : فإن أريد منهما مثل ما أريد في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ) ، فالحكمة تقتضي الحمل على العموم وإن
__________________
وإن أريد الإتيان
به مع عدم قصد التعيين عند المتكلّم ، فلا يحتاج الى الحمل على العموم أصلا ، بل
يحصل الامتثال بأقلّ الأفراد ، إذ يحصل الامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمن فرد ، فهو
من باب التخيير المستفاد من الأمر بالكلّي.
فكما أنّ قولك :
جئني برجل ، يقتضي الامتثال بإتيان أيّ رجل يكون ، فكذلك فيما نحن فيه ، إذ كما
أنّ كلّ رجل يصدق عليه أنّه رجل ، فكذلك كلّ رجال يصدق عليه أنّه رجال ، ولمّا كان
ذلك في معنى التخيير ، والتخيير بين الأقلّ والأكثر لا يقتضي إلّا كون الأكثر أفضل
، فالأقلّ متيقّن المراد.
فالعمدة في تحقيق
المسألة إرجاع الأمر الى أنّ المراد بالجمع المنكّر في الكلام هو المعيّن عند
المتكلّم ، المبهم عند المخاطب أو مجرّد الطبيعة المبهمة ، فعلى الأوّل لا بدّ أن
يحمل على العموم لئلّا ينافي الحكمة ، وعلى الثاني يكتفى بالأقلّ لأصالة البراءة
عن الزّائد وحصول الامتثال بالأقلّ. وأمّا حصول العلم بإرادة الأقلّ والشّك في
الباقي ، فهو مشترك بين المعنيين.
ثمّ لا بدّ أن
يعرف أنّ اللّفظ أظهر في أيّ المعنيين ، والظاهر في الصّورة الاولى ، بل المتعيّن هو الأوّل ، وكذا في الصّورة الثانية. وأمّا
في باقي الصّور فالأظهر هو المعنى الثاني فيحمل عليه ويكتفى بالأقلّ الى أن يظهر
من الخارج إرادة التعيين ، فإمّا يحمل على العموم ، أو ينتظر البيان إن كان له
مجال.
ثمّ إنّ ما ذكرنا
، أنّ الحكمة تقتضي الحمل على العموم فيما يحتاج إليه ، إنّما هو
__________________
إذا لم يكن
الإجمال مقتضى الحكمة ، وإلّا فقد يكون مقتضاها الإبهام إذا لم يكن وقت الحاجة الى
بيانه ، ولكن لمّا كان الأصل عدم تلك الحكمة ، والظاهر في أكثر الخطابات أنّها وقت
الحاجة ، فيحمل على العموم.
ثمّ إنّ كلام
المجيب ظاهر في أنّ الأقلّ متيقّن الإرادة ، والباقي مشكوك فيه ، وهذا لا يتمّ
مطلقا ، فإنّ الأمر الدالّ على التخيير في إيجاد الطبيعة لا يبقى معه شكّ في عدم
وجوب الأزيد من أقلّ الأفراد.
فقول القائل : أعط
زيدا دراهم ، على ما هو ظاهره من تعليق الحكم بالطبيعة المبهمة مطلقا ، لا يجعله
من باب : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ) نصّ في إجزاء ثلاثة دراهم ، ولا يبقى معه شكّ في عدم وجوب
الأزيد.
ثمّ إنّ الظّاهر
أنّ مراد الجبّائي الحمل على الجميع من حيث إنّه مجموع معانيه المشترك فيهما لفظا
، لا من حيث إنّه هو أحد معانيها. فعلى هذا يصحّ معنى عمومه الأفرادي والجمعي
كليهما ، فيتّجه الجواب بمنع الاشتراك أوّلا ، وبمنع الظّهور في الجميع ثانيا ،
وبمنع أولويّة إرادة الجميع ثالثا.
والقول بأنّ الحمل
على الجميع أحوط ، معارض بأنّه قد يكون خلافه أحوط.
وعلى ما ذكرنا فلا
يرد ما يقال : انّ منع الاشتراك اللّفظي لا يضرّ المستدلّ إذ يكفيه كون
هذه المراتب من أفراد الحقيقة ، وكون هذا الفرد يشمل جميع الأفراد .
__________________
الأفراد .
وقد ظهر من جميع
ما ذكرنا أنّ القول بدلالة الجمع المنكّر على العموم ليس من جهة دلالة اللّفظ
حقيقة ، بل على مذهب الجبّائي أيضا ، فإنّ حمله على الجميع ليس من جهة أنّه أحد
معانيه ، بل لأنّه يشمل جميع المعاني. فانقدح من ذلك أنّه لا نزاع في عدم دلالة
الجمع المنكّر على العموم بجوهره بحيث يكون لو استعمل في غيره يكون مجازا ،
فتأمّل.
تذنيب
الحقّ أنّ أقلّ ما يطلق عليه صيغ الجمع
حقيقة
،
ثلاثة .
وقال بعض العامّة
: إنّه اثنان ، والقول : بعدم جواز إطلاقها على الاثنين مطلقا شاذّ ضعيف. ولا فرق في ذلك بين المكسّر والسّالم وضمائرهما
.
__________________
والظاهر أنّه لا
نزاع في نحو : نحن ، وإنّنا ، وجئنا ، لأنّه موضوع للمتكلّم مع الغير ولم يوضع
لتثنية المتكلّم لفظ.
لنا : تبادر
الزّائد على الاثنين عند الإطلاق وعدم تبادر الاثنين ، ويؤيّد ذلك وضعهم للتمييز
بين التثنية والجمع علامات وأمارات مثل ، الألف والنون ، والواو والنون ، وغير
ذلك.
احتجّوا بقوله
تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) للإجماع على حجب الأخوين عمّا زاد عن السّدس ، فأطلق
الأخوة على الأخوين فما زاد ، والأصل في الاستعمال الحقيقة.
وفيه : أنّ الإجماع
إنّما هو الدّال على المطلوب ، لا الآية.
سلّمنا ، لكنّه
بضمّ القرينة لا منفردا ، ومطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة.
وبقوله تعالى : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) ، والمراد موسى وهارون عليهماالسلام.
وفيه : منع
الاختصاص ، بل هي لهما مع فرعون تغليبا ، مع أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة كما في
: (مُسْتَمِعُونَ) : وبقوله عليهالسلام : «الاثنان فما فوقهما جماعة» .
وفيه : أنّ المراد
حصول فضيلة الجماعة ، مع أنّه ورد في الخبر أنّ المؤمن
__________________
وحده أيضا جماعة
إذا لم يكن معه من يصلّي معه ، مع أنّ بيان اللّغات ليس من شأنه عليهالسلام ، فالمقصود بيان الحكم.
وقد يجاب أيضا : بأنّ النّزاع إنّما هو في صيغ الجمع لا في لفظ الجمع ،
فإنّه بمعنى مطلق ضمّ شيء الى شيء.
وفيه : أنّ
المتبادر من لفظ الجماعة أيضا الثلاثة وما فوقها ، وكذلك لفظ الجمع إذا لم يقصد به
المعنى المصدري ، أعني الانضمام. والظاهر إنّهما أيضا محلّ النّزاع ، والذي هو
خارج عن محلّ النّزاع هو مادّة (ج م ع) بمعنى مطلق الضمّ والإلحاق ، فإنّه يصدق في
الاثنين أيضا حقيقة.
__________________
قانون
لا خلاف ظاهرا في أنّ النّكرة في سياق
النفي تفيد العموم في الجملة ، ففي بعضها بالنصوصيّة ، وفي بعضها بالظّهور.
أمّا الأوّل :
ففيما إذا وقعت بعد «لا» الكائنة لنفي الجنس ، وكذلك فيما كانت صادقة على القليل
والكثير ك : «شيء» ، وفيما كانت ملازمة للنفي ك : «أحد» و «بدّ» ، أو مدخولة ل : «من» . ولا فرق بين كون النافي هو : «لا» ، أو «لم» ، أو «لن» ،
أو غيرها .
وأمّا الثاني : فهو ما إذا وقعت بعد «ليس» ، و «ما» ، و «لا» المشبّهتين
بليس ، وقد خالف فيه بعضهم .
__________________
والحقّ أنّها
ظاهرة في العموم.
ففي الأوّل لا يجوز أن يقال : لا رجل في الدّار ، بل رجلان ، و : ما
من رجل في الدار ، بل رجلان. وجواز الاستثناء بأن يقال : لا رجل في الدّار إلّا
زيدا ، لا ينافي النصوصيّة كما توهّم ، كما لا ينافيها في الأعداد ، بخلاف الثاني ، فيجوز أن يقال : ليس في الدّار رجل بل رجلان ، و : ما في
الدار رجل ، بل رجلان. بأن يراد بالتنوين الإشارة الى الوحدة العدديّة المعيّنة
ويكون النفي راجعا الى الوحدة ، ولكن الظاهر منه الوحدة الغير المعيّنة ، فهو ظاهر
في العموم.
فالمثال المذكور إخراج عن الظّاهر ، كما لو قيل : ما في الدّار رجل إلّا
زيد.
وأمّا سلب الحكم
عن العموم كقولنا : ما كلّ عدد زوجا ، فليس حكما بالسّلب عن كلّ فرد ، وهو مخرج عن
هذه القاعدة كما لا يخفى.
والظّاهر أنّه لا
فرق بين المفرد والجمع والتثنية في ذلك ، وأنّ الحكم في الظّهور والنصوصيّة أيضا
لا يختلف فيها ، فقولك : لا رجال في الدار ، أيضا نصّ في العموم ، لكنّه نصّ في
أفراد الجموع ، وإن قلنا بكونه ظاهرا في عموم الأفراد أيضا كالجمع المحلّى بسلخ
معنى الجمعيّة ، ولذلك يجوز أن يقال : لا رجال في الدّار ، بل رجل أو رجلان ،
بخلاف المفرد كما مرّ.
والنّهي كالنّفي فيما ذكرنا ، والظاهر
أنّ النّكرة في سياق الاستفهام أيضا مثلها في سياق النفي في إفادة العموم .
__________________
وذهب جماعة من الأصوليّين الى عموم النّكرة في سياق الشّرط أيضا ، وفرّعوا عليه ما لو قال الموصي : إن ولدت ذكرا فله الألف
، وإن ولدت أنثى فلها المائة ، فولدت ذكرين أو أنثيين ، فيشرّك بين الذّكرين في
الألف ، وبين الأنثيين في المائة ، لأنّه ليس أحدهما أولى من الآخر ، فيكون عامّا.
والأظهر أنّ مرجع
ذلك الى تعليق الحكم بالطبيعة ، فعمومه من هذه الجهة كما اخترناه في المفرد
المحلّى ، وإلّا فلا يستفاد العموم من اللّفظ.
وأما النّكرة في سياق الإثبات، فلا يدلّ على العموم إلّا بالنظر الى الحكمة في بعض
الموارد أو بكونه في معرض الامتنان عند بعضهم .
__________________
وأمّا لو كانت
مدخولة للأمر نحو : اعتق رقبة ، فيفيد العموم على البدل ، لا الشّمول. وهذا العموم
مستفاد من انضمام أصالة البراءة عن اعتبار قيد زائد من الإيمان وغيره ، فالإطلاق
مع أصل البراءة يقتضيان كفاية ما صدق عليه الرّقبة أيّ فرد يكون منه ، ولذلك يصحّ الاستثناء منه مطّردا.
فالفرق بين العامّ والمطلق ، أنّ المطلق من حيث اللّفظ لا يدلّ على العموم بخلاف العامّ
، فالعموم المستفاد من المطلق كالعموم المستفاد من تعليق الحكم على الطبيعة من حيث
هي كما مرّ.
وهذان والوقوع في معرض الامتنان ، والوقوع في كلام الحكيم وأمثال
ذلك ممّا يستفاد منها العموم وليس من جهة دلالة اللّفظ بعنوان الوضع ، بل هو
مستنبط من الخارج ، ولذلك نحملها على الأفراد الشّائعة ، لأنّها هي مورد الاستعمال
في الإطلاقات ، ولخروج كلام الحكيم عن اللّغوية بمجرّد ذلك ، بخلاف ما دلّ عليه
اللّفظ بعنوان الوضع ، فإنّها تشمل الأفراد النّادرة ، وإطلاق كلامهم يدلّ على ذلك
أيضا ، إلّا أنّ بعضهم صرّح بعدم دخول الفرد النادر كما نقله في «تمهيد القواعد» ،
وليس ببعيد ، والأولى التفرقة بين الفروض النادرة ، فيقتصر في المطلقات ونحوها على
الأفراد الشّائعة ، ويتعدّى في العمومات الى الأفراد الغير الشّائعة أيضا إن لم
تكن في غاية النّدرة.
وأمّا ما هو في
غاية النّدرة ، فيتوقّف فيه ، ويحصل الإشكال فيما يستفاد من تعليق الحكم على
الطبيعة ، فإنّ الطبيعة لا تنفكّ عن واحد من أفراده فيشمل الأندر
__________________
أيضا ، إلّا أن
يقال : لمّا كان الحكم على الطبيعة باعتبار وجودها فينصرف الى الوجود الغالب ،
فتأمّل لئلّا تتوهّم أنّ هذا رجوع عن القول بكون الطبائع متعلّقة للأحكام كما
أشرنا سابقا.
ثمّ إنّهم ذكروا
في مقام الفرق بين المطلق والعامّ.
أنّ المطلق هو
الماهيّة لا بشرط شيء .
والعامّ هو
الماهيّة بشرط الكثرة المستغرقة .
وهذا لا يخلو عن خفاء
، فإنّ المطلق على ما عرّفوه في بابه : هو الحصّة الشّائعة في جنسها ، وبعبارة
أخرى : هو الفرد المنتشر.
وقد صرّح بعضهم
بالفرق بين المطلق والنّكرة أيضا : بأنّ المطلق هو الماهيّة لا
بشرط شيء ، والنّكرة هو الماهيّة بشرط الوحدة الغير المعيّنة ، وجعل الشخص المنتشر
عبارة أخرى عنها. وغلط من قال : بأنّ المطلق هو الدالّ على واحد لا بعينه ، وأنت خبير بأنّ ذلك ينافي ما ذكروه في تعريف المطلق
واتّفاقهم على التمثيل بمثل : اعتق رقبة.
ويمكن توجيه ما
ذكروه في الفرق بين العامّ والمطلق ، بأنّ المراد من المطلق هو الماهيّة لا بشرط ،
والعامّ هو الماهيّة بشرط شيء ، بأن يقال : إنّ المراد برقبة في قوله : اعتق رقبة
، هو مثل : ما أريد بأسد في قول الشّاعر : اسد عليّ وفي الحروب نعامة ،
__________________
أو : رجل ، في مثل
: رجل جاءني لا امرأة ، كما أشرنا سابقا. ومقتضاه حينئذ جواز عتق أكثر من واحد في
كفّارة واحدة.
ولكن لمّا كان
الامتثال يحصل بفرد من الكلّي سيّما إذا كان تدريجي الحصول ، فلا يعدّ ما بعد
الواحد امتثالا ، لأنّه مقتضى الأمر ، ولا يبقى أمر بعد الامتثال كما حقّقناه في
الواجب التخييري ومسألة اقتضاء الأمر للإجزاء ، فليس الوحدة مرادا من اللّفظ ، بل
استفيد من خارج أو يقال : إنّ الطبيعة لا بشرط إذا تصوّر لها قيود وشرائط متعدّدة
، فتقييدها ببعض القيود إنّما يجعلها مقيّدة بالنسبة الى هذا القيد بخصوصه ، ولا
يخرجها عن الإطلاق بالنسبة الى سائر القيود. فالرّقبة في قوله : اعتق رقبة ، مع
قطع النظر عن التنوين ، موضوعة للطبيعة لا بشرط شيء من الوحدة والكثرة والإيمان
والكفر والصحّة والمرض والصّغر والكبر والبياض والسّواد ، كما مرّ الإشارة إليه ،
وبعد لحوق التنوين وصيرورته مدخول الأمر في هذا الكلام يتقيّد بإرادة فرد ما منه ،
وهذا يخرجه عن الإطلاق بالنسبة الى إرادة الوحدة ، ولكن يبقى بعد مطلقا وماهيّة لا
بشرط بالنسبة الى سائر القيود. فلو قيل : اعتق رقبة مؤمنة ، فيحصل هناك قيدان
للطبيعة ويبقى الطبيعة بعد مطلقة بالنسبة الى سائر القيود وهكذا.
ومرادهم في باب
المطلق والمقيّد هو الإطلاق بالنسبة الى غير الوحدة ، فحينئذ يمكن توجيه كلام
بعضهم في الفرق بين المطلق والنّكرة أيضا باعتبار الحيثيّة ، ف : رقبة ، مطلقة
بالنسبة الى عدم اعتبار غير الوحدة الغير المعيّنة ، ونكرة باعتبار ملاحظة الوحدة
الغير المعيّنة ، فافهم ذلك واغتنم.
__________________
تنبيه
قالوا : إنّ عموم المفرد أشمل
من عموم المثنّى والمجموع ، وهو في المثنّى واضح ، فإنّ عموم المفرد يشمل كلّ فرد فرد ، وعموم المثنّى
يشمل كلّ اثنين اثنين ، وخروج فرد منه غير مضرّ إلّا أن يعتبر منضمّا الى الواحد
من فردي الاثنينيّات المعدودة كما أشرنا في عموم الجمع ، إلّا أنّه لا يتمّ في
التثنية المنفيّة ، فيصدق : لا رجلين في الدّار ، إذا وجد فيها رجل واحد ، بخلاف :
لا رجل في الدار.
وأمّا عموم الجمع
فيتمّ فيه ما ذكروه إذا أردنا منه العموم الجمعي ، على إشكال فيه أيضا ، كما
أشرنا.
وأمّا العموم الأفرادي
كما بيّنا ، أنّه هو الظاهر في الجمع المحلّى ، فلا يتفاوت.
نعم ، قد يتفاوت
باعتبار النصوصيّة والظّهور ، فالنّكرة المنفيّة في المفرد نصّ في عموم الأفراد ،
مثل : لا رجل في الدّار.
وأمّا الجمع
المنكّر المنفيّ ، فإمّا لا يشمل بعض الآحاد كما يقال : لا رجال في الدّار ، بل رجل أو رجلان ، أو يكون
ظاهرا فيه لو سلخنا عنه الجمعية ، والمفرد نصّ.
وأمّا في مثل :
ليس رجل في الدّار ، و : ليس رجال في الدّار ، فالمفرد أيضا أظهر في الشّمول ،
لأنّ فيه احتمالين : إرادة الوحدة المعيّنة ، والغير المعيّنة ، وفي
__________________
الجمع احتمالات
ثلاثة : العموم كالمفرد بانسلاخ الجمعيّة ، ونفي الجمع الواحد وإثبات الجماعات ،
ونفي الجمع وإثبات الواحد أو الاثنين.
وأمّا المفرد
المعرّف والجمع المعرّف ، فالأمر فيه واضح ممّا مرّ ، لقلّة الاحتمال في المفرد
وكثرته في الجمع باحتمال إرادة العموم الجمعي والمجموعي أيضا.
قانون
ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ، ينزل منزلة العموم في
المقال ، نقله في «التمهيد» عن جماعة من المحقّقين . وقال : إنّ أصل القاعدة من الشّافعي . ونقل عنه كلاما آخر يعارضه ظاهرا ، وهو أنّ حكايات الأحوال إذا تطرّق اليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها
الاستدلال.
والأظهر أنّه لا
تعارض بينهما وأنّهما قاعدتان مختلفتا المورد ، فالأولى هي ما كان جوابا عن سؤال ،
بخلاف الثانية.
وتفصيل القول
فيهما : أمّا الأولى ، فهو أنّ السّؤال إمّا عن قضيّة وقعت وهي محتملة أن تقع على
وجوه مختلفة ، وإمّا عنها على تقدير وقوعها كذلك.
وعلى الأوّل ،
فإمّا أن يعلم أنّ المسئول يعلم بالحال على النهج الذي وقع في نفس الأمر أو لا
يعلم ، سواء علم أنّه لا يعلم أو جهل الحال.
أمّا الأوّل ، فلا
عموم في الجواب ، بل هو إنّما ينصرف الى الواقعة حسب ما وقع
__________________
في نفس الأمر.
وأمّا الثاني ،
فإن كان للواقعة وجه ظاهر ينصرف إليه إطلاق السّؤال ، فالظّاهر أنّ الجواب ينزّل
عليه ، وإلّا فيحمل على العموم لأنّه هو المناسب للإرشاد وترك الاستفصال مع تفاوت
الحال. والظاهر انصراف الجواب الى إطلاق السّؤال يستلزم الإبهام والإضلال.
وهذا فيما علم عدم
العلم واضح.
وأمّا فيما لم
يعلم ، فهو أيضا كذلك ، لأصالة عدم العلم ، فإنّ علوم المعصومين عليهمالسلام أيضا حادثة ، وكلّ حادث مسبوق بالعدم الأزليّ يقينا ، ولا يجوز
نقض اليقين إلّا بيقين مثله ، للاستصحاب ودلالة الأخبار الصحيحة.
وما يقال : إنّ
ثبوت علمهم عليهمالسلام بنفس الأمر في الجملة ، ممّا لا شكّ فيه وهو يناقض قولنا :
لا شيء من العلم بحاصل لهم ، فثبوت بعض العلوم لهم يقينا ينقض عدم ثبوت العلم لهم
بشيء يقينا ، فلا يمكن الاستدلال بالقضيّة الكلّيّة في المقام ، فهو كلام ظاهري ،
إذ ملاحظة اليقين والشّك بالنسبة الى كلّ واحد واحد من العلوم لا بالنسبة الى
القضايا المنتزعة عنها ، فلا يجوز نقض اليقين بعدم كلّ علم إلّا بحصول اليقين
بحصوله.
وما يقال : إنّ
القضية الجزئيّة متيقّنة الحصول وأنّ هذا الشكّ إنّما حصل من جهة هذا اليقين ،
ونقض اليقين السّابق إنّما هو بالشكّ الحاصل من يقين آخر. ولا يظهر اندراج هذا
الشّكّ في النّهي الوارد في قولهم عليهمالسلام : «لا تنقض اليقين [أبدا]
__________________
بالشكّ» . فهو أيضا في غاية الوهن.
أمّا أوّلا :
فلأنّا نمنع كون الشكّ حاصلا من جهة هذه القضية ، بل قد يحصل الشكّ مع عدم العلم
بهذه القضيّة أيضا.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ لفظ الشّكّ واليقين عامّ في الحديث ، ويشمل جميع الأفراد .
وأمّا ثالثا :
فلأنّ كلّ معلول يستحيل وجوده في الخارج بدون وجود علّته وإن كانت العلّة نفس
الشكّ والوهم. فالشكّ قد يحصل بسبب حصول الوهم ، وقد يحصل بسبب أمر يقينيّ ، وعلى
أيّ التقديرين إنّما تسبّب عن شيء يقيني فإن بنى على ذلك ، لا يوجد مورد للرواية كما لا يخفى.
نعم ، يمكن توجيه
كلام القائل : بأنّ من الأشياء ما هو معلوم لهم جزما ، ومنها ما هو غير معلوم ،
وقد اختلطا ، فعدم العلم بكون ذلك من المعلوم لا يوجب جواز الحكم بكونه من غير
المعلوم من أجل استصحاب عدم العلم.
وفيه : أنّ ذلك
إنّما يتمّ إذا علمنا بأنّ فيما لا نعلم حاله من الأشياء من جهة المعلوميّة لهم
وعدمها ما هو معلوم لهم وهو فيما نحن فيه ، ممنوع ، إذ لا نعلم نحن أنّ في زمرة ما
لا نعلم حاله من المسئولات ، ما يعلمه المعصوم عليهالسلام.
وأمّا الثاني :
وهو السّؤال عمّا لم يقع بعد ، فهو أيضا يحمل على العموم إن لم يكن له فرد ظاهر
ينصرف إليه ، واحتمال أن يكون المقام مقتضيا للإبهام. فلعلّ المسئول أراد الحكم
بالنسبة الى بعض الأحوال ، وترك بيانه الى وقت الحاجة ، مع
__________________
أنّه خلاف الأصل ،
لا يلتفت إليه مع ثبوت الظهور في العموم ، فعدم العلم بكون المقام مقتضيا للإبهام
يكفي في الحمل على العموم.
وأمّا الثانية : فهو أنّه إمّا نقل فعل المعصوم عليهالسلام سواء علم جهة الفعل ، كما لو أخذ مالا عن يد مسلم بشاهد
ويمين أو لم يعلم ، كما لو أخذ المال عن يد أحد ولم يعلم وجهه ، فلا يجوز التعدّي
إلّا أن يثبت بدليل من خارج ، أو نقل حكمه في مادّة مخصوصة مع احتمال وقوعها على
كيفيّات مختلفة يختلف باختلافها الحكم من دون سبق سؤال.
وهذه ممّا يقولون
لها قضايا الأحوال وأنّه لا عموم فيها ، فإنّها محتملة لاقتصاره في المادّة
المخصوصة ، فتصير في غيرها مجمل الحكم ، فلا يصحّ الاستدلال.
وأمّا التعدّي في
مثل قوله عليهالسلام في جواب الأعرابي : «كفّر» ، حيث سأله عن مواقعة أهله في
نهار رمضان ، فهو من جهة فهم العلّة كما أشرنا في باب المفهوم ،
وسيجيء في باب القياس.
ولنذكر للقاعدتين
مثالين :
الأولى : أنّ
امرأة سألت عنه عليهالسلام عن الحجّ عن أمّها بعد موتها فقال : «نعم».
ولم يستفصل هل
اوصت أم لا.
والثانية : حديث
أبي بكرة لمّا ركع ومشى الى الصفّ حتى دخل فيه ، فقال له
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله : «زادك الله حرصا ولا تعد» . فلا يجوز الاستدلال بها على جواز المشي وإن كان كثيرا ،
إذ يحتمل أن يكون مشي أبي بكرة قليلا ، فالقدر المتيقّن هو ما لم يحصل الكثرة
عادة.
__________________
قانون
المعروف من مذهب الأصحاب أنّ ما وضع
لخطاب المشافهة من قبيل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، و : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، ونحو ذلك لا يعمّ من تأخّر عن زمن الخطاب ، بل يظهر من
بعضهم أنّه إجماع أصحابنا وهو مذهب أكثر أهل الخلاف ، وذهب الآخرون الى العموم والشمول ، والحقّ هو الأوّل.
لنا : أنّ خطاب
المعدوم قبيح عقلا وشرعا ، وقول الأشاعرة بجوازه مكابرة ناشئة عن قولهم بقدم الكلام النفسي ، وجعلهم
التكليف من جملته.
وفيه : مع أنّ
الكلام النفسي غير معقول أنّ التكليف طلب ، والطلب أمر إضافي نسبي لا
يتحقق إلّا بتحقّق المنتسبين ، والمفروض انعدام المطلوب منه ،
__________________
فينتفي تعلّق
الطلب بانتفاء المطلوب منه ، فينتفي الطّلب بانتفاء جزئه.
والقول بحدوث
التعلّق وقدم الطّلب مع أنّه لا معنى له ، لا يدفع التزام حدوث التكليف ، لانتفاء
الكلّ في الأوّل بانتفاء جزئه ، فيكون الكلّ حادثا.
وأيضا جواز
التكليف مشروط بالفهم ، فإذا لم يجز تكليف الغافل والنّائم والسّاهي ، بل الصّبي
والمجنون ، فالمعدوم أولى بالعدم ، وكلّ ذلك عند القائلين بتحسين العقل وتقبيحه ،
واضح.
وأيضا ، المفروض
كون تلك الألفاظ موضوعة للحاضر بحكم نصّ الواضع ، والتبادر وصحّة سلب الخطاب عن
مخاطبة المعدوم ، والملفّق من الموجود والمعدوم ، فالأصل إرادة الحقيقة ، ولا يجوز
العدول عنه إلّا مع ثبوت المجاز ، وهو موقوف على جوازه أوّلا ، وعلى ثبوت القرينة
ثانيا.
أمّا الأوّل :
فممنوع ، لما ذكرنا من استحالة الطلب عن المعدوم.
فإن قلت : إنّ
الطلب من المعدوم قبيح إذا كان على سبيل الخطاب الحقيقي المنجّز ، لم لا يجوز
الطلب عنه على سبيل التعليق؟
قلت : أوّلا : انّ
الطلب التعليقي أيضا لا محصّل له في المعدوم لاقتضاء الطلب مطلوبا منه موجودا ،
وإنّ حقيقة ذلك يرجع الى إعلام الموجودين بأنّ المعدومين يصيرون مكلّفين بذلك حين
وجودهم وبلوغهم ، لا الطلب عنهم بالفعل بإتيان المطلوب إذا وجدوا ، وإنّ ذلك ليس
من قبيل : أنّت وزيد تفعلان كذا.
__________________
وثانيا : على
تسليم جواز ذلك أو أنّ المراد من التجوّز هو إعلام الموجودين بأنّ
المعدومين يصيرون مكلّفين وأمرهم بتبليغهم ذلك إيّاهم.
نقول : إنّ ذلك
يستلزم كون جميع الخطابات الشفاهية مجازات إن أريد التغليب وهو كما ترى. وإن أريد استعمال اللّفظ في الحقيقي والمجازي
على البدل ، فهو غير جائز أيضا ، على ما حقّقناه سابقا.
وما يقال في دفع
ذلك : من أنّ جميع الخطابات معلّقة على شرائط التكليف ، وهي مختلفة بالنّسبة الى
آحاد المكلّفين فمن حصلت له يدخل تحته ، وهذا أمر واحد لا تعدّد فيه ، فلا يلزم
استعمال اللّفظ في المعنيين الحقيقي والمجازي.
ففيه : أنّ
التحقيق أنّ الخطابات المشروطة لا تتعلّق بفاقدي الشرائط قطعا ، كما حقّقناه سابقا
، والتعليق لا يصحّ من العالم بالعواقب ، وقد بيّنّا في مباحث الأوامر معنى الواجب
المشروط ، فلا نعيد. فالخطابات المطلقة لا تتعلّق إلّا بالواجدين ، والغرض من
التعليق بالشّرط هو إعلام الحال ، وأنّ الفاقد للشّرط إذا صار واجدا ، فيتعلّق به
الحكم حينئذ ، وقد بيّنّا سابقا أنّ الأصل في الواجبات هو الإطلاق حتّى يثبت
التقييد بدليل ، فلم يتعلّق المطلقات إلّا بمن وجد الشرائط الثابتة ، سواء قارن
ذكر الشرط لأصل الخطاب أو ثبت من دليل خارج ، فثبت لزوم إرادة المعنيين
__________________
الحقيقي والمجازي
في الخطابات المتنازع فيها على ما ذكرت ، بخلاف الخطابات المشروطة ، وبطل التنظير والمقايسة.
وأمّا الثاني : فمعدوم ، لأنّ المفروض انتفاء الدّليل عليه ، والاشتراك
في أصل التكليف مع كون الرّسول مبعوثا الى الكافّة ، لا يثبت الخطاب كما لا يخفى.
وممّا ذكرنا ،
يظهر أنّ القول بأنّ تلك الخطابات بالنسبة الى المعدومين من باب المكاتبة
والمراسلة إلى النّائي ، فكما أنّه يجوز الخطاب في الكتاب الى من لا يصل إليه إلّا
بعد سنة أو أزيد ، فكذا يجوز للعالم بالعواقب مخاطبة من سيوجد ولو بعد مدّة بهذا
الكتاب ، لا وجه له ، لأنّ الكلام في المكاتبة والمراسلة بعينه ، هو ما ذكرنا ،
لأنّها لا تصحّ إلّا الى الموجود الفاهم إذا أريد منه الطلب الحقيقي ، وإلّا فيكون
المراد من المكاتبة أيضا هو العمل على ما يشمله من الأحكام من باب الوصيّة ،
لا التكلّم والتخاطب ، مع أنّ احتمال ذلك لا يكفي ، ولا بدّ للمدّعي أن يثبت ذلك.
فإن قلت : فإذا
امتنع الخطاب ولو على سبيل المجاز ، فما الذي يثبت التكاليف للمعدومين حين وجودهم
وبلوغهم؟
قلت : أخبر الله
تعالى رسوله صلىاللهعليهوآله بأنّهم إذا وجدوا يصيرون مخاطبين
__________________
مكلّفين بهذه
الأحكام ، وأخبر رسوله خلفاءه عليهمالسلام وهكذا.
ولا يلزم من ذلك
إخبار المعدوم حتّى يلزم محذور القبح السّابق الوارد في خطاب المعدوم ، لأنّ ذلك
إخبار الموجود بحال المعدوم ، وذلك معنى ادّعائهم الإجماع على الاشتراك.
فالحاصل ، أنّا لا
نقول بمخاطبة المعدومين بهذه الخطابات ، لا حقيقة ولا مجازا ، بل نقول باشتراكهم
معهم في الحكم بدليل آخر من الإجماع والضّرورة والأخبار الواردة في ذلك المدّعى
فيها التواتر من غير واحد.
فإن قلت : لو قلنا
بجواز شموله للمعدومين مجازا ، بمعنى إخبار الموجودين بأنّ المعدومين مكلّفون بذلك
بقرينة اشتراكهم في التكليف الثابت بالإجماع والضرورة ، أو قلنا بعدم شموله أصلا ،
وقلنا بالاشتراك من دليل آخر مثل الإجماع والأخبار الواردة في ذلك ، فأيّ ثمرة
للنزاع بين القول بكونه حقيقة في الأعمّ أو مجازا في خطاب الملفّق من الموجود
والمعدوم ، أو عدم الشّمول أصلا ، وثبوت الاشتراك من الخارج؟
قلت : يظهر
الثّمرة في فهم الخطاب ، فإنّ خطاب الحكيم بما له ظاهر ، وإرادة غيره بدون قرينة ،
قبيح.
فإن قلنا : بتوجّه
الخطاب الى المعدومين ، فلا بدّ لهم من أن يبيّنوا فهم الخطاب على اصطلاحهم ، وليس
عليهم التفحّص عن اصطلاح زمن الخطاب ، بل ولا يجوز لهم ذلك ، بخلاف ما لو اختصّ
الخطاب بالحاضرين ، فيجب على المتأخّرين التحرّي والاجتهاد في تحصيل فهم المخاطبين
وطريقة إدراكهم ولو بضميمة
الظّنون
الاجتهاديّة .
ومنها أصل عدم
النقل ، وأصل عدم السّقط والتحريف ، وعدم القرينة الحالية الدّالّة على خلاف
الظاهر ، وأمثال ذلك.
وربّما يذكر هنا
ثمرة أخرى ، وهو أنّ شرط اشتراك الغائبين للحاضرين في الشرائع
والأحكام مع قطع النظر عن الورود بخطاب الجمع ، هو أن يكونا من صنف واحد ، فوجوب
صلاة الجمعة مثلا على الحاضرين مع كونهم يصلّون خلف النبيّ صلىاللهعليهوآله أو نائبه الخاصّ ، لا يوجب وجوبه على الغائبين الفاقدين
لذلك ، لاختلافهم في الصّنف من حيث إنّهم مدركون للسّلطان العادل أو نائبه ، بخلاف
الغائبين. فعلى القول بشمول الخطاب للغائبين ، يمكن الاستدلال بإطلاق الآية على
نفي اشتراط حضور الإمام عليهالسلام أو نائبه ، بخلاف ما لو اختصّ بالحاضرين ، لأنّهم واجدون
للسّلطان العادل أو نائبه ، فلا يمكن التعدّي عنهم الى الغائبين الفاقدين
لاختلافهم في الصّنف ، وأنت خبير بما فيه ، إذ اعتبار الاتّحاد في الصّنف لا يحدّه
قلم ولا يحيط ببيانه رقم. واحتمال مدخليّة كونهم في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله أو أنّهم كان صلاتهم خلفه ، وأمثال ذلك في الأحكام الشرعية
، وحصول التفاوت بذلك ، وعدم الحكم باشتراك الغائبين معهم من جهة هذه المخالفة ،
والتفاوت ممّا يهدم أساس الشّريعة والأحكام رأسا كما لا يخفى.
__________________
ومدخليّة حضور
السّلطان أو نائبه فيما نحن فيه على القول به ، إنّما هو من دليل خارج من إجماع أو
غيره ، فحينئذ نقول : لو أورد على القول باشتراط السّلطان أو نائبه ،
بإطلاق الآية ، واستدلّ به على إبطال الاشتراط ، إنّ وجه عدم التقييد في الآية
بهذا الشرط كون الخطاب مختصّا بالحاضرين وورود الآية مورد الغالب ، وهو حصول الشرط
يومئذ ، فالواجب بالنسبة إليهم مطلق بالنظر الى هذا الشّرط.
نعم ، لو كان
الخطاب شاملا للغائبين لتمّ الاستدلال بإطلاق الآية في دفع الاشتراط للزوم القبيح بإيراد المطلق وإرادة
المشروط.
والحاصل ، أنّ
القول بأنّ الإجماع ثبت على الاشتراك إلّا فيما وقع فيه النزاع لا معنى له ، إلّا
لزوم ادّعاء الإجماع في كلّ واحد واحد من المسائل المعلوم اشتراك الفريقين فيها.
والقول بأنّ شرط
الاشتراك اتّحاد الصنفين المستلزم لبيان أمر وجوديّ هو ما به الاشتراك بينهما ، لا
يمكن تفسيره بأنّ المراد أنّ الفريقين مشتركان إلّا ما وقع النزاع فيه ، فيكون كلّ
ما لم يقع فيه النزاع صنفهما [صنفا] متّحدا ، وما وقع فيه
__________________
النزاع مختلفا.
فتحقيق المقام ، أنّ المستفاد من الأدلّة هو ثبوت الاشتراك مطلقا ، ولزوم
ادّعاء الإجماع بالخصوص في كلّ واقعة واقعة ، مجازفة ، والواجب المشروط مطلق
بالنسبة الى واجد الشّرط ، ومقيّد بالنسبة الى الفاقد ، ولا مدخليّة في ذلك لزمان
الحضور والغيبة من حيث هو ، فلو وجد الغائب الشّرط ، يصير الواجب بالنسبة إليه
مطلقا ، كما لو فقد الواجد في زمان الحضور. وقد يتحصّل الشّرط بنفس زمان الحضور
فيظنّ أنّ التفاوت إنّما كان من جهة زمان الحضور ، وأنّ ذلك صار سببا لاختلاف الصّنف.
فلو فرض في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله أسر جماعة من المسلمين بغتة في أيدي الكفّار وإذهابهم الى
بلاد الكفر من دون رخصته صلىاللهعليهوآله إيّاهم في صلاة الجمعة ، فلا ريب أنّه لا يجب عليهم صلاة
الجمعة حينئذ على القول بالاشتراط.
ولو فرض ظهور صاحب
الزمان صلوات الله عليه اليوم ، أو نائبه الخاصّ ، فلا ريب أنّه يجب على من أدركه
إقامة الصّلاة ، فآل الكلام الى أنّ الفارق والموجب لعدم الاشتراك هو وجدان الشّرط
وفقدانه ، لا الغيبة والحضور ، فبعد ثبوت الاشتراط ، لا فرق بين القول بشمول
الخطاب للمعدومين وعدمه ، فالكلام إنّما هو في إثبات الاشتراط وعدمه. وكون مجرّد
احتمال مدخليّة كونهم مدركين خدمة النبيّ صلىاللهعليهوآله ومصلّين خلفه ، مثبتا للشّرط كما ترى ، إذ أمثال ذلك ممّا
لا يحصى ، ولم
__________________
يقل أحد بذلك في
غير ما نحن فيه ، وبعد تسليم الشّرط ، فلا فرق بين الفريقين.
نعم ، على القول
بالاشتراك مطلقا ، بمعنى أنّ الواجب مطلق مع وجود الشّرط مطلقا ، ومشروط مع فقده
مطلقا ، ولكن وقع النّزاع في ثبوت الشّرط. فإذا استدلّ النّافي للشّرط على المثبت
بإطلاق الآية ، فيمكنه حينئذ الردّ بأنّ الخطاب مخصوص بالحاضرين مجلس الخطاب ، والإطلاق
بالنسبة إليهم لعلّه لكونهم واجدين للشّرط حين الخطاب ، ونحن فاقدون له ، فلا يجب
علينا. ولو كان الخطاب مع الغائبين أيضا لكان واجبا مطلقا لقبح الخطاب عن الحكيم
بما له ظاهر وإرادة خلافه ، فالمستدلّ بإطلاق الآية يريد نفي الاشتراط مطلقا.
والمجيب ، بأنّ
الخطاب مخصوص بالحاضرين يريد دفع دلالة ذلك على ما ادّعاه ، لا إثبات الاشتراط من
كون ذلك خطابا للحاضرين ، وهم صنف مخالف للغائبين ، فلا بدّ للمستدلّ للاشتراط ،
التمسّك بدليل آخر ، فإذا عورض ذلك الدّليل بهذا الإطلاق ،
فيجاب : بأنّ الإطلاق ليس متوجّها الى الغائبين ، فرجع الثّمرة الى فرع من فروع
الثّمرة الأولى ، وهو أنّ الخطاب إذا كان مع الغائبين ، فيجب أن يعملوا على مقتضى
ظاهر الخطاب ، وهو الإطلاق كالحاضرين ، بخلاف ما لو لم يكن كذلك.
وبالجملة ، حاصل
مراد من ذكر هذه الثّمرة بعد تفسير اشتراط اتّحاد الصّنف بعدم كونه ممّا وقع
النّزاع فيه ، أو وقع الإجماع على عدم الاتّحاد ، أنّه لا نزاع أنّ
__________________
صلاة الجمعة مثلا
واجبة على المشافهين لأنّهم كانوا يصلّون مع الرّسول صلىاللهعليهوآله ، وعلى كلّ من هو مثلهم في وجوب المنصوب من المعدومين فهم
مشاركون لهم الى يوم القيامة ، فالقدر المسلّم من الإجماع ، هو ذلك .
وأمّا المعدومون
الفاقدون لذلك ، فلا إجماع على مشاركتهم ، فحينئذ يثمر القول بشمول الخطاب
للمعدومين ، فعلى القول به يثبت الوجوب عليهم أيضا من غير تقييد بوجود المنصوب ،
لإطلاق الآية.
ويرد عليه : أنّ
المعيار في المشاركة إذا كان هو الإجماع ، فلا ريب أنّ القدر المسلّم الثابت للمشافهين
من وجوب الصلاة هو ما داموا واجدين للصّلاة خلف النبيّ صلىاللهعليهوآله أو من ينصبه ، فإذا فقد هؤلاء المشافهون ذلك المنصب بمسافرتهم أو ممنوعيّتهم عن ذلك بمثل فوت النبيّ صلىاللهعليهوآله وغير ذلك ، فلا ريب أنّه لا إجماع على مشاركتهم حينئذ مع المدركين
، فهم مشاركون للفاقدين من المعدومين ، فإذا أثمر القول بشمول الخطاب للمعدومين ، وجوب الصلاة
على الفاقدين منهم أيضا لأجل العموم ، فلا بدّ أن يثمر القول باختصاص الخطاب
للموجودين وجوبها على الفاقدين منهم أيضا لأجل العموم ، فيصير هذا من ثمرات الإطلاق
والتقييد والتعميم والتخصيص في الخطاب ، لا من ثمرات التعلّق بالغائبين أو
الحاضرين. ومع حصول الشّكّ في عمومه للفاقدين على القول باختصاصه للموجودين ، فلم
__________________
لا يحصل الشّك في
عمومه للفاقدين على القول بشموله للمعدومين أيضا!
ولو فرض لك في ذلك
توهّم وتفرقة لفهم الخطاب للحاضرين والغائبين في العموم والخصوص ، فقد عرفت أنّ
ذلك على تقدير صحّته ، رجوع الى الثّمرة الأولى. فثمرة نفي اشتراط إذن المعصوم عليهمالسلام إنّما يترتّب على ما ذكر ، على دعوى العموم ، لا على كون
الخطاب متعلّقا بالمعدومين ، يعني أنّ العموم لمّا كان غير مقيّد بوجدان الإذن ،
وهو شامل للفاقد والواجد ، فينتفي اشتراط الإذن ، لا أنّ الخطاب لمّا كان
للمعدومين قاطبة فانتفى اشتراط الإذن.
ودعوى كونهما مساوقين ، بمعنى أنّ كلّ معدوم فهو فاقد ، وكلّ موجود فهو
واجد ، مع بطلانه في نفسه ومغايرتهما في المفهوم ، فاختلاف الأحكام بالعنوانات وإن
تصادقت مصاديقها ، قد عرفت فيه التخلّف وعدم الاستلزام.
فإن قلت : على
القول باختصاص الخطاب بالموجودين ، خرج الفاقدون منهم بالدّليل.
قلت : على القول
بشموله للمعدومين ، خرج الفاقدون منهم أيضا بالدّليل. فإنّ الدّليل إن كان هو
فقدان الشّرط ، فهما مشتركان فيه ، وإن كان شيء [شيئا] آخر ، فلا بدّ من بيانه.
لا يقال : أنّ
التخصيص الأوّل مرضيّ دون الثاني لكون الباقي أقلّ ، لأنّ المفروض عدم اختصاص
الخطاب بالمعدومين ، ومع ملاحظة الموجودين والمعدومين معا وضعف المعدوم في جنب الموجود ، يندفع هذه الحزازة.
__________________
احتجّ المخالف : بأنّ رسول المعدومين هو رسول الحاضرين بالضّرورة ، ولا
معنى للرسالة إلّا تبليغ الخطاب.
وباحتجاج العلماء في جميع الأعصار بهذه الخطابات من بعد زمن الصّحابة الى
الآن من دون نكير ، وذلك إجماع منهم.
والجواب عن الأوّل
: منع المقدّمة الثانية إن أريد تبليغه على سبيل المشافهة ، وعدم لزوم الخطاب لو
أريد ما يعمّ أيضا الموجودين بإخبار المعدومين بثبوت التكاليف عليهم بالمقصود من
هذه الخطابات على الوجه الذي قصد من الحاضرين ، ومشاركة الرّسول بينهم لا تقتضي
أزيد من ذلك.
والجواب عن الثاني
: منع أنّ احتجاجهم عليهم من جهة أنّ الخطاب متوجّه اليهم ، بل لإثبات أصل الحكم
فيما جهل أصل الحكم أو اختلف فيه ، وبعد ثبوت أصل الحكم في الجملة ، فيعترفون
بثبوته لما ثبت عندهم من اشتراكهم مع الحاضرين في الأحكام بالإجماع والضّرورة.
ونظير ذلك في الفقه كثير غاية الكثرة ، ألا ترى أنّ المتخاصمين في
انفعال
__________________
الماء القليل
بملاقاة النجاسة وعدمه إذا أورد أحدهما على الآخر برواية تدلّ على مذهبه في بعض
الأفراد كالرّواية الدالّة على أنّ الطير إذا وطئ العذرة ودخل في الماء القليل لا
يجوز التوضّؤ به للقائل بالنجاسة . والرّواية الدالّة على عدم تنجّس القربة بموت الجرذ فيها لخصمه ، لا يردّ أحدهما على الآخر بأنّ ذلك في مورد خاصّ ،
ولا يشمل العذرة الدّم والبول ولا عدم جواز التوضّؤ عدم الشّرب ، وكذلك لا يشمل
الجرذ غيرها من النجاسات ، ولا القربة غيرها من المياه القليلة ، بل دفع أحدهما
دليل الآخر إنّما هو من جهة القدح في السّند أو الدّلالة أو الاعتضاد أو غير ذلك ،
وذلك لأنّهما يسلّمان أنّ عدم الفرق بين أفراد النجاسة وأفراد المياه إجماعيّ ،
فالغرض من الاستدلال إثبات نفس الحكم ، لا عمومه وشموله.
__________________
وبالتأمّل في هذه
النظائر يندفع استبعاد بعض المتأخّرين من عدم ذكر مستند الاشتراك حين الاستدلال بتلك الخطابات ،
مع أنّه هو العمدة. وادّعاء أنّ ظهور المستند بحيث يعلمه كلّ أحد من الخصوم ممّا
يحكم البديهة بفساده ، مع أنّ جماعة منهم ادّعى أنّ الشراكة في الحكم بديهيّ معلوم
بالضّرورة من الدّين ، وهو الحقّ الذي لا محيص عنه.
وبالجملة ، قد ثبت
من الضّرورة والإجماع ، بل الأخبار المتواترة على ما ادّعى تواترها البيضاوي أيضا في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، أنّ المعدومين مشاركون مع الحاضرين في الأحكام إلّا ما
أخرجه الدّليل ، بل الظاهر أنّ الدليل المخرج إنّما هو من جهة عدم حصول الشرط في
المعدومين في الواجبات المشروطة ، كالجهاد وصلاة الجمعة ، على القول باشتراط حضور
السّلطان أو نائبه ، لا من جهة تفاوت الحاضرين والغائبين ، بل لو فرض فقد
الموجودين للشّرط ، لكانوا كالغائبين ، ولو فرض وجدان الغائبين له ، لكانوا مثل
الموجودين ، كما أشرنا سابقا.
وقد نصّ بذلك مولانا الصادق عليهالسلام في رواية ابن أبي عمير [عمر] والزّبيدي في الجهاد ، «لأنّ
حكم الله في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلّا من علّة أو حادث يكون ،
والأوّلون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض
__________________
عليهم واحدة ،
يسأل الآخرون عن أداء الفرائض كما يسأل عنه الأوّلون» . الحديث.
وممّا يوضّح ما
ذكرنا ، أنّ العلماء يستدلّون في جميع الأعصار بالخطابات المفردة أيضا ، مثل :
افعل ، وافعلي ، ونحو ذلك ، فلا ريب في عدم شمولها ، فالمقصود إنّما هو إثبات نفس
الحكم.
واحتجاج بعضهم
بالرّوايات الواردة في أنّ
كثيرا من تلك الخطابات نزلت في جماعة نشئوا بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وما ورد في أنّ كثيرا منها وردت في الأئمة عليهمالسلام مثل قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). مندفع : بأنّ ذلك من البطون والكلام إنّما هو في الظاهر ، مع أنّه تعالى قال لليهود : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ
مِنْ قَبْلُ). ولا ريب أنّ ذلك كلّه مجاز أريد به مطلق التّبليغ ، ولا
ينحصر التبليغ في الخطاب كما أشرنا.
__________________
ومن ذلك يندفع
أيضا ما احتجّ به من ورود الأمر بقول : لبّيك ، بعد قول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) و : لا بشيء من
آلائك يا ربّ اكذّب ، بعد قراءة : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). مع أنّ لبّيك لا يدلّ على كون الخطاب معهم ، بل الظاهر
أنّ المراد منه إظهار الإيمان ، سيّما مع ملاحظة عدم استحبابه بعد قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، واستحبابه بعد قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) صلىاللهعليهوآله . وكذلك في الآية الثانية ، مع أنّ غير المكذّبين مأمورون
بذلك البتّة ، والمكذّبون لا يقولون ذلك.
وكذا احتجاجه : بمثل قوله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ) ، ولعدم انحصار الإنذار في الخطاب كما مرّ. وكذلك بقوله عليهالسلام : «فليبلغ الشاهد الغائب» ، بل هو على خلاف مراده أدلّ.
وهاهنا كلمات واهية
واستدلالات سخيفة أخر لا تليق بالذّكر.
__________________
منها : الاستدلال
بقول المصنّفين في كتبهم : اعلم ، وتأمّل ، وتدبّر .
ولا ريب أنّه مجاز
أريد به الإيصاء ، بل هو نصب علامة للأغلاق والأشكال كنصب الأميال للفراسخ.
وقد يقال : إنّ
تلك الخطابات مختصّة بالحاضرين ، ولكن قام الكتّاب والمبلّغون واحدا بعد واحد مقام
المتكلّم بها ، فلم يخاطب بها إلّا الموجود الحاضر ، فكان الكتابة نداء مستمرا من
ابتداء صدور الخطابات الى انتهاء التكليف. والسرّ فيه ، أنّ المكتوب إليه ينتقل من
الوجود الكتبي الى الوجود اللّفظي ، ومنه الى المعنى. فمن حيث هو قار متكلّم ، ومن
حيث أنّه من المقصودين بالخطابات ، مستمع ومخاطب.
وفيه : أنّ ذلك
مجرّد دعوى لا دليل عليها ، ولا يستلزم ما ذكره كون الخطاب من الله تعالى في كلّ
زمان بالنسبة الى أهله. وكما أنّ في زمان الحضور لا يجوز المخاطبة بتلك الألفاظ مع
المعدومين لانتفاء أحد المنتسبين ، فكذلك في الأزمنة المتأخّرة لا يتحقّق المخاطبة
عن الله تعالى لانقطاعه وامتداده بحسب الأزمان أوّل الدّعوى ، فلم يبق إلّا بتبليغ
نفس الحكم ، وهو مسلّم.
قوله : فمن حيث هو
قار متكلّم.
نعم ، متكلّم
لكنّه حاك للخطاب المتقدّم ، لا إنّه مخاطب ـ بكسر الطّاء ـ.
__________________
تنبيهان
الأوّل :
قيل بشمول الخطابات المذكورة للمكلّفين
الموجودين وإن كانوا غائبين
عن مجلس الوحي ، لأنّ الخطاب عن الله تعالى ، ولا يتفاوت بتفاوت الأمكنة.
ويظهر من بعضهم
عدم الشمول ، ولعلّه ناظر الى تفاوت أحوال الحاضرين والغائبين ، وكيفيّة فهم
الخطابات ، فإنّ قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) مثلا ، قد فسّر في الأخبار الصحيحة بالقراءة خلف الإمام ،
فلعلّ في مجلس الوحي كان قرينة لإرادة ذلك ، كان خافية عن الغائبين. فمخاطبتهم
بذلك مع إرادة الخاصّ ، قبيح ، فلا بدّ من القول بتشريكهم معهم بدليل آخر ، مثل
الإجماع وغيره ، وليس ببعيد . وعلى أيّ تقدير فيختصّ بالمكلّفين ، فلا يشمل من بلغ حدّ
التكليف بعد زمن الخطاب ، وإن كان موجودا حينئذ ، ويظهر الوجه ممّا تقدّم.
الثاني :
الصّيغ المفردة مثل : افعل ، وافعلي ، وأمثال ذلك ، لا تشمل بصيغتها غير
المخاطب بها ، وإنّما المشاركة بالدّليل الخارج ، وهو الإجماع على الاشتراك. وكذلك
خطاب الرّجل لا يشمل المرأة ، ولا بالعكس ، ولكنّ الإجماع على
__________________
الاشتراك أثبت
الاشتراك في غير ما يختصّ بأحدهما يقينا ، كأحكام الحيض والنّفاس ونحوهما ،
بالمرأة ، وأحكام غيبوبة الحشفة وما يتعلّق بالخصيان ونحوهما بالرّجال.
وأمّا الأحكام
المختلفة فيها فقيل : بأنّ الأصل فيها الاشتراك إلّا ما أخرجه الدّليل ، وقيل :
بالعكس . والأوّل أظهر.
فإثبات الجهر في
الصلاة الجهريّة إنّما ثبت اختصاصه بالرّجل بسبب الدّليل ، وكذلك استحباب وضع
اليدين على الفخذين فوق الرّكبتين حال الركوع في المرأة. وما ذكرنا إنّما هو المستفاد من الأخبار والأدلّة ، وإثبات دعوى أنّ
الأصل عدم الاشتراك إلّا ما أثبته الإجماع ، دونه خرط القتاد.
لا يقال : أنّ الإجماع لا يقبل التخصيص لكونه من الأدلّة القطعية ،
لأنّا نقول إنّهم نقلوه بالعموم ، وعموم دعوى الإجماع مثل عموم الحديث ، معتبر
لاشتراك الدّليل وهو المستفاد من تتبّع كلام الفقهاء ، وصرّح به بعضهم ، ومنهم المحقّق
__________________
الخوانساري في «شرح
الدّروس» ، وببالي أنّه في مبحث نجاسة الخمر ، والمحقّق الأردبيلي رحمهالله في أوائل كتاب الحدود من «شرح الإرشاد».
واعلم ، أنّ
الالفاظ المختصّة بأحد الفريقين من الرّجال والنساء ، مثل ذينك اللّفظين ، مختصّة
بهما ، ومثل لفظ : النّاس وذريّة آدم يشملهما ، ومثل : المؤمنات والمسلمات يختصّ
بها.
وأمّا مثل :
المؤمنين والمسلمين ، ففيه : خلاف ، والأظهر الاختصاص ، لنصّ اللّغة وفهم العرف.
واحتجّ الخصم :
بالاستعمال فيهما ك (الْقانِتِينَ) و : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ونحو ذلك.
وفيه : أنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، والتغليب مجاز ، ويؤيّده آية الحجاب ، وغيرها.
وممّا ذكرنا ،
يظهر أنّ خطاب النبيّ صلىاللهعليهوآله بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ) و : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وغيرهما لا يعمّ غيره.
__________________
فهرس الآيات
(فَإِذا
قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ)..................................................... ٢٩٤
(إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا).............................................. ١٩٢
(اسْجُدُوا)................................................................. ١٧٥
(فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ)......................................................... ٤٤٤
(إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ)............................... ٤٦٠
(إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً).................................................... ٤٤٨
(الَّذِينَ سَبَقَتْ
لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ)........................... ٤٣٨
(الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)................................................ ٤٦١
(الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا).................................... ١٦٢
و ١٩٢ و ١٩٣
(السَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا).................................................. ١٩٣
(الْقانِتِينَ).................................................................. ٥٣٦
(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ)...................................................... ٤٥٦
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)................................................. ٤٥٦
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).................................................... ٨٢
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)........................................................ ٧٤
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)..................................... ٤٥٧
و ٤٧٨ و ٤٨٧
(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً)................................................. ٤٢٧
(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي)......................................... ١٤٤
(أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
...)...................... ١٤٤
(إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)....................................................... ٥٠٢
(أَنْزَلْناهُ).................................................................... ٧٥
(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)................................. ٤٣٧
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)............................. ٤٢٧
(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ)........................................................... ٤٢٨
(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها)................................................ ٤٢٧
(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ)......................................... ٤٢٧
(إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)............................................ ٢٨٠
(أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)..................................................... ٤٢٢
(اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)................................................ ٥٣٦
(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)................................ ١٧٩
(أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)................................................... ٤١
(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ).............................................................. ١٧٦
(أَنِّي أَذْبَحُكَ).............................................................. ٢٧٩
(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)............................................................. ٣٦٩
(تِجارَةً عَنْ تَراضٍ).......................................................... ٣٦٩
(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).................................... ٤٠٤
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)....................................................... ٣٩
(خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)............................................ ١٩٥
(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)....... ٤١٨
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)................................. ١٨٣
(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ)....................................................... ٢٩٤
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)................................................. ١٩٩
و ٢٠٠
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)......................................................... ١٨٥
(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)............................................ ٥٠٢
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي
الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)................ ١٦
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).................................................. ٥٣٢
(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).................................................. ١٢
و ٤٠٦
(فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ).................................................... ٤٥٦
(فَقَعُوا)................................................................... ١٩٤
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ ...)............... ٢٤٨
(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)................................................... ١٩٣
(فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ).............................................. ٥٣١
(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ).................................................... ٢٦٣
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِه)................................... ١٦٦
و ١٧٣
(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)......................................................... ٢٧٨
(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)............................................... ٤٨٣
(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها).............................................. ٤٨٣
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).............................................. ٥٣١
(لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)............................................................. ٤٢٨
(لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)...................................................... ٥٣٢
(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ)........................................................ ٣٩٢
(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).......................................... ٣٩١
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)................................. ٣٧٩
و ٣٨٠
(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)...................................... ١٦٦
و ١٩٤
(مُسْتَمِعُونَ)................................................................ ٥٠٢
(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)........... ١٧٩
(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)........................................... ٣٦٩
و ٣٧٠ و ٤٩٨
(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)....................................... ٥٣٤
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ)............................................. ١٧٦
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)............................................................. ٣٨٥
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا)................................................. ١٦٢
(وَالسَّماءِ وَما بَناها)......................................................... ٤٣٧
(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)................................... ٣٨٧
(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)............................................... ٣٧٩
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)............................................ ١٩٢
و ٣٩٠
(وَأَحَلَّ)................................................................... ٣٧٠
(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)................................................... ٣١٨
و ٤٨٩
(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)................................................... ٣٩
(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة) ٢٦٨ و ٢٧٠ و ٤٥٨
و ٤٧٨ و ٤٩٧ و ٤٩٨ و ٥٠٠
(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)............................................... ٣٨٧
(وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ).............................................. ٤٠٧
(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)............................................... ١٩٩
(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)................................. ١٨٣
(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).................................... ٢١
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ).................................... ٤٠٨
و ٤٣٥
(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى).......................................................... ٣١٩
(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).................................................. ٤١٧
(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)...................... ٣٩٠
و ٤٠٠
(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ
كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ)............. ٤٠٢
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)........................... ٢٧١
(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا)........................................................... ٥٢
(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ).............................................. ١٧٥
(وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)..................................................... ٣٠٩
(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ
الْمُؤْمِناتِ ...)............... ٣٩٥
(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ)..................................... ١٧٨
(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ).............................................................. ١٧٦
(يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)...................................................... ٢٨٠
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِ)...................... ٥٣٢
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)................................................ ٥١٧
و ٥٣٢
(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)............................................................ ٥٣٦
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)................................................. ٥٣٠
(يا أَيُّهَا النَّاسُ)..................................................... ٥١٧
و ٥٣٢
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ)............................................................. ٥٣٦
(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ)............................................... ١٣٨
فهرس الروايات
إذا التقى
الختانان وجب المهر................................................... ٣٦٩
إذا كان الغالب
عليها المسلمون فلا بأس........................................... ٩٣
إذا كان الماء قدر
كرّ لم ينجّسه شيء............................................ ٣٩١
البيّعان بالخيار................................................................ ٣٧٠
البيّعان بالخيار
ما لم يفترقا.............................................. ٣٧٠
و ٤٠٥
الطواف بالبيت
صلاة......................................................... ١٣٢
الطواف في البيت
صلاة......................................................... ٨٦
الميسور...................................................................... ٣٠٤
إنّما الأعمال
بالنيّات........................................................... ٤٢٦
إنّما الولاء لمن
أعتق............................................................ ٤٢٦
أقلّ الحيض ثلاثة
أيام وأكثره عشرة أيّام.......................................... ٤٣٢
أوّل الوقت رضوان
الله وآخره عفو الله............................................ ٢٥٤
بني الإسلام على
خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية...................... ١١١
تارك الصلاة كافر............................................................. ١٣٢
ثلاثة أيّام
للمشتري........................................................... ٤٠٥
دعي الصلاة أيّام
أقرائك....................................................... ١١٢
رفع عن أمّتي
الخطأ والنّسيان.................................................... ٣٨٥
زادك الله حرصا
ولا تعد........................................................ ٥١٦
فليبلغ الشاهد
الغائب......................................................... ٥٣٢
كفّر................................................................ ٣٨٦
و ٥١٥
كلّ ما يؤكل لحمه
يتوضأ من سؤره ويشرب....................................... ٤١٠
لا بأس بالصلاة في
فرو اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام.......................... ٩٣
لا بشيء من آلائك
يا ربّ اكذّب.............................................. ٥٣٢
لا ، بل إنّما أنا
شافع.......................................................... ١٦٦
لا تنقض اليقين [أبدا]
بالشكّ................................................. ٥١٣
لا صلاة إلّا
بطهور.................................................... ١٠٧
و ١٠٩
لا صلاة لجار
المسجد إلّا في المسجد..................................... ١٠٨
و ١٠٩
لا عمل إلّا بنيّة.............................................................. ١٠٨
لأنّ حكم الله في
الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلّا من علّة.................. ٥٣٠
لا نكاح إلّا
بوليّ.............................................................. ١٠٨
لئن يمتلى بطن
الرّجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا................................. ٤٠٣
لو لا أن أشقّ على
أمّتي لأمرتهم بالسّواك......................................... ١٦٦
لو لا عليّ لهلك
عمر.......................................................... ٣٩٢
ليّ الواجد يحلّ
عقوبته وعرضه................................................... ٤٠٣
ما أجهلك بلسان
قومك أما علمت انّ ما لما لا يعقل.............................. ٤٣٧
ما لا يدرك كلّه
لا يترك كلّه............................................. ٢٨٨
و ٣٠٤
مروهم بالصّلاة
وهم أبناء سبع.................................................. ٣٠٦
من أدرك ركعة من
الوقت فقد أدرك الوقت....................................... ٢٥١
نعم......................................................................... ٥١٥
وإذا أمرتكم بشيء
فاتوا منه ما استطعتم.................................. ١٧٧
و ٢٨٨
والميسور لا يسقط
بالمعسور..................................................... ٢٨٨
فهرس المطالب
الإهداء......................................................................... ٦
مقدمة التحقيق.................................................................. ٧
ترجمة المصنّف.................................................................. ١٧
خطبة الكتاب.................................................................. ٢٤
المقدمة........................................................................ ٢٩
في تعريف أصول
الفقه ـ رسم هذا العلم وموضوعه................................... ٣٣
في تعريف الفقه................................................................ ٣٦
قانون : اللفظ
الكلي والجزئي والمتواطئ والمشكك.................................... ٤٩
في تقسيمات
الألفاظ........................................................... ٥٢
قانون : في
الحقيقة والمجاز........................................................ ٥٤
قانون : طرق معرفة
الحقيقة والمجاز................................................. ٥٦
التنصيص والتبادر.............................................................. ٥٦
صحة السّلب وعدمها........................................................... ٦٣
الاطّراد........................................................................ ٧١
الوضع الشخصي
والنوعي....................................................... ٧٢
قانون : استعمال
اللفظ في معنى أو معان لم يعلم وضعه له........................... ٨٠
قانون : تعارض
الأحوال......................................................... ٨٧
قانون : الحقيقة
الشرعيّة......................................................... ٩٤
في الصحيح والأعم........................................................... ١٠١
تنبيه........................................................................ ١٢٩
تذنيبان : ١) في
الاختلاف في العرف........................................... ١٣٠
٢) في اطلاق الشارع لفظا على شيء مجازا.................................... ١٣٢
قانون : في بيان
المشترك........................................................ ١٣٣
استعمال المشترك
في أكثر من معنى يتصوّر على وجوه.............................. ١٤٠
استعمال المشترك
في التثنية والجمع وحججهم...................................... ١٤٤
وجوه أجوبة
المشترك حقيقة أم مجاز في التثنية والجمع والنفي والاثبات والمانع مطلقا...... ١٤٥
قانون : استعمال
اللفظ المشترك في المعنى الحقيقي والمجازي........................... ١٤٨
قانون : المشتق............................................................... ١٥٥
تتميم : في مبادئ
المشتقات.................................................... ١٦٣
الباب الأوّل : في
الأوامر والنواهي............................................... ١٦٥
المقصد الأوّل :
في الأوامر...................................................... ١٦٥
قانون : معنى
الأمر............................................................ ١٦٥
قانون : صيغة افعل........................................................... ١٧١
تنبيه على كلام «المعالم»
في شيوع الندب في صيغة الأمر........................... ١٨٠
قانون : وقوع
الأمر عقيب الحظر أو في مقام ظنّه أو توهمه.......................... ١٨٢
قانون : دلالة
صيغة الأمر من ناحية المرّة أو التكرار................................ ١٨٦
تذنيب : الأمر
المعلّق على شرط أو صفة......................................... ١٩١
قانون : دلالة
صيغة الأمر من ناحية الفور أو التراخي.............................. ١٩٤
تذنيب : فيمن ترك
الامتثال فورا وتكليفه في الزّمن المتأخّر وعدمه.................... ٢٠٢
قانون : الأمر
ووجوب المقدمات أم لا............................................ ٢٠٥
انقسام الواجب إلى
المطلّق والمشروط أو المقيّد..................................... ٢٠٦
الأمر المطلق
حقيقة في الواجب المطلق............................................ ٢٠٦
توقف الواجب على
السّبب أو الشرط........................................... ٢٠٦
في المقدمة غير
المقدورة والواجب المشروط......................................... ٢٠٩
النزاع في وجوب
مقدمات الواجب ، والكلام في الواجب المطلق...................... ٢١٠
الوجوب المتنازع
فيه هو الوجوب الشرعي......................................... ٢١٠
دلالة الالتزام
إمّا لفظيّة وإمّا عقليّة............................................... ٢١٢
وجوب المقدمة من
التوصليّات................................................... ٢١٤
تنبيهات : ١) في
المنصوص وغير المنصوص....................................... ٢٢٦
٢)
في التروك المستلزمة للترك الواجب......................................... ٢٢٧
٣)
دلالة الواجب على وجوب جزئه.......................................... ٢٢٨
قانون : الأمر
بالشيء وضده الخاص............................................. ٢٢٩
المباح وجواز تركه.............................................................. ٢٣٣
المأمور به
المضيّق والضد الموسّع................................................. ٢٣٦
الأمر بالشيء
يقتضي النهي عن ترك المأمور به التزاما لا تضمنا...................... ٢٣٨
عدم دلالة الأمر
بالشيء على النهي عن الضد الخاص............................. ٢٣٨
فعل الضد مستلزم
لترك المأمور به المحرّم ، والمستلزم للمحرّم محرّم...................... ٢٤١
لو لم يحرم الضد
وتلبس به..................................................... ٢٤٣
تنبيهان : ١) في
القول بإبدال النهي عن الضد الخاص بعدم الأمر به فيبطل لكان أقرب ٢٤٤
٢) النزاع في أنّ النهي هل هو أمر بضدّه أم لا بعينه............................ ٢٤٥
قانون : الاختلاف
في المأمور به................................................. ٢٤٦
فائدة : الاختلاف
في اتصاف الزّائد بالوجوب.................................... ٢٤٩
قانون : الاختلاف
في الواجب الموسّع........................................... ٢٥١
تتميم : التوسعة
في الوقت إمّا محدودة أو غير محدودة.............................. ٢٥٨
تنبيه : في
التخيير في اللوازم..................................................... ٢٥٩
قانون : الواجب
الكفائي...................................................... ٢٦١
قانون : الأمر
المعلّق بالكلّي ظاهرا............................................... ٢٦٤
تنبيه وتحقيق :
صيغة الأمر واعتباراتها الثلاث...................................... ٢٦٩
قانون : عدم جواز
الأمر مع العلم بانتفاء الشرط.................................. ٢٧١
قانون : إذا أوجب
الشارع شيئا ثمّ نسخ وجوبه هل يبقى الجواز أم لا................. ٢٨٢
قانون : رسم
مقدّمات الأمر يقتضي الإجزاء...................................... ٢٨٩
الإجزاء...................................................................... ٢٨٩
في حقيقة الأمر
وتعيينه........................................................ ٢٩٠
الإتيان بالمأمور
به على وجهه هل هو مسقط للتعبّد به............................. ٢٩٣
في معنى الاسقاط............................................................. ٢٩٣
القضاء يطلق على
معان....................................................... ٢٩٤
قانون : أنّ
القضاء تابع للأداء أو بفرض جديد................................... ٣٠١
قانون : أنّ الأمر
بالأمر أمر.................................................... ٣٠٦
المقصد الثاني :
في النواهي...................................................... ٣٠٨
قانون : النهي هو
طلب ترك الفعل وصيغته....................................... ٣٠٨
قانون : النهي هو
الكفّ أو نفس أن لا تفعل.................................... ٣١٢
فائدتان : ١) في
دلالة النهي عن الشيء على الأمر بضده......................... ٣١٤
٢) الترك هل هو من قبيل الفعل أم لا........................................ ٣١٥
قانون : في دلالة
النهي على التكرار أم لا........................................ ٣١٦
تنبيه : من قال
بكون النهي للدوام يقول بكونه للفور.............................. ٣٢٠
قانون : الاختلاف
في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد..................... ٣٢١
وجوه في الدلالة
على جوازه..................................................... ٣٢٤
الحكم إنّما تعلّق
بالطبيعة....................................................... ٣٢٤
وقوعه الكثير في
الشرع في العبادات المكروهة دليل على جوازه....................... ٣٢٨
وجوه من الأجوبة............................................................. ٣٢٩
في المناهي
التنزيهيّة............................................................ ٣٢٩
المراد بالكراهة
هو كونه أقل ثوابا................................................ ٣٣١
المراد بكراهة
العبادات مرجوحيّتها وسمّيت بخلاف الأولى............................ ٣٣٦
مقتضى عدم جواز
الاجتماع هو عدم إمكان كون الشيء مطلوبا ومبغوضا............ ٣٤٨
وجوه في وجه ترجيح
النهي...................................................... ٣٤٩
في عدم الانفكاك
عن أحد الطرفين والأقوال فيه................................... ٣٥١
قانون : الاختلاف
في دلالة النهي على الفساد في العبادات والمعاملات.............. ٣٥٥
المراد بالعبادات
والمعاملات هنا.................................................. ٣٥٥
الأصل في العبادات
والمعاملات هو الفساد........................................ ٣٥٦
محلّ النزاع في
هذا الأصل المذكور................................................ ٣٥٧
اختلاف الفقهاء
والمتكلّمون في معنى الصحّة والفساد في العبادات................... ٣٦٢
وامّا في العقود
والايقاعات...................................................... ٣٦٤
الأقوال في
المسألة............................................................. ٣٦٥
حجّة دلالته على
الفساد في العبادات........................................... ٣٦٦
عدم الدلالة على
الفساد في المعاملات........................................... ٣٦٨
وأمّا في اللغة
والعرف.......................................................... ٣٦٨
التفصيل فيما كان
مقتضى الصحّة فيه من المعاملات منحصرا فيدلّ على الفساد فيه دون غيره ٣٦٨
حجّة القول
بالدلالة مطلقا في العبادات والمعاملات وردّها........................... ٣٧١
حجّة القول
بالدلالة مطلقا شرعا فقط وجوابها..................................... ٣٧٢
حجّة القول على
عدم الدلالة لغة وجوابها........................................ ٣٧٤
حجّة القول بعدم
الدلالة مطلقا وجوابها.......................................... ٣٧٤
عدم وجود حجة على
القول في الدلالة في العبادات شرعا لا لغة.................... ٣٧٤
تذنيبات..................................................................... ٣٧٥
في المنهي عنه
لوصفه.......................................................... ٣٧٥
في المنهي عنه
لشرطه.......................................................... ٣٧٥
إفراط أبو حنيفة
وصاحباه بقولهم : بدلالة النهي على الصحة....................... ٣٧٦
الباب الثاني : في
المحكم والمتشابه والمنطوق والمفهوم................................. ٣٧٨
المقصد الأوّل :
في المحكم والمتشابه.............................................. ٣٧٨
النص ـ المحكم ـ المجمل
ـ المأوّل ـ المتشابه ـ المفيد ـ الظاهر............................. ٣٧٨
المقصد الثاني :
في المنطوق والمفهوم.............................................. ٣٨٤
قانون : المنطوق
إمّا صريح أو غير صريح وأقسامهما............................... ٣٨٥
المفهوم : فحوى
الخطاب ، ودليل الخطاب........................................ ٣٨٧
أقسام مفهوم
المخالفة أي دليل الخطاب.......................................... ٣٨٧
قانون : في حجية
مفهوم الشرط والاختلاف فيها.................................. ٣٨٩
لفظ الشرط
واستعماله في معان................................................. ٣٨٩
الجملة الشرطية
واستعمالها في معان كثيرة......................................... ٣٩٠
النزاع في تعليق
الحكم على شيء بكلمة إن واخواتها................................ ٣٩٥
حجّة القول على
حجيّة مفهوم الشرط أيضا والذي قالوا فيها....................... ٣٩٧
احتج النافون
والجواب عليها.................................................... ٣٩٩
قانون : الاختلاف
في أنّ تعليق الحكم على وصف يدل على انتفائه عند انتفاء الوصف أم لا ٤٠٣
احتج المثبتون
والجواب عليها.................................................... ٤٠٣
احتجّ النافون
والجواب عليها.................................................... ٤٠٦
التوقف في المسألة............................................................. ٤٠٦
فوائد : ١) حجية مفهوم الشرط والوصف ونحوهما إنّما هو إذا
لم يكن على طبق الغالب ٤٠٧
٢) التوهم في فائدة المفهوم وثمرة الخلاف في المفهوم
الموافق والمخالف للأصل........ ٤٠٨
٣) مقتضى مفهوم المخالف إنّما هو رفع الحكم الثابت ،
وتوهمان.................. ٤٠٩
٤) لا دلالة في الغنم السّائمة زكاة على نفي الزكاة من
معلوفة الابل بإحدى الدلالات ٤١٣
قانون : حجّة
مفهوم الغاية والاختلاف فيه....................................... ٤١٥
قانون : حجّة
مفهوم الحصر.................................................... ٤٢٠
الاختلاف في كون
الدلالة فيما نحن فيه من باب المفهوم أو المنطوق.................. ٤٢١
احتجّ النافون
والجواب عليها.................................................... ٤٢٢
الحصر بإنّما................................................................... ٤٢٥
حجّة منكر الحجيّة............................................................ ٤٢٧
اختلاف المثبتون.............................................................. ٤٢٨
قانون : عدم حجيّة
مفهوم الألقاب............................................. ٤٢٩
حجّة الدقّاق وبعض
الحنابلة والجواب عليها....................................... ٤٢٩
في عدم حجيّة
مفهوم الزّمان والمكان............................................. ٤٣٢
الباب الثالث : في
العموم والخصوص............................................ ٤٣٤
مقدمة في العام............................................................... ٤٣٤
العام على قسمين :
كلي يشمل أفراده أو كلّ يشمل أجزائه......................... ٤٣٤
المقصد الأوّل :
في صيغ العموم................................................. ٤٣٦
قانون : كون ما
يدّعى كونها موضوعا للعموم من الألفاظ موضوعا له أو مشتركا بينه وبين الخصوص أو حقيقة في الخصوص ٤٣٦
حجّة القائلين
بأنّها حقيقة في الخصوص ، وجهان والجواب عليها..................... ٤٣٨
الخصوص متيقن
المراد والجواب على ذلك......................................... ٤٣٨
المشتهر على
الألسن «ما من عام إلّا وقد خصّ» والجواب على ذلك................ ٤٤٤
حجّة القائل
بالاشتراك وما فيه.................................................. ٤٤٥
حجّة التوقّف................................................................ ٤٤٦
قانون : صيغ العموم.......................................................... ٤٤٧
قانون في إفادة
الجمع المحلّى باللام للعموم في دلالة المفرد المحلّى عليه.................. ٤٥٠
المراد بالمفرد................................................................... ٤٥٠
لا اختصاص
للجنسيّة بالمفردات بل قد يحصل للجمع أيضا........................ ٤٥٩
الألفاظ الموضوعة
للمفاهيم الكليّة لها وضع شخصي ونوعي........................ ٤٦١
تنبيه : استعمال
الكلي في الفرد يتصوّر على وجوه وأيّها حقيقة وأيّها مجاز............. ٤٦٥
حمل الكلي على
الفرد صريحا................................................... ٤٦٥
يطلق الكلي ويراد
به الفرد...................................................... ٤٦٦
ما يفيد حكما
للماهية من حسن أو قبح أو حلّ أو حرمة ونحو ذلك................. ٤٧٤
ما يفيد طلب تحصيل
الماهية.................................................... ٤٧٥
حول كلام «المطوّل»
في المعرّف باللّام المستعمل في فرد ما.......................... ٤٧٥
في توهم الفرق بين
الاطلاق والاستعمال......................................... ٤٧٨
في مطلب من قال :
انّ صيغة افعل حقيقة في القدر المشترك وما اجيب عليه.......... ٤٧٨
اوّلا : كون عموم
الجمع بالنسبة إلى الجماعات كالمفرد بالنسبة إلى الأفراد وما أورد عليه وعلى
الإيراد ٤٨١
ثانيا : بالحلّ
على مقتضى ما ذكر من التقرير في الجمع............................. ٤٨٣
في الجمع المعرّف
باللام........................................................ ٤٨٤
في المفرد المعرّف
باللام......................................................... ٤٨٥
كلام الشهيد
الثاني فيما إذا احتمل كون أنّ للعهد وكونها لغيره كالجنس والعموم ، حملت على
العهد وما يردّ عليه ٤٩٢
قانون : الجمع
المنكّر لا يفيد العموم............................................. ٤٩٥
صور استعمال الجمع
المنكّر..................................................... ٤٩٦
تذنيب : في أقل ما
يطلق عليه صيغ الجمع حقيقة................................. ٥٠١
قانون : النكرة في
سياق النفي تفيد العموم في الجملة في بعضها بالنصوصيّة وفي بعضها بالظهور ٥٠٤
النهي كالنفي
والنكرة في سياق الاستفهام تفيد العموم.............................. ٥٠٥
النكرة في سياق
الشرط........................................................ ٥٠٦
النكرة في سياق
الاثبات....................................................... ٥٠٦
الفرق بين العام
والمطلق من حيث اللفظ.......................................... ٥٠٧
ما ذكروه في مقام
الفرق بين المطلق والعام......................................... ٥٠٨
تنبيه : في عموم
المفرد أشمل من عموم المثنى والمجموع................................ ٥١٠
قانون : ترك
الاستفصال....................................................... ٥١٢
قانون : ما وضع
لخطاب المشافهة لا يعمّ من تأخّر عن زمن الخطاب................. ٥١٧
احتجاج بعضهم
بالروايات..................................................... ٥٣١
تنبيهان : ١) شمول
الخطاب للمكلّفين الموجودين وإن كانوا غائبين عن مجلس الوحي والقول بعدم الشمول ٥٣٤
٢) الصيغ المفردة لا تشمل غير المخاطب بها................................... ٥٣٤
فهرس الآيات................................................................ ٥٣٧
فهرس الروايات............................................................... ٥٤٣
فهرس المطالب................................................................ ٥٤٧
|