تصدير

كان الحسين بن الوزان الذي عاش في القرن العاشر الهجري ، جغرافيا ، رحالة ، معروفاً لدى الإفرنج باسم «ليون الإفريقي». ولد في غرناطة (٨٨٨ هـ) وتوفى(٦٥٧ هـ). ثم هاجر الى «فاس» وكان من أسرة وجيهة ، فانتدب أبوه لبعض السفارات والوساطة السياسية ، ثم انتدب هو نفسه لمثل ذلك ، فيسرب له الرحلة إلى أكثر بلدان أفريقيا الشمالية والشرق الأوسط. في سنة ٩٢٦ هـ أخذوه إلى نابولي وقدموه هدية للبابا ليون العاشر ملك رومية والعبرية ، وترجم رحلته إلى الإيطالية اللاتينية والإيطالية وكان يحسن الإسبانية والعبرية ، وترجم رحلته إلى الإيطالية ، ودرس العربية في كلية بولونية وبعد وفاة البابا دخل تحت حماية الكردنال جيل ، وعلمه العربية. صنف في خلال ذلك «معجما طبياً» عربيا لاتينياً عبرياً ، وانجر ترجمة «وصف إفريقيا إلى الايطالية.

ويتسم أسلوب الوزان بالخصوبة ويحتوي على مصدر غزير بالمعلومات والوصف الدقيق لإفريقيا.

فهو يقسم أفرقيا إلى أربعة أقسا : هي بلاد البربر، نوميديا ـ ليبيا ـ وبلاد السودان. ثم قسم كل قسم من الأقسام الأربعة إلى ممالك ، الأولى : مملكة مراكش ، الثانية : مملكة فاس ، والثالثة : مملكة تلمسان ، والرابعة : مملكة تونس. ويذكر لنا أن النيل يمتد من الحبشة في أثيوبيا إلى الهند.

وتقسم الصحارى الواقعة بين نوميديا وبلاد السودان إلى خسمة أقسم أطلق على كل منها اسم القوم الذين يسكنون فيه ، ويجدون فيه وسائل معاشهم.


وتقسم بلاد السودان إلى ممالك يكون بعضها مجهولاً مع ذلك بالنسبة لنا وتكون بعيدة عن مدى تجارتنا.

ويقدم لنا ننعريفاً عن كلمة «بربر» حيث إنها كانت خالية تماماً من السكان خلال العديد من القرون ، ومعنى كلمة بربر أي تمتم. ويرى البعض أن كلمة بربركلمة مزدوجة لأن «البر» في اللغة العربيه يعني الصحراء والبعض يؤكد ان الأفارقة يعودون أصلا لبلاد العرب السعيدة.

ويذهب كثيرإلى أن أصل الأفارقة هم الذين طردوا من بلادهم ، ويمتقد البعض إلى أن هؤلاء ينحدرون من قبائل فلسطينية فلجأوا إلى أفريقيا نظرا لخصوبة الأرض. وقسم الأفارقة البيض إلى خمسة أقوام تستعمل هذه القبائل الخمس. التي تبدو منقسمه إلى مئات الأنساب وإلى آلاف المساكن ـ لغة واحدة ، يطلق عليها العرب لغة البربر وهي لغة فريدة تختلف عن اللغات الأخرى حيث نجد بعض الكلمات باللغة العربية. والعرب الذين يسكنون أفريقيا قد تم تقسيمها إلى قبائل ـ منها قبيلة بني هلال ـ قبيلة معقل ـ دوي منصور ـ دوي عبدالله. ثم بداً في وصف عادات وأنماط معيشة الأفارقة الذين يعيشون في الصحراء وأنواع الدواب التي كانوا يستخدمونها في معيشتهم وأشار إلى سكان إفريقيا الذين يعيشون على تربية الأغنام والبقر. والديانات القديمة والطقوس التي كانوا يمارسونها. سواء عبدة الشمس أو النار. وظل سكان بلاد البربر وثنيين لفترة طويلة ، وأصحبوا نصارى ، ثم اعتتقوا الدين الإسلامي.

أما عن نوع الكتابة التي يستعملها الأفارقة فهي اللغة اللاتينية. ويشيرهنا إلى موقع إفريقيا الجغرافي وخاصة المناطق الموحشة الثلجية وأنواع الحبوب التي تزرع في هذه المناطق ، وانتشار الغابات الكثيفة وهي مليئة بالحيوانات منها النافع والضار. ثم يوضح حدود أفريقيا وميزات فصولها. وأشار إلى أمد الحياة وطوله عند الأفارقة. وماهي الأمراض الأكثر شيوعاً عندهم ثم يوصف المزايا والأشياء المحمودة لديهم وعيوبهم أيضاً.

وفي القسم الثاني من الكتاب يحدثنا عن مختلف الأقاليم ، والمدن والجبال


والمواقع والشرائع والعادات، بدأ بالغرب وينتهي عند مصر، ويعالج في سبعة أقسام. أما القسم الآخر فهو خاص بالأنهارالرئيسية ومختلف الحيوانات والنباتات والثمار والبقول التي تمتاز بها أفريقيا.

ومن مؤلفات الوزان كتاب في «الجغرافية العامة» طبع في العديد من الدول. وهو أول كتاب فني جغرافي ظهر في أوروبا. وعاد الوزان إلى بلاده ومات مسلماً في تونس عام ١٥٥٢ م ومن كتبه أيضاً «مختصر تاريخ الإسلام» وتاريخ إفريقيا» و «مجموع شمرى في الوعظ والزهد» ، وله رسالة باللاتينة في «تراجم الأطباء والفلاسفة العرب» عام ١٦٦٤ م، وصنف كتاب في «العقائد والفقه الإسلامي وله أيضاً رسالة في «الأعياد الإسلامية» و «كتاب النحوه».

وكتاب وصف إفريقيا يعتبر القسم الثالث من كتابه» الجغرافيا العامة» وطبع عام ١٥٥٠ ، بإيطاليا وأعيد طبعه عدة مرات عام ١٥٥٤ ـ ١٥٨٨ ـ ١٦٠٦ ـ ١٦١٣ ـ ١٨٣٠ ثم ترجع إلى اللاتينية وطع بها ثم نقل إلى الفرنسية ١٥٥٠ ـ ١٥٥٤ وتكرر طبعه في إنمبرس ولابدن وباريس وهولندا ١٦٦٥ وانجلترا ١٦٠٠ ـ ١٨٩٦ ثم طبع بالألمانية عدة طبعات.

ترجم هذا الكتاب الدكتور عبد الرحمن حميدة ، وراجعه د. علي عبد الواحد.

مكتبة الأسرة







بسم الله الرحمن الرّحيم

بن دي الكتاب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد سيد الانبياء والمرسلين وبعد :

لم يكن الحسن بن محمد الوزان الزياتي ، الذي نضع كتابه لأول مرة باللغة العربية ، أقول لم يكن شخصية غير مرموقة في الأوساط العلمية الأوروبية ، وذلك منذ منتصف القرن العاشر الهجري (اواسط القرن السادس عشر الميلادي) بقدر ما ظلّ مجهولا ، بصورة تكاد تكون تامة في العالم العربي والاسلامي ، وهذا حتى اواخر القرن الثالث عشر الهجري (او التاسع عشر الميلادي).

فقد نشر راموزيو كتابه «وصف افريقيا» سنة ١٥٥٠ م (٩٥٧ ه‍) في مدينة البندقية ، أي قبل ٤٤١ عاما هجريا ، وبعد فترة لا تزيد عن اربعة وعشرين عاما من فراغ الحسن الوزان من تأليفه مصنفه المذكور باللغة الايطالية ، وذلك في جملة قصص رحلات جغرافية ، وأهداه لشخصية علمية وسياسية كبيرة ، هو جيروم فراكاستور.

وفي سنة ١٥٥٥ ظهرت الترجمة الفرنسية بجهود تامبورال ، وفي العام التالي تمت ترجمته الى اللاتينية بقلم جان فولريان ، اي في ٩٦٦ ه‍ ، في مدينة آنفرس البلجيكية ، وفي سنة ١٦٠٠ ظهرت الترجمة الانكليزية على يد جون بوري ، وتم نقل «الوصف» الى اللغة الهولندية في عام ١٦٦٥ ، وفي ١٨٠٥ تمت ترجمته الى الألمانية ، وفي ١٨٩٦ ظهرت طبعة ايطالية حديثة. وفي ١٨٩٦ اعاد براون نشر الكتاب بالانكليزية اعتمادا على طبعة بوري بينما كان يعمل ش. شيفر على نشره بالفرنسيية في باريس ، في عامي ١٨٩٦ و ١٨٩٨.


هذا وقد خصصت له الاستاذة كودازي مقالة ممتازة في الموسوعة الايطالية للعلوم والآداب والفنون ، الصادرة في روما سنة ١٩٣٣ ، مجلد ٢٠ ، ص ٨٩٩ ، كما كان للمستشرق الايطالي آلدوميالي الفضل في إبراز عروبة «يوحنا الغرناطي» وإسلامه في كتابه «العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالي» ترجمة عبد الحليم النجار ومحمد يوسف موسى ، طبع الادارة الثقافية لجامعة الدول العربية ، ونشر دار القلم سنة ١٣٨١ ه‍ أو ١٩٦٢ م.

هذا وقد كرّس له المستشرق الفرنسي ماسينيون دراسة مستفيضة ضمن بحثه عن تاريخ المغرب المعنون «المملكة المغربية في اوائل سني القرن السادس عشر ، لوحة جغرافية استنادا الى ليون الافريقي». وفي عام ١٩٥٢ ظهرت في مدريد الترجمة الاسبانية ، وفي نفس الفترة أفرد له المستشرق الروسي اغناطيوس كراتشكوفسكي بحثا جيدا في مؤلفه الضخم «الأدب الجغرافي عند العرب» ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم.

وبعد نفاذ الطبعة الفرنسية التي نشرها شيفر ، قام الطبيب الفرنسي الجنرال ايبولار ، الذي سلخ شطرا كبيرا من حياته في اقطار المغرب العربي ، ولا سيما في المملكة المغربية ، قام بتحقيق كتاب الوزان مع شروح ضافية. ولكن المنية عاجلته سنة ١٩٤٩ وحالت دون نشر مخطوطه ، الى ان حصل اصدقاؤه العلماء الثلاثة : ت. مونو ، ه. لوت ، ور. موني ، على المخطوط من أرملته ، وعملوا على طباعته مع إضافات لا يستهان بها على الشروح والتعليق ، وظهر الكتاب في حلته الجديدة سنة ١٩٥٦ (١٣٧٥ ه‍) ، ضمن جزأين. وهذه النسخة هي التي اعتمدناها في الترجمة ، وذلك بمبادرة من كلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية ، وبمناسبة انعقاد المؤتمر الجغرافي الاسلامي الأول العتيد ، في مطلع عام ١٣٩٩ ه‍ ، أو ١٩٧٩ م.

* * *

أما التعريف بالحسن الوزان في الاوساط العلمية العربية فقد جاء ـ ويا للأسف ـ متأخرا جدا. فقد ورد ذكره لأول مرة في مجلة المقتطف المصرية ضمن «بحث الجغرافية وجغرافيي الإسلام» ج ٧ ، ص ٥٩٣ ـ ٧١٣ ، ضمن خطبة ألقاها سليم ميخائيل شحادة الغزيري ، في المجمع العلمي الشرقي ، في جلسة آذار ١٨٨٣ م ، كما خصص له الباحث المغربي محمد المهدي الحجوي ، مقالة بالفرنسية نشرت في مجلة هسبيريس ، الصادرة عن دار كولان ، في باريس ، ج ٢ ، ص ٩٤ ـ ٩٨. هذا كما تعرض له الاستاذ


عزيز بنعبد الله في كتابه «الطب والأطباء في المغرب» المطبوع سنة ١٩٦٠. وذكره الاستاذ احمد ابو سعد بايجاز في كتابه «ادب الرحلات» المنشور في بيروت سنة ١٩٦١ في جملة منشورات دار الشرق الجديد وفي سنة ١٩٦٢ كتب الاستاذ محمد عبد الله عنان مقالة عن «الحسن الوزان أو ليون الإفريقي» في مجلة العربي الكويتية ، عدد ٤٣ ، وبعد عشرة أعوام عادت المجلة المذكورة فنشرت في عددها ١٦٣ نشر مقال ثان في نفس الموضوع تحت عنوان «الحسن بن محمد الوزان ، رحالة عربي ، ومصنف اجنبي» للدكتور جمال زكريا قاسم.

وفي سنة ١٩٧٠ كتب زميلي. الدكتور مصطفى مسعد بحثا يقع في ٢٥ صفحة ، في مجلة جامعة القاهرة بالخرطوم ، العدد الأول ، كتب بحثا معنونا «الحسن بن محمد الوزان (ليو الافريقي) ، أضواء على رحلته في بلاد السودان ومصر. وفي عام ١٩٧٢ كتب المرحوم الطبيب الاستاذ شوكت الشطي ، الذي توفي في صيف ١٣٩٨ ه‍ ، بحثا يحمل عنوان «نظرات الى ثقافة العرب الطبية في الحضاوة الاندلسية» خصصه للحسن الوزان. وقد اشرف الدكتور محمد السيد غلاب ، مدير معهد الدراسات الافريقية على رسالة ماجستير عن الحسن الوزان واهمية كتابه في جغرافية السودان الغربي ، والتي تمت مناقشتها سنة ١٣٩٨ ه‍ ، وقام بها السيد محمد أحمد زوام.

ويكفي أن نورد هنا بعض الشواهد من كتابات العلماء الاوروبيين للتدليل على قيمة كتاب الحسن الوزان على الصعيد العلمي» إذ ظل كتابه ـ حسب قول توماس ديكين ـ المرجع العمدة طيلة قرنين من الزمن في اوروبا ، في كل ما يختص بالأقطار العربية الإفريقية ودول شعوب اقطار الساحل ، اي الواقعة الى الجنوب من الصحراء الكبرى» ، ويقول هارتمان الألماني بعد قرابة قرنين من الزمن من ظهور كتاب الوصف «إن ما يتصف به مصنّفه من ميزات أمر معروف للجميع ، ولن أتردد في تكرار ما قاله البحاثة قبلي من أن كتابه كنز من الذهب ولولا وجوده بين يدي لخفيت عليّ أشياء كثيرة» ، ويقول شيفر في اواخر القرن الماضي «إن ما يورده ليون الإفريقي من تفاصيل في وصف المغرب تتميز بالدقة الشديدة ، بل لقد اثبتت الابحاث الاخيرة صدق قوله حتى في المواضيع التي اثارت الشك فيما مضى».

* * *

هذا ولا يزال الكثير من جوانب حياة الحسن الوزان غامضا ، ولا سيّما عن فترة إقامته


في ايطاليا ، وعلى الأخص بعد عودته الى تونس. فالمعروف ان ولادته كانت سنة ٨٩٤ ه‍ ، وأنه سقط بالأسر عام ١٥١٨ م (٩٢٦ ه‍) ، وكان عمره حينذاك في حدود الثلاثين سنة ، وأنه صنّف كتابه «وصف إفريقيا» لقرائه الطليان سنة ١٥٢٦ م ، أي بعد ثمانية أعوام من الإقامة في ايطاليا ، درس خلالها الايطالية واللاتينية ، وقرأ كتاب بلين المؤرخ الروماني الشهير ، وألمّ بالثقافة الاوروبية التي كانت تتمخض عن «عصر النهضة» ، ويبدو ان تعلّمه الايطاليه واللاتينية لم يكن عسيرا عليه ، إذ يرى كراتشكوفسكي أنه كان يعرف اللغة الاسبانية التي كانت بالنسبة له لغة مفهومة ، لأنه امضى طفولته في غرناطة التي نزح عنها بعد سقوطها بأيدي الملكين الكاثوليكيين سنة ١٤٩٢ م.

هذا وتشير أكثر المصادر التي أوردناها إلى أنه استطاع الإفلات من ايطاليا ، رغم عتقه ، بين عامي ١٥٢٨ و ١٥٣٠ قاصدا تونس ، بعد إقامة في الغربة لم تتجاوز عشرة أو اثني عشر عاما. ويدعم هذه الرواية كاتب معاصر أسمه فيد ما تشتات الذي يقول أن الوزان مات في تونس سنة ٩٤٤ ه‍ ، وعمره خمسون عاما. ويقول آلدوميالي : «إن إقامة الحسن الوزان بمعزل عن محيطه الأصلي كانت بلا ريب ثقيلة على نفسه ، والواقع انه عاد الى تونس سنة ١٥٥٠ م ليحظى بالوفاة في ارض الاسلام المقدسة وفي حمى دينه الحقيقي ، ونفتقد آثاره منذ ذلك الحين ، ويبدو أننا لن نعرف تاريخ وفاته» ترجمة الدوميالي ص ٥٣٣ ، مما يدل على أن إقامته في ايطاليا امتدت على فترة تناهز اثنين وثلاثين عاما ، أي عاد الى تونس وعمره ٦٤ سنة تقريبا.

ويقول كراتشكوفسكي ... وعقب فراغه ـ من تأليف كتابه ـ بقليل ، وربما كان ذلك في عام ١٥٢٨ ، تمكن بطريقة ما من الإفلات راجعا الى افريقية وما لبث ان اطرح المسيحية الى دينه القديم. وقد توفي الوزان ، على ما يبدو ، في تونس في عهد آخر ملوك بني حفص ، وذلك عام ١٥٥٢» عن عمر يناهز الستين عاما. ويرى البعض من الباحثين ان الكرادلة الطليان من اصدقائه أرسلوا وفدا لإقناعه بالعودة الى ايطاليا ولكن دونما طائل ، في حين يرى بعضهم انه لم يغادر ايطاليا وظل يدرّس اللغة العربية فيها حتى اواخر ايام حياته.

* * *

والواقع لقد كانت حياته العلمية في ايطاليا خصيبة للغاية. ففي عام ٩٣٠ ه‍ /


١٥٢٤ م نجده يؤلف معجما عبريا عربيا لاتينيا من أجل طبيب يهودي ، هو يعقوب بن سيمون ، لا تزال مخطوطته ، التي عثر عليها الحجوي ، محفوظة بمكتبة الاسكوريال ، مثلما عثرت الاستاذة كودازّي على رسالة في القياس المسطح ما يشهد على اتساع مروحة معارفه الموسوعية. وفي العاشر من آذار ١٥٢٦ أنجز تدبيج كتابه «وصف افريقيا» بالايطالية ، والذي يرجح اكثر الباحثين أنه وضعه أصلا بالعربية على شكل مذكرات على الأقل ، ويرى آخرون مثل ش. شيفر أن الكتاب كان بحوزته عند وقوعه بالاسر ، مثلما قيد فيما بعد «إن مخطوطته قد وجدت طريقها الى احد هواة الكتب الطليان ، وهو ف. بينللي ، ولكنها فقدت منه في الطريق الى نابولي عند هجوم القراصنة» ، اذ يقول شيفر «أن الوزان أنشأ كتابه بالعربية ثم باللغة التوسكانية ، ونقدمها الآن بالفرنسية».

وفي سنة ١٥٢٧ ألّف باللاتينية كتابا جامعا في سير ثلاثين من مشاهير العرب في مضمار الفلسفة والطب ، والذي نشره هو تينغر في عام ١٦٦٤ في زوريخ بسويسرا ثم اعيد نشره سنة ١٧٤٦ في هامبورغ ، وكان أول سفر يقدم معلومات ذات اهمية بالنسبة لأوروبا في تاريخ تطور العلوم عند العرب.

هذا كما تحوي مكتبة الاسكوريال نسخة في نحو اللغة العربية ربما يكون قد ألفها لفائدة تلاميذه الطليان اثناء تدريسه اللغة العربية في مدينة بولونية. ويذكر لنا في مناسبات عديدة كتابه «الوجيز في الشريعة الاسلامية» و «الوجيز في التواريخ الاسلامية» ولكن لم يصلنا شيء منهما ، مثلما يذكر لنا اعتزامه على اصدار ثلاثة مؤلفات ، احدها الكتاب الذي بين ايدينا ، والآخر عن اوروبا ، والأخير عن الاقطار التي زارها في جزيرة العرب وآسيا الصغرى وارمينيا وبلاد فارس والتتر والقسطنطينية.

والحسن الوزان الذي خاض في شبابه معارك عديدة ضد البرتغاليين ، يوردها في مناسبات عدة في تضاعيف كتابه ، مع جيوش بني مرين الوطّاسيين ، لا يخفي كرهه للبرتغاليين والاسبان القساة وسواهم من نصارى اوروبا الذين كانوا لا يكفون عن الإغارة على بلاد المسلمين والتنكيل بأهلها مدفوعين بنزعة صليبية مقيتة تجلت على الخصوص لدى فرسان القديس يوحنا ، مثلما كان يعبر عن مقته تجاه الأعراب الذين كانت بعض قبائلهم لا تتورع عن التطوع للمحاربة في صفوف البرتغاليين ، لا سيما وهم الذين نشروا الفوضى والتخريب واساءوا ايما اساءة للاقتصاد الغربي فقوضوا اركان الزراعة كما في


منطقة افريقية حتى جوار تونس ذاتها ، مما ادى بصورة مباشرة لرهن دول المغرب ، وبالتالي لتمهيد السبيل امام الاسبان والبرتغاليين لانتزاع بقاع عديدة من اقطار المغرب العربي مثل طرابلس وبجاية ودهران وآزمور وآسفي ، وحيث لا تزال بعض المواقع في ايديهم حتى كتابة هذه الاسطر ولا سيما مدينتي سبتة ومليلة ، ولولا ان قيض الله العثمانيين الذين تصدوا لهؤلاء النصارى وأبلوا البلاء الحسن لكان تاريخ المغرب غيره اليوم. ولكن الوزان لا يضمر ازدراءه للصوفيين ولأصحاب المذاهب المنشقة ، وما أدخلوه على الاسلام من ترهات وبدع كانت نتائجها اللااخلاقية وخيمة على المجتمع ، مثلما لو يضنى بسخريته اللاذعة على المشعوذين والعرافين والسحرة وكثيرا ما يعف قلمه عن فضح الكثير من تفاصيل حياتهم استحياء من ناحية وتحاشيا لسأم القارىء من جهة اخرى.

والخلاصة يتميز كتاب الوزان بروح نقدية وبأسلوب نستشف فيه تأثير التلاقح الثقافي الخصيب مما يضفي على مصنفه طابعا ذا اصالة يشد القارىء اليه مثلما يجد فيه الجغرافي والمؤرخ مصدرا غنيا بالمعلومات فضلا عن أن ترجمته عن الايطالية وشرحه والتعليق عليه تعتبر جميعا مدرسة قائمة بذاتها تشهد على بروز روح البحث العلمي وحب الاستقصاء.

د. عبد الرحمن حميدة


مقدّمة

لقد ظهر في البندقية ، عام ١٥٥٠ (١) مؤلف ذو قيمة فريدة. فقد عمد عالم ذو ثقافة عالية يدعى جان باتيست راموزيو ، وكان أمين سر لمجلس الأمناء العشرة ، إلى نشر عدة قصص رحلات باللغة الإيطالية لم يسبق نشرها تحت عنوان «في الملاحة والرحلات» ، وكانت أكثر هذه الرحلات أهمية هي «وصف إفريقيا» بقلم جان ليون ، الملقب بالإفريقي.

وقد كان لكتاب راموزيو النجاح الذي يستحق. فمنذ عام ١٥٥٦ (٢) ظهرت ترجمتان لهذا الكتاب. فقد نشر جان فلوريان في آنفرس في بلجيكا ، ترجمة لاتينية عن كتاب «وصف أفريقيا» ونشر جان تامبورال ، من ليون في فرنسا ترجمة فرنسية له. وتعتبر الترجمة اللاتينية عديمة القيمة وخالية من أية فائدة ، بينما تبدو الترجمة الفرنسية ممتازة بالنسبة لذلك العصر. فلغتها هي الفرنسية القديمة التي كانت مستخدمة في القرن السادس عشر. ولعل ذلك هو الذي أضفى عليها جاذبية خاصة. وجعل العلماء ـ حتى في عصرنا الحاضر ـ يؤثرون نقل نصوص كاملة من هذه الترجمة على الرجوع إلى الأصل الايطالي. وظلت ترجمة تامبورال هي المعتمدة في فرنسا. بيد أن هذه الترجمة تبدو عند بحثها بدقة منطوية على مآخذ جلية للعيان ، فلغتها القديمة صعبة الفهم ومتعبة للقارىء العادي ، والمحقق الذي يراجعها على نص راموزيو لا يلبث أن يعثر فيها على الكثير من الأخطاء والنقاط الغامضة. ومن ثم لم تعد قط أداة جيدة للبحث ، وأصبح من الضروري إعادة ترجمة كتاب راموزيو من جديد.

وها نحن أولاء نقدم اليوم ترجمة لكتاب «وصف إفريقيا» لصاحبه جان ليون ؛ وإذا كانت كل قصص الرحلات التي نشرها راموزيو في عام ١٥٥٠ ذات فائدة كبيرة من وجهة النظر التاريخية والجغرافية ، فإن «وصف» ليون يحوي من الفائدة ما يتجاوز

__________________

(١) ٩٥٧ ه‍.

(٢) ٩٦٤ ه‍.


ذلك. وسيظل الكثير من المعلومات التي قدمها ليون ، حتى عصر طويل قادم ، موضع ثقة ، وعلى الأخص من وجهة النظر التاريخية البحتة. ولهذا كان من الأهمية أن نقدم لكتاب ليون ترجمة عصرية دقيقة وأمينة قدر المستطاع.

ويوجه راموزيو ، في إهدائه كتابه إلى عالم كبير في زمانه ، هو جيروم فراكاستور ، يوجه انتباهنا إلى أن ليون كان مغربيا. ويذكر لنا بأنه ، بعد أسره في جزيرة جربه (٣) ، قدّم هدية للبابا الذي أحسن وفادته حتى أنه عمّده ومنحه اسميه جان ـ وليون ، وأنه تعلم الايطالية. وقد ألف ليون في هذه اللغة كتابا في الجغرافيا اعتمادا على مذكراته المكتوبة بالعربية. وهذا الكتاب المنسوخ بقلم المؤلف نفسه ، هو الذي وصل ليد راموزيو ، والذي أبان عن طريقة نقله له إذ يقول «لن ندخر وسعا في أن نجعله واضحا ممكنة قراءته ، وأن نلتزم بكل أمانة ممكنة».

وقد جرى البحث بدون طائل ـ وكان لا بد أن يحدث ذلك ـ عن المخطوط العربي. فقد رجح المستشرق لويس ما سينيون ، الذي نشر في عام ١٩٠٦ (٤) تحت عنوان «المملكة المغربية في السنوات الأولى من القرن السادس عشر» (٥) لوحة جغرافية عن ليون الافريقي ، ويعتبر كتاب لويس ماسينيون كبير القيمة ولا يزال وثيقة أساسية فيما يتعلق بمؤلف «وصف إفريقيا» ، اذ يرجح أن ليون كتب مؤلّفه مباشرة بالايطالية استنادا إلى مذكرات مسجلة بالعربية. فليس لهذا المخطوط أصل عربي نقل عنه ، وإنما اعتمد صاحبه فقط على مذكرات كانت لديه باللغة العربية. ولكن هل اختفى النص الإيطالي الأصلي الذي استعان به راموزيو؟

لقد أتيح للمكتبة الوطنية في روما ، عام ١٩٣١ (٦) أن تحصل بطريقة الصدفة في مناسبة بيع كتب ، على مخطوط يحمل عنوان هذا الكتاب «وصف إفريقيا» ووضع في ثبتها تحت رقم ٩٥٣ ، ولكن هذا النص يختلف كثيرا ، في شكله ، عن النص الذي طبعه راموزيو ، ومن المؤكد أن هذا الكتاب هو نسخة جيدة عن الأصل الذي استخدمه راموزيو.

__________________

(٣) جزيرة تقع تجاه الساحل الجنوبي التونسي قرب الحدود الليبية (المترجم).

(٤) ١٣٢٤ ه‍.

(٥) العاشر الهجري.

(٦) ١٣٥٠ ه‍.


ولكن هذا الكتاب مكتوب برطانة ، دفعت براموزيو إلى القول بأنه ، حتى بالنسبة لأبناء ذلك العصر ، من اللازم القيام بنقله إلى لغة سليمة. وقد بذل جهدا ، كما قال هو نفسه ، في جعله صالحا للقراءة وذلك مع كل الأمانة الممكنة.

وقد كان من الممكن نشر مخطوط المكتبة الإيطالية في روما منذ زمن طويل نوعا ما لولا أن الأحداث العالمية (٧) اعترضت سبيل ذلك. وقد عهدت وزارة التعليم العام بهذه المهمة لأكثر الأشخاص كفاءة في هذا المضمار ، وهي السيدة آنجيلا كودازّي ، أستاذة التاريخ والجغرافيا الشهيرة في جامعة ميلانو. وأفردت السيدة كودازي «لجان ليون» مقالة رائعة في الموسوعة الإيطالية للعلم والأدب والفن (روما ١٩٣٣ ، المجلد ٢٠ ص ٨٩٩). وتنوي هذه الأستاذة قريبا نشر هذا المخطوط ، مع شروح ستكون بالتأكيد جزيلة الفائدة ، سواء لسعة اطلاع المؤلفة أو بسبب الوثائق التي تستطيع الحصول عليها محليا ، لأن ليون كتب كتابه في روما لقرائه الطليان في عام ١٥٢٦ (م) (٨).

ولقد انتظرنا طويلا نشر المخطوط لتقديم ترجمته وليس ترجمة نص راموزيو. ولكننا لاحظنا أن النص الأخير مكتوب بلغة إيطالية سهلة جدا تتواءم مع نقل يكاد يكون حرفيا إلى الفرنسية. فإذا أخذنا فقرة من نص المخطوط وعملنا على تفسيرها بلغة فرنسية مفهومة ، فإننا نحصل بالضبط على نفس النتيجة التي نحصل عليها من ترجمة مباشرة لنفس الفقرة من نص راموزيو. إذن ليس هناك كبير فائدة من وراء استخدام نص المخطوط. غير أن راموزيو من طرف ، والناسخ من طرف آخر ، قد ارتكبا أخطاء في قراءة الأصل الذي استندا عليه ، وهي أخطاء تختلف في نوعها ، وتسمح الموازنة بين النسختين بتصحيح عدد لا بأس به من هذه الأخطاء. وقد استطعنا ، بفضل التلطف الكبير الذي أظهرته السيدة آنجيلا كودازّى ، أن نقابل بين نسختي المكتبة الوطنية في روما ، وأصبح في إمكاننا أن نقدم التصويبات على نسخة راموزيو ، والتي تبدو في أنظارنا جوهرية.

ونود أن نؤكد للسيدة كودازى كل عرفاننا. ونحن مقتنعون أن عملها لن يكون عبارة عن تكرار لعملنا هذا ، بل على العكس سيكمله بصورة مفيدة ، إذ سيقدم الأول التوثيق الإيطالي ، في حين يوفر الآخر التوثيق الإفريقي.

__________________

(٧) تقصد بذلك الحربين العالميتين الأولى والثانية (المترجم).

(٨) ٩٢٤ ه‍.


ونظرا لهذا الواقع فإننا لن نتوقف كثيرا عند سيرة حياة جان ليون ، والتي لا نعرف عنها فعلا أكثر مما كتبه المستشرق الفرنسي ما سينيون في كتابه. وتتلخص هذه السيرة فيما يلي :

ولد الحسن بن محمد الوزان الزياتي في غرناطه في تاريخ غير معروف بدقة ، يتراوح بين عامي ١٤٨٩ ، ١٤٩٥ (م) (٩). والحسن هو اسمه ، ومحمد اسم والده ، والوزان لقب أسرته ، مما يدل على أن أحد أجداده شغل وظيفة في مصلحة الموازين العامة. والزياتي كلمة تدل على نسبه القبلي ، أي تدل على قبيلته الأصلية التي انحدر منها. ولم نستطع تحديد النسب المذكور ، غير أن كتاب نزهة الهادي ، ترجمة هوداس ص ٢٢٧ و ٣٢٢ يذكر أنه كان في القرن السادس عشر والسابع عشر (م) (١٠) شخصيتان مغربيتان تحملان هذا النسب ، هما الشارح الأديب الحسن الزياتي والإمام سيدي الحسن الزياتي.

وعلى أثر استيلاء الملكين الكاثوليكيين ، فرديناند الخامس وإيزابيلا في كانون الثاني (يناير) عام ١٤٩٢ م (١١) والذي أعقب طرد المسلمين المتمسكين بدينهم ، التجأت أسرة الحسن إلى فاس ، حيث شغلت وظيفة مرموقة ، وقد أتم هذا الولد تحصيله متبعا الأسلوب الذي لا يزال حتى اليوم أسلوب مثقفي أيامنا في مدارس فاس وفي جامعة القرويين الإسلامية. وعمل بعد ذلك مدة عامين أمينا عاما لمستشفى الأمراض العقلية في فاس ثم أصبح «طالبا» كالطلبة الذين نرى الكثير منهم حاليا في المغرب ، وتجول في سن مبكرة في البلاد ، وكان لديه شغف في استنساخ شواهد القبور لبعض مشاهير الرجال. وعمل من ذلك مجموعة قدّمها هدية لشقيق السلطان. وتعطينا هذه التفاصيل فكرة عن مستواه الاجتماعي. أما أبوه فقد كان موظفا حسبما تشير بعض الدلائل. ويروي لنا أيضا أن صاحب الترجمة قام برحلة ، وهو لا يزال شابا ، إلى القسطنطينية والمشرق العربي ، وصاحب أحد أعمامه ، وهو في سن السابعة عشر ، في رحلته إلى تومبكتو. وكان عمه هذا خطيبا مفوّها اختاره السلطان سفيرا له في تومبكتو ، لدى السلطان السوداني الكبير ، اسكيا محمد توره.

وقد ثابر على تجواله في بلاد المغرب لحساب السلطان ، وذلك قبل قيامه برحلة ثانية

__________________

(٩) أي بين ٨٧٨ ه‍ و ٨٨٤ ه‍.

(١٠) أي العاشر والحادى عشر الهجريين.

(١١) ٨٩٧ ه‍.


إلى بلاد السودان ، والتي يقول بشأنها إنه انتقل فيها من تومبكتو حتى مصر ما را ببلاد الهوسة ومملكة غاوغة في شرق التشاد ثم عاد إلى المغرب بحرا.

وقد أمضى معظم عامي ١٥١٤ ، ١٥١٥ م في المغرب (١٢) وكان يعمل حينئذ فى خدمة السلطان وبعض قواده. ومما لا ريب فيه أنه كلف بمهمات يحتمل أنها سياسية واقتصادية ، لأنه يبدو لنا مطلعا في صورة عميقة على بورصة الأسعار ؛ وتزايدت هذه البعثات أهمية مع الزمن لدرجة يظهر لنا فيها وسيطا في المفاوضات بين سلطان فاس محمد البرتغالي ، وسلطان مراكش الناصر بن يوسف الهنتاتي ، وأمير السوس وحاحه ، الشريف أحمد الأعرج ، مؤسس أسرة السعديين الذي يمكننا أن نفترض أنه كان رفيقه في الدراسة في بعض مدارس فاس. وفي آذار (مارس) من عام ١٥١٤ كانت له مقابلة مع حاكم بادية آسفي ، عامل ملك البرتغال ، واسمه يحيى أو تعفوفت. وفي عام ١٥١٥ وبمناسبة حملة دكالة التي قام بها سلطان فاس برزت شخصية محمد بن الحسن الوزان بروزا كبيرا وظهر أكبر نشاط له. ومنذ هذه الحملة نستطيع تتبع تاريخه في صورة أدق ، ومن المحتمل أن كفاءاته الخاصة وثقافته كانت تحظى بتقدير كبير لدى سلطان فاس ، حتى لقد عهد إليه بمهمة في المشرق ، فغادر فاس فجأة في شهر آب (أغسطس) ١٥١٥ م. وليس من المؤكد أنه كان مكلفا بسفارة لدى سليم الأول السلطان العثماني في القسطنطينية ، كما اعتقد. بعضهم ، إذ لا يتوقع أن يسافر إلى القسطنطينية بتجهيزات تافهة كحبال الخيام التي ذهب إلى شرائها بنفسه من سوق بسكرة بالجزائر. ويضعف من هذا الاحتمال أيضا أنه يذكر لنا أنه كان في مدينة رشيد بمصر في أثناء وجود السلطان سليم في هذه المدينة ، ولكن بدون ان يتحدث كثيرا عن هذا السلطان ، ولو أنه كان موفدا إليه وأتيح له في هذه المناسبة مقابلته لتحدث عنه بإسهاب.

ولكنه لم يكن بالتأكيد موظفا دبلوماسيا ضئيل الأهمية ، لأننا نراه في نفس الرحلة وهو يحرف طريقه كي يذهب للتحادث مع حاكم دبدو ، ثم يقصد بلاط ملك تلمسان أبي عبد الله محمد ، ثم يحل في مدينة الجزائر ضيفا على «وجيه» أندلسي الأصل ، سبق له أن أوفد من قبل سكان مدينة الجزائر كي يتفاوض في شأن عقد هدنة مع الحكومة الأسبانية ، ثم يقصد بجايه لمقابلة أمير البحر الشهير عروج بربروس ، الشقيق الأكبر لأمير البحر خير

__________________

(١٢) ٩٢٢ و ٩٢٣ ه‍.


الدين بربروس (١٣). وفي النصف الثاني من شهر أيلول (سبتمبر) اضطر عروج للالتجاء إلى مدينة جيجل الجزائرية ، وتابع الحسن رحلته باتجاه تونس مارا بمسيلة في منطقة الحضنة الجزائرية. ويقول لنا أنه بلغ تونس مع جوادين فقط وعانى صعوبة في الحصول على الشعير اللازم لهما ، وهذا يدل على ضعف تجهيزاته كسفير. وعند وصوله إلى تونس لم يجد السلطان فيها ، لأنه كان قد غادرها في رحلة إلى الجنوب ، واتصل بالقصر الملكي ولكن يبدو أنه لم يحظ بمقابلة الملك أبي عبد الله محمد ، لأنه لا يذكره بخير كثير ، ولكن من المؤكد أنه استطاع أن يجمع خلال وجوده في حاشية الملك كمية من المعلومات عن بلاد نوميديا التونسية ، والتي قدم عنها تفاسير غير واضحة. ومن المحتمل أن يكون قد تابع رحلته حتى مدينة قفصة وقابس ، وهما آخر مدينتين تونسيتين يظهر أنه رآهما رأي العين.

هذا ولا نعرف شيئا عن المكان الذي أبحر منه الحسن قاصدا القسطنطينية ، ولا تاريخ سفره ولا عن إقامته في المشرق ، اللهم إلا وجوده في مصر في شهر حزيران (يونيو) ١٥١٧ (١٤) ، في مدينة رشيد ، في نفس الوقت الذي كان فيه السلطان سليم العثماني في هذه المدينة. وقد أدى فريضة الحج في أثناء إقامته في المشرق ، وعاد من مصر إلى المغرب بحرا وتوقف في طرابلس سنة ١٥١٨ (١٥) (ونلاحظ أنه هنا قد استعمل التأريخ الميلادي لأول مرة). ويغلب على الظن أنه سقط في الأسر خلال توقف سفينته في جزيرة جربة على يد القرصان الصقلي بيتر وبوفا ديغليا واقتيد إلى إيطاليا ، حيث قدم هدية للبابا ليون العاشر (١٦) ؛ واسمه جان دوميديسيس ، وحظى بكرم الوفادة لدى هذا الحبر الشهير ،

__________________

(١٣) استشهد عروج هذا في معركة مع الأسبان قرب تلمسان سنة ١٥١٨ م ، أما خير الدين فكان قائد أسطول السلطان سليمان العثماني ، وقد حصن مدينة الجزائر ، وكسر أمير البحر الايطالي آندر يادوريا في خليج آمبراس على الساحل اليوناني ، وزار مرسيليا على رأس أسطوله كصديق للملك الفرنسي فرانسوا الأول ، وتوفي في القسطنطينية سنة ١٥٤٦ (المترجم).

(١٤) ٩٢٩ ه‍.

(١٥) ٩٢٦ ه‍.

(١٦) ولد هذا البابا في فلورنسا سنة ١٤٧٥ ومات في روما ، وهو ابن لوران الكبير وشغل منصب البابوية بين ١٥١٣ و ١٥٢١. وكان من المعجبين بالآثار القديمة وحاميا للفنون والآداب والعلوم. واستحق أن يمنح اسمه لأزهى العصور التاريخية. وقد حاول ، شأن البابا جول الثاني ، أن ينقذ إيطاليا من النير الأجنبي ، فتصدى لقوات البندقية وملك فرنسا وذلك عن طريق تحالفه تارة مع هذا وتارة مع أولئك. فوقع مع فرانسوا الأول اتفاق بولونية سنة ١٥١٦ وقد أدى بيعه لصكوك الغفران الجديدة ، التي كان ريعها مخصصا لإنجاز بناء كنيسة القديس بطرس ، إلى تمرد لوثر وبالتالي إلى حرمانه سنة ١٥٢١ ، ودفع لظهور حركات الإصلاح الديني وبالتالي لانتشار المذهب البروتستانتي (المترجم).


حامي الفنون ، الذي حمله على اعتناق النصرانية على أيدي ثلاثة أساقفة في قصر سانتانج الذي أقام فيه إقامة جبرية سنة كاملة. وأخيرا تم تعميد الحسن بن محمد الوزان الزياتي ، على يد البابا نفسه في كنيسة القديس بطرس ، في روما بتاريخ السادس من كانون الثاني (يناير) عام ١٥٢٠ (١٧) ، وسمي جوهانيس ليود وميديسيس (١٨) ، أما هو فقد اتخذ لنفسه اسم جان ليون غراناتينو ، وبالعربية يوحنا الأسد الغرناطي. وقد عرف فيما بعد تحت اسم ليون الإفريقي ، وهو الاسم الذي أطلقه عليه راموزيو ، وذلك استنادا إلى ما اشتهر به بين معاصريه.

هذا ولا تزال تفاصّيل إقامته في إيطاليا غير معروفة. ونعرف أنه كان يدرّس العربية في مدينة بولونية الإيطالية ، وأنه كان يتردد على رجال الأدب. ولكن هل ختم حياته في إيطاليا قبل عدة أعوام سبقت تاريخ ١٥٥٠ (١٩) ، كما ورد في مقدمة الطبعة الرابعة التي أصدرها راموزيو عام ١٥٨٨؟ (٢٠) ، وهل قفل من إيطاليا عائدا إلى تونس كما عبر عن نيته صراحة في كتابه «وصف إفريقيا» ابتداء من عام ١٥٢٥ (٢١)؟ وهل عاد إلى حظيرة الإسلام كما تؤكد ذلك بعض النصوص؟ وهذا هو الأمر الأكثر احتمالا. ولم يكن عمره يتجاوز الأربعين عاما عندما دبج كتابه. فقد كان نشاطه الثقافي كبيرا جدا استنادا إلى مشاريعه في التأليف ، والذي يعرضه علينا في نهاية كتابه الثامن عن وصف أوربا ، ثم عن القسم الآسيوي الذي زاره ، وأخيرا عن إفريقيا. وفي الواقع لقد سبق له أن انتوى ، أو ربما كتب فعلا ، مختصرا في التاريخ الإسلامي ، الذي يتكلم عنه في أكثر من مكان ، مما يحملنا على الاعتقاد بأنه أنجز فعلا هذا المؤلف ، بالإضافة إلى كتب تاريخ إفريقيا الحديث ، وكتاب البلاغة في اللغة العربية ، وكتاب في النحو الخ .. وحتى أيامنا هذه لم يمكن العثور إلا على الجزء العربي من مفردات بلغات متعددة ، صدر في بولونية بتاريخ كانون الثاني في (يناير) ١٥٢٤ (٢٢) والذي تحتفظ به مكتبة الاسكوريال في مدريد.

ومن الواضح أن كتابه «تاريخ إفريقيا الحديث» سيكون ثمينا للغاية بالنسبة

__________________

(١٧) ٩٢٨ ه‍.

(١٨) نقلا عن السيدة الأستاذة كودازى.

(١٩) ٩٥٧ ه‍.

(٢٠) ٩٦٦ ه‍.

(٢١) ٩٣٣ ه‍.

(٢٢) ٩٣٢ ه‍.


لمؤرخي تلك الفترة الغامضة. ونحن نأمل أن تكون السيدة آنجيلا كودازى ، التي تتابع أبحاثها المتأنية منذ بضعة أعوام ، قد تمكنت من جمع الوفير من المعلومات وأن تصبح معارفنا بفضلها أكثر دقة في هذا التاريخ.

وقد ظل «الوصف» الذي قدمه ليون موضع ثقة في خلال أكثر من ثلاثة قرون ، إذ ثبت أن مخطوط ليون كان معروفا ويستفاد منه على نطاق واسع منذ ١٥٢٩ م. وقد كان هذا المؤلّف وثيقة جغرافية أساسية ، وخاصة بالنسبة لعلماء الخرائط الجغرافيين الذين يبدو أنهم استفادوا من مصادر أخرى لا يستهان بها. ولا تزال الدهشة تعترينا من صحة بعض التفاصيل التي قدمها ليون ، ومن صواب نظراته كباحث كان ، على الرغم من تكوينه العلمي القديم ، متمتعا بروح عصرية ، وكان تجرده كبيرا. فلم يكن لديه أية كراهية إلا «للأعراب» الذين نسب إليهم ، كما فعل ابن خلدون ، مسئولية تخريب بلاد الشمال الإفريقي (*). وفي هذا المجال نحرص على أن نوضح للقارىء غير المتمرس أن عرب القرن السادس عشر لم يكونوا سوى أحفاد قبائل عربية ، أو من افخاذ قبائل عربية فوضوية تخلص منهم خلفاء مصر الفاطميون بأن دفعوا بهم لكي يبحثوا عن معيشتهم في المغرب حوالي سنة ١٠٥٠ م. أما العرب الأصلاء الذين قاموا بفتح البلاد ، أو الذين حكموها بعدئذ ، فقد انصهروا منذ زمن طويل في السكان البربر ، ما عدا بعض الحالات الاستثنائية النادرة. وحتى لو كان ليون نفسه ، وهذا محتمل جدا ، ينحدر من أصل عربي بعيد جدا ، فهو لن يرتاح اذا وصف بانه عربي ، وشبّه بأولئك الناس ، الذين كان بعضهم رجال أمن ، وبعضهم قطاع طرق والذين كان عدد كبير منهم يعيث فسادا في أرياف إفريقيا الشمالية.

وإذا كان لكتاب ليون مزايا رفيعة جدا ، ويقدم توثيقا يعتبر من أثمن المصادر ، فهو مع هذا يبدو حاويا على عدد ضخم من الأخطاء الناجمة عن أسباب عديدة. فقد كتب بدون شك كثيرا منه اعتمادا على الذاكرة التي كانت رائعة أكثر مما أشار إليه في مناسبات عديدة ، ولكنها لم تكن أمينة كل الأمانة ولا معصومة ؛ فقد ارتكب أخطاء بارزة جغرافية

__________________

(*) قصد ابن خلدون بكلمة «العرب» في جميع الفصول التي وردت فيها هذه الكلمة في «المقدمة» البدو الرحل ، وخاصة المشتغلين بمهنة الرعى (انظر كتابنا «عبقريات ابن خلدون» صفحات ٢٣٨ – ٢٤٤ ومقالنا في مجلة «الأصالة» الجزائرية عدد سبتمبر وأكتوبر ١٩٧٣ بعنوان» اتهام ابن خلدون بالتحامل على العرب» وتعليقنا رقم ٣٥٩ على مقدمة ابن خلدون ص ٥٧٩ «الجزء الثاني» الطبعة الثانية للجنة البيان ...(المراجع)


وتاريخية. واعتمد أحيانا على روايات رحالة غير صحيحة ، أو مفسرة تفسيرا غير صحيح ، كما أنه لم يقرأ مذكراته مرة ثانية بدقة. وهكذا تتعذر قراءة نص ليون إلا في ضوء شرح مفصل.

وقد بذلنا جهدا لجعل الترجمة حرفية قدر الإمكان ، حتى لو كان ذلك على حساب اللغة الفرنسية ، التي فقدت هنا فتنتها الحقيقية التي عرفتها في ترجمة تامبورال ، والتي كانت متأنقة على حساب المعنى. وقد توسعنا في الشروح التاريخية لنمهد السبيل أمام القارىء كي يدرك الوقائع في الصورة المتسقة مع الحقيقة التي يسمونها التاريخ ، وهي لا تعدو أن تكون حقيقة نسبية غير مطلقة. ولن يفوت العلماء المختصين كشف أخطاء بارزة في هذه الشروح. ونحن نعتذر عنها مؤكدين بأنه لم تكن لدينا مطلقانيّة تقديم عمل علمي في ثوب جديد ، إذ لم نتصدر لدراسة «وصف» ليون إلا بناء على ما لدينا من معرفة لا بأس بها عن بلاد إفريقيا الشمالية ، ولا سيما المغرب بشكل خاص. ومن المسلم به مثلا أن مسألة النقود والأوزان والمقاييس بحاجة لمعالجة جديدة على أيدي المختصين. كما أن ليون نفسه لم يكن يرمي إلى إعطائنا أرقاما دقيقة ، وقد حاولنا أن نعطي ما يكافىء هذه الأرقام بصورة معقولة بالفرنسية الحديثة. وعند هذا الحد توقفت أبحاثنا التي لا تزال بدون شك في حاجة إلى كثير من التصحيح. وقد وجه المترجم السابق تامبورال في عبارة ودية نظر القارئ إلى هذه الحقيقة إذ يقول : «وهكذا سنلاحظ أن ليون ، مؤلف هذا التاريخ عن افريقيا ، والذي كتب مؤلفه في روما ، باللغة الإيطالية ، إنما استخدم أميالا معروفة محليا ، يعادل اثنان ونصف منها مرحلة فرنسية» ولكن الميل الإنجليزي ، الذي يعادل ١٦٠٩ أمتار هو الذي يقابل تقديرات ليون.

وقد سمحت لنا أبحاثنا الخاصة والتي أكملتها الملاحظات الثمينة التي أخذناها عن المهتمين بهذه الناحية ، أقول سمحت لنا بتشخيص عدد من الأمكنة الجديدة ، ولا يزال عدد منها يتطلب تحديد مكانه بشكل دقيق ، إذ يكون من اللازم ضبط كتابتها بصورة صحيحة.

هذا ولم يكن باستطاعتنا إنجاز هذه المهمة الكبيرة نسبيا لولا العون الكبير الذي تلقيناه في العديد من المجالات بفضل المساعدة الفعالة والتضلع اللذين وجدناهما لدى عدد كبير من الأشخاص الذين آسف كثيرا لعدم استطاعتي سرد أسمائهم جميعا هنا.


ومن المؤكد أنه لولا التعاون النشيط من جهة السيد تيودور مونو الاستاذ في «الموزيوم» (*) ومدير المعهد الفرنسي لإفريقيا السوداء في دكار ، والذي التحق به بعدئذ السيد ريمون موني ، مساعده ، ولولا هنري لوت الملحق بمتحف الإنسان في باريس وجوّاب الصحراء الكبرى المشهور ، لما اقتصر الأمر على قصور مراجعنا قصورا كبيرا فيما يتعلق بالموضوعات ، المعروفة لديهم ، بل لما استطاع الكتاب نفسه أن يرى النور.

وندين بالشيء الكثير للسيد روبير ريكار ، الأستاذ في السربون ، والذي يعتبر اتساع معرفته عن قضايا إفريقيا ، في عصر ليون ، فريدا جدا. كما تفضل الأستاذ جاستون فييت ، مدير المتحف العربي في القاهرة ـ والذي يعتبر كتابه «تاريخ مصر» حجة ـ بمراجعة الجزء الخاص بمصر في هذا الكتاب. وقدم لنا كل من الأستاذ بوانسو في تونس وج. مارسيه في الجزائر معلومات ثمينة. ووضع الأساتذة : ليفي بروفنسال ، الأستاذ في السربون ، والسيد كولان الأستاذ في مدرسة اللغات الشرقية ، والسيد مارسي ، المختص المشهور بالدراسات البربرية ، أقول وضع هؤلاء كفاءتهم العالية في خدمتنا. وكذلك تفضل السيد رونيه جروسيه ، عضو الأكاديمية الفرنسية ، بإرشادنا في بعض الأبحاث التاريخية.

ولم نعمد إلى سرد أسمائهم لإعطاء ضمانة لهذا العمل ، لأن هذا سيكون نوعا من سوء الاستغلال. ولكننا سنستوحي من تواضع راموزيو في إهداء كتابه للعالم جيروم فراكاستور ، وهو الإهداء الذي سنرى ترجمته بعد قليل ، وسنؤكد لهم عرفاننا الصادق للفائدة التي قدموها لهذه المحاولة الرامية إلى نشر «وصف» ليون كائنة ما كانت نواقصها.

* * *

«الكسيس بولار»

__________________

(*) يقصد به متحف التاريخ الطبيعي في باريس (المراجع)


لقد توقف نشر هذا المؤلف بغته ، بينما كان العمل يقارب نهايته ، بسبب الوفاة الفجائية للطبيب الجنرال ايبولار (١) الذي نحنيّي هنا ذكراه ، في أعقاب ظروف مؤلمة. فقد ظل المخطوط مفقودا خلال بضعة أعوام رغم بحث أهم معاونيه الذين كانوا حريصين كل الحرص على نشر الكتاب الذي أتمه صديقهم العظيم.

وأخيرا وبفضل عناية السيدة إيبولار (أرملة المأسوف عليه إيبولار) تم وضع المخطوط بين يدي الأستاذ ه. تيراس مدير معهد الدراسات العليا المغربية ، الذي اهتم بنشاط بنشر الكتاب ، ووصل الكتاب أخيرا ليدي السيد لوت ، الذي عهد إليه بشئون الطباعة بشكل خاص.

وقد أعيدت كتابة بعض التحقيقات أو أضيفت ولا سيما في الجزء المتعلق بالصحراء الكبرى والسودان ، والملاحظات التي تحمل الحروف الأولى من الأسماء هي التي تعكس بشكل خاص رأي أحد المحققين.

ونظرا لنفاذ ترجمة تامبورال لكتاب ليون ، وهي الترجمة التي قام بطبعها شيفر بين عامي ١٨٩٦ و ١٨٩٨ ، والتي لم تعد في متناول الجمهور ، بينما لا تزال ـ نظرا لنوعيتها والقدر العظيم من المعلومات التي تشتمل عليها ـ كتابا مفيدا لأبناء هذا العصر ، لذلك نأمل أن يقدر المختصون بالدراسات الإفريقية هذه الطبعة الجديدة حق قدرها والتي أنجزت لخدمتهم. ذلك أن النهضة التي تتخذها الدراسات التاريخية عن إفريقيا جعلت من الضروري وضع هذا الكتاب تحت تصرفهم ، والذي يظل معينا قيما لدراسة ماضي هذه القارة ، بعد أن كان أساس المعارف الجغرافية عن هذا الجزء من العالم خلال عدة قرون من الزمن.

ت. مونو ، ه. لوت ، ر. موني.

TH. MONODH. LHOTEet. RMAUNY

ملحوظة : لقد أخذت الخرائط التي حضرها ايبولار شكلها النهائي بجهود ه. لوت ، وتم رسمها في مكتب الرسم في متحف الإنسان في باريس. ونود هنا أن نشكر هذه الدائرة لتعاونها الثمين وأن نعبر عن عرفاننا للسيد الأستاذ فالوا للتسهيلات التي تكرم بها علينا لإنجاز هذا العمل.

__________________

(١) توفي الطبيب الجنرال ايبولار بتاريخ ٢٢ أيلول (سبتمبر) ١٩٤٩



الى سعادة السيّد جيروم فراكاستور

من جان باتيست راموزيو

لقد كان من عادة القدامى ، والتي لا زالت معهودة حتى أيامنا ، أن يعمد الذين يرغبون في نشر تصانيفهم ، سواء المنثور منها أو المنظوم ، إلى إهدائها لرجال قادرين على الحكم عليها ، أو للأصدقاء الذين يودون قراءتها ، أو للذين يضفي بريق أسمائهم على المؤلفين مزيدا من الثقة والشهرة.

وأود أن أحافظ على هذا التقليد ، وذلك بمناسبة العمل الذي فرغت من إنجازه ، والذي يتمثل في تجميع بعض التصانيف عن شئون إفريقيا والهند. ولم أجد أية شخصية أخرى سوى سعادتكم أستطيع أن أقدم لها عملي ، فهي وحدها التي تستجيب أفضل استجابة للهدف الذي أقوم بعرضه. وفي الواقع لا أتصور أبدا أن هناك احدا ـ بفضل ما له من مكانة ـ يمكن أن يكون أحسن منكم حكما على مؤلفي ، أو أشد حفاوة به أو تقديرا له.

وهذا يعود أولا ان سعادتكم أرسخ من أعرفهم قدما في علم الجغرافية ، وإلى أنكم ارتأيتم أنني سأجلب بعض المسرة للناس بفضل هذا المؤلف ، وإلى أنكم منذ البداية شجعتموني على القيام بهذا المشروع ، ولأسباب كثيرة أيضا شددتم عزيمتي في عدة مناسبات ، وذلك بفضل المحادثات الحكيمة والمناقشات الودية التي كانت لي مع السيد الكريم الكونت ريموندو ديلّاتوره ، الذي سبق له أن أنصت بسرور لجنابكم وأنتم تتكلمون بعلم غزير عن كثير من الأمكنة والكثير من المواقع.

وأخيرا رغبت في أن أترك للخلف ، بعملي هذا ، نوعا من شاهد على صداقتنا الطويلة الطاهرة. ولن أستطيع أن أصنع خيرا من ذلك تجاه الاحترام الذي أدين به لجنابكم ، وللمودة التي تحملونها لشخصي ، وإنني لعلي يقين بأن هذا المؤلف سيكون عزيزا عليكم وستقرءونه عن طيب خاطر.

ولكنني إذا كنت أريد إتمام رغبتي في رؤية عملي هذا حيا بين الناس ، فلن أستطيع


أن أعمل خيرا من أن أقدمه لاسمكم الشهير. إنني مقتنع بأنه بعد فناء الجسد ينبغي أن يظل هذا الاسم خالدا ، نظرا لأن جنابكم كان الوحيد ، في عصرنا ، الذي عمل على إحياء طريقة القدامى الجليلة في الكتابة في مجال العلوم. فأنتم لم تقلدوا ، ولم تحرفوا ، ولم تنقلوا كتابا عن كتاب ، كما لم تنسبوا لأنفسكم أشياء الآخرين كما فعل الكثيرون ؛ بل عملتم على تمحيص الوقائع بحذق ودراية. وقدمتم للعالم عددا من الطرق الجديدة التي لم يسمع أحد كلاما عنها من قبل بل التي لم يتصورها أحد. وهذا ما حدث في علم الفلك ، فقد اكتشف شخصكم الحركات السماوية مع يقين مطلق ، وأوجد نظرية غاية في احكامها عن وحيدات المركز. وفي الفلسفة ، فقد مهدتم للطريقة السرية التي تولد فينا الذكاء والطريقة التي كانت مجهولة للبحث عن أسباب ظاهرات غريبة ، أسباب ظلّت مخفية خلال العديد من القرون ، كأسباب التوافق والتنافر الطبيعية ، والتي نلاحظها في ظروف كثيرة. أما في مجال الطب فقد درستم لأسباب الأمراض السارية وأفضل الطرق وأسرعها في علاجها. وإني لأترك جانبا قصيدة مرض الزهري ، التي على الرغم من أنها كتبت بقلم جنابكم في سن الشباب ، والتي تبدو كأنها لعبة ، فهي مع ذلك مليئة بأفكار فلسفية وطبية وبديعة جدا ، وموشاة بحلة قشيبة من أفكار قدسية ، ومزدانة بأزهار شعرية متنوعة ، حتى أن رجال عصرنا لا يعتورهم ريب في أنها تعادل القصائد القديمة ، مما يضعها في عداد القصائد التي تستحق البقاء وأن تقرأ خلال قرون لا نهاية لها.

لقد اعتبرت الدول والإمارات والثروات والأشياء التي من هذا القبيل والتي يمنحها الحظ ، اعتبرت دائما أمورا غير مستقرة وقصيرة البقاء. وهي في الحقيقة كذلك. أما كنز العقل ، ولا سيما إذا كانت قيمته من مستوى عقل جنابكم ، فمن المعروف يقينا بأنه متين ، يقاوم أية إهانة ويصمد لكل صرف من صروف الدهر ، ويعمل جاهدا ، رغم أنف الزمن ، ليصبح سرمديا وخالدا. وما أقوله هو الحقيقة. وإن من يرغب في التكلم عن حياة عدد ضخم من كبار الأمراء أو الأشراف الذين عاشوا في إيطاليا أو في أجزاء أخرى من العالم ، بل من يرغب في التكلم عن المعاصرين أنفسهم ، فإنه بلا شك سيجد فيما يتعلق بكثير منهم ، إن لم نقل فيما يتعلق بأكبر عدد منهم ، أن اللحد الذي احتوى أجسادهم قد أسدل رداء النسيان على أسمائهم ، بينما نرى أن ذكرى العديد من العلماء والكتاب الذين ماتوا منذ عدة قرون ، لا تزال تعيش بين ظهرانينا ، وتنعم بنضارة نامية في كل ساعة تمضي.


وهكذا أحسب إذن أنني قمت بأفضل اختيار ، باعتبار الهدف الذي كنت أرمي إليه قبل كل شيء. فقد جذبت إليه بنوع من غريزة محبة عفوية وتبجيل تجاه رجال الأدب الذين يهتمون خاصة بالعلوم الفلكية والطبيعية.

ويتراءى لي في الواقع أن العلوم المذكورة تحوي شيئا الاهيّا نوعا ما مما يجعلها مؤهلة للتشريف والإعجاب بين الناس. ولكن السبب الذي حدا بي لبذل الكثير من العناء ، عن طيب خاطر ، في هذا العمل بالذات ، هو التأكد الذي حصلت عليه من دراسة وتمحيص لوحات بطليموس الجغرافية ، فقد وجدت أن اللوحات التي تصف أفريقيا والهند تشكو من نقائص كثيرة تجاه المعرفة الواسعة التي لدينا حاليا عن هذه المناطق وقد قدرت أن جمع أقاصيص كتاب عصرنا ، الذين كانوا في هذين الجزأين من العالم والذين تكلموا عنها بصورة مفصلة سيكون عملا ثمينا وجزيل الفائدة. وإذا ضممنا إليه صورة عن الخرائط البحرية البرتغالية ، فسيكون صنع عدد مكافىء من اللوحات عملا ذا فائدة كبيرة لأولئك الذين يهتمون بهذه المسائل ، إذ سيصبحون على يقين من درجات العرض والطول ، وذلك على الأقل بالنسبة لسواحل كل هذه الأصقاع ، ومن أسماء الأمكنة ، والمدن والأمراء الذين يقطنون فيها حاليا ، وسيتمكنون من موازنة هذه اللوحات مع ما كتبه الأقدمون.

ترى كم كابدت روحي الكليلة والصغيرة من عناء في هذا العمل ، ولا سيما بسبب تنوع اللغات التي كتب بها هؤلاء المؤلفون ، ولا أريد أن أشير إلى ذلك الآن كيلا يظهر أنني أبالغ في الكلام عن متاعبي وسهدي. ولكن آمل من قرائي الكرام أن يلاحظوا ذلك ، في بعض الأمكنة ، عندما يفكرون في هذا الأمر. وإذا كنا قد ارتكبنا عددا كبيرا من الأخطاء ، وهذا ما أعترف به حقيقة ، فهذا لم يصدر عن قلة في العناية من جهتنا ، بل يعود ذلك بالأحرى إلى أن مستوى ذكائنا عجز عن مجاراة حماس إرادتنا الطيبة.

وفضلا عن ذلك فإن نسخ المؤلفات التي وصلت إلى يدي كانت مضطربة للغاية ومغلوطة ، وهذا ما كان يخيف أي نفس جلودة وجريئة إذا لم تكن مدعومة بفكرة الحبور الذي يستشعره هواة المسائل الجغرافية ، ولا سيما من معرفة ذلك الجزء من إفريقيا الذي كتبه جان ليون. وليس هناك ، كما نعرف ، أي مؤلف آخر في عصرنا أعطى مثل ذلك القدر من المعلومات عنه ، وبمثل تلك الغزارة وذلك اليقين.


ولكن ماذا أقول عن المتعة التي سيحصل عليها الأدباء والدارسون؟ ومن ذا الذي يرتاب في أن العديد من الأشراف والأمراء ستنشرح نفوسهم من هذه المطالعة؟ ومن حق هؤلاء أكثر من سواهم أن يعرفوا أسرار هذا الجزء من العالم وخصائصه ، وتفاصيل تلك المناطق وأقاليمها ومدنها ، والعلاقات المتبادلة بين الأشراف وبين الأقوام التي تسكنها ، حتى لو كانوا مطلعين ، أو عرفوا بعض الحقائق من أشخاص آخرين سبق لهم أن جابوا هذه الأقطار ، او قرأوا ما كتبه هؤلاء ، أو استمعوا إلى ما سردوه عليهم ، وكان لديهم بفضل ذلك فكرة مسبقة عن عدد هذه المواقع واتساعها ، فإني لعلي يقين أنهم عند مطالعة هذا الكتاب ، وبعد الإلمام بما يحتويه ، وما هو معروض فيه ، سيظهر لهم أن المعلومات التي لديهم تبدو بالمقارنة مع مكنونات هذا الكتاب ، معلومات مبتسرة وناقصة وقليلة القيمة ، تلك هي الثمرة التي سيجنيها القراء من هذا الكتاب والتي ستوفر لهم كل ما يحبون.

ولقد تردد مؤلّفنا (يقصد جان ليون) كثيرا على قصور أمراء بلاد المغرب ، كما اشترك معهم في عدة حملات حربية ، في عصرنا ، وسأروي عن حياته ما ورد عن أشخاص جديرين بالثقة من الذين عرفوه وترددوا عليه في روما.

لقد كان مغربيا مسلما ، ولد في غرناطة ، وعندما استولى الملك الكاثوليكي على هذه المملكة ، كان هذا في جملة الذين التجأوا إلى بلاد المغرب مع أسرته ، وأتمّ تحصيله بالعربية في مدينة فاس. وقد كتب في هذه اللغة عدة مؤلفات في علم التاريخ ولكنها لم تصل إلينا حتى الآن ، فضلا عن كتاب في علم النحو يقول الأستاذ يعقوب مانتينو أنه بحوزته. ولقد جاب كل أرجاء الشمال الإفريقي ، وبلاد السودان ، وجزيرة العرب ، وبلاد الشام ، مسجلا كل ما رآه وما سمعه. وفي آخر مرحلة سقط في الأسر ، في جزيرة جربه ، في عهد البابا ليون ، بواسطة أحد مراكب القرصان. وقد اقتيد إلى روما حيث قدم هدية لقداسته. ولما رآه البابا ، وأدرك أنه يهتم بقضايا الجغرافيا ، وأنه سبق أن ألف كتابا يحمله معه ، أكرم وفادته وأثنى عليه كثيرا ومنحه مرتبات طيبة كي لا يغادر البلاد. وبعدئذ ناشده أن يعتنق النصرانية وأوصله لذلك ومنحه اسميه جان وليون. وهكذا سكن ليون مدة طويلة في روما بعد ذلك. وتعلم فيها اللغة الإيطالية قراءة وكتابة وترجم كتابه من العربية قدر استطاعته. وهذا الكتاب الذي كتبه بيده وصل إلينا في أعقاب أحداث عديدة سيكون ذكرها نوعا من إسهاب. أما نحن فقد بذلنا أحسن عناية بإمكاننا وقد اجتهدنا في سبيل إخراجه للنور ، بكل أمانة ، على الصورة التي يقرأ فيها الآن.




القسم الأوّل

منشأ إسم إفريقيا

تدعى أفريقيا بالعربية ، إفريقية ، من كلمة فرق التي تقابل معنى الكلمة اللاتينيةSepararit وهناك رأيان حول أصل هذه التسمية. فالأول يرتكز على أن هذا الجزء من العالم ينفصل عن أوربا وعن جزء من آسيا بواسطة البحر المتوسط. ويرى القول الثاني أن هذا الاسم مشتق من أفريقوس ملك بلاد العرب السعيدة ، (١) على اعتبار انه أول من جاء وسكنها ، فبعد أن هزم هذا الملك في معركة مع آشور وطرد من مملكته عجز عن العودة اليها ، فعبر النيل على عجل متابعا طريقه نحو الغرب ولم يتوقف قبل وصوله الى ضواحي قرطاج. ولهذا فان العرب لا يقصدون بإفريقية سوى ضواحي قرطاج ذاتها ، ويطلقون على مجموع افريقيا اسم المغرب. (٢)

حدود إفريقيا

يعتبر النيل ، وذلك استنادا الى العلماء الأفارقة والجغرافيين ، تخما شرقيا لافريقيا ، وهذا ابتداء من روافد بحيرة غاوغه جنوبا (٣) وحتى مصب هذا النهر في البحر الابيض المتوسط ، وتمتد غربا حتى اعمدة هرقل. وتذهب غربا من هذا المضيق حتى نون ، وهي

__________________

(١) اليمن.

(٢) الواقع كان الرومان يسمون آفرAfer وجمعها أفرى Afri ، المواطن البوني من اهل قرطاج وذلك عندما اجتاحوا قرطاج عام ١٤٦ ق. م ، وخربوا المدينة وانشأوا مقاطعة افريقياProvinciaAfrica أو اقليم الآفر اختصارا ، اما العرب فقد تحولت عندهم كلمة افريقيا الى إفريقيةIfrikiya وهو اسم كانوا يقصدون به تقريبا بلاد تونس الحالية ، في حين كانت كلمة مغرب أي بلاد المغرب ، تعني عندهم كل المنطقة المحصورة بين ضفة النيل اليسرى والمحيط الأطلنطي.

(٣) بحيرة غير محددة الموقع تماما ، لأن أعالي النيل لم تكن معروفة عند العرب في القرن السادس عشر.


آخر موقع من ليبيا على المحيط. (٤) وتبدأ افريقيا في الجنوب من رأس نون وتمتد على طول المحيط الذي يطيف بها حتى صحراء غاوغه. (٥)

أقسام إفريقيا

تنقسم افريقيا ، كما يرى كتابنا الى أربعة اقسام وهي : بلاد البربر ، نوميديا ، ليبيا ، وبلاد السودان. وتبدأ بلاد البربر في الشرق من جبل معيز ، وهو آخر بروز من جبال الاطلس على مسافة ثلاثة آلاف ميل تقريبا من الاسكندرية. (٦)

ويعتبر البحر المتوسط حدا شماليا لها ابتداء من جبل معيز حتى اعمدة هرقل. وفي المغرب تبدأ حدودها من هذا المضيق وتحاذي ساحل المحيط حتى آخر بروز من جبال الاطلس ، أي عند النهاية الغربية لهذه الجبال ، على حافة المحيط ، عند المكان الذي تقوم فيه مدينة ماسّه. وتنتهي بلاد البربر جنوبا قرب جبال الاطلس. أي عند سفح هذه الجبال المطل على البحر الابيض المتوسط. وهنا نجد أشرف جزء من افريقيا حيث نجد أناسا من الجنس الابيض يسيرون وفق نظم منبثقة من التفكير السليم ومن القوانين الوضعية.

أما القسم الثاني فيسمية اللاتين نوميديا ، والعرب يدعونه بلاد الجريد وهي البلاد التي ينمو فيها النخيل ، (٧) وتبدأ نوميديا شرقا من الواحات ، وهي مدينة على مسافة مائة

__________________

(٤) يتخيل المؤلف واحة تحمل اسم نون تقع في الجنوب على الساحل في المنطقة الصحراوية ، أي في أراضي موريتانيا الحالية.

وقد اطلق قدامى الملاحين الأوربيين اسم رأس نون على بروز ساحلي كانوا يحاذون الساحل حتى بلوغه كي يتجهوا بعدئذ نحو جزر الخالدات (كناري) وظل هذا الرأس لمدة طويلة أبعد التقاط التي يترددون عليها جنوبا وغربا. ويجهل السكان المحليون اسم رأس نون الذي أطلقه البحارة الاوروبيون على هذه المنطقة ، كما يعتقد انهم كانوا يصلون من هذا الموقع الى وادي نون المأهول وذي الحركة التجارية النشيطة ، ويغلب على الظن أن هذا الرأس والوادي يقعان في جوار منطقة إيفني ، قرب ضريح سيدي ورزيك.

(٥) وهنا يجدر بنا ان نذكر ان الاوروبيين كانوا يعرفون حينئذ أن البرتغاليين قد داروا حول القارة الافريقية لبلوغ الهند وذلك عام ١٤٨٧ م / ٨٩٢ ه‍ ، في حين ظل الجغرافيون العرب على المفاهيم الجغرافية للقرون السابقة لهذا التاريخ «ويعود هذا لدمار أساطيلهم بفعل الحصار الذي ضربه البرتغاليون حول السواحل العربية سواء في المغرب او المحيط الهندي (المترجم).

(٦) كان الجغرافيون العرب يعتبرون جبال الاطلس سلسلة متواصلة ممتدة من ساحل المحيط الاطلنطى حتى العقبة جنوبى خليج السلوم ، أما جبل معيز الذي يحدده المؤلف على مسافة ٥٠٠٠ كم من الاسكندرية فلم يمكن التعرف عليه بشكل دقيق.

(٧) اطلق اللاتين بالفعل كلمة اقليم نوميديا ، على الكتلة الجبلية التي تؤلف تقريبا حوض نهر المجردة ، أي السهل الواقع الى الشرق في منطقة قرطاج ، فقد كان مأهولا بجماعات الآفري ، وهي أقوام كانت تعيش في الغرب ، منتشرة حتى ساحل المحيط وكانت مشمولة باسم مورى ، في حين كان كل السكان المحليين في الهضاب العليا وما وراءها ، ابتداء من الساحل التونسي حتى الساحل الأطلنطي ، كانوا معروفين تحت اسم الجتولي. أما تسمية نوميدية او النوميديين فقد كانت على الارجح اسما من ـ


ميل من مصر. (٨) وتبدأ نوميديا غربا حتى نون الواقعة على ساحل المحيط. وتمتد شمالا حتى جبال الاطلس على السفح الجنوبي. وبذلك تتاخم رمال صحاري ليبيا من الجنوب ، ويطلق العرب (٩) نفس الاسم على كل هذه الاصقاع التي تنتج التمور لأن لها جميعا نفس الموقع.

ويدعى القسم الثالث ليبيا في اللاتينية ، ولكنه لا يحمل في العربية اسما آخر سوى الصحراء أي القفار (١٠). وتبدأ شرقا من تخوم الواحات كي تمتد غربا حتى المحيط. وتتاخم نوميديا من الشمال بلاد النخيل وتتاخم من الجنوب بلاد السودان ، ابتداء من مملكة ولّاته شرقا ، والتي تقع على المحيط. (١١)

ويبدأ القسم الرابع ، أي بلاد السودان ، من شرقي مملكة غاوغه ويستمر غربا حتى مملكة ولّاته (١٢) وتثاخم بلاد السودان من الشمال صحراء ليبيا. وتنتهي بلاد السودان جنوبا في أمكنة نجهلها ، ولكننا نملك عنها معلومات جديدة استقيناها من تجار يأتون من هذه المناطق الى مملكة تومبوكتو. ويمر من أواسط بلاد السودان نهر النيجر ، الذي يتولد في صحراء تدعى سو ، وحيث يخرج من بحيرة. (١٣) واستنادا الى ما يؤكده جغرافيونا فان نهر النيجر هو عبارة عن فرع من النيل يغور تحت الارض ، ومن ثم ينبثق منها كي يشكل هذه البحيرة. ويقول البعض ان هذا النهر ينشأ في الغرب ، في جبال ، وثم يجري

__________________

ـ أصل بربري ، ولكنه التبس منذ العصور القديمة مع عبارة نوماد الإغريقية ، ومعناها الرعاة ، او الرعاة المتنقلون ، حتى لقد اشتملت هذه التسمية المحلية للقبائل الجبلية المستقرة أقواما بدوية وكان هذا الاتساع في التسمية راجعا على الاخص الى المؤلفات الأدبية : هذا ولا توجد وثائق قديمة معروفة تتكلم على الخصوص عن الواحات وتعطيها اسما اجماليا ومعنى عبارة بلاد الجريد بلاد النخيل.

(٨) ويقصد بالواحات هنا البلدة الرئيسية في واحة الخارجه ، المرتبطة في أيامنا بنهر النيل بواسطة خط حديدي طوله ١٠٦ أميال أو ١٧٠ كم. أما في كتابه الرابع ، فيضع الحسن هذه الواحات في ليبيا.

(٩) أي البدو من بني هلال وسليم وسواهم.

(١٠) لم تكن ليبيا بالنسبة للإغريق أولا ، ثم بالنسبة الى اللاتين ، عبارة عن المناطق الصحراوية الحالية فحسب بل كل المنطقة المأهولة بالجنس الابيض بين نهر النيل والمحيط.

(١١) الواقع ان بلاد ولّاته ، التى لم تكن مملكة بحد ذاتها ؛ لم تمتد مطلقا حتى ساحل المحيط الاطلنطي.

(١٢) ان العبارة ايثيوبيا نفس معنى السودان باللغة اليونانية ، وسيستعمل المؤلف احيانا هذه التسمية كما سيقصد ايضا بكلمة اثيوبيا او بعبارة ايثيوبيا العليا الحبشة الحالية.

(١٣) الواقع كانت ضفاف بحيرة تشاد مأهولة سابقا بقوم من الزنوج يدعون ساءو. (انظر كتاب «حضارة التشاد» الصادر عام ١٩٥٠ في باريس عن دار بايو).


نحو الشرق كي يتحول الى بحيرة. وهذا غير صحيح ، فقد ركبنا متن هذا النهر بالفعل منطلقين من تومبوكتو شرقا وسرنا مع تيار الماء حتى مملكة جنه ، وحتى مملكة مالى ، وكلاهما الى الغرب من تومبوكتو (١٤) وأجمل بلاد السودان هي تلك التي تمتد على طول نهر النيجر. وأوجه انتباهكم إلى انه نظرا الى ما يقوله الجغرافيون ، فان قسما من بلاد السودان التي يخترقها نهر النيل في قسمها الغربي ، تمتد شرقا حتى بحر الهند ويبلغ في بعض النقاط البحر الاحمر في اتجاه الشمال ، في جزء من هذا البحر يقع الى ما وراء المضيق الذي يفصل هذه البلاد عن بلاد العرب السعيدة ، (١٥) ولا يعتبر هذا الجزء من إفريقيا لأسباب عديدة وردت في مجلدات طويلة ويسمّي اللاتين هذا القسم أثيوبيا ، ومن هناك يأتي بعض الرهبان الذين تكون وجوههم موسومة بالنار ويمكن رؤية بعضهم في كل أوربا ، ولا سيما في روما. ويحكم هذه البلاد رئيس ، هو نوع من بطريق يسميه الطليان الكاهن حنا. والقسم الاكبر من هذه المنطقة يقطنة نصارى. وهناك زعيم مسلم يملك فيها مع ذلك ولاية كبيرة.

أقسام وممالك هذه الأجزاء الأربعة من إفريقيا

تقسم بلاد البربر الى أربع ممالك :

الأولى هي مملكة مراكش التي تقسم الى سبع مناطق هي : حاحه ، السوس ، مراكش ، جزولة ، دكالة ، هكسورة ، وتادلة. (١٦)

والثانية هي مملكة فاس وتضم عددا مماثلا من المناطق وهي : تامسنة ، إقليم فاس ، أزغار ، الهبط ، الريف ، غارت ، والحوز.

الثالثة هي مملكة تلمسان التي تشمل ثلاث مناطق هي : الجبال ، تينس ، والجزائر.

الرابعة وهي مملكة تونس التي تخضع لها أربع مناطق هي : بجاية ، قسنطينة ،

__________________

(١٤) تدل هذه الجملة بصورة جلية أن المؤلف لم يقم بهذه الرحلة.

(١٥) مضيق باب المندب واليمن.

(١٦) نلاحظ هنا ان المؤلف الذي يكتب بالايطالية كان يلاحظ قاعدة اللغة العربية التي لا تضع لام التعريف امام الأسماء البربرية.


طرابلس والزاب. وتنتسب الأخيرة في معظمها الى نوميديا.

أما منطقة بجاية فقد كانت دوما منطقة متنازعا عليها. فأحيانا كان يملكها ملك تونس ، وتارات أخرى كانت تتبع ملك تلمسان. وقد تكونت منها في أيامنا مملكة مستقلة الى أن سقطت عاصمتها بيد الكونت بدرونا فارو باسم الملك فرديناند الاسباني. (١٧)

أقسام نوميديا

أي البلاد التي ينبت فيها النخيل

يعتبر هذا الجزء من افريقيا أقل شرفا من كل الاقسام الاخرى ، (١٨) ولهذا لم يمنحها جغرافيونا لقب مملكة. والأماكن المأهولة فيها متباعدة جدا بعضها عن بعض. وهكذا فان تيشيت (١٩) وهي مدينة من نوميديا ، تحوي ٤٠٠ أسرة ، ولكنها تقع على مسافة ٣٠٠ ميل ، (٢٠) من أية بقعة مأهولة في فيافي الصحارى الليبية. ولهذا لا تستحق إذن لقب مملكة. وسأقدم لكم ، مع هذا ، اسم هذه الاماكن المأهولة ، لأن بعض النواحي تكون مشابهة للمناطق الاخرى ، مثل دولة سجلماسة ، التي تنتسب الى موريتانيا ، ودولة الزاب التي تقع بمواجهة مملكة بجايه وبلاد الجريد التي تمتد في اتجاه مملكة تونس. (٢١)

أما بالنسبة لهذه الآونة فإني أترك امر الدراسة التفصيلية للقضايا المتعلقة بهذا الجزء من افريقيا لكتاب آخر من هذا المؤلّف. وسأكتفي بسرد الاسماء التالية ابتداء من

__________________

(١٧) والواقع ان بجاية انتزعت من أيدي سلاطين تلمسان الزيانيين لحساب الحفصيين ملوك تونس في عام ١٣٦٠ م وظلت بأيديهم الى أن سقطت بيد الاسبان في ٢٥ ايار (ماي) ١٥٠٩ م / ٩١٥ ه‍. ولكنها كانت في معظم الاوقات تحت حكم امراء حفصيين. ومع هذا تمتعت بنوع من استقلال انقلب أحيانا الى تمرد على سلطة تونس المركزية.

(١٨) يقصد الجغرافيون العرب بعبارة «منطقة شريفة» أي منطقة غنية كثيرة الخيرات (المترجم).

(١٩) في موريتانيا الحالية. وهكذا يذكر الحسن الوزان هذه المدينة في نوميديا ، وكذلك اعتبر توات وقوراره وطوقورت وورقلة وغدامس وفزان من مدن هذه المنطقة ، والتي هي في الواقع عبارة عن مواقع او مناطق صحراوية مما يبرهن على ان الوزان لم يكن لديه اكثر من معطيات تقريبية عن المعنى الجغرافي الصحيح للاسماء في نوميديا وليبيا ويرتكب عند كلامه عن المرابطين الذي اسسوا مدينة مراكش نفس الخطأ فيقول انهم قدموا من صحاري نوميديا. ومن جهة اخرى سنرى بعد قليل عند كلامه عن البرابيش وبلدة تيشيت كيف يضعها في ليبيا. ويأتى هذا التشويش والبلبلة يقينا من ان الوزان كان يعتبر الاقوا الصحراوية نوميديين مما يؤدي لصعوبة تحديد صحيح لما كان يسميه نوميديا وليبيا ـ ه. ل.H.LHOTE

(٢٠) حوالي ٤٨٠ كيلومتر.

(٢١) وهنا يحصر المؤلف هذه التسمية بمنطقة الجنوب التونسي الذي يدعى دوما الجريد.


الغرب : نيشيت ، ودّان ، ايفران ، عكا ، الدرعة ، تابلباله ، تودغه ، سجلماسه ، بني قومي ، فيقيق ، تسابيت ، تيقورارين ، (٢٢) الزاب ، طوقورت ، ورقلة.

أما الزاب فهو اقليم بضم خمس مدن هي : بسكره ، البرج ، نفطه ، تولقه ، دوسن ، وتحتوي بلاد الجريد الحالية على نفس العدد من المدن هي : توزر ، قفصه ، نفزاوه ، الحامّة ، قابس. وتأتي بعد هذا الاقليم شرقا جزيرة جربه ، غريان ، مسلاته ، مصراته ، تاورغه ، غدامس ، فزّان ، أوجله ، بردوة (٢٣) والواحات (٢٤)

تقسيم الصّحارى الواقعة بين نوميديا وبلاد السودان

لا تحمل هذه الصحارى أي اسم دارج بيننا. بيد أنها تقسم الى خمسة اقسام اطلق على كل منها اسم القوم الذين يسكنون فيه ، ويجدون فيه وسائل معاشهم .. أولئك هم النوميديون الذين ينقسمون الى خمس مجموعات هي :

الزناقة ، (٢٥) الونزيقة ، الطارقة ، اللمتة والبرداوه. (٢٦) وتوجد في هذه المناطق بعض البقاع التي تتخذ اسماء فريدة بسبب نوعية البلاد من جودة أو رداءة ، مثل الأزواد ، التي عرفت بهذا الاسم بسبب عقمها وجفافها ، وآيير الذي هو عبارة عن صحراء بدوره ، والذي نال هذا الاسم بسبب عذوبة هوائه المعتدل. (٢٧)

تقسيم بلاد السودان إلى ممالك

هذا وتقسم بلاد السودان كذلك الى ممالك يكون بعضها مجهولا مع ذلك بالنسبة لنا

__________________

(٢٢) اسم بربري حل محله اليوم اسم عربي مكافىء هو قوراره.

(٢٣) واحات الكفرة التي يقطنها التدأ أو التبو ، وتذكرنا قرية برداي ، في تيبستي ، بهذا الاسم.

(٢٤) وهو اسم لا زال مستعملا في الواحة المصرية المسماة الخارجة ، ويضع المؤلف في الكتاب السادس ، هذه الواحة في ليبيا ، أي في الصحراء الكبرى ، وكذلك واحة الكفرة ، وواحة سيرت على ساحل البحر الابيض المتوسط.

(٢٥) لا تزال فئة من الزناقة تتكلم البربرية في شمالي مصب نهر السنعال في جمهورية موريتانيا الاسلامية.

(٢٦) هذا التقسيم مأخوذ جزئيا عن ابن خلدون الذي نقله بالتأكيد عن مؤلفين سابقين. اضف الى ذلك ان الحسن لا يعرف ان البرداوة لم يكونوا من البربر ، بل قوم متميزون من السود ، أما التدا فيسمون عادة التبو.

(٢٧) يبدو ان المؤلف ربط التسمية البربرية ازواد بالاصل العربي زود أو زاد أي مؤونة والذي يوحي بفكرة ضرورة تأمين زاد الرحلة ، أي ان هذه البلاد محرومة من الموارد ، كما خلط التسمية البربرية آيير مع الكلمة العربية هير أو خير وهو ريح الشمال.


وتكون بعيدة عن مدى تجارتنا. وهكذا لن أتكلم إلا عن تلك التي قصدتها والتي ترددت عليها لمدة طويلة ، وعن الممالك الأخرى التي كان ينطلق منها تجار لبيع سلعهم في البلاد التي كنت فيها والذين اعطوني عنها اخبارا وفيرة. ولا أريد أن أغفل اني ذهبت الى خمس عشرة مملكة في بلاد السودان ، ومكثت فيها مدة تبلغ ثلاثة أضعاف المدة التي قضيتها على الطريق ، وكل هذه الممالك كانت معروفة جدا ومجاورة لتلك التي أقمت فيها. (٢٨) وسأذكر أسماء هذه الممالك بدءا من الغرب سائرا في اتجاه الشرق وهي : ولّاته ، جنه ، مالى ، تومبوكتو ، غاءو ، (٢٩) غوبر (٣٠) آغادس ، كانو ، كاتسنه ، زقزق ، وانغاره ، وانفاره ، بورنو ، غاوغه ، (٣١) والنوبة ، وهذه الممالك الخمس عشرة والتي يقع أغلبها على نهر النيجر (٣٢) ، يمر منها الطريق الذي يسلكه الذين يذهبون من ولّاته قاصدين القاهرة. (٣٣) وهذه الطريق طويلة ولكنها مأمونة جدا. وهذه الممالك متباعدة بعضها عن بعض. وتنفصل عشر منها بعضها عن بعض بصحارى رملية أو بواسطة نهر النيجر. وعلينا أن نعلم أن كل مملكة كانت في الماضي تحت حكم عاهل متميز. ولكن خضعت في عصرنا لهيمنة ثلاثة ملوك ، وهم ملك تومبوكتو (٣٤) الذي يملك القسم الأعظم من المماليك المذكورة ، وملك بورنو الذي يملك أصغر قسم ، وملك غاوغه الذي يستحوذ على الباقي تحت سلطته. ولكن من الصحيح ايضا القول بأن ملك دوكالا (٣٥) يملك هو ايضا دولة صغيرة. وهناك عدة ممالك اخرى تتاخم من الجنوب الممالك المذكورة آنفا ، مثل

__________________

(٢٨) يمكن الوثوق بصدق المؤلف في أنه قام فعلا برحلتين الى تومبوكتو. ومن المحتمل انه قام بالأولى في عام ١٥٠٤ وسنة ستة عشر عاما ، والثانة كما يظن سنة ١٥١٢ م ولكن لا نعرف على الضبط البلاد التي زارها فيما وراء المدينة المذكورة.

(٢٩) غاءو باللغة البربرية غاوغه وحرفت بالعربية تارة على شكل كاوكاو ، وتارة اخرى على شكل كاغو ، او غاغو يمثل النطق المغربي لهذا الاسم.

(٣٠) وتلفظGober

(٣١) وتكتب غاوغه وغاو غاو ، وتعني بلادا فسيحة واقعة بين كانم ، على ضفة التشاد ، وبين النيل.

(٣٢) والذي يتصور المؤلف انه ينبع من بحيرة تشاد.

(٣٣) هذا الطريق بين ولّاته ومصر عن طريق السافانه في جنوب الصحراء الكبرى والذي يتصل بدرب الاربعين (يوما) بين دارفور واسيوط هو طريق غير مطروق كثيرا ، ولا يبدو انه صار كذلك الا ابتداء من نهاية القرن الخامس عشر ، بعد سقوط مملكة النوبة النصرانية. وكانت كل الطرق المنطلقة من السودان الغربي الى مصر تجتاز الصحراء الكبرى بشكل مائل لتتّحد في فزان. ولكن يجب على كل حال ان نذكر ان المعلومات التي وصلتنا عن طريق القوافل في الصحراء الكبرى وفي افريقيا السوداء انما جاءتنا من الرحالة العرب الذين كانوا يرحلون من افريقيا الشمالية الى السودان عن طريق الدروب التي تقطع الصحراء الكبرى ولهذا السبب تظهر معلوماتنا ضئيلة عن الاتجاه الغربي الشرقي عبر السافانه R.MAUNY ,H.LHOTE

(٣٤) وهو آسكيا حاكم غاءو.

(٣٥) سبق قلم ، والصحيح دنقله من بلاد النوبة


مملكة بوريه (٣٦) وتميام (٣٧) وداومه (٣٨) ومدره (٣٩) وقروان (٤٠) وملوك هذه الممالك وسكانها اغنياء وتجار نشيطون وينشرون العدالة ولهم حكومة جيدة. أما سكان الممالك الاخرى فيعيشون في اوضاع اكثر رداءة من البهائم. (٤١)

إعمار افريقيا ، مدلوك كلمة البربر

يقول الجغرافيون والمؤرخون ان إفريقيا كانت خالية تماما في الأزمنة الغابرة باستثناء بلاد السودان. (٤٢) ويعتقد هؤلاء بأنه من الثابت ان بلاد البربر ونوميديا كانت خالية من السكان خلال العديد من القرون. أما الذين استوطنوها ، وأقصد بذلك الجنس الابيض فقد سموا البربر ، وهو اسم مشتق ، حسبما يقول البعض ، من فعل باللغة العربية وهو بربر ومعناه تمتم. وذلك ان اللسان الافريقي يظهر في سمع العرب كأصوات الحيوانات المبهمة الشبيهة بالصراخ والمجردة من المقاطع. ويرى آخرون ان كلمة بربر هي كلمة مزدوجة لأن البر في اللغة العربية يعني الصحراء. ويقال إنه في العصر الذي انكسر فيه الملك إفريقو على يد الاشوريين او ربما امام الاثيوبيين هرب باتجاه مصر. ولما كان مطاردا من قبل العدو ونظرا لأنه لا يعرف كيف يدافع عن نفسه فقد طلب الى جماعته أن يفتوه في أمره ويبيّنوا الطريق التي ينبغي سلوكها حفظا على سلامتهم. فلم يكن جوابهم سوى أن صرخوا «البر ، البر» أي إلى الصحراء الإفريقية. وينطبق هذا التفسير لاسم البربر مع رأي اولئك الذين يؤكدون أن الأفارقة يعودون اصلا لبلاد العرب السعيدة. (٤٣)

__________________

(٣٦) وهي منطقة مشهورة بمعدن الذهب في اعالي نهر النيجر في اتجاه سيغيري.

(٣٧) اسم غير محدود مكانيا ويقصد به بلاد تميم التي يذكرها المقريزي حوالي العام ١٤٣٠ م.

(٣٨) بلاد غير معروفة. وربما يقصد بها بلاد دامونوا التي يذكرها المقريزي ، عام ١٤٣٠ م ، وهل هي الداهومي او بينين الحالية؟ ربما كان ذلك ، ولكن لا يمكن توكيده ، بالرغم من ان علماء الخرائط في القرن السادس عشر وضعوا مملكة داومة التي يذكرها الحسن مكان بينين ، كما في خارطة تيفيه Thevet سنة ١٥٧٥ م.

(٣٩) اسم غير محدد المكان.

(٤٠) قروان أو القوارن وهم قوم يسكنون شمال شرق التشاد.

(٤١) كان الحسن يجهل انه كانت في عصره مملكة مزدهرة وذات مدنية عالية بجوار خليج بنين (ايفه life).

(٤٢) لقد أظهر علم ما قبل التاريخ ان معطيات الحسن غير صحيحة إطلاقا ، لأن افريقيا برمتها كانت مأهولة خلال الدور الرابع (وهي المرحلة الجيولوجية التي نجتازها الآن).

(٤٣) أما بالنسبة لقدامى الإغريق فان كلمة بار باروس تعني الاجنبي الذي يتكلم لغة غير مفهومة وصعبة ، وكانت كلمة باربروس عند اللاتين تعطي نفس المعنى ، ولم تحمل هذه الكلمة مدلول التحقير للمسمى الا في زمن متأخر جدا. وثم ـ


أصل الأفارقة

لا يختلف مؤرخونا كثيرا فيما بينهم حول اصل الأفارقة. فذهب بعضهم إلى أن هؤلاء ينحدرون من الفلسطينيين ، لأن الفلسطينيين طردوا من بلادهم على يد الآشوريين فلجأوا الى إفريقيا ولما وجدوا هذا القطر طيبا وخصبا توقفوا فيه.

ويقدم الآخرون رأيا آخر يرى أن اصلهم يعود للسبأيين ، (٤٤) وهم قوم كانوا يعيشون في بلاد العرب السعيدة (اليمن) كما أشرنا الى ذلك فيما سبق ، وذلك قبل أن يطردهم الآشوريون او الاثيوبيون. ويرى آخرون أن الأفارقة كانوا من سكان بعض مناطق آسيا ، وأن أقواما آخرين شنت عليهم الحرب ، فانهزموا باتجاه بلاد اليونان ، التي كانت خاوية حينذاك. ولكن العدو تعقبهم فاضطروا لعبور بحر الموره. ولدى وصولهم الى إفريقيا استقروا فيها بينما استوطن أعداؤهم بلاد اليونان. (٤٥) ولا ينطبق هذا إلا على الأفارقة البيض ، أي أولئك الذين يسكنون بلاد البربر ونوميديا. أما أفارقة بلاد السودان ، فيعودن جميعا من حيث الاصل إلى كوش بن حام بن نوح. (٤٦) ومهما يكن الاختلاف بين الأفارقة البيض والأفارقة السود فانهم جميعا تقريبا ينحدرون من نفس الأرومة ، فاذا كان الافارقة البيض قد قدموا من فلسطين ، فإن الفلسطينيين هم من نسل مسرائيم بن كوش ، (٤٧) أما إذا كانوا ينحدرون من السبأيين ، فإن سبأ من جهته ، كان ابن

__________________

ـ شواهد كثيرة تحمل على الظن بأن العرب عند فتحهم هذه البلاد وجدوا هذا الاسم مستعملا ، ويقصد به السكان الوطنيون الذين لم يتأثروا كثيرا بالمدينة الرومانية. أما الذي تفاعلوا مع المدنية الرومانية من السكان الوطنيين فقد سموا انفسهم بالافريقيين ، ومنها جاءت تسميتهم العربية الأفارقة ومفردها افريقي. أما المحتلون الرومان ، او روم بالعربية ، فقد اطلق عليهم العرب تسمية اليونان والرومان في آن واحد ، والواحد منهم ، رومي.

(٤٤) أي للحميريين.

(٤٥) ويلخص المؤلف هنا مسألة اهتم بها القدامى منذ ايام هيرودوت ، وقد شغف بها الكتاب العرب ، والتي لا زالت تثير فكر بعض الباحثين المعاصرين ، من الذين يفاجأون برؤية العديد من أجناس بشرية مختلفة الأنواع ، أو متباينة ، لا يعرف مبدأ وحدتها السياسية ، تشكل «شعبا» حقيقيا ، له نفس اللسان ، يعود تاريخه لعدة آلاف من السنين ، ومحافظا على قوميته رغم التنوع الكبير في لهجاته «شعب» يتصف بخصائص فريدة بكل معنى الكلمة وظل محافظا على شخصيته منذ العصور القديمة. ويهتم العلم الحديث بالهجرات الاكيدة من أقوام شمالية أقامت بين ظهراني البربر ، غير ان المؤرخين القدامى لم يتكلموا مطلقا إلا عن هجرات من الشرق ، مما أدى لتصنيف الشعب البربري ولغته في زمرة «الحاميين» ومن العجيب ان المؤلف يتكلم قبل بضعة قرون من اكتشاف الوثائق المصرية عن «اجتياح شعوب البحر».

(٤٦) أي النبي نوح عليه السلام.

(٤٧) يذهب سفر التكوين (الفقرة السادسة من الاصحاح العاشر) ان مسرائيم أخ لكوش.


غاما وغاما هذا كان ابن كوش (٤٨). وهناك بضع نظريات اخرى لا استطيع أن احتفظ منها بذكرى صحيحة اذ مضى على عشرة اعوام ، لم أر خلالها ولم ألمس اي كتاب في التاريخ المقدس. (٤٩)

تقسيم الأفارقة البيض إلى عدّة أقوام

ينقسم الأفارقة البيض الى خمسة أقوام هي : صنهاجة ، مصمودة ، زناته ، هوارة ، وغماره ، ويسكن المصامدة القسم الغربي من جبال الاطلس ابتداء من حاحه حتى نهر العبيد (٥٠). كما يسكنون ايضا السفح الجنوبي لجبل الاطلس وكل السهول المجاورة. وهكذا يشغلون اربعة اقاليم هي : حاحه ، السوس ، جزوله ومنطقة مراكش وتسكن غماره في جبال موريتانيا ، أي تحاذي البحر الابيض المتوسط. ويستوطنون الساحل الذي يحمل اسم بلاد الريف والذي يبدأ من أعمدة هرقل (٥١) كي يبلغ شرقا تخوم مملكة تلمسان ، تلك المنطقة المسماة قيصرية عند اللاتين (٥٢). وتعيش هاتان القبيلتان (المصامدة وغماره) منعزلتين عن الآخرين ، الذين يكونون على العموم مختلطين ومبعثرين في كل إفريقيا ، ولكنهم يتعارفون بعضهم على بعض بنفس الطريقة التي يميز بها المواطن عن الاجنبي. والاحتراب دائم فيما بينهم ويشتبكون في نزاعات دائبة لا تهدأ. تلك هي خاصة حالة سكان نوميديا. ويقول عدة من المؤلفين ان هذه القبائل الخمس تعتبر في عداد الذين يتخذون الخيام بيوتا لهم في الأرياف (٥٣). ويؤكد المؤرخون انه حدثت بينهم حروب طويلة في الأزمنة الغابرة. وبعد ان اصبح المغلوبون أتباعا للظافرين ، اجبروا على سكني المدن ، في حين اصبح المنتصرون سادة الأرياف حيث

__________________

(٤٨) لقد وقع المؤلفون العرب في التباس ، فحسب الاساطير القديمة ، لا يعتبر السبيئون أحفاد السبأ المذكور في سفر التكوين (الفقرة السابعة من الاصحاح العاشر) بل هم رعايا بلقيس ملكة سبأ الشهيرة ، التي قدمت الى سليمان ، وكانت عاصمتها سبأ التي عثر عليها في مأرب باليمن ويطلق على هؤلاء السبيئين اسم الحميريين أي الحمر ، وهم الذين أعطوا اسمهم للبحر الاحمر.

(٤٩) أي التاريخ الاسلامي طبعا (ويدل هذا على ان سقوطه بالاسر كان عام ١٥١٥ م. المترجم).

(٥٠) حاحة هي المنطقة الساحلية الواقعة جنوب مصب نهر التانسفت ، اما نهر العبيد فهو رافد نهر ام الربيع. (المترجم).

(٥١) أي جانبي مضيق جبل طارق وعلى وجه الدقة منطقة سبته وطنجة. (المترجم)

(٥٢) أي موريتانيا القيصرية عند اللاتين ، وعاصمتها شرشال ، وكانت تنطبق تقريبا على مملكة تلمسان.

(٥٣) أو البوادي حسب تعبير اهل المغرب (المترجم).


أقاموا مساكنهم ويبدو هذا الزعم مؤيدا تقريبا لواقع وهو ان الناس الذين يقطنون الأرياف يستخدمون نفس لهجات سكان المدن ، فمثلا نجد ان زنانة الارياف يتكلمون كزنانة المدن ، وكذلك الحال بالنسبة للآخرين (٥٤).

ونلاحظ ان في أرياف تامسنه قد تعايش ثلاث من هذه القبائل وهي زناتة وهواره وصنهاجه. فتارة يعيشون في سلام وتارة اخرى يحتربون بشراسة ، مدفوعين على ما أظن ، بخصومة قديمة.

وكان بعض هذه القبائل يهيمن على كل افريقيا. تلك هي حالة الزناتة ، الذين قاموا بطرد أسرة ادريس (٥٥) ملك مدينة فاس الشرعي ومؤسسها (٥٦). ويدعى هذا الفرع من زناتة مكناسه. وجاء من بعدهم فرع آخر من زناتة نوميديا يدعى مغراوه ، وهو الذي أجلا مكناسه من المملكة ، وطرد منها الملوك الادارسة (٥٧). وبعد قليل من ذلك تعرض هؤلاء الزناتة كذلك للطرد على يد أناس قدموا من صحراء نوميديا. وكان هؤلاء ينتسبون لفرع من صنهاجه يدعى لمتونه. فحربوا كل منطقة تامسنة وأبادوا كل السكان الذين كانوا فيها ، باستثناء من كانوا من جنسهم ، فقد نقلوهم الى دكالة. وتلك الاسرة هي التي بنت مدينة مراكش (٥٨) (واشتهرت دولتهم باسم دولة «المرابطين»).

وقد حدث بعد ذلك ان جاء رجل على قدر كبير من الاهمية في العلوم الدينية ، دعي

__________________

(٥٤) يريد المؤلف أن بربر الأرياف لا يختلفون عن بربر المدن الا بوضعهم الاجتماعي ، ويعتبر كل الكتاب العرب ـ وهذا هو السائد كذلك عند البدو من البربر أنفسهم ـ ان الحياة الطليقة تحت الخيام تعتبر رمزا للحرية والشرف ، بينما تعتبر حياة المدن رمزا للعبودية

«اذا كان ذلك صحيحا جزئيا بالنسبة لبعض العصور التاريخية ، فهو لا يصح مطلقا في القرن العشرين». (المترجم).

(٥٥) وذلك تدريجيا حتى عام ٩٢٦ م.

(٥٦) هو إدريس بن عبد الله الذي يعتبر من سلالة الامام علي ، والذي قدم من المشرق ، وقد نودي به ملكا في ٦ شباط (فراير) ٧٨٩ م وربما أسس فاس في نفس السنة.

(٥٧) في أواخر القرن العاشر الميلادي.

(٥٨) في حوالي العام ١٠٥٤ م بدأ التوسع المرابطي الذي قامت به قبائل صنهاجة ، التي لم تأت من الواحات ، بل من الصحراء الكبرى الغربية ، والفرع الرئيسي منها كان لمتونه. وكانت اسرة بني وطاس التي انتهى اليها الملك في هذه المرحلة كانت تدّعى ، رغم انها من زناته ، انها تنحدر بالولاء أو بالتحالف من أمير المرابطين يوسف بن تاشفين. وقد أسس هذا مدينة مراكش سنة ١٠٦٢ م. وقد اعتقد الحسن (محمد بن الحسن الوزان الزياتي مؤلف الكتاب) بأن يوسف بن تاشفين هو الذي اباد المنشقين عن الاسلام في تامسنه ، ولم يستثن منهم سوى اخوانه في الدم الصناهجة. والواقع ان زناته وصنهاجة ليستا اكثر من اسمين عربيين لمسمى بربري واحد لهذه القبيلة وهو كلمة إيزناغن. هذا ولا زالت هناك قبيلة موريتانية في دائرة كايهيدي ، على نهر السنغال ، تدعى لمتونة.


بالمهدي (ابن تومرت) ، فثار على دولة المرابطين ، وعقد حلفا مع قبيلة الهرقة ، وهي فرع من مصموده. وطرد الاسرة الحاكمة من لمتونة ونادى بنفسه ملكا (٥٩). وبعد وفاته تم انتخاب احد تلاميذه عبد المؤمن ، من قبيلة بني ورياغل ، من أحفاد صنهاجه ، وظلت السلطة بأيدي أسرة عبد المؤمن خلال فترة امتدت زهاء مائة وعشرين سنة وحكمت كل افريقيا تقريبا (واشتهرت دولتهم باسم دولة «الموحدين»). وقد خلعت هذه الاسرة على أيدي بني مرين الذين يعودون اصلا لقبيلة زناته. ودام حكم هؤلاء مائة وسبعين عاما. (٦٠)

وقد استولى بنو وطّاس على السلطة ، وهم فرع من لمتونة (٦١) أما بنو مرين فقد كانوا دوما في حالة حرب مع بني زيان ، ملوك تلمسان ، الذين ينتسبون لصنهاجه من حيث الاصل (٦٢) ومن فرع مغراوه (٦٣). وقاموا بحملات ايضا ضد الحفصيين ، ملوك تونس ، والذين يعودون من حيث الاصل لقبيلة هنتا ، وهى فرع من مصموده. (٦٤)

وهكذا نرى كفاح كل من هذه القبائل الخمس وما نجم عن كفاحها من آثار في هذه المناطق.

__________________

(٥٩) كان ذلك يوم الجمعة ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٢١ م ، وهذا المصلح الديني محمد بن عبد الله بن تومرت قد التجأ الى المصامدة في جبال الاطلس وقدمت له قبيلة هرقة الدعم ، ونودي به امام الموحدين مع لقب المهدي ثم أخذ يحارب المرابطين.

(٦٠) كان اول امير من بني مرين ينادى به ملكا وهو ابو يوسف يعقوب بن عبد الحق الذي نودي به في ٢٧ رجب ٦٥٦ ه‍ المقابل ٣٠ تموز (يوليو) ١٢٥٨ م ، أي عام سقوط قرطبة ، وآخر أحفاده الذي كان على رأس الحكم هو عبد الحق بن علي الذي اغتيل بتاريخ ٢٧ رمضان ٨٦٩ ه‍ أو ٢٣ أيار (مايو) ١٤٦٥ م وهكذا دام حكم اسرة المرينيين ٢١٣ سنة هجرية.

(٦١) تم اغتيال عبد الحق بتحريض شريف ادريس من فاس ، وهو أبو عبد الله محمد بن علي الجوتي ، الذي استلم السلطة واحتفظ بها خلال عامين. ولكن هذه المحاولة لا عادة حكم الأدارسة اصطدمت بمقاومة بني وطاس الأقوياء ، والذين أثاروا اضطرابات متلاحقة فاضطر الشريف محمد للهرب الى تونس في شهر آب (اغسطس) ١٤٦٧ م ، واستمر النزاع بين الوطاسيين انفسهم ، ونجهل حاليا التاريخ الذي بويع فيه واحد من اكثرهم نفوذا (وهو ابو زكريا محمد بن يحي الملقب بالشيخ) ملكا بصورة نهائية.

(٦٢) سبق قلم ، وهو يقصد زناته.

(٦٣) كان يغمر اسن بن زيان ، مؤسس اسرة الزيانيين او بني عبد الواد ، في تلمسان في سنة ١٢٣٦ م أميرا على بني عبد الواد وهي قبيلة تنسب الى زغراوة.

(٦٤) كان لدى المهدي بن تومرت وخلفه عبد المؤمن معاون اسمه ابو حفص عمر الهنتاتي ، أو اينتي ، وهو رجل ذو قيمة فريدة ، وكان حفيده ابو زكريا يحي بن عبد الواحد بن عمر ، حاكم تونس منذ عام ١٢٢٨ م ، والذي نادى بنفسه ملكا عام ١٢٣٦ م ، وبذلك أسس اسرة الموحدين في تونس ، والتي استمرت حتى ١٣ ايلول (سبتمبر) ١٥٧٤ م ، في أعقاب احتلال العثمانيين البلاد التونسية.


والحقيقة أنه لم يحمل أحد من قبيلتي غماره وهو راه لقب ملك ، ولكن كان منهما أمراء في بعض المناطق ، كما نقرأ ذلك في تاريخ الأفارقة. ويقع العصر الذي مارستا فيه هذه السلطة بعد دخول الدين الأسلامي إلى إفريقيا. فقد كان لكل قبيلة منهما حينئذ موطنها المحدد في البوادي محميه برجال عصبتها. ثم تقاسمت فيما بينها الأعمال الضرورية للحياة ، فانصرف سادة البوادي لتربية الماشية في حين عكف سكان المدن على المهن اليدوية وزراعة الأراضي (٦٥).

وانشعبت هذه القبائل الخمس الى عدد كبير جدا من الفروع في مجملها ، كما عرض ذلك أحد كتابهم. وهو ابن رقيق (٦٦) الذي قرأت كتابه عدة مرات ، غير أن كثيرا من المؤرخين يذهبون الى أن ملك تومبوكتو الحالي ، وملك مالى وملك آغادس ترجع أصولهم الى قبيلة زناتة ، إي من أولئك الذين يسكنون الصحراء (٦٧).

الاختلافات والمطابقات في اللغة الأفريقية

تستعمل هذه القبائل الخمس ـ التي تبدو منقسمة الى مئات الانساب والى آلاف المساكن ـ لغة واحدة يسمونها عادة آوال آمازيغ ، اى اللغة النبيلة. ويطلق عليها العرب اللغة البربرية. تلك هي اللغة الافريقية الوطنية : وهي لغة فريدة تختلف عن اللغات الاخرى. الا اننا نجد فيها بعض كلمات من اللغة العربية. وهذا هو الدليل الذي يعتمد عليه من يذهبون الى ان الافارقة ترجع أصولهم الى السبئيين ، وهم قوم من سكان بلاد العرب السعيدة ، اى اليمن ، كما ذكرنا ذلك فيما سبق. ولكن أنصار الرأي المقابل يؤكدون ان الكلمات العربية التي نعثر عليها في هذه اللغة انما تسربت اليها بعد ان دخل

__________________

(٦٥) هذا المفهوم الاجتماعي ، المستغرب جدا بالنسبة لنا نحن الأوروبيين ، هو مفهوم الباحثين العرب. وقد عرضه ابن خلدون بإسهاب وقوة. فالرعاة يهتمون بقطعانهم فحسب. ولهم تفوق اجتماعي بارز جدا ، بينما كان سكان المدن وكذلك القرى ، وإجمالا الحضر ، من حرفيين وفلاحين ، خاضعين عمليا للضرائب وللسخرة ، مثلما كانوا في وضع اجتماعي أدنى بشكل واضح.

(٦٦) وهو ابو اسحاق ابراهيم بن قاسم ، او القاتل الرقيق القيرواني والذي الف كتابا لا يزال مفقودا. وهذا هو ما يظهر مما كتبه ابن رشيق Rahick.

(٦٧) لقد كان ملك تومبوكتو ، أو ملك غاءو بشكل أدق ، في ذلك الوقت زنجيا من قبيلة سونينكه ولا يمت بأى نسب الى البربر. وكذلك كان حينئذ ملك مالى ، فقد كان هو الآخر زنجيا ، ولكن تذكر الروايات أن أبا بكر بن عمر الذي فتح السودان ، وهو بربري ، قد زوج إحدى بناته من ملك هذه الأسرة القديمة ، وذلك من خلال حملته في تلك البلاذ بين عام ١٠٦٣ و ١٠٨٧ م ، وكان الشرف والنبل عند قبائل الصحراء الملثمين ينتقل الى الفروع عن طريق الأم.


العرب أفريقيا وأصبحوا سادة البلاد. وقد كانت هذه القبائل ساذجة جاهلة ؛ حتى انهم لم يخلفوا اي اثر كتابي يستدل به على صحة احد من هذين الرأيين (٦٨). ولا تختلف اللهجات البربرية بعضها عن بعض في اصوات المفردات وحروفها فحسب بل في مدلولاتها كذلك. وأكثر الأفارقة قربا من العرب ، والذين لهم علاقات معهم اكثر من سواهم ، هم الذين يستعملون أكبر نسبة من الكلمات العربية في لهجتهم. ويتكلم بالعربية كل افراد قبيلة غمارة تقريبا ، ولكن عربيتهم عربية محرفة غير سليمة. كما ان كثيرا من عشائر الهوارة يتكلمون ايضا عربية من هذا القبيل ، ويرجع السبب في ذلك إلى ان هذه العشائر كانت منذ حقب طويلة على علاقة لغوية بالعشائر العربية. ويتكلم الناس في السودان لغات متنوعة. ويسمى السود احدى هذه اللغات سونغى (٦٩) ، وهي اللغة الدارجة في عدة مناطق مثل : ولّاته وتومبوكتو وجنة ومالى وغاغو. وهناك لغة اخرى تدعى غوبر ، وتستعمل في بلاد غوبر ، وكانو ، وكاسينا وزقرق وغوانغارا (٧٠) وتوجد لغة اخرى دارجة في بورنو (٧١) تشبه اللغة الشائعة في غاءو (٧٢). وثم كذلك لغة اخرى لا تزال مستعلمة في مملكة النوبة ونجد فيها مفردات من العربية والكلدانية (٧٣) واللغة المصرية (٧٤) ويتكلم اهل مدن إفريقيا الواقعة على ساحل البحر الابيض المتوسط ، وحتى جبال الأطلس ، لهجات عربية محرفة من أصولها ، باستثناء منطقة مراكش ، ومدينة مراكش ذاتها حيث تسود اللغة البربرية. وتستعمل هذه اللغة أيضا في كل أراضي نوميديا ، وعلى الأقل لدى النوميديين الذين يجاورون قيصرية وموريتانيا ، لان كل الذين يجاورون مملكة تونس يستعملون لهجات عربية محرفة عن أصولها.

__________________

(٦٨) تختلف كمية المفردات العربية التي انتقلت الى اللهجات البربرية بإختلاف هذه اللهجات. وقد انتقل اليها بعض مفردات لا تينية. وانتقل اليها كذلك بعض مفردات من لغات سامية غير العربية وخاصة اللغة الفينيقية الآسيوية والفينيقية الإفريقية (البونية) واللغة العبرية. وهذا هو ما جعل بعض مؤرخى العرب يذهبون إلى أن البربر يرجعون إلى أصول حميرية.

(٦٩) وتكتب حاليا سونغى ، أو سونغاى ، اوسونغائي.

(٧٠) هذه هي لغة «الهوسا» وهنا نجد المؤلف يطلق اسم «بيرز قرق» على «زيزق» ويظهر أنه قد نقل ذلك من مذكرة عربية قد كتبت هذا الاسم : «برز قرق» أى منطقة زقزق (بر منطقة).

(٧١) لغة الكانورى.

(٧٢) لغة الكانمبو ، وذلك لأن هذه الأقوام ترتبط بعضها مع بعض بالنسب.

(٧٣) السريانية.

(٧٤) القبطية.


العرب الذين يسكنون مدن إفريقيا

لقد جلب الجيش الذي بعثه الخليفة الثالث عثمان ، في عام ٢٤ للهجرة ، الى افريقيا جالية كبيرة من العرب يبلغ عددها حوالي ثمانين ألفا من العشائر العريقة ومن غيرها (٧٥).

وعند ما أتموا فتح بضع مناطق عادت كل الشخصيات الكبرى والنبلاء الى جزيرة العرب. ولم يبق محليا مع الآخرين سوى القائد العام للجيش ، الذي يدعى عقبة بن نافع. وقد سبق لهذا ان اختط مدينة القيروان وأقام فيها تحصيناته. وقد ظل بالفعل متوجسا من أن يخونه سكان الساحل وأن يتلقوا بعض الدعم من جزيرة صقلية وتصل اليهم نجدات قد تشن عليه الحرب. وهكذا انسحب باتجاه الصحراء ، في داخل الأراضي ، مع كل الغنائم التي غنمها وأسس مدينة القيروان على مسافة ١٢٠ ميلا تقريبا (٧٦) من قرطاج. وأعطى الأمر لزعماء الجيش والمدنيين الذين ظلوا معه بأن يقيموا في أكثر المناطق مناعة وأكثرها مواءمة للدفاع وأن يشيدوا فيها قلاعا وحصونا لم يكن لها نظائر من قبل ، وقد تم تشييد كثير من هذه القلاع والحصون (٧٧).

__________________

(٧٥) لا تزال نفتقر لمعلومات دقيقة عن الفتح الاسلامي لإفريقيا. ومع هذا يبدو من المسلم به أن الجيش الذي أرسله الخليفة عثمان الى أفريقيا عام ٢٤ ه‍ ٦٤٨ م ، لم يكن يضم سوى ... ، ٢٠ رجلا. وقد سبق أن قام القائد العربي عمرو بن العاص في عام ٢١ ه‍ مطلع عام ٦٤٢ م في أعقاب فتح مصر ، بغارة ناجحة على برقة ، وبعدئذ ، بعد عام واحد او عامين ، أغار على منطقة طرابلس البيزنطية ، ولكن الخليفة عمر بن الخطاب لم يوافقه على التوغل إلى أبعد من ذلك ، لأن المحاولة كانت خطيرة للغاية. وفي عام ٦٤٦ م ، وعلى أثر اضطربات سياسية انتابت الحكومة الامبراطورية في القسطنطينية ، أعلن حاكم أفريقيا البيزنطي ، وهو جريجوار ، استقلاله واتخذ لقب باسيلوس ، وحكم المنطقة الممتدة من طرابلس الى طنجة متخذا مدينة سبيطلة التونسية عاصمة له. وقد أرسل الخليفة عثمان حملة عسكرية ضد هذا الحاكم ، ونشبت معركة في صيف ٦٤٨ م انتهت بهزيمة الجيش البيزنطي ومقتل جريجوار ، وهي معركة كان لها صدى بعيد في عالم النصرانية. وظلت الجيوش الاسلامية مدة خمسة عشر شهر في هذه البلاد ثم عادت الى المشرق حاملة معها غنائم ضخمة. ويبدو أن المسلمين لم يتركوا محليا سوى مندوب دبلوماسي. واسترد البيزنطيون حكم أفريقيا. ولم يستأنف الخليفة معاوية اهتمامه بأفريقيا الا في عام ٦٦٥ م وأرسل جيشا قوامه ١٠٠٠٠ رجل بقيادة معاوية بن حديج. وقد ظل هذا مدة خمس سنوات عند سفوح المنطقة الجبلية في افريقيا دون ان يقوم ، كما يبدو ، بأكثر من غزوات قاذت لانتصارات محدودة محلية. وأخيرا في عام ٥٠ ه‍ ٦٧ م جل محل هذا القائد قائد جديد هو عقبة بن نافع ، الوجه اللامع في حروب افريقيا ، مع دعم عسكري قوامه ١٠٠٠٠ جندي.

(٧٦) تقع مدينة القيروان على مسافة ١٩٢ كم من تونس.

(٧٧) الحقيقة هي أن سلفه معاوية بن حديج قد جعل قاعدة عملياته العسكرية عند وصوله عام ٦٦٥ م ، اي قيروانه ، كما كان يقال حينئذ ، عند حضيض جبل وسلات ، ولكن عمد عقبة ، على أثر وصوله ، الى نقل هذا المعسكر وأقامه على مسافة ضعة كيلومترات الى الشرق من ذلك ، فى السهل الرملي حيث لا تزال تقوم القيروان الحالية ، وذلك لكي يكون في منأى عن ـ


وقد اصبح العرب ، الذين ظلوا في طمأنينة ، مواطنين في هذه البلاد واختلطوا بالأفارقة ، الذين تبنوا في ذلك العصر ، اللغة الايطالية ، لأنهم كانوا محكومين خلال سنوات طويلة من قبل الطليان. وبنتيجة هذا الواقع ، وعلى اثر العلاقات المستمرة مع الأفارقة الذين كانوا يعيشون بينهم ، فسدت لغتهم الأصلية وأصبحت هذه خليطا من كل اللهجات الافريقية. وهكذا انصهر شعبان مختلفان وأصبحا شعبا واحدا (٧٨) ولكن كان كل عربي يحتفظ دائما بعادة حفظ نسب آبائه العرب ، وكذلك كان يفعل كل بربري. وهذا أمر هام كي يستطيع كل كاتب عدل او محرر عقد رسمى أن يسجل اسم صاحب المعاملة ، سواء أكان عربيا أم بربريا (٧٩).

العرب الذين يسكنون في افريقيا ويتخذون

بيوتهم من الخيام لا من المنازل المبنية

جظر الخلفاء المسلمون دوما على العرب عبور نهر النيل مع عائلاتهم وخيامهم حتى عام أربعمائة للهجرة ، الى أن حصل هؤلاء على الترخيص بذلك من خليفة شيعي ، لأن

__________________

المباغتات التي قد تصدر من المنطقة الجبلية. ولا يبدو ان عقبة قد أحرز نجاحات أكبر من سلفه. ولكن الذي منحه شهرته هي الغارة الرائعة التي اندفع بها حتى المحيط والسوس ملتفا من خلف جبال الأطلس حيث لا يبدو أنه اصطدم بشدة بالقوى الامبراطورية البيزنطية. وقد لاقى حتفه عند عودته في عام ٦٨٢ م او ٦٨٣ م في كمين انصب له في موقع تهوده ، قرب بسكره.

(٧٨) على اثر موت عقبة ، اضطر العرب للانسحاب الى برقة حيث ظلوا خمسة اعوام ، في حين اصبح الزعيم البربري كسيله حاكما على افريقيا. وفي عام ٦٨٧ أرسل الخليفة عبد الملك ، الذي سبق له ان اشترك في حملة عام ٦٦٥ م ، نجدات لجيش برقة كي يمكنة من تجريد حملة تأديبية ضد كسيلة. فأنكسر الزعيم البربري وقتل في المعركة. ولكن اضطرت الجيوش العربية الى التوقف. أو حوالي العام ٦٩٣ م أراد الخليفة عبد الملك ان يحسم مشكلة افريقيا ، وذلك بانتزاع قرطاج من الامبراطورية الرومانية في القسطنطينية وتحطيم قوة أكبر زعيمة بربرية في ذلك العصر وهي كاهنة ديا ، ملكة الاوراس ، فأرسل أكبر جيش عربي بعث الى افريقيا قوامه ٤٠٠٠٠ رجلا تحت إمرة الحسن بن النعمان. فاستولى هذا على قرطاج ولكن استردتها القوات الرومانية بعد عامين ، وانتهى الأمر بانهزام جيش الحسن أمام جيش الكاهنة واضطر للانسحاب لمدة خمسة أعوام أخرى حتى منطقة طرابلس وصحراء سيرت. وعلى أثر ذلك ، أى حوالى العام ٦٩٨ م أرسل عبد الملك نجدات جديدة ، وفي هذه المرة اندحرت الكاهنة وقتلت بتاريخ ومكان لا يزالان مجهولين. وهكذا أخضع الحسن كل المنطقة وعاد الى القيروان حوالى العام ٧٠٤ م ، بعد ان استتب له الامر وأخضع البربر والرومان للجزية. وابتداء من تلك الفترة استطاع العرب فعلا ان يستقروا في بلاد البربر. ويستحيل علينا تخمين عددهم. هذا وعلى الرغم من انصهار أكثرية عرب المدن في السكان الافريقيين فقد ظلت جماعات نقية منهم في مواقع مختلفة من هذه البلاد.

(٧٩) وهذه الاشارة تعني فقط اسم الأصل القبلى ، بحيث لا نستطيع تحديد ما اذا كان الشخص عربيا أو بربريا الا بعد معرفة نسب قبيلته لأحد هذين الشعبين. وهكذا كان الحسن الزياتي ينتسب أصلا لقبيلة زيات ، وربما كانت بربرية رغم أن أسرته كانت تسكن غرناطة ، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بذلك.


شخصا ما ، كان صديق الخليفة ومولاه ، تمرّد واستولى على السلطة في مدينة القيروان وفي كل بلاد البربر. وبعد موت هذا الرجل ظلت السلطة خلال فترة من الوقت في أيدي أسرته(٨٠).

ولقد قرأت في مؤلفات مؤرخي أفريقيا أنه في عهد القائم ، وهو خليفة هذه الأسرة الشيعية وزعيمها الروحى ، قد امتدت مملكته وبلغت درجة كبيرة من الاتساع ، وأن مذهبه الديني قد ازداد انتشارا لدرجة جعلته يرسل الى الغرب مملوكا له اسمه جوهر ، وكان هذا عبده وأمين سره ، على رأس جيش كبير جدا (٨١) فاستولى على كل بلاد البربر ونوميديا ووصل حتى الجنوب ، وجبى كل ضرائب هذه البقاع وعوائدها. وبعد ان أتم مهمته ، عاد الى سيده ووضع بين يديه ما جمعه من ذهب ومن اموال أخرى من هذه البلاد.

وبعد ان وقف الخليفة على قيمة الرجل وأدرك النجاح الباهر الذي حققه ، خطط لمشروع أكبر يعهد اليه بأمر تنفيذه ، وأفضى اليه به (يقصد فتح بلاد المشرق). فأجابه جوهر. «مولاي ، أعطيك الوعد التالي : مثلما فتحت لك مناطق الغرب ، كذلك سأستولى على ممالك الشرق ، أي مصر ، وبلاد الشام وكل جزيرة العرب. وسأنتقم لك عن كل الاهانات التي لحقت بأجدادك على يد أسرة العباسي (٨٢). ومهما تكن المخاطر والمصاعب التي سأواجهها ، فلن أتوقف عن إعادتك لعرش أجدادك العظام الكرام ، وهم أصل دمك الشهير». وهكذا قام الخليفة الذي تأثر بهذه البسالة ووثق بكلام مولاه بتجهيز جيش قوامه ثمانون ألف رجل وعهد به لجوهر مع كل الصلاحيات ، وزوده

__________________

(٨٠) لقد حدث في عام ٤٤١ ه‍ ١٠٥٠ م أن قبائل عربية كانت تسكن مصر حصلت على ترخيص من الخليفة الفاطمي في القاهرة بالهجرة الى المغرب. وابتداء من آب (أغسطس) ٩٧٢ كانت الأسرة الصنهاجية ، ممثلة بالأمراء الزيريين تحكم في القيروان. وقد كانت هذه الهجرة جوابا لقطع الخطبة والتبعية السياسية التي قام بها الأمير الزيري. وقد عملت هذه الهجرة ، التي تحمل في كتب التاريخ اسم غارة بني هلال ، أو الزحف الهلالي ، على تقويض سلطة الملوك الزيريين كثيرا ، ولكن هذه السلطة لم تتلاش تماما إلا بعد سقوط المهدية في يد نصارى صقلية ، بتاريخ ٢٢ حزيران (يونيه) ١١٤٨ م ، وخاصة بعد انتصار الخليفة الموحدي عبد المؤمن في سنتي ١١٥٩ ـ ١١٦٠ م.

(٨١) لقد توفي الخليفة الفاطمي أبو القاسم محمد القايم بأمر الله بتاريخ ١٧ أيار (مايو) ٩٤٦ م قبل الحادث الذي تكلم عنه المؤلف بأمد طويل ، واما الذي يذكر المؤلف انه ارسل مملوكه على رأس جيشه الى بلاد البربر ونوميديا ، فهو حفيد القائم بأمر الله ، وهو ثاني خليفة فاطمي ، وهو أبو تميم معدّ المعز لدين الله فقد أرسل في شهر أيار (مايو) عام ٩٥٨ م ، جيشا بقيادة أبي الحسن اسماعيل بن عبد الله ، الملقب بجوهر الكاتب ، لكي يعيد لطاعته امراء بلاد البربر الذين انفصلوا عنه ودخلوا في طاعة خليفة قرطبة الأموي.

(٨٢) يقصد خلفاء العباس.


بالكثير من الذهب والأقوات (٨٣). فانطلق المولى الأمنين إذن وقاد جيشه مخترقا الصحراء التي تفصل بلاد البربر عن مصر. وقبل ان يصل جوهر الى الاسكندرية ، كان والي مصر قد انسحب الى بغداد حيث التجأ الى الخليفة المطيع لله (٨٤).

وهكذا استولى جوهر على كل مصر وكل بلاد الشام في وقت قصير ولم يلاق سوى مقاومة ضئيلة (٨٥). ولكن جوهر لم يكن مطمئن البال ، فقد خشى أن يباغته خليفة بغداد مع كل جيوش آسيا ، وأن يقوم بهجوم معاكس شديد يؤدى الى فقدان وسائله الدفاعية وابادة جيوشه القادمة من بلاد البربر. ولهذا قرر بناء قلعة تتمكن فيها جيوشه من اللجوء اليها عند الاقتضاء لمقاومة الهجوم المعادي (٨٦) ، فبنى مدينة أحاطها بسور وظل فيها مقيما ، مع جزء من جيشه لحمايتها ، اي مع أولئك الذين كان يثق بهم كل الثقة. وأطلق على هذه المدينة اسم «القاهرة» (٨٧) أي «الغالبة» وتسمى عادة في أوروبا «لوكير» LeCaire (٨٨).

وهكذا أصبحت القاهرة تتوسع يوما فيوما بزيادة عدد أحيائها ، ومساكنها ، سواء

__________________

(٨٣) لقد كان الاستيلاء على المشرق دوما هدف الخلافة الفاطمية ، فالخليفة الأول في القيروان ، المهدى عبيد الله ، والذي نودي به في شهر كانون الأول (ديسمبر) ٩٠٩ م ، أرسل في مطلع شتاء عام ٩١٣ ـ ٩١٤ م ، ولده أبا القاسم محمد القايم على رأس حملة ضد مصر وكادت الحملة تنجح ، وأعقب ذلك بحملة ثانية في شتاء ٩١٨ ـ ٩١٩ م وانتهت بكارثة حقيقية. أما هذه الحملة الثالثة فقد جهزت بمهارة مع أبهة كبيرة في الوسائل السياسية والعسكرية ، وسار جيش جوهر الصقلي بتاريخ ٥ شباط (فبراير) ٩٦٩ م.

(٨٤) لقد كانت السلطة في مصر حينذاك في يد الامراء المتوارثين من الاسرة الإخشيدية. ولما كان الأمير الحاكم ولدا عمره اثنتا عشرة سنة ، هو أحمد بن على ، فقد كانت مقاليد السلطة بيد الشخصيات الكبيرة ، التي انحاز العديد منهم للدعوة الفاطمية. أضف الى ذلك أن البلاد كانت تتعرض لأزمة اقتصادية شديدة الخطورة. ولا نعلم على وجه اليقين ما اذا كان الامير أحمد قد التجأ لجوار الخليفة العباسي في بغداد الفضل المطيع لله.

(٨٥) لم تحدث أية مقاومة في مصر وأصبحت الخطبة تلقى في الفسطاط باسم الخليفة الفاطمي أبي تميم معدّ المعز بتاريخ الجمعة ٩ تموز (يوليه) ٩٦٩. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) استولت تجريده بربرية على فلسطين ودمشق.

(٨٦) لم يكن خليفة بغداد العباسي مخيفا ، ولكن مصر كانت مهددة من قبل الفوضويين الخطرين في جزيرة العرب وهم القرامطة. والواقع كان جوهر قد حاول بالفعل حماية الفسطاط من القرامطة.

(٨٧) القاهرة ومعناها الحرفي «الغالبة» ، ولكن الرويات تذكر ان هذا الاسم جاء من اسم كوكب المريخ ، أى القاهر ، وهو برج اليوم الذي شرع فيه ببناء السور ، إذ كان المريخ يمر في سمت خط طول المدينة ، وكان للتنجيم دور كبير من حيث الأهمية في ذلك العصر. إذن يكون معنى القاهرة «المريخية».

(٨٨) كان يطلق على «الفسطاط» التي كانت عامصة للبلاد اسم «مصر» وهو اسم القطر كله ، وأخذت القاهرة بدورها هذا الاسم «مصر» واحتفظت به في حين أصبحت الفسطاط تدعى «مصر القديمة» التي نسميها خطأ «القاهرة القديمة».


في خارج الأسوار أو في داخلها ، حتى أننا لا نجد مدينة تماثلها في العالم.

وبعد أن رأى جوهر أن خليفة بغداد لم يقم بأية تجهيزات لحملة عسكرية ، أخطر سيده بأن كل المناطق التي فتحها قد دانت له بالطاعة ، وأن الأمن قد استتب ، وأن كل المواقع بحالة أهبة للدفاع ومحروسة بشكل جيد. وعرض عليه فيما إذا كان من الممكن لجنابه أن ينتقل شخصيا الى مصر ، ذلك أن وجوده بمصر يعدل مئات الألوف من الجنود ، بل يزيد أثره على ذلك في فتح ما تبقى من بلاد. وسيكون ذلك سببا لكي يترك خليفة بغداد منصبه ويلجأ للهرب. وعندما بلغت هذه المناشدة الشهمة مسامع الخليفة الفاطمي ، قام بتجهيز جيش لجب ، وامتلأ تيها بهذا النجاح الجديد ، وقصد مصر دون اعتبار ما قد يحدث من مخاطر. وترك أميرا من قبيلة صنهاجة واليا وقائدا عاما على بلاد البربر ، ولم يكن هذا الأمير صديقه فحسب ، بل كان كذلك خادما في منزله (٨٩). وعندما بلغ الخليفة القاهرة ، استقبله خادمه بكل إجلال. ولما كانت نفسه مشبعة بالمشاريع الكبرى فقد أنفذ جيشه ضد خليفة بغداد (٩٠).

وفي غضون ذلك ، تمرد الحاكم الذي خلفه في بلاد البربر وقدم خضوعه لخليفة بغداد الذي سر بهذا الحادث ، ومنحه امتيازات واسعة مثلما منحه لقب ملك كل إفريقيا. وعندما علم القائم بذلك وهو في القاهرة اعتبره نبأ مؤلما لأنه موجود في خارج مملكته ، ولأنه أنفق كل احتياطيه من الذهب والمؤن التي حملها معه (٩١) ، ولما طار صوابه ولم يعرف أين يقف ، راح يصب لعناته على مولاه جوهر وما اقترحه عليه بشأن قدومه إلى مصر. وقد كان بجواره أمين سر له ، رجل عالم حاد الذكاء ، اسمه أبو محمد الحسن (٩٢) وقد أدرك

__________________

(٨٩) لقد غادر الخليفة أبو تميم معد المعز قصره المنصورية قرب القيروان بتاريخ ٦ آب (أعسطس) ٩٧٢ م ولم يصل الى القاهرة إلا في ١١ حزيران (يونية) ٩٧٣ م. وعهد بنيابة الملك على بلاد البربر لرجل شجاع ، هو يوسف بن زيرى ، الملقب بولوغّين ، أمير صنهاجه.

(٩٠) هذا الزعم غير صحيح ، ففي الداخل كان عليه حماية حدوده من تهديدات القرامطة المخيفة.

(٩١) وهنا يرتكب المؤلف خطأين تاريخيين. فعندما وقعت هذه الأحداث كان الخليفة القائم قد توفي منذ مائة عام ، أي بتاريخ ١٧ أيار (مايو) ٩٤٦ م ، وكان حفيده فاتح مصر معد المعز قد توفي بتاريخ ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٩٧٥ م ، وكان الخليفة الفاطمي في مصر في ذلك العهد هو أبو تميم المعز المستنصر. هذا هو الخطأ الأول. وأما الخطأ الثاني فهو أن يوسف بن زيري كان قد توفي في شهر ماي (أيار) ٩٨٤ م ، وأن أحد حفدته ، وهو المعز بن باديس ، هو الذي انشق على حكومة مصر الشيعية ، وانتهى به الأمر ان خضع في سنة ١٠٥٠ م لخلافة بغداد السنية. وقد شجعه على ذلك نجاح الدعوة السنية في بلاده وانتشار المذهب السني في مختلف ارجائها.

(٩٢) اليازوري وهو قاضي القاهرة الكبير ، تولى منصب رئاسة الوزارة عام ١٠٥٠ م.


هذا أحزان ملكه وتوقع الدمار المحلّق فوق رأس الملك إذا لم يتقدم بعلاج للموقف. فراح يواسي الملك وينصحه بالعبارات التالية :

«مولاي ، إن تقلبات الحظ متغيرة ، ولهذا لا يجوز لك أن ترتاب في قواك بسبب الحادث الحالي الذي تعرض له قدرك. وإنني أعتقد أنك إذا قبلت الرأي الذي سيعرضه عليك بكل ولاء وإخلاص خادمك الأمين ، فلن يكون لديّ أدنى ريب في أنك ستسترد في قليل من الوقت كل ما انتزع منك بالتمرد وأنك ستحصل بالتالي على ما تريد. وستبلغ ذلك بدون أن تحتمل أي مغرم ، وبدون أن تكون مضطر الدفع مرتب لجندي واحد ، بل إنني لآمل أن القوى التي سأضعها بين يديك هي التي ستدفع لك.

وعند سماع الخليفة هذا الكلام طابت نفسه وسأله كيف يمكن التوصل إلى ذلك. فتابع كلامه قائلا : «مولاي ، إن العرب قد تزايدوا كثيرا حتى إن جزيرتهم لم تعد قادرة على احتوائهم جميعا اليوم ، وما تنتجه تلك البلاد لا يكاد يكفيهم لتغذية ماشيتهم ، لأن هذه البلاد عقيمة لدرجة كبيرة. ولا يشكو الناس هناك من فقدان الأمكنة للسكنى فحسب بل من فقدان الأقوات ، وكان بإمكانهم الانتقال أكثر من مرة إلى إفريقيا فيما لو أذنت لهم بذلك. إذن امنحهم السماح بتحقيق هذا العبور. وبمقابل ذلك سأضع بين يديك مقدارا كبيرا من الذهب».

وعندما فرغ الكاتب (٩٣) من كلامه هذا ، بدا على الخليفة أنه لم يقتنع كثيرا بنصيحته. ورأى أن العرب سيكونون سبب خراب إفريقيا ، وأنه لن يجني فائدة من وراء ذلك ، لا هو ولا الثائر. ولكنه حينما رأى أن مملكة إفريقيا أصبحت ضائعة على كل حال من يده ، وجد أن أهون الشرين هو الحصول على مبلغ كبير من المال كما زين له كاتبه ، وأن ينتقم بنفس الوقت من عدوه ، وذلك عوضا عن أن يخسر في آن واحد افريقيا والمال. فطلب من مستشاره نشر مرسوم يقضي بأن كل عربي يرغب في الهجرة إلى إفريقيا سيسمح له بذلك ، على أن يدفع دينارا واحدا فقط عن نفسه وعن كل فرد من أسرته ، وعلى أن يقسم يمينا بأن يعامل الثائر في إفريقيا معاملة الأعداء.

وعلى أثر ذلك اجتاز البلاد قرابة عشر قبائل ، أو نصف سكان جزيرة العرب المقفرة. وكان من بينهم أيضا بعض من أفخاذ قبائل اليمن. وكان عدد الرجال القادرين

__________________

(٩٣) أي اليازوري.


على حمل السلاح يقارب الخمسين ألفا ، باستثناء النساء والأولاد والمواشي وكان عدد هؤلاء لا يحصى. وقد ذكر المؤرخ الإفريقي ابن رقيق ، الذي سبق لنا الكلام عنه ، تقديرا صحيحا عنهم (٩٤). وهكذا اجتاز العرب الصحراء التى قلنا إنها تقع بين مصر وبلاد البربر ، في قليل من الوقت. وتوقفوا قليلا لضرب الحصار على طرابلس ، واستولوا على هذه المدينة عنوة وخربوها ، وقتلوا كل أولئك الذين تمكنوا من قتلهم. وانطلقوا من هناك إلى قابس التي هدموها. وأخيرا حاصروا القيروان. ولكن الأمير الثائر الذي كان قد اختزن الأقوات وكل ما كان يحتاج إليه استطاع أن يصمد للحصار المضروب على المدينة مدة ثمانية أشهر إلى أن اجتاحها العرب بالقوة ودمروها. أما هو فقد اغتيل بعد أن تعرض للعديد من أشكال التعذيب (٩٥).

وعلى أثر ذلك استحوذ العرب على جميع الأرياف وسكنوها وفرضوا على كل مدينة غرامات وتكاليف باهظة. وظلوا سادة هذه المنطقة من إفريقيا حتى عهد يوسف بن تاشفين (مؤسس دولة المرابطين) وهو أول ملك في مراكش. فاستخدم هذا كل سلطته لنجدة أولئك الذين يمتون بصلة القربى والصداقة إلى الأمير الثائر المتوفي. ولم يهدأ إلا بعد أن أنقذ المدن من هيمنة العرب (٩٦).

__________________

(٩٤) يبدو من المشكوك فيه كثيرا ان يكون ابراهيم بن قاسم الرقيق قد تكلم عن الزحف الهلالي. فقد عاش هذا الرجل في اواخر القرن العاشر الميلادي. وآخر ذكر ورد عن مؤلفاته كان في عام ١٠٢٧ م [وربما كان اسم هذا المؤرخ ابن رشيق]. كما ان القبائل لم تأت مباشرة من جزيرة العرب ، بل من مصر ، حيث كانت هذه القبائل تحت نوع من حصار بسبب شغبها بعد ان اشتركت في العمليات الحربية ضد القرامطة واصبحت لا تطاق بجوار الفلاحين المصريين الوديعين. وكان في ذلك فرصة للتخلص منهم.

(٩٥) لقد حفظ التاريخ ذكر هذه الهجرة تحت اسم الزحف الهلالي أو هجرة بني هلال ونسب إليها صفة الوحشية المفرطة. بيد أن دراسة النصوص لا تدل اعلى أنها كانت انقضاضا ضاريا وهداما كما تصورها الكثيرون ، ولكن برقة وحدها ، التي كانت مزدهرة حتى ذلك الحين ، هي التي تخربت نهائيا. ولم تقع سوى معركة حامية واحدة هي معركة جندر ، او جندران ، أو حيدران ، قرب مدينة القيروان. فقد استطاع ثلاثة آلاف فارس ، ومثلهم تقريبا من المشاة العرب ، أن يلحقوا الهزيمة بأمير إفريقية بعد مباغتته يوم العيد بتاريخ الاثنين ١٣ نيسان (أبريل) ١٠٥٢ م ، وهو الأمير المعز الذي كان على رأس جيشه بينما كانت قواته تنصب الخيام لكي تعسكر فيها. أما نهب القيروان الحقيقي فلم يحدث إلا بعد ستة أعوام ، وذلك بعد أن غادر المعز هذه المدينة كي يلجأ إلى المهدية ، حيث توفي فيها نتيجة موت طبيعي بتاريخ ١٤ آب ١٠٦٢ م. وقد خسر بالفعل تقريبا كل مملكته ، رغم أنه زوج ثلاثا من بناته من أمراء من العرب. ولكنه ظل محتفظا مع أحفاده حتى تاريخ حزيران (يونية) ١١٤٨ م بسلطة رمزية على المهدية ، الواقعة على الساحل التونسي.

(٩٦) في عام ١٠٥٣ م اجتاحت صنهاجة أو زناجة ، وهم الملثمون ، والذين يذكرهم التاريخ باسم المرابطين ، والذين يذكرهم الحسن دوما باسم لمتونة ، وهم اسم أهم قبائلهم ، أقول اجتاحت إمارة سجلماسة المزدهرة ، ولقد تطلب فتح بلاد ـ


ومع هذا ظل العرب في البوادي يقتلون وينهبون كل ما يمكن أن يقع تحت ايديهم. وفي أثناء ذلك ظل أقارب الأمير المتمرد يمارسون السلطة في أماكن مختلفة.

ولكن عندما آلت السلطة إلى المنصور ، رابع ملك وخليفة في دولة الموحدين ، لم يعمل كما صنع أسلافه الذين كانوا يحاربون لمصلحة أحفاد الأمير الثائر ويعيدون لهم سلطتهم ، بل اتخذ قراره بمناصبتهم العداء وانتزاع أية سلطة منهم. وتصرف لذلك بمكر ودهاء ، وعقد معاهدات معهم ، ثم حرض العرب على محاربتهم ، فانتصر هؤلاء عليهم بدون كبير عناء. وحينئذ اصطحب المنصور أهم رجالات العرب وأمراءهم إلى ممالك الغرب ، فأقطع زعماءهم منطقة دكالة وأزغار ومنح نوميديا لعامتهم (٩٧).

__________________

ـ البربر أربعين عاما فوصلوا حتى مدينة الجزائر ، وتوغلوا في أسبانيا حتى مدينة فراغا في أراغون ، تحت قيادة زعيمهم الشهير يوسف بن تاشفين ، وهو الذي تقلد أمر قيادتهم في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ١٠٦١ م ، وأسس مراكش عام ١٠٦٢ م ومات بتاريخ الثالي من أيلول (سبتمبر) ١١٠٦ م عن عمر يبلغ ٩٦ عاما. ولا يبدو أن يوسف بن تاشفين قد اهتم كثيرا بشأن مشاكل العرب مع الامراء الصنهاجيين. بل كل ما هنالك يظهر أنه احترم اسم ذلك النسب القبلي البعيد ، وهو امارة بني حماد الصنهاجية ، التي كانت عاصمتها حينذاك تاكربوست ، أو قلعة بني حماد ، قرب مسيلة بالقطر الجزائري.

(٩٧) يظهر هذا العرض غير صحيح إطلاقا. فبعد أن نودي بعبد المؤمن بن علي خليفة الموحدين في ١١ آذار (مارس) ١١٣٢ م قام هذا بالاستيلاء على كل شمالي أفريقيا ، أو بلاد البربر عند الوزان ، وفي ١١٦٠ م اعترفت برقة بسلطته. وفي شباط (فبراير) ١١٥٢ م احتل بجاية التي كانت منذ ١٠٦٧ م عاصمة الأمراء الحماديين ، وخرب عاصمتهم القديمة ، قلعة بني حماد ، تماما. ولكن العرب ، على العكس ، هم الذين عملوا على دعم الأمراء الصنهاجيين. فبعد أن حشدوا جموعهم في بأجة أنقضوا في أيار (مايو) أو حزيران (يونية) عام ١١٥٣ م على ستيف ، أي على مؤخرة جيش الموحدين العائد إلى المغرب. وبعد معركة حامية الوطيس امتدت على ثلاثة أيام انهزموا وطوردوا إلى أن أعلنوا خضوعهم الذي استمر حتى عام ١١٨٥ م. فتلاشت مملكة بني حماد في بجاية ولم يبق منها سوى الإمارات الصنهاجية في إفريقية ، أي في الشمال التونسي. وعلى أثر الاستنجاد بعبد المؤمن لطرد نصارى صقلية من المهدية ومن الساحل التونسي الذي احتلوه عام ١١٤٨ م انطلق من مراكش في تشرين الأول (اكتوبر) ١١٥٨ م ودخل بدون مقاومة الى تونس في الرابع من حزيران (يونيو) ١١٥٩ م وانتزع المهدية منهم في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٦٠ م بعد حصار طويل. وقام بتصفية الأمراء الصغار المحليين وعين مكانهم حكاما من الموحدين. وعند عودته إلى المغرب اصطحب عبد المؤمن معه عددا من العرب مع عائلاتهم. واضطر ابنه وخليفته أبو يعقوب يوسف أن يقوم بحملة استغرقت عامين من ١١٧٩ م إلى ١١٨١ م لإخضاع إفريقية. وبعد عودته الى مراكش بقليل جاءت كتيبة كبيرة من العرب لتضع نفسها تحت تصرفه. وفي ٣٠ تموز (يوليو) ١١٨٤ م نودي بأبي يوسف يعقوب ، الملقب بالمنصور خليفة الموحدين الرابع ، إذا اعتبرنا ابن تومرت الخليفة الأول ، أو ثالث خليفة مؤمني (أي بعد عبد المؤمن. وذلك إذا اعتبرنا عبد المؤمن هو الخليفة الموحدي الأول). وفي العاشر من أيار (مايو) ١١٨٥ م نزل في بجاية دعىّ لإعادة حكم المرابطين ، هو علي بن إسحق بن غانية ، أمير جزيرة ماجورقة ، مع بضعة من إخوته وقواته. وبعد أن أحرز المرابطون عدة نجاحات محلية ، اضطروا للانكفاء نحو الجنوب التونسي ، حيث حرضوا العرب على العصيان ولاقوا عونا من الفرق التركية القادمة من مصر بقيادة احد مماليك صلاح الدين الايوبي ، وهو قراقوش الارمني الاصل. واصبح الوضع خطيرا. فغادر الخليفة المنصور عاصمته مراكش في ١٧ كانون الأول ١١٨٦ م واندفع لإستعادة قفصه وقابس ، وكسر المرابطين والاتراك ـ


وفي الأزمنة التالية استرد عرب نوميديا ، الذين كانوا عبيد النوميديين تقريبا ، استردوا حريتهم وهيمنوا رغم أولئك على جزء من نوميديا الذي أقطعهم إياه المنصور ، حتى أصبحوا يوسعون أراضييهم يوما بعد يوم. أما العرب الذين كانوا يسكنون أزغار والمناطق الأخرى من موريتانيا فقد استعبدوا ، لأن العرب خارج الصحراء كالسمك خارج الماء (٩٨) ، وكانوا يودون الذهاب إلى الصحراء ولكن كان ذلك من المستحيل عليهم ، لأن ممرات جبال الأطلس كانت تحت حراسة وسيطرة البربر. ومن جهة أخرى كان عليهم أن يكفوا عن أي توسع في الأرياف ، لأن عربا آخرين كانوا سادتها. ولهذا تخلوا عن كبريائهم وانصرفوا إلى رعي الماشية وزراعة الأرض. ولكنهم ظلوا يعيشون تحت الخيام لا تحت أكواخ أو بيوت ريفية. وبالإضافة إلى توسعهم أصبح عليهم أن يدفعوا سنويا ضرائب وعوائد لملك فاس. أما عرب دكالة الذين تحصنوا بكثرتهم فقد كانوا أحرارا وما كانوا ملزمين بدفع أية ضريبة. وبقي قسم من العرب في منطقة تونس لأن المنصور رفض اصطحابهم معه. وبعد رحيله قام هؤلاء باحتلال تونس ، وأصبحوا سادة البلاد واستمرت هيمنتهم إلى أن ثار بعض أمراء أسرة أبي حفص. فاتفق العرب معهم كي يتركوا لهم السلطة العليا بشرط أن يحصلوا على نصف الضرائب ومنتجات الأرض التي ستنتزع من المملكة (٩٩).

__________________

ـ وعاقب العرب الدين أمدوهم بالعون. وعاد الى مراكش في ايلول (سبتمبر) ١١٨٨ م بعد معركة مظفرة ، مصطحبا معه اكثر العرب شغبا كي يجعلهم تحت مراقبته ولكي يستخدمهم في حرب الأندلس. فأقام هؤلاء العرب في تامسنه وفي ازغار.

ولكن عرب المعاقيل ، الذين لم يكن عددهم يتجاوز ٢٠٠ رجل عند الزحف الهلالي والذين تكاثروا تكاثرا مذهلا ، أخذوا بالتسلل نحو الغرب عبر الجنوب التونسي والجنوب الجزائري والجنوب المغربي كي يصلوا الى السوس في القرن الثالث عشر الميلادي. وفي اواخر القرن الرابع عشر لم يكونوا قد تجاوزوا جنوبا الساقية الحمراء ، وفي اواسط القرن الخامس عشر الميلادي. وصلوا وادان ، وفي عصر المؤلف بلغوا تيشيت في موريتانيا الحالية ، وقد كانوا من ناحية اخرى قد بلغوا البحر المتوسط سالكين وادي الملوية وذلك في القرن الثاني عشر الميلادي.

(٩٨) وهنا نتوقف قليلا لنوضح المفهوم الجغرافي لبعض الأسماء الواردة في نص الوزان : فكلمة موريتانيا عنده تعني المنطقة الواقعة إلى الجنوب من مدينة الجزائر حتى شمال مصب نهر السبو ، وتعني نوميديا منطقة قسنطينة ، وأما افريقية فتغني بلاد تونس الشمالية بما في ذلك القسم الشرقي من منطقة قسنطينة أي كل حوض نهر المجردة ورافده نهر الملاق. ويقصد المؤلف بعبارة العرب دوما الأعراب لو البدو من بني هلال وسليم والمعاقيل (المترجم).

(٩٩) لقد حدث الاستيلاء على تونس في كانون الأول (ديستمبر) ١٢٠٣ م ، ولم يتم انتزاع المدينة على أيدي العرب ، بل بواسطة قوات المدعي المرابطي يحيى بن إسحق بن غانية المايورقي ، الذي تزعم التمرد المرابطي بعد وفاة أخيه علي. وجاء خليفة مراكش أبو عبد الله محمد الناصر ذاته لاستخلاص تونس في ١٢٠٥ م. وأرسل أفضل قواده ، عبد الواحد بن أبي حفصة عمر لمطاردة يحيى الذي انهزم في تشرين الأول (اكتوبر) ١٢٠٥ م. عند جبل تاجيره في الجنوب التونسي. وعند عودته من تونس الى مراكش في ايار (مايو) ١٢٠٧ م ترك الناصر عبد الواحد واليا على تونس وحاكما على البلاد التونسة. وفي ـ


ولكن ملوك تونس عجزوا عن إرضاء كل العرب ، لأن عدد هؤلاء كان يتجاوز إمكانات موارد المملكة ومنتجاتها ، وهكذا كانت توزع هذه المعونات بين قسم فقط من العرب ، مع تكليفهم حفظ النظام في الأرياف وعلى ألا يلحقوا أذى بإنسان. أما بقية العرب المحرومين من هذه الموارد فقد اتجه نشاطهم إلى النهب والقتل وإلى أسوأ أنواع الأذى. فكانوا ينصبون الكمائن في أغلب الأحيان وعندما يمر مسافر كانوا يبرزون له ويسلبون ماله وثيابه ثم يقتلونه ، حتى لم تعد الطرق آمنة. وكان التجار الذين يودون الذهاب من تونس الى مكان ما يقصدونه ، كانوا يصطحبون معهم للحماية حرسا من حملة الأسلحة. ولكنهم ظلوا مع ذلك يتعرضون لطوارىء خطيرة. أولها دفع رسم كبير عن المرور إلى العرب الذين كانوا يتمتعون بدعامة من الملك ؛ والآخر ، وهو الأسوأ هو تعرضهم في معظم الأوقات لوثوب العرب الآخرين عليهم. وأحيانا ما كان حرس الحماية الذي اصطحبوه معهم ليغنى عنهم شيئا ، فيخسرون حياتهم وأموالهم معا.

تقسيم العرب الذين قدموا لسكنى إفريقيا والذين دعوا بالعرب المتبربرين

ينتسب العرب الذين دخلوا إفريقيا (١٠٠) إلى ثلاث قبائل. الأولى تدعى شاشين ، والثانية بني هلال والثالثة معقل (١٠١).

وتنقسم شاشين إلى ثلاثة أفخاذ هي : أثبج وسميت وسعيد.

__________________

ـ اثر وفاة الوالي المذكور في ٢٥ شباط (فبراير) ١٢٢١ م ، زاد الوضع سؤا اكثر فأكثر لا سيما وان الخلافة الموحدية راحت تنحدر نحو انحطاط كامل. وقد ادى انكسار الناصر الشنيع في ١٦ تموز (يوليه) ١٢١٢ م في موقعة حصن عقبة او «لاس نافاس دوطولوشة» في الاندلس ، فضلا عن التمرد الزناتي الطويل بزعامة يحيى بن غانية في المغرب الأوسط وضعف خلفاء الناصر ، اقول ادى كل ذلك لأن يقتطع بنو مرين لهم مملكة في المغرب ، وأن يؤسس بنو عبد الواد مملكتهم في تلمسان. وفي حزيران (يونيه) ١٢٢٨ م نودي بأحد ابناء عبد الواحد واليا على تونس. ولم يعد يعترف الامير الحفصي ، ابو زكريا يحيى ، ابدا بسلطة خليفة مراكش منذ ١٢٢٩ م. وفي ١٢٣٦ م اعلن نفسه اميرا مستقلا. اما ابنه ابو عبد الله محمد الذي اعقبه بتاريخ ٩ تشرين الأول (اكتوبر) ١٢٤٩ م فقد اتخذ لقب خليفة موحدي في شباط (فبراير) ١٩٥٣ م وهنا يقع العصيان الحفصي.

(١٠٠) حين الزحف الهلالي.

(١٠١) لا تسمح الوثائق التي تعرفنا عليها بمثل هذا التصنيف المطلق. غير أنها تتفق مع ما كتبه المؤلف فيما يتعلق بأسمي القبيلتين الكبيرتين معقل وهلال. أما اسم شاشين الذي سنجده فيما بعد فلم يمكن تفسيره بصورة مقبولة. وربما كان من الممكن أنه خاخين أو حكيم أو حكم. وحكيم اسم عشيرة صغيرة كانت تمتد أراضيها في الماضي بين سوسة والجم في البلاد التونسية. ويمكن الأفتراض أن المؤلف لقي استقبالا ممتازا لدى هذه العشيرة المذكورة وأنه سجل بعض الروايات عن سمو شأن أجدادها ، أو أنه بكل بساطة قد جافى الحقيقة التاريخية ليقدم رمزا للعرفان بالجميل لعشيرة الحكيم.


وتتوزع اثبج بدورها بين ثلاثة فروع هي : دلّج والمنتفق وصبيح. وتنقسم هذه العشائر بدورها الى عدد لا حصر له من الطوائف.

أما بنو هلال من جهتهم ، فينقسمون إلى أربعة فروع هي : بنو عامر ، رياح ، سفيان ، غصين.

ويتوزع بنو عامر بين عروة وعقبة وهبرة وسلم.

وتضم رياح الدواودة وسويد وسجاع وهريت والندر والكرفة. وتتفتت هذه العشائر الأخيرة إلى عدد لا يحصى من العائلات.

وتنقسم معقل إلى ثلاثة فروع هي : مختار وعثمان وحسان.

فالمخاترة يتشعبون الى روحة وسليم.

وتنقسم عشيرة عثمان إلى الحسين وشنانة.

وتتوزع حسان بين دوى حسان ، ودوى منصور ، ودوى عبيد الله.

وتنقسم دوى حسان إلى دليم والأوداية والبرابيش والرحامنة والحمر.

وتشتمل عشيرة بني منصور على العمارنة والمنبهة والحسين وأبي الحسين.

وتنقسم دوى عبد الله بدورها إلى خراج وإلى حدج وإلى ثعلبة وإلى جعوان.

وجميع هذه العشائر مقسومة إلى عدد لا متناه من الفرق التي يصعب تذكرها بل يستحيل.

التوزع الأرضي للعرب ـ عددهم

لقد كانت أثبج أكثر العرب شرفا وأكثرهم أهمية. وهم الذين اختارهم المنصور (١٠٢) كي يسكنوا دكالة وسهول تادلة. وفي أيامنا هذه أصبحوا مرهقين بالضرائب تارة من ملك البرتغال وتارة أخرى من ملك فاس. ويبلغ عدد القادرين منهم على حمل السلاح ١٠٠٠٠٠ رجل نصفهم من الخيالة. أما سميت فقد مكثت في صحراء ليبيا التي

__________________

(١٠٢) الخليفة الموحدي يعقوب المنصور. عام ١١٨٨ م


تعتبر امتدادا لصحاري طرابلس. وكان من النادر أن يأتوا إلى بلاد البربر التي لم يكن لهم فيها أي نفوذ وما كانت تنسب إليهم فيها أية مقاطعة. وهكذا يظلون على الدوام في الصحراء مع إبلهم. وعدد القادرين منهم على ممارسة الحرب يبلغ ٩٠٠٠٠ معظمهم من المشاة(١٠٣).

وتسكن عشيرة سعيد نفس صحاري ليبيا (١٠٤) ويرتبطون بعلاقات صداقة وتجارة مع مملكة ورقلة. ويملكون عددا لا يحصى من الماشية ويصدرون اللحوم لكل المدن والقرى القريبة من صحاريهم ، ويكون ذلك في الصيف ، لأنهم لا يغادرون الصحراء في الشتاء. ويقاربون ١٥٠٠٠٠ من حيث العدد ولكنهم لا يملكون سوى القليل من الجياد.

وتسكن دلّج عدة مناطق. والقسم الأعظم منهم يعيش على تخوم قيصرية ومملكة بجاية (١٠٥). ويتلقى هؤلاء العرب معونات من الأمراء والمجاورين. ويسكن أصغر جزء منهم سهل آدخسن (١٠٦) على تخوم موريتانيا مع جبال الأطلس. ويدفع هؤلاء الضريبة لملك فاس. وتسكن المنتفق سهول آزغار. ويطلق عليهم اليوم اسم الخلوط (١٠٧) وهم يدفعون الضريبة أيضا لملك فاس ويستطيعون تعبئة ٨٠٠٠ فارس مجهزين تجهيزا جيدا جدا. وتسكن صبيح ، وأقصد أعظمهم أهمية وأرفعهم قدرا ، بجوار تخوم مملكة الجزائر ويتلقون مساعدات من ملك تلمسان. ولهم في نوميديا بضع مناطق خاضعة لهم. ولا يقل عدد فرسانهم كثيرا عن ٣٠٠٠ فارس ، وهم شجعان للغاية عند الصدام. ولهؤلاء العرب أيضا عادة الانسحاب شتاء نحو الصحراء لأنهم يملكون كثيرا من الإبل. ويسكن قسم آخر من صبيح في السهول الواقعة بين سلا ومكناس. ولهؤلاء أغنام وأبقار ويزرعون الأرض ويدفعون كذلك ضريبة لملك فاس ، ويبلغ عدد فرسانهم ٤٠٠٠ فارس مجهزون أحسن جهاز.

__________________

(١٠٣) لم نتمكن من التعرف على هذه العشيرة الكبيرة في الجنوب الطرابلسي.

(١٠٤) أي جنوبي منطقة قسنطينة.

(١٠٥) أي جنوب شرق ولاية مدينة الجزائر الحالية.

(١٠٦) أي سهل خنيفره الحالي في المملكة المغربية.

(١٠٧) ولا يزال قسم منهم فى منطقة القصر الكبير بجوار ساحل المحيط.


قبيلة بني هلاك ـ مناطقهم

إن الفرع الرئيسي من قبيلة بني هلال هو فرع بني عامر. ويسكن هؤلاء العرب بجوار تخوم مملكتي تلمسان ووهران وينتجعون نحو صحراء قرارة. ويستخدمهم ملك تلمسان في أعمال كثيرة مقابل أجور تدفع لهم ، وهم أولو بأس شديد وثروة واسعة ، وفيهم ٦٠٠٠ فارس جميل الطلعة جيد التجهيز. وتملك عشيرة عروة ضواحي مستغانم ورجالها متوحشون ولصوص ولباسهم رديء ، ولا يبتعدون عن الصحراء ، إذ ليس لديهم أراض خاصة بهم ، ولا ينالون مساعدات في بلاد البربر. ولديهم قرابة ٢٠٠٠ فارس.

وتقيم عشيرة عقبة بضواحي مليانة. وينالون بعض المساعدات الصغيرة من ملك تينس. ولكن هؤلاء عبارة عن سفاكين مجردين من كل عاطفة انسانية وفيهم حوالي ١٠٠٠ فارس. وتسكن عشيرة هبرة السهل الواقع بين وهران ومستغانم. وهؤلاء مزارعون يدفعون الضريبة لملك تلمسان. ويستطيعون تقديم ١٠٠٠ فارس. وتسكن مسلم صحراء مسيلة التي تمتد باتجاه مملكة بجاية ، ويتلقون عائدات من مسيلة ومن بعض البقاع الأخرى.

وتسكن رياح صحاري ليبيا الواقعة إلى الجنوب من قسنطينة. وتمتد سلطتهم على جزء من نوميديا. وينقسمون الى ستة اقسام ، وهم اشراف وحسنو التجهيز وبواسل في الحروب ، ويتلقون مساعدات من ملك تونس ، وفيهم ٥٠٠٠ فارس.

وتسكن سويد الصحاري التي تمتد نحو مملكة تينس ، ولهم شهرة كبيرة وسلطة واسعة. ويخصص لهم ملك تينس معونات ، وهم أشراف وبواسل ولديهم كل ما يحتاجون إليه.

وتخضع سجاع لقبائل عربية مختلفة ، ويسكن عدد كبير منهم صحراء غارت مع العمارنة. ويسكن فرع منهم مع عرب دكالة (١٠٨) وضواحي آسفي (١٠٩)

__________________

(١٠٨) أي العربية.

(١٠٩) لا زال يوجد عدد من فروع سجاع حتى الآن.


وتسكن هريت سهول هلان بصحبة سيديمه ويضربون الجزية على سكان حاحه (١١٠) وهم فقراء معدمون. ويسكن الندر (١١١) سهول حاحه. ولدى عرب حاحه هؤلاء حوالي ٤٠٠٠ فارس وكلهم من ذوي التجهيز الرديء. ونجد عشيرة الغرفة (١١٢) في نقاط مختلفة. ولا رؤساء لهم بل هم مختلطون مع قبائل اخرى ، ولا سيما مع منبه والعمارنة وهؤلاء الذين ينقلون تمور سجلماسة إلى مملكة فاس حيث يعودون إلى سجلماسة مع الأقوات الضرورية.

قبيلة معقل ـ أراضيها ـ عددها

تسكن عشيرة الروحة ، وهي فرع من مختار ، الصحاري المجاورة لدادس وفيركله (١١٣). وهم فقراء لأنهم لا يملكون سوى القليل من الأراضي. غير أنهم محاربون أشداء راجلون ، حتى إنهم يعتبرون من المعيب جدا أن ينهزم راجل واحد أمام فارسين. ولا نجد واحدا منهم ، مهما كان بطيء السير ، يعجز عن أن يسير لغرضه بسرعة تقل عن أي فارس ، مهما كان طول الطريق الذي يقطعه. وفيهم حوالي ٥٠٠ فارس و ٨٠٠٠ راجل ، ونقصد بذلك رجال الحرب (١١٤).

وتسكن سليم قرب وادي الدرعة. وينتجعون عبر الصحراء. وهم أغنياء ويذهبون مرة في كل عام مع سلعهم إلى تومبوكتو. ولدى هذه القبيلة الكثير من الأملاك في الدرعة والعديد من الأراضي الزراعية وعدد ضخم من الإبل. وفيهم حوالي ٤٠٠٠ فارس. وتسكن عشيرة الحسن على ضفاف المحيط عند تخوم ماسّه. وفيهم حوالي ٥٠٠ فارس مجهزون أسوأ تجهيز. ويسكن قسم منهم أزغار. وأهل منطقة ماسّه أحرار في حين يخضع أهل إقليم أزغار لملك فاس.

__________________

(١١٠) لا يزال عرب هريت في مكانهم في جنوب نهر التانسفت إلى الشرق من عرب شيادمة ، وأما اسم «هلان» الذي ورد في النص فهو غير معروف ، ولعله تحريف ناشىء عن سبق قلم

(١١١) أنقرضوا أو انصهروا بغيرهم من العرب.

(١١٢) أنقرضوا حاليا.

(١١٣) صوابها تودجه

(١١٤) لا تزال عشيرة الروحة حتى أيامنا هذه ، مجتمعة على شكل جماعات صغيرة في بعض قصور وادي الدرعة ، ويعرفون أصلهم العربي. ولكنهم لا يختلفون في شيء عن بقية سكان القصور البربر ، وليس لديهم خيول ، وقد فقدوا جميع صفاتهم لخاصة.


وتسكن كنانة مع خلوط ويخضعون أيضا لملك فاس ، وهم رجال أقوياء الشكيمة ولديهم كل ما هو ضروري ، وفيهم ٢٠٠٠ فارس.

وينقسم دوى حسان (١١٥) إلى دليم (١١٦) والبرابيش والأوداية ودوى منصور (١١٧) ودوى عبيد الله (١١٨). وتسكن الدليم صحراء ليبيا مع زناقة ، وزناقة شعب إفريقي وليس لهؤلاء العرب نفوذ ولا مورد. وهم كذلك بؤساء ومن كبار اللصوص. ويذهبون أحيانا إلى منطقة درعة ليستبدلوا التمر بأنعامهم. ويلبسون رث الثياب. ويبلغ تعدادهم حوالي عشرة آلاف رجل منهم أربعمائة فارس وستمائة راجل.

وتسكن البرابيش صحراء ليبيا في القسم الواقع باتجاه إقليم السوس ، وهم كثر وفقراء ، ولكن لديهم الكثير من الابل وهم يحكمون مقاطعة تيشيت (١١٩) التي لا يكفيهم دخلها حتى لتكاليف الحديد الذي يضعونه في حوافر القليل مما يملكونه من خيول.

وتسكن الأودايه (١٢٠) الصحاري الواقعة بين وادان وولّاته ولهم قيادة السود وعددهم لا يكاد يحصى ، إذ يقدرون بحوالي ٧٠٠٠٠ رجل حرب ، ولديهم القليل من الخيل. ويسيطر الرحامنة على الصحراء المجاورة لعكا (١٢١) ، ولهم أيضا النفوذ على تيشيت حيث اعتادوا الذهاب إليها كل شتاء وعندهم كذلك القليل من الخيل. ويسكن الحمر صحراء تاغاوست وينالون بعض المعونات من عمالة تاغاوست. ويجوبون الصحراء حتى نون ويقارب عدد محاربيهم ٨٠٠٠ رجل (١٢٢).

__________________

(١١٥) وقد نزح هؤلاء فيما بعد إلى موريتانيا الحالية وأسبحت اللهجة السائدة هناك تدعى الحسانية.

(١١٦) وربما أولاد دليم.

(١١٧) او الرحامنة.

(١١٨) أو عمرو.

(١١٩) في موريتانيا الحالية (المترجم).

(١٢٠) واسمهم في موريتانيا الأوداي وفى المغرب الأوداية. «وإليهم ينسب الحي القديم المركزي في مدينة الرباط» (المترجم)

(١٢١) كان الرحامنة ينتجعون حتى عكا في جنوب الدرعة في المغرب ، وقد أجلوا فيما بعد إلى شمالي مراكش ولا يزالون هناك شمال نهر التانسفت.

(١٢٢) يقول ماسينيون سنة ١٩٠٦ ص ١٤٠ : إن الحمر هم أولاد الأحمر الذين يقيمون في مخزن الحوز ، ومنهم آيت باعمران في السوس وفي إقليم باكونو في موريتانيا ، في جنوب شرق موريتانيا الحالية ، وليس من المؤكد اطلاقا أن تاغاوست التي يذكرها المؤلف هي تاقنت الحالية في موريتانيا.


دوي منصور

تسكن عمران وهي فرع من دوي منصور في الصحاري المجاورة لسجلماسة وينتجعون في صحراء ليبيا حتى إيغيدي (١٢٣). ويجبون الجزية من سكان سجلماسة وفيركله وتبلبلة والدرعة. ولديهم الكثير من حدائق النخل ويستطيعون العيش كما يعيش الأمراء ويتمتعون بشهرة كبيرة. وفيهم حوالي ٣٠٠٠ فارس. ويعيش بين ظهرانيهم العديد من العرب الأقل غنى منهم ، ولكنهم يملكون خيولا ومواشي بأعداد لا بأس بها. مثل عرب الكرفة وسجاع.

ولعشيرة حمرون فرع متفرد تمتد سلطته على بعض الأراضي الزراعية الواقعة في بلاد البربر. ويتجول هؤلاء حتى صحراء فيقيق. وتدر عليهم أراضيهم المزروعة وقراهم في نوميديا موارد كثيرة هامة. ويأتي هؤلاء العرب ليقيموا في الصيف في منطقة غارت على تخوم موريتانيا ، في قسمها الشرقي. وهؤلاء الرجال شرفاء وعلى درجة قصوى من البسالة. ولهذا كان من عادة كل ملوك فاس تقريبا أن يتخذوا من بناتهم زوجات لهم ، وبذلك عقدوا مع هؤلاء صلات قرابة. وتسكن منبه أيضا نفس صحراء فيقيق. ولهم السلطة على متغاره والرتب وهما إقليمان من موريتانيا ، وهؤلاء أيضا رجال شجعان ويجبون الضرائب من سكان سجلماسة ، ويقدر عدد فرسانهم بألفين.

وتمت عشيرة الحسين أيضا بصلة النسب إلى دوى منصور. وتسكن بين جبال الأطلس. ومنهم زعماء يملكون بضعة جبال مجهولة ومدنا وقصورا ، أقطعهم إياها مختلف ملوك بني مرين ، لأن هذه القبيلة قدمت عونا ممتازا لهذه الأسرة عندما ملك أفرادها زمام الحكم. وتمارس عشيرة الحسين سلطتها على مملكة فاس وسجلماسة. ويحكم زعيمهم مدينة تدعى غرسلوين (١٢٤) وينتجعون أيضا في صحراء الضهرة (١٢٥) ، وهم أناس أغنياء وشجعان ويقدر عدد فرسانهم بحوالي ٦٠٠٠ فارس. ويعيش بينهم عرب آخرون يدينون لهم بالطاعة.

وتسكن عشيرة أبي الحسين جزئيا في صحراء الضهرة المذكورة ولا يملكون فيها

__________________

(١٢٣) ايغيدي (الرمل) وهي منطقة كثبان كبيرة جنوبي تافيلالت جنوبي المملكة المغربية.

(١٢٤) وتحمل أطلالها اليوم اسم دوار وتقع على ضفة واد زيز في مديرية غير في جنوب شرق المملكة المغربية.

(١٢٥) الضهرة سهل صحراوي يقع بين دبدو وفيقيق في شرقي المملكة المغربية


الشيء الكثير. وهم على درجة من البؤس بحيث لا يستطيعون حتى البقاء تحت خيامهم في هذه الصحراء. وإذا كان من الصحيح القول بأنهم انشأوا بعض الملكيات الزراعية في صحراء ليبيا ، فهم يعيشون هنا أيضا عيشة شظف ، يعتورهم الجوع ، ويدفعون بعض الإتاوات لأقاربهم.

دوي عبيد الله

تؤلف عشيرة الخراج جزءا من قبيلة عبيد الله. ويسكن هؤلاء العرب صحراء بني قومي (١٢٦) وفيقيق. ويملكون الكثير من الأراضي الزراعية في نوميديا. وينالون معونات من ملك تلمسان الذي يعمل جاهدا وبلا انقطاع لكي يعودهم على حياة هادئة شريفة ، لأنهم قطاع طرق يغتالون تقريبا كل من يقع في أيديهم. ويؤلفون حوالي ٤٠٠٠ فارس. ومن عادتهم أن ينقلوا مخياتهم في الصيف إلى ضواحي تلمسان.

وتسكن ثعلبة سهل الجزائر. وينتجعون إلى الصحراء حتى تغوات (١٢٧) وقد كانت لهم السلطة على مدينتي الجزائر ودلّيس. أما في أيامنا فقد انتزعت هاتان المدينتان من أيديهم على يد بربروس (١٢٨) وعلى أثر ذلك دمرت قبيلة ثعلبة. وقد كانت عشيرة نبيلة وباسلة في الحرب ، وكانت تضم قرابة ٣٠٠٠ فارس.

وتسكن حدج في صحراء مجاورة لمدينة تلمسان وتدعى صحراء أنجاد ، وليس لديهم أملاك عقارية ولا ينالون مساعدات ، ولا يعيشون إلا على القتل والسلب ، وفيهم ٥٠٠ فارس.

ويعيش الجعوان على شكل فصيلتين منفصلتين : الأولى مع خراج والأخرى مع حدج. ولكنهم يعتبرون اتباعا لهم ويحتملون هذه التبعية بإذعان. والآن يجب علينا أن نوجه أنظاركم إلى أن القبيلتين الأوليين ، وهما الحكم وبنو هلال ، هما من عرب نجد ، وتنحدران من إسماعيل بن إبراهيم. ويعود أصل القبيلة الثالثة ، أي المعاقيل ، إلى اليمن وأصلهم من سبأ. ويعتبر المسلمون أن ولد سماعيل أكثر نبلا من السبئيين. ولهذا لا

__________________

(١٢٦) تقع قصور بني قومي ، وأهمها قصر تاغيت ، على ضفاف واد الزوز فانه في الجنوب المغربي.

(١٢٧) ربما يقصد توات التى تبدو بعيدة جدا عن مدينة الجزائر وربما يقصد تغدمت قرب تيارت ، أي في إقليم سرسو.

(١٢٨) وهو القائد عروج أمير البحر التركي ، وهو الأخ الأكبر لأخوين يحملان لقب بر بروس


ينفك النزاع قائما بين القبيلتين على النبل ، وقد نظمت في كلا الجانبين قصائد تحاورية يسرد فيها كل من الفريقين فضائله وأعماله المجيدة ومآثر قبيلته.

ومن المستحسن أن نعرف أيضا أن العرب القدامى الذين كانوا موجودين قبل ظهور أبناء إسماعيل يسمون عند المؤرخين الأفارقة العرب العاربة (١٢٩) ، أي عرب جزيرة العرب. أما العرب الذين ينحدرون من إسماعيل فيسمون العرب المستعربة ، وفيها معنى الحدوث ، لأنهم لم يولدوا عربا (١٣٠). والعرب الذين قدموا لسكنى افريقيا سمّوا العرب المستعجمة ، أي العرب المتبربرين ، لأنهم سكنوا مع أمة أجنبية ، ففسد لسانهم مع تطاول الزمن حتى اصبحوا من البربر (١٣١).

وسيكون من الأفضل لو أمكن الرجوع لتاريخ العرب لابن خلدون ، الذي ألف كتابا ضخما يكاد يكون مخصصا برمته لعلم أنساب العرب المتبربرة (*). ولم تحتفظ ذاكرتي الهزيلة أكثر مما استطعت قوله هنا ، لأنني أؤكد أن نظري لم يقع على كتاب في تاريخ العرب منذ أكثر من عشرة أعوام. ومن ناحية أخرى رأيت كل العشائر العربية التي ذكرتها آنفا وكانت لي محادثات مع أهلها وظلت خصائصها عالقة في ذاكرتي.

عادات وأنماط معيشة الأفارقة الذين يعيشون في صحراء ليبيا

يطلق اللاتين عبارة النوميديين (١٣٢) على كل القبائل الخمس التي سبق لنا الكلام عنها ، وأقصد بذلك زناقة والونزيقة والطوارق ولمتونة وبردوه. ويعيشون جميعا على أسلوب واحد ، بدون أية قاعدة وبدون أي تعقل (١٣٣). ويتألف كساؤهم من «فوطة» ضيقة من صوف خشن. ويضع كل واحد فوق رأسه قطعة قماش سوداء ملفوفة حول

__________________

(١٢٩) لا تزال عشيرة تدعى عارب موجودة في منطقة جبل باني المشرف على وادي الدرعة بجوار عكا.

(١٣٠) وهذه العبارة أطلقت على الأسبان الذين عاشوا كالعرب أيام الحكم الإسلامي في الأندلس ، ومنها عبارة موزاراب.

(١٣١) أي الذين يتكلمون لغة عربية محرفة ومختلطة بعبارات أجنبية.

(*) يقصد «كتاب العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ، في أيام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (المراجع)

(١٣٢) الحقيقة كان النوميديون بالنسبة إلى اللاتين هم سكان تونس الشمالية وسكان شمال شرق ولاية قسنطينة الحالية. أما سكان الجنوب فيسمون جتول أو القرمنط وكان مجال القرمنط في منطقة فزان خاصة. أما الصحراويون فلم يكن لهم كما يبدو أية تسمية خاصة.

(١٣٣) قول فيه الكثير من المبالغة.


وجهه كالعمامة. أما الوجهاء والشخصيات الهامة فيضعون قميصا كبيرا ذا أكمام عريضة ، من قماش القطن الأزرق الذي يشترونه من تجار قادمين من السودان ، وذلك لكي يتميزوا عن الآخرين. ولا يركبون سوى الإبل ويستخدمون لهذا سرجا يضعونه بين السنام وبين عنق الحيوان (١٣٤) وإنه لمنظر جميل أن يرى الإنسان هؤلاء الناس راكبين جمالهم. وأحيانا يضعون ساقا فوق ساق على عنق الجمل ، وأحيانا أخرى يضعون أقدامهم في سيور مربوطة بالسرج بدون ركابات (١٣٥) ويستخدمون سهما مربعا من الحديد مثبتا في نهاية عصا طولها ذراع (١٣٦) ولكنهم لا يوخزون بها الحيوانات إلا في اكتافها. ولإبل الركوب ، أي الهجن ، منخار مثقوب ، على طريقة بعض الجواميس التي ترى في إيطاليا ويمرر في هذا الثقب شريط من الجلد يمكن بواسطته تدوير الجمل أو توجيهه كما يقاد الجواد باللجام. ويستعمل هؤلاء الناس لنومهم حصرا من خيزران ناعمة جدا. ويصنعون خيامهم من وبر الجمل ومن ألياف خشنة تنمو بين براعم النخيل العليا (١٣٧). أما غذاؤهم فلا يستطيع من لم يرهم أن يتصور مدى صبرهم على تحمل الجوع. فليس من عادتهم أكل الخبز أو أية وجبة مجهزة ، إذ يتغذون بحليب نوقهم. والعادة أن يشربوا صباحا صحفة كبيرة من الحليب الحار بمجرد خروجه من الضرع. أما في المساء فيتألف عشاؤهم من لحم مقدد مغلي في الحليب مع السمن. وعندما ينضج اللحم يتناول كل واحد نصيبه باليد. وبعد أن يأكل قطعة يشرب المرق مستخدما يده ملعقة. وبعد ذلك يرشف صحفة من الحليب وتنتهي الوجبة. وعندما يكون الحليب متوافرا لديهم لا يهتمون مطلقا بالماء ، ولا سيما في الربيع ، وهي الفترة التي لا يغسل فيها بعضهم يده ولا وجهه بالماء. وذلك لأنهم في هذا الفصل لا يقصدون مناطق تتوافر فيها المياه ، وهم ينزلون في هذه المناطق لتوافر الحليب عندهم من جهة ، ولأن الإبل من جهة أخرى لا تحتاج في هذا الفصل إلى الماء لأنها

__________________

(١٣٤) الرحلة.

(١٣٥) لم تعد هذه الطريقة دارجة في الصحراء الكبرى ـ ه. ل.H.LHOTE

(١٣٦) الذراع الروماني يساوي ٦٧ سم. وهذا المهماز اليدوي ـ ويدعى سكرد في لهجة تاماهاك ـ يستخدم عادة لدى العرب وأقل من ذلك بكثير عند الطوارق الشماليين ـ ه. ل.H.LHOTE

(١٣٧) ربما كانت هذه الخيام الموصوفة هي خيام البدو التي استطاع الحسن أن يراها في الجنوب المراكشي. أما خيام بدو الصحراء الغربية فتصنع من صوف الغنم والماعز ولا تحوي ألياف التخيل. ويستعمل الطوارق خياما من جلد باستثناء قبيلة كلوي وبعض جماعات كلكرس في مرتفعات آيير في أواسط الصحراء الكبرى ، كما أشار إلى ذلك الحسن عند كلامه عن هذه البلاد ، وخيامهم مصنوعة من الحصر ـ ه. ل H.L


تأكل حينئذ العشب الأخضر (١٣٨)

وتجري حياة هؤلاء البدو في الصيد أو في سرقة إبل أعدائهم. ولا يتوقفون في أي مكان أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام ، أي في أثناء الوقت الكافي لكي ترعى إبلهم العشب الذي تجده هناك.

ومع أننا ذكرنا أن هؤلاء لا يخضعون لنظام ولا قانون ، فإن لكل من هذه الأقوام أميرها ، وهو ملك يدينون له بالطاعة المطلقة ويؤدون له واجب الاحترام (١٣٩).

وهؤلاء أناس جهلة تماما لا يعرفون شيئا ، فهم لا يجهلون الآداب فحسب ، بل يجهلون كذلك الفنون وسائر المعارف الأخرى. ومن الصعوبة بمكان أن يعثر الإنسان في العشيرة كلها على حاكم يكون مؤهلا للفصل في نزاع ، حتى إن أحدهم لو تورط في دعوى أو كان ضحية أذى ما فإنه يكون مضطرا أن يمضي ستة أيام على الطريق فوق جمله كي يصل إلى خيمة القاضي. ويتأتى هذا الجهل عن أن هؤلاء الرجال لا يخصصون أي وقت للدراسات ولا يحبون الخروج من صحاريهم كي يتثقفوا. ولا يأتي القضاة إلا مكرهين عند هؤلاء الأوشاب ، وهم لا يستطيعون تحمل عاداتهم ونمط حياتهم. أما أولئك الذين يأتون إليهم راغبين فيتقاضون أجرا عاليا جدا ، إذ ينال كل واحد منهم ألفي دينار (١٤٠) فى العام أو أكثر أو أقل حسب تفاوت كفاءته.

ويلبس أشراف هؤلاء الرعاع فوق رؤوسهم ، كما قلت ، لثاما أسود يغطون وجوههم كلها بقسم منه حتى لا تظهر من خلاله سوى عيونهم ، ويحافظون على هذا الوضع حتى عندما يريدون تناول طعامهم. ففي كل مرة يتناولون فيها لقمة يكشفون عن فمهم ثم يسترونه في الحال. ويقدمون لتبرير هذه العادة الزعم التالي : كما أن من العيب بالنسبة للرجل أن يرى وهو يطرد غذاءه بعد هضمه ، وكذلك من المعيب أن يرى

__________________

(١٣٨) هذا صحيح تماما ، ويلاحظ في الشتاء عندما ترعى الإبل أعشابا غضة جدا تنمو في هذا الفصل كالجرجير واسمه اللاتيني :

Schouwia purpureaesp. Schimper

(H.L.).

(١٣٩) ويدعى آمينوكال عند الطوارق.

(١٤٠) أودوكا ، وإذا كان المؤلف يمثل الدوكا الإيطالي بالدنيار أو المثقال العربي ، فإن الدوكا الذهبي ، أوزكشيتو على الأصح والذي سكه البابا كليمنت الرابع في العصر الذي كتب فيه الحسن كتابه يعادل ٥ ، ٣ غرامات من الذهب (أي أن الدوكا الذهبي كان يعادل إذن حوالي ٧٥ ريالا سعوديا ، أو أقل من مائة ليرة سورية بقليل). (المترجم).


وهو يدخل الغذاء إلى جوفه (١٤١).

وتتميز نساؤهم ببدانة شديدة وبالسمنة ، ولكنهن غير بيضاوات كثيرا. ولهن كفل ناهد وسمين والثديان كذلك ، ولكن قوامهن دقيق للغاية (١٤٢) ، وهن سيدات لطيفات جدا.

وعند الحديث يمددن إليك أيديهن عن طيب خاطر. ويندفعن في الملاطفة أحيانا حتى السماح بتقبيلهن ، ولكن سيكون من الخطورة بمكان التمادي أكثر من ذلك ، لأن الرجال يقتتلون بلا رحمة مدفوعين بأسباب من هذا القبيل. وحول هذا الموضوع يظهرون أكثر تعقلا من بعض الناس منا. وهم يعزفون كل العزوف عن أن تظهر لهم قرون (١٤٣). وهو شعب مضياف جدا. ولا يستطيع إنسان أن يمر في مخيماتهم بسبب جفاف بقاعهم ، ولأنهم يتحاشون الطرق الرئيسية. ولكن القوافل التي تخترق صحاريهم مضطرة لدفع رسوم لأمرائهم ، وهي عبارة عن قطعة قماش ، تبلغ قيمتها دينارا واحد عن كل حمل جمل (١٤٤).

وقد مررت من هناك قبل بضعة أعوام ضمن قافلة مع مسافرين آخرين (١٤٥) ، وعندما بلغنا سهل أروان ، قدم أمير زناقه لملاقاتنا مصحوبا بخمسمائة رجل ، وكلهم على

__________________

(١٤١) لقد سردت أساطير عديدة حول قضية اللثام الذي يدعى بالبربرية تاغلموست. وكلها تكون أيضا اعتباطية وغير مقنعة. وسيكون من نافلة القول سردها جميعا. والطوارق أنفسهم يجهلون أصله ، ويظهر أنه لدفع أمر محرم حقيقي ألا وهو الفم أمام المرأة والأشخام المحترمين ، ولا يعرف العصر الذي شاع فيه استعماله ، ولا يشير المؤرخون القدامى إلى ذلك باستثناء كوريبوس الذي يقول ، في معرض كلامه عن الجتول ، إن لهم لثاما لستر وجوههم الشنيعة. وعلى خلاف ذلك فإن أوائل الرحالة العرب الذين توغلوا إلى غرب الصحراء الكبرى مثل ابن حوقل والبكري الخ يشيرون إلى ذلك. وعند ما يبلغ الولد سن البلوغ يبدأ وضع اللثام ويكون ذلك مناسبة لاحتفال عائلي صغير. فحتى ذلك الحين كان يعتبر طفلا ، ولكن لبس اللثام يدخله في عداد الأشخاص الكبار ويمنحه كل المزايا المترتبة على ذلك. وابتداء من ذلك الحين يستطيع أن يشترك في حملات الغزو وأن يتردد على النساء. وهناك مراجع عديدة بالفرنسية يمكن الرجوع إليها حول هذا الموضوع مذكورة بالنسخة الفرنسية.

(١٤٢) من المعروف أن النساء الموريتانيات والطوارق ، وبشكل خاص بين القبائل الأرستقراطية ، يلجأون عمدا للسمنة ، لأن البدانة تعتبر شيئا مرغوبا جدا بالنسبة للمرأة. ولتحقيق هذا الهدف يخضعن منذ الصغر إلى تغذية مفرطة ولا سيما من الحليب والدقيق ـ ه. ل HL

(١٤٣) تعبير لا يزال دارجا في بعض البلاد الأوربية والعربية ويقصد به الرجل الديوث. وهذا طابع مميز للأخلاق لدى الطوارق. ومن عاداتهم أن الرجال يستطيعون زيارة النساء بكل حرية ، حتى المتزوجات ، وأن يقوموا بنوع من مغازل خفيفة ، ولكن لا يجوز مطلقا أن يصل الأمر إلى اتصال جنسي ، خشية وقوع عقوبات قاسية صارمة ، قد تصل إلى الإعدام ، لا سيما بالنسبة للذين يضبطون متلبسين بهذا الجرم. ه. ل H.L

(١٤٤) هذه القطعة من القماش التي تبلغ قيمتها دينارا واحد تقريبا في مختلف العملات الأوربية ، والتي كانت تستخدم كعملة في الصحراء الكبرى ، كانت تدعى بوردا بالفرنسية.

(١٤٥) وربما كان ذلك في أثناء رحلته الثانية التي قام بها المؤلف إلى تومبوكتو في عام ١٥١٢ م أو ٩١٨ ه‍.


متن الهجن ، وبعد أن استلم منا العوائد دعا كل القافلة لمرافقته حتى خيامه والبقاء فيها مدة ثلاثة أيام كي تستريح. ولما كان مخيمه على مسافة ثمانين ميلا (١٤٦) خارج طريقنا ، ولما كانت جمالنا مثقلة بالأحمال ، لم يرغب التجار في قبول دعوته كيلا يطيلوا الطريق ، ولكن نظرا لإصرار الأمير على استضافتنا فقد تقرر أن يتابع الجمالة سفرهم مع حيواناتهم وأن يذهب التجار معه. وما إن بلغنا المخيم حتى أمر هذا الرجل الكريم بنحر بضعة جمال ، بين كبير وصغير ، ونفس العدد من الخراف وبعض طير النعام التي اقتنصها في أثناء الطريق. وذكر التجار للأمير بأنه لا داعي لذبح جمال ، إذ ليس من عادتهم أن يأكلوا غير لحم الخراف. فأجابهم بأن عادتهم لا ترى من المناسب الاكتفاء بذبح صغار الماشية في وليمة ، ولا سيما بالنسبة لنا باعتبارنا غرباء ، فضلا عن أننا نزلنا في مخيمه. وهكذا أكلنا ما قدم لنا. ولكن الطعام الرئيسي في هذه الوليمة كان يتألف من لحوم مشوية ومسلوقة. وكان اللحم المقدم على المائدة يتألف من شرائح متبلة بالأعشاب وبكمية طيبة من توابل بلاد السودان. وكان الخبز مصنوعا من دقيق غاية في النعومة من الذرة البيضاء والدخن. وفي نهاية الطعام قدمت لنا التمور بكثرة مع آنية كبيرة مليئة بالحليب. ورغب الأمير كثيرا في أن يشرف الوليمة بحضوره مع طائفة من سراة القوم من حاشيته وبعض أقاربه ، ولكنهم أكلوا على حدة. واستقدم بعض الفقهاء والأدباء الذين كانوا هناك وأجلسهم بجواره. ولم يمس أي نوميدي الخبز في أثناء الطعام ، إذ لم يتناولوا سوى اللحم والحليب.

وعند ما لاحظ الأمير علينا الدهشة والاستغراب الشديد ، راح يشرح لنا ذلك بكل ملاطفة قائلا : «إنه ولد في هذه الصحاري حيث لا ينبت أي نوع من الحبوب ، وأن الناس كانوا يتغذون بما تنتجه أرضهم. وقال لنا إنه يمتار كل سنة كمية من الحبوب كي يكرم الغرباء الذين يمرون ببلاده. غير أنه من الصحيح القول إن من عادتهم أكل الخبز في أيام بعض الأعياد الكبرى كعيد الفطر وعيد الأضحى (١٤٧).

وبعد أن أمسك بنا الأمير لمدة يومين في مخيمه وأحاطنا دوما بالكثير من الرعاية وعاملنا بإكرام وحفاوة ، سمح لنا بالذهاب في اليوم الثالث. وأراد أن يرافقنا شخصيا حتى القافلة. وسأقول لكم إن الحقيقة هي أن ثمن الحيوانات التي نحرها لإطعامنا كان

__________________

(١٤٦) أو ١٢٨ كم.

(١٤٧) ويدعي عيد تاباسكى في عدة بلاد سودانية أي جنوب الصحراء الكبرى.


يساوي عشرة أضعاف ما دفعناه له رسم مرور. وقد كان هذا الأمير نبيلا وبشوشا في تصرفه وفي حديثه. ونظرا لعدم فهمه لساننا ، وعدم فهمنا لغته ، فقد كان من اللازم أن يكون بيننا ترجمان. وهذا النمط من المعيشة والعادات التي وصفناها لدى هؤلاء القوم مطابق لما تسير عليه القبائل الأربع الأخرى المبعثرة في صحاري نوميديا.

نمط حياة العرب الذين يسكنون إفريقيا وعاداتهم

للعرب عادات مخثلفة وأنماط حياة متباينة بقدر اختلاف المناطق التي يسكنونها.

فالعرب الذين يعيشون في نوميديا وفي ليبيا يحيون حياة بائسة وهم في فقر شديد.

ولا يختلفون في ذلك عن السكان الأفارقة الذين سبق لنا الكلام عليهم. ولكن يمتازون عنهم بشجاعة كبيرة. ويمارسون تجارة الابل في بلاد السودان ولديهم أعداد كبيرة من الخيول ، تلك الخيول التي نسميها في أوربا الخيل العربية. ويذهب هؤلاء العرب باستمرار لصيد الوعل (١٤٨) ، والحمار الوحشي ، والنعام واللمت (١٤٩) ، والمها (١٥٠) والحيوانات الأخرى.

هذا ويجدر أن نشير إلى أن لدى القسم الأعظم من العرب في نوميديا شعراء مديدون ينظمون قصائد طويلة يتكلمون فيها عن حروبهم وعن قنصهم وعن أمور الحب وذلك مع أناقة وعذوبة كبيرتين وتكون الأبيات مقفاة كأبيات الشعر العامي في إيطاليا. وهؤلاء الناس كرماء ولكن ليس لديهم أي مورد لدعم شهرتهم وممارسة الكرم ، لأنهم يفتقرون إلى كل شىء في هذه الصحارى. ولباسهم مثل النوميديين. ونساؤهم وحدهن هن اللواتي يتميزن ببعض الاختلافات في اللباس عن النساء النوميديات ، أي البربريات.

وكانت الصحاري التي يسكنها هؤلاء العرب ، في الماضي ، بأيدي أقوام إفريقية ، ولكن حينما نفذت القبائل العربية إلى إفريقيا ، طردت منها النوميديين بقوة السلاح.

__________________

(١٤٨) لم يكن ثمة وعول في إفريقيا ، ويقصد المؤلف بذلك بعض الغزلان الضخمة المسماة ودّان في ليبيا أو غزال داما ـ وفي المناطق الأخرى يكون هذا الحيوان هو التيس الوحشي.

(١٤٩) وهو غزال ضخم يدعى أوريكس في اللغة الفرنسيةoryx

(١٥٠) أو الغزال الأبيض ويسمى أيضا بقر الوحش.


فاقاموا في الصحاري المجاورة لواحات النخيل ، في حين سكن النوميديون الصحاري المجاورة لبلاد السودان. (١٥١)

أما العرب الذين يسكنون أفريقيا بين جبال الأطلس والبحر المتوسط (١٥٢) فهم أفضل حالا وأكثر غنى من العرب السابقين وخاصة فيما يتعلق بكسائهم ، وبتجهيز خيولهم ، وبرونق خيامهم واتساعها. ولديهم أيضا خيول أكثر جمالا بكثير من خيول سكان الصحراء ، ولكن ليس لها نفس السرعة في العدو. ويحرث هؤلاء العرب أراضيهم ويستمدون منها الكثير من الحب ، ولديهم عدد لا يحصى من الأغنام والأبقار. وهذا هو السبب الذي يجعلهم يعجزون عن الاستقرار في بقعة واحدة ، إذ ليس هناك ما يكفي من الأرض لرعي مثل هذا العدد من الماشية ، غير أنهم مع هذا كرماء. ويخضع بعضهم ، أي أولئك الذين يسكنون مملكة فاس ، للملك ويدفعون له الضريبة. وظل عرب بوادي مراكش وعرب دكّالة بعض الوقت معفين من أي تكليف ، إلى أن احتل البرتغاليون اسفي وآزمور (١٥٣). وعندئذ انقسموا إلى أحزاب ووقعت فتن داخلية ، قام على أثرها ملك فاس (١٥٤) بإفناء أحد الأحزاب في حين قام ملك البرتغال (١٥٥) بتدمير الفريق الآخر. وفضلا عن ذلك فإن المجاعة التي سادت في السنوات الأخيرة في أفريقيا قد أرهقتهم كل الارهاق حتى أصبح هؤلاء الفقراء يهاجرون بمحض إرادتهم إلى البرتغال ويبيعون أنفسهم بيع الرقيق لمن يقدم لهم الطعام. وهكذا لم يبق أي واحد منهم في دكّالة (١٥٦).

__________________

(١٥١) إن تقهقر هؤلاء الصحراويين الملثمين ببطه هو واقع تاريخي : إذ يظن أن بعض القبائل كانت تستوطن شمالي الصحراء الكبرى في القرنين الثاني والثالث الميلادي ، ولكنها تزحزحت عن موطنها بضغط من زنانة البدوية ، وبعد الزحف الهلالي تقهقروا مرة أخرى بسبب التقدم العربي. غير أن هذا التراجع كان مختلفا باختلاف المناطق ، وكان واضحا في الصحراء الكبرى الغربية أكثر من الصحراء الكبرى الوسطى. ويبدو اليوم وذلك على ضوء الرسوم التي عثر عليها في الكهوف ، أن الناطقين بالبربرية بلغوا مالي وضفاف نهر النيجر قبل بضعة قرون من الميلاد. أما نفوذهم إلى غرب الصحراء الكبرى فقد كان متأخرا عن ذلك نسبيا.

(١٥٢) أي كل بلاد البربر أو برباريا بالفرنسية.

(١٥٣) لقد كان احتلال آسفي التي كانت تحت الحماية البرتغالية منذ السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر احتلالا حقيقيا في عام ١٥٠٨ م ، ووقع احتلال أزمور بتاريخ سيتمبر ١٥١٨ م.

(١٥٤) هو أبو عبد الله محمد البرتغالي.

(١٥٥) الملك عما نويل الأول.

(١٥٦) أثبتت وثائق المحفوظات البرتغالية أن الوضع الاقتصادي لم يكن كارثيا إلى هذا الحد في هذا الاقليم ، وكانت الهجرة محدودة بالتأكيد لأن القبائل العربية في ذلك العصر كانت كلها تقريبا في نفس مواقعها في أيامنا الحالية.


ولكن العرب الذين يشغلون الصحاري المجاورة لمملكتي تلمسان وتونس يعيشون جميعا حسب أسلوب شيوخهم. ويتلقى كل أمير من أمرائهم معونات هامة من الملك ويوزعها في عشيرته لتحاشى الشقاقات وللحفاظ على السلام وعلى الوحدة. ويجب هؤلاء العرب أن يظهروا بثياب جيدة وبأن تكون خيولهم جيدة التسريج. وخيامهم كبيرة وجميلة. ومن عادتهم أن يقصدوا تونس في كل صيف كي يمتاروا منها. وفي شهر تشرين الأول (أكتوبر) وبعد أن يكونوا قد حصلوا على كل ما هم بحاجة إليه من أقوات وأقمشة وسلاح يعودون أدراجهم إلى الصحراء حيث يمضون الشتاء. وبعدئذ أي في الربيع يتلهون بالصيد بواسطة كلاب وصقور ، ويطاردون في صيدهم كل نوع من الحيوانات أو الطيور البرية. وقد أقمت عندهم عدة مرات وحصلت منهم على الكثير من ألأقمشة واوعية من النحاس ومن النحاس الأصفر (١٥٧). ولكن لا ينبغي الاطمئنان إلى هؤلاء الناس ، لأنهم قد يسلبونك ويقتلونك مطمئنة نفوسهم إلى سلبك وقتلك على الرغم من المبالغة في مجاملتهم لك.

وهم يحبون القريض ويرددون في عربيتهم الدارجة ابياتا انيقة جدا على الرغم من ان لهجتهم قد حرفت عن اصولها. ويحترم الامراء أي شاعر له بعض الشهرة ويمنحونه جوائز جزيلة. ولست قادرا على التعبير عن النقاوة والجمال اللذين يسكبونهما في ابياتهم. وتكتسي نساء هؤلاء الاعراب كساء جميلا للغاية حسب طراز البلاد. وتتألف ثيابهن من قميص اسود عريض الكمّين يضعن فوقه خمارا من نفس اللون او من لون ازرق. ويتغطين بهذا الخمار ويلففن به اجسادهن بصورة تصل معها حافته الى الكتفين من امام ومن خلف ، وهنا يكون مثبتا بدبابيس فضية مصنوعة بشكل فني رفيع. ويضعن في آذانهن اقراطا من فضة على شكل حلقات وخواتم في اصابعهن. ويضعن كذلك في سيقانهن خلاخيل طبقا لعادة الافارقة. ويضعن على وجوههن نقابا هو عبارة عن قطعة قماش صغيرة مثقوبة تجاه العينين. وعندما يظهر امامهن رجل غريب لا يمت لهن بصلة قرابة ، فانهن يسرعن في اخفاء وجوههن بهذا الحجاب ويصمتن. ولكن يرفعن هذا الحجاب عندما يكن مغ از وجهن واقاربهن.

ولما كان العرب ينتجعون من مكان لآخر ، فهم يعمدون الى إركاب نسائهم فوق

__________________

(١٥٧) يمكن الافتراض أن المؤلف يقدم لنا لوحة صغيرة عما لاحظه عند عرب عشرة حكم ، أو الحكم ، أو الحاكم الذين كانوا يقيمون بين سوسه والجم والتي اعتبرها في عداد القبائل التي قدمت مع الزحف الهلالي.


نوع من سروج مصنوعة على شكل قفة مغطاة بزرابي بديعة جدا (١٥٨) ، وهذه القفاف صغيرة جدا حتى إنها لا تتسع لأكثر من امرأة واحدة. وعندما ينفرون لحروبهم ينطلقون إليها بصحبة نسائهم كي يستمدوا من وجودهن الشجاعة وحتى يذهب عنهن أكبر قدر من الخوف (١٥٩).

ومن عاداتهن أن تخضب المرأة وجهها وصدرها وذراعها ويديها حتى نهاية الأصابع ، وذلك قبل الذهاب لرؤية زوجها ، لأن في ذلك تعبيرا عن الذوق الرفيع للغاية. وقد انتقلت هذه العادة إلى عرب إفريقيا بعد أن جاءوا ليستوطنوا فيها ولم تكن معروفة لديهم قبل ذلك. ولكن هذه العادة غير مألوفة عند سكان المدن ولا عند وجهاء البربر إذ تحتفظ نساؤهم ببياض وجوههن الطبيعي. ولكن من الصحيح القول أيضا بأن نساءهم تستعملن خضابا مركبا من سخام الدخان لجوز العفص او الزعفران يضعن منه فوق وسط الخد ، ويرسمن به زينة مدورة كالدرهم كما يرسمن به مثلثا فوق الحاجب. أما على الذقن فيرسمن شكلا يماثل ورقة الزيتون. وتعمد بعضهن إلى صبغ الحواجب تماما (١٦٠). ويمدح الشعراء العرب والوجهاء هذا الزي كما نعتبره النسوة نوعا من الأناقة والظرف. ولكنهن لا يحتفظن بهذا الخضاب لأكثر من يومين أو ثلاثة لأنهن لا يستطعن مقابلة الأبوين ما دام على وجوههن. ولكن للزوج وللأبناء الحق في رؤية المرأة في هذه الحالة ، لأنهن يصنعن هذا كي بصبحن أكثر إثارة ، ويتصورن أن هذا الزي يؤدي لزيادة جمالهن بشكل فريد.

العرب الذين يسكنون الصحارى الواقعة بين بلاد البربر ومصر

تبدو حياة هؤلاء العرب بائسة تماما لأن الأصقاع التي يسكنونها عقيمة وكالحة.

__________________

(١٥٨) وهو الهودج.

(١٥٩) تدعى هذه القفة باصور وهي لا تزال دارجة الاستعمال ومتنوعة الشكل والأبعاد باختلاف القبائل ، ولمعظمها مقعدان ، وتعنى كلمة باصور عند قبائل المغرب ما يفيد الرصد من بعيد ، أو مرصد. وفي أيام الاحتفالات الحالية التي تجري في جنوب الجزائر ، والتي فيها تمثيل للمعارك الحربية بين الاعراب ، يحارب الرجال بعضهم بعضا وهم فوق خيولهم ، في حين تظل النساء معتكفات ضمن البواصير فوق جمال مزدانة بأبهة ، وهن يشهدن الهجمات الحماسية التي يقوم بها المحاربون ويطلقن زغاريد حادة.

(١٦٠) «وهي عادة كانت مألوفة حتى حوالي ثلاثين عاما لدى نساء بلاد الشام ، وهذا الخضاب المصنوع من دخان العفص كان يسمى الخطاط ...» (المترجم)


ولديهم أغنام وإبل ولكنها لا تنتج سوى القليل بسبب ضآلة كمية المرعى. ورغم امتداد مجال تجوالهم فليس فيه أية أرض صالحة للزراعة. ومع ذلك نجد في هذه الصحارى بعض القرى الصغيرة التي تشابه المداشر (١٦١) حيث تقوم بعض حدائق النخيل الضئيلة جدا ، وهنا يزرع قليل من القمح بل إن ما يزرع منه ليس شيئا مذكورا ، ومن أجل ذلك يكون سكان هذه المداشر مرهقين بالهموم والمشاكل الناجمة عن هيمنة العرب عليهم. وكثيرا ما يأتي هؤلاء لمقايضة إبلهم وأغنامهم بالقمح ، غير أن كمية القمح ضئيلة جدا بحيث لا تكفي لعدد ضخم كهؤلاء. وينجم عن ذلك ان نجد في أغلب الأوقات ، كثيرا من أبناء هؤلاء العرب عند الصقليين (١٦٢) وقد تركوهم ضمانة ورهائن مقابل القمح الذي اقترضه هؤلاء الفقراء. وإذا عجزوا عن تسديد المبلغ المطلوب في نهاية المدة المحددة في السوق ، يحتفظ الدائنون بالأولاد عبيدا لهم. وإذا رغب آباؤهم بافتدائهم فعليهم ان يدفعوا ثلاثة أمثال مبلغ الدين ، ولهذا يضطرون غالبا الى التنازل عنهم ، ويؤدي هذا الى أن هؤلاء العرب قد أصبحوا من أكثر القتلة في العالم شراسة. وكل غريب يقع في أيديهم يتعرض أولا لتجريده من كل ما يمكن ان يكون عليه ثم يباع الى الصقليين. ولم تعد أية قافلة تجرؤ على المرور من الساحل الذي يحاذي الصحراء التي يعيش فيها هؤلاء منذ مائة عام. وعندما يكون على قافلة ان تجتاز البلاد فعليها ان تمر من الداخل على مسافة ٥٠٠ ميل تقريبا من البحر (١٦٣)

وللتخلص من مخاطر هذا اللقاء ، فقد واكبت كل ذلك الساحل عن طريق البحر مع ثلاثة مراكب تجارية. (١٦٤) وعندما رآنا العرب تراكضوا نحو المرسي بدعوى انهم يرغبون عقد صفقات معنا يمكن ان تكون مفيدة لنا ولكن سوء ظننا بهم لم يشجع أي إنسان منا على النزول الى البر قبل ان يضعوا بعض أبنائهم بين أيدينا ضمانا. وبعد حصولنا على ذلك اشترينا كمية صغيرة من خرافهم ومن سمنهم وأقلعنا بسرعة ، خشية ان يدركنا قراصنة صقلية او جزيرة رودس.

__________________

(١٦١) جمع مدشر وهو عبارة عن تجمع يضم بضعة بيوت للفلاحين لا تتجاوز العشرة. وليس فيها مسجد أو سوق. وهي كلمة مغربية استخدمها مؤرخو المغرب ومنهم ابن خلدون

(١٦٢) أي نصارى صقلية.

(١٦٣) أي من الطريق الذي يمتد من خليج سيرت الكبير الى مصر عن طريق واحات أوجلة وجغبوب وسيوه ، على مسافة ٤٠٠ كم من الساحل. وإلا فعن طريق التشاد ودارفور.

(١٦٤) ربما كانت هذه هي آخر مرة عاد فيها المؤلف من مصر.


الشاويّة أي أرباب الشاة

سكان إفريقيا الذين يعيشون على النمط العربي

هناك بضع عشائر إفريقية تهتم بتربية الأغنام والبقر وهم لا يقومون بأي عمل آخر بقية اليوم. ويسكن معظم هؤلاء عند حضيض جبال الاطلس وفي الجبال نفسها. ويكون هؤلاء دوما ، وأينما كانوا ، في طاعة الملك أو العرب. واستثنى منهم أولئك الذين يعيشون في نامسنة الذين هم أحرار وأقوياء جدا ، (١٦٥) ويتكلم هؤلاء اللغة الافريقية ، (١٦٦) ويتكلم بعضهم العربية بسبب جوار العرب وعلاقاتهم بهم : تلك هي حالة الذين يسكنون أرياف لوربس (١٦٧) في جوار مدينة تونس. وتوجد مجموعة أخرى منهم تشغل منطقة نحوم تونس مع بلاد التمور (١٦٨) وبلغت الجرأة بهؤلاء أن يتصدوا لمحاربة ملك تونس ، كما حدث منذ عدة أعوام. ففي هذه الفترة ذهب ابن ملك تونس من قسنطينة لتحصيل الضريبة منهم في مضاربهم (١٦٩) فتعرض للهجوم من أميرهم (١٧٠) الذي اعترض ابن الملك مع ألفي فارس. وقد انكسرت قوات ابن الملك ، وقتل ونهبت القافلة. وقد حدث هذا في العام ٩١٥ للهجرة. (١٧١) وعلى أثر اندحار الجيش الملكي أخذ اسم هذه العشيرة في الصعود واكتسبت شهرة كبيرة بين الجميع. واختفى كثير من العرب الذين كانوا في خدمة الملك التونسي إذا نسحبوا من المناطق الخاضعة للملك وجاءوا ليسكنوا الى جانب المنتصرين ، حتى لقد أصبح هذا الأمير (١٧٢) اشهر زعماء إفريقيا.

ديانات قدامى الأفارقة

كان الأفارقة في قديم الزمان مجوسا على غرار الفرس الذين يعبدون الشمس

__________________

(١٦٥) وجاء من اسم الشاوية ، أي رعاة الشاة ، أو الشوايا في سورية ، اسم إقليم الشاوية في المملكة المغربية والذي كان يدعى في الماضي تامسنه. أي السهل الواقع شمال نهر أم الربيع والى الجنوب الشرقي من مدينة الدار البيضاء (المترجم).

(١٦٦) أي البربرية.

(١٦٧) وربما كانت مدينة قربص.

(١٦٨) شاوية الأوراس وجنوب شرق ولاية قسنطينة.

(١٦٩) كان حاكم قسنطينة الناصر ابن سلطان تونس أبو عبد الله محمد.

(١٧٠) النصر.

(١٧١) أبين ٢١ / ٤ / ١٥٠٩ و ٨ / ٤ / ١٥١٠ م

(١٧٢) أي النصر نفسه.


والنار. وكان لديهم معابد مزدانة تكريما لهذه وتلك. وكانوا يوقدون في هذه المعابد على الدوام نارا تحرس ليلا ونهارا كيلا تخمد كما كانت العادة لدى الرومان الذين يصنعون نفس الشيء في هيكل الآلهة فستا (١٧٣) وكذلك يبدو من المؤكد ان أفارقة نوميديا وليبيا كانوا يعبدون الكواكب السيارة ، وكانوا يقدمون لها القرابين. وكان بعض الأفارقة السود يعبدون جويجيمو ، ويعني في لسانهم رب السماء (١٧٤). ولقد سادت لديهم هذه الاتجاهات الدينية بدون أن يأخذوها عن نبي وعن عالم. وبعد مضى بعض الوقت اعتنقوا الديانة اليهودية ، التي ظلوا متمسكين بها سنين عديدة إلى أن أصبحت بعض الممالك نصرانية. (١٧٥) وظلوا أوفياء للإيمان المسيحي الى أن حدث تمرد من أتباع نحلة اسلامية عام ٢٦٨ للهجرة وحينئذ قدم بعض أتباع الشريعة المحمدية ونشروا الدعوة في هذه المناطق واستطاعوا بالحكمة والموعظة الحسنة كسب قلوب هؤلاء الأفارقة لدينهم ، الى أن أصبحت الممالك الزنجية المتاخمة إلى ليبيا مسلمة (١٧٦). غير اننا لا نزال نجد بضع ممالك ظل السود فيها ولا يزالون نصارى (١٧٧) ، واليهود وحدهم الذين تم القضاء عليهم على أيدي النصارى والأفارقة (١٧٨) ، أما بقية الزنوج الذين يسكنون على حافة المحيط فلا يزالون وثنيين يعبدون الاصنام وقد رآهم العديدون من البرتغاليين ، وكان لهم مع هؤلاء بعض العلاقات التجارية.

وقد ظل سكان بلاد البربر وثنيين لمدة طويلة ، وأصبحوا نصارى قبل مائتين

__________________

(١٧٣) وكلامه هنا موضع شك كبير لأن الحسن (يقصد المؤلف) يطبق على أفريقيا الشمالية ما كان يعرفه عن ديانة الفرس.

(١٧٤) من المحتمل ان يكون هذا الاسم «ويغيما» ، وهو اسم مجهول لنا.

(١٧٥) لقد كانت بعض جماعات البربر متهودة ، ولكن تنصر البلاد كان سطحيا فيما يظهر فيما عدا العنصر المتأثر بالرومان ، ولم يكتب للجماعات النصرانية في افريقيا الشمالية أن تعيش طويلا بعد دخول أهل هذه البلاد في الإسلام.

(١٧٦) يطابق التاريخ المذكور أي ٢٦٨ ه‍ الفترة الواقعة بين ١ / ٨ / ٨٨١ م و ٢٠ / ٧ / ٨٨٢ م. وفي هذه الفترة كانت دعوة الشيعة ، من أنصار الخليفة علي وأحفاده ، ومن خصوم أهل السنة ، دعوة نشيطة جدا. وكان أحد فروع هذا المذهب ، وهو المذهب الفاطمي ، وقد ابتعث الى كل أرجاء العالم الاسلامي ، دعاة فقهاء ، وقد تمكن الداعي ابو عبد الله أن يكسب لجانبه قبيلة كتامة التي كانت تسكن بجوار مدينة ستيف فدخلت في هذا المذهب ، وفتح افريقية وهيأ لظهور الخلافة الفاطمية في القيروان ، وبذلك أصبح شهيرا. ويظهر ان المؤلف قد نسب لهؤلاء الدعاة دخول الأقوام السود في الإسلام والواقع أن اعتناق هؤلاء الدين الحنيف كان على أيدي تجار قادمين من الشمال ، في المرحلة التي أخذت التجارة تنهض في أثنائها ببط في بلادهم.

(١٧٧) وفي ذلك اشارة الى النوبة حيث ظلت مملكة علوة النصرانية قائمة حتى عام ١٥٠٤ م والى الحبشة التي كانت دائما نصرانية.

(١٧٨) أي مسلمو المغرب ولكن هذا لم يمنع من أن تظل في المغرب أعداد كبيرة منهم.


وخمسين عاما من ولادة الرسول (١٧٩) وذلك لأن المنطقة التي تقع فيها تونس وطرابلس كانت واقعة تحت هيمة أمراء بوليا وصقلية ، في حين كان ساحل قيصرية وموريتانيا تحت سيطرة القوط (١٨٠) ، وفي ذلك العصر أيضا هرب الكثير من الأمراء النصارى من جبروت القوط ، وهجروا مناطقهم الوادعة وجاءوا ليسكنوا ضواحي قرطاج حيث اتخذوا على أثر ذلك ملكيات لانفسهم. ولكن يجب ان نعرف ان هؤلاء النصارى اعتنقوا مذهب الأريوسيين الذين كان ينتسب اليهم القديس أو غسطين (١٨١). وعندما جاء العرب لفتح بلاد البربر ، وجدوا النصارى قد أصبحوا سادة وأمراء هذه المناطق. كما كان ينشب بينهم الكثير من الحروب ، ولكن أراد الله أن يمنح النصر للعرب. وهكذا هرب بعض الآريوسيين الى ايطاليا وبعضهم الى اسبانيا. (١٨٢)

وبعد مائتي عام من وفاة محمد (١٨٣) كانت بلاد البربر قد أصبحت جميعا تدين بالإسلام صحيح ان أهل هذه البلاد قد ثاروا عدة مرات وتنكروا لدين محمد صلّى الله عليه وسلّم وقتلو رجال دينهم وحكامهم (١٨٤). ولكن الخلفاء كانوا يرسلون جيوشا ضد البربر في كل مرة تبلغ فيها مسامعهم انباء هذه الانتفاضات ، واستمر هذا الامر حتى وصول الشيعة الذين هربوا من الخلفاء. وعندئذ فقط تمكنت الديانة الاسلامية من ترسيخ جذورها نهائيا في

__________________

(١٧٩) من المسلم به على العموم أن الرسول ولد بتاريخ ٢٠ نيسان (إبريل) ٥٧١ حسب التاريخ المسيحي. وقد ظهرت كنيسة المغرب النصرانية في عصر شهداء سيللي ومادور سنة ١٨٠ م. وفي سنة ١٩٧ م استطاع أغربينوس ، مطران قرطاج ان يدعو لمجمع ضم سبعين مطرانا من نوميديا ومن ولاية الشمال التونسي الرومانية.

(١٨٠) هذه المعطيات التاريخية غير صحيحة ، ولا يزال تاريخ تنصر البربر غامضا جدا ، ومن المفروض أن الدعوة للنصرانية كانت تجري في الكنائس بين الجماعات اليهودية التي كانت كبيرة العدد جدا حينذاك. ويقصد الحسن بالقوط الفندال.

(١٨١) وهنا ارتكب المؤلف خطأ تاريخيا شنيعا ، ويرجع ذلك الى أنه كان حديث عهد باعتناق النصرانية ، وذلك ان القديس أو غسطين الفظ ـ على عكس ما زعمه المؤلف ـ كان من ألد خصوم المذهب الأريوسي.

(١٨٢) والأريوسيون هم من أتباع آريوس الذي أنكر ألوهية المسيح ، وقد ظهر المذهب بين عام ٣١٣ و ٣٢٣ م على يد آريوس وهو كاهن كان ملحقا بكنيسة الاسكندرية وعاضده عدة أباطرة من الرومان ، وبضعة ملوك من البرابرة وزعرع سلطة الكثلكة فترة من الزمن. وقد حكم عليه في مجمع تيقية (ازنيك في تركيا) عام ٣٢٥ م ... (المترجم).

(١٨٣) كان ذلك بتاريخ ٧ أو ٨ حزيران (يونيه) ٦٣٢ م ، ويشاء القدر ان تحدث معركة بواتييه عام ٧٣٢ م ، أي بعد قرن كامل من انتقال الرسول الى الرفيق الأعلى (المترجم).

(١٨٤) لا يجهل المؤلف ابدا بأنه لا يوجد رجال دين متخصصون في الدين الإسلامي ، بل هناك من عامة الناس أناس تفقهوا في الدين وعهد اليهم بوظائف العبادة. ويضم ذلك مختلف الموظفين الدينيين من أئمة وخطباء ومؤذنين وقضاة ورجال الإفتاء.


هذه البلاد. (١٨٥)

غير أنه كانت هناك بين البربر ولا زالت بدع جديدة ومذاهب شتى. وآمل ان أتمكن بعون الله عن معالجة كاملة لقضية الدين الإسلامي في كتاب آخر عند فراغي من هذا ، وذلك فيما يتعلق بالنقاط الجوهرية والاختلافات التي تلاحظ في مجال هذا الدين بين مسلمي افريقيا ومسلمي آسيا. (١٨٦)

الكتابة التي يستعملها الأفارقة

يعتقد المؤرخون العرب بصورة جازمة أن الأفارقة لم يكن عندهم اية كتابة سوى الحروف اللاتينية. ويقولون ان العرب عندما فتحوا افريقيا لم يعثروا فيها على كتابة بغير اللاتينية. وهم يقرون تماما بأن للأفارقة لغة خاصة بهم ، ولكنهم يلاحظون انهم يستخدمون الحروف اللاتينية على العموم ، تماما كما يفعل الالمان في أوربا فكل الكتب التي بحوزة العرب عن افريقيا مترجمة عن اللغة اللاتينية. وهي مؤلفات قديمة كتبت طبعا في عصر الآريوسيين وغيرهم من قبل. وأسماء مؤلفيها معروفة ولكنني لا أذكرهم الآن. وأعتقد ان هذه المؤلفات كانت طويلة جدا ، لأن من عادة مترجميها القول : «ان تلك القضية معروضة في ستين كتابا». والحقيقة ان العرب لم يترجموا هذه الكتب حسب

__________________

(١٨٥) يظهران عرب الفتح لم يرغبوا في أكثر من دخول الزعماء المحليين في الإسلام ، فعلى الرغم من الدعوة الإسلامية ، لم يكن من مصلحتهم أن يتلاشى النصارى واليهود ، وهم الذين يدفعون الضرائب ويزاولون المهن. إذن كانت الرافضة المشارقة ، وقد وصل هؤلاء وهم مفعمون بإيمانهم الجديد ، وراغبون في الحصول على قوى دفاعية هجومية فقاموا بدعاية مكثفة. وكان اول من وصل على وجه الدقة ، أي اللاجئون الى المغرب بسبب الاضطهاد وهم الذين ادخلوا جماهير البربر الإسلام ، الى جنوب بلاد البربر ، الخوارج حوالي القرن السابع الميلادي ، ومنذ عام ٧٤٠ م كان لهم أتباع امتدوا حتى طنجة ، كما كان منهم بين جيوش المسلمين في اسبانيا. وفي ٧٥٧ م أسسوا الإمارة الصفرية في سجلماسة ، وفي ٧٦١ م أسسوا الخلافة الأباضية الوهبية في تاهرت. ويعتقد عموما أن البربر الذين اصبحوا امام الخيار بين الإسلام السني والعقيدة الخارجية التي جاء بها اللاجئون السياسيون ، رجحوا الأخيرة ، لأنها اكثر انسجاما مع مزاجهم الديمقراطي والعصيان. وهذا الخيار لم يعرض عليهم إذ كانت الدعاية الإسلامية الخوارجية اكثر نشاطا واتساعا بما لا يقاس من الدعوة السنية ، ولا سيما في الجنوب. وإذا كان اليهود قد ناهضوا الدعوة بنوعيها فإن النصارى لم يكونوا يشكلون أكثر من جماعات محلية راحت تتفتت وتتلاشى تدريجيا. وقد خمد آخرها حوالي القرن الحادي عشر أو الثاني عشر ، ونالت الضربة القاضية على يد حركة المرابطين الإصلاحية.

(١٨٦) وسنرى فيما بعد ان المؤلف قد وضع هذا المشروع قيد التنفيذ في نفس الوقت الذي كان يدبج فيه «الوصف» الذي بين ايدينا.


النسقى الذي تركه عليه مؤلفوها. إذ رتبوا لوحة موجزة عن الملوك وصنفوا كتبهم استنادا اليها ووزعوا الحقب المتعلقة بهؤلاء الملوك والأمراء ، وذلك بالتوافق مع علم تأريخ ملوك الفرس ، أو آشور ، أو الكلدان ، أو اسرائيل.

ففي الزمن الذي كان يحكم فيه الرافضة افريقيا سمعت من اولئك الذين هربوا من خلفاء بغداد ان هؤلاء الخلفاء كانوا يحرقون كتب الأفارقة العلمية والتاريخية لظنهم ان هذه المؤلفات من شأنها ان تثبت الافارقة في صلفهم القديم ، وانها قد تدفعهم للتمرد على الاسلام والتنكر لمعتقداته (١٨٧) ويقول بعض مؤرخينا الآخرين أنه كان للأفارقة لغة خاصة بهم مكتوبة ولكنهم اضاعوا هذه الكتابة في أعقاب الحكم الروماني لبلاد البربر ، وبسبب تطاول الأمد لهيمنة النصارى الذين فروا الى ايطاليا ، ثم القوط من بعدهم (١٨٨) وتضطر الرعايا الى اتباع عادات سادتهم اذا ما أرادوا كسب رضاهم. وهذا هو ما وقع للفرس تحت الحكم العربي ، فهؤلاء ايضا أضاعوا كتابتهم وأحرقت كل كتبهم بأمر من الخلفاء المسلمين ، الذين حسبوا انه ما دامت في أيدي الفرس كتب عن العلوم الطبيعية ، والقانون ، والديانة الوثنية ، فلن يستطيعوا ان يصبحوا مسلمين راشدين. فأحرقوا كل هذه الكتب وحظروا ممارسة هذه العلوم (*) ويقال ان الرومان والقوط فعلوا نفس الشيء عندما حكموا بلاد البربر.

ويبدو أن البرهان التالي كاف : ففي كل بلاد البربر ، سواء كانت من مدن الساحل أو مدن الداخل ، وأقصد بذلك المدن التي شيدت في العصر القديم ، لا نجد كتابة يمكن رؤيتها فوق القبور أو فوق جدران عمارة ما بغير الحروف اللاتينية ، وهذا بدون استثناء. ولا أتصور من جهة اخرى ان الأفارقة استخدموا هذه الحروف وانهم استعانوا بها لكتابة لغتهم الخاصة. وليس ثم شك في أن الرومان عندما انتزعوا هذه البقاع من اعدائهم قد

__________________

(١٨٧) من المحتمل أن أوامر كهذه قد صدرت في القرن الثامن الميلادي عن ملوك من الخوارج وفي القرن التاسع الميلادي من قبل الامراء العلويين ولكن التعصب ولا سيما الجهل والتهاون الشعبي كل ذلك يكفي لتفسير اختفاء مؤلفات القذامى وهو أمر حدث مثله في أوربا ايضا لا سيما في الأندلس بعد خروج المسلمين.

(١٨٨) ويغلب على الظن أن هذه الكتابة المعينة هي الكتابة الليبية البربرية التي تثبتت حتى أيامنا لدى الطوارق على شكلها الحديث وهي المسماة التفيناغ. وعلى كل حال فمن المشكوك فيه ان تكون قد ظهرت مؤلفات هامة مكتوبة بحروف ليبية بربرية ، وربما المقصود بذلك الكتابة البونية (الفينيقية الافريقية) التي كانت منتشرة حول قرطاج ، والتي كان لها انتشار كبير في أفريقيا الشمالية ، والتي ظلت دارجة مدة طويلة بعد خراب المدينة المذكورة.

(*) هذه فرية وضيعة على الإسلام والمسلمين. وقد افترى مثلها فيما يتعلق بحريق مكتبة الاسكندرية (المراجع).


اتلفوا كل الكتابات التي تحمل اسماء المغلوبين بكتابتهم الخاصة وذلك كي يهينوا هؤلاء فضلا عن أنهم استبدلوا بها كتابتهم. وهكذا انتزعوا في نفس الوقت ، عدا كرامة الأفارقة ، كل ذكرى عن ماضيهم كي لا يتركوا سوى ذكر الشعب الروماني. وهذا ما أراد فعله ايضا القوط بالنسبة للرومان وما فعله العرب بالنسبة للمخلفات الفارسية. وهذا ما يصنعه اليوم الاتراك في المواقع التي يستخلصونها من النصارى إذ لا يقومون باتلاف الذكريات الجميلة فحسب بل الأسماء المجيدة ، وحتى صور القديسين والقديسات التي توجد في الكنائس (١٨٩) ألسنا نرى في روما نفسها ، وفي زمننا هذا نفسه ، عمارة فخمة (١٩٠) اقيمت بنفقات ضخمة ، ولم يكمل بناؤها بعد موت البابا الذي بدأ تشييدها في عهده؟ ، وذلك ان خليفته اما ان يعمد الى هدمها كي يشرع ببناء جديد او يقوم بعد استكمال بنائها بنزع شعارات الحبر المتوفي كي يضع مكانها شعاراته بدعوى أنه أضاف شيئا ما الى البناء المذكور ، أو يعمد أيضا ، هذا إذا كان منصفا ، الى ترك شعارات سلفه ويضع شعاراته الخاصة فوقها ، مع كتابات طويلة «في المسطرة وفي الفرجار» في مكان الشرف." ولهذا لا داعي للدهشة من ضياع الكتابة الافريقية منذ تسعمائة سنة وان الأفارقة يستعملون الحروف العربية. وقد كتب المؤلف الافريقي إبن رقيق في تاريخه بحثا طويلا تساءل فيه عما اذا كان للأفارقة كتابة خاصة بهم أم لا. وخلص الى أن هؤلاء كانت لهم كتابة ، ذاهبا الى ان من ينكر عليهم ذلك يستطيع ان ينكر عليهم ايضا لسانهم الخاص بهم وبالاضافة الى ذلك يقول ان من المستحيل على شعب له لغة خاصة به ان يستخدم في كتابته حروفا أجنبية. (١٩١).

__________________

(١٨٩) هذه الحالة لم تكن عامة. فقد لاحظنا بأنفسنا في كاتدرائية القديس نيقولا ، في فاماغوستا في شرق قبرص ، الذي تحول وسطها الى جامع وتم كساؤه بالكلس لهذه الغاية ، أن صور جدران صدر الكنيسة التي تمثل قديسين واقفين ، ظلت محترمة ومحفوظة في حالة طيبة جدا ، هذا علما بأن فاماغوستا هذه لم تسقط بيد الاتراك الذين انتزعوها من البنادقة إلا في عام ١٥٧١ م «ويصح هذا أيضا بالنسبة لصور جدران كنيسة أيا صوفيا في الآستانة التي ظلت ماثلة وطلى بعضها بالجص رغم تحويل الكنيسة الى جامع طيلة حكم الخلفاء العثمانيين (المترجم)»

(١٩٠) اشارة الى بناء كنيسة القديس بطرس في روما ، الذي استأنفه البابا جول الثاني الذي تسنم منصبه بين ١٥٠٣ و ١٥١٣ م.

(١٩١) يبرهن هذا الفصل على أن الكتابة الليبية والبونية وحتى اليونانية كانت مجهولة في عصر المؤلف ، وسيظل الناس دوما لا يعرفون ما اذا كانت بعض كتب مكتبة الملك البربري هيمبال ، في القرن الأول قبل الميلاد ، مكتوبة بحروف ليبية ، وهذا غير محتمل وعلى كل فان هذه الكتابة كانت منتشرة حتى جزر كناري (الخالدات) وفي أواسط الصحراء الكبرى وغربيها وتعتبر كتابة الطوارق تيفيناغ مشتقة منها.


مواقع إفريقيا

كما تنقسم افريقيا الى أربعة اجزاء ، فإن كل جزء فيها يحتوي على طابع مختلف. فساحل البحر الابيض المتوسط من جبل طارق حتى تخوم مصر يكون مشغولا بجبال تمتد في اتجاه الجنوب على مسافة مائة ميل (١٩٢) وأكثر من ذلك في بعض النقاط ، وأقل من ذلك في أخرى. وبين هذه الجبال الى جبال الاطلس توجد سهول وبعض التلال. وفي كل جبال هذا الساحل تشكل الينابيع العديدة انهارا صغيرة بديعة المنظر.

وفيما وراء هذه السهول وهذه التلال تقع جبال الاطلس التي تبدأ عند المحيط غربا وتمتد نحو الشرق حتى قرب مصر (١٩٣) ، وبعد جبال الاطلس تقع سهول نوميديا ، حيث ينمو النخيل ، وهنا تكون البلاد رملية برمتها. وبعد نوميديا تقع صحاري ليبيا التي تكون بدورها رملية حتى بلاد السودان. وتوجد جبال كثيرة في هذه الصحاري. ولكن التجار لا يخترقونها في الطريق الذي يسلكون فيه ، اذ توجد بين هذه الجبال ممرات عديدة ، عريضة ومنبسطة.

وتقع بلاد السودان بعد صحاري ليبيا ، ويكون القسم الاعظم منها عبارة عن سهل رملي ، باستثناء ضفاف النيجر وكل النقاط التي تبلغها مياهه وتبلل ثراها.

الأماكن الموحشة والثلجيّة في إفريقيا

إن كل ساحل بلاد البربر والبلاد الواقعة فيه عبارة عن منطقة تميل للبرودة. ففيها فصل يتساقط فيه الثلج. وتنبت في كل هذه الجبال الحبوب والثمار ، غير ان القمح لا ينجح فيها إلا بكميات قليلة ، ويأكل الناس خبز الشعير في معظم أيام السنة. ويكون لماء الينابيع فيها طعم التراب. وتكاد تكون كلها عكرة المياه لا سيما في القسم الذي يحاذي موريتانيا. وتوجد في هذه الجبال غابات كثيفة مؤلفة من أشجار كبيرة ، تعج معظمها بالحيوانات ، منها النافع ومنها الضار. ولكن لكل التلال الصغيرة والسهول الواقعة بين

__________________

(١٩٢) ١٦٠ كيلومتر.

(١٩٣) «وهذا غير صحيح اذ تنتهي جبال الاطلس في تونس. ولكن المؤلف يعتبر جبال طرابلس ويرقة امتدادا لجبال الاطلس» (المترجم).


هذه الجبال (١٩٤) وجبال الأطلس تربة ممتازة تنتج مقادير كبيرة من الحبوب والثمار الجيدة. وتجري بين هذه التلال ومن خلال هذه السهول كل الأنهار التي تهبط من جبال الأطلس ذاهبة الى البحر المتوسط ، ولكن لا يوجد في هذا النطاق سوى القليل من الغابات. وأجود هذه السهول هي التي تقع بين جبال الاطلس والمحيط ، كمنطقة مراكش وإقليم دكاله ، وكل التادلة وتامسنه (١٩٥) مع أزغار حتى مضيق جبل طارق.

وجبل الأطلس بارد وعقيم. وينبت فيه القليل من الحب. ونجد فيه غابات كثيفة في كل مكان. وتتولد من جبل الأطلس كل انهار إفريقيا تقريبا. والعيون التي تقع فيه شديدة البرودة في قلب الصيف حتى إن من يضع يده فيها بعض الوقت يفقدها بلا شك بسبب التجمد. ولا تكون كل أجزاء الجبل بالتالي قاحلة. وهناك بعض الأمكنة التي يمكن وصفها بأنها معتدلة ويمكن سكناها بشكل طيب ، والتي هي بالفعل كذلك ، كما سنعرض ذلك بشكل خاص في الجزء الثاني من كتابنا. وتكون المناطق الخاوية باردة أو موحشة ، وتكون المناطق المقابلة لتامسنة عسيرة المسلك ، وتقابل المناطق الباردة لموريتانيا. والناس الذين يربون الأغنام (١٩٦) يعيشون في هذا القسم من الأطلس في أثناء الصيف كي ترعى فيه ماشيتهم ، ولكن يتعذر عليهم الإقامة فيه اطلاقا في الشتاء ، لأنه بمجرد سقوط الثلج تهب ريح الشمال الخطرة جدا التي تميت كل الحيوانات الموجودة في هذه الانحاء ، ويموت منه كثير من الناس ايضا. ويمر من هنا الطريق الذاهب من موريتانيا الى نوميديا (١٩٧) ولما كانت عادة التجار الذهاب من نوميديا (١٩٨) في أواخر شهر تشرين الأول (أكتوبر) مع اوساقهم من التموز فقد يباغتهم الثلج حتى لا يبقى منهم واحد على قيد الحياة ، إذ عندما يأخذ الثلج بالتساقط ليلا تتعرض القافلة للدفن تحته والاختناق. ولا تتغطّى القافلة وحدها بالثلج بل حتى الاشجار المجاورة ذاتها أيضا بحيث لا يمكن التعرف على الدرب ولا العثور على معلم لاكتشاف الجثث.

وقد نجوت ، شخصيا ، في مناسبتين ، بمعجزة من خطر الموت ، هذا في الزمن

__________________

(١٩٤) أي جبال الريف وجبال التل.

(١٩٥) أي سهل الشاوية.

(١٩٦) أي سكان سهل الشاوية أو الشوايا.

(١٩٧) أي طريق فاس تافيلالت.

(١٩٨) أي من تافيلالت.


الذي كنت فيه أتردد على هذه الطرق. ولن تكتئب اذا قصصت عليك احدى هذه المغامرات :

فقد كنا بعض تجار من فاس (١٩٩) ذاهبين سوية وكنا في الأطلس مع هذه القافلة في شهر تشرين الأول (اكتوبر) وقبيل غروب الشمس اخذ ثلج كثيف وبارد بالتساقط. وعندئذ اجتمع عشرة فرسان ، أو اثنا عشر ، ودعوني لمغادرة القافلة والذهاب معهم للبحث عن مأوى طيب. ولم أستطع رفض عرضهم ، ولكن كنت أخشى الوقوع في فخ ، وخطر لي أن أتخلص من مبلغ كبير من الدنانير كانت معي ، ولما أصبح هؤلاء الرجال فوق جيادهم وطلبوا مني الاستعجال ، تظاهرت بأني مضطر لقضاء حاجة طبيعية وتنحّيت عنهم خلف شجرة. وهناك أخفيت دنانيري على أحسن شكل قدرت عليه وغطيتها بالتراب والحجارة وحفظت مكان الشجرة بعناية. وسرنا بعدئذ صامتين حتى قرابة منتصف الليل. وعندئذ رأى احد هؤلاء العرب ان الوقت مناسب لأن يعمل معي ما كانوا قد تآمروا عليه ، أي أن يسلبني نقودي وأن يتركني أذهب وشأني وطلب مني فيما إذا كانت دنانيري معي ، فأجبته بأنني تركت دراهمي عند القافلة ، وأودعتها عند أحد اقاربي الأقربين. ولكن هؤلاء الأعراب لم يصدقوني ولكي يتأكدوا من ذلك ولكي يعرفوا الحقيقة نزعوا عني ثيابي حتى القميص في هذا البرد القارس. ولما لم يجدوا شيئا راحوا يداعبونني متعللين بأنهم فعلوا ذلك مزاحا ، وكي يعرفوا ما إذا كنت رجلا صلبا وقادرا على تحمل البرد. وعندئذ تابعنا طريقنا في الظلام ، منزعجين من رداءة الطقس ومن الليل. وبعدئذ سمعنا ، بفضل الله ، ثغاء أغنام عديدة. فوجهنا خيولنا نحو الجهة التي تصدر منها هذه الضوضاء ، وذلك وسط الأحراش ، وبين الصخور العالية ، بحيث كنا نتعرض ايضا لخطر اضافي. واخيرا اكتشفنا رعاة في غار أدخلوا اليها نعاجهم بكل عناء ، وأوقدوا نارا طيبة تحلقوا حولها. وعندما رآنا هؤلاء وتعرفوا على العرب ، شعروا أولا بالخوف خشية التعرض لمعاملة سيئة. وبعد ان تأكدوا من استمرار العاصفة ، بدوا لنا مضيافين جدا وقدموا لنا ما لديهم للأكل من خبز ولحم وجبن. وبعد أن فرغنا من الطعام رقدنا حول النار وفرائصنا ترتعد من البرد ، ولا سيما وأني قد عريت من ثيابي قبل قليل ، ويقصر الكلام عن التعبير عن الخوف الذي انتابني. وقد أمضينا نهارين وليلتين مع هؤلاء الرعاة ولم يتوقف الثلج عن التساقط خلال تلك الفترة. وأخيرا توقف الثلج في اليوم

__________________

(١٩٩) يبرهن هذا النص على أن بعض أسفار المؤلف كانت لغرض تجاري.


الثالث. وبادر الرعاة بسرعة يجرفون الثلج الذي أغلق مدخل الكهف ، وبعد ذلك أو صلونا الى المكان الذي آووا فيه خيولنا التي كانت في مغارة اخرى والتي قدموا لها التبن بغزارة ، وقد وجدناها في حالة طيبة. وهكذا انطلقنا ، وفي ذلك اليوم كانت الشمس تسطع حتى تلاشى برد الأيام السابقة. وقطع الرعاة بضعة أميال بصحبتنا كي يرشدونا الى بعض الدروب التي يعرفونها والتي لا يمكن ان يكون الثلج فيها سميكا جدا ، ومع هذا فقد كان الثلج يصل الى لبانات الخيل.

وعندما وصلنا الى بلدة قريبة من فاس (٢٠٠) ، أكدوا لنا أن القافلة اختنقت في الثلج. وعندئذ فقد العرب الأمل في استلام تعويض أتعابهم. فقد رافقوا القافلة لتأمين سلامتها. فأمسكوا بيهودي كان في صحبتنا ، والذي كان له خمسون حملا من التمور في القافلة واقتادوه الى مخيمهم مع نية الاحتفاظ به إلى أن يدفع عن الجميع ، وأخذوا مني حصاني واستوصوا بي خيرا. فاستأجرت بغلا مجهزا له جلال من الذي يستعمله الجبليون وفي اليوم الثالث بلغت فاس حيث كان النبأ المفجع قد وصلها وحيث كان أهلي يعتقدون أنني هلكت كالآخرين. ولكن الله لم يشأ هذا. (٢٠١) وأتوقف الآن عن سرد مغامراتي وأستأنف ترتيب عرضى من النقطة التى تركتها.

وفيما وراء جبل الاطلس (٢٠٢) تقع بلاد جافة وحارة. وهنا توجد بعض المجاري المائية النادرة والتي تنشأ أيضا من الأطلس وتجري في اتجاه الصحراء الليبية حيث تغيض في الرمل. وتشكل بعضها بحيرات. ولا يوجد في هذه الأنحاء سوى القليل من الأراضي التي يمكن زرعها ، ولكن هناك عددا لا يحصى من أشجار النخيل. ونجد فيها ايضا بعض الأشجار المثمرة ولكنها نادرة. وتوجد في اجزاء نوميديا المتاخمة الى ليبيا جبال قاحلة لا شجر فيها ولا ثمر. ويرى في حضيض هذه الجبال باقات أشجار عديدة مغطاة بأشواك ولا تعطي ثمارا (٢٠٣) ، ولا توجد هنا ينابيع ولا أنهار. وكل ما هنالك بعض الآبار التي تكاد

__________________

(٢٠٠) بلدة صفر وبالتأكيد.

(٢٠١) هناك بدون شك مبالغة في القول بأن قافلة بكاملها يمكن ان تدفن تحت الثلج لدرجة لا يعثر منها على أثر ، وان الاشجار نفسها تختفي ، ولكن الحوادث الناتجة عن الثلج كثيرة. وقد حدث لنا شخصيا ان احتجزنا ثلاثة ايام في أنوصر ، أي في المنطقة ذاتها التي يتكلم عنها المؤلف في أعقاب عاصفة ثلجية لا انقطاع فيها ، ولم نتمكن من بلوغ صغر وإلا في اليوم الرابع ، مخفورين بفارسين مغربيين كانا يحسان خوفا شديدا.

(٢٠٢) الواقع هي سلاسل جبال الأطلس ، وهي الاطلس الأوسط والكبير والاطلس الصحراوي.

(٢٠٣) هي أشجار سنط متنوعة ولا سيما الهشاب.


تكون مجهولة لدى الناس وتقع جميعها بين التلال وبين هذه الجبال الجرداء. وتكثر في كل هذه الأراضي النوميدية الأفاعي والعقارب. وتقتل لسعاتها وعضاتها الكثير من الأشخاص في اثناء الصيف. وكذلك ليبيا فهي بلاد خاوية تماما ، ورميلة برمتها ، ولا يوجد فيها نهر ولا ماء ، ما عدا بعض آبار ليست كبيرة العدد ، وماء معظمها مالح. وهناك مناطق لا يعثر فيها المسافر على ماء في أثناء سفره مدة ستة ايام أو سبعة أيام. ويجب على التجار أن يتزودوا بالماء في قرب فوق جمالهم ، وخاصة على المسافة الواقعة بين فاس وتومبوكتو ، ومن تلمسان الى آغادس. وأسوأ من هذا كله الرحلة المفتتحة مؤخرا بين فاس والقاهرة عبر صحاري ليبيا ، غير ان القوافل تمر في هذه الرحلة بجوار بحيرة كبيرة يعيش حواليها أقوام سو (٢٠٤) والقرعان.(٢٠٥)

ونصادف على المسافة بين فاس وتومبوكتو بعض آبار مبطنة من الداخل بجلد جمل أو مدعومة الجدران بعظام هذا الحيوان. ومن الخطورة بمكان بالنسبة للتجار القيام برحلة في غير فصل الشتاء ، اذ تهب حينئذ رياح السيروكو أو القبلي (٢٠٦) التي تثير الكثير من الرمل الذي يغطي الآبار ، حتى إن الناس حينما يذهبون على أمل العثور على الماء في المواقع المألوفة لا يميزون أبدا أي أثر أو رسم ، لأن هذه الآبار تكون محجوبة بالرمل. وهكذا يضطرون للموت عطشا. ويرى المسافرون أحيانا عظام هؤلاء الرجال البيضاء وعظام جمالهم. وتجاه هذا لا يوجد سوى علاج واحد مستغرب كثيرا. اذ يعمد المسافرون الى ذبح جمل وتعصر الكرشة لاستخلاص الماء الموجود فيها ويشرب جزء من هذا الماء ويوزع الآخر الى أن يتم العثور على بئر أو يموتون من العطش. ويرى الإنسان في صحراء أزواد ضريحين مصنوعين من حجارة مهملة نقش فوقهما كتابات تقول ان رجلين قضيا نحبهما هنا. وكان أحدهما تاجرا غنيا أنهكه العطش عند مروره من هذه الصحراء واشترى من صاحبه ، وكان حارس قافلة تجارية ، كوبا من الماء بعشرة آلاف دينار غير انهما ماتا من العطش ، أي التاجر الذي اشترى الماء والذي باعه إياه.

ويوجد في هذه الصحراء الكثير من الحيوانات الضارة ، ولكن هناك ايضا حيوانات غير مؤذية. وسأتحدث عنها في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، حين أعالج موضوع ليبيا ،

__________________

(٢٠٤) أوساء والمجاورة لبحيرة التشاد.

(٢٠٥) أوغوران وهم فرع من التدا.

(٢٠٦) وعلى وجه الدقة رياح الجنوب الشرقي.


أو عندما أعمل عرضا خاصا للحيوانات التي توجد في إفريقيا. (٢٠٧)

ولكي يحصل كل واحد على معرفة أفضل وعلى إدراك اكثر وضوحا لكل ذلك سأذكر ، على الخصوص ، المخاطر التي تعرضت لها في أثناء رحلاتي التي قمت بها في ليبيا وخاصة في اثناء الرحلة من ولّاته الى القاهرة فتارة كنا نضل الطريق المؤدي الى مواطن الماء ، لأن الدليل خانته ذاكرته ، وتارة اخرى لأن العدو كان يسيطر على الممرات الموصلة الى موقع الماء ، حتى إننا كنا نضطر للاقتصاد في الماء إذ كان من الواجب أن يكفي الماء المحمول لخمسة أيام لتوزيعات تمتد على عشرة أيام. ولكي نسرد تفاصيل رحلة واحدة نحتاج الى مجلد في نحو مائة صفحة.

وبقاع بلاد السودان شديدة الحرارة. ومع هذا يسود فيها بعض الرطوبة بسبب نهر النيجر وكل المناطق المجاورة لهذا النهر تتمثل في أراض زراعية طيبة حيث تنمو الحبوب بوفرة كبيرة وتغزر أنواع الماشية ولكن لا يوجد أي ثمر كان سوى الثمر الذي تنتجه شجرة كبيرة جدا ، وهي ثمرة تشابه الكستناء ولكن طعمها يميل الى المرارة. وهذه الاشجار على مسافة ما من النهر ، فوق الأرض الصلبة ، وتدعى هذه الثمرة التي أتكلم عنها ، غورو في لسان أهل البلاد. (٢٠٨)

وينمو هنا اليقطين والخيار والبصل بكثرة. ولا نرى جبلا ولا تلا على ضفاف نهر النيجر ، حتى ولا على تخوم ليبيا. ولكن يشكل فيضان النيجر بحيرات عديدة مأهولة بفيلة وبحيوانات اخرى سأقف عليها حديثا خاصا في مكانه.

حركات الهواء الطبيعية في إفريقيا والتغيّرات التي تنجم عنها

تبدأ الأمطار في كل بلاد البربر بعد منتصف شهر تشرين الأول (اكتوبر) وفي

__________________

(٢٠٧) ونرى هنا ان المؤلف بعد أن خصص كتابه الأول لعموميات جغرافية ، كانت عنده نية وصف بلاد البربر في الكتاب الثاني ، ونوميديا في الكتاب الثالث ، وليبيا في الكتاب الرابع ، ولكنه لم يتقيد بهذا المخطط.

(٢٠٨) وهو دوما اسم محلي لجوز الكولا ، ولكن شجرة الكولاCola nitida هي من أشجار الغابة الاستوائية ولا توجد ابدا على ضفاف نهر النيجر ، والمؤلف الذي رأي الكثير منها في أسواق تومبوكتو والسودان لم يستفهم عن مكان اصلها.

«يقصد بالسودان هنا البلاد الواقعة جنوب نهر النيجر أو مالي ودولة النيجر والسنغال حاليا» (المترجم).


كانون الثاني (يناير) حيث يكون البرد على أشده. ولكن هذا يكون في الصباح فقط ، كما في غيرها من الأماكن ، بحيث لا يحتاج الإنسان لإيقاد النار كي يصطلي. ولكن الطقس يتبدل احيانا خمس مرات أو ست مرات في اثناء النهار. وفي آذار (مارس) تهب رياح عنيفة من الغرب وفي الشمال تخصب الأرض وتكون الأشجار مزهرة. وفي نيسان (ابريل) وعندما تمر الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر أيار (مايو) تقطف ثمار التين الناضجة كما في الصيف. ويأخذ العنب في النضج في الاسبوع الثالث من حزيران.

وتنضج كل ثمار التفاح والكمثرى والمشمش والخوخ في حزيران وتموز (يونيه ويوليه) وتكون ثمار التين الخريفي ناضجة في آب (أغسطس) وكذلك العناب. ولكن تكثر في أيلول (سبتمبر) ثمار التين والدراق. وبعد منتصف شهر آب (اغسطس) يأخذ الناس بتجفيف العنب تحت الشمس. وإذا هطل المطر في أيلول (سبتمبر) يصنع من العنب الباقي خمر أو سلاف مطبوخ ، ولا سيما في إقليم الريف ، كما سنشير الى ذلك عند كلامنا عن هذا الإقليم. (٢٠٩)

وفي شهر تشرين الأول (اكتوبر) تجنى ثمار التفاح والرمان والسفرجل وأخيرا الزيتون في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ولا يتم جنى الزيتون بوساطة سلم يركز على الشجرة ويقطف الثمر باليد كما يحدث في أوربا ، إذ لا يمكن صنع سلالم عظيمة الطول تكفي للوصول إلى أعالي هذه الاشجار ، لأن أشجار الزيتون في هذه المنطقة ضخمة وكبيرة جدا ، ولا سيما في قيصرية وموريتانيا. ولكن أشجار الزيتون في تونس تكون مماثلة لأشجار أوربا. وعندما يبدأ الناس جنى الزيتون يصعدون الى الاشجار ومعهم عصى طويلة جدا يضربون بها الأغصان لإسقاط الثمار. ويعرفون أن في صنيعهم هذا ضررا للأشجار لأنهم بهذه الطريقة يتلفون البراعم وكثيرا من الأغصان الصغيرة الفتية. وفضلا عن ذلك يحدث أن يكون الزيتون في افريقيا وفيرا جدا في عام وفي عام آخر يفتقده الناس فلا يرون حبة واحدة. وهناك بعض أنواع الزيتون الكبيرة لا تصلح لصنع الزيت ، ولكن تؤكل مصبرة في كل الفصول.

__________________

(٢٠٩) يصنع الخمر حسب الاسلوب المألوف. أما السلاف المطبوخ ، أو السامت ، فهو عصير عنب يتوقف تخميره في فترة معينة وذلك بوضع الجرار المليئة به في الزبل ، مما يرفع درجة حرارته ويساعد على نضجه وتركيزه ، ويتشكل منه شراب يحبه الناس هنا كثيرا.


حدود ومميّزات الفصول

تكون شهور الربيع معتدلة نسبيا. ويبدأ الربيع في ١٥ شباط (فبراير) وينتهي في ١٨ أيار (مايو). ويكون الطقس في أثناء هذا الفصل صحوا باستمرار ، ولكن إذا انحبس المطر بين ٢٥ نيسان (ابريل) و ٥ ايار (مايو) فان محصول ذلك العام يكون رديئا جدا. ويسمى ماء المطر الذي يسقط في هذه الفترة «ماء نيسان» ويعتبر بركة من الله. ويحتفظ كثير من الناس بشيء منه في أوعية صغيرة وفي قوارير ، وهذا من قبيل التبرك.

ويستمر الصيف حتى ١٦ آب (اغسطس) ويكون الطقس حارا جدا لا سيما في حزيران وتموز (يونيه ويوليه). وفي هذا الفصل تظل السماء صحوا وصافية الأديم ، باستثناء بعض السنوات التي يسقط فيها المطر في تموز وآب (يوليه وأغسطس) مما يجعل الهواء ضارا. وفي هذه الفترة يصاب كثير من الناس بالحمى الحادة والمستمرة ونادر من يسلم منها. (٢١٠)

ويبدأ الخريف ، عند الأفارقة ، في ١٧ آب (أغسطس) ويستمر حتى ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) غير أن شهري آب وأيلول (أغسطس وسبتمبر) يكونان أقل حرا. والأيام الواقعة بين ١٥ آب و ١٥ أيلول كانت تدعى عند القدامى «فرن الطقس» لأنه في شهر آب ينضج التين والرمان والسفرجل ويجفف العنب. وفي ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) يبدأ فصل الشتاء الذي يمتد حتى ١٥ شباط (فبراير) ، وتبدأ عمليات البذار في شهر تشرين الاول (اكتوبر).

ويعتقد الأفارقة أنه يوجد في العام أربعون يوما حارة للغاية ، (٢١١) وهي تبدأ في ١٢ حزيران (يونيه) ويرون أن هناك كذلك أربعين يوما باردة جدا (٢١٢) وهي التي تبدأ في ١٢ كانون الأول (ديسمبر). وهم يعرفون الاعتداليين اللذين يحددونهما في ١٦ آذار (مارس) وفي ١٦ أيلول (سبتمبر) ويقولون بأن الشمس تعود في دورتها (٢١٣) في ١٦

__________________

(٢١٠) ملاحظة صحيحة للغاية ، ففصول الصيف المطيرة تؤدي الى أوبئة كثيرة الانتشار أو الى نكسات لا تظهر على شكل نوبات متقطعة بل على شكل حمى شديدة مستمرة.

(٢١١) وتسمى السمعميم عند البربر أو الأربعينية عند العرب.

(٢١٢) الليالي.

(٢١٣) الانقلابان.


حزيران (يونيه) و ١٦ كانون الأول (ديسمبر).

تلك هي القواعد الفلكية التي يلاحظها الأفارقة سواء فيما يتعلق بتحديد أوقات التصرف بممتلكاتهم أو فيما يتعلق بزروعهم وقطاف ثمارهم أو فيما يتعلق بأوضاع النجوم في بيوت التنجيم ولحساب حركات الكواكب السيارة. وهم يعلمون الأولاد في المدارس كثيرا من الاشياء المفيدة جدا والمتعلقة بهذه القضايا.

هذا وكثير من الفلاحين ، من عرب وسواهم ، أميون تماما ، ولكنهم يعرفون الكلام عن الفلك بإطناب ، ويستخلصون مما يقولون استنتاجات هم على يقين مطلق بها. وتأتي القواعد التي يتبعونها في سبيل ذلك ، والتي تعتبر ضرورية لهم ، تأتي من البحوث اللاتينية ، التي ترجمت الى العربية وهناك مطول ضخم مقسوم إلى ثلاثة كتب يدعى بالعربية «كنز الزراعة». وقد جرت ترجمته من اللاتينية الى العربية في قرطبة ، في عصر المنصور ملك غرناطة. (٢١٤) ويعالج هذا الكتاب كل المفاهيم والمبادىء المتعلقة بالزراعة كأوقات البذر ، والغرس ، وتطعيم الاشجار. وإعداد كل ثمرة أو حبة أو أي نوع من الخضار للزراعة ... ويدهشني كثيرا ان يكون لدى الأفارقة هذا القدر من الكتب المترجمة من اللاتينية وألا نجد الآن مثلها عند اللاتين.

ويعتمد على القمر في حساب الوقت والقواعد المتعلقة به في كل القضايا التي تخص العقيدة والأحكام الدينية ، والتي يتبعها الأفارقة وسائر المسلمين ، وتتألف السنة من ٣٥٤ يوما ، لان لكل شهر من ستة أشهر فيها ثلاثين يوما ، ولكل شهر من ستة أشهر اخرى تسعة وعشرين يوما ، مما يعطى هذا الرقم للمجموع ويقع العيدان والصوم في تواريخ مختلفة. أي تكون السنة العربية أقصر من السنة اللاتينية بأحد عشر يوما. وهذه الايام الإحدى عشر تجعل سنتنا دائما متأخرة عن العام الشمسي. (٢١٥)

__________________

(٢١٤) هو المنصور بن أبي عامر ، حاجب الخليفة الأموي في قرطبة ، الحكم ، وهو الملك الحقيقي لاسبانيا الإسلامية ، التي كان العرب يسمونها الأندلس ، ويسميها مؤلفنا غرناطة ، وقد توفي المنصور سنة ١٠٠٢ م.

(٢١٥) إن التقويم العربي هو أقدم من الإسلام بكثير وجاء حين من الوقت كانت الأيام التكميلية تسمح فيه بتوافق عامة مع التقويم الشمس. وبعد وفاة محمد صلّى الله عليه وسلّم بسبعة أعوام قرر الخليفة عمر أن يبدأ التاريخ الإسلامي من أول يوم من العام الهجري ، أي من السنة التي تمت فيها القطيعة مع المكيين وهي قطيعة تدعى الهجرة ، وجاء الرسول ليقيم في يثرب ، التي دعيت فيما بعد مدينة النبي. ووصل محمد صلّى الله عليه وسلّم الى يثرب ، التي كان يسكنها بعض اليهود ، يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول من هذا العام العربي والعاشر من شهر تشري. من هذا العام العبري ، وهو يوم عيد الغفران عندهم. ولم يكن التقويم ـ


ويجب أن نعرف ايضا أنه تحدث عواصف مصحوبة ببرد. (بفتح الباء والراء) فى آخر الخريف ، وخلال كل الشتاء وجزء من الربيع ، وكذلك صواعق وبرق ، ويتساقط الثلج في كثير من بقاع بلاد البربر. وتكون كل الرياح الثلاثة أي الشرقية والسيروكو (٢١٦) الجنوبية الشرقية والجنوبية تكون ضارة جدا ، ولا سيما في أيار وحزيران (مايو ويونيه) لأنها تقضي على كل المحاصيل وتحول دون نمو الثمار ونضجها. ويضر الضباب ضررا بليغا بالثمار ، ولا سيما اذا حدث وقت الإزهار ، لأنه يستمر احيانا طيلة اليوم.

أما في جبال الاطلس ، فلا يكون في العام سوى فصلين. وفي الواقع تعتبر الفترة الواقعة بين تشرين الأول ونيسان (اكتوبر وإبريل) شتاء ، وبين نيسان وأيلول (إبريل وسبتمبر) صيفا. ولكن يعثر على الثلج دوما على مدى العام فوق أعلى القمم.

أما في نوميديا فان مجرى الفصول يكون نوعا ما متقدما ، فيتم حصاد القمح في أيار (مايو) وتجنى التمور في تشرين الأول (أكتوبر). وبين منتصف أيلول (سبتمبر) وكل تشرين الأول (اكتوبر) حتى كانون الثاني (يناير) يقع اكثر الفصول بردا. واذا هطلت الأمطار في أيلول تلفت معظم التمور فلا يحصل الناس إلا على محصول هزيل ، وتحتاج كل أراضي نوميديا للري لكي يتم بذرها ، فإذا انحبس المطر في جبل الاطلس وجفت بالتالي أودية نوميديا ، فإن ذلك يؤدي الى استحالة ري الأراضي وإذا لم يهطل المطر في تشرين الاول (اكتوبر) ، فمن العبث توقع امكانية بذر الأرض في ذلك العام. وإذا لم يهطل مطر نيسان (إبريل) يصبح محصول القمح منعدما في الأرياف. ولكن اذا انقطع المطر فهناك محصول طيب من التمور. وينظر أهل نوميديا باهتمام أكبر الى محصول التمور اكثر من نظرهم الى محصول القمح ، لأن الحنطة ، حتى لو كان محصولها وفيرا ، لا تكفي لأكثر من نصف السنة. ولكن إذا كان موسم التمور طيبا أصبح من الممكن الحصول على القمح. وذلك لأن العرب الذين ينصرفون لتجارة التمور يجلبون معهم كمية كبيرة من

__________________

ـ المسيحي معروفا حينئذ لأن التأريخ المسيحي لم يتم تبنيه من قبل شارلمان إلا في عام ٨٠٠ م. وقد نتج عن الحساب أن يوم الهجرة هذا يقع في ٢٠ أيلول (سبتمبر) ٦٢٢ م وأن أول يوم من العام العربي هذا ، أي الاول من شهر المحرم ، كان يوافق الجمعة ١٦ تموز (يوليه) ٦٢٢ م. وهذا التاريخ الاخير ، الذي كثيرا ما اختلط مع التاريخ الهجري ، هو في الحقيقة تاريخ بداية التأريخ الإسلامي ولأول عام من الهجرة وظل التقويم الإسلامي ثابتا تماما ، ولكن يضطر كل الفلاحين الى استخدام التقويم الشمس.

(٢١٦) «كلمة ايطالية تعني الرياح الساخنة مثل السموم والهبوب والخماسين والطوز» (المترجم).


القمح لمقايضتها بالتمور.

وإذا تبدل الطقس في صحراء ليبيا في أواسط آب (أغسطس) ، وإذا استمرت الأمطار حتى تشرين الثاني (نوفمبر) وحتى في اثناء شهر كانون الأول (ديسمبر) وفي كانون الثاني (يناير) وفي قسم من شباط (فبراير) فإن ذلك يؤدي الى وفرة العشب. وحينئذ نجد في كل ليبيا العديد من البحيرات ويكثر الحليب. وهذا هو السبب الذي يجعل تجار بلاد البربر يقومون برحلتهم في هذه الفترة ، وهي رحلتهم الى بلاد السودان.

وتبدأ الفصول في هذه البلاد في وقت مبكر. وتظهر أوائل الامطار في نهاية تموز (يوليه) ولكن لا يسقط الكثير من المطر ، ويتصف مطر بلاد السودان بتلك الخاصية ، وهي أنه لا يفيد ولا يضر. والواقع تكفي مياه النيجر لزراعة الحبوب ، ففيضان النهر يطرّي الأرض ويخصبها ، تماما كما يفعل النيل في مصر. ومن الصحيح القول أنه تكون هناك حاجة للمطر في بعض الجبال. ويحدث فيضان النيجر في ١٥ حزيران (يونيه) ويستمر أربعين يوما. وفي فترة الفيضان يمكن التجوال في المراكب في كل بلاد السودان تقريبا ، إذ في ذلك الوقت تتحول كل السهول والأودية والحفر الى مجار مائية. ولكن من الخطر جدا ركوب مراكب كالتي يستعملها أهل البلاد ، كما سأعرض لذلك في الجزء الخامس من هذا الكتاب. (٢١٧)

قصر أمد الحياة وطوله عند الأفارقة

تصل أعمار الناس في كل مدن بلاد البربر وأريافها الى خمس وستين وحتى سبعين عاما : والقليل منهم من يعيش أكثر من ذلك. غير أننا قد نعثر في جبال البربر على أناس يبلغون المائة عام وبعضهم يتجاوزون ذلك. ولهؤلاء كهولة قوية ونضيرة. فقد رأيت بالفعل بعض سكان الجبال في سن الثمانين وفوق ذلك. وهم يحرثون الأرض ويعزقون الكرمة وينجزون ببراعة مدهشة الأعمال الأخرى التي تكون مفيدة لهم. وأكثر من ذلك

__________________

(٢١٧) لما كان المؤلف قد عدل مخططه ، فنجده في كتاب السابع ، في معرض كلامه عن جنّه ، يقول بضع كلمات عن المراكب المصنوعة من نصف جذع شجرة مجوف ، والتي يستخدمها تجار تومبوكتو لنقل سلعهم الى جنة في فترة الفيضان. ويختلف نظام نهر النيجر الهيدرولوجي كثيرا عن نظام النيل ، فالحد الأقصى للفيضان يقع في كانون الاول وكانون الثاني (ديسمبر ويناير) في عقفه النيجر قرب تومبوكتو ، وتكون المسطحات الغارقة واسعة ، ولا سيما في الدلتا الداخلي في عالية تومبوكتو.


فقد رأيت في الأطلس شيوخا من نفس السن يشتركون في المعارك ، ويناجزون الشباب بشجاعة ، وكان الكثير منهم من المنتصرين. ويكون للناس في بلاد النخيل حياة طويلة أيضا ، ولكنهم يفقدون أسنانهم ويقل نظرهم كثيرا ، وينجم سقوط الأسنان من كثرة أكلهم للتمر ، وينتج قصر بصرهم من ان هذه البلاد تكون عرضة لريح شرقي يدفع بالرمل ويثيره بحيث يهيج الغبار العيون ويتلفها مع الزمن (٢١٨).

ومتوسط أعمار أهل ليبيا يقل عن متوسط الأعمار لدى أهل المناطق السابق ذكرها.

ولكنهم أقوياء البنية وأصحاء حتى سن الستين أو ما يقارب ذلك ، ولكن يجب أن نضيف الى ذلك أنهم رشيقو البنية وممشوقو القوام. والحياة في بلاد السودان أكثر قصرا من حياة الناس من الاجناس لأخرى. ولكن هؤلاء يظلون دائما أقوياء البنية وأسنانهم صلبة ، ويحتفظون بها سليمة. وهم أناس يتصفون بفرط الشبق ، وكذلك حال سكان ليبيا وأهل نوميديا. أما سكان بلاد البربر فلهم على العموم مزاج أقل تطرفا.

اكثر الأمراض شيوعا عند الأفارقة

من الشائع رؤية مرض القرع فوق رؤوس الأولاد الصغار وفوق رؤوس النساء البالغات ، ويعانون الكثير في سبيل شفائه ، كما يصاب الكثير من الرجال بآلام الرأس التي تعتورهم أحيانا دون أن يصابوا بالحمى. وتكثر أوجاع الأسنان بصورة كبيرة بينهم. والمعتقد أن سببها يرجع الى أن الناس يشربون المأ البارد فور تناولهم حساء ساخنا. ويشكون أيضا من آلام المعدة التي يسمونها عن جهل آلام القلب.

وكثيرون منهم يتألمون في كل ايامهم من الزحار ومن آلام شديدة في الاحشاء ، ويعود هذا أيضا للماء البارد الذي يشربونه. هذا ويكثر الذين يشكون من أمراض عرق النساء وأوجاع الركبة. وتنتج هذه من عادة الناس هناك الجلوس على الأرض دون لبس أي نوع من السراويل. وهناك القليل من الأشخاص الذين يشكون من النقرس ، غير انه يلاحظ وجوده لدى بعض الأمراء المصابين به لأنهم ألفوا شرب الخمر وأكل الدجاج أو الوجبات اللذيذة. ويؤدي استهلاك الكثير من الزيتون والجوز وبعض الأطعمة الغليظة

__________________

(٢١٨) يجهل المؤلف طبعا طبيعة التراخوم ، وهو المسئول في الغالب عن الرمد في الواحات ، ولكنه يجد في الرياح الرملية مساعدا رئيسيا.


التى ليس ليها كبير قيمة في التغذية الى مرض الجرب الشديد الألم للذين يصابون به (٢١٩) ، ويؤدي الجلوس على الارض في أثناء الشتاء أحيانا لسعال شديد ومؤلم لدى الذين تكون طبيعتهم دموية. وغالبا ما يتسلى الناس أحيانا في المساجد يوم الجمعة حيث يجتمع عادة آلاف الأشخاص. فإذا كان الخطيب في أفضل جزء من خطبته وحدث أن سعل أحد المصلين ، فإن آخر يأخذه السعال وهكذا دواليك ، بحيث يأخذ كل المصلين بالسعال في نفس الوقت تقريبا حتى نهاية الخطبة ، وينتشر الناس بعد الصلاة دون ان يسمع أحد شيئا من الخطبة.

أما المرض الافرنجي (٢٢٠) الموجع جدا ، والذي تصاحبه الآلام ، مع بثور وقروح ، فهو شديد الانتشار للغاية في كل بلاد البربر ، حتى ان القليل من الناس الذين ينجون منه. ولكن من الصحيح أنا لا نكاد نجد فردا واحدا مصابا به في الأرياف وفي جبال الأطلس ، كما لا يوجد مطلقا بين العرب إلا في نوميديا ، أي بلاد النخيل وليبيا. كما لا يأتي حتى ذكر هذا المرض في بلاد السودان وعندما يصاب به إنسان ما ، فإنه يشفى حالا بمجرد أن يغير الهواء ، أي إذا ذهب الى نوميديا مثلا.

وفي الماضي لم ير أحد هذا المرض كما لم بسبق أن سمع أحد باسمه. ولكن في العصر الذي أخذ فيه دوق فرديناد ملك أسبانيا ، يطرد اليهود من هذا البلد (٢٢١) ، وفد كثير من هؤلاء الى بلاد البربر. ومنذ ذلك الوقت أخذ هذا المرض بالظهور فيها ، لأن عددا من هؤلاء اليهود نقلوه معهم من أسبانيا ، وكان من سوء حظ بعض الأفراد المساكين من المسلمين ان حدثت لهم علاقات مع نساء من هؤلاء اليهوديات. وهكذا ، وشيئا فشيئا ، لم تبق أسرة واحدة سليمة منه في خلال عشرة أعوام. والمصابون الأوائل بالعدوى اعتبرهم الناس مجذومين ، وطردوا من يبوتهم كي يقيموا مع الجذومين. ولكن عندما ظهر أن عدد الأشخاص المصابين به يتزايد يوميا ، وعندما لوحظ أن هذا التعفن قد انتاب عددا عظيما من الناس في كل أسبانيا ، راح المرضى يتابعون حياتهم اليومية العادية ، وعاد الى بيوتهم الذين أبعدوا عنها ، ويؤكد الناس في بلاد البربر ، أن أصل هذا المرض هو من أسبانيا ، ويحمل نفس الاسم كما في أسبانيا ، ولا سيما في موريتانيا. ويسميه أهل تونس

__________________

(٢١٩) ونرى من هذا أن الاصل هو الطفيلي لمرض الجرب وسريانه بالعدوى لم يكن معروفا حينذاك.

(٢٢٠) وهو مرض الزهرى أو السيفيليس ، الذي لم يكن يميز حينذاك عن مرض القروح والسيلان.

(٢٢١) مرسوم ٣ آذار ١٤٩٢ م أي بعد سقوط غرناطة بحوالى أقل من شهرين.


المرض الافرنجى كالايطاليين ، وكذلك الحال في مصر وفي بلاد الشام ، وقد أدى هذا المرض إلى كثير من الكوارث ، ولا سيما في مملكة تونس (٢٢٢).

وهناك عدد من الناس المصابين بمرض الخاصرة (٢٢٣)

وقليل من الناس في بلاد البربر يشكون في المرض الذي يسميه اللاتين الهرني hernie (الفتاق). ولكن الكثير من الناس يشكون منه في مصر. وأحيانا تصبح الخصيتان عند بعضهم متورمتين لدرجة تبدو عند رؤيتها شيئا غير عادي. ويعتقد ان علة كهذه تنجم عن اكل الصمغ والكثير من الجبن المالح (٢٢٤)

ويلاحظ مرض القرع في كثير من الاحيان بين اطفال افريقيا. ولكن هؤلاء لا يشفون منه مع تقدم سنهم. وتصاب الكثيرات من النسوة بهذا المرض وخاصة في بلاد البربر وفي بلاد السودان. ويعتبر بعضهم هؤلاء المرضى كأن بهم مسا من الشيطان ، وهذا من الحمق.

ويظهر الطاعون في بلاد البربر مرة في كل عشرة اعوام ، او خمسة عشر عاما او كل خمسة وعشرين عاما (٢٢٥). عندما يداهم الطاعون الناس يقضي على الكثير منهم لأنه لا يوجد انسان يهتم بهذا المرض ولا باستعمال اي علاج ، فيما عدا دهن الجسم بتراب ارمينية حول الدمامل. ولم يظهر في بلاد نوميديا منذ مائة سنة. ولم يظهر مطلقا في بلاد السودان.

__________________

(٢٢٢) تعتبر هذه الفقرة تقليدية في وصف المرض الإفرنجي. ومن المتفق عليه أن جرثومة اللولبيات الشديدة التخريب ، والتي أدت للجائحة الكبرى في هذا المرض في القرن السادس عشر ، قد نقلت من أمريكا بواسطة رفاق كريستوف كولومبس الذين عادوا ونزلوا في أسبانيا في شهر تشرين الاول (أكتوبر) ١٤٩٢ م. ولكن قبل هذه الجائحة كانت هناك في أسبانيا جائحة خطيرة من مرض القروح الجنسيةchancrelle وهو المرض الذي أعطوه اسم (لاس بوباس) ومن الإغريقي ، بوبون ، أو مرض الحالب. وقد أطلق المغاربة على ظاهرات مرض الإفرنجي الجلدية اسم الحبوب ، وهي عبارة لا تزال دارجة بين العوام ، والذين خدعوا بتوافق الاصوات اللفظية. أما تسميته بالمرض الافرنجي إي «الافرنسى» وهو الاسم الذي عرف في ايطاليا ، والذي شاع في كل الاصقاع التي كانت على علاقات تجارية مع الملاحين الطليان فيعود الى أن الجيوش الفرنسية التي كانت منهمكة في عمليات حربية في ايطاليا في ذلك العصر ، كانت مصابة بعدوى شديدة من هذا المرض.

(٢٢٣) وربما كان مغصا كلويا أو كبديا.

(٢٢٤) ويخلط المؤلف هنا مرض الفتاق مع مرض داء الفيل الذي يصيب الصفن ، وهو مرض منتشر فعلا في مصر ، وهو ناجم عن دودة طفيلية هي الخيطية.

(٢٢٥) لقد كان هذا التوقيت في الجائحات الطاعونية يعود الى يقظة البؤر المحلية للطاعون ، والكامنة دوما ، وكان هذا ملحوظا وصحيحا قبل نصف قرن تقريبا.


المزايا والأشياء المحمودة عند الأفارقة

إن الافارقة الذين يسكنون مدن البربر ، ولا سيما مدن البحر المتوسط ، يجدون متعة كبيرة في التعلم وينصرفون للدراسة بعناية كبيرة. ومن بين هذه الدراسات نذكر العلوم الانسانية والشرعية الاسلامية التي تحتل المكانة الأولى. وقد اعتادوا في الماضي دراسة الرياضيات والفلك والفلسفة. ولكن منذ أربعمائة عام ، كما ألمحت الى ذلك سابقا ، حظر عليهم علماؤهم وملوكهم تعلم الكثير من هذه العلوم (٢٢٦). وكذلك كان الحال بالنسبة للفلسفة ، وكذلك بالنسبة للتنجيم القضائي.

هذا ويتصف سكان أفريقيا أيضا بشدة تقواهم (٢٢٧). فهم يطيعون علماءهم وأئمتهم ويهتمون بشكل كبير في معرفة الأمور الضرورية لديانتهم. فهم يذهبون بلا انقطاع لتأدية صلواتهم في مساجدهم ، ويتحملون بصبر لا يتصور القيام بفرض الوضوء قبل الصلاة ، ويعمدون أحيانا حتى الى غسل جسمهم كله ، كما اعتزمت توضيحه في الكتاب الثاني من مؤلفي عن الايمان والشريعة الاسلامية.

وفضلا عن ذلك فإن سكان مدن بلاد البربر ماهرون ، كما يظهر ذلك في نوعية الأشغال المختلفة الطبيعية والتي يتقنونها. ويتمتعون بتربية طيبة جدا وحسن مجاملة للناس. وهم أناس طيبو السريرة قليلو الاتجاه إلى الإساءة. ويظهر الصدق لديهم في القلب واللسان ، رغم أن الوضع كان على خلاف ذلك في القرون الغابرة ، كما تؤكد ذلك كتب التاريخ التي كتبها المؤلفون اللاتين (٢٢٨) ، وهم رجال أو لو بأس وشجاعة كبيرة جدا ، لا سيما أهل الجبال منهم. ويحترمون العهد قبل كل شيء ، ويفضلون ضياع حياتهم عن أن يخلفوا وعدا. وهم غيورون إلى أبعد الحدود ، ويحتقرون الحياة مقابل احتمال إهانة حول موضوع نسائهم. وهم يحبون المال حبا جما مثلما يحبون الثروة والسمعة الطيبة ، ويذهبون إلى مختلف أنحاء العالم بتجارتهم ، ويرى بعضهم في مختلف المواسم

__________________

(٢٢٦) وذلك على أثر حركة الإصلاح الموحدى المتزمتة في القرن الثاني عشر.

(٢٢٧) أي بلاد البربر.

(٢٢٨) إشارة الى كتاب FidesPunica تأليف ساللوست ، وهو مؤرخ لاتيني ولد سنة ٨٦ ق. م. وتوفي سنة ٢٤ ق. م. وقد حكم إقليم أفريقية وجمع ثروات طائلة سمحت له ببناء قصر فخم محاط بحدائق شهيرة. وترك لنا كتاب «حياة جوغورته» و «تآمر كاتالينا».


في مصر وأثيوبيا وفي بلاد العرب وفارس وفي الهند وتركيا ، وحيثما ذهبوا ، يكونون موضع الاحترام والتبجيل ، لأنهم مزودون بحذق كبير في المهن التي يمارسونها. وفضلا عن ذلك يتصفون بأنهم محتشمون وشرفاء في حديثهم ، ولا يتفوهون أبدا بكلمات غير لائقة أمام الآخرين. ويعبر الأصغر عن احترامه للأكبر منه ، سواء في المحادثة أو في أية مناسبة أخرى. ويبلغ هذا الاحترام درجة تحول بين الشاب وبين الكلام عن الحب أو عن الفتاة التي يحبها بحضور والده أو عمه. كما أنه يستحي أن ينشد قصيدة حب وغناء بمجرد أن يرى أخاه الأكبر. وعندما يصل الأولاد لجوار أناس يتكلمون عن الحب ، يغادرونهم حالا. تلك هي العادات الطيبة وتقاليد التربية الجيدة التي تجدها عند سكان مدن البربر.

ويتصف الناس الذين يسكنون الخيام ، أي العرب والرعاة (٢٢٩) بأنهم رجال كرماء ، مفعمون بالرحمة ، شجعان ، صبورون ، طيبو المعشر ، يؤلفون ، طيبو السيرة ، مطيعون ، متدينون ، ومحبوبون مع طبع مرح. وسكان الجبال كرماء أيضا ، شجعان ، طيبو الحديث ، شرفاء في حياتهم العامة.

أما سكان نوميديا فهم أكثر تهذيبا من السابقين ، لأنهم يتمسكون بقواعد الأخلاق ، ويدرسون الشريعة الاسلامية. ولكنهم لا يعرفون شيئا كبيرا عن العلوم الطبيعية. وهم رجال مدربون على استعمال السلاح ، شجعان ، ولكنهم طيبون جدا.

هذا وسكان ليبيا ، الأفارقة منهم والعرب ، كرماء ، لطفاء ، ويعملون كل ما يستطيعون في سبيل أصدقائهم. وينظرون للغرباء نظرة ودودة. وقلوبهم طيبة وهم صادفون ومخلصون.

ويبدو الزنوج وديعين واوفياء ، ويستقبلون الاجانب بترحاب كبير. ويصرفون وقتهم في المتعة كي يحيوا حياة مرحة ، فيرقصون ، ويقيمون اكثر ما يمكن من المآدب ، ويزاولون كل ضروب التسلية. وهم صادقون جدا ، ويعاملون المثقفين والفقهاء باكبر قدر من التبجيل. وهؤلاء المثقفون والفقهاء هم الذين ينعمون باسعد الاوقات بين جميع من يلقونهم من الافارقة.

__________________

(٢٢٩) أي الشاوية.


العيوب والأشياء المذمومة عند الأفارقة

مما لا ريب فيه ان لدى الافارقة من العيوب قدر ما لهم من المزايا ، ولكن لننظر ما إذا كانت هذه العيوب متفاوتة فى ظهورها.

فسكان بلاد البربر فقراء ومتغطرسون ، حقودون بدرجة لا مثيل لها. ويقال انهم يحفرون فوق الرخام عبارات السباب ولا ينزعون الغل من صدورهم. وهم غير موطيّ الأكناف لا يألفون ولا يؤلفون حتى إنه من النادر أن يستطيع الغريب سبيلا الى صداقتهم.

وهم على درجة من السذاجة تجعلهم يصدقون أيّ أمر مستحيل. والشخص العامى منهم يجهل تماما كل القوانين الطبيعية ، حتى إنه ليعتبر كل الظواهر الطبيعية مهما كانت كأنها أعمال ربانية. وهم غير منسجمين في أسلوب عيشهم كما في تصرفاتهم ، ويتعرضون للغضب كثيرا. وفي أغلب الأحيان نجدهم يتجاذبون أطراف الأحاديث المتعجرفة بصوت مرتفع. ومن النادر ألا يرى الإنسان في الشوارع المزدحمة شخصين أو ثلاثة وهم يتلاكمون بقبضات أيديهم. وهم من طبيعة حقيرة. وليس لأمرائهم مكانة يعتد بها حتى يمكن القول بأن الأمير فيهم هو أقرب الى الحيوان منه الى إنسان متحضر. وليس بينهم وجهاء ولا قضاة مكلفون بإدارة شئونهم أو بنصحهم على مسألة ما في سياسة أمورهم. وفضلا عن ذلك فهم محدود والتفكير وجهال في أمور التجارة ، فليس لديهم مصارف ، وليس لديهم شخص يتعهد بنقل البضائع من بلد لآخر ، فعلى كل تاجر أن يبقى قرب بضائعه وأن يسافر معها.

وهم من أكثر الناس بخلا حتى إن معظمهم لا يرغب الواحد منهم في ايواء غريب لا مجاملة ولا تقربا إلى الله. والقليل منهم أيضا الذين يردون المعروف لمن له عليهم فضل سابق. وهم اناس مفعمون بالقلق وسوداويون لا يتذوقون الدعابة. وهذا يعود الى اهتمامهم بمطالب الحياة المادية دون توقف. لأن فقرهم شديد وارباحهم هزيلة. ويعيش الرعاة (٢٣٠) في ضنك سواء في ذلك اهل الجبال منهم واهل السهول ، وذلك لقلة مواردهم فهم في بؤس مقيم وفاقة مزرية. وهم جفاة ، لصوص ، وجهال. ولا يسدودن ما سبق ان اقترضوه. والديوثون منهم اكثر من الذين يتصفون بالعفة. فكل الفتيات قبل زواجهن يستطعن ان يعشقن وان يتذوقن ثمرة الحب. وحتى الاب نفسه يقوم باستقبال عاشق ابنته

__________________

(٢٣٠) أي الشاوية.


بكل ترحاب ، وكذلك الاخ بالنسبة لعاشق اخته ، بحيث لا نجد امرأة تحمل بكارتها لزوجها. ولكن من الصحيح القول انه ما ان تتزوج الفتاة حتى يكف العشاق عن مطاردتها ، فيذهبون الى اخرى. ومعظم هؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهودا ، ويزيد بعدهم عن المسيحية. وليس لديهم اي معتقد ، وهم ليسوا بلا ديانة فحسب ، بل ليس لديهم اي ظل من الدين ، ولا يقومون باي صلاة وليس لهم معابد ويعيشون كالسائمة. واذا كان بينهم من عنده شيء ضئيل من شعور التقوى ، فهو مضطر ان يعيش كالآخرين لانه يفتقر لأية مبادىء دينية ، وليس هناك من فقهاء يرشدونه ، ولا قاعدة مستقيمة يسير عليها.

والنوميديون قوم بعيدون عن رحاب المعرفة ، ويجهلون طريقة السلوك النظامي في الحياة العادية. فهم غدارون ، قتلة ، ولصوص ، دون أي اعتبار أو مراعاة. وهم أيضا بلا إيمان ولا قاعدة دينية. لقد عاشوا في كل الأزمنة ويعيشون وسيعيشون دوما في البؤس. ولا يوجد صنف من الخيانة لا يرتكبونه مدفوعين بالحاجة أو الرغبة في شيء ما. ولا يوجد بين الحيوانات من يحمل قرونا في طول قرون هؤلاء الأسافل (٢٣١). فهم يكرسون كل حياتهم لفعل الشر وللصيد وللاحتراب فيما بينهم ولرعي ماشيتهم في الصحراء ، ويمشون دوما حفاة عراة. أما أهل بلاد السودان فهم غلاظ بلا عقل ، بدون ذكاء ودون خبرة. وهم مجردون من جميع مظاهر المعرفة. ويعيشون كالبهائم بدون قواعد ولا شرائع. وتكثر فيهم البغايا والديوثون ، باستثناء القليل منهم من الذين يسكنون في المدن الكبرى والذين لديهم بعض الشيء من الكرامة الانسانية.

ولا يفوتني أن أقول إنني أشعر ببعض الحياء من الإقرار بعيوب الأفارقة ومن الكشف عنها. فقد كانت إفريقيا موطن نشأتى ، وفيها قضيت أزهى وأطول شطر من حياتي. ولكن لدى العذر من الجميع لواجب المؤرخ الذي يفترض فيه أن يقول حقائق الامور بدون أن ينحرف لإرضاء ميل شخص ما. وهذا هو ما أجدنى بسببه مضطرا لكتابة ما كتبت ، وهذا هو ما يجب أن يكون إذا أردت عدم الابتعاد عن الحقيقة في أية نقطة ، واذا ما تركت جانبا زخارف الاسلوب وصناعة الكلام.

وأود في سبيل الدفاع عن نفسي أن اسرد حكاية صغيرة ستكون مثالا كافيا لذوى النفوس المستنيرة والاشخاص المحترمين الذين سيتفضلون بقراءة هذا الكتاب الطويل

__________________

(٢٣١) تعبير شائع في البلاد العربية ، وهو وصف الديوث بذى القرنين ، أو يقصد به المفرطين في غبائهم.


يتناقل الناس في بلدي قصته مفادها أن شابا في حالة وضيعة وحياة ممقوتة ، دخل السجن بسبب ارتكابه سرقة صغيرة وحكم عليه بالجلد. وعندما حل يوم توقيع العقوبة فيه ، وعند ما أصبح بين أيدي رجال تنفيذ العدالة ، وجد أن الجلاد هو أحد أصدقائه. فاعتقد أنه سيحظى بمراعاة لم يعرفها أي إنسان آخر. ولكن على العكس فقد بدأ هذا يكيل ضربة أليمة قاسية اليه. وهكذا راح الصاحب البائس المبتئس يصرخ قائلا : «يا أخي أنت تعاملني مع أنني صديقك ، أسوأ من الآخرين» وحينئذ كان الجلاد يسدد اليه ضربة أكثر شدة ، وأجابه «يا رفيقى ، يجب ان أقوم بوظيفتي على الوجه الذي يجب أن أؤديها عليه ، وهنا لا مكان للصداقة» واستمر في عمله كي يعاقبه بالعدد الحقيقي من الضربات التي سبق أن حددها القاضي.

وهذا هو السبب الذي سيجعلني عرضة للتبكيت فيما لو تغاضيت عن ذكر معايب الأفارقة. وقد يتصور البعض أنني تصرفت بهذا الأسلوب لأنه كان لدى قدر كبير من هذه العيوب ، وأنني على العكس مجرد من هذه المزايا الموجودة لدى الآخرين .. وبما أنني لا أملك خيرا مماسأ ذكره للدفاع عن نفسي ، فإنني أقترح الاستفادة من الطريقة التي استعملها عصفور ، لأن طبيعة الأمر ، إذا ما أردت أن أشرحها لكم ، تضطرني لأن أسرد عليكم قصة هذا العصفور ، وهي أقصوصة أخرى صغيرة ممتعة :

في العصر الذي كانت الطيور تتكلم فيه ، كان يوجد عصفور صغير لطيف وجريء ، كان متمتعا بذكاء عجيب بشكل خاص. وكان من طبيعته هذه الميزة أيضا ، وهي أنه يستطيع أن يعيش في الماء بين الاسماك كما يعيش فوق الأرض بين الطيور الأخرى. وفي ذلك الزمن كانت كل الطيور مكلفة بدفع ضريبة سنوية لملكها. وهكذا خطر ببال هذا العصفور فكرة كي يتخلص من دفع أي شيء وحينما أرسل له الملك موظفا لجباية الضريبة تعهد له هذا الماكر الصغير بالدفع ولكنه اندفع في الفضاء طائرا. وما لبث أن دخل البحر واختفى في غياهب مياهه. ولما رأت الأسماك هذا الأمر الجديد ، هرعت جميعا على شكل فرقة كبيرة وتحلقت حوله لمعرفة السبب الذي حدابه للمجيء عندها. فتوجه العصفور إليها بالكلام قائلا : «وا حسرتاه ، ألا تعرفون ، أيها الطيبون ؛ أن الحالة بلغت درجة لم يعد من الممكن معها العيش أبدا فوق الأرض؟ فقد أراد ملكنا الجبان ، وذلك بتأثير نزوة خطرت برأسه ، اراد تقطيع اوصالي وانا حي رغم صلاحي ، ورغم أني أكبر وجيه شرفا وفضلا بين كل العصافير». ثم تابع يقول :


«اتوسل لكم بحب الله بأن توافقوا على أن أسكن معكم ، كي أستطيع أن أقول إنني وجدت لدى الغرباء طيبة وكرما أكثر مما لدى أهلى الأقربين ؛ ولدى أولئك الذين هم من جنسي». وقد أعجبت الأسماك بهذا القول ، وأمضى العصفور عاما كاملا بينها ، دون أن يكلف دفع أية ضريبة. وعند انتهاء هذه الفترة ، وعند ما حل وقت جباية الضرائب ، أرسل ملك الأسماك أحد الأتباع للعصفور لإعلامه بالعادة ومطالبته بمجموع الضرائب المستحقة ، فقال العصفور «هذا حق طبعا» وأخذ بالطيران خارجا من الماء ، تاركا محدثة في أكبر حيرة صادفها مخلوق. وهكذا أصبح كلما طالبه ملك العصافير بالضريبة ، هرب تحت الماء ، وكلما طالبه ملك الأسماك ، عاد فوق الأرض.

وأريد أن أخلص الى ان الانسان حيثما وجد مصلحته سعى إليها قدر استطاعته. فاذا كنت قد نشرت عيوب الأفارقة ، فأقول إنني ولدت في غرناطة وليس في إفريقيا. وإذا كان عليّ ان أنتقد موطنى ومسقط رأسي فإنني سأتعلل للدفاع عن نفسي بأني نشأت في إفريقيا وليس في غرناطة. ولكني عطوف نوعا ما على الأفارقة. وهي انني لم اسرد مما يعاب عليهم إلا الأشياء الشائعة المشهودة بل أكثرها سطوعا في عيني كل إنسان.



القسم الثاني



إستهلال

تكلمت في القسم الأول من هذا الكتاب ، بصورة عامة ومجملة ، عن مدن أفريقيا وحدودها وأقسامها ، وكذلك عن الأمور المتعلقة بالأفارقة ، والتي بدت لي أنها تستحق الذكر. أما الاقسام التي ستأتي فستخصّص لا عطائكم معلومات خاصة عن مختلف الأقاليم ، والمدن والجبال والمواقع والشرائع والعادات. ولن أغفل عن ذكر أي شيء يستحق المعرفة. وسأبدأ بالغرب وأنهي عرضي في مصر ، وأعالج هذا كله في سبعة أقسام. وسأضيف قسما آخر ، وذلك بمشيئة العلي القدير ـ إذ لا يمكن انجاز شيء كامل ، هنا على الأرض ، بدون هذه المشيئة ـ أصف فيه الأنهار الرئيسية ومختلف الحيوانات والنباتات المتنوعة والثمار والبقول التي تمتاز بها أفريقيا.



مملكة مراكش

حاحه ، منطقة غربية

تنتهي بلاد حاحه (١) ، وهي منطقة من مملكة مراكش ، على المحيط من الغرب والشمال. وتنتهي جنوبا عند جبال الأطلس. وفي الشرق ، تتوقف عند نهر آسيف اينوال (٢) الذي ينبع من هذا الجبل ويصب في نهر تانسيفت. ويفصل هذا النهر بلاد حاحة عن المنطقة المجاورة.

موقع وطبيعة حاحه

تبدو هذه المنطقة وعرة جدا ، مليئة بالجبال العالية الصخرية وبالغابات والأودية المائية الصغيرة. وهي مأهولة جدا بالسكان. ويوجد فيها عدد ضخم من الماعز والحمير ، ولكن القليل من الضأن ، وأقل من ذلك من الأبقار والخيول. ولا نجد هنا سوى القليل من الثمار ، ولا ينتج هذا عن عدم مواءمة التربة ، بل عن جهل السكان ، لأني رأيت في عديد من الأماكن أن التين والدراق يكثران فيها ، وهكذا لا ينبت هنا سوى القليل من القمح في حين تكثر كميات الدخن والذرة البيضاء والشعير. ويكون انتاج العسل وفيرا ، وهو الذي يعتبر الغذاء العادي للسكان. ولما كانوا لا يعرفون ماذا يصنعون بالشمع فهم يهملونه. ونجد هنا عددا كبيرا من الأشجار الشوكية التي تنتج ثمرة بحجم حبات الزيتون الذي يأتينا من اسبانيا. وتدعى هذه الثمرة في اللغة المحلية «الهرجان». ويستخرج منها زيت رديء الرائحة جدا ، ولكنه مع ذلك يستعمل في الغذاء وفي الإضاءة.

__________________

(١) من اسم قبيلة بربرية ايحاحان.

(٢) ومعناه بالبربرية نهر الأكواخ ، وهو اسم أصبح منسيا تماما. ويقصد به المؤلف المجري الأدنى لواد شيشاوه وأحد فروعه الرئيسية. ويقصد به على التحديد واد آمسنز.


نمط حياة هؤلاء الناس

من عادة سكان هذه المنطقة أكل خبز الشعير. ويصنع هذا النوع ـ وهو إلى القرصة أدنى منه إلى الخبز ـ بلا خميرة. ويشوى في مقلاة من فخار لها شكل غطاء كمشواة فطائر الحلوى ، ويندر أن يخبز في تنور. وهناك نوع من طعام يدعى «العصيد» ، يتم تحضيره على الصورة التالية : يغلى الماء في قدر ، ثم يرمى فيه دقيق الشعير الذي يحرك بعصاة إلى ان ينضج ، ثم يسكب هذا الحساء في قصعة عميقة ويصنع في وسطها تجويف يصب فيه زيت الهرجان. وتجتمع الأسرة حول القصعة ، ويأخذ كل واحد ما يستطيع بدون استعمال ملعقة سوى اليد ، الى أن يؤتى على كل ما فيها. أما في الربيع وخلال كل الصيف فيغلى الدقيق المذكور في الحليب ويوضع فيه السمن. تلك هي وجبة العشاء العادية. أما وجبة الغذاء فتتألف شتاء من الخبز والعسل ، وفي الصيف من الحليب والزبدة. ويؤكل اللحم المسلوق أيضا مع البصل والفول ، أو يكون اللحم مصحوبا بنوع من طعام يدعى «الكسكسي». ولا يستعمل الخوان ولا السماط. بل تمدد حصيرة مستديرة على الأرض ويؤكل فوقها.

لباس هؤلاء الناس وعوائدهم

يرتدي اكثر الناس لباسا مؤلفا من قطعة قماش صوفية تدعى «الكسا» (٣) ، وهو لباس يشبه في صنعته أغطية السرر المستعملة في إيطاليا. ويلفون بها أجسادهم بشكل وثيق. كما يطوقون الردفين وأجزاء الجسم بنوع من «فوطة» من صوف ، ويضعون فوق رءوسهم قطعة من قماش من نفس الصوف ، طولها حوالي عشرة أشبار (٤) ، وعرضها اثنان ، مصبوغة بقشر من جذر شجرة الجوز ، يبرمونها ويلفونها حول هامتهم بصورة تجعل قرص الرأس مكشوفا على الدوام. وليس من عادتهم لبس القبعات ، اللهم إلا بين الكهول والمتعلمين ، هذا إذا ما وجد بينهم واحد من هؤلاء. وتكون هذه القبعات مزدوجة ، أي مبطنة ، ومستديرة ، ومرتفعة كتلك التي يلبسها بعض الأطباء في ايطاليا. وقليلون هم الذين يلبسون قميصا ، وذلك أولا لأن الكتان لا يزرع في هذه البلاد ، ثم لأنه لا يوجد إنسان يعرف صنعة النسيج. وعوضا عن المقاعد فإنهم يستعملون حصرا

__________________

(٣) وهو يشبه العباءة النسائية أو الحايك عند المغاربة.

(٤) الشبر يعادل ٢٥ سم.


ناعمة مصنوعة من قصب مضفور ، ويستخدمون عوضا عن الفراش وملحقاته أغطية طويلة من الصوف ، يبلغ طولها عشرة إلى عشرين ذراعا (٥) ، يستخدم قسم منها فراشا والآخر غطاء. وفي الشتاء يوضع الجانب الناعم من الداخل ، أي من طرف الجسم ، وفي الصيف يصنعون عكس ذلك. أما الوسائد فهي عبارة عن أكياس من صوف ، خشنة ، وغليظة ، من نوع بعض أغطية الخيول التي تأتي من ألبانيا أو من تركيا. هذا ووجوه معظم النسوة سافرة.

وفيما يتعلق بالأدوات المنزلية ، تستعمل قصعات من خشب محفور بالسكين. غير أن القدور والصحف تكون مصنوعة من الفخار.

وليس من عادة العزّاب ترك لحاهم ولا يتركونها تنمو إلّا بعد زواجهم.

وليس لديهم سوى القليل من الخيول ، ولكن هذه الخيول النادرة معتادة على التجوال في هذه الجبال بخفة وبراعة كبيرتين حتى ليظن انها من القطط ، ولا تكون محذّوة بالحديد. ولا تحرث الأرض إلا بالاستعانة بالخيل والحمير. ونجد في هذه المنطقة أعدادا كبيرة من الوعول (٦) والتيوس الجبلية (٧) والأرانب ، ولكن ليس من المألوف اصطيادها. ولا أزال أشعر دوما بالدهشة لقلة الطواحين التي نراها مع كثرة كميات المياه لهذا الحد. ويعود هذا إلى أن لكل بيت أدواته الخاصة لطحن الحب ، وإلى أن النسوة يقمن بهذا العمل بأيديهن.

ولا تعرف هذه البلاد أي نوع من أنواع التعليم ، فلا نكاد نجد إنسانا واحدا يعرف القراءة ، فيما عدا بعض رجال الشريعة الذين لا يعرفون أي نوع من أنواع المعرفة سواها. وليس في البلاد طبيب من أي نوع كان ، ولا أي جرّاح ، ولا أي عطار. وتتألف كل العلاجات من الكيّ الناري ، كما يصنع مع الحيوانات. وهناك بعض الحلّاقين الذين لا يؤدون أية خدمة جراحية سوى ختان الأولاد.

ولا يصنع الصابون من هذه المنطقة ، إذ يستعمل الرماد مكانه. والسكان في حالة

__________________

(٥) أي ٧ ، ٦ م إلى ١٣ م.

(٦) الاسم اللاتيني لهذا الحيوان هوCervus Elaphus barbarus (إذا كان هذا هو ما يقصده المؤلف). وقد أصبحت رقعة انتشار هذا الحيوان محصورة في شريط غابي ضيق يقع على الحدود التونسية الجزائرية.

(٧) وهي أبقار وحشية صغيرة ، مؤلفة غالبا من الغزلان.


حرب لا تهدأ ، ولكنها حرب أهلية لا تحمل أي أذى للأجانب. وإذا أراد أحد من أهل البلاد الانتقال من مكان إلى آخر وجب عليه أن يكون مصحوبا بفقيه أو بامرأة من هذا البلد الذي يريد الانتقال إليه.

ولا يوجد في هذه البلاد أي مظهر من مظاهر القضاء ، ولا سيما في الجبل حيث لا يوجد أمير يحكم ولا موظف. ويتمكن النبلاء والوجهاء من الاحتفاظ بشبه سلطة في داخل المدن ، وهذه المدن نادرة.

وكثير من القرى والقصور والمداشر صغيرة جدا ، وبعضها الآخر كبير ومزدهر. وسأتكلم لكم عن هذة وعن تلك.

تدنست (٨) مدينة من حاحه

تدنست مدينة قديمة ، بناها الأفارقة من سهل جميل ولطيف جدا. وتحاط كلها بسور من آجر وطين. وتقع البيوت والحوانيت في داخل السور ، وتضم قرابة خمسمائة أسرة وأكثر. وينبع نهر صغير من جوارها ويجري بمحاذاة السور.

وفي هذه المدينة بعض دكاكين التجار الذين يبيعون القماش الصوفي المستعمل في المنطقة والقماش الكتاني المستورد من البرتغال. ولا يوجد صنّاع سوى الحذّائين والحدادين وبعض الصاغة من اليهود. ولا تحوي المدينة في أي مكان منها فندقا أو حمّاما أو دكان حلاق. ولهذا عندما يقصد المدينة أي تاجر غريب ، فإنه ينزل عند صديق له أو عند معارفه. وإذا كان لا يعرف أحدا ، يقترع وجهاء البلدة على من يقوم بواجب ضيافته.

وهكذا يأوي الغرباء ، ويبتهج الناس بالتشرف بإكرام أي غريب. ومن المتعارف عليه أن من واجب كل من هؤلاء أن يترك عند سفره نوعا من هدية لصاحب البيت الذي استفضافه رمزا للعرفان. وإذا حدث ومرّ مسافر من غير التجار ، فله الحق أن يختار مقامه عند الوجيه الذي يروقه أكثر من سواه ، وذلك دون أن ينقده شيئا أو يترك هدية. وإذا مرّ فقير غريب فإنه ينزل في ملجأ معدّ خصيصا لإيواء الفقراء واطعامهم.

__________________

(٨) لا تزال هناك بلدة صغيرة في المنطقة تحمل هذا الاسم ، ومن المحتمل أن تكون هي ذاتها ، ولكن ليس هذا مؤكدا.


ويوجد في قلب المدينة مسجد كبير جدا ، مشيّد بفخامة من الحجر والكلس. وهو قديم تمّ بناؤه في العصر الذي كانت البلاد فيه خاضعة لسلطة ملوك مراكش. ويقوم في وسط الجامع خزان مياه كبير (٩). ويقوم على خدمة هذا الجامع عدة ائمة ومستخدمين. وثم كذلك عدة معابد بين جامع مصلّى ، ولكنها صغيرة ، ومع هذا فهي جيدة البناء والخدمة.

وفي المدينة مائة بيت من اليهود ، وهم لا يدفعون الضريبة العادية (١٠) ، بل من عادتهم أن يقدموا بعض الهدايا للوجهاء الذين يبسطون عليهم حمايتهم واكثرية السكان من اليهود. وهؤلاء هم الذين يملكون دار سكّ العملة ويضربون لسكان المدينة قطع نقود فضية ، ويصنعون من كل «أونس Once» من الفضة (١١) مقدار مائة وستين دانقا صغيرا ، تشبه عملة الهيللر الهنغارية ، ولكن لها شكل مربع (١٢). ولا توجد في هذه المدينة ضريبة على المعاملات التجارية (١٣) ، ولا ضريبة مكس ، ولا أية جباية أخرى. وإذا اضطرت المدينة لبعض النفقات فإن الوجهاء يجتمعون ويتوزعون هذه النفقات فيما بينهم ، كل حسب وسائله الخاصة.

ولقد تخربت تدنست عام ٩١٨ من هجرة الرسول (١٤) ، وغادرها بعض سكانها إلى الجبل والبعض الآخر إلى مراكش ، لأن جيرانهم العرب تفاهموا مع نائب ملك البرتغال الذي كان يقيم في آسفي. وكان العرب يرغبون في تسليم هذه المدينة للنصارى. ولهذا غادرها سكانها برمتهم بعد أن اتفقوا على ذلك جميعا. ورأى كاتب هذه الأسطر «تدنست» بعد خرابها. وكان سور المدينة بأجمعه منهارا ، وكذلك المنازل ، ولم تكن المدينة مأهولة بغير الغربان والبوم ، وكان ذلك في العام ٩٢٠ ه‍ (١٥).

__________________

(٩) خزان ماء مكشوف أو بركة.

(١٠) أي الجزية.

(١١) أي ٥٩ ، ٣٠ غرام.

(١٢) أي واحد من مائة من القرش الفضي. وإذا كان الأونس الإيطالي الذي يزن ٢٥ ، ٢٨ غراما معادلا للأونس المغربي فمعنى ذلك أن هذا «الدانق» كان يزن ١٧٦ ميليغرام من الفضة.

(١٣) أي رسوم على الصفقات التجارية.

(١٤) أي بين ١٩ / ٣ / ١٥١١ إلى ٨ / ٣ / ١٥١٣ م.

(١٥) لا تذكر الوثائق البرتغالية أي إشارة لهجر تدنست أو عن خرابها التام. وكل ما نعلمه عنها أن حاكم آسفي ، واسمه نونو فرناندز دو آتيد ، استطاع بالتحالف مع شيخ العرب المنحاز للبرتغاليين ، وهو يحيى أو تعفوفت ، أن يلحق هزيمة منكرة ـ


تاكوليت ، مدينة من حاحه

تقع مدينة تاكوليت على سفح جبل. وتحوي قرابة ألف عائلة. وهي على مسافة ثمانية عشر ميلا (١٦) إلى الغرب من تدنست. ويمر من جوارها نهر صغير ، تقع على ضفتيه بساتين ومزارع مليئة بالأشجار المثمرة. وفي المدينة بضعة آبار عذبة صافية الماء. ويوجد فيها جامع بديع جدا ، فضلا عن أربعة ملاجىء للفقراء ، وواحد للمتعبدين. وأهل هذه البلدة أكثر ثراء من سكان تدنست ، لأن هذه المدينة تجاور ميناء يقع على المحيط ويدعى «آقوز» (١٧).

وتباع في تاكوليت مقادير كبيرة من الحبوب نظرا لوجود سهل فسيح بجوارها ، مثلما يباع فيها الكثير من الشمع للتجار البرتغاليين ، ولهذا نرى سكانها من ذوي الهندام الجيد كما أن خيولهم مسرّجة بسروج فخمة بديعة ، وفي الزمن الذي قصدت فيه هذه البلاد كان يقيم فيها وجيه منزلته كمنزلة رئيس الوزارة ، وكان يقوم بجميع مهام الإدارة وبتوزيع العوائد التي كانت تدفع للعرب تسوية لاتفاقيات السلام ووفاء بالعقود المبرمة بينهم وبين أهل المدينة. وكان هذا الرجل يملك موارد ضخمة ، وكان ينفقها على الناس ليكسب ودهم وليظل أثيرا لديهم. وكان كريما ينفق الكثير من الصدقات ويساعد الأهالي بماله لقضاء حاجاتهم ، حتى أنه لم يكن في المدينة إنسان واحد لا يحبه ولا ينزله منزلة والده. وقد رأيت وقرأت في منزله عدة مؤلفات تاريخية وبحوث تتعلق بأفريقيا. وقد قتل هذا الرجل في حرب مع البرتغاليين عام ٩٢٣ من تاريخنا ، والذي يقابل سنة ١٥١٤ للميلاد (١٨). وسقط قسم من سكان المدينة في الأسر ، وهرب قسم آخر ، وتم ذبح

__________________

ـ بالشريف أبي عباس أحمد الأعرج. بتاريخ الأحد الأول من محرم عام ٩٢٠ ه‍. الموافق ٢٦ شباط ١٥١٤ م ، على مسافة مائة كيلومتر من آسفي على طريق تدنست. وعلى أثر هزيمة الشريف ، دخل نونو فرناندز بسلام إلى مدينة تدنست ، ولم يكن احتلالى البرتغاليين لأطلال تدنست أكثر من احتلال مؤقت. ومن المحتمل أن المؤلف رأى هذه الأطلال الخاوية في شهر حزيران أو تموز (يونيو او يوليو) من عام ١٥١٤ م.

(١٦) ٢٩ كيلومتر.

(١٧) لا يزال موقع تاكوليت مجهولا ، ومعناها بالبربرية «القلعة الصغيرة». أما موقع «آقوز» فقد تعيّن على الضفة اليمني لنهر التانسفت بجوار مصبه ، ولكن ليس على ساحل المحيط تماما. وهي الصويرة القديمة.

(١٨) والأصح عام ٩٢٠ ه‍ ، لأن المؤلف كان في مصر عام ٩٢٣ ه‍ أو ١٥١٧ م. [ونستشف من كلامه عاطفته الاسلامية الصادقة وأن تنصره لم يكن أكثر من مجاملة اضطرارية لم تتجاوز لسانه] (المترجم)


الآخرين ، كما كتبنا ذلك في «تاريخ أفريقيا الحديث» (١٩).

هاد كيّس. مدينة من حاحه

هادكّيس (٢٠) مدينة تقع في السهل ، على مسافة ثمانية أميال جنوبي تاكوليت (٢١). وفيها حوالي سبعمائة أسرة. ويتكون جدار سورها من قوالب الطوب النيء. وكذلك جامعها وكل بيوتها تقريبا. ويمر من داخل المدينة نهير قليل الأهمية تقع على ضفتيه أشجار كرة عديدة مع تكعيبات بديعة جدا تمتد عليها هذه الأشجار. وفي مدينة هادكّيس عدد كبير من الصنّاع اليهود. ومن عادة السكان أن يتأنقوا كل التأنق في لباسهم. ولديهم خيول حسان وذلك لأنهم يزاولون التجارة ويتجولون في المناطق المجاورة. وتضرب المدينة عملتها الفضية. وتقيم سوقا موسميا كل عام ، يقصده أهل الجبال المجاورة ، (ومنظر هؤلاء أدنى إلى الحيوانات منه إلى الأناسيّ). ونجد في هذا السوق الكثير من المواشي والسمن وزيت الهرجان ، وكذلك أدوات حديدية وأقمشة البلاد ، ويدوم هذا السوق خمسة عشر يوما.

ونرى بين هؤلاء السكان نساء غاية في الجمال ، بيضاوات ، متوسطات السمنة ، وهن كذلك مليحات لطيفات. ولكن الرجال عنيفون وغيورون يقتلون كل من يقترب من نسائهم. ولا يوجد هنا قاض ولا مثقف يفصل بين الناس لتسوية قضاياهم المدنية ، وهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم على هواهم. أما فيما يتعلق بالمسائل الدينية فإن لهم فقهاءهم وعلماءهم المتخصصين. ولا يوجد هنا رسم أو ضريبة من أي نوع كان ، شأنهم في ذلك شأن المدن الأخرى التي تكلمنا عنها.

وقد نزلت في بيت فقيه المدينة ، وكان رجلا جلفا للغاية ، ولكنه كان يعجب كثيرا بالبلاغة العربية وعلومها. ولهذا السبب أمسك بي بالقوة تقريبا مدة شهر عنده. وتذرّع بأنه ليس من المناسب لي أن أذهب دون أن يصاحبني باسم الصداقة التي أكنّها للعرب ، لأنه كان عربيا وكذلك أسرته. وهكذا احتفظ بي استنادا لهذه الحجة إلى أن فرغت من قراءة كتاب صغير عليه في علوم البلاغة. ومن هنا عدت إلى مراكش ، وكانت هادكّيس

__________________

(١٩) هذا المؤلف الذي سيسميه فيما بعد «الوجيز في التواريخ الاسلامية» لم يصل إلينا.

(٢٠) وهي في موقع تيكجي الحالية.

(٢١) أي ١٣ كم.


قد تخربت قبل قليل في حرب ضد البرتغاليين. وقد فزع السكان جميعا إلى الجبال. وحدث هذا في عام ٩٢٢ ه‍ في بداية السنة التي انطلق فيها المؤلف لرحلته الكبرى ، أي السنة الموافقة لعام ١٥٠٥ لميلاد المسيح (٢٢).

ايد اوايزوغ غواغن

ايد آوايزوغ غواغن هي بلدة صغيرة شيّدت لتكون قلعة فوق جبل كبير جدا على مسافة عشرة أميال (٢٣) جنوبي هادكّيس. وفيها قرابة أربعمائة عائلة. وهناك نهر صغير يمر تحت هذه البلدة (٢٤). ولا يوجد في هذه البلدة ، ولا في خارجها ، أي بستان ولا أي كرمة ولا أية شجرة مثمرة ، وذلك لسبب بسيط وهو أن سكانها مهملون وعلى درجة من التقاعس تجعلهم لا يبحثون عن أي غذاء سوى الشعير وزيت الهرجان. وهم يمشون حفاة باستثناء بعضهم من الذين ينتعلون نعولا من جلد الجمل أو من جلد الثور. وهم في حالة حرب دائمة مع أهل البادية ، ويقتتلون فيما بينهم كالكلاب. وليس لديهم أي قاض ، أو فقيه ، ولا أي شخص معروف قادر على حسم خلافاتهم ، إذ لا إيمان لهم ولا شريعة سوى ما يقولونه بأفواههم. ولا نجد في كل جبالهم إطلاقا من إنتاج غذائي سوى كمية كبيرة من العسل. ويحتفظ بهذا العسل غذاء ويباع منه للجيران ، ولكن يلقي شمعه مع القمامات.

ويوجد في هذه البليدة مسجد صغير لا يتسع لأكثر من مائة شخص ، إذ ليس لدى هؤلاء الناس أي اهتمام بالتقوى أو بالفضيلة. ويحملون معهم دائما خناجر وحرابا يرتكبون بواسطتها جرائم القتل. وهؤلاء قوم غدارون فسقة. وقد ذهبت مرة إلى هذه المدينة مع الشريف ، الذي أصبح فيما بعد أمير السوس وحاحة (٢٥) ، وكنا قد جئنا لتوطيد السلام بين السكان.

__________________

(٢٢) والصحيح ٩٢١ ه‍ أو ١٥١٥ م. ويظهر أن المؤلف قدم إلى هذه المنطقة حوالي شهر حزيران (يونيو) مع جيش السلطان أبي عبد الله محمد ، ملك فاس. وليس هناك من وثيقة تؤيد دمار هذه المدينة الصغيرة في تلك الحقبة ، والتي ربما كان اسمها آدكيس ، لأن اسمها ورد على شكل آدكة في النص البرتغالي.

(٢٣) ١٦ كم.

(٢٤) لقد اختفت هذه البلدة ولم يمكن تشخيص موقعها ، ولكن هناك فرعا من عشيرة آيت بيوض ، وهي ذاتها عبارة عن فخذ من عشيرة أيد أو زمزم ، لا يزال يحمل اسم ايد آوايزوغ غواغن.

(٢٥) هو الشريف أبو العباس الأعرج الذي أصبح فيما بعد أول سلطان من أسرة السعديين.


تيّوت

تيّوت بلدة صغيرة في السهل ، ولكنها بين الجبال ، على مسافة عشرة أميال (٢٦) إلى الغرب من ايد آوايزوغ غواغن. وتضم حوالي ثلاثمائة أسرة ، وهي مسورة بجدار من الطوب الأحمر. وكل سكانها فلاحون. وتصلح أراضيهم لزراعة الشعير ، إذ لا يزرع فيها أي نوع آخر من الحبوب. ولديهم كمية كبيرة من المزارع المليئة بالكروم والتين والدراق. كما يملكون عددا كبيرا من الماعز. وتوجد في المنطقة كمية عظيمة من الأسود التي تفترس وتلتهم عددا كبيرا من أنعامهم. وقد أقمت في تيّوت ليلة واحدة ونزلت في ضيعة شبه مهدّمة. ولقد قدمنا لخيولنا الكثير من الشعير ، ثم عقلناها وآويناها في أحسن مأوى أتيح لنا إيواؤها فيه ، وأغلقنا مدخل المأوى بكمية كبيرة من الأشواك. وقد كنا في أواسط شهر نيسان (إبريل). ونظرا لحرارة الطقس فقد صعدنا إلى السطح كي ننام تحت السماء. وحوالي منتصف الليل تسلل زوج من الأسود الضخمة وقد اجتذبتهما رائحة الخيول وحاولا نزع الأشواك. وأخذت الخيول بالصهيل والاضطراب ، وأخذنا نرتجف من رؤية الخربة وهي تنهار ومن تخيلنا أننا سنصبح فريسة لهذين الحيوانين الضاريين. وما كدنا نرى بياض الفجر حتى رحنا نسرج خيولنا وسرنا في الطريق ، أي في اتجاه المكان الذي ذهب إليه الأمير. وما كدنا نخرج حتى تعرضت هذه المدينة للخراب. وقد قتل قسم من السكان ، وأسر القسم الآخر ، وأقتيد إلى البرتغال. وحدث هذا عام ٩٢٠ ه‍ (٢٧).

تيسيغدلت

تيسيغدلت مدينة على قدر من الأهمية. وتقع على جبل عال ، ومحاطة بجروف

__________________

(٢٦) ١٦ كم.

(٢٧) سنرى فيما بعد أن المؤلف شهد في يوم الجمعة ١٤ نيسان ١٥١٤ م معركة بولوان ، وذلك بينما كان يقصد معسكر ملك فاس في مراكش كي يخبر ملك مراكش أبا علي الناصر بن يوسف الهنتاتي ، والأمير الشريف أبا العباس أحمد الأعرج ، بقرب وصول شقيق ملك فاس. فهذا الشقيق وهو الأمير مولاي ناصر الملقب بالكدادي ، اضطر أن يحارب متقهقرا في مطلع شهر أيار (مايو). ويبدو أن نونو فرناندز دو آتيد ، حاكم آسفي ، قد انطلق بعد قليل في حملة على رأس خمسمائة من الرماة البرتغاليين وأعوانه من عرب عبده وغربية ، ضد قوات الشريف في بلاد شياظمة ، وأنه استطاع أن يخضع المنطقة حتى جبال الأطلس. وهذه الحملة هي التي أدت إلى خراب تيّوت.


صخرية عالية جدا ، بحيث لا تدع حاجة للأسوار. وهي تشبه مدينة أورته في إيطاليا (٢٨). وتقع على مسافة إثني عشر ميلا (٢٩) من تيّوت باتجاه الجنوب. ويمر من تحت المدينة نهر (٣٠) ، وهنا تقع مزارع تضم كل أنواع الشجر ، ولا سيما الجوز. والأهالي هنا أغنياء ، ولديهم عدد طيب من الخيول. كما أنهم لا يدفعون أية ضريبة للعرب ، بل إنهم في حرب دائمة معهم ويقتلون كثيرا منهم. وينقل أهل القرى المجاورة كل حبوبهم إلى داخل هذه المدينة خوفا من أن يسطو عليها العرب. ولسكان تيسيغدلت عادات ممتازة فيما يتعلق بالكرم والمؤانسة. وهكذا يكلف حرّاس أبواب المدينة بسؤال كل غريب يصل إليها فيما إذا كان له صديق في المدينة. فإذا أجابهم بالنفي ، كان على هؤلاء الحراس أن يستضيفوه ، بحيث يلقى كل غريب ، وبدون أن يدفع شيئا ، استقبالا حفيّا كريما. وتكاد قلوب رجالهم تتوقد غيرة على نسائهم ، ولكنهم يحافظون كل المحافظة على قواعد دينهم ، ولهم في قلب المدينة جامع بديع جدا ، يشرف عليه بضعة فقهاء. ولديهم قاض راسخ القدم في الشريعة ، ويفصل في كل القضايا باستثناء ما يتعلق بالأضرار الناجمة عن السحر.

وتقع كل الحقول المبذورة بالحبوب في الجبل. وقد أمضيت في هذه المدينة عشرة أيام مع الأمير الشريف في عام ٩١٩ ه‍ (٣١).

مدينة تغتسّة

تغتسّة مدينة قديمة أقيمت فوق جبل عال جدا مستدير الشكل. ويخرج الانسان من هذه المدينة بالدوران حولها كسلّم لولبي. وتقع على مسافة أربعة عشر ميلا (٣٢) من تيسيغدلت. ويمر من أسفل المدينة نهر يشرب منه أهلها. ويقع هذا النهر على مسافة ستة

__________________

(٢٨) لقد اختفت المدينة المذكورة ويحمل الجبل على الخرائط اسما مشوّها هو لالاتا سنديت. ولكن موقعها لا يماثل ، في الواقع ، مطلقا موقع «أورته» التي تقع في منطقة من التلال ، في حين أن تيسيغدلت ترتفع إلى حوالي ١٣٠٠ م فوق سطح البحر.

(٢٩) ٢٠ كم.

(٣٠) هو وادي ايغر ونزار.

(٣١) سنة ١٥١٣ م.

(٣٢) ٥ ، ٢٢ كم.


أميال (٣٣) من المدينة. وتظهر المدينة لمن يقف على ضفة النهر كأنها تقع على مسافة ميل ونصف. وتنزل النسوة إلى النهر عن طريق درب ضيق منحوت بالمعول في الصخر على شكل أدراج السلم (٣٤).

وسكان هذه المدينة قتلة في حالة نزاع دائم مع جميع جيرانهم. وتقع أراضيهم الزراعية وماشيتهم في الجبل. وجميع الأحراش المحيطة بهذه البلدة مليئة بالخنازير البرية. ولا يوجد أي حصان في تغتسّة. ولا يستطيع العرب عبور المدينة ولا إقليمها بدون إذن خاص وورقة أمان.

ولقد مررت راجلا من هذا المكان في عام كانت فيه أعداد هائلة من الجراد تجتاح المنطقة بينما كان القمح على سنابله. وكان الجراد أكثر من السنابل ضعفين ، بحيث لم تمكن رؤية الأرض بسهولة. وكن هذا في عام ٩١٩ ه‍ (٣٥).

آيت دوّاد

آيت دوّاد مدينة قديمة شيّدها الأفارقة فوق جبل عال. ولكن يوجد في قمة الجبل المذكور سهل بديع جدا. وتقع على مسافة خمسة عشر ميلا (٣٦) إلى الجنوب من تغتسّة.

وفي وسط المدينة بضعة ينابيع من ماء رائق سريع الجريان شديد البرودة (٣٧). وتتألف ضواحي البلدة من جروف صخرية وغابات غير مألوفة ومفزعة. وتنمو بين هذه الصخور أعداد كبيرة من الشجر.

وفي هذه المدينة الكثير من الصناع اليهود الذين يمارسون الحدادة وصنع الأحذية والصياغة والصباغة. ويقال أن قدامى السكان كانوا يهودا من نسل داوود. ولكنهم ما لبثوا أن اعتنقوا الدين الإسلامي بعد احتلال العرب هذه البلاد. وكثير من هؤلاء السكان

__________________

(٣٣) ١٠ كم.

(٣٤) لقد اختفت هذه المدينة ، ولكن يجب أن يساعد موقعها الفريد على العثور على بقاياها.

(٣٥) في بداية صيف عام ١٥١٣ م. ويذكر تامبورال وهو أول من ترجم كتاب «وصف أفريقية» إلى الفرنسية طبعة ليون ١٥٥٥ م ص ٥٦ تاريخ ٩٠٠ ه‍. وهذا خطأ طبعا.

(٣٦) ٢٤ كم.

(٣٧) لقد اختفت هذه البلدة ، ولكن عشيرة دوّاد ، وتسمّى باللهجة الدارجة آيت داوود ، وهم فخذ من عشيرة آيت آو بوزية ، لا يزالون يقيمون في نفس الناحية.


راسخو القدم في علوم الشريعة. ولأكثرهم ذاكرة ممتازة في مسائل الفقه الإسلامي. وقد عرفت رجلا هرما يحفظ عن ظهر قلب كتابا يدعى «المدوّنة» (٣٨) ومعناه «جامع الشرائع» الذي يضم ثلاثة كتب عولجت فيها أصعب المسائل الفقهية على مذهب مالك (٣٩). وهذه المدينة عبارة عن محكمة ترسل إليها كل الدعاوي. ففيها يفصل في الادعاءات ، والاعلانات ، والاتفاقات ، والعقود ... الخ. ومن أجل ذلك يقصدها جميع أهالي المناطق المجاورة. والفقهاء هم الذين يقومون بمهمة الإدارة المدنية والإدارة الدينية. ولكن السكان لا يذعنون لآرائهم في القضايا ذات الأهمية الكبرى ، ولا يفيدهم حينئذ علمهم شيئا. وعندما قصدت هذه المدينة نزلت في ضيافة محام ، في منزله. واتفق في إحدى الأمسيات أن كان عنده عدة فقهاء اجتمعوا بعد العشاء ، وبدءوا يتناقشون فيما إذا كان يجوز لولي الأمر أن يبيع ما يملكه فرد ما لتحقيق مصلحة عامة أو لحاجة الدولة إلى ذلك. وكان من الحضور شيخ كبير قام بتلخيص هذا النقاش والفصل في هذا الموضوع ، وكان يدعى الجزار. وعند سماع كنيته هذه طلبت اليه معنى هذه الكنية ، فأجابني أن معناها «القصّاب» وأضاف : «السبب في ذلك ، أنهم شبهوني بالقصاب ، فكما أن القصاب قد اعتاد العثور على مفاصل الحيوانات ، فإنني اعتدت العثور على فصل الخطاب في قضايا الفقه الإسلامي»!! وحياة أهالي آيت دوّاد قاسية جدا على العموم. فهم يتغذون بالشعير وزيت الهرجان ولحم الماعز. والقمح غير معروف لديهم. ونساؤهم جميلات وجسومهن ملونة. والرجال أقوياء البنية ، ولهم بطبيعتهم صدور كثيفة الشعر. وهم كرماء للغاية وغيورون لأقصى الحدود على نسائهم.

قليعة المريدين

وهي قلعة صغيرة واقعة في قمة جبل شديد الارتفاع بين جبال لها نفس الارتفاع.

وتوجد في كل هذه الجبال صخور هائلة محاطة بغابات كثيفة جدا. ولا يمكن الارتقاء الى هذه القلعة إلّا بسلوك درب ضيق على خاصرة الجبل. فمن ناحية نجد جروف الصخور ومن طرف آخر حبل تيسيغدلت ، الذي لا يبعد اكثر من ميل ونصف. (٤٠) وتقع آيت دوّاد

__________________

(٣٨) تأليف العالم التونسي سحنون ، وهي من أشهر المؤلفات في مذهب الإمام مالك.

(٣٩) الإمام مالك بن أنس.

(٤٠) ٥ ، ٢ كم.


على مسافة ثمانية عشر ميلا (٤١) من هذا الموقع (٤٢). وقد شيّدت هذه القلعة في عصرنا من قبل عمر السياف (٤٣) ، وهو متمرد وزعيم للرافضة. وقد كان في البداية واعظا ، وبعد ان جمع حوله عددا كبيرا من المريدين الذين دانوا له بالطاعة ، تحوّل الى طاغية مخيف جبار. واستمرت سلطته مدة اثني عشر عاما. وقد تسبب في خراب هذه البلاد. وانتهى أمره بأن قتلته احدى نسائه حينما وجدته متلبسا بمقاربة إبنة لها من زوج آخر. وحينئذ أدرك الناس أن هذا الرجل كان فاسقا لا إيمان له ولا شريعة. فثار الشعب بعد موته وضربت أعناق الذين اتّبعوا مذهبه. وقد ترك عمر هذا حفيدا استولى على القلعة وصمد لحصار الثوار وكل سكان حاحة مدة عام ، حتى يئسوا وفكوا الحصار. ولا يزال هذا الرجل صامدا حتى اليوم أمام عداوة أهل حاحة وخصومه وكل جيرانه تقريبا. ويعيش على السلب ويهاجم فرسانه كل من يمر قرب قلعتهم. ولما كان في حالة مطاردة مستمرة فهو ينقضّ تارة على الماشية فينهبها وتارة أخرى على الناس فيقتلهم ويسلبهم ويستعين في مغامراته هذه بفرقة من رماة البنادق. ولما كان الطريق العام يقع على مسافة ميل واحد من القلعة فهؤلاء يرمون ببنادقهم ويجرحون أو يقتلون المارة البؤساء. وهذا الحاكم ممقوت من الجميع ولهذا لا يستطيع ان يزرع أو يحرث أو أن يحكم شبرا واحدا من الأرض في خارج جبله. وقد دفن جثمان جده في القلعة بصورة مكرمة جدا وراح يبجّله كأنه ضريح أحد الأولياء الصالحين. وقد مرّ كاتب هذه الأسطر من أمام هذه القلعة مع فرسان الأمير الشريف ، فقتل رماة القلعة بعض هؤلاء ، ولكنهم عجزوا عن القبض على أي واحد منهم. وعلى أثر ذلك تحادث المؤلف مع بعض الاشخاص الذين كانوا من اتباع «عمر» المذكور والذين سردوا له حياة هذا الرافضي واطلعوه على نظرياته المعادية للشريعة العامة. وقد سجل ذلك في مختصره عن التأريخ الإسلامي.

ايغيلنغيغيل. مدينة من حاحه

ايغيلنغيغيل (٤٤) هي مدينة صغيرة في الجبل بناها قدماء الأفارقة. وتقع تقريبا على

__________________

(٤١) ٣٠ كم.

(٤٢) هذه الأرقام الدقيقة هي التي سمحت بالافتراض بأن قليعة المريدين ، واسمها بالبرتغالية «كاستيللودس موردايس» كانت تقع في مكان قصبة تامالوكت الحالية.

(٤٣) عمر بن سليمان الشياظمي والملقب بالسيّاف.

(٤٤) موقع غير محدد.


مسافة ستة أميال (٤٥) جنوب آيت دوّاد. وفيها قرابة اربعمائة أسرة وفي هذه المدينة بعض الصناع الذين يقومون بالأعمال الضرورية لحاجات الحياة العادية. والأراضي المحيطة بالمدينة أراض ممتازة لزراعة الشعير. وهنا يكثر العسل وزيت الهرجان. ولا سبيل لصعود المدينة إلا عن طريق درب صغير على خاصرة الجبل ، وهو درب ضيق ورديء جدا بحيث لا يمكن السير فيه راكبا إلا بمشقة. والسكان رجال على درجة عالية من الشجاعة عندما يكونون شاكين سلاحهم ، وهي في حالة نزاع مستمر مع العرب ، ولكن أهلها دوما منتصرون على هؤلاء بسبب موقع المدينة الحصين جدا. وتصنع في هذه المدينة مقادير كبيرة من الاواني التي تباع في مختلف المدن ، ولا أظن انه يصنع مثلها في أي مكان آخر من المنطقة.

تفتنة. مدينة وميناء في حاحه

تفتنة ميناء على المحيط (٤٦) على مسافة أربعين ميلا (٤٧) الى الغرب من ايغيلنغيغيل ، وقد بنيت هذه المدينة على أيدي الأفارقة. وفيها قرابة ستمائة عائلة. ويقوم هنا ميناء جيد جدا بالنسبة للسفن الصغرى. ومن عادة بعض التجار البرتغاليين التردد عليه لمقايضة بضائعهم مقابل الشمع وجلود الماعز. ومعظم الريف المجاور لها جبلي ، وينبت فيه الشعير بوفرة. ويمر من جوار المدينة نهر صغير يكون مصبه مرسى طيبا عند هبوب عواصف البحر. ويوجد في تفتنة مصلحة مكس ومصلحة جباية ضريبة الملح ، وتوزع جباتهما على الرجال القادرين على الدفاع عن المدينة. ونجد هنا فقهاء وقضاة. ولكن القضاة غير مؤهلين للبت في قضايا القتل والجروح. وإذا ارتكب أحد السكان إحدى هاتين الجريمتين فإن أهل المجني عليه يقتلونه إذا عثروا عليه. وإلا فإن القاتل يحكم عليه بالنفي لمدة سبعة أعوام ، وفي ختام هذه المدة يدفع غرامة لأهل القتيل (٤٨). وحينئذ تسقط عنه عقوبة النفي. ولسكان تفتنة بشرة بيضاء جدا. وهم ألوفون ومحبّبون. ويختصون الغرباء عندهم بمعاملة تفوق معاملتهم لأبناء بلدتهم ذاتها. ولديهم مضافة لإيواء الغرباء ، مع أن هؤلاء يتمتعون في الغالب بضيافة أناس من الأهلين. وقد قصدت هذه

__________________

(٤٥) ١٠ كم.

(٤٦) المحيط ويقصد به دوما بحر الظلمات ، أو المحيط الأطلسي.

(٤٧) ٦٥ كم.

(٤٨) الدّية.


المدينة بصحبة الأمير الشريف ، ومكثنا فيها ثلاثة أيام خلتها مثل هذا العدد من السنين ، وذلك بسبب البراغيث التي تجل عن الحصر ، وبسبب رائحة بول الماعز وبعره. ويملك كل حضري فيها كمية من الماعز : ففي النهار يذهب الماعز للرعي وفي الليل يبيت في دهاليز البيوت وترقد بجوار أبواب الغرف.

ايداواكال. أول قسم من جبال الأطلس

وهكذا أنجزت للتو وصف المدن الهامة في حاحه. ويبدو لي أن من المناسب ان أتكلم الآن عن الجبال ، دون إغفال ما يتراءى لي أنه يستحق الذكر وذلك لأن غالبية سكان حاحه يسكنون في الجبال ، ويقيمون فيها باستمرار.

والجزء الأول من جبال الاطلس هو جبل عشيرة ايدآوآكال. (٤٩) ويبدأ عند المحيط ويمتد شرقا حتى ايغيلنغيغيل. ويفصل منطقة حاحه عن منطقة السوس. ويبلغ عرضه مسافة ثلاثة أيام على الطريق ، لأن تفتنة واقعة على رأس الساحل باتجاه الشمال وماسه على الرأس الساحلي باتجاه الجنوب. وقد قضيت ثلاثة ايام للذهاب من تفتنة الى ماسّه. (٥٠)

وهذا الجبل كثيف السكان ويضم الكثير من القرى والمداشر (٥١). ويعيش السكان فيه من تربية الماعز ، ومن الشعير والعسل. ولا يلبسون أية ثياب مخيطة بالإبرة (٥٢) ، إذ لا يوجد بينهم من يعرف الخياطة بل يلفّون أجسادهم كلها قدر استطاعتهم بقماشة واحدة. ومن عادة النساء وضع حلقات كبيرة جدا من الفضة في آذانهن. ولبعضهن أربع حلقات في كل أذن. ويستعملن ايضا أنواعا من دبابيس كبيرة حتى ليزن الواحد منها أونسا واحدا (٥٣) لتثبيت الثياب على أكتافهن. كما يحملن كذلك خواتم من فضة بأصابعهن ،

__________________

(٤٩) لقد اختفى اسم ايدآوآكال ، وربما كان ايدآوايغوال ، اسم لعشيرة صغيرة تسكن على مسافة عشرة كيلومترات الى الشمال من تفتنة.

(٥٠) وهنا يبدأ خطأ المؤلف جسيما. صحيح انه أمضى ثلاثة أيام للذهاب من تفتنة إلى ماسّه ، ولكن اجتيازه الكتلة الجبلية لم يستغرق سوى يومين للوصول الى واد السوس. وسنرى فيما بعد انه تصور ، لضعف ذاكرته ، أن وادي السوس يمر من ماسّه.

(٥١) مداشر جمع مدشر ، ويعني تجمعا سكانيا يقل عن القرية ولا يتجاوز العشرين عائلة. والعبارة مستعملة في المغرب العربي. (المترجم).

(٥٢) لقد لاحظ المترجم ذلك لدى نساء سكان جبل الأخضر البدو في إقليم برقة في ليبيا ، وهم من قبيلتي البراعصة والعبيدات ، وذلك في عام ١٩٦٤ م. (المترجم).

(٥٣) أكثر من ٢٨ جرام.


وأطواقا من فضة كذلك بكاحلهن. ولكن هذا مقصور على نساء الوجهاء والأغنياء. أما نساء العامة والفقراء فيضعن هذه الزينة من حديد أو من نحاس. ونرى هنا بعض الخيول ولكنها صغيرة الحجم ، ولا تحذى بالحديد ، وهذه الحيوانات رشيقة جدا فتقفز من أعلى لأسفل كالقطط. وتكثر هنا الأرانب والتيوس الجبلية (٥٤) والوعول (٥٥) ولكن سكان الجبال لا يعترضون أبدا سبيل هذه الحيوانات وبهذه المنطقة عدد كبير من العيون ومن الاشجار المثمرة ، ولا سيما الجوز.

ومعظم هؤلاء السكان كالأعراب ينتجعون من منطقة لأخرى. أما فيما يتعلق بالسلاح فإن رجالهم يحملون خناجر عريضة معقوفة. ولسيوفهم نفس الشكل مع ظهر عريض مثل المنجل الذي يستخدم في إيطاليا لحصد الكلأ. وعندما يذهبون للحرب يحملون في أيديهم ثلاث أو أربع حراب. ولا يوجد في المنطقة قاض أو فقيه ، ولا أي شخص يعرف العقيدة الدينية. وهم على العموم أناس أشرار وغدارون. وقد قيل للأمير الشريف بحضوري أن سكان هذا الجبل يستطيعون ان يقدموا عشرين ألف مقاتل.

حبل دمسرة

يؤلف هذا الجبل أيضا جزءا من جبال الاطلس. ويبدأ من تخوم الجبل السابق ويمتد شرقا على مسافة خمسين ميلا (٥٦) حتى جبل نيفيفة ، في منطقة مراكش (٥٧). ويفصل قسما كبيرا من منطقة حاحة عن السوس. وعند احدى نهايته يقع الممر الذي يجتازه الناس للذهاب إلى منطقة السوس (٥٨).

وهذا الجبل آهل جدا بالسكان ، ولكنهم أناس أجلاف شرسون ، ولديهم الكثير من الخيل. وكثيرا ما يحتربون مع جيرانهم ومع العرب لمنعهم من الدخول الى منطقتهم. ولا نجد هنا مدينة أو قصرا أو بيتا منعزلا ، بل العديد من القرى والمداشر. ونجد بين

__________________

(٥٤) الغزلان.

(٥٥) لم يحدد نوع هذه الوعول على الدقة.

(٥٦) ٨٠ كم.

(٥٧) تقع منطقة عشيرة «أنفيفة» الحالية في شمالي أراضي عشيرة «دمنسرة» ، بين وادي آمجنف الى الغرب ووادي ايمينتانوت شرقا.

(٥٨) وهو ممر بيباؤون.


ظهراني السكان الكثير من الوجهاء الذين تدين العامة لهم بالطاعة. وتعتبر أراضيهم ممتازة لزراعة الشعير والدخن. وتوجد فيها ينابيع عديدة تتولد عنها أنهار تهبط الى الأودية وتصب في نهر شفشاوة. (٥٩) والناس هنا جيدو الهندام ، ويستخرجون من أرضهم كمية كبيرة من الحديد الذي يباع في أماكن مختلفة مما يوفر لهم المال النقدي. ويتجول عدد كبير من اليهود على الخيل في هذا الجبل ، وهم يحملون السلاح ويحاربون لحساب رؤسائهم من سكان جبلهم. ويعتبر هؤلاء اليهود في نظر سائر يهود افريقيا الآخرين خارجين عن العقيدة الصحيحة ويسمّون كارائيم (٦٠).

وتظهر في هذه الجبال أشجار بطم وبقص ضخمة وكذلك أشجار جوز عملاقة. ويخلط سكان البلاد الجوز مع لوز الهرجان ويستخرجون منهما زيتا يميل للمرارة يتغذون به ويستضيئون.

وقد مررت بهذا الجبل عند عودتي من السوس فاستقبلت استقبالا طيبا جدا وكنت موضع رعاية بفضل كتب التوصية التي كنت أحملها من الأمير الشريف وذلك في عام ٩٢٠ ه‍ (٦١).

جبل الحديد

لا يؤلف هذا الجبل شطرا من الأطلس. ويبدأ من المحيط شمالا ويمتد جنوبا حتى نهر تانسفت (٦٢). وهو يفصل منطقة حاحة عن إقليم مراكش (٦٣) وعن إقليم دكالة. وتسكن هذا الجبل عشيرة تدعى رقراقة (٦٤).

__________________

(٥٩) ويسمى حاليا شيشاوه.

(٦٠) لقد تلاشت الكرائية (القراءون) من البلاد ، ولكن «يهود البارود» الذين يحملون السلاح ، لا يزالون دوما موجودين ، ويتميزون بوضوح عن أبناء ديانتهم الآخرين بمسلكهم.

(٦١) في حزيران أو تموز (يونية أو يولية) سنة ١٥١٤ م.

(٦٢) هذا غير صحيح. فلهذا الجبل اتجاه من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي ابتداء من ضفة نهر تانسفت اليسرى.

(٦٣) خطأ كلي.

(٦٤) هناك رسالة مؤرخة ٢ تموز (يولية) ١٥٠٩ م موجهة من سكان آسفي الى ملك البرتغال عمانوئيل الأول توضح بالفعل «أن عشيرة عرب العبدة تؤلف مع عشائر الرقراقة ورتنانة (عند مصب نهر تانسفت حيث كانت تقوم مدينة آقوز) وعشيرة دكالة ، وجميعا بربرية ، تؤلف «لفّا» واحدا (أي حزبا)». وكان عرب حريت القاطنين على ضفة تانسفت اليمنى والمرامر في جنوبي السهل المأهول بهؤلاء العرب يتبعون ايضا مدينة آسفى.


وفي هذا الجبل غابات كبيرة وكثير من الينابيع. ويكثر هنا العسل وزيت الهرجان. ولا تنتج المنطقة سوى القليل من القمح ، وتستورد ما تحتاج إليه منه من دكالة. والناس هنا فقراء ، وهم فضلاء وتقاة. ويسكن في قمة الجبل العديد من الزهاد الذين يعيشون على الثمار والماء. وهؤلاء الجبليون اوفياء ويجنحون للسلم. وعندما يرتكب احدهم سرقة صغيرة أو أية مخالفة أخرى ، ينفى من المنطقة لبعض الوقت. وهم سذج إلى حدّ يفوق الوصف. فعندما يصدر من أحد نساكهم عمل ما يعتبرونه معجزة. ولكن العرب المجاورين يسببون لهم الكثير من المتاعب ، لهذا يدفع لهم هؤلاء السكان ضريبة كي يتركوهم بسلام. وقد جرد. ملك فاس محمد (٦٥) حملة ضد هؤلاء العرب فلجأوا إلى الجبل ، ولما شعر هؤلاء الجبليون بالقوة بفضل مساعدة الملك ، هاجموا هؤلاء العرب في المضائق الجبلية ومزقوهم شر ممزق بمعونة القوات الملكية. وبعد المعركة غنم هؤلاء الجبليون خيول العرب الذين قتلوا ، وكان عددها ثلاثة آلاف وثمانمائة رأس وقدموها للملك. ولم يعد الجبليون يدفعون أي جزية. وقد شهدت هذه المعركة عندما كنت في جيش الملك ، في عام ٩٢١ ه‍. وكان عدد المحاربين القادمين من هذا الجبل حوالي اثني عشر ألفا (٦٦).

ويوجد في حاحه بضعة جبال أخرى ، ولكنها غير مأهولة. ولهذا لم أتكلم عنها خشية ان أجعل هذا الكتاب مفرط الطول أو مملا بصورة زائدة.

السوس

سنعرض الآن للكلام عن منطقة السوس. وتقع هذه المنطقة فيما وراء الأطلس باتجاه الجنوب ، تجاه منطقة حاحه ، أي عند نهاية بلاد البربر. وتبدأ عند المحيط غربا وتنتهي في رمال الصحراء جنوبا. وتنتهي شمالا عند الأطلس ، عند تخوم بلاد حاحه. وتنتهي في الشرق في النهر المسمى نهر السوس الذي استمدت المنطقة منه اسمها (٦٧).

__________________

(٦٥) أبو عبد الله محمد السعيد المللقب بالبرتغالي.

(٦٦) لا تتكلم الوثائق البرتغالية شيئا عن هذه المعركة الهامة التي لا يمكن أن تقع إلا في أواخر حزيران أو تموز (يونية أو يولية) ١٥١٥ م. وسنرى أن المؤلف الذي يغادر المغرب نهائيا في آب ١٥١٥ م لم يستطع أن يعرف ما إذا كان سكان جبل الحديد ظلوا على دفع الجزية للعرب بعد ذلك او امتنعوا عن دفعها.

(٦٧) لا نعرف مصدر اسم سوس. وربما اتى أصلا من كلمة حصان ، لأن المنطقة مشهورة بتربية هذا الحيوان. وفي البداية ـ


وسأبدأ من الغرب وسأتكلم على كل مدينة وعلى كل موقع هام على حدة.

مدينة ماسّه

وتتألف من ثلاث مدن صغرى تبعد الواحدة عن الأخرى بحوالي الميل الواحد ، وقد بناها قدامى الأفارقة على ساحل المحيط عند حضيض الرأس الذي يؤلف بداية جبال الاطلس. وهذه المدن محاطة بأسوار من الطوب النيء ، ويمر نهر السوس الكبير من بينها. ويعبر هذا النهر خوضا في الصيف ، ولكن لا يمكن اجتيازه شتاء إلا في مراكب صغيرة ليست مهيأة كل التهيئة لمثل هذه المهمة (٦٨). وتقع هذه المدن الصغرى في غابة تختلف عن الغابات المعهودة بأنها مجموعة كبيرة من النخيل يملكها هؤلاء السكان. ولكن تمور هذه النخيل ليست جيدة إذ لا يمكن حفظها على مدى العام (٦٩). وكل سكان «ماسّه» فلاحون يحرثون أراضيهم في أعقاب فيضانات النهر التي تقع في شهر أيلول (سبتمبر) وفي أواخر نيسان (إبريل) (٧٠). وتحصد الحبوب في حزيران (يونية). وإذا لم يحدث فيضان في أحد هذين الشهرين فإن المحصول ينعدم تماما. وتندر الماشية هنا. ويقوم في خارج «ماسّه» على ضفة البحر ، جامع له مكانة كبيرة في نفوس السكان. ويقول بضعة مؤرخين أن من هذا الجامع سيخرج الخليفة العادل الذي تنبأ به الرسول مجمد (٧١).

__________________

ـ كانت كلمة سوس تعني مجموع المغرب (السوس الأدنى) ، ولكن هذا الاسم انحصر فيما بعد بالمنطقة الواقعة جنوبي الاطلس (ل. ماسينيون ، ١٩٠٦ ، ص ١٩٣).

(٦٨) لقد تبيّن أن ماسّه كانت تتألف من ثلاثة أحياء ضخمة تحمل بلا شك الاسماء الحالية : أغبالو ، آغادير نسوق ، وتاسلنوت. ولكنها قريبة من وادي ماسه وليس من وادي السوس.

(٦٩) «ملاحظة هامة جدا وهذا يصح بالنسبة لكل النخيل الذي نجده بجوار سواحل البحر في كل البلاد العربية ، حتى إن بعض النخيل تكون وظيفته الأساسية تقديم السعف أو الجريد لاستعماله في صيد السمك ، كما في البحرين وجنوب تونس» (المترجم).

(٧٠) تنجم فيضانات أيلول عن الأمطار الخريفية ، أما فيضانات نيسان فتسبب عن ذوبان ثلوج جبال الأطلس.

(المترجم).

(٧١) وقد أشار اليعقوبي لهذا الجامع منذ أواخر القرن التاسع هجري تحت اسم جامع البهلول. ويقول لنا الجغرافي العربي أن السفن الناقلة للحبوب والمصنوعة في الأبلة في صدر الخليج الفارسي (العربي حاليا) كانت تقطر بحرا لهذا المكان ، ومن هنا كان يركب التجار للذهاب الى الصين. وقد جعلت هذه الجملة الشارحين في حالة حيرة. ويمكن مقارنة هذا القول مع ما يذكره لنا الجغرافي ابن خردازبة ، الذي اعتمد على مراجع النصف الأول من القرن التاسع الميلادي عن الرضبانية (الرودانيين أي سكان وادي الرون) ، وهم هؤلاء التجار اليهود المدهشون ، الذين كانوا ينطلقون بلا شك من مدينة آرل بجنوبي فرنسا ، ذاهبين أولا الى السوس الأقصى ، ومن ثم يتجهون الى مصر مرورا ببلاد البربر ، وثم إلى سورية والعراق وفارس والسندكي. ـ


ويقال أيضا ان الحوت عندما ابتلع النبي يونس ، لفظه تجاه ساحل ماسّه. وتتألف أخشاب هذا الجامع كلها من أضلاع الحوت ، وكثيرا ما يحدث أن يهيج البحر فيقذف على الشط الرملي بضعة حيتان ميتة. وتسبب هذه الحيتان الخوف لكل من يراها بسبب ضخامة أجسامها ومنظرها المشوّه. ويقول الأهلون ان كل حوت يمر من جوار هذا الجامع يموت بسبب الكرامة التي منحها الله لهذا الجامع. وقد صعب عليّ تصديق ذلك لولا انني كنت أشاهد يوميا اكثر من حوت ميت يطفو على الماء ، ولم أكن أعرف تفسيرا لهذه الظاهرة. ولكن بعدئذ ، وعلى أثر محادثة مع شيخ يهودي من البلدة ، قال لي : ليس في ذلك شيء من الدهشة ، إذ تقع على مسافة ميلين من الساحل تقريبا بعض الصخور الحادة على شكل عقبات. وعندما يكون البحر هائجا تسبح الحيتان هنا وهنالك والذي يرتمي على إحدى هذه الصخرات ويصطدم بها يتعرض لرضوض قاتلة تؤدي به إلى الموت من تأثيرها. ولهذا السبب يقذفها لهذه الظاهرة مما سمعته من جمهرة الناس.

ولقد ذهبت الى ماسّه في أيام الأمير شريف ، ودعاني أحد الوجهاء لتناول الغذاء معه في بستان خارج المدينة ، فصادفنا على طريقنا ضلع حوت وضع هناك على شكل قوس ، ومررنا من تحت هذا القوس كما نمر من تحت قنطرة باب وكنا راكبين جمالا ، دون ان يمس القوس رأسنا بسبب شدة ارتفاعه. ويقال ان هذا الضلع لا زال هنا منذ حوالي مائة سنة ويحتفظ به تحفة غريبة. هذا ويعثر في هذه المنطقة ، وذلك على شط البحر ذاته ، على العنبر من الصنف الأول ، ويباع بثمن بخس الى التجار البرتغاليين وإلى تجار فاس ، بسعر يقارب دينارا واحدا لكل أونس (٧٢) ويقول الكثيرون أن الحوت هو الحيوان الذي يفرز العنبر. ويقول بعضهم أنه عبارة عن برازه ، ويقول آخرون أنه المني الذي يسيل من أعضاء الذكر التناسلية ، عندما يريد الاقتراب من الأنثى ومن ثم يتصلب في الماء (٧٣).

__________________

ـ يصلوا الى الصين. وتتفق كل هذه الوثائق القديمة على اعتبار السوس منطقة مزدهرة. في صورة تسترعي الانتباه. أما النبوءة أو الحديث المتعلق بالفاطمي او المهدي المنتظر ، فقد استخدمها أحد الصوفيين الذي جاور في هذا الجامع ونادى بالمهدي المنتظر ، مما أدى الى هيجان عظيم من البربر ، مما دفع بزعيم البلاد لتدبير اغتياله.

(٧٢) ٢٥ ، ٢٨ جرام.

(٧٣) يقول المؤلف في الكتاب التاسع انه استنادا الى أقوال سكان الساحل فإن حوت كاشالوCachalot هو الذي يفرز العنبر الرمادي.


تيّوت ، مدينة في السوس

تيّوت مدينة قديمة بناها الأفارقة في سهل بديع جدا. وتقسم الى ثلاثة أجزاء ، يبتعد كل واحد عن الآخر بحوالي الميل ، فتشكل مثلثا. وتضم إجمالا حوالي ألف عائلة. ويمر نهر السوس من جوارها (٧٤). وتنتج هذه المنطقة الوفير من القمح ، والشعير وحبوبا أخرى وبقلا. كما تنمو فيها كمية كبيرة من قصب السكر. ولما كانوا يجهلون طبخه وتصفيته ، فإن سكرّهم يكون اسود اللون. ويأتي تجار كثر من فاس ومن مراكش ومن بلاد السودان لشراء السكر من تيوّت وفيها أيضا كمية طيبة من التمور.

والنقد الوحيد المتعارف عليه هنا هو الذهب الصافي (٧٥). ولا يوجد في المنطقة سوى القليل من الفضة ، والنسوة هن اللواتي يحملن هذا القليل من الفضة على شكل حلى ، وعوضا عن الربعيّة (٧٦) يتداول الأهالي قطعا من حديد وزن الواحدة حوالي أونسة.

ولا نجد سوى القليل من الفاكهة فيما عدا التين والعنب والتمر. والزيتون لا ينمو هنا. ولكن يجلب اليها الزيت من بعض جبال مراكش ويباع في السوس بسعر خمسة عشر دينارا للقنطار الذي يعادل مائة وخمسين رطلا إيطاليا. ونظرا لعدم وجود عملة مسكوكة ، فإن أونسة الذهب تعادل سبعة دنانير وثلث دينار. والأونسة هي نفس الأونسة الإيطالية ، ولكن الرطل يعادل ثماني عشرة أونسة ، ومائة رطل تعادل قنطارا والسعر العادي للشحن ، عندما لا يكون غاليا ولا رخيصا جدا ، هو دينار واحد لكل ثلاثة أحمال إبل ، ويزن كل حمل مائة وخمسين رطلا إيطاليا ، هذا في أثناء فصل الشتاء ، أما في الصيف فإن أجر خمسة أو ستة أحمال يبلغ دينارا واحدا (٧٧).

__________________

(٧٤) تقع تيّوت جنوب شرق تاردونت.

(٧٥) أي التبر ، أو شذرات الذهب.

(٧٦) أي الكواترين ، وهي نقود إيطالية تساوي الواحدة منها ٣ سنت من الذهب.

(٧٧) تسمح هذه التوضيحات بإجراء الحسابات التالية : الأونس الايطالي يزن ٢٥ ، ٢٨ جراما ، والرطل المؤلف من ١٢ أونسة يعادل إذن ٣٣٩ جراما. وكان الرطل المؤلف من ١٨ أونسة يعادل ٦ ، ٥٠٨ جرامات ، والقنطار المؤلف من ١٠٠ رطل يساوي ٨٦ ، ٥٠ كيلو جراما. وكان حمل الجمل ، وهو وحدة وزن كانت تدعى الوسق في ذلك العصر ، وهي كلمة لم يعد لها أي معنى في أيامنا ، كانت تعادل ٤٦٥ رطلا أي قرابة ٢٣٧ كيلو جرام.


ويصنع في مدينة تيوّت القرطواني الفاخر (٧٨) الذي يسمى المراكشي في إيطاليا. وتباع هذه الجلود بستة دنانير لكل اثني عشر ، وفي فاس بمبلغ ثمانية دنانير (٧٩).

وفي الجزء التابع لمنطقة تيوّت والذي يقع من طرف الاطلس باتجاه الجنوب (٨٠) تكون بقاعه المجاورة مزدانة بالعديد من القرى والمداشر ، ولكن في اتجاه الغرب تصبح هذه المنطقة خاوية لان السهل يكون هنا بيد العرب. ويوجد في وسط تيوّت جامع فسيح يدعى الجامع الكبير ، وقد أجري في وسطه فرع من النهر. ورجال هذه البلدة بطبيعتهم رهيبون ويعيشون باستمرار في حالة حرب فيما بينهم ، ومن النادر ان يقيموا في سلام. ولكل من أجزاء المدينة الثلاثة زعيم ، وتتألف الحكومة من مجلس يضم الثلاثة ، ولكن منصبهم لا يدوم اكثر من ثلاثة أشهر. وكساء اكثرية الناس هنا مثل اهل حاحه. ويلبس بعضهم الجوخ الصوفي ، ويلبسون قميصا ويضعون عمامة فوق رأسهم ، وهي من قماش أبيض.

وتساوي قيمة الكنا (٨١) من جوخ خشن ، مثل الفيجيت (٨٢) حوالي دينار ونصف. أما قطعة قماش الكتان البرتغالي أو الفلمنكي ، من النوع المتوسط الخشونة ، فتساوي أربعة دنانير ، وطول كل قطعة أربعة وعشرون ذراعا توسكانيا (٨٣).

وفي هذه المدينة قضاة وفقهاء لا طاعة لهم إلا في المادة الدينية. أما في الدعاوى المدنية فإن الذي عنده أقارب اكثر هو الذي يتمتع بحظوة أعظم. وإذا حدث وقتل رجل ما آخر ، فإن أقارب القتيل لهم الحق في قتله وهنا تكون القضية قد انتهت. وإذا لم يكن بمقدورهم قتله ، فإن هذا القاتل ينفى من البلد لمدة سبعة أعوام ، أو يبقى في المدينة رغما عنهم. وإذا أبعد عن البلد فهذا هو عقابه ، وعند انقضاء مدة النفي يقوم بصنع وليمة

__________________

(٧٨) نسبة إلى قرطبة التي اشتهرت بصناعة الجلود والأحذية واسمها بالاسبانية كوردوبا ، واسم صانع الأحذية بالفرنسية كوردونييه ومنها كلمة قندره وقندرجي العايتين. (المترجم) والقرطواني هو جلد الماعز او الضأن المدبوغ بالعفص مع زهرته ، والمار وكان الذي يدعى في المغرب الفلاني ، حاليا ، هو جلد الماعز المدبوغ بمادة تاكاءوت ، وهي نواة عفص الطرفاء.

(٧٩) لم يقدم المؤلف أي توضيح عن المثقال أو الدينار في فاس ، ولكن يبدو أنه شبّهه بالدوكا الإيطالي وهو ١٨ قراطا ، وكان يزن ٥٣ ، ٣ جرامات من الذهب.

(٨٠) أي في اتجاه الأطلس الصحراوي أو الخلفي ، وهو «الآنتي أطلس» في الخرائط الأجنبية.

(٨١) قياس إيطالي يساوي مترين.

(٨٢)؟

(٨٣) أي قرابة ١٤ م مما يجعل سعر المتر الواحد ٨ ، ٣ فرنكات ذهبية.


يدعو اليها كل الوجهاء ، وبهذه الطريقة يتم الصلح مع خصومه (٨٤).

وفي تيوّت الكثير من الصناع اليهود الذين لا يخضعون لأية جزية ، وهم مطالبون فقط بتقديم بعض الهدايا الصغيرة للوجهاء.

تارودنت ، مدينة في السوس

تارودنت مدينة كبيرة شيّدها قدماء الأفارقة. وتضم زهاء ثلاثة آلاف أسرة. وتقع تقريبا على مسافة تزيد قليلا عن أربعة أميال (٨٥) جنوبي الاطلس وعلى مسافة خمسة وثلاثين ميلا شرقي تيوّت (٨٦). وتشابه هذه المدينة من حيث مواردها وعاداتها بقية المدن التي سبق الكلام عنها ، ولكنها أقل سكانا. وهي مدينة اكثر تحضرا لأنه في العصر الذي كانت فيه أسرة بني مرين تحكم في فاس ، كانت تحكم ايضا في السوس وكانت تارودنت مقر نائب الملك. ولهذا نرى فيها حتى أيامنا هذه قلعة متهدمة شيّدها هؤلاء الملوك. ولكن بعد انقراض هذه الأسرة استعادت هذه المدينة حريتها. ويكتسي السكان بالجوخ وبقماش الكتان. وفيها الكثير من الصناع. ويحكم تارودنت وجهاؤها ، إذ يتسلّم أربعة منهم سويا السلطة التي لا يحتفظون بها أكثر من ستة أشهر. وأهل تارودنت أناس مسالمون لا يهينون جيرانهم قط.

ويقوم فوق هذه المنطقة ، من طرف جبال الاطلس ، يقوم الكثير من القرى والمداشر. أما السهول الواقعة في الجنوب فيحتلها العرب الذين جعلوا منها مراعيهم. ويدفع لهم سكان المدينة جزية كبيرة عن الأراضي الزراعية ، حسب المألوف ، وضريبة عن أراضيهم ولكي يؤمنوا سلامة الطرق. وقد ثارت هذه المدينة في أيامنا على العرب وخضعت للأمير شريف في عام ٩٢٠ ه‍ (٨٧).

__________________

(٨٤) «وهذا شبيه بما يسمى الجاهة في جنوب بلاد الشام» (المترجم).

(٨٥) ٥ ، ٦ كم.

(٨٦) تقع تارودنت على مسافة ٢٠ كيلومتر ، أي ٥ ، ١٢ ميل شمال غرب تيّوت وليس إلى شرقها كما يذكر المؤلف.

(٨٧) أو ١٥١٤ م.


غارتغويسّيم (أغادير)

اغادير قلعة واقعة عند النهاية القصوى لجبال الاطلس التي تتقدم على المحيط قرب المكان الذي يصب فيه نهر السوس في البحر (٨٨).

وتتبع كورتها أراض زراعية ممتازة ، وقد سقطت بيد البرتغاليين قبل عشرين سنة خلت (٨٩) وقد اتفق اهل حاحه وأهل السوس على أن يستردوا هذه القلعة ، وقدم العديد من المحاربين المشاة من مناطق بعيدة لمساعدتهم على استردادها. ونصبوا قائدا عاما عليهم كان وجيها وشريفا ، أي نبيلا من أسرة محمد صلّى الله عليه وسلّم (٩٠) وحاصر القصر لبضعة أيام (٩١) وسقط عدد كبير من القتلى بين صفوف الغرباء عن المنطقة ، فتخلى هؤلاء عن هذا المشروع وعادوا أدراجهم. ولكن ظل بعض المحاربين مع الشريف بقصد متابعة الحرب ضد النصارى. وأعطى أهل سوس هذا الشريف من المال ما يكفي للإنفاق على خمسمائة فارس. وبعد ان قبض الشريف هذا المبلغ الضخم للإنفاق على الجند ، وبعد أن اكتسب خبرة في معرفة البلاد ، أعلن استقلاله ونصّب من نفسه دكتاتورا. وعندما غادرت بلاط هذا الشريف كان لديه اكثر من ثلاثة آلاف فارس وعدد لا يحصى من المشاة ، فضلا عن خزينة حرب هامة ، كما سبق أن قلنا ذلك مع تفاصيل أكبر في «مختصر عن التاريخ الإسلامي» (٩٢).

تيدسي ، مدينة في السوس

تيدسي مدينة كبيرة تحوي أربعة آلاف أسرة. وقد بناها الأفارقة القدامى على مسافة ثلاثين ميلا شرقي تارودنت وعلى مسافة ستين ميلا من البحر وعشرين ميلا من جبال

__________________

(٨٨) كانت البلدة تحمل اسم «أغادير لا ربع» في زمن المؤلف ، أما القلعة فكانت تدعى سانتا كروز دوكا بوداغيه. وأما كلمة غارتغويسيم التي استخدمها المؤلف فهي غير معروفة ، ولعلها تحريف لكلمة بربرية «آغر كسيمة» أو ممر كسيمة ، أو رأس كسيمة.

(٨٩) وقع الاحتلال البرتغالي عام ١٥٠٥ م أي ٩١١ ه‍ أي أن هذه الاسطر قد كتبت حوالي العام ٩٣١ ه‍ / ١٥٢٤ م.

(٩٠) هو أبو العباس أحمد الأعرج.

(٩١) من المحتمل أن يكون ذلك في ٥ آب (أغسطس) ١٥١١ م.

(٩٢) يدل هذا النص على أن المختصر المذكور كان مدبجا سابقا وكان من اللازم أن يظهر في رأس الكتاب الذي بين أيدينا.


الأطلس (٩٣) وكورتها كثيرة الإنتاج وخصيبة. وتنبت فيها كمية لا يستهان بها من الحبوب وقصب السكر والنيلة. ونجد فيها اناسا يزاولون التجارة مع بلاد السودان. ويعيش الناس هناك في سلام ، ورجال هذه المدينة متحضرون وأمناء. ويحكمون أنفسهم على غرار النظام الجمهوري : فالسلطة بيد ستة اشخاص ينتخبون بالقرعة ويستبدلون مرة في كل ستة عشر شهرا.

ويمر نهر السوس من قرب المدينة ولكن على مسافة ثلاثة أميال (٩٤) وفي هذه البلدة الكثير من الصناع اليهود ، كالصاغة والحدادين ... الخ. ويقوم فيها ايضا مسجد يخدمه عدد من الأئمة والموظفين. كما يعقد فيها سوق في كل يوم سبت يجتمع فيه عرب وفلاحون وكثير من أهل الجبال. وقد وضعت تيدسي نفسها تحت تصرف الشريف سنة ٩٢٠ ه‍ الذي أقام فيها ديوانه (٩٥).

تاغاوست

تاغاوست مدينة كبيرة ، وهي أهم مدينة في سائر بلاد السوس ، ففيها ثمانية آلاف اسرة. ولها سور من الطوب النيء. وتقع هذه المدينة على مسافة ستين ميلا من المحيط وخمسين ميلا من جبال الأطلس باتجاه الجنوب. وقد عمرها الأفارقة. وعلى مسافة عشرة أميال منها نهر السوس (٩٦) وفيها الكثير من دكاكين الباعة والصناع في وسط المدينة. وينقسم السكان الى ثلاثة أحزاب تتصارع فيما بينها في معظم الأحيان. وقد استدعى احد الأحزاب العرب لنجدته ضد الحزب الآخر وهؤلاء العرب يقدمون عونهم تارة لهذا وتارة لذاك حسب الإمدادات التي ينالونها من أي جانب.

وتعتبر أراضي الزراعة في هذه الناحية خصبة للغاية ، والماشية وفيرة. ويباع الصوف فيها بثمن بخس ، وتصنع منه قطع قماش صغيرة يحملها تجار المدينة الى تومبوكتو

__________________

(٩٣) تقع تيدسي على مسافة تقارب ١٤ ميلا أو ٥ ، ٢٢ كم جنوب غرب تارودنت وعلى مسافة ٣٠ ميلا أو ٤٨ كم من البحر ، وعلى مسافة تقارب ٢٠ ميلا أو ٣٢ كم من جبال الأطلس.

(٩٤) الواقع ان نهر السوس يمر على مسافة ٢٠ كم أي ١٣ ميلا شمال تيدسي.

(٩٥) في ١٥١٤ م.

(٩٦) إن مدينة كسابي التي تحتل اليوم موقع تاغاوست ، تقع في الحقيقة على مسافة ١٢ كيلومتر إلى الغرب من غولمين ، وعلى مسافة ٣٠ كيلومتر من البحر وأكثر من ١٧٥ كم جنوب نهر السوس.


وإلى ولّالة وإلى بلاد السودان مرة في العام. ويعقد السوق العام مرتين في الاسبوع. ويرتدي أهل تاغاوست ثيابا لائقة. والنساء جميلات جدا ولطيفات. وتظهر السمرة على كثير من الرجال لأنهم ولدوا من بيض وسود. ولا توجد هنا حكومة محدّدة المعالم. فالذي عنده أكبر سلطة هو الذي يحكم. وقد بقيت مدة ثلاثة عشر يوما في هذه المدينة مع مستشار الشريف كي أشتري منها إماء زنجيات لخدمة هذا الأمير ، وهذا في عام ٩١٩ ه‍ (٩٧).

جبل حنكيسة

يبدأ هذا الجبل تقريبا من المحيط في الغرب ويذهب في اتجاه الشرق على مسافة أربعين ميلا (٩٨) وعند حضيضه تقع ماسّه وبلاد السوس الأخرى (٩٩) وسكانه رجال أولو بأس شديد : فواحد من مشاتهم لا يهاب أن يدافع عن نفسه في وجه فارسين ، مع حربتين اعتاد حملهما. ولا يجود القمح في هذا الجبل ، ولكن زراعة الشعير تنجح فيه وتعطي محصولا غزيرا ، كما يكثر فيه العسل. ويتساقط الثلج في جميع الفصول. ولكن هؤلاء الجبليين لا يخشون البرد. ولهذا يظهرون أقرب للعرى في أثناء فصل الشتاء. وقد أراد الأمير شريف أن يقدم هؤلاء خضوعهم له وأن يدفعوا له الضريبة. ولكنهم لم يقبلوا أبدا ذلك وكانوا يشنون عليه الحرب على الدوام. وكانوا هم المنتصرين حتى العام الذي كان المؤلف موجودا فيه في هذه البلاد ، في عام ٩١٩ ه‍ (١٠٠).

جبل الهلالة (١٠١)

يبدأ هذا الجبل في الغرب من تخوم الجبل السابق وينتهي في منطقة جزولة في

__________________

(٩٧) سنة ١٥١٣ م.

(٩٨) ٦٤ كيلومتر.

(٩٩) لا تزال عشيرة حنكيسة ، التي تدعى حاليا نفيسة ، تسكن في الكتلة الجبلية وقمتها جبل لكيست ، وفي البربرية ادرارنكست. الذي يرتفع الى ٢٣٧٦ م ، واسم القبيلة بالبربرية اينغيست. وهنالك بلدة تقع عند مخرج وادمست في السهل الذي يدعى تانكست.

(١٠٠) ١٥١٣ م. ولا يشير تامبورال (طبعة ليون ١٥٥٦ م. ص ٦٧) الى هذا التاريخ وكذلك راموزيو.

(١٠١) ايلالن بالبربريه وهلالة بالعربية.


الشرق. وينتهي في الشمال عند سهول السوس. وسكانه رجال نبلاء وبواسل ، ولديهم أعداد كبيرة من الخيل. ويشنون دوما الحرب بعضهم على بعض بسبب منجم فضة يقع في الجبل. ويتمتع المنتصرون بإنتاج المنجم (١٠٢).

منطقة مراكش

موقع المنطقة

تبدأ هذه المنطقة من الغرب من جبل نيفيفة ، وتمتد شرقا حتى جبل آنيماي. وتهبط نحو الشمال حتى جوار نهر تانسفت كي تنتهي عند مفرق نهر آسيف اينوال مع النهر السابق الذكر. وهنا تبدأ حاحه من الغرب. ولهذه المنطقة شكل المثلث تقريبا. وتنتج المنطقة القمح وحبوبا اخرى بمقادير وفيرة جدا. وفيها العديد من الانعام والكثير من المياه والانهار والعيون والثمار كالتمر والعنب والتين والتفاح والاجاص (١٠٣) من كل الانواع. وتقع المنطقة كلها تقريبا في السهل مثل لومبارديا في ايطاليا (١٠٤). وتكون هذه الجبال مفرطة في بردها وعقيمة ، حتى أنه لا ينبت فيها شيء ما عدا الشعير.

وسنبدأ بالتعرف على القسم الغربي ووصف كل من هذه الجبال ، وكل من المدن ، حسب طريقتنا المعتادة.

الجمعة ، مدينة في هذه المنطقة

الجمعة مدينة صغيرة في السهل ، قرب نهر شيشاوة (١٠٥) على مسافة سبعة أميال(١٠٦)

__________________

(١٠٢) يعتبر أبناء عشيرة ايلالن أو هلالة باللغة العربية ، بكل تأكيد ، أحفاد قوم Validissimi Autololes الذين يتكلم عنهم المؤرخ الروماني بلين ، وهم الذين منعوا الرومان المنطلقين من سلا من بلوغ جبال الأطلس. ويبدو أن هؤلاء كانوا يشغلون رقعة كبيرة كانت تمتد حتى الساقية الحمراء. ولم يمكن تحديد موقع المنجم. وقد فكر البعض بأن الموضوع يتعلق بمنجم الفضة القديم في تمدولت.

(١٠٣) أو الكمثرى

(١٠٤) كان هذا السهل يحمل اسم حوز مراكش والذي احتفظ به حتى الآن.

(١٠٥) وهو نهر شفشاوة وحاليا شيشاوة.

(١٠٦) ١١ كم.


من جبال الأطلس. وقد شيّدت على أيدي الأفارقة. بيد أنها سقطت بأيدي العرب في الزمن الذي فقدت فيه أسرة الموحدين سلطتها (١٠٧). ولم يبق من هذه المدينة سوى النادر من الآثار (١٠٨). ولا يزرع العرب إلا جزءا من الأراضي التي تنتج ما يكفي معيشتهم فحسب ويتركون الباقي بورا. وعندما كانت المدينة مأهولة ، كانت تنتج ما قيمته مائة ألف دينار من الموارد في العام ، وكانت تحوي قرابة ست آلاف أسرة. وقد مررت من جوارها وبتّ لدى عرب وجدتهم كرماء جدا. ولكنهم أناس خونة وغدارون.

ايمجاجن

ايمجاجن (١٠٩) حصن يقع في قمة أحد جبال الاطلس (١١٠) ، وليس لها سور ، بل هي محمية بموضعها الطبيعي. وتقع على مسافة خمسة وعشرين ميلا (١١١) جنوب المدينة الآنفة الذكر. وكانت في الماضي بيد بعض وجهاء البلاد ، ولكنها سقطت بيد عمر السيّاف الرافضي الذي تكلمنا عنه فيما سبق. وقد أظهر في أثناء حكمه أكبر قدر من الجور ، إذ لم يكن يتورع عن قتل صغار الأطفال ، كما كان يبقر بطون النساء الحبالى ، ليستخرج منها الأجنة التي كان يقطعها إربا ويضعها على أثداء أمهاتها ، فقد كانت هذه الأجنة تذوق مرارة الموت قبل أن تعرف عذوبة الحياة. وحدث هدا عام ٩٠٠ ه‍ (١١٢) ، وهكذا ظل الحصن مهجورا. وأبتدىء سنة ٩٢٠ ه‍ (١١٣) بسكنى قسم منه ، وليس هناك ما يمكن حراثته وزرعه سوى سفوح الجبال كي يمكن الحصول على ما هو ضروري للعيش ، اذ لا يمكن المرور عبر السهل خوفا من العرب تارة ، وخشية البرتغاليين تارة اخرى.

__________________

(١٠٧) بعد عام ١٢٦٩ م.

(١٠٨) وربما كانت واقعة في الموقع الحالي لقرية جماعة بوانفير.

(١٠٩) ويجعلها ماسينيون (١٩٠٦ م ص ١٨٦) مطابقة لإيميلهاين (بلاد ايمرجان).

(١١٠) إن كتابة هذا الإسم في كتاب المؤلف يدفعنا إلى لفظة على شكل ايميجاجن ، وهو اسم لم يعثر عليه ، وربما كانت ايمين آيت واجنة ، أي الفم ، وآيت واجنّه هو اسم فخذ عشيرة نجده على مسافة ٨ كم شرق ايمينتانوت ، وعلى مسافة ٢٥ كم جنوب جماعة بو أنفير.

(١١١) ٤٠ كم.

(١١٢) بين ٢ / ١٠ / ١٤٩٤ و ٢٠ / ٩ / ١٤٩٥ م.

(١١٣) ١٥١٤ م.


تنزّه (١١٤)

تنزّه بلدة حصينة تقع في الجزء الغربي من جبال الأطلس الذي يسمى غدميوا. وقد بناها قدماء الأفارقة على مسافة ثمانية أميال تقريبا شرقي سيفينوال (١١٥). وتمتد سهول فسيحة عند حضيض هذه المدينة ، وهي سهول صالحة لزراعة الحبوب. ولكن السكان الذين نكّد العرب عليهم معيشتهم لا يستطيعون زراعة الأرض. فلا يزرعون سوى سفح الجبل الواقع بين النهر والمدينة. ويضطرون مع ذلك إلى دفع ثلث دخلهم السنوي جزية لهؤلاء العرب.

سوق الجمعة الجديد (١١٦)

هذه المدينة عبارة عن حصن يقوم فوق جبل عال جدا محاط بعدة جبال أخرى. وينبع من تحت هذا الحصن نهر آسيف اينوال ، وهو اسم معناه نهر الضوضاء باللسان الإفريقي (١١٧). وينحدر هذا النهر من الجبل مع ضجيج كبير ويحفر خندقا عميقا ، على غرار نهر الجحيم في تيفولي ، وهي مدينة تابعة لامارة روما (١١٨). وقد بنيت هذه المدينة في أيامنا على يد بعض الأمراء. وتضم قرابة ألف عائلة. وقد ظلت لمدة طويلة بيد طاغية من أسرة ملوك مراكش (١١٩). ولهذا الحصن ثكنة جيدة للمشاة وللخيالة. ويجبى من قرى ومداشر هذا الجزء من الأطلس دخل يقل قليلا عن عشرة آلاف دينار. ويرتبط السكان بصداقة حميمة مع العرب ويقدمون لهم أحيانا أعطيات قيمة بديعة. وهذا ما أغاظ ملوك

__________________

(١١٤)؟

(١١٥) أي حوالي ١٢ كم شرقي وادي ايمنينتانوت ، وهي نقطة تشير إليها الخارطة باسم جبل تيلسّة ، وربما كان هذا تحريفا مقبولا عن كلمة تنزّه.

(١١٦) وتقع هذه البلدة فعلا على مسافة ١٥ كم جنوبي بلدة الجمعة القديمة في الوادي الأعلى (ما سينيون ١٩٠٦ ، ص ١٩٦).

(١١٧) «ويقصد طبعا اللغة البربرية» (المترجم).

(١١٨) إن لعبارة آسيف اينوال معنى «نهر النوالات» أي الأكواخ ، وسيقول المؤلف فيما بعد أن هذا النهر ينبع من جبل السكساوة ، أي أبعد من ذلك باتجاه الغرب. والمقصود به بالتأكيد آسيف المل ، الذي عرّب سكان الساحل اسمه فسموه وادي الملّاح أي نهر الملاح. وتشير الخارطة في هذه البقعة لمدينة مذكورة عليها بإسم مجديد. ومن الممكن تشخيص الموقع لو عثر هناك على شلال يشبه شلال نهر آنييني عند بلدة تيفولي الإيطالية ، وهو الشلال الرائع الذي يبلغ ارتفاعه ١٠٨ م.

(١١٩) ربما كان المقصود هو ادريس الهنتائي ، الذي سماه البرتغاليون ملك الجبل ، وكان من أسرة الموحدين وابن عم ملك مراكش أبي علي الناصر بن يوسف.


مراكش بضع مرات. والناس هنا ذوو تربية جيدة ، وهندامهم لائق ، والمدينة مأهولة بكثرة ، وفيها كثير من الصناع ، ويعود هذا لقربها من مراكش الواقعة على مسافة خمسين ميلا منها (١٢٠). وتوجد بين هذه الجبال مزارع أشجار بديعة حيث تنتج كمية كبيرة من الثمار. ويزرع أيضا الشعير والكتان والقنب. ولدى السكان عدد كبير من الماعز. كما أن لديهم ما يكفي من الفقهاء والقضاة. ومع ذلك فهؤلاء الرجال غلاظ النفوس ، شديد والغيرة على نسائهم. وعندما قصدت هذه المدينة نزلت عند أحد أقاربي الذي كان ينوء تحت وطأة ديون ثقيلة حينما كان في فاس ، بسبب ممارسته الكيميا (١٢١) ، وهاجر إلى هذه البلدة حيث أصبح بعد زمن يسير أمين سر لأمير المدينة.

آميز ميز

آميز ميز مدينة كبيرة نوعا ما تقع على جرف صخري في أحد جبال الأطلس على مسافة أربعة عشر ميلا إلى الشرق من المدينة السابقة (١٢٢) ، وقد بناها القدامى. ويوجد في أسفلها ممر يمكن بواسطته اختراق جبال الاطلس للذهاب إلى منطقة جزوله ويدعى ممر «بوريش» (١٢٣) ، لأن البرد يتساقط فيه باستمرار ، والبرد يشبه في تساقطه الريش الأبيض

__________________

(١٢٠) ٨٠ كم.

(١٢١) أو «علم جابر» وهو بحث اشتغل العرب وغيرهم به أمدا طويلا. وكان الغرض منه تحويل المعادن بعضها إلى بعض وخاصة تحويل بعضها إلى الذهب والفضة. وسمي «علم جابر» نسبة إلى جابر بن حيان الذي كتب فيه بحوثا كثيرة. ويرتبط هذا العلم بعقائد الاسكندريين فيشتمل على عنصر الصوفية الشرقية. ويرى المشتغلون بهذا البحث أن الذهب كان أنبل المعادن ، وهدف أعمالهم هو العثور على وسيلة لإكثار الذهب بالاستعانة بالحجر الفلسفي. وقد انتقلت هذه البحوث إلى الغرب مع الصليبيين. وأما الكيمياء الحديثة فقد نبغ فيها عدد كبير من علماء المسلمين ، ويرجع إليهم الفضل في كثير من اكتشافاتها ، مثل اتقان التقطير والأنبيق وتحضير الماء الثقيل ، وهو مزيج من الدوتير يوم والأوكسجين وأكثر كثافة من الماء العادي ، والماء اللذيذ ، وهو خليط من ماء آزوتي وحامض الكلور وهيدريت الذي يذيب الذهب والبلاتين ، والأنبيق والماء القوي. وهو الآسيد النيتريكي ، وزيت الزاج ، والغول ، وحجر جهنم والسليماني. ونذكر من بين أهم علماء الكيمياء المسلمين جابر وابن سينا.

وفي العصر الوسيط كانت هناك شخصيات كبرى في عداد الكيميائيين مثل البرت الكبير وتوماس الاكويني. وكان ريمون لول ، وروجر باكون ، وآرند دوفيلونوف من الكيميائيين الحقيقيين. وفي القرن الرابع عشر والخامس عشر كان كثير من الكيميائيين عبارة عن دجالين ، ولكن كان منهم بحاثون ، دفعت أخطاؤهم ذاتها إلى تقدم علم الكيمياء الصحيح مثل باسيل فالنتان والاسحاقين وبرنار تريفزان. وظهر منهم في القرن السادس عشر مارسيل فيسان وبيك دولا ميراندول بالأضافة إلى كورينليوس أغريبا وباراسلز وفان هلمونت. (المترجم).

(١٢٢) ٢٢ كم. وهي إلى الغرب من المدينة وليس إلى الشرق كما يقول.

(١٢٣) أي أبو الريش حسب لهجة المغاربة.


وهو يتطاير. ويمتد تحت المدينة أيضا سهول واسعة تصل حتى مراكش على مسافة ثلاثين ميلا (١٢٤) ؛ ويجود فيها قمح طيب كبير الحبات ، وهو أفضل ما رأيت ، ودقيقه في غاية الجودة. ولكن العرب يرهقون هذه المدينة بالإتاوات ، ويصنع ملك مراكش نفس الشيء ، حتى أن القسم الأعظم من الحقول أصبح مهجورا. وأخذ سكان المدينة أيضا يهجرونها وهم معدمون جدا لقلة المال ، ولكن لديهم الكثير من الأملاك ومن الغلال. ولم أنزل في هذه المدينة ولكن إلى القرب منها ، في خيمة سيدي كانون ، وهو ناسك يتمتع هنا بسمعة كبيرة(١٢٥).

تومغلاست

تتألف تومغلاست (١٢٦) من ثلاثة قصور صغار في السهل على مسافة أربعة عشر ميلا (١٢٧) من الأطلس وعلى مسافة عشرين ميلا تقريبا (١٢٨) من مراكش. وجميع القصور الثلاثة محاطة بالنخيل والكروم والأشجار المثمرة. والريف المحيط بها (١٢٩) جميل وصالح لزراعة الحب ، ولكن لا يمكن زراعته بسبب غارات العرب. وتكاد تكون هذه القصور الثلاثة غير مأهولة ، إذ لا يقيم بها أكثر من خمس عشر أسرة تمت بصلة القرابة للناسك الذي سبق لي الكلام عنه قبل قليل ، ويستطيعون ، بفضل حمايته ، أن يزرعوا بعض القطع من الأرض بدون أن يدفعوا شيئا للعرب. وهؤلاء العرب يبيتون في مساكن أهل البلد عندما يأتون إلى هذه القصور ، ومساكنهم هذه حقيرة جدا ، فهي إلى حظائر الحمير أدنى منها إلى منازل الآدميين. وهي مليئة بالبراغيث والبق وهوام أخرى كثيرة. ومياه البلدة مالحة. وقد قصدت هذه البليدة وأقمت فيها مع سيدي يحيى ، الذي قدم لجمع الضرائب من هذه البلاد باسم ملك البرتغال الذي عينّ هذا الشخص قائدا لبادية آسفي (١٣٠).

__________________

(١٢٤) ٤٨ كم والصحيح ٦٠ كم.

(١٢٥) وهو المرابط سيدي أبو عبد الله محمد كانون الذي كان له فيما بعد دور تاريخي هام.

(١٢٦) يبدو أن موقعها ينطبق على موضع بلدة غويماسّة.

(١٢٧) ٢٢ كم.

(١٢٨) ٤٨ كم.

(١٢٩) وهو سهل حوز مراكش.

(١٣٠) هذا اللقاء الذي جرى بين المؤلف وبين أبي زكريا يحيى بن محمد او تعفوفت ، حدث في أواخر حزيران (يونيو) أو في تموز (يوليو) ١٥١٤ م. وسيقول لنا فيما بعد بأنه تكلم معه باسم ملك فاس والأمير شريف وأنه كان مع سيدي يحيى ٥٠٠ فارس برتغالي وأكثر من ٢٠٠٠ فارس عربي.


مدينة تشرافت

وهي مدينة صغيرة واقعة على ضفة آسيفلمل (١٣١) على مسافة أربعة عشر ميلا (١٣٢) من مراكش وعلى حوالي عشرين ميلا (١٣٣) من الأطلس. ويوجد حولها الكثير من البساتين المغروسة بالنخيل. والأراضي صالحة لزراعة القمح. وكل سكانها يشتغلون بزراعة البساتين. غير أن فيضانات النهر الواقعة عليه هذه المدينة كثيرا ما تتلف البساتين. وفضلا عن ذلك يأتي العرب صيفا ويلتهمون ما يجدونه قابلا للأكل. وقد ذهبت لهذه البليدة ولم أبق فيها إلا ما يكفي من الوقت لتقديم الشعير لخيولنا. وقد شاء حسن حظيّ أنني لم أقتل غيلة في هذا اليوم بأيدي هؤلاء العرب.

مدينة مراكش الكبرى

مراكش مدينة كبيرة جدا ومن بين المدن الرئيسية في العالم ، ومن أكثرها شرفا في افريقيا. وتقع هذه المدينة في سهل واسع على مسافة أربعة عشر ميلا من الاطلس. وقد شيّدت من قبل يوسف بن تاشفين ، ملك قبيلة لمتونة (١٣٤) في الزمن الذي دخل هذه المنطقة مع قبيلته. وجعل منها عاصمة مملكته ، قرب ممر أغمات الذي يخترق الاطلس من خلاله للذهاب إلى الصحراء حيث تقطن هذه القبيلة. وقد شيّدت وفق مخططات وضعها مهرة المهندسين على يد طائفة من العمال الحاذقين. وتحاط بأرض زراعية واسعة. وكانت يقطنها مائة ألف أسرة أو أكثر في حياة علي ، ابن الملك يوسف (١٣٥). وكان لها أربعة وعشرون بابا وجدار سور غاية في الجمال والمناعة ، مبنّى من اللبن الكلسي ومن رمل غليظ مخلوط بالجص. وعلى مسافة ستة أميال من مراكش يمر نهر كبير يدعى التانسفت (١٣٦) ، وتكثر في هذه المدينة الجوامع ، والمدارس ، والحمامات والفنادق حسب الأسلوب الشائع في افريقيا. ومن هذه الجوامع ما بناه ملوك لمتونة (١٣٧) ، ومنها ما شيده من جاءوا من

__________________

(١٣١) تشرافت واقعة على واد نفيس.

(١٣٢) ٢٢ كم.

(١٣٣) ٣٢ كم.

(١٣٤) لقد بناها يوسف بن تاشفين زعيم لمتونة في سنة ١٠٦٢ م.

(١٣٥) أبو الحسن علي بن يوسف الذي حكم من ٤ / ٩ / ١١٠٦ إلى ٢٦ / ١ / ١١٤٣.

(١٣٦) في الحقيقة لا تزيد المسافة كثيرا عن أربعة أميال (٧ كم) بين نهر التانسفت ومراكش.

(١٣٧) المرابطون.


بعدهم ، وهم ملوك الموحدين. ومن هذه الجوامع يوجد جامع بديع جدا ، في قلب المدينة ، وهو الجامع الذي بناه علي بن يوسف ، أول ملك على مراكش ، ويسمى جامع علي بن يوسف. ولكن أحد ملوك الموحدين واسمه عبد المؤمن (١٣٨) هدمه وأعاد بناءه لا لشيء إلا لمجرد القضاء على اسم «علي» كي يحل اسمه مكانه. وقد كان هذا جهدا ضائعا ، لأن الناس قد ظلوا يسمونه باسمه القديم. هذا ويوجد أيضا بجوار القصبة تقريبا جامع آخر بناه عبد المؤمن نفسه ، وكان ثاني ملك من الأسرة التي قضت على دولة المرابطين وخلفتها (١٣٩) ، وبعدئذ جاء حفيده المنصور (١٤٠) ووسّعه بمقدار خمسين ذراعا من كل جانب وزيّنه بالعديد من الأعمدة التي جلبها من أسبانيا. وبني تحت هذا الجامع خزان مياه (١٤١) يتمثل في نفق وجعل سقفه من رصاص محفوف بقنوات تجري فيها المياه الهاطلة على السقف وتصب في الخزان. كما شيد منارة مبنية بحجارة منحوتة ضخمة ، شبيهة ببرج الكوليزيه في روما. ويبلغ محيط هذه المنارة مائة ذراع توسكاني (١٤٢) ، وهي أعلى من برج آزينليّ في بولونيا (١٤٣). ويرقى إلى هذه المنارة بواسطة درج يبلغ عرضه تسعة أشبار (١٤٤). ويبلغ سمك الجدار الخارجي عشرة أشبار (١٤٥) ، وسمك جدار المنارة الداخلي خمسة أشبار (١٤٦). ويوجد في داخل المنارة سبع غرف فسيحة (١٤٧) ، جميلة جدا ، بعضها فوق بعض. ويكون الدرج منيرا بشكل كامل لأنه يحوي ، من الأسفل للأعلى ، طاقات بهية ، مفتوحة بمهارة فنية عظيمة ، وهي أكثر عرضا من الداخل مما هي من الخارج. وعندما يصل الانسان إلى أعلى المنارة يجد منارة صغيرة يكون أعلاها هرمي الشكل ، يبلغ

__________________

(١٣٨) هو الخليفة الموحدي أبو محمد عبد المؤمن بن علي وحكم من ٢١ / ٨ / ١١٣٠ إلى ٣ أو ٧ / ٤ / ١١٦٣ م.

(١٣٩) لقد كان أول إمام الموحدين المهدي محمد بن تومرت وحكم من ٢٥ / ١١ / ١١٢١ إلى ٢١ / ٨ / ١١٣٠ م.

(١٤٠) أبو يوسف يعقوب المنصور وحكم من ٣٠ / ٧ / ١١٨٤ إلى ٢١ / ١ / ١١٩٩ م.

(١٤١) يسمى حزان المياه «ماجن» في أقطار المغرب ، وتقابل هذه الكلمة «صهريج» في المشرق (المترجم)

(١٤٢) نسبة إلى توسكانيا وهي مقاطعة إيطالية. والرقم الذي يذكره يساوي ١٢ ، ٥٥ م في حين أن محيط منارة الكتبية الشهيرة هو ٥٠ م.

(١٤٣) برلونيا مدينة إيطالية. والواقع أن ارتفاع الكتبيّة يقل عن البرج المذكور بثلاثين مترا لأن ارتفاع برج آز ينللي هو ٦ ، ٩٧ م وارتفاع الكتبيّة ٥ ، ٦٧ م ، وبالاضافة إلى ذلك لمّا كان برج آز ينللي ممشوقا أكثر فهو يتراءى أكثر ارتفاعا بكثير من الكتبيّة.

(١٤٤) كان شبر مراكش يعادل ٦ ، ٢١ سم ولما كان عرض درج الكتبيّة ٥ ، ١ م فكان يجب أن يقول سبعة أشبار.

(١٤٥) أي ١٦ ، ٢ م والحقيقة ٢ م.

(١٤٦) ٠٨ ، ١ م والحقيقة ٥ ، ١ م.

(١٤٧) هي خمس غرف فقط.


إطاره خمسة وعشرون ذراعا (١٤٨) ، أي قدر حجم المنارة تقريبا (١٤٩) ، ويبلغ ارتفاعها رمحين (١٥٠) ، وتضم ثلاثة أدوار مسقوفة عقدا يصعد اليها بسلّم خشبي. وقد ثبت ساق فوق قمة هذا الهرم ، بصورة محكمة ، وضمّت فيه ثلاث تفاحات فضية ، السفلى أكبر من الوسطى وهذه أكبر من العليا. وتزن الثلاثة ثلاثة وتسعين رطلا إيطاليا (١٥١). وعندما يكون الانسان في الطابق العلوي من المئذنة الصغيرة ، يجب عليه أن يدير رأسه في سائر الاتجاهات ، كما لو كان في قفص الصاري في سفينة. وإذا ما نظرنا إليها من أسفل ، لا يظهر الرجال ، مهما كانت قامتهم ، أكبر من أطفال في السنة الأولى من عمرهم. ويكتشف الناظر من أعلاها جبل آسفي الذي يقع على مسافة مائة وثلاثين ميلا من مراكش (١٥٢) ، كما ترى أيضا السهول المجاورة حول المدينة على مسافة خمسين ميلا تقريبا (١٥٣).

وهذا الجامع المذكور ليس كثير الزينة من الداخل. غير أن السقف مصنوع من الخشب المخرّم مثل كثير من السقوف التي نراها في كنائس إيطاليا. وهو من أجمل مساجد العالم. ولكنه اليوم مهمل لأن سكان مراكش اعتادوا ألا يقيموا فيه سوى صلاة الجمعة ، وكذلك لأن المدينة قليلة السكان جدا ، وخاصة في الأحياء الملاصقة ، حتى لقد أصبح من الصعوبة بمكان الوصول إليه بسبب أنقاض الخرائب التي تعرقل الطريق. وكان تحت الباب الرئيسي للجامع ، في الماضي ، مائة دكان لبيع الكتب (١٥٤) ، ولكن لا يوجد شيء منها الآن.

وتبدو هذه المدينة البائسة خاوية بنسبة الثلثين. وأصبحت الأراضي الخالية مزروعة بالنخيل والكرمة والأشجار المثمرة ، لأن السكان لا يستطيعون الحصول على شبر من الأراضي الصالحة للزراعة في خارج الأسوار لكثرة ما يتعرضون لغارات العرب. ويمكن

__________________

(١٤٨) أي ٣٥ ، ٢٥ م وفي الحقيقة هي ٢٩ ، ٢٧ م.

(١٤٩) هذا في الواقع نواة المنارة لأن جدار المنارة الصغرى هو امتداد لجدار المنارة الكبرى الداخلي.

(١٥٠) وهذا القسم من المنارة تعرض للتعديل ولكن كانت توجد رماح رياضية طويلة تبلغ حوالي ستة أمتار من الطول.

(١٥١) يزن الرطل ٠٧١ ، ٣٣٩ جراما ، فيكون المجموع ٥٣٣ ، ٣١ كيلو جرام.

(١٥٢) أو ٢٠٨ كم ، والحقيقة أن الكتلة الجبلية التي سيسميها المؤلف جبل بني ماجر لا تبعد اكثر من ١٠٠ كم عن مراكش على خط مستقيم.

(١٥٣) أي حوالي ٨٠ كم.

(١٥٤) ومن هذا جاء اسمه : «جامع الكتبيّة».


القول أن هذه المدينة قد هرمت قبل الأوان ، إذ في السنة التي يكتب فيها المؤلف هذا الكتاب يكون قد مضى خمسمائة سنة على بنائها في عهد يوسف بن تاشفين في عام ٤٢٤ ه‍ (١٥٥). وبعد موت يوسف استلم السلطة ابنه علي (١٥٦) ، وخلفه ابنه ابراهيم (١٥٧). وفي ذلك الزمن ظهر داعية ، يدعى المهدي ، الذي كان ولد وترعرع في هذه الجبال ، وثار ، وجمع جيوشا جرارة وشهّر الحرب على ابراهيم (١٥٨).

واضطر الملك للخروج مع جيشه لملاقاة جيش المهدي. ونشبت المعركة ولم يكن الحظ حليف الملك فانهزم. وقطعت عليه طريق العودة إلى مراكش ، فعزف عن الرجوع إليها وهرب نحو الشرق سالكا حضيض سفوح الأطلس مع القليل من قواته المتبقية. ولكن المهدي لم يقنع بذلك. فكلف أحد تلامذته ، واسمه عبد المؤمن ، أن يتعقب الملك مع نصف الجيش. وبقي معه النصف الآخر لضرب الحصار على مراكش. ولم يفلح الملك في العثور على وسيلة للتخلص من عدوه ولا للدفاع عن نفسه إلى أن بلغ وهران. وخطر له أن يتحصّن فيها قدر استطاعته مع بقية قواته داخل المدينة. ولكن وصل عبد المؤمن في الحال وعسكر أمام وهران ، وحينئذ جاء السكان وذكروا للملك أنهم لا يستطيعون أن يعرضوا أنفسهم للضرر بسببه. وبعد أن فقد الملك البائس كل أمل أردف الزوجة التي كانت معه خلف ظهره ، وخرج من أحد أبواب المدينة ، دون أن يتعرف عليه أحد ووجّه حصانه نحو جرف عال يطل على البحر ، ثم لكز خاصرتي حصانه وتدهور وراح يسقط من صخرة إلى صخرة. ولقي الثلاثة حتفهم وتهشموا فوق رصيف صخري على الساحل ودفنوا بصورة بائسة. وعاد عبد المؤمن ظافرا إلى مراكش وشاء حسن طالعه أن يجد المهدي قد توفي. وهكذا تم انتخابه ملكا مكانه من قبل أربعين مريدا وعشرة من حجاب المهدي ، وكانت عادة جديدة في التشريع الإسلامي. وهكذا أحكم حصار مراكش بشدة. ثم قبض على اسحق ، وهو الإبن الوحيد الذي ظل حيا من أبناء

__________________

(١٥٥) في الحقيقة تحدد تأسيس مراكش بعام ٤٥٤ ه‍ / ١٠٦٢ م وهذه الأسطر كتبت حوالي العام ٩٣٢ ه‍ / ١٥٢٥ م.

(١٥٦) وكان ذلك في ٤ أينول (سبتمبر) ١١٠٦ م.

(١٥٧) وكان هذا تاشفين بن علي الذي نودي به ملكا بتاريخ ٢٧ كانون الثاني ١١٤٣ م.

(١٥٨) لقد بدأ محمد بن تومرت (الملقب بالمهدي بن تومرت) دعوته في عام ١١١٦ م بعد عودته من المشرق ، وفي ١١٢٠ م ثار على الملك المرابطي علي بن يوسف ، وفي يوم الجمعة ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٢١ م نودي به في جامع نينمل مهدي الموحدين. والمرجح أنه مات يوم الأربعاء ٢٠ آب (أغسطس) ١١٣٠ م ، أي قبل خصمه للملك المرابطي علي بن يوسف. بحوالي اثنتي عشرة سنة.


إبراهيم ، وهو طفل صغير ، فخنقه بيده بدون رحمة ، وبعد أن أعمل السيف في رقاب معظم الجند الذين كانوا هناك ، عمد إلى قتل شطر كبير من سكان مراكش (١٥٩).

وحكمت أسرة عبد المؤمن عن طريق التوراث من عام ٥١٦ ه‍ إلى عام ٦٦٨ ه‍ (١٦٠). ثم جردت من سلطتها على أيدي ملوك أسرة بني مرين. فانظر كيف يكون الحظ قلّبا! وقد احتفظت هذه الأسرة الجديدة بالمملكة (١٦١) حتى عام ٧٨٥ ه‍. ثم خبا نجمها وراح يحكم مراكش بعض الأمراء الذين يرجع أصلهم إلى الجبل العتيق ، المجاور للمدينة (١٦٢).

وفي أثناء هذه التقلبات في السيادة لم يجلب أحد ضررا على مراكش أكثر من المرينيين الذين سكنوا في فاس بعد أن جعلوها مقر البلاط الملكي (١٦٣) في حين كانوا يرسلون نائبا إلى مراكش ، وأصبحت فاس عاصمة موريتانيا وكل المنطقة الغربية. وقد عالجنا هذه القضية بصورة أكثر شمولا في «المختصر» الذي علناه عن التاريخ الاسلامي.

ولقد ابتعدنا قليلا عن موضوعنا ، وحان الوقت للعودة الآن إلى وصف مراكش.

__________________

(١٥٩) هذا الملخص الذي ذكره عن سقوط أسرة المرابطين لا يتفق مع حقائق التاريخ. فالمهدي بن تومرت لم يقم حتى موته بأكثر من غزوات ضد قبائل الأطلس الجنوبي وضد علي بن يوسف ، ملك مراكش. ولكن كان خلفه ، أبو محمد عبد المؤمن الكومي ، الذي نودي به يوم الخميس ٢١ آب (اغسطس) ١١٣٠ م ، هو الذي انجز فعلا عملية الاستيلاء البطىء على امبراطورية المرابطين. ولم تسقط مراكش إلا يوم السبت ١٢ آذار (مارس) ١١٤٧ م حسب كل احتمال. ويبدو أن موت تاشفين بن علي بصورة مأساوية والذي ورد ذكره هنا بصورة مختلفة ، قد حدث ليلة ٢٧ رمضان من عام ٥٣٩ ه‍ / أو ليلة ٢٢ إلى ٢٣ آذار (مارس) ١١٤٥ م. وعندئذ نودي بابنه إبراهيم ملكا على مراكش ، ولكن عجز هذا الملك أدّى إلى خلعه وانتخاب عمه الصغير اسحق ابن علي. وهذا هو الذي اغتاله عبد المؤمن دون شفقة.

(١٦٠) لقد نصب عبد المؤمن بتاريخ الرابع عشر من رمضان ٥٢٤ ه‍ وآخر ملك من الموحدين هو أبو العلا ادريس الملقب بأبي دبوس ، الذي قتل في آخر يوم من عام ٢٢٧ ه‍ / الجمعة ٣٠ آب (اغسطس) ١٢٦٩ م. ولكن بعد يومين أي الأول من ايلول (سبتمبر) أو الثاني من محرم ٦٦٨ ه‍ استطاع قاهره ، يعقوب بن عبد الحق ، الذي سبق أن نودي به ملكا على الشمال بتاريخ ٣٠ تموز ١٢٥٨ م ، أن يدخل مراكش وامتلكها نهائيا وأقام فيها.

(١٦١) أي مملكة مراكش.

(١٦٢) هذا التاريخ أي ٧٨٥ ه‍ / ١٣٨٣ م. هو بلا شك التاريخ الذي تنازع فيه على مراكش اثنان من سلاطين المرينيين المتنافسين وهما عبد الرحمن بن ايفاللوسن وأبو العباس احمد ابن أبي سالم. وقد حاصر الثاني عدوه في مراكش ، وتمكن أخيرا من الانتصار عليه وقتل عبد الرحمن مع ولديه. وربما كانت مراكش في هذا الوقت تحت حكم أمراء يعودون أصلا لقبيلة هنتاتة ، وقد استقلوا استقلالا ذاتيا واتخذوا بعدئذ لقب سلطان.

(١٦٣) سنة ١٢٧٦ م.


تملك هذه المدينة قصبة (١٦٤) لا يقل اتساعها عن مدينة ، مع أسوار سميكة ومتينة وأبواب بديعة جدا بني جانباها وأسقفها (١٦٥) من الحجر المنحوت وصنعت مصاريعها من الحديد. ويقوم في وسط القصبة جامع جميل جدا تعلوه منارة فخمة رشيقة ، في قمتها ساق من حديد انتظمت فيه ثلاث تفاحات من الذهب تزن مائة وثلاثين ألف دينار افريقي (١٦٦). والسفلى هي أكبر التفاحات والعليا هي أصغرها. وقد فكر عدة ملوك بانتزاعها وسكّها عملة عندما كانوا في حاجة ، ولكن كان يقع لهم دائما حادث خارق يقسرهم على تركها ، حتى أنهم اعتبروا المساس بها شؤما. ومن الشائع بين الأهلين بأن هذه التفاحات قد وضعت في مكانها تحت تأثير الكواكب بحيث لا يمكن انتزاعها من مكانها ، ويضاف إلى ذلك أن الذي ثبتها نطق رقية سحرية اضطرت بعض الأرواح بتأثير منها إلى تجنيد حرس واصب. وفي أيامنا أراد ملك مراكش (١٦٧) الذي كان عليه أن يدافع عن نفسه ضد النصارى البرتغاليين ، والذي لم يكن لديه أي تقدير لتطيّر الدهماء الساذج ، أن يقتلع هذه الكرات ، ولكن سكان المدينة لم يسمحوا له بذلك ، متذرعين بأنها تؤلف أشرف زينة لمدينتهم. ونقرأ في الكتب التاريخية أن زوجة المنصور (١٦٨) رغبت ، بعد أن بنى زوجها هذا الجامع (١٦٩) في أن تخلف هي نوعا من ذكرى عن نفسها بين تزيينات هذا البناء ، فباعت حليها الذهبية الخاصة ، والفضية والأحجار الكريمة وجميع ما قدمه لها الملك عند زواجه منها وأمرت بصنع التفاحات الذهبية الثلاث التي تعطي مظهرا جميلا للغاية فوق قمة هذه المنارة ، كما قلنا ذلك آنفا. هذا وتقوم في القصبة مدرسة جميلة جدا أو ، على الأصح ، مؤسسة للدراسات ولسكنى طلاب متنوعين وتحوي على ثلاثين غرفة ، وفي الطابق الأرضي قاعة كانت تعطى الدروس فيها في الماضي. وكان كل تلميذ مقبول في هذه المدرسة يعفى من مصاريفه ويكسى مرة في كل عام. وكان الأساتذة يتقاضون مرتبا يتراوح بين مائة ومائتي دينار حسب طبيعة الدروس

__________________

(١٦٤) تعني كلمة قصبة في بلاد المغرب الحصن أو القلعة. (المترجم).

(١٦٥) يسمى سقف الباب أسكفّه. وقد تطلق هذه الكلمة كذلك على عتبته السفلى.

(١٦٦) يعود هذا البناء للعصر الموحدي. والدينار هنا يعني المثقال الموحدي ويزن ٧ ، ٤ جرامات ويجب بكل تأكيد أن نقرأ عوضا عما كتبه المؤلف : ثلاثة عشر الف دينار ، أي ٦٠ كجم من الذهب.

(١٦٧) أبو علي الناصر بن يوسف.

(١٦٨) أي زوجة الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن ، الملقب بالمنصور.

(١٦٩) في عام ٥٩٤ ه‍ أو ٢٤ / ١٠ / ١١٩٦ م الى ١٢ / ١٠ / ١١٩٧ م.


التي عهد إليهم بأمر القيام بها ، ولا يمكن قبول أحد في هذه المدرسة بدون أن يكون على اطلاع تام بمبادىء العلوم. وهذه البناية مزدانة بالفسيفساء البديعة. وحيثما لا يكون هناك فسيفساء فإن الجدران الداخلية تكون مغطاة بمربعات من قرميد مشوي ، مطلية ومقطعة على شكل أوراق شجر خفيفة (١٧٠) أو بمواد أخرى تحل محل الفسيفساء ، وهذا خاصة في غرفة الدروس وفي الدهاليز المسقوفة. وكل رقعة لا تكون مسقوفة تظهر أرضها مبلطة بمربعات مطلية تسمى الزليج كما كان الوضع في أسبانيا (١٧١). ونجد في وسط البناء حوضا منقوشا بالنحت ، مصنوعا من المرمر الأبيض ، ولكنه منخفض حسب العادة في افريقيا. وكان يوجد في الماضي ، حسبما بلغني ، عدد كبير من الطلاب في هذه المدرسة ، ولكنهم لا يزيدون اليوم عن خمسة ، مع أستاذ شريعة ذي جهل عميق ، ليس في ذهنه إلا معارف ضحلة غامضة عن الانسانيات وأقل من ذلك عن العلوم الأخرى.

وعندما ذهبت إلى مراكش كانت لي علاقات ودية مع قاض هناك كان رجلا غنيا ، وكان يعرف تاريخ افريقيا بصورة جيدة ولكنه غير ضليع في علم الشريعة. وقد حصل هذا الرجل على وظيفته بفضل الممارسة التي اكتسبها في خلال أربعين عاما كان في أثنائها كاتب عدل ومقربا من الملك. أما الأشخاص الآخرون الذين كانوا يشغلون وظائف عامة فقد ظهروا لي من ذوي النفوس الغليظة وذلك استنادا للتجربة التي كانت لي حينما كنت بصحبة هذا الامير ، في البرية ، في أول مرة أقصد فيها منطقة مراكش.

هذا ويوجد في القصبة أحد عشر أو اثنا عشر قصرا متقنة البنيان والزخرفة من التي بناها المنصور. وأول قصر نصادفه كان يقيم فيه الحرس من الرماة ، النصارى ، الذين كان عددهم ، عادة ، خمسمائة ، وكانوا يسيرون دوما أمام الملك عندما كان ينتقل من مكان إلى آخر. وكان يقيم في القصر الواقع إلى جانب السابق عدد مماثل من النّبالة. وعلى مسافة أبعد من ذلك بقليل كان يسكن المستشارون وأمناء السر وكان مقامهم يسمى بالعربية «بيت القضايا». وكان القصر الثالث يحمل اسم قصر النصر ، وهناك كانت تخزن اسلحة المدينة وذخائرها. وفي قصر آخر ، وعلى مسافة ما ، كان يسكن رئيس اسطبلات الملك ، ويوجد قرب هذا القصر ثلاثة اسطبلات مسقوفة بعقود كل منها يمكن أن يؤوى ثلاثمائة حصان بسهولة. ويوجد أيضا اسطبلان آخران ، أحدهما للبغال يضم

__________________

(١٧٠) وهو يسمى حاليا بالزليج Zellij

(١٧١) كان الزليج في ذلك العصر عبارة عن بلاطات مربعة كاملة مدهونة ، وفي اللغة الأسبانية آزولوجوس.


مائة رأس ، والآخر للأفراس وإناث البغال التي كان يركبها الملك.

وبعد هذه الاسطبلات كان يوجد صومعتان كبيرتان ، وهما أيضا على شكل أقبية. وكان لكل صومعة منهما طابق علوي. ففي الطابق الأرضي كان يخزن التبن. وفي القسم الأول من الطابق العلوي كان يخزن الشعير للخيل ، وفي القسم الثاني القمح. ويستطيع كل من هذين الطابقين أن يستوعب أكثر من ثلاثين ألف «روغجي» من الحب (١٧٢).

وقد فتحت فوق سقف هاتين البنايتين طاقات ، ويرقى إلى هذا السقف بواسطة درج من حجر. وتصعد الحيوانات المحملة فوق هذا السقف حيث يكال الحب ، ثم يصب من هذه الطاقات. وعندما يراد سحب الحب يكفي فتح الفوهات المفتوحة من أسفل الصوامع. وهكذا يمكن سحب الحب من هذه الصوامع وتخزينه فيها بدون مشقة. (١٧٣)

وعلى مسافة أبعد قليلا يقوم قصر آخر جميل يستخدم مدرسة لأبناء الملك ولأبناء أسرته. ونرى فيه قاعة بديعة جدا مربعه محاطة بممشى مع نوافذ أنيقة جدا تزدان بزجاج ملون. ونجد حول هذه القاعة بضع خزائن خشبية مزدانة بنقوش محفورة مذهبة ، وتتغطى من مختلف أجزائها برسوم ذهبية. وبلون لا زوردى زاه. هذا وكان يوجد قصر آخر مخصص لحرس مؤلف من بعض رجال الدرك. وفي قصر آخر كبير جدا كان يجلس فيه الملك للمقابلات العامة. وفي قصر آخر كان يجلس السفراء عند ما يستقبلهم الملك وكذلك امناء السر. وكان قصر آخر مخصصا لزوجات الملك ووصيفاتهن وجواريهن.

وإلى جوار هذا كان يقوم قصر مقسوم إلى عدة مساكن لأبناء الملك ، اي عند ما يكونون في سن الشباب نوعا ما. وعلى مسافة ما ، أي على طول جدار القصبة الذي يطل على الحقول ، كان يقع بستان جميل وواسع جدا مليء بكل أنواع الأشجار والزهور. ويرى الناظر فيه حوضا مربعا ، كله من المرمر ، وعمقه سبعة أشبار (١٧٤) ، في وسطه عمود كان يحمل أسدا من رخام منحوت في فن دقيق ، يتدفق من فمه ماء صاف غزير كان

__________________

(١٧٢) كيل إيطالي لا نعرف سعته بشكل دقيق.

(١٧٣) يطلق على أمين السر اسم «الكاتب». (المترجم).

(١٧٤) أي ٥ ، ١ م إذا كان يقصد بذلك الشبر المراكشي وهو ٦ ، ٢١ سم.


ينتشر في الحوض. وفي كل من زوايا الحوض الأربع كان يقوم فهد من رخام أبيض مبرقش ببقع خضراء مستديرة. ولا يوجد هذا المرمر في أي مكان إلا في بعض بقاع جبال الأطلس على مسافة مائه وخمسين ميلا من مراكش (١٧٥).

وبالقرب من البستان كانت توجد حديقة حيوانات تضم العديد من الحيوانات الوحشية كالزرافات والفيلة والأسود والودّان والتيوس الجبلية. وكان للأسود مع ذلك حديقة حيوان منفصلة عن بقية الحيوانات الأخرى ، ولا تزال تدعى ، إلى اليوم ، حديقة الأسود.

هذا وبالرغم من قلة مخلفات الماضي التي قدّر لها أن تبقى من هذه المدينة ، فإن الباقي يستطيع أن يجعلنا نؤمن بالفخامة والعظمة اللتين كانتا سائديتن في عصر المنصور. أما اليوم فلم يبق مأهولا سوى قصر الأسرة المالكة وقصر الرماة. ويسكن في القصر الأخير هذا حجّاب الملك وسائقو بغاله. أما البقية فقد تحولت إلى مأوى لأسراب الحمام البري والغربان والبوم وطيور اخرى من هذا القبيل. واما البستان الذي كان فيما مضى بهجة للناظرين فقد تحول الى مزبلة للمدينة. وقد تحول القصر الذي كان يضم المكتبة إلى حظيرة دجاج ، وتحول القسم الآخر إلى برج للحمام ، واستخدمت الخزائن التي كانت تضم الكتب أعشاشا لهذه الطيور. وقد كان المنصور هذا بالتأكيد أميرا عظيما ، إذ كانت سلطته تمتد من ماسّه إلى طرابلس من بلاد البربر ، وهي أشرف جزء في افريقيا. وما كان بالإمكان اجتياز امبراطوريته بالطول بأقل من تسعين يوما سفرا ؛ ودون خمسة عشر يوما لاختراقها عرضا.

وكان يحكم أيضا من أوروبا على كل القسم الذي يدعي بلاد غرناطة من أسبانيا والذي يمتد من طريف الى مقاطعة آراغون والذي كان يضم جزءا من قشتالة ومن البرتغال. ولم يكن المنصور وحده هو الذي امتلك امبراطورية بمثل هذا الاتساع ، فقد سبقه إلى ذلك جده عبد المؤمن (١٧٦) وأبوه يوسف (١٧٧) ولحقه (١٧٨) في هذا الاتساع ابنه أبو عبد الله محمد الناصر (١٧٩). وهذا الأخير هو الذي هزم من مملكة بلنسية ، وفقد من فرسانه بمقدار خسارته

__________________

(١٧٥) أي ٢٤٠ كلم.

(١٧٦) توفي في السابع من نيسان (ابريل) ١١٦٣ م.

(١٧٧) أبو يعقوب يوسف ، توفي في ٢٣ تموز (يولية) ١١٨٤ م.

(١٧٨) توفي في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٩٩ م.

(١٧٩) توفي في ٢٥ كانون الاول (ديسمبر) ١٢١٣ م.


من المشاة أى حوالى ستين ألف رجل ، واستطاع ان ينجو بشخصه من هذه النكبة والعودة إلى مراكش (١٨٠). وبعد هذا الانتصار استرد النصارى شجاعتهم ، وتابعوا مشروعهم ، واسترجعوا في مدة ثلاثين عاما ، بلنسية ، ودانية ، واليقانط ، ومرسية ، وقرطاجنة ، وقرطبة واشبيلية وجيان وعبيدة. وعلى اثر هذه الهزيمة التي لا تنسى وهذه المجزرة ، أخذت أسرة ملوك مراكش تتدهور. وعند ما توفي محمد ترك ولدين بالغين أراد كلاهما الاستئثار بالسلطة. ولهذا السبب اقتتلا مما أدى لدخول عشيرة بنى مرين إلى مملكة فاس. وإلى هذه المناطق ، وبسبب ذلك تمردت قبيلة بنى عبد الواد أيضا واستملت مقاليد السلطة في تلمسان ، وطردت الحاكم المعيّن من قبل تونس ، وانتخبت الملك الذي ارتضته (١٨١). وتلك هي نهاية خلفاء المنصور. وهكذا آلت مملكة مراكش ليدي يعقوب بن عبد الحق ، أول ملك من أسرة بني مرين (١٨٢). وفي الختام ، خسرت مراكش شهرتها القديمة وظلت مهددة بغارات الأعراب في كل مرة يرفض السكان فيها إرضاء أي رغبة من رغباتهم. وما قلته حتى الآن عن مراكش إنما رأيت بعضه بنفسي ، رأي العين على الطبيعة ، واستقيته كذلك من «تاريخ مراكش» وهو مؤلف من سبعة مجلدات ، لمؤلفه ابن عبد الحق ، مؤرخ مراكش (١٨٣) ، وهذا يظهر أيضا في مختصرنا عن التاريخ الإسلامي.

__________________

(١٨٠) وهو الانكسار الرهيب الذي تعرض له المسلمون في موقعه حصن العقاب والذي كسبت فيه النصرانية معركة لاسنافاس دو تولوزه ، التي وقعت في سروات مورينا قرب مدينة كارولينا الحالية ، بتاريخ ١٤ صفر ٦٠٩ ه‍ الموافق ١٦ تموز (يولية) ١٢١٢ م.

(١٨١) لقد خلف محمد الناصر إبنه يعقوب يوسف المستنصر دون منافسة تذكر ، ولكن من الصحيح أيضا القول ان العشيرة الزناتية بني مرين ، التي كانت تعيش حياة البداوة حتى ذلك الوقت في المناطق الصحرواية شرقي نهر الملوية ، ظهرت فجأة وبعنف في الاراضي الزراعية المعمورة من المغرب الأقصى وذلك خلال ربيع عام ١٢١٦ م في أعقاب انهيار جيش الموحدين والعصيان الخطير الذي قامت به عشائر زناته في المغرب الأوسط والذي أثاره الطامع المرابطي يحيى بن غانية. كما أن بني عبد الواد ، وهم من زناتة كذلك ، وكانوا من بدو منطقة تلمسان ، كان المجال واسعا أمامهم ، إذ لم يكن ثم حاكم تونسي يتخلصون منه. بل إن الخليفة الموحدي أبا العلا ادريس المأمون عهد هو بنفسه إلى شيوخ هذه القبيلة بحكم تلمسان لكي يقفوا في وجه أبناء عمومتهم المرينيين حوالي العام ١٢٣٠ م. وفي عام ١٢٣٦ م نادى أميرهم الجديد ، يغموراسن بن زيان بنفسه ملكا.

(١٨٢) لقد نودي بأبي يوسف يعقوب بن عبد الحق في شمالي المغرب يوم ٣٠ تموز (يولية) ١٢٥٨ م ، فاحتل مراكش على أثر موت الخليفة الموحدي أبى العلا ادريس ، المسمى ابو دبوس ، والذي قتل في ٣٠ آب (اغسطس) ١٢٦٩ م.

(١٨٣) ابن عبد الحق المراكشي ، مؤلف كتاب بعنوان «كتاب الذيل والتكمله»


مدينة أغمات

أغمات (١٨٤) مدينة تقع على مسافة أربعة وعشرين ميلا (١٨٥) من مراكش ، شيّدت فوق سفح جبل يؤلف جزءا من الاطلس. وكانت بها قرابة ستة آلاف أسرة. وقد كانت في عصر الموحدين مدينة مطمئنة جدا بحكم عادل ، حتى أنها سميت مراكش الثانية. وتحيط بها كروم بديعة جدا بعضها في الجبل وبعضها في السهل. ويمر من أسفل المدينة نهر ينبع من جبال الأطلس ويصب بعدئذ في نهر التانسفت. وتجري هذه الأنهار في أرض خصبة التربة : يقال أنها تعطي أحيانا خمسين ضعف ما يوضع فيها من بذور. وماء النهر أبيض بصورة دائمة. وتشابه البلدة ونهرها مدينة نارني. ونهرها النيرا في إقليم أو مبري (١٨٦).

ويجزم بعضهم أن ماء هذا النهر يصل إلى مراكش ، وأنه بعد أن يأخذ ماءه من منبعه قرب أغمات يتابع مجراه في قنوات باطنية. وقد أمر عدة ملوك بإجراء أبحاث لمعرفة المكان الذي يأتي منه هذا الماء إلى مراكش. وبناء على أوامرهم دخل عدة رجال في القناه عند نقطة وصولها وبيدهم مصباح للاستنارة به. وعندما تقدموا مسافة ما في القناة شعروا بريح شديد أطفأت أنوارهم ، وكانت هذه الريح عاصفة لم يروا مثلها في شدتها من قبل ، وتعرضوا عدة مرات إلى خطر العجز عن العودة إلى الوراء ، بسبب هذه الريح من جهة ولأن مجرى الماء من جهة أخرى كان غاصا بجلاميد من الحجارة الضخمة التي كان الماء يتهشم عليها كي يمر من ناحية إلى أخرى. وبعدئذ وجدوا ثقوبا عديدة عميقة جدا فاضطروا إلى العزوف عن مشروعهم وبعد هذه المحاولة لم يكن لدى أي شخص من الجرأة ما يكفي لاستئناف التنقيب.

ويقول المؤرخون أن الملك الذي أسس مراكش توقع ، إستنادا إلى معطيات بعض المنجمين ، أنه سيتعرض لحروب عديدة. ولهذا وضع هو نفسه في المجرى الجوفي للنهر كل هذه العوائق ، مستعينا في أعماله هذه بالفن السحري ، وذلك كيلا يستطيع أي عدو

__________________

(١٨٤) وتلفظ محليا غمات ، ولكن يغلب على المكان اسم الجما ، وتقع على الضفة اليسرى لوادي غمات.

(١٨٥) ٥ ، ٣٨ كلم.

(١٨٦) ليس هناك أكثر من تماثل غامض بين هذين المشهدين ، ولكن «نارني» التي تربض فوق تل ، وتطل من قوف سفح عمودي تقريبا على خانق نهر نيرا ، تسمح لنا بالتوضيح بأن أغمات التي وصفها المؤلف كانت تقع على اليسار عند النظر الى نهر اوريكا من السهل ـ أو غمات ـ أي من ضفة هذا النهر اليمنى ، والذي يجري في اتجاه معاكس لنهر نيرا.


معرفة مصدر الماء وبالتالي لا يستطيع سبيلا إلى قطعه عن اصل البلد (١٨٧).

وفي اسفل أغمات ، وعلى طول النهر ، نجد ممرا يجتاز جبال الأطلس نحو إقليم جزوله.

وقد أصبحت اليوم هذه المدينة (يقصد أغمات) مأوى الذئاب (١٨٨) والثعالب والغربان والطيور وحيوانات أخرى من هذا النوع. وفي أيامي لم يكن يسكن القلعة سوى ناسك مع مائة من تلامذته الذين كان لديهم جميعا خيول جميلة جدا. وقد حاول أن يجعل من نفسه أميرا ، ولكن لم يكن لديه تابع يحكمه. وقد نزلت عند الناسك ومكثت بضيافته قرابة ثمانية أيام. وكان أخوه أحد أصدقائي الحميمين. إذ كان طالبا في مدرسة مجاورة لبيتي في فاس. وقد واظبنا معا على تلقي درس في التوحيد من كتاب النسفى (١٨٩).

آنيماي

آنيماي (١٩٠) بليدة صغيرة على سفوح جبل تتجه نحو السهل ، على مسافة خمسين ميلا (١٩١) تقريبا من مراكش ، على الطريق الذي يسلكه الناس للذهاب إلى فاس بمحاذاة سفح الجبل. ويمر نهر أغمات على مسافة خمسة وثلاثين ميلا (١٩٢) من هناك ، ومن هذا النهر حتى آنيماي تكون الأراضي خصبة كما هو الحال في أغمات. وتخضع المنطقة من مراكش إلى نهر أغمات لأمير مراكش. أما المنطقة الممتدة من مراكش إلى آنيماي فقد كانت حاضعة لأمير من آنيماي وهو شاب باسل ، كثيرا ما كان في حالة حرب مع ملك مراكش

__________________

(١٨٧) «تدعى هذه الظاهرة بالجريان الكارستي ، نسبة إلى جبال الكارست اليوغوسلافية. والسبب هو أن النهر يجري من منطقة ذات صخور كلسية (جيرية) ذوّابة ، لذا يكون جريانه في بعض أجزائه باطنيا ضمن كهوف معقدة ، كمغارة قاديشا أو جعيتا في لبنان ، أو مناطق الخفوس في أواسط نجد ، أو في شبه جزيرة قطر» (المترجم).

(١٨٨) أي ابن آوى.

(١٨٩) كتاب «العقائد النسفية» لمؤلفه نجم الدين ابي حفص عمر النسفي (١٠٦٨ ـ ١١٤٢ م).

(١٩٠) لقد اتخذت آنيماي اسم سيدي رحّال الذي أسس زاوية في القرن السادس عشر ، ولكن اسم مولاي آنيماي ظل يطلق على مكان قرب هذه الزاوية ، والذي يجله الكثير من المسلمين باعتباره مكان ضريح أحد أوليائهم مثلما يحترمه اليهود لأن أحد أحبارهم قدّسه. وتقع البلدة على وادي تساءوت الرافد العلوي لنهر أم الربيع.

(١٩١) ٦٤ كم.

(١٩٢) أو ٥٣ كم.


ومع العرب. وكان يحكم أيضا بضع عشائر في جبال الأطلس. وكان كريما وشجاعا. ولم يكن عمره يتجاوز ستة عشر عاما حينما اغتال أحد أعمامه ونادى بنفسه أميرا على آنيماي. ولم يلبث أن اتته فرصة دلت على شجاعته وإقدامه. فقد تحالف عدد كبير من العرب مع ثلثمائة من فرسان البرتغال وقاموا بغارة مفاجئة حتى أبواب آنيماي. ونشبت معركة بينه وبينهم ، واستطاع هذا الشاب مع مائة فارس وبعض العرب أن يقاتل بشجاعة مذهلة ، وسقط عدد كبير من العرب المهاجمين صرعى ولم يعد ولا نصراني واحد حيا إلى البرتغال. ويرجع سبب هزيمتهم إلى أنهم لم تكن لديهم أية خبرة عن البلاد. وقد حدث هذا عام ٩٢٠ ه‍ (١٩٣). وحدث أن طلب الملك (١٩٤) من أمير آنيماي إتاوة فرفض الأمير مطلبه. فأرسل الملك حينئذ حملة مؤلفة من عديد من الخيالة الرماة. فقرر الأمير ملاقاة العدو ، وخرج من المدينة لمباشرة المعركة ، ولكنه تلقى رصاصة من طبنجة في صدره فسقط ميتا في الحال. وأصبحت المدينة تابعة للملك ، وقد قدمت أرملة الأمير ، نفسها ، لقائد حملة الملك بضعة وجهاء فأسرهم وكبلهم بالأصفاد. وترك القائد وراءه حاكما وعاد أدراجه. وقد وقع هذا الحادث عام ٩٢١ ه‍ (١٩٥).

أنفيفة

أما وقد تكلمنا عن منطقة مراكش بصورة تبدو لنا كافية ، فنشرع الآن في الكلام ـ حسب النظام المعهود ـ عن أكثر جبالها شهرة. وسنبدأ بجبل أنفيفة الذي يشير ، في الغرب ، إلى بداية هذه المنطقة ويفصلها عن منطقة حاحة. وهذا الجبل كثير السكان. وفوق قمته ـ التي كثيرا ما يتساقط فيها الثلج ـ يزرع الشعير بغزارة كبيرة. وسكانه همج دون أية تربية : وعندما يشاهدون ابن مدينة يدهشون لمنظره ويستغربون ثيابه. وهذا ما فعلوه معي في أثناء اليومين اللذين قضيتهما عندهم. فقد ارتديت معطفا أبيض اللون حسب عادة طلاب هذه البلاد. فأخذ كل رجل كنت اتحادث معه يلمسه ليتأمله ، حتى أصبح في نهاية هذين اليومين أشبه شيء بممسحة مطبخ. وقد اضطرني أحد وجهائهم أن

__________________

(١٩٣) لا تذكر الوثائق البرتغالية شيئا عن ذلك الحادث ، غير أنه محتمل جدا ، ويغلب على الظن أنه حدث قبل آخر شهر من عام ٩٢٠ ه‍ وبين ١٧ كانون الثاني (يناير) و ١٤ شباط (فبراير) عام ١٥١٥ م.

(١٩٤) أي ملك مراكش.

(١٩٥) يحتمل حدوث ذلك في حزيران أو تموز (يونية أو يولية) ١٥١٥ م.


أبادله حصانه الذي يساوي عشرة دنانير مقابل السيف الذي أحمله والذي لم يكن يساوي دينارا ونصف الدينار في فاس. ويعود ذلك إلى أن التجار لا يأتون أبدا لهذه البقعة بسبب الاغتيالات التي ترتكب فيها. ويكثر هنا الماعز والعسل والهرجان. وابتداء من هذا الموقع يبدأ ظهور الهرجان.

جبل سمد (١٩٦)

يبدأ هذا الجبل من تخوم الجبل السابق. وينفصل عنه بنهر شيشاوة. ويمتد على مسافة عشرين ميلا (١٩٧) باتجاه الشرق. والسكان هنا أنذال ، غلاظ وفقراء (١٩٨). ونجد في هذا الجبل ينابيع كثيرة ويظل الثلج طيلة العام. ولا يوجد هنا شخص يحمي العدالة ولا شخص يتقيد بها. ويلجأ السكان أحيانا لأحد المسافرين الذين يرون فيه الكفاءة. وقد أمضيت ليلة في هذا الجبل ، في بيت فقيه محترم جدا بين هؤلاء الجبليين. وقد كان عليّ أن أتناول طعام أهل المنطقة ، أي دقيق الشعير المنقوع بالماء الغالي ، مع لحم تيس هرم بدا لي من قساوته أن عمره كان يتجاوز سبعة أعوام. وفضلا عن ذلك اضطررت أن أنام على الأرض العاريه. وقد استيقظت مبكرا استعدادا للسفر. وحينئذ وجدت أكثر من خمسين شخصا يحيطون بي وأخذوا يعرضون عليّ مخاصماتهم بنفس الطريقة التي يعرضونها على قاض أو على حكم ، ونظرا لأنني كنت أجهل تقاليدهم ، فقد أجبتهم بأنني لا أعرف شيئا عن قضاياهم. وعندئذ تقدم ثلاثة من أكثر وجهائهم زعامة لمقابلتي ، وقال لي أحدهم : «أيها السيد ربما كنت تجهل عادتنا. وإليك إياها : لا يغادرنا أي غريب قبل أن يدرس ويحسم دعاوينا» ، وما كاد يلفظ هذه الكلمات حتى رأيت حصاني وقد انتزع من يدي. وقد اضطررت إلى تحمّل تسعة أيام مرة وتسعة ليال لا تقل عنها مرارة ، سواء بسبب الطعام أو بسبب الفراش. هذا وبالإضافة إلى عدد القضايا ، لم يكن هناك إنسان يعرف كتابة كلمة واحدة. وهكذا قمت بوظيفة قاض وبوظيفة كاتب عدل في آن واحد.

وفي ختام ثمانية أيام قال لي الأهالي بأنهم سيقدمون لي في صبيحة الغد هدية جميلة. فقضيت ليلة خلتها ألف عام مع الأمل ، في شعوري ، بأنني سأتقاضى مقدارا كبيرا من

__________________

(١٩٦) اسم موقع لم يحدد له مكان.

(١٩٧) ٣٢ كم.

(١٩٨) كثيرا ما نجد هذا التعميم لدى الجغرافيين والرحالة العرب ، وغالبا ما يسجله المؤلف نتيجة مغاملة فردية ولا يمكن تعطى انطباعا صحيحا عن مجتمع أو مدينة أو منطقة بكاملها.


الدنانير. ومع بزوغ الفجر أجلسوني تحت باب جامع ، وبعد أداء الصلاة ، تقدم كل واحد منهم بهدية وقبّل رأسي. فقدم واحد منهم لي ديكا ، وآخر قشرة جوزة ، وآخر ضفيرة أو اثنتين من البصل ، وغيره ضفيرة ثوم. وقدم لي أشرفهم هدية هي عبارة عن تيس. ولما لم أجد شخصا يشتري كل هذه الأشياء ، لأن المنطقة لا تعرف النقد المسكوك ، فقد تركتها لصاحب البيت لأنني لا أريد أن أحملها معي. ذاك كان أجر التعب والمقت خلال هذه الأيام العديدة. ولكن ، والحق يقال ، لقد واكبني خمسون من هؤلاء الغلاظ على طول جزء من الطريق الذي لم يكن مأمونا.

جبل سوساوة (١٩٩)

يأتي هذا الجبل بعد الجبل السابق الذكر. ويتولد منه نهر يحمل اسمه (٢٠٠). والسكان وحشيون للغاية ويحتربون باستمرار مع جيرانهم. وأسلحتهم هي حجارة يقذفونها بالمقلاع. ويعيش الناس على الشعير والعسل ولحم الماعز. ويعيش كثير من اليهود مختلطين بهم ، وهم الذين يمارسون في هذه الجبال حرفة الحدادة ويصنعون المجارف والمناجل وحدوات حوافر الخيل. ويقومون أيضا بمهنة المعمار التي لا تحقق لهم أرباحا هامة لأن الجدران تشيّد هنا بواسطة الطوب النيء والصلصال وتسقف البيوت بالقش ، إذ لا يوجد كلس (٢٠١) ، ولا قرميد ، ولا طوب مشوي. وتظهر كل المنازل مبنية بنفس الطريقة في سائر الجبال التي تكلمنا عنها قبل قليل. وبين سكان هذا الجبل العديد من الفقهاء الذين يرشدونهم في بعض القضايا. وقد تعرفت على بضعة منهم من الذين أتمّوا تخصيلهم في فاس ، واستقبلوني بوداد وأكثروا من الوعود في مرافقتي.

جبل سكسيوه

سكسيوة جبل غير منزرع ، عال جدا ، وشديد البرودة. وهو مغطى بغابات

__________________

(١٩٩) جبل سعيسعاوه (ماسينيون ١٩٠٦ ، ص ١٩٧).

(٢٠٠) لقد كتب سابقا تحت شكل سفساوة ، ومن المحتمل أن المقصود به واد شيشاوة الذي لم يعد يحمل هذا الاسم إلا في مجراه الأدنى. ولا نجد أي جبل يحتفظ بهذه التسمية.

(٢٠١) «ويسمى النورة في جزيرة العرب ، والكلس في بلاد الشام الشمالية ، ومنه جاءت كلمة كلسيوم في اللغات الأوربية. والشيد في فلسطين والأردن ، والجير في مصر ومعظم المغرب» (المترجم).


عديدة ولا يختفي منه الثلج أبدا. ومن عادة سكانه أن يلبسوا فوق رؤوسهم قبعات بيضاء (٢٠٢) وفي هذا الجبل عدد كبير من العيون. وهنا يتولد نهر آسيف اينوال (٢٠٣). ونجد في هذا الجبل الكثير من الكهوف العريضة والعميقة حيث اعتاد الناس إيواء الماشية فيها في أثناء ثلاثة أشهر من العام وهي تشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني (نوفمبر وديسمبر ويناير). وتعلف هذه المواشي بالتبن وبأوراق بعض الأشجار الكبيرة جدا. وتجلب الأقوات من الجبال المجاورة إذ لا ينبت شيء هنا. ويكثر الجبن الطري والزبدة في فصلي الربيع والصيف. ويتمتع الرجال بعمر طويل ويعيشون في الغالب ثمانين ، أو تسعين ، وحتى مائة سنة. وتكون شيخوختهم قوية وخالية من العلل التي تجلبها السنون. فهم يستمرون في السير خلف حيواناتهم حتى موتهم. ولا يمكن أن نرى هنا غرباء ، وهم لا ينتعلون أحذية حقيقية في أرجلهم ، ولكي يحموا أرجلهم من الحصى يضعون تحت أقدامهم أصنافا من النعول ، ويلفون حول أفخاذهم خرقا مشدودة بخيوط لحمايتها من الثلج.

جبل ومدينة تينمل

تينمل هو اسم جبل عال جدا وبارد للغاية. ولكنه مأهول في شتى أرجائه. وتقوم فوق قمته مدينة تحمل اسم الجبل. وهي كذلك كثيرة السكان وتزدان بمسجد جميل. ويخترقها نهر (٢٠٤). وهنا دفن المهدي الداعية (٢٠٥) وتلميذه عبد المؤمن. وسكان المنطقة من أسوأ الأجناس وأخبثها. ويتفاخرون بشدة الثقافة لأنهم جميعا تقريبا درسوا الشريعة الاسلامية وعقيدة هذا الداعية الذي اعتبره الناس حينا من الدهر منشقا عن الجماعة. وما أن يروا أجنبيا حتى يميلوا الى مناقشته. وهم رديئو الكساء إذ لا يوجد أجنبي يتاجر في هذه المنطقة ، ويعيشون عيشة حيوانية فيما يتعلق بطرائقهم في نظام الحكم. غير أن لهم قاضيا على رأس مجلسهم. ويقتاتون عادة بالشعير وزيت الزيتون ولديهم كمية كبيرة من الجوز ومن تفاح الصنوبر.

__________________

(٢٠٢) «لعلها القبعة المتصلة بالبرنس من الخلف والتي نرى أبناء المغرب الأقصى يلبسونها حتى الآن وخاصة في الطقس البارد ، وتشبه قبعة الرهبان الكبوشيين الكاثوليك» (المترجم).

(٢٠٣) وهو واد ايمينتانوت الذي يقع منبعه في جبل سكسيوه.

(٢٠٤) واد النفيس.

(٢٠٥) محمد تومرت.


جبل غدميوا

غدميوا جبل يبدأ من جبل سميدا من الغرب ويمتد نحو الشرق على مسافة خمسة وعشرين ميلا (٢٠٦) تقريبا حتى يصل إلى أميزمز. والسكان عبارة عن قرويين فقراء خاضعين للعرب ولأمير بلدة الجمعة الجديدة ؛ لأن مساكنهم تجاور السهل الذي يطل على الجنوب حيث يوجد جبل تينمل (٢٠٧). ويوجد على سفوح الجبل الكثير من شجر الزيتون ومن الحقول التي يزرع فيها الشعير. وتظهر في أعالي الجبل أيضا غابات واسعة وعديد من العيون.

جبل هنتاتة

وهو جبل عال جدا لم أر له نظيرا في علوه. ويبدأ من الغرب عند تخوم غدميوا ويمتد على مسافة خمسة وأربعين ميلا (٢٠٨) تقريبا حتى جبل آنيماي. وسكانه رجال بواسل وأغنياء يملكون الكثير من الخيول. وهنا يقع حصن يهيمن عليه أمير ، وهو قريب صاحب مراكش (٢٠٩) ، ولكنه في حرب دائمة مع ابن عمه بسبب قرية مختلف عليها وأرض واقعة على الحدود بينهما. ويوجد في هذا الجبل العديد من الصناع اليهود الذين يدفعون الجزية لهذا الأمير. وينتسبون جميعا إلى مذهب القرائين. وهم ، كما سبق أن قلنا ، شجعان عندما يكون السلاح في أيديهم.

وتظل ذروة الجبل مستورة بالثلج على الدوام. وعندما رأيته لأول مرة خلته سحابة ، بسبب شدة ارتفاع هذا الجبل الهائل (٢١٠). وسفوحه عارية ، بدون شجر ، ولا عشب. وهناك العديد من المواقع التي يمكن أن يستخرج منها الرخام ذو البياض الناصع والصافي. ولكن أهل المنطقة لا يعرفون قيمة هذا الرخام ، ولا يعرفون كيف

__________________

(٢٠٦) ٣٦ كم.

(٢٠٧) تبدو فكرة المؤلف هنا عسيرة الفهم.

(٢٠٨) ٧٢ كم.

(٢٠٩) هو «ملك الجبل» ادريس الهنتاتي ، ابن عم سلطان مراكش ، الناصر الهنتاتي.

(٢١٠) تصل قمة جبال طبقال ، أي الأقرع باللغة البربرية ، الى ٤١٦٥ م ، وهي أعلى قمة في العالم العربي ، وتشرف من ارتفاع ٢٠٠٠ م على حلبة آرّوند.


يستخرجونه ، ولا كيف يجلونه. ونجد هنا العديد من الأعمدة وتيجانها المنقوشة ، وأحواضا مائية كبيرة وجميلة جدا تتوسطها نوافير الماء التي صنعت في عصر الملوك الأقوياء الذين تكلمنا عنهم آنفا. والذين حالت الحروب دون تحقيق مشروعاتهم. وقد رأيت هنا الكثير من الأشياء التي تستوقف النظر. ولكن ذاكرتي الهزيلة لم تستطع استعادتها ، وخاصة لأنها كانت مشغولة بقضايا أكثر أهمية.

جبل آديمي

جبل آديمي (٢١١) جبل كبير مرنفع. ويبدأ من تخوم جبل هنتاتة من الغرب ويمتد إلى الشرق حتى نهر تساؤوت. وهنا تقع المدينة التي قلنا آنفا أن أميرها قتل في حرب مع ملك فاس. وتسكن هذا الجبل بضع عشائر. ونجد فيه العديد من المزارع من شجر الجوز والزيتون والسفرجل. والرجال هنا شجعان جدا ، ولديهم حيوانات من كل نوع ، لأن الهواء معتدل هنا والأرض غنية. وينفجر هنا العديد من العيون في الجبل ، وينبع كذلك النهران اللذان سنتكلم عنهما بشكل خاص في هذا «الوصف».

أما وقد فرغنا الآن من مملكة مراكش ، التي تنتهي جنوبا بجبال الأطلس ، سنتكلم عن منطقة جزوله الواقعة على الجانب الآخر من الجبل ، والتي تحاذي مملكة مراكش ، ولكن تنفصل عنها بجبال الأطلس.

منطقة جزوله

منطقة جزوله (٢١٢) إقليم مأهول بكثير من السكان ، يتاخم من الغرب جبل هلالة ،

__________________

(٢١١) من المحتمل أن يكون الاسم أنيماي.

(٢١٢) لا يعني الاسم العربي «جزولة» ، وفي البربرية ايغزولن ، أية منطقة ، أو أية عشيرة معنية ، وإنما يعني حزبا (لف) انضمت إليه عشائر مختلفة وأفخاذ عشائر في منطقة جزولة التي يتحدث عنها المؤلف. وهذا اللفيف يقابل لفيف سكتانة ، وفي البربرية ايزوكتان. وفي العصور القديمة كان كل السكان الوطنيين القاطنين في الهضاب العليا الجزائرية وجبال الأطلس ابتداء من خليج قابس حتى المحيط ، كانوا جميعا ينضوون تحت عبارة جايتولي أو جيتول Getules الفرنسية. أما حدود المنطقة التي يعطيها المؤلف لمكان جبل إيلدا فيجب قراءتها ايلالة ، أو هلالة ، وهي النطق البربري لكلمة ايلالن. كذلك يجب قراءة منطقة الدرعة عوضا عن منطقة حاحة.

(وقد صححت فعلا في النص) (المترجم).


وهو جبل السوس ، ويتاخم من الشمال الأطلس حتى حضيض هذا الجبل تقريبا ، ومن الشرق منطقة الدرعة.

وسكان هذا الإقليم أناس أجلاف ، ومحرومون من العملة النقدية ، ولكن لديهم الكثير من الماشية وكمية كبيرة من الشعير. وتوجد في هذه المنطقة عدة مناجم للنحاس والحديد ، وهكذا يصنعون أوعية عديدة من النحاس يحملونها إلى مختلف الأنحاء لمقايضتها بالأقمشة والتوابل والخيول وجميع ما يحتاجون اليه (٢١٣). ولا يوجد في هذ الجبل (٢١٤) أية مدينة ، أو قصر ، بل توجد قرى كبيرة فحسب ، تضم أحيانا ألف أسرة ، وأحيانا أكثر ، وأحيانا أقل. وليس لسكان هذه الكورة أمير ، بل يحكمون أنفسهم بأنفسهم ، ولهذا كثيرا ما ينقسمون على أنفسهم ويحتربون فيما بينهم. وفي أثناء كل هدنة ، يستطيع المتخاصمون أن يتاجروا فيما بينهم وأن يذهبوا من قرية لأخرى. ولكن فيما عدا هذه الأيام فهم يقتتلون كالوحوش. وفي الفترة التي مررت فيها في هذه المنطقة ، كان منظم الهدنات ناسكا كان له بينهم شهرة القداسة. وكان هذا الرجل المسكين أعور ، والحقيقة لم أر فيه سوى الطهر والوداعة والشفقة.

ويلبس سكان هذه المنطقة صدرية قصيرة من الصوف ، دون أكمام ، ملتصقة كل الالتصاق بأجسامهم. ويتسلحون بخناجر محنية وعريضة ، مدببة في نهايتها وحادة من حافتيها ، وسيوفهم مثل سيوف أهل الدرعة. ويقام في منطقتهم سوق يستمر مدة شهرين ، وفي أثناء انعقاد السوق يقدم الطعام لكل الغرباء المتواجدين ، ولو كان عددهم عشرة آلاف. وعندما يأذن موعد السوق تعقد هدنة ويختار كل زعيم حزب قائدا مع مائة من المشاة لتأمين حراسة السوق وسلامة الوافدين إليه. وينظم هذا الحرس الدوريات ويعاقب كل المفسدين حسب أهمية جريرة كل منهم. ويقتل اللصوص فورا إذ تخترق

__________________

(٢١٣) لقد كان لنحاس هذه المنطقة في عصر المؤلف شهرة مؤكدة تحت اسم «سيني» ، مما يشير إلى أن المنجم كان يقع في كورة آغاديرن تيسنت. ولا تزال هناك آثار عن استغلال النحاس على مسافة ٣ كم من مخفر أغاديرن تيسنت ، ولكن الاستغلال متوقف الآن. وكان هناك أيضا استغلال للنحاس قرب قصر متهدم ، وهو قصر تامودلت ، في عكا وتيزونين.

والاستثمار الوحيد المتبقي في المنطقة يقع في إيغرم شمال عكا حيث ينتج الصناع أشياء من نحاس مطروق. وليس هذا النحاس هو الذي أعطى اسمه لأغاديرن تيسنت ، ولكن الملح. وكلمة تيسنت ليست إلا تحريفا لكلمة تيزيمت (ملح) وذلك بإبدال الميم بالنون وهو شائع في البربرية. والواقع يستغل الملح في تريت وهي قرية صغيرة بين طاطة وأغاديرن تيسنت. ه ـ ل.H. E

(٢١٤) أي الأطلس الخلفي الحالي أو الأطلس الصحراوي.


أجسادهم برمح وتترك جثثهم طعاما للكلاب. ويقوم هذا السوق في سهل بين جبلين (٢١٥). ويضع التجار بضائعهم تحت خيام أو تحت أكواخ صغيرة من الأغصان. وهم يتجمعون في فئات تنفصل بعضها عن بعض حسب نوعية البضائع ، فنجد في مكان ما تجار الأقمشة ، وفي آخر العقّادين وهكذا دواليك. ولكن يقيم تجار المواشي خارج الخيام. وإلى جانب كل خيمة يقوم كوخ من الأغصان يسمح بإقامة الوجهاء فيه ، وهنا يقدم الطعام للغرباء. ورغم ارتفاع رقم النفقات فإن بيع البضائع يجلب من العوائد ضعف المصاريف التي أنفقت ، لأن أهل كل المنطقة يأتون إلى هذا السوق ، حتى من بلاد السودان ، حيث يعقدون صفقات هامة. وخلاصة القول فإن أهل جزولة الذين يتميزون بنفسية خشنة استطاعوا بالحقيقة تسيير حركة سوقهم تسييرا جيدا فيما يتعلق بالهدوء والسلام. ويبدأ السوق يوم مولد محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يقع في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، أي الشهر الثالث من العام العربي حسب تقويمهم. وقد قصدت هذا السوق مع الأمير الشريف ، وقضيت هناك خمسة عشر يوما للاستمتاع ، في عام ٩٢٠ ه‍ (٢١٦).

منطقة دكّالة

تبدأ مقاطعة دقّالة من غرب نهر التانسفت. وتنتهي شمالا على المحيط جنوبي نهر العبيد غربي نهر أم الربيع (٢١٧). وتمثل هذه المنطقة مسافة أربعة أيام طولا ويومين عرضا تقريبا. وهي كثيرة السكان ، ولكن الأهالي أشرار وجهال. ولا نجد سوى القليل من المدن المسوّرة. وسنتكلم عما يستحق الذكر من بلاد هذه المنطقة بلدة بلدة.

مدينة آسفي

آسفي مدينة شيّدها قدماء الأفارقة على ساحل المحيط. وتضم قرابة أربعة آلاف

__________________

(٢١٥) يعقد سوق المولد حاليا في موقع عسّة ببلاد آيت اوسّه في المجرى الأدنى لوادي الدرعة. وليس هناك احتمال كبير في أن موقعه قد تغير منذ ذلك الزمن ، غير أن هذه البليدة تقع في جنوب غرب بلاد جزوله.

(٢١٦) يصادف يوم ١٢ ربيع الأول ٩٢٠ ه‍ يوم الأحد ٧ أيار (مايو) ١٥١٤ م. ولا يذكر تامبورال (طبعة ليون ١٥٥٦ م ، ص ٨٣) العام الذي مرّ فيه الحسن الوزان في هذه المنطقة.

(٢١٧) يمكن تصحيح هذا الموقع بسهولة ، ولكننا نجهل التخم الشرقي لإقليم دكالة في ذلك العصر ، ومن غير المحتمل كثيرا أن يكون مقرن وادي العبيد مع نهر أم الربيع هو الحد الفاصل بين دكالة وتادلة.


أسرة. والسكان فيها متكاثفون ، ولكنهم يفتقرون للتهذيب. وكان في آسفي ، فيما مضى من الزمن ، الكثير من الصناع وقرابة مائة بيت من اليهود. والأراضي المجاورة لها خصبة جدا ، ولكن الناس ليسوا أذكياء ولا يعرفون كيفية زراعتها ، حتى ولا زراعة الكرمة فيها. غير أن لديهم مع ذلك بضعة بساتين للخضر صغيرة. وعندما أخذت قوة ملوك مراكش بالأفول ، استولت على السلطة في آسفي أسرة تدعى أسرة فرهون. وفي زمني (٢١٨) كانت المدينة في يد أمير شجاع اسمه عبد الرحمن ، وهو الذي قتل أحد أعمامه كي يستأثر بالسلطة (٢١٩).

وبعد هذا أخضع المدينة واحتفظ بإمارتها لنفسه لمدة طويلة. وكان لهذا الرجل ابنة بارعة الجمال شغفت حبا برجل من العامة ، ولكنه كان رئيس حزب كبير العدد ، يدعى علي بن واشيمان (٢٢٠) الذي استطاع بالتواطؤ مع أمها وإحدى الإماء ، أن يضاجع هذه البنت عدة مرات. ولما نقل الخبر إلى أبيها بواسطة الأمة استشاط غضبا من زوجته وهددها بالموت ، ولكن تظاهر بعدئد أنه لم يعد يهتم بهذه القضية. غير أن الزوجة التي كانت تعرف بطش زوجها انذرت عشيق ابنتها بأن يأخذ حذره. ولما أصبح «علي» خائفا على حياته فعلا قرر قتل عبد الرحمن. وأسرّ ذلك لرجل شاب جريء كان هو أيضا زعيما على عدد من المحاربين المشاة وكانت له فيه ثقة مطلقة (٢٢١). وأصبح الاثنان على قلب واحد لا ينتظران سوى الفرصة السانحة. وأسرّ الملك ، من جهته ، إلى علي يوم عيد الأضحى بأنه راغب في أن يقوم معه ، بعد صلاة العيد ، بنزهة على الخيل للترويح عن النفس. وأن

__________________

(٢١٨) سيقول الحسن فيما بعد أنه ذهب إلى آسفي عام ٩٠٦ ه‍ / ١٥٠٠ م وسنه حينئذ ١٢ سنة.

(٢١٩) كان هذا العم ، الذي كان يدعى رسميا أحمد بن علي ، مشتهرا باسم حمّادوش بن فرهون ، الذي سجل البرتغاليون اسمه على شكل امادوكس بن فارام. وبتاريخ ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ١٤٨٨ م عهد ملك البرتغال ، حنا الثاني ، إلى هذا الشخص بزمام قيادة آسفي ، تلك المدينة التي كانت حينئذ تحت الحماية البرتغالية قبل عام ١٤٨١ م. وفي ايلول (سبتمبر) ١٤٩٨ م قررت حكومة البرتغال عزل القائد أحمد ، الذي كان قد بلغ أرذل العمر ، لمصلحة ابن أخيه ، عبد الرحمن ، وبعثت رسولا للقائد أحمد بهذا الخصوص. ولكن الأمور لم تمر بسلام ، فقد نشب شجار عنيف بين عبد الرحمن وأخ له انتهى بأن أغمد عبد الرحمن نصل رمحه في جسد أخيه. ونادى السكان بعبد الرحمن قائدا ، وتصالح القائد القديم مع ابن أخيه ، وناشد الجمهور طالبا منه الطاعة لعبد الرحمن.

(٢٢٠) يظهر علي بن واشيمان في الوثائق البرتغالية تحت اسم عليّ بن كسيمن ، وذلك ابتداء من شهر حزيران (يونيو) ١٥٠٠ م. ففي ذلك التاريخ أوفد برسالة من قبل قريبة قائد آسفي ، عبد الرحمن ، إلى ملك البرتغال عما نوئيل الأول ورجع إلى عبد الرحمن حاملا له إجابة الملك على رسالته.

(٢٢١) هذا الشخص الذي لم يكن شابا كان يدعى أبا زكريا يحيى بن محمد تعفوفت.


على «عليّ» أن ينتظره في مكان معيّن (٢٢٢). وهناك كان ينوي قتله. ولكن عليّ الذي توقع كل شيء دعا رفيقه (٢٢٣) ، وقال له بأن ساعة العمل قد أزفت لوضع مشروعهما قيد التنفيذ. فأخذا معهما عشرين فردا من أصدقائهما ، وتسلحوا بعناية ، وجهزا مركبا بحجة إرساله إلى آزّمور ، والحقيقة لكي يتمكنوا من الهرب إذا اقتضت الحاجة. وقصدوا الجامع الذي بلغوه بعد وصول الأمير بقليل وكان يؤدي الصلاة. وكان الجامع غاصا بجمهور عظيم. ودخل الشابان وحرسهما ، بكل حماس وعزم ، إلى الجامع واقترب الاثنان من الملك الذي كان بجوار الإمام ، دون أن يمنعهما الحرس الملكي من ذلك ، إذ لم يكن لدى الحرس أي ارتياب ، فقد كانوا يعرفون المكانة التي يتمتع بها عليّ ورفيقه لدى الملك. ومرّ أحد المتآمرين من أمامه في حين وقف الثاني ، وهو عليّ ، خلفه وأغمد خنجره في ظهره ، في حين أغمد الثاني سيفه في جسمه. وحدث هرج عظيم وهجم رجال الحرس على القاتلين ، ولكن لما رأوا مداهمة الرجال العشرين لهم وهم شاهرون سيوفهم اعتقدوا بوجود تحالف مع السكان وهربوا. فخرج كل الناس ولم يبق في الجامع سوى المتآمرين.

وقد سمع كاتب هذه السطور عليا يقول له من لسانه ذاته ، بأنهما حينما دخلا المسجد لم يكن الأمير قد دخله بعد ، وإلى هذا يرجع السبب في أنهما مكثا في داخله فترة ما في انتظاره ، وأنهما بعد أن فاضت روحه خرجا إلى الساحة العامة وخطبا في الناس واقنعا الجمهور بأنهما قتلا الأمير ، وأن لهما الحق لأنه أراد أن يقتلهما. وهكذا هدأ الناس وارتضوا أن تكون الإمارة في أيدي هذين الرجلين. ولكن لم يظلا طويلا على وفاق ، إذ كان يبيت كل منهما للآخر.

وفي هذه الأثناء حصل أن نصح بعض التجار البرتغاليين ـ وكان عدد هؤلاء كبيرا في آسفي ـ ملك البرتغال بتعبئة أسطول يستطيع ، بدون عناء ، أن يحتل المدينة. ولم يرغب الملك ، مع هذا ، في أن يقدم على هذا المشروع إلا بعد أن أنبأه التجار بأن أهل آسفى أصبحوا منقسمين إلى عدة أحزاب ، وأن التجار تمكّنوا بفضل بعض الهدايا ، أن يقيموا علاقات وثيقة جدا مع زعيم أحد هذه الأحزاب (٢٢٤) وعقدوا معه معاهدة. فأصبح من

__________________

(٢٢٢) إن لقب الملك الذي أعطى لقائد وشيخ آسفي هو أمر مؤكد ، لأن الزعماء الصغار المحليين في ذلك العصر كانوا يتخذون لأنفسهم مختارين لقب سلطان ، والعيد المذكور هو كما يعتقد عيد الأضحى العاشر من ذي الحجة ٩١٢ ه‍ / الجمعة ٢٣ نيسان (ابريل) ١٥٠٧ م.

(٢٢٣) أي يحيى أو تعوفت.

(٢٢٤) أي مع يحيى أو تعفوفت.


الممكن في هذا الوضع الاستيلاء على المدينة بأقل النفقات. ولم يقف أمرهم مع هذا الزعيم عند هذا الحد ، بل لقد حصلوا منه على موافقة بأن يدعهم يبنون حصنا لهم على سيف البحر لكي يضعوا فيه بضائعهم في أمان ، متذرّعين بأنهم تعرضوا ، على أثر موت الملك ، لإتلاف قسم كبير من أرزاقهم ونهبها. فشيّدوا حصنا منيعا جدا نقلوا إليه سرّا «طبنجات» وبنادق ضمن براميل الزيت وفي رزم البضائع. ولم يكن أهل البلدة يطلبون منهم أكثر من أن يدفعوا الرسوم المقررة من مكس وسواه. ولما أصبح لدى البرتغاليين ما يكفي من أسلحة الدفاع والهجوم ، راحوا يبحثون عن فرص مختلفة لإثارة الاضطرابات والخلافات مع المسلمين. وهكذا استطاع غلام لأحد هؤلاء التجار ، وكان يشتري لحما ، أن يستثير غضب البائع الذي يشتري منه ، حتى نفذ صبر البائع فصفع هذا الغلام ، فما كان من الغلام إلا أن استلّ خنجره وأغمده في صدر البائع المسكين الذي سقط ميتا في الحال. وعلى أثر ذلك هرب القاتل والتجأ إلى الحصن البرتغالي. وقد أدّى موت هذا الرجل إلى ثورة الأهالي الذين أخذوا اسلحتهم وسارعوا إلى الحصن البرتغالي لنهبه وتقطيع من فيه إربا إربا. ولكن هؤلاء حينما رأوا الجمهور يقترب منهم فتحوا عليهم نيران بنادقهم وراشقات سهامهم. وحدث ولا حرج عن هرب المسلمين مذعورين إذ سقط منهم أكثر من مائة قتيل خلال هذا الهجوم المفاجىء. ولكن هذا لم يحل بينهم وبين محاصرة الحصن خلال بضعة أيام.

وحينئذ ظهر أسطول قادم من لشبونة ، وهو أسطول جهزه الملك لهذا الغرض ، وكان مجهزا بكل أنواع الأسلحة وبقطع من المدفعية الثقيلة فضلا عن كمية كبيرة من المؤن. ونقل عليه خمسة آلاف من الجنود المشاة ومائة فارس (٢٢٥) ، وهكذا انتاب المسلمين الذعر فأخلوا المدينة كي يلجأوا إلى جبال بني ماجر (٢٢٦) ، ولم يبق فيها سوى أسرة الزعيم الذي وافق على بناء الحصن البرتغالي وأنصاره. واحتل قبطان الأسطول المدينة واستدعى الزعيم المذكور ، المسمّى يحيى. وأرسله إلى ملك البرتغال الذي خصص له دخلا طيبا

__________________

(٢٢٥) لقد جاء جزء من هذا الأسطول من جزر ماديرا بتاريخ ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ١٥٠٧ م. وقدمت أربع سفن منه من البرتغال في مطلع شهر كانون الثاني (يناير) ١٥٠٨ م. ولا يعتقد أن عدد رجال الحملة تجاوز ١٥٠٠ رجل. وقد ظل الأسطول مرابطا تجاه آسفي مدة ثلاثة أشهر.

(٢٢٦) لا نزال نجهل تاريخ احتلال البرتغاليين لآسفي ، ولكن استنادا إلى النص ، حدث هذا على الأرجح بعد وصول الأسطول بقليل.


ومنحه عشرين خادما. وبعدئذ أعاده الملك إلى افريقيا ليحكم الأرياف التابعة لآسفي ، لأن قبطان الملك (٢٢٧) لم يكن يعرف عادات هذا الشعب الجاهل والأسلوب الذي يعامله بموجبه. ومنذ ذلك الحين أصبحت آسفي خاوية وأضحت المنطقة خرابا (٢٢٨).

وقد أسهبت نوعا ما في كلامي عن هذه القصة لكي أبيّن أن النزاع بين الأحزاب وقصة المرأة السابق ذكرها لم يؤديا إلى خراب آسفي وحدها ، بل جلبا الدمار على جميع أهل دكّالة. وعند ما ذهبت إلى آسفي لم يكن سني تتجاوز اثنتي عشرة سنة. ولكن بعد أن مضى على ذلك حوالي أربعة عشرة عاما كان لي لقاء مع حاكم البادية ، الذي كان موفدا من قبل ملك فاس والشريف ، أمير السوس ودكّالة. وكان حينئذ قرب مراكش مع حملة قوامها خمسمائة فارس برتغالي وأكثر من الفي فارس من العرب. وكان يجبي كل ضرائب البلاد لحساب ملك البرتغال. وكان هذا عام ٩٢٠ ه‍ كما سردت ذلك مفصلا في بحوثي التاريخية (٢٢٩).

كونتي ، مدينة في دكّالة

كونتي مدينة صغيرة (٢٣٠) تقع على مسافة عشرين ميلا (٢٣١) من آسفي ، وقد بناها القوط في العصر الذي كانوا يحكمون فيه هذا الساحل ، وهي اليوم مخربة وأراضيها خاضعة لبعض عرب دكّالة.

__________________

(٢٢٧) وهو نونو فرناندز دو آتيد.

(٢٢٨) الحقيقة هي أنه على أثر مقتل القائد عبد الرحمن في نيسان (ابريل) ١٥٠٧ م ، تنازع عليّ ابن واشيمان مع يحيى او تعفوفت ، وانحاز ديبغو دو آزمبوجة حاكم الصويرة (موغادور) الذي عهد اليه بإدارة شئون آسفي ، انحاز إلى جانب عليّ ، وأرسل يحيى أو تعفوفت إلى لشبونة في آب (أغسطس) ١٥٠٧ م. ويبدو أن يحيى عاد في أثناء العام ١٥١١ م. أما علي بن واشيمان فقد ذهب بعد احتلال آسفي ليقيم مع جماعته في تارغة ، على ضفة نهر أم الربيع وهناك سقط بيد مولاي الناصر ، شقيق ملك فاس ، في أيار (مايو) ١٥١٤ م. واقتيد إلى هذا الملك. ثم عاد وهاجر في تموز (يوليو) ١٥١٥ م إلى مملكة فاس. ويبدو أن عرض هذه الأحداث قد كتب استنادا لذكريات عن قصة رواها عليّ بن واشيمان ذاته للمؤلف.

(٢٢٩) لقد سبق للمؤلف أن قال فيما يلي أن هذا اللقاء كان في تومغلاست ، بلدة يظهر أنها تنطبق على جماسّة الحالية. ومن المحتمل أن هذا حدث في عام ٩٢٠ ه‍ / حزيران أو تموز (يونية أو يولية) ١٥١٤ م. ورحلة المؤلف إلى آسفي ، التي حدثت قبل أربعة عشر عاما سابقا ، تقع إذن في عام ٩٠٦ ه‍. وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة ، مما يثبت تاريخ ولادته بصورة تقريبية عام ٨٩٤ ه‍ / أو بين ٥ / ١٢ / ١٤٨٨ و ٢٤ / ١١ / ١٤٨٩ م.

(٢٣٠) مدينة صغيرة تقع قرب رأس كانتان (القنطو.) واسمها تحريف عن قنطو.

(٢٣١) ٣٢ كم.


تيت ، مدينة في دكّالة

تيت (٢٣٢) مدينة قديمة تقع على مسافة أربعة وعشرين ميلا من آزمور ، بناها الأفارقة على ساحل المحيط. وهي بريف (٢٣٣) فسيح تجود فيه زراعة القمح وتنتج كميات وفيرة منه. ولسكانها ذكاء محدود ، فهم لا يعرفون طريقة غرس البساتين ، ولا عمل أي شيء يسرّ النظر. ويلبسون ثيابا لائقة جدا بسبب تجارتهم وعلاقاتهم مع البرتغاليين. وعند ما احتل هؤلاء آزمور ، استسلمت هذه المدينة (تيت) لملك البرتغال ، بالاتفاق مع قبطان الملك ودفعت جزية معينة (٢٣٤) ، وفي أيامي (٢٣٥) جاءها ملك فاس شخصيا بينما كان في نجدة أهل دكّالة. ولما عجز عن الحصول على أية نتيجة ، عمد الى نصراني كان خازنا ويهودي كان وسيطا في شئون التجارة فشنقهما (٢٣٦) ، ونقل سكانها إلى فاس وخصص لهم مكانا لإقامتهم هو بلد صغير كان مهجورا منذ بعض الوقت ، على مسافة اثني عشر ميلا (٢٣٧) من فاس (٢٣٨).

المدينة ، مدينة في دكّالة

المدينة هي بلدة في دكّالة ، وهي بالفعل عاصمة هذه المنطقة. ولها سور مشيّد حسب طريقة أهل البلاد ، أي من مواد يغلب عليها الغلظة وذات منظر تعيس. ويمكن التأكيد بأن سكانها جهال. وهم يرتدون أقمشة صوفية مصنوعة محليا. وتحمل النسوة الكثير من الحلى الفضية ومن العقيق. ورجالها شجعان ولديهم عدد لا بأس به من

__________________

(٢٣٢) لا تزال آثار ماثلة حتى اليوم من سور تيت القديم ، وذلك بجوار زاوية مولاي عبد الله الأمغار على ساحل البحر ، على مسافة ٢٥ كم جنوب أزمّور.

(٢٣٣) «بادية أو ريف أو حقول مزروعة أو غيطان بمعنى واحد ، وعبارة البوادي في المغرب تعني الأرياف الزراعية» (المترجم).

(٢٣٤) لقد نزل دوق براغانس مع قواته البرتغالية على ساحل الجديدة (مازاغان) يوم الاثنين ٢٩ آب (أغسطس) ١٥٢٣ م ، وفي يوم الجمعة جاء عرب أولاد دوي وشيخ تيت للتفاوض على تسليم المدينة وخضوعها ، ولكن الأهالي الذين تملكهم الخوف أخلوها في أثناء الليل. ولم تكن تيت تبعد عن الجديدة سوى ٨ كم. وبعد سقوط آزمور الذي حدث يوم ١٣ ايلول (سبتمبر) ، أعلن أهالي تيت خضوعهم.

(٢٣٥) في مطلع تموز (يولية) ١٥١٥ م.

(٢٣٦) يحتمل أنهما كانا يعملان لحساب ملك البرتغال.

(٢٣٧) ٢٠ كم.

(٢٣٨) تؤكد الوثائق البرتغالية ، إخلاء مدينة تيت كليا.


الخيول. وقد ضم ملك فاس سكانها إلى مملكته خشية البرتغاليين ، فقد بلغه بالفعل أن عجوزا ، وهو رئيس حزب في المدينة ، نصح للسكان أن يدفعوا الجزية لملك البرتغال. وقد شاهدت هذا العجوز وهو يقاد حافيا مقيدا بالأغلال. وقد تملكتنى شفقة كبيرة عليه لأن هذا الرجل المسكين كان مضطرا لأن يعمل ما عمل ، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه من الأفضل دفع الجزية عوضا عن خسارة الأملاك وتضحية الأرواح البشرية. وتوسط عدة أشخاص لدى الملك طالبين الإفراج عنه وحصلوا على ذلك لقاء دفع غرامة. وظلت المدينة بعد ذلك خاوية على عروشها. وحدث هذا سنة ٩٢١ ه‍ (٢٣٩).

المائة بير ، مدينة في دكّالة (٢٤٠)

وهي بليدة صغيرة فوق تل كلسي. ونجد في خارج البلدة العديد من الصوامع التي اعتاد السكان أن يخزنوا فيها حبوبهم. ويقول أهل البلاد أنه أمكن تخزين القمح في أثناء مائة سنة بدون أن يفسد أو أن تتغير رائحته. وبسبب هذا العديد من الصوامع ، التي تشابه الآبار ، دعيت هذه المدينة ، مدينة المائة بير (٢٤١). وسكانها قليلون جدا ولا نجد فيها أي صانع ، باستثناء بعض الحدادين اليهود ، وفي الوقت الذي نقل فيه ملك فاس سكان «المدينة» (التي عقدت لها فقرة قبل بلدة المائة بير) ليستوطنوا أراضيه ، رغب أيضا في أن يسوق أمامه هؤلاء أيضا (أي سكان المائة بير) ، ولكنهم امتنعوا عن هذا النزوح وهربوا إلى آسفي كيلا يتركوا وطنهم. ولما رأى الملك ذلك منهم خرب مدينة المائة بير حيث لم يجد شيئا سوى بعض الغلال والعسل وأشياء ثقيلة عديمة القيمة (٢٤٢).

__________________

(٢٣٩) إن هذا الشيخ الذي انحاز إلى البرتغاليين معروف لدينا استنادا إلى الوثائق البرتغالية وكان يدعى ميمون. وليس من الصحيح أن سكان المدينة قد نقلوا في تموز (يولية) ١٥١٥ م إلى منطقة فاس ، وعلى الأقل بصورة جماعية ، لأن سكان تيت وبني ماجر هم الذين أجلوا بصورة كلية. وقبل آخر شهر آب (أغسطس) كان أكثر من ألف بيت قد عادوا لمنازلهم ، حتى كان فيها من السكان أكثر مما كانوا عليه قبل حملة ملك فاس ، لأن الناس قصدوها من مراكش ومن الجبل. ولما كان المؤلف قد غادر وطنه نهائيا في تلك الفترة ، فهو لم يستطع بالفعل أن يعرف ما إذا كانت المدينة قد ظلت خالية أم لا.

(٢٤٠) المائة بير ذكرت خطأ بدلا من سرنو.

(٢٤١) وبالفعل يوجد في المنطقة مكان يدعى مائة بير. ولكن إدمون دوتي Edmond Doutte توصل إلى أن المقصود هو بلدة سرنو ، وهي مدينة تقع على مسافة ١١ كم إلى الجنوب ، وحيث كان يسكن يحيى أو تعفوفت ، وملك البرتغال هو الذي أقطعه إياها له ولأولاده من بعده ، وذلك بموجب خطاب مؤرخ ٢٥ آب (أغسطس) ١٥١٤ م.

«وفي ذلك عطاء من لا يملك لمن لا يستحق» (المترجم).

(٢٤٢) تفيد وثيقة برتغالية انه لم يبق شيء من القمح في سرنو ، وهو القمح الذي نهبه ملك فاس.


السبيت ، مدينة في نفس المنطقة

السبيت مدينة صغيرة على نهر أم الربيع ، باتجاه الجنوب. وتقع على مسافة أربعين ميلا (٢٤٣) من «المدينة» وهي خاضعة لعرب دكالة. وتنتج كثيرا من القمح والعسل ، ولكن نظرا لجهل سكانها ، لا يظهر فيها حدائق من البساتين ولا من الكروم. وبعد خراب مدينة بولوان (٢٤٤) استاق ملك فاس سكانها الى مملكته. وأعطاهم مدينة صغيرة في منطقة فاس كانت غير مأهولة. وظلت سبيت مهجورة. (٢٤٥)

تامراكشت

تامراكشت (٢٤٦) مدينة صغيرة في دكالة على نهر أم الربيع. وقد بنيت من قبل الملك الذي شيّد مراكش ، ولهذا تحمل هذا الاسم. (٢٤٧) وقد كانت مأهولة جدا وتضم أربعمائة أسرة. وكانت خاضعة لآزمور ، ولكنها تخربت في العام الذي تم فيه احتلال هذه المدينة الأخيرة من قبل البرتغاليين (٢٤٨) ونقل سكانها الى «المدينة». (٢٤٩)

ترغه

ترغه مدينة صغيرة على نهر أم الربيع على مسافة ثلاثين ميلا من آزمور. وقد كانت كثيرة السكان وتضم حوالي ثلاثمائة اسرة ، وكانت تخضع لعرب دكالة. ولكن بعد سقوط آسفى (٢٥٠) جاء عليّ ، زعيم الحزب المعادي للبرتغاليين ، ليسكنها بعض الوقت مع بعض من أكثر رجاله شجاعة. وبعد ذلك استدعاهم ملك فاس الى مملكته مع أسرته ،

__________________

(٢٤٣) حوالي ٦٥ كم.

(٢٤٤) في ايار (مايو) ١٥١٤ م.

(٢٤٥) لم يصل الينا عن هذه البلدة الا فقرة وردت في رسالة يحي او تعفونت ، وقد كتبها في أواخر شهر آذار (مارس) ١٥١٤ م يعبر فيها عن نيته في المرور من اعالي القرى الواقعة فوق السّوبيت ، على طول مجرى النهر ، ولم يعثر على موقع السّوبيت.

(٢٤٦) لقد اختفت تامّراكشت ، وظل اسمها يطلق على أرض واقعة على الضفة اليمنى لنهر أم ربيع.

(٢٤٧) تصغير بربري لكلمة مراكش.

(٢٤٨) سنة ١٥١٣ م.

(٢٤٩) ورغم وقوع هذه المدينة فوق أرض منطقة تامسنة ، فإن مجرد تبعية تامّراكشت لآزمور وكون سكانها التجأوا إلى «المدينة» يبرهن على ان هذه المدينة الصغيرة كانت تعتبر في دكالة.

(٢٥٠) في بداية عام ١٥٠٨ م.


حتى لقد أصبحت ترغه ملجأ للبوم. (٢٥١)

بولوان

بولوان مدينة صغيرة أنشئت على ضفة نهر أم الربيع. وتضم قرابة خمسمائة عائلة. وكان يسكنها عديد من النبلاء الذين كانوا من كرام الناس. وتقع في منتصف الطريق من فاس إلى مراكش (٢٥٢). وقد بنى سكان هذه البليدة عمارة ذات غرف عديدة مخططة في صورة حظيرة واسعة. ويستضاف كل المارة بالبلدة بإكرام في هذا المنزل على نفقة السكان ، لأن هؤلاء الناس أغنياء جدا بالقمح وبالماشية. ولدى كل واحد فيها زهاء مائة زوج من الابقار ، وبعضهم يحصد حوالي مائة حمل من القمح (٢٥٣) وأن منهم من يجني ثلاثة آلاف. والعرب هم الذين يشترون هذا القمح ويمتارون منه للعام كله.

وفي عام ٩٢٠ ه‍ (٢٥٤) أرسل ملك فاس أخاه (٢٥٥) لحماية منطقة دكالة وحكمها. وما أن وصل هذا قرب بولوان حتى علم بنبأ مفاده أن قبطان آزامور سيأتي ليخرب هذه المدينة وليأخذ سكانها أسرى. وهكذا أرسل على الفور قائدين مع ألفي فارس وقائدا آخر مع ثمانمائة من رماة النبل لنجدة بولوان. وفي الوقت الذي وصلت فيه هذه القوات كانت القوات البرتغالية قد وصلت أيضا. وبما أن البرتغاليين تلقوا دعما مؤلفا من ألفي عربي (٢٥٦) فقد تحقق لهم التفوق. وعند ما حصروا رماة ملك فاس في وسط السهل ، أعملوا السيف فيهم جميعا باستثناء عشر أو اثني عشر مع بقية القوات التي هربت الى الجبال. والواقع أن المغاربة المسلمين قد أعادوا تنظيم قواتهم وقاموا بهجوم مضاد وأخذوا

__________________

(٢٥١) تقع ترغه على مسافة ٣٥ كم من آزمور عند مقرن واد ترغه مع نهر أم الربيع ، وهي أيضا على ضفة هذا النهر اليمنى. إذن تقع في إقليم تامسنة ، ولكن تعتبر من إقليم دكالة. وقد التجأ اليها علي بن واشيمان مع اتباعه ، فأخذه شقيق ملك فاس سجينا ، وهو مولاي الناصر ، الذي اقتاده مع وجهاء آخرين من دكالة في عام ١٥١٤ م. وبعد عودته الى ترغه تزعم على قبيلة بني ماجر اثناء حملة السلطان محمد سنة ١٥١٥ م ، وهاجرت هذه العشيرة الى ضواحي فاس.

(٢٥٢) وعلى الأصح على الطريق المذكور عند منتصف المسافة بين الساحل ومراكش.

(٢٥٣) لقد ذكر المؤلف بأن حمل الجمل في «السوس» كان يزن سبعمائة رطل إيطالي أي ، ٢٣٧ كلغم ، ومن المحتمل جدا أن يكون الحمل المذكور معادلا لما هو في دكالة. «أي أن بعضهم يجني قرابة ٢٣٧ طن من القمح والبعض الآخر يصل محصوله الى ٧١١ طنا» (المترجم).

(٢٥٤) أو نيسان (إبريل) ١٥١٤ م.

(٢٥٥) مولاي الناصر ، حاكم ونائب الملك الحقيقي في منطقة فاس أو الشاوية.

(٢٥٦) وهم خيّالة جلبهم يحي أو تعفوفت من منطقة حوز مراكش.


يطاردون البرتغاليين وقتلوا منهم خمسين فارسا (٢٥٧) ووصل أخو الملك إلى دكّالة ، وجبى الضريبة ووعد بمد يد المساعدة بدون انقطاع إلى المنطقة. ولكن بعد أن خذله العرب اضطر الى العودة الى فاس. وهكذا لما رأى سكان بولوان أن مجيء أخي الملك لم يكن له أية نتيجة سوى تحصيل الضريبة ، دون أن يقدم لهم أية نجدة تذكر ، استبدّ بهم الذعر وهجروا المدينة ولجأوا الى جبال تادلة خوفا من أن يأتي البرتغاليون بدورهم ويطالبونهم بغرامات ليس بمقدورهم تأديتها ، فيأخذوهم أسرى. وقد شهدت هذه الهزيمة ، ورأيت مجزرة رماة السهام ، ولكن كنت على مسافة ميل منهم على ظهر فرس تضيق افريقيا كلها عن قفزته عند فراره!. وكنت عندئذ مسافرا. وعدت الى مراكش قادما من ساحة المعركة التي خاضها جيش ملك فاس كي أخبر ملك مراكش والأمير شريف باقتراب قدوم شقيق الملك لكي يتداركوا ويأخذوا الأهبة ويعدوا ما استطاعوا من قوة للتصدي للبرتغاليين.

مدينة آزمّور

هي مدينة تقع في دكّالة ، وقد شيّدها قدماء الأفارقة على ساحل المحيط ، عند مصب نهر أم الربيع على مسافة ثلاثين ميلا من المدينة باتجاه الشمال (٢٥٨). وهي كبيرة جدا ومأهولة بشكل طيب. وتحوي زهاء خمسة آلاف أسرة. ويقصدها التجار البرتغاليون باستمرار. وسكانها أناس مهذبون جميلو الهندام. ومع أنهم ينقسمون الى طائفتين ، فإن المدينة تظل دائما مدينة سلام. وتنتج أريافها الكثير من القمح. ولا تشاهد فيها أشجار مثمرة ولا بساتين فيما عدا بعض أشجار التين ويدر النهر لهذه المدينة ما بين ستة آلاف وسبعة آلاف دينار سنويا ، تجبى من رسوم الصيد لنوع من السمك يغزر في مياهه يسمى الألوزL'alose ويبدأ موسم الصيد في تشرين الأول (اكتوبر) وينتهي في أواخر نيسان

__________________

(٢٥٧) هناك سرد مفصل جدا لهذه المعركة التي حدثت يوم الجمعة ١٢ نيسان (إبريل) ١٥١٤ م. فقد قدّم دوم جاوو دمينيسيس ، حاكم آزمور الذي كان يقود الحملة مع نونو فرناندز دو آتيد ، حاكم آسفى ، قدّم تقريرا للملك عما نوئيل الأول يقول فيه أن البرتغاليين لم يخسروا سوى اثنين وثلاثين فارسا ، منهم اثني عشر وجيها ويقول دوجواDegois في سرده تفاصيل المعركة بأنه في الساعة العاشرة صباحا ، سقط بعد ثلاث ساعات من القتال ، أكثر من خمسين فارسا قتيلا ، معظمهم من الرجال الممتازين ، ولم يسقط من المشاة سوى القليل وتجاوز عدد الجرحى المائة. أما المغاربة فقد خسروا اكثر من ألفين وستمائة قتيل منهم ستمائة وخمسون من رماة السهام ورماة البنادق ، فضلا عن أربعة آلاف جريح وأكثر من مائتين وثمانين أسيرا.

انظر ايضا ، ب. دو سينيفال : المصادر غير المنشورة عن تارخ المغرب ، الزمرة الأولى. البرتغال. المجلد الأول.

باريس مكتبة غوتنر ١٩٣٤ م. ص ٥٤٠ ـ ٥٤١.

(٢٥٨) في الحقيقة تقع آزمور على مسافة تزيد على ٩٠ كيلومتر (٥٦ ميل) شمال المدينة.


(إبريل). ويحوي هذا السمك من الدهن اكثر مما يحوي من اللحم ، ولذلك تكفي كمية زهيدة من الزيت لقليه ، فما أن تمس حرارة النار سمكة من هذا النوع ، حتى تفرز اكثر من رطل ونصف من الدهن. ويشبه هذا الدهن الزيت ، ولذلك يوقد منه في السراجات لأن المنطقة تفتقر للزيت. ويأتي التجار البرتغاليون كل سنة لشراء كمية كبيرة من هذا السمك. وهم الذين يدفعون رسم الصيد ، حتى بلغ بهم الأمر انهم اقنعوا ملك البرتغال باحتلال هذه المدينة. فأرسل أسطولا مؤلفا من بضع سفن. ولكن لما كان قبطانه قليل الخبرة ، فقد انهزم الاسطول وأغرقت معظم مراكبه (٢٥٩)

وبعد عامين ، أرسل الملك اسطولا آخر قوامه مائتا قطعة حربية (٢٦٠). وعند ما رأى السكان ذلك انهارت قواهم المعنوية ، ولجأوا الى الهرب في ذعر كبير وتدافع بالغ أدى إلى هلاك أكثر من ثمانين شخصا اختناقا عند أبواب المدينة من كثرة زحام الجمهور. أما الأمير البائس الذي جاء لنجدة المدينة فلم يعرف كيف ينجو بنفسه سوى أن يلجأ للنزول بواسطة حبل من أعلى السور. وتراكض الناس في كل اتجاه في المدينة. بعضهم حفاة وبعضهم على خيول. وكان من المحزن رؤية الأولاد والكهول والنساء والفتيات ، حفاة ، شعثا ، يركضون في كل مكان بدون أن يعرفوا أين يختبئون. ولكن قبل أن تنشب المعركة مع النصارى عمد اليهود ـ الذين كانوا قد عقدوا قبل قليل إتفاقا مع ملك البرتغال لتسليمه المدينة بشرط أن لا يمسّوا بأي أذى ـ عمدوا إلى فتح الأبواب برضى الجميع. وهكذا احتل النصارى آزمور ، (٢٦١) وذهب السكان ليقطنوا في سلا وسكن قسم آخر

__________________

(٢٥٩) لقد اعترفت آزمور بالحماية البرتغالية منذ سنة ١٤٨٦ م ولكن يبدو ان الاتفاقيات المتعلقة بها قد ألغيت في ١٥٠٢ م وأدى تعاقب الأحداث الى تدخل البرتغاليين المسلّح. وفي ١٢ آب (أغسطس) ١٥٠٨ م ظهر اسطول تجاه آزمور مؤلف من خمسة وسبعين قطعة ، وتم إنزال الفين وخمسمائة رجل الى البر. ولكنهم لقوا مقاومة ضارية قسرتهم على العودة الى سفنهم على عجل ، ولم ينج من سفنهم إلا بضع سفن واحرقت سفينة خفيفة في النهر وكان هذا الاسطول بقيادة دوم جاوو دومينيسيس ، الذي مات في اثناء حكمه لمدينة آزمور في ١٥ ايار (مايو) ١٥١٤ م.

(٢٦٠) كانت هذه الحملة بقيادة دوق دو براجانس وكانت تضم خمسمائة سفينة وأنزلت بتاريخ الاثنين ٢٩ آب (اغسطس) ١٥١٣ م في الجديدة (مازاغان) التي لم تكن حينذاك أكثر من مرسى ، حملة قوامها ألفا فارس وثلاثة عشر الفا من المشاة.

(٢٦١) عسكرت القوات البرتغالية امام آزمور يوم الخميس الأول من ايلول (سبتمبر) ، بينما دخل قسم من الأسطول في النهر. وفي صبيحة الجمعة قذفت المدينة بالمدفعية مما أدى إلى فزع السكان الذين جلوا عن المدينة ليلا. أما الأمير المقصود فقد كان مولاي زيان ، ابن عم ملك فاس ، الذي كان حاكما على مكناس والشاوية سابقا ، والذي سبق له ان ثار ضد الملك ، والتجأ الى البرتغال أولا ، ثم في آزمور ، حيث لعب على الحبلين. وفي ١٥١٤ م انتهى به الأمر للتصالح مع ملك فاس بصورة رسمية. وسنرى في القسم الثالث ذكرا لهذا الصلح. ولم يسلم اليهود المدينة ولكن كان هناك يهودي ذهب لإخبار ـ


منهم فاس. وهكذا عوقب هؤلاء السكان بهذه الصورة جزاء انغماسهم في اللواط. وكانوا لا يستحون من هذه الرذيلة ، حتى أن الأب كان يبحث لولده عن صديق مداعب لطيف.

وأخيرا سقطت هذه المدينة في عام ٩١٨ ه‍ ، بينما كنت في بلاد السودان. (٢٦٢)

مرامر

مرامر مدينة بناها القوط في داخل الأراضي على مسافة أربعة وأربعين ميلا (٢٦٣) من آسفى ، وفيها قرابة أربعة آلاف أسرة. وتنتج المنطقة كثيرا من القمح والزيت وكانت في الماضي تحت سلطة أمير آسفى. ولكن عند ما سقطت آسفى بأيدي البرتغاليين (٢٦٤) هرب السكان من المدينة وظلت خلال عام كامل مهجورة وبعدئذ عقد الأهلون اتفاقا مع البرتغاليين وعادوا لبيوتهم. ويدفعون حتى الآن جزية لملك البرتغال (٢٦٥)

جبل بني ماجر

وهو جبل يقع على مسافة اثنين وعشرين ميلا من آسفى (٢٦٦) وكان يقطنه الكثير من الصناع الذين كانت لهم جميعا بيوت في آسفى. وهو جبل غزير الإنتاج ، ولا سيما من القمح والزيت. وكان فيما سبق من الزمن تحت سلطة أمير آسفى. وعندما سقطت المدينة المذكورة ، لم يكن لدى هؤلاء السكان بدّ من أن يبحثوا لهم عن ملجأ في الجبل. ومنذ

__________________

ـ البرثغاليين ، في منتصف الليل ، بأن المدينة قد اخليت قبل قليل ، فاحتلها البرتغاليون دون حادث في صبيحة السبت ٣ أيلول (سبتمبر) ١٥١٣ م.

(٢٦٢) سقطت آزمور يوم السبت ٣ ايلول (سبتمبر) ١٥١٣ م ـ ٢ رجب ٩١٩ ه‍. وهذا التاريخ أي ٩١٨ ه‍ / ١٥١٢ م هو بلا شك تاريخ رحلة المؤلف الثانية الى السودان ، أي الى بلاد حوض النيجر.

(٢٦٣) أي أقل من ٧٠ كم.

(٢٦٤) في ١٥٠٨ م.

(٢٦٥) تحمل آثار هذه المدينة اسم سويرة مرامر ، أي سور مرامر الصغير. وتقع هذه الآثار في منطقة الضفة اليسرى لنهر تانسنت حينما كانت مرتبطة إداريا بدكالة. ويبدو ان المؤلف يردد اعتقادا شائعا ينسب تأسيس مدينة مرامر إلى ويزيغوط اسبانيا ، ومن المحتمل ان هؤلاء أسسوا مركزا تجاريا ، لأن البكري يذكر مرامر على الطريق الذي كان يربط نيفيس ، وهي مدينة هامة في الداخل عند الفتح الاسلامي ، بميناء آغوز الواقعة عند مصب نهر تانسفت.

(٢٦٦) أي حوالي ٣٥ كم.


ذلك الحين أصبح هذا الجبل تابعا لملك البرتغال. وعلى أثر وصول ملك فاس لهذه المنطقة عاد قسم من الناس إلى آسفى. وجلت البقية إلى فاس بتأثير من الملك لأنهم لم يقبلوا العيش تحت سيطرة النصارى (٢٦٧).

الجبل الأخضر

الجبل الأخضر جبل عال ، ويبدأ من جوار نهر أم الربيع ، ويمتد غربا حتى تلال هسارة. ويفصل الدكالة عن جزء من منطقة تادلة (٢٦٨) ، وهذا الجبل كثير الغابات وتكثر فيه الجروف الشديدة (٢٦٩) ، وينتج الكثير من ثمار البلوط وينمو فيه الكثير من هذه الاشجار التي تحمل ثمرة حمراء تدعى باللغة الافريقية الأربوز. ونجد فيه كذلك أشجار الصنوبر. ويعيش فيه العديد من الزهاد الذين لا يتغذون بغير ثمار الجبل (٢٧٠) ، لأنهم على مسافة خمسة وعشرين ميلا من أية بقعة مأهولة. ويوجد هنا الكثير من العيون وكذلك بضعة مساجد مبنية حسب أسلوب المسلمين. وتشاهد فيه آثار عمرانية قديمة إفريقية. وبالقرب من الجبل توجد بحيرة بديعة جدا ، تعادل بحيرة بولسينا ، الواقعة ضمن المقاطعة البابوية (٢٧١). وتحوي هذه البحيرة كمية كبيرة من الأسماك ، مثل سمك الحنكليس ، وسمك الشبوط ، والسلور ، وأسماكا أخرى لم أر مثلها أبدا في إيطاليا ، وكلها ممتازة للغاية. ولكن لا يصطاد أحد أبدا في هذه البحيرة.

وعندما ذهب محمد (٢٧٢) ملك فاس إلى دكالة (٢٧٣) توقف لمدة ثمانية أيام بجوار هذه

__________________

(٢٦٧) هاجر هذا القسم من بني ماجر الى منطقة فاس في شهر تموز (يولية) ١٥١٥ م بقيادة زعيمهم علي بن واشيمان.

(٢٦٨) من المستحيل علينا حاليا تحديد تخوم مقاطعات ذلك العصر ، ولكن يبدو من غير المحتمل ان دكالة كانت ملاصقة لتادلة. ولم يعثر على اسم هسارة ، وربما جازت قراءته هسكورة ، ومن الشرق عوضا عن الغرب. ويبدو ان المؤلف أعطى اسم الجبل الأخضر لكتلة من التلال واقعة جنوب غرب نهر أم الربيع ، في حين ان الاسم يعني فقط جبلا صغيرا في هذه الكتلة ، لا يتجاوز ارتفاعه ٩٦٣ متر ، ولا يشرف على المناطق المجاورة بأكثر من حوالي ٣٠٠ متر.

(٢٦٩) يبدو هذا الجبل عاريا تماما في أيامنا هذه.

(٢٧٠) ويقصد بها ثمار الزعرور.

(٢٧١) لقد اختفت هذه البحيرة تماما بسبب ابادة الغابة كليا في المنطقة ، وكانت بحيرة دائمة تحمل اسم بحيرة اوارار. وهناك عين تقع على مسافة ثلاثين كيلومترا إلى الغرب من الجبل الاخضر تحتفظ باسم عين وارار. ولا يزال القاع الذي كان يؤلف هذه البحيرة وحليا للغاية في فصل الأمطار ، ولكن يستبعد كثيرا ان يكون لها طابع وأبعاد بحيرة بولسينا التي هي عبارة عن فوهة بركانية دائرية يبلغ قطرها ١٣ كم.

(٢٧٢) أبو عبد الله محمد بن محمد الشيخ السعيد الكامل البرتغالي.

(٢٧٣) في حزيران (يونية) ١٥١٥ م.


البحيرة وأمر بعض الناس بالصيد. ورأيت كيف يجري صيدها ؛ إذ عمدوا إلى ضيم أطراف ياقات قمصانهم وأكمامها بعضها إلى بعض بالخياطة ، واستعانوا بعدى طويلة لإنزالها إلى قاع البحيرة. وبهذه الطريقة حصلوا على الكثير من السمك. فماذا عسى أن يحصل عليه الذين يستخدمون الشباك من هذه الاسماك؟! وخاصة لأن السمك هناك يبدو كأنه مصاب بالدوار وكأنه ثمل للسبب الذي سأرويه فقد دخلت في البحيرة الخيول والجمال على مسافة تقارب الميل. وكانت الخيول بأعداد كبيرة تقارب أربعة عشر ألفا ، وكان أكثرها يخص العرب الذين وفدوا ليضعوا أنفسهم تحت تصرف الملك ، وكانت الأخرى تخص اتباعه من العرب ، والأخرى خيول جنوده. وجاء هؤلاء العرب بأعداد من جمالهم تفوق ثلاثة أضعاف عدد الخيول. وكان في قافلة الملك وأخوته قرابة خمسة آلاف من الخيول. وكان الملك قد جهز ذلك لحاجات كل جنوده النظاميين ، الذين كان عددهم يقارب سبعة آلاف فارس ومثلهم من المشاة ، ما بين خدم وبغالة ، وجمّالة وسقّائين وحطّابين وطباخين مع خدم المطعم ومحاسبي النفقات ، أضف إلى ذلك وكيل الاعلاف مع محاسبيه ومستخدميه الذين اصطحبهم. وكان كل هؤلاء الناس على نفقة الملك باستثناء صف ضباط المشاة وضباط الفرسان الذين قاموا بأنفسهم بما يلزم لتموينهم الخاص من الخيام ومن الجمال ومن موظفي الخدمة. وقد سردت كل هذه القصة في موجز التواريخ الذي سبق لي أن ذكرته. ولن نطيل أكثر من ذلك عنها كيلا نخرج عن موضوعنا وهو البحيرة.

وتوجد على ضفاف هذه البحيرة كمية كبيرة من الاشجار التي تشبه أوراقها أوراق الصنوبر (٢٧٤) وتصنع طيور اليمام التي لا تحصى ، بين أغصانها ، أعشاشها ، بحيث كنا في هذه الفترة ، وهي شهر أيار (مايو) (٢٧٥) ، نشتري ست يمامات دفعة واحدة بثمن زهيد.

وامتدت استراحة الملك على فترة ثمانية أيام ثم أراد أن يقصد الجبل الأخضر. وكنا عديدين في صحبته ما بين فقهاء ورجال بطانته. وكان يأمر بوقوف كل الناس عند كل مسجد نصادفه ويركع قائلا في دعاء متواضع : «اللهم إنك تعرف أنني جئت الى هذه البلاد الموحشة بنية وحيدة وهي مساعدة أهالي دكّالة لتحريرهم من العرب الزنادقة والعصاة

__________________

(٢٧٤) يحتمل أن تكون أشجار الطّويّا المعروفة في بلاد البربر واسمها اللاتيني Callitris articulata أو العرعر باللغة العربية.

(٢٧٥) أو بالأصح نهاية شهر حزيران (يونية) ١٥١٥ م.


ومن اعدائنا النصارى الأوغاد كذلك وإذا كانت إرادتك غير ذلك ، أسألك أن تصب بلاءك على عاتقي وحدي ، لأن الناس الذين يتبعوني لا يستحقون عقابا». وفي المساء عدنا الى المعسكر بعد أن أمضينا النهار في الجبل. وفي الصباح التالي رأى الملك أن يقوم بالصيد في الغابات التي تحيط بالبحيرة. فاستعمل في ذلك الكلاب والصقور التي يملك منها عددا كبيرا. وهكذا جرى صيد الحباري والبط ، والطيور المائية والترغل. وفي اليوم التالي جرى صيد بواسطة كلاب السلوقي والصقور والباز ، وتم صيد أرانب ووعول ودلادل (٢٧٦) وغزلان وأبناء آوى وحجل بكميات لا تحصى ، إذ لم يحدث صيد بمثل هذا الشكل منذ مائة عام في هذا الجبل.

وبعد هذا الصيد ، أخذ الملك قسطا من الراحة ، وانطلق ليذهب مع الجيش نحو مدينة الدكالة ، وسمح للفقهاء وللعلماء الذين كانوا معه بالعودة الى فاس. وأرسل عددا منهم إلى مراكش وكنت عضوا في هذا الوفد. وحدث هذا في عام ٩٢١ ه‍ (٢٧٧).

منطقة هسكورة

هسكورة منطقة تبدأ من التلال الواقعة في دكالة باتجاه الغرب وتنتهي غربا عند نهر التانسفت عند قدم جبل آديمي. وتتاخم من الشمال وادي العبيد الذي يفصل هسكورة وتادلة إحداهما عن الأخرى. وتقوم دكالة مع تلالها بفصل هذا الإقليم عن المحيط. وسكان هسكورة أفضل تربية بكثير من أهالي دكالة ، إذ تتوافر في هذه المنطقة موارد من كثرة محصول الزيت ، ومن تلك الجلود المغربية التي يستأثر إعدادها بجهود كل السكان تقريبا. ولدى هؤلاء عدد عظيم من الماعز وتجري دباغة كل الجلود التي تأتي من الجبال المجاورة في نفس المنطقة. ونظرا لوجود كمية كبيرة من الأغنام تصنع أقمشة جميلة جدا من الصوف لسد الحاجات المحلية. كما تصنع هنا سروج خيل أنيقة. ويقوم تجار فاس الذين يعقدون صفقات هامة في هذه الكورة بمقايضة أقمشتهم الكتانية في مقابل الجلود والسروج. وعملة هذه المنطقة هي العملة الدارجة في دكالة ويشتري العرب في هسكورة عادة الزيت وأشياء أخرى.

وسأتكلم الآن عن كل مدينة الواحدة تلو الأخرى.

__________________

(٢٧٦) أو الخنزير الشوكي ، أو النيص.

(٢٧٧) ١٥١٥ م.


«المدينة» : بلدة من هسكورة

«المدينة» هي بلدة فوق سفوح جبال الأطلس وقد شيّدها أهل هسكورة. وتضم حوالي ألفي أسرة. وتقع على مسافة تقارب سبعين ميلا (٢٧٨) شرقي مراكش ، وعلى مسافة مائة وستين ميلا من مدينة دكّالة (٢٧٩). وتضم هذه «المدينة» عددا كبيرا من الدبّاغين ومن السرّاجين ومن الحرفيين الآخرين. كما أن فيها الكثير من اليهود ، بعضهم تجار والبعض الآخر صناع. وتقع في وسط إطار بديع يتألف من أشجار الزيتون وكروم العنب وأشجار الجوز اليانعات. وسكانها منقسمون الى بضعة أحزاب وتقع شجارات مستمرة فيما بينهم في داخل المدينة ومنهم وبين غيرهم في خارجها وذلك بسبب عداوتهم لأهل مدينة تقع على مسافة أربعة أميال منها (٢٨٠). ولا يستطيع أحد أن يتجول في الأرياف كي يذهب الى حقله. باستثناء النساء والعبيد. وإذا أراد تاجر غريب أن يذهب من مدينة إلى أخرى فيجب أن يكون مصحوبا بعدد كبير من الحراس. ولهذا يستأجر كل واحد منهم نبّالا أو رامي بندقية بأجر شهري يتراوح بين عشرة أو اثني عشر دينارا من العملة المحلية والتي تساوي ستة عشر دينارا إيطاليا (٢٨١). ونجد في هذه المدينة بعض الرجال المتصرفين الى علوم الشريعة. ومن بين هؤلاء يختار القضاة والفقهاء. وتعود الرسوم المستوفاة من الغرباء لبعض الرؤساء الذين ينفقونها في حاجات الجماعة. ويدفعون للعرب نوعا من ضريبة عن العقارات التي يملكونها في السهل ، ولكنهم يربحون من هؤلاء العرب أكثر من عشرة أضعاف ذلك. ولدى عودتي من مراكش قصدت هذه المدينة وبتّ في بيت رجل غرناطي غني جدا يعمل هناك في صنع راشقات السهام منذ زهاء ثمانية عشر عاما. وكنا تسعة أشخاص عدا الخدم. وقد تحمل نفقتنا عن طيب خاطر وقدم لنا كل شيء حتى سفرنا الذي كان في اليوم الثالث. وأراد الاهالي ان يكون مبيتنا في المضافة العامة المخصصة لكل الغرباء. ولكنه لم يستطع تحمل رؤيتنا تنزل في مكان غير بيته لأنني كنت

__________________

(٢٧٨) ١١٢ كم.

(٢٧٩) أي ٢٥٦ كم. والحقيقة مائة وثلاثون ميلا.

(٢٨٠) وهي بلدة أليمدين الواقعة على مسافة ٤ ، ٦ كم.

(٢٨١) تفتقر هذه الجملة للدقة ، ويجب ان نعرف ان ستة عشر دينارا إيطاليا يعادل اثني عشر مثقالا في هسكورة ، أي ان المثقال يعادل ٧ ، ٤ جرامات من الذهب ، والمثقال الموحدي له وزن نظري مقداره ٧ ، ٤ جرامات. ويبدو ان هذا الاجر مرتفع جدا بالنسبة لذلك العصر.


ابن وطنه. وعلى مدى إقامتنا كانت دار الإمارة تقدم لنا عجولا أو خرافا أو دجاجا ولما رأيت كثرة صغار المعز الموجودة في هذه المدينة ، طلبت من مضيّفي لماذا لا يقدمون لنا شيئا منها. فأجابني بأن هذا الحيوان يعتبر أدنى حيوان في المنطقة ولذلك يفضلون عليه في الإهداء الكبار من إناث المعز والتيوس.

ونساء هذه المدينة جميلات وشديدات البياض. وهن تمنحن وصالهن للغرباء عن طيب خاطر إذا استطعن ذلك وبشرط أن يتم ذلك في الخفاء.

ألمدين : مدينة في نفس الإقليم

ألمدين (٢٨٢) بلدة مجاورة للسابقة ، وعلى مسافة أربعة أميال (٢٨٣) إلى الغرب منها ، وتقع في واد بين أربعة جبال مرتفعة ، وهي بقعة باردة جدا. ويسكنها نحو ألف أسرة وأهل «ألمدين» هم دوما في حالة حرب مع سكان «المدينة». (المذكورة في الفقرة السابقة).

وفي أيامي استولى ملك فاس على هاتين المدينتين بواسطة تاجر من فاس وتم ذلك للأسباب الآتية : كان هناك تاجر فاسي ، كما سبق أن ذكرت ، مشغف حبا بفتاة صغيرة جميلة ، وقد وعده والدها بأن ينكحه إياها. ولكن في يوم العرس خطف الفتاة شخص كان زعيم المدينة. وقد كظم التاجر غيظه وطلب من هذا الزعيم السماح له بالرحيل. وعاد إلى فاس وقدم للملك هدية مؤلفة من أشياء جميلة ونادرة من هذه الكورة. وطلب منه ان يتفضل عليه ويعيره أربعمائة جندي راجل وثلاثمائة فارس ومائة من راشقي السهام يتعهد بنفقتهم جميعا. ووعد بأن يكتسح المدينة في قليل من الوقت وأن يحتفظ بها باسم الملك وأن يدفع كل سنة سبعة آلاف دينار ضرائب عن المنطقة. وقد قبل الملك هذا العرض وظهر كريما جدا ، إذ لم يترك على عاتق التاجر سوى نفقات راشقي السهام. وزوّده بكتاب يأمر به حاكم تادلة بأن يقدم للتاجر مثلهم من الخيالة ومن المشاة مع قائدين. وبعد أن أتم استعداداته على ما يرام قام التاجر المذكور ونصب معسكره أمام المدينة وحاصرها لمدة ستة أيام قام الأهلون في نهايتها وافهموا زعيمها بأنهم لا يريدون

__________________

(٢٨٢) مدينة اختفت كما نجهل اسمها الصحيح ومكانها.

(٢٨٣) ٤ ، ٦ كم.


التعرض لنقمة الملك ولا لما يلحقهم من جراء ذلك من أضرار. وهكذا خرج زعيم المدينة متخفيا بزي شحاذ ، ولكن أمكن التعرف عليه واقتيد أمام التاجر الذي كبله بالأغلال. وفي غضون ذلك فتح الأهلون أبواب المدينة وسلموها للتاجر الذي كان يتصرف باسم الملك. وجاء أهل الفتاة التي أحبها يعتذرون إليه قائلين بأن حاكم البلدة انتزعها منهم بالقوة بينما كانت في الحقيقة زوجة التاجر لأنه كان أول من منحوه إياها. وقد كانت هذه المرأة في حالة حمل في شهرها الثامن. وانتظر التاجر الى أن ولدت ثم تزوجها. أما زعيم المدينة فقد حكم الفقهاء عليه بالإعدام باعتباره زانيا وجرى رجمه في نفس اليوم. واحتفظ التاجر بحكم المدينة وعمل على استتاب الأمن. بين البلدتين المتعاديتين ، وبرّ بالوعد الذي قطعه على نفسه للملك.

وقد ذهبت إلى هذه المدينة وتعرفت فيها على التاجر الذي يحكمها. وعدت بعدئذ إلى فاس في نفس هذا العام حيث ذهبت لبيتي استعدادا للانطلاق إلى القسطنطينية (٢٨٤).

تاغوداست : مدينة في هسكورة

تاغوداست (٢٨٥) مدينة واقعة في رأس جبل شاهق ومحاط بأربعة جبال مرتفعة. وتطيف بهذه المدينة مزارع مثمرة بديعة جدا فيها جميع أنواع الأشجار. ورأيت فيها من المشمش ما ان حجمه ليعادل البرتقالة. وكرومها تسند إلى الحوائط في أشكال بديعة وتحملها سوق الأشجار. وتنتج عنبا احمر يسمى في لهجة أهل البلاد «بيض الدجاج» وبالفعل يناسبه هذا الاسم نظرا لكبر حباته. ويكثر هنا الزيت والعسل. ومن عسلها نوع أبيض كاللبن ، وهو ممتاز ، ومنه نوع أصفر فاتح كالذهب. وزيتها طيب الطعم ممتاز في نوعه. وتؤلف ينابيع في داخل المدينة جدولا يحرك مجراه بعض الطواحين الصغيرة المقامة على ضفتيه. وفيها العديد من الصنّاع الذين ينتجون أدوات دارجة في الاستعمال والسكان هنا مهذبون نسبيا. وتتزين النساء ، وهن غاية في الجمال ، بحلى فضية جميلة ، ذلك لأن أزواجهن يبيعون زيتهم بربح طيب. ويذهبون لبيعه في المدن المجاورة للصحراء ، أي في مواضع في الأطلس واقعة إلى الجنوب من الجبل. ولكنهم يذهبون الى فاس ومكناس لبيع الجلود.

__________________

(٢٨٤) وذلك خلال الأيام الأخيرة من تموز (يولية) أو أوائل ايام شهر آب (اغسطس) عام ١٥١٥ م.

(٢٨٥) الاسم والمكان غير معروفين ربما وجب البحث عنها من ناحية تاكوست.


ويقع قرب المدينة سهل يمتد على طول يبلغ ستة أميال (٢٨٦) وبه حقول جميلة يزرع فيها القمح. ويدفع الفلاحون إتاوة (٢٨٧) للعرب عن ممتلكاتهم.

ويوجد في هذه المنطقة فقهاء وقضاة وعدد من الشخصيات النبيلة. وفي الوقت الذي كنت موجودا فيها كان أميرها وجيها هرما ، أعمى ، ومطاعا جدا. وقد روى لي أنه كان في شبابه رجلا جسورا وذا قدرة كبيرة. فقد قتل بيده ، فيمن قتل وهم كثر ، أربعة زعماء أحزاب كانوا يظلمون الرعية. وبعد موت هؤلاء أظهر في معاملته للسكان الكثير من الرحمة ، وعرف كيف يوفق بين الأحزاب إلى أن أوصلها إلى الوحدة. وقد بلغ الوفاق درجة جعلت هؤلاء وأولئك لا يكتفون بعقد صلات صداقة بل يعقدون كذلك وشائج رحم ومصاهرة بينهم. أما فيما يتعلق بحكومته ، فقد كان الناس يعيشون بكامل حريتهم ، ولكن لا يمكن تقرير شيء دون مشورة هذا الرجل وموافقته. وقد نزلت عند هذا العجوز مع حوالي ثمانية من الفرسان. وقد برهن على سخاء كبير : إذ قدّم لي كل احتياجاتي ، وكذلك بالنسبة لرفاقي ، ولخيولنا ، وقدّم لنا كل انواع الأقوات. وقد أمضينا ثلاثة ايام عنده وكنا نثرثر بدون توقف وقد قصّ علينا ما فعله في سبيل نشر الأمن في المدينة وشرح ذلك. ولم يكتم عني شيئا كما لو كنت أخاه. وعند انصرافي أردت أن أعوضه على مصاريفه التي أنفقها على استقبالنا بإكرام ، ولكنه لم يقبل ذلك. وقال لنا انه كان صديقا وخادما أمينا لملك فاس ، ولكن إذا كان قد عاملنا هذه المعاملة الطيبة فليس ذلك لأننا من حاشية الملك ، بل لأنه ورث عن أجداده واجب إيواء كل من يجتاز المنطقة والحفاوة به سواء أكان معروفا لهم أم غريبا ، وذلك لوجه الله تعالى وسيرا على تقاليدنا النبيلة. وأضاف أن الله الذي يعوّض كل شيء منحه هذا العام محصولا يقارب سبعة آلاف كيل من القمح ومن الشعير لدرجة أن ما لديه من الاقوات يكفي لتغذية عدد أضخم من اهل البلد ولسدّ حاجاتهم. وفضلا عن ذلك لديه اكثر من مائة الف رأس من الغنم والماعز يستمد منها دخلا من شعرها ومن صوفها ، لأنه يترك للرعاة الحليب والجبن. ولكن يقدم له هؤلاء مع ذلك قدرا من السمن. وقال ان هذه الاشياء لا تجد لها سوقا في المنطقة إذ لدى كل الناس كثرة من الماشية الصغيرة. أما بالنسبة للجلود والصوف والزيت فتباع على مسافة سبعة أو ثمانية ايام. وأخيرا قال لنا إذا حدث وسلك مليكنا الطريق المحاذي

__________________

(٢٨٦) ١٠ كم.

(٢٨٧) يسمى ما يدفع من المسلمين «إتاوة» ولا يسمى «جزية» لأن «الجزية» هي ما يدفعه اهل الذمة.


لحضيض الجبل عند عودته من دكّالة فإنه سيخرج لملاقاته وسيقدم له خدماته كصديق وخادم. ثم استأذنا هذا العجوز الطيب وظللنا نلهج بالشكر له وبالحديث عن خلاله في أثناء بقية الرحلة.

الجمعة

الجمعة (٢٨٨) مدينة تبعد مسافة خمسة اميال تقريبا (٢٨٩) عن المدينة السابقة ، وبنيت في أيامنا فوق جبل عال يقع بين جبال أخرى مرتفعة جدا ، وتؤوي قرابة خمسمائة اسرة. كما أن القرى الواقعة في هذه الجبال فيها من السكان مثل ذلك. وتوجد هنا عدة عيون والكثير من المزارع الخاصة بكل أنواع الأشجار المثمرة ، ولا سيما بعدد ضخم من اشجار الجوز الكبيرة .. وتتغطى كل التلال التي تحيط بهذه الجبال بحقول الشعير وبأعداد من شجر الزيتون. ويسكن المدينة عدد كبير من الصناع ، وخاصة من الدبّاغيين ، والسرّاجين ، والحدادين ، نظرا لوجود منجم حديد عميق جدا. ويصنع هؤلاء الحدادون الكثير من حدوات الخيل. ويصدّر أهل هذه المدينة كل الاشياء التي يصنعونها ويصدّرون بضائعهم الى الكور التي تفتقر الى مثل هذه المنتجات ، ويقايضون عليها بالعبيد وبالنيلة وبجلود بعض الحيوانات التي تعيش في الصحراء (٢٩٠) والتي يصنعون منها تروسا جيدة شديدة المقاومة. ومن ثم ينقلون هذه الاشياء الى فاس حيث يقايضونها بالاقمشة الصوفية والكتانية وبأشياء أخرى يستعملونها.

وهذه المدينة نائية جدا عن الطريق الرئيسية ، حتى إذا جاءها غريب ، تراكض كل الناس ، حتى الأطفال لرؤيته ، لا سيما إذا كان يلبس ألبسة غير مألوفة في المنطقة.

ويحكم الأهالي بواسطة مجلس بلدي.

وقد شيّدت «الجمعة» بجهود الدهماء من أهل تاغوداست على إثر شقاق وقع بين وجهاء البلدة المذكورة. ولما كان الدهماء غير راغبين في الإنضام إلى أي من الحزبين ، فقد غادروا تاغوداست وبنو مدينة «الجمعة» تاركين تاغوداست للوجهاء. وهكذا نجد

__________________

(٢٨٨) وتقع قرب سوق الاثنين الحالي في بلاد عشيرة انتيفة.

(٢٨٩) أي ٨ كم.

(٢٩٠) وهو الحيوان المسمى اللّمت او وعل أوريكس.


اليوم أن إحدى المدينتين لا تحوي سوى الوجهاء بينما لا تضم الأخرى إلا أناسا ليسوا من ذوي النسب العريق.

بزو : مدينة في هسكورة

بزو مدينة قديمة قائمة فوق جبل شديد الارتفاع ، على مسافة عشرين ميلا إلى الغرب من المدينة السابقة الذكر (٢٩١) ويجري في أسفل هذه المدينة نهر العبيد الذي يبعد عنها بمسافة ثلاثة أميال (٢٩٢) ، وكل سكان بزو من التجار ، وهم شرفاء وحسنو الهندام. ويقومون بنقل الزيت والجلود والأقمشة الى بلاد السودان. وينتج جبلهم الكثير من الزيت والحبوب وكل نوع من أصناف الفاكهة الجيدة. ومن عادتهم تجفيف عنب له لون وطعم عجيبان. ويملكون أعدادا كبيرة من أشجار التين العالية والضخمة. وتصل أشجار الجوز الى ارتفاع كبير حتى إن الحدأة تعشش فيها آمنة ، إذ لا يوجد إنسان لديه من الشجاعة ما يسمح له بالتسلق إلى ارتفاع كهذا. وسفح الجبل المطل على النهر مزروع برمته ، فنجد فيه أشجارا تسر الناظرين تمتد حتى حافة النهر. ولقد ذهبت الى بزو في آخر شهر ايار (مايو) ، في الوقت الذي كان فيه المشمش والتين ناضجين (٢٩٣). وقد نزلت عند إمام المدينة ، الى جانب مسجد جميل يمر من جواره نهير يعبر سوق هذه البلدة.

جبل تينو أواز

تينو اواز جبل يقع بمواجهة منطقة هسكورة ، على سفح جبل الأطلس الذي يطل نحو الجنوب (٢٩٤). ويستوطن هذا الجبل سكان متكاثفون. وهم شجعان جدا عند ما يكونون مسلحين ، سواء كانوا فرسانا أم مشاة ولديهم الكثير من الخيول صغيرة الجئة. وينمو في جبلهم مقادير كبيرة من النيلة والشعير ، ولكن لا تنمو فيه ولا حبة واحدة من القمح بحيث لا يتغذى السكان بشيء غير الشعير. وتظهر الثلوج في هذا الجبل على مدار السنة. وبين هؤلاء السكان الكثير من النبلاء والفرسان ولهؤلاء الناس أمير يحكمهم

__________________

(٢٩١) والحقيقة ١٥ كم أو ١٠ أميال شمال سوق الاثنين في بلاد عشيرة انتيفة.

(٢٩٢) ٥ كم.

(٢٩٣) يسمى التين الكرموس في الشمال الافريقي والجماط في الحجاز (المترجم)

(٢٩٤) لا تعرف اية وثيقة تذكر هذا الاسم ، والمنطقة المقصودة هي بلا ريب بلاد أيت واوزاغيت. ويمكن الافتراض بأن هى ضمير الاشارة بالبربرية وان واواز تمثل واوازغيت.


بصفته ملكا ويستوفي ضريبة الجبل كي يستخدمها في الحروب التي تقع بين رعيته والرعية التي تسكن جبل تنزيته. ولديه قرابة عشرة آلاف فارس ، ولدى الوجهاء عدد مماثل تقريبا من المحاربين الفرسان ولديه ايضا مائة رجل من راشقي السهام أو من رماة البنادق.

وفي الزمن الذي ذهبت فيه الى هذه الانحاء كان اميرها على غاية في الكرم ، وكان اكثر شيء يحبه ان تقدم له الهدايا وأن يكال له المديح. ولم يكن له مثيل في البشاشة لأنه كان يعطي كل ما لديه وكان صدره ينشرح لسماع نطق اللغة العربية السليمة ، مع أنه لم يكن يفهمها ، وكان يغمره الفرح عند ما يأتي أحد ليسمعه بعض الثناء المنظوم في مدحه ، وحينما أوفد عمي من طرف ملك فاس سفيرا لدى ملك تومبوكتو (٢٩٥) اصطحبني معه. ووصلنا الى منطقة الدرعة ، التي تبعد بحوالي مائة ميل عن مقر هذا الامير (٢٩٦) الذي بلغت مسامعه شهرة عمي فجأة. وكان عمي خطيبا مصقعا وشاعرا ظريفا. وأرسل الأمير رسالة الى أمير الدرعة (٢٩٧) يرجوه بأن يرسل له عمي لأنه يرغب في رؤيته والتعرف عليه وقد اعتذر عمي وأجابه بأنه من المتعذر بالنسبة لرسول ملك ان يزور امراء موجودين في خارج طريقه ، وبذلك يؤخر خدمة الملك. وحتى لا يظن أنه متعاظم ، فإنه سيرسل ابن أخيه ليقبل يد الامير وهكذا أرسلني مزودا ببعض الهدايا الجميلة التي كانت تتألف من زوج من ركابات مزدانة بنقش على الطريقة المغربية تبلغ قيمتها خمسة وعشرين دينارا ، وزوجان من نطاقات من حرير مضفور بخيوط من الذهب ، الأول بلون بنفسجي والثاني بلون لازوردي ، ومن كتاب جميل جدا ذي جلد جديد عنوانه «حياة أولياء إفريقيا» واخيرا قصيدة مكتوبة في مدح الأمير وبدأت طريقي مع فارسين وقد استغرقت الرحلة اربعة ايام استخدمتها في نظم قصيدة هي أيضا على شرف هذه الشخصية التي نحن بصدد الكلام عنها.

وعند ما وصلت الى المدينة كان الامير يتهيأ لرحلة صيد مع تجهيزات كبيرة جدا وما ان علم بقدومي حتى استدعاني على الفور وبعد ان حييته وقبلت يده سألني عن خال عمي. فاجبته بأنه فيّ حال طيب وأنه في خدمة حضرته. وخصص لي مسكنا وطلب مني ان استريح ريثما يعود من الصيد. وعاد قبل الوقت المنتظر ليلا وطلبني للذهاب الى قصره.

__________________

(٢٩٥) هو آسكيا محمد توريه (حكم بين ١٤٩٨ ـ ١٥٢٨).

(٢٩٦) هي وار زازات بلا شك.

(٢٩٧) أي إلى مزوار الدرعة.


وهكذا دخلت عليه وقبلت يده من جديد ، وبعد ان أسمعته اكثر عبارات المجاملة قدمت له الهدايا وقد كان لها أكبر انشراح عارم على نفسه ، كما لاحظت ذلك. وأخيرا قدمت له قصيدة عمي التي طلب من احد كتابه قراءتها. وبينما كان هذا يشرح له ما كانت تتضمنه القصيدة نقطة نقطة لمحت على وجه الأمير علائم الفرح الشديد. وعند ما انتهت القراءة والترجمة ، جلس الامير لتناول طعامه وأجلسني على مقربة منه. وكانت الوجبة تتألف من لحم خروف مشوي ومسلوق مغلف برقائق عجينة غاية في الرقة (٢٩٨) ، تشبه نوعا من الفطائر الإيطالية المسماة لازانياLasagne ولكنها اكثر منها سماكة وتماسكا ثم جيء بالكسكسي والفتات وأنواع طعام أخرى لم أعد أتذكرها الآن مطلقا. وبعد أن فرغنا من تناول الطعام نهضت وقلت : «لقد أرسل عمي لسموكم هدية صغيرة ، كتلك التي يستطيع أن يقدمها عالم فقير ، كي يعبر لكم عن حسن نيته التي يحس بها ولكي تحتفظوا له بخير صغير في ذاكرتكم. أما بالنسبة لي ، أنا ابن أخيه وتلميذه ، لما كنت أفتقر لوسيلة أثني بها عليكم ، فليس لي ما أقدمه سوى الكلمات. ومهما كانت ضآلتي في الواقع ، فإني أتمنى أن أكون محسوبا بين خدام معاليكم». وبعد ان قلت كلمتي هذه ، أخذت بإلقاء قصيدتي ، وفي أثناء القراءة كان الأمير يطلب تارة شرح ما استعصى عليه فهمه ، وتارة اخرى كان ينظر الي ، انا الذي لم أكن أكثر من فتى له من العمر ستة عشر عاما. (٢٩٩) ولما فرغت من قراءتي ، ودعني ، لأنه كان متعبا من الصيد وكانت ساعة النوم قد أزفت. وفي صبيحة الغد دعاني في وقت مبكر لتناول الفطور معه. وبعد أن تناولنا طعامنا ، أعطاني مائة دينار لتسليمها الى عمي وعبدين ليخدماه في أثناء رحلته. وأعطاني شخصيا هدية مقدارها خمسون دينارا وحصانا ، وأعطى عشرة دنانير لكل من الشخصين اللذين كانا يرافقاني وكلفني ان انقل إلى عمي بأن هذه الهدايا البسيطة كانت بمثابة شكر على قصيدته وليست تعويضا عن الهدايا التي تلقاها من طرفه ، لأنه يحتفظ له بمظاهر عرفانه العميق عند ما يعود عمي من تومبوكتو. وأمر أحد كاتبيه بأن يرشدني الى الطريق ، وصافحني وأذن لي بالسفر في صبيحة ذلك اليوم ذاته اذ كان عليه ان يقوم بحملة ضد أحد خصومه. وحملت أطيب ذكرى عن مضيفي وعدت الى جوار عمي. وقد حرصت على

__________________

(٢٩٨) الفتات وجبة طعام مؤلفة من لحم ومن قطع خبز ، ولا تزال مرغوبة جدا.

(٢٩٩) وردت هذه العبارة في ترجمة تامبورال (أول من ترجم كتاب الحسن إلى الفرنسية) بهذا النص «الذي لم يكن سنه يتجاوز سبعة عشر عاما» (تامبورال ، ص ٩٩ طبعة ليون سنة ١٥٥٦).


سرد هذه الحكاية لأبرهن لكم أن في افريقيا ايضا يوجد وجهاء وأمراء كلهم أنس ودماثة من أشباه أمير ذلك الجبل.

جبل تنزيته

تنزيته جبل يشكل جزءا من سلسلة الأطلس. فيبدأ غربا من تخوم الجبل السابق ويمتد نحو الشرق حتى جبل دادس (٣٠٠). وهو جبل مأهول بالسكان بكثرة. ويضم خمسين قصرا (٣٠١). وكلها مسورة بجدران من الطين ومن الطوب النيىء ، ومطرها نادر نظرا لوقوعها في الجنوب. وكل هذه القصور قائمة على طول نهر الدرعة ، ولكن على مسافة متباينة عنه ، فبعضها يبعد مقدار أربعة أميال وبعضها الآخر ثلاثة أميال. وكل المنطقة تحت قيادة أمير كبير (٣٠٢) ، تحت تصرفه زهاء ألف وخمسمائة فارس ومثلهم من المشاة كالأمير الذي تكلمنا عنه قبل قليل (٣٠٣). وبين هذين الأميرين صلة قرابة ولكنهما عدوان لدودان كل منهما للآخر ويحتربان باستمرار. وينمو النخيل في أكبر قسم من هذا الجبل. وسكانه فلاحون أو تجار. وينبت الشعير بغزارة كبيرة في هذه المنطقة ، ولكن ندرة القمح واللحم فيه شديدة نظرا لقلة الماشية. ويجبي الأمير من جبله عشرين الفا من الدنانير الذهبية كل عام ، ولكن دنانير هذه المنطقة تزن ثلثي الدنانير الايطالية ، أو أثنى عشر قيراطا (٣٠٤). وهذا الأمير صديق حميم لملك فاس ، ويرسل له دوما هدايا هامة (٣٠٥) ، ويرد عليه ملك فاس تحياته بمثلها وأحسن منها فيرسل له خيولا حسنة التجهيز ، وأقمشة

__________________

(٣٠٠) تنزيته الحالية كورة صغيرة شمالي زاغوره ، ويقصد المؤلف بهذا الاسم كل الجزء المأهول من المجرى الأعلى لوادي الدرعة ، الذي ليس له أية علاقة بجبال دادس الواقعة الى الشمال من ذلك. وهذا الجبل هو المقسوم آنئذ بين قيادتين ، قيادة الشمال حتى زاوية تنزيته الحالية ، القريبة من مركز زاغوره الحديث ، والتي كانت مرتبطة حينذاك نظريا بمراكش ، وقيادة الجنوب أي الدرعة بكل ما في الكلمة من معنى.

(٣٠١) أي قرى صغيرة مخصنة ، عديدة الطوابق.

(٣٠٢) كان يحمل لقبا بربريا هو مزوار.

(٣٠٣) وهو أمير تينواواز.

(٣٠٤) لما كان القيراط عبارة عن واحد من مائة وأربعة وأربعين من الأونسة ، ولما كانت الأونسة المغربية هي نفس الأونسة الايطالية ، ولما كان القيراط يزن ١٩٦ ، من الجرام ، فمعنى ذلك أن الدينار أو مثقال تنزيته ، المؤلف من ١٢ قيراطا كان يزيد ٣٥ ، ٢ جرام ، ويعادل نصف الدينار أو المثقال الموحدي المؤلف من ٢٤ قيراطا ، والذي كان دارجا في دكالة وهسكورة وربما أيضا في مراكش.

(٣٠٥) كانت تقدم هذه الهدايا للملك بمناسبة العيدين تعبيرا عن التبعية وتحمل اسم «الهدية».


قرمزية ، وحريرية ، وخيمة جميلة. وأتذكر مرة أن هذا الأمير أرسل لملك فاس هدية قيمة مؤلفة من خمسين رقيقا أسود ، ومثل هذا العدد من الزنجيات ، وعشرة خصيان ، واثنى عشر من الهجن ، وزرافة وعشر نعامات ، وستة عشر سنورا من التي تنتج الزباد ، ورطلا من المسك الممتاز ، ورطلا من الزباد ، ورطلا من العنبر الرمادي ، وستمائة من جلود حيوان يدعى اللمت (٣٠٦) التي تصنع منها تروس خفيفة جدا. ويساوي ثمن كل جلد من هذه الجلود في فاس ثمانية دنانير (٣٠٧). ويقدر ثمن العبيد السود بحوالي عشرين درهما للرأس ، والإماء الزنجيات تساوي كل واحدة منهن خمسة عشر درهما (٣٠٨) ، وكان سعر كل خصي أربعين دينارا (٣٠٩) ، وثمن الجمال في بلاد هذا الأمير يعادل خمسين دينارا للواحد (٣١٠) وثمن قطط الزباد مائتا دينار (٣١١) ، ويساوي ثمن المسك والزباد والعنبر الرمادي في المتوسط ستين دينارا للرطل (٣١٢). وكان في عداد هذه الهدية أشياء أخرى لم أذكر عددها ، مثل التمور السكرية (٣١٣) ونوع من فلفل اثيوبيا (٣١٤).

وقد كنت حاضرا حينما قدمت للملك هذه الهدايا الرائعة. وكان الذي قدمها زنجي قصير وسمين ، وكان أعجميا حقيقا في لغته وتصرفاته. وكان يحمل خطابا من سيده

__________________

(٣٠٦) وعل الودان أو أوريكس ، أو المها.

(٣٠٧) إذا افترضنا أن مثقال فاس يساوي دينارا واحدا بابويا في روما ، فإن جلد الودان أو اللمت يساوي ٣٦ ، ٩٧ فرنكا ذهبيا وجميع الجلود ٥٨٠٠٠ فرنكا ذهبيا.

(٣٠٨) كان الدرهم البابوي يزنه ٣٦ ، ٤٤ جراما من الفضة عيار ٩١٧ ، ولكن من المحتم أن المؤلف استعمل هنا عباره درهم كمرادف لكلمة دينار كي يترجم كلمة مثقال العربية ، لأنه يقول في كتابه الثالث بمعرض كلامه عن الزواج في فاس أن الأمة الزنجية كانت قيمتها خمسة عشر دينارا او هذا يعني أن العبد الأسود يساوي ٢٤٣ فرنكا ذهبيا والزنجية ٥٥ ، ١٨٢ فرنكا ذهبيا ، ويمثل ثمن المائة عبد حوالي ١١٣٠٠ فرنك ذهب أو ١١٣ جنيه ذهبي.

(٣٠٩) أو ٨ ، ٤٩٦ فرنك ذهب أو ١١٣ جنيها ذهبيا.

(٣١٠) بما أن مثقال تنزيته وثمنه ١١ ، ٨ فرنك ذهب ، فإن الجمل الواحد يساوي ٤٠٥ فرنكات ذهب للرأس والمجموع ٤٨٦٦ فرنك ذهب.

(٣١١) أي ١٦٢٢ فرنك ذهب والمجموع ٢٥٩٦٢ فرنك ذهب.

(٣١٢) أي ٤٨٦ فرنك ذهب واجمالا ١٤٦٠ فرنك ذهب ، ولكن بقي علينا تحديد وزن رطل العطارين ، طالما أن وزن هذا الرطل يختلف باختلاف المادة والمكان والزمان.

(٣١٣) أو تمر دقلة النور كما يقال في أيامنا.

(٣١٤) ربما كان فلفل ملاغت Amemum Meleguetta وهو نوع من توابل تزرع بشكل خاص على ساحل بلاد البذور ، وهي ليبريا الحالية ، وربما كان أيضا بهار الآشانتى Piper guineese الذي كان يجني في بلاد بنين (الداهومي سابقا) والذي كان معروفا حتى قبل وصول البرتغاليين في القرن الخامس عشر.


خاطه في ثنية من ردائه. وللبرهنة على الاحترام الذي يكنه لسيده طلب من الملك شخصيا أن يقوم بفتق الخياطة ، لأنه لم يكن يود أن يلمس يده هذا الكتاب الذي أقسم بالأيمسه. وقد ضحك الملك كثيرا من سلوك هذا الرجل وقام أحد كتابه بفتق خياطة الثنية التي تضم الرسالة.

وقد كانت هذه الرسالة مدبّجة بصورة مشوشة وغامضة ، حسب أسلوب قدامى الخطباء. وزاد الطين بلة الكلمة التي القاها السفير الزنجي بصوت جهوري. ولم يتمالك الملك وجلساؤه أنفسهم من الضحك ولكنهم أخفوا وجوههم بأيديهم أو بجانب من أطراف ثيابهم. ومع ذلك عامل الملك هذا الرسول بأكبر رعاية في أثناء بضعة الأيام التي قضاها في ضيافته. وأنزله عند إمام الجامع الكبير ، وأنفق عليه وعلى الأربعة والعشرين الذين كان عليه إطعامهم ما بين مرافقين وخدم ، إلى أن أعاده إلى بلده.

جبل غجدامه

غجدامه (٣١٥) هو اسم لجبل يتاخم السابق (٣١٦) ولكن هذا الجبل لا يكون مأهولا إلا على سفحه الشمالي. ويكون سفحه المطل على الجنوب غامرا تماما. وسبب ذلك هو أن إبراهيم ، ملك مراكش ، تعرض ، في أيامه ، لهزيمة على يد تلميذه المهدي ، والتجأ إلى هذا الجبل ورغب سكانه الذين اشفقوا عليه أن يمدوا له يد العون. ولكن الحظ خانهم ، وصب تلميذ المهدي جام غضبه عليهم. فحرق المنازل والقرى ، وقتل شطرا من الناس وطرد الباقين من الجبل (٣١٧). ويسكن القسم المأهول أناس يعيشون أسوأ معيشة ويرتدي جميعهم الاسمال. ويمارسون تجارة الزيت ويعتاشون من هذه التجارة. ولا ينبت هنا شيء باستثناء الزيتون والشعير. ولدى هؤلاء الكثير من الماعز والبغال الصغيرة جدا ، لأن الخيول ذات قوام صغير. وتحمي طبيعة الجبل حرية هؤلاء السكان.

__________________

(٣١٥) وبالبربرية ايخجدامن.

(٣١٦) يتاخم جبل تينواط من الجنوب وليس جبل تنزيته.

(٣١٧) لا تنسب هذه الحملة ضد غجدامة الى عبد المؤمن بل إلى المهدي محمد بن تومرت ذاته ، الذي استطاع في عام ١١٢٨ م ، في زمن الخليفة المرابطي أبو الحسن علي بن يوسف ، أن يخضع قبيلة غجدامة وولى عليهم حاكما من الموحدين ، ولكن غجدامه ثارت وقتلت هذا الحاكم ، فعاد ابن تومرت وصب عليهم جام غضبه.


تاساوين

يتألف إقليم تاساوين من جبلين ، الواحد بجانب الآخر. وبدايتهما من تخوم الجبل السابق في الغرب ، ونهايتهما في جبل تاغوداست. ويسكنها أناس في فقر مدقع إذ لا ينبت هنا سوى الشعير والدخن. وينبع من هذين الجبلين نهر يجري في سهل بديع جدا ، ولكن الناس لا يستطيعون أن يصنعوا شيئا ما في السهل لأن العرب يتصرفون به (٣١٨). وقد آن الأوان الآن للكلام عن تادله.

منطقة تادله

تادلة منطقة غير واسعة جدا ، تبدأ من نهر العبيد وتنتهي عند نهر أم الربيع ، عند منبع هذا النهر. وتنتهي جنوبا بين جبال الأطلس وتنتهي شمالا عند مقرن نهر العبيد مع نهر ام الربيع. ولهذه المنطقة تقريبا شكل مثلث لأن هذين النهرين ، اللذين يستمدان منبعهما من جبال الأطلس ، يجريان تجاه الشمال ويقترب أحدهما من الآخر إلى أن يتحدا (٣١٩).

تفزه : مدينة من تادله

تفزه مدينة إقليم تادله الرئيسية. فقد شيدها الأفارقة فوق سفوح الأطلس على مسافة خمسة أميال (٣٢٠) تقريبا من السهل. ولها جدار سور مشيد بنوع من صخر كلسي يحمل اسم تفزه في لغة أهل البلاد. ومن هذا جاء اسم المدينة هذه (٣٢١). وهذه الكورة

__________________

(٣١٨) لا تحمل الكتلة الجبلية ، التي يتولد منها النهران اللذان يسميهما المؤلف في كتابه التاسع تيسوين ، أقول لا تحمل هذا الاسم مطلقا. وهذان النهران ، أي الوادي الأخضر ، وواد تساءوت جنوبا ، إنما ينبعان من كتلة جبلية واقعة في بلاد قبيلة فتواكه ، وهي كتلة تبلغ أعلى ذراها ٣٨٠٠ م. والسهل المقصود هو على الأرجح سهل دمنات الذي يخترقه الوادي الأخضر ، وهو أحد نهري تيسوين ، والنهر الشمالي هو واد تسّاءوت.

(٣١٩) في الصحيح ان نهر أم الربيع يجري من الشمال نحو الجنوب الغربي في حين يجري وادي العبيد من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي. والوصف الذي سيأتي يبين أن المؤلف كان يدمج في تادله الكتلة الجبلية في غرب وادي دادس الأعلى بالإضافة إلى كتلة المغون التي يتجاوز ارتفاعها ٤٠٠٠ م ، والتي تحتل قبيلة ايميغران سفوحها الجنوبية.

(٣٢٠) ٨ كلم.

(٣٢١) هذه الإشارة صحيحة ولكن كلمة تفزه لا تعنى نفس النوع من الصخر الكلسي في كل المناطق. وهذه التسمية معروفة أيضا في القطر التونسي ، ويقصد بها القسرة الصخرية الصلبة وCroute أوCrust بالإنجليزية أوhard pan في أميركا أو حجر الحرش كما يسمى في القلمون شمالي دمشق» (المترجم).


مأهولة بسكان كثر أغنياء. وفيها قرابة مائتي بيت من اليهود ، وكلهم باعة وصناع. ويقصدها عدد كبير من الباعة الغرباء ليشتروا منها نوعا من عباءات سوداء تنسج قطعة واحدة مع قبعتها ، ويدعى هذا الكساء البرنس. ويباع بعض هذه العباءات في ايطاليا وفي أسبانيا حيث نرى الكثير منها. ويباع في تفزه أشياء مصنوعة في فاس على الخصوص كالأقمشة الكتانية ، والسكاكين ، والسيوف ، والسروج ، واللجامات ، والقلانس ، والإبر وأدوات الخياطة. وإذا رغب التجار في بيعها بالمبادلة ، فإنهم سيجدون تصريفا ميسورا أمامها ، لأن لدى أهل المنطقة بضائع مختلفة كالدقيق ، والخيول ، والبرانس ، والنيلة ، والجلد ، والجلود المصنوعة ، أي القرطبية. الخ. وإذا أرادوا بيعها نقدا فيجب عليهم أن يقبلوا تخفيضا كبيرا في الأسعار. ويجري الدفع بالذهب ، وذلك على شكل قطع على صورة الدنانير ولكن غير مسكوكة. أما العملة الفضية فليست دارجة في هذه البقاع.

ويلبس سكان تفزه لباسا جيدا ، وكذلك نساؤهم. وكل هذه النسوة لطيفات. ويوجد فى المدينة عدة جوامع وفقهاء وقضاة.

وكانت تفزه تحكم في الماضي على شكل جمهورية. ولكن نظرا لنزاعاتهم وانقساماتهم فقد راح الناس يقتتلون فيما بينهم ، وذهب زعماء أحد الأحزاب (الذين (أخرجوا من ديارهم) في ايامي ، قاصدين فاس ، وطلبوا إلى الملك أن يتفضل بمساعدتهم للعودة إلى مدينتهم ، وتكفلوا له بالعمل على توطيد سيادته عليها. فاهتبل الملك هذه الفرصة السانحة وأعطاهم ألفين من الخيالة الخفيفة ، وخمسمائة من رماة السهام ومائتين من رماة البنادق ، وكلهم فرسان. وكتب إلى أتباعه من العرب ، واسمهم عشيرة «زهير» التي تستطيع أن تعد أربعة آلاف فارس (٣٢٢) بأن يأتوا لمساندة زعماء هذا الحزب إذا احتاجوا لمساعدتهم. وعين الملك قائدا لهذه الحملة ، وهو الزرناقي ، وكان فارسا باسلا جدا. وما إن جمع القائد قواته ، حتى ابتدأ الهجوم على تفزه ، لأنه وجد الحزب المعادي متحصنا في المدينة ووجد أنه قد استدعى جيرانه العرب الذين يدعون بني جابر (٣٢٣) والذين يبلغ عدد عم حوالي خمسة آلاف فارس. فما أن رأى القائد هذا الوضع حتى رفع الحصار حالا عن المدينة ودخل في عراك مع العرب. وفي نهاية اليوم الثالث ألحق الهزيمة بهم جميعا

__________________

(٣٢٢) كانت قبيلة زهير تحتل حينذا منطقة تيغريغره.

(٣٢٣) بنو جابر قبيلة عربية لا زال باقيا فخذ واحد منها وهم الأوريجي (ماسينيون ، ١٩٠٦ م ، ص ٢٠٩).


وأصبح سيد البلد. ولما أن رأى أهل تفزه أن لا أمل لهم من أي عون خارجى ، أرسلوا مفاوضين يقترحون السلم. وعرضوا تسديد نفقات الحملة للملك ، وهذا فضلا عن دفع مبلغ عشرة آلاف دينار سنويا ، وأن يعود اليها أهل الحزب الذي غادر المدينة ، ولكن على الأ يتدخلوا في أي نشاط إداري أو في الحكم.

وأخبر القائد الذين كانوا موجودين معه في الخارج بفحوى المفاوضات فأجاب هؤلاء : «مولانا ، نحن نعرف قيمة الفرصة المتاحة لنا. أدخلنا الى المدينة ، ونحن نتعهد لك بدفع مائة ألف دينار على الفور وحتى اكثر من ذلك. ولن نجترح أي ظلم ولن نهدم بيتا ، بل كل ما سنقوم به هو قسر خصومنا على تسديد عائدات أملاكنا التي استغلوها خلال ثلاثة أعوام. ونود أن نعطيك إياها كتعويض عن كل النفقات التي تكلفتموها من أجل خيرنا. وتبلغ هذه العائدات ثلاثين ألف دينار على الاقل ، وسنعطيك كذلك العوائد السنوية للمدينة التي تبلغ حوالي عشرين ألف دينار. وبعدئذ سنستخلص من اليهود جزية عام أو عامين ، حتى يصل ما نستخلصه إلى عشرة آلاف دينار». ولما سمع القائد هذه العروض نقلها الى أهل المدينة قائلا : «لقد أعطى الملك عهدا للوجهاء المنفيين بمساعدتهم قدر الاستطاعة. ولهذا يرجح أن يكون حكم المدينة بأيديهم عوضا عن أيديكم على كل حال. ومع هذا أعلمكم انكم اذا سلمتم مدينتكم للملك فلن تتعرضوا لأي أذى. ولكن إذا تشبثتم بعنادكم فلدي الوسائل لتغريمكم كل المبالغ بعون الله وبفضل الملك» ولدى سماعهم ذلك حدث شقاق بين السكان. وكان البعض يريد الخضوع للملك ، في حين كان الآخرون يرغبون في الحرب ، إلى أن امتشق البعض السلاح ضد الآخرين. وجاء الجواسيس ليخبروا القائد بما حدث فعبأ فورا نصف قواته وهاجم المدينة بواسطة الرماة من حملة الأقواس والبنادق. وبعد ثلاث ساعات دخل المدينة دون ان يخسر رجاله قطرة دم واحدة. وكان الحزب الذي رغب في الخضوع للملك قد تجمهر ، واندفعوا نحو أحد أبواب المدينة الذي كان مسدودا بالبناء وأخذوا في تقويض الجدار من الداخل ، بينما كان القائد يعمل نفس الشيء من الخارج ، إذ لم يكن هناك أي إنسان في أعلى السور ليمنعه ، ونظرا لأن أهالي الداخل كانوا منهمكين في المعركة ، إلى أن تم نقض جدار الباب ، وما إن دخل القائد حتى رفع راية الملك على السور وفي وسط الساحة العامة للميدان ، وأرسل فرسانه للقيام بدورية حول المدينة ليحولوا دون هرب الذين يحاولون الفرار منها. ونشر على الفور ظهيرا بإسم ملك فاس يمنع أيا كان مدنيا كان


أو عسكريا ، من ارتكاب أي عملية نهب او قتل وبعد قليل سادت السكينة في المدينة ، وسقط كل زعماء الحزب المعادي في الأسر.

وقد أبلغهم القائد بأنهم سيظلون في الأسر إلى أن يستوفي الملك تمام النفقات التي تكلفها خلال شهر من أجل هذه الحملة ، وهي نفقات بلغت اثني عشر ألف دينار. وقد دفعت نساء السجناء وأهلهم هذا المبلغ لكي يتم الإفراج عن هؤلاء. وحينئذ ظهر حزب الملك الذين اعلنوا انهم يريدون تعويضا عن عائدات أملاكهم خلال ثلاثة أعوام فأجابهم القائد بأن هذه القضية لا تعنيه ، وعليهم ان يعرضوا دعواهم لحكم الخبراء الذين سيبتون فيها ، ولكن يمكن الاحتفاظ بخصومهم في السجن هذه الليلة. ولكن السجناء قالوا للقائد :

ـ مولانا هل ستنكث بعهدك؟ فقد وعدتنا بالحرية بعد ان نكون قد أرضينا الملك.

فأجابهم القائد :

ـ أنا لا أخلفكم عهدي ، وأنا لا أحتفظ بكم كسجناء لحساب الملك ، ولكن لحساب الذين يطالبونكم بأموالهم. ونحن نعمل بناء على حكم القضاة والعلماء وربما يكون هذا في صالحكم».

وفي صبيحة اليوم التالي تم عقد اجتماع العلماء والقضاة امام القائد ، وتناول المدافعون عن السجناء الكلام بهذه العبارات :

ـ أيها السادة ، حقا إن جماعتنا استولوا على أملاك خصومهم ، ولكن هذا كان معاملة بالمثل ، لأن اجداد هؤلاء كانوا قد استولوا على أملاك اجدادنا. فأجاب ممثل الحزب الخصم :

ـ سادتي لقد مضى الآن اكثر من مائة وخمسين عاما على الامور التي هي مدار الحديث ، ولا يوجد في موضوعها اية شهادة ولا أية بينة يستدل بها.

فأجاب ممثل السجناء حالا :

ـ سادتي الأمر ممكن لأن الأمر معروف جهارا لدى العموم.

فأجاب الآخر :

ـ لا يمكن اعتبار الشهرة العامة برهانا ، إذ من يعرف كم من الوقت ظل أجداد


أولئك الذين أمثلهم يتصرفون في هذه الممتلكات؟ وربما كان لهذا التصرف ما يبرره لأنه من المعلوم عن طريق الشهرة العامة كذلك أن أجداد السجناء كانوا قد تمردوا على تاج فاس وأن هذه الاملاك كانت تخص الخزينة الملكية. وحينئذ تظاهر القائد ـ وكان ذلك مكيدة منه ـ بأنه مشفق على السجناء وتوجه لمندوب خصومهم قائلا :

ـ لا ترهق إذن هؤلاء المساجين المساكين.

ولكن هذا رد عليه قائلا :

قد يظهر لك انهم مساكين ، سيدي القائد ، ولكن لن تجد من بين هؤلاء الذين تظنهم مساكين من يعجز عن تدبير خمسين الف دينار. وعندما يتخلصون من أغلالهم ، سترى جيدا انهم سيحاولون طردك. وقد أخذتهم على حين غرة ولهذا ظهروا لك في صورة المساكين.

وعندما سمع القائد هذا الكلام تملكه الخوف فجأة ، وصرف المجلس ، وتظاهر بأنه يريد الذهاب لتناول وجبة غدائه وأحضر أمامه المساجين وقال :

ـ أود أن ترضوا خصومكم ، وإلا سأقتادكم إلى فاس حيث ستقسرون على دفع ضعف هذا المبلغ. وعندئذ أرسل السجناء طالبين نساءهم وأمهاتهم وتوجهوا إليهن قائلين :

ـ حاولن حل المشكلة ، إذ يدعي خصومنا أننا أغنياء جدا ونحن لا نملك المبلغ الذي قيل للقائد. وهكذا ، وفي خلال ثمانية أيام ، تم تقديم أموال الخصوم السجناء بحضور القائد. وكانت هذه الاموال تتمثل في خواتم وعقود وحلى نسائية اخرى. وتبلغ قيمتها ثمانية وعشرين الفا من الدنانير. وذلك أن النساء أردن ، وهذه حيلة منهن ، أن يظهرن وكأنهن لا يملكن أية ثروة سوى الحلي العينية ، وعندما تم التسديد قال القائد للمساجين :

سادتي الوجهاء : لقد كتبت للملك بخصوص هذه القضية ، وآسف لأني كتبت ، ولن أستطيع ان أطلق سراحكم قبل ان يرد الي جوابه ، ولكن على كل حال ستكونون احرارا لأنكم ارضيتم كل الناس ، اذن تحملوا محنتكم بصبر.

وفي تلك الليلة استدعى القائد مستشاريه وسألهم :


ـ كيف نستطيع سحب مبلغ آخر من المال من هؤلاء الخونة دون ان نتهم بالخطأ وبفضيحة النكوص بوعدنا؟ وحينئذ تصور كاتب هذه السطور (٣٢٤) خدعة فاقترح قائلا :

ـ سيدي القائد ، تظاهر غدا صباحا بأنك استلمت خطابا من الملك يأمر فيها بقطع رؤوس هؤلاء الناس ، ولكن تظاهر حينئذ بأنك مشفق عليهم وبأنك لا تود ارتكاب خطأ إعدامهم وقل لهم بأنك ترجح ، في مثل هذه الظروف ، إرسالهم إلى فاس.

وفي الصباح كتبنا رسالة مزعومة بأنها من يد الملك ، ثم استدعى القائد جميع السجناء ، وكان عددهم اثنين وأربعين وقال لهم ، وكانت ملامح الحنان المفرط بادية عليه :

سادتي الوجهاء ، وصلني كتاب من الملك يحمل لي خبرا سيئا وظهر لي أنه قد أسيء نقل الخبر لجنابه ، بشأن ما ارتكبتموه وأنه يعتبركم عصاة لتاجه ، ولهذا السبب امرني بقطع رؤوسكم. وإني على هذا الأمر لحزين لأن كل الناس سيظنون أني حنثت بوعدي ، ولكني لست أكثر من خادم ولا أستطيع إلا طاعة ما أؤمر به.

وحينئذ أخذ هؤلاء يجهشون بالبكاء طالبين عفو القائد الذي افتعل بدوره البكاء وقال لهم :

ـ لا أرى شيئا أفضل لكم ولي كي أتخلص من كل المسئوليات ، تجاه أعمالكم ، سوى سوقكم الى فاس ، وربما صفح الملك عنكم وسيعمل ما يراه مناسبا ، وسأعمل على تسفيركم بعد قليل مع مائة فارس.

وهنا راح المساجين ينتحبون واستغاثوا بالله وبالقائد. وهنا ظهر شخص ثالث وقال للقائد :

ـ مولاي ، لقد أرسلك الملك الى هنا نيابة عنه ، إذ يمكنك عمل ما تراه هو الأنسب ، تريث قليلا لترى ما هي إمكانيات هؤلاء الوجهاء فيما إذا كانوا يستطيعون دفع شيء من المال لإنقاذ حياتهم. واخبر الملك بأنك أعطيتهم عهدا بأنك لن تعاقبهم ، وتقدم بالرجاء لجلالته ، كرامة لمكانتك عنده كي يتكرم بالصفح عنهم. وربما يميل الملك لجانب الحل المالي.

__________________

(٣٢٤) لا تنسب ترجمة تامبورال (ليون) ١٥٥٦ م ص ١٠٥) هذه الخديعة الى الحسن الوزان ، ولكن الى ... «أحد مستشاريه».


وأخذ السجناء يتوسلون للقائد بأن يقبل هذه النصيحة قائلين بأنهم سيكونون سعداء بأن يدفعوا للملك ما يشاء وأنهم سيقدمون من جهة اخرى ، هدايا كبيرة للقائد. وتظاهر هذا بأنه سيقبل ذلك على مضض وطلب فجأة :

ـ ماذا تستطيعون أن تدفعوا للملك؟

وهنا عرض أحدهم دفع ألف دينار ، والآخر خمسمائة ، وآخر ثمانمائة. وأجاب القائد انه لا يريد أن يكتب للملك بشأن مبالغ زهيدة كهذه وأنه يفضل أن يرسلهم الى فاس ، فربما يقبل الملك ما يعرضونه عليه فأخذوا يتوسلون للقائد ويستصرخون كرمه كثيرا الى ان قال لهم:

ـ أنتم اثنان وأربعون وجيها وأنتم أغنياء كثيرا. وإذا وعدتموني بدفع ألفي دينار عن كل فرد فسأكتب للملك ولي أمل في إنقاذكم وإلا فإني سأرسلكم الى فاس.

وهنا قبل المساجين عن طيب خاطر جمع المبلغ الكلي ، على شرط ان يساهم كل واحد منهم قدر طاقته فأجابهم القائد :

ـ اصنعوا ما يروق لكم.

فطلبوا مهلة مدتها خمسة عشر يوما وتظاهر القائد بأنه سيكتب للملك من جديد. وبعد خمسة عشر يوما اعلن القائد ان الملك ، وذلك تلطفا منه ، كان سعيدا بالصفح عنهم وكشف لهم عن رسالة كاذبة. وفي خلال ثلاثة أيام قدم أهل المساجين المبلغ ، ذهبا ، وكان أربعة وثمانين ألف دينار. وقام القائد بوزن الذهب المذكور ودهش كثيرا من إمكانية تواجد هذه الكمية من الذهب في بلدة بمثل هذا الصغر ، لدى اثنين وأربعين شخصا ، وأطلق سراح المساجين حالا ، وكتب الى الملك بالتفصيل الحقيقي بكل ما حدث طالبا ما يجب عمله. فأرسل الملك بعد قليل اثنين من أمنائه مع مائة فارس لاستلام المبلغ. وعاد الاثنان إلى فاس بمجرد استلام هذا المبلغ ، وقدم الوجهاء المذكورون حالا هدية تساوي ألفي دينار من الخيول والعبيد والمسك ، معتذرين بأنهم لم يعد لديهم شيء من النقد السائل وشاكرين له كثيرا أن أنقذ حياتهم. وهكذا سلمت المنطقة لملك فاس تحت حكم القائد الزرناقي ، الذي اغتيل غدرا بعد فترة على أيدي العرب.

ـ ويجبي ملك فاس عوائد من هذه المنطقة تبلغ عشرين الف دينار في العام.


وقد أسهبت نوعا ما في هذه القصة الطويلة لانها حدثت امام عيني. ولاني اشتركت فيها ، ولانني ايضا ربحت بعض الدنانير لقاء ابتكاري الحيلة السابق ذكرها واخيرا لانني رأيت لاول مرة مبلغا بمثل هذا القدر من الذهب ، ومما هو جدير بالذكر ان ملك فاس لم يسبق له ان رأى ابدا مثل هذا المبلغ ، لأن هذا الملك المسكين ، الذي يجبي اليه كل عام زهاء ثلاثمائة الف دينار ، لم يكن لديه تحت يده مائة الف ، كما لم يكن لدى والده مثلها قط. وترون من خلال هذه الحكاية كيف يمكن التوصل لابتزاز المال بهذه الوسائل عن طرائق الغدر والمناورات. وقد وقع هذا الحادث في عام ٩١٥ ه‍ (٣٢٥) ولكن الامر المدهش اكثر من ذلك ان يهوديا واحدا دفع اكثر مما دفعه هؤلاء الوجهاء مجتمعين لانه وشى بثروته. ولهذا السبب حكم على اليهود عن طريق القضاء بغرامة بلغت خمسين الف دينار لأنهم حابوا الحزب المعادي للملك. وقد كنت بصحبة المندوب الذي حصل هذه الغرامة.

أفزة : مدينة من تادله

أفزة (٣٢٦) مدينة صغيرة على مسافة ميلين تقريبا من تفزه. وفيها حوالي خمسمائة أسرة. وقد قامت فوق تل عند حضيض جبال الاطلس. وهي مأهولة بالمغاربة (٣٢٧) وباليهود. وتصنع فيها كمية من البرانس. وجل سكانها من التجار أو من الفلاحين. ويحكمها أناس من تفزه. ونساء هذه البلدة ماهرات جدا في شغل الصوف فيصنعن برانس وخمارات (٣٢٨) جميلة جدا ، وبذلك يربحن من المال أكثر من رجالهن الى حد ما. ويمر من بين أفزه وتفزه نهر يدعى نهر درنه. وهذا يتولد في الاطلس ، ويمر من بين التلال ويجري في السهل إلى أن يصب في نهر أم الربيع. ويوجد بين هذه التلال ، عند حافة النهر ، مزارع أشجار مثمرة مليئة بكل أنواع الفاكهة المشتهاة. وملاكو هذه البساتين دمثو الأخلاق على غاية من الكرم فكل تاجر غريب يمكنه أن يدخل إلى بساتينهم ويأكل قدر ما يستطيع.

__________________

(٣٢٥) ١٥٠٩ م.

(٣٢٦) يسمى مارمول هذه المدينة تبزه ويقول إنها عانت في زمانه ، حوالي سنة ١٥٤٢ م ، الكثير من الحروب ويفترض أن موقعها هو عند تغزيت ، عند مدخل نهر درنه إلى السهل ، وهو رافد أم الربيع.

(٣٢٧) مغاربة ، أومور ، مورو ، تعني مسلمين وربما كان يقصد بها مسلمو الأندلس.

(٣٢٨) الكيسه ، أو الكسا ، وهو حجاب المرأة المسلمة.


وأهل أفزة بطيئون جدا في إنجاز ما يعدون تقديمه من بضاعة. فقد اعتاد التجار ان يدفعوا اليهم مسبقا ثمن البرانس التي يوصون عليها على ان تسلم خلال ثلاثة شهور ، ولكنهم لا يتوقعون ان تسلم لهم في العادة الا بعد عام كامل ، وقد قصدت هذه المدينة في الزمن الذي وصل فيه جيش ملكنا إلى تادلة فخضعت حالا. وفي المرة الثانية التي جاء إليها القائد ، تقدمت إليه بهدية مؤلفة من خيول وخمسة عشر عبدا ، وكان كل عبد يمسك بزمام حصان ، كما قدم له أهل تفزة مائتي خروف وخمس عشرة بقرة. فاعتبرهم القائد مخلصين للملك (٣٢٩).

آيت عتّاب : مدينة من تادله

آيت عتّاب ، مدينة بناها الآفارقة فوق سفح جبل عال جدا على مسافة أربعين ميلا جنوب غربي المدينة السابقة (٣٣٠) ، وهي مأهولة كثيرا ، ومليئة بالنبلاء والفرسان. ونظرا لصناعة كمية كبيرة من البرانس في هذه المدينة يوجد فيها دوما العديد من التجار الأغراب. ويظهر الثلج باستمرار فوق قمة الجبل المطل على المدينة. وجميع الأودية المجاورة مليئة بالكروم وبمزارع أشجار بهيجة. ولا تباع فيها أية فاكهة بسبب هذه الوفرة. ونساؤها شديدات البياض ، سمينات ولطيفات. ويتحلين بقدر كبير من حلى الفضة وعيونهن سوداوات كشعرهن. والسكان ذو أنفة. ففي الوقت الذي احتل فيه ملك فاس تادله ، لم تقبل هذه المدينة أن تخضع له ولا أن تعده بالطاعة ، ولكنها انتخبت وجيها قائدا لجيشها. وبعد أن عبأ الفا من الخيالة الخفيفة تجرأ ووقف في وجه قائد الملك ، أي الزرناقي ، وشن عليه حربا كادت ، عدة مرات ، أن تؤدي إلى فقدان كل ما فتحه. فأرسل الملك أخاه على رأس جيش لنجدة قائده ، ولكن هذا لم يأت بشيء ذي بال. واستمرت الحرب ثلاثة أعوام إلى أن مات زعيم العصابة مسموما على يد يهودي وكان ذلك بإيعاز من الملك. وعندئذ عادت المدينة للدخول في الطاعة في عام ٩٢١ ه‍ (٣٣١).

__________________

(٣٢٩) وبسميها مارمول الذي كان في هذه البلدة تفزه أو فيكستلا ، ويكمل هذا الوصف. وهي اليوم زاوية فشتاله على مسافة ٦ كلم جنوبي درنة.

(٣٣٠) أي ٦٤ كلم في الجنوب الغربي ، ويحتمل أن هذه المدينة كانت تشغل ضواحي قصبة قائد آيت عتاب ، التي تطل من ارتفاع ٨٨٩ م على الضفة اليمنى لنهر واد العبيد.

(٣٣١) بين منتصف شباط (فبراير) وأواخر تموز (يوليه) ١٥١٥ م.


آيت اياد : مدينة في نفس الإقليم

آيت أياد ، بلدة واقعة فوق جبل صغير من الأطلس وقد تأسست على يد الأفارقة. وفيها ثلاثمائة أسرة. وهي مسورة من ناحية واحدة وهي الناحية التي تتجه إلى الجبل. وليس لها سور من الناحية التي تشرف على السهل ، لأن جلاميد الصخور الموجودة هناك تكفي لحمايتها. وتقع على مسافة اثني عشر ميلا من المدينة السابقة (٣٣٢). وفي المدينة جامع صغير ولكنه جميل جدا ، حفرت حوله قناة تشبه جدولا جاريا ، ويقطن هذه المدينة نبلاء وفرسان. ويشاهد فيها أيضا عدد كبير من التجار الغرباء والمواطنين ، ومن اليهود كذلك ، وبعض هؤلاء تجار وبعضهم الآخر صناع. وتنبع من هذه المدينة عدة عيون وتتجمع مياهها لتؤلف نهيرا يمر تحت هذه المدينة. وتقع عدة بساتين للخضر وللثمار على ضفاف هذا النهر وتنتج عنبا ممتازا وتينا. وتوجد فيها كذلك أشجار جوز باسقة. وتحوي سفوح الجبل أراض مزروعة بأشجار زيتون بديعة جدا. ونساء هذه المدينة لطيفات أكثر منهن جميلات. ويكتسين بإتقان ، وهن مزدانات بأناقة بالحلى الفضية ، وبالخواتم والأطواق وأنواع الزينة الأخرى. وأرض السهل خصبة هي كذلك وتنتج كل أنواع الحبوب. أما أرض الجبل فطيبة لإنتاج الشعير ولرعي الماعز. وكانت هذه المدينة في زمننا معقل الثائر رحمن بن ويعزان (٣٣٣) وظل فيها حتى موته. وقد ذهبت إليها في سنة ٩٢١ ه‍ (٣٣٤) ونزلت في منزل إمام البلدة.

سغمه : جبل في نفس الإقليم

مع أن جبل سغمة يطل على الجنوب فإنه يعتبر من جبال تادلة. ويبدأ من الغرب عند تخوم جبل تازاوين ويمتد نحو الشرق حتى جبل ايمغران الذي ينبع منه نهر أم الربيع. ويتاخم من الجنوب جبال دادس (٣٣٥). ويعتبر سكان هذا الجبل فرعا من قبيلة زناقة ،

__________________

(٣٣٢) يجب أن تكفي هذه التوضيحات لتحديد مكان هذه البليدة بدقة. فسوق الخميس الحالي لعشيرة آيت اياد (ولداياد) هو على مسافة عشرين كيلومتر إلى الشرق من المنطقة التي يجنازها وادي العبيد من مراكش إلى مكناس ، وعلى مسافة كيلومترين جنوبي هذا الطريق وعلى مسافة عشرين كيلومترا شمال غرب آيت عتاب.

(٣٣٣) شخصية مجهولة.

(٣٣٤) وربما كان ذلك في شهر آب (أغسطس) ١٥١٥ في عودته من مراكش إلى فاس مارا بأنيماي ودمنات وجمعة أنتيفه وتادله.

(٣٣٥) إن اسم سغمه مجهول لدينا وربما وجب جعله سغمت ، وهو اسم نهر في المنطقة. والواقع كانت التضاريس الجبلية ـ


وهم رجال رشيقون ، أشداء ، شجعان في اللقاء. وسلاحهم يتمثل في رماح صغيرة وسيوف محنية وخناجر. ويستخدمون أيضا الحجارة التي يقذفونها بحذق شديد وبقوة كبيرة. وهم في حالة حرب مستمرة مع سكان تادلة ، حتى إن تجار المنطقة لا يستطيعون المرور بالجبل بدون إذن مرور وبدون دفع رسوم باهظة. والأماكن المسكونة بائسة ومتباعدة بعضها عن بعض حتى إن من النادر أن نجد ثلاثة أو أربعة بيوت مجتمعة. ويملك الأهالي العديد من الماعز والكثير من البغال الصغيرة التي هي في حجم الحمير. وترعى هذه الحيوانات في غابات الجبل ، ولكن الأسود تفترس بعضها وتقطع أعضاء بعضها. ولا يخضع أهل المنطقة لأي أمير ، لأن جبلهم عسير جدا ووعر للغاية فأصبح بذلك حصنا لا يرام. وقد أراد القائد الذي فتح تادلة في أيامنا أن يقوم بغارة في هذه المنطقة. وما إن تناهى الخبر لأسماع السكان حتى شكلوا فصيلة قوية من رجال شجعان كمنت دون أن تحدث ضجة قرب صخرة تحاذي دربا صغيرا يضطر العدو أن يمر منه. وما رأى ان الخيالة قد توغلت على سفح الجبل ، حتى خرج عليهم هؤلاء من كمينهم من كل جهة ، وقذفوهم بالحراب وبالحجارة الكبيرة. وكانت المعركة قصيرة لأن القائد لم يتمكن من التصدي للهجوم ، ولا أن ينجو لأن الكثير منهم. تساقطوا مع خيولهم من فوق الجسر ودقت اعناقهم ، وقتل بعضهم الآخر ، حتى إنه لم ينج منهم إلا من وقع في الاسر. وهؤلاء كان لهم أسوأ مصير ، لأن المنتصرين اقتادوهم مكبلين حتى بيوتهم حيث قامت نساؤهم بالتمثيل بهم تعبيرا عن احتقارهم الأقصى ، وذلك لأن الرجال يأنفون من قتل الأسرى فيسلمونهم لأيدي النسوة.

ولم يتجرأ أهل هذه المنطقة ، منذ ذلك الحادث ، على التردد على تادلة ، ولم يكن لهم كبير حاجة إلى ذلك إذ تنمو في جبلهم مقادير كبيرة من الشعير ، ويملكون قطعانا كبيرة العدد من الأنعام ، ولديهم من الينابيع أكثر من البيوت. ولا يفتقرون إلا الى الأشياء المألوفة في التجارة.

جبل إيمغران

إيمغران جبل يقع خلف الجبل السابق قليلا ويشرف من الجنوب على بلاد فيركلة ، على تخوم الصحراء. ويبدأ تقريبا عند هذا الجبل غربا وينتهي شرقا عند السفوح الدنيا

__________________

ـ مجهولة تقريبا بالنسبة للمؤلف. ولكنه ارتكب خطا فريدا بوضع نبع أم الربيع في منطقة إيمغران ، ذلك النهر الذي يقع على مسافة ٢٥٠ كلم شمال أراضيهم ، ويقصد بسغمة الكتلة الجبلية في جنوب شرق أم الربيع.


لجبال دادس (٣٣٦) ويتساقط البرد (بفتح الباء والراء) دوما فوق قمته. ولدى سكانه كمية كبيرة من الماشية ، بحيث لا يستطيعون الاستقرار في أي مكان (بل ينتقلون طلبا للكلإ والمرعى). ولهذا يسكنون أكواخا من لحاء الشجر مثبتة فوق دعائم دقيقة. ويتألف سقف هذه الأكواخ من عصيات محنية على شكل نصف دائرة ، كمقابض السلال التي اعتادت النساء في ايطاليا حملها فوق ظهور البغال عندما يسافرن. ويحمل هؤلاء الجبليون أكواخهم فوق البغال (٣٣٧) وينتقلون مع حيواناتهم وعائلاتهم إلى هذا الموقع أو ذاك. وحيثما وجدوا العشب في مكان أقاموا فيه إلى أن تأتي الأنعام على عشبه. ولكنهم مع ذلك يعملون على الاستقرار في مكان ما في أثناء فصل الشتاء ويبنون أنواعا من زرائب واطئة مغطاة بأغصان يؤوون إليها حيواناتهم في أثناء الليل. ومن عادتهم إيقاد نار شديدة ، ولا سيما قرب الزرائب لتدفئة الحيوانات. ويحدث أن يثور الريح ويدفع بالنار إلى الزرائب التي تحترق ، ولكن الحيوانات تنجو بسرعة لأنه لا يشيد أي جدار لهذه الزرائب احتياطا لمثل هذا الحادث. وهي ليست أفضل بناء من الأكواخ التي تكلمنا عنها قبل قليل. وتحدث الأسود وأبناء آوى أضرارا كبيرة. وعادات هؤلاء الجبليين وكساؤهم مماثلة لما عليه الجبليون السابق ذكرهم. والاختلاف الوحيد هو ان هؤلاء الناس يسكنون اخصاصا في حين أن الآخرين يسكنون بيوتا ذات جدران وقد مررت بهذه المنطقة في عام ٩١٧ ه‍ (٣٣٨) عائدا من الدرعة الى فاس (٣٣٨).

جبل دادس

جبل دادس هو كذلك جبل عال وبارد وينتشر في أرجائه كثير من الغابات. ويبدأ من جبل إيمغران في الغرب وينتهي عند تخوم جبل آدخسن (٣٣٩) وفي الجنوب يتاخم سهل تودغه ، ويقارب طوله ثمانين ميلا (٣٤٠). وفي قمة هذا الجبل توجد أطلال مدينة قديمة : وتظهر حتى الآن منها بقايا على شكل جدران سميكة مبنية بالحجارة وتحمل بعض هذه

__________________

(٣٣٦) تنتجع قبيلة إيمغران ، التي استقرت على السفوح الجنوبية للأطلس شمالى وارزازات حتى جبل ساغرو. وقد احتفظوا باسمهم البربري الذي يعني «الرؤساء» وهو الذي كتبه هيرودوت «ماشلويس» وبطليموس «ماشرويس» ويسميهم العرب مقراوة ، وربما كانت هذه التسمية الأخرى مستمدة من اسم لاتيني لم يصل الينا ، ويخلط المؤلف هنا فيركله مع تودغه ، وارتكب نفس الإبهام في كتابه الثاني والسادس.

(٣٣٧) فهل هؤلاء الرعاة من زناته كانوا لا يزالون يستعملون أكواخ الماباليا المعروفة في العصور القديمة؟

(٣٣٨) أي بين ٣١ آذار (مارس) عام ١٥١١ و ١٨ آذار (مارس) سنة ١٥١٢ م.

(٣٣٩) أو آدكسان ، قرب خنيفره.

(٣٤٠) ١٢٠ كلم.


الحجارة كتابات لا يفهمها إنسان. ويعتقد الناس أن هذه المدينة من بناء الرومان ، ولكن لم أعثر في التواريخ الإفريقية على مؤلف يقول ذلك ولم أعثر حتى على مصدر يشير إلى ذلك مجرد إشارة. غير ان الشريف الصقلي تكلم في كتابه عن مدينة تسمى تدسي ، تقع عند التقاء تخوم سجلماسة مع وادي الدرعة ، ولكنه لم يقل إنها مبنية في جبل دادس ، غير أننا نعتقد بأنه يقصد هذه المدينة بالذات إذ ليس هناك من مدينة أخرى في هذه المنطقة (٣٤١). وسكان هذا الجبل أناس لا قيمة لهم. فمعظمهم يسكن كهوفا رطبة ويتغذون بالشعير والعصيد الذي يتألف من دقيق شعير ، ولكنه مغلى بالماء المالح ، كما تكلمنا عنه في حديثنا عن حاحه. ولديهم عدد كبير من الماعز ومن الحمير. ويوجد في الكهوف التي تؤوي هذه الحيوانات الكثير من ملح البارود ، وأعتقد أنه لو كان هذا الجبل مجاورا لإيطاليا لاستغل ولبلغ إيراده سنويا مقدار خمسة وعشرين ألف دينار بل أكثر من ذلك. ولكن هؤلاء الدهماء لا يعرفون ما هو ملح البارود.

والناس هنا يكتسون بشكل رديء حتى إن قسما كبيرا من جسمهم يظل عاريا. ومساكنهم شنيعة ونتنة بسبب رائحة الماعز القبيحة التي تحشر فيها. وليس في هذا الجبل أي قصر ، ولا مدينة تكون محاطة بجدار. ويتجمع السكان في قرى ذات بيوت مبنية بحجر صلد مغطى بصفائح رقيقة سوداء اللون ، كتلك التي تستعمل في بعض كور إيطاليا ، في إمارة آسيّز وفابريانو (٣٤٢) ، وتسكن بقية السكان كهوفا ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وبراغيث هذا الجبل لم أر نظيرا لها في كثرتها.

والرجال هنا غدارون ولصوص وقتلة. ولا يترددون في قتل شخص ما من أجل بصلة. وهكذا تنشب شجارات عنيفة فيما بينهم لأتفه الأسباب. وليس لهم حكام ولا أئمة ولا أي شخص ذو كفاءة ما في أي اختصاص. ولا يقصد أحد من التجار هذه

__________________

(٣٤١) الشريف الصقلي هو الشريف الإدريسي أبو عبد الله محمد ، الجغرافي الشهير لدى الملك النور ماندي النصراني روجر الصقلي ، ومن هذا جاءت شهرته الصقلي. ونسميه اليوم بالإدريسي. وما وصلنا من كتابه الذي أنجزه سنة ١١٥٤ م لا يرد فيه شيء عن مدينة تدسي. ولكن في أواخر القرن السادس عشر أشار برتغالي مجهول إلى هذه المدينة عند وصفه لجبال الأطلس في منطقة مراكش ، وذلك إذ يقول : «في أعلى أحد هذه الجبال ، وفي وسط السلسلة ، وفي ارض مكشوفة تقوم أبنية كبيرة متسعة قديمة جدا ومتهدمة ، ولا يبدو أن هناك شخصا يحدد العصر الذي كانت قائمة فيه ، وهذه المدينة هي التي تدعى قنسطنطين Constantine

(٣٤٢) «ويقصد به صفائح حجر الاردواز الأسود التي تصنع منه الألواح الحجرية التي يكتب عليها صغار التلامذة» (المترجم).


المنطقة ، حيث يسلب المسافرون ، ويعيش الناس في بطالة ، ولا تمارس أية صناعة واما التجار الذين يحملون جواز مرور من بعض الزعماء المحليين ، وينقلون بضائع لا تهم هؤلاء الجبليين ، فإنهم يتقاضون منهم ربع قيمة البضائع في مقابل مرورهم في منطقتهم.

والنساء قبيحات كالغيلان ، ولباسهن أقبح من لباس الرجال ، وأوضاعهن أسوأ من أوضاع الحمير ، لأنهن يحملن على ظهورهن الماء الذي يجلبنه من العيون ، والحطب الذي يلتقطنه من الغابات ، ويظللن كذلك في عناء دائم لا راحة فيه. والخلاصة ، لا آسف لذهابي لأية منطقة في إفريقيا ، باستثناء هذه المنطقة ، فقد اضطررت للمرور بهذا الجبل للذهاب من مراكش إلى سجلماسة امتثالا لما أمرت به. وقد كان هذا في عام ٩١٨ ه‍(٣٤٣).

__________________

(٣٤٣) ١٩ / ٣ / ١٥١٢ إلى ٨ / ٣ / ١٥١٣ ولا يذكر تامبورال هذا التاريخ في كتابه (طبعة ليون ١٥٥٦ م. ص ١٠٩).


القسم الثالث



مملكة فاس

تبدأ مملكة فاس من نهر أم الربيع غربا وتنتهي شرقا على نهر الملوية. وتنتهي جزئيا في الشمال على المحيط ، وعلى البحر المتوسط بالنسبة للأجزاء الأخرى.

وتنقسم هذه المملكة إلى سبعة أقاليم هي : تامسنه ، منطقة فاس ، أزغار ، الهبط ، الريف ، غارت ، والحوز. وفي العصور القديمة كان لكل إقليم إمارته الخاصة ، حتى إن إقليم فاس نفسه لم يكن بالبداية مقر حكومة ملكية. وقد أسس فاس ثائر شيعي (١). وظلت السلطة في أيدي أسرته خلال مائة وخمسين سنة تقريبا (٢). ولم تظهر تسمية مملكة فاس إلا بعد أن حكمت أسرة بني مرين ، وهي التي جعلت من هذه المدينة (٣) مقرها وحصنها الدفاعي ، وذلك لأسباب يوردها مؤلفو التاريخ الإسلامي.

وسأصف لكم الآن إقليما إثر إقليم ومدينة بعد مدينة كما عملته بصورة أقرب للكمال حتى الآن.

تامسنه

تامسنه اقليم يؤلف جزءا من مملكة فاس. وهو يبدأ في الغرب عند ام الربيع وينتهي شرقا عند نهر ابي الرقراق. وينتهي في الجنوب عند جبال الاطلس ويحاذي المحيط من الشمال. وله طول يبلغ ثمانين ميلا (٤) من الغرب للشرق وستين ميلا (٥) بين جبال الاطلس والمحيط.

__________________

(١) أي إدريس ، المنحدر من ابن عم وصهر الرسول صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب ، وكان الأمراء العلويون معتبرين رافضة ومتمردين في نظر خلفاء بغداد العباسيين.

(٢) في الحقيقة ١٩٤ سنة هجرية ، أو من ٦ شباط (فبراير) ٧٨٩ م إلى أيلول (سبتمبر) ٩٨٥ م.

(٣) في عام ١٢٧٦ م.

(٤) ١٢٦ كم.

(٥) ٩٦ كم.


وهذه الولاية ، في الحقيقة ، زهرة كل هذه المنطقة. فهي تضم قرابة اربعين مدينة وحوالي ثلاثمائة قصر يسكنها عدد من العشائر البربرية. وقد ثارت في عام ٣٢٣ ه‍ (٦) بتحريض من داعية شيعي يدعى حاميم بن منّ الله. وقد اقنع هذا الرجل الشعب بألايدين بالطاعة ولا يدفع ضرائب لملوك فاس باعتبار ان هؤلاء كانوا ظالمين ، ولأنه هو نفسه نبي ، حتى لقد استحوذ ، خلال قليل من الوقت ، على السلطتين الزمنية والروحية في هذا الاقليم. وحينئذ شن حربا ضد هؤلاء الملوك الذين كانوا منهمكين في نفس الوقت ، في حرب مع قبيلة زناتة. فأضطروا للتفاوض مع هذا الرجل تاركين له حق التمتع بالحكم في إقليم تامسنه في حين يحتفظون هم بالسيادة على فاس ، وتعهد كل فريق بألا يزعج الآخر. وظل حاميم يحكم مدة خمس وثلاثين سنة. وظل خلفاؤه محتفظين بالإقليم قرابة مائة عام (٧). ولكن بعد أن أسس الملك يوسف ، مع قبيلته لمتونة ، مدينة مراكش (٨) حاول فورا أن يكون سيد هذا الإقليم ، أي تامسنه ، فأرسل إليه بضعة علماء مبشرين من أهل السنة في محاولة منه لانتزاع أهله من مروقهم ولاجتذابهم إليه دون أن يشهر عليهم حربا.

فاجتمع هؤلاء في مدينة أنفا (٩) مع أميرهم ، وهو حفيد الداعية المذكور ، وقرروا إعدام السفراء ونفذوا قرارهم. وعبأوا بعدئذ جيشا قوامه خمسون ألف محارب قاصدين طرد قبيلة لمتونة من مراكش ومن المنطقة كلها. وعندما علم يوسف بذلك انتابه أشد غضب انتابه في حياته. فجمع جيشا عظيما ولم ينتظر قدوم العدو إلى مراكش ، ووصل في خلال ثلاثة أيام إلى الإقليم بعد أن عبر نهر أم الربيع. وعندما رأى أهل تامسنه هذا الجيش الزاحف لمواجهتهم بحمية شديدة ، انتابهم الخوف ، وتحاشوا المعركة وعبروا نهر أبي الرقراق في اتجاه فاس ، تاركين إقليمهم. وحينئذ أباح الملك يوسف هذا الإقليم وسكانه لجيشه فأصبح طعمة للنار والدم والنهب والتقتيل للكبار والصغار حتى الأطفال الرضع.

__________________

(٦) ٩٣٥ م.

(٧) والحقيقة هي أن النبي الكاذب أبو محمد حاميم بز منّ الله ثار في منطقة طنجة بين عامي ٣١٣ و ٣١٥ ه‍ / أي من ٩٢٥ إلى ٩٢٧ م. وابتداء من عام ٧٤٠ م ، أي بعد ثلاثين عاما من بداية الفتح الإسلامي ، حدثت بين بربر المغرب فتنة عامة كان فمعها عسيرا ، كما أن قبيلة بغوارته ، التي كانت تحتل آنئذ إقليم تامسنة ، لم تخضع مطلقا. وفي حوالي العام ٧٤٥ م تمكن زعيمهم صالح بن طريف أن يؤسس مذهبا إسلاميا بربريا منشقا انضمت إليه عشائر بربرية عديدة ودام هذا المذهب مدة تزيد على ثلاثة قرون.

(٨) يوسف بن تاشفين.

(٩) في موقع الدار البيضاء الحالية.


وفي خلال الأشهر الثمانية التي جاس فيها خلال البلاد عمل على تخريبها حتى لم يبق فيها سوى بعض أطلال من المدن التي كانت قائمة فيها. أضف إلى ذلك أن ملك فاس ، الذي بلغه نبأ قصد أهل تامسنه عبور أبي الرقراق زاحفين باتجاه فاس ، عقد هدنة مع قبائل زناتة واتجه نحو النهر المذكور على رأس جيش لجب. وهناك واجه ملك تامسنه البائس الذي كانت قواته منهوكة القوى تماما بسبب الجوع والبؤس. ولما حاول ملك تامسنة عبور النهر وجد الممر مسدودا في وجهه بتأثير قوات ملك فاس. وهكذا اضطر هؤلاء البؤساء بعد أن أصبحوا مطاردين ويئسوا من قضيتهم إلى التشتت في الغابات وبين الصخور التي يعسر اجتيازها. وبعد أن طوقوا وحوصروا من قبل الجيوش الملكية ، أبيدوا بثلاث طرائق : فبعضهم غرقوا فعلا في مياه النهر ، وبعضهم الآخر طوردوا في مناطق الجروف الصخرية فدقت أعناقهم بعد سقوطهم في القراغ ، وحتى الذين استطاعوا أن يخرجوا من الماء سقطوا في أيدي رجال الملك حيث قطعت رءوسهم بالسيف. وهكذا راح سكان تامسنه يتناقصون ثم أبيدوا قاطبة في مدة عشرة أشهر. ويقدر أن عدد الضحايا بلغ المليون بين رجال ونساء وأطفال. وعاد يوسف ملك لمتونة إلى مراكش كي يعيد تنظيم جيشه ضد ملك فاس وترك تامسنه مأوى للأسود والذئاب والبوم (١٠).

وظل إقليم تامسنه مهجورا مدة مائة وثمانين عاما حتى الزمن الذي عاد فيه المنصور من مملكة تونس (١١) وكان متبوعا ببعض أفخاذ قبائل عربية مع شيوخهم ومنحهم تامسنة مقرا

__________________

(١٠) يبدو هنا العرض ، الذي لا نجد أية وثيقة تاريخية تؤيده ، يبدو كأنه عبارة عن سرد مسجل نقلا عن وثيقة ما مجهولة أو ربما كان استنادا إلى حديث شفوي يعطينا عنه الكاتب البرتغالي المجهول الاسم ، في آخر القرن السادس عشر ، رواية مماثلة تقريبا. ومن المقبول أن نفترض بأن هذا النص يتعلق بالحملة التي تابعها أمير لمتونة أبو بكر بن عمر قائدها العسكري ضد قبيلة برغواطة المارقة عن الإسلام ، وذلك بتحريض الزعيم الديني للمرابطين عبد الله بن ياسين. وقد كان المرابطون سادة أغمات منذ عام ١٠٥٧ م وجعلوا من هذه البلدة قاعدة لعملياتهم. وبعد غارة على تادلة هاجموا تامسنة. وقد قتل في هذه المعركة عبد الله ياسين في ١٩ تموز ١٠٥٨ م على ضفاف وادي كريفله. وبعد عام تقريبا تعرض خلفه لنفس المصير. وبعد أن قام أبو بكر بتخريب أقليم تامسنة كليا عاد إلى أغمات التي غادرها في آذار (مارس) ١٠٦٠ م ليقوم بغارة بلغت ضواحي فاس. ومهما كانت صحة هذه القصة فليس من المحتمل إطلاقا أن يكون الأمير حاكم فاس قد تدخل في هذه المعركة ضد برغواطة. وفي عام ١٠٥٨ م كان أميرها يدعى دوناس ، من عشيرة بني خازر ، من فرع مغوارة ، وهي فخذ من زناتة ، وكانت فترة حكمه فترة ازدهار. وعلى أثر وفاته عام ١٠٥٩ م حل مكانه ابنه الفتوح الذي كانت له منازعات خطيرة مع أخيه أجيزا. ولم تكن إمارة فارس مهددة. وعلى خلاف ذلك فإن من الممكن أن يكون المرابطون قد تلقوا دعما ضد برغواطة المارقين عن الإسلام من أمير شلة (سلا الحالية) ، يوسف بن حماد ، وهو أيضا من زنانة ولكن من عشيرة بني إيفران. وهذا يفسر معركة أبو الرقراق بشكل أفضل.

(١١) في عام ١١٨٨ م أو ٥٨٠ ه‍ أي بعد مائة وثلاثين عاما بعد الحملة المرابطية على قبيلة برغواطة.


لهم. فظلوا فيها مدة خمسين سنة إلى أن فقدت عائلة المنصور مملكتها. وقد كان سقوط هذه الأسرة مصيبة كبرى بالنسبة لهؤلاء العرب ، فوقعوا في بؤس شديد إلى أن تم طردهم على يد اللوك المرينيين (١٢).

وقد أقطع المرينيون هذا الإقليم إلى قبائل من زنانة وهوارة مكافأة لهم على الدعم الذي تلقوه منهم ، لأن هؤلاء وأولئك كانوا دوما يؤيدونهم ضد الملوك الخلفء في مراكش (١٣). وهكذا حصلت قبائل الزناتة وهوارة على حق التمتع بهذا الإقليم. وقد تكاثروا فيه وأصبحوا منذ مائة عام تقريبا ، عامل حال خوف لملوك فاس. ويقدر بعضهم أنهم يعدون ستين ألف فارس ومائتي ألف من المشاة.

لقد ترددت كثيرا على هذا الإقليم وسأتكلم لكم عنه بتفصيل.

أنفة : مدينة في تامسنه

أنفة مدينة كبيرة أسسها الرومان (١٤) على ساحل المحيط على مسافة ٦٠ ستين ميلا (١٥) شمال الأطلس وعلى مسافة ستين ميلا تقريبا شرقي آزمور (١٦). وكانت مدينة آمنة جدا ومزدهرة كثيرا لأن الأراضي المجاورة كانت خصبة صالحة لكل أنواع الحبوب. وتتمتع بأجمل موقع في إفريقيا ، فهي محاطة من كل الاتجاهات ، ما عدا الطرف الشمالي وساحل البحر ، بسهل يمتد على مسافة ثمانين ميلا (١٧). وفي داخل أنفة العديد من المساجد ، والدكاكين البديعة جدا ، والقصور العالية وما إلى ذلك من العمائر التي يقدر مبلغ عظمتها مما تخلف عنها من أطلال مهدمة. وكان منها أيضا الكثير من البساتين وكروم العنب.

__________________

(١٢) لقد تم نفي العرب من إفريقية (شمال تونس ومنطقة قسنطينة تقريبا) على يد الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن المنصور. ووصلوا حوالي شهر رجب ٥٨٤ ه‍ / ايلول (سبتمبر) ١١٨ م. وقد كان للخليفة الموحدي أبو حفص عمر المرتضي ، الذي حكم بين ٢٤ / ٦ / ١٢٤٨ و ٢٢ / ١٠ / ١٢٦٦ م خصومات شديدة مع عرب تلمسان ابتداء من سنة ٦٥١ ه‍ / ١٢٥٣ ـ ١٢٥٤ م. وقد عمد السلطان المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق ، الملقب هو أيضا بالمنصور ، إلى احتلال تامسنه بعد شوال ٦٥٨ ه‍ / حوالي تشرين الأول وتشرين الثاني ١٢٦٠ م ، بعد أن طرد النصارى من سلا ، الذين احتلوها. أما آخر خليفة موحدي ، وهو أبو العلا إدريس ، الملقب أبو دبوس ، والذي نودي به في ٢٣ / ١٠ / ١٢٦٦ م فقد قتل بتاريخ. ٢٩ آب (أغسطس) ١٢٦٩ م.

(١٣) أي الموحدين.

(١٤) أنفة. موقع الدار البيضاء الحالية ، وليست من تأسيس الرومان.

(١٥) ١٠٠ كم.

(١٦) في الحقيقة على مسافة ٩٠ كم شمال شرقي آزمور.

(١٧) ١٣٠ كم.


وحتى أيامنا ، لا تزال تجنى منها كمية كبيرة من الثمار ، لا سيما ثمار «الشمام» والخيار التي يبدأ نضجها في أواسط نيسان (ابريل). ومن عادة الناس نقل هذه الثمار إلى فاس لأن خضر فاس تتأخر عنها زمنيا.

وكان سكان أنفة غاية في حسن الهندام بسبب علاقاتهم الوثيقة مع التجار البرتغاليين والإنجليز. وكان بين ظهرانيهم رجال مثقفون جدا. ولكن كان هناك سببان أديا إلى تعاسة سكانها وخرابهم : الأول هو أنهم أرادوا أن يعيشوا بحرية دون أن تكون لديهم الوسائل ، والثاني أنهم جهزوا في مرساهم الصغير سفنا صغيرة قامت بإحداث تخريبات شديدة في شبه جزيرة قادس وعلى كل ساحل البرتغال. وكان من جراء ذلك أن أمر ملك البرتغال بتخريب أنفة. ولهذا الغرض أرسل أسطولا مؤلفا من خمسين سفينة مع قوات محاربة ومدفعية هامة. وعندما رأى السكان وصول الأسطول ، جمعوا أغلى ما يملكونه ، وهربوا إلى الرباط وإلى سلا تاركين مدينتهم. ولما كان قائد الأسطول لا يعرف شيئا عن الوضع في المدينة ، فقد خطط للمعركة وأخذ يطبق تخطيطه. ولكن لما لم يظهر أمامه أحد ، أدرك ما حدث وأنزل قواته إلى البر. ودخل هؤلاء إلى أنفة بعنفوان شديد أدى إلى نهب المدينة وتخريبها تماما في خلال نهار واحد ، فأحرقوا البيوت وقوضوا الأسوار في عدة نقاط (١٨). وظلت أنفة حتى الآن مهجورة. وعندما ذهبت إليها لم أستطع أن أتمالك دموعي لأن معظم البيوت والدكاكين والجوامع لا زالت قائمة وتقدم خرائبها للعين منظرا جديرا حقا بالرثاء. ولا تزال ترى مزارع أشجار عامرة لا تزال تنتج بعض الثمار. وهكذا أدى عجز ملوك فاس وعيوبهم إلى وصول أنفة لمثل هذه الحالة حتى أنه لا أمل في أن تعود مأهولة (١٩).

مدينة المنصورة

المنصورة بلدة صغيرة بناها المنصور ملك مراكش في سهل جميل جدا ، وتقع على مسافة ميلين من المحيط ، أو على مسافة خمسة وعشرين ميلا من الرباط ونفس المسافة تقريبا عن أنفة. وكان فيها حوالي أربعمائة أسرة. ويمر من قرب المدينة نهر صغير يدعى

__________________

(١٨) حدث ذلك سنة ١٤٦٨ م. وبعد ذلك غادر البرتغاليون أنفة.

(١٩) لقد خاب تنبؤ الحسن الوزان امام هذا الثراء الهائل الذي احرزته الدار البيضاء في القرن العشرين.


غير (٢٠). وتقوم على هذا النهر عدة بساتين والكثير من الكروم ، ولكنها اليوم خاوية مهجورة. وذلك أنه عندما تخربت أنفة غادر أهل المنصورة فورا مدينتهم أيضا ، وهربوا إلى الرباط خشية البرتغاليين وتركوا مدينتهم فارغة. ولا تزال الجدران فيها سليمة ، ما عدا بعض النقاط التي خربها عرب تامسنه. وقد مررت بهذه المدينة وانتابني الحزن عليها. ويمكن إعادة اعمارها بسهولة ، فليس هناك سوى تشييد البيوت. ولكن تلك الحيوانات الرديئة ، وهم عرب تامسنه ، لا يريدون أن تعود المنصورة مأهولة ما داموا أشرارا وطغاة (٢١).

مدينة نخيلة

نخيلة (٢٢) بلدة صغيرة مبنية وسط تامسنة. وقد كانت في الماضي آهلة جدا بالسكان في أيام المارقين (٢٣) ، ويقوم فيها سوق مرة في كل عام يسعى إليه كل سكان تامسنة. وكان السكان أغنياء لأن أراضي منطقتهم كانت واسعة جدا : فكانت تضم خمسين ميلا (٢٤) من كل جانب في السهل. وتذكر كتب التاريخ أنه في عهد المارقين بلغت وفرة القمح درجة جعلت الناس يقايضون حمل بعير منه مقابل زوج من الأحذية. وقد تخربت هذه المدينة

__________________

(٢٠) لا يمكن أن يكون موقع المنصورة مطابقا لموقع قصبة منصورية الحالية القريب من البحر ، عند مصب واد تامده. أي هذه البلدة يجب أن تكون أبعد من ذلك في داخل الأرض قرب واد نفيفيخ الذي لا زال يحمل حتى اليوم في مجراه الأعلى اسم دير ، وربما كان ذلك تحريفا محتملا لكلمة غير.

(٢١) المقصود بالعرب هنا الأعراب كما هو الحال في سائر نصوص هذا الكتاب وفي مقدمة ابن خلدون. والواقع لا تزال الزراعة في العالم العربي تعاني الكثير من جور البدو وأنصاف البدو من أهل الشاة حتى عهد قريب جدا ، وحتى الآن ، في كثير من الأماكن المتطرفة ، وهم المسئولون إلى حد كبير عن المنظر الكالح الذي يسود معظم أريافنا وندرة الشجر فيها ، فقد كانوا يشتركون مع الجراد والماعز في القضاء على الأشجار المثمرة ولا سيما الغراس الصغيرة منها ، وهذا ما حدا ببعض أعداء الأمة العربية إلى التشهير بالعرب في عشرات المؤلفات والمجلات كقول أول مندوب سام على فلسطين ، وهو يهودي بريطاني اسمه هربرت صموئيل : أخطأ من قال إن العرب أبناء الصحراء بل هم آباؤها ، وتستغل الدعاية الصهيونية إلى أقصى حد منظر البوار الذي كان سائدا في فلسطين إلى حد ما عند بدء هجرتهم والمناظر الخضراء التي تظهر على أيديهم بعد اقامة المستعمرات الزراعية وبذلك استدزوا عطف شطر كبير من دول العالم. وقد صرح في أوائل الخمسينات أول وزير خارجية الإسرائيل وهو : موشى شرتوك ، أو شاريت قائلا : لدى العرب ثلاثة ارباع صحاري العالم فلا هم يستفيدون منها ولا يسمحون لأحد بأن يستفيد منها ، وقال رئيس وزرائهم بن جوريون عن فلسطين : أرض بلا شعب لشعب بلا أرض (المترجم).

(٢٢) لا تزال مدينة نخيلة معروفة على مسافة ١٨ كم جنوب فضالة.

(٢٣) أي أهل برغواطة السابق ذكرها.

(٢٤) ٨٠ كم.


شأن المدن الأخرى عند قدوم يوسف إلى تامسنة. ومع هذا لا نزال نشاهد بعض الآثار ، كبعض شقق الأسوار ، ومنارة كانت في وسط الجامع. ولا نزال نرى فيها أيضا بساتين وأماكن الكروم ، وقد بلغت الأشجار درجة من الهرم لا تسمح لها بإعطاء ثمار. ويترك عرب تامسنة أدواتهم الفلاحية قرب هذه المنارة عند ما يفرغون من عمليات الحراثة : ويقولون إن وليا مدفونا هنا ، ولهذا السبب ، لا يجرؤ أحد على أن يأخذ أدوات الآخر ، خوفا من غضب هذا الولي.

وقد مررت من نخيلة مرات لا تحصى لأنها واقعة على الطريق من رباط إلى مراكش.

آدندون

آدندون (٢٥) بليدة مبنية فوق تلال على مسافة خمسة عشر ميلا فوق جبال الأطلس (٢٦) وخمسة وعشرين ميلا عن المدينة السابقة (٢٧). وجميع تلالها صالحة لزراعة الحنطة. وتنبع عين ذات مياه لذيذة قرب سورها. ويوجد حولها الكثير من أشجار النخل الصغيرة التي لا تعطي ثمرا. ويمر ماء العين بين الصخور ويجري في واد يقال بأن فيه مناجم كانت تستغل لاستخراج الحديد ، ويظهر هذا من طعم الماء. ولم يبق من هذه المدينة سوى بعض الآثار الضئيلة كأركان الجدران وبعض الأعمدة المتمددة على الأرض ، وقد تخربت بالفعل أثناء حروب المارقين عن الإسلام كسائر المدن الأخرى.

تغّت

تغت بليدة بناها الأفارقة على ضفة نهر أم الربيع (٢٨) عند ممر طريق تادلة إلى فاس. وكانت هذه البلدة كثيرة السكان. منظمة ، وغنية جدا. إذ كان يوجد بالقرب منها طريق

__________________

(٢٥) آدندون ومعناها أرض صالحة للزراعة ، ولكن هذا الاسم غير مستعمل. والمستعمل كثيرا هو آدندن. وكانت هناك بلدة تدعى دندون في جنوب بلاد زعير. ولم يمكن تشخيص هذا المكان.

(٢٦) ٢٤ كم.

(٢٧) ٤٠ كم.

(٢٨) يصب وادي تغّت في نهر أم الربيع عند بلدة البرج. ومن الممكن أن تكون تغّت قد احتلت موقع البرج ، على مسافة ١٢ كم شمالي خنيفرة.


كان يجتاز جبل الأطلس كي يؤدي إلى الصحراء.

وكان كل أهالي تخوم هذا القسم من الصحراء يأتون إلى تغّت لشراء حنطتهم. وقد تهدمت هذه المدينة أيضا أثناء حرب المارقين عن الإسلام. وبعد ذلك بفترة قصييرة عمرت من جديد. ولكنها لم تعد أكثر من قرية يخزن فيها بعض العرب حبوبهم ، وسكانها هم حراس على هذه الحبوب. فلا نجد فيها دكاكين ، ولا صناع ، ما عدا الحدادين الذين يصلحون الأدوات الزراعية ويحذون الخيل.

وقد تلقى هؤلاء الناس من سادتهم العرب أمرا بحسن استقبال كل الغرباء الذين يمرون بهذا المكان. ويدفع التجار رسم مرور ، قيمته غيوليو (٢٩) مقابل كل حمل من الجوخ أو من القماش الكتاني الذي ينقلونه ، ولكن لا يدفعون شيئا عن المواشي ولا عن الخيل.

وقد مررت عدة مرات بهذه البلدة ولم ترق لي ، ولكن أرضها ممتازة فعلا وتزخر بالحبوب والمواشي.

عين حلوف (٣٠)

وهي مدينة صغيرة لا تبعد كثيرا عن المنصورة ، مبنية في سهل تظهر فيه بعض أحراش الزعرور وبعض الأشجار الشوكية الأخرى التي تنتج ثمارا مستديرة تماثل العنّاب ، ولكنها صفراء اللون ، مع نواة أكبر حجما من نواة الزيتون ، وطعم شحم هذه الثمرة غير جيد (٣١) ، وتوجد حول هذه المدينة مستنقعات تعيش فيها أعداد كبيرة من سلاحف الأرض وسلاحف الماء ، وكذلك ضفادع كبيرة جدا ، وهي غير سامة كما سمعت من بعضهم. ولم يشر أي مؤلف إفريقي إلى هذه المدينة ، وهذا بلا ريب بسبب قلة أهميتها ، وربما لأنها هدمت منذ زمن قديم جدا. ولا يبدو أنها قد أنشئت على أيدي الأفارقة ، ويظهر أنها بنيت في عهد الرومان ، أو من قبل قوم ينتسبون لأمة غريبة عن إفريقيا (٣٢).

__________________

(٢٩) عملة إيطالية كانت تعادل ٧٥ فرنك ذهبي.

(٣٠) الحلوف هو الخنزير البري في لغة أهل المغرب ، أو الخنزير بشكل عام.

(٣١) ربما كان يقصد بذلك العناب البري Zizyphus Lotus

(٣٢) لا توجد اليوم أبدا آثار تدل على ضاية حلوف ، الواقعة على مسافة ١٥ كم جنوب المنصورية


الرّباط

الرباط (٣٣) مدينة كبيرة بنيت في الأزمنة الحديثة من قبل المنصور ، ملك وخليفة مراكش. ويمر على طولها ، من الشرق نهر أبو الرقراق. وهو يصب في البحر. وبنيت قلعة المدينة عند مصبه ، فهي على النهر من جهة وعلى البحر من جهة أخرى.

وتشبه هذه المدينة في أسوارها وأبنيتها مدينة مراكش لأنها بنيت من قبل المنصور لنفس الغرض ، ولكنها تبدو صغيرة جدا بالموازنة مع مراكش. وإليك سبب تأسيس الرباط : لقد كان المنصور يحكم حينذاك على كل إقليم غرناطة وعلى جزء من أسبانيا. ولما كانت هذه البلاد نائية جدا عن مراكش ، فقد خطر ببال الملك أن هذه المدينة إذا ما تعرضت لهجوم من طرف النصارى ، فلن يتمكن أن يهب لنجدتها بسهولة. وهكذا فكر في أن يشيد مدينة على سيف البحر ذاته حيث يستطيع أن يبقى طيلة الصيف مع قواته. وقد نصحه بعضهم بالإقامة في سبتة التي هي مدينة واقعة على مضيق جبل طارق. ولكن الملك لاحظ ان هذه ليست بالمدينة التي تستطيع أن تكفي لمرابطة جيش في أثناء مدة ثلاثة أو أربعة شهور ، بسبب عقم الأرض في هذه المنطقة. كما فكر أيضا في ان هذا لن يمردون أن يسبب امتعاضات لدى أهل سبتة بسبب سكنى العسكريين وموظفي البلاط الملكي. ولهذا عمل على بناء مدينة الرباط في بضعة أشهر. وزودها بالمساجد والمدارس وكل أنواع القصور والبيوت والدكاكين والحمامات ومخازن الأدوية. وشيد في خارج الباب الذي يتجه نحو الجنوب منارة مماثلة لمنارة مراكش ، ولكن مع مطلع أكثر عرضا بكثير ، وفي الواقع يستطيع ثلاثة فرسان أن يصعدوا إليها جنبا إلى جنب. ويقال أنه من الممكن من أعلاها رؤية سفينة في عرض البحر على مسافة كبيرة جدا. وأعتقد أنها تعتبر ، نظرا لارتفاعها ، من أجمل الأبنية المشيدة في العالم (٣٤).

وأراد الملك أيضا أن يستوطن في المدينة العديد من الصناع والمثقفين والتجار. وأعطى الملك أمرا بأن كل مواطن فيها ينال مكافأة علاوة على الربح الذي تدره عليه مهنته. وقد أدى ذلك إلى اجتذاب أناس إلى هذه المدينة من كل الأصناف ومن كل المهن ، حتى لقد غدت الرباط ، خلال وقت قليل ، من أشرف المدن في كل إفريقيا وأغناها ، إذ كان لسكانها دخل مزدوج ، أولا المكافأة المقررة وثانيا ربح التجارة مع العسكريين ومع

__________________

(٣٣) عاصمة المملكة المغربية الحالية.

(٣٤) الواقع أن برج حسان يرتفع لأكثر من ٤٤ م ولكن موقعه يمنحه بروزا بديعا جدا ، وعرض مطلعه متران.


رجال الحاشية الملكية. وكان المنصور يسكن هذه المدينة من بداية شهر نيسان (أبريل) إلى شهر ايلول (سبتمبر). ولما كانت المدينة قائمة في موقع يفتقر للماء الجيد ، لأن ماء البحر يختلط عندها بماء النهر ، ولما كانت موجة المد تصعد لمسافة اثني عشر ميلا في النهر ، ونظرا لأن مياه الآبار مالحة ، فقد جرّ المنصور إليها ماء عين واقعة على مسافة اثني عشر ميلا من المدينة بواسطة قناة بديعة البناء ، قائمة فوق حنايا تماثل تلك التي ترى في كل إيطاليا ، لا سيما بجوار روما. وتنقسم هذه القناة إلى عدة فروع تقود إحداها الماء إلى المساجد والمعاهد والقصور الملكية والأحواض العامة التي أقيمت في كل الأنحاء (٣٥).

وبعد وفاة المنصور أخذت هذه المدينة في التدهور حتى إنه لم يبق منها سوى العشر. فقد تقطعت القناة وتخربت أثناء حروب المرينيين ضد أسرة المنصور. والرباط الآن في أسوأ حالة عرفتها وأعتقد أنه لا يمكن العثور فيها ، إلا بصعوبة ، على أربعمائة بيت مسكون قرب القلعة ، مع بعض الدكاكين الصغيرة. وفضلا عن ذلك فهي مهددة باحتلال البرتغاليين لها. والحقيقة أن كل ملوك البرتغال السابقين خططوا المشاريع لاحتلالها على اعتبار أنهم إذا ما استولوا على الرباط فإنهم سيتمكنون بسهولة من احتلال

__________________

(٣٥) لقد كانت كلمة الرباط تعني عند العرب المسلمين الثغر المتقدم لإقامة الفرسان ، وحيث كانت تربط الخيول فيه ، فالكلمة مأخوذة من ربط الخيل ومن رابط بمعنى أقام بانتظار الجهاد. وهكذا تجهزت كل الجبهة الأرضية والبحرية لجيوش الفتح الإسلامي بهذه المراكز العسكرية التي تمنح منعة للمجاهدين في سبيل الله وتدعم إيمانهم. وقد أنشىء رباط الضفة اليسرى لمصب نهر أبو الرقراق ، أي رباط سلا ، كرأس جسر ضد المارقين من قبيلة برغواطة. وفي أواسط القرن التاسع كان يتواجد أحيانا في هذه الرباطات كما في الرباطات المجاورة حوالي مائة ألف من المرابطين مجتمعين ، وظل اسم بلد المجاهدين معروفا بجوار البحر ، جنوبي الرباط. ويعود إنشاء مدينة في هذه المنطقة ، في الغالب ، للخليفة عبد المؤمن الذي كان عليه ان يقمع في سنة ١١٤٩ م آخر تمرد قامت به برغواطة ، الذين عجز المرابطون عن إبادتهم جميعا في عامي ١٠٥٩ ـ ١٠٦٠ م. وقد بنى المدينة في مكان قصر كان يخص بني كنانة ، وسماه المهدية ، تخليدا لذكرى المهدي بن تومرت. ولكن الاستعمال الدارج عمل على تفوق اسم رباط الفتح ، وهذا بلا شك بسبب نجاح تلك الحملة ضد برغواطة. وفي سنة ١١٥٠ م عمل عبد المؤمن على جر مياه عين غابولة ، وهو نبع يقع على مسافة ٢٠ كم نحو الجنوب. وبعد ثلاثين عاما عمل حفيده أبو يوسف يعقوب المنصور الذي حقق بتاريخ ١٩ تموز (يونيو) ١١٩٥ م الظفر المؤزر في معركة الأركوس في الأندلس ، أقول عمل على تنفيذ مشروع التنظيم الذي يلخصه هنا المؤلف : أي جعل من الرباط قاعدة لتمركز الجيوش على أن يمتد تمركزها هذا على البلاد الهامة الواقعة على ساحل المحيط من الرباط حتى القصر الصغير شمالا. وقد شيد في الرباط ، على الخصوص ، حصن الفرح الذي لا يزال بابه البديع ماثلا. والمسمى حاليا باب الأوداية ، وكذلك الجامع الكبير الذي كان برج حسان منارته. كما أعاد بناء سور شلا (سلا) حيث أقام فيها مدينة ملكية ودينية وعسكرية ، لأن الرباط كانت مدينة تجارية وعمالية. وقد سمحت له الغنائم المذهلة التي تحققت من وراء حملته في أسبانيا في فترة ١١٩٥ إلى ١١٩٨ م بتمويل هذه الإنجازات وكثير غيرها في امبراطوريته. ويعتبر عام ١١٩٧ تاريخ تأسيس الرباط ولكن تحقيق هذه المشاريع استدعى بالتأكيد زمنا طويلا نوعا ما.


المملكة. ولكن ملك فاس زود هذه المدينة بمخازن أقوات كبيرة وهو يدعمها قدر استطاعته.

وقد ذهبت إليها وتملكتني الشفقة تأسيّا عند ما فكرت بما كانت عليه في الماضي وما آل إليه حالها اليوم.

سلا

سلا (٣٦) مدينة صغيرة بناها الرومان قرب نهر أبي الرقراق على مسافة ميلين تقريبا من المحيط وعلى ميل واحد من الرباط ، بحيث إن الذي يريد الذهاب من سلا إلى البحر يضطر أن يمر من الرباط (٣٧). ولكن هذه المدينة تخربت في أيام حرب المارقين عن الإسلام (برغواطه). وبعدئذ أعاد المنصور بناء أسوارها ، وبنى فيها مرستانا فخما وقصرا لسكنى الجند. وبنى فيها كذلك جامعا بديعا مع قاعة للصلاة مزينة بأبهة ؛ بالمرمر المجزع ، وبالفسيفساء ، والنوافذ ذات الزجاج الملون. وعند دنو أجله عبر بوصيته عن رغبته في أن يدفن فيها. وبعد وفاته (٣٨) نقل جثمانه من مراكش ، وتم فيها دفنه. وقد وضعت فوق قبره شاهدتان من الرخام ، إحداهما فوق رأسه ، والثانية عند قدميه ، ونقشت فوقهما أبيات شعر أنيقة عبرت عن لواعج الأسى التي نجمت عن موت هذا الملك ، وهي أبيات من نظم عدة شعراء. واحتفظ كل أمراء هذه الأسرة بعادة دفنهم في هذه القاعة. وسار ملوك بني مرين على نفس المنوال ، في أزهى أيام أسرتهم. وقد دخلت إلى هذه القاعة حيث أحصيت ثلاثين ضريحا لهؤلاء الأمراء ، وقد سجلت كل كتاباتها ، وكان هذا في عام ٩١٥ للهجرة (٣٩).

المعدن العوام

وهذه مدينة بناها في أيامنا خازن الخليفة عبد المؤمن على ضفة نهر أبي الرقراق ،

__________________

(٣٦) أو شلا

(٣٧) تم في سلا الكشف عن قسم من أطلال المدينة الرومانية سلا كولونيا التي قامت على أنقاض مدينة كانت تابعة لقرطاجة وربما كانت تابعة للفينيقيين.

(٣٨) في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٩٩ م.

(٣٩) بين ٢ / ٤ / ١٥٠٩ و ٩ / ٤ / ١٥١٠ م.


وذلك لأنه لاحظ أن منجم حديد يقع في هذا الموقع وكان يتردد عليه الناس بكثرة (٤٠). وتقع على مسافة عشرة أميال من الأطلس ، ويوجد بينها وبين الجبل غابة كثيفة جدا تكثر فيها الأسود والنمور (٤١) ، وكانت هذه المدينة آمنة جدا وكثيفة السكان طيلة أيام أسرة مؤسسها (٤٢). وكانت مزدانة بمنازل جميلة وبجوامع وفنادق. ولكن هذا لم يستمر سوى وقت قصير لأن حروب الملوك المرينيين أدت إلى خرابها ، وراح سكانها ما بين قتلى وأسرى. ولجأ قسم منهم إلى سلا. وقد حصل هذا الحادث لأن السكان وضعوا أنفسهم تحت تصرف أحد ملوك بني مرين في نفس الوقت الذي وصل فيه قائد ملك مراكش للدفاع عن أولئك الذين ثاروا حينئذ ضد الأمير الذي كان يحكم المدينة ، حتى لقد اضطر للهرب. وبعد عدة أشهر قدم الملك المريني شخصيا على رأس جيش لجب ، ومر بالمدينة في أثناء زحفه على مراكش ، فهرب قائد المدينة حالا واضطرت المدينة أن تستسلم بعد أن طلبت الأمان ، وحينئذ عمل الملك فيها تخريبا وقتل سكانها (٤٣). ومنذ ذلك العصر حتى الوقت الحاضر لم تعد مدينة المعدن العوام صالحة للاستيطان ، ولكن جدار سورها ومنارات مساجدها لا تزال قائمة. وقد رأيتها في الوقت الذي تصالح فيه ملك فاس مع ابن عمه. وعند ما جاءا سوية إلى تاغية لأداء القسم على ضريح أحد أوليائهم المدعو سيدي بوعزة ، وكان هذا سنة ٩٢٠ ه‍ (٤٤).

__________________

(٤٠) المعدن يعني المنجم. وكانت كل أبنية هذه المدينة تقريبا من الخشب لذا لم تخلف أثرا ، ولكن المنجم الواقع على الخاصرة الشمالية لجبل العوام يقع على مسافة ٢٥ كم شمال خنيفرة ، قرب فرع من رأس وادي البهت ، بعيدا عن نهر أبي الرقراق.

(٤١) تبدو هضبة مريرت اليوم عارية ، ولكن يبدو أن هذه المناطق المستورة بالغابات وشبه المهجورة كانت ملجأ للبقية الباقية من الأسود في عصر قريب منا ، ولا يزال فيها بعض الفهود.

(٤٢) أي الموحدون المنحدرون من أسرة عبد المؤمن.

(٤٣) وقع هذا الحادث بين ١٢٦١ و ١٢٦٩ م في أثناء إحدى الحملات التي قام بها أول سلطان مريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق ضد أبي دبوس خليفة مراكش الموحدي.

(٤٤) في عام ١٥٠٤ وعلى أثر تولي محمد البرتغالي زمام السلطة في فاس ، قام ابن عمه مولاي زيان ، حاكم مكناس ، بثورة ضده فحاصره السلطان الجديد في مكناس وتم أسره واعتقاله. واستطاع مولاي زيان بعد ذلك أن يفلت من سجنه ، ثم التجأ إلى البرتغال واستقر أخيرا في آزمور ، حيث حاول أن يقتطع لنفسه إمارة. ولكن سقوط آزمور بيد البرتغاليين في ٣ ايلول ١٥١٣ قسره على الهرب ونزل من السور بواسطة حبل تدلى منه ، كما سرد لنا المؤلف ذلك قبل قليل. والغالب على الظن أن هذا الصلح الاحتفالي تم في خريف ١٥١٤ م مع ابن عمه ، لأن وثائق المحفوظات البرتغالية تفيدنا أنه في كانون الأول (ديسمبر) ١٥١٤ م كان يشغل وظيفة رسمية في سلا.


تاغيه

تاغية (٤٥) مدينة قديمة بناها الأفارقة بين الجبال التي تؤلف جزءا من جبال الأطلس (٤٦). والطقس بارد جدا وأراضي الزراعة فيها هزيلة خشنة. أما الغابة الرائعة المحيطة بها فهي عرين أسود هائجة. ولا ينبت سوى القليل من القمح في هذه المنطقة ، ولكن يكثر فيها الماعز والعسل. وتتصف هذه المدينة بشدة تقشفها ، فمنازلها رديئة البنيان ، دون كلس. ويوجد قبر ولي عاش في عصر الخليفة عبد المؤمن. ويقال إن هذا الولي قام بالعديد من الخوارق ضد الأسود وأنه كان عرافة عظيما. بل لقد قام أحدهم بتأليف كتاب عن معجزاته وروايتها بعناية واحدة واحدة ، وكان هذا المؤلف رجلا عالما يسمى التادلي. وأعتقد شخصيا بعد قراءة قصة هذه الخوارق بأنها حدثت نتيجة لفن سحري ، أو بالاستعانة بنوع من سر كان يحتفظ به هذا الولي تجاه الأسود (٤٧). وشهرة هذه الأعمال والتبجيل الذي كان يكنه الناس لهذا الولي هما السببان اللذان جعلا هذه المدينة مقصودة بكثرة. ويزور أهالي فاس هذا الضريح في كل السنين بعد عيد الفطر. ويأتيه رجال ونساء وأطفال كأنهم جيش زاحف. ويجلب كل واحد خيمته معه على ظهر دابته فتأتي الحيوانات مثقلة بالخيام وبالحاجات الأخرى الضرورية للمعاش في أثناء المدة التي يقيمها الوافدون. وتتألف كل مجموعة من مائة وخمسين خيمة. وتستغرق الرحلة بين ذهاب وإياب مدة خمسة عشر يوما. وتقع تاغية على مسافة مائة وعشرين ميلا (٤٨) من فاس. وقد اصطحبني والدي معه وأنا طفل عند زيارة هذا الضريح. وبعد أن كبرت كنت أقصده أحيانا وفاء لنذر نذرته عند ما تعرضت لخطر الموت بسبب الأسود وأنجاني الله من ذلك.

__________________

(٤٥) تاغية أو مولاي بوعزة.

(٤٦) إن البلدة ، المعروفة لدينا باسم مولاي بوعزة ، لا تزال تحمل الاسم البربري تاغية ، ومعناها ، كما يظن ، المكان الوعر والمغطى بالغابة.

(٤٧) هذا الولي هو أبو عزة النور بن ميمون بن عبد الله الحزيري ، الذي توفي بعد عمر مديد في نيسان ١١٧٧ م. أما راوية خوارقه فكان أبا الحجاج يوسف بن يحيى التادلي الملقب بأبن الزيات ، مؤلف كتاب «التشوق» الذي كتبه سنة ١٢٢٠ م.

(٤٨) ١٨٠ كم.


ظرفه

كانت ظرفة (٤٩) مدينة من تامسنه ، وقد بناها الأفارقة في سهل كبير وفسيح جدا حيث يوجد الكثير من العيون والجداول. ويوجد حول أطلال هذه المدينة الكثير من أشجار التين التي تظهر من بعيد كأنها غابة. وتكثر الأشجار في كل ضواحيها. وهي أشجار القرانيا وأشجار أخرى تدعى ثمرتها في روما «كرز البحر» (٥٠). هذا كما توجد أيضا تلك النباتات الشوكية التي تعطي ثمرة تدعى بالعربية النبق وهي أصغر من الكرز ولها نفس طعم العناب تقريبا (٥١). وتظهر في كل هذه السهول أشجار النخيل البرية (٥٢) التي تعطي ثمرة بحجم حبة الزيتون الأسباني ، ولكن مع نواة كبيرة. وليس طعمها بالمستساغ ، وتشابه تقريبا طعم ثمر الزعرور قبل نضجه.

وقد تهدمت هذه المدينة في أثناء حرب المارقين عن الإسلام (برغواته) ، وحاليا يزرع عرب تامسنه أراضيها ، فيحصلون هناك على محاصيل طيبة تبلغ أحيانا خمسين ضعف ما بذروه.

ولاية فاس

تبدأ ولاية فاس من غرب نهر أبو الرقراق ، وتمتد شرقا حتى نهر إيناون ، وتنتهي شمالا بين هذين النهرين عند نهر سبو ، وتنتهي من الجنوب عند أقدام جبال الأطلس. وهذه الولاية رائعة حقا بسبب وفرة حبوبها وثمارها وماشيتها. وتقوم فوق تلال هذه المنطقة قرى عديدة وكبيرة جدا. والسهول قليلة السكان بسبب الحروب الماضية. ويعيش فيها جماعات من بؤساء العرب في مداشر. وليس لهم هنا أية سلطة. ويزرعون الأرض

__________________

(٤٩) موقع مجهول.

(٥٠) «الكريز» فاكهة بحجم الزيتون الكبير ولونه بين أسود وأحمر ، وطعمه حامض حلو ، ويكثر في بساتين حلب وفي المغرب. ويسمى في المغرب «حب الملول» (المترجم)

(٥١) النبق وهو العناب البري وكان يدعى اللوتوس عند الإغريق ، وهو غذاء قوم يدعون أكلة اللوتوس. والنبات هو العناب البري الذي يدعى علمياZizyphusLotus «وله الأسماء التالية في المملكة العربية السعودية : سدر ، دوم ، عبري ، كنار ، عرج» (المترجم).

(٥٢) أو النخيل القزم أو الدوم ، Chamaerops humilis.


مناصفة مع سكان فاس أو مع الملك ورجال حاشيته. ولكن يزرع أرياف سلا ومكناس عرب أشراف وفرسان وهم من أتباع الملك. وسأتكلم لكم الآن عما يستحق الذكر.

سلا

سلا (٥٣) مدينة قديمة جدا بناها الرومان وتغلب عليها القوط. وعندما دخلت جيوش المسلمين هذه المنطقة سلمها القوط إلى طارق قائد هذه الجيوش (٥٤). وبعد تأسيس فاس (٥٥) انضوت تحت سلطة ملوك فاس. وقد بنيت هذه المدينة على ساحل المحيط في موقع بديع جدا. ولا تزيد المسافة بينها وبين الرباط عن ميل ونصف ، ويفصل نهر أبو الرقراق بين المدينتين. وبيوتها مشيدة حسب الطريقة التي كان يتبعها القدامى ، وهي مزينة كثيرا بالفسيفساء وبأعمدة الرخام. وجوامعها جميلة ومزخرفة. وينطبق هذا الوصف نفسه على الدكاكين ، الواقعة في أروقة كبيرة وجميلة. وعندما يجتاز المار عدة دكاكين تظهر قنطرة مبنية ، للفصل بين أرباب مهنة وأخرى. وأخلص من ذلك إلى القول بأن سلا حازت على كل الزينة التي تميز مدينة ذات حضارة رفيعة ، وفضلا عن ذلك فإن لها ميناء جيد كان يقصده تجار النصارى من مختلف الجنسيات ، من جنوبيين وبنادقة وانجليز وفلمنك ، لأنها كانت ميناء لكل مملكة فاس ، ولكن تعرضت هذه المدينة لهجوم اسطول ملك قشتالة الذي استولى عليها في عام ٦٧٠ للهجرة (٥٦) ، وهرب سكانها ، وأقام فيها النصارى ، ولكن لم يتح لهم ذلك لأكثر من عشرة أيام ، لأنهم تعرضوا فجأة لهجوم يعقوب ، أول ملك من أسرة بني مرين ، ولم يكونوا متأهبين لذلك إذ لم يكونوا يظنون أن الملك سيتخلى عن حملته على تلمسان التي كان يخوضها حينئذ (٥٧). وهكذا تم استرداد المدينة وقتل كل النصارى الذين كانوا فيها ، ولجأ الباقي إلى السفن وانهزموا. وهذا هو السبب الذي جعل الملك يعقوب وكل أفراد أسرته الذين حكموا من بعده يتمتعون بمحبة أهالي هذه المناطق.

__________________

(٥٣) في اللغة العربية سلا أو سالة ولم يكن الرومان هم مؤسسوها.

(٥٤) هو طارق بن زياد ، أمير مصمودة منطقة طنجة ، سنة ٧٠٩ م.

(٥٥) آخر القرن الثامن أو بداية القرن التاسع الميلادي.

(٥٦) في الحقيقة عام ٦٥٨ ه‍. أو يوم الجمعة ، ٢ شوال ١٠ أيلول (سبتمبر) ١٢٦٠ م.

(٥٧) وهو الملك يعقوب بن عبد الحق الذي بلغه نبأ سقوط المدينة بعد يومين وكان في فاس أو في تازة ، فهرع على عجل وأنقذ سلا ، وهكذا كانت المدة التي بقيت فيها سلا بأيدي النصارى أربعة وعشرين يوما.


وعلى الرغم من استرداد سلا بسرعة فإنها ظلت بعد ذلك أقل سكانا وأقل عناية. ونجد في كل المدينة ، ولا سيما قرب جدار السور ، الكثير من البيوت الخالية التي تحتوي على أعمدة بديعة جدا ونوافذ من الرخام المختلفة الألوان. ولكن لا يقدرها الأهالي حق قدرها في أيامنا. وضواحي سلا كلها رملية. وتوجد بعض الأراضي الزراعية التي ينبت فيها القليل من القمح. ولكن البساتين عديدة وكذلك الحقول التي تنتج كمية كبيرة من القطن. ومعظم سكان المدينة من الحاكة الذين يصنعون قماشا من القطن يبدو شديد النعومة وجميلا جدا. وتصنع كذلك في سلا كمية عظيمة من الأمشاط التي تصدر إلى مختلف المدن في مملكة فاس ، وذلك لأنه يوجد بجوار هذه المدينة غابة مليئة بأشجار البقص وأنواع أخرى من الشجر التي يصلح خشبها لعمل الأمشاط.

ويعيش الآن أهل سلا عيشة طيبة. إذ يوجد فيها حاكم وقاض وعدد من الموظفين الآخرين ، مثل موظفي المكس وجباية ضرائب المعاملات التجارية ، وذلك لأن الكثير من التجار الجنويين يقصدونها ويعقدون فيها صفقات هامة ، ويلقون من الملك اهتماما ورعاية لأن تجارتهم تحقق له موارد جزيلة. ولهؤلاء التجار مستودعاتهم في كل من فاس وسلا. وعند شحن بضائعهم يتعاونون فيعمل الواحد منهم لحساب الآخر. وقد وجدتهم صادقين جدا وبشوشين للغاية في المعاملات. وهم ينفقون الكثير من المال كي يحصلوا على صداقة الأمراء ورجال الحاشية. وهم لا يفعلون ذلك عن جشع ورغبة في استغلال هؤلاء العظماء للحصول على المال بل ليتمكنوا من العيش في أوضاع كريمة في هذه البلاد الغريبة عليهم. وكان يوجد في أيامي وجيه من جنوه مبجل بشكل خاص يدعى توماسو دومارينو ، وهو رجل عاقل وطيب حقا ، وغني جدا ، وكان الملك يكن له تقديرا كبيرا ويحبه كثيرا. وعاش ثلاثين سنة في فاس ، وحينما وافته منيته ، عمد الملك ، تنفيذا لوصية هذا الوجيه إلى نقل جثته إلى جنوا. وقد خلف هذا الرجل بضعة أبناء كلهم أغنياء ومحترمون لدى الملك وكل حاشيته.

فنزاره

فنزارة (٥٨) ليست بالمدينة الكبيرة جدا ، ولكنها قامت في سهل جميل للغاية على يد

__________________

(٥٨) تحدد النصوص العربية موقع فنزارة على طريق فاس ، قرب سلا ، ولكن لم يعثر على موقع هذه البلدة حتى الآن.


أحد الملوك الموحدين على مسافة عشرة أميال (٥٩) من سلا. والسهل كله خصيب تجود فيه الحنطة والحبوب الأخرى. وتوجد في خارج البلدة ، قرب الأسوار ، أحواض جميلة جدا بناها أبو الحسن علي ، ملك فاس (٦٠). وفي أيام الملك أبي سعيد ، الذي كان آخر ملك من الأسرة المرينية (٦١) حدث أن كان حينئذ أحد أعمامه ـ ويدعى سعيدا ـ سجينا عند عبد الله ملك غرناطة ، وقد توسل هذا إلى ابن أخيه بأن يستجيب لطلب تقدم به هذا الملك. ولما رفض أبو سعيد ، عمد الملك إلى إطلاق سراح سعيد من السجن كي يرسله على رأس قوات كبيرة وميزانية حربية عظيمة ليحارب ملك فاس وليقضي عليه. فحاصر سعيد مدينة فاس بمساعدة بعض الجبليين العرب ، ودام هذا الحصار سبعة أعوام تم في أثنائها تدمير القرى والمدن والقصور في كل المملكة. ثم تفشى الطاعون في جيشه وقضى نحبه مع قسم من قواته. وحدث هذا في عام ٩١٨ هجرية (٦٢). والمدن التي تخربت في تلك الفترة لم تعمر بالسكان مرة ثانية ولا سيما فنزارة التي اقطعت كي تكون مقرا لشيوخ من العرب الذين عاونوا سعيدا.

__________________

(٥٩) ١٦ كم.

(٦٠) حكم بين ١٣٣١ و ١٣٤٨ م.

(٦١) سهو من جانب المؤلف ، الذي لا يجهل أبدا أن آخر ملك مريني كان عبد الحق بن أبي سعيد عثمان.

(٦٢) هذه الأحداث المفرطة في خطورتها معروفة لدينا حسب روايتين مختلفتين إحداهما عن الأخرى قليلا :

فحسب الرواية الاولى كان سلطان غرناطة ابن الاحمر ، وهو الاسم الذي يعطيه كل المؤرخين العرب لسائر ملوك هذه الأسرة في هذه الحقبة ، والذي كان يدعى أبا الحجاج يوسف أو أبا الحاجز عند المؤرخين الأسبان ، أقول كان يحتجز بالسجن مع مرينيين آخرين ، ابن عم سلطان فاس ، وهو المدعى محمد ، الملقب السعيد بن عبد العزيز. وحفيد السلطان إبراهيم ، وأما سلطان فاس فكان أبا سعيد عثمان ، ابن السلطان أحمد وحفيد السلطان إبراهيم. وفي عام ٨٦٣ ه‍ / ١٤١١ م أطلق سلطان غرناطة سراح السعيد بناء على طلب سلطان تونس الذي كان في حالة حرب مع سلطان فاس ، واعترف به سلطانا على فاس. وتقدم السعيد لمحاصرة فاس في أواخر عام ٨١٣ ه‍ / نيسان (ابريل) ١٤١١ م واستمر الحصار شهرين ثم اضطر لرفعه ، ولكنه أمعن في تخريب ضواحي المدينة ، واستأنف الحصار في صفر أو آب (أغسطس) ١٤١١ م. وبعد عشرين يوما انكسر من جديد واضطر للانسحاب إلى سلاكي يعيد تشكيل قوات جديدة. وعاد إلى فاس في شعبان / تشرين الثاني (نوفمر) وكانون الأول (ديسمبر) ١٤١١ وشيد في مواجهة فاس مدينة دعاها المنصورة. وفي أواخر عام ٨١٣ ه‍ آذار (مارس) ظهر أمام المدينة وافلح في اقتحامها. ولكن قامت ثورة أدت إلى طرده منها واضطر للهرب إلى تونس ، ثم مات في عنابة في أثناء الطريق.

وتقول الرواية الأخرى أن السعيد حاصر فاس في سنة ٨٦٥ ه‍ وتعرض السكان لمحن شديدة. واستمر الحصار حتى شعبان / تشرين الثاني (نوفمبر) ١٤١٢ وهي الفترة التي اضطر فيها السعيد للهرب. وعاد في شوال أو كانون الثاني (يناير) ١٤١٣ ولكن السكان خرجوا إليه ونشبت معركة قتل فيها حصانه وسقط أسيرا ثم أعدم. وفي خلال هذا الوقت كان السلب والمجاعة يفتكان بالسكان وأعقب ذلك جائحة وتخريب سائر البلاد. والجائحة المقصودة هي الطاعون الذي تكلم عنه المؤلف.


معمورة

معمورة مدينة صغيرة بناها أحد ملوك الموحدين عند مصب نهر سبو ، ولكن على مسافة ميل ونصف من النقطة التي يصب فيها هذا النهر في البحر وعلى مسافة اثنين وعشرين ميلا من سلا. وتتمثل ضواحيها في سهل رملي (٦٣). وقد تأسست كي تحمي المصب ولتحول دون دخول السفن المعادية في النهر. وتوجد بجوار المدينة غابة يعثر فيها على أشجار بلوط عالية جدا (٦٤) ، وثمار بلوطها طويلة وبحجم خوخ دمشق. ولهذه البلوطات طعم أطيب مذاقا وأكثر حلاوة ولذة من الكستناء. ومن عادة العرب بجوار هذه الغابة أن يشحنوا كمية كبيرة منها إلى فاس على جمالهم ويربحوا من وراء ذلك الكثير من المال. كما يقوم بغالة معمورة ، بدورهم أيضا ، بنقل كمية منها ويحصلون بذلك على ربح كبير. ولكن خطر الأسود داهم فكثيرا ما تفترس هذه الأسود الماشية والناس الذين لم يعتادوا عليها (ولم يعرفوا طبيعتها) لأن أسود هذه الغابة أكثر ضراوة من كل مثيلاتها في سائر افريقيا (٦٥).

وقد مضى على خراب هذه المدينة مائة وعشرون عاما على أثر الحرب التي شنها سعيد على ملك فاس (٦٦). وفي ٩٢١ ه‍ أرسل ملك البرتغال أسطولا كبيرا جدا كي يستطيع في حراسته أن يبني قصرا عند مصب النهر (٦٧). وعمل البرتغاليون بمجرد وصولهم

__________________

(٦٣) كانت أطلالها لا تزال مائلة عند ضفة نهر سبو عندما كان البرتغاليون الذين سموها ، «معمورة افلها» ، أي المعمورة العتيقة ، كانوا يجهزون حملة في هذه المنطقة. ولكن هذه الأطلال اختفت الآن تماما. والمسافة المذكورة هنا وهي ٥ ، ٢ كم من البحر تطابق تقريبا موقع بيرنقطة.

(٦٤) هو البلوط ذو الثمار الحلوةQuercusilex

(٦٥) لقد اختفت أسود غابة المعمورة ، وكذلك حلت أشجار بلوط الفلين (الخفاف) مكان البلوط ذي الثمار الحلوة.

(٦٦) لقد كتبت هذه الفقرة بكل تأكيد في عام ١٥٢٥ م / ٩٣٢ ه‍. وبذلك يصحح المؤلف التاريخ المغلوط وهو ٩١٨ ه‍ ، والذي أعطانا إياه قبل قليل في معرض حرب المدعي السعيد ضد السلطان أبي سعيد عثمان والذي حدده بعام ٨١٢ ه‍ أو بين ١٦ / ٥ / ١٤٠٩ و ٥ / ٥ / ١٤١٠ م «وهنا لا نجد مندوحة من التنويه بأن ملك غرناطة من بني الأحمر والذي كان حينذاك يدفع الجزية عن يد وهو صاغر لملوك قشتالة الأسبان ، كان ينفس عن مذلته تحروب جانبية ضد إخوانه الملوك المسلمين في العدوة الإفريقية ، الذين كانوا يتعرضون في نفس الوقت لضربات متلاحقة من الأسبان وغيرهم ولا سيما من البرتغاليين ، كما يقول الشاعر : أسد على وفي الحروب نعامة. وهذا الواقع المرير يتكرر بكل سخافته في عصرنا هذا بين بعض الدول العربية التي لا يقل تخاذلها امام اليهود عن شجاعتها وغدرها تجاه بعضها البعض ، ولعل في ذلك بعض العبرة لمن يعقل. وقد ظهر في بيروت قبل حوالي عشرة أعوام كتاب يحمل عنوان «يا عقلاء العرب اتحدوا» (المترجم)

(٦٧) حدث هذا الإنزال البرتغالي يوم الأحد ٢٤ حزيران (يونية) ١٥١٥ / ١٢ جمادي الأول ٩٢١ ه‍. وقد سمي القصر الذي بدأ بناؤه فورا على ضفة سبو ، في حضيض تل المهدية ، سمى القديس حنا المعمورة.


على إرساء كل قواعده وأخذوا يقيمون الجدران والزوايا المحصنة. بينما كان الأسطول مرابطا في المصب. وعلى حين غرة برز لهم شقيق ملك فاس (٦٨) فخسر البرتغاليون ثلاثة آلاف رجل قطعوا إربا إربا ، لا لأن الشجاعة كانت تعوزهم (٦٩) ولكن بسبب ما حدث في صفوفهم من الفوضى. وإليكم ما حدث : ففي إحدى الليالي وقبل الفجر نزل ثلاثة آلاف برتغالي بقصد الاستيلاء على مدفعية ملك فاس. وقد كان خطأ عظيما اعتقادهم أن مثل هذا العدد من المشاة يستطيع النجاح في مثل هذه الموقعة الحربية ، في حين كان عدوهم يحشد خمسين ألف رجل من المشاة وأربعة آلاف من الخيالة ولكن البرتغاليين ظنوا أن في استطاعتهم قبل أن يعرف عدوهم ما يجب عمله للرد على هجومهم الخاطف ، أن يسحبوا المدفعية المغربية إلى حصنهم الذي كان على مسافة ميلين تقريبا من هذه المدفعية. وكان يقوم على حراسة هذه المدينة ما بين ستة آلاف وسبعة آلاف رجل ، ولكنهم كانوا نياما جميعا في الفجر. وكانت العملية ناجحة جدا حتى أن البرتغاليين سحبوا قطع المدفعية لمسافة ميل تقريبا ، عندما انكشف أمرهم ، وكانت الجلبة كافية لإيقاظ كل المعسكر ، وفي برهة من الوقت أخذوا سلاحهم وانقضوا على البرتغاليين الذين تحلقوا فورا على شكل دائرة ، وبدون أن يفقدوا شجاعتهم ، تابعوا مسيرتهم وهم يدافعون عن أنفسهم. ولم ترتعد فرائصهم مطلقا عندما وجدوا أنفسهم محاطين من سائر الجهات وبعد أن رأوا أن الطريق قد قطع عليهم ، بل إن حميتهم قد أتاحت لمقدمة جيشهم أن يشق لنفسه ثغرة اخترق منها صفوف العدو المحيطة به. وكادوا ينجون لولا إن بعض قدامى الرقيق من النصارى الداخلين في الإسلام الذين يعرفون اللغة البرتغالية نادوا عليهم وأمروهم بالقاء السلاح ، وبأن أخا الملك سيتركهم أحياء. فانصاعوا للأوامر. ولكن المغاربة الذين كانوا حانقين لم يريدوا أن يكون لديهم أي أسير فقتلوهم جميعا. ولم ينج منهم سوى ثلاثة أو أربعة بفضل حماية بعض قواد شقيق الملك.

وهكذا أصبح قائد حامية الحصن في أقصى حالة من اليأس لأن زهرة قواته كانت بين القتلى. فطلب النجدة من القائد العام الذي كان يرابط في خارج مصب النهر مع سفن كانت تحمل على متنها العديد من النبلاء والفرسان البرتغاليين. ولكن السفن لم تستطع

__________________

(٦٨) هو النصر الكداد حاكم مكناس وتامسنة.

(٦٩) هناك تقرير أرسل بتاريخ ٢٠ تموز (يونية) الى ملك البرتغال يقول بصراحة إن الجنود لم يصابوا بأي نوع من الخوف تماما كما لو كانوا فرنسيين ComoSe Foram Franceses


الولوج في النهر الذي كان مدخله محميا بحرس الجيش الملكي ، والذي أدى قصف مدفعيته القوية إلى إغراق بضع سفن برتغالية. وفي هذه الأثناء وصل نبأ موت ملك أسبانيا إلى البرتغاليين ، فضلا عن أن بضع سفن من التي أرسلها هذا الملك رغبت في العودة إلى أدراجها. كما أخلى قائد الحصن موقعه بعد أن يئس من الحصول على أية نجدة. أضف إلى هذا أن السفن التي كانت راسية في النهر لم تعد تطيق البقاء حيث هي وبالفعل غرق ثلثاها تقريبا عند المخرج. وكانت تحاول فعلا تحاشي الضفة التي ترمي منها المدفعية (٧٠) فحاذت الضفة الأخرى وجنحت على الرمال لأن هذا الجانب من النهر لم يكن عميقا جدا. وهنا رمى المغاربة بأنفسهم على البرتغاليين وقتلوا القسم الأعظم منهم ، في حين ارتمى الآخرون في النهر على أمل الوصول إلى السفن سباحة. ولكنهم هلكوا غرقا أو قتلوا كما قتل سابقوهم. وتم إحراق السفن وقذف بمدافعها إلى الماء. واصطبغ ماء النهر بالدم في أثناء ثلاثة أيام في منطقة المعركة. ويقال إنه كان هناك عشرة آلاف قتيل نصراني في هذه الحملة. وعمل ملك فاس بعدئذ على البحث في قاع النهر لإخراج ما غرق فيه من مهمات حربية فانتشل منه أربعمائة قطعة مدفعية من البرونز (٧١). وحدثت هذه الهزيمة الكبرى لسببين من عدم الانضباط : الأول ، ويعزى إلى البرتغاليين إذ كانت رغبتهم الاستيلاء على المدفعية المعادية مع عدد قليل جدا من الرجال وبدون تقدير لقوى الخصم ؛ والثاني هو أن ملك البرتغال ، الذي كان بإمكانه أن يرسل أسطولا مستقلا على نفقته وتحت قيادة ضباطه أنفسهم ، أراد أن يضم إليه أسطول القشتاليين. ويحدث دائما في مثل هذا الوضع ـ وهذه قاعدة مطردة ـ أنه عندما يسير جيشان لأميرين ضد جيش لأمير واحد ، فإن هذين الجيشين سيتعرضان للهزيمة والخزي بسبب اختلاف القيادة والآراء التي لا يتسق بعضها مع بعض. ويعتقد ملوكنا الأفارقة أن من علائم النصر رؤية جيشين لأمير واحد يخوض معركة ضد

__________________

(٧٠) الضفة اليسرى.

(٧١) تؤيد وثائق المحفوظات البرتغالية ، مع اختلاف طفيف بالتفاصيل ، ما جاء في النص أعلاه. ولكنها لا تذكر شيئا عن وجود سفن حربية اسبانية وفضلا عن ذلك فإن الملك فرديناند الخامس ، أي الكاثوليكي ، لم يمت إلا في ٢٣ كانون الثاني (يناير) ١٥١٦ ، ولكن ربما كان الخبر صحيحا أو أنه كان عبارة عن نبإ كاذب. والعملية المباغتة للاستيلاء على المدفعية إنما حدثت في فجر ٢٢ تموز (يونية). وفي الحقيقة أرسلت ثلاث سرايا تضم كل منها ألف رجل كي تنقض لزحزحة المغاربة عن التل وتمكين مرور السرية المكلفة بالاستيلاء على المدافع ، والتي تعرضت لخسائر شديدة بلغت ١٢٠٠ رجل كما ذكر التقرير. ولكن الأمر بالانسحاب الذي وصل من لشبونة بقرار من الملك ، حدث بتهافت شديد وانقلب إلى كارثة ، ولكن البرتغاليين لا يذكرون سوى خسارة ثماني سفن واثنين وخمسين منجنيقا ، منها خمسة ضخمة. وكلفت هذه الحملة إجمالا قرابة أربعة آلاف قتيل.


جيشين لأميرين اثنين. وقد كنت موجودا في كل هذه الحرب وشهدتها عن كثب. وبعد هذه الأحداث ذهبت لأقوم برحلتي إلى القسطنطينية (٧٢).

تفلفلت

تفلفلت مدينة صغيرة مشيدة في سهل رملي على مسافة خمسة عشر ميلا شرقي «معمورة» وعلى مسافة اثني عشر ميلا من المحيط. ويمر من جوار هذه البلدة نهر ليس بكبير الأهمية. وتقوم على ضفاف هذا النهر غابة يعيش فيها أسود شرسة للغاية. وأسود من التي سبق لي الكلام عليها. وهي تحدث أضرارا بالمارة ولا سيما الذين يبيتون فيها ليلا. ولكن في خارج المدينة أي على الطريق الكبير إلى فاس ، يوجد مدشر صغير غير مأهول ، حيث يوجد بناء مسقوف بعقد. وإلى هناك يذهب البغالة والمسافرون للمبيت. ويحمون الباب بسياج من الأشواك والأغصان التي يجمعونها من حولهم. وقد كان هذا فندقا في الزمن الذي كانت فيه تفلفلت مأهولة. وقد هجرت المدينة أيضا في أثناء حرب سعيد (٧٣).

مكناس

مكناس مدينة كبيرة بنتها قبيلة تحمل هذا الاسم (٧٤) ومنها استمدت اسمها. وتقع على مسافة ستة وثلاثين ميلا من فاس (٧٥) وخمسين ميلا من سلا (٧٦) وخمسة عشر ميلا من

__________________

(٧٢) من العسير التوفيق بين هذا التوكيد وبين ما قاله المؤلف آنفا عن وجوده في حملة دكالة في حزيران وتموز (يونية ويولية) ١٥١٥ م ، وعن عودته من مراكش إلى فاس عن طريق هسكورة وتادلة. ومهما كان عليه الأمر فهو على اطلاع تام بالتفاصيل ولم يستطع أن يذهب إلى فاس إلا بعد بضعة أيام من تاريخ ١٠ آب (أغسطس) ١٥١٥ لأنه كان على علم بقضية انتشال المدافع البرتغالية من مياه النهر. وسنراه في بجاية في أواسط شهر أيلول (سبتمبر).

(٧٣) على الرغم من أن المسافات المذكورة تبدو غير صحيحة بصورة صارخة ، فإن قرية تفلت التي قامت في العصر الحالي لا تنطبق بالتأكيد على تافلفلت. ويقول مارمول الذي نسخ هذه الفقرة حرفيا تقريبا ، يقول إن النهر الذي يمر غير بعيد من هنا يدعى واد زيللي عند العرب ، وأن هؤلاء العرب هم عشيرة إبن مالك سفيان ، وهذا يدل على أنه كان يعرف المنطقة. إذ يمكن أن نفترض بأن تفلفلت كانت موجودة في هذه الأنحاء بجوار إتصال واد زيللي مع واد تفلت. أما بنو مالك ، وهم فرع من سفيان فقد أجلوا في اتجاه شمالي نهر الورغة حيث يشكلون عشيرة هامة.

(٧٤) مكناسة.

(٧٥) ٥٨ كم.

(٧٦) والصحيح ٨٠ ميلا أو ١٣٠ كم.


جبال الأطلس (٧٧) وتضم قرابة ستة آلاف أسرة ، وسكانها متكائفون جدا.

وقبل بناء هذه المدينة عاش أهالي هذه المنطقة في أثناء فترة طويلة في سلام متحدين ، ودام هذا بالفعل ما دام هؤلاء ريفيين. ولكن بعد ذلك تفشت الاختلافات بينهم ، وتشكلت أحزاب ، وتغلب بعضهم على بعض ، وجار الأعلون على الأدنين ، فخسر الذين كانوا في الوضع الأدنى ماشيتهم ولم يطيقوا الحياة في البوادي فاتحدوا وبنوا هذه المدينة.

وهي تقع في سهل بديع للغاية ، ويمر بجوارها نهر هزيل ، وتقوم حولها على مسافة ثلاثة أميال (٧٨) مزارع أشجار عديدة تعطي ثمارا ممتازة ، ولا سيما السفرجل وثماره فخمة جدا وزكية الرائحة ، وكذلك ثمار الرمان التي تبدو عجيبة في حجمها ونوعها لأنها تخلو تماما من البذور. وتباع بثمن بخس. أما الخوخ الأبيض وخوخ دمشق فإنتاجهما غزير جدا حتى إن الحمل منهما يباخ بخمسة إلى ستة بيوكشي (٧٩). ويجنى العناب بمقادير وفيرة في كل سنة ويؤكل في الشتاء مجففا وتنقل كمية طيبة منه إلى فاس لبيعها. هذا كما يوجد أيضا الكثير من التين ومن عنب التكعيبات ولكنه يستهلك طازجا. وتفرز ثمار التين نوعا من الدقيق عند ما يراد تجفيفها لحفظها ، أما العنب فلا يكون طيب المذاق إذا ما أكل جافا ، وتنتج المنطقة مقادير كبيرة من المشمش والخوخ حتى إنهم ليرمون كميات منها. وثمار هذا الخوخ ليست جيدة ، فهي غاصة بالماء وتكاد تكون خضراء. وتجنى مقادير لا تحصى من الزيتون ويباع القنطار فيه بدينار ونصف ، أو ما يعادل مائة رطل إيطالي. هذا ، والأراضي المحيطة بالمدينة خصيبة جدا. ويحصل منها على كمية كبيرة من الكتان الذي يباع أكبر قسم منه في فاس وفي سلا.

والمدينة في داخلها جميلة التنظيم والتنسيق ، وتكثر فيها المساجد الجميلة. كما تضم ثلاثة معاهد للطلبة وعشرة حمامات كبيرة للغاية ، ويعقد السوق خارج المدينة قرب الأسوار في كل أيام الاثنين ، حيث يجتمع فيه الكثير من عرب المناطق المجاورة الذين

__________________

(٧٧) ٣٤ كم.

(٧٨) ٥ كم.

(٧٩) بيوكشي وحدة نقد إيطالية. وهذه المعلومات تبدو كأنها تشير إلى تعادل رطل هذه المنطقة مع الرطل الإيطالي وهو ٣٣٩ جرام ، وإذا كان المثقال يعادل الدينار الإيطالي وهو ١٧ ، ١٢ فرنك ذهب ، فإن سعر كل ٣٤ كجم زيتون كان ٢٥ ، ١٨ فرنك ذهبي.


يأتون بأبقارهم وبأغنامهم وبسواها من الماشية ، كما يجلبون السمن والصوف. وجميع هذه الأشياء تباع بثمن زهيد.

وقد منح الملك (٨٠) هذه المدينة في أيامنا للأمير (٨١) كي يكون قسم منها من إقطاعته. ويقدّر أن هذا الأمير يجبي من المدينة ومن كورتها دخلا يمثل تقريبا ثلث ما تغلّه مملكة فاس. ولكن فاس عانت كثيرا في الماضي من الحروب التي نشبت بين أمراء هذه المناطق. وقد كلفتها كل حرب خسارة تقدر بثلاثين إلى أربعين ألف دينار. وتعرضت المدينة في عدة مناسبات للحصار في أثناء فترة طويلة امتدت إلى ستة أو سبعة أعوام في كل مرة. وحدث في أيامي على إثر تنصيب ملك فاس الحالي (٨٢) أن قام أحد أبناء عمه بثورة عليه وتلقى عون سكان مكناس التي كان حاكما عليها في عهد الملك السابق. فجاء الملك إلى مكناس مع جيشه وحاصر المدينة مدة شهرين تقريبا. ولما كان سكانها غير راغبين في التسليم فقد عمد الملك إلى إتلاف ممتلكاتهم. وبلغت الخسائر عندئذ خمسة وعشرين ألف دينار. وأخيرا قام حزب مؤيد للملك بفتح أحد أبواب المدينة وصمد بشجاعة أمام هجوم المتمردين وسمح للملك بدخول مكناس. وهكذا استرد المدينة واقتيد الثائر سجينا إلى فاس ولكنه تمكن من الهرب فيما بعد (٨٣).

وإجمالا تبدو مكناس مدينة جميلة وذات موارد كبيرة ، ولها أسوار جيدة ، وتتوسط منطقة خصيبة جدا. وتتمتع بماء طيب يأتيها بواسطة قناة تجلب إليها من مسافة ثلاثة أميال خارج المدينة (٨٤). وتوفر هذه القناة الماء للقصبة وللمساجد وللحمامات. وتقع كل الطواحين خارج المدينة على مسافة ميلين تقريبا (٨٥). وأهالي مكناس شجعان كالجنود ، دمثو الأخلاق ، ولكن ذكاءهم غير مصقول. ويشتغل معظمهم بالتجارة والصناعة ، ومنهم الأشراف والسراة. ولا يستنكف أحد من أبناء هذه المدينة من أن يحمّل بنفسه دابته بالبذور وينقل حمولتها إلى عامله الذي يفلح الأرض.

__________________

(٨٠) أبو عبد الله محمد البرتغالي.

(٨١) أخوه الناصر الكداد.

(٨٢) في سنة ١٥٠٤ م.

(٨٣) وهو مولاي زيان ، الأمير الذي تمكن في ليلة ١٢ إلى ١٣ أيلول (سبتمبر) ١٥١٣ أن يهرب من آزمور بالتدلي من فوق ، جدار السور بالاستعانة بحبل ، والذي تصالح مع ابن عمه سنة ١٥١٤ أمام ضريح مولاي سيدي بو عزة.

(٨٤) ٥ كم إلى الجنوب.

(٨٥) في اتجاه الشمال.


ولا تخرج نساء الوجهاء من بيوتهن ، ويسترن وجوههن ولا يرغبن في أن يراهن أحد ، لا محجبات ولا سافرات ، لأن أزواجهن شديد والغيرة ، وربما كانوا خطرين عند ما يتعلق الأمر بنسائهم.

هذا ولا تروقني هذه المدينة لأن أرضها مبللة وموحلة في أثناء الشتاء.

جامع الحمّام

هي مدينة قديمة ، بنيت في السهل قرب حمام ، على مسافة خمسة عشر ميلا جنوب مكناس ، وعلى مسافة ثلاثين ميلا إلى الغرب من فاس وعشرة أميال من الأطلس (٨٦). وتقع على طريق المسافر الذاهب من فاس إلى تادلة (٨٧). وقد شغل العرب أراضيها الزراعية (٨٨). وتخربت هذه الأراضي بسبب حروب سعيد. ولا يزال باقيا من أطلالها جميع جدار السور تقريبا. وإذا كانت كل سقوف الجوامع والأبراج قد سقطت ، فإن الجدران لا تزال فيها قائمة.

خميس متغاره

خميس متغارة مدينة صغيرة بناها الأفارقة في أرياف زواغه على مسافة خمسة عشر ميلا إلى الغرب من فاس. وأرضها الزراعية خصيبة جدا. وعلى مسافة تقارب الميلين حول المدينة تقوم مزارع جميلة جدا من الكروم والتين. غير أنها جميعا أعيدت للزراعة من جديد لأن هذه المدينة تهدمت أثناء حرب سعيد وظلت كل أراضيها مهجورة في أثناء عشرين عاما تقريبا. ومنذ أن قدم قسم من أهل غرناطة منتقلين إلى موريتانيا وأقام بعضهم في هذه المدينة أخذت المدينة تعمر بالسكان من جديد ، وتمت زراعة كثير من أشجار التوت الأبيض (للانتفاع بها في تربية دود القز) لأن الغرناطيين هم من كبار تجار الحرير. كما

__________________

(٨٦) أي ٢٤ كم ، ٤٨ كم ، ١٦ كم.

(٨٧) لم يمكن حتى الآن العثور على موقع جامع الحمام ، أما مارمول الذي عرف بالتأكيد هذا الموقع فقد ذكر بأنه عبارة عن حمام ماء طبيعي ، أي نبع ساخن معدني ، وأنه كان يعقد فيه حينذاك سوق كبير ، هو سوق الأحد ، في قرية ترنه على مسافة نصف مرحلة من هذا المكان أو ما يعادل ٥ ، ٢ كم ، ويجب أن نفهم أن مسافة ١٦ كم من الأطلسى هي المسافة التي يغادر فيها طريق تادلة السهل ، والمسافات المذكورة صحيحا بالنسبة لعين سميسل.

(٨٨) ويقول مارمول إن هؤلاء كانوا من بني مالك ، وهم فخذ من عشيرة سفيان.


زرعوا كذلك قصب السكر ، ولكن لم تحصل منه فوائد كبيرة مثل ما كانت تعطيه زراعته في بلاد الأندلس. وقد كان سكان هذه المدينة في الماضي يتميزون بشدة التهذيب ، ولكن الأمر ليس كذلك في أيامنا هذه لأن جل سكانها تقريبا أصبحوا من المزارعين (٨٩).

بني باسل

بني باسل مدينة صغيرة بنيت هي أيضا على أيدي الأفارقة على نهر صغير ، في وسط الطريق الذي يذهب من فاس إلى مكناس على مسافة ثمانية عشر ميلا تقريبا (٩٠) إلى الغرب من فاس (٩١). ولهذه المدينة أرياف واسعة جدا تجري فيها جداول عديدة وينابيع غزيرة. وهي مأهولة كلها بالعرب (٩٢) الذين يزرعون فيها الشعير والكتان. أما الزراعات الأخرى فلا يمكن أن تنجح تماما لأن أرضها حجرية ومغمورة دائما بالمياه (٩٣) ويوجد حول بلدة بني باسل الكثير من مزارع الأشجار ، كما يستدل على ذلك من أطلالها. ولكن الدينة تهدمت كما تهدمت المدن الأخرى في زمن حروب سعيد. وظلت مهجورة مدة تقارب مائة وعشرة أعوام. ولكن بعد عودة ملك فاس من دكالة (٩٤) أرسل لإعمارها قسما من السكان الذين أجلاهم عن هذه المنطقة. غير أن الناس الذين استوطنوا هذه البلدة هم أجلاف ولا يقيمون هنا إلا على مضض.

__________________

(٨٩) يذكر مارمول أن خميس متغاره واقعة على الطريق بين فاس ومراكش ، على نفس المسافة بين فاس وجامع الحمام ، أي حوالي خمس مراحل أو ٢٥ كم عن الأولى والثانية. ويذكر أن هذه البلدة كانت مأهولة بالمور يسكيين الذين غادروا مملكة غرناطة عام ١٤٩٦ م ، وهذا يصحح المعلومات الواردة في النص : فخميس متغاره خلت من السكان مدة تسعين عاما تقريبا وليس مائة وثلاثين عاما. ويشير أيضا إلى استمرار بقاء سوق الخميس ، الذي أخذت منه هذه البلدة اسمها. ويخبرنا أخيرا أن الشريف محمد جاء في عام ١٥٤٤؟ بعد أن أسر ملك فاس أحمد الوطاسي في معركة درنة ، جاء وضرب معسكره مع جيشه قريبا جدا من هذه البلدة وأتلف بستان زواغة ، وأمر بذبح القسم الأعظم من سكان خميس امام عينيه كي يرهب أهل فاس. ولم يمكن بعد تشخيص موقع هذه البلدة حتى الآن.

(٩٠) ٢٩ كم.

(٩١) يحدد مارمول ان بني باسل كانت على وادي نجا قريبا من منبعه.

(٩٢) يذكر مارمول أنهم كانوا من بني مالك.

(٩٣) أي شبه مستنقع.

(٩٤) صيف سنة ١٥١٥ م.


المدينة الكبرى : فاس

عاصمة سائر موريتانيا

تأسست مدينة فاس على يد شيعي في عصر الخليفة هارون في عام ١٨٥ للهجرة(٩٥).

وتدعى هذه المدينة «فاس» لأنه من اليوم الأول الذي حفرت الارض فيها لإرساء الأساسات عثر على كمية كبيرة من الذهب الذي يحمل بالعربية اسم فاس (٩٦). وأرى أن هذا هو السبب الحقيقي لهذه التسمية. غير أن البعض يرون أن المكان الذي قامت فيه كان يدعى فاس بسبب النهر الذي يخترقها ، إذ كان اسم هذا النهر باللغة الافريقية «سف» وأن هذه الكلمة قد حرفت (٩٧).

ومهما كان الأمر فإن الذي بنى فاس كان يسمى ادريس. وقد كان من أقارب الخليفة هارون (٩٨). لأنه كان ابن حفيد علي (٩٩) ابن عم محمد (صلّى الله عليه وسلّم) ، والذي تزوج من فاطمة (١٠٠)

__________________

(٩٥) من المسلم به عموما أن المدينتين المتميزتين ، اللتين تكونت منهما فاس ، تأسستا في عهد ادريس بن ادريس الأول على الضفة اليمنى ، شرقي النهر ، وذلك يوم الخميس ٣ ربيع الأول عام ١٩٢ ه‍ ، الموافق ٦ كانون الثاني (يناير) ٨٠٨ م ، والأخرى على الضفة اليسرى أي في الغرب ، وتأسست في أوائل أيام شهر ربيع الثاني عام ١٩٣ ه‍ / أو نهاية كانون الثاني (يناير) ٨٠٩ م. ولكن هناك إشارة إلى وجود درهم مسكوك في فاس وذلك بالتحديد في سنة ١٨٥ ه‍ / ٨٠١ م. وقد سمحت أبحاث جديدة بالبرهنة ، مع شيء من اليقين ، بأن فاس الاصلية ، أي مدينة الضفة اليمنى ، قد تأسست بعد شهرين من المناداة بادريس بن عبد الله إماما وأميرا على بربر منطقة زرهون ، والغالب على الظن أن هذا التأسيس كان لمراقبة تقاطع الطرق الهامة ، أي عند عقدة الطريقين الكبيرين الدائمي الحركة ، أي الشمالي الجنوبي والشرقي الغربي خلف ممرات نهر سبو. ومن الممكن أن يكون هذا التأسيس قد حدث في شهر ذي العقدة ١٧٢ ه‍ / الموافق نيسان (اكتوبر) ٧٨٩ م. وبعد عشرين عاما حاول ادريس بن ادريس ، الذي كان يرغب ، بلا شك ، في أن يقيم هو نفسه قرب ممرات سبو هذه مع قواته المعبئة ، أقول حاول أن يجد موقعا مناسا ، وبعد عدة محاولات فاشلة في أماكن أخرى قرر أن يستقر تجاه فاس ، على الضفة المقابلة ، ولكن حرص أن تكون له مدينة ملكية مفصولة تماما عن الاخرى. وهكذا تأسست سواء حسب التاريخ المذكور آنفا أي ١٩٢ ه‍ أو في ١٩٣ ه‍ ، أي ٨٠٨ أو ٨٠٩ م. وجعل اسمها الرسمي «المدينة العالية» وهو اسم احتفظت به اكثر من عشرين عاما. ولكن جاء الاندلسيون فعلا ليقيموا في المدينة القديمة ، في حين اختار القروانيون إقامتهم في المدينة الجديدة ، وأخذت هاتان المدينتان إسمي مدينة الاندلس ومدينة القرويين واحتفظتا بهذين الاسمين حتى بعد تلاحم المدينتين على اثر فتحها على أيدي المرابطين في آذار (مارس) ١٠٧٠ م.

(٩٦) خطأ لا يمكن تفسيره لأن كلمة فاس لها معنى بلطة أو آلة عزق الأرض.

(٩٧) يوافق علماء اللغة البربرية المعاصرون فعلا أن كلمة آسيف ، ومعناها نهر ، يمكن ان تعطي فيس ، وتحولت في اللغة العربية الى فاس.

(٩٨) أي هارون الرشيد الذي حكم من ١٥ ايلول (سبتمبر) ٧٨٦ م إلى ٢٤ آذار (مارس) ٨٠٩ م

(٩٩) أي علي بن أبي طالب.

(١٠٠) فاطمة بنت الرسول عليه السلام.


فهو يتصل بالرسول من الناحيتين الأبوية والأموية معا. وذلك على خلاف هارون ، فإنه لا يتصل بالرسول محمد (صلّى الله عليه وسلّم) إلا من فرع واحد : فهو ينحدر من العباس عم محمد (صلّى الله عليه وسلّم). وعلينا أن نعرف أن هاتين الأسرتين كانتا محرومتين من السلطة لأسباب سبق أن عرضت في التواريخ القديمة. ولم تأت إلى هارون هذه السلطة إلا عن طريق الاغتصاب والخديعة. وذلك إن جد هارون ، وكان رجلا داهية ، وعلى مستوى عال من الذكاء ، تظاهر بأنه يؤيد أسرة عليّ كي يرفعها لسدة الخلافة. واستنادا إلى هذه الذريعة أرسل سفراء إلى العالم قاطبة. وهذا هو السبب الذي أدّى إلى ضياع الخلافة من بني أمية وإلى انتقالها إلى يدي أبي عبد الله السفاح (١٠١) وهو أول خليفة عباسي. وقد لاحظ هذا ، حقيقة ، أنه لن يستطيع ترك هذا المنصب للغير ، ودخل حالا في نزاع مع العلويين. وراح يضطهدهم علنا ، مما أدى لهرب أهم شخصيات هذه الأسرة. فمنهم من هرب إلى آسيا والبعض الآخر إلى الهند. وظل أحدهم في المدينة المنورة. ولما كان هذا رجلا فقيها لم يهتم به أبو عبد الله السفاح. ولكن نشأ اثنان من أبناء هذا الرجل وتزايدت مكانتهما مع تقدمهما في العمر والحظوة لدى المدنيين. وقد اضطر هذان البائسان إلى الهرب فى وقت كاد الخليفة يقبض عليهما فيه. وقد امكن توقيف احدهما ومات خنقا ، ولكن الثاني واسمه ادريس استطاع أن يفّر إلى موريتانيا (١٠٢). وحصل ادريس هذا على نفوذ كبير. فقد حاز ، في قليل من الوقت ، على السلطة الزمنية والسلطة الروحية معا بين سكان هذه البلاد (١٠٣). واستقر في جبل زرهون على مسافة ثلاثين ميلا (١٠٤) من فاس تقريبا ، وأصبحت موريتانيا ، برمتها ، تدفع له الضريبة. وقد توفي دون ولد (١٠٥) ، غير أنه ترك زوجته حاملا ، وكانت قوطية اعتنقت الدين الأسلامي. وقد انجبت هذه المرأة

__________________

(١٠١) أبو العباس عبد الله السفاح ، الذي حكم بين ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٧٤٩ م إلى ٩ حزيران (يونية) ٧٥٤ م.

(١٠٢) لقد حدث هذا ، في الحقيقة ، في عصر خلافة موسى الهادي ، إذ ثار في المدينة أحد أحفاد الخليفة علي بن أبي طالب ، واسمه الحسين. غير أن القوات العباسية الحقت بالتمردين هزيمة دامية يوم السبت ١٠ حزيران (يونية) ٧٨٦ م في موقع فخ قرب مكة. ومات الحسين في هذه المعركة. وكان من بين العلويين الذين نجوا قريبه ادريس بن عبد الله الذي أفلح في اللجوء إلى مصر ، ومنها إلى طنجة. ويبدو ان رئيس قبيلة أورابة البربرية التي كانت تحتل جبل زرهون استدعاه بعد قليل فوصل إلى وليلة ، وسميت بعدئذ وليلى ، وهو اليوم مولاي ادريس ، وكان وصوله في بداية ربيع الاول عام ١٧٢ ه‍ ، وبعد ٩ (أغسطس) ٧٨٨ م.

(١٠٣) وقد نودي به إماما وأميرا يوم الجمعة ٤ رمضان ١٧٢ ه‍ / شباط (فبراير) ٧٨٩ م.

(١٠٤) ٥٠ كم.

(١٠٥) ٧٩١ م.


ولدا أطلقوا عليه اسم أبيه ، ادريس. (١٠٦) وقد اختاره الأهالي ملكا (١٠٧) ولهذا تمت تربيته تحت إشراف طيب ونال أكبر رعاية.

ولما أصبح يافعا تعلم وتثقف على يد قائد شجاع كان يعمل عند أبيه ، اسمه راشد.

ومنذ سن الخامسة عشرة أخذ هذا الغلام يحقق الأعمال الرائعة المجيدة ، ففتح عدة بلاد ، ونما نموا كبيرا عدد العائلات والقوات التي انضوت تحت حكمه. واستبان له أن المسكن الذي خلفه له والده لم يعد كافيا. وهكذا قرر أن يترك الجبل ويؤسس مدينة يستقر فيها. ولتحقيق ذلك جمع بضعة مهندسين قاموا بالكشف على كل السهول المجاورة للجبل. فنصحوه ببناء المدينة في المكان الذي تقوم فيه الآن. فهنا تظهر ينابيع عديدة ونهر كبير ، ينبع من سهل لا يبعد كثيرا عن هذه الينابيع ، ويمر بين تلال صغيرة ويهبط في شعاب فاتنة الجمال بعد أن يجتاز السهل ، ويجري ضمن واد لطيف هادىء على مسافة ثمانية أميال (١٠٨). كما كانت هناك غابة كبيرة في الجنوب ، وكانت ـ من جهة أخرى ـ مفيدة لسدّ حاجات المدينة من الأخشاب والحطب. ولهذا السبب بنيت على الحافة الشرقية للنهر مدينة صغيرة كانت تضم حوالي ثلاثمائة أسرة ، وكانت تشتمل على كل ما هو ضروري نظرا لأهميتها.

ولما وافى ادريس أجله (١٠٩) بنى أحد أبنائه مدينة أخرى إلى الغرب منها ، صغيرة الأبعاد ، واقعة هي أيضا على مجرى النهر (١١٠)

ومع الزمن نمت كل من المدينتين حتى أنه لم يعد يفصل بينهما سوى طريق. وقد عمل عدة قواد ، من الذين كانوا يحكمون كلا من هاتين المدينتين ، ما في مقدورهم فعلا ، كي يوسع كل واحد منهم مدينته. ولكن ما إن انصرم قرن من الزمن على تأسيس فاس حتى تشكلت أحزاب مختلفة ونشبت الخلافات بين سكان المدينتين. فكان لكل واحدة أميرها. واستمرت بينهما حروب عديدة ، وظل الأمر على هذا المنوال مائة عام (١١١).

__________________

(١٠٦) في آب (أغسطس) ٧٩١ م.

(١٠٧) نودي به يوم الجمعة ٢٣ شباط (فبراير) ٨٠٤ م.

(١٠٨) ١٣ كم. ينبع النهر الذي يسقي المدينة من موقع رأس الماء ، غربي مدينة فاس.

(١٠٩) في ١٨ آب (اغسطس) ٨٢٨ م ، ويجدر التنوية هنا ان كل هذا التأريخ غير مؤكد ، ويختلف باختلاف المصادر.

(١١٠) ونرى هنا أن المؤلف كان يعرف ، على الرغم من اتخاذه رأيا تقليديا ، أن المدينتين لم تؤسسا على يد شخص واحد.

(١١١) فترة الأمراء الزناتيين.


وبعد ذلك حمل يوسف ، ملك لمتونة (١١٢) بجيش جرار على هذين الأميرين ، وقبض عليهما ، واذاقهما ميتة شنيعة (١١٣). وحينئذ فنيت أكثرية سكان المدينتين تقريبا ، وتخربتا ، وقتل من أهلهما ثلاثون ألف شخص. وقرر الملك يوسف ضم سكان المدينتين في واحدة وهدم السورين اللذين كانا يفصلان المدينتين احداهما عن الاخرى ، وبنى جسورا على النهر كي يمكن الانتقال بسهولة أكبر بين ضفة وأخرى. وهكذا لم تعد تؤلف المدينتان سوى واحدة مثلما قسمت هذه الأخيرة إلى عشرة أحياء ، أو بصورة أدق إلى عشر مناطق.

والآن وبعد أن اطلعتكم على أسباب بناء فاس ، وبيّنت لكم كيف بنيت ، سأقوم الآن بوصف حالتها الراهنة اليوم.

وصف دقيق ومتقن لفاس

مدينة فاس ، بكل تأكيد ، مدينة كبيرة جدا. فهذه المدينة محاطة بتلال وبأسوار عالية. وتكاد تكون ، جلها ، مشيّدة فوق تلال بحيث يكون قلب المدينة ، وحده ، هو القائم فوق منبسط من الأرض. ومن الأطراف الأربعة لا يوجد سوى منحدرات ، كما قلت ذلك. ويدخل الماء إلى المدينة من نقطتين ، فيمر أحد فرعي النهر من طرف فاس الجديد ، أي من الجنوب ، ويدخل الفرع الثاني ، إلى المدينة من الغرب.

وبعد دخول الماء إلى المدينة يتوزع بواسطة عديد من القنوات تسوق معظمه لبيوت سكان المدينة وإلى حاشية البلاط الملكي وكذلك إلى الأبنية الأخرى. ولكل جامع أو مسجد نصيبه من هذا الماء ، وكذلك الحال بالنسبة للفنادق والمستشفيات والمعاهد. ويوجد بجوار الجوامع مراحيض عامة ، وهي أبنية مربعة الشكل تحوي على طرفيها حجيرات ذات أبواب صغيرة. ويوجد في كل مرحاض حوض ، ويخرج الماء من الجدار ويجري في ميزاب من الرخام. ولما كان تيار الماء على قدر لا بأس به من السرعة ، فإن هذا الماء ينظف المراحيض ويكسح فضلاتها وأوساخ المدينة ويقذف بها في النهر. وفي وسط هذا البناء توجد بركة عمقها حوالي ثلاثة أذرع ، وعرضها أربعة ، وطولها اثنا عشر

__________________

(١١٢) يوسف بن تاشفين.

(١١٣) في ١٨ آذار (مارس) ١٠٧٠ م.


ذراعا (١١٤). وقد صنعت مجار حول البركة تصرف الماء الجاري لأسفل المراحيض ، وفي هذه المدينة مائة وخمسون مرحاضا من هذا النوع (١١٥).

وبيوت فاس مبنية بالآجر وبحجارة جيدة النحت. وأكثر هذه الحجارة بديعة ومزدانة بفسيفساء جميلة. وصحون البيوت ودهاليزها مبلّطة ببلاط مربع قديم مختلف ألوانه ، على هيئة الأواني المايورقية (١١٦). والمألوف هنا أن تطلى السقوف بألوان زاهية وبهيّة ، من طلاء لازوردي وذهبي. والسقوف مصنوعة من خشب وهي أفقية ، بشكل يسمح بنشر الغسيل بسهولة فوق سطح البيت الذي يتحول كله إلى مصطبة ينام عليها الناس في ليالي الصيف. وتتألف كل البيوت تقريبا من طابقين وللكثير منها ثلاثة. ولكل الطوابق شرفات كثيرة الزخرف وتسمح بالتنقل تحت سقف من غرفة لأخرى ، لأن صحن البيت مكشوف ، وسائر الغرف تطل عليه. وأبواب الغرف عريضة جدا وعالية كثيرا. ويصنع الأشخاص الميسورون مصاريع هذه الأبواب من خشب جميل للغاية ومنقوش بشكل متقن. ومن عادتهم أن يستعملوا في غرفهم خزائن ظريفة جدا مزدانة بالدهان في امتداد عرض الغرفة. ويحتفظون فيها بأثمن أشيائهم. ويفضل بعضهم ألا يزيد ارتفاع هذه الخزائن عن ستة أشبار (١١٧) بحيث يتمكّنون من مد فرشهم فوقها. ودهاليز هذه البيوت قائمة فوق أعمدة من آجر مكسوّة حتى منتصف ارتفاعها بالمايورقي. ونرى في بعض البيوت أعمدة من رخام. والعادة أن يبنى بين كل عمود وآخر قنطرة مغطاة بالفسيفساء. وتصنع الدعائم المقوّسة ، الموضوعة بين الأعمدة والتي تحمل سقوف الطوابق العليا ، من الخشب ، وهي مزخرفة بنقوش جميلة ومزيّنة بذوق رفيع بأصباغ

__________________

(١١٤) بما ان الذراع الروماني يساوي ٦٧ سم فيكون العمق حوالي المترين والعرض ٧ ، ٢ م والطول ٧ م. ولا يزال يوزع الماء في فاس القديمة حتى الآن على هذه الصورة.

(١١٥) «تعطينا هذه الفقرة فكرة عن الرقي الصحي في المدن الاسلامية القديمة كما في دمشق داخل الاسوار وحلب وهو ما لا يتوافر مع الاسف في كثير من مدننا الحديثة ولا سيما في الاحياء الاوروبية الطراز. اما في روما فكان اول من اوجد هذه المراحيض العامة هو الامبراطور فسباسيان الذي حكم بين ٦٠ و ٧٩ م وفرض رسوما معينة على هذه المراحيض العامة تجبى من الذين يترددون عليها. ولما اعترض ابنه تيتوس على ذلك مد يده لولده وفيها قطعة نقود وقال له شمّها! «الدراهم ليس لها رائحة». ويروى أنه حاول النهوض من فراشه في مرضه الأخير وتحامل على نفسه قائلا : «الامبراطور يجب أن يموت واقفا» (المترجم).

(١١٦) نسبة إلى جزيرة مايورقة التي كان يحكمها أولاد غانية الذين سبق ذكرهم. وهم من المرابطين. وهي إحدى جزر الباليئار الاسبانية.

(١١٧) يعادل الشبر المراكشي ٢١٦ مليمتر ، فالستة أشبار تساوي ٣ ، ١ م.


متنوعة الألوان. ونجد في كثير من المنازل أحواضا مستطيلة يتراوح عرضها بين ستة وسبعة أذرع (١١٨) وطولها بين عشرة واثني عشر ذراعا (١١٩) ويصل عمقها إلى ستة أو سبعة أشبار تقريبا (١٢٠) ، وكلها مكسوّة ببلاط مايورقي. وفي كل جانب من هذا الحوض ، في اتجاه الطول ، تثبت صنابير منخفضة مزدانة أيضا بالمايورقي. وبعض هذه النوافير مزدانة في وسطها بحوضة رخامية ، مثلما يرى من أمثالها في «فستقيات» أوربا. وعندما يمتلىء حوض كل حنفية يفيض منه الماء إلى برك كبيرة بواسطة مجار مغطاة تكون مبلّطة هي بدورها ، بصورة جميلة. وحينما تمتلىء الأحواض الكبرى بدورها ، يخرج الماء منها بواسطة مجار ، مصنوعة حولها ، وينصرف الماء نحو بواليع صغيرة. وهكذا يجري الماء من تحت المراحيض وينطلق نحو النهر. ويعتنى بالأحواض دوما كي تبقى صافية جدا ونظيفة للغاية ولا تستخدم إلا في فصل الصيف ، حيث يستحم فيها الرجال والنساء والأطفال. ومن المألوف أيضا بناء مقصورة فوق أسطح البيوت تضم عدة غرف صغيرة فسيحة وكثيرة الزخرف. وفي هذه المقصورة تجلس النسوة لأخذ راحتهن بعد أن ينتابهن التعب من عملهن ، إذ يستطعن من مكانهن أن يبصرن كل المدينة تقريبا. وفي فاس قرابة ستمائة جامع أو مسجد ، والمساجد تكون عبارة عن أبنية صغيرة للصلاة. ويوجد بين هذه الجوامع خمسون كبيرة ، جميلة البنيان ، مزدانة بأعمدة الرخام وبزخارف أخرى. ولكل منها صنابيره الجميلة جدا ، والمصنوعة من رخام ومن حجارة أخرى من التي لا يرى مثلها في إيطاليا. وتحمل كل الأعمدة عوارض مستورة بالفسيفساء أو بخشب منقوش بصورة أنيقة. وتكون سقوف الجوامع مصنوعة على الطريقة الأوروبية أي من ألواح خشب. أما الأرضية فتكون مبلّطة ومغطاة بحصر غاية في الجمال ومخيطة بمهارة لا تسمح برؤية شيء من البلاط. والجدران مغطاة بحصر كذلك ، ولكن على قدر قامة الانسان. ولكل من هذه الجوامع مئذنة يصعد إليها المكلفون بالأذان لإعلان الأوقات المعينة للصلوات العادية. ولا يوجد في الجامع أكثر من إمام تقع على عاتقه وظيفة إقامة الصلاة. ومن وظيفة هذا الإمام أيضا إدارة إيرادات جامعه ، إذ عليه أن يمسك حسابا دقيقا وأن يوزع الايرادات بين مستخدمي الجامع كأولئك الذين يتعهدون المصابيح التي توقد ليلا ، وكذلك الذين يقومون بحراسة الأبواب والمؤذنون الذين يؤذنون ليلا داعين إلى الصلاة من أعلى

__________________

(١١٨) ٤ م إلى ٧ ، ٤ م.

(١١٩) ٧ ، ٦ م إلى ٩ م.

(١٢٠) ٣ ، ١ م إلى ٥ ، ١ م.


المئذنة. ولكن الذين يؤذنون في أوقات صلاة النهار لا ينالون أي أجر ، وإنما يعفون من ضريبة العشر ومن جميع الضرائب الأخرى.

وفي هذه المدينة جامع كبير يسمى «جامع القرويين» (١٢١) ، وهو كبير للغاية إذ يبلغ محيطه ميلا ونصف (١٢٢) وله واحد وثلاثون بابا ، وكلها كبيرة وعالية ، وتبلغ المساحة المسقوفة فيه حوالي ١٥٠ ذراعا توسكانيا (١٢٣) طولا ، واقل بقليل من ثمانين ذراعا عرضا (١٢٤). ومنارته ، التي يؤذن فيها للصلاة ، عالية جدا بدورها. ويدعم السقف ثمان وثلاثون قنطرة في الطول وعشرون قنطرة في العرض. وتوجد حول بناء الجامع ، أي على الواجهات الشرقية والغربية والشمالية ، رواقات ، عرض الواحد منها ثلاثون ذراعا (١٢٥) وطوله أربعون ذراعا (١٢٦). ونجد تحت هذه الأروقة المخازن التي يحفظ فيها الزيت والأشياء الأخرى الضرورية لحاجات الجامع. ويوقد فيه كل ليلة ستمائة سراج ، ولكل قنطرة مصباحها. ويتجهز صف أقواس الوسط ، وخاصة تلك التي تؤدي للمحراب ، يتجهّز هذا الصف وحده بمائة وخمسين مصباحا. وقد صنعت الثريات من برونز مأخوذ من أجراس بعض المدن النصرانية التي فتحها ملوك فاس. وتظهر في داخل الجامع ، وعلى طول الجدران ، كراسي من مختلف الأنواع وهي التي يلقى منها بضعة أساتذة دروسا على الشعب في أمور دينه وفي شريعته الروحية ، وتبدأ هذه الدروس بعد الفجر بقليل وتنتهي بعد شروق الشمس بساعة. أما في الصيف فلا تلقى الدروس إلا ابتداء من منتصف الليل حتى الساعة الواحدة والنصف صباحا. ويكون التدريس في مواد تتعلق بالعلوم الأخلاقية والروحية المتصلة بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ويلقى الدروس الصيفية أشخاص عاديون. أما الدروس الأخرى فلا يعهد بها إلا لرجال أكفاء في هذه المواد. ويتقاضى كل منهم عن دروسه مرتبا طيبا ، وتقدم له الكتب والإضاءة. أما إمام الجامع فليس له من مهمة سوى إقامة الصلاة والإمامة بالمصلّين. وهو يمسك حسابا دقيقا ومتقنا عن الأموال والأملاك التي تقدّم للجامع لحساب الأولاد القاصرين ، كما يعتبر

__________________

(١٢١) نسبة إلى أهل القيروان.

(١٢٢) ٢٤٠٠ م.

(١٢٣) وهذا الذراع ٥٥١ مم أو ٥٥ سم فالمائة والخمسون ذراعا توسكانيا تساوي إذن ٨٣ مترا تقريبا.

(١٢٤) ٤٤ م.

(١٢٥) ٥ ، ١٦ م.

(١٢٦) ٢٢ م.


موزع الإيرادات المخصصة للفقراء سواء أكانت من الدراهم أم من الحبوب ، كي يوزعها في كل عيد على فقراء المدينة ، بصورة تتفاوت حسب أعبائهم العائلية.

ويتقاضى الذي يجبي عائدات الجامع دينارا واحدا في اليوم تعويضا عن هذه الوظيفة الرفيعة. ويعمل معه ستة أمناء أجر كل واحد منهم ستة دنانير شهريا ، بالإضافة إلى ستة رجال يحصّلون أموال إيجارات البيوت والدكاكين والعائدات الأخرى. وينال كل من هؤلاء خمسة بالمائة من الجبايات لقاء أتعابه. وفضلا عن ذلك يعمل تحت إمرة الجابي مقدار عشرين موظفا مكلّفين بالذهاب للضواحي كي يقدموا للفلاحين ولأرباب الكروم والبساتنة ما هم بحاجة إليه. ويرتفع أجر هؤلاء الموظفين إلى ثلاثة دنانير بالشهر.

وفي خارج فاس ، وعلى مسافة ميل تقريبا ، يوجد حوالي عشرين فرنا لحرق الكلس ومثل عددها من الأفران لشيّ القرميد لسدّ حاجات بناء الجامع والأملاك التابعة له.

ولهذا الجامع دخل مقداره مائتا دينار يوميا ، ولكن ينفق أكثر من نصف هذا المبلغ على ما ذكرته. كما أن كل جامع أو مسجد لا إيراد له (١٢٧) يستمد من جامع القرويين الكثير من الأشياء التي يحتاج إليها. وفضلا عن ذلك يقدم هذا الجامع ما هو ضروري للصالح العام من المدينة ، إذ ليس «للعاملية» (١٢٨) أي دخل كان من أي نوع. وقد اعتاد ملوك فاس في أيامنا أن يقترضوا مبالغ ضخمة من إمام الجامع ، بدون أن يردوها مطلقا.

وفي فاس أحد عشر معهدا للتلاميذ ، حسنة البناء للغاية ، مع العديد من زخارف الفسيفساء والخشب المنقوشة. وبعضها مبلط بالرخام ، وبعضها الآخر بالمايورقي ويضم كل معهد عددا من الغرف ، فهذا المعهد يحوي مائة غرفة أو أكثر ، وذاك أقل من ذلك. وقد شيدت كلها على أيدي مختلف الملوك المرينيين. وأحد هذه المعاهد عجيب حقا من حيث أبعاده وجماله. وهذا المعهد هو الذي بناه الملك أبو عنان (١٢٩). ويرى الناظر إليه بركة فاخرة من رخام سعة فستقيتها بطتين من الماء (١٣٠). ويخترق هذا المعهد جدول ماء

__________________

(١٢٧) أي العوائد الناتجة عن الاحباس او العقارات الموقوفة.

(١٢٨) أي البلدية

(١٢٩) أبو عنان فارس ، وهي مدرسة بو عنانية المشهورة ، التي بنيت بين ١٣٥٠ و ١٣٥٥ م.

(١٣٠) البطة تعادل ٤ ، ٩٣٣ لترا ، أي أن سعة الفستقية كان حوالي ١٨٥٠ لترا.


يجري في قناة صغيرة قاعها وحوافيها مبلطة بالرخام وبالمايورقي. وفيه ثلاثة أروقة مسقوفة تتحلى بجمال لا يتصوره العقل تقوم حولها أعمدة مثمنة الأضلاع ومثبتة بالجدران ، أعمدة منمقة بألوان متباينة. والقناطر الواقعة بين الأعمدة مسكوّة بالفسيفساء وبالذهب الصافي وباللازورد. والسقف من خشب مجزع مصنوع صنعا منظما جميلا. وقد أقيم بين هذه الأروقة والصحن شبك من خشب على شكل ستائر خشبية ، بحيث لا يرى الذين هم في الصحن الأشخاص الموجودين في الغرف المطلة على هذه الأروقة. وجميع الجدران على ارتفاع قامة رجل وامتداد يديه ، مكسوّة أيضا بالبلاط المربع المايورقي. هذا وقد نقشت على كل كسوة هذه الجدران من البلاط في سائر المعهد كتابات شعرية تروي تاريخ تأسيس المعهد والعديد من المدائح في هذه البناية وبانيها الملك أبي عنان. وقد كتبت هذه فوق البلاطات المايورقية بحروف كبيرة سوداء فوق أرضية بيضاء مما يتيح قراءتها من مسافة بعيدة نوعا ما. وكل أبواب المعهد من البرونز المنقوش بدقة مع كثير من التزيينات ، كما أن أبواب الغرف من خشب منقوش. وفي القاعة الكبرى المخصصة للصلاة يوجد منبر ذو تسع درجات ، مصنوع برمته من خشب الأبنوس ومن العاج ، وكأنه قطعة من أثاث رائعة حقا.

ولقد سمعت من أفواه عدد من أساتذة هذا المعهد ، الذين يؤكدون أنهم سمعوا روايته من أساتذتهم ، أن الملك أبا عنان أراد ، عند الفراغ من بناء هذا المعهد ، رؤية سجل النفقات التي تكلفها هذا البناء. وما كاد يتصفح بضع وريقات حتى وجد مجموعا يقارب أربعين الف دينار ، فأخذته الدهشة ، وعمد دون أن يتابع القراءة ، إلى تمزيق السجل ، ورماه في القناة التي تخترق المدرسة وهو يردد بيتين من الشعر لأحد شعرائنا اللذين يعبران عن هذه الحكمة :

الشيء الغالي والجميل ليس غاليا ومهما دفع الانسان فيما يعجب ، فإن ما دفعه يقصر دائما عن قيمته.

وكان يمسك بحساب هذه النفقات خازن يدعى ابن الحاج ، ويروي أن مجموعها ارتفع إلى أربعمائة وثمانين ألف دينار. ولكل مدارس فاس الأخرى بعض الشبه مع هذه.

ويوجد في كل معهد أساتذة من مختلف العلوم. فهذا يعطي درس الصباح ، وذلك


درس المساء. ولجميعهم مرتبات ممتازة أوصى بها مؤسس المعهد. وكان كل طالب ، في الماضي ، من طلاب هذه المدارس معفى من مصروفاته وكسائه خلال سبعة أعوام. أما الآن فليس له سوى السكن ، إذ قضي على الكثير من الأملاك والبساتين في خلال حروب سعيد والتي كانت عائداتها مخصصة لهذا الاستعمال. ولم يبق حاليا سوى دخل بسيط أمكن معه تسديد معاش الأساتذة الذين يتقاضى بعضهم مائتي دينار والبعض مائة وآخرون دون ذلك. ولربما كان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى تدهور قيمة فاس الثقافية ، وكذلك كل مدن افريقيا.

ولا يقيم في هذه المعاهد سوى بعض التلامذة الغرباء عن المدينة ، والذين يتحقق معاشهم بفضل صدقات أهل فاس والمناطق المجاورة. وإذا تم قبول طالب من فاس فإنه لن يجد له رفيقا من مواطنيه. وعندما يريد أستاذ إلقاء درسه يقوم تلميذ في البدء بقراءة النص ، ثم يشرحه الأستاذ ويضيف إليه بعض آرائه ويشير للصعوبات المعترضة ، وأحيانا يتناقش التلاميذ فيما بينهم بحضور الأستاذ حسب موضوع الدرس.

المارستانات والحمّامات الموجودة في فاس

تحوي مدينة فاس بضعة مارستانات لا تقل جمالا عن المعاهد التي سبق ذكرها. وكان من عادة الغرباء في الماضي أن يجدوا فيها المأوى لمدة ثلاثة أيام. ويوجد كذلك عدة مارستانات في خارج الأبواب ، لا تقل بهاء عن تلك التي تقع في داخل المدينة. وقد كانت هذه المارستانات فيما مضى غنية جدا ، ولكن في زمن حرب سعيد ، نصح بعضهم الملك ببيع أوقافها وأملاكها لما أصبح بحاجة ماسة للمال. ولما رفض السكان قبول ذلك تقدم أحد نواب الملك وأفهمه أن هذه المارستانات كانت قد تأسست بفضل الصدقات التي كانت تمنح من أسلاف الملك الحالي ، ونظرا لتعرض الملك لخطر ضياع مملكته ، فمن الواجب بيع الأملاك العقارية لصدّ العدو ؛ وبمجرد انتهاء الحرب يمكن شراؤها بسهولة من جديد ، ولكن الملك توفي قبل أن يتمكن من شراء أي عقار جديد. وهكذا ظلت المارستانات محرومة تقريبا من أية وسائل مادية. ومع ذلك تمنح فيها الضيافة لبعض الأشراف الفقراء ، ولبعض العلماء الغرباء ، وهذا للحفاظ على الغرف بحالة حسنة. أما بالنسبة للمرضى الغرباء فليس لديهم في أيامنا أكثر من مارستان واحد. ولا تقدم لهم العناية اللازمة ولا الأطباء. وليس للمريض البائس سوى غرفته وطعامه وبعض الخدم


إلى أن يبل من مرضه أو يموت. وفي هذا المارستان بضع غرف مخصصة للمجانين ، أي لأولئك المخبولين الذين يقذفون بالحجارة أو يرتكبون أشكالا أخرى من الأذى. وهنا يقيّدون فيه ويكبلون بالأغلال والسلاسل. وتكون حواجز هذه الغرف المطلّة على الممشى وعلى داخل البناية مسوّرة بعوارض خشبية متينة جدا. وعند ما يرى الشخص ، المكلف بتقديم الطعام لهؤلاء المجانين ، نوعا من هياج لدى أحدهم ، فإنه يكيل له عدة ضربات متوالية من عصى يحملها دوما لهذا الغرض. وقد يحدث أن يقترب أحيانا أحد الغرباء من هذه الغرف ، فيناديه المجانين ويشكون له استمرار احتجازهم في السجن رغم شفائهم من مرضهم ، وأنهم يتعرضون يوميا لألف معاملة سيئة من حراسهم. وإذا وثق المار بكلام أحدهم واتكأ على حافة نافذة مهجع أحدهم ، فإن المجنون يمد يده ويمسك بتلابيبه ويقوم باليد الأخرى بتمريغ وجهه بالبراز ، إذ على الرغم من وجود مرحاض لدى هؤلاء المجانين ، فإنهم ، في الغالب ، يقضون حاجتهم في وسط الحجرة وعلى الحراس تنظيف هذه الأقذار باستمرار. ولهذا يناشد الحراس الزوار الغرباء بأن يأخذوا حذرهم وألّا يقتربوا كثيرا من غرف المجانين. وأخيرا يحوي هذا المارستان جهازا للموظفين الذين يسدون حاجاتهم ، كالأمناء والممرضين والحراس والطباخين ، والذين يهتمون بالمرضى. ولكل من هؤلاء المستخدمين مرتب طيب. وقد عملت مدة عامين في هذا المارستان ، في سن الشباب ، وشغلت وظيفة كاتب ، وذلك حسب ما هو مألوف بين صغار الطلبة ، وكانت هذه الوظيفة تدرّ عليّ مبلغ ثلاثة دنانير في الشهر (١٣١).

وفي فاس مائة حمام جيدة البنيان ولا تنقصها العناية. وبعضها صغير والآخر كبير. ولجميعها نفس الطراز ، أي تتألف كل منها من ثلاث حجرات ، أو بالأحرى ثلاث قاعات. وتقع في خارج هذه الحجرات مقصورات صغيرة مرتفعة نوعا ما ، يصعد إليها بخمس أوست درجات. وهنا يخلع الناس ثيابهم ويتركونها فيها. وفي وسط الحجرات ، وضعت صنابير فوق أحواض ، ولكنها كبيرة جدا. وعند ما يريد أحدهم أن يستحم في إحدى هذه الحمامات ، فهو يدخل من أول باب ثم يلج في غرفة باردة ، وحيث توجد بركة صغيرة لتلطيف حرارة الماء عند ما يكون شديد السخونة. ومن هنا ينتقل عبر باب آخر إلى غرفة ثانية تكون أكثر سخونة بقليل ، وحيث يقوم الخدم بغسل جسمه وتنظيفه. ومن ثم يجتاز هذه الغرفة كي ينتقل إلى الثانية ، والتي تكون حارة كثيرا ، وحيث يفرز

__________________

(١٣١) لا يزال هذا المارستان باقيا حتى أيامنا ويعرف باسم مارستان سيدي فريج.


المستحم العرق بعض الوقت (١٣٢). وهنا يوجد المرجل المشيّد بعناية بحجارة منحوتة ، وفيه يسخن الماء ويؤخذ الماء الساخن بسطول خشبية (١٣٣). ولكل زبون الحق بسطلين من الماء. ومن يرغب أكثر من ذلك عليه أن يدفع للخادم مكافأة قدرها بيوكشين أو على الأقل واحد فقط (١٣٤) ولكن لا أكثر من ربعيتين (١٣٥) لصاحب الحمام أو الحمّامي. ويسخن الماء بالزبل. ويعمل لدى الحمّامي عدة خدم وبغّالة من الذين يجوبون أرجاء المدينة ويشترون الروث من الزرائب. ومن ثم ينقلونه إلى خارج المدينة ويكدّسونه على شكل كومة ، ويتركونه ليجف مدة شهرين أو ثلاثة وبعدئذ يستخدم عوضا عن الحطب في تدفئة الغرف أو ماء الحمامات. وللنساء أيضا حماماتهن الخاصة بهن ، ولكن الكثير من الحمامات يعمل للرجال وللنساء ، فللرجال ساعات محدودة ، أي بين الساعة الثالثة والثانية بعد الظهر ، أو أكثر من ذلك أو أقل ، حسب الفصل. أما بقية اليوم فتخصص للنسوة. وعند ما تشغل تلك النسوة الحمامات يمدد حبل على عرض باب الحمام إشارة فلا يدخل رجل إليها. وإذا أراد أحدهم قول شيء لزوجته ، فعليه أن ينادي إحدى خادمات الحمام ، وهن زنجيات ، كي تقوم بتنفيذ الوصية.

هذا وللنساء كما للرجال عادة تناول الطعام في الحمام ، وفي أغلب الأحيان عادة التسلية فيها بمختلف الطرق كما يغنّون فيها بصوت عال. ويدخل كل الشبان تقريبا للحمام عراة ، دون أن يكون لدى الواحد أي حياء من الآخر. ولكن الرجال من علية القوم ومن مستويات اجتماعية معينة يأتزرون بمئزر ، ولا يجلسون في القاعات المشتركة ، بل ينفردون في غرف خاصة منمقة ومحفوظة دوما بحالة نظيفة جدا للشخصيات البارزة.

هذا وقد نسيت أن اذكر أنه حينما يغسّل خدم الحمام أحدهم (١٣٦) فإنه يطلب إليه أن

__________________

(١٣٢) هذه الحمامات التي يصفها الحسن الوزان هي نفسها ما نسميه بالحمامات التركية الموجودة حاليا في الأحياء القديمة من مدن المشرق العربي مثل حلب ودمشق وحماة وحمص ، ويطلق على الغرفة الباردة اسم البراني والوسطى الوسطاني والداخلية الجواني أو بيت النار (المترجم).

(١٣٣) هذه الطريقة غير معروفة في حمامات المشرق الأكثر إتقانا ، لأن المرجل يقع في غرفة في خارج الحمام تدعى القميم. وهناك شخص معين يدعى الوقاد يرمي بمقادير من الروث الجاف تدريجيا حسب الحاجة لتسخين الماء (المترجم).

(١٣٤) وحدة نقدية إيطالية تساوي نحو ٧ سنتيم ذهب.

(١٣٥) ٨ سنتيم ذهب.

(١٣٦) ويدعى في حمامات حلب «المكيّس» ، أي الذي ينظف الزبون بكيس صوفي خشن يكشط به الأجزاء التالفة من بشرة جسمه. (المترجم).


يستلقي على ظهره أو بطنه ثم يقومون بتدليكه ، تارة بنوع من مراهم منشّطة ، وتارة بأدوات خاصة تنزع كل الأدران. ولكن عند ما يجري تغسيل أمير ، يعمد إلى بطحه فوق سجادة من لبّاد ، ويسند رأسه فوق نوع من وسادة خشبية مغطاة هي أيضا بلبّاد. ويوجد في كل حمام عدة حلاقين يدفعون مبلغا معينا للحمّامي كي يحتفظوا عنده بأدواتهم ولكي يمارسوا مهنتهم في حمامه.

ومعظم هذه الحمامات تخص الجوامع والمدارس وتدفع لها إجارات مرتفعة تصل بعضها إلى مائتي دينار ، والآخر مائة وخمسين ، أو أكثر من ذلك أو أقل حسب حجم هذه العقارات.

هذا ولا يجوز لنا أن نغفل عن ذكر عادة الفتيان ، الذين يعملون في هذه الحمامات ، في الاحتفال سنويا حسب الطريقة التالية : يدعو هؤلاء الفتية كل أصدقائهم ويذهبون إلى خارج المدينة ، مصحوبين بالموسيقيين الذين يعزفون بالناي ويقرعون الطبل. ثم يقتلعون بصلة زنبق يضعونها في إناء نحاسي جميل يسترونها بسماط مغسول قبل قليل. ثم يعودون إلى المدينة حيث يقصدون باب الحمام على أصوات العزف. وعندئذ يضعون البصلة في قفة يعلقونها على الباب قائلين : «سيكون هذا سبب ازدهار الحمام إذ سيكثر زبائنه». أما من وجهة نظري ، يبدو لي أن هذا يستحق أن نسميه بالأحرى «أضحية» ، من النوع الذي كان يمارسه قدامى الأفارقة في العصر الذي كانوا فيه وثنيين ، واستمرت هذه العادة حتى أيامنا.

ونجد كذلك بعض أسماء الأعياد التي اعتاد النصارى الاحتفال بها ، والتي لا يزال الناس يعملون بها اليوم ، ولكن لا يدري أحد شيئا عن سبب التمسك بهذه الأعياد. ففي كل مدينة يحتفل ببعض الأعياد والعادات التي خلّفها النصارى ، منذ الزمن الذي كانوا يحكمون فيه افريقيا. وسأشير إليها إذا سنحت لي الفرصة.

الفنادق

تحوي فاس مائتي فندق فخمة البنيان للغاية. فبعضها يكون فسيحا جدا ، مثل التي تقع بجوار الجامع الكبير ، وتتألف كلها من ثلاثة طوابق. ويحوي بعضها مائة وعشرين غرفة ، والبعض أكثر من ذلك. وتتجهز كلها ببرك ماء وبمراحيض مع بالوعاتها


لتفريغ الأقذار. ولم أر مطلقا في إيطاليا أبنية مماثلة ، اللهم إلا في معهد الأسبان الموجود في مدينة بولونيا (١٣٧). وفي قصر الكاردينال في دير الخضر الواقع في روما. وتطل كل أبواب الغرف على ممشى.

ولكن على الرغم من بهاء هذه الفنادق واتساعها ، فهي تشكل مسكنا مقيتا ، لأنها تخلو من السرر والفرش. فصاحب الفندق لا يقدم للنزيل سوى الغطاء وحصيرا للنوم. وإذا أراد هذا أن يأكل فعليه أن يشتري أغذيته ويقدمها للطبخ.

هذا ولا يقطن الغرباء في هذه الفنادق ، بل يسكنها جميعا الرجال المترملون من أهل المدينة ، من الذين لا بيوت لهم ولا أقارب. فيشغلون غرفا مفردة ، أو ينزل اثنان في غرفة ويعدون بأنفسهم فراشهم ويصنعون طعامهم بيدهم.

وأسوأ ما في هذه القضية هو مساكنة بعض الأفراد الذين يؤلفون حثالة بشرية تدعى «حيوة». وهم ذكور يكتسون كالإناث ويتزينون كالنساء تماما ، فيحلقون لحاهم ويصل بهم الأمر إلى تقليد النساء في طريقة كلامهن. ولكن ماذا أقول في أسلوب كلامهم؟ فهم يرققون أصواتهم ويخضعون بالقول. ولكل من هذه الكائنات الدنيئة صاحب يتسرّاه ويعاشره كما يعاشر الرجل المرأة. ولهؤلاء الناس في الفنادق زوجات أخلاقهن هي أخلاق المومسات في بيوت الدعارة في أوروبا. ولدى هؤلاء ترخيص بيع الخمر وشرائه دون أن يعترضهم موظفو الحاشية.

وهذه الفنادق هي دائما مقصد أولئك الذين يحيون أكثر ضروب الحياة دناءة. فالبعض يذهب إليها ليثمل والآخر لكي يشبعوا شبقهم من نسوة مرتزقات ، والبعض الأخير كي يكون فيها بمنأى عن الحاشية بسبب تصرفاتهم غير الشرعية والمشينة والتي يجدر بنا أن نضرب عنها صفحا.

ولأرباب الفنادق أمين ، ويدفعون نوعا من أتاوة لنقيب المدينة وحاكمها. وفضلا عن ذلك فإن عليهم ، عند اللزوم ، أن يقدموا لجيش الملك أو الأمراء قسما هاما من مستخدميهم كي يطهوا طعام الجند ، لأنه لا يوجد كثيرون غيرهم قادرين على مثل هذه الخدمة.

__________________

(١٣٧) مدينة في شمالي إيطاليا شرق جنوة سبق للحسن الوزان أن درّس اللغة العربية في معاهدها.


ولولا أن القانون الذي يلزم المؤرخ به نفسه يدفعني لقول الحقيقة لكان باستطاعتي بكل تأكيد أن أغفل بكل سرور هذا الجزء من وصفي ، ولرجحت السكوت عن اللوم الذي تستحقه هذه المدينة التي نشأت فيها وترعرعت. والحقيقة إذا استثنينا هذا العيب ، فإن مملكة فاس تضم أناسا على درجة عالية من الشرف تفوق كل ما هو في افريقيا. وليس لهؤلاء الأشخاص أية علاقة مع أرباب الفنادق الذين ذكرتهم. فهؤلاء لا يتردد عليهم سوى السفلة من أحقر الافرازات. ولا يبادلهم الكلام أي تاجر أو صانع مثقف. كما أن من المحظور عليهم دخول الفنادق القريبة من الجامع ، وكذلك الأسواق والحمامات وبيوت الناس. كما أنهم لا يستطيعون إدارة الفنادق المجاورة للجامع حيث يسكن التجار من طبقة سامية. وبتمنى لهم كل الناس الموت. ولكن نظرا لأن الأمراء يستخدمونهم لحاجات الجيش ، كما سبق ، فهم يتركونهم يعيشون تلك الحياة الوقحة البغيضة.

الطواحين

يوجد في داخل فاس قرابة أربعمائة طاحون ، وهي أبنية تحوي عددا من الرحيات ، إذ يقدّر عدد الرحيات بحوالي الالف. بمعنى أن الطاحون يتألف من قاعة كبيرة قد تحوي أحيانا أربعا أو خمسا أو ست رحيات. ويأتي قسم من سكان الضواحي لطحن قمحهم في المدينة ، كما يوجد بعض الباعة الذين يسمون الطحانة ، ولهؤلاء طواحين مستأجرة ، ويشترون الحب ، ويطحنونه ثم يبيعون الدقيق في دكاكين لهم مستأجرة هي أيضا. ويجنون من هذه المهنة ربحا طيبا لأن كل الصناع الذين لا تكفي مواردهم للتموّن بالحب يشنرون الطحين من هذه الدكاكين ويصنعون خبزهم في بيوتهم. ولكن الاشخاص المرموقين يشترون القمح ويطحنونه في بعض المطاحن الخاصة بأبناء المدينة ويدفعون بيوكشين (١٣٨) للكيل. وأكثرية هذه الطواحين أحباس (١٣٩) للجوامع وللمعاهد. والقليل منها أملاك فردية خاصة. وإجارتها مرتفعة تبلغ دينارين عن كل رحى.

__________________

(١٣٨) أي ١٥ سنتيم ذهب.

(١٣٩) أي أوقاف خيرية.


الصّناع المتنوّعون ، الدكاكين ، الأسواق

تنفصل جماعات المهن في فاس بعضها عن بعض. وتقع أشرفها حول إطار الجامع وبالقرب منه.

وهكذا يشغل كتّاب العدل حوالي ثمانين دكانا بعضها ملتصق بجدار الجامع والبعض الآخر واقع في واجهته. وفي كل دكان كاتب عدل.

وإلى الغرب من ذلك توجد المكتبات التي تشغل ثلاثين دكانا. وإلى الجنوب يوجد باعة الأحذية الذين يتوزعون في مائة وخمسين دكانا. ويشتري هؤلاء الباعة الأحذية والخفوف من الحذائين بالجملة ويعيدون بيعها بالقطاعي (١٤٠). وإلى الشرق من الجامع يوجد باعة الأواني النحاسية ومن النحاس الأصفر. وفي مواجهة الباب الرئيسي للجامع ، في الغرب ، تقع دكاكين باعة الفواكه الذين يشغلون خمسين دكانا يبيعون فيها الثمار. ويأتي بعدهم باعة الشمع الذي يصنعون منه أبدع الاشكال التي رأيتها في حياتي. ثم يأتي باعة الخيطان ، ولكن لهؤلاء القليل من الدكاكين.

ونجد بعدئذ باعة الزهور الذين يبيعون بالإضافة لذلك الليمون بنوعيه. وعند ما يرى الانسان كل هذه الزهور الكثيرة الأنواع يخال نفسه في أبهى المروج وأكثرها نضرة في العالم ، أو يرى أمامه لوحة مرسومة بأكثر الألوان تنوعا. ونجد هنا حوالي عشرين دكانا لأن الذين اعتادوا شرب النبيذ يفضلون أن يروا بعض الزهور إلى جانبهم.

وبعد الزهّارين يأتي باعة الحليب الذين تزدان دكاكينهم بآنية من المايورقي (*). ويشترون الحليب من البقارة الذين يعلفون ابقارا لهذه التجارة. ويرسل هؤلاء البقارة في صبيحة كل يوم حليبهم في أوعية من خشب مطوقة بالحديد ، تكون ضيقة جدا عند فتحتها وعريضة في قعرها ، ثم يبيعونه في دكاكينهم. أما الحليب الذي يتبقى لدى هؤلاء الحلّابين ، في المساء وفي الصباح ، فيشتري بعض التجار الذين يصنعون زبدة من قسم منه ويتركون الباقي ليتحمض ويبيعونه للزبائن على شكل حليب حامض وفاتر. واعتقد أنه يباع في فاس يوميا مقدار خمسة وعشرين بطة (١٤١) ما بين حليب طازج وحامض.

__________________

(١٤٠) أو بالمفرّق كما يقال فى بلاد الشام.

(*) او المالقي كما يسمى في بلاد الشام.

(١٤١) كيل ايطالي يعادل ٩٣٨ لترا فالخمسة والعشرون من هذا الكيل تعادل اكثر من ٢٣٠٠ لترا واكثر من ٢٣ طن.


وبعد الحلّابة تقع دكاكين باعة القطن التي يبلغ عددها ثلاثين دكانا. وإلى الشمال من ذلك توجد دكاكين باعة الاشياء المصنوعة من القنب وهم الذين يبيعون الحبال والخيوط والامراس وأرسان الخيل. وفي وراء أولئك تقع حوانيت صناع النطاقات الجلدية والأحذية وأرسان الخيول الجلدية المطرزة بالحرير. وإلى أبعد من ذلك نجد صناع أغماد السيوف والسكاكين وصداري الخيل. ويأتي بعدهم باعة الملح والجص الذين يشترون بالجملة ويبيعون بالمفرّق. ثم يأتي باعة الأواني الخزفية وخزفياتهم بديعة ذات ألوان جميلة ، وبعضها وحيدة اللون وبعضها مطلية بلونين. ولهؤلاء الباعة مائة دكان. ثم يأتي أولئك الذين يبيعون اللجامات والأعنّة والسروج وحزامات البطون والركابات ويشغلون حوالي ثمانين دكانا. ثم نصل إلى الموقع الذي يتواجد فيه الحمّالون ، ويبلغ عددهم ثلاثمائة ولهم أمين ، أي رئيس ، يختار كل أسبوع أولئك الذين عليهم أن يشتغلوا وأن يكونوا تحت تصرف الجمهور في أثناء الاسبوع. ويجمع هؤلاء الرجال دراهم أرباحهم في صندوق له عدة مفاتيح محفوظة لدى كل رئيس مجموعة. وبانتهاء الاسبوع تقسم الدراهم بين أولئك الذين اشتغلوا ويحب هؤلاء الحمالون بعضهم بعضا كأنهم اخوة. وإذا توفي أحدهم تاركا ولدا صغير السن ، اشتركوا سوية في تأمين معيشة الزوجة إلى أن تتزوج ثانية إذا رغبت ، ويبذلون عناية حنونة وسريعة تجاه الأولاد إلى أن يصبحوا في سن يتدربون فيه على مهنة ما. وعندما يتزوج أحدهم أو يرزق بمولود يدعو كل رفاقة لوليمة ويقدم كل واحد منهم هدية بالمقابل. ولا يستطيع أي شخص أن يمارس مهنة حمّال دون أن يدعو أولا كل رفاقه إلى وليمة. وإذا لم يقم بذلك فلن يتقاضى أكثر من نصف حصة الآخرين. وقد حصل هؤلاء الحمالّون من الملوك على امتياز ينص على اعفائهم من أية ضريبة أو رسم ، حتى أنهم لا يدفعون أجرا عن خبز عجينهم عند الخبازين. وإذا ارتكب احدهم جريمة ما عقابها الإعدام فلا ينفّذ فيه ذلك الحكم أمام الملأ. ويعمل هؤلاء الناس وهم لا بسون ثيابا قصيرة ذات لون وحيد. ويلبسون في خارج اوقات عملهم كما يرغبون. وهم أناس شرفاء على خلق كريم.

وتقع ساحة الأمناء (١٤٢) خلف موضع الحمّالين ، وكذلك القضاة الذين لهم سلطة على كل السلع الإستهلاكية. وتقوم في وسط هذه الساحة حظيرة من قصب مربعة الشكل يباع فيها الجزر واللفت. وهذه من أكثر الخضر رواجا في فاس ، بحيث لا يمكن شراؤها

__________________

(١٤٢) الأمناء أو نقباء المهن ورئيسهم المحتسب.


مباشرة من البساتنة باستثناء بعض الأشخاص المعينين الذين يدفعون رسما خاصا إلى الجمرك. ونجد هنا في كل يوم مقدار خمسمائة حمل من الجزر ومن اللفت ، وأحيانا أكثر من ذلك ، وتباع منها مقادير تجل عن الحصر ، ومع أن هذين النوعين من الخضر مرغوبان جدا ، فإن مبيعهما يكون بأسعار غاية في الانخفاض ، أي حوالي ثلاثين أو على الأقل عشرين رطلا (١٤٣) مقابل بيوكو واحد. (١٤٤) ويباع الفول الاخضر في موسمه بسعر رخيص جدا. وتقوم حول الساحة دكاكين تباع فيها «الشعيرية» ودكاكين أخرى تصنع كرات من اللحم المفروم تقلى بالزيت مع كمية من التوابل. ويبلغ حجم كل كرة حجم التينة العادية. ويباع الرطل منها بستة ربعيات (١٤٥) ، وتصنع من قطع اللحم البقرية غير المرغوبة.

ويأتي بعد هذه الساحة ، إلى الشمال ، سوق العشابين ، وفيه يباع القرنبيط واللفت وأنواع الخضر الأخرى التي تؤكل مع اللحم. ويضم هذا السوق أربعين دكانا. ثم يأتي سوق الدخان ، حيث تباع الزلابية المقلية بالزيت ، وهي شبيهة بذلك الخبز المعسول الذي يباع في روما. ولدى باعة الزلابية في دكاكينهم أدوات عديدة وبضعة غلمان ، لأنهم يصنعون هذه الزلابية بكثير من الحذق. ويبيعون منها كل يوم كمية كبيرة لانها تؤكل كطعام إفطار ، ولا سيما في أيام العيد وقبل ايام الصوم. وتؤكل عادة مع لحم مشوي أو مع العسل أو مع ذلك الحساء القبيح المحضرّ بالطريقة التالية : يسحق اللحم ثم يطبخ ثم يهرس من جديد ويصنع منه حساء سائل يلوّن بالتراب الأحمر.

هذا ويباع كذلك لحم مقلي وأسماك مقلية ونوع آخر من الخبز الخفيف ، مصنوع من أشرطة رقيقة عريضة ومتموجة ، معجون بالزبدة ويستهلك أيضا مع السمن والعسل. كما تباع كذلك كوارع مطبوخة (١٤٦).

ومن عادة الفلاحين أن يتناولوا في الدكاكين هذه الأطعمة الغليظة صباحا وفي ساعة مبكرة قبل أن ينصرفوا الى أشغالهم في الحقول.

__________________

(١٤٣) أي ١٠ كجم أو ٧ كجم.

(١٤٤) بيوكو عملة ايطالية كانت تعادل ٧ سنتات من الذهب.

(١٤٥) أو كواتريني ، عملة ايطالية قديمة تعادل ١٢ سنت ذهب.

(١٤٦) وهي كوارع الغنم والماعز وتدعى في دمشق ايادي وفي حلب مقادم.


وبعد هؤلاء الباعة يأتي أولئك الذين يبيعون الزيت ، والسمن المالح ، والعسل ، والجبن الطازج والزيتون والجزر والقبّار المصبّر (١٤٧). ولهؤلاء دكاكينهم المليئة بالأوعية المصنوعة من الخزف المايورقي ومن أدوات قيمتها أكبر من محتواها من البضاعة. وتباع جرار السمن والعسل بالمزاد ، والمنادون هم حمّالون مختصون يكيلون الزيت عندما يبيعونه بالجملة. واستيعاب هذه الجرار هو مائة وخمسون رطلا ، والخزافون ملتزمون بصنع أوعيتهم على قدر هذا المحتوى بالضبط. ويشتري رعاة المدينة منهم هذه الأوعية ويملئونها ثم يعيدون بيعها في فاس.

وعلى مسافة قريبة يوجد الجزارون الذين يشغلون أربعين دكانا مرتفعة نوعا ما ومبنية على هيأة دكاكين الحرف الأخرى. ويقومون هنا بتقطيع اللحم وبوزنه في الموازين. هذا ولا تذبح الحيوانات في دكاكين الجزارة ، بل في مسلخ يقع بجوار النهر ، حيث يتم سلخها ثم تحمل الى الدكاكين بواسطة حمّالين ملحقين بالمسلخ. ولكن قبل أن يتم نقلها يقتضي الأمر عرضها على رئيس الأمناء ، أي المحتسب ، الذي يتفحصها ويصدر نشرة يكتب عليها السعر الذي يجب ان يباع اللحم بموجبه ، وعلى الجزار أن يلصق هذه النشرة على اللحم بحيث يستطيع كل الناس ان يروها وأن يقرءوها.

ونجد بعد الجزارين سوق الأقمشة الصوفية الغليظة البلدية. ويتألف هذا السوق من مائة دكان. وإذا جلب أحدهم قطعة قماش بقصد بيعها ، عليه أن يعطيها للمنادي الذي يضعها على كتفه ويذهب من دكان لآخر مناديا على الثمن (*). وفي هذا السوق ستون من هؤلاء المنادين. ويبدأ هذا البيع العلني في الظهيرة وينتهي في ساعة متأخرة من المساء. ويتقاضى المنادي بيوكشين (١٤٨) عن كل دينار. ويجني باعة هذا الصنف أرباحا طيبة.

ثم يأتي شاحذو الاسلحة من سيوف وخناجر وحراب ... الخ ، ويقوم بعضهم بصقلها ثم بيعها.

وبعد هذا نجد الصيادين الذين يصطادون أسماكهم من نهر فاس ومن النهر الواقع في ضواحيها وهو نهر سبو وهم يبيعون اسماكا كبيرة وجيدة جدا بثمن متواضع ، أي ثلاثة

__________________

(١٤٧) «أي المحفوظ بالملح أو بالخل ويطلق على الأطعمة المحفوظة في المغرب عبارة الاطعمة المصبّرة» (المترجم).

(*) وهو ما يسمى في المشرق العربي الحراج أو المزاد.

(١٤٨) أي ١٤ سنت ذهب.


ربعيات (١٤٩) للرطل. والمالوف أن يصاد هنا سمك ممتاز يدعى لكشيا (١٥٠) في روما. ويبدأ الصيد في مطلع تشرين الأول (اكتوبر) وينتهي في نيسان (ابريل) كما سنورده خاصة في معرض كلامنا عن الأنهار.

ويأتي بعد الصيادين صناع أقفاص الدجاج. وتصنع هذه الاقفاص من القصب ، وهنا نجد أربعين دكانا ، لأن كل واحد من سكان المدينة يقتني عددا كبيرا من الدجاج لتسمينها. وحرصا على النظافة لا تترك الدجاجات طليقة في البيت بل تحبس في أقفاص كبيرة.

وعلى مسافة أبعد من ذلك نجد باعة الصابون الذين يبيعون صابونا سائلا. ولا نجد سوى القليل من هذه الدكاكين متجمعة! إذ نجد منها في كل الأحياء. ولا يصنع هذا الصابون في المدينة بل في الجبال المجاورة وينقله الجبليون والبغّالة لبيعه من أصحاب هذه الدكاكين المذكورة.

ونجد بعدهم باعة الدقيق ، والقليل من هذه الدكاكين يكون بحالة تجمع لأننا نجدها مبعثرة في سائر الاحياء. ثم نجد باغة حبوب البذار ، وكذلك بذور الخضار ، ويبيع هؤلاء بعض حبوبهم للتغذية ولكن بكميات زهيدة ، إذ ليس من العادة ان يبيع أحد من أبناء المدينة قمحه. وفي هذا السوق عدد كبير من الذين يشحنون هذا الحب بواسطة بغال أو خيول الحمل. وينقلون عادة كيلين ونصف على ظهر كل حيوان ولكن في ثلاثة عدول الواحد فوق الآخر ، وعليهم ان يكيلوا هذا الحب.

ثم يأتي بعدهم باعة القش الذين يتوزعون في عشر دكاكين. وبعدها نجد السوق الذي تباع فيه خيوط الكتان وحيث يجري تمشيط أليافه. ويقوم هذا السوق في بناء كبير محاط بأربعة أروقة ، في احداها يوجد باعة الأقمشة الكتانية والمستخدمون الذين يزنون الخيوط ، وفي الرواقين الآخرين النسوة اللائي يبعن هذه الخيوط التي تتوافر هنا بمقادير كبيرة. هذا كما يباع الخيط أيضا بواسطة المنادين الذين يتجولون به في السوق. ويبدأ البيع ظهرا وينتهي عند العصر. وتباع كمية كبيرة من هذه الخيوط. وقد زرعت في وسط الساحة بضعة أشجار توت لنشر الظل. ويقصد الناس احيانا هذا السوق بغية التسلية ،

__________________

(١٤٩) أو كواتريني ويعادل ١٠ قروش أو سنتيم.

(١٥٠) أي الشبوط.


ولا يمكن الخروج منه إلا بجهد جهيد بسبب كثرة النسوة اللواتي يذهبن إليه وكثيرا ما ينشب الخصام بين النسوة وينتقلن من تبادل السباب الى تبادل اللكمات ويتلفظن بأقبح الشتائم في الدنيا مما يثير الضحك لدى الحاضرين.

ولنعد الآن الى الجزء الغربي ، أي الى القسم الذي يمتد من جوار الجامع حتى الباب المؤدي لطريق مكناس.

وبعد سوق الدخان ، وذلك بالسير على خط مستقيم ، نجد صناع الدلاء الجلدية التي تستعمل في البيوت المحتوية على آبار ، ويشغلون قرابة أربعة عشر دكانا ، ثم يأتي أولئك الذين يصنعون الاوعية اللازمة لخزن الدقيق والقمح ، ولهم ثلاثون دكانا. وبعد ذلك نشاهد الاسكافيين وبعض الحذائين الذين يصنعون أحذية غليظة للفلاحين ولفقراء العامة ، ويشغل هؤلاء مائة وخمسين دكانا. ثم يأتي صناع التروس والمجنات الجلدية حسب الطراز الافريقي ، والتي نرى بعضها في أوروبا. ومن ثم يأتي الذين يغسلون الثياب وهم من فقراء الناس ، ولديهم دكاكين تثبت فيها أوعية كبيرة كالحلل أو الدسوت. ويفد اليهم الذين ليس لديهم خادمات في بيوتهم ، فيعطونهم القمصان والملاءات والألبسة الأخرى لغسلها ، ويقوم هؤلاء الرجال بتنظيفها بعناية كبيرة ثم ينشرونها على الحبال لتجفيفها ، كما هو مألوف في إيطاليا ، ثم يثنونها بمهارة. وبذلك يجعلون الغسيل نقيا جدا وناصع البياض بحيث لا يستطيع صاحبه التعرف عليه الا بصعوبة. وهكذا نجد هنا حوالي عشرين دكانا لهؤلاء ، ولكن يوجد بين كل الشوارع وبعض الاسواق الصغيرة اكثر من مائتين من دكاكينهم.

ونرى بعدئذ صناع هياكل سروج الخيل ولهؤلاء عدة دكاكين في الحي الواقع إلى الغرب ، باتجاه مدرسة الملك أبي عنان. ثم يأتي الحرفيون الذين يعملون في زخرفة الركابات والمهاميز والقطع المعدنية في اللجامات ويشغلون أربعين دكانا. وينجز هؤلاء أعمالا فنية مدهشة ، ولربما رأى أحدكم بعض هذه الأشياء في إيطاليا أو في أي بلد نصراني آخر. وبعدهم يأتي الحدادون الذين لا يصنعون سوى الركابات واللجامات والقطع المعدنية التي تدخل في كسوة الخيول وجهازها ، وبعد مسافة قصيرة نجد صناع جلود السروج الذين يصنعون لكل سرج ثلاث زوائد جلدية توضع بعضها فوق بعض ، وتكون الوسطى أكثرها رونقا ، والسفلى أقل جمالا ، والثلاث من الجلد القرطبي وصناعة هؤلاء السراجين دقيقة متقنة ، ولها نظائر في ايطاليا والبلاد المسيحية الاخرى. ولهؤلاء مائة


دكان. ثم نجد صناع الرماح ومصانعهم فسيحة نوعا ما كي يمكن صنع رماح طويلة في داخلها.

وبعد ذلك تظهر القصبة التي تتميز بشارع بديع جدا يمتد من الباب الغربي حتى قصر كبير فسيح تقطن فيه أخت الملك أو احد أقاربه. ويلاحظ أن وصف الأسواق هذا يبدأ من الجامع الكبير. وقد تكلمت عن تلك التي تطيف به مرجئا الكلام عن سوق التجار لآخر الحديث كيلا أقطع ترتيب هذا الوصف.

سوق التّجّار

هذا السوق هو نوع من مدينة صغيرة محاطة بجدران تحتوي على اثني عشر بابا تنفتح فيها. ويعترض مدخل كل باب سلسلة كيلا تتمكن الخيول والحيوانات الأخرى من الدخول اليه. وينقسم هذا السوق الى خمسة عشر حيا منها اثنان مخصصان للحذائين الذين يصنعون أحذية الوجهاء. ولا يستطيع التجار ولا الجنود ولا رجال البلاط أن ينتعلوا من هذا النوع ومن هذا المستوى في جمال الصنعة. وهناك حيان آخران معدان لتجار الاقمشة الحريرية. ويبيع بعض هؤلاء الشرطان و «الشراريب» لكسوة الخيول والتزيينات الاخرى من هذا النوع ويشغل هؤلاء خمسين دكانا ويبيع الآخرون الحرير الملون لتطريز القمصان والوسائد ... الخ. ولهؤلاء تقريبا نفس العدد من الدكاكين.

ونجد بعد هؤلاء الباعة صناع النطاقات النسائية هذه النطاقات الصوفية الضخمة والقبيحة. ويعمل بعض الصناع نطاقات من حرير ، هي قبيحة كذلك ، لأنها مصنوعة من ضفائر ثخنية بحجم إصبعي اليد ويمكن استخدامها بسهولة لربط قارب.

وبعد هذه الاحياء يوجد حيان يشغلهما باعة الاقمشة الصوفية ، وهي أقمشة من صنع أوربي وكل هؤلاء الباعة من الغرناطيين. وتباع هنا ايضا اقمشة من الحرير وقلانس من حرير القز ايضا. وعلى مسافة أبعد نجد أولئك الذين يصنعون الفرش ، والوسائد الصيفية وبعض الزرابي الجلدية الصغيرة.

ثم يأتي مكتب المكاسين (الذين يتدخلون في بيع الاقمشة السابق ذكرها). وذلك ان هذه الاقمشة تباع بالمزاد العلني. ويحمل الاشخاص الذين يقومون بذلك هذه


الاقمشة الى موظفي الضريبة (١٥١) كي يبصموها ، ثم يباشروا المناداة امام حوانيت الباعة. ويوجد حوالي ستين مناد ، والرسم هو بيوكشي على كل قطعة جوخ.

وعلى مسافة أبعد من ذلك نجد الخياطين الذين يشغلون ثلاثة أحياء ثم يأتي الحي الذي يعمل فيه العمال الذين يخيطون شريطا للقماش الذي يستخدم عمامة للرأس.

وبعد ذلك حيان آخران يعمل فيهما باعة الاقمشة الكتانية وباعة القمصان والاقمشة النسائية وهنا نجد أغنى تجار فاس لأن مبيعاتهم اكثر من الآخرين مجتمعين.

وفيما وراء ذلك ، وفي حي آخر ، يجري تفصيل ما يوضع على حواشي البرانس وأزرارها المضفورة من زخرف وزينة. ثم يأتي حي تباع فيه ألبسة مصنوعة من قماش صوفي مستورد من أوربا ، والعادة أن ينادى على هذه الألبسة الصوفية في كل أمسية. وأقصد هنا الألبسة المستعملة التي يأتي بها أهل المدينة ويبيعونها بعد أن تصبح رثة بالية أو لأي سبب آخر.

وأخيرا هناك حي يباع فيه أقمشة أخرى مستعملة من قمصان عتيقة كتانية وأغطية ومناشف ... وهلم جرا. وبالقرب من هذا المكان توجد بعض الدكاكين الصغيرة حيث يباع فيها بالمزاد الزرابي وأغطية السرر.

لحة عن إسم الشوارع الملقبة بالقيصريات والمسماة كذلك نسبة إلى قيصر

تدعى كل هذه الشوارع قيصريات ، وهو اسم مشتق من قيصر. وقد كان هذا أكبر ملك في عصره ، في أوربا. وكانت كل مدن الساحل الموريتاني تحت حكم الرومان ، ثم من قبل القوط. وفي كل مدينة من هذه المدن يوجد سوق يحمل اسمه. ويفسره المؤرخون الأفارقة على الصورة التالية : كان الموظفون الرومان والقوط يعمدون إلى بعثرة الفنادق والمخازن في المدينة ، هنا وهنالك ، حيث كانوا يخزنون فيها ما يجبونه من المدينة من ضرائب وعوائد. وكانت تتعرض هذه المخازن إلى النهب على أيدي السكان المحليين. وهكذا خطر ببال الامبراطور أن يقيم في داخل كل مدينة نوعا من مدينة صغيرة يجتمع فيها التجار ، الذين هم على قدر معين من الأهمية ، إلى جانب بضائعهم. ويقوم بجانبهم موظفو الجباية بتخزين كل ما جبوه. وبذلك يكونون على يقين من أن أهل المدينة إذا ما

__________________

(١٥١) أي الرسوم التجارية.


أرادوا الذبّ عن ثرواثهم الخاصة فإن عليهم أيضا الدفاع عن ثروة الامبراطورية وصيانتها. فهم لن يغضوا النظر عن النهب إلا إذا كان على حسابهم هم أيضا (وذلك أن الناهبين لن يقتصروا على نهب ثروة الامبراطور فحسب ، بل سينهبون كذلك ثروات هؤلاء التجار). كما لوحظ ذلك في العديد من المرات في إيطاليا حيث كان الجنود الذين يحاربون لمصلحة حزب ما يقومون بنهب ممتلكات الخصم عند ما يدخلون مدينة مفتوحة ، ثم يعمدون لنهب بيوت أصدقائهم عند ما لا تكون الغنائم المأخوذة من العدو كافية لهم.

العطارون وأرباب المهن الأخرى

ويقوم إلى جانب تلك القيصرية ، وإلى الشمال منها ، سوق العطارين. ويشغل هؤلاء شارعا ضيقا حيث يوجد زهاء مائة وخمسين دكانا ، وينغلق هذا السوق ، من نهايته ، ببابين جميلين لا يقل جمالهما عن متانتهما. ويتعهد العطارون بنفقات حراس مسلحين يتجولون ليلا مع فوانيس وكلاب. وهنا يجري بيع منتجات العطارة والطب ، ولكن لا تستحضر هنا المواد الطبية من شراب أو مرهم أو لعوق. وذلك لأن الأطباء يعدون ذلك في بيوتهم ويرسلونها لدكاكينهم حيث يصرفها مستخدموهم بناء على وصفة طبية. وتتجاور أكثرية دكاكين الأطباء هذه مع دكاكين العطارين. ولكن غالبية السكان لا تعرف الطب ولا الأطباء. وللعطارين دكاكين غاية في الزينة مع سقوف جميلة جدا وخزائن ، ولا أعتقد أن في كل العالم قاطبة سوق عطارين مماثل لهذا. صحيح أنني قد رأيت سوقا كبيرة جدا للعطارين في طوريس ، وهي مدينة في فاس ، ولكن دكاكينها عبارة عن أروقة شبه مظلمة مع أنها مبنية بأناقة مع أعمدة من الرخام ، على حين أن سوق فاس قد اجتمع فيه الجمال والإنارة معا. وبعد سوق العطارين يأتي صناع الأمشاط المصنوعة من خشب البقص أو من خشب آخر سبق لنا الكلام عنه.

وإلى جانب سوق العطارين ، من الشرق ، تنتشر صناعة الإبر التي يعمل صناعها في خمسين دكانا. وبعدهم تأتي دكاكين الخراطين ، وهم قليلو العدد إذ ينتشر عدد منهم بين مختلف أهل المهن. ثم تأتي بضعة دكاكين أخرى للطحانين والصبانين وباعة المكانس والتي تتاخم سوق العقادين. ولا يزيد هؤلاء عن العشرين عددا لأن بعضهم في أمكنة أخرى ، كما سنذكره. ونجد بين باعة القطن وباعة الخضر أولئك الذين يصنعون أغطية السرر وكذلك زينات الخيام. وإلى القرب من هؤلاء يوجد باعة آخرون يبيعون الطيور


الصالحة للأكل والعصافير المغردة ، ولكن لا يشغل هؤلاء سوى القليل من الدكاكين. ويطلق على هذا المكان سوق العصافيرية. ويباع حاليا في معظم هذه الدكاكين حبال القنب والخيوط ، ثم يجيء صناع «القباقيب» التي يحتذيها الأشراف عند ما تكون الطرق وحلية. وهذه القباقيب جيدة الصنعة جدا مع تزيينات ونعل من حديد فضلا عن سير جلدي مطرز بالحرير. ولا يستطيع أفقر وجيه أن يلبس زوجا منها تقل قيمته عن دينار ، ومنها ما يصل سعره إلى دينارين وبعضها يساوي عشرة وحتى خمسة وعشرين دينارا. وتصنع هذه القباقيب عادة من خشب التوت الأسود أو الأبيض ، ولكن يصنع بعضها من خشب الجوز ومن شجر البرتقال أو العناب. وتكون القباقيب المصنوعة من نوعي الخشب الأخيرين أكثر جمالا وأناقة ولكن قباقيب التوت تدوم مدة أطول.

ويأتي بعد ذلك صناع راشقات السهام وهم بعض مسلمي أسبانيا. ولا يتجاوز عدد دكاكينهم العشرة. وبعد ذلك تأتي خمسون دكانا لصناع المكانس الذين يصنعونها من سعف نخيل الدوم كتلك المكانس التي تصدر من صقلية إلى روما. ويحمل هؤلاء مكانسهم إلى المدينة في سلال كبيرة ويبادلونها بالنخالة ، أو بالرماد أو ببعض الأحذية القديمة المثقوبة. وتباع النخالة للبقّارة ، والرماد لقصّاري الخيوط ، أما الأحذية القديمة فيشتريها الإسكافيون. وخلف هؤلاء نجد الحدادين الذين لا يصنعون سوى المسامير ، ونجد بعدئذ العمال الذين يصنعون أوعية كبيرة خشبية لها شكل سطول ، ولكن سعتها برميل (١٥٢) ، ويصنعون أيضا مكاييل الحب ، والتي يتحقق منها الأمين مقابل ربعية (١٥٣) عن كل كيل.

وبعدئذ يأتي باعة الصوف الذين يشترون جلود الخراف من الجزارين ، ولهم عمال يغسلونها ويكشطون صوفها ويدبغونها. ولكنهم لا يعالجون سوى جلود الضأن. أما جلود الماعز والثيران فتدبغ في مكان آخر. تلك هي مهنة خاصة.

ثم يأتي بعد ذلك الصناع الذين يصنعون القفاف والقيود لربط قوائم الخيل حسب العادة في إفريقيا. وتتاخم دكاكين صناع النحاس. وإلى جوار صناع المكاييل نجد صناع آلات حلج الكتان والصوف. وفيما وراء ذلك يقع السوق الكبير حيث نجد أناسا من

__________________

(١٥٢) ٣٤ ، ٥٨ لتر.

(١٥٣) أو ثلاثة سنتات من الذهب.


مختلف المهن. ومن بين هؤلاء يوجد بعض العاملين في برد الأشياء الحديدية ، كالركابات والمهاميز ، إذ ليس من عادة الحدادين برد مصنوعاتهم بالمبرد. ويتلوهم العمال الحرفيون الذين يشتغلون بالاخشاب ولكنهم لا يصنعون سوى أشياء كبيرة كالمحاريث وعرائش العربات ودواليب الطواحين وأدوات عادية أخرى.

ثم يأتي الصباغون الذين هم جميعا بجوار النهر. وفي سوقهم بركة كبيرة بديعة جدا يغسلون فيها غزل الحرير. ويجيء بعدهم البياطرة الذين يحذون الخيول والحيوانات الأخرى. وأبعد من ذلك نجد الصناع الذين يثبتون أقواس الفولاذ على راشقات السهام. وأخيرا نجد العمال الذين يصقلون الأقمشة الكتانية. وهنا تنتهي أسواق قسم من المدينة ، أي تلك التي تقع في الغرب. وكان هذا الجزء فيما مضى من الزمن ، كما سبق أن ذكرنا ، مدينة قائمة بذاتها ، أنشئت بعد الأخرى ، أي بعد تلك التي تقع على الجانب الآخر من النهر ، أي إلى الشرق (١٥٤).

القسم الثاني من مدينة فاس

هذا ويكون الجزء الشرقي من المدينة متحضرا جدا كذلك. ففيه أبنية جميلة ، ومدارس وجوامع. ولكنه لا يحتوي في الواقع مثل القسم السابق على مختلف طوائف المهن. فلا نجد فيه مثلا نجارين ولا خياطين ولا حذائين باستثناء بعض باعة القماش الصوفي والأشياء الغليظة. وفيه سوق صغيرة للعطارة لا تضم سوى ثلاثين دكانا. ويوجد بجوار سور المدينة صناع القرميد وأفران الخزافين (١٥٥) ، ونجد تحت هؤلاء سوقا كبيرة تباع فيها

__________________

(١٥٤) لقد تأسست الأولى ، التي تسمى اليوم المدينة ، في عهد ادريس بن ادريس في عام ١٩٣ ه‍ / ٨٠٩ م وكانت تدعى العالية ، والتي اتخذت اسم مدينة القرويين بسبب اعمارها بثلاثمائة اسرة من القيروان الذين قدموا اليها ليستوطنوها بعد تأسيسها بقليل. أما الثانية التي يظن ان ادريس بن عبد الله هو الذي أنشأها ، فقد بدأ إنشاؤها من خريف ١٧٣ ه‍ / ٧٩٨ م تحت اسم مدينة فاس ، فقد اشتهرت باسم عدوة الأندلسيين ، بعد أن وفد إليها واستقر فيها اربعمائة اسرة أجليت عن قرطبة بعد الثورة الدامية التي اطلق عليها «ثورة الربض Revolte du faubourg» والتي حدثت عام ٢٠٢ ه‍ / ٨١٧ ـ ٨١٨ م. وبعد ان تلاحمت المدينتان في مدينة واحدة على اثر فتح المرابطين لها في عام ١٠٧٠ م ، لم يعد هناك تمييز بين عدوة القرويين وعدوة الاندلسيين. ولكن منذ بضعة قرون احتفظت الاخيرة باسم العدوة ولا يزال جامعها الكبير يحمل اسم جامع الاندلسيين ، مثلما احتفظ جامع الضفة الاخرى باسم جامع القرويين : ذاك هو وصف العدوة الذي سيأتي بعد قليل.

(١٥٥) ولا يزال هؤلاء متجمعين فيه بجوار باب الفتوح.


الفخاريات البيضاء ، أي غير المطلية ، كالقصعات والصحاف والقدور .. الخ. ونصادف بعد ذلك ساحة تقوم فيها مخازن لتجارة الحب (١٥٦) ، وهناك سوق أخرى تقع تماما في مواجهة باب الجامع الكبير (١٥٧) ، وهي مبلطة بالقرميد. تلك هي مختلف الأسواق المخصصة للمهن التي تكلمنا عنها ، ولكن توجد بعد ذلك دكاكين مبعثرة في هذا القسم من المدينة ، ومنفصل بعضها عن بعض ، باستثناء دكاكين باعة الأقمشة الصوفية والعطارين التي لا تكون إلا متجمعة في أمكنة متميزة.

* * *

ويوجد في فاس مائة وعشرون مؤسسة للنساجين. وهذه المصانع عبارة عن أبنية كبيرة مؤلفة من عدة أدوار مع قاعات فسيحة ، كقاعات القصور وتحوي كل قاعة عددا كبيرا من عمال نسج الكتان والقنب. وليس لدى مالكي هذه الابنية أي أدوات ، لأن معلمي النسيج هم الذين يملكونها ولا يدفعون سوى إجارة القاعات. تلك هي الصناعة الرئيسية في فاس. ويقال انها تكفل العمل لعشرين ألف عامل ومثل عددهم من الذين يعملون في الطواحين.

هذا ومن جهة أخرى يوجد مائة وخمسون مصنعا لقصاري الخيوط ويقوم معظمها قرب النهر وتتجهز هذه المصانع بالكثير من المراجل والخوابي المبنية لغلي الخيوط ولحاجات مهنية اخرى.

ونعثر في المدينة على بعض المستودعات الكبرى التي تنشر فيها الاخشاب المختلفة الأنواع ، ويقوم بهذا العمل رقيق النصارى الذين يقدم لهم مواليهم ما يعتاشون به بدلا عن الدراهم التي يستحقونها. ولا يمنحهم هؤلاء وقتا للراحة إلا نصف يوم الجمعة ، من الظهر حتى المساء ، فضلا عن ثمانية أيام موزعة على مختلف فترات السنة ، أي في أعياد المسلمين.

ويوجد أيضا بيوت عامة تمارس فيها البغايا مهنتهن بثمن بخس. وتستمد هؤلاء النسوة حمايتهن من قبل مفوض الشرطة أو من قبل حاكم المدينة.

__________________

(١٥٦) وتسمى الخانات في حلب ، والبوايك او البايكات في دمشق.

(١٥٧) أي جامع الاندلسيين.


ويمارس بعض الرجال ، دون أن يخجل من ذلك بلاط الملك ، مهنة «التباغين» (نسبة الى التبغ). فلديهم نساء ساقطات في بيوتهم وخمر للبيع ويستطيع أي شخص أن يستمتع بذلك بكل طمأنينة (١٥٨).

وقد أحصي في فاس ستمائة نبع ، وهي عيون طبيعية أحيطت بسياجات من حجر مع أبواب تحفظها مغلقة. وتتوزع ماء هذه الينابيع في مختلف الحاجات ويساق إلى البيوت والى الجوامع والمدارس والفنادق. وهذا الماء مرغوب فيه اكثر من ماء النهر ، لأن ماء هذا النهر ينقطع احيانا ، ولا سيما في الصيف. أضف إلى ذلك انه عند ما يقتضي الأمر تنظيف القنوات يجب عندئذ تحويل مجرى النهر خارج المدينة. ولهذا اعتاد سائر الناس استعمال ماء العين. وعلى الرغم من توافر ماء النهر في بيوت الوجهاء فهم يجلبون الى منازلهم مياه العيون لأنها أكثر برودة وعذوبة ، ولكنهم يفعلون العكس في الشتاء. وتقع اكثرية هذه الينابيع في غرب المدينة وفي جنوبها ، لأن كل القسم الواقع في اتجاه الشمال هو في الجبل المؤلف من صخر كلسي. وهنا توجد جباب عميقة يحفظ فيها الحب لمدة بضع سنين ويعيش سكان هذه البقعة ، وهم من فقراء الناس ، من تأجير هذه العنابر ، وتقدر الأجرة

__________________

(١٥٨) من غير المحتمل انه يقصد بذلك امكنة تدخين التبغ. ولكن المؤلف استعار عبارة التبغ للاشارة الى مكان كان يدخل الناس فيه غالبا الكيف وهو الحشيش ، لا سيما وان التبغ لم يكن بالتأكيد قد شاع استعماله في المغرب في أيام الوزان. والتبغ الذي استوردته أوربا من أمريكا لم ينتشر تدخينه إلا بين أوائل الأوربيين الذين عاشوا في أمريكا ، وشاع في أوربا في النصف الثاني من القرن السادس عشر. أما بالنسبة للمغرب فلدينا نص يشير الى وصوله للمغرب ، وهو بقلم الأوفراني ، في كتابه «تاريخ الاسرة السعدية في المغرب» وذلك إذ يقول : «في شهر رمضان ١٠٠٧ ه‍ / آذار / نيسان (مارس ـ ابريل) ١٥٩٩ م ، وصل الفيل الى فاس ، وقد جيء به من السودان سنة ١٠٠١ ه‍ ، أو ٨ تشرين الأول (اكتوبر) ١٥٩٢ ـ ٢٧ أيلول (سبتمبر) ١٥٩٣ م ، ويدعى بعض المؤلفين انه على أثر وصول هذا الحيوان دخل استعمال هذا النبات الخبيث ، المسمى التبغ الى المغرب ، فالزنوج الذين كانوا يقودون الفيل جلبوا معهم التبغ الذي كانوا يتعاطون تدخينه ويدعون ان استعماله يجلب لهم الكثير من الفوائد. وشاعت عادة التدخين التي أدخلوها اولا في منطقة الدرعة ثم في مملكة مراكش واخيرا في سائر الغرب». ومن ناحية اخرى يقول محمود كاتي في كتابه «تاريخ الفتاش» elFettach (لعلها الفتح) (ترجمةM.Delafosse et O.Houdas باريس ـ الناشرLeroux سنة ١٩١٣ ص ٣٢٠ : «في عهد القائد المنصور أي في عام ١٥٩٤ ـ ١٥٩٦ م» ظهر التبغ في السودان حيث انتشرت عادة تعاطيه ومن المؤكد أن التبغ جاء الى المغرب عن طريق اسبانيا وعرفه سكان تومبكوتو عن طريق المغاربة ، من نصارى اعتنقوا الاسلام وسواهم. والتاريخ المتأخر الذي يشير إليه الافراني وهو ١٥٩٩ والذي لا يعتمد إلا على رأي غير مؤكد ، ويتناقض مع رأي محمود الكاتي ، يستبعد كذلك الفكرة القائلة بأن التبغ كان شائعا في المغرب في العصر الذي كان فيه الحسن الوزان.

(ولد الحسن الوزان حوالي سنة ١٤٨٩ أي قبل التاريخين اللذين يذكرهما الأوفراني ومحمود الكاتي بأكثر من مائة سنة) (المراجع).


السنوية بكيل واحد عن كل مائة كيل تحفظ في الصومعة.

وفي القسم الجنوبي من المدينة ، الذي يكاد يكون غير مسكون ، يقع الكثير من الحدائق ، المليئة بأشجار مثمرة متنوعة وممتازة ، مثل أشجار البرتقال والليمون والأترج وكذلك الزهور الجميلة ، من بينها الياسمين وورود دمشق والرتم المستورد من أوربا وهو مرغوب جدا لدى مسلمي الأندلس. وتحفل هذه البساتين بقصور جميلة وبرك ماء وحنفيات ، وتحاط البرك بالياسمين وبالورود وبأشجار البرتقال. وعند ما يمر الانسان ، في فصل الربيع ، من جوار هذه الرياض يشم أعطر شذى ينبعث من كل جانب ولا يكاد يشبع نظر الإنسان من متعة جمالها وملاحتها ، وتشبه كل روضة من هذه الرياض جنة أرضية. ولهذا كان من عادة الوجهاء الإقامة فيها ابتداء من مطلع شهر نيسان (ابريل) حتى آخر ايلول (سبتمبر).

ويظهر في القسم الغربي من المدينة التي يتاخم المدينة الملكية (١٥٩) الحصن الذي تم بناؤه في عهد ملوك لمتونة (١٦٠) ومساحته تكاد تكون مساحة مدينة. وكان هذا في الماضي مقر سكن حكام فاس وأمرائها قبل ان تصبح هذه المدينة عاصمة المملكة. ومنذ أن بنيت مدينة فاس الجديدة على يد ملوك بني مرين (١٦١) لم تعد القصبة أكثر من مسكن للحاكم. وفي القصبة جامع صغير شيد في العصر الذي كانت القصبة فيه كثيرة السكان (١٦٢). وفي أيامنا بادت كل القصور التي كانت فيها وتحولت أرضها إلى بساتين. ولم يبق منها سوى قصر واحد يسكنه الحاكم وبعض الابنية الاخرى لأسرته. وتضم ايضا سجنا شيد على شكل كهف ، وسقفه عبارة عن عقد مستند على أعمدة عديدة ، وهو فسيح جدا حتى إنه يستوعب ثلاثة آلاف شخص. وليس فيه أية حجرة منفصلة أو سرية ، إذ ليس من المألوف في فاس وضع إنسان في حجرة انفرادية أي «زنزانة». ويخترق القصبة جدول لحاجات الحاكم ومتعته (١٦٣).

__________________

(١٥٩) أي فاس الجديدة.

(١٦٠) أي قصبة المرابطين.

(١٦١) بناها أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المنصور سنة ١٢٧٦ م.

(١٦٢) وهو جامع ابن الجلود الحالي.

(١٦٣) كانت القصبة تشغل المكان الحالي لقصبة بوجلود ومدرسة مولاي إدريس وقسم من رياض بوجلود. واستنادا الى رواية دييجو دو طريش Diego de Torres لم يكن هناك أكثر من رمية سهم بين سورها وسور مدينة فاس الجديدة ، الذي لا تزال أطلاله باقية ، وأن فرع وادي فاس لا يزال يجتاز البساتين المذكورة.


القضاة وأساليب إدارة العدالة والفصل فيها وطراز اللباس (*)

لا تحوي فاس سوى بعض صغار الضباط الوزاريين وبعض القضاة القائمين على شئون العدالة. وللحاكم صلاحية البت في القضايا المدنية والجنائية. وهناك قاض مكلف بتطبيق الأحكام الشرعية أي الأحكام المستمدة من الكتب الفقهية الإسلامية. وهناك قاض آخر ، وهو إلى حد ما عبارة عن نائب للقاضي ، يهتم بمسائل الزواج والطلاق وكذلك بالتثبت من أقوال الشهود ، غير أنه مؤهل أيضا للاطلاع على كل القضايا المتعلقة بهذه الأحكام ، ثم يأتي المحامي العمومي الذي يؤخذ رأيه في المسائل القانونية التي يجري استئنافها أمام القضاء ، وفي القضايا التي يكون القضاة قد أخطأوا في إصدار أحكامها ، أو يكونون قد أصدروا أحكامهم فيها بناء على رأي ضعيف منسوب لفقيه لا يرقى إلى مستوى كبار الفقهاء.

ويستفيد الحاكم من مبالغ هامة للغاية بسبب الغرامات التي تفرض في القضايا. وربما كانت أشد عقوبة مفروضة على المتهم هي الجلد بحضرة الحاكم ، وتتألف من مائة أو مائتي سوط أو أكثر. ويقوم السياف بعد الجلد بوضع سلسلة في عنق المجرم ويطوف به في المدينة عاريا إلا ما يستر عورته التي تكون مغطاة بسروال قصير. ويرافقه مفوض الشرطة ، في حين لا يكف الجلاد عن الإعلان عن نوع الذنب الذي اقترفه المجرم. ثم يعيد إليه ثيابه ويقوده للسجن. وقد يحدث أن يعرض عدة محكومين مصفوفين سوية على الجمهور في الشارع ، ويتقاضى الحاكم دينارا ونصف عن كل محكوم. وفضلا عن ذلك له الحق أن يتقاضى عن كل سجين رسما معينا يدفع له بشكل خاص من قبل بعض الباعة والصناع المعينين لهذه الغاية. ومن بين العوائد التي ينالها الحاكم إيراد جبل يستمد منه مبلغ ألف دينار في السنة ، ولكن عليه لقاء ذلك أن يقدم ثلاثمائة فارس للملك في حالة الحرب ، وعليه يقع عبء معيشة هؤلاء ما دامت الحرب قائمة.

أما حكام القضاء الشرعي فلا يتقاضون أي أجر او تعويض لأن هذا محظور في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يحق للقاضي ان ينال أي مرتب كان لقاء قيامه بهذا الواجب.

ولكنهم يعيشون من موارد أخرى ، فهم أساتذة أو أئمة في بعض الجوامع. وكذلك الحال بالنسبة للمحامين والوكلاء الذين هم أشخاص جهلة وتافهون. ولدى الحكام مكان


يسجنون فيه المدنيين أو مرتكبي المخالفات الخفيفة القليلة الأهمية.

وفي فاس أربعة فقط من مفوضي شرطة ، ويقومون بدوريات بين منتصف الليل والساعة الثانية صباحا. ولا يتقاضى هؤلاء أي أجر سوى نتاج رسم يفرضونه على الأشخاص المقبوض عليهم ، وهو رسم محسوب على أساس مدة السجن وطبيعة العقاب المفروض عليهم. ولكن يستطيع هؤلاء المفوضون أن يديروا ماخورا ، وأن يمارسوا مهنة «التباغين» أو مهنة القوادين وحماة البغايا. هذا وليس لدى الحاكم قاض ولا كاتب ضبط ، بل يلفظ أحكامه بصوت عال كما يروق له.

ولا يوجد سوى موظف واحد يدير الجمرك ويجبي الرسوم التجارية ويؤدي ثلاثين دينارا في اليوم للخزينة الملكية. ويقوم هذا بوضع حراس وكتبة عند كل باب من أبواب المدينة ، ويتقاضى على كل السلع القليلة القيمة رسوما تجبى عند الأبواب ، أما السلع الأخرى فتساق إلى مكتب الجمرك مصحوبة بحارس. ويتقاضى الحراس والكتبة مرتبا يقدر بحسب مقادير البضائع. ويذهب هؤلاء الحراس أحيانا إلى خارج المدينة لملاقاة البغالة كيلا يعمد هؤلاء لتهريب بعض الأشياء من دفع الرسوم. وإذا أخفوا شيئا دفعوا ضريبة الجمرك مضاعفة. وتبلغ الرسوم العادية دينارين عن كل ما قيمته مائة دينار ، لكن فيما يتعلق بثمار الزعرور ، التي تجلب منها كميات كبيرة ، فيصل رسمها إلى ربع قيمتها. ولا يدفع أي رسم عن القمح والخشب والأبقار والدجاج. هذا كما لا يؤخذ شيء كرسم تجاري ، عند الأبواب ، عن الأغنام المجلوبة إلى فاس ، ولكن يدفع عن كل خروف ، في المسلخ ، رسما مقداره درهمان فضلا عن درهم واحد للحاكم (١٦٤) الذي هو رئيس الأمناء ، وكثيرا ما يتجول هذا الموظف في المدينة على ظهر جواده مخفورا باثني عشر من رجال الشرطة لمراقبة الخبز ووزن اللحوم وسائر ما يبيعه الجزارون. وإذا لم يجد الوزن المطلوب قام بتفتيته إلى قطع صغيرة ويلطم الخباز لكمة على قفاه تتركها متورمة موجعة ، وفي حالة تكرار المخالفة يجلد البائع على ملأ من الناس.

ويعهد الملك بهذه الوظيفة ، أي المحتسب ، للوجهاء الذين يرغبون فيها. وبعد أن كان يعهد بها في الماضي لرجال أكفاء من ذوي السمعة الطيبة ، أصبح الملوك في أيامنا يعهدون بها لأناس عاديين.

__________________

(١٦٤) أي المحتسب.


وسكان فاس ، وأقصد بذلك النبلاء ، هم أناس محترمون حقا : ففي الشتاء يتسربلون بثياب من جوخ أوربية المنشأ. ويتألف لباسهم من سترة (١٦٥) ضيقة ملتصقة بالجسم ، لها نصف أكمام ، تمرر من فوق القميص ويلبسون فوق تلك السترة ثوبا عريضا مخاطا من الأمام ، يضعون البرنس فوقه. ويضعون على رءوسهم قلنسوة كالتي يلبسها بعض الناس في إيطاليا في الليل ، ولكن بدون ما يغطي الأذنين. ويلفون فوق تلك القلنسوة عمامة من قماش تطوى مرتين حول الجمجمة وتمر من تحت اللحية. ولا يلبسون جوارب في أقدامهم ولا يضعون غطاء فوق الحذاء ، بل يلبسون سروالا من الكتان. ويضعون في أقدامهم خفا عندما يمتطون جيادهم شتاء. أما عامة الشعب فيلبسون سترة وبرنسا ، ولكن بدون الثوب الذي تكلمنا عنه ولا يضعون فوق رءوسهم سوى تلك القلنسوة العديمة القيمة.

ومن عادة العلماء والأشراف المتقدمين في السن لبس سترات عريضة الأكمام ، كأشراف البندقية الذين يشغلون أسمى المناصب. وأخيرا فإن عامة الشعب الفقراء تكتسي بقماش أبيض ، منسوج من صوف بلدي خشن وبرانسهم من نفس القماش.

وللنساء هندام حسن جدا ، ولكن لا يلبسن في الطقس الحار سوى قميص يطوقنه بزنار قبيح نوعا ما. ويلبسن في الشتاء ثيابا عريضة الأكمام ، مخاطة من الأمام كأثواب الرجال. ويلبسن ، عندما يخرجن من بيوتهن ، سراويل طويلة جدا تغطي كل أرجلهن وخمارا من طراز نساء بلاد الشام يغطي الرأس وسائر الجسم. ويتغطّى الوجه بقطعة قماش كتاني بحيث لا يبقى منه مكشوفا سوى العينين. ويضعن في آذانهن حلقات ذهبية كبيرة مرصعة بحجارة كريمة بديعة جدا. ويضعن أساور ذهبية في معاصمهن ، يمكن أن تزن مائة دينار (١٦٦). أما النساء من غير النبلاء فيلبسن أساور من فضة ويضعن مثلها في أرجلهن.

العادات المتعلقة بالغذاء

من عادة سواد الشعب ، فيما يتعلق بغذائهم ، تناول اللحم الطازج مرتين في

__________________

(١٦٥) «أو جاكيت أو كوت» (المترجم).

(١٦٦) مائة مثقال أو ٣٥٠ جراما تقريبا.


الأسبوع. ولكن الأشراف يتناولون اللحم مرتين في اليوم حسب شهيتهم. وهناك ثلاث وجبات يومية. فوجبة الصباح خفيفة جدا تتألف من الخبز والثمار ومن حساء من دقيق القمح مائع تقريبا. أما في الشتاء فيتناولون ، بدل الحساء ، شوربة القمح المطبوخة مع اللحم المملح. وعند الظهيرة تؤكل أيضا أطعمة خفيفة كالخبز والسلطة والجبن أو الزيتون. ولكن في الصيف تكون هذه الوجبة أكثر تغذية. وفي المساء ، يأكلون نفس الأشياء الخفيفة ، أي الخبز مع البطيخ أو مع العنب أو مع الحليب. ويتناولون في الشتاء اللحم المسلوق مع وجبة تدعى الكسكسي ، التي تصنع من عجينة تحول إلى حبيبات من حجم حبة الكزبرة ، ثم تطبخ هذه الحبيبات في قدر مثقوب يتلقى بخارا من قدر آخر في أسفله (١٦٧). ويضاف لهذه العجينة ، بعد نضجها ، السمن ثم تسقى بالمواد المغلية مع اللحم. وليس من عادتهم أكل اللحم المقلي. تلك هي طريقة معيشة عامة الشعب. أما كبار الشخصيات ، كالشرفاء المتقدمين في السن ، والتجار ورجال الحاشية ، فيعيشون بصورة أفضل من ذلك وأكثر ترفا. ولكن تبدو طريقة الأفارقة بائسة حقا ، بالموازنة مع أسلوب الحياة الدارجة بين نبلاء أوربا ، بل رديئة. وليس هذا عائدا لقلة كمية الأغذية فحسب بل للعادات الخشنة والخالية من النظام في تناول طعامهم. فهم يأكلون على الأرض ، أو فوق موائد واطئة ، بدون «فوطة» ، ولا أي سماط من أي نوع كان ، ولا يستخدمون أية أدوات إلا أيديهم. وعندما يأكلون الكسكسي ، يتناول كل الضيوف طعامهم من نفس الجفنة دون ملعقة. وكذلك الحال بالنسبة إلى اللحم والحساء ، أي من نفس القصعة ، ويأخذ كل واحد منهم قطعة اللحم التي تروق له ويضعها أمامه دون تقطيع. ولا تستخدم السكين بل يقطع اللحم بالأسنان قدر الاستطاعة مع احتفاظ الباقي باليد.

وهم يأكلون على عجل (١٦٨). ولا يشرب أحد قبل أن يشبع ، وعندها يرتوي من طاسة ماء سعتها بوكال (١٦٩). تلك هي العادة الدارجة. ولكن هناك بعض العلماء الذين يتمتعون ، بمستوى معيشة أفضل. ولكن نستطيع أن نخلص إلى القول بأن أدنى وجيه متوسط في إيطاليا يعيش بترف يفوق أكبر أمير إفريقي.

__________________

(١٦٧) وتدعى هذه القدر المزدوجة الكسكاسة في بلاد المغرب ، وتخصص السفلى لسلق اللحم والخضار والفلفل الأحمر» (المترجم).

(١٦٨) «أي حسب المثل الدارج : كل أكل الجمال وقم قبل الرجال» (المترجم).

(١٦٩) أي ٨٢٣ ، ١ لترا.


العادات المتبعة في الزيجات

تلاحظ العادات التالية في الزواج : فعندما يرغب رجل ما في الاقتران بامرأة ، وبعد موافقة أبيها على تزويجها ، يدعو أبو الخاطب ـ إذا كان على قيد الحياة ـ أصدقاءه للاجتماع في المسجد ويصطحب معه كاتبا عدل يقومان بتسجيل العقد ويحددان شروط المهور بحضور الخاطب والمخطوبة. ويقدم أبناء المدن من متوسطي الحال ، ثلاثين دينارا نقدا ، وأمة سوداء قيمتها خمسة عشرة دينارا ، وقطعة قماش من نسيج الحرير والكتان ذات ألوان عدة متصالبة ، ومناديل صغيرة تلبس على الرأس. وتقضي العادة أيضا أن يقدم زوجا من أحذية مطرزة بصورة جميلة ، وزوجين من القباقيب المطرزة أيضا ، وقماشا مطرزا بديعا ، وبعض الحلى الفضية ، وبعض الأشياء الأخرى كالأمشاط والعطور والمراوح الظريفة. وعندما يتم تسجيل العقد حسب رغبة الطرفين يدعو الخاطب كل الحضور لتناول الغداء معه فيقدم لهم الزلابية واللحم المشوي والعسل. أما والد المخطوبة فيدعو أصدقاءه لوليمة. وإذا أراد الأب أن يقدم لابنته بعض الثياب الجميلة ، فيستطيع أن يفعل ذلك تلطفا منه ، إذ لا يلتزم بالقيام بدفع أي مصروف سوى النقود التي يدفعها للزوج (؟) ، ولكن من المعيب ألا يضيف شيئا إلى هذا المبلغ. وفي الوقت الحاضر ينفق الأب أو الذي يرغب في الزواج ، بالإضافة إلى المهر وهو ثلاثون دينارا ، ينفق عادة ما بين مائتي إلى ثلاثمائة دينار لكسوة الزوجة وأدوات بيت الزوجية. ولكنه لا يقدم أي عقار أو كروم أو عقارا مزروعا. وتقضي العادة أن تقدم هدية مؤلفة من ثلاثة أثواب من جوخ رفيع وثلاثة أثواب حريرية ، أو من التفتا ، أو من المخمل ، أو من الدمشقي ، عدا بضعة قمصان وبضعة ملاءات سرير مطرزة وموشاة الحواشي بالحرير ، ومخدات كبيرة مطرزة ووسائد. كما تقضي العادة أن يقدم ثماني «مراتب» منها أربع للزينة توضع فوق الخزائن في كل ركن من أركان الغرفة ، وأربعة أغطية من نسيح صوفي خشن تستخدم للنوم ، بالإضافة إلى فراشين مبطنين بالجلد يستخدمان لتزيين الغرفة. كما يقدم أيضا سجادة طويلة من الصوف طولها عشرون ذراعا (١٧٠) ، وثلاثة لحف (جمع لحاف) لأحدها وجه من جوخ والآخر من كتان ، ومحشو بالصوف بين الوجهين. وعند مد الفراش للنوم يطوى هذا اللحاف إلى قسمين بحيث يكون قسم منه بالأسفل والآخر بالأعلى ، لأن طوله يقل

__________________

(١٧٠) أي ١٢ م.


قليلا عن ثماني أذرع (١٧١). وفيما عدا ذلك يقدم أيضا ثلاثة لحف منجدة ذات غلاف حريري جميل التطريز من جهة وأخرى مع بطانة داخلية محشوة بالقطن ، فضلا عن دثار أبيض محشو بالقطن ولكنه خفيف يستعمل في الصيف. ويقدم أخيرا بساطا صغيرا ذا أشرطة جلدية مذهبة تتدلى منه «شرابات» حريرية مختلفة الألوان. ويوضع زر من حرير مثبت فوق كل شرابة كي يمكن تعليق هذا البساط على الجدار. ذاك ما يضاف إلى المهر وأحيانا أكثر من ذلك. وهكذا تعرض الكثير من الأشراف للافتقار في سبيل مثل هذه الزيجات ، ويعتقد بعض الطليان أن الرجال في أفريقيا هم الذين يقدمون المهر للنساء ، والواقع لا يعرفون شيئا كبيرا في هذا المجال.

وحينما يذهب الرجل ليأتي بزوجته إلى منزله ، يقوم بإدخالها أولا في صندوق خشبي مثمن الأوجه مغطى بجميل الأقمشة من الحرير و «البروكار». ويحمل الحمالون هذا الصندوق فوق رءوسهم. ويتألف الموكب من أصدقاء والد الزوجة وأصدقاء الزوج ومن قارعي الطبول والمزامير والنافخين بالنايات وحملة المشاعل العديدة. ويسير أصدقاء العريس في مقدمة المواكب حاملين مشاعلهم ، أما أصدقاء والد الفتاة فيتبعون العروس.

والعادة أن يمر الموكب من السوق الكبير ثم من قرب الجامع. وما ان يصل الموكب إلى السوق حتى يودع الزوج والد العروس وأهلها ، ويدخل بيته على عجل كي ينتظر زوجته في غرفته. ويرافق العروس أبوها وأخوها وعمها حتى باب الغرفة ويسلمونها جميعا ليد أم الزوج. وما إن تدخل الزوجة الغرفة حتى يبادر الزوج بوضع قدمه فوق قدم زوجته. وبعد هذا يختلي الاثنان حالا في غرفتهما. وفي هذه الأثناء يكون أهل البيت منهمكين في إعداد طعام العرس ، بينما تقف امرأة على باب الغرفة ريثما يتم افتضاض بكارة الزوجة ، ويدفع العريس للمرأة بقماش مبلل بالدم. وعندها تنطلق المرأة لمواجهة المدعوين ولتعرفهم بصوت مرتفع أن العروس كانت عذراء. وهنا يقدم أهل الزوج الطعام لهذه المرأة التي تبادر بعدئذ بصحبة نسوة أخريات لمقابلة أم العروس حيث تستقبل بالتكّريم ويقدم لها الطعام أيضا.

ولكن إذا حدث وكانت الزوجة غير عذراء فإن الزوج يعيدها لأبيها ولأمها. وفي ذلك عار كبير عليهما لا سيما وأن المدعوين يخرجون جميعا دون أن يأكلوا.

__________________

(١٧١) ٥ م.


وهناك ثلاث ولائم في العرس : الأولى تكون في ليلة دخول العريس بزوجته ، وتقع الثانية في ثاني ليلة ولا يدعى إليها إلا النساء ، والثالثة بعد أسبوع. وهذه يحضرها والد العروس وكل أقربائها. ومن المألوف في هذا اليوم أن يرسل والد العروس هدايا هامة لبيت الزوج وتتألف من علب من الحلوى ومن خراف كاملة. ويخرج العريس من بيته بعد سبعة أيام ويذهب مسرعا لشراء كمية معينة من السمك ويجلبها للبيت ويعطيها لأمه أو لسيدة أخرى كي ترمي بها على قدمي العروس. ويعتبر هذا فألا حسنا وهي عادة قديمة جدا.

وفضلا عن هذه الولائم الثلاث والتي تكون في بيت الزوج ، هناك أيضا وليمتان في منزل والد الزوجة. وتقع الأولى قبل يوم واحد من ميعاد العرس في المساء. ويدعو الأب إليها أصدقاء الأسرة. وتستمر الأفراح طيلة الليل ويرافقها الرقص. وفي اليوم التالي تأتي النسوة والمختصات بتجميل العرائس ، أي الماشطات ، ويمشطن شعرها ، ويطلين خدها بالأحمر ، واليدين والقدمين بالأسود مع رسوم جميلة ، أي بالحناء والنقش. ولكن لا تدوم هذه الأصبغة طويلا. وفي هذا اليوم تكون الوليمة الثانية. وتجلس العروس فوق دكة كي تكون على مرأى من الجميع. وعندئذ يقدم الطعام للسيدات اللواتي قمن بتزيين العروس وبتجميلها.

وعندما تصل العروس لبيت زوجها ، يرسل أصدقاء الزوج الحميمون أوعية كبيرة مليئة بالزلابية ، ومثلها أوعية مليئة بالعسل وبالخراف المشوية الكاملة. ويدعو العريس عددا من الأشخاص ويوزع الهدايا فيما بينهم. ويستمر الرقص طوال الليل على أنغام الموسيقيين والمطربين والأغاني التي تتناوب مع الموسيقى والعديد من الألحان العذبة للغاية. ويرقص راقص واحد في كل مرة ، وعندما يخرج من رقصه ، يستخرج من فمه قطعة نقود يقذفها فوق سجادة المطربين. وإذا أراد أحد الأصدقاء تكريم الراقص دعاه لأن يجثو أمامه على ركبتيه ويلصق على وجهه قطع نقود يرفعها المطربون بعد ذلك حالا. وترقص النساء بمعزل عن الرجال ، فلهن حفلاتهن الراقصة ومطرباتهن وموسيقاهن.

كل شيء يجري حسب هذه الصورة فيما إذا كانت العروس عذراء. ولكن إذا كان قد سبق لها الزواج تكون حفلة العرس أقل أبهة. وتقضي العادة في مثل هذه الحالة أن يقدم لحم ثور وخروف ودجاج مسلوق يضاف إليها أنواع من الخضر. ويوضع أمام


المدعوين اثنتا عشر قصعة فوق مائدة خشبية مدورة ويقدم طعام يكفي لاثني عشر شخصا.

تلك هي العادات السائدة لدى الأشراف ولدى التجار. ولكن بين عامة الشعب يقدم حساء مصنوع من خبز خفيف يماثل «المكرونة» يغمس في مرق اللحم المقطع إلى قطع كبيرة. ويقدم الحساء في وعاء كبير تسبح فيه قطع اللحم ويأكل المدعوون دون ملعقة ، بالأيدي ، بمعدل عشرة أشخاص حول كل وعاء.

هذا وتقضي العادة أيضا أن تصنع وليمة عندما يتم ختان الولد الذكر ، والذي يتم عادة في سابع يوم بعد ولادته. ففي هذا اليوم يدعو الوالد الحلاق كما يدعو أصدقاءه ويعمل لهم وجبة. وعند إنتهاء الطعام يقدم كل من المدعويين هدية للحلاق. فبعضهم يقدم دينارا ، والبعض دينارين ، أو أكثر وأقل حسب مستواه. ويقوم أحدهم بلصق هذه الدراهم فوق وجه صبي الحلاق ، ويعلن الصبي اسم المعطي ويشكره. وبعدئذ يقوم الحلاق بختان الطفل. ولكن عند ولادة ابنة لا يبدي أهلها مثل هذه البهجة.

العادات الأخرى المعهودة في الأعياد

طريقة البكاء على الموتى

لا تزال في فاس رواسب من عادات خلفها النصارى. ففيها يتلفظون ببعض الأقوال التي لا يعرفون لها معنى. فمن عادتهم ليلة ميلاد عيسى عليه السلام أن يأكلوا نوعا من حساء مصنوع من خضر متنوعة كالقرنبيط واللفت والجزر وسواها. ويطبخون عدة أنواع من الخضر ، سوية على حالها ، كالفول والحمص وحبوب القمح ويأكلون هذه الأطعمة في تلك الليلة ، كما لو كانت حلوى لذيذة. ويضع الأطفال في أول يوم من العام الجديد أقنعة على وجوههم ويقصدون بيوت الأشراف يتسولون الفواكه وهم ينشدون أغانيهم الصبيانية.

ويوقد الناس في كل الأحياء في يوم القديس حنا نارا كبيرة وقودها القش (١٧٢).

__________________

(١٧٢) ويقع في ٢٤ حزيران (يونية).


وعند ما تأخذ أسنان الطفل بالظهور يدعو أبواه أطفالا آخرين لوجبة طعام ، ويسمى هذا العيد دنتيلاDentilla ، وهي نفس الكلمة اللاتينية التي تعني التسنين.

هذا وتوجد أيضا عادات أخرى وطريقة لتفسير الفأل وضرب الرمل كالتي رأيت منها أيضا في روما وفي سائر المدن الإيطالية.

أما الأعياد التي نظمت وفرضت حسب شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم فما علينا إلا أن نقرأها فيما بعد ، في المؤلف الصغير ، حيث نجد كل ما قيل عن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وعقيدته (١٧٣).

هذا وتجتمع النسوة على أثر وفاة الزوج ، أو الأب ، أو الأم ، أو أخ إحداهن ، وهن لا بسات ثيابا غليظة. ثم يلطخن وجوههن بالسخام الذي يحصلن عليه من قفا القدور ، ثم يستدعين أولئك الأفراد الأنذال الذين يتجولون وهم لا بسون ثياب النساء ، كي ينقروا على دفوف مربعة ، ويرتجلوا أشعارا حزينة تستدر الدمع مدحا في الفقيد. وعند خاتمة كل بيت تطلق النساء صرخات عويل حادة ويخدشن الخدود والصدور حتى ليجري الدم بسخاء ، هذا كما يقتلعن شعورهن وهن ينتحبن ويولولن. ويستمر الحال على هذا المنوال لمدة سبعة أيام. وبعد أربعين يوما يستأنفن هذا النحيب خلال ثلاثة أيام. تلك هي العادة الشائعة بين أفراد العامة. ويكون الحزن عند الأشراف أقل ضجة : إذ يبكي أهل الميت دون أي تعذيب ذاتي ، ويأتي أصدقاؤهم لتقديم تعازيهم مثلما يرسل الأقرباء هدية على شكل طعام ليأكله أهل الفقيد ، إذ لا يمكن طهي أي طعام كان ما دام المتوفي في البيت. وليس من عادة النساء السير خلف الجنازة حتى لو كان الأمر يتعلق بأبيهن أو أخيهن.

أما الطريقة التي يغسل بها جسد الميت وطريقة دفنه ، وكذلك مراسم الجنازة وواجباتها ، فقد عرضت لذلك في المؤلف الصغير الذي سبق أن تكلمنا لكم عنه.

طيور الحمام

هناك الكثير من الأشخاص الذين يجدون متعة كبيرة في الاهتمام بالحمام واقتنائه إذ

__________________

(١٧٣) وكان هذا الكتاب يؤلف ، حسب تصور الحسن الوزان ، ملحقا لكتاب (الوصف) الذى بين أيدينا.


يربون منه في منازلهم كثيرا من الأزواج الجميلة المختلفة الألوان. وتعيش هذه الطيور فوق اسطحة المنازل في محاضن تماثل خزائن العطارين. ويفتح هواة الحمام هذه المحاضن مرتين في اليوم ، مرة في الصباح وأخرى في المساء. وينعمون بسرور لا حدود له من رؤية طيران الحمام ، والطير الذي يظل في الجو أطول فترة ممكنة هو الذي تكون له أكبر قيمة. ونظرا لاختلاط حمائم محضنة ما مع حمائم محضنة أخرى فكثيرا ما تقع منازعات بين الهواة قد تؤدي إلى الشجار. وهناك أشخاص يثبتون شبكا في نهاية عصا طويلة ويمسكونها بأيديهم متربصين فوق السطح وبذلك يمسكون بواسطة شبكتهم هذه بجميع الحمام الذي يمر في هذه الشبكة. وهناك سبعة أو ثمانية دكاكين تقوم في وسط سوق الفحامين مختصة ببيع هذا الحمام.

أساليب اللعب

لا يوجد بين الناس ذوي التربية الطيبة والبيئة الراقية سوى لعبة واحدة هي لعبة الشطرنج وذلك حسب ما كان يسير عليه سلفهم. وهناك لعب أخرى ، ولكنها مستقبحة ، لا تمارس إلا بين الدهماء.

ويجتمع الشباب في مواسم معينة من السنة من أهل شارع ما وهم مسلحون بالهراوات ويشنون حربا على سكان شارع آخر. وقد يحدث أن يحتدم نزاع الخصمين فيؤدي ذلك إلى امتشاق السلاح وتسفر المعركة عن قتل كثير من كلا الفريقين ، ولا سيما في فترة الأعياد حيث يجتمع الشبان في ظاهر المدينة. وبعد انتهاء المعمة يأخذون بالتراشق بالحجارة حتى لقد يعجز مفوض الشرطة عن تفريق بعضهم عن بعض ، ولكنه يعتقل عددا منهم ويودعهم السجن. وهؤلاء يعاقبون بالجلد ويطاف بهم في المدينة. وفي المساء يخرج الكثير من المتعجرفين سوية خارج المدينة مزودين بالسلاح ، ويتجولون في البساتين وفي الحقول ، فإذا التقوا مع متعجرفين من شارع آخر مخاصم ، تنشب بينهما معركة عنيفة ، لأنهم يكنون حقدا عميقا بعضهم ضد بعض. ولكن كثيرا ما يتعرضون في الغالب لعقاب وجزاء صارم.


شعبراء العامية

هناك الكثير من الشعراء في فاس من الذين يقرضون الشعر باللغة العامية في مختلف الموضوعات ، ولا سيما في الحب. فبعضهم يصف الحب الذي يحسه تجاه النساء ، والآخرون يعبرون عن مشاعرهم تجاه الغلمان ويصرح الواحد منهم بدون أي خجل أو حياء باسم الغلام الذي يهواه.

وينظم هؤلاء شعرا بمناسبة عيد مولد محمد صلّى الله عليه وسلّم هو عبارة عن قصيدة في مدحه. ويدعى الشعراء في صبيحة ذلك العيد إلى ساحة رئيس الأمناء. ويصعدون فوق أريكة هذا الرئيس. ويأخذ كل واحد منهم في إلقاء قصيدته بحضور جمع غفير من الناس. وينادى بالشاعر ، الذي ترى لجنة التحكيم أنه الأفضل شعراء وإلقاء ، أميرا على الشعراء لذلك العام ، وينظر إليه على أنه أميرهم. وكان من عادة الذي يحكم فاس في أزهى أيام ملوك بني مرين أن يدعو لقصره العلماء وأهل الأدب في المدينة ، ويحتفل على شرف الشعراء الذين كانوا مجلين في هذه المناسبة ، فيلقي كل واحد منهم قصيدة في تمجيد الرسول بحضوره وأمام الجميع. وكان يقف المنشدون فوق مصطبة عالية. وفي نهاية الحفل ، واستنادا إلى حكم أشخاص من ذوي الخبرة ، كان يمنح الملك لأكثر الشعراء نبوغا مائة دينار ، وحصانا ، وأمة ، وكسوة ، ويعطي كل واحد من الآخرين خمسين دينارا فينصرف الجميع من عنده وقد حصل كل منهم على إجازة ومكافأة ، غير أن هذه العادة قد أنقرضت منذ مائة وثلاثين عاما بسبب إنحطاط هذه الأسرة (١٧٤).

مدارس الأطفال

يوجد قرابة مائتي مدرسة للأطفال الذين يرغبون في تعلم القراءة. وتحوي كل مدرسة قاعة كبيرة مع درجات تستخدم كمقاعد للأطفال. وهنا يعلمهم المعلم القراءة والكتابة ، وليس في كتاب معين ، بل بالاستعانة بألواح خشب كبيرة يكتب عليها التلاميذ. ويقتصر درس كل يوم على آية من القرآن. ويختم القرآن في سنتين أو ثلاث سنين ، ثم يستأنف ذلك ، عدة مرات ، إلى أن يجيد الطفل تعلمه بصورة متقنة جدا

__________________

(١٧٤) أي منذ العام ٨٠٠ ه‍ / ١٣٩٨ م ، أي من عهد السلطان أبي سعيد عثمان.


ويحفظه عن ظهر قلب أو يدرك ذلك بعد انقضاء مدة سبع سنين. ومن ثم يعلم المعلم الأولاد قليلا من الخط.

بيد أن الخط والنحو يدرسان في معاهد خاصة وكذلك بقية العلوم ، وللمدرسين أجر زهيد ، ولكن حينما يصل الطفل إلى إجادة جزء لا بأس به من القرآن ، يجب على أبيه تقديم هدية معينة للمعلم. وحينما يختم الطفل حفظ القرآن يقوم الأب بصنع وليمة فخمة لكل التلامذة. وفي أثنائها يكسي الطفل وكأنه ابن أمير. ثم يذهب إليها على ظهر جواد أصيل مرتفع الثمن ، على صاحب قصر فاس أن يعيره إياه ويعيره اللباس كذلك. ويصطحبه بقية الأطفال على ظهور الجياد أيضا حتى قاعة السماط وهم ينشدون ألحانا في تمجيد الله والرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثم تكون الوليمة التي يحضرها أصدقاء الوالد. ويقدم كل واحد منهم شيئا للمعلم ، كما يقدم الطفل المحتفى به كسوة جديدة لأستاذه. تلك هي العادة المألوفة. ولهؤلاء الأولاد عيدهم في يوم المولد. وعندها يلتزم الآباء بإهداء شمعة للمدرسة وكذلك يأتي كل طفل بشمعته. ويأتي بعض الأولاد بشمعة زنتها ثلاثون رطلا (١٧٥) والبعض أكثر من ذلك والبعض الآخر أقل. وتزدان هذه الشموع الجميلة والكثيرة التنميق بفواكه من شمع من أطرافها. وتوقد في بداية الفجر وتطفأ مع بزوغ الشمس. ومن عادة المعلم أن يستخدم بعض المطربين الذين ينشدون مدائح في الرسول الكريم. وما إن تشرق الشمس حتى ينتهي الاحتفال. وفي هذا موارد لمعلمي المدرسة. ففي بعض الأحيان يبيعون فعلا ما قيمته مائة دينار من الشمع ، وأحيانا أكثر من ذلك ، وذلك حسب عدد التلامذة. ولا يدفع هؤلاء أجرا عن هذه المدارس لأنها مؤسسة بالهبات التي أعطاها أصحاب الوصايا زكاة عن أرواحهم. أما فواكه هذه الشموع وأزهارها فتقدم هدايا للأولاد وللمنشدين.

ولهؤلاء الأطفال شأن طلاب المعاهد يومان في الأسبوع للراحة ، لا يكون في أثنائها تعليم ولا دراسة.

__________________

(١٧٥) ١٠ كيلو جرامات تقريبا.


العرّافون

لن أقول شيئا عن بعض الصناع ، كأولئك الدباغين الذين يحتلون موقعا محددا بجوار نهر كبير ، لهم على طوله عدد كبير من المصانع. ويدفعون رسما عن كل جلد يدبغونه مقداره درهمان (١٧٦) ، وهو رسم يحقق للدولة حصيلة قدرها ألفان من الدنانير (١٧٧). ولن أتكلم أيضا عن الحلاقين وسواهم من الصناع لأنني أشرت إلى ذلك في أثناء وصف القسم الأول من فاس ، مع أنهم ليسوا كثيري العدد كما ذكرت لكم في حينه. بل سأحدثكم عن العرافين وهم كثر. وينقسمون ثلاث مجموعات :

ـ تتألف الأولى من عرافين يمارسون فن الضرب بالرمل ، وذلك برسم أشكال فيه ، ويتقاضون عن كل رسم قدر الاستطاعة حسب موارد الشخص ، وطبقا للعادة.

ـ الثانية وهي مجموعة العرافين الذين يسكبون الماء في قصعة مطلية بالدهان ويسقطون في هذا الماء قطرة زيت. وبعد أن تصبح هذه شفافة يقول العرافون أنهم رأوا فيها ، كما يرون في المرآة ، عصابات من الشياطين قادمة بعضها خلف بعض ، كأنها كتائب جيش تعسكر وتضرب خيامها. ويأتي بعض هذه الشياطين عن طريق البحر والبعض الآخر عن طريق البر. وعند ما يرى العراف أنهم استراحوا يطلب منهم أشياء يود معرفتها ، فيجيبه الشياطين بإشارات يومئون بها باليد أو بالعين. فما أشد غباء الذين يعتقدون في مثل هذه الخرافات. ويضع هؤلاء العرافون القصعة أحيانا بين يدي ولد عمره ثمانية أو تسعة أعوام ويسألونه فيما إذا رأى الشيطان الفلاني أو غيره ويجيبهم الطفل الساذج «نعم» ، ولكنهم لا يتركونه يتكلم وحده. وللكثير من السفهاء ثقة بهؤلاء العرافين تجعلهم ينفقون عندهم بدرات اموالهم.

ـ وتضم الفئة الثالثة من العرافين نسوة يدخلن في روع العوام انهن يرتبطن بصداقة مع بعض الشياطين من اصناف مختلفة ، فيسميه بعضهم الشياطين الحمر ، والآخرين الشياطين البيض وعند ما يسألن عن التنبؤ عن اي شيء كان يتعطرن بعطور مختلفة الروائح. وسرعان ما يغيرن اصواتهن كي يجعلن. المستمع يتصور بان الشيطان يتكلم بصوته ذاته. والشخص الذي يقصدهن لمعرفة أمر يرغب فيه ، سواء أكان رجلا أم

__________________

(١٧٦) ١٥ سنت ذهب.

(١٧٧) وهذا يمثل ٠٠٠ ، ١٢٠ قطعة من الجلود.


امرأة ، إنما يطلب ذلك من الروح بامتثال كبير وتواضع. وعند ما يحصل على الجواب المطلوب يترك هدية للشيطان وينطلق لشأنه. ولكن الناس الذين يجمعون إلى جانب الشرف بعض الثقافة والخبرة في أمور الحياة يسمون تلك النسوة السحاقات. وفي الحقيقة إنهن يتصفن بتلك العادة الملعونة لأنهن يستعملن المساحقة بعضهن مع بعض ، وهذا ما أعجز عن التعبير عنه بعبارة اكثر حشمة. وإذا وجدت امرأة جميلة بين اللواتي يأتين لاستشارتهن ، فإنهن يتولعن بها ، كما يعشق شاب فتاة فاتنة ، ويطلبن منها ـ متظاهرات بأن الشيطان هو الذي يتكلم ـ أن تقبلها العرافة قبلة عميقة في مقابل هذه الاستشارة. والمرأة التي تقبل أن تدخل السرور لنفس الشيطان تقبل ذلك غالبا. ويطلب من النساء اللواتي ينشرحن لهذه الممارسة من العرافات الدخول في حرفتهن. فيصطنعن المرض ويستدعين إحداهن ، وغالبا ما يقوم الزوج المخبول بهذه المهمة. وهنا تفصح المرأة عن رغبتها للعرافة التي تقول حينئذ للزوج بأن شيطانا تسلل إلى جسد زوجته ، وإذا كان يحرص على صحة زوجته فما عليه إلى أن يسمح لها بأن تنتسب إلى حرفة العرافات وأن تعمل معهن بحرية. ويصدق الزوج «الثور» ذلك ويرتضيه ، وإمعانا في حمقه يصنع وليمة فخمة لكل المحترفات في هذه المهنة. وبعد تناول الطعام تندفع كل واحدة منهن إلى الرقص ويحتفلن بذلك على أنغام جوقة من الزنوج ، وبعدئذ يترك الرجل زوجته لتفعل ما تشاء. ولكن هناك بعض الأزواج الذين يقومون بطرد الأرواح من نسائهن على قرع ضربات العصي الشديدة. وقد يتظاهر بعضهن بأن فيه هو نفسه مسا من الشيطان فيستولي على العرافة مثلما سبق لها أن استولت على زوجته.

السحرة

هذا وهناك نوع آخر من العرافين الذين يدعون بالمعزّمين ، أي السحرة ، الذين يعتبرون قادرين على إنقاذ الذين اعتراهم مس ، نظرا إلى أنهم يفلحون في ذلك أحيانا ، وإذا عجزوا عن ذلك ادعوا أن الشيطان كافر أو أن الأمر يتعلق بروح سماوية. ويمارس التعزيم بالطريقة التالية : يكتبون في البداية بعض الحروف ، ثم يرسمون دوائر فوق تنور أو فوق أي شيء آخر ، ثم يرسم على جبين الممسوس ، أو فوق يده بعض الإشارات ، ثم يعطرونه بمختلف الروائح. ويعمد بعد ذلك الساحر إلى صنع الرقية ويسأل الروح عن كيفية دخوله الجسد ، ومن أين جاء ، ومن هو ، وما اسمه. وأخيرا يطلب منه الذهاب. وهناك أيضا صنف آخر من الناس الذين يعملون حسب قاعدة تدعى الزيرجة ، أي


الأتصال بالأرواح. وهم لا يربطون عملياتهم بنصوص بل يعتبرونها جزءا من العلوم الطبيعية.

والحقيقة يعرف هؤلاء الأشخاص كيف يعطون جوابا سديدا على كل ما يطلب منهم. بيد أن قواعد الزايرجة غاية في الصعوبة ويجب أن يكون الإنسان منجما ممتازا ورياضيا قديرا كي يعرف طريقة ممارستها. وقد رأيت مرارا بعض أشكال الزيرجة التي استغرقت من الصباح حتى المساء في الصيف. وإليكم كيف يعملون. ترسم دوائر متحدة المركز. ويرسم في الأولى صليب في النهايات الأربع وتسجل عليها الجهات الرئيسية أي الشرق والغرب والشمال والجنوب. وفي الوسط أي عند تقاطع الخطوط ، يكتب القطبان. وتكتب العناصر الأربعة في أواخر الدائرة. ثم تقسم أول دائرة إلى أربعة أقواس. وتقسم الدائرة التالية إلى أربع ، وبعد هذا يقسم كل قوس إلى سبعة أجزاء يكتب في كل منها حروف عربية كبيرة ، أي ثمانية وعشرون أو سبعة وعشرون حرفا في كل عنصر. وتسجل في الدائرة الأخرى الكواكب السبعة ، وفي الأخرى البروج الاثنا عشر ، وفي أخرى الشهور الاثنى عشر حسب التقويم اللاتيني ، وفي الاخرى منازل القمر الثمانية والعشرون ، وفي أخرى أيام السنة وهي ثلاثمائة وخمسة وستون.

وبعد هذا يؤخذ حرف واحد من السؤال المطروح ، ويضرب ما يساويه من العدد في جميع الأشياء التي ورد ذكرها آنفا ، إلى أن يتوصل إلى العدد المطابق لهذا الرقم. ثم يقسم هذا الرقم حسب طريقة معينة ، ثم يوضع الحرف في أمكنة معينة من الزيارجة حسب طبيعة هذا الحرف ، وحسب العنصر الذي يقابله مع التثبت من ذلك بعملية ضرب وتقسيم وقياس ما إذا كان الحرف مناسبا للعدد الذي أمكن التوصل إليه ثم يوضع الحرف حسب نفس الطريقة التي دكرت ويستمر العمل على هذا المنوال إلى أن يتم تحديد ثمان وعشرين مرحلة ، أي ثمانية وعشرين حرفا. وحينئذ تركب الكلمات ، ومن هذه الكلمات تركب جملة تؤلف جواب السؤال المطروح. وتكون هذه الجملة وزنا على شكل بيت شعر من الشكل الأول في الشعر العربي أي البحر الطويل (*) ، وهو بحر ذو ثمانية أوتاد واثني عشر سببا (* *) ، حسب العروض الذي بيناه في الجزء الخاص بقواعد اللغة العربية وهو الذي يؤلف آخر جزء من هذا الكتاب الصغير. وهذا البيت المكون من الحروف المؤلفة بهذه


الطريقة هو الذي يقدم الجواب الصحيح الشافي. فهو يعبر قبل كل شيء عن السؤال المطروح ثم عن حكم المجلس العلوي. ولا يحدث خطأ مطلقا في هاتين النقطتين. وفي الحقيقة تبدو هذه العملية التأويلية شيئا عجيبا. أما بالنسبة لي شخصيا فإني لم أرشيئا يعد غير طبيعي وتراءى لي على أنه خارق وإلهي كمثل هذه الزيرجة.

ولقد شهدت صنع زيرجة في باحة مدرسة أبي عنان في فاس. وهذه الباحة مبلطة بالرخام الأبيض الثمين المصقول. وطول كل طرف منها خمسون ذراعا (١٧٨). وقد استخدم ثلثا هذه الباحة من أجل ما اقتضى الأمر كتابته على رسم الزيرجة. وعمل ثلاثة أنفار في تخطيطها ، وعمل كل واحد منهم في قسم ، ولزم الأمر يوما كاملا لإنجازه. ورأيت صنع زيرجة أخرى في تونس على يد أستاذ قدير قام والده بشرح قواعد هذه العملية في ثلاث مجلدات. والرجال الذين يعرفون هذه القواعد نادرون للغاية. ولم أر منهم في كل حياتي سوى ثلاثة ، اثنان في فاس وواحد في تونس. وقرأت شرحين عن هذا الموضوع ، أحدهما من تأليف المرجاني ، وهو أبو المعلم الذي رأيته في تونس ، والآخر من تأليف ابن خلدون المؤرخ(١٧٩)(*).

وإذا كان لأحد رغبة في معرفة هذه القاعدة وشرحها ، فهذا سيكلفه مقدار خمسين دينارا ، لأنه إذا ذهب إلى تونس ، وهي قريبة من إيطاليا ، فإنه واجد هذا الكتاب. وقد عزفت عن تعلم قاعدة الزيرجة هذه كسلا منّي. إذ كان ذلك متيسرا لي ، فقد كان لدي متسع من الوقت ، كما كان المعلم سعيدا بتعليمي إياها بدون مقابل. ولكن رفضت على الخصوص لأن هذه القاعدة ، وكل علم يتعلق بالرجم بالغيب ، يعتبر في أعين رجال الشرع المسلمين عملا غير شريف ويكاد يعتبر مروقا. وبالفعل تبدو كل علوم الشرائع مفعمة بنصوص تقول بأن محاولة الاطلاع على الغيب هو عبث ، إذ لا يعلم أحد شيئا عن أمور المستقبل إلا الله وحده. ولهذا يرمي أولو الأمر المسلمون غالبا الذين يتعاطون أمثال هذه الممارسات في السجون أو لا يكفون عن اضطهادهم.

__________________

(١٧٨) أو ٥ ، ٣٣ م.

(١٧٩) يبدو عرض ابن خلدون عن الزيارجة في مقدمته غير مفهوم كما هو الحال في النص أعلاه.

(*) عرض ابن خلدون للزيرجة في الفصل السادس من الباب الأول من مقدمته وفي الفصل الثلاثين من الباب السادس ، وفي هذا الفصل الأخير فصل القول تفصيلا في الزيرجة ورسم زيرجة السبتي ، ووقف على ذلك زهاء أربعين صفحة.

(انظر مقدمة ابن خلدون تحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي ، طبعة لجنة البيان ، الطبعة الثانية صفحات ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٥٤٣ ، ٥٤٨ ، ١٢٧١ ، ١٣٠٦).


القواعد والخصائص التي يطبقها بعضهم تجاه شريعة محمد

يوجد في فاس بعض الأشخاص الذين يحملون اسم الصوفية ، أي علماء أو اساتذة الأخلاق. وهم يتبعون بعض النواميس التي لم يأمر بها محمد صلّى الله عليه وسلّم. فبعضهم يعتبرهم من الراشدين ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكنهم في نظر العامي من الأولياء. فمن الناحية الشرعية مثلا لا يجوز الغناء ولا تلحين أية قصيدة في الحب. ولكن هؤلاء يبيحون ذلك ، وتشمل طرائقهم عدة فروع ، ولكل منها قواعدها الخاصة ، ورئيسها الذي يدافع عنها ، وعلماؤها الذين يؤيدون مبادئها ، وكتبها العديدة عن الحياة الروحية.

وقد نشأت الصوفية بعد ثمانين عاما من وفاة محمد صلّى الله عليه وسلّم (١٨٠). ويدعي أكثر مؤسسيها شهرة الحسن بن أبي الحسن البصري (١٨١) ، من مدينة البصرة. وقد أخذ في البداية يسرّ بعض القواعد لتلاميذه لأنه لم يكتب شيئا. وبعد مائة عام ظهر رجل آخر ، عظيم القدر في هذا المضمار ، هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي (١٨٢) ، من مدينة بغداد ، وألف كتابا جيدا عرض فيه تفاصيل طريقته لكل مريديه. بيد أن الفقهاء أنكروا هذا المذهب فيما بعد ونصحوا الخلفاء بمناهضته وأعدم كل الذين كانوا يسلكون هذا المسلك. ولكن هذا المذهب تشكل من جديد بعد ثمانين عاما تحت إدارة رجل كبير القدر للغاية وتبعه كثير من المريدين ، ودعا علنا لطريقته مما جعل العلماء يتفقون مع الخليفة وحكم عليه بالإعدام مع أتباعه ، وتقرر ضرب أعناقهم جميعا. ولما علم هذا الرجل بذلك طلب إلى الخليفة بأن يتكرم عليه فيسمح له بمناظرة كل الفقهاء. وإذا خرج مغلوبا فإنه سيتقبل حكم الموت عن طيب خاطر ، ولكن إذا استطاع أن يبرهن بأن طريقته هي الأفضل ، فلن يكون من الإنصاف قتله مع هذا العدد الكبير من الأبرياء المساكين بسبب تهمة مفتراة وبدون أساس. وقد تراءى هذا الطلب للخليفة عادلا فمنحه العفو المطلوب. وهكذا ذهب هذا العالم إلى ذلك المؤتمر الغريب وتغلب على كل الفقهاء بأيسر شكل ، حتى أن الخليفة نفسه اعتنق مذهبهم وهو يبكي وانتسب إلى طريقتهم. وقد ظل

__________________

(١٨٠) أي حوالي العام ٩١ ه‍ / ٧١٠ م ، لأن الرسول توفي يوم ١٢ أو ١٣ ربيع الأول في العام الثاني عشر للهجرة أو ٧ ـ ٨ حزيران (يونية) ٦٣٢ م.

(١٨١) توفي سنة ٧٢٨ م.

(١٨٢) توفي عام ٨٥٧ م.


هذا الخليفة يعاضدهم طيلة حياته ، وأسس للصوفيين زوايا ومدارس. وازدهرت الصوفية مدة مائة سنة أخرى ، إلى أن قدم من آسيا الكبرى امبراطور من السلاجقة ، وهو تركي الأصل (١٨٣) فأخذ يضطهد هذا المذهب وهرب الصوفيون ، فمنهم من قصد جزيرة العرب ، وبعضهم الآخر قصد القاهرة. وظلوا حوالي عشرين عاما في المنفى حتى عهد صاصلشاه (١٨٤) حفيد ملكشاه. فقد كان مستشار هذا الملك ، وهو رجل على درجة عالية من الذكاء ، يدعى نظام الملك ، كان من أتباع هذا المذهب (١٨٥) فأدخل بعض التجديد على هذا المذهب وسانده إلى أن توصل إلى تحقيق المصالحة بين الفقهاء والصوفية بفضل عالم كبير جدا يدعى الغزالي (١٨٦) الذي ألف في هذه المادة كتابا مطولا رائعا يقع في سبعة مجلدات. وقد نتج عن هذا الوفاق أن أخذ الفقهاء لقب علماء شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وحفظتها في حين سمي الصوفيون «شارحي الشريعة ومصلحيها».

وقد قضى التتر على هذا الاتحاد وذلك في عام ٦٥٦ ه‍ (١٨٧). غير أن هذا الانفصال الناجم عن ذلك لم يؤد ، مع هذا ، إلى إلحاق أي ضرر بالصوفية ، لأن آسيا وإفريقيا كانتا قد أصبحتا مليئتين بأتباعها. وفي هذه الآونة لم يدخل فيها سوى الرجال المثقفين في كل المواد ولا سيما الذين يعرفون القرآن الكريم معرفة جيدة كي يستطيعوا الدفاع عن هذه العقيدة وتفنيد العقائد المعادية.

ومنذ مائة عام أصبح كل جاهل يود أن يكون صوفيا ، بدعوى أن ليست هناك حاجة لدراسة العقيدة لأن روح القدس تمنح معرفة الحقيقة لكل من كان له قلب طاهر ، واستنادا لمزاعم أخرى ليس لها كبير قيمة. ولهذا السبب تخلى الصوفيون عن كل أحكام الإسلام وعن واجباته ونوافله. ولم يعودوا يتقيدون بغير الطقوس المعهودة عند شيوخهم. وراحوا يبيحون لانفسهم كل المتع التي تعتبرها طريقتهم مشروعة. ولهذا

__________________

(١٨٣) لقد وفد السلاجقة ببطه من منغوليا ، وفي عام ١٠٦٠ م اعترف خليفة بغداد بأميرهم طغرل بك سلطانا وملكا على المغرب والمشرق. وقد كان ملكشاه ، الذي حكم من عام ١٠٧٠ إلى ١٠٩٢ م أكبر سلطان سلجوقي.

(١٨٤)؟

(١٨٥) كان نظام الملك ، الذي اغتيل سنة ١٠٩٢ م ، كان في الحقيقة وزيرا لملكشاه.

(١٨٦) هو أبو حامد محمد الغزالي المتوفي سنة ١١١١ م.

(١٨٧) بتاريخ ٢ صفر ٦٥٦ ه‍ / ١١ شباط (فبراير) ١٢٥٨ م اجتاح خان المغول هولاكو مدينة بغداد وذبح الخليفة وسائر المسلمين ونهبت المدينة وأحرقت ، وهكذا تلاشت الخلافة العباسية.

«وقد سقطت قرطبة بيد الأسبان نهائيا في نفس السنة» (المترجم)


يقيمون الكثير من المآدب حين ينشدون اغاني الحب ويرقصون بصورة مفرطة. ويصل الحال ببعضهم في هذه الحلقات الى تمزيق ثيابه ، بتأثير هياج الأغنية التي تلقى أو بسبب الأفكار الجنونية التي قد تخطر بدماغ أناس فقدوا كل اتزان. ويقول هؤلاء الناس عندئذ أنهم تسخنوا بلهيب الوجد الإلهي. ومن وجهة نظري أعتقد أنهم تسخنوا من فرط الطعام ، لأن الواحد منهم يأكل ثلاثة أضعاف ما يكفي الشخص الواحد. أو أنهم عندما يطلقون صرخات مصحوبة بنحيب ، وهذا ما يبدو محتملا جدا ، فذاك للحب الذي يحملونه لبعض الفتية المرد. وليس من النادر أن يدعو أحد الأشراف إلى حفلة عرسه أحد الأساتذة من أولئك الصوفيين البارزين مع سائر تلامذته. وعندما يصلون إلى مكان الوليمة يبدأون بإلقاء الأدعية وغناء الألحان. وبعد الفراغ من الطعام يأخذ كبار السن منهم بتمزيق ثيابهم ، وإذا اندفع واحد من هؤلاء الرجال المتقدمين بالسن إلى الرقص ، فإنه يترنح ، وسرعان ما يعيده لوقفته أحد الصوفيين الصغار الذي غالبا ما يمنحه قبلة شهوانية. ومن هذا جاء المثل السائر على كل أفواه أهل فاس : «هذا مثل وليمة النساك ، التي حولتنا من عشرين إلى عشرة» ، ومعنى ذلك ، أن كل تلميذ صغير يعرف ما ينتظره ، في الليلة التي تعقب هذا الاحتفال. (فيستحيل هو وشيخه إلى جسم واحد ، ويصبح العشرون عشرة).

ويسمى هؤلاء الصوفيون أحيانا النساك ؛ إذ ليس من عادتهم التزوج بالنساء ، ولا العمل ، ولا ممارسة أية مهنة كانت ، بل يعيشون كيفما اتفق وحسب الظروف.

وترد في شرح مقامات الحريري (١٨٨) حوالي ألف فريدة في هذا الموضوع ، ومن غير اللائق ذكرها هنا لأسباب متعددة.

مختلف الطرائق والمذاهب الأخرى

سرعة تصديق الجمهور للأباطيل

هناك بين هذه المذاهب ما تعتبر قواعده ، لدى علماء الشريعة أو الصوفية ، مروقا لأنها لا تختلف عن المذاهب الأخرى من وجهة نظر الشريعة الدينية فحسب بل حتى من ناحية العقيدة كذلك.

__________________

(١٨٨) أبو محمد القاسم الحريري ، ولد في البصرة سنة ١٠٥٤ م وتوفي سنة ١١٢٢ م. وهو مؤلف المقامات الشهيرة باسمه.


فمن ذلك مثلا أنه يوجد أناس يعتقدون جازمين أن باستطاعة الإنسان أن يكتسب طبيعة ملائكية عن طريق الأعمال الصالحات وبالصيام والتعفف ، ويقولون إنهم يطهرون الروح والقلب لدرجة تمنعهم من اقتراف الذنب ، حتى ولو أرادوا ذلك. ولكن لبلوغ ذلك يجب المرور بخمسين درجة في سلك التلمذة وحينما ينتهون من قطع هذه المراحل لن يحاسبهم الله على ما عسى أن يقترفوه من ذنوب وسيغفر لهم ما سبق أن اجترحوه قبل ارتقائهم الخمسين درجة. ويبدأ هؤلاء الناس بصوم يثير الإعجاب مما يجعل من المستحيل تقدير أيامه ، ثم ينغمسون في كل ملذات الدنيا. وهم يتبعون قاعدة صارمة عرضها كاتب وعالم لامع اسمه السهروردي ، من سهرورد ، وهي مدينة في خراسان (١٨٩). ويقع كتابه في أربعة مجلدات. وهناك مؤلف آخر هو ابن الفريد (١٩٠) شرح هذه العقيدة في قصيدة بديعة جدا ، ولكن قصيدته هذه تبدو مليئة بالاستعارات لدرجة تجعل القارىء يتصورها وكأنها تقتصر على الحب. وجاء المدعو الفرغاني (١٩١) وشرح هذا المؤلف واستخرج منه القاعدة التي يجب إتباعها مشيرا إلى الدرجات التي ينبغي اجتيازها. وقصائد ابن الفريد على درجة بالغة من الأناقة حتى أن مريدي هذا المذهب لا يتلون سواها في مآدبهم. ومنذ ثلاثمائة عام وحتى الآن لم تستعمل لغة أكثر نقاوة من تلك التي استخدمها ابن الفريد في قصيدته.

ويؤمن الناس الذين يذهبون إلى هذه المعتقدات بأن الكرات السماوية ، والفلك ، والعناصر ، والكواكب السيارة وكل النجوم ما هي إلا آلهة ، وأنه لا يمكن أن تكون ثم عقيدة دينية على خطأ ، لأن لكل الناس في نفوسهم غريزة تدفعهم إلى عبادة من يستحق أن يعبد. ويعتقدون أن معرفة الله تتمركز في رجل يسمونه «القطب» الذي هو المختار عند الله ، والذي يشترك معه في طبيعته ، والذي يوازي الله في المعرفة. ويعترفون بوجود أربعين رجلا بين ظهرانيهم يسمونهم الأوتاد ، وهؤلاء من مستوى أقل ارتفاعا وأقل معرفة من القطب. وعندما يموت قطب ، يعين هؤلاء الأربعون قطبا آخر يختارونه من بين سبعين. ولا يزال هناك سبعمائة وستة وخمسون من أهل المقامات الذين لم أعد أتذكر

__________________

(١٨٩) هناك عدة كتاب متصوفين يحملون هذه الكنية ، ولكن يبدو أن المقصود هنا شهاب الدين أبو حفص السهروردي.

(١١٤٤ ـ ١٢٣٤ م) ولا تقع سهرورد في خراسان بل في العراق العجمي أو الأهواز الحالية.

(١٩٠) أبو حفص عمر الفريد ، من القاهرة (١١٨١ ـ ١٢٣٥ م)

(١٩١)؟


لقبهم ، وكل ما أعرفه أنه عندما يموت أحد هؤلاء السبعين يخلفه أحد أولئك. وتقضي قاعدة هذا المذهب أن يكون كل من هذه الشخصيات مجهولا من سائر الناس ، تحت مظهر مجنون أو على شكل عاص كبير ، أو تحت مظهر «التباغ» (١٩٢). وتحت هذه الذريعة يهيم في أفريقيا العديد من الخداعين الفسقة ، عراة لدرجة يكشفون فيها عن سوءاتهم. وهم على درجة منحطة من عدم الحشمة ، وانعدام الاحترام الإنساني حتى إنهم يضاجعون النساء في الساحات العامة تماما كما تفعل البهائم. ومع هذا فهم يعتبرون أولياء لدى العوام. وهناك كمية كبيرة من هؤلاء الأسافل في تونس ، ولكنهم يتكاثرون بشدة في مصر ولا سيما في القاهرة. وقد رأيت في القاهرة ، بعيني رأسي ، في ساحة ما بين القصرين ، أحد هؤلاء الأفراد وهو ينقض على امرأة شابة غاية في الجمال عند خروجها من الحمام ، ويضجعها في وسط الساحة العامة ويواقعها. وبعد أن قضى وطره من هذه المرأة هرع كل الناس ليلمسوا ثيابها كما لو كانت قد أصبحت قديسة حينما مسها هذا القديس. وكان الناس يتناقلون فيما بينهم أن هذا الولي تظاهر بأنه يضاجعها ولكن ليس هناك شيء من ذلك. وعندما بلغ الزوج نبأ ذلك اعتبره علامة نعمة وبركة وشكر الله على ما أنعم وأقام وليمة بسرور بالغ تقديرا للنعمة التي حلت به. وقد أراد القضاة وعلماء الدين بكل حماس أن يعاقبوا هذا الخليع ، ولكنهم كادوا يتعرضون للقتل من العوام لأنه ، كما قلت ، يتمتع باحترام كبير بين الدهماء وينال هبات وهدايا ذات قيمة لا تقدر.

ولقد رأيت أشياء أخرى من هذا النوع أستحي من سردها.

الباطنيّون والمذاهب الأخرى

وهناك مذهب آخر يتبعه بعضهم من الذين يسمون بالباطنيين. فلهؤلاء صوم مستغرب ولا يأكلون لحم أي حيوان. ولهم أطعمة خاصة بهم ويلبسون ثيابا معينة في كل ساعة من النهار والليل. ويؤدون صلوات فريدة حسب الأيام والأشهر ، وصلوات قائمة على نظام عددي. ومن عادتهم حمل تمائم ملونة ، مع حروف وأرقام منقوشة بداخلها. ويقولون إن أرواحا تتجلى لهم بعد ذلك ، وهي أرواح نافعة تخاطبهم وتمنحهم معرفة شمولية عن أمور هذا الكون. وقد كان من بين هؤلاء الباطنيين عالم لامع يدعى محيي

__________________

(١٩٢) لهذه الكلمة هنا معنى «رجل يمارس مهنة شنيعة أخلاقيا». (انظر كذلك تعليق رقم ١٥٨).


الدين أبو العباس أحمد البوني (١٩٣) الذي أسس طريقتهم ، وحدد لهم صلواتهم ، وبين لهم الطريقة التي يجب أن يؤلفوا بموجبها تمائمهم ، وقد اطلعت على كتابه وأعتقد أن هذا العلم يقترب من فن السحر أكثر من الباطنية. ويبلغ عدد أهم المطولات في هذه المادة ثمانية. ويحمل أشهرها عنوان «اللّمع النورانية» للبوني ، وهو يحدد الصلوات وأشكال الصوم وتواريخه. وهناك كتاب آخر يدعى شمس المعارف ، يشير فيه لطريقة كتابة التمائم ويبين الفائدة التي تجنى منها. ويسمي الكتاب الآخر «سر الأسماء الحسنى» أي سر التسعة والتسعين اسما لله تعالى. وقد رأيت هذا الكتاب في روما في يد يهودي من البندقية.

ويوجد في هذا المذهب قاعدة أخرى هي طريقة «السواح» وهي التي يتبعها بعض الزهاد. ويعيش هؤلاء في عزلة ولا يتناولون طعاما غير الأعشاب والثمار البرية. ولا يعرف أحد تماما الحياة التي يعيشونها لأنهم يتحاشون أية علاقة بشرية.

وسأبتعد كثيرا عن هدف كتابي هذا لو أردت متابعة الدراسة الدقيقة لمختلف المذاهب الإسلامية. فالذي يرغب في معرفة المزيد عنها عليه أن يقرأ الكتاب المسمى «الأكفاني» (١٩٤) الذي يعرض بإسهاب لمختلف النحل المنشقة عن الديانة الإسلامية. ويبلغ عدد المذاهب الرئيسة منها السبعين. وتدعي كل طريقة أن تعاليمها هي الجيدة والصحيحة ، ويرى أتباعها أن الإنسان يبلغ عن طريقها سلامته ونجاته.

هذا ولا نجد في عصرنا سوى مذهبين للديانة الإسلامية. الأول هو المذهب الأشعري (١٩٥) الذي ينتشر في كل إفريقيا ومصر والشام وجزيرة العرب وسائر تركيا. والثاني هو عقيدة الإمامية (١٩٦) المنتشرة في بلاد فارس وفي بعض مدن خراسان. وهذا هو المذهب الذي يتبعه ملوك الأسرة الصفوية في إيران. وبسبب هذا المذهب الأخير تخربت آسيا كلها.

وقبل ذلك كان أهل هذه البلاد يتبعون المذهب الأشعري. وقد أراد ملك الفرس

__________________

(١٩٣) توفي سنة ١٢٢٥ م.

(١٩٤)؟.

(١٩٥) أبو الحسن علي الأشعري المتوفي حوالي سنة ٩٤١ م. (ويقصد المؤلف مذهب أهل السنة). (المراجع).

(١٩٦) أي الشيعة (ويقصد الشيعة الإمامية أو الجعفرية أو الاثني عشرية) (المراجع).


في مناسبات عديدة جر الناس إلى مذهبه عن طريق القوة (١٩٧).

وفي الحق لا يوجد سوى مذهب واحد صحيح ينتظم جميع أنحاء العالم الإسلامي.

الباحثون عن الكنوز

هذا ويوجد أيضا في فاس رجال يدعون الكنازين الذين ينهمكون في البحث عن الكنوز المدفونة في أساسات الأبنية الأثرية القديمة. ويذهب هؤلاء الحمقى إلى خارج المدينة وينقبون في العديد من الكهوف وفي الأطلال كي يجدون فيها هذه الكنوز ، وذلك لاقتناعهم بأن الرومان ، حينما خسروا امبراطورية إفريقيا واضطروا للهرب إلى بلاد بيتيكا الأسبانية ، طمروا في ضواحي فاس عددا كبيرا من الأشياء الثمينة ذات القيمة مما لم يستطيعوا حمله معهم. وسحروها ، ولهذا السبب يعمل هؤلاء للبحث عن السحرة للكشف عن هذه الكنوز. وهم لا يعدمون أناسا يدعون أنهم رأوا في نفق ذهبا أو فضة ويقولون إنهم عجزوا عن أخذها لأنهم يجهلون الرقى المناسبة ولأنهم يفتقرون للعطور المختصة. واستنادا إلى هذا المعتقد الذي لا طائل من ورائه ينبشن الكنازون الأرض ويتلفون العمارات والمقابر أحيانا. وينتقلون أحيانا لمسافة عشرة أو اثني عشر يوما من فاس ، وتمادى بهم الأمر حتى أصبح لديهم كتب ترد فيها أسماء الجبال والمواقع التي دفنت فيها الكنوز الكثيرة. ويحتفظون بهذه الوثائق وكأنها النصوص المقدسة. وقبل مغادرتي فاس أقام هؤلاء الكنازون ، وهذا من جملة جنونهم ، أمينا لهم وقدموا لملاك الأراضي تعهدا بإصلاح الضرر الناجم عن قيامهم بالحفريات التي يرغبون في القيام بها.

الكيمائيّون

لا تتصوروا أن فاس يعوزها الكيمائيون! على العكس فأولئك ينصرفون إلى دراسة هذا الفن اللامعقول والباطل كثير والعدد جدا. وهم أكثر الناس قذارة وأشدهم نتنا في العالم بسبب الكبريت والمواد الأخرى الكريهة الرائحة التي يقومون بتركيبها. ويجتمعون

__________________

(١٩٧) «أي ملوك الأسرة الصفوية الذين شنوا حروبا مريرة على العثمانيين المنهمكين وقتئذ في فتح أوربا ومقارعة البرتغاليين في المحيط الهندي والبحر الأحمر والأسبان في ثغور بلاد المغرب العربي» (المترجم).


في أمسية كل الأيام تقريبا ، في الجامع الكبير ، ويتناقشون في الاكتشافات المزعومة. ولديهم العديد من المؤلفات في هذا الفن ، وهي كتب دبجت بأقلام كتاب لا معين. وكتابهم الرئيسي هو كتاب «جابر» الذي عاش بعد وفاة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم بمائة عام ، والذي كان ، كما يقال ، يونانيا اعتنق الإسلام (١٩٨) وقد كتب كتابه مقتصرا على بضعة رموز ، وذلك حتى بالنسبة للوصفات التي يقدمها. وهناك أيضا مؤلف آخر يدعى الطغرائي (١٩٩) الذي عمل كاتبا لدى أحد سلاطين بغداد (٢٠٠). ولقد تكلمنا عنه بإسهاب أكثر في كتابنا عن حياة الفلاسفة العرب (٢٠١). وقد ظهر مطول آخر في الكيمياء ، على شكل قصائد تتعرض لكل تفاصيل هذا الفن الذي ألفه أستاذ يدعى المغيربي (٢٠٢)(*) الذي كان من أصل أندلسي. وقد شرح هذا الكتاب مملوك من دمشق ، وهو رجل قدير جدا في هذا الفن ، ولكن الشرح يستعصي على الفهم أكثر من النص.

والكيمائيون على صنفين : فالبعض يتابعون البحث عن الإكسير ، اي عن المادة التي تمنح كل معدن لونه أو لكل فلز ، في حين ينقطع الآخرون إلى تجارب عن إكثار عدد المعادن عن طريق اللدائن.

ولكن لا حظت أن الهدف الذي يسعى إليه هؤلاء الناس يقودهم في أكثر الأحيان إلى صنع غملة مزيفة وهكذا يفتقر إلى المهارة معظم الذين نصادفهم من هذه الطوائف في فاس.

__________________

(١٩٨) أبو موسى جابر بن حيان الصوفي. وكان اسمه حنا جبر. ولد في طرسوس في كيليكيا في أواخر القرن الثامن الميلادي.

(١٩٩) أبو اسماعيل الحسن بن علي الطغرائي المتوفي سنة ١١٢٢ م.

(٢٠٠) السلطان سعود السلجوقي.

(٢٠١) لقد وصلنا النص اللاتيني لهذا العرض الذي كان كما يظهر ، معدا لأن يكون جزءا من كتاب شامل للمؤلف.

ويتعرض هذا الكتاب لذكر ثلاثين شخصية إسلامية ، منهم الطغرائي. وقد صدر عام ١٦٦٤ م.

(٢٠٢) لقد ورد ذكر المغيربي هذا في مقدمة ابن خلدون.

(*) عرض ابن خلدون للكيمياء في الفصل الحادي والثلاثين من الباب السادس من مقدمته ، وبين أساليب المشتغلين به وفساد مناهجهم وتكلم على أشهر المؤلفين فيه ومن بينهم مسلمة المجريطي وتلميذاه أبو بكر بن بشرون وأبو السمح ، وابن المغيربي الذي ورد ذكره في النص الذي نعلق عليه وقال في شأنه : «ولابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشعر ، ملغوزة كلها لغز الأحاجي والمعاياة فلا تكاد تفهم» (انظر مقدمة ابن خلدون ، الطبعة الثانية للجنة البيان تحقيق الدكتور علي بن عبد الواحد وافي ، الجزء الرابع صفحات ١٣٠٦ ـ ١٣١٩) (المراجع).


المشعوذون وسحرة الأفاعي

وأخيرا يوجد في فاس كمية من هؤلاء الحثالة من الناس الذين يطلق عليهم فى إيطاليا تسمية شيورماتوري ، أو المشعوذين. وهؤلاء الرجال هم أناس لا قيمة لهم ، ينشدون قصائد في الحدائق العامة ، وأغاني وترهات أخرى وهم يلعبون بالدفوف والرباب والعود وبآلات أخرى ، ويبيعون للجمهور الجاهل أوراقا صغيرة كتب عليها كلمات ووصفات ضد مختلف الأوجاع ، كما يزعمون.

ويضاف إلى هؤلاء المشعوذين نوع آخر هو أكثر الجميع خسة ، وكلهم من نفس الزمرة ، والذين يتجولون في المدينة ويعملون على ترقيص القردة ، ويحملون أفاعي حول عنقهم وفي أيديهم. هذا كما يقومون أيضا ببعض أشكال من ضرب الرمل ويقولون للنساء معلومات عن المستقبل. وأخيرا يجرون خلفهم بعض الفحول من الخيل لسفاد الأفراس التي تجلب إليهم مقابل أجر.

وفي مقدوري الآن متابعة هذا العرض المفصل للخصائص التي يتميز بها أهل فاس. ولكن يكفي أن أقول إنهم ، في معظمهم ، مكروهين لا يحبون الغرباء ، مع أن فاس لا تضم عددا كبيرا من الغرباء لأن هذه المدينة تقع على مسافة مائة ميل من البحر المتوسط ، كما لا توجد بين فاس والبحر سوى طريق رديئة عسيرة المسلك بالنسبة للغرباء.

وسأقول أيضا إن أفرادها متعجرفون جدا ، ويصل هذا إلى حد يجعل الذين يقصدونهم قلة من الناس وهناك أيضا علماء وقضاة لا يحبون ، نظرا لشهرتهم ، أن تكون لهم علاقات إلا مع بعض الأشخاص فقط.

والخلاصة ، ومهما كان الأمر ، فإن فاس مدينة جميلة ، هادئة وجيدة التنسيق.

وفي خلال الشتاء يكثر الوحل في فاس حتى ليضطر الإنسان أن يتجول في المدينة وهو لابسأ القبقاب المعهود في هذه البلاد. لكن توجد فوق قنوات الماء قساطل تسمح بشطف كل الشوارع ، وحينما لا تكون هناك مواسير للماء يجمع الوحل وينقل على ظهور الحمير ثم يرمى به في النهر.


أرباض المدينة الخارجية

يقوم في خارج فاس من ناحية الغرب ، ربض يضم حوالي خمسمائة أسرة ، ولكن كل بيوته قبيحة. وهنا يقطن فقراء الناس ، كالعكامين والسقائين وحطابي القصر الملكي. بيد أن هذا الربض يضم العديد من الدكاكين وكل فئات الصناع. كما يقطن فيه كل المشعوذين والموسيقيين من الطبقة الدنيا. ويقيم فيه بنات الهوى الكثيرات العدد وهن قبيحات وخسيسات. وتظهر في الشارع. الرئيسي من هذا الربض الحفر العديدة المنقورة بالأزميل لأن أرضه من صخر كلسي. وكان قمح أمراء فارس في الماضي يحفظ في هذه الجباب ، ولم يكن الربض مأهولا في تلك الفترة ، بل كان لهم فيه حراس لحراسة حبوبهم. وما أن اندلعت الحروب حتى أصبحت الحبوب عرضة لنهب العدو ، وشيدت صوامع في فاس الجديدة وأهملت الصوامع التي كانت واقعة في خارج المدينة. ولبعض هذه الصوامع حجم مدهش ويتسع أصغرها لألف كيل من الحب. ونجد هنا مائة وخمسين جبا لخزن القمح ، وكلها مفتوحة الآن. وبما أنه يحدث أن يقع بعض الأشخاص في هذه الجباب ، فقد أحيطت فوهاتها بجدار صغير. وعند ما يريد حاكم فاس تنفيذ حكم إعدام سري فإنه يقذف بجثة المحكوم في أحد هذه الجباب. ولهذا الغرض يوجد في القصبة باب خاص يؤدي إلى هذا المكان. وتقوم في هذا الربض أمكنة لعب الميسر ، ولكن لا يلعب المقامرون فيها بغير النرد ، وهنا يمكن أيضا بيع الخمر ، وإقامة حانة ، أو بيت للدعارة. وهكذا يمكن القول بأن هذا الربض هو ملتقى كل أوضار المدينة. ولا يمكن رؤية أي شخص كان في الدكاكين بعد الساعة العشرين مساء (٢٠٣).

هذا ويوجد أيضا ربض آخر يسكنه المجذومون ويضم قرابة مائتي بيت ، ولهؤلاء المجذومين إمامهم ورئيسهم الذي يجمع عائدات بضعة عقارات موقوفة على المجذومين في سبيل الله حبسها عليهم بعض الأشراف وأشخاص آخرون. وتتوافر لهؤلاء المرضى كل الضروريات بحيث لا يحتاجون إلى شيء. ووظيفة أئمة المجذومين تتمثل في تخليص

__________________

(٢٠٣) كان هذا الربض يسمى المرسى ، ومعناها الأرض المحفورة بالجباب. ويوضح مارمول أن جباب القمح هذه كانت فوق ساحة تجاه باب الغدر. ونعرف أن معظم القصبات كان لها باب يحمل هذا الاسم. ويضيف مارمول أن البيوت كانت على ضفة النهر ذاتها ، حتى أن الأولاد الشريرين الذين كانت الشرطة تطاردهم كانوا يلقون بأنفسهم في النهر ويهربون باتجاه بساتين الضفة الأخرى.


المدينة من كل شخص مصاب بالجذام. وهم مخولون إخراج أي شخص مصاب بالمرض المذكور من المدينة وإسكانه في هذا الربض. وإذا مات مجذوم دون وارث ، فإن نصف تركته يعود لبلدية الربض ، والنصف الثاني للشخص الذي أرشد لحالته عند إصابته. وإذا كان للمجذوم أبناء عادت التركة لأولاده. وعلينا أن نعرف أن المصابين ببقع بيضاء فوق أجسامهم يعتبرون في عداد المجذومين (٢٠٤) وكذلك المصابون بأمراض مستعصية على الشفاء (٢٠٥). وعلى مسافة ما من هذا الربض المذكور يقوم ربض آخر يسكنه العديد من البغالة والخزافين والبنائين والحطابين. وهذا الربض صغير يحوي حوالي مائة وخمسين أسرة (٢٠٦)

هذا ويوجد أيضا ربض كبير على الطريق الواقع إلى الغرب من فاس ، ربض يؤوي قرابة أربعمائة أسرة ، ولكنه لا يشتمل إلا على خرائب يسكنها فقراء الناس وفلاحون لا يريدون أو لا يستطيعون الإقامة في البوادي (٢٠٧).

ويقع بجوار هذا الربض سهل كبير يمتد من الربض حتى النهر على مسافة ميلين تقريبا (٢٠٨). ويمتد هذا السهل على طول ثلاثة أميال (٢٠٩) في اتجاه الغرب. ويقام فيه سوق كل يوم خميس. ويجتمع فيه الناس بأعداد كبيرة ، ويأتون إليه بماشيتهم والتجار بسلعهم (٢١٠)

__________________

(٢٠٤) أي المصابون بالسهق.

(٢٠٥) لا يعطي الرحالة الفرنسي مارمول اسم هذا الربض ، بل يكتفي بالقول بأنه يوجد فيه مارستان ، أي مستشفى وكانت مراكز العزل هذه تدعى في المغرب حارة ، غالبا ، أي الحي المخصص للمجذومين ، ويحدد مارمول مكان هذا الحي في غرب المدينة ، ولكن من المحتمل جدا أنه كان يقع في غرب باب الغصة ، قرب الكهوف وحيث أقام السلطان المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق هذا المركز سنة ١٢٦٠ م.

(٢٠٦) سمي مارمول هذا الحي ربض الكيفان ، جمع كف ، ومعناه الجرف الجبلي المثقب بالكهوف ـ ويذكر أن هؤلاء الفقراء يسكنون الكهوف. وتدعى الأرض الواقعة غرب قبور المرينيين إلى الشرق من البرج الشمالي ، وشمالي الطريق الدائري حول مدينة فاس ، بإسم كف المصابيح. أما الأراضي الواقعة إلى الجنوب منه فتدعى كف المليك مما يدفعنا للافتراض بأن «الكيفان» كان يقع في هذه الأنحاء.

(٢٠٧) يسمي مارمول هذا الربض باسم سوق الخميس ، ويحدد مكانه في غربي الربض السابق على طريق مكناس والقصر الكبير ويجب أن يفهم من ذلك أن هذا الطريق كان ينطلق من باب العقبة ، وينطبق تقريبا على الطريق الدائري الحالي في فاس. وكان يقع هذا الربض على الأغلب ، على حافة المحاجر القديمة الواقعة شمالي قصبة الشراردة التي شيدت سنة ١٦٧٠ م.

(٢٠٨) لا تخلو هذه المسافة من مبالغة شديدة ، إذ لا يمكن أن تتجاوز المسافة نصف ميل أو ٨٠٠ م من الربض حتى النهر.

(٢٠٩) أي قرابة ٥ كم ، وهذه مسافة لا تخلو من مبالغة أيضا.

(٢١٠) أي الرسم التجاري على المبيعات.


الواردة من الخارج وينصب فيه كل واحد خيمته. وتقضي العادة أن يجتمع فيه الأشراف في جماعات صغيرة ويعهدون لجزار بذبح خروف ، ثم يقتسمون اللحم فيما بينهم ويعطون الرأس والكوارع للجزار أجرا له ، ويبيعون الجلد لتاجر الصوف. ولا يدفع هنا سوى رسم زهيد على المنتجات التي تباع في هذا السوق. ومن نافلة القول تحديد مقدارها. ولكن الشيء الذي لا أريد أن أغفل ذكره ، هو أنني لم أر في أي مكان آخر ، لا في أفريقيا ، ولا في آسيا ، ولا في إيطاليا سوقا توجد فيه بضائع بالقدر الذي يحتويه هذا السوق ؛ وأما قيمة ما يحتويه من بضائع فهذا شيء يستحيل تقديره (٢١١).

ويوجد في خارج المدينة جروف صخرية عالية تطيف بحفرة طولها ميلان ، ومنها يستخرج الحجر الذي يصنع منه الكلس (٢١٢) ، وفي الحفرة المذكورة تقوم أفران عديدة يحرق فيها الصخر الكلسي. وهذه الأفران كبيرة لدرجة أن بعضها يحتوي على ستة آلاف كيل من الكلس. والأشراف هم الذين يهتمون بهذه الصنعة ولكنهم من صغار النبلاء (٢١٣).

والى الغرب من فاس ، وفي خارج المدينة ايضا ، يوجد حوالي مائة مسكن من الأخصاص (٢١٤) القائمة على ضفة النهر. ويقطن هذه قصار والقماش (٢١٥). ويتم تبييض القماش على الصورة التالية : في كل فصل صيف يعمد كل قصار الى نقع أقمشته ثم ينشرها على المرج المجاور لكوخه. وعند ما تجف هذه يملأ من ماء النهر أو من السواقي قربة ماء مصنوعة من الجلد وذات مقبض خشبي ويرشه فوق أقمشته. وفي كل مساء يجمع أقمشته ويحملها لبيته أو للدكاكين المخصصة لبيعها. وهكذا تحتفظ المروج التي تنشر عليها الأقمشة بروائها الأخضر النضير على مدار العام. وعند النظر إليها من ساحة ما

__________________

(٢١١) لقد فقد سوق الخميس الكثير من الأهمية التي ذكرها المؤلف ، كما أنقرضت عادة الإشراف التي يشير إليها. وقد أدى بناء قصبة الشراردة إلى شطر هذا السوق إلى قسمين ، سوق صغار التجار قرب باب محروق ، وسوق الدواب في شمال وغرب القصبة المذكورة.

(٢١٢) ويسمى النورة في جزيرة العرب ، والجير في مصر وبلاد المغرب ، والشيد في فلسطين. ومن الكلس ظهرت عبارة كلسيوم في اللغات الأوربية.

(٢١٣) ويسمي مارمول حفرة أفران الكلس هذه افريغان ، ولا تزال قائمة قرب البرج الثاني الذي شيد بين ١٥٨٠ و ١٥٩٠ م.

(٢١٤) «لا تزال هذه الأحياء من الأكواخ تمثل ما يشبه العاهة في وجه كثير من المدن العربية ، وتدعى العشش في مصر ، والصرايف في العراق ، والصنادق في مدن الجزيرة العربية ، وأحياء القصدير من مدن المغرب» (المترجم).

(٢١٥) ومن هذا جاء اسم هذا الحي الذي يذكره مارمول باسم القصابين.


يعطي بياض هذه الأقمشة فوق خضرة المرج منظرا بهيجا للعين. ويبدو ماء النهر الشديد الصفاء من بعيد بلون أزرق سماوي أو لازوردي. وهذا ما أثار قريحة بعض الشعراء الذين نظموا حول هذا الموضوع قصائد تتميز بأبيات أنيقة جدا (٢١٦).

مقابر خارج المدينة

يوجد في فاس بضعة عرصات لدفن الموتى ، وقد وهبت هذه الأراضي لوجه الله من قبل الشرفاء لاستخدامها مقابر. ويوضع فوق جسم المتوفي ، أو بالأحرى فوق المكان الذي يرقد فيه ، قطعة حجر طويلة رقيقة ذات ظهر مثلث الشكل. وأما بالنسبة للنبلاء أو ذوي الشهرة فتقضي العادة أن توضع لوحة من الرخام عند الرأس وأخرى فوق القدمين.

وتنقش فوق هذه الصفائح أشعار تعبر عن العزاء لوفاة هذا العظيم ، وما تركته هذه الوفاة في النفوس من مرارة وأحزان. ويذكر تحت ذلك اسم المتوفي واسم آبائه وكذلك يوم الوفاة وسنته. وقد عنيت كثيرا بجمع كل كتابات الشواهد التي رأيتها ، وهذا ليس في فاس وحدها ، بل في سائر مدن بلاد البربر ، وجمعتها في مجلد صغير قدمته هدية لشقيق الملك الذي يحكم حاليا على إثر موت والده ، الملك الهرم (٢١٧). ومن بين هذه الأبيات ما يعمل على استنهاض عزيمة الناس وتعزيتهم على حزنهم ، في حين أن بعضها الآخر يزيد في كآبتهم وحسرتهم ، ولكن يجب أن يتذرع الإنسان بالصبر في تحمل هذه وتلك.

أضرحة الملوك

يشاهد في خارج فاس أيضا ، باتجاه الشمال ، قصر فوق تل مرتفع ، وهناك توجد أضرحة بعض الملوك المرينيين. وهي قبور فخمة الزينة ، كتاباتها منقوشة فوق المرمر ومنمقة بألوان زاهية ، تفيض نفوس المتأملين فيها بالإعجاب والتقدير (٢١٨).

__________________

(٢١٦) لقد تلاشت صناعة القصارين فوق المرج ، كما فقد وادي فاس رونقه السماوي اللون.

(٢١٧) هو محمد الشيخ الذي توفي سنة ١٥٠٤ م عند ما كان عمر المؤلف ستة عشر عاما.

(٢١٨) لم يبق شيء من قبور المرينيين سوى أطلال مهدمة فوق مرتفع كان يدعى حينئذ الكلة ، أي قمة التل


مزارع الاشجار المثمرة والرياض

تقوم في شمالي فاس مثلما تقوم في الشرق والجنوب منها ، مزارع جميلة مليئة بالأشجار المثمرة من كل صنف. وتخترق هذه المزارع بعض تفرعات النهر. ولكثرة هذه الأشجار يخيل للناظر إليها من بعد أنها غابة حقيقية. ولا تزرع الأرض هنا بأي نبات آخر غير أنها تسقى في شهر أيار (مايو). ولهذا السبب تنتج منها الثمار بوفرة. وثمارها من نوع جيد ، باستثناء الخوخ الذي لا ينتج ثمرا لذيذ الطعم كثيرا. ويقدر ما يباع في اليوم من كل موسم خمسمائة حمل من الثمار ، فيما عدا العنب الذي لا أحسبه ضمن هذا الرقم. وتنقل كل أحمال الفواكه هذه إلى مكان معين في المدينة ، حيث يدفع عنها الرسم ، وهنا تباع لباعة الفواكه الذين يأتون لشرائها. وفي هذا السوق ذاته يباع الرقيق من الزنوج ويدفع رسم عن مبيعاته.

وإلى الغرب من فاس تقع أرض واسعة (٢١٩) عرضها خمسة عشر ميلا (٢٢٠) بطول مقداره ثلاثون ميلا (٢٢١) تكثر فيها العيون والجداول الخاصة بالجامع الكبير ، وقد استؤجرت الأرض من قبل البساتنة الذين يزرعون فيها الكتان والبطيخ والكوسا والخيار والجزر واللفت والقرنبيط والخس وسواها من الخضر ، وتزرع هذه المحاصيل بمقادير كبيرة جدا حتى لتقدر كمية المحاصيل التي تنتجها هذه الأرض بخمسة عشرة ألف حمل في الصيف ومثلها في الشتاء. ولكن هذه الأرض وخيمة ووجوه سكانها شاحبة ، وهم يشكون من حميات شديدة (٢٢٢) ويموت منها عدد كبير منهم.

مدينة فاس الجديدة

مدينة فاس الجديدة محاطة بأسوار بديعة عالية حصينة للغاية. وقد بنيت في سهل بهيج ، قرب النهر ، على مسافة ميل تقريبا غرب المدينة القديمة ، إلى الجنوب قليلا. ويمر بين السورين ذراع من النهر الذي يتجه نحو الشمال والذي تقع عليه الطواحين. وينقسم الذراع الآخر لهذا النهر إلى فرعين يمر أحدهما بين المدينة القديمة والمدينة الجديدة ، إلى

__________________

(٢١٩) كانت تدعى أرض زواغة.

(٢٢٠) ٢٥ كم.

(٢٢١) ٥٠ كم.

(٢٢٢) لعلها الملاريا.


جانب القصبة ، ويتابع الآخر سيره في الوادي وسط مزارع الأشجار القريبة من المدينة القديمة حتى يدخلها من الطرف الجنوبي. ويمر الذراع الذي يخترق القصبة من مدرسة الملك أبي عنان. وقد بنى يعقوب بن عبد الحق (٢٢٣) وهو أول ملك من بني مرين هذه المدينة (٢٢٤) ولكن ملك تلمسان (٢٢٥) تسبب له في الكثير من المشاكل ، سواء بسبب دعمه الشديد لملوك مراكش أو بسبب حرصه على أن يحول دون تعاظم قوة المرينيين. وعندما فرغ يعقوب من حرب مراكش راودته رغبة الانتقام من ملك تلمسان ، فقرر شن حرب عليه ووجد أن مواقع قلاع مملكته نائية جدا عن تلمسبان. وهكذا قرر بناء هذه المدينة الجديدة ، ورأى أن ينقل إليها مقر الحكومة الملكية ، التي كانت حينئذ في مراكش. وقد تم له ذلك ، وأطلق على المدينة اسم المدينة البيضاء. ولكن الشعب سماها منذ ذلك الحين فاس الجديد.

وقد عمل الملك على تقسيم هذه المدينة ثلاثة أقسام منفصل بعضها عن بعض. فالأول للقصور المخصصة للملك وأبنائه وإخوته. ورغب يعقوب أن يكون لهذه القصور حدائقها. وشيد بجوار قصره جامعا غاية في الجمال ، كثير الزينة ، ذا هندسة عجيبة. وشيد في الجزء الثاني من المدينة زرائب كبيرة للخيل التي يستخدمها في ركوبه وعدة قصور لقواده ولأكثر شخصيات بلاطه تميزا. واختط سوق المدينة ونظمه بين الباب الغربي والباب الذي يطل على الشرق. ويبلغ طول هذا النهج نصف ميل. وهنا تقع دكاكين الباعة والحرفيين من كل صنف. وبنى رواقا كبيرا بجوار الباب الغربي عند السور الثاني مع عدة حجرات صغيرة يجلس فيها حارس المدينة مع جنوده ومستخدميه. أما القسم الثالث فكان مخصصا لسكنى الحرس الملكي الخاص ، الذي كان يتألف حينذاك من بعض المشارقة (٢٢٦) المسلحين بالقسي ، لأن استعمال راشقة السهام لم يكن حينئذ قد شاع في البلاد. وكان هؤلاء يتقاضون مرتبا عاليا من الملك. ويوجد الآن فوق هذا المكان بضعة جوامع مع حمامات جميلة جدا ، كلف بناؤها نفقات كبيرة.

وتقوم بجوار القصر الملكي دار سك العملة التي تدعى السكّة. وتتألف من بناية

__________________

(٢٢٣) أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق.

(٢٢٤) كانت حفلة وضع الأساس في ضحى الأحد ٢٣ آذار (مارس) ١٢٧٦ م.

(٢٢٥) وهو يغمو راسن بن زيان.

(٢٢٦) من الأتراك ، وكانوا يسمون الغز.


تحيط بساحة مربعة ، وهي مقسمة إلى عدة حجيرات يعمل فيها العمال المعلمون. ويوجد في وسط الباحة مكتب يشغله مدير السكة مع محاسبيه وكتبته ، لأن السكة في فاس ، كما هو الشأن في غيرها ، مؤسسة تعمل لحساب الملك ويختص هو بعوائدها.

وإلى القرب من السكة يقع السوق الذي توجد فيه دكاكين الصاغة. وأمين هؤلاء الصاغة هو الشخص الذي يحتفظ بمنقش المعادن وبالقوالب النقدية (الدمغة). فلا يمكن صنع أي خاتم ولا أي شيء من فضة أو من ذهب في فاس ، إذا لم يكن المعدن منقوشا بيده (مدموغا) ، والذي يحاول بيع شيء لا يحمل نقشا يتعرض لخسارة كبيرة. ولكن كل شيء منقوش يباع بالسعر العادي ويمكن استعماله للتسديد مثل النقد. ومعظم الصاغة من اليهود الذين ينجزون أشغالهم في فاس الجديد ثم يحملونها إلى المدينة القديمة لبيعها. وقد اختصوا بسوق قرب سوق العطارين. ولا يمكن صياغة الذهب ولا الفضة في المدينة القديمة ، ولا يمكن لأي مسلم أن يمارس مهنة الصائغ ، إذ ينظر إلى الذي يبيع الأشياء الذهبية أو الفضية بسعر اعلى من الذي يساويه وزنها على أنه ربا. ولكن الملك يعطي اليهود الترخيص بممارسة صناعتها. ومع هذا يوجد في المدينة القديمة بعض الصاغة الذين يصنعون الحلى لأهل المدينة فقط ، ولكنهم لا يربحون سوى أجر يدهم.

ويشغل اليهود في أيامنا جزءا من المدينة كان يسكنه في الماضي الحرس الرماحة (٢٢٧). وكانوا يسكنون في المدينة القديمة سابقا. ولكن كان المسلمون ينهبون ممتلكاتهم في كل مرة يموت فيها ملك ، مما حدا بالملك أبي سعيد (٢٢٨) لأن يجليهم عن المدينة القديمة إلى المدينة الجديدة مع مضاعفة الجزية. وهناك يقيمون اليوم (٢٢٩) ، وهم يشغلون شارعا طويلا جدا وعريضا للغاية حيث تقع فيه دكاكينهم وكنائسهم.

وقد تزايد السكان اليهود تزايدا كبيرا حتى لم يعد من الممكن معرفة عددهم ، وخصوصا بعد إجلاء اليهود عن الأندلس على يد ملوك أسبانيا (٢٣٠). وهم محتقرون من كل الناس. ولا يحق لأي منهم أن ينتعل أحذية ، فهم لا يلبسون سوى نعال من القش

__________________

(٢٢٧) وربما كان هؤلاء من النصارى وليسوا من الغز الأتراك.

(٢٢٨) أبو سعيد عثمان الذي حكم بين ١٣٩٨ ، ١٤٢١ م.

(٢٢٩) أطلق على هذا الحي اليهودي اسم ملاح. والذي كان هو الحي الذي قدموا ليسكنوه ، ثم تعمم هذا الاسم فيما بعد على كل أحياء اليهود

(٢٣٠) في عام ١٤٩٣ م أي بعد عام واحد من سقوط غرناطة.


ويضعون فوق رءوسهم عمامات سوداء. أما الذين يريدون أن يلبسوا قلنسوات فعليهم أن يخيطوا فوقها قطعة من قماش أحمر. وتبلغ جزية يهود فاس أربعمائة دينار شهريا لمصلحة الخزينة الملكية.

وقد تزودت فاس الجديدة خلال مائتين وأربعين سنة من تأسيسها بأسوار قوية وبقصور وجوامع ومدارس وبجميع التحسينات التي يمكن أن تتوافر في مدينة ما. وأظن أنه أنفق على هذه التجميلات مبلغ أكبر من ذلك الذي كلفه بناء الأسوار التي تحيط بها.

وقد أقيمت على النهر في خارج المدينة نواعير كبيرة تستمد الماء من النهر وتسوقه من فوق السور حيث بنيت قنوات تدفع بالماء إلى القصور والحدائق والجوامع. وقد صنعت هذه النواعير في عصرنا أي منذ مائة عام تقريبا. أما في الماضي فكان الماء يأتي إلى المدينة بواسطة قناة تأتي من مسافة عشرة أميال (٢٣١). وكانت القناة تمر من فوق حنايا متقنة البناء جدا. ويقال إن هذه القناة قد بنيت حسب مخططات معلم جنوي ، وهو تاجر ، وكان مقربا كثيرا من الملك في ذلك الوقت. أما النواعير فقد صنعها إسباني. وهي في الحق شيء عجيب ، لا سيما تلك الخاصة ، وهي أنه مهما بلغت قوة تيار الماء فهي لا تدور أبدا أكثر من أربع وعشرين دورة في يوم وليلة.

بقي علي أن أقول إنه لا يسكن في فاس الجديدة سوى قلة من الأشراف ، فيما عدا أقارب الملك وبعض أهل البلاط. ويتألف كل الباقين من الدهماء الذين يمارسون الخدمات الدنيئة. ويعود هذا إلى الناس ذوي السمعة الطيبة والنوعية الجيدة يأنفون من العمل في وظائف الحاشية الملكية ، حتى أنهم لا يرتضون تزويج بناتهم من العاملين في البلاط.

نمط الحياة المألوف في بلاط ملك فاس

لا نجد بين ملوك أفريقيا من نودي به ملكا أو أميرا عن طريق انتخاب الشعب ، ولا من سبق له أن استدعي من قبل الشعب من إقليم أو مدينة ولا يمكن لأي حاكم زمني ، باستثناء الخليفة ، أن يدعي بأنه حاكم شرعي استنادا إلى شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولكن بعد أن ضعفت الخلافة ؛ أخذ كل رؤساء القبائل التي كانت تعيش في الصحاري تحتل البلاد

__________________

(٢٣١) من عين عميار ، وهو نبع يقع جنوبي فاس.


المأهولة ، وبقوة السلاح بسط مختلف الملوك سلطتهم على خلاف شريعة محمد وعلى الرغم من الخلفاء الراشدين. وهذا ما حصل في المشرق حيث جاء الأتراك والأكراد والتتر والغز من الشرق ونصبوا منهم ملوكا. وهذا ما حدث في الغرب حيث أسست قبائل زناته مملكة ، ثم جاءت قبائل لمتونه ، ثم الموحدون وأخيرا بنو مرين فملكوا بالتعاقب. ومن الصحيح القول مع هذا بأن لمتونة قدمت لنجدة شعوب المغرب لانتشالها من أيدي المارقين عن الإسلام (٢٣٢) ، وبهذا المعنى يمكن اعتبار الملوك أصدقاء للأمة ، ولكنهم راحوا يمارسون سلطة يشوبها الطغيان كما رأينا.

ويفسر كل هذا في أيامنا كيف أن الملوك لا يعينون بموجب توارث حقيقي ، ولا من قبل كبار الشخصيات ، ولا من قبل قائد الجيش ، ولا عن طريق انتخاب الأمة ، ولكن يقسر كل أمير ، قبل وفاته ، الكبار وأكثر شخصيات بلاطه نفوذا ، على أداء القسم والاعتراف بابنه أو بأخيه خلفا له. وفي كثير من الأحيان لا يبر هؤلاء بقسمهم ، إذ يحدث دائما تقريبا ، أن يعين هؤلاء الأشخاص ملكا يعجبهم أكثر من سواه. وجرت العادة أن يتم تعيين ملك فاس حسب هذه الطريقة. وما أن يتم الاعتراف به ملكا حتى يسمى مستشاره الكبير من بين أكثر الشخصيات شرفا في حاشيته ، ويخصص له ثلث واردات مملكته. ويختار بعدئذ أمين سر لا يقتصر عمله على أمانة السر بل يكون خازن أمواله ومشرفا على شئون الجيش. ويعين بعد ذلك قادة الخيالة المكلفين بحماية مملكته ، ويقيم هؤلاء في الغالب ، في البوادي مع فرسانهم. ثم يقيم على كل مدينة حاكما يتمتع بدخل عوائدها مع التزامه بنفقات عدد معين من الفرسان على حسابه وتحت أوامر الملك ، ويكونون جاهزين للتعبئة في كل مرة يحتاج فيها الملك لحشد الجيوش. ثم يسمي بعدئذ القواد والوكلاء على القبائل التي تسكن الجبال وعلى العرب الخاضعين له. ويقوم القواد بتحقيق العدالة استنادا للتشريعات المختلفة لهذه القبائل. أما مهمة الوكلاء فهي جباية الضرائب وعليهم مسك كشوف حسابات دقيقة عن المدفوعات العادية وعن المدفوعات الاستثنائية. ثم يسمي الملك وجهاء يسمون كستود في لغة أهل البلاد (٢٣٣). ولكل واحد

__________________

(٢٣٢) يبدو أن المؤلف يعتبر الفتح المرابطي حملة جهاد إسلامية موجهة ضد برغواطة المارقة عن الإسلام ، أو ، وهذا أكثر احتمالا في نفسه ، يعتبره حملة جهاد سنية ضد خلافة الشيعة الفاطميين.

(٢٣٣) من الواجب تحديد المقابل لهذه الكلمة المستعارة من ألقاب رجال السلك البابوي في روما والتي تعني الحارس. أما التسميات العربية الدقيقة لموظفي المخزن الوطاسي التي يوردها المؤلف فقد درسها المستشرق ماسينيون ، ولكن هذه الدراسة تستدعي إعادة النظر ، ويسمى ماسينيون الواحد من هؤلاء النبلاء أي كستود : قائد الراحةQaidarraha


منهم قصر أو قرية أو اثنتان يستمد منهما موردا ، سواء لمعيشته الخاصة ، أو كي يكون دوما على استعداد لمصاحبة الملك في حالة الحرب. وعلى هذا النبيل نفقات المعيشة لعدد معين من الخيالة الخفيفة على نفقته عند ما يكون في حملة عسكرية. ولكنه لا يقدم لهم وقت السلم سوى القمح والسمن واللحم من بيته وهي المواد التي تكون ضرورية لهم على مدى العام ، وكذلك مبلغا زهيدا من المال. ولكن يكسوهم مرة كل عام. ولا يقع على عاتق هؤلاء الفرسان نفقات علف رواحلهم لا في الأرياف ولا في المدينة لأن الملك يقدم لهم كل ما هو ضروري. أما السوّاس فهم من العبيد النصارى الذين يحملون أغلالا غليظة في أرجلهم ويمتطي هؤلاء العبيد النصارى الجمال التي تحمل الأثقال عند مسيرة الجيوش.

ولدى الملك مفوض يهتم على الخصوص بالجمال. فهذا الموظف يشرف على الرجال الذين يسرحون بالإبل للرعي ويوزع المراعي. وهو يحدد عدد الحيوانات اللازمة لحاجات الملك. وعلى كل جمّال أن يقتني أثنين مجهزين دوما للتحميل عندما تصدر إليه الأوامر.

ثم يأتي بعد ذلك الصراف الذي تكون مهماته جمع الأقوات اللازمة للملك وللجيش وصيانتها وتوزيعها. ولديه عشر خيام أو اثنتا عشرة خيمة كبيرة يخزن فيها الأقوات. ويعمد لتبديل الإبل باستمرار كي ينقل التموين الضروري وكيلا يشتكي الجيش قط. ويكون مستخدمو المطابخ تحت إمرة هذا الموظف.

وهناك أيضا رئيس الزرائب الذي يعتني بخيول الملك وبغاله وجماله. ويأخذ من الصرّاف كل ما يلزم للإنفاق على هذه الحيوانات وعلى جهاز المستخدمين المكلفين بشئونها.

وهناك مفوض للحبوب وظيفته نقل الشعير وكل الأعلاف الضرورية لتغذية هذه الحيوانات ولدى هذا المفوض كتبة ومحاسبون لضبط محاسبة توزيعاته وهو يقدم تقريرا بذلك لأمين سر الملك.

وتحت تصرف الملك خمسون خيالا بقيادة قائد ، مهمتهم الإعلام عن الضرائب المرسومة عن كاتب الملك وباسم الملك. وهناك قائد آخر ، له مكانة فريدة ، وهو رئيس حرس الملك الخاص. وله سلطة الأمر باسمه على الموظفين المكلفين بمهمات التنفيذ ومصادرة الأموال وتطبيق مراسيم العدالة. ويستطيع توقيف شخصيات هامة وإيداعهم السجن وتطبيق العقوبات القضائية إذا أمره الملك.

وإلى جانب الملك يوجد مستشار ، وهو خادم أمين ، يحتفظ بالخاتم الملكي. وهو


الذي يكتب الرسائل الضرورية ويختمها بيده بهذا الخاتم. وهناك عدد كبير من الاتباع المشاة تحت تصرف الملك ، ولهم قائد خاص بيده تعيينهم وتسريحهم وتحديد أجرة كل واحد منهم حسب عمله. وعندما يستقبل الملك أحدا يكون هذا القائد حاضرا دوما ويقوم تقريبا بوظيفة حاجب.

وتحت تصرف الملك أيضا قائد للقوافل. ومهمته الإشراف على نقل الخيام التي تأوى اليها خيالة الملك الخفيفة. ويجدر بنا أن نشير الى أن خيام الملك تنقل على البغال في حين تنقل خيام الجنود على متون الإبل.

وهناك فرقة من حملة الأعلام. وهم يحملون الأعلام ملفوفة في أثناء السير. ويحمل واحد منهم فقط علما منشورا مرفوعا في طليعة القوات العسكرية. ويقوم حملة الأعلام هؤلاء بوظيفة الكشافة ويستكشفون الدروب ومخاضات الأنهار والغابات.

ولدى الملك العديد من الطبالين المزودين بطبول نحاسية لها شكل آنية ، عريضة في أعلاها ضيقة في أسفلها مع جلد رقيق مشدود عليها من الأعلى. ويحمل كل طبل على حصان النقل ويتوازن بواسطة ثقل مكافىء لأن هذه الأداة ثقيلة جدا. وخيول الطبالين هي أجود الخيول وأكثرها سرعة إذ يعتبر عارا كبيرا خسارة طبلة من هذه الطبول. وتدوي هذه الطبول برنين يثير الفزع كثيرا حتى إن دويها ليسمع حتى من مسافة كبيرة وتسبب ارتجاف الخيول وركابها وتقرع بعرق من عروق الثور.

هذا ولا يتعهد الملك بنفقة الأبواق ، لأن أهل المدن مجبورون على تقديم عدد معين منها ، وتكون كلها على نفقتهم. وتستعمل هذه الأبواق للدعوة إلى مائدة الملك وتستعمل كذلك إشارة للهجوم عند نشوب المعارك.

وهناك رئيس للتشريفات يقف عند قدمي الملك عندما يستقبل أو يعقد مجلسا ، ووظيفته أن يحدد للناس مكان جلوسهم ، ويجعلهم يتكلمون الواحد بعد الآخر بالترتيب ، حسب مرتبة كل واحد أو مكانته ويتألف حشم الملك الخاص في معظمه من الإماء الزنجيات ، وهناك عدد مماثل من خادمات القصر والخادمات العاديات. ولديه بعض الجواري النصرانيات ، وهن من الأسبانيات أو البرتغاليات. وجميع النساء تحت إشراف الخصيان وهم كذلك من الرقيق الأسود.

ولملك فاس مملكة واسعة الأرجاء ولكن ليس لديه دخل كبير ، فهو لا يكاد يناهز


ثلاثمائة ألف دينار ، ولا يصل ليده منها سوى الخمس ، لأن الباقي ينفق على الأوجه التي ذكرناها ، وفضلا عن ذلك فإن نصف هذا الدخل يتألف من حنطة ومن ماشية ومن زيت وسمن. وتجبى هذه الضرائب على وجوه مختلفات. ففي بعض الأنحاء يكون الدفع حسب مساحة الأرض التي يستطيع حراثتها زوج من الثيران في اليوم الواحد وهو دينار ونصف (٢٣٤) ، وفي أمكنة أخرى يدفع نفس المبلغ عن كل أسرة ، وفي جهات أخرى يكون الدفع عن كل فرد يزيد عمره على خمسة عشر عاما. ولا توجد أية أعباء مالية إضافية أخرى سوى الرسوم التجارية على البضائع والتي تجبى في المدن. ومن المقرر أنه من غير المشروع في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم جباية أية ضريبة غير الزكاة التي أمر الله بها (٢٣٥). فكل إنسان يملك مائة دينار نقدا عليه ، ما دام هذا المبلغ تحت تصرفه أن يدفع للملك دينارين ونصف دينار ، وكل إنسان يجني من أرضه عشرة مكاييل من الحب عليه أن يدفع العشر. وتنص الشريعة بأن تدفع هذه الزكاة إلى الخليفة الذي يستخدمها لحاجاته الخاصة وللصالح العام ، مثلما تفيده أيضا في إسعاف الفقراء والمرضى والأرامل ولدعم الحروب ضد العدو (*).

ولكن منذ أن تلاشت الخلافة اتخذ الخلفاء ، كما قلنا ، تدابير استبدادية إذ لم يكتفوا باغتصابهم كل هذه العوائد جملة وإنفاقها على هواهم ، بل أضافوا إليها ضرائب جديدة ، بحيث لا يوجد في سائر أفريقيا سوى القليل من الفلاحين الذين يستطيعون توفير ما يلزمهم لكسائهم وطعامهم. ونتج عن هذه الأوضاع أن أصبحنا لا نجد رجلا متعلما وشريفا يقبل أن يقيم علاقات عائلية مع الملوك العصريين ، أو أن يأكل معهم على نفس المائدة ، حتى ولا أن يقبل منهم هدية أو منحة. وتعتبر أملاك هؤلاء الحكام أكثر رجسا مما لو كانت مسروقة.

وأخيرا يحتفظ ملك فاس على الدوام بستة آلاف خيال من ذوي المرتبات ، وبخمسمائة من راشقي السهام ومثل عدد هؤلاء من حملة البنادق ، وكلهم من الفرسان ،

__________________

(٢٣٤) وحدة مساحية تسمى في شمالي بلاد الشام كدنة ، أو فدان (المترجم).

(٢٣٥) الزكاة وهي أحد الأركان الخمسة في الإسلام.

(*) مصارف الزكاة محددة في الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...) (آية ٦٠ من سورة التوبة) أنظر التفاصيل في كتب الفقه الاسلامي ، ومن هذا يتبين أن المؤلف يتخبط في بيان مصارف الزكاة. (المراجع)


وهم دائما على تشكيلة نظامية ، جاهزون لتنفيذ كل الأوامر الملكية. وعند ما تكون الدولة بحالة سلم وعند ما يكون الملك في خارج المدينة فإنهم يعسكرون على مسافة ميل من معسكر الملك. وعند ما يكون الملك في فاس فإنه لا يحتاج لحرسه. وإذا اقتضى الأمر تجريدهم للحرب ضد أعدائه العرب ، فهو لا يكتفي بفرسانه الستة آلاف ، بل يستخدم رعاياه العرب قوات رديفة. فيجمع عددا كبيرا منهم على نفقتهم الخاصة ، فلدى هؤلاء العرب من الخبرة في الحرب أكثر من فرسانه الستة آلاف.

وحفلات البلاط الملكي نادرة ، ولا يقبل الملك إقامتها عن طيب خاطر. ولكن هناك ضرورة يجب أن يخضع لها في مناسبة الأعياد وفي مناسبات أخرى إليك بيانها :

عند ما يرغب الملك في الركوب ، يقوم رئيس التشريفات بإعلام سعاة البريد باسم الملك. فيقوم هؤلاء بنقل ذلك الخبر إلى أهل المدينة مسبقا وإلى قواده والكستوديين (*) والنبلاء الأخرين. فيجتمع كلهم في الساحة الواقعة أمام القصر وفي الشوارع المجاورة. وعند ما يخرج الملك من القصر يقوم السعاة بحفظ النظام في الموكب. فيسير حملة الأعلام في الطليعة يتبعهم الطبالون. ثم يأتي رئيس الاسطبلات مع مرءوسيه وحاشيته ، ثم وكيل الخرج وجماعته ، ثم الكستوديين ، ثم رئيس التشريفات ، ثم كتاب الملك ، فخازنه فالقاضي فالقائد العام للجيش ، ثم يأتي الملك بصحبة المستشار الكبير وأحد الأمراء. ويتقدم الملك بعض الضباط على الخيل ، فيحمل واحد منهم سيفه ، والثاني ترسه والثالث راشقة سهامه. ويسير حوله الخدم المشاة ، فيحمل أحدهم حربته ، وآخر غطاء سرجى ولجام حصانه. وحينما يصل الملك يغطي السرج بهذا الغطاء ، ويوضع حزام الوجه فوق العنان كي يقاد الحصان باليد. ويحمل خاذم آخر قبقات الملك ، وهو حذاء من خشب مزدان بتطريزات بديعة للغاية وهي من مستلزمات الفخامة والتباهي. ويسير رئيس الخدم خلف الملك ثم يتبعه الخصيان ويضم الموكب بعدئذ عائلة الملك ويتبعها الخيالة الخفيفة ، ثم راشقو السهام ورماة البنادق.

ويكون اللباس الذي يرتديه الملك في هذه المناسبة متواضعا ولائقا. والذي لا يعرف الملك لا يصدق عينيه بأنه هو ذاته ، لأن الخدم يكونون متسربلين بثياب أكثر رونقا مصنوعة من أقمشة ثمينة ومنمقة. ولا يضع أي أمير مسلم أو ملك على مفرقه تاجا أو أي


شيء يماثله لأن شريعة محمد لا تبيح ذلك. وعند ما يستقر الملك في البوادي يبدأ بتشييد سور الحي الملكي الكبير في وسط المعسكر. ويتألف هذا السور من قماش (٢٣٦) مصنوع على هيئة اسوار قصر مع شرفات صغيرة. ويكون مربع الشكل ويكون طول كل ضلع خمسين ذراعا (٢٣٧). ويقام عند كلّ زاوية برج صغير له شرفاته وسقفه. ويعلو كل برج صغير كرة بديعة تبدو كأنها من الذهب. ولهذا السور القماشي اربعة ابواب يقف عند كل منها حارس من الخصيان. وتنصب الخيام في داخل السور. وتنصب الخيمة التي ينام فيها الملك وتطوى بسهولة كبيرة. وتنصب خيام الضباط وبطانة الملك من المقربين حول السور. وتنصب حول الخيام المذكورة خيام الكستوديين وتكون هذه من جلود الماعز كخيام العرب. ويقام في وسط المخيم تقريبا عنبر المؤن والمطبخ ومقصف خدم الملك وذلك في خيام فسيحة. وتوجد على مسافة غير بعيدة عنها خيام الخيالة الخفيفة الذين يأكلون في مطعم الملك ، ولكن بطريقة خشنة للغاية ويقع الاسطبل بعيدا نوعا ما ويتألف من مهاجع ترصف فيها الخيول بنظام ، واحد بجانب الآخر

ويخيم بغالة القافلة الملكية في خارج المعسكر. وهناك تقام دكاكين الجزارين والعقادين وكذلك باعة اللحم القديد. وينصب التجار والصناع الذين يتبعون الجيش خيامهم إلى جانب خيام البغالة.

وهكذا يبدو المعسكر الملكي بعد استقراره كأنه مدينة حقيقية حيث تقوم خيام الكستوديين فيه بدور الأسوار ، لأن هذه الخيام متلاحمة ، بحيث لا يمكن النفوذ لداخل المعسكر إلا من ممرات معينة. وتقوم الحراسة طول الليل حول السور الملكي ، ويتألف الحرس من أناس من أصل وضيع ولا يحمل أي منهم سلاحا. كما يقام حرس حول الاصطبلات. غير أنه نظرا لغفلة الحراس وكسلهم ، لم يحدث أن سرقت خيول فحسب بل عثر كذلك في داخل السور على خصوم تسللوا إليه لاغتيال الملك. ويمضي الملك العام كله تقريبا في الأرياف ، وذلك لحراسة مملكثه ، وللسهر على طمأنينتها ، ولتوثيق عرى الصداقة مع رعاياه العرب. ويتسلى الملك أحيانا بالصيد أو بلعب الشطرنج.

__________________

(٢٣٦) ويدعى بالبربرية عفرق.

(٢٣٧) حوالي ٣٥ مترا.


ولا أشك في أنني كنت مملا نوعا ما في هذا الوصف الطويل والغزير جدا عن مدينة فاس. ولكن كان من الضروري بالنسبة لي أن أطنب في الحديث عنها ، نظرا لأن حضارة بلاد البربر وعظمتها ، بل حضارة إفريقيا كلها وعظمتها ، يتمركزان فيها ، ومن ناحية أخرى كي أخبركم تماما بأدق التفاصيل عن وضع هذه المدينة وخصائصها.

مكرمده

مكرمده مدينة صغيرة تقع على مسافة عشرين ميلا (٢٣٨) شرقي فاس (٢٣٩). وقد بناها ملوك زناتة على ضفة نهر صغير في سهل بهيج جدا. وقد كانت في الماضي مركز كورة كبيرة وكانت آمنة للغاية. وتكثر الكروم ومزارع الأشجار المثمرة على طول النهر. وكان من عادة ملوك فاس منح عوائد هذه البلدة لرئيس وكلائهم على الإبل. ولكنها تخربت وهجرت على أثر حروب الأمير سعيد (٢٤٠) ولا يظهر منها اليوم سوى جدرانها. أما كورتها فمؤجرة لبعض أشراف فاس ولبعض المزارعين.

قصر العبّاد

وهو قصر مشيد فوق جبل عال على مسافة ستة أميال من فاس (٢٤١). ومن هذا القصر يمكن رؤية فاس والبوادي التي تحيط بها. ويعود أصل هذه التسمية إلى أنها كانت مقام زاهد يعتبره سكان فاس من الأولياء. ولكن هذا القصر لا يحوي حوله سوى القليل من الأراضي الصالحة للزراعة ، ولهذا فهو غير مأهول ، وبيوته مهدمة. ولم يبق منه سوى السور والمسجد. غير أن الأرض الزراعية الزهيدة فيه تخص جامع فاس. وقد قضيت في هذا القصر أربعة فصول صيف ، لأن هواءه عليل جدا ومعتدل ، ولأن هذا المكان المنعزل مناسب كثيرا لمن يرغب في الدرس ، ولأن والدي استأجر هذه الأرض مدة أربعة أعوام من وكيل الجامع (٢٤٢).

__________________

(٢٣٨) ٣٢ كم.

(٢٣٩) لم يمكن تحديد موقع هذه المدينة ، ولعلها كانت تقع في وادي ايناون.

(٢٤٠) بين ١٤١١ و ١٤١٢ م.

(٢٤١) ١٠ كم.

(٢٤٢) لا يزال هناك ضريح سيدي أحمد البرنوسي وهو واقع فوق هضبة شمال شرق جبل زلاغ ، على ارتفاع ٧٥٩ م وعلى ارتفاع حوالي ٥٥٠ م من وادي سبو ، ٣٠٠ م من سهل فاس.


الزاوية

الزاوية بليدة بناها يوسف ، ثاني ملوك بني مرين (٢٤٣) وتقع على مسافة تقارب أربعة وعشرين ميلا (٢٤٤) من فاس (٢٤٥). وقد أسس الملك فيها دار ضيافة كبيرة (٢٤٦) وأوصى أن يدفن فيها ، ولكن لم يشأ القدر ذلك ، فقد قتل أمام أسوار تلمسان في أثناء حصاره لها (٢٤٧). وبعد هذا تدهورت أحوال الزاوية وتحولت إلى أطلال. ولم يبق فيها قائما سوى جدران دار الضيافة ، ويقوم بزراعة أرضها العرب الذين يصل استغلالهم إلى أراضي فاس ذاتها.

خولان

خولان (٢٤٨) هو قصر قديم بني على ضفة نهر سبو ، على مسافة ثمانية أميال جنوبي فاس. ويوجد خارج القصر حمام ماء ساخن جدا ، وقد شيد أبو الحسن ، زابع ملك مريني ، بناية بديعة جدا فوق هذا النبع المعدني (٢٤٩) ومن عادة أشراف فاس أن يقصدوه مرة في العام ، في شهر نيسان (إبريل) ويبقوا هناك ما بين أربعة إلى خمسة أيام للراحة فيه وللتسلية. ولكن ليس في القصر من سكان سوى جماعة من الأجلاف مؤلفة من أراذل الناس ، ومن أكثرهم شحا.

__________________

(٢٤٣) أبو يعقوب يوسف الناصر ، حكم بين ١٢٨٦ و ١٣٠٧ م.

(٢٤٤) ٥ ، ٣٨ كم.

(٢٤٥) تحدد خرائط المغرب القديمة مدينة الزاوية في شمال غرب فاس. ومع أننا نجهل مصدر معلومات سامني هذه الخرائط ، فإن تعيينها لمواضع البلاد الواردة فيها يبدو في الغالب دقيقا لدرجة تبعث على الدهشة. والخرائط الحديثة من مقياس ١ على ٠٠٠ / ١٠٠ تضع الزاوية على مسافة ٧ كم تقريبا جنوب غربي «سبت الأوداية» وهي سوق هامة على ضفة نهر سبو اليسرى. و «سبت الأوداية» تبعد عن فاس بنفس المسافة المذكورة ، آنفا (٥ ، ٣٨ كم).

(٢٤٦) تقابل هذه الكلمة كلمة زاوية العربية.

(٢٤٧) لقد اغتيل الملك المذكور بتاريخ ٣٠ أيار (مايو) ١٣٠٧ م.

(٢٤٨) أو سيدي حرازم.

(٢٤٩) لقد اختفى القصر ، ولكن بقايا بنائه لا تزال ماثلة فوق النبع الذي لم يعد يعرف بغير اسم سيدي حرازم لأن اسم خولان أصبح منسيا. أما الملك أبو الحسن علي الذي حكم بين ١٣٣١ و ١٣٤٨ م والذي كان يلقب بأبي الحسنات فقد كان في الحقيقة سادس ملك مريني.


جبل زلاغ

زلاغ (٢٥٠) جبل يبدأ من سبو في اتجاه الشرق وينتهي غربا على مسافة تناهز أربعة عشر ميلا منه (٢٥١) وتقع قمته ، أي أعلى نقطة فيه ، في اتجاه الشمال ، على مسافة سبعة أميال من فاس (٢٥٢). وسفحه الجنوبي خاو تماما ، ولكن السفح المطل على الشمال مليء بأكمات رائعة يقوم عليها عدد لا يحصى من القرى والقصور. وتكاد تكون كل الأراضي الصالحة للزراعة مغروسة بالكروم التي تنتج أجود الأعناب ، وهي أكثر ما ذقت حلاوة في حياتي. ومن هذا النوع الممتاز كذلك أشجار الزيتون وجميع أشجار الفواكه الأخرى التي تنتجها هذه الكورة. ويرجع السبب في ذلك إلى أن أرضها جافة. وسكان هذه المنطقة من كبار الأغنياء ، وليس بينهم من لا يملك بيتا في مدينة فاس. ولكل أشراف فاس تقريبا كروم في جبل زلاغ. وتوجد عند حضيض الجبل ، وباتجاه الشمال أيضا ، سهول كثيرة البهجة وبساتين خضر لأن نهر سبو يسقي هذه السهول من الجنوب. ويصنع البستانيون ، بالاستعانة بالمواد المتوافرة لديهم ، نواعير ترفع ماء النهر لتروي به الأراضي الزراعية. ولهذا النطاق المزروع مساحة تعادل ما يستطيع حراثته مائتا زوج من الثيران. وقد منح إقطاعية لرئيس تشريفات الملك ، ولكنه لا يجني منها سوى خمسمائة دينار من الأرباح في العام ، لأن ضريبة العشور التي تذهب لبيت المال ترتفع أحيانا إلى ما يقارب ثلاثة آلاف كيل من الحب.

جبل زرهون

يبدأ الرزهون من سهى السايس على مسافة عشرة أميال من فاس (٢٥٣) ويمتد على مسافة ثلاثين ميلا (٢٥٤) نحو الغرب ويبلغ عرضه عشرة أميال (٢٥٥). ويبدو هذا الجبل من بعيد كأنه مغطى بالغابات ومهجور. ولكن كل هذه الأشجار هي أشجار زيتون ويضم

__________________

(٢٥٠) زلاغ أو بالبربرية أزلاغ أي التيس.

(٢٥١) ٥ ، ٢٢ كم.

(٢٥٢) ١١ كم ، وارتفاعه ٨٧٨ م وحوالي ٦٧٠ م فوق وادي سبو.

(٢٥٣) سهو والصحيح عشرون ميلا ، أو مسافة ٣٢ كم.

(٢٥٤) أي حوالي ٥٠ كم.

(٢٥٥) ١٦ كم.


حوالي خمسين قرية وقصرا. وسكانه على درجة كبيرة من الرخاء لأن هذا الجبل يقع بين مدينتين كبيرتين ، أي فاس من الشرق ومكناس من الغرب.

وتنسج النسوة فيه أقمشة صوفية مصنوعة حسب طراز البلاد ، ويتجولن وهن بأبهى زينة من الخواتم والأساور الفضية. ويتصف الرجال بمتانة البنية والجسارة. ويعهد إلى هؤلاء بصيد الأسود في الغابات لتقديمها إلى ملك فاس. وينظم هذا الملك مسرحا لصراع الأسود في داخل قصبته في ساحة واسعة. وتصف في هذا القاعة عدة صناديق كبيرة يتسع داخل كل صندوق منها لرجل يقف فيه ويتحرك بسهولة. ولكل صندوق باب صغير. ويجلس في كل صندوق رجل مسلح. وعندئذ يطلق الأسد حرا في الباحة ، ويقوم أحد هؤلاء الرجال بفتح باب الصندوق ، فيجري الأسد حالا نحوه وعند ما يصل الأسد لمسافة قريبة جدا منه يغلق على نفسه الباب. ويعمل كل واحد من الرجال نفس الشيء على التوالي إلى أن يصبح الأسد بحالة ثوران عنيف. ثم يدخل ثور إلى الساحة وتنشب معركة دامية حينئذ بين الحيوانين. فإذا قتل الثور الأسد فإن المشهد ينتهي عند ذلك في هذا اليوم. ولكن إذا قتل الأسد الثور فحينئذ يخرج الرجال المسلحون من صناديقهم لمبارزة الأسد. ويصل عددهم إلى اثني عشر رجلا يحملون بأيديهم حرابا تنتهي بنصل حديد طوله ذراع ونصف ذراع (٢٥٦) ، وإذا أظهر الرجال تفوقا على الاسد يختصر الملك عددهم. وإذا أظهر الأسد تفوقا على الرجال عمد الملك وأتباعه إلى قتله براشقات سهامهم وهم يسددون إليه من أعلى شرفاتهم حيث يمكن مشاهدة المنظر ويحدث في أكثر الحالات أن يقتل الأسد أحد المصارعين ويجرح الآخرين قبل أن يموت. وتبلغ الجائزة التي يمنحها الملك عشرة دنانير لكل مبارز فضلا عن كسوة جديدة. وهؤلاء الرجال هم من أهل جبل زلاغ ، وهم غاية في الشجاعة ، بينما يكون قناصو الأسود في البوادي من أهل جبل زرهون.

وليلى : مدينة في جبل زرهون

وليلى (٢٥٧) مدينة أنشئت فوق قمة هذا الجبل على يد الرومان في الزمن الذي كانوا

__________________

(٢٥٦) ٣٥ ، ١ م.

(٢٥٧) شكل قديم لاسم وليلة ، واسمها الحالي مولاي إدريس.


يحكمون فيه بلاد غرناطة الأندلسية. وهي محاطة برمتها بسور مبني بحجارة كبيرة منحوتة مع أبواب عالية عريضة. وتحيط بحوالي ستة أميال من الأرض (٢٥٨). ولكن هذه المدينة تخربت برمتها تقريبا على أيدي الأفارقة في العصور الغابرة. والحقيقة هي أنه عندما قدم إدريس الشيعي إلى هذه المنطقة (٢٥٩) بدأ فورا بترميم هذه المدينة وسكنها حتى لقد أصبحت بعد قليل من الوقت مدينة متحضرة يقصدها الناس كثيرا. ولكن بعد موت إدريس (٢٦٠) هجرها ابنه وراح يبني مدينة فاس كما سبق أن ذكرنا. ولكن مع هذا دفن فيها إدريس (٢٦١) ، وضريحه موضع تبجيل من جميع قبائل موريتانيا تقريبا التي تتردد على زيارته. لأن هذا الرجل لم يكن أقل من خليفة ولأنه ينحدر من سلالة محمد صلّى الله عليه وسلّم. أما اليوم فلم يبق في المدينة سوى بيتين أو ثلاثة تستخدم مسكنا لأولئك الذين يقومون بخدمة الضريح والتكريم الذي يستحق. والأرض حول المدينة مزروعة بصورة متقنة تماما ، إذ تقوم هنا بساتين بديعة ومزارع مزدهرة ، لأن هناك جدولين يستمدان منبعهما من داخل المدينة وينحدران بين تلال صغيرة في شعاب تقع فيها هذه المزارع.

قصر فرعون

قصر فرعون (٢٦٢) مدينة صغيرة قديمة أسسها الرومان على مسافة تقل قليلا عن ثمانية أميال (٢٦٣). ويؤمن سكان زرهون بعمق إلى جانب بضعة مؤرخين أن فرعون ، عزيز مصر في عصر موسى ، هو الذي بنى هذه المدينة ومنحها اسمه. وهذا لا يبدو صحيحا

__________________

(٢٥٨) هذا الرقم مبالغ فيه كثيرا.

(٢٥٩) أوائل أيام شهر ربيع الأول ١٧٢ ه‍ الذي يبدأ في ٩ أيلول (سبتمبر) ٧٨٨ م.

(٢٦٠) سنة ٧٩١ م.

(٢٦١) المقصود هو إدريس بن عبد الله. ولكن يجب مع هذا أن نذكر أن نصا قديما يوضح أن ابنه ، أي إدريس ابن إدريس ، قد توفي في وليلى بتاريخ ٢٨ آب (أغسطس) ٨٢٨ م وعمره ٢٨ عاما ودفن في مقبرة المدينة بجوار ضريح والده.

وهناك نص آخر يؤكد أنه توفي في فاس ودفن في جامعها ، وهو جامع الشرفاء. ولكن نلاحظ أن المؤلف عند وصفه مدينة فاس ، لم يشر إلى ذلك. وقد تلاشى قبر إدريس هذا بالفعل منذ زمن طويلى إلى أن تم ترميم هذا الجامع في ١٣٤٨ م فاكتشف قبر شخص مجهول. وقد أعلنت السلطات الحاكمة حينذاك بأنه ضريح إدريس بن إدريس. وسكوت المؤلف المطلق يدل على أنه لا يعتقد بصحة شخصية هذا القبر ، أو أنه على الأقل لم يكن له حينذاك نفس الإجلال العميق الذي يتمتع به في أيامنا.

(٢٦٢) يدعى قصر فرعون حاليا فولوبيليس VOLUBILIS وهو بذلك قد استرد اسمه الروماني القديم.

(٢٦٣) صوابه ميلان اثنان.


لأننا لا نقرأ في أي مكان أن فرعون والمصريين حكموا هذه المنطقة مطلقا. ولكن هذا الظن السخيف نتج عن كتاب معنون في لغة البلاد «كتاب نبوءات محمد» ألفه المدعو الكلبي (٢٦٤). ويزعم هذا الكتاب بأنه يروى عن محمد صلّى الله عليه وسلّم أن هناك أربعة ملوك حكموا العالم قاطبة ، منهما أثنان مؤمنان واثنان كافران : فالمؤمنان كانا اسكندر الكبير وسليمان بن داوود ، والكافران هما نمرود وفرعون موسى. أما بالنسبة لي ، فإن وجود بعض الحروف اللاتينية التي تقرأ على الجدران أعطتني اليقين المطلق بأن الرومان هم الذين بنوها. ويمر من حولها نهران صغيران ، أحدهما من جانب والآخر من الجانب الآخر من المدينة ، وكل الشعاب والتلال المحيطة بها مزروعة بالزيتون. وعلى مسافة ليست بعيدة عنها تقوم غابة تضم أعدادا كبيرة من الأسود ومن الفهود.

الحجر الأحمر (٢٦٥)

الحجر الأحمر مدينة واقعة على خاصرة هذا الجبل ، وقد بنيت أيام الرومان. وهي صغيرة وقريبة جدا من الغابة ، حتى أن الأسود تأتيها وتأكل العظام التي تعثر عليها فيها.

وقد ألف السكان كثيرا رؤية هذه الأسود حتى إن النساء والأولاد لا يخشونها. وجدران المدينة عالية ومبنية بحجارة ضخمة ، ولكنها متهدمة في معظمها. وأصبحت هذه المدينة الآن نوعا من قرية أو مدشر. وتكثر في أرضها المزروعة أشجار الزيتون والحبوب ، لأنها قريبة من أزغار.

مغيلة

مغيلة مدينة صغيرة قديمة ، بناها الرومان أيضا على نتوء هذا الجبل من الجانب الذي

__________________

(٢٦٤) ابن عمار الكلبي المتوفي سنة ٨٠٩ م.

(٢٦٥) مدينة غير معروفة الآن ـ وقد ذهب الرحالة مرمول Marmol إلى وجود أطلالها وأعطاها اسم «الدار الحمراء» ويحدد مكانها بالقرب من سوق الأربعاء التابع لخيبرKhaiber. ولكن لا يوجد أي أثر لمدينة الدار الحمراء ولا لسوق الأربعاء. وأما «خيبر» فليس في الحقيقة إلا اسما لواحد من الحيين اللذين تضمهما مدينة «مولاي إدريس» وأما الأطلال الرومانية المشار إليها فليست في الحقيقة إلا أطلالا لبلدة قديمة هي توكولوزيدTocolosidal وهي ممر «ملالي» (ممرين جبليين) على الطريق من مكناس إلى فولوبيليس VOLUBILIS ، وعلى مقربة منها يوجد كذلك موضع يسمى روئبات السبع Rouibates ـ Sabu (أي غابة الأسود).


يطل على فاس (٢٦٦) وتتبع هذه البلدة كورة طيبة في الجبل ، مغروسة كلها بأشجار الزيتون وكذلك كورة بديعة في السهل حيث نجد العديد من العيون الغزيرة. ويجنى من هذا السهل الكثير من القنب والكتان.

قصر الحياء (فرجوني Vergogne)

هذا القصر قديم جدا. وقد بني عند سفح جبل على الطريق الرئيسي بين فاس ومكناس. وقد سمي قصر الحياء لأن سكانه كانوا غاية في الشح ، كما هي العادة في كل البلدان الواقعة على طريق المسافرين. ويروى أن ملكا مر بها ذات يوم ، فدعاه أهل القصر لتناول الغذاء. فقبل الملك الدعوة. فذبحوا له بضعة خراف وملأوا الأوعية والقرب بالحليب حسب عادة البلاد كي يتناول الملك منه صباحا وجبة خفيفة. ولما كانت القرب كبيرة خطر ببال كل واحد منهم بأنه لو ملأ الواحدة منها نصفها ماء لما شعر به أحد ، وهذا ما صنعوه بالفعل. ولما أراد الملك متابعة سفره صباحا لم تكن عنده أية شهية في تناول الإفطار ولكن حاشيته ألحوا عليه في ذلك. ولما أفرغوا القرب وجدوا أن الحليب ممزوج بالماء ، ولما نمي إليه الخبر استغرق في الضحك قائلا : «يجب أن تعرفوا ، يا أصدقائي ، أن الغرائز الطبيعية لا يمكن أن تتلاشى» وخرج منها.

ويزرع عرب فقراء أراضي هذه البقعة (٢٦٧).

بني واريتين

وهي كورة تقع على مسافة ثمانية عشر ميلا إلى الشرق من فاس. وتتألف في جملتها من تلال مع أراض زراعية ممتازة ، وتنتج مقادير كبيرة من القمح ، وأريافها جميلة للغاية ،

__________________

(٢٦٦) تدل النصوص القديمة على أن مغيلة كانت تقع على طريق فاس ـ مكناس ، أي في السهل. وظل اسم مغيلة يعني نشزا صغيرا يشرف على وادي مغيلة ، ويقع على مسافة ١٦٠ كم غرب مفترق طريقي فاس ـ مكناس وطريق فاس ـ المحمدية (بور ليوتي سابقا) وعلى مسافة ٤٢ كم جنوب الطريق الأخير.

(٢٦٧) لا يزال اسم وموقع هذا المكان بحاجة إلى التحديد. ومع هذا يمكننا أن نلاحظ أنه على مسافة ٦ كم جنوب غرب مغيلة وشمال الطريق الذاهب من فاس إلى مكناس توجد أرض تحمل اسم بلاد المحية ، وهو اسم عشيرة معروفة ، توجد أهم جماعة منها في ضواحي وجدة في شرق المملكة المغربية. ومن الممكن أن يكون شبه هذا اللفظ بالكلمة العربية «المحيي» قد ساعد على تحريف هذا الاسم.


ومراعيها ممتازة لتربية الماشية. وفي هذه الكورة مائة قرية ، ولكنها تتألف من بيوت بائسة ، والسكان هم من فقراء الناس فلا يزرعون الكرمة ، ولا البساتين ، ولا أشجارا مثمرة ، وكان من عادة الملك توزيع عائدات هذه الكورة بين إخوته وأخواته الذين هم في سن صغيرة. ونعود للكلام عن السكان فنقول بأن لدى هؤلاء الوفير من القمح والصوف. ولكن هندامهم رديء وليس لهم من أنعام الركوب سوى الحمير حتى أن جيرانهم يهزأون بهم ويزدرونهم (٢٦٨).

كورة السايس

السايس هي أيضا كورة مجاورة لفاس ، وتقع على مسافة عشرين ميلا إلى الغرب وتقع كلها في بسيط من الأرض. وتنقل الروايات أنه كان هنا العديد من القصور والقرى. ولم يبق منها الآن أي أثر ، حتى ولا أية بقية من بناء ، ولكن أسماء المواقع الداثرة لا تزال حية. ويمتد هذا السهل على مسافة ثمانية عشر ميلا نحو الغرب ، وعلى مسافة عشرين ميلا في اتجاه الجنوب. والأراضي فيها ممتازة ولكنها تنتج قمحا أسود صغير الحبات. ولا نجد سوى القلة من الآبار والينابيع في هذه الكورة. وقد كانت دائما في أيدي العرب الذي يعيشون فلاحين ، أي أصبحوا مزارعين مستقرين. وقد أقطعها الملك لصاحب قصر فاس رحاكمها (٢٦٩).

جبل تغات (٢٧٠)

يقع جبل تغات على مسافة سبعة أميال تقريبا إلى الغرب من فاس ، وهو جبل عال جدا ولكنه قليل العرض. ويمتد إلى الشرق حتى نهر بني نصر الصغير أي على مسافة خمسة أميال (٢٧١) ، وجميع الجزء المطل على فاس مزروع بالكرمة وكذلك القمة. أما القسم الذي

__________________

(٢٦٨) لا يجوز خلط اسم ورايتين مع بني ورّاثين ، وهم اسم معروف بأشكال تختلف من حيث كتابتها في العديد من النصوص العربية. وقد اختفى هذا الاسم من المنطقة ولكن أرض بني ورايتين هي بالتأكيد هضبة بني سادن الواقعة بين نهر سبو وايناون.

(٢٦٩) إن فحص السايس ، أي سهل السايس معروف جيدا تحت اسم السايس الواقع إلى جنوب فاس مباشرة ، والسايس تعني الذي يخدم الخيل. ويبدو ذلك استنادا إلى «الوصف» أن المؤلف وضعه إلى أبعد من ذلك بكثير في اتجاه الغرب.

(٢٧٠) تغات ومعناها بالبربرية معزة. وارتفاعه ٨٣٧ م ويشرف على السهل من ارتفاع قدره ٤٥٠ م.

(٢٧١) لا توجد سوى شعاب ليس فيها ماء متجهة إلى الشرق من تغات وإلى الغرب منها ، كما أن اسم بونصر الذي يظن أنه كان يطلق على نهر ميكاسي قد اختفى.


يتجه نحو السيخ فهو عبارة عن أراض يزرع فيها القمح (٢٧٢).

وتوجد في قمة الجبل عدة كهوف وأنفاق يعتبرها الذين يذهبون إليها بحثا عن الكنوز (٢٧٣) أمكنة سرية أخفى الرومان فيها عند جلائهم ، كما يقال ، أشياءهم النفيسة جدا ، وفي خلال الشتاء عندما لا تكون هناك حاجة للاهتمام بكروم العنب ينهك هؤلاء المجانين قواهم مدفوعين بفضولهم ، في حفر واستئناف حفر الأرض الصلبة والصخرية. ومع ذلك يؤكد الجميع أنه لم يعثر فيها على شيء. كما أن ثمار هذا الجبل تبدو كئيبة المظهر ، ولعنبها منظر منفّر. وتنضج هذه الثمار والأعناب قبل نظائرها في المناطق المجاورة.

تيغريغره

تيغريغره اسم لجبل يجاور جبال الأطلس ، على مسافة أربعين ميلا (٢٧٤). ويقع جبل تيغريغره بين سهلين كبيرين. يقع الواحد من طرف فاس ، أي الكورة التي تكلمنا عنها قبل قليل ، والتي تدعى السايس ، والآخر يقع إلى الجنوب ويدعى سهل آدخسن (٢٧٥). وتوجد هنا أرض طيبة جدا لزراعة القمح ولرعي الماشية. وهذه السهول في أيدي عرب يسمون زعيرّ (٢٧٦) الذين هم من أتباع الملك. ويقطع الملك ، في أغلب الأحيان ، عوائد أحد هذين السهلين لهذا أو لذاك من إخوته ، ويغل السهل في المتوسط مقدار عشرة آلاف دينار في العام. ومن الصحيح القول إن عرب زعير كثيرا ما يتضايقون من عرب آخرين يدعون عرب الحسين الذين يسكنون الصحراء والذين ينتجعون صيفا في هذه المنطقة (٢٧٧). وقد دفع الملك هذا الخطر بأن أرسل لهذه المنطقة خيالة وراشقي سهام

__________________

(٢٧٢) تقع عين السيخ شمال تغات ، وكلمة سيخ تعني جرفا تنهار تربته بفعل المطر ، وهذا ما يميز المناطق المجاورة لفاس

(٢٧٣) أي الكنازون.

(٢٧٤) ٦٥ كم.

(٢٧٥) ويقصد بذلك حوض تيغريغره ، حيث كان موقع أزر وحينئذ ، وقد جعل عبد المؤمن من الموقع المذكور مركز عمليات العسكرية سنة ١١٤١ م.

(٢٧٦) تنحدر عشيرة زعير من عرب معقل المنتسبين إلى البرابيش ، وهم فخذ من دوي حسن ، وهؤلاء فرع من الحسّان استنادا إلى تصنيف المؤلف.

(٢٧٧) الحسين من عرب معقل ، وفخذ من دوى منصور ، وفرع من حسان ، وكانوا يتجولون في صحراء الدرعة وجبال الزيز مع مدينة غرسلوان


وتنبع من السهلين عيون بديعة وجداول رائعة المياه وتقوم فيها كذلك غابات تعيش فيها أسود هادئة ووديعة لدرجة أن أي شخص كان ، رجلا كان أو أمرأة ، يستطيع أن يطردها بضربات العصي وهي لا تؤذي أي إنسان.

وسنتابع الآن وصفنا ابتداء من منطقة أزغار

أزغار : منطقة من مملكة فاس

تنتهي منطقة أزغار ، في اتجاه الشمال ، على المحيط ، وتنتهي غربا عند نهر سبو ، وتختتم في الشرق عند جبال غمارة كما ينتهي قسم منها عند الزرهون وعند قدم جبل زلاغ. وتنتهي جنوبا بجوار نهر بونصر (٢٧٨). وهذا الإقليم عبارة عن سهل ذي أرض ممتازة. ولهذا كان يقطنه كثير من السكان وكانت تقوم فيه مدن وقرى. بيد أن هذه الأمكنة قد تخربت بسبب حرب نشبت في الأزمنة القديمة ، ولا يرى فيها الآن أي آثار باستثناء بعض المدن الصغرى النادرة والتي لا تزال قائمة ومأهولة ، وتنتشر منطقة أزغار على طول يبلغ ثمانين ميلا (٢٧٩) وعلى عرض مقداره ستون ميلا (٢٨٠) ، وكل سكانها من عرب الخلوط وأصلهم من قبيلة المنتفق (٢٨١). ويخضع هؤلاء العرب لملك فاس ويدفعون له ضريبة مرتفعة. ولكنهم أغنياء وتجهيزهم الحربي جيد جدا. وهم يؤلفون زهرة جيش الملك ، وهو لا يستخدمهم إلا في الحملات الشاقة والبالغة الأهمية.

وتوفر هذه المنطقة المؤن لجبال غمارة ومدينة فاس من أقوات وماشية وخيل ، ومن عادة الملك أن يقيم فيها في أثناء الشتاء والربيع ، لأن هذه المنطقة لطيفة وصحية وتوجد فيها دوما أعداد كبيرة من الغزلان والأرانب. غير أن أحراشها مع هذا نادرة.

__________________

(٢٧٨) وهو وادي مكّس الحالي.

(٢٧٩) ١٣٠ كم.

(٢٨٠) ٩٥ كم.

(٢٨١) يصنف المؤلف الخلوط ، وهم قدامى المنتفق ، من جملة أثبج وهذا في كتابه الحادي عشر. «ولا تزال قبائل المنتفق معروفة الآن في جنوبي بغداد في العراق» (المترجم).


الجمعة : مدينة من أزغار

الجمعة مدينة صغيرة بناها الأفارقة في زمننا فوق نهر صغير ، في سهل ، في نهاية هذا الإقليم أو المنطقة ويمر بها المسافر الذاهب من فاس إلى الأعراش. وتقع على مسافة ثلاثين ميلا من فاس. وقد كانت هذه المدينة كثيرة السكان متحضرة ، ولكن حرب سعيد ، الذي كثيرا ما تكلمنا عنه ، خربتها. ولا نجد فيها اليوم سوى صوامع يخزن فيها العرب المجاورون غلالهم ، ويقيمون إلى القرب منها بضع خيام لحراستها. وتظهر في خارجها طواحين لطحن الحبوب (٢٨٢).

مدينة العرائش

العرائش (٢٨٣) مدينة أسسها قدامى الأفارقة على ضفة المحيط في المكان الذي يصب فيه نهر لقّس في البحر. ويقع قسم منها على ضفة النهر والجزء الأخر على ساحل المحيط.

وفي الزمن الذي كانت فيه مدينتا أصيلا وطنجة تابعتين للمسلمين ، كانت هذه المدينة كثيرة السكان. ولكن بعد سقوط هاتين المدينتين في أيدي النصارى (٢٨٤) ظلت مهجورة حتى قرابة عشرين عاما من أيامنا هذه (٢٨٥). وفي هذه الفترة قرر أبن ملك فاس الحالي إعادة تعميرها ، وحصنها بشكل حسن للغاية ، ووضع فيها حامية مقيمة زودها بالأقوات لأنه كان يرتاب دوما في البرتغاليين (٢٨٦). ولهذه المدينة ميناء يصعب جدا الوصول

__________________

(٢٨٢) يسمى مارمول هذا الموقع جمعة الكروش ، أي سوق جمعة البلوط الجلو. ويقول إن يعقوب ، ملك بني مرين هو مؤسسها. ويحدد مكانها على نهر الورغة في أراضي عرب بني مالك سفيان ، ويقوم سوق جمعة بني مالك على الضفة اليمنى لنهر الورغة. وتقع على مسافة ٥٠ ميلا أو ٨٠ كم من فاس. ومن المحتمل أنه يقصد هذه البليدة. وهي تنطبق على سوق جمعة تافرتاست ، حيث دفن بعض أمراء بني مرين ، وخاصة أبو محمد عبد الحق بن مايو وولده أبو العلاء ، اللذين قتلا بتاريخ ٢٤ أيلول (سبتمبر) ١٢١٧ م في معركة ايجرهان ضد عرب رياح. وفي ١٢٨٥ م قام أول سلطان مريني وهو أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق ، وذلك قبيل وفاته ، ببناء زاوية فيها ، وبعد ١٣٣١ م قام سادس سلطان مريني وهو أبو الحسن علي بترميم الأضرحة.

(٢٨٣) العرائش أو الدوالي.

(٢٨٤) أي في آب (أغسطس) ١٤٧١ م.

(٢٨٥) أي حتى حوالي العام ١٥٠٦ م. غير أن هذا الميناء كان يؤوي حامية وكان ملجأ للقراصنة. وفي ١٤ تموز (يونيو) ١٥٠٤ م قام البرتغاليون بغارة مفاجئة جريئة ضد العرايش.

(٢٨٦) بسبب تلك الغارة بلا شك.


إليه لمن يرغب الدخول في مصب النهر. كما شيد ابن الملك فيها أيضا قصبة يرابط فيها قائد بصورة مستمرة مع مائتي راشق سهام ، ومائة من رماة البنادق وثلاثمائة من الخيالة الخفيفة.

هذا ويوجد في ضواحي العرايش الكثير من الغيضات والمروج ، حيث يصاد الكثير من سمك الحنكليس والطيور المائية. كما توجد على ضفتي النهر غابات كثيفة يعيش فيها العديد من الأسود والحيوانات المفترسة الأخرى. ومن عادة سكان هذه المدينة ، منذ زمن طويل ، صنع فحم الخشب الذي ينقلونه بحرا إلى أصيلا وإلى طنجة. حتى إن المثل الدارج عند أهل موريتانيا والذي يقال عند ما يكون المظهر غير المخبر : «هذا مثل سفينة العرائش شراعها من قطن وحمولتها من فحم». وتجود أرياف هذه المدينة بكميات كبيرة من القطن.

القصر الكبير

وهي مدينة كبيرة بنيت في عهد المنصور ، ملك وخليفة مراكش وبأمر منه (٢٨٧).

وتروى الواقعة التالية على أنها واقعة تاريخية صحيحة. في يوم ما بوغت هذا الملك ، بينما كان يمارس الصيد في الأرياف المجاورة ، بمطر وابل عنيف ، وبريح صرصر وظلام دامس ، حتى إنه ضل مكان حرسه ، وتوقف في مكان ما بدون أن يدري أين هو ، واضطر أن يقضي الليل في العراء.

وبينما كان على هذه الحالة عديم الحركة خوفا من الغوص في المستنقعات ، رأى نورا وحالفه الحظ بأن وجد أمامه صيادا كان من عادته أن يخرج ليصطاد بضع سمكات حنكليس في هذه المستنقعات. فسأله المنصور هل تستطيع أن تدلني على مخيم الملك؟ فأجابه الصياد بأن هذا المعسكر يقع الى مسافة عشرة أميال من هنا. ولما رجاه الملك أن

__________________

(٢٨٧) تشهد الكتابات والآثار القديمة ، وكذلك كل الأدب التاريخي على أن القصر مدينة قديمة جدا ، وعاصمة كتامة في هذه المنطقة ، عند نقطة مرور كثيرة الحركة في كل الأزمنة. ولكن من المحتمل جدا أن الخليفة الموحدي يعقوب المنصور ، الذي قام بثلاث حملات كبيرة أثناء مدة حكمه ، من ١١٨٤ إلى ١١٩٩ م في إسبانيا ، والذي وسع الرباط وبني شلا ، أقول من المحتمل أن يكون الخليفة المذكور قد شيد أبنية هامة في هذه المدينة الواقعة على خط مراحل الطريق إلى الأندلس.


يصطحبه إليه قال له : «لو كنت المنصور بشخصه لما أوصلتك لهناك ، لأنني أخشى أن تغرق في المستنقع»

فقال له الملك ـ وماذا تهمك حياة المنصور؟

ـ فاجاب الصياد : وي ، يبدو لي أن الملك جدير بكل حب وتقدير.

ـ فقال الملك : يظهر أنك حصلت منه على إحسان كبير؟

ـ فرد الصياد : «ما هو أكبر معروف يمكن أن يناله الإنسان من ملك أكثر من العدل ، والصلاح الكامل ، والمودة التي يبرهن عليها في حكم شعبه؟ وبفضل هذا أصبحت ، أنا الصياد الفقير ، أتمتع بسلام ، على الرغم من فقري مع زوجتي وأسرتي الصغيرة. فأنا أخرج من كوخي في منتصف الليل ، وأعود إليه عند ما أحب فلا أجد أي إنسان ينالني بأقل أذى في هذا الوادي وفي هذه الأمكنة المهجورة. ولكنك ، أنت أيها السيد ، أرجوك أن تأتي لتقضي هذه الليلة عندي ، وغدا في الصباح ، سأكون في خدمتك وأصحبك إلى حيث تريد».

وقبل الملك الدعوة وذهب مع هذا الرجل الشهم حتى كوخه ، وعند ما بلغاه ، فك سراج جواد الملك ، وقدم له طعاما وفيرا. فقلى له من سمكات الحنكليس ، وقدمها للملك ، وفي هذه الأثناء عمل قدر استطاعته على تجفيف ثيابه قرب نار طيبة متوهجة ، ولما كان الملك لا يستسيغ أكل السمك طلب من الصياد عما إذا كان عنده قليل من اللحم. فأجابه هذا الرجل الفقير :

ـ أيها السيد إن ثروتي تتألف من عنزة وجدي لا يزال رضيعا وسيكون من حسن حظ هذا الجدي أن يتشرف لحمه بشخص مثلك. وإذا كانت شواهد مظهرك صحيحة فإنه ليبدو لي أنك أمير كبير». ولم يلبث بأن طلب إلى زوجته بأن تشوي لحم الجدي بعد أن قام بذبحه. فتناول الملك عشاءه ثم استراح حتى الصباح. وانطلق من الكوخ في ساعة مبكرة مع مضيفه الذي قام بدور الدليل على أحسن ما يكون مجاملة وأدبا. وما كادا يخرجان من المستنقع حتى صادفا جمهرة من الخيالة والقناصة الذين استنفروا للبحث عن الملك ، وكانوا يطلقون صرخات النداء. وقد فرح كل منهم برؤية الملك. وعندئذ التفت المنصور إلى الصياد وقال له إنه كان سعيدا بصحبته وأنه سيذكر دوما كرمه ولطفه. وفي أثناء توقف الملك في المنطقة شيد قصورا هامة وجميلة وبضعة منازل. وقد قدمها


للصياد مكافأة ورجاه بأن يحيط هذه القصور والبيوت بسور ، وسيكون هذا شاهدا آخر من جانبه ، على كرمه ولطفه. وقد تم كل ذلك ، وأصبح الصياد أميرا على المدينة الصغيرة الجديدة ، والتي راحت تنمو يوما بعد يوم حتى غدت في قليل من الوقت ، بسبب خصوبة المنطقة ، مدينة تضم أربعمائة أسرة. وكان من عادة الملك أن يمضي كل الصيف في هذه الأنحاء ، وكان هذا أيضا سببا في ازدهار المدينة.

ويمر من جوار السور نهر لقّس الذي يفيض أحيانا حتى ليتدفق الماء من باب المدينة. وفي هذا القصر عدد كبير من الصناع والباعة. كما يضم عدة جوامع ومدرسة ومارستانات. وليس في البلدة عين ولا آبار ولكن تستخدم هنا الصهاريج. وأهلها كرماء ولكنهم أقرب للبساطة في النفس. وهندامهم جيد ويكتسون عادة بقطع كبيرة من قماش القطن التي تشبه ملاءة السرير ، ويلفونها حول أجسامهم.

وتنتشر في خارج القصر مزارع كثيرة من الأشجار المثمرة ، وأرض بها أنواع من الفواكه الممتازة. ولكن للعنب أحيانا طعم رديء بسبب رطوبة الأرض. ويعقد في يوم الأثنين ، في الفلاة ، سوق يقصده عرب المناطق المجاورة. ومن عادة أهل المدينة أن يذهبوا في شهر أيار (مايو) لاصطياد الطيور بالفخ في أطراف المدينة ، ويصطادون بذلك كميات كبيرة من اليمام. وأراضي المنطقة خصيبة ويكون محصولها في أغلب الأوقات ثلاثين ضعفا لما وضع فيها من بذور. ولكن الأهلين لا يستطيعون أن يزرعوا سوى نطاق يقارب ستة أميال (٢٨٨) لأن البرتغاليين الذين يستوطنون أصيلا ينكدون عليهم معيشتهم ، إذ أن المدينتين لا تبعد إحداهما عن الأخرى بأكثر من ثمانية عشر ميلا (٢٨٩). ويعاني قائد القصر الكثير من المتاعب بسبب البرتغاليين ، وتحت تصرفه ثلاثمائة فارس ، ويقوم في كثير من الأحيان مع هؤلاء بغارات تصل حتى أبواب أصيلا.

منطقة الهبط

تبدأ هذه المنطقة من جنوبي نهر الورغة ، وتنتهي شمالا على المحيط ، وتتاخم من الغرب مستنقعات أزغار (٢٩٠) ، ومن الشرق الجبال التي تطل على مضيق أعمدة

__________________

(٢٨٨) ١٠ كم.

(٢٨٩) ٢٩ كم.

(٢٩٠) أي مستنقعات نهر لقّس.


هرقل (٢٩١). ويبلغ عرضها ثمانين ميلا وطولها حوالي مائة ميل (٢٩٢).

وهذه المنطقة بهيجة لخصوبتها ووفرة إنتاجها. ويقع معظمها في السهل حيث العديد من المجاري المائية. وقد كانت في العصور الغابرة أكثر شرفا وشهرة مما هي في أيامنا. ففيها توجد مدن قديمة جدا ، بعضها من بناء الرومان ، والأخرى من آثار القوط. واعتقد ان هذه المنطقة كانت تسمى موريتانيا لدى القوط. ولكن منذ تأسيس فاس أخذت هذه المنطقة في التدهور. ويضاف إلى هذا أنه بعد وفاة إدريس ، مؤسس فاس ، آلت المملكة إلى عشرة من أبنائه الذين اقتسموها إلى مناطق بعد دهم. وآلت منطقتنا هذه إلى أكبر الإخوة (٢٩٣). وبعدئذ ثار عدد من الشيعة ومن الأمراء المحليين. فبعضهم استعان بملوك غرناطة في أسبانيا ، والآخرون بملوك القيروان. وقد هزموا جميعا وطردهم أحد خلفاء القيروان الذي كان شيعيا كذلك (٢٩٤) وخلف في المنطقة بعض قواده وحكامه وعاد إلى بلاده. وحينئذ أرسل حاجب قرطبة الكبير (٢٩٥) إلى موريتانيا جيشا ضخما إجتاح كل الكورة (٢٩٦) وبلغ منطقة الزاب (٢٩٧) وأخيرا ظلت منطقة الهبط تحت سلطة ملوك فاس.

آرجن

آزجن (٢٩٨) مدينة بناها قدامى الأفارقة على جبل يقع على مسافة عشرة أميال (٢٩٩) من نهر لقّس. وهذه الأميال العشرة في السهل ، حيث تقع الحقول المزروعة وبساتين هذه البلدة ، ولكن معظم الأراضي الزراعية تقع في الجبل. وتبعد هذه المدينة عن فاس حوالي سبعين ميلا (٣٠٠). وتضم أربعمائة أسرة تقريبا. وتعطي هذه الكورة عوائد مقدارها عشرة

__________________

(٢٩١) وهو الذي يحدده المؤلف تجاه سبتة.

(٢٩٢) ١٣٠ كم في ١٦٠ كم.

(٢٩٣) وهذا غير صحيح استنادا إلى ما نعرفه عن هذه القسمة.

(٢٩٤) تحقق هذا الفتح على يد جوهر ، سنة ٩٥٧ م ، باسم الخليفة الفاطمي أبي تميم معد المعز.

(٢٩٥) المنصور بن أبي عامر ، حاجب الخليفة الأموي في قرطبة ، هشام المؤيد ، وهو الحاكم الحقيقي في أسبانيا المسلمة.

(٢٩٦) في عام ٩٩٧ م.

(٢٩٧) منطقة المرابطين سنة ١٠٦٨ م؟؟.

(٢٩٨) آزاجن ، ويكتبها الإدريسي زجان ، وتدعى اليوم آزجن قرب بلدة وزان.

(٢٩٩) ١٦ كم.

(٣٠٠) ١١٢ كم والحقيقة ١٦٠ كم.


آلاف دينار ، ولكن على المنتفع أن يتعهد لملك فاس بتقديم أربعمائة فارس مهيئين للدفاع عن البلاد ، لأن البرتغاليين يقومون ضدها بغارات كثيرة ويتوغلون حتى مسافة أربعين أو خمسين ميلا في الداخل.

وآزجن مدينة جيدة الحكم وآمنة ، تحوي صناعا لكل الأشياء الضرورية. وهي جميلة كثيرا وفيها العديد من العيون. والسكان أغنياء لكن القليل منهم هم الذين يكتسون مثل أبناء المدن. ولهم امتياز منحهم إياه الملوك القدامى وهو الترخيص لهم جميعا بشرب النبيذ ، لأن النبيذ محرم في شرع محمد ، ولا يوجد فيها شخص لا يعاقره.

بني توده (٣٠١)

وهي مدينة قديمة جدا بناها الأفارقة في سهل غاية في جماله على نهر الورغة على مسافة خمسة وأربعين ميلا (٣٠٢) من فاس. وكان فيها فيما سبق من الزمن ثمانية آلاف عائلة ، ولكنها تخربت كليا ، باستثناء أسوارها ، في حرب خلفاء القيروان (٣٠٣). وقد ذهبت إليها ورأيت كثيرا من قبور الأشراف وبعض قساطل الماء المبنية بالحجر ، وكانت فعلا رائعة. وتقع بالقرب من جبال غمارة التي تبعد عنها بحوالي أربعة أميال (٣٠٤) وتعتبر أراضيها خصبة جدا ومنتجة للغاية.

آمرغو

تقع آمرغو على قمة جبل على مسافة عشرة أميال من البلدة السالفة الذكر.

ويقال إن الرومان هم الذين بنوها. والواقع توجد هنا بعض الجدران القديمة التي

__________________

(٣٠١) هي اليوم «فاس البالي».

(٣٠٢) ٦٠ كم.

(٣٠٣) تحمل أطلال بني توده اليوم اسم فاس البالي وليس لهذه التسمية سبب معقول. ويقول لنا أول مؤلف أورد ذكر بني تودة أنه في عام ١١٢٠ م سكنها سلطان الغرب ، وربما كان حاكم المنطقة المرابطي. والإدريسي الذي ألف كتابه حوالي العام ١١٥٠ م يؤكد أن المدينة بنيت من قبل أمير بناء على أمر تلقاه من الأمير المرابطي ، كي تؤلف حاجزا أمام غارات قطاع الطرق من قبيلة غمارة ويذكر أنها كانت أول مدينة خربها الموحدون. ويبدو أنها اجتثت تماما في حدود العام ١١٤٢ م عند مرور عبد المؤمن بها ، في وقت كانت فيه مزدهرة.

(٣٠٤) ٥ ، ٦ كم.


يقرأ فوقها كتابات لاتينية. وهي مدينة مهجورة اليوم ، ولكن تقوم فوق سفح الجبل مدينة أخرى صغيرة مأهولة نوعا ما ، وفيها عدد من نساجي القماش الكتاني العادي (٣٠٥).

وأراضي الأرياف المحيطة بها طيبة للزراعة ، ويرى الناظر من أعلى المدينة نهرين كبيرين هما نهر سبو ونهر الورغة في اتجاه الشمال. ويبعد كل منهما مسافة خمسة أميال (٣٠٦) ويزعم سكان آمرغو أنهم من الأشراف ولكنهم بخلاء وجهلة وليس لهم أي وزن.

تنصور

تنصور مدينة واقعة على مسافة عشرة أميال من آمرغو ، فوق تل (٣٠٧) وتضم ثلاثمائة بيت ، والقليل من الصناع. ولسكانها نفسية غليظة وليس لديهم كرمة ولا أشجار مثمرة ولا يزرعون سوى الحبوب. كما يملكون عددا طيبا من الماشية. وتقع هذه المدينة في منتصف الطريق الذاهب من فاس إلى جبال غمارة. ولهذا سكانها أشحّة للغاية وممقوتين لأقصى الحدود.

آغله

آغلة مدينة قديمة بناها الأفارقة على نهر الورغة. وهي محاطة بأراض طيبة يزرعها العرب. وقد سبق أن تخربت هذه المدينة في الحروب الماضية. غير أن أسوارها لا تزال باقية على حالها ويوجد بعض الآبار في داخلها. ويقام في ريفها ، أسبوعيا ، سوق ممتع جدا يقصده العديد من العرب ومن فلاحي المنطقة ، ويقصده كذلك الكثير من تجار فاس كي يشتروا جلود الثيران والصوف والشمع ، لأن هذه المنتجات وفيرة جدا في هذه الكورة (٣٠٨).

__________________

(٣٠٥) لا يبعد جبل آمرغو عن فاس البالي إلا بمقدار ٦ كم. وقد اتخذت هذه القرية اسم مولاي بوشتا نسبة إلى ولي يدعى أبو الشتا ، أي أبو المطر ، والذي كان يشرف على زاوية. وتوفي فيها عام ٩٩٧ ه‍ أي في تاريخ يقع بين ٢٠ / ١١ / ١٥٨٨ و ٩ / ١١ / ١٥٨٩ م.

(٣٠٦) في الحقيقة يبعد نهر سبو مقدار ٢٠ كم (٥ ، ١٢ ميلا).

(٣٠٧) مدينة غير معروفة. ويعطي مارمول هذه المدينة اسم «تنزرت» ، ومعناه بالبربرية تل أو جرف. ويحتمل أنها كانت تقع على ضفة نهر سبو اليمني.

(٣٠٨) يوضح مارمول أن هذا السوق كان يحمل اسم سبت الآغلة. أما الآن فلا يوجد إلّا سوق سبت واحد هام على ضفاف الورغة وفي هذه المنطقة بالضبط ، وهو سوق كلّيئين ، لأن كل آثار آغلة قد اندثرت.


ويوجد الكثير من الأسود في هذا المكان ، ولكنها خوارة في طبيعتها حتى أن الأطفال يخيفونها بصراخهم ويطاردونها. ومن هذا جاء المثل الذي يطلقه أهل فاس على كل رجل رعديد ولكنه مدّع في كلامه : «أنت شجاع مثل أسود آغلة التي تأكل العجول أذنابها».

نارنجة

نارنجة (٣٠٩) قصر بناه الأفارقة فوق جبل صغير يمر من جواره نهر لقّس. ويقع هذا القصر على مسافة عشرة أميال من الغيرة (٣١٠) وأراضيه المجاورة ممتازة. ولكنها لا تقع في السهل. وتوجد على ضفاف النهر غابات كثيفة بها فواكه بكميات كبيرة ، ولا سيما الكرز البحري أو الافريقي (٣١١). وقد سقط هذا القصر بيد البرتغاليين وخربوه ، ولا زال حتى الآن مهجورا وغير مأهول وهذا منذ العام ٨٩٥ للهجرة (٣١٢).

الجزيرة

الجزيرة هي جزيرة في مصب نهر لقّس على مسافة عشرة أميال من المحيط (٣١٣) وتبعد مسافة مائة ميل عن فاس (٣١٤) وكان يوجد في هذه الجزيرة مدينة صغيرة قديمة هجرت في بداية الحروب مع البرتغاليين. ولا يوجد على ضفاف النهر سوى غابة والقليل من أراضي الحراثة. وفي عام ٨٩٤ للهجرة (٣١٥) أرسل إليها ملك البرتغال أسطولا عظيما ولج في

__________________

(٣٠٩) موقع غير معروف وقد سماه مارمول فريكسة أي فريشة أو فريجة.

(٣١٠) تقع الغيرة في منعطف على ضفة نهر لقّس اليسرى وتنطبق على الوصف الوارد في النص.

(٣١١) أو القراصياء وهو نوع من خوخ أسود متطاول بحجم اللوزة.

(٣١٢) توافق ١٤٩٠ م. هذا ولا يوجد أي نص برتغالي معروف يؤيد الخبر المذكور في النص.

(٣١٣) لم تحمل هذه الجزيرة ولا تحمل الآن اسما غير «الجزيرة». ولكن البرتغاليين دعوها غراسيوزة. وهي ليست سوى تلك التي يذكرها بلين Pline القديم ، وهو المؤرخ الروماني الشهير ، ويروي أن فيها تقع جنات هسبريدس Hesperides. وفي عصره كانت تفاحات الذهب قد اختفت ، ولم يبق فيها سوى أشجار الزيتون البري «العتم» ، ومذبح منذور بإسم هرقل Hercule (إله القوة عند اليونان والرومان). وهي مزروعة في أيامنا بالزيتون ، ولا تتحول إلى جزيرة حقيقية إلا عند ما يكون نهر لقس في حالة فيضان أو عند المد الأعظم. أما في الأوقات العادية فتكون متصلة بالبر.

(٣١٤) في الحقيقة حوالي ١٤٠ ميل.

(٣١٥) في ربيع الأول أو شباط (فبراير) ١٤٨٩ م.


النهر. وأخذ القبطان البرتغالي ببناء حصن في الجزيرة زاعما أن بإمكانه الدفاع عنه واحتلال كل المنطقة المجاورة. وقد توقّع ملك فاس (٣١٦) ، وهو والد الملك الحالي ، توقّع الخطر الذي سيتعرض له بسهولة لو تركه يتم بناء الحصن. فأرسل قوات كبيرة لمنع البرتغاليين من انجاز مشروعهم. ولكن قواته لم تتمكن من الاقتراب أكثر من ميلين من الجزيرة بسبب الرمي المتواصل من المدفعية البرتغالية العديدة والرهيبة. وهكذا أصبح الملك في نهاية القنوط. ولكنه عمد بناء على نصيحة بعض الأشخاص لبناء تحصينات من الخشب في وسط النهر على مسافة ميلين تقريبا في سافلة الجزيرة أي باتجاه البحر. واقتطعت أخشاب الغابة المجاورة تحت حماية هذه التحصينات ، وبعد وقت قليل جدا ، رأى البرتغاليون أن مدخل النهر قد أصبح مسدودا بجذوع خشب ضخمة حتى إنه لم يعد في استطاعتهم الخروج إلى عرض البحر مع أسطولهم. وفكر الملك ، الذي رأى النصر المؤكد قد أصبح في يده ، أن يباشر المعركة ، ثم تراءى له أنه سيخسر أرواح عدد ضخم من بني قومه ، لأن هذا النصر قد يكلفه خسائر ضخمة. فدخل في مفاوضات مع قائد الأسطول وتم الاتفاق على أن يدفع هذا غرامة حربية وان يتدخل لدى ملك البرتغال كي يرد إليه بنات قائد ملك فاس اللواتي يحتفظ بهن في السجن في عاصمته. وعلى هذه الشروط انسحب القبطان البرتغالي مع قواته دون أن يمسه أي إزعاج كان. وبعد ذلك عاد الأسطول إلى البرتغال (٣١٧).

بصرة

بصرة مدينة تمتد على رقعة صغيرة وتحوي قرابة الفي أسرة. وقد بنيت في سهل ، بين تلّين ، على يد محمد ، إبن ادريس الثاني ، مؤسس فاس ، على مسافة ثمانين ميلا من فاس جنوب القصر (٣١٨). وقد سميت «البصرة» تخليدا للبصرة وهي مدينة في بلاد العرب

__________________

(٣١٦) وهو محمد الشيخ.

(٣١٧) لقد وقّعت هذه المعاهدة بتاريخ ٢٧ آب (أغسطس) ١٤٨٩ م في تشميش. ومن المحتمل أن تكون المدينة القديمة المهجورة والتي يحددها المؤلف في الجزيرة هي ، في الحقيقة ، تشميش ، والتي لا تزال أطلالها قائمة بجوار الجزيرة على ضفة نهر لقّس اليمنى. وتشميش هي تحريف بربري لكلمة شمس أي شمس باللغة البونية (اللغة الفينيقية القرطاجنية) ، والتي يعثر عليها فوق النقود التي تحمل الدمغة البونية ، وكذلك مقوم شمش ، أي مدينة الشمس ، والتي كانت لقب مدينة ليكسوس الشهيرة ، التي رسمت في نقود أخرى باسم ليكس Liks في اللغة البونية وليكس Lixs في اللاتينية.

(٣١٨) لا تزال بصرة ماثلة شمال طريق وزّان ، وعلى مسافة ٢٠ كم جنوبي القصر. وقد شيّدت المدينة بجهود محمد ، الولد البكر ، لإدريس بن ادريس سنة ٢١٨ ه‍ أو ٨٣٣ م.


السعيدة ، حيث قتل علىّ ، رابع خليفة ، وهو الجد الأعلى لإدريس (٣١٩). وقد كانت هذه المدينة مجهزة بأسوار عالية وجميلة. وكانت متحضرّة جدا وآمنة طيلة حكم الأسرة الإدريسية. وكان من عادة الأدارسة أن يجعلوا منها مقرهم الصيفي لأن ضواحيها جميلة جدا سواء في الجبل أو في السهل. وكان فيها ، في الماضي ، الكثير من مزارع الأشجار المثمرة وحقولها ممتازة لزراعة القمح ، وقريبة من المدينة. ويخترق نهر لقّس سهولها. وكانت البصرة مأهولة كثيرا بالسكان ، وكان بها مساجد ، وكان سكانها أناسا محترمين. ولكن على أثر انحطاط الأدارسة قام أعداؤهم بتخريب المدينة وبتقويض بنيانها. ولم يبق منها قائما غير الأسوار. ولا يزال باقيا منها بعض مزارع الأشجار التي أصبحت أشجارها بريّة شعثاء لا تنتج ثمارا لأن الأرض غير مهيأة للزراعة.

الحمر

الحمر مدينة بناها المدعو عليّ بن محمد الذي تكلمنا عنه قبل قليل (٣٢٠) وتقع على نهر صغير (٣٢١) على مسافة أربعة عشر ميلا (٣٢٢) من العرايش وعلى مسافة ستة أميال (٣٢٣) جنوب أصيلا. ولم تكن قط مدينة كبيرة ، ولكنها كانت جميلة وحصينة وكانت الأرياف فيما حولها فاخرة ، ولكنها عبارة عن اراض ممتازة سهلية. وكانت محاطة بالعديد من مزارع الأشجار المثمرة وبالكروم التي كانت تنتج كثيرا من لذيذ الثمار. وكان اغلبية سكانها يشتغلون بمهنة نسج الكتان ، لانهم كانوا يجنون الكثير من الكتان. واصبحت المدينة خاوية منذ ان سقطت «اصيلا» بأيدي البرتغاليين (٣٢٤).

__________________

(٣١٩) لا تقع البصرة الحالية في بلاد العرب السعيدة ، أي في اليمن ، ولكن في العراق. وقد اغتيل أبو الحسن علي بن أبي طالب ، رابع خليفة ، في الكوفة في العراق على أيدي ثلاثة متآمرين من الخوارج في يوم الجمعة صبيحة ١٥ رمضان سنة ٣٢٠ ه‍ أو ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٦٦١ م وتوفي في ١٧ رمضان الأحد ٢٤ كانون الثاني (يناير). وكان الامام علي ، وهو ابن عم الرسول وصهره ، جد ادريس الثاني في الجيل الخامس ، وعلى هذا يكون نسبه : ادريس بن ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي.

(٣٢٠) علي بن محمد بن ادريس ، وحكم بين ٨٣٨ و ٨٤٨ م.

(٣٢١) الحمر معناها العصفور الدوري ، وكانت تقع على وادي الريحان ، حسب نص مارمول ، وهو وادي الحمر الحالي.

(٣٢٢) ٥ ، ٢٢ كم.

(٣٢٣) أي ٨ كم.

(٣٢٤) بتاريخ ٢٤ آب (أغسطس) ١٤٧١ م.


أرزيلا

ارزيلا (٣٢٥) ويسميها الأفارقة آزيللا ، كانت مدينة كبيرة بناها الرومان على ساحل المحيط على مسافة سبعين ميلا تقريبا من مضيق أعمدة هرقل وعلى مسافة مائة وأربعين ميلا من فاس (٣٢٦). وكانت هذه المدينة خاضعة لأمير سبتة الذي كان تابعا للرومان. ثم استولى عليها القوط الذين أقروا هذا الأمير في حكمه بالفعل. وقد احتلها المسلمون عام ٩٤ ه‍ (٣٢٧) واحتفظوا بها مدة مائتين وعشرين عاما إلى أن هاجمها الانكليز بأسطول كبير بتحريض من القوط. وكان بين الانكليز والقوط عداوة ، لأن القوط كانوا نصارى والانكليز كانوا عبدة أوثان. ولكن القوط تصرفوا على هذا النحوكي يطردوا المسلمين من أوروبا. وقد نجحت عملية الانكليز. فاحتلوا المدينة وأضرموا فيها النار بعد أن ذبحوا أهلها (٣٢٨). ولكن عندما حكم ملوك وخلفاء قرطبة بلاد موريتانيا (٣٢٩) أعادوا بناءها وجعلوها في أحسن حالة وأمنع تحصينا من السابق. وهكذا أصبح سكان أرزيلا واسعي الثراء ومثقفين ورجال حرب ، وتنتج كورتها الكثير من الحبوب والثمار. ولكن لما كانت المدينة على مسافة عشرة أميال من الجبل فهي تفتقر كثيرا للحطب ، ومن عادة أهلها استعمال الفحم الذي يستوردونه بكميات كبيرة من العرايش كما سبق أن ذكرنا ذلك آنفا.

وفي عام ٨٨٢ هجرية (٣٣٠) هاجم البرتغاليون هذه المدينة على حين غرة وسقطت

__________________

(٣٢٥) وتكتب أزيلا وأصيلا وأرزيلا.

(٣٢٦) ان هذه المدينة التي تحمل اليوم اسما أسبانيا هو أرزيلا ، كانت تعود ، لأصل فينيقي. ثم أصبحت مستعمرة رومانية باسم يوليا قسطنطينة زيليس. أما العرب فسموها أزيلا أو أصيلا. والمسافة المذكورة حتى أعمدة هرقل تبرهن على أن المؤلف كان يأخذ في حسابه المضيق بين سبتة وجبل طارق ويحسب المسافة مرورا بطنجة ، وهي مسافة مبالغ فيها بالفعل ، كما أن المسافة المذكورة بين أصيلا وفاس أقل كثيرا من الحقيقة.

(٣٢٧) أو ٧١٣ م.

(٣٢٨) لقد وقع هذا الحادث بعد ١٣٥ عاما من الفتح الاسلامي لأرزيلا ، أي في أواخر العام ٢٢٩ ه‍ ، في صيف عام ٨٤٤ م. ولم يكن هؤلاء طبعا من الانكليز بل من المجوس الذين كانوا يسمّون «الروس» كما يقول اليعقوبي ، الذي كتب عن ذلك بعد خمسة وأربعين عاما ، وقد أعقب الغارة على أرزيلا إنزال في لشبونة ، ثم عملية إنزال في أشبيلية في أول شهر تشرين الاول (اكتوبر) ٨٤٤ م. وقد حوصرت أشبيلية وسقطت وتخربت. وليس من المستبعد أن يكون ملوك اسبانيا النصارى الذين يعتبرون أنفسهم أحفادا شرعيين لملوك القوط قد حرّضوا النورمان أو الفايكنغ ضد المسلمين.

(٣٢٩) أي بعد انتصار عام ٩٩٧ م.

(٣٣٠) ٧ ربيع الأول ٨٧٦ ه‍ الموافق لعام ١٤٧١ م.


بأيديهم. وأخذوا كل سكانها الموجودين أسرى الى البرتغال. وكان من بين هؤلاء محمد الذي هو اليوم ملك فاس. وكان حينئذ طفلا سنه سبعة أعوام (٣٣١) وقد أسر مع إحدى أخواته التي كانت لها نفس السن. ومن تلك الفترة كان أبوه يسكن أرزيلا ، وهو الذي حرّض أهل إقليم الهبط على العصيان (٣٣٢).

وبعد أن قتل عبد الحق ، وهو آخر ملك من أسرة بني مرين ، على يد الشريف الذي كان شخصية كبيرة في فاس ، وكان ذلك بمعاضدة الشعب ، نصّب الشعب نفسه الشريف ملكا (٣٣٣). وظهر بعدئذ شخص يدعى شيخ هبره ، الذي حاول الدخول الى فاس والمناداة بنفسه ملكا (٣٣٤).

ولكن الشريف الذي تأثر برأي مستشاره الأول وبحججه (وكان هذا المستشار ابن عم الشيخ) ، طرد هذا الشيخ بصورة مخزية من فاس. وبعدئذ أرسل الشريف مستشاره هذا إلى تامسنة لإخضاع سكان هذا الأقليم. وفي غضون ذلك عاد الشيخ هبره مع نجدة تقدر بحوالي ثمانية آلاف فارس من العرب وحاصر فاس الجديد ، وتمكّن بعد مضى عام كامل من اقتحام المدينة بسهولة بفضل خيانة أناس من أهلها لاعتقادهم بأنهم لن يتمكنوا من الحصول على ضروريات حياتهم في حالة حصار متطاول. وهرب الشريف من مملكة فاس مع كل أسرته (٣٣٥). وفي الوقت الذي كان فيه الشيخ هبرة يحاصر فاس أرسل ملك البرتغال أسطولا احتل ارزيلا ، كما ذكرنا ذلك من قبل.

وقد سقط الملك الحالي وأخته في الأسر واقتيدا أسيرين إلى البرتغال. ومكثا فيها

__________________

(٣٣١) هو أبو عبد الله محمد. ومعنى هذا أنه ولد عام ٨٦٩ ه‍ أو ما بين ٣ / ٩ / ١٤٦٤ و ٣٢ / ٨ / ١٤٦٥ م. وهو الملقب بمحمد البرتغالي.

(٣٣٢) كانت أسرة الشيخ بن يحيى في أرزيلا ، ولكنه كان يحاصر فاس في تلك الآونة

(٣٣٣) في ٢٣ ايار (مايو) ١٤٦٥ م ذبح السلطان عبد الحق بن عثمان في جامع من جوامع فاس. والغالب على الظن ان الشريف الادريسي ابا عبد الله محمد بن علي الجوتي ، النقيب ، اي نقيب اشراف فاس ، لم يكن هو القاتل ، ولكنه استرد لقب «ملك» عن اجداده الأدارسة. وقد نودي به إماما مع الصلاحيات الملوكية.

(٣٣٤) لا نزال نجهل تفسير اسم هبرة. والحقيقة هي أنه يدعي أبو زكريا محمد الشيخ ، من أسرة بني وطّاس ، وهي أسرة قوية جدا قام السلطان عبد الحق بقتل أهم أفرادها في ايلول (سبتمبر) ١٤٥٩ م ، ونجا صدفة من هذه المذبحة محمد الشيخ الذي لجأ مع أقربائه إلى أزريلا ، وبعد هذا أثار هذه المنطقة على السلطان.

(٣٣٥) وقع هذا الحادث حوالي شهر آب (أغسطس) ١٤٦٧ م ، أو بعد ذلك التاريخ بقليل ، ولكن بني وطّاس تنازعوا فيما بينهم على السلطة خلال فترة من الزمن مما جعل تاريخ تنصيب محمد الشيخ غير معروف.


سبعة أعوام (٣٣٦) ، تعلم في أثنائها اللغة البرتغالية بشكل جيد. وأخيرا تمكن والده من افتدائه مقابل مبلغ كبير. ونظرا لإقامته في البرتغال مدة طويلة سميّ محمد البرتغالي عندما تسلّم زمام سلطة الملك. وقد حاول في كثير من المرات أن يثأر من البرتغاليين محاولا استرداد ارزيلا.

ففي المرة الأولى اقتحم (٣٣٧) المدينة مع كل جيشه (٣٣٨) فدمر قسما كبيرا من أسوارها ، وأطلق سراح كل العبيد المسلمين الموجودين فيها ، ولكن البرتغاليين لاذوا بالحصن وظلوا فيه مدة يومين إلى أن ظهر في نهايتهما بغتة بيارا نافار ومع بضع سفن حربية ، واستعان بمدفعيته التي لم تقسر الملك على مغادرة المدينة مرغما فحسب ، بل اضطرته كذلك إلى الانسحاب مع جيشة ، وحينئذ أخذ البرتغاليون يحصنونها.

وجاء بعد ذلك ملك فاس مرتين أو ثلاثة مرات (٣٣٩) ليحاصر أصيلا مع جيوشه. ولكن اعتبره الناس مجنونا لتماديه في هذا المشروع ، إذ لم يكن من المستطاع احتلال هذه المدينة بقوة السلاح.

وقد كنت حاضرا في كل مرة حاول فيها الملك مهاجة ارزيلا ، وبتقديري أننا تركنا في كل مرة حوالي خمسمائة قتيل أو أكثر. وقد حدثت هذه الحروب بين ٩١٤ و ٩٢١ للهجرة (٣٤٠)

طنجة

ويدعوها البرتغاليون طنجر. وقد أسست هذه المدينة في العصور القديمة. واستنادا إلى رأي خاطيء لدى بعض المؤرخين ، فإن هذه المدينة من بناء ملك اسمه شدّاد بن عاد ، الذي كانت له السيادة على العالم قاطبة ، وأنه أراد أن يبني مدينة شبيهة بالفردوس الأرضي. وعلى هذا يقال أنه بني سورها من البرونز وجعل سقوف بيوتها من

__________________

(٣٣٦) أي في عام ٨٨٣ ه‍ / ١٤٧٨ م ، وهناك مصدر آخر يقول أنه بقي في الأسر ١٢ سنة ، حتى عام ٨٨٨ ه‍ / ١٤٨٣ م.

(٣٣٧) في ١٩ تشرين الأول (اكتوبر) ١٥٠٨ م.

(٣٣٨) أي ٢٠٠٠ فارس و ١٢٠٠٠ من المشاة.

(٣٣٩) ولا سيما في ١٥١١ و ١٥١٢ م.

(٣٤٠) أي بين ١٥٠٩ و ١٥١٥ م.


الفضة والذهب. وأرسل مندوبيه لسائر أنحاء العالم لجمع الضرائب ، وكانت طنجة إحدى المدن التي تدفع له الضرائب في ذلك العصر. ولكن المؤرخين الثقاة يقولون أن الرومان هم الذين بنوا طنجة على ساحل المحيط في العصر الذي كانوا يحكمون فيه غرناطة أسبانيا ، على مسافة ثلاثين ميلا (٣٤١) من اعمدة هرقل (٣٤٢) وعلى مسافة مائة وخمسين ميلا من فاس.

وحينما كان القوط يحكمون غرناطة أسبانيا ، كانت طنجة ملحقة بسبتة إلى أن سقطت بيد المسلمين ، وذلك عندما احتلوا مدينة أرزيلا (٣٤٣).

وقد كانت طنجة على الدوام مدينة مطمئنة ، شريفة ، ومأهولة جيدا بالسكان. وكانت تضم قصورا منها القديم ومنها الحديث.

هذا والأراضي المحيطة بها ملائمة لزراعة الحبوب ، ولكن يوجد بجوار المدينة واد ترويه مياه عين حيث تنتج المزارع العديدة فيه البرتقال والليمون وثمارا أخرى. كما تظهر بعض الكروم في خارج المدينة ولكن التربة هنا رملية.

وقد عاش سكانها في بحبوحة من العيش إلى أن سقطت أرزيلا (٣٤٤) ، وعندما وصلهم نبأ هذا الحادث احتمل كل من سكانها أثمن ما يملكه من أشياء ، وهرب من المدينة ملتجئا إلى فاس. وحينئذ أرسل قبطان ملك البرتغال ضابطا احتلها باسم ملك البرتغال إلى أن أرسل الملك اليها أحد أقربائه (٣٤٥). ولهذه المدينة في الواقع مكانة هامة بسبب قربها من جبال غمارة ، التي يسكنها أعداء النصارى.

ولكن قبل سقوطها تحت سلطة البرتغاليين بخمس وعشرين سنة ، كان ملك البرتغال قد أرسل إليها أسطولا كبيرا ، وقد تصوّر ان المدينة لن تستطيع الحصول على أية نجدة لأن ملك فاس كان منهمكا حينئذ في حرب ضد متمرد انتزع منه مكناس. ولكن

__________________

(٣٤١) ٤٨ كم تقريبا.

(٣٤٢) أي سبتة.

(٣٤٣) يظهر أن الواقع كان على خلاف ذلك عند الاحتلال الاسلامي لمدينة طنجة إذ كانت ملحقة بملكة الويز يقوط في أسبانيا ، أو كانت على الأقل الباب المفتوح لهذه المملكة على افريقيا. اما سبتة التي كان اسمها سبتيون فقد كانت قلعة تابعة لأمبراطورية القسطنطينية الرومانية.

(٣٤٤) بتاريخ ٢٤ آب (أغسطس) ١٤٧١ م.

(٣٤٥) الحقيقة أن الملك الفونس الخامس قد اشترك بنفسه في الحملة ، وأرسل إلى طنجة دون جاءو ، ابن دون براغانس الذي استولى على المدينة بتاريخ ٢٨ آب (أغسطس) ١٤٧١ م.


على خلاف توقعات ملك البرتغال ، استطاع ملك فاس ان يعقد هدنة مع المتمرد المذكور وأرسل أحد مستشاريه للدفاع عن طنجة على رأس جيوش كبيرة. فاستطاع هذا أن يلحق الهزيمة بالبرتغاليين وقتل القسم الأكبر منهم ، وكان في عداد هؤلاء قائد الجيش الذي نقلت جثته ضمن تابوت إلى فاس حيث عرض على الجمهور في مكان عال كي يراه كل الناس(٣٤٦).

ولقد حشد ملك البرتغال ، الذي سخط من هذه الهزيمة ، حشد بعد قليل اسطولا آخر انهزم بدوره كسابقه بعد أن تعرض لخسائر جسيمة ولأضرار فادحة ، علما بأن البرتغاليين اقتحموا المدينة في اثناء الليل وعلى حين غرة (٣٤٧). ولكن ما غجز عنه ملك البرتغال عن طريق القوة ، ناله في نهاية المطاف حينما أراد له الحظ ذلك ، وذلك بالاتسعانة ببعض الجنود وبدون اراقة للدماء ، كما ذكرنا ذلك آنفا.

والحقيقة هي أن محمد ملك فاس كان مصما على استرداد هذه المدينة ، ولكنه لم يفلح في ذلك ، لأن البرتغاليين كانوا يذودون عنها دوما بنشاط وحيوية وحماس. وقد ذهبت إلى طنجة ضمن هذه الحملة في عام ٩١٧ هجرية (٣٤٨).

__________________

(٣٤٦) في شهر آب (أغسطس) ١٤٣٧ م أرسل الملك ادوار الأول ولده دوم فرناندو على رأس حملة ضد طنجة. وتذكر بعض النصوص أن ولي عهد المملكة ، وهو أبو زكريا يحيى الوطّاسي ، الذي كان الملك الفعلي في بداية عهد السلطان عبد الحق ، كان حينئذ على رأس جيش كبير كان يقوده في اتجاه تافيلالت. وبعد أن قطع مسافة ثلاثة أيام مبتعدا عن فاس ، انكفأ راجعا واندفع نحو طنجة حيث أذاق البرتغاليين هزيمة دموية واضطروا للتسليم. وقد احتفظ بدوم فرناندو رهينة ، ولما رفض الملك ادوار تسليم سبتة والتصديق على التسليم ، اقتاد ابن الملك أسيرا إلى فاس. ثم وضع في صندوق من خشب عرض فوق أعالي سور فاس الجديد ، ثم اخضع لأنواع من التعذيب الى ان مات في ٥ حزيران (يونية) ١٤٤٣ م. وقد ادمج تابوته في سور المدينة القديمة بعد عرضه على الناس. ولكن بعد سقوط اصيلا في عام ١٤٧١ ، جاء ابن ابو ذكريا يحيى ، وهو محمد الشيخ ليتفاوض مع البرتغاليين في شأن بعض افراد من اسرته سقطوا اسرى في اصيلا ، والشروط التي يتفق عليها لاطلاق سراحهم ، فاحتفظ البرتغاليون بولده محمد ، ولكنهم ردوا له زوجته وابنته مقابل جثمان دوم فرناندو : «الولد المقدس».

(٣٤٧) ذهب الملك الفونس الخامس بنفسه في شهر كانون الأول (ديسمبر) ١٤٦٣ م في حملة على طنجة. وقد كانت هذه الحملة كارثة. فقد أدى الهجوم على طنجة في ٢٠ كانون الثاني (يناير) ١٤٦٤ م وهبوب عاصفة في أثناء ذلك الهجوم ، أدى هذا وذاك إلى وقوع خسائر جسيمة. كما ان محاولته بعد ذلك الدخول في عراك في الأرياف وهو منطلق من سبتة لم تكن أكثر نجاحا. وهكذا اضطر الفونس الخامس للعودة إلى البرتغال.

(٣٤٨) لقد سرد مارمول تفاصيل تلك المحاولة ضد طنجة في عام ١٥١١ (١٦٦٧ م ، ج ٢ ، ص ٢٣٠) ولكن تامبررال (طبعة ليون ١٥٥٦ م ، ص ١٩٨) لا يتعرض لوجود الحسن الوزان في هذه الحملة.


القصر الصغير

بنيت هذه المدينة الصغيرة على يد المنصور ، ملك مراكش وخليفتها ، على ضفة المحيط على مسافة اثنى عشر ميلا (٣٤٩) من طنجة وثمانية عشر ميلا من سبتة (٣٥٠). وقد أسسها نظرا لحاجته للذهاب إلى غرناطة في كل عام مع جيشه ، وكان من العسير اجتياز بعض الجبال المجاورة لسبته والتي يمر منها الطريق المؤدي الى البحر (٣٥١). وتقع هذه المدينة في موقع سهلي بديع. ومن هذا الموقع تمكن رؤية ساحل بلاد غرناطة الذي يواجه هذا الجزء من افريقيا. وكان القصر مدينة حسنة التنظيم. وكان كل سكانها تقريبا بحارة يحمون العبور بين بلاد البربر واوروبا. ولكن كان فيها بعض الناس يشتغلون بالنسيج. وكان فيها تجار اغنياء ومحاربون بواسل.

وقد قام ملك البرتغال بمهاجمة المدينة على حين غرة واحتلها (٣٥٢). وحينئذ أرسل ملك فاس عبد الحق جيشا قويا انضم إليه كل سكان فاس تقريبا. وحاصر المدينة واستغرق الحصار شهرين تقريبا. ولكنه كان بدون نتيجة لأن الوقت كان شتاء ، كما كان الثلج يتساقط فوق مخيمات الجيش الذي عجز عن فعل شيء يذكر ، ورفع الحصار يوم الثلاثاء الثاني من شهر كانون الثاني ١٤٥٩ م.

سبتة : مدينة كبيرة

سبتة مدينة كبيرة جدا. وكان الرومان يسمونها سيفيتاس (٣٥٣). ويسميها

__________________

(٣٤٩) ٢٠ كم.

(٣٥٠) ٢٩ كم.

(٣٥١) من الممكن أن يكون يعقوب المنصور ، قد نظم هذا القصر ، كما فعل في بقية المدن الواقعة في طريق المراحل بين الرباط وأسبانيا. ولكن طارق بن زياد أبحر من هذا الموقع نفسه في عام ٧١١ م ، وأن هذا القصر كان يدعى منذ زمن طويل قصر المجاز ، أي العبور ، أو قصر مصمودة.

(٣٥٢) لقد جهز الملك الفونس الخامس أسطولا للاستيلاء على الأماكن المقدسة عند النصارى في فلسطين بتحريض من البابا كاليكتس الثالث. ولكن الخلاف بين أمراء النصارى جعله يتخلى عن هذا المشروع فأبحر مع ١٨٠ مركب شراعي وجاء لمهاجمة القصر في ١٨ تشرين الأول (اكتوبر) ١٤٥٨ م ، وكان السكان قد أخلوا المدينة فدخلها الملك في ٢٠ تشرين الأول (اكتوبر).

(٣٥٣) من المفترض ، بدون يقين ، أن المدينة التي تحمل اليوم الاسم الأسباني سوتة ، كانت فوق موقع آد آبيلم المذكور في ـ


البرتغاليون سوبتة. وقد تأسست حسب رأي يعتبر صحيحا ، في أيام الرومان ، عند مدخل مضيق أعمدة هرقل. وقد كانت عاصمة كل بلاد موريتانيا لأنها كانت مقر الحكومة الرومانية. ولهذا منحها الرومان لقب الشرف ، وكانت مدينة متحضرة تماما. تضم الكثير من السكان.

وقد احتلها بعدئذ القوط الذين عيّنوا عليها أميرا. وظلت السلطة في أيديهم إلي أن قدم المسلمون إلى موريتانيا واحتلوا سبتة ، لأن يوليان ، أمير سبتة ، كان قد تلقى إهانة خطيرة من لذريق ملك القوط وسائر أسبانيا. ومن أجل ذلك اتفق يوليان مع المسلمين وأدخلهم الى مملكة غرناطة ، وكان ذلك سببا في هلاك لذريق وضياع مملكته. وهكذا احتل المسلمون سبتة واحتفظوا بها باسم خليفتهم الوليد بن عبد الملك ، الذي كان مقره دمشق في ذلك العصر (٣٥٤).

وراحت سبتة تنمو منذ ذلك العصر ، وحتى السنوات الأخيرة ، سواء فيما يتعلق بعمرانها او فيما يتعلق بعدد سكانها ، حتى لقد اصبحت اجمل مدن موريتانيا وأحفلها بالسكان. وكانت تحوي عدة جوامع ومدارس ، والكثير من الصناع ومن الأدباء ومن الناس المثقفين. وكان فيها عمال مهرة جدا في صناعة النحاس ، كصنع

__________________

ـ كتاب الدرب الانطوني. أما الكتلة الجبلية المجاورة فكان اسمها سبتم فراترس. ويفترض أن الاسم العربي «سبتة» قد اشتق من الاسم اللاتيني ، الذي أصبح في الاغريقية سبتيون. ومن المحتمل جدا أن اسم ستة كان كذلك اسمها المحلي. وفضلا عن ذلك فإن الرأي الذي يفترض أن اسمها قد تحرّف من الكلمة اللاتينية سيفيتاس ، ليس رأيا غير معقول ، فقد تحرفت هذه الكلمة الى سيوتات Ciotat في لهجة اهل البروفانس الفرنسي. «ومن المؤسف ان ترد في عدد من الكتب الجغرافية الجامعية العربية حاليا بإسم كويتا (المترجم).

(٣٥٤) يبدو أن سبتة ظلت ، حتى الفتح الإسلامي ، حوالي العام ٧٠٨ م ، آخر مكان حصين بيزنطي في الغرب ، وأنها لم تكن أبدا تخص الويز يغوط في اسبانيا ، الذين كانوا إلى حدّ ما سادة الساحل الافريقي من المضيق وكذلك الساحل الاطلنطي. ويطلق المؤلفون العرب اسم يوليان على الكونت الذي كان يحكم سبتة عند حملة عقبة بن نافع عام ٦٦٢ ـ ٦٦٣ م ، وعلى الكونت زعيم غمارة الذي كان يحكمها عند وصول جيوش موسى بن نصير. ويبدو أن الحاكم في أيام عقبة كان هو الكونت سمليسيوس. ونلاحظ أن المؤرخ ابن القوطية يذهب إلى أن يوليان الذي يسرّ مرور العرب إلى أسبانيا ليس هو يوليان حاكم سبتة ، بل هو تاجر أسباني غني ، كان يستورد الصقور والخيول الأصيلة ، وكان أرملا ، ولذلك عهد بابنته إلى لذريق ملك طليطلة كي تعيش في بلاطه. ولكن لذريق هذا اعتدى على عفاف الشابة ، التي أطلق عليها المؤلفون العرب لقب القحبة ؛ أي المومس وأن يوليان قدم إلى طنجة متذرعا برحلة تجارية واقنع طارق بن زياد ، زعيم مصمودة ، والذي كان يحكم باسم العرب ، بأن يلتمس من موسى بن نصير السماح له بالنزول في أسبانيا. وقد حدث هذا النزول في رجب عام ٩٢ ه‍ / نيسان (ابريل) ٧١١ م في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك.


الشمعدانات ، والصحاف والمحابر والأشياء الأخرى. وكانت تباع هذه الأشياء كما لو كانت من فضة. وقد رأيت منها في ايطاليا ، وكان الكثير من الطليان يعتقدون انها من صنع دمشق ، ولكن مصنوعات دمشق تكون في الحقيقة أكثر جمالا واتقن صنعا.

وتظهر في خارج المدينة أملاك خاصة بديعة جدا مع منازل غاية في الجمال ، ولا سيما في ناحية سميت «الكرمة» بسبب كثرة الكروم التي زرعت فيها. ولكن أريافها هزيلة وكالحة. ولهذا السبب كانت هذه المدينة تشكو دائما شح الحبوب.

ويمكن رؤية ساحل غرناطة المطل على المضيق من داخل سبتة أو من خارجها. ويمكن تمييز الحيوانات فيه لأن المسافة على طرفي المضيق لا تزيد عن اثنى عشر ميلا (٣٥٥).

ولكن هذه المدينة البائسة تعرضت لتدمير شديد ، منذ وقت طويل ، على يد عبد المؤمن ، الخليفة والملك (٣٥٦) ، لأنها وقفت موقفا معاديا ، فاحتلها وهدم منازلها وحكم على عدد كبير من أعيانها بالنفي الدائم لمناطق مختلفة (٣٥٧) ، وتعرضت لنفس المصير من جانب ملك غرناطة (٣٥٨) ، الذي احتلها والذي لم يقنع بتخريبها بل اجلى اعيانها واغنياءها الى غرناطة. (٣٥٩)

وفي عام ٨١٨ ه‍ (٣٦٠) استولى عليها اسطول ملك البرتغال وهرب الذين كانوا فيها. ودخل النصارى بدون عناء وظلوا فيها متوجّسين خوفا مدة ثلاثة أسابيع ، إذ توقعوا قدوم ملك فاس لنجدتها. ولكن أبا سعيد (٣٦١) الذي كان وقتذاك ملكا على فاس لم يكترث باستعادتها ، تخاذلا منه ، حتى أنه كان في وليمة راقصة عند ما نقل إليه النبأ فلم يقطع الاحتفال. وقد قضت مشيئة الله أن يقتل هذا الملك فيما بعد بصورة بائسة ، على يد أحد كتابه (٣٦٢) الذي كان يثق به ثقة مطلقة. وقتل مع سبعة من أبنائه لأنه حاول إغراء زوجة هذا الكاتب. وقد وقع هذا الحادث عام ٨٢٤ للهجرة (٣٦٣). وظلت ممكلة فاس

__________________

(٣٥٥) ٢٠ كم.

(٣٥٦) الحيفة الموحّدي عمد المؤمن

(٣٥٧) فى صيف عام ١١٤٨.

(٣٥٨) محمد الثالث من بني الأحمر.

(٣٥٩) فى ١٢ آيار (مايو) ١٣٠٦ م.

(٣٦٠) ٢٤ آب (أغسطس) ١٤١٥ م.

(٣٦١) أبو سعيد عثمان.

(٣٦٢) أبو فارس عبد العزيز الكناني.

(٣٦٣) عام ١٤٢١ م.


بعدئذ بدون ملك لمدة ثمانية أعوام ، أمكن في نهايتها التعرف على ولد صغير لابي سعيد ، مولود من نصرانية هربت إلى تونس وقت المذبحة. وكان اسم هذا الولد عبد الحق ، وهو آخر ملك من أسرة المرينيين. وقد قتل هو أيضا على يد الشعب ، كما أوردنا ذلك سابقا (٣٦٤).

تطوان

تطوان مدينة صغيرة بناها قدامى الأفارقة على مسافة ثمانية عشر ميلا تقريبا (٣٦٥) من المضيق (٣٦٦) وعلى مسافة ستة أميال من المحيط. وقد احتلها المسلمون على اثر انتزاع سبتة من القوط. ويقال أنه عند ما أصبح هؤلاء ، أي القوط ، سادة المدينة عهدوا بقيادتها لزعيمة عوراء كانت تأتي كل أسبوع إلى المدينة لاستلام عوائدها. ولما كانت ذات عين واحدة فقد سمّوا مدينتهم تيتاوين ، ومعناها العين الواحدة في اللسان الافريقي (٣٦٧).

وقبل فترة من الزمن هاجم البرتغاليون هذه المدينة واستولوا عليها (٣٦٨) ، وظلت قرابة ثمانين عاما خاوية إلى أن وفد عليها قائد غرناطي أعاد بناءها. وكان هذا القائد قد قدم إلى فاس من غرناطة بصحبة ملكها بعد أن سقطت بيد فرناندو ملك أسبانيا. وكان هذا القائد محاربا باسلا قام بأعمال بطولية خلال حروب غرناطة. وكان يسميه البرتغاليون المندري (٣٦٩). وقد حصل على الترخيص بترميم المدينة والتمتع بحكمها. فأعاد بناء كل

__________________

(٣٦٤) لا نزال نجهل تاريخ تنصيب عبد الحق. والواقع هو أن سلاطين غرناطة وتلمسان وتونس راحوا يدعمون بعض الطامعين المرينيين ، بعد موت أبي سعيد عثمان ، وكان هؤلاء يتنازعون على الحكم فاقتسموا البلاد التي تخربت بتأثير هذه الاضطرابات. وعلى أثر ذلك تدخل حاكم سلا النشيط ، وهو أبو زكريا يحيى الوطّاسي ، الذي كان يتمتع بتأييد سلطان تونس على الأرجح ، ونادى بعبد الحق سلطانا ، (وعبد الحق هذا ولد عام ١٤٢٠ م). وظل أبو زكريا وزيرا وملكا فعليا حتى وفاته عام ١٤٤٨ م. وقد اغتيل عبد الحق على اثر فتنة خطيرة في فاس بتاريخ ٢٣ أيار (مايور) ١٤٦٥ م بعد ثلاثين عاما من الحكم كانت هادئة نسبيا ومزدهرة.

(٣٦٥) ٢٩ كم.

(٣٦٦) والصحيح ١٠ كم من البحر المتوسط وليس من المحيط.

(٣٦٧) إن كلمة تتاوين هي ، على العكس ، جمع كلمة تيت وهي مشترك لفظي يطلق على العين الباصرة وعلى الينبوع. وهذا هو المعنى الحقيقي. وتحولت باللغة الأسبانية إلى تتوان.

(٣٦٨) وقع هذا الحادث سنة ١٣٩٩ او ١٤٠٠ م ولكن القشتاليين من اتباع الملك هنري الثالث هم الذين احتلوا المدينة.

(٣٦٩) لا يبدو أن أبا الحسن علي المندري قد وفد إلى فاس عام ١٤٩٢ مع الملك المخلوع أبي عبد الله محمد بعد سقوط عاصمته غرناطة. والصحيح أنه نزل في وادي مارتيل قرب تطوان مع جمع من اللاجئين الغرناطيين عام ١٤٨٧ م.


أسوار تطوان وشيّد فيها قلعة حصينة للغاية وأحاطها بخندق وهو نفس ما فعله حول سور المدينة. وكان عليه بعد ذلك أن يناجز البرتغاليين. فكان يفلح أحيانا في إلحاق الأذى الشديد بسبتة والقصر الصغير وطنجة. وكان تحت تصرفه على الدوام ثلاثمائة فارس ، وكلهم من الغرناطيين ومن نخبة أهل غرناطة. واستطاع بهذا الجيش أن يغزو كل أنحاء المنطقة وأن يأسر العديد من النصارى الذين كان يحتفظ بهم أسرى ينهك قواهم في أشغال التحصينات. ولقد رأيت في إحدى المرات التي ذهبت فيها إلى هذه المدينة ثلاثة آلاف من الرقيق النصارى ، وكانوا يلبسون جميعا سترة من الصوف ، وينامون ليلا ، مقيدين بالاصفاد ، في قعز سراديب تحت الأرض. وكان هذا الرجل غاية في الكرم ، حتى إنه كان يستضيف أي غريب يمر في مدينته. وقد توفي منذ عهد قريب بعد أن فقد بصره ، لأنه فقد إحدى عينيه بطعنة خنجر ، وفقدت العين الأخرى بصرها في شيخوخته. وآلت المدينة الآن لأحد أحفاده وهو رجل يتصف بشدة بسالته.

جبال الهبط

يوجد في إقليم الهبط ثماني جبال شهيرة اكثر من سواها. وهي مأهولة برجال غمارة (٣٧٠) ، ولسائر هؤلاء الناس تقريبا نفس نمط الحياة ، وحتى نفس الأخلاق ، لأنهم مع انتسابهم جميعا لدين الإسلام فهم يشربون الخمر على خلاف تعاليم الدين. وهم رجال أشدّاء ، جلودون على تحمل التعب والارهاق ، ولكنهم ليسوا حسنى الهندام. ويخضعون لملك فاس ، ويدفعون له ضرائب باهظة ومن أجل ذلك لا يتاح لهم أن يلبسوا ملابس لائقة ، ما خلا بعضهم كما سنذكر ذلك على حدة.

جبل رهونة

جبل رهونة هو جبل مجاور لبلدة آزجن (٣٧١) وطوله ثلاثون ميلا (٣٧٢) وعرضه اثنا عشر

__________________

(٣٧٠) والحقيقة تؤلف قبائل هذه المنطقة خليطا من أصول مختلفة : مصمودة ، صنهاجة ، كتامة ، هوارة ، غمارة .. الخ. وتدمج جميعا تحت إسم جبالة ، أي الجبليين ، تمييزا لهم عن غمارة بالمعنى الدقيق.

(٣٧١) لا تزال قبيلة رهونة دوما حيث هي على ضفة نهر لقّس اليسرى شمالي آزجن.

(٣٧٢) ٤٨ كم.


ميلا (٣٧٣). ونجد فيه الزيت والعسل والأعناب بمقادير كبيرة. وليس لأهل البلاد حرفة إلا صنع الصابون وتكرير الشمع ، كما يصنعون النبيذ الأبيض والنبيذ الأحمر لاستهلاكهم الشخصي. ويغلّ هذا الجبل مقدار ثلاثة آلاف دينار لحساب ملك فاس تدفع لحاكم آزجن لينفق على أربعمائة فارس يعملون في خدمة الملك.

جبل بني زكار (٣٧٤)

وهو جبل يتاخم الجبل السابق (٣٧٥) وطوله حوالي خمسة عشر ميلا (٣٧٦) وعرضه ثمانية أميال (٣٧٧). وهو أكثر سكانا من الجبل السابق. ويكثر فيه دباغو جلود الثيران وكذلك العاملون في حياكة قماش الكتان الخشن. ويجمع هنا الكثير من الشمع. ويعقد في كل يوم سبت سوق كبير نجد فيه كل صنف من التجار ومن السلع. ويقصده كذلك الجنويون الذين يأتون لشراء الشمع وجلود الثيران التي يصدرونها إلى جنوا والبرتغال. ويغلّ هذا الجبل ستة آلاف دينار سنويا ، نصفها تدفع لقائد آزجن والباقي يدفع لبيت مال ملك فاس.

جبل بني عروس

يجاور هذا الجبل مدينة القصر الكبير. ويمتد على مسافة ثمانية أميال (٣٧٨) في اتجاه الشمال وعلى مسافة عشرين ميلا نحو الغرب (٣٧٩) ويبلغ عرضه ستة أميال (٣٨٠) ويسكنه اشراف وفرسان (٣٨١) وقد كان هذا الجبل كثيف السكان وكثير الانتاج. ولكن هؤلاء

__________________

(٣٧٣) ٢٠ كم.

(٣٧٤) بني فنزكار ، أو بني زكار.

(٣٧٥) استقر بنور زكار ، الذين كانوا يسمون سابقا بني فنزكار ، على الضفة اليمنى لنهر لقّس الذي يفصلهم عن الرهونة.

(٣٧٦) أو ٢٤ كم.

(٣٧٧) ١٢ كم.

(٣٧٨) ١٣ كم.

(٣٧٩) ٣٢ كم.

(٣٨٠) ١٠ كم.

(٣٨١) لقد كانت ذرية الإمام إدريس الثاني عديدة للغاية ، فقد كان له عشرة أبناء. وقد استقر عدد كبير من هذه الأسرة الشريفية لدى بربر صوماتة حتى إنهم شكّلوا مع اتباعهم ، من هؤلاء الفرسان ، قبيلة حقيقية دعيت «بني عروس».


الأشراف ظلموا السكان الذين اضطروا إلى الهجرة منه بعد سقوط أصيلا بيد البرتغاليين (٣٨٢). ولم يبق سوى بضعة مداشر فوق المرتفعات في حين ظلت بقية الجبل مهجورة. وكان ريع الجبل يرتفع عادة الى ثلاثة آلاف دينار ، كان تدفع لقائد القصر الكبير.

جبل حبيب

يضم هذا الجبل ما بين ستة وسبعة قصور ويقطنه أناس ممتازون كرام. وذلك أنه على أثر سقوط طنجة بأيدي البرتغاليين (٣٨٣) جاء الكثيرون من أبناء هذه المدينة المتحضرين واستقروا فيه لأنه كان على مسافة خمسة وعشرين ميلا (٣٨٤) من المدينة المذكورة. ولكن الوضع في هذه المنطقة وضع مهدد ومضطرب في جملته ويسير دائما من سيء إلى أسوأ ، نظرا لأن القائد الذي يحمي هذه المنظقة (٣٨٥) يقيم على مسافة ثلاثين ميلا (٣٨٦) منها بحيث يعجز عن نجدة السكان في الوقت المناسب في كل مرة يقوم فيها البرتغاليون بشن غارات يدمرون خلالها كل ما يستطيعون تدميره.

بني حسن

جبل بني حسن عال جدا (٣٨٧) ، وهو عسير المنال بالنسبة للعدو ، إذ فضلا عن طبيعة أرضه يتميز رجاله بشدة بأسهم وجرأتهم الكبيرة. وهؤلاء الناس لم يستطيعون احتمال ظلم أبناء بلدتهم ، الذين كانوا يقضون بقوة السلاح على عزة نفوسهم ويحولون عددا منهم إلى أوضاع بائسة. ولهذا قام شاب من هؤلاء الأشراف ، وكان حانقا لأنه أصبح من رعايا تابعيه القدامى وامتلأ صدره حقدا عليهم ، فقصد غرناطة حيث انخرط لفترة من الزمن مرتزقا في خدمة النصارى ، إلى أن أصبح محاربا مجرّبا ، وعاد بعدئذ ليستقر في أحد

__________________

(٣٨٢) عام ١٤٧١ م.

(٣٨٣) في عام ١٤٧١ م.

(٣٨٤) ٤٠ كم.

(٣٨٥) أي قائد مدينة القصر الكبير.

(٣٨٦) ٤٨ كم.

(٣٨٧) لا زال بنو حسن في مكانهم بين تطوان وشفشاون وأعلى قمة في هذه المنطقة الجبلية تبلغ ١٨٠٠ م.


هذه الجبال الذي التجأ إليه أقرانه. فجمع عددا لا بأس به من الفرسان ودافع عن الجبل ضد صولة البرتغاليين. ولهذا أمدّه الملك بخمسين رجلا من راشقي السهام لما رأى فعالية هذا الرجل البطولية وراح يحارب بهم أهل الجبل وطرد منه أعداءه. ولكنه استولى على ريع الجبل الذي كان يخص الملك ، وهنا استشاط هذا عليه غضبا وجرد عليه حملة على رأس جيوش عديدة. ولكن صاحبنا ندم على خطئه ، وعفا عنه الملك وأقرّه في حكم شفشاون وكورتها (٣٨٨). وهكذا أصبح أميرها الشرعي. وكان من نسل محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن سلالة إدريس مؤسس فاس. ويعرفه البرتغاليون جيدا ويحترمونه ويسمونه باسمه وباسم أسرته ، وهو علي بن راس (٣٨٩).

جبل عنجرة

يقع هذا الجبل على مسافة ثمانية أميال (٣٩٠) تقريبا من القصر الصغير. ويمتد على مسافة عشرة أميال (٣٩١) طولا وعلى مسافة ثلاثة أميال عرضا (٣٩٢). وفيه أراض زراعية طيبة لأن أهل هذه البلاد جرّدوا الأرض من الأشجار لصنع القوارب في القصر الكبير حيث كانت تقوم دار صناعة. وكان من عادتهم زراعة الكتان وكانوا حاكة أو بحارة. ولكن بعد أن سقطت مدينة القصر الكبير بأيدي البرتغاليين (٣٩٣) هجر هؤلاء السكان جبالهم. ومع هذا لا زالت هناك بيوتهم وأملاكهم في نفس الحالة التي كانت عليها عندما كانت مأهولة ومزروعة.

__________________

(٣٨٨) نشأت شفشاون في أواخر سني القرن الخامس عشر على يد سلف هذا الشخص وإبن عمه وهو الذي ثابر على عملية بنائها.

(٣٨٩) أطلق البرتغاليون اسم «برّاشة» على الشريف أبي الحسن علي بن موسى بن الرشيد ، الذي يلفظ برشيد في اللهجة الدارجة في المغرب.

(٣٩٠) ١٣ كم.

(٣٩١) ١٦ كم.

(٣٩٢) ٥ كم.

(٣٩٣) من شهر تشرين الأول (اكتوبر) ١٤٥٨ م.


ودراس

ودراس جبل عال بين سبتة وتطوان (٣٩٤) ويسكنه قوم من ذوي الجرأة البالغة وقد قدّموا على إقدامهم وجرأتهم براهين ساطعة في أثناء الحروب التي وقعت بين ملوك غرناطة وملوك أسبانيا. ومن عادة هؤلاء الجبليين الذهاب إلى غرناطة متطوعين ، وهم على قلتهم يعدلون من حيث القيمة جميع الجنود النظاميين لهؤلاء الملوك. وإلى هذا الجبل يعود أهل المدعو هلّول الذي خاض معارك ضارية ضد الأسبان. ويتداول الناس في افريقيا وفي غرناطة قصصا شعبية ، بعضها في عبارات نثرية وبعضها في قصائد شعرية ، تمجّد بطولات هذا الرجل المقدام ، كما نجد في إيطاليا قصصا عن بطولات رولاند (٣٩٥). وقد قتل هلّول في حرب أسبانيا عندما انهزم يوسف الناصر قرب قصر في قطالونيا يسميه المسلمون قصر العقاب (بضم العين). وقد قتل في هذه المعركة عشرة آلاف محارب بين صفوف المسلمين ولم ينج سوى الملك مع قلة من اتباعه. وقد حدث هذا عام ٦٠٩ للهجرة ، الذي يقابل عام ١١٦٠ من الميلاد (٣٩٦). وبعد هذه الهزيمة الاسلامية راح النصارى يحققون الانتصارات في أسبانيا ، فاستردوا كل المدن التي كانت بأيدي المسلمين. وقد مضى بين الهزيمة المذكورة وبين سقوط غرناطة بيد ملك أسبانيا مدة مائتين وخمسة وثمانين عاما تقريبا (٣٩٧).

جبل بني واغرفت

ويقع هذا الجبل على مقربة من تطوان وهو كثير السكان ، ولكنه ليس متسعا. وسكانه رجال بواسل تكثر فيهم المناقب الطيبة. وهم تحت سلطة قائد تطوان الذي

__________________

(٣٩٤) تبلغ أعلى قمة في كتلة ورداس ارتفاعا قدره ٦٩٠ م.

(٣٩٥) احد جنود شارلمان البواسل.

(٣٩٦) حدث ذلك يوم الاثنين ٢ صفر ٦٠٩ ه‍ / ١٦ تموز (يونية) ١٢١٢ م ، عندما هاجم الجيش النصراني بقيادة ملوك قشتالة وآراجون ونافار جيش المسلمين فوق هضبة لاس نافاس دو تولوشة ، في جبال سييرا مورينا ، في إقليم جيّان ، وكان جيش المسلمين بقيادة الخليفة الموحدي أبو يوسف محمد الناصر الذي كان معسكرا أمام حصن العقاب. وقد أبيد الجيش الإسلامي برمته.

(٣٩٧) في الحقيقة ٢٨٨ سنة هجرية ، لأن دخول الملكين الكاثوليكيين فرديناند وايزابللا إلى غرناطة ، كان يوم الاثنين الأول من شهر ربيع الأول ٨٩٧ ه‍ / ٢٠ كانون الثاني (يناير) ١٤٩٢ م.


يطيعونه بانقياد ، ويذهبون بالفعل معه لتخريب كورة هذه المدينة (٣٩٨) التي هي بأيدي النصارى. وفي مقابل ذلك لا يدفعون لملك فاس أية ضريبة باستثناء عوائد زهيدة من أراضيهم الزراعية. بيد أنهم يجنون الكثير من الربح من جبلهم الذي ينتج الكثير من خشب البقص الذي يستخدمه صنّاع الأمشاط العاملين في فاس. ففي كل السنين يستورد هؤلاء الصناع كمية كبيرة من الخشب من هذا الجبل (٣٩٩).

الريف : منطقة من مملكة فاس

الريف منطقة من مملكة فاس تبدأ من تخوم مضيق أعمدة هرقل (٤٠٠) وتمتد شرقا حتى نهر النكور ، وهذا يمثل حوالي مائة وأربعين ميلا (٤٠١) ، وتنتهي شمالا على البحر المتوسط بمحاذاة قسم منه. وتمتد من هناك في اتجاه الجنوب على مسافة أربعين ميلا (٤٠٢) أي حتى الجبال التي تحاذي نهر الورغة ، الذي يقع في منطقة فاس. وهذه المنطقة عبارة عن بلاد كؤودة ، مليئة بالجبال الشديدة البرودة والمستورة بالعديد من الغابات التي تظهر فيها أشجار ضخمة جدا مستقيمة تماما (٤٠٣). ولا ينبت في الريف الكثير من القمح ، ولكن نعثر فيه على الكثير من أشجار التين والبرتقال.

وسكان الريف شجعان ، غير أنهم اعتادوا شرب الخمر ، وكسوتهم رديئة. وفي هذه البلاد القليل من الحيوانات ، باستثناء الماعز والحمير والقردة ، التي تعيش على شكل مجموعات كبيرة في هذه الجبال. وليس في هذه الجبال سوى القليل من المدن ، وكل القرى الهامة عبارة عن قصور أو قرى (٤٠٤) لسكانها بيوت بائسة لا تحوي أكثر من مسكن أرضي ، ومبنية كالزرائب التي نراها في أرياف أوروبا ، مع سقوف من قش أو من لحاء الشجر.

__________________

(٣٩٨) أي حوز تطوان.

(٣٩٩) كان بنو واغرفت هؤلاء ـ وهم بنو غرفت الحاليون ـ يقيمون جنوب غرب جبل بني عروس وشمالي مدينة القصر الكبير. ويبدو أن هذا الوصف لا ينطبق على بني هزمار جنوب تطوان وعلى بني أدير ، جيرانهم في الغرب ، أي جنوب بني ودراس.

(٤٠٠) الحقيقة من وادي اللّو.

(٤٠١) أو ١٤٤ كم والحقيقة حوالي ١٣٠ كم.

(٤٠٢) الصحيح ٥٠ ميلا أو ٨٠ كم في المتوسط.

(٤٠٣) أشجار الصنوبر.

(٤٠٤) أي دشر جمع دشرة وتجمع كذلك على مداشر.


وكل رجال هذه القبائل ونسائها مصابون بانتفاخ غدة العنق (٤٠٥) ، وهم غلاظ وجهلة.

ترغة

ترغة مدينة صغيرة بناها القوط حسب قول بعض المؤلفين. وتقع على ساحل البحر المتوسط على مسافة خمسين ميلا تقريبا (٤٠٦) من المضيق وتضم قرابة مائة وخمسين أسرة. ويغلب على اسوارها الضعف. ويقطنها صيادون من عادتهم تمليح السمك الذي يصطادونه ويبيعونه لتجار الجبل ، وينقل لمسافة مائة وعشرين ميلا تقريبا (٤٠٧) في الداخل. وكانت هذه البلدة منظمة وكثيرة السكان. ولكن ما ان وضع البرتغاليون فيها أقدامهم (٤٠٨) حتى أخذت في الانحطاط ، سواء في مظهرها أو في عدد سكانها. وتظهر في ضواحيها غابات تغطي جبالا وعرة وباردة. وينبت الشعير في هذه الجبال ولكن بكميات زهيدة لا تسدّ استهلاك نصف السنة. وأهل هذه المنطقة شجعان حقا ، ولكنهم أجلاف ، جهال وعربيدون ، ومظهر لباسهم ردىء عادة.

بادس

بادس مدينة مبنية على ساحل البحر المتوسط ، ويسميها الأسبان فيليزدولا غمارة. وتضم ستمائة أسرة. ويقول بعض مؤرخينا أن الأفارقة بنوها ، ويقول الآخرون أن القوط هم الذين بنوها. ومهما كان الأمر فهي واقعة بين جبلين عاليين جدا (٤٠٩) وبجوار واد كبير يتشكل فيه نهر عندما يهطل المطر (٤١٠). ويقوم في داخل البلدة سوق مع العديد من الحوانيت وجامع متوسط الأبعاد. ولكن تخلو المدينة من ماء صالح للشرب. وفي خارج البلدة يوجد بئر قرب ضريح أحد الأولياء (٤١١). ولكن من

__________________

(٤٠٥) «وهذا من علائم سوق التغذية» (المترجم).

(٤٠٦) ٨٠ كم.

(٤٠٧) ٢٠٠ كم.

(٤٠٨) على أثر محاولة إنزال في عام ١٥٠٢ م.

(٤٠٩) حوالي ٥٠٠ م إرتفاعا.

(٤١٠) هو واد تالمبادس.

(٤١١) هو سيدي أبو يعقوب البادسي.


الخطورة بمكان شرب هذا الماء ليلا لأنه ملىء بالعلق.

ويقسم السكان إلى فئتين ، هم الصيادون والقراصنة ، ويذهب هؤلاء بقواربهم لنهب السواحل النصرانية. والجبال حول بادس مرتفعة وموحشة. وتحتوي على أخشاب تصلح لبناء القوارب والطرادات. ولا يعيش سكان الجبال إلّا من تصدير هذا الخشب بعد نقله إلى مختلف البلاد. ولا ينبت في المنطقة سوى القليل من القمح ، ولهذا يأكل الناس في هذه المدينة خبز الشعير. ويتغذون خاصة بالسردين وبأسماك أخرى. ويحرص الصيادون على أن يحصلوا على كميات كبيرة من هذه الأسماك ، ولذلك يحتاجون دوما لبعض الأشخاص ليعينوهم في سحب الشباك. ولهذا كان من عادة الفقراء الذهاب كل صباح تقريبا لساحل البحر لتقديم العون للصيادين الذين يكافئونهم بأن يتركوا لهم قسما طيبا من السمك الذي يصيدونه مثلما يقدمون منه لكل الأشخاص المتواجدين هناك. أما بالنسبة لأسماك السردين فهم يملّحونها ويرسلونها إلى الجبال. ويوجد في هذه المدينة أيضا شارع طويل يسكنه اليهود ويباع فيه الخمر. ويبدو النبيذ كأنه مشروب مقدس بالنسبة لكل السكان. وفي كل أمسية يكون الطقس فيها صحوا يذهب الناس في مراكب صغيرة للرياضة في عرض البحر ، ويستمتعون هناك بالشراب والغناء.

ولبادس قصبة صغيرة ليست شديدة المنعة. وفيها يسكن الأمير ، مثلما يملك أيضا في خارج القصبة قصرا مع بستان بديع جدا. ونجد في خارج القصر أيضا ، بجوار البحر ، دار صناعة صغيرة حيث تبنى القوارب ، والطرادات ، وبعض المراكب. ومن عادة الأمير وسكان المدينة ، تسليح مراكب وإرسالها للبلاد النصرانية حيث يلحقون بها الكثير من الأضرار. ولهذا السبب قام دون فرناندو ، ملك أسبانيا الذي تكلمنا عنه ، وأرسل (٤١٢) أسطولا بقيادة دون بدر ونافارّ والذي احتل جزيرة واقعة تجاه بادس تماما وعلى مسافة ميل واحد من المدينة. وهناك شيّد حصنا فوق رصيف صخري (٤١٣) وجهزه بالجند وبالأقوات ، وبمدفعية قوية جدا حتى أن رمى الأسبان كان يقتل الناس في شوارع البلدة وفي الجامع. وعندها طلب أمير بادس النجدة من ملك فاس الذي أرسل العديد من الجنود المشاة لانتزاع الجزيرة ، ولكن مزّق شملهم

__________________

(٤١٢) في عام ١٥٠٨ (ترّاس ، تاريخ المغرب ، ج ٢ ، ص ١٢٢ ، عام ١٥٠٧ م)

(٤١٣) تدعى بنيون دوفيليز ، ومعناها بالأسبانية صخرة بادس الكبرى.


شر ممزق فبعضهم قتل بشكل تعيس ، في حين سقط بعضهم في الأسر ، وعاد الباقون إلى فاس جرحى ، واحتفظ النصارى بالجزيرة إلى أن أرسل ملك فاس بعد أحد عشر عاما جيشا من جديد. فسقطت الجزيرة بأيدي المسلمين بفضل خيانة جندي أسباني قتل قائده الذي زنى بزوجته. فقتلوا كل النصارى الموجودين فيها باستثناء الجندي المتعاون مع المسلمين وزوجته اللذين أكرمهما أمير بادس وملك فاس ودفعها لهما مبلغا طيبا. وحدث هذا عام ١٥٢٠ من التاريخ الميلادي (٤١٤). وقد سمعت هذه القصة في نابولي من أناس كانوا موجودين عند سقوط الجزيرة. ولكن عندما احتل النصارى الجزيرة كنت حينئذ في فاس (٤١٥). ويحتفظ أمير بادس بهذه الجزيرة اليوم مع أكبر يقظة ويساعده في ذلك ملك فاس ، إذ يقع هنا أقرب ميناء إلى فاس على البحر المتوسط ، رغم وجود مسافة قدرها مائة وعشرون ميلا (٤١٦) بين بادس وفاس.

ومن عادة سفن البندقية أن تقصد بادس مرتين في العام مع بضائعها. ويزاول البنادقة التجارة هنا بالمقايضة أو بالبيع النقدي. وبالاضافة الى ذلك ينقلون البضائع وحتى الركاب المسلمين أنفسهم من هذا الميناء إلى تونس وأحيانا إلى البندقية أو حتى الاسكندرية وبيروت.

إيلليش

ايلليش مدينة صغيرة على ساحل البحر المتوسط ، على مسافة أربعة أميال (٤١٧) من بادس. ولها ميناء طيب ، ولكن صغير ، تلتجىء إليه السفن الضخمة القادمة إلى بادس عندما يكون البحر هائجا. وتظهر بجوار المدينة بضعة جبال مغطاة بأحراش كبيرة من شجر الصنوبر. وفي أيامنا كانت هذه المدينة مهجورة بسبب القراصنة الأسبان. ولا يرى فيها سوى بعض أكواخ الصيادين ، وهم دائما في حالة تأهب بمجرد

__________________

(٤١٤) تدل هذه الفقرة على مدى أهتمام الحسن الوزان بشؤون وطنه ومسلمي المغرب حتى بعد سقوطه بالأسر فكان يتابع أوضاعهم عن كثب وهو في ايطاليا (المترجم).

(٤١٥) لا يتكلم تامبورال (شيفرج ٢ ص ٢٧٥) عن وجود الحسن في فاس في تلك الفترة.

(٤١٦) ٢٠٠ كم.

(٤١٧) ٥ ، ٦ كم إلى الغرب.


أن يروا مركبا. فيهربون إلى الجبال وسرعان ما يعودون بصحبة عدد كبير من الجبليين للدفاع عن أنفسهم.

تاغسّة

تاغسّة مدينة صغيرة كثيرة السكان ، وتقع على نهر صغير على مسافة ميلين من البحر (٤١٨) ، وفيها أقل من خمسمائة أسرة ، ولكن ليس فيها سوى مساكن رديئة. وكل سكانها صيادون وملّاحون. ويجلب هؤلاء البحارة الأقوات إلى المدينة لأن كل أراضيها عبارة عن جبال وغابات. ويوجد عدد لا بأس به من أشجار الكرمة والأشجار المثمرة ، والباقي خلاء. ولا يأكل الأشراف فيها شيئا سوى خبز الشعير وسمك السردين والبصل. وقد أقمت مرة في هذه المدينة مدة ثلاثة أيام ولاحظت أن رائحة السردين تفوح من الجدران والشوارع. وقد تراءت لي هذه الأيام الثلاثة كأنها ثلاثة أشهر نظرا لقذارة وشناعة هذه المدينة وأهلها.

جبها

جبها مدينة صغيرة ذات أسوار جيدة. وقد بناها الأفارقة على ساحل البحر المتوسط ، على مسافة حوالي خمسة وعشرين ميلا (٤١٩) من بادس. وهي تارة تكون مأهولة وتارة مهجورة وذلك حسب موارد الرزق التي يجدها الحاكم والحرس. وتحيط بها اراض موحشة تكثر فيها العيون والغابات. وتظهر في جوارها بعض الكروم والأشجار المثمرة الأخرى. ولا يوجد في هذه البلدة أي بناء ، ولا أي مسكن مناسب باستثناء السور المشيّد بشكل متقن.

المزّمة

كانت المزّمة (٤٢٠) مدينة كبيرة واقعة فوق جبل صغير على ساحل البحر المتوسط ،

__________________

(٤١٨) والحقيقة هناك مسافة تزيد على الكيلومترين بقليل من مصب وادي تاغسّة الواقع على مسافة ٥ كم غرب مصب وادي اورنغه.

(٤١٩) تقع أطلال «جبها» فوق هضبة موجودة في قمة رأس جبها ، وهي صخرة ضخمة تتقدم في البحر لمسافة ٤٠ كم غرب بادس وعلى مسافة ٥ ، ٢ كم شرق مصب واد اورنغه وتهيمن على موقع بويرتو كاباز.

(٤٢٠) المزّمة اسم موقع يستدعي التحديد قرب أجدير في مقابل صخرة الحسيمة.


قرب حدود إقليم غارت. ويقع في أسفلها سهل فسيح يمتد على مسافة عشرة أميال (٤٢١) عرضا وثمانية وعشرين ميلا طولا من الشمال للجنوب (٤٢٢). ويمر نهر النكور من وسطه وهو الذي يفصل إقليم الريف عن إقليم غارت. ويسكنه عرب يزرعون أرضه ويحصدون منه كمية كبيرة من القمح ، تبلغ حصة أمير بادس منها حوالي خمسة آلاف كيل.

وقد كانت هذه المدينة كثيرة السكان وآمنة جدا ، ففيها كان يقيم أمير هذه المنطقة. ولكنها تخربت على ثلاث دفعات. فقد تخربت أول مرة على يد خليفة القيروان (٤٢٣) الذي غضب من رفض أمير المزّمة دفع الضريبة العادية ، فسقطت المدينة بيده وخربها وأحرقها. وقطع رأس أميرها وأرسله إلى القيروان فوق رأس رمح ، في عام ٣١٨ للهجرة (٤٢٤).

وبعد ذلك ظلت هذه المدينة مهجورة لمدة خمسة عشر عاما ، قام في نهايتها بعض الأمراء بإعمارها تحت حماية خليفة قيروان. غير أن الغيرة انتابت ملك قرطبة منها لأن هذه المدينة لم تكن تبعد أكثر من ثمانين ميلا عن حدوده البحرية ، مما يعادل عرض البحر بين مالقة التي تقع في مملكة غرناطة ، وبين هذه المدينة الواقعة في موريتانيا. وابتدأ ملك غرناطة إذن محاولته للحصول على الضريبة منها ، ولكن رفض طلبه.

فأرسل حينئذ اسطولا احتل المدينة في فترة وجيزة ، إذ لم يكن هناك أية نجدة متوقعة من خليفة القيروان التي تبعد عنها الفين وثلاثمائة ميل (٤٢٥) ، حتى أنه قبل أن يصل طلب النجدة إلى القيروان ، كانت المدينة قد سقطت ودمّرت ونهبت واقتيد أميرها سجينا إلى

__________________

(٤٢١) ١٦ كم.

(٤٢٢) لهذا السهل المثلث الشكل قاعدة طولها ١٠ كم في طول البحر و ١٦ كم من الشمال للجنوب.

(٤٢٣) الخليفة الفاطمي عبيد الله ، أول خلفاء الفاطميين.

(٤٢٤) هذه الحوادث لا تتعلق بالمزمّة ذاتها ، بل بمدينة اسمها النكور ، عاصمة إمارة عربية مستقلة. ويعتقد أن النكور كانت واقعة على الضفة اليسرى لوادي النكور ، على مسافة خمسة عشر كيلومترا من المزمّة التي كانت تشكل ميناءها ـ وفي ٢٦ حزيران (يونيه) ٩١٧ م ، قام القائد مسّالة بن حبوس ، الذي أرسله خليفة القيروان الفاطمي لفتح المغرب ، بتخريب المدينة وأرسل رأس أميرها العربي مع بضعة من أفراد أسرته إلى القيروان.

(٤٢٥) ٣٦٠٠ كم والحقيقة ١٤٠٠ كم فقط.


قرطبة حيث ظل حتى وفاته (٤٢٦). وتبدو المزمة حاليا مهدمة ، ولكن أسوارها سليمة تماما. وآخر مرّة تخربت فيها كانت في سنة ٨٧٢ هجرية (٤٢٧).

جبل بني جرير

سنتكلم الآن عن بعض جبال الريف ، فجبل بني جرير يسكنه فخذ من غمارة وهو مجاور لبلدة ترغة (٤٢٨). ويمتد على طول مقداره عشرة أميال وعلى عرض أربعة أميال (٤٢٩) تقريبا. وتظهر فيه أحراش كثيرة ، ومزارع الكرمة والزيتون. وسكانه غاية في الفقر ويلبسون الأسمال الحقيرة ، وليس لديهم سوى القليل من الماشية ويصنعون الكثير من الخمر والدبس المطبوخ. ولا ينبت الشعير إلا بكميات زهيدة في هذه المنطقة.

جبل بني منصور

يمتد هذا الجبل على مسافة خمسة عشر ميلا بعرض مقداره أربعة أميال (٤٣٠) ، وفيه تكثر الغابات والعيون. وسكانه أناس أولو بأس ، ولكنهم فقراء لأن جبلهم لا ينتج شيئا سوى العنب. غير أن لديهم مع هذا بعض الماعز. ويقيمون مرة في الأسبوع سوقا ، ولكن لم أجد فيه سوى البصل والثوم والزبيب والسردين المملح والشيء الزهيد من الشعير والذرة البيضاء التي يصنعون منها خبزهم ، وهو بجوار البحر تحت سلطة أمير بادس (٤٣١).

__________________

(٤٢٦) في الحقيقة لقد اضطر الخليفة الفاطمي عبيد الله سنة ٣١٧ ه‍ / ٩٢٩ م أن يعيد فتح بلاد البربر الغربية بواسطة حليفه أمير قبائل مكفاسة ، وهو حاكم تازه وجرسيف ، واسمه موسى بن أبي العافية ، وقد خربت مدينة النكور حينئذ تماما ، ويبدو أنه بعد تدمير هذه المدنة تدميرا كليا أصبحت المزمّة عاصمة هذه الإمارة.

(٤٢٧) أو عام ٨٩٢ ه‍. ولا نزال نجهل الأحداث التي أدت لخراب المزمّة سواء في عام ١٤٦٧ ـ ١٤٦٨ م أو في ١٤٨٧ م.

(٤٢٨) لا تزال قبيلة غمارة بني جرير موجودة حيث هي في جوار بلدة ترغة.

(٤٢٩) أي ١٦ كم في ٥ ، ٦ كم.

(٤٣٠) أي ٢٤ كم في ٥ ، ٦ كم.

(٤٣١) يبدو ان بني منصور قد ابتعدوا فيما بعد عن البحر مصعدين في وادي المطر.


جبل بوكوّيه

يمتد هذا الجبل على مسافة أربعة عشر ميلا تقريبا من الطول وعلى مسافة ثمانية أميال من العرض (٤٣٢). ويعيش سكان هذا الجبل في بحبوحة أكثر نسبيا من سواهم من أهل الجبال ، ولباسهم لائق. ولديهم بعض الخيول لأن جبلهم يحوي أراض طيبة فيما حوله. ولا يدفعون الكثير من الضرائب نظرا لأن أحد الأولياء ، وهو المدفون في بادس ، يرجع أصله إلى هذه المنطقة (٤٣٣).

جبل بني خالد

يمر الطريق بين بادس وفاس من هذا الجبل ، وهو بارد جدا تغطيه الغابات ، وفيه ينابيع ذات مياه شديدة البرودة. ويخضع سكانه لأمير بادس. وهم لصوص قتلة بسبب فقرهم والضرائب التي ينوؤون تحت وطأتها (٤٣٤).

بني منصور (٤٣٥)

يمتد هذا الجبل على مسافة ثمانية أميال تقريبا. وهو يبتعد عن الساحل كالجبلين السابقين. وسكانه بواسل واقوياء البنية ، ولكنهم ثملون دائما. ويجنون الكثير من الأعناب ، والقليل من الحب. وتذهب نساؤهم خلف قطعان ماعزهم التي يرعينها ويقمن بالغزل في اثناء ذلك. ولا توجد بينهن واحدة وفية لزوجها (٤٣٦).

__________________

(٤٣٢) ٥ ، ٢٢ كم و ٢٣ كم.

(٤٣٣) لا يزال البوكوّيه يشغلون الساحل شرق بادس ، ويروى ابن خلدون ، الذي ولد في ٢٧ أيار (مايو) ١٣٣٢ م ، والذي جاء ليدرس في فاس سنة ١٣٥٤ م ، يروي أن أساتذته يتذكرون جيدا أنهم رأوا وليا كبيرا يدعى أبا يعقوب البادسي. وبادس لا وجود لها الآن ، ولكن لا يزال فيها ضريح الولي.

(٤٣٤) يعيش بنو خالد حاليا شمال غرب بني زروال ، بعيدا جدا إلى الغرب من الطريق المباشرة بين بادس وفاس ، ويبدو أن المؤلف قد وقع هنا في الخطأ.

(٤٣٥) اسم غير معروف.

(٤٣٦) لا يمكن تشخيص بني منصور. والراجح ان بوكوّيه قبيلة ساحلية ، وبني خالد قبيلة في داخل الريف. ومن المحتمل أن المؤلف وقع هنا في خطأ أيضا.


بني يوسف (٤٣٧)

لهذا الجبل طول مقداره اثنا عشر ميلا مقابل ثمانية أميال تقريبا عرضا (٤٣٨). وأهله فقراء وأكثر رداءة في لباسهم من الآخرين إذ لا ينبت شيء طيب في جبلهم عدا كمية زهيدة من الذرة البيضاء. ويمزجون هذه الذرة مع بذور العنب ويعملون منها دقيقا ويعملون من هذا الدقيق خبزا أسود اللون كريه المذاق مزعج المنظر. ويأكلون عادة الكثير من البصل وينابيعهم عكرة المياه. غير أنهم يملكون كمية كبيرة من الماعز يعتبر حليبها بالنسبة لهم غذاء ثمينا.

جبل بني زرويل

أرض هذا الجبل خصيبة جدا يزرع فيها الكرم والزيتون وطائفة أخرى من أشجار الفاكهة. ويخضع سكانه الفقراء لأمير شيشاون الذي يثقل كاهلهم بضرائب باهظة ، يعجز هؤلاء البؤساء عن الحصول عليها مما يدره عليهم ما يصنعونه ويصدرونه من نبيذ. ويقيمون مرة في كل أسبوع سوقا يعرض فيه التين المجفف والزبيب والزيت. ومن عادتهم ذبح كثير من تيوسهم ومن عنزاتهم الهرمة التي لا تصلح للتوالد (٤٣٩).

جبل بني رزين

يكاد يكون هذا الجبل ملاصقا للبحر المتوسط في ضواحي ترغة. ويعيش سكانه في رخاء وأمان لأن جبلهم موائم للدفاع وخصيب. ولا يدفعون أية ضريبة ، ويجنون القمح والزيتون ولديهم الكثير من الكروم. وأرضهم طيبة ولا سيما على سفوح الجبل. وتقوم نساء هذه المنطقة بحراسة الماعز وبزارعة الأرض (٤٤٠).

__________________

(٤٣٧) لا يبدو أن المقصود بهم ، كما افترض البعض بني إيسف ، وهي قبيلة من زمرة الجبالة المقيمة في شمال بني زكار ، بل هم بنو يويسف الذين انصهروا من قبائل الخماس.

(٤٣٨) ٢٠ كم / في الطول و ١٣ كم في العرض.

(٤٣٩) لا يزال بنو زرويل المقيمون على الضفة اليمنى لأعالي نهر لقس يقيمون سوق الأحد على ضفة النهر.

(٤٤٠) من المحقق أن المؤلف ارتكب هنا خطأ ، لأن بني رزين هم في جنوب تاغسّة ويفصلهم عن البحر بنو جرير ، وهذه قبيلة من النجارين في بلاد تكثر فيها الغابات قبل كل شيء.


جبل شيشاون

هذا الجبل أكثر كل جبال افريقيا بهجة. فنجد فيه مدينة صغيرة مليئة بالصناع وبالتجار. ويقيم فيها أمير له القيادة على عدة قبائل في هذه الجبال ، وبدأ ازدهار هذه البلاد في عهده. وقد تمرد على ملك فاس. وكان يدعى سيدي برّشيد. كما شن حربا لا هوادة فيها على البرتغاليين. ولا يدفع سكان هذه المدينة ولا سكان هذا الجبل أية ضريبة للأمير لأن معظمهم من الجنود بين مشاة وخيّالة. ولا ينبت هنا سوى القمح الى جانب الكثير من الكتان. وتوجد هنا غابات كثيرة وعدد لا يحصى من العيون. وسكان هذه المنطقة يتميزون بحسن هندامهم.

بني جبارة

هذا الجبل وعر جدا وشديد الارتفاع (٤٤١) وتمر بعض الجداول من حضيضه الذي يتغطّى بالكروم وبأشجار التين ، ولكن لا يوجد فيه القمح ، وسكانه ذو وهندام رديء. ولديهم الكثير من الماعز وبعض الثيران الصغيرة التي تشبه في قامتها عجولا عمرها ستة أشهر. ويقام هنا سوق أسبوعي ، ولكنه يكاد يكون بدون بضائع ، ومع هذا يقصده تجار من فاس وبغّالة ينقلون منه الثمار إلى فاس. وقد كان هذا الجبل إقطاعية لأحد أقارب الملك. ويقدم ريعا مقداره الفا دينار في العام (٤٤٢).

جبل بني يرزو

كان هذا الجبل كثيف السكان. وكانت فيه مدرسة لطلبة الفقه. ولهذا كان سكانه معفيين من الضرائب ، ولكن جاء طاغية استعان بالملك واستأثر به بعد أن خربه بما في ذلك المدرسة التي عثر فيها على أربعة آلاف دينار. وقد أعدم هذا الطاغية رجالا محترمين جدا. وحدث هذا عام ٩١٨ للهجرة (٤٤٣).

__________________

(٤٤١) يبلغ ارتفاع جبل سوغنه ، في بلاد بني جبارة ، ١٦١٤ م.

(٤٤٢) بنو جبارة هم اليوم إحدى قبائل حلف الخماس إلى الشمال من بني زرويل وجنوب شرق شيشاون.

(٤٤٣) أي بين ٩ / ٣ / ١٥١٢ و ٨ / ٢ / ١٥١٣. وتشير النصوص القديمة إلى ان بني يرز وشكلّوا جزءا من الخماس. وربما كان هذا الحادث متناسقا مع تدخل السلطان ، على أثر جولة للشرطة عام ١٥١٢ ، في قضايا زاوية الشيخ الغزاوي ، وهو شخصية دينية وسياسية هامة جدا. ولكن هذه الزاوية كانت في بلاد بني زكار. ويعطي النص تسلسلا للأحداث يختلف تماما عن الملخص الوارد أعلاه.


جبل تيزارين

تيزارين (٤٤٤) جبل مجاور للجبل السابق. وتقع فيه عيون عديدة وأحراش وكروم. وتظهر فيه على الخصوص أطلال قديمة بدت لي كأنها من أبنية رومانية. ومن أجل ذلك فإن الباحثين عن الكنوز الذين تكلمنا عنهم سابقا (٤٤٥) يقومون فيه بأعمال التنقيب. وسكان هذا الجبل جهال ، كما أن الضرائب تفقرهم.

بني بوشيبة

وهذا الجبل بارد جدا وشديد الوعورة ، فالحبوب لا تنمو فيه كما لا يمكن اقتناء الماشية فيه بسبب البرد والجفاف. وللأشجار طبيعة قاسية حتى أن الماعز لا تستطيع أن تتغذّى عليها. وتجنى منه كمية كبيرة من الجوز الذي تتمون منه فاس والمدن المجاورة. وكل العنب الذي يجنى فيه اسود اللون ، ويصنع منه زبيب كبير الحجم كثير الحلاوة.

كما يصنع منه الكثير من الدبس المطبوخ وكمية كبيرة من النبيذ. ويلبس كل الناس «درّاعة» قصيرة (٤٤٦) من الصوف من صنف الأغطية الرديئة التي يستخدمها التجار في ايطاليا لتغطية الأقمشة التي يحملونها من بلد لآخر. ولهذه الدرّاعة المخططة بالأسود والأبيض قبعة يضعها هؤلاء الناس فوق رئوسهم فيكونون في هذا الزي أدنى إلى الحيوانات منهم إلى الأناس.

وفي الشتاء لا يجد تجار الجوز والزبيب ، الذين يأتون من فاس إلى هذا الجبل ، ما يقتاتون به ، لا خبزا ولا لحما ، وإنما يجدون البصل والسردين المملح فقط ، وسعرهما مرتفع جدا في هذه الأنحاء. ويتغذى الناس بالدبس المطبوخ وبحساء الفول ، ويعتبر انهما غذاء فخما ، ويأكلون هذا الدبس المطبوخ مع الخبز (٤٤٧)

__________________

(٤٤٤) يرسمه مارمول «تيزيران» وهو الاسم الذي لا تزال تشتهر به هذه الكتلة الجبلية.

(٤٤٥) وهم الذين يشتغلون في فاس بالبحث عن الكنوز.

(٤٤٦) وتدعى كشابية.

(٤٤٧) يؤلف بنو بوشييه حاليا قبيلة صغيرة بين عالية وادي السر وعالية واد جزار.


جبل بني وليد

هذا الجبل عال جدا وعسير المرتقى (٤٤٨). وسكانه أغنياء لأن لديهم الكثير من الكروم ذات العنب الأسود ويصنعون منه الزبيب. ولديهم أيضا أراض واسعة مزروعة بكميات كبيرة من أشجار اللوز والتين والزيتون. ولا يدفعون لملك فاس أية عوائد سوى ربع دينار فقط عن كل دشرة ، مما يسمح لهم بالذهاب بأمان إلى فاس لإجراء صفقات البيع والشراء. وإذا أساء أحد إليهم لا يتركون قريب المذنب ، إذا مرّ من جبلهم ، يعود إلى بيته ما دامت هذه الإساءة لم تجبر.

ويظهر رجالهم بهندام جيد ، كما يتزينون بالحلى ، وكل مذنب من فاس ينفى الى بلادهم يلقى عندهم الأمان ، حتى إنه ليعيش على حسابهم في أثناء إقامته. ولو كان هذا الجبل يعترف بسلطة ملك فاس لاستطاع الملك أن يجني منه ستة آلاف دينار من الضرائب لأنه يضم ستين قرية ، ليس فيها قرية فقيرة (٤٤٩).

جبل مرنيسة

يتاخم هذا الجبل الجبل السالف الذكر. وينزع سكانه إلى الأصل نفسه الذي يرجع إليه بنو وليد (٤٥٠) ويعدلونهم ثراء وحرية ونبلا. ولكن تظهر لديهم خصلة ليست موجودة عند اولئك وهي أن كل امرأة تتلقى أية إهانة من زوجها ، مهما كانت ضئيلة ، تهرب إلى الجبال الأخرى ، تاركة أولادها ، وتتزوج رجلا آخر. وهذا هو السبب الذي يجعل الرجال يحملون على الغالب السلاح ويدخلون في مشاجرات مستديمة فيما بينهم. وإذا جنح الزوج القديم والجديد إلى الصلح وجب على الزوج الجديد ان يدفع للزوج القديم ما تجشمه من نفقات بسبب زواجه. وهم لا يعرفون التساهل في معاملاتهم. ولديهم قضاة مختصون يتسمون بالقسوة والجشع : لا يكتفون بسلخ جلود المشتكين البؤساء ، بل ينتزعون منهم قلوبهم نفسها (٤٥١).

__________________

(٤٤٨) يرتفع جبل درنكل ، في بلاد بني وليد ، إلى ١٦٠٢ م على الضفة اليسرى لنهر الورغة.

(٤٤٩) لقد تضاءلت اهمية بني وليد كثيرا في الوقت الحاضر.

(٤٥٠) يرى ابن خلدون ان مرنيسة هم من نفزاوة ، أما القبائل التي تجاورهم من الغرب فهي من صنهاجة.

(٤٥١) تعترف تقاليد بعض القبائل البربرية فعلا للمرأة بحق النشوز وهجربيت الزوجية ولا تزال مرنيسة تشغل دوما أعالي وادي الورغة شرقي بني وليد.


جبل آيشتوم

آيشتوم جبل عال جدا شديد البرد. به ينابيع عديدة وكروم ذات عنب أسود ، وتين ممتاز غاية في جودته ، وسفرجل مدهش في حجمه ورونقه وعطره ، وليمون ، ولكن أشجار الليمون توجد في السهول في سفح الجبل. وفي هذا الجبل أيضا الكثير من أشجار الزيتون (٤٥٢) التي تعطي كمية كبيرة من الزيت ، وسكانه معفون من أية ضريبة ولكنهم يقدمون في كل سنة ، باختيار منهم ، هدايا جميلة وثمينة لملك فاس (٤٥٣). ومن أجل ذلك يستطيعون الذهاب إلى فاس في كل أمان لشراء القمح منها والصوف ونسيج الكتان. وهم يلبسون لباس الأشراف ولا سيما أهل القرية الرئيسية حيث يقيم أكثر الصناع والتجار والأعيان (٤٥٤).

جبل بني ايدر

هذا الجبل كبير جدا ومأهول بالسكان ، ولكنه لا ينتج سوى العنب الأسود الذي يصنع منه الزبيب والخمر. وكان سكانه معفين من الضرائب ولكنهم مع ذلك كانوا يغتالون الغرباء ويسلبونهم بسبب بؤسهم. ولهذا السبب أخضعهم أمير بادس بالأستعانة بقوات ملك فاس ، وسلبهم حريتهم. وفي هذا الجبل نحو خمسين قرية. ولكن غلتها لا تكاد تساوي في مجموعها أربعمائة دينار في العام (٤٥٥).

__________________

(٤٥٢) «يطلق العرب في المغرب كلمة الزياتين على مزارع الزيتون الواسعة» (المترجم).

(٤٥٣) وكان يطلق عليها اسم «الهدية» ولم تكن إجبارية في ذلك العصر.

(٤٥٤) آيشتوم وهو اسم تحمله بعض قرى شمالي المملكة المغربية. وهناك قرية لها نفس الأسم في بلاد قبيلة المتيوه على الضفة اليمنى لنهر الورغة قرب واد جزار. ومن المحتمل أن هذه القرية هي المقصودة وأن الكتلة الجبلية المقصودة هي جبل متيوه الذي يرتفع لأكثر من ١٨٠٠ م.

(٤٥٥) يسكن بنو ايدر في أيامنا بضع قرى صغيرة في منطقة بني زروال الواقعة قرب مقرن وادي آودور ووادي تسرافت على سفوح جبل صغير لا يزال يحمل اليوم إسم بني ايدر.


جبل لوكاي

هو جبل عسير المرتقى نظرا لشدة ارتفاعه (٤٥٦) ، وسكانه أغنياء جدا لأن الجبل ينتج كمية من العنب التي يصنع منها الزبيب ، كما ينتج التين واللوز والزيتون والسفرجل والليمون. ونظرا لوقوع هذا الجبل على مسافة خمس وثلاثين ميلا من فاس (٤٥٧) فإن أهله يبيعون كل ثمارهم في المدينة المذكورة.

ويعيش فيه أعيان وفرسان متغطرسون بصورة تتجاوز الحدود ، حتى انهم لم يقبلوا قط أن يدفعوا أية إتاوة. وهم متمتعون بالفعل بحماية الجبل. ويرحبون بجميع من يفد إليهم من المنفيين من فاس ويستقبلونهم بحفاوة ، وذلك باستثناء الزناة ، لأن الناس هنا غيورون ولا يرغبون في وجودهم بينهم. ويحتمل الملك وجودهم بسبب الفائدة الجزيلة التي يقدمها هذا الجبل لمدينة فاس.

بني زروال

يمتد هذا الجبل بطول ثلاثين ميلا وعلى عرض يقارب خمسة عشر ميلا (٤٥٨). ويتشعب إلى ثلاثة جبال فرعية أخرى. وبين هذه الجبال وبين الجبلين اللذين تكلمنا عنهما (٤٥٩) تجري أنهار صغيرة. وأهل هذه البلاد شجعان وجسورون ، ولكنهم ينوءون تحت وطأة ضرائب يدفعونها لقائد ملك فاس ، فهم يدفعون له سنويا ثمانية عشر الفا من الدنانير.

وهذا الجبل خصيب جدا وينتج الأعناب والزيتون والتين والكتان. وتصنع فيه كمية كبيرة من الخمر ، ومن الدبس المطبوخ ، ومن الزيت ومن نسيج الكتان الخشن.

__________________

(٤٥٦) كان لقبيلة لوكّاي دور تاريخي على قدر لا بأس به من الأهمية. ويشرف جبلها على مقرن الورغة مع وادي تشريس. وتحمل صنهاجة لوكاي في أيامنا اسم صنهاجة مصباح. وقمة الجبل وحدها هي التي ترتفع على شكل مخروط إلى ١٦٢٩ م في حين أن الوادي يقع على ارتفاع ٣٠٠ م وقد احتفظ باسم لوكاي ويرسمه خطأ علماء الخرائط في أيامنا «الكيل».

(٤٥٧) صوابه ٦٥ ميلا أي ١٠٤ كم وهي مسافة صحيحة تقريبا.

(٤٥٨) ١٨ كم و ٢٤ كم.

(٤٥٩) أي بني ايدر غربا ولو كاي شرقا.


ويستمد من كل هذه الثمرات والصنائع المال الضروري لدفع هذا المبلغ للقائد الذي ينوب عنه باستمرار مفوضون ووكلاء يرهقون هؤلاء الجبليين ويمتصونهم امتصاصا (٤٦٠).

وفي هذا الجبل من القرى والمداشر ما لا يكاد يحصره عد ، وتضم بعض هذه القرى مائة أسرة ويضم بعضها مائتين. ويمكن تقدير عدد هذه التجمعات السكانية بحوالي مائة وعشرين ما بين قرية ومدشر. والسكان بحالة حرب مستمرة مع جيرانهم ، ويسقط الكثير من القتلى. ويطلب الملك دية القتلى من الطرفين ، بحيث تشكل هذه الحروب موارد للملك. وفي هذا الجبل مدينة صغيرة راقية جدا تحوي الكثير من الصناع ، وهي محاطة بكثير من مزارع الكروم والسفرجل والليمون ومنها تحمل الفواكه إلى فاس. ويصنع في هذه المدينة كمية كبيرة من نسيج الكتان. وفيها قضاة ومحامون لأنه عندما ينعقد السوق يأتي الكثير من أهل الجبال المجاورة ليجتمعوا فيه (ويحدث بيهم من النزاع ما يقتضي وجود قضاة ومحامين).

وفي هذا الجبل تجويف في قعر واد يشبه كهف ينبعث مه باستمرار لهب كبير. ولاحظت ان الكثير من الغرباء يقصدون هذا الوادي لرؤية هذه النار. ويرمون فيها أغصانا وقطعا من أخشاب سرعان ما تلتهما النار على الفور. وهذا أكثر الأشياء عجبا من التي رأيتها بين الظواهر الطبيعية. ويعتقد البعض أن هذه الفتحة هي فوهة الجحيم (٤٦١).

جبل بني ورياغل

يتاخم هذا الجبل الجبل السابق ولكن سكان هذين الجبلين في عداء مستحكم ويظهر عند حضيض هذا الجبل سهل جميل للغاية يتاخم أراضي فاس ويجري نهر الورغة مخترقا هذا السهل. ويحصل من هذا الجبل كمية كبيرة من الزيت ومن القمح ومن الكتان. ويصنع فيه الكثير من قماش الكتان. ولكن كان للملك دائما حق وضع

__________________

(٤٦٠) في الأصل يقتلعون عيونهم.

(٤٦١) لم تترك المدينة التي يقصدها المؤلف ولا انبثاق البترول الذي يذكره المؤلف أي أثر في منطقة بني زروال ، أو بني وازروال في اللغة البربرية القديمة ، وكانت قبيلة كبيرة شمالي نهر الورغة.


اليد على أملاك الأفراد ، حتى إن هؤلاء الذين كان من المتوقع أن يكونوا أغنى الناس أصبحوا بالطبع افقرهم بسبب جور الملك. وهؤلاء الناس بطبيعتهم شجعان وأشداء. ويؤلفون حوالي اثنى عشر ألف مقاتل ولديهم أقل من ستين قرية ضخمة (٤٦٢).

بني احمد

يمتد هذا الجبل على طول مقداره ثمانية عشر ميلا في عرض يبلغ سبعة أميال (٤٦٣) وهو وعر جدا. وتظهر فيه بعض الغابات والكثير من الكروم والزيتون والتين ولكن ليس فيه سوى القليل من الأراضي الجيدة لزراعة الحبوب. وسكانه مرهقون بضرائب ملك فاس. ويجري حول الجبل وعلى سفوحه بعض الجداول الصغيرة وبعض الينابيع ، ولكن ماءها مر وعكر ورواسبه كلسية خالصة. ويصاب كل الناس هنا بتورم الغدة النكفية ، كما ذكرنا ذلك عند غيرهم. ويشرب كل الناس الخمر الصرف. ويحفظ هذا الخمر لمدة خمسة عشر عاما ، ولكنه يصنع بعد تخمير قليل. ويصنع كذلك نبيذ غير مخمر إطلاقا ، كما تصنع كمية كبيرة من الدبس المطبوخ الذي حفظ في جرار ضيقة القعر وعريضة الفوهة. ويعقد السوق مرة في الأسبوع ويباع فيه الخمر والزيت والزبيب الأحمر بكميات كبيرة. وهؤلاء الجبليون يعانون من فقر مدقع ويظهر هذا الفقر في كسائهم. وبينهم عداوات قديمة وهم شاكو السلاح على الدوام (٤٦٤)

جبل بني جنفن

يتاخم هذا الجبل الجبل السابق ويمتد على مسافة عشرة أميال (٤٦٥) ويجري بين

__________________

(٤٦٢) يقيم بنو ورياغل على الضفة اليمنى لنهر الورغة ولا يشكلون الآن اكثر من قبيلة صغيرة ، كانت دائما شجاعة حقا. وإلى هذه القبيلة ينتسب بطل الريف عبد الكريم الحظابي ، الذي حارب القوات الفرنسية والأسبانية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى إلى أن انكسر سنة ١٩٢٦ فأخذ أسيرا إلى جزر الريئونيون في المحيط الهندي مع أسرته وشقيقه ، إلى أن استطاع الإفلات من الفرنسيين عند توقف باخرته في بور سعيد عام ١٩٤٧ والتجأ إلى الحكومة المصرية أيام الملك فاروق ، وتوفي في القاهرة في اوائل الستينات ولم ير وطنه مرة أخرى (المترجم).

(٤٦٣) ٢٩ كم في ١١ كم.

(٤٦٤) لا يزال بنو احمد ، الذين يسكنون شمال غرب بني زروال ، يحملون لقب السرّاق أي اللصوص.

(٤٦٥) ١٦ كم.


الجبلين نهر صغير. ولكن سكانه سكيرون والنبيذ هو معبودهم. ولا يجنى من هذا الجبل أي نوع من الحب ولكن تجنى كمية كبيرة جدا من العنب. وفيه الكثير من الماعز الذي يحتفظ به دوما في الأحراش. ولا يؤكل هنا أي لحم غير لحم التيس أو العنز. واستطيع أن أتكلم عن هذا الجبل لأنني كنت على علاقات مع هؤلاء الجبليين في أثناء فترة طويل من حياتي. وكان لوالدي بعض الأملاك في هذا الجبل ، ولكنه كان يعاني الكثير من المصاعب في استيفاء عوائد أراضية الزراعية وكرومه لأن هؤلاء الناس مماطلون جدا عند الأداء (٤٦٦).

جبل بني مسغلدة

يتاخم هذا الجبل الجبل السابق وكذلك نهر الورغة ، ويصنع كل سكانه الصابون لأنهم يستمدون من جبلهم الكثير من الزيت. ولكنهم لا يعرفون صناعة الصابون الصلب. وتمتد سهول فسيحة عند سفح الجبل هي في أيدي بعض العرب الذين يكونون في أغلب الأحيان بحالة حرب مع أهل الجبل. ويقسر الملك أولئك الجبليين على دفع ضرائب ضخمة ويجد دائما ذرائع جديدة لزيادتها.

ويوجد بينهم عدة علماء في الشريعة الاسلامية ولديهم طلاب كثر. وينجم عن وجود هؤلاء ضرر كبير لأهل هذه الجبال ولا سيما في الأماكن التي يستقبلون فيها بترحاب. فهم يعاقرون الخمر سرا ، ولكنهم يعظون الشعب بأن الخمر حرام ، ومن أجل ذلك لا يصدقهم أحد. ولا يفرض على أهل هذه البلاد ضرائب ثقيلة نظرا لأنهم هم الذين يقومون بأود معيشة العلماء والطلاب.

بني وامود

يتاخم هذا الجبل أراضي كورة فاس ، ولكن النهر يفصله عنها. ويمارس كل سكان هذا الجبل صناعة الصابون أيضا. ويقبض الملك من هذه الصناعة عوائد تبلغ ستة آلاف دينار. وليس في هذا الجبل أكثر من خمس وعشرين قرية. والأراضي الواقعة

__________________

(٤٦٦) لا يزال بنو جنفن ، واسمهم القديم بنو جنفل ، يؤلفون اليوم قبيلة صغيرة من الخماس المندمجين مع قبيلة بني جبارة الذين سبق أن ورد ذكرهم.


على سفوحه أراض طيبة تكثر فيها الماشية ، ولكن لا يوجد فيها سوى القليل من الماء. وجميع السكان ميسورون. ويذهبون إلى فاس في اليوم الذي ينعقد فيه السوق ويبيعون فيها منتجاتهم بربح كبير. ولا ينبت في هذا الجبل شيء غير ضروري لحياة الانسان. ويبعد مسافة عشرة أميال (٤٦٧) عن فاس (٤٦٨).

غارت

المنطقة السادسة من مملكة فاس

لقد وصفنا منطقة الريف ، ومدنها ، وأكثر جبالها شهرة. وسنتابع بحثنا في غارت ، وهي سادس منطقة ، أو بشكل أصح ، سادس إقليم من مملكة فاس.

وتبدأ من نهر ميلولو (٤٦٩) غربا وتنتهي عند نهر الملوية شرقا. وتنتهي جنوبا عند جبال واقعة على تخوم بعض صحارى نوميديا. وتحاذي البحر المتوسط من الشمال ابتداء من نهر النكور حتى الملوية. وتمتد جنوبا من نهر مللولو (٤٧٠) حتى جوار جبال الحوز (٤٧١) في اتجاه الغرب حيث يهبط تخمها باتجاه البحر سالكا وادي النكور.

ويبلغ طول المنطقة حوالي خمسين ميلا مع عرض يقارب أربعين ميلا (٤٧٢). وهذه المنطقة قاسية جدا وشديدة الجفاف وتشبه صحارى نوميديا ، وهي كذلك قليلة السكان جدا ، لا سيما منذ أن اجتاح الأسبان المدن الرئيسية ، كما سأذكره لكم.

__________________

(٤٦٧) ١٦ كم.

(٤٦٨) لم تعد صنهاجة بني وامود موجودة بهذا الاسم. وبما أن المؤلف يذكرهم في أعقاب بني مسغيلده ويذكر انهم يعملون الصابون مثلهم ، فيمكن الظن بأنهم كانوا موجودين بجوارهم على الضفة اليمنى لنهر الورغة حيث توجد قبيلة ستّا الحالية. ولكن النهر كان سيفصلهم هنا عن الهبط وليس عن إقليم فاس. ومن ناحية أخرى ، ربما كانوا أبعد من ذلك بكثير عن هذه المدينة ، أي فاس ويؤيد هذا الاحتمال ما ذكره من أنهم يذهبون إلى فاس كل خميس (كل سوق) بأعداد كبيرة. ويقول مارمول (الذي يبدوانه عرفهم لأنه يحدد عددهم إذ يقول أنهم يقدمون أربعة آلاف محارب) ان المسافة التي تفصل النهاية الغربية من جبلهم عن فاس لا تزيد عن ثلاثة مراحل اسبانية أي اقل من ١٧ كم. إذن هو يحدد مكانهم بشمال شرق فاس حيث لا تزال توجد بضع قبائل صنهاجية. وربما كان النهر المقصود هو نهر ايناون رغم ان المسافة المذكورة تبدو صغيرة جدا ويمكن الافتراض أن بني وامود قد اندثروا لتحل محلهم قبيلة الهياينة.

(٤٦٩) سبق قلم وصوابه نهر النكور.

(٤٧٠) مقرن نهر ملّولو مع نهر الملوية.

(٤٧١) جبال الحوز وهي الكتلة الجبلية الواقعة الى الشرق من تازة.

(٤٧٢) ٨٠ كم على ٤٦ كم.


مليّلة

مليلة مدينة كبيرة قديمة بناها الأفارقة في صدر خليج على البحر الأبيض المتوسط. ويسكنها حوالي ألفى أسرة. وقد كانت مدينة مزدهرة جدا ، لأنها كانت عاصمة منطقة ، وكانت تملك كورة كبيرة تنتج كمية كبيرة من الحديد ومن العسل ، ومن هذا جاء اسمها ملالة وهو اسم العسل باللغة الافريقية (٤٧٣).

وفي الماضي كان يصاد من الميناء نفسه محار اللؤلؤ ، وكانت «مليلة» حينا من الدهر خاضعة للقوط ، ولكن المسلمين افتتحوها بعدئذ وهرب القوط إلى غرناطة التي تقع على مسافة مائة ميل من هذه المدينة وهو عرض البحر في هذا المكان.

وقد أرسل ملك أسبانيا ، في الأزمنة الحديثة ، أسطولا لمحاصرتها. ولكن السكان كانوا على علم مسبق قبل أن يصل ، وطلبوا عون ملك فاس. وكان هذا في ذلك الوقت مشغولا بحرب ضد قبائل تامسنة. فأرسل كتيبة خفيفة. وهكذا خاف أهل مليلة الذين كانوا على معرفة صحيحة بأهمية الأسطول الأسباني ، خافوا من أن يعجزوا عن التصدي للهجوم ، فأخلوا المدينة وهربوا مع أرزاقهم إلى جبال بوتويّة. ولما رأى قائد ملك فاس ذلك ، أضرم النار في كل البيوت وأحرق المدينة ، لمعاقبة سكانها وللكيد ضد النصارى. وقد حدث هذا في عام ٨٩٦ هجرية (٤٧٤) ، ووصل الأسطول بعد هذا الحريق ، ولما رأى النصارى المدينة خاوية وقد التهمتها النيران ، أسقط في يدهم ، ولكنهم لم يحبّوا أن يتخلوا عنها بسبب ذلك ، فبنوا فيها حصنا ورمموا تدريجيا كل أسوارها. وهم اليوم أصحاب مليلة (٤٧٥).

__________________

(٤٧٣) يسمى العسل تامنت باللغة البربرية ، والصحيح ان مليلة تحريف عربي لكلمة تاميليلت ، ومعناها موقع على شكل درجات. وقد كانت المدينة مبنية بالفعل فوق نشز. صخري.

(٤٧٤) بين ١٤ / ١١ / ١٤٩٠ و ٣ / ١١ / ١٤٩١ م.

(٤٧٥) لم تسقط المدينة بيد الأسبان فعلا الا في عام ١٤٩٧ على يد قوات الدوق مدينا سيدونيا الذي سلمها للملك فرديناند سنة ١٥٠٦ «ولا زالت في يد هم منذ ذلك الحين حتى كتابة هذه السطور (المترجم)».


غساسة

تبعد هذه المدينة مسافة عشرين ميلا عن السابقة (٤٧٦). وقد كانت حصينة جدا ومحاطة بأسوار متينة. ولهذه المدينة ميناء طيب. وكان من عادة سفن البنادقة أن تقصد هذه المدينة وتبرم صفقات تجارية هامة مع أهل فاس. وكانت هذه التجارة تدر كثيرا من الأرباح. وشاء سوء طالع هذه المدينة ان ملك فاس كان يواجه حينئذ في بداية حكمه مشكلات خطيرة مع أحد أبناء عمومته ، ومواجهته لهذه المشكلات قد قيدت حركته. وقد انتهز فرناندو ملك أسبانيا هذه الفرصة. فوضع مشروعا لاحتلال غساسة. وتم له الاستيلاء عليها بأيسر سبيل ، لأن ملك فاس ، وهو مشغول بمشكلاته السابق ذكرها ، لم يستطع أن ينجد المدينة ولأن سكانها هربوا قبل أن تسقط (٤٧٧).

تازوتة

تازوتة (٤٧٨) موقع في غارت يقع على مسافة خمسة عشر ميلا (٤٧٩) من غساسة في داخل الأراضي. وقد بنيت فوق بروز شديد الارتفاع ، ولها درب صغير يؤدي إليها يلتف حول التل. ولا يتوافر في داخل المدينة أي ماء إلا ماء الصهاريج ، وكان مؤسسو تازوته من أسرة بني مرين قبل أن يصبحوا ملوك البلاد وكانوا يحفظون فيها حبوبهم وأملاكهم وبذلك كانوا يستطيعون النجعة خلال الصحارى بكل طمأنينة ، إذ لم يكن في ذلك العصر قبائل من العرب في إقليم غارت. ولكن ما ان استلم بنو مرين مقاليد الحكم حتى تركوا منطقة غارت لبعض جيرانهم واهتموا بالأقاليم الأكثر أهمية ، إلى أن حمل يوسف بن يعقوب بجيوشه على ملك تلمسان. ولما أصبح عديم الحركة في

__________________

(٤٧٦) تعطي النصوص العربية هذه البلدة اسم غساسه ، وهي اسم قبيلة قديمة ، واسم الكدية البيضاء ، اي التل الابيض ، ومنها جاء اسماها الأسبانيان كساسة وألوديا. ولا يزال الساحل يحمل اسم إيغاساسة ، وترى حتى اليوم بقايا المدينة على الساحل الغربي من شبه جزيرة الشوكات الثلاث ، اوتريس فوركاس ، بالاسبانية ، على مسافة عشرة اميال غرب مليلة.

(٤٧٧) حدث سقوط غساسة في عام ١٤٩٧ م في نفس الوقت الذي سقطت فيه مليلة. وليس من المستحيل ان يعود سقوطها لتاريخ ١٥٠٤ اي في الوقت الذي كان فيه ابو عبد الله محمد يحاصر عمه مولاي زيان في مكناس.

(٤٧٨) اسم بربري معناه هضبة.

(٤٧٩) ٢٣ كم.


في هذه الحرب بسبب حصار تلمسان ، ثار عليه أمير تازوته وجمع قواته كي يستولي على بعض مملتكات الملك. فقام هذا بتعبئة جيش أرسله بقيادة أحد أخوته لمحاربة المتمرد. فاتجه الجيش إلى تازوته وحاصرها خلال شهرين ، وسقطت المدينة ثم خربت بأمر ملك فاس ، وظلت أطلالا إلى أن سقطت غساسة بأيدي الاسبان (٤٨٠). وعند ما سقطت غساسة تحت سلطة النصارى (٤٨١) طلب أحد قواد ملك فاس ، وهو غرناطي الأصل ، وعلى قدر كبير من البسالة ، طلب السماح له بإعادة بناء غساسة. وفي الوقت الحاضر يشّن نصارى غساسة ومسلمو تازوتة حربا مستمرة بعضهم على بعض في صورة غارات ، خسائرها دوارة بينهم فتارة تصيب هؤلاء وتارة اخرى تصيب أولئك.

مدينة آمجّاو

آمجّاو مدينة صغيرة (٤٨٢) قابعة فوق جبل عال على مسافة عشرة أميال تقريبا (٤٨٣) إلى الغرب من تازوته. وقد بناها الأفارقة على مسافة ستة أميال (٤٨٤) من الساحل. وسكانها نبلاء كرام. ويقع في أسفل الجبل ، الذي قامت فوقه المدينة ، سهل ينتج القمح. وفي جميع الجبال المجاورة مناجم حديد ، ويسكن المشتغلون بشئون هذه المناجم كثيرا من الدساكر والقرى في هذه المنطقة.

وقد آلت إمارة هذه المدينة ليد فارس شاب مقدام يمت بصلة النسب إلى أسرة الموحدين الملوكية. وكان والد هذا الشاب رجلا فقيرا جدا يعمل في حياكة الكتان ، وهي مهنة تعلّمها ابنه. ولكن هذا الشاب ، الذي كان يحسّ بسموّ نفسه ، وكان يعرف نبل أجداده ، ترك أقمشته ، وقصد بادس وانخرط لدى أميرها موسيقيا في بلاطه. وفي هذه الأثناء أراد أمير تازوته أن يشن غارة ضد النصارى وطلب من أمير بادس نجدة قوامها بضعة فرسان ، ولكن هذا منحه ثلاثمائة ، كان منهم الشاب النبيل. وقد برهن

__________________

(٤٨٠) لقد انتزع بنو وطاس مدينة تازوتة في شهراب (اغسطس) ١٢٩٢ م في عهد ابي يعقوب يوسف الناصر وقاموا بنهبها. ثم استرّدها السلطان نفسه بعد محاصرتها ، فتخربت قصبتها. أما حصار تلمسان فلم يحدث الا في وقت متأخر ، اي بين ٥ أيار (مايو) ١٢٩٩ و ١٠ أيار (مايو) ١٣٠٧ م.

(٤٨١) في سنة ١٥٠٤ م.

(٤٨٢) آمجّاو مدينة اندثرت من منطقة قبيلة آمجّاو الذين يشغلون ساحل البحر المتوسط غرب مصب وادي كرت.

(٤٨٣) ١٦ كم.

(٤٨٤) ١٠ كم.


صاحبنا في هذه الموقعة وفي غيرها على شجاعة بالغة وارادة لا تلين ، غير أن الأمير لم يقدره حق قدره. ولم يعرف له إلا قيمته في فن الموسيقى. وقد تألم الشاب من هذا الوضع ، فترك الأمير ، واستدعى بعض أصدقائه ، وهم فرسان من غارت ، ودبر معهم خطة للاستيلاء على حصن آمجاو. وتم له ما أراد. وظل معه خمسون فارسا ، كان ينفق عليهم عدد من الجبليين من أصدقائهم معتمدين على مواردهم الشخصية. وحينئذ أرسل أمير بادس ثلاثمائة فارس وألفا من المشاة كي يطردوه من الحصن ، ولكن هذا اليافع النبيل هزمهم مع بضعة من رجاله. فازدادت شهرته ، إلى أن أقرّه ملك فاس في قيادته ومنحه دخلا من الخزينة الملكية ، وهو الدخل الذي كان من عادته دفعه لأمراء بادس لحماية المملكة ضد الأسبان. وتعلّم المسلمون من هذا الرجل كيف يدافعون عن أنفسهم ، مما جعل ملك فاس يضاعف مخصصاته. ويقود هذا الزعيم مائتي فارس يعادلون أكثر من الفين من قوات الأمراء المجاورين لهذه المنطقة.

جبل كبدانة (٤٨٥)

يمتد هذا الجبل من غساسه حتى نهر الملوية باتجاه الشرق ومن البحر المتوسط حتى صحراء غارت نحو الجنوب. وكان معمورا بكثير من الرجال الأغنياء البواسل. وينتج الكثير من العسل والشعير وكمية كبيرة من الماشية ، لأن أرضه طيبة ولأن كل المناطق المجاورة في داخل الاراضي هي عبارة عن مراع فسيحة. ولكن عند ما سقطت غساسه بأيدي الأسبان ، لم يستطع هؤلاء الجبليون أن يثبتوا في بلادهم لأن قراهم كانت مفرطة في تباعدها بعضها عن بعض وشديدة الانقسام بعضها على بعض. فهجروها وأحرقوا بيوتهم بأيديهم كي يسكنوا جبالا أخرى ، مع أمتعتهم.

جبل بني سعيد

يمتد هذا الجبل من غساسه حتى نهر النكور غربا ، أي على مسافة أربعة وعشرين ميلا تقريبا (٤٨٦). وتتقاسمه بضع قبائل ، وكلها في رخاء ، وتتألف من رجال

__________________

(٤٨٥) أو ايكبدانن

(٤٨٦) ٥ ، ٣٨ كم ، وهي المسافة بين وادي كرت في الشرق ووادي نهر آمكران في الغرب.


بواسل وفي قمة الكرم ، حتى أن التجار والمسافرين الذين يقصدون هذا الجبل. يستضيفهم أهله فلا ينفقون شيئا من أموالهم. وتستخرج من الأرض كمية كبيرة من الحديد ، وينبت هنا الكثير من الشعير. وماشيتها وفيرة بسبب وجود السهل الكبير الذي يستغله أهل المنطقة ، وهو سهل لا يشكو أبدا من شح الماء. ولا يدفع السكان أية ضريبة. ولكل من رؤساء المشتغلين في شئون المنجم بيته بجوار المنجم مع ماشيته ومصنعه الذي يصفّي فيه الحديد. وينقل التجار هذا الحديد إلى فاس على شكل سبائك لأن عمال المناجم لا يعرفون كيفية تحويلها إلى قضبان. وما لا يمكن بيعه يستخدم لصناعة أدوات من نوع الفؤوس والبلطات والمناجل ، وكذلك لصناعة الأسلحة التي يحتاج إليها هؤلاء الفلاحون ، إذ لا يمكن استخلاص الفولاذ من هذا النوع من الحديد.

جبل أزجنجان

يتاخم هذا الجبل أراضي غساسة من الجنوب. وهو مأهول جدا برجال بواسل ميسورين ، لأنه لا يقل إنتاجية عن الجبال السابقة ، وله مزية إضافية وهي أن صحراء غارت تقع فى سفحه ، حتى إن سكان هذه الصحراء يقومون بتجارة كبيرة مع هؤلاء الجبليين. وقد ظل جبل أزجنجان مهجورا أيضا من سكانه في أعقاب سقوط غساسه (٤٨٧).

جبل بني توزين

يتاخم هذا الجبل الجبل السابق من الجنوب الغربي. ويمتد على مسافة عشرة أميال بين صحراء غارت (٤٨٨) ونهر النكور (٤٨٩). ويبلغ طول هذه الكتلة الجبلية ستة عشر ميلا (٤٩٠) ويحاط بسهول من جانب واحد (٤٩١). وسكانه أحرار ويزرعون أرضهم

__________________

(٤٨٧) يقع جبل أزجنجان مباشرة جنوب تازوته ، وعلى مسافة ٢٧ كم من مليلة.

(٤٨٨) من الشرق.

(٤٨٩) من الغرب.

(٤٩٠) ٢٥ كم.

(٤٩١) من الشرق.


بدون أن يدفعوا أية ضريبة ، لا لقائد تازوته ولا لأمير آمجّاو ، ولا لأمير بادس ، لأن لديهم من الفرسان ضغف ما لدى الأمراء الثلاثة مجتمعين. ومن جهة أخرى لهم دالّة على أمير آمجّاو لأنهم ساعدوه في تقلد إمارته. كما يراعيهم ملك فاس أيضا ، لأن هؤلاء كانوا أصدقاء قدامى لأسرته قبل أن تصبح أسرة مالكة. ولهذا السبب استطاع أحد هؤلاء الجبليين ، وهو رجل مثقف ، وذو مكانة كبيرة ، وكان يشغل وظيفة محام في فاس ، استطاع أن يصون حرية مواطنيه ، وكثيرا ما كان يذكّر الملك بفضائل أجداده. وقد كانت هذه الصداقة مع بني مرين أكبر من ذلك أيضا بالنسبة لما كانت عليه من غابر الزمن ، لأن أم أبي سعيد ، وهو ثالث ملك من هذه الأسرة ، كانت ابنة وجيه كبير في هذا الجبل (٤٩٢).

جبل وردان

يتاخم هذا الجبل الجبل السابق من الشمال. ويمتد على طول يبلغ اثنى عشر ميلا باتجاه البحر المتوسط ، وعلى عرض ثمانية أميال (٤٩٣) حتى نهر النكور. وسكانه رجال أولو بأس وأغنياء كالسابقين. ويعقدون يوم السبت سوقا كبيرة على ضفة نهر صغير ، يتلاقى فيه القسم الأعظم من فلاحي غارت. ويأتي الكثيرون من باعة الحديد ايضا (٤٩٤) وتتم المبادلات التجارية حول أجهزة الخيل والزيت الذي يقايضونه مقابل الحديد ، لأن بلاد غارت لا تنتج الكثير من الزيتون. ولا يخطر ببال أحد هنا أن يصنع الخمر لأن السكان لا يتعاطونه بالرغم من جوارهم للريف حيث يعاقر السكان الخمر. وقد ظل سكان الجبل حينا من الدهر أتباعا لأمير بادس. ولكنهم حصلوا من ملك فاس ، أن يتنازل عن الضريبة إكراما لعالم داعية من أهل هذا الجبل. ولكن يقدم هذا الجبل للملك في كل عام مبلغا من المال ومن الخيول ومن العبيد (٤٩٥) ولكنهم لم يقبلوا أبدا أن يكونوا أتباعا لأمير بادس.

__________________

(٤٩٢) ولد أبو سعيد في ٩ تشرين الأول (اكتوبر) ١٢٧٩ م ونودي به ملكا في ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٣١٠ م وكانت امه عائشة ابنة أمير من عرب الخلوط.

(٤٩٣) ٢٠ كم في ١٢ كم.

(٤٩٤) وربما كان المقصود بذلك سوق السبت الحالي في بلاد تمسمان وهم الذين حلوا مكان الوردان على ضفة واد آمكران.

(٤٩٥) أو الهدية.


صحراء غارت

تنقسم منطقة غارت إلى ثلاثة أجزاء : الأول يضم المدن وكورها ، والثاني الجبال التي أتينا على ذكرها ، والتي يحمل سكانها إجمالا اسم البطيّة ؛ والجزء الثالث هو الصحراء. وتبدأ هذه في الشمال عند البحر المتوسط وتمتد جنوبا حتى صحراء منطقة الحوز. وتتاخم من الغرب الجبال التي تكلمنا عنها قبل قليل ، وتنتهي من الشرق على نهر الملوية. ويبلغ طولها ستين ميلا وثلاثين ميلا عرضا (٤٩٦). وهي جافة وكالحة برمتها ، ولا يعثر فيها على الماء إلا في نهر الملوية. ويعيش في هذه الصحراء عدد كبير من الحيوانات التي لا يوجد مثلها إلا في صحراء ليبيا التي تتاخم نوميديا. ومن عادة الكثير من العرب الاقامة فيها صيفا قرب الملوية. وفيها أيضا قبيلة تدعى البطالسة (٤٩٧) ، وهي قبيلة شرسة ، تملك عددا عظيما من الخيل والأغنام والإبل. وكثيرا ما يكون هؤلاء الرعاة في حالة احتراب مع عرب الجوار.

__________________

(٤٩٦) حوالي ١٠٠ كم في ٥٠ كم.

(٤٩٧) أو المطالسة الحاليين.


الحوز

المنطقة السابعة في مملكة فاس

الحوز منطقة تشغل نحو ثلثي مملكة فاس. فهي تمتد فعلا من نهر زاع شرقا حتى نهاية نهر تيجريفه (٤٩٨) غربا ، وهذا يمثل مسافة قدرها مائة وتسعون ميلا ، تمتد عرضا على مائة وأربعين ميلا وأكثر (٤٩٩) ، لأن سائر عرض جبال الأطلس المقابل لموريتانيا يقع في هذه المنطقة. ويشتمل الحوز كذلك على قسم هام من السهول والجبال المتاخمة لليبيا (٥٠٠). وفي الزمن الذي احتل فيه موريتانيا الامير عبد الحق ، وهو أول أمير من أسرة بني مرين ، في هذا الزمن نفسه استولى كذلك على المناطق المجاورة ، ووزع أراضيها بين أفخاذ قبيلته وبين أولاده الأربعة. وكان الأول يدعى ابا بكر ، والثاني أبا اسحق ، والثالث أبا سعيد ، والرابع يعقوب. وقد نودي بالأخير ملكا لأنه هو الذي طرد أسرة الموحدين وقضى عليها. وكانت حينئذ الأسرة المالكة في مدينة مراكش. وقد مات أسلافه قبل أن يحتلوا مراكش ولهذا لم يمنحوا لقب ملك (٥٠١).

وهكذا أقطعت هذه المناطق الأربعة إلى أولاد عبد الحق. أما المناطق التي بقيت

__________________

(٤٩٨) عند مقرن واد تيجريفة بوادي بهت.

(٤٩٩) أي حوالي ٣٠٠ كم في ٢٢٥ كم.

(٥٠٠) تعني كلمة الحوز في لغة أهل المغرب ، الضواحي ، أو كورة مدينة ، وهكذا يقال حوزسلا ، وحوز تطوان ، الخ. واذا استعملت وحدها فإن هذه الكلمة تعني ، كما كانت تعني سابقا ، في عصر المؤلف ، حوز مراكش. ولا نزال نجهل المصدر الذي استطاع منه المؤلف ان يستمد اسم وحدود هذه المنطقة. وقد عرف مارمول ، الذي تكلم عن حوز مراكش ، عرف هذه المنطقة بعد الحسن الوزان بخمسين عاما ، وكان يعرف العربية الدارجة ، ولكنه لم يفهم معنى كلمة حوز ، فنقلها كوزت ، ظنا منه انها كلمة بربرية.

(٥٠١) كان هذا على ما نظن في آذار (مارس) ١٢١٧ م حيث قدم أبو محمد عبد الحق بن محيو ؛ امير بني مرين ، من الجنوب كما كان يفعل في كل سنة ، قدم مع قبيلته الى منطقة جرسيف ومنطقة غارت لقضاء الصيف ، واتجه نحو الغرب ، ونفذ الى أراضي الموحدين مندفعا للاستيلاء على المناطق الغربية الخصيبة. وبعد ان حقق بعض الانتصارات قتل في ٢٤ أيلول (سبتمبر) من نفس العام دون أن ينجز اي تقسيم للأراضي المستولى عليها. وقد خلفه أبناؤه بوصفهم أمراء اسرة بني مرين حسب الترتيب التالي : ابو سعيد عثمان الذي مات في نهاية تموز (يونيه) ١٢٤٠ م ؛ ابو معرف محمد وتوفي في ١٣ تشرين الأول (اكتوبر) ١٢٤١ م ؛ ابو يحيى ابو بكر وتوفي في ٤ تموز (يونيه) ١٢٤٠ م. وقد توسعوا كثيرا في فتوحاتهم مع تقلبات بين نجاح وفشل. وأخيرا وصل اصغر أبنائه وهو ابو يوسف يعقوب الى السلطة بتاريخ ٣٠ تموز (يونيه) ١٢٥٨ ونادى بنفسه ملكا. اما تقسيم قيادة الاقاليم فقد تم على يد الامير ابي يحيى ابي بكر بعد تسلمه مقاليد الملك عام ١٢٤٤ م.


للتوزيع ، فقد قسمت إلى سبع حصص منحت الى الفروع الأربعة من بني مرين وإلى عشيرتين من أقاربهم ومجاورين لهم. وقد نتج عن ذلك أن اعتبرت منطقة الحوز مكافئة للمناطق الثلاث ، لان المشتركين في هذا التوزيع كانوا عشرة والمناطق الخاضعة للتقسيم كانت سبعا. وكان الأمير عبد الحق أول من قام بتقسيم هذه المناطق إلى نفس العدد من الأجزاء (٥٠٢) وهو الذي اعتبر ان الحوز هو الجزء الرئيسي ، كما سنرى عند الوصف مدينة فمدينة ، وجبلا فجبلا ، وموقعا فموقعا.

تاوريريت

وهي مدينة قديمة بناها الأفارقة فوق نهر مرتفع على نهر زاع. وتوجد حولها أراض طيبة للزراعة ولكنها لا تمتد لبعيد ، لأنها تحاذي صحراء كالحة جافة. وتتاخم هذه الصحراء من الشمال صحراء غارت ومن الجنوب صحراء الضهره ، ومن الشرق صحراء أنجاد ، وحيث تبدأ مملكة تلمسان في الغرب ومملكة تفراطه التي تتاخم مدينة تازه. وقد كانت تاوريرت مدينة مطمئنة عديدة السكان تضم ثلاثة آلاف أسرة. وتحوي عدة قصور جميلة وجوامع مشيدة بالحجر الكلسي ، ولكن بعد ان احتل بنو مرين مملكة المغرب ، صارت هذه المدينة موضع نزاع وأصبحت هدفا لحروب عديدة.

وقد رغب الملوك المرينيون أن تكون تابعة لمملكة فاس بينما كان ملوك بني زيان (٥٠٣) ، ملوك تلمسان ، يودون ان تكون جزءا من دولتهم. ونتج عن ذلك أن خضعت تاوريرت للمرينيين الذين احتلوها وخرّبوا جزءا كبيرا منها ، وهو الذي كان يسكنه خصومهم. وبعد أن انهمك المرينيون في مشاكل الحرب ضد مراكش ، وهي مشاكل كانت تحتل الصدارة من حيث أهميتها ، لم يتمكنوا من الاهتمام بتاوريرت مما أغرى ملك تلمسان على العمل على استردادها ، وقد تمت له السيطرة فخربها ونهب الشطر الذي كان يشغله اعداؤه في المدينة. وما أن فرغ الملك المريني يعقوب من احتلال مراكش (٥٠٤) حتى عاد مسرعا واسترد هذه المدينة ثم استردها بعد ذلك ملك

__________________

(٥٠٢) ليس من المؤكد ان الأمير أبا محمد عبد الله محمد عبد الحق قد فكر ، منذ انطلاقه لفتح البلاد ، في مثل هذا التقسيم لأن لتقسيم الأراضي اهمية قصوى بالنسبة للقبائل البدوية.

(٥٠٣) أو الزيانيين او بني عبد الواد.

(٥٠٤) دخل ابو يوسف يعقوب بن عبد الحق مراكش بتاريخ ٩ ايلول (سبتمبر) ١٢٦٩ م.


تلمسان ، وظلت هذه المدينة دولة بينهما عدة مرات ، حتى لقد تعاقبا عليها عشر مرات في مدة خمسين سنة. وانتهى بها الأمر بأن أصبحت خرابا وهجرت في آخر حرب وهي التي وقعت في عام ٧٨٠ هجرية (٥٠٥) والتي شنها أحمد ، الملك الحادي عشر من ملوك فاس (٥٠٦). وبعد ذلك أعطيت تاوريرت إقطاعية لزعيم عربي. ولما رأى سكانها ، الذين أتلفت أرزاقهم بسبب تلك الحروب أنهم أصبحوا في أيدي العرب وتحت قيادتهم ، هربوا في إحدى الليالي إلى ندرومه ، وكانت مدينة تابعة لملك تلسمان ، وظلت تاوريرت خاوية على عروشها وخربة كما ترى حاليا. ولا زالت أسوارها وأبراجها وبيوتها في حالة طيبة وسليمة حتى الآن ، إذ لم يتهدم منها غير سقوفها (٥٠٧).

حداجيّة

حداجية مدينة صغيرة بناها الأفارقة فوق موقع يشبه الجزيرة ، إذ يصب بجوارها نهر ملّلولو في نهر الملوية (٥٠٨). وكانت في الماضي مدينة مأهولة ومطمئنة. ولكن بعد أن احتل العرب المغرب (٥٠٩) أخذت في الانحطاط وخاصة لمجاورتها صحراء الضهره حيث تعيش قبائل عربية شريرة. وقد تخربت تماما على أثر دمار تاوريرت (٥١٠) ولم يبق منها شيء سوى الأسوار التي لا تزال ماثلة إلى اليوم.

جرسيف

هو قصر قديم جدا شيد فوق جرف قرب نهر الملوية على مسافة خمسة وعشرين

__________________

(٥٠٥) سنة ١٢٧٨ م.

(٥٠٦) ابو عباس احمد السلطان المريني الخامس عشر.

(٥٠٧) في عام ١٣٧٨ ثار عرب المنطقة من معقل بتحريض من ابن غازي ، وهو وزير سابق كان سجينا في غساسة ، واعترفوا بأمير مريني مزيف ونصبوه سلطانا. فجاء ابو العباس بنفسه لإعادة النظام مع قواته ، ففر العرب وعوقب المذنبون منهم.

(٥٠٨) لا يزال اسم هذا الموقع ومكانه الصحيح مجهولين. ولكن يلاحظ ارضا صغيرة على الضفة اليسرى لهذا النهر لا تزال تحمل اسم الجزيرة ، وهي الواقعة ضمن الزاوية التي يؤلفها هذا الرافد اي نهر مللولو مع النهر الرئيسي اي الملوية.

(٥٠٩) او المغرب الحالي حيث يبدو ان العرب تكاثروا في هذه المنطقة بعد ان كان المرينيون سادتها ، ومن ثم غادروها كي يفتحوا المناطق الخصيبة في الغرب ، وذلك في بداية القرن الثالث عشر الميلادي.

(٥١٠) في عام ١٣٧٨ م.


ميلا تقريبا من تاوريرت (٥١١). وقد كان هذا القصر قلعة بني مرين. وهنا كانت هذه القبيلة تحفظ غلالها في العصر الذي كانت تسكن في أثنائه الصحراء (٥١٢). وقد تحولت إلى إمارة على يد أبي عنان ، خامس ملك من أسرة المرينيين (٥١٣) في هذا السهل المحيط بهذا القصر. ولا يوجد سوى القليل من الأراضي الصالحة للزراعة. فلا يرى فيه سوى بضع حدائق صغيرة مزروعة بالكروم والدراق والتين. ونظرا لوقوع هذا القصر في قلب الصحراء ، فإن هذه الحدائق تظهر في هذا المكان وكأنها جنة آدم.

وسكان جرسيف أجلاف يفتقرون لأبسط مبادىء التربية. عملهم الوحيد هو حراسة الحب المخزون في القصر لحساب سادتهم العرب. ومنظر المدينة ، كما يتراىء من خارج القصر ، منظر شنيع. حتى ليخيل للناظر انها عشش محروقة ، ذات جدران متهدمة سوداء ؛ ومساكن مسقوفة بحجارة سوداء.

مدينة دبدو

دبدو مدينة قديمة بناها الأفارقة فوق سفح جبل عال منيع جدا بتحصيناته الطبيعية. ويسكن المدينة فرع من قوم زناته. وتنحدر من سفوح الجبل بضعة جداول تخترق دبدو. وتقع المدينة على مسافة خمسة اميال (٥١٤) من السهل ، ولكن لا يعتقد انها تبعد اكثر من ميل ونصف الميل عندما ينظر اليها من حضيض الجبل. ويمتد الدرب المؤدي إليها بمنعطفات عديدة يجب أجتيازها على خاصرة الجبل حتى يمكن الوصول اليها. وتقع كل الأراضي المزروعة فوق المرتفعات ، لأن السهل المحيط بالبلدة قاحل تماما. وهناك بعض مزارع الأشجار الصغيرة على ضفاف جدول يجري في سفح الجبل ، غير ان المزروعات القائمة فوق المرتفعات لا تكفي لسد نصف معيشة سكان المدينة ، ولهذا يجلب اليها القمح من كورة تازة.

وقد بنيت دبدو لتكون قلعة لفخذ من قبيلة بني مرين على أثر تقسيم مناطق الغرب على يد عبد الحق وكانت المنطقة التي تقع فيها دبدو من نصيب قبيلة تدعى بني

__________________

(٥١١) ٤٠ كم.

(٥١٢) قبل ١٢١٧ م.

(٥١٣) ابو عنان فارس. سابع سلطان مريني بين ١٣٤٨ و ١٣٥٨ م.

(٥١٤) ٨ كم.


ورتاجّن التي لا تزال تملك المدينة في الوقت الحاضر.

وعندما فقدت أسرة بني مرين مملكة فاس حاول العرب المجاورون انتزاع إمارة دبدو من بني ورتاجّن. ولكن هؤلاء دافعوا عنها ببسالة بفضل معونة شخص يدعى موسى بن حمّو ، وهو من أعضاء هذه القبيلة. واضطر العرب لعقد هدنة معه. وظل موسى أميرا على المدينة بقية حياته ، وخلفه من بعده ابن له يدعى أحمد كان يشابه أباه من جميع الوجوه. وخلف احمد هذا ابنه محمد الذي كان من افذاذ رجال الحرب المبرزين.

فقد احتل قبل تسلمه السلطة بضع مدن وقصور عند سفح جبال الأطلس ، نحو الجنوب ، على تخوم نوميديا. ولما تسنّم قيادة دبدو ، جمّل هذه المدينة ببضعة أبنية ووصل بها إلى مستوى عال من الازدهار. وقد برهن على كثير من الأريحية وفرط البشاشة تجاه الغرباء وتجاه الذين كانوا يمرون بهذه المدينة ، وعاملهم بحفاوة بالغة ، وغمرهم بإحسانه ، واحتمل عنهم نفقات إقامتهم ، حتى شاع صيته بين العديد من القبائل.

وقد أشار عليه أناس كثيرون بانتزاع تازه من يدي ملك فاس ، ووعدوه أن يقدموا له كل ما هو بحاجة اليه من معونة لتحقيق ذلك. وتم حبك المؤامرة التالية : «تخفى الأمير محمد هذا في زي رجل جبلي وشخص يوما ما إلى سوق تازه ، كأنه شخص عادي يرغب في شراء ما يحتاج اليه من هذه السوق ، وكان المؤتمرون على موعد معه بالالتقاء به لتنفيذ مؤامرتهم ، وانقضوا بغتة على حاكم تازه. وكان النجاح ميسرا ، لأن السكان كانوا مهيئين لقبول هذا الوضع الجديد ، ولكن المؤامرة افتضحت قبل أن تتم فصولها ، وبادر ملك فاس ، وكان حينئذ محمد الشيخ ، والد الملك الحالي ، إلى السير لاحتلال دبدو مع أكبر قدر من الجيوش التي استطاع تعبئتها. وحينما وصل الى سفح الجبل أمر قواته باتخاذ أهبة الهجوم. ولكن الجبليين الذين كان عددهم ستة آلاف تجمعوا بمهارة ، وتركوا قسما من القوات الملكية تمر في دروب الجبل المتعرجة الضيقة التي يتعسر الخروج منها. وحينما وصلت هذه القوات الى حيث أراد الجبليون أن تصل ، انقضوا عليها ، وكانوا هم في أحسن حال من الراحة والنشاط ، بينما كانت القوات الملكية مرهقة مكدودة ، وكانت الطريق ضيقة عسيرة. فعجز جنود الملك عن تحمل المباغتة ، واضطروا إلى التخلي عن المعركة ، وفروا لا يلوون على شيء ، فكانوا يتدافعون بالمناكب حتى إن الواحد منهم كان يحول في فراره دون تراجع الآخر ، وحتى


إن أكثر من ألف رجل منهم دقت أعناقهم ، بينما سقط أكثر من ثلاثة آلاف قتيل.

ولكن الملك لم يقبل التخلي عن مشروعه في أعقاب هذا الفشل. ولما كانت تحت إمرته خمسمائة من قاذفي السهام ، وثمانمائة من رجال المدفعية الخفيفة فقد قرر الهجوم العام على المدينة. وأدرك محمد عندئذ أنه لن يستطيع الدفاع عن نفسه ، وفكر في تسليم نفسه بين يدي الملك. فلبس كساء رسول وتقدم لخيمة الملك كي يسلمه رسالة كتبها بيده ، باسم أمير دبدو ، وكان هو أمير دبدو نفسه. ولم يكن كلاهما يعرف الآخر. وأخذ الملك يقرأ الخطاب ويسأل الرسول عن رأيه في أميره فأجابه هذا :

ـ اعتقد أن أميري مجنون ، ولكن لدى الشيطان القدرة على إغواء الكبار وصغار المجانين على السواء.

فصرخ الملك قائلا :

ـ والله! إذا سقط بيدي كما أرجو فسأسلخ جلد ظهره وأقطعه إربا إربا وهو حي.

فأجاب الرسول :

ـ ولكن إذا سجد عند قدمي سموك وطلب الصفح عن خطيئته طالبا عفوك فكيف تعامله؟

عندها رد عليه الملك :

ـ في مثل هذه الحالة أحلف برأسي ، إذا برهن بهذه الطريقة عن خطئه في تجرئه وندمه على ما فرط منه فلن أسامحه فحسب بل سأربطه معي بوشائج القربى ، فأعطي اثنتين من كريماتي لاثنين من أبنائه ، وأقره على قيادته ، وأمنحه كذلك ما أراه كفاء لمقامه من عطاء. ولكن لا أخاله فاعلا ذلك ما دام مجنونا.

ورد الرسول :

ـ سيفعل ذلك بالتأكيد إذا أكد سموكم وعده بحضور الشخصيات الرئيسية في حاشيته.

فقال الملك :

ـ أظن انه يكفي أربعة أشخاص حاضرين هنا : فهذا كاتبي الأول ، والثاني


قائدي العام ؛ والثالث والد زوجتي. وهذا الكهل الطيب هو قاضي القضاة وإمام فاس الأكبر.

وعند سماعه هذه الكلمات ارتمى الرجل على قدمي الملك قائلا :

ـ هذا هو المذنب الذي لا ملجأ له إلا إليك جاء عائذا بحنانك.

عندئذ أصيب الملك والحاضرون بالذهول ، وقال الملك : عجبا! إذن لست مجنونا كما كنت أظن؟

فقام وعانقه وقبله كي يشهد على قبوله قريبا له واستدعى حالا اثنتين من بناته وزوجهما لولديه. وتناولا العشاء في المساء سوية ، وفي اليوم التالي رفع الملك معسكره وعاد الى فاس مع صهريه ، ولدي أمير دبدو.

وعانت قوات فاس مصاعب لا حد لها في هذه الحملة لأنها حدثت في شهري حزيران وتموز (يونيه ويوليو) لأن هذه البلاد حارة وجافة وخاصة في هذين الشهرين. وعلى مسافة ثمانين ميلا (٥١٥) بين دبدو وتازة لا يتوافر الماء الا في ثلاثة مخيمات.

وهكذا حاول جاهدا ان يذهب بسرعة كي يجتاز هذه المناطق الحارة وسقط الكثيرون صرعى بضربة الشمس سواء في الذهاب او العودة. وحدث هذا عام ٩٠٤ للهجرة (٥١٦). وكان هذا الشيخ الأمير على قيد الحياة سنة ٩٢١ ه‍ حينما خرجت من فاس. وقد نزلت عنده في دبدو ولقيت منه كل رعاية بفضل رسائل التوصية التي كنت أحملها من الملك ، ومن أحد إخوته الذي كان متزوجا من إحدى بنات هذا الشيخ الأمير. وبقيت فيها يومين وسألني بشكل خاص عن بلاط ملك فاس وعن إخوته.

مدينة تازه

تازه مدينة كبيرة لا يقل شرفها عن قوتها ، وتعيش في رخاء ، فوق أرض خصيبة. وقد بناها قدامى الأفارقة على مسافة خمسة أميال من جبال الأطلس (٥١٧).

__________________

(٥١٥) ١٢٨ كم.

(٥١٦) ١٤٩٩ م.

(٥١٧) ٨ كم.


وتقع على مسافة ثمانين ميلا من فاس ، ومائتين وخمسين ميلا من المحيط وخمسة وسبعين ميلا من البحر المتوسط مرورا بصحراء غارت عند الذهاب في اتجاه كساسه (٥١٨). وتضم هذه المدينة حوالي خمسة آلاف أسرة. ولكن ليس فيها بيوت جميلة ، باستثناء قصور الأشراف ، والمدارس والجوامع المبنية بجدران غاية في الاتقان. وينحدر من الاطلس نهر صغير يمر من المدينة مخترقا الجامع الكبير. وكثيرا ما يتعرض هذا النهر للتحويل على أيدي الجبليين عندما يكونون على خلاف مع أهل المدينة. فيجعلونه يمر من مكان آخر ، مما يجعل المدينة تتعرض لأذى كبير ، إذ لا يمكن حينئذ طحن الحب ، ولا الحصول على ماء طيب للشرب ، ويضطر أهلها إلى الاكتفاء بماء الصهاريج العكر. وعندما يستتب السلام يعيد الجبليون الماء الى مجراه الأصلي.

وهذه المدينة هي الثالثة في المملكة من حيث المكانة وكذلك من حيث الحضارة. وفيها جامع أكبر من جامع فاس (٥١٩) ، وفيها ثلاثة مدارس ، وبضع حمامات وفنادق وأسواقها منتظمة مثل أسواق فاس. وسكانها ناس بواسل وكرماء بالقياس إلى اهل فاس. ويوجد بينهم كثير من المثقفين ورجال البر وكثير من الأغنياء لأن أراضيها تعطي أحيانا ثلاثين ضعفا لما ألقي فيها من بذور. ويمتد حول المدينة واد ترويه جداول بديعة رائعة ويشتمل على كثير من بساتين الاشجار التي تنتج كميات كبيرة من ألذ الثمار. وتعطي مزارع الكروم العديدة عنبا أبيض ، وعنبا احمر ، وعنبا اسود ، ويصنع منه اليهود الذين يبلغ عددهم خمسمائة بيت في المدينة ، خمورا غاية في جودتها. ويقال انها أجود خمور في جميع المناطق. ولا نزال نرى في تازه قصبة بديعة وكبيرة يقيم فيها حاكم المدينة.

ومن عادة ملوك فاس الحديثين ان يمنحوا هذه المدينة لثاني ابنائهم. ويجب ان تكون ، والحق يقال ، مقر بيت الملك بسبب نقاوة هوائها ، في الشتاء وفي الصيف. وكان يقيم الملوك المرينيون فيها كل فصل الصيف ، سواء لهذا السبب المذكور او لحراسة المنطقة وحمايتها من أعراب الصحراء الذين يقصدونها كل سنة كي يمتاروا بالأقوات وليجلبوا تمور سجلماسة التي يقايضونها بالحب. ويربح أبناء المدينة ربحا كبيرا من هذا الحب الذي يبيعونه للعرب بسعر مرتفع.

__________________

(٥١٨) أي ١٢٨ كم ، و ٣٠٠ كم ، و ١٢٠ كم.

(٥١٩) لا يزال قسم من هذا الجامع البديع مهدما في ايامنا.


وقصارى القول تعتبر تازه في وضع ممتاز جدا سواء في ذلك ما يتعلق بالمدينة نفسها وما يتعلق بسكانها. وليس في تازه شيء ينغصها سوى الوحل الذي تمتلىء به شتاء.

ولقد قصدت تازه حيث ارتبطت بشيخ له عند الشعب شهرة ولي. وكان هذا الرجل واسع الثراء بسبب نتاج أملاكه وبسبب الصدقات التي ينالها من أهل تازه وأهل فاس. ويقصده اناس من اهالي فاس الواقعة على مسافة تسعين ميلا لرؤيته. وكنت من الذين يرتابون بما كان يقوم به هذا الشخص قبل أن أراه. وبعد هذه الزيارة رأيت فيه إنسانا شبيها بكل الناس ، ولم يكن يفعل سوى أشياء تخدع الساذج.

ولتازه أراض شديدة الاتساع تضم بضعة جبال تسكنها قبائل مختلفة ، كما سنفصله فيما يلي :

جبل متغاره

هذا جبل مرتفع جدا وعسير المرتقى لأنه مغطى بغابة شديدة الكثافة وذات دروب غاية في الضيق. ويبعد حوالي خمسة أميال (٥٢٠) عن تازه. وفوق قمته تقع اراض زراعية طيبة ، وتقع فيه العيون. ولا يدفع سكانه ضرائب. ويجنون منه القمح والكتان ويصنعون الزيت. ولديهم الكثير من الماشية وخاصة الماعز. ولا يحترم هؤلاء الناس ملوكهم كثيرا. وفي احدى المرات ، وبعد أن أوقعوا الهزيمة بجيوش ملك فاس ، أسروا القائد واستاقوه الى جبلهم وقطعوه إربا إربا تحت أنظار الملك. ولهذا السبب لا يمنحهم الملك مطلقا صداقته التي لم يبرهنوا قط على أنهم أهل لها. وفيهم حوالي سبعة لآف محارب لأنهم يملكون قرابة خمسين قرية (٥٢١).

جبل جيّاته أو غيّاته (*)

يشبه هذا الجبل الجبل السابق في أنه عسير المرتقى. ويقع على مسافة

__________________

(٥٢٠) ٨ كم.

(٥٢١) لقد تلاشى اسم قبيلة متغارة من جنوب تازه كما اختفى من جنوب غرب فاس.

(*) رسم هنا الجبل في النص الاصلي : «جوآته» وصوابه جيّاته أو غيّاتة (انظر تعليق ٥٢٤)


خمسة أميال (٥٢٢) من تازه ، ويحتوي على أراض زراعية طيبة على سفوحه وقمته. وتنبت فيه كمية كبيرة من الشعير ومن الكتان. ويمتد من الشرق الى الغرب على مسافة ثمانية أميال تقريبا (٥٢٣) ، وعلى عرض مقداره خمسة أميال تقريبا. وتقع فيه عدة أودية بها غابات كثيرة تعيش فيها أعداد كبيرة من القردة والفهود. ويشتغل سكانه بحياكة الأقمشة. وهم رجال بواسل وكرماء. ولا يستطيعون مزاولة التجارة في السهل لأنهم لا يدينون بالطاعة لملك فاس ولا يدفعون له أية ضريبة ، وذلك لكبريائهم وترفعهم من جهة ، ولأن طبيعة جبلهم من جهة اخرى تجعلهم في وضع دفاعي قوي. فبفضل طبيعة جيلهم يستطيعون الصمود لحصار يستغرق عشر سنوات لأنهم يجدون محليا كل ما هو ضروري لهم ، فضلا عن ينبوعين ضخمين يتولد منهما نهران (٥٢٤).

جبل مغسّه

جبل مغسة عسير وموحش ، وهو مستور بغابات. ولا ينبت فيه سوى القليل من القمح ، ولكن يكثر فيه الزيت. ويحيك السكان الأقمشة الكتانية لأنهم يجنون كمية لا بأس بها من الكتان. ومشاتهم لا يقلون شجاعة عن فرسانهم. ولون بشرتهم شديد البياض لأن جبلهم عال وبارد. ولا يدفعون أية ضريبة ، ويستطيعون ايواء الناس المنفيين من فاس. ولديهم الكثير من مزارع الاشجار المثمرة والكروم ، ولكن ليس بينهم واحد يعاقر الخمر. ويقدم هذا الجبل حوالي ستة آلاف محارب لأنه يضم أربعين قرية كلها كبيرة ومزدهرة (٥٢٥).

جبل البرانس (٥٢٦)

يقع هذا الجبل على مسافة خمسة عشر ميلا (٥٢٧) شمالي تازه. وتسكنه قبيلة غنية

__________________

(٥٢٢) ٨ / كم.

(٥٢٣) ١٣ / كم.

(٥٢٤) من المعتقد ان المؤلف كتب في النص الأصلي غيّاتة ، ولم يحسن قراءته. وغيّاته هم دوما في مكانهم وربما دمجوا معهم قبيلة متغاره.

(٥٢٥) لا تشكل مغسة الحالية اكثر من قبيلة صغيرة على الضفة اليمنى لوادي يوهلّو الرافد الجنوبي لنهر إيناون.

(٥٢٦) لا يزال البرانس دوما في مكانهم.

(٥٢٧) ٢٣ كم.


وقوية تملك الكثير من الخيل ، ولا تدفع أية ضريبة. وينمو في هذا الجبل كثير من القمح ، وتظهر فيه كمية من بساتين الأشجار المثمرة ومن كروم العنب الأسود ، ولكن لا تصنع منه خمر. ونساء هذا الجبل بيضاوات وبدينات ، ومن عادتهن التزيّن بكثير من الحلى الفضية لأن هؤلاء الناس أغنياء. والرجال هنا سريعو الغضب وعلى قدر كبير من الجرأة. والويل لمن يتحرش بنسائهم ، فكل إهانة أخرى تتضاءل أمام هذه الإهانة.

بني ورتناج (٥٢٨)

هذا الجبل مرتفع وعسير المرتقى بسبب الغابات والجروف الموجودة فيه. ويقع على مسافة ثلاثين ميلا (٥٢٩) تقريبا من تازه. وهنا ينمو القمح والكتان والزيتون والليمون والسفرجل البديع المعطر. وفيه ايضا الكثير من الحيوانات ، باستثناء الخيل والثيران التي هي بأعداد قليلة. وسكانه شجعان كرماء ، ويلبسون ثيابا لائقة كأبناء المدن ، وفيه حوالي خمس وثلاثون قرية تقدم ثلاثة آلاف محارب بواسل بتجهيز حسن (٥٣٠).

جبل وابلان (٥٣١)

وابلان جبل عال (٥٣٢) شديد البرودة وكثير الاتساع. ويبلغ طوله ستون ميلا تقريبا (٥٣٣) بعرض يبلغ خمسة عشر ميلا (٥٣٤). وهو يتاخم جبال دبدو ويتاخم من الغرب جبال بني يازغة. ويبعد مسافة خمسين ميلا عن تازه (٥٣٥). ويظهر الثلج على

__________________

(٥٢٨) ويسمون حاليا تسول.

(٥٢٩) ٤٨ كم.

(٥٣٠) لقد تغير اسم بني ورتناج المنتسبين الى مكناسه شمالي تازه ، وأستعيض عنه باسم تسول ، وهو اسم المنطقة التي يقطنون فيها.

(٥٣١) وبلان وحاليا بوايبلان.

(٥٣٢) ترتفع قمة وبلان (الذي تغير اسمه في ايامنا الى بوايبلان) الى ٣١٩٠ م.

(٥٣٣) ١٠٠ كم.

(٥٣٤) ٢٥ كم. ولا يقصد بهذا الجبل طبعا بوايبلان ذاته ، بل الكتلة الجبلية الواقعة بين نهر الملوية في الشرق ووادي مديز في الغرب.

(٥٣٥) ٨٠ كم.


قمته في جميع فصول العام (٥٣٦).

وقد كان في في الماضي مأهولا بقبيلة كبيرة العدد ، غنية وشجاعة ، كانت تعيش دوما في حرية ، إلى أن سقطت ضحية الطغيان. وذلك انه قد تجمعت قبائل الجبال المجاورة وتحالفت فيما بينها ، واجتاحت الجبل وقتلت الرجال وأحرقت القرى ، فجبل وابلان اليوم خال خاو.

غير أن أسرة من أهل هذا الجبل اعتزلت في قمته بعد أن رأت ظلم أقربائها الذين انضموا الى الآخرين لإرهاب البلاد ، وأقامت هناك مع أولادها والقليل من الأرزاق التي بحوزتها وعاشت حياة بسيطة زاهدة ، ومن أجل ذلك تركت وشأنها. ولا يزال نسل اولئك يعيشون في نفس المكان. وبما أنهم أناس مثقفون يعيشون عيشة شريفة فإن لهم مكانة كبيرة لدى ملك فاس. وفي أيامي كان هناك رجل هرم عالم جدا وعلى درجة من الشهرة جعلت الملك يستعين به وسيطا في جميع ما يبرمه من معاهدات الصلح وفي الاتفاقيات التي يعقدها مع القبائل العربية. وتعرض عليه المنازعات كما لو كانت تعرض على أطهر رجل. وكان هذا الرجل ممقوتا من اعماق قلوب رجال البلاط بسبب تلك المكانة.

بني يستيتن

يقع هذا الجبل تحت سلطة أمير دبدو. وتسكنه قبيلة ذات أوضاع رديئة جدا ، يمشون حفاة يلبسون الاسمال. ويسكن الناس في أخصاص من القصب. وعند ما يضطر أحدهم لقطع مسافة طويلة في هذه المنطقة يقوم بضفر نعلين من القصب (٥٣٧). وقبل ان يتم ضفر الزوج الثاني يكون الزوج الأول قد بلي من الاستعمال. ومن هنا نستشف ماهية معيشة هؤلاء الناس. فهم في غاية البؤس. ولا ينبت في جبلهم سوى الذرة البيضاء التي يصنع منها خبز ويصنع منها كذلك أطعمة أخرى ويوجد في سفح الجبل بعض بساتين لأشجار مثمرة تنتج العنب والتمور والدراق بكمية كبيرة. وتنزع من الدراق نواته ويقسم الى اربعة اجزاء ويجفف في الشمس. وبذلك يحتفظ بثماره طيلة

__________________

(٥٣٦) لا يختفي الثلج قط من قمة موسى أو صلاح التي تشرف على الجبل.

(٥٣٧) وربما من الحلفاء.


السنة وتعتبر غذاء لذيذا جدا.

ويوجد على سفح الجبل عدة مناجم حديد. ويصنّع هذا الحديد وتعمل منه سبائك تحذى بها الخيل. وتستعمل نفس السبائك نقودا إذ لا توجد عملة في هذه البلاد ، أو لا يوجد منها سوى القليل. ومع هذا يجني هؤلاء الجبليون من هذا الحديد دخلا لا بأس به لأنهم يبيعون منه كمية كبيرة. كما يصنعون منه أيضا خناجر ، ولكنها لا تقطع شيئا. وتصنع النسوة خواتم من حديد ، وأقراطا منه في آذانهن. ولباسهن أردأ من لباس الرجال. وهن يقصدن الغابة باستمرار ليجمعن منها حطبا ويسمن فيها أنعامهن ، والتعليم معدوم فيما بينهم ؛ فليس ثمة شخص يعرف القراءة. وهم كالأنعام بل هم أضل. لا تفكير لديهم ولا ذكاء.

جبل سليليو

سليليو (٥٤٠) جبل مكسو بغابة من أشجار بلوط كبيرة. ويوجد فيه الكثير من العيون. وليس للسكان أي بيت من حجر ، فكل أكواخهم من قصب ويستطيعون نقلها من مكان لآخر ، ويضطرون الى مغادرة الجبل في الشتاء كي يعيشوا في السهل. وحينما يقترب الصيف في أواخر شهر أيار (مايو) يغادر العرب الصحراء كعادتهم. وحينئذ يرجع اهل سليليو الى جبلهم ، ويكون لعودتهم هذه فائدة مزدوجة لهم. فهم يبعدون بذلك عن العرب ، وهم من جهة اخرى يقضون الصيف في طقس بارد نوعا ما ، وهذا مفيد لهم ولأنعامهم ، لأن لديهم قطعانا كبيرة من الضأن والمعز ، وعند اقتراب الشتاء يرجع العرب الى الصحراء لانها اكثر دفئا ولأن ابلهم لا تعيش في المناطق الباردة. وفي هذا الجبل الكثير من الاسود ومن الفهود والقردة ، وتشبه هذه القردة عند رؤيتها جيشا تحت السلاح لكثرة اعدادها.

وهنا يقع نبع ضخم ينبجس منه الماء لدرجة بالغة من العنف حتى إن أحدهم رمى بحجر ثقيل يبلغ وزنه مائة رطل (٥٤١) في الفتحة التي يتدفق منها الماء فانقذف الحجر

__________________

(٥٤٠) سليليو. ويسميه احد المؤلفين البرتغاليين سيليغو ، ويطلق هذا الاسم على بلدة واقعة على نهر سبو. ولقد سألنا احد المواطنين هناك فقال مشيرا الى احدى الذرى التي تحاذي الضفة اليمنى لوادي المدز وهو أحد فروع نهر سبو العليا ، وتحمل اسم سيليليو.

(٥٤١) ٤٠ كجم


جبل بني يازغه

تسكن هذا الجبل قبيلة غنية ، محترمة جدا لأخلاقها الكريمة وأسلوب حياتها. ويجاور هذا الجبل الجبل السابق حيث ينبغ نهر سبو ويجري هنا بين جروف عالية. وقد بنى اهل المنطقة جسرا بديعا للعبور من ضفة لأخرى. فغرسوا في كل جانب من النهر عمودا ضخما صلبا ، وثبتوا بكرة فوق كل من هذين العمودين ، ثم مددوا من جانب لآخر حبالا غليظة من الليف تنزلق في هاتين البكرتين. وقد ربطت بهذه الحبال قفة عميقة متسعة متينة تتسع لعشرة أشخاص يجلسون فيها بكل راحة ، وعلى من يرغب في عبور النهر ان يدخل في القفة وان يجر الحبلين من الطرفين المثبتين بها. فينزلق هذان الحبلان في البكرتين بسهولة ، وبهذه الطريقة تنطلق القفة نحو الضفة المقابلة وفي احدى المرات التي دخلت فيها هذه القفة حكى لي احدهم انه حدث منذ زمن طويل أن أراد عدد من الأشخاص يزيد عن طاقتها أن يركبوا في القفة ، فأدت زيادة الحمولة الى انهيار القفة المذكورة فسقط قسم من الناس في النهر بينما تشبث قسم آخر بالحبال ، وتم إنقاذ هؤلاء بمشقة ، ولم يظهر بعد ذلك اثر للذين سقطوا في النهر. وقد وقف شعر رأسي انزعاجا من سماع هذه القصة ، فقد نصبت هذه العبّارة في الحقيقة بين قمتي جبلين ، بحيث ترتفع عن مستوى النهر بنحو مائة وخمسين ذراعا (٥٤٢) حتى ليظهر الرجل الواقف عند ضفة النهر في نظر الجالس في هذه القفة كأن قامته شبر واحد (٥٤٣).

ولسكان جبل يازغه عدد كبير من الحيوانات لأن منطقتهم كثيرة الاحراش. والصوف الذي يحصلون عليه من أغنامهم شديد النعومة ، وتصنع منه نساؤهم أقمشة كالحرير ، ويصنعن من هذه الأقمشة ثيابا لهن وأغطية للسرر. ويباع الواحد من هذه الأغطية في فاس بثلاثة أو أربعة دنانير ، كما يستخرج هؤلاء الكثير من الزيت من زيتون جبلهم. ولكنهم يخضعون لملك فاس ، ويفيد سكان فاس القديمة من الإتاوة التى

__________________

(٥٤٢) ٧٠ م.

(٥٤٣) ٢٤ سم.


يدفعها هؤلاء. وقد يصل مبلغ هذه الإتاوة الى ثمانية آلاف دينار تقريبا (٥٤٤).

أزغان (٥٤٥)

يتاخم هذا الجبل سليليو من الشرق ويتاخم من الغرب جبل صفرو. ويمتد من الجنوب حتى الجبال التي تحاذي نهر الملوية. وينتهي شمالا في سهول اقليم فاس. ويبلغ طوله حوالي أربعين ميلا في خمسة عشر ميلا (٥٤٦) عرضا. وهذا الجبل عال جدا وشديد البرودة حتى لا تمكن السكنى الا في المنحدر المطل على فاس. وهذا المنحدر مغطى بأشجار الزيتون وبالاشجار المثمرة الأخرى. وتنبع فيه عيون عديدة تجري في سهل به اراض صالحة لزراعة الشعير والكتان والقنب الذي ينمو بكمية كبيرة في هذه البقعة. وقد زرع ، في الأزمنة الاخيرة ، في هذا السهل الكثير منن أشجار التوت لتغذية ديدان القز. ويسكن الناس ، شتاء ، اكواخا في السهل وفي الصيف يكون الماء شديد البرودة حتى لا يتجرأ إنسان على أن يترك يده في الماء وقتا يكفي للعد من الواحد للعشرة (٥٤٧). وقد رأيت رجلا أقسم على أن يشرب طاسة من هذا الماء ، ولكنه ظل مريضا بالزحار ، بعد شربه ، مدة ثلاثة اشهر.

مدينة صفرو

صفرو مدينة صغيرة في سفح جبل الاطلس على مسافة خمسة عشر ميلا (٥٤٨) جنوبي فاس ، ويوجد بالقرب منها ممر يجتازه الناس للانتقال الى نوميديا. وقد بنيت هذه المدينة على أيدي الأفارقة بين نهرين يظهر حولهما الكثير من الأراضي المزورعة بالكروم وبالأشجار المثمرة الاخرى. وعلى مسافة خمسة أميال (٥٤٩) حول المدينة لا يرى سوى الزيتون لأن الأرض هزيلة في كل مكان. ولا تنجح هنا زراعة اي شيء فيما عدا

__________________

(٥٤٤) لا يزال بنويزغه في مكانهم على الضفة اليمنى لنهر السبو.

(٥٤٥) لم يعد هذا الاسم دارجا في الوقت الحاضر ولكن السكان المحليين يعرفونه ويطلقونه على القسم الشمالي من هذه الكتلة الجبلية.

(٥٤٦) ٦٤ كم من الشمال للجنوب. و ٢٣ كم من الشرق للغرب.

(٥٤٧) من نافلة القول الاشارة الى ان هذه مبالغة.

(٥٤٨) ٢٣ كم.

(٥٤٩) ٨ كم.


الكتان والقنب والشعير. وأهل صفرو أغنياء ، ولكن هندامهم سيىء ، وثيابهم مليئة دوما ببقع الزيت إذ يصنعون الزيت على مدار العام وينقلونه الى فاس لبيعه.

ولا يوجد شيء جميل في المدينة باستثناء جامع يمر منه جدول ماء. ويرى أيضا مورد جميل قرب هذا الجامع. وتكاد تكون هذه المدينة خربة لسوء سلوك أميرها وهو احد اخوة الملك الحالي.

مزدغة

مزدغة (٥٥٠) بليدة صغيرة عند سفح جبال الأطلس واقعة على مسافة ثمانية أميال (٥٥١) تقريبا الى الغرب من صفرو. وهي محاطة بأسوار جميلة غير أنها لا تحوي سوى بيوت شنيعة لكل منها مورد ماء. وكل سكانها تقريبا خزافون لأن لديهم تربة صلصالية جيدة. ويصنعون عددا لا يحصى من الأواني التي يبيعونها في فاس ، لانهم لا يبتعدون اكثر من أثنى عشر ميلا من هذه المدينة. والأرياف المحيطة بها مؤائمة للشعير والكتان والقنب ، كما تنتج الكثير من الزيتون والثمار الاخرى. وتكثر الاسود في الأحراش المجاورة ، كما تكثر في الاحراش الموجوده بجوار المدينة السابقة. وليست هذه الاسود مخيفة. فهي تهرب اذا تقدم أحد لمواجهتها بأي سلاح كان.

بني بهليل

وهي مدينة صغيرة مبنيّة فوق سفح جبل الأطلس الذي يتجه نحو فاس على مسافة تقارب اثنين وسبعين ميلا (٥٥٢) من المدينة المذكورة. وبالقرب منها يوجد ممّر يجتازه الطريق الذاهب الى نوميديا. ويوجد في هذا الجبل الكثير من الجداول ، ويخترق المدينة أحدها. وتشبه المواقع المحيطة به المواقع المحيطة بالبلدان التي سبق لنا الكلام عليها باستثناء عدم وجود شيء سوى الغابة. والسكان حطّابون. فبعضهم

__________________

(٥٥٠) لا تزال هناك قريتان بهذا الاسم على نفس المسافة من صفرو تقريبا الى غرب منها ، وهي مزدغة السوق ومزدغة الجرف. ومن المحتمل انه يعني مزدغة السوق. والواقع ان هذه البليدة تقع على مسافة اثنى عشر ميلا أي ٢٥ كم عن فاس.

(٥٥١) ١٣ كم.

(٥٥٢) ١٢٠ كم.


يقطع الحطب ، والآخرون ينقلونه إلى فاس. ويتعرض هؤلاء دائما لسوء المعاملة من الأمراء الذين يرهقونهم بالضرائب ، لأنهم ليسوا سوى أجلاف.

عين الأصنام

كانت عبارة عن مدينة بنيت في قديم الزمن من قبل الأفارقة في سهل بين جبلين على مسرى طريق الذاهب من صفرو الى نوميديا. واسمها يعني نبع الأوثان. وذلك أنه يروى أن الأفارقة لما كانوا عبدة أوثان ، كان لهم قرب هذه المدينة معبد كان يجتمع فيه النساء والرجال عند حلول الظلام في موسم معين من السنة. وبعد ان يفرغوا من تقديم قرابينهم كانوا يطفئون الأنوار ويستمتع كل واحد بالمرأة التي تجعلها الصدفة على مقربة منه. وعند ما يأتي الصباح يجب على المرأة الّا تقترب من زوجها خلال عام وكان الأولاد الذين يولدون لهؤلاء النسوة خلال تلك الفترة من السنة يربّون على يد كهنة المعبد. ويوجد في هذا المعبد نبع لا يزال مرئيا حتى الآن. ولكن المسلمين خربوا المعبد والمدينة ولم يبق منها أي أثر. ويؤلف النبع بحيرة صغيرة تجري مياهها من عدة قنوات تنتشر في هذه البقعة فتجعل أراضيها مستنقعات (٥٥٣).

المهدية

مدينة مبنية في جبال الأطلس في وسط الغابات بجوار عيون حتى لتكاد تبدو كأنها في السهل. وتقع على مسافة عشرة أميال تقريبا من المدينة السابقة. وقد تأسست هذه البلدة على يد داعية ، ولد في هذه الجبال في العصر الذي كانت فيه قبائل زناته تسيطر على مدينة فاس. ولكنها تخربت ونهبت بعد ان دخلت هذه المنطقة قبائل لمتونة بقيادة الملك يوسف. ولم يبق منها شيء سوى جامع جميل للغاية وما تبقى من السور. وقد ضربت على سكان هذا الجبل الذلة والمسكنة واصبحوا من رعايا ملك فاس. وحدث هذا في عام ٥٣٥ هجرية(٥٥٤).

__________________

(٥٥٣) لا تزال «عين الأصنام» على الوضع الذي كانت عليه قرب النواصر على مسافة عشرين كيلومترا جنوب صفرو.

(٥٥٤) أو بين ١٧ آب (اغسطس) ١١٤٠ وآب ١١٤١ م وهو التاريخ المحتمل لهذا التخريب على يد جماعة من فزاز الذين انحازوا الى الموحدين عند ما استقر الخليفة عبد المؤمن في آزرو. وفي ٤٦٦ ه‍ / او ١٠٧٣ م احتل مرابطو يوسف بن تاشفين فعلا هذه القلعة بعد تسعة اعوام من الحصار ، ولكنها ظلت عاصمة قبيلة الفزاز. وكانت تحمل اسم مؤسسها المهدي بن توالة ، وكانت تسمى قلعة المهدي ، او قلعة فزاز. ومن المحتمل انها كانت تقع بين النواصر وآزرو. ليس بعيدا عن «ضية آشلف» او عن إفران ، ولكنها كانت مدينة من خشب. اما بقايا ابنيتها من الحجر فلم يعثر عليها حتى الآن.


سهب المرجة (٥٥٥)

يبلغ عرض هذا السهل حوالي ثلاثين ميلا بطول يقارب أربعين ميلا (٥٥٦) بين جبال الأطلس. وهذه الجبال مغطاة بغابات من أشجار ضخمة (٥٥٧). ويسكن الفحامون هناك أكواخا متباعدة بعضها عن بعض ، ولديهم عدد من المشاحر (*) ينتجون منها مائة حمل من الفحم. ويقيم الكثير من الناس في هذه الغابات كي يشتروا منها الفحم ويبيعونه في فاس ، ويوجد هنا الكثير من الأسود. وليس من النادر ان تفترس بعض الفحامين. وتنقل من هذا الجبل الى فاس أعمدة جميلة جدا من الخشب والواح متنوعة. وهذا السهل عقيم لا ينبت شيئا ومستور بحجارة سوداء رقيقة تشبه حجر الاردواز (٥٥٨).

أزغار ايغمارن

وهو سهل آخر محاط بجبال ذات أحراش. ويشبه مرجا ينمو فيه العشب طيلة العام ، ولهذا يقصده الكثيرون من الرعاة صيفا مع أغنامهم. ويحيطون حظائر قطعانهم بسياجات عالية جدا من الأشواك ويقومون بالحراسة اليقظة طيلة الليل خشية الأسود (٥٥٩).

__________________

(٥٥٥) اسم يعني سهل المرج. و «سهب» كلمة عربية اصيلة تعني سهلا لا تجود فيه سوى النباتات النجيلية دون أشجار ، بخلاف كلمة سهل التي تدل على منبسط من الأرض قد تنبت فيه كل النباتات التي يساعد المناخ المحلي على ازدهارها. وهنا نود لفت انظار بعض الجغرافيين العرب الذين لا يزالون على اصرارهم في استعمال الكملة الأجنبية «استبس» دون ترجمة. (المترجم).

(٥٥٦) ٤٨ كم في ٦٤ كم.

(٥٥٧) اي أشجار الأرز.

(*) مفردها مشحرة وهي فرن يتحول فيه الحطب الى فحم

(٥٥٨) تبرهن الابعاد المذكورة وصحة هذا الوصف على ان المقصود هو الجزء الغربي من هضبة عالية تقع بين صفرو في الشمال ونهر جيجو او غيغو من الجنوب. ومعنى كلمة سهب بالضبط السهل الفسيح. غير ان هناك سهولا صغيرة في هذه الهضبة تحمل اسم سهب متبوعا بمضاف اليه. ولم يمكن التعرف على سهب المرجة. اما الحجارة السوداء فهي لابة بركانية.

(٥٥٩) هذا السهل في الحقيقة مروي بشكل جيد نسبيا ، ويقع جنوب شرق النواصر ، ولا زال يحمل اسم أزغار ومعناه «سهل» في اللغة البربرية ، ومعنى أزغان ايغمارن سهل الخيل التي تحمل الاثقال.


جبل المائة بير

وهذا الجبل أكثر ارتفاعا من الجبال الأخرى. وتوجد في قمته أطلال قديمة. والى جوار هذه الأبنية توجد بئر شديدة العمق لا يستطيع انسان رؤية قعرها. وينتج عن ذلك ان المجانين الذين يبحثون عن الكنوز (٥٦٠) يعمدون الى انزال رجال مزوّدين بفوانيس يهبطون إليه بواسطة حبال. ويقال ان لهذا البئر عدة أدوار. كما ان فيه قاعة كبيرة محفورة بالمعول ، ومبية بجدران على اطرافها في الطابق الأسفل. وفي هذه الجدران أربع فتحات واطئة تقود الى أربع قاعات صغيرة حيث توجد آبار المياه العذبة. ولا يعود العديد من الرجال أحياء من هذه المغامرة إذ تهب أحيانا في الأعماق ريح رهيبة تطفىء الأنوار بحيث لا يستطيعون العثور على طريق العودة الى الخارج فيموتون من الجوع في قعر البئر. وقد روى لي شخص وجيه من فاس كان يعجب بهذه الجهالة انه اتفق مع عشرة من رفاقه على محاولة القيام بمغامرة في هذا الأكتشاف. وعند وصولهم الى فوهة البئر اقترعوا على الثلاثة منهم الذين سيكون عليهم النزول ، وكان صديقي هذا احدهم. فأنزل هؤلاء بواسطة حبال حاملين فوانيس بأيديهم كما سبق ان قلنا. وعندما وصل المكتشفون الثلاثة الى فتحات القاعة الكبرى الأربع اتفقوا على ان يذهب كل واحد منهم في طرف. ولكن عندما ذهب الأول ، ذهب الإثنان الآخران ، وأحدهما صديقي ، سوية. وما كادا يقطعان مسافة ربع ميل (٥٦١) حتى وجدا نفسيهما محاطين بعديد من الخفافيش التي كانت تطير حول الفانوسين. فصدمت بأجنحتها الفانوسين فأطفأت أحدهما. وتابع الرجلان طريقهما حتى وصلا الى بئر الماء النقي ووجدا بقربها عظاما بشرية وقد ابيضّ لونها ، وعثر بجانبها على خمسة او ستة فوانيس ، بعضها قديم وبعضها جديد. ولكن بما أنهما لم يجدا في هذه الآبار شيئا آخر سوى الماء عادا أدراجهما. وما ان وصلا الى منتصف اطريق حتى هبت ريح عنيفة ثارت فجأة وأطفأت فانوسهما. وسارا بعض الوقت دون ان يريا شيئا وكانا يتلمسّان طريقهما في الظلمات ولم يعرفا كيف يستدّلان على طريق العودة. وأخيرا وبعد أن أصابهما الإعياء وفرط التعب واليأس ، ألقيا بنفسيهما على الأرض وهما ينتحبان ونذرا إلى الله الّا يعودا

__________________

(٥٦٠) اي الكنازون.

(٥٦١) أو ٤٠٠ م.


مطلقا لهذا المكان إذا ما خرجا على قيد الحياة. أما الذين كانوا ينتظرونهما في الخارج فقد افترضوا ، بعد ان لاحظوا عدم عودة أي واحد منهم ، أن كارثة ما حدثت لهؤلاء. وهكذا نزل خمسة منهم مزودين بفوانيس جيدة وقدّاحات وراحوا يجوبون الأنفاق ويطلقون صرخات ينادون بها رفاقهم. وأخيرا عثروا على الرجلين في الحالة التي وصفنا ، ولكنهم لم يعرفوا ما حدث للثالث. فقد ضل الأخير سبيله كما حدث للرجلين. ولما لم يعرف إلى أين يتجه توقف في مكانه إلى ان سمع نباحا يشابه عواء جراء الكلاب. فتقدم في الاتجاه الذي كان يبدو له أن الصرخات كانت تصدر عنه ، فوجد أربعة حيوانات صغيرة يبدو عليها انها ولدت منذ عهد قريب جدا. وما ان وصل لهناك حتى جاءت الأم التي كانت تشبه ذئبة (٥٦٢). ولكنها كانت أكبر جسما وهذا الحيوان الذي يلد صغاره في الكهوف أو في جحور يدعى الضبع. وقد تسمّر هذا الشاب البائس في مكانه خوفا من أن يؤذيه هذا الحيوان. ولكنها راحت تلعق صغارها ، ثم ذهبت وشأنها ، يتبعها جراؤها خطوة فخطوة. وتابعها هو ، فأخذ يسير في إثر الحيوانات حتى وصل الى مخرج باطني عند حضيض الجبل. وإذا سألني أحد : كيف استطاع هذا أن يرى بصيص نور في هذا المكان؟ ، فإني سأجيبه بأن الوقت المتطاول الذي قضاه في دياجير الظلمة ساعده على رؤية القليل من النور ، كما يحدث هذا لأولئك الذين يمضون وقتا ما في الأماكن المظلمة.

والآن ومع توالي السنين امتلأ هذا البئر بالماء لأن الارض حفرت كثيرا حتى استوت وانبسطت (٥٦٣).

جبل خنيق الغربان

يجاور هذا الجبل الجبل السابق. وهو مكسو بغابات يعيش فيها الكثير من الأسود ، ولا توجد فيه أية مدينة او قرية ، وهو غير مأهول بسبب البرد. وينبع منه نهر صغير. وجروف هذا الجبل عالية جدا ويسكنه الكثير من الغربان ومن ثم جاء اسمه. وكثيرا ما تهب أحيانا في هذا الجبل ريح شمالية تقذف بكميات كبيرة من الثلج

__________________

(٥٦٢) لا يوجد الذئب في هذه الأنحاء.

(٥٦٣) لا تزال المائه بير معروفة حتى الآن وتقع على مسافة ١٠ كم غرب ممر آنجناس الذي يجتازه الطريق من فاس إلى تافيلالت وعلى مسافة ٦ كم تقريبا جنوب ضية إفران.


حتى إن بعض الناس الذاهبين من نوميديا إلى فاس تباغتهم هذه الثلوج فيدفنون فيها ، كما أوردت ذلك سابقا عندما سردت قصة في هذا المعنى. ويقصده في الصيف عرب يسمّون بني حسين ، ويقصدونه في هذا الفصل بسبب برودة مياهه وظله الممتع الذي يجدونه فيه رغم وجود أسود وفهود رهيبة في هذه الأصقاع (٥٦٤).

تزرغه

تزرغه بلدة صغيرة ، من نوع القلاع التي بناها الأفارقة ، فوق نهر صغير يمر في واد من اسفل جبل الغربان. وبيوت هذه البلدة قبيحة وسكانها لا يقلون قبحا عن بيوتها. وهم يجهلون أي شكل من أشكال الحضارة ، ولا يلبسون ثيابا لائقة ولا تبدو عليهم أية زينة. والأرض الزارعية ضئيلة الرقعة ، ولا ينبت فيها سوى القليل من الشعير وبعض الدّراق. ويخضع السكان للعرب الذين يسمون دوى الحسين (٥٦٥).

أم جنيبة

هي مدينة قديمة خربها العرب. وتقع على مسافة اثنى عشر ميلا من المدينة السابقة (٥٦٦) قرب ممر في جبال الأطلس على السفح الجنوبي. وقد كان هذا الممر على الدوام مقطوعا على أيدي العرب ، إذ يوجد قرب المدينة سهل كبير في أيدي العرب الذين لا يخشون الملك. ويظهر بجانب البلدة ضلع يضطر أي شخص يصعد عليه أن يرقص عند اجتياز الممر مع القافلة. ويدّعى شيوخ المنطقة أن أي شخص يمر من فوق الضلع دون أي يرقص يصاب بالحمىّ الرباعية أو الراجعة (٥٦٧). وقد رأيت بنفسي

__________________

(٥٦٤) يسمى المؤلف هذه الممر خنيق الغربان ، أى خانق الغربان الصغير ، وربما هو الذي يسمى في أيامنا ممر أنجنانس على ارتفاع ١٧٠٠ م ، وكثيرا ما يكون غير سالك شتاء بسبب كثرة الثلوج. وتتولد بضعة جداول في هذه الكتلة الجبلية الصغيرة وتجف في الأوقات الغادية.

(٥٦٥) لقد تلاشت هذه المدينة وكانت بالتأكيد واقعة في وادي جيجو ، في جوار بلدة الميس.

(٥٦٦) ٢٠ كم.

(٥٦٧) «حمّى تعود للمصاب مرة كل أربعة أيام» (المترجم)


كيف كان كل الذين يمرون من هنا يمرون وهم يرقصون خشية الحمّى (٥٦٨).

جبل بني مراسن

هذا الجبل عال جدا ، شديد البرد ، ولكن يسكنه قوم لا يخشون القرّ ولدى هؤلاء السكان كمية كبيرة من الخيول والحمير يتوالد عنها الكثير من البغال. وتستخدم البغال هنا دون سروج ولا جلال كحيوانات الحمل. وتجهز فقط بنوع من برذعة خفيفة. وليس لسكان المنطقة بيوت ذات جدران ، بل يعيشون في خصاص من القصب ، لأنهم يهيمون باستمرار لرعى خيولهم وبغالهم. ولا يدفعون أيه ضريبة للملك لأن جبلهم منيع ولأنهم أغنياء جدا ، ويدافعون عن أنفسهم بصورة ناجعة (٥٦٩).

جبل مستاسة

يمتد هذا الجبل من الشرق للغرب على مسافة ثلاثين ميلا (٥٧٠) وعلى عرض يقارب عشرة أميال وهو يتاخم من الغرب سهل آدخسن ، الذي يتاخم نفسه إقليم تامسنه. وهو على مثل بزد الجبل السابق. وهو كذلك مأهول مثله. وسكانه أغنياء ووجهاء. ويملكون عددا كبيرا من الخيول والبغال. وينزع كثير من أدباء فاس إلى أصول من هذه المنطقة. وهناك عدد من رجال الجبل يكتبون بخط في غاية الاتقان. ولهذا ينسخون عددا كبيرا من الكتب ويبيعون مخطوطاتهم في فاس. ولا يدفعون شيئا للملك ضريبة

__________________

(٥٦٨) أم جنيبة ، أي سرطان الماء العذب ، لم تترك أي أثر ، ولكن ظل هذا الاسم يطلق على السهل الواقع حنوب سيفة والضلع الذي يجري بمحاذاته جدول لا يزال معروفا ولكن عادة التراقص التي يذكرها المؤلف أصبحت منسية. ومهما كانت هذه الظاهرة مستغربه فانه من الممكن تفسيرها. فالمنطقة هي بؤرة الحمّى الراجعة ، وهي نوع من الأمراض التي يخشاها أبناء المنطقة. فلربما لاحظوا انهم بمواكبة حوافي الجدول وهم يرقصون ، فان تعرضهم للعدوى سيكون أقل ممّا لو ساروا على مهل ، ولكنهم ما كانوا يعرفون السبب في ذلك ، وهو أن تراقصهم سيعرضهم بشكل أقل للسعات بعوض الأنوفيل التي تكثر بشدة في هذا الجدول.

(٥٦٩) لقد اختفى بنو مراسن من المنطقة ، ويسمح الترتيب الذي اتبعة المؤلف بان نفترض بأنها كانت غرب أم جنيبه في منطقة تمحديث.

(٥٧٠) ٤٨ كم في ١٦ كم.


بل يقدمون له بعض الهدايا القليلة الثمن (٥٧١).

جبال الزيز

دعيت هذه الجبال زيز نسبة لاسم نهر يستمد منها منابعه. وتبدأ من شرق جبال مستاسة. وتتاخم من الغرب سهل تادلة وجبال دادس وتواجه من الجنوب قسما من نوميديا الذي يدعى سجلماسة. وتطل من الشمال على سهول آدخسن وتيغريغرة. وتمتد على طول قدره مائة ميل (٥٧٢) وعرض مقداره اربعون ميلا (٥٧٣) وتضم جبال الزيز هذه خمسة عشر جبلا ، وكلها باردة وموحشة ، تنبع منها أنهار عديدة (٥٧٤) ويسكنها قوم من قبيلة تدعى زناقة ، وهم رجال مخيفون وأقوياء الشكيمة ، لا يأبهون بالبرد ولا بالثلج. ويلبسون دراعة من الصوف يضعونها على جسدهم مباشرة ويضعون فوقها رداء ويغلفون سيقانهم بأقمشة ملفوفة تحل محل السراويل عندهم. ويتركون رؤوسهم حاسرة في كل الفصول.

ولدى هؤلاء الناس الكثير من الخيل والبغال والحمير اذ لا يوجد في جبلهم سوى القليل من الغابات. وهم أكبر اللصوص وأرادأ القتلة في العالم. وعداوتهم تجاه العرب عميقة جدا ويسلبونهم في الليل. وعندما لا يستطيعون فعل شيء آخر يستولون على إبلهم ويرمونها ، على مرأى منهم ، من فوق الجروف الصخرية ، إمعانا في ايذائهم.

ويرى في هذا الجبل شيء يكاد يكون أقرب للخوارق ، ذلك هو كثرة أعداد الأفاعي اللطيفة جدا والأليفة ، حتى أنها لتتجول في البيوت تماما كصغار الكلاب أو القطط الصغيرة وعندما يذهب أحد لتناول طعامه ، تتجمّع كل الثعابين الموجودة في

__________________

(٥٧١) لقد حدد المؤلف مكان حوضة تيغريغرة في إقليم فاس ، ونسب اليها بلدة المعدن العوام وتيغت في تامسئة. وحدّد سهل آدخسن وهو اليوم سهل خنفيرة ، في تادلة. اذن يجب وضع مستاسة بجوار منابع نهر أم الربيع. وقد اختفى هؤلاء من المنطقة ، وربما طردوا أو اندمجوا في قبائل بربرية قادمة من الجنوب.

(٥٧٢) ١٦٠ كم.

(٥٧٣) أو ٦٤ كم. وهنا يناقض المؤلف نفسه ، فمستاسة تفصل بالحقيقة جبال الزيز عن جبال تيغريغرة ، إذ كتب في الكتاب الثاني ، ان جبال دلوس تمتد حتى جبال آدخسن. ولعله يقصد جبل آدخسن وليس سهل آدخسن.

(٥٧٤) ذاك هو خزان ماء المملكة المغربية ، كما كان يقول الماريشال لبوطى ، المقيم العام الفرنسي سابقا.


البيت حوله وتأكل بتآلف قطع الخبز والأغذية الأخرى التي تقدم لها. وهي لا تؤذي أبدا إنسانا إذا هو لم يؤذها (٥٧٥).

وسكان هذه المنطقة رعاع حقيقة ، وهم يسكنون بيوتا مبنية من أعمدة رفيعة مطلية بالطين اللزج ومغطّاة بسقف من قش. وبعض هؤلاء الجبليين الذين يملكون من الماشية أكثر من الآخرين يسكنون أكواخا صغيرة مسقوفة بعيدان القصب.

ويذهب هؤلاء أحيانا الى سجلماسة ، التي كما سبق أن قلنا ، تؤلف قسما من نوميديا. وينقلون هنالك صوفهم وسمنهم. ولكنهم لا يذهبون إليها الا في الفترة التي يكون العرب في أثنائها في الصحراء.

هذا ومع أن العرب هم الذين يهاجمونهم في الغالب ، وبأعداد كبيرة على الخيل ويسلبونهم سلعهم ويقتلونهم ، فان هؤلاء الجبليين لا يقلّون عنهم شجاعة وبسالة. وعندما يشتبكون في معركة لا يحبون ابدا أن يستسلموا وهم أحياء. وكل واحد منهم مسلح بحربتين او بثلاث ولا يخطىء هدفه اطلاقا ، فتارة يقتل الفارس ، وتارة اخرى يقتل فرسه ، لأنهم يناجزون أعداءهم وهم راجلون. وهم لم يغلبوا أبدا في مواجهة خصومهم إلا إذا اشتبكوا مع عدد ضخم من الخيالة. ويحملون أيضا سيوفا وخناجر. ويحصل هؤلاء الجبليون في العادة من العرب على ترخيص مرور ، ويعطون للعرب هذا الترخيص. وهكذا يستطيعون ممارسة التجارة بكل أمان. ويمنحون نفس التراخيص لقوافل التجار الذين يدفعون لكل قبيلة في هذه الجبال حق مرور خاص ، وإلّا تعرضوا للنهب.

مدينة غارسلوين

غار سلوين مدينة قديمة بناها الافارقة عند سفح هذه الجبال على نهر زيز. ولها أسوار قوية وجميلة بناها الملوك المرينيون. وعند النظر الى هذه المدينة من بعيد تبدو شيئا بديعا جدا ، ولكنها بائسة تماما من داخلها. فليس فيها سوى خرائب قبيحة والنادر من السكان ، وهذا بسبب العرب. وعندما انهارت اسرة المرينيين (٥٧٦) وضعت هذه المدينة

__________________

(٥٧٥) يبدو هذا الزعم خرافة لاننا لم نر مطلقا ثعابين تأكل فتات الخبز أو أليفة لدرجة أنها تأكل من يد الانسان. وهذا الأمر لا يمكن ان يكون محتملا إلا بالنسبة للجراذين ، والحرباوات وأشباهها.

(٥٧٦) في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي.


نفسها ، بمحض إرادتها ، تحت سلطة العرب واسمهم بنو حسين الذين أساءوا معاملة السكان. ولا يمكن الحصول على أي دخل من هذه المدينة ، فكل سكانها في فقر مدقع. وليس هناك سوى القليل من الأراضي الصالحة للزراعة. وفي الحقيقة اذا استثنينا الطرف الشمالي ، يكون كل ما حولها عبارة عن أراض عقيمة وحجرية. وتظهر على ضفاف النهر بعض الطواحين وعدد عظيم من البساتين المزروعة بالكرمة والدّراق. وتجفف هذه الثمار وتستهلك طيلة السنة ولا سيما الدّراق. وترفق هذه الثمار الجافة ببعض الأطعمة الأخرى وتصنع منها وجبات يتغذى الناس بها.

والحيوانات هنا قليلة العدد مما يجعل الناس يعيشون في أقصى البؤس. ولم تؤسس زناته هذه المدينة إلّا لتستخدم قلعة ، ولهدف وحيد وهو السيطرة على الممر الى نوميديا. فكانوا يخشون أن تنفذ لمتونه من هنا الى بلادهم. ومع هذا وصلت قبائل لمتونة هذه عن طريق آخر وخربوا المدينة وقوضوها. ويوجد هنا أيضا عدد كبير من الثعابين الأهلية المروّضة كالتي عرضنا للحديث عنها قبل قليل (٥٧٧).

__________________

(٥٧٧) لا يزال جدار سور غارسلوين ماثلا على ضفة النهر ذاتها. أي على الضفة اليمنى لنهر الزيز في كورة غرس. وقد اندثر اسم غارسلوين هذا وتحمل اليوم اسم دّوار. ولم يبق شيء من النبات فيما حولها. وضفة الزيز اليمنى في الشمال عالية تماما ، ولا يوجد فيها أثر للتربة الزراعية. وقد كانت غارسلوين في زمن فتح المرابطين مفتاح الطريق من سجلماسة الى فاس كما كانت المهدية بالنسبة لطريق أغمات ـ فاس مرورا بتادلة. ومن المحتمل أن يكون أول تخريب انتاب غارسلوين في بداية عام ١٠٦٢ م. وكان المرابطون حينئذ سادة سجلماسة والدرعة وذلك منذ ١٠٥٣ م والسوس ابتداء من عام ١٠٥٥ م ، وأغمات من عام ١٠٥٦ ووصلوا الى تادلة وتامسنة في عام ١٥٠٨ م. وفي كانون الاول (ديسمبر) عام ١٠٦١ انطلق ابراهيم ابو بكر بن عمر من سلجماسة الى الصحراء الكبرى مع نصف جيشه ، وعهد بقيادة الشمال الى ابن عمه يوسف بن تاشفين. ومات أبو بكر بن عمر في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٠٨٧ م على أثر اصابته بسهم في ممر جبل في تاغنت ، وفي موريتانيا الحالية ، بينما كان لا يزال هو المعترف به زعيما أعلى للمرابطين. وما أن أصبح يوسف بن تاشفين مطلق اليدين حتى راح يمركز جيوشه ، وعددها أربعون الف مقاتل ، في وادي الملّوية الأعلى. وكان لا بد ان يتحاشى فم زهبل ، وهو ممر خطر على الطريق المباشر بين سجلماسة والملوية وإلى فاس ، فاحتل غارسلوين من الخلف كي يتحاشى هذا الممر ويجعل الطريق حرة.



القسم الرابع



مملكة تلمسان

يحد مملكة تلمسان من الغرب نهرزا ونهر الملوية ، ومن الشرق نهر الواد الكبير (١) وصحراء نوميديا من الجنوب. وكانت هذه المملكة تدعى في القديم قيصرية (٢). وكانت في ذلك العصر تحت سلطة الرومان. وبعد أن غادر الرومان افريقيا ، عادت الى ملوكها القدامى الذين كانوا من بني عبد الواد ، وهو فرع من قوم مغراوة. واحتفظوا بإمارتها مده ثلاثمائة عام إلى أن استلم السلطة الملكية أمير كبير اسمه غمراسن بن زيّان ، وظلت في أيدي أحفاده. وقد بدّل هؤلاء الملوك اسم الأسرة وأصبحوا يدعون بني زيان ، أي أبناء زيان ، الذي كان والد غمراسن (٣).

واحتفظ بنو زيان بالسلطة مدة ثلاثمائة سنة ، ولكنهم تعرضوا لمضايقات ملوك فاس ، اي من بني مرين. واستنادا إلى ما يرويه التاريخ فإن مملكة تلمسان خضعت عشر مرات لهؤلاء الملوك فتحا. وفي ذلك العصر سقط بعض ملوك بني زيان قتلى ، كما وقع بعضهم أسرى ، في حين اضطر بعضهم إلى الالتجاء الى الصحارى عند جيرانهم

__________________

(١) ويسمى حاليا واد الصمّام.

(٢) موريتانيا القيصرية.

(٣) يبدو أنه على أثر الفتح العربي في بداية القرن السابع ميلادي كانت القبائل المستقرة في منطقة تلمسان تحت سلطة فرع من بني ايفرن ، وهي إحدى القبائل الرئيسية من زناته ، وهم من الرعاة والبدو. وكان فرع من مغراوة ، وهو أهم أقوام زناته ، يشغل المنطقة الواقعة إلى الشرق من ذلك. وفي ذلك الوقت كان بنو عبد الواد ، وهم فرع من بني واسين ، وهؤلاء قبيلة أخرى من زناتة ، كانوا في حالة بداوة ، يتجولون في الزاب وفي جبال الأوراس. وقد شكّل بنو عبد الواد فرقة من جيوش عقبة بن نافع الذين قادهم في مسيرته نحو الغرب عام ٦٨٢ ه‍ وأبلوا معه بلاء حسنا. وقد انهارت قوة بني ايفرن في أثر الفتح الفاطمي في القرن العاشر الميلادي أمام مغراوة الذين لم يفقدوا سلطتهم في تلمسان إلا على أثر فتح هذه المدينة على أيدي المرابطين عام ١٠٧٩ م. وفي هذا العصر تمت إزاحة بني عبد الواد عن الزاب في منطقة قسنطينة على يد العرب الهلاليين ، وجاءوا ليستقروا في جنوب منطقة وهران الحالية. ولم يظهروا على مسرح الأحداث في منطقة تلمسان إلا في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي ، كخصوم أولا ثم كحلفاء الفاتح الموحّدي عبد المؤمن. وفي عام ١٢٣٦ م أخذ أميرهم يغمراسن بن زيان ، وكان محاربا قديرا ، كل صفات الزعامة الملكية ، تحت رئاسة الخليفة الموحّدي في مراكش ، وكان هذا رد فعل ضد بني مرين ، وهم من زناته بني واسين ، الذين أصبحوا سادة في شمال المغرب.


العرب. كما طرد ملوك تونس (٤) بعضهم. غير أنهم كانوا يستردون السلطة دائما. واستطاعوا أن يستمتعوا بها مدة مائة وثلاثين سنة تقريبا (٥) بدون أن يتعرضوا لأذى من أي ملك غريب ، إلا من أبي فارس ، ملك تونس ، ومن إبنه عثمان. فهذا الأخير فرض على تلمسان دفع الجزية لتونس مدة من الوقت استمرت حتى وفاته (٦).

وتمتد مملكة تلمسان على مسافة خمسمائة وثلاثين ميلا من الشرق للغرب (٧). ولكنها ضيقة جدا من الشمال الى الجنوب. فبين البحر المتوسط وبين تخوم صحراء نوميديا لا يوجد ، في بعض النقاط ، سوى مسافة لا تزيد عن خمسة وعشرين ميلا (٨). وهذا هو السبب الذي جعل هذه المملكة معرضة باستمرار لسوء المعاملة وللإذلال الخطير على أيدي العرب الذين يسكنون الجزء المجاور من الصحراء. وكان يضطر ملوك تلمسان دائما لكسب هدوئهم يدفع إتاوات ضخمة وتقديم الهدايا لهم. ولكنهم لم يتمكنوا ابدا من استرضائهم جميعا. وكان من النادر ان يتمكن احد من العثور على بعض الطرق الآمنة. ولكن مع هذا كانت هناك حركة كبيرة في تجارة السلع في مملكة تلمسان هذه لقربها من نوميديا ولأنها تؤلف محطة على الطريق المؤدية لبلاد السودان.

وفي هذه المملكة اثنان من المراسي المشهورة هما مدينة وهران والمرسى الكبير. وكان يقصد هذين الميناءين عادة الكثير من التجار الجنويين والبنادقة الذي كانوا يزاولون فيها التجارة الكبرى عن طريق المقايضة.

وقد سقط الميناء في يد الملك الكاثوليكي فرناندو (٩) وكان ذلك خسارة جسيمة على مملكة تلمسان حتى ان الشعب طرد الملك أبا حمّو ، وجيء بشخص يدعى أبا زيان ،

__________________

(٤) الحفصيون.

(٥) أي منذ انهيار سلطة المرينيين في نهاية القرن الرابع عشر.

(٦) لقد احتل ابو فارس عبد العزيز سلطان تونس الحفصي مدينة تلمسان بتاريخ آيار (مايو) ١٤٢٤ م واكتفى بقبول بني زيان أتباعا له. واندفع حفيده ابو عمرو عثمان حتى أسوار تلمسان سنة ١٤٦٢ م ، ثم فى ١٤٦٦ لتوطيد الأمن فيها وتوفى سنة ١٤٨٨ م.

(٧) أي ٩٣٠ كم وهي المسافة التقريبية بين نهر الملوية وواد الصمام

(٨) ٤٠ كم.

(٩) سقط المرسى الكبير في أيار (مايو) ١٥٠٦ ووهران في ١٨ أيار (مايو) ١٥٠٩ م.


وهو عم ابي حمّو ووالده عبد الله ، بعد ان اطلق سراحه من السجن ، ووضع على العرش ، ولكنه لم يتمنع بذلك كثيرا ، لأن هذا العرش كان مطمع التركي باربروس ، الذي قتل أبا زيان غدرا وأصبح ملكا على المملكة. ولكن عند ما طرد الشعب أبا حمّو ، ذهب فورا إلى وهران وسافر منها الى أسبانيا لمقابلة صاحب الجلالة الامبراطور شارل. وناشده بكل تواضع وتضرّع ان ينجده ويساعده ضد أهالي تلمسان وضد التركي باربروس ، وقد برهن الامبراطور الكبير على رحمة وشفقة ندر أن بدا مثلهما من أسلافه ، حتى إنه عفا عن الملك وأرسل معه جيشا طيبا وعظيما دخل أبو حمّو بواسطته إلى مملكته وقتل باربروس مع عدد من جماعته (١٠).

وبعد هذه الأحداث كافأ أبو حمّو القوات الاسبانية ، ورغبة منه في الطمأنينة ، ظل وفيا لتعهداته التي قطعها على نفسه تجاه الامبراطور وذلك بأن راح يرسل له كل عام الجزية المحددة (١١). وقد تمسك بهذه المعاهدة مدة حياته. وبعد موته (١٢) ، آلت المملكة إلى اخيه عبد الله الذي رفض طاعة الامبراطور وتنفيذ بنود المعاهدة التي وقّع عليها أخوه. وذلك بسبب الثقة التي كانت له في قوة سليمان ، امبراطور الأتراك. ولكن السلطان هذا لم يقدم له سوى القليل من العون. ولا يزال عبد الله حيا حتى الساعة الحالية ويعمل على تدعيم سلطته(١٣).

__________________

(١٠) لقد أدى تشابه الاسماء إلى جعل تاريخ سلاطين تلك الفترة غامضا إلى حد ما. وإليكم بعض التوضيحات حول النص يقدمه لنا المؤلف. فقد سقط المرسى الكبير ووهران تحت سلطة الأسبان في عهد الملك أبي عبد الله الذي ارتقى العرش سنة ١٥٠٥ م ، أما أخوا هذا الملك اللذان تأمرا ضده فهما أبو زيان الذي أودع السجن ، والثاني يحيى الذي هزم والتجأ إلى فاس. وعلى أثر موت أبي عبد الله سنة ١٥١٦ م ، نودى بابنه «ابو حموّ» ملكا وترك عمه أبو زيان في السجن. ولكن عند ما أتهم أبو حمو بالتواطؤ مع الأسبان اضطر للهرب إلى وهران والذهاب في طلب العون من شارل الأول ملك اسبانيا ، والذي لم يتوج امبراطورا على المانيا إلا في ٢٨ حزيران (يونيه) ١٥١٩ م. وأمدّه شارل الأول بألفي رجل فنزلوا في رشفون في أواخر عام ١٥١٧ م ولم يحاربوا بحماس كبير. وبعد هرب أبي حموّ ، نودى بعمه أبي زيان ملكا على تلمسان. ولما توجّس خيفة من التطلعات الأسبانية ارتكب الغفلة بطلب العون من عروج باربروس ، الذي وصل مع جنوده الأتراك الى تلمسان وقتل الملك وذبح أسرته واستولى على السلطة. وأخيرا دخلت القوات الأسبانية الى تلمسان فهرب باربروس الذي طاردته فصيلة أسبانية إلى أن أدركته عند بني سناسن وقتلته مع حرسه ، ويعتقد ان ذلك حدث في عام ١٥١٨ م وعندئذ استرد أبو حموّ سلطته على تلمسان.

(١١) وهي ١٢٠٠٠ دينار من الذهب ، و ١٢ حصانا ، وستة من إناث الصقور.

(١٢) في ١٥٢٨ م.

(١٣) أبو محمد عبد الله نودى به عام ١٥١٨ ، والذي يعتقد أنه حكم حتى ١٥٤٠ م وأرسل خطاب وفاء وطاعة لخير الدين ـ


والقسم الأعظم من مملكة تلمسان عبارة عن مقاطعة جافة عقيمة ، ولا سيما في قسمها الجنوبي. ولكن السهول القريبة من السواحل منتجة جدا بسبب خصوبتها. وكل النطاق المجاور لتلمسان يقع في السهل مع وجود بعض الصحارى. وهناك جبال قرب الساحل إلى الغرب منها ، وكذلك في دولة تنيس وفوق منطقة الجزائر حيث يوجد عدد كبير من الجبال ، وجميع هذه الجبال خصيبة منتجة.

ولا يوجد سوى القليل من المدن والقصور في هذه المملكة. غير أن هذه البلدان تكون مزدهرة في المنطقة الخصيبة ، كما سنذكر ذلك عند الكلام على كل منها على حدة.

صحراء أنجاد

تبدأ مملكة تلمسان من الغرب بسهل خاو ، موحش ، وجاف ، حيث لا ماء فيه ولا شجر. ويمتد على طول مقداره حوالي ثمانين ميلا وعلى عرض يقارب الخمسين من الأميال (١٤) ، ويعيش فيه عدد كبير من الغزلان ، ومن الوعول والنعام. وهو بؤرة عصابة من اللصوص من العرب (١٥) قطاع الطريق الذين يغتالون الناس بلا رحمة نظرا لأن الطريق من فاس الى مكناس يمر من هذه البقعة. ويندر ان يفلت التجار من أيديهم ، ولا سيما في الشتاء ، لأن العرب الذين تدفع لهم إتاوة لحماية هذه البلاد يكونون حينئذ قد غادروها إلى نوميديا. اما الذين لا يدفع لهم الملك إتاوة فهم يمكثون كي يعتاشوا من قطع الطريق على السابلة. ويقضي الكثير من الرعاة أيضا فصل الشتاء في هذه الصحراء ، ولكن الأسود تفترس أو تشوّه عددا كبيرا من أغنامهم ، وحتى من الرجال إذا وجدت الى ذلك سبيلا.

__________________

ـ بربروس بعد أن استولى هذا على ميناء الجزائر في ٢٧ أيار (مايو) ١٥٢٩ م. وورود عبارة «لا يزال حيا حتى الساعة الحالية» وكذلك لقب «جلالته» الممنوح للامبراطور الكبير شارل الذي توج امبراطورا في بولونية بتاريخ ٢٤ شباط (فبراير) ١٥٣٠ م. كل ذلك يدل على أن هذه الفقرة قد كتبت بعد هذا التاريخ ، في حين أن كتاب الحسن الوزان يحمل تاريخ ١٠ آذار (مارس) ١٥٢٦ م.

(ويقودنا هذا الى الشك ببعض التعابير والجمل الواردة في النص كألقاب التفخيم لملوك اسبانيا أو الإشادة بمظاهر التمدن في ايطاليا عند مقارنتها بالأوضاع في افريقيا ، والتي ربما دسّها النسّاخون الطليان بعد مغادرة الحسن ايطاليا وعودته لدار الاسلام في تونس حيث توفي كما يرد ذلك لدى العديد من المستشرقين) (المترجم).

(١٤) ١٣٤ كم في ٨٠ كم.

(١٥) من قبيلتي حدج وجعوان.


قصر تيمزيزدغت

تيمزيزدغت قصر يقع على التخوم الفاصلة بين الصحراء وكورة تلمسان. وقد شيّد في الماضي فوق جرف. وكان ملوك فاس يجعلونه في وضع دفاعي لحراسة نقاط المرور التي تسلكها قوات ملوك فاس. ويجري نهر التافنه عند سفح هذا القصر ، وتحيط به أراض طيبة حيث يزرع الضروري للسكان. وقد ظل هذا القصر مدة طويلة تحت سلطة ملك تلمسان ، وكان موضع عنايته. ولكن بعد أن آل لأيدي العرب تحول إلى نوع من زريبة لا يتركون فيه سوى حنطتهم وبراذع جمالهم. وقد هرب سكانه على أثر سوء معاملة العرب لهم (١٦).

قصر إيسلي

إيسلي قصر قديم بناه الأفارقة في سهل يتاخم الصحراء السابقة. وتوجد حوله بعض الأراضي التي تزرع بالشعير والذرة. وقد كان فيما مضى من الزمن مأهولا بصورة جيدة ومحاطا بأسوار قوية تهدمت في أثناء الحروب وظل القصر مهجورا بعض الوقت. ثم أعيد استيطانه على أيدي رجال يعيشون فيه على طريقة الرهبان ، ويتمتعون باحترام كبير من ملك تلمسان ومن العرب. ويقدم هؤلاء الطعام والشراب لكل المسافرين بكل بشاشة ، وذلك بالمجان في اغلب الأوقات. ولا يوجد في هذا القصر سوى خرائب بائسة ذات جدران من الطين وسقوف من القش. ويمر قريبا منه جدول يستخدم لري المزروعات لأن المنطقة على درجة من الجفاف لا تسمح بنمو شيء من المزروعات بدون ري (١٧).

__________________

(١٦) تيمز يزدغت ومعناها بالبربرية «المصفاة». وهم اسم لا يزال القبائليون يطلقونه على تكلات ، وهي أطلال مستعمرة رومانية قديمة اسمها توبوسكوتر قرب بجاية. وقد أعطى هذا الإسم ألى تكلات سنة ١٣٢٦ م على اثر بناء قلعة تعيد للاذهان ذكرى قلعة بني عبد الواد في الغرب ، وهي التي تخربت في تلك الفترة. وقد ظلت الأبحاث التي جرت للتعرف على موقع هذه الأخيرة بدون طائل. ونحن نفترض وجودها فوق تل المحصر الذي يشرف على ممر التافنة ، وهو الذي أستغل حاليا لمرور الخط الحديدي بين تلمسان وفاس ، وكانت تكلات تسيطر من موضعها على ممرّ الصمّام الذي تسلكه السكة الحديدية بين بجاية وبني منصور ، وربما أعتبرت الأطلال التي تتوج هذا التل خطأ انها رومانية.

(١٧) لقد أصبح هذا الأسم شهيرا على أثر انتصار الماريشال بوجو ، الذي منح لقب دوق ايسلي ، على القوات المغربية عام ١٨٤٤ م ، وهي التي جاءت لنجدة الجزائريين بقيادة الأمير عبد القادر ، الذين كانوا يناهضون الأحتلال الفرنسي ـ


مدينة وجدة

وجدة مدينة قديمة أسسها الأفارقة (١٨) في سهل فسيح جدا على مسافة تقارب الأربعين ميلا (١٩) جنوب البحر المتوسط وعلى نفس المسافة تقريبا من تلمسان. وتتاخم من الشرق صحراء أنجاد. وكل أراضيها الزراعية غزيرة الانتاج. وينتشر حول المدينة العديد من مزارع الأشجار ، المزروعة في معظمها بالتين والكروم ، ويخترق المدينة نهر يستخدمه الناس للشرب وللحاجات الأخرى. وقد كانت أسوارها في الماضي قوية جدا وعالية ، كما أن بيوتها ودكاكينها كانت حسنة البناء جدا وكان سكانها أغنياء مهذبين وشجعانا. ولكن نتيجة للحروب التي تعاقبت بين ملوك فاس وملوك تلمسان انحازت المدينة لجانب ملوك تلمسان وتعرضت للنهب والتخريب (٢٠). وبعد أن خمد أوار الحروب أخذت المدينة تعمر بسكانها من جديد وتجدد بناء كثير من مساكنها (٢١). ولكن لم تعد إلى حالتها الأولى. وليس فيها الآن أكثر من خمسمائة بيت مسكون. وسكانها فقراء لأنهم يدفعون إتاوة لملك تلمسان وللعرب جيرانهم في صحراء أنجاد ، ويلبسون زي الفلاحين مع ألبسة قصيرة من قماش غليظ. ويربون عددا كبيرا من حمير جميلة ضخمة تنتج بغالا بديعة كبيرة القامة تباع بسعر مرتفع في تلمسان. ويتكلمون اللغة الافريقية القديمة. والقليل منهم من يعرف العربية المحرّفة التي يتحدث بها أبناء المدن

مدينة ندرومه

بنيت هذه المدينة في العصور القديمة على يد الرومان عند ما كانوا يحكمون المنطقة. وقد شيّدوها فوق رقعة كبيرة ، في سهل ، على مسافة ميلين من الجبل واثنى عشر ميلا من البحر المتوسط. ويمر بجوارها نهر هزيل. ويقول مؤرخونا أن الرومان

__________________

ـ الضاري. ولكننا نعتقد أن من المحتمل أن يكون قصر ايسلي في موقع الأطلال المعروفة حالية بإسم قصر العجا ، في منطقة قبيلة زكار ، على مسافة ١٨ كم تقريبا جنوب غرب وجدة.

(١٨) في عام ٣٨٤ ه‍ / ٩٩٤ م.

(١٩) ٦٤ كم.

(٢٠) في شباط (فبراير) ١٢٧٢ م على يد السلطان يعقوب المنصور المريني.

(٢١) في عام ١٢٩٧ م على يد السلطان المريني يوسف بن يعقوب.


بنوها في نفس الموقع وحسب نفس مخطط مدينة روما. ومن هذا جاء اسمها. لأن «ند» في اللغة الافريقية له نفس معنى كلمة سيميليس من اللاتينية (٢٢).

ولا تزال أسوارها على حالها ، ولكن بيوتها تهدمت فيي الماضي والآن أعيد بناؤها بصورة غاية في القبح. ولا يزال حول المدينة بعض الآثار من الأطلال القديمة (٢٣) وأريافها منتجة للغاية ، وتظهر حول ندرومه بساتين عديدة وأراض مزروعة بالخروب الذي يأكل الناس كثيرا منه ، سواء في المدن او في بقية المنطقة. كما يستعمل العسل في الغذاء وينتج هنا منه كمية كبيرة. وتبدو ندورومة الآن مزدهرة لأن الصنّاع كثيرون فيها. وتصنع فيها على الخصوص أقمشه القطن الذي ينبت بكثرة في المنطقة.

ويستطيع أهلها أن يعتبروا أنفسهم أحرارا ، لأنهم يتمتعون في الواقع بحماية جيرانهم الجبليين (٢٤) ولا يستطيع الملك الحصول على أية إتاوة من هذه المدينة ويرسل اليها حكاما يتوقف بقاؤهم على قبول اهل المدينة لهم ، فإذا لم يعجبوهم ردّوهم من حيث أتوا. غير أن سكان ندرومة يرسلون للملك أحيانا هدية صغيرة كي يتيسر لهم بذلك تصدير سلعهم إلى تلمسان.

مدينة تبحريت

تبحريت مدينة صغيرة من بناء الأفارقة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، فوق جرف ، على مسافة اثنى عشر ميلا من ندرومه (٢٥) ، والجبال بجوارها عالية ووعرة (٢٦) ، ولكنها كثيفة السكان. وكل سكان تبحريت تقريبا من الحاكة. ولديهم الكثير من الحقول المزروعة بالخروب وينتجون كمية كبيرة من العسل. والواقع أنهم يعيشون في خوف مستمر من هجوم النصارى خلال الليل ، ولهذا يقيمون حراسة يقظة

__________________

(٢٢) ند لها معنى كلمة «مماثلة» في العربية وليس في البربرية. ولم يعثر على أي اثر روماني في ندرومه. وليس في موقعها ما يشبه موقع روما ، أما إسمها فهو اسم فخذ من قبيلة كومية القديمة التي استوطنت المنطقة.

(٢٣) وقد اختفت في أيامنا.

(٢٤) رجال قبيلة متغارة.

(٢٥) لقد اختفت تبحريت ، ولكن اسمها بقي على مسافة ٣٠ كم شمال غرب ندرومه. ومن المحتمل ان المدينة كانت فوق رأس قلعة تشرف على البحر من ارتفاع ١٢٥ م.

(٢٦) يقع جبل زندل على مسافة ٤ كم إلى الجنوب منها ، ولا يتجاوز ارتفاعه ٦١٣ م.


في كل ليلة لأن فقرهم لا يسمح لهم بأن يدفعوا مرتبات العساكر. والأراضي الواقعة بالقرب منها حصوية وهزيلة ، ولا ينبت فيها سوى القليل من الشعير والذرة ، ولباس سكانها رث ، وهم أجلاف تعوزهم التربية.

مدينة حنين

حنين مدينة صغيرة قديمة أقام بنيانها الأفارقة. وهي لطيفة جدا وتتمتع بصيانة كبيرة. وتملك مرسى صغيرا محميا ببرجين ، كل واحد من طرف. وهي محاطة بأسوار عالية وحصينة ولا سيما من طرف البحر. وتأتي سفن البنادقة كل سنة. ويحصل هؤلاء في كل سنة على أرباح طائلة بالمتاجرة مع تجار تلمسان التي لا تبعد عن حنين بأكثر من أربعة وثلاثين ميلا (٢٧). وعند ما سقطت وهران بيد الأسبان لم يعد البنادقة كعادتهم يقصدون المدينة المذكورة المليئة بالجنود الأسبان. وكان سكان حنين في الماضي أناسا نبلاء ومتميزين. وكانوا جميعا يعملون في صناعة القطن والمنسوجات. وكانت بيوتها جميلة جدا منمّقة. وكان لكل بيت بئره من الماء العذب وصحنه المزين بحاملات الكروم ، وكانت المنازل مبلطة ببلاط ملوّن. كما كانت سطوح الغرف أيضا مبلّطة بنفس البلاط كذلك ، وكانت الجدران مكسوّة برمتها بالفسيفساء الفنّي. ولكن عند ما بلغهم نبأ سقوط وهران (٢٨) تركوا جميعا المدينة وظلت مهجورة. ويرسل اليها ملك تلمسان ، أمير قصر يشغل القلعة مع بعض الجنود المشاة ، وذلك لكي يخبر الملك عن وصول السفن التجارية.

ولا تزال المزارع التي تجاورها تنتج حتى الوقت الحاضر كميات من الثمار كالكرز والمشمش والتفاح والكمثرى والدّراق ، ومقادير لا تحصى من التين والزيتون. ولكن ليس هناك من يقطفها في البساتين الواقعة على حافة النهر القريب من المدينة وحيث شيّدت الطواحين. وعند ما مررت من هنالك ، تألمت من شدة التأثر بعد أن لا حظت الحالة البائسة التي انحدرت اليها المدينة. وقد كنت بصحبة حاجب تلمسان الذي جاء لجباية الرسوم من سفينة جنوية ، جلبت بضائع لتموين تلمسان لمدة خمسة أعوام.

__________________

(٢٧) ٥٤ كم.

(٢٨) في ١٨ أيار (مايو) ١٥٠٩ م.


وكانت الضرائب التي يحصل عليها الملك تبلغ مجموعا قدره خمسة عشر ألف دينار ، من الذهب المسكوك ، وقد أراني الحاجب إياها.

رشغون

رشغون مدينة كبيرة قديمة بناها الأفارقة فوق جرف يحيط به البحر من كل جانب باستثناء الجنوب حيث يوجد درب يهبط من الجرف نحو البحر. وتقع على مسافة أربعة وثلاثين ميلا (٢٩) من تلمسان. وقد كانت مدينة مأهولة كثيرا وآمنة جدا. وهنا كان يحكم سليمان عم إدريس (الثاني) الذي أسس فاس. وقد اختاره الشعب واحتفظت أسرته بالسلطة فيها مدة مائة عام. وبعدئذ قدم ملك القيروان ـ وكان كذلك رئيسها الديني ـ ودمّر المدينة. وظلت مهجورة مدة تقارب مائة وعشرين سنة. ثم أعمرها من جديد أناس قدموا من مملكة غرناطة مع جيش المنصور ، حاجب قرطبة (٣٠). وقام المنصور بترميم المدينة كي تكون مفيدة له في الحالة التي يرسل فيها قوات الى افريقيا. ولكن بعد وفاة المنصور (٣١) وابنه المظفر (٣٢) طردت كل جنودهما من البلاد أو قتلها رجال صنهاجة ومغراوة. وقد تخربت المدينة في مناسبات عدة ، كما حدث في عام ٤١٠ هجرية (٣٣).

__________________

(٢٩) ٥٤ كم.

(٣٠) المنصور بن ابي عامر ، حاجب الخليفة الأموي هشام في قرطبة.

(٣١) في آب (اغسطس) ١٠٠٢ م.

(٣٢) توفي في شهر تشرين الأول (اكتوبر) ١٠٠٨ م.

(٣٣) كانت ارشغول أو رشغول في القرن التاسع الميلادي ، اهم مدينة على الساحل بين نكور وتينس ، لأن وهران لم تكن موجودة حينذاك. وكانت قائمة في منحنى على نهر التافنة ، وربما قرب أطلال سيغا التي تحمل في أيامنا اسم تاكمبريت ، والتي كانت إحدى عواصم المملكة البربرية الكبرى ، اي مملكة الماسايل. وكانت المراكب الصغيرة وحدها هي التي تستطيع بلوغ المدينة ، وكان ميناؤها الحقيقى واقعا في جون في جزيرة تدعى في أيامنا رشغون. وهنا تم اللقاء العرضي ، في أرض محايدة ، في عام ٢٠٦ قبل الميلاد ، بين الجنرال الروماني بوبليوس سيبون وبين عدوه ، الجنرال اسد روبال القرطاجي ، اللذين اتفق أن كانا ضيفين على الملك سيفاكس أو صوفاك. وبعد ان أسسّ ادريس بن عبد الله في وليلي أول إمارة علوية في المغرب ، في أواخر القرن الثامن الميلادي ، أمر اخوه كي يستقر في تلمسان ، وبعدئذ قام أبناؤه وأحفاده بتكوين إمارات بين تلمسان والمنطقة الغربية من «حضنه» التي كانت حينئذ على تخوم أراضي أمراء القيروان الأغالبة الذين كانوا يعترفون بسلطة خليفة بغداد العباسي.

وأول أمير من نسل سليمان في ارشغول كان عيسى بن محمد بن سليمان المتوفي سنة ٩٠٧ م. وفي ٩٢٩ م قام خليفة ـ


المدينة الكبرى تلمسان

تلمسان (٣٤) مدينة كبيرة وعاصمة المملكة. ولا يذكر التاريخ اسم مؤسسها (٣٥) ويقال أنها كانت مدينة صغيرة أخذت في الامتداد في اعقاب خراب رشغون ، وخاصة بعد أن طردت قوات الحاجب المنصور من المنطقة. وعندما حكمت أسرة عيد الواد (٣٦) توسعت تلمسان حتى أنها أصبحت تحوي ست عشرة ألف أسرة في عهد الملك تاشفين (٣٧) وبلغت حقا درجة سامية من الأزدهار.

ولكن تلمسان قاست كثيرا لأن يوسف ، وهو ثاني ملك من بني مرين ، ضرب الحصار عليها ، وبنى مدينة أخرى الى الشرق منها ، وظل محاصرا تلمسان مدة سبعة أعوام (٣٨). وبلغ الغلاء درجة جعلت كيل القمح يصل إلى سعر قدره ثلاثون دينارا وكيل

__________________

ـ القيروان الفاطمي عبيد الله بالاستيلاء على بلاد البربر الغربية ابتداء من تاهرت التي دانت له بالطاعة عندئذ حتى البحر ، وذلك بواسطة أمير زناتي هو موسى بن أبي العافية ، أمير قبيلة مكناسه شمالي تازة. وقد اعترف أمير ارشغول بسلطة خليفة القيروان. ولكن في شهر آب (أغسطس) ٩٣٢ م تخلّى موسى المذكور عن ولائه للفاطميين كي ينحاز لسلطة الخلفاء الأمويين في قرطبة وكادت القوات الأندلسية أن تستولي على جزيرة ارشغول في شهر أيلول (سمبتمبر). واضطر الأمير السليماني إلى الاستسلام بعدئذ ، لأن الخليفة الفاطمي ابا القاسم محمدا القائم عمد بعد أن تسلّم زمام الحكم إلى إرسال قائده الأعلى ، منصور الخصّي ، كي يفتح المغرب من جديد وقام هذا ، في عام ٩٣٥ م ، بنفي أمير ارشغول السليماني الى المهدية. ويسود الصمت بعدئذ على تاريخ ارشغول التي ظلت مع ذلك مدينة مزدهرة. ولا نعرف شيئا عن العمليات الأموية التي ربما حدثت فوق هذه المنطقة ، ولا عن احداث عام ٤١٠ ه‍ / ١٠١٩ م. وقد تخربت مدينة ارشغول شأن عدد كبير من امثالها بين تلمسان وسوق حمرة ، التي تدعى اليوم بويره ، على أثر التمرد الزناتي الكبير الذي حرض عليه الدعىّ المرابطي يحيى بن غانية بعد عام ١٢٠٨ م ، وهو التمرد الذي قوضّ سلطة الموحدين في المنطقة لأن كل الجيش الموحدي أبيد تقريبا بعد هزيمة لا نافاس دوتولوزا أو حصن العقاب بتاريخ ٦١٠ ه‍ / ١٢١٣ م لا في عام ٤٠٠ ه‍ كما يذكر المؤلف. وقد عمل سكان ارشغول الذين التجأو الى تلمسان على ازدهار هذه المدينة الأخيرة التي اصبحت في عام ١٢٣٦ م عاصمة السلطنة الزناتية أو بني عبد الواد ، ولكن ظلت جزيرة ارشغول مع ذلك ميناء تتردد عليه المراكب.

(٣٤) جاء اسم تلمسان من كلمة بصيغة الجمع بالبربرية ، وتنسب الى تلماس ، وتيلمس ، ومعناها المكان الذي يستقر فيه الماء.

(٣٥) كانت تدعى بوماريا في العصر الروماني ، أي مزرعة الأشجار المثمرة.

(٣٦) والصحيح أسرة بني زيان من قبيلة بني عبد الواد.

(٣٧) أبو تاشفين عبد الرحمن وحكم بين تموز (يوليه) ١٣١٨ م و ٢٩ نيسان (ابريل) ١٣٣٧ م.

(٣٨) استمر حصار تلمسان من قبل ابي يعقوب يوسف الناصر ثمانية اعوام ، أي من ١٢٢٩ الى ١٠ أيار (مايو) ١٣٠٧ م وقد قامت المدينة المرينية ، المنصورة ، الى الغرب من تلمسان وليس في شرقها كما ورد اعلاه.


الملح (٣٩) ثلاثة دنانير ورطل اللحم (٤٠) ثلث دينار (٤١). ولما عجز الشعب عن احتمال هذه المجاعة اشتكى الى الملك. وأجاب هذا بأنه سيقدم عن طيب خاطر لحم جسده إذا كان ذلك كافيا لإطعامهم جميعا ، معتبرا لحمه قليل القيمة في مقابل وفائهم. واستدعى خمسة أو ستة من سراة المدينة وأرسلهم الى مطبخه كي يروا وجبة طعامه لذلك اليوم ، وكانت تتألف من خليط من لحم حصان وحبات شعير سليمة ، وأوراق برتقال وزيتون واشجار اخرى كي يكبر حجمها في بادىء النظر اليها. وبذلك عرف الشعب أن الشدّة التي يعانيها الملك كانت أكبر من ضيق أي واحد من المواطنين. وحينئذ استدعى الملك (٤٢) أولاده وأخوته وحفدته وتوجه اليهم بكلام مؤثر وخلص من كلامه الى انه مستعد للموت بشجاعة أمام العدو عوضا عن الاستمرار في حياة مهينة وبائسة. وشعر هؤلاء بنفس الشجاعة التي كانت لديه وانه ليس أمامهم إلا اللحاق به غدا. وقد عبّر الشعب قاطبة عن رضاه. ولكن شاء الحظ السعيد أن حدث في نفس الصباح الذي تحدّد فيه موعد خروجهم أن قتل الملك يوسف بيد أحد خصيانه في اثناء نوبة جنون اعترته. وقد فت الخبر في عضد المحاصرين ، ولما انتقل الخبر الى تلمسان ، زاد من جرأة السكان الشجعان ، فنفروا جميعا لقتال أعدائهم وفي مقدمتهم الملك نفسه ، وأحرزوا انتصارا لم يكن في حسبان الملك في بادىء الأمر. وقد قتل عدد كبير من الأعداء ولاذ كثير منهم بالفرار بدون نظام. واستولى الجيش المنتصر على كثير من الماشية التي اضطر العدو الى التخلي عنها. ونعمت المدينة بعد مجاعتها برخاء كبير حتى إن كيل القمح (٤٣) الذي كان سعره في الصباح ثلاثة دنانير اصبح بدرهمين عند الظهيرة (٤٤) ، غير ان كلّا منهم كان يعاني الكثير من الألم بسبب طول الحصار الذي خضع له.

وبعد أربعين عاما من ذلك بنى أبو الحسن ـ وهو رابع ملك في فاس من الأسرة المرينية ـ مدينة على مسافة ميلين غربي تلمسان وحاصر تلمسان بالعديد من الجيوش.

__________________

(٣٩) ٧ ، ١٣ لتر.

(٤٠) أي ٣٤٠ غرام.

(٤١) لا نعرف قيمة الدينار الزياني في ذلك العصر ، ولعله كان يعادل ١٤ غرام ذهب.

(٤٢) هو أبو زيّان محمد.

(٤٣) ١٧ ، ١٣ لتر.

(٤٤) أو ١٣ سنت ذهب.


واستمر هذا الحصار ثلاثين شهر. وكانت الهجمات يومية. ففي كل مساء كانت تبنى زاوية محصّنة لجلب الجنود بأمان حتى أسفل السور. ودخل ملك فاس الى تلمسان بقوة السلاح ، ونهبها ، ثم اقتاد ملك تلمسان إلى فاس أسيرا حيث ضرب رأسه ورمى بجسده فوق قاذورات المدينة (٤٥) وبعدئذ عمل الملك على تخفيف بعض الأضرار التي لحقت بمواطني تلمسان وقصد مملكة تونس بعد أن ترك فيها إبنه عثمان (٤٦) نائبا على مملكة تلمسان ، وكانت تلك هي الكارثة الثانية لتي حاقت بمدينة تلمسان (٤٧)

وفي المرحلة التي ضعفت فيها سلطة المرينيين ، كان سكان تلمسان قد تكاثر عددهم حتى لقد أصبح عدد بيوتها المسكونة يضم ثلاثة عشر ألف أسرة.

وتتوزع في تلمسان كل المهن وكل أصناف التجارة بين مختلف الأمكنة والشوارع ، على غرار ما سبق ان فصلناه فيما يتعلق بفاس. ولكن المنازل فيها كانت أقل بهاء مما كانت عليه في فاس. ويوجد في هذه المدينة بضعة جوامع جميلة معتنى بها بصورة حسنة ولها أئمة وخطباء. كما تحوي أيضا خمس مدارس بديعة حسنة البنيان جدا ومزدانة بالبلاط الملون وسواه من الأعمال الفنية. وقد شيّد بعضها ملوك تلمسان ، والبعض الآخر ملوك فاس. كما أن فيها بضع حمامات كبيرة من كل المستويات ، ولكن لا نجد فيها نفس الوفرة بالماء كما في حمامات فاس. وتوجد فيها بضعة فنادق حسب الطراز الأفريقي من بينها إثنان لسكنى التجار البنادقة والجنويين. وفيها حي كبير يضم قرابة خمسمائة بيت لليهود ، وكانوا كلهم أغنياء تقريبا في وقت ما ، قبل أن تنهب ارزاقهم بعد موت الملك ابي عبد الله ، في سنة ٩٢٣ هجرية ، حتى أنهم أصبحوا بعد ذلك شبه متسولين (٤٨).

__________________

(٤٥) في شهر آب (أغسطس) ١٣٣٥ م جاء سادس سلطان مريني وهو أبو الحسن علي كي يحكم الحصار على تلمسان التي كان يحكمها آنئذ السلطان الزياني أبو تاشفين عبد الرحمن. فرمم المنصورة واحتلها. وسقطت تلمسان بهجوم خاطف في ٢٩ نيسان (ابريل) ١٣٣٧ م.

(٤٦) ابو عنان فارس

(٤٧) لقد اراد ابو الحسن على بعد احتلال تلمسان ان يزور ابن عمه ، والد زوجته ، وهو سلطان تونس الحفصي ، أبو يحيى ، في نفس الوقت الذي يطوف فيه بالمقاطعات التي انضوت تحت سلطته ، ولكنه سقط مريضا في معسكره في سهل المتيجة واضطر للعودة الى فاس.

(٤٨) توفي السلطان ابو عبد الله محمد عام ٩٢١ ه‍ / ١٥١٦ م.


ويوجد في المدينة موارد عديدة للماء ، ولكن العيون تقع خارج المدينة بحيث يستطيع العدو أن يقطع عنها الماء بدون صعوبة. وأسوارها عالية جدا ومتينة للغاية ، ولها خمسة أبواب شديدة الاتساع ، وذات مصاريع مصفحة بالحديد. وقد أقيمت في جوف هذه الأبواب السميكة حجرات صغيرة يقيم فيها الموظفون والحرس والمكّاسون. ويقع القصر الملكي في جنوب المدينة وتطيف به أسوار غاية في الارتفاع ، على غرار القلاع ، وهو يحوي قصورا أخرى مع حدائقها وقساطلها. وكلها متقنة البناء جدا مع هندسة رائعة. ولهذا القصر بابان ، الأول ينفتح على البادية ، في مواجهة الجبل ، والثاني نحو داخل المدينة ، حيث يقيم قائد الحرس. وتوجد في خارج تلمسان عدة كور بديعة بها منازل غاية في الأناقة ، ومن عادة سكان المدينة قضاء الصيف فيها حيث ينعمون بأكبر متعة. فلهم فيها بساتين فاخرة تنتج أعنابا من كل الألوان وذات نكهة رائعة ، وكرزا من كل نوع تبلغ وفرته حدا لم ار له مثيلا في أي مكان آخر ، وتينا شديد الحلاوة اسود اللون كبير الحجم طويلا جدا يجفف ليؤكل في الشتاء ، ودرّاقا وجوزا ولوزا وبطيخا وخيارا وثمارا أخرى مختلفة ... وعلى مسافة ثلاثة أميال (٤٩) تقريبا من المدينة ، في الشرق ، يظهر العديد من طواحين القمح على نهر يدعى سفسيف. وتوجد طواحين أخرى أقرب منها على سفوح جبل القلعة ، باتجاه الجنوب.

ولنعد لكلامنا عن المدينة ، التي نجد فيها قضاة ومحامين والعديد من كتاب العدل الذين يتدخلون في الدعاوى ، ونرى فيها أيضا الكثير من الطلبة والأساتذة في مختلف المواد ، سواء في الشرع أو في العلوم الطبيعية وتكفل المدارس الخمس أمر معيشتهم بانتظام.

وينقسم سائر سكان تلمسان إلى اربع طبقات : صناع وتجار وطلبة وجنود. وتجارها رجال مستقيمون ، ومخلصون جدا وشرفاء في معاملتهم التجارية. ويعملون جاهدين لجعل مدينتهم جيدة التموين. وسفرهم الرئيسي بقصد التجارة هي الرحلة التي يقومون بها نحو بلاد السودان. وهم أغنياء جدا فيما يملكونه من عقار ومتاع ونقود. والصناع أناس أشداء يحيون حياة هادئة ممتعة : وينعمون بأوقات لراحتهم. اما عساكر الملك فهم رجال مختارون ويتقاضون اجورا مرتفعة ، فينال أصغر واحد منهم في الشهر ثلاثة دنانير من عملتهم وهو يعادل ثلاثة دنانير ونصف من النقود الايطالية.

__________________

(٤٩) ٥ كم.


ويدفع هذا المبلغ عن الرجل وعن راحلته ، لأن المتعارف عليه في افريقيا ان كل جندي هو فارس. والطلاب هم أفقر الناس لأنهم يعيشون في مدارسهم بصورة بائسة. ولكنهم بعد أن يحصل أحدهم على الشهادة النهائية ، يعينّ أستاذا أو كاتب عدل أو إماما. وتجار تلمسان وأهلها ذو وهندام جيد ، وأحيانا أفضل من أهل فاس ، لأنهم في الحقيقة أكثر ظرفا وأكثر كرما. ويلبس الصناع كذلك ثيابا لائقة ، ولكنهم يضعون ثوبا قصيرا ، وقليل منهم الذين يضعون عمامة على الرأس ، فيستخدمون قلنسوة دون ثنيات ، ويلبسون أحذية تصعد حتى أواسط سيقانهم. والجنود هم أردأ السكان لباسا. فهم يضعون على ظهورهم صدرية ذات أكمام عريضة ، وفي الشتاء يستبدلون بها كساء من جلد بدون فرو مصنوع على هيئتها ويضعون فوق الصدرية أو الكساء وشاحا كبيرا من قماش القطن يلفونه ويلتحفون به شتاء أو صيفا. أما العسكريون من ذوي الرتب العالية فيلبسون فوق الصدرية كساء آخر ، ويضعون فوق المعطف قبعة كتلك التي كانت متصلة بالمعاطف التي كان الناس يلبسونها سابقا في ايطاليا خلال اسفارهم ، وكانوا يسترون رؤوسهم بهذه القبعة في حالة تساقط المطر. ويكتسي الطلاب حسب حالتهم المادية. وفي الواقع يلبس ابن الجبل لباس امثاله من أهل الجبال ويلبس العربي لباسا عربيا. ولكن افضل الناس كساءهم الأساتذة والقضاة والأئمة والموظفون.

عادات ومصالح البلاط الملكي

يعيش ملك تلمسان ضمن مراسم دقيقة فهو لا يظهر إلا بالنسبة للكبار ولشخصيات بلاطه الرئيسية ، ولا يستقبل أحدا سواهم. وهم الذين يصرّفون الأمور حسب النظام السائد. وفي هذا البلاط مناصب ودوائر عديدة. والشخصية الأولى في البلاط هو القائد (٥٠) الذي يحدّد المعاشات حسب قدر كل واحد وكفاءته. وهو الذي يقود الجيوش ويكون أحيانا على رأسها ضد العدو مع نفس سلطة الملك.

والشخصية الثانية هو الكاتب الأول الذي يكتب ويجيب بإسم الملك.

والشخصية الثالثة هو الخازن الذي يستلم مال الملك ويحتفظ به وبالعائدات الملكية

__________________

(٥٠) المزوار.


والرابع هو الصراف الذي يوقّع الحوالات على الخزينة الملكية كي بسدّد موظفو بيت الملك ما يحتاج إليه هذا البيت وتحتاج إليه الاسطبلات.

والخامس هو قائد الباب ومهمته حراسة القصر والذات الملكية في حالة الاستقبال.

وهناك وظائف أقل أهمية ، كوظيفة رئيس الاسطبلات ، وقائد الحرس ، ورئيس التشريفات ، ولا يظهر لهذا الأخير عمل إلّا في حالة استقبال الملك زوّاره. ويخدم الملك في داخل القصر إماء نصرانيات والعديد من الخصيان الذين تقتصر مهمتهم على حراسة الحريم.

ولباس الملك جيد ، ومضبوط ، ويمتطي حصانا رائعا مسرجا في صورة فخمة بديعة. وعندما يركب الملك جواده ، لا يكون هناك احتفال كبير في العادة ولا فخامة ، لأنه ليس لديه في القصر أكثر من ألف فارس. ولكن في حالة الحرب ، أي عندما يسير نحو عدوه ، يجمع العرب والفلاحين من مختلف القبائل ويدفع لهم مرتبات في أثناء فترة العمليات العسكرية. وعندما يتجول في أرجاء مملكته لا يصطحب معه قافلة كبيرة ، ولا معدّات معسكرات مترفة ، ولا يكاد يختلف في شئون ملبسه ومظاهر إقامته عن قائد بسيط. وعلى الرغم من وجود عدد كبير من الجنود في حرسه فهو لا ينفق سوى القليل من المصروفات.

ويسكّ الملك نقودا ذهبية ضئيلة العيار كالدنانير التي تدعى بسلاكشي (٥١) في إيطاليا ، ولما كانت هذه القطع كبيرة جدا ، فإن كل قطعة تساوي دينارا وربعا إيطاليا ، كما يسكّ عملة فضية خفيفة العيار وقطعا نحاسية ذات قيم وأنواع مختلفة.

وتنتج هذه المملكة القليل ، وبالتالي فهي قليلة السكان. ولكن نظرا إلى أنها تؤلف محطة بين أوروبا والحبشة (٥٢) ، فإن الملك يحصل على كسب كبير من دخول البضائع وخروجها ، وخاصة منذ ان احتل النصارى وهران (٥٣) وارتأى الملك (٥٤) ، منذ

__________________

(٥١) أي الخفيفة.

(٥٢) أي السودان.

(٥٣) في أيار (مايو) ١٥٠٩ م.

(٥٤) أبو عبد الله محمد.


تلك الفترة ، أن من المناسب فرض رسوم وضرائب تجارية على مدينة تلمسان التي كانت معفاة في عهد الملوك السابقين. وأدّى ذلك لحنق الشعب ، وعند ما رأى ابنه (٥٥) الذي خلفه (٥٦) الإبقاء على هذه العوائد ، بدوره ، طرد من تلمسان وخسر مكانته (٥٧) ، واضطر في سبيل استرداد مملكته إلى أن يلقي بنفسه على أقدام الامبراطور شارل (٥٨) الذي أعاده كما رأينا ، إلى عرشه. وظلت مملكة تلمسان ، خلال العديد من السنين ، أي عند ما كانت وهران تابعة لها ، ظلت تحقق دخلا يبلغ ثلاثمائة ألف ، وحتى أربعمائة ألف دينار. ولكن يدفع نصف هذا المبلغ تقريبا للعرب على شكل إتاوات لهم ولحراس المملكة. ثم تأتي معاشات القوات العسكرية وقوادها ، ومرتبات كبار موظفي البلاط. وكان الملك (٥٩) ينفق هو أيضا بسخاء على بيته ونفقات التمثيل ، لأنه كان ملكا كريما جدا ومضيافا مقصودا. وقد قضيت بضعة شهور في بلاطه في مرات مختلفة وأقمت فيه ، وسأضرب صفحا عن عدة تفاصيل تتعلق بعادات وتنظيم هذا البلاط لأنها مماثلة لتلك التي تكلمت لكم عنها في بلاط فاس ، وحتى لا أبعث فيكم الملل بسبب الوصف المسهب.

مدينة عبّاد

عبّاد (٦٠) مدينة صغيرة ، هي نوع من ربض ، على مسافة ميل تقريبا من تلمسان ، في اتجاه الجنوب ، أي في الجبل (٦١). وهذه البلدة مزدهرة جدا ومأهولة بالسكان بشكل طيب. وتضم العديد من الصناع ، ومعظمهم من الصبّاغين. وفيها دفن وليّ كبير واسع الشهرة. ويقع ضريحه في جامع ، ويزار بعد نزول سلّم متعدد الدرجات. ويكرّم سكان تلمسان والمناطق المجاورة لها مباشرة هذا الولي كثيرا ويتضرعون إليه ويقدمون العديد من الصدقات لوجه الله. ويدعى سيدي مدين (٦٢).

__________________

(٥٥) أبو حمّو.

(٥٦) في ١٥١٦ م.

(٥٧) في ١٥١٧ م.

(٥٨) وهو الملك شارل الأول ملك اسبانيا والذي لم يصبح بعد الامبراطور شارل الخامس ، أو شارلكان.

(٥٩) أبو عبد الله محمد.

(٦٠) «العبّاد» جمع عابد معناها النسّاك ، وتدعى المدينة اليوم «بومدين».

(٦١) على مسافة ٢ كم إلى الشرق على السفح الجبلي وعند حضيضه تقريبا.

(٦٢) أبو مدين شعيب بن الحسن الغوط ، ولد في اشبيلية حوالي العام ١١٢٦ ومات قرب تلمسان في ١١٩٨ م.


وفيها أيضا مدرسة بديعة جدا وفندق لسكنى الأغراب ، وهما بنايتان شيّدهما بعض ملوك فاس من بني مرين ، كما يمكن قراءة ذلك فوق اللوحات الرخامية التي نقشت عليها أسماؤهم.

تفسرة

تفسرة (٦٣) بلدة صغيرة في سهل على مسافة سبعة عشر ميلا من تلمسان (٦٤). وتحوي العديد من الحدّادين ، نظرا لوجود بضعة مناجم للحديد قرب هذه المدينة. والأراضي المحيطة بها ممتازة لزراعة القمح. وليس لسكان تفسرة حظ كبير من الحضارة إذ ليس لهم من عمل سوى تصنيع الحديد ونقله إلى تلمسان.

تسّاله

كانت تسّالة مدينة قديمة جدا بناها الأفارقة في سهل فسيح يمتد على مسافة عشرين ميلا (٦٥). وينمو في هذا السهل قمح ممتاز ، في حجم حباته وفي لونه. ويستطيع هذا السهل وحده أن يموّن جميع أهل تلمسان تقريبا بالقمح. ويعيش الناس فيها تحت الخيام لأن المدينة تهدمت ، ولكن اسمها لا زال يطلق على السهل ، ويدفع هؤلاء أيضا للملك ضريبة ثقيلة.

ولاية بني راشد

تمتد هذه الولاية على طول يبلغ خمسين ميلا (٦٦) في عرض يبلغ حوالي خمسة وعشرين ميلا. ويقع قسم منها في السهل ، وهو الجنوبي ، أما الآخر ، أي الشمالي ، فيكاد يكون كله عبارة عن تلال. وفي كلا القسمين أراض زراعية طيبة. وينقسم

__________________

(٦٣) تفسره أو تفسّيرة وكانت تدعى في الماضي تفسرت مديونة.

(٦٤) أي ٢٧ كم إلى الجنوب منها.

(٦٥) ٣٢ كم ويقصد به سهل سيدي بلعباس. ولكن القرية المسماة تسّالة حاليا والتي تقع على مسافة ١٨ كم شمال شرق سيدي بلعباس ، عند اقدام جبل تسّالة ، لا يظهر عليها أنها فوق موقع المدينة القديمة. وتكثر الآثار الرومانية فعلا في هذه المنطقة.

(٦٦) ٨٠ كم على ٤٠ كم.


السكان فريقين ، فالذين يسكنون هذه التلال لهم بيوت مناسبة جدا مبنيّة بجدران ويزرعون الحقول والكروم ويهتمون بأشياء أخرى ضرورية لحاجات المعيشة. ويقيم الفريق الثاني ، وهو أكثر شرفا من أهل الفريق الأول ، في البادية تحت الخيام وينصرف لتربية الماشية. ولهؤلاء عدد كبير من الإبل والخيول وهم ميسورون جدا ، ولذلك يدفعون بعض الاتاوات لملك تلمسان.

ولأهل التلال الكثير من القرى ، ولكن لقريتين منها أهمية أكبر من سائر القرى الأخرى.

فالأولى تدعى قرية هوارة ، وتضم أربعين بيتا من الصناع والباعة. وقد بنيت على هيئة حصن على سفح جبل بين واديين. وتسمى الثانية المعسكر. وفيها يسكن وكيل الملك مع فرسانه. ويعقد سوق في هذه القرية كل يوم خميس وتباع فيه كميات من الماشية والحبوب والزبيب والعسل ، والكثير من الأقمشة البلدية وأشياء أخرى أقل قيمة كالحبال والسروج والأعنّة وأجهزة الخيل. وفي الفترة التي كنت فيها في هذه المنطقة ، حدث أن قصدت السوق لشراء بعض الحاجات الضرورية للرحلة التي كنت أقوم بها عندئذ للذهاب إلى تونس. ووصلت إلى السوق على ظهر الجواد واشتريت منه أولا حبال الخيام. وبعد أن فرغت من صفقتي وضعت الرجل اليسرى فوق عنق الحصان كي استطيع تعداد نقودي فوق ركبتي. وتركت المقود وأدرت رأسي لدفع ثمن ما اشتريت. وبعد ان سدّدت ما استحق عليّ ادرت رأسي لنفس الجهة ووضعت رجلي في الركاب. ولكن عند ما أردت استلام العنان لم أجده. ونظرت إلى هنا وهناك ثم ناديت الخادم كي يقود راحلتي إلى البيت. وبعد هنيهة وصل خادمان لوكيل الملك اللذين قالا لي : «سيدي ، لقد سرق عنان جوادك اثنان من البغالة التابعين للوكيل وكانا لا يعرفان أنك ضيفنا. وقد رأيناه واسترددناه بالقوة ، وانظر فيه إذا كانا قد سرق منك شيء آخر». ثم اشتريت ما كنت لا أزال بحاجة إليه وعدت إلى البيت. وقد رويت هذه القصة لوكيل الملك في أثناء تناول الغداء فانفجر ضاحكا وقال لي : لا تندهش إذا ما قلت لك إننا نعاني الكثير من المصاعب كي نجد أناسا يرتضون مهنة بغّال ، وهي مهنة حقيرة وشاقة. ومن ناحية أخرى نحن ندفع لهم أجرا زهيدا لا يكفيهم أبدا. وهم لذلك يضطرون ، من أجل أن يربحوا شيئا ضئيلا إضافة لدخلهم ، سواء كانوا


مستخدمين عندي أو عند سواي ، إلى أن يسرقوا باستمرار ، وكل بغّالي بلادنا قد اعتادوا ذلك منذ نعومة اظفارهم. ولهذا نتغاضى عن سرقاتهم. وليحتمل نتائج غفلته من يجهل طرائقهم!.

وتقدم هذه الولاية لملك تلمسان حوالي خمسة وعشرين ألف دينار ، وتقدم له العدد نفسه من المحاربين ، بين فرسان ومشاة.

مدينة البطحة

كانت البطحة مدينة كبيرة عريقة الحضارة وكثيرة السكان. وقد بناها الأفارقة في أيامنا(٦٨).

وتقع هذه المدينة في سهل فسيح ينمو فيه القمح بوفرة وتقدم للملك إتاوة تبلغ حوالي عشرين ألف دينار. ولكنها تخربت في الحروب التي وقعت بين ملوك تلمسان وبعض أقاربهم الذين كانوا يسكنون جبل الونشريس. وبما أن الأخيرين كانوا يتلقون معونة ملك فاس ، فقد استطاعوا أن يحتلوا رقعة كبيرة من مملكة تلمسان وأحرقوا وخربوا البلدان التي لم يستطيعوا الاحتفاظ بها (٦٩). ونتج عن ذلك أنه لا يرى اليوم شيء من البطحة سوى أساسات البيوت. وهناك نهر صغير ضئيل الأهمية (٧٠) يجري قرب المكان

__________________

(٦٨) تعني كلمة بطحة دلتا نهر عريضة فوق قاع من الحصباء. وكانت المدينة المذكورة موجودة عند ما توقف فيها محمد بن تومرت حوالي العام ١١١٩ م بصحبة تلامذته ، ومنهم الشاب عبد المؤمن ، وقد توقف فيها لمدة ثلاثة أيام لدى مضيف كريم وهذا في أثناء رحلته من ملالة قرب بجاية إلى فاس. وفي عام ١١٦٠ م عند ما أصبح عبد المؤمن خليفة وسّع هذه المدينة وعمرها بالسكان في أثناء عودته من حملة على افريقيا ، أي شمالي تونس وإذا كان موقع البطحة مجهولا فإنه بالتأكيد يقع على الطريق الكبيرة بين تلمسان ومدينة الجزائر وعلى الأرجح فوق الضفة اليسرى لنهر المينا ، بجوار ايغيل ايزّان ، أو تل الذباب بالبربرية. ومن هذا جاء اسم مدينة روليزان الحالية ، وهي مدينة مبنية في أسفل تل ، غير بعيد عن ضفة النهر اليسرى. وقد اعتبرت بعض الأطلال ، على الضفة اليسرى ، قرب الطريق والخط الحديدي ، كأنها رومانية. وربما كانت هذه تنسب لبقايا آثار البطحة.

(٦٩) وهم بنو توجين ، وهي قبيلة زناتية معادية لبني عبد الواد في تلمسان ، وبالتالي حليفة لبني مرين في فاس ، وقد احتلوا سفح جبل الونشريس الذي يدعى اليوم الورسنيس واحتلوا الجبل نفسه حتى بلدة الميدية. ولا نعرف تاريخ تخريب البطحة ولكن من المحتمل أن ذلك حدّث في بداية القرن الرابع عشر عند ما أصبح السلطان المريني أبو الحسن سيد مملكة تلمسان بعد استيلائه على العاصمة وموت السلطان الزياني أبي تاشفين عبد الرحمن بتاريخ ٢٩ نيسان (ابريل) ١٣٣٧ م ، حيث تذكر البطحة في قائمة المواقع المفتوحة ولكنها لا تذكر على أنها مدينة. وظل اسمها يتردد حتى نهاية القرن الرابع عشر في معرض الكلام عن الحملات العسكرية.

(٧٠) وادي المينا.


الذي كانت تشغله. وتقوم على ضفاف هذا النهر بساتين عديدة وحقول غاية في خصوبتها.

وقد ظل هذا السهل مهجورا تماما إلى أن جاء ناسك حسب عادة تلك البلاد واستقر فيها مع عدد من تلامذته الذين يرون فيه تقريبا واحدا من أولياء الله. وقام هذا الرجل بزراعة الأراضي كما تزايد عدد ثيرانه وخيوله وأغنامه لدرجة أصبح هو ذاته لا يعرف عددها ، ولم يكن هو ولا اتباعه يدفعون أية عوائد للملك ، ولا للعرب ، لأنه كان يعتبر وليا كما سبق أن قلنا. وقد روى لي عدد من تلامذته أن عشور أراضيه كانت تبلغ ثمانية آلاف كيل من القمح في العام ، وأنه كان يملك حوالي خمسمائة رأس من ذكور الخيل وإناثها ، وعشرة آلاف رأس من الأغنام وألفي ثور ، كما كان يتلقّى سنويا من مختلف أنحاء العالم ما بين أربعة آلاف إلى خمسة آلاف دينار ، على شكل هدايا وصدقات مرسلة من أناس مختلفين لأن شهرته امتدت في كل آسيا وفي كل افريقيا. وزاد عدد مريديه بنفس النسبة العالية حتى إن متوسط عدد الذين كانوا يبيتون عنده يوميا كان يبلغ حوالي خمسمائة شخص. ولهذا السبب يهرع إليه جمهور لا يحصى من الأشخاص. ويأكل جميعهم على حسابه ، ولكنهم يساعدونه جميعا في عمل شيء ما في زاويته. ويوجد له اتباع منتشرون في كل أنحاء العالم الاسلامي. وهو لا يفرض عليهم أية تعاليم وليس عليهم أن يؤدوا غير الصلوات الاعتيادية. لكنه يحدّد لهم بعض اسماء الله ويطلب منهم ذكر هذه الأسماء في صلواتهم عدة مرات في اليوم (٧١). وعند ما يتعلم تلامذته منه ما فيه الكفاية يعودون لبلادهم. ولديه ثلاثمائة خيمة ، بعضها لسكنى الغرباء ، وبعضها لرعاته ، وبعضها لعائلته. ولهذا الناسك ، الطيب والعالم ، أربع زوجات والكثير من الإماء السرّيات اللاتي أعطينه عددا من الأولاد بين ذكور وإناث ، ولهم جميعا هندام طيب ، ولأولاده أيضا نساؤهم وأولادهم ، حتى ليبلغ عدد افراد اسرته وأسر ابنائه قرابة خمسمائة.

ويتمتع هذا الرجل بتبجيل العرب وهو محترم بشكل عظيم حتى إن الملك يخشاه. ولقد وددت أن أعرف من هو وذهبت لأمضي عنده ثلاثة أيام وكنت أتناول طعام العشاء معه كل مساء ، في غرفة خاصة ، ليس معنا أحد. وقد أراني هنا فيما

__________________

(٧١) وربما كان هذا ما يسمى بالذكر الخاص بكل طريقة صوفية اسلامية ، ونظام ورادها الخاصة ، جمع ورد.


أرانى بعض كتب السحر والكيمياء. وقد كان يريد أن يبرهن لي أن السحر هو علم ، حتى لقد كدت أحسبه ساحرا وسبب هذا هو كثرة ما رأيت من أمر تبجيله وتشريفه دون أن يفعل أو يقول أو يبتكر شيئا سوى الابتهال إلى الله بالاسماء التي أشار إليها (٧٢).

مدينة وهران

وهران مدينة كبيرة تضم حوالي ستة آلاف أسرة. وقد أسسها قدماء الأفارقة (٧٣) على ساحل البحر المتوسط على مسافة مائة واربعين ميلا من تلمسان (٧٤). وهي مجهزة بكل العمارات والمؤسسات التي تميز مدينة حضرية كالجوامع والمدارس والمارستانات والحمامات والفنادق. وهي محاطة بأسوار عالية وجميلة. ويقع قسم من هذه المدينة في السهل ، والقسم الآخر فوق موقع جبلي مرتفع كثيرا. وكانت أكثرية سكانها من الصنّاع والحاكة. وكان كثير من أهلها يعتاشون من مواردهم ، ولكنها لم تكن مدينة يسود فيها الرخاء لأن الناس لا يأكلون فيها غير خبز الشعير. ومهما كان عليه الأمر فإن أهلها كانوا لطفاء ، مرحّبين بالغرباء وبأصدقائهم. وكانت وهران مقصودة كثيرا من التجار القطالونيين والجنويين. ولا زال فيها بيت يدعى بيت الجنويين لأن هؤلاء كانوا يسكنون فيه. وقد كان أهل وهران أعداء ملك تلمسان على الدوام. ولم يحبوا مطلقا أن يتحملوا وجود أي من حكامه فيها. فلم يقبلوا وجود أحد منهم غير خازن مال ومكّاس لتحصيل عوائد الميناء. وكان السكان ينتخبون رئيس مجلس يهتم بالقضايا المدنية والجنائية. وكان التجار في الماضي يجهزون دائما مراكب وسفنا صغيرة مسلّحة يمارسون عليها القرصنة فكانوا يغزون سواحل قطالونيا وجزر ايبيزا ، مينورقة ومايورقة ؛ حتى لقد كانت المدينة تغص برقيق النصارى.

ولكن فرنان ملك أسبانيا ارسل أسطولا كبيرا لشن حرب على سكان وهران لاستخلاص النصارى من بلاء شديد الخطورة يتكرر بكثرة. ولكن هذا الأسطول هزم بسبب عدة أخطاء في المناورة.

__________________

(٧٢) كتب مارمول أن هذا الشيخ كان يدعى سيدي سنا (لعله سناء) ، وأن أراضيه كانت تدعى سهول سنا ، حتى إن المجرى الأدنى لوادي المينا كانت يحمل اسم واد سنا ، ولم يبق أثر لهذا الشيخ ولا لطريقته في المنطقة.

(٧٣) أسست عام ٩٠٣ م على أيدي الاندلسيين.

(٧٤) أي ٢٢٤ كم والحقيقة هي ١٧٤ كم على الطريق الحالي.


وبعد عدة أشهر جمع الملك أسطولا أكبر حجما بالاستعانة ببعض المطارنة وبكار دينال أسبانيا (٧٥). فاحتل هذه المدينة في يوم واحد لأن السكان خرجوا بلا نظام كي يذهبوا لساحة المعركة ، تاركين المدينة خالية. وعرف الأسبان ذلك فأرسلوا قسما من قواتهم إلى الجانب الآخر من وهران. ولم يجدوا من خصومهم سوى النساء اللواتي صعدن على الأسوار. فدخلوا المدينة بسهولة بينما كانت المعركة على أشدها في الخارج. وخرجوا منها بغتة ليرموا بأنفسهم على ظهر عدوهم أي اهل المدينة. وما أن أخذ المسلمون بالتقهقر باتجاه المدينة ليطردوا من تسلل اليها من الأسبان حتى رأوا فوق أسوارها الرايات النصرانية وهي ترفرف فوقها. وهكذا وقعوا محاصرين بين فرقتين من الأسبان فلم ينج منهم سوى القليل على قيد الحياة. واحتل الأسبان وهران ، عام ٩١٦ هجرية (٧٦).

المرسى الكبير

وهي مدينة صغيرة أسسها ملوك تلمسان في زمننا على شاطىء البحر المتوسط على مسافة بضعة أميال من وهران. ومعنى اسمها الميناء الكبير ، إذ يوجد هناك ميناء لا اعتقد أن له مثيلا في العالم قاطبة ، إذ تستطيع مائة سفينة ومركب أن ترسو فيه بكل راحة ، في مأمن من كل عاصفة ، أو أية زوبعة. وكان من عادة سفن البندقية التي تلجأ إليه في حالة هياج البحر أن ترسل بضائعها إلى وهران بواسطة القوارب. وعند ما يكون الطقس صحوا كانت تذهب بالفعل مباشرة إلى ساحل وهران. وقد سقطت هذه المدينة بقوة السلاح بأيدي الأسبان قبل سقوط وهران ببضعة أشهر (٧٧).

مازاغران

مازاغران مدينة صغيرة بناها الأفارقة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وبالقرب منها يصب نهر الشلف في البحر (٧٨). وهي مدينة كثيرة السكان ومعتنى بها.

__________________

(٧٥) هو فرنسيسكو كسيمينس المحرض الأول على محاكم التفتيش الشهيرة ببطشها وبإرهابها ضد المسلمين» (المترجم)

(٧٦) سقطت وهران غداة عيد الصعود عند النصارى ، أي يوم الجمعة ١٨ أيار (مايو) ١٥٠٩ م / محرم ٩١٥ ه‍.

(٧٧) تم الاستيلاء على المرسى الكبير بواسطة أسطول قشتالي يقوده الدون دييغو دو قرطبة في عام ١٥٠٦ م في تاريخ غير متفق عليه ، والمرجح أنه كان في شهر أيار (مايو).

(٧٨) الحقيقة تقع مازاغران على مسافة ٢ كم شرقي الساحل وعلى مسافة ١٨ كم من مصب نهر الشلف.


ولكنها تشكو من تنغيص العرب لها. ولحاكمها القليل من السلطة في داخل المدينة وأقل من ذلك في خارجها.

مستغانم

وهي مدينة بناها الأفارقة على البحر الابيض المتوسط على مسافة ثلاثة أميال شرقي المدينة السابقة على الجانب الآخر من النهر (٧٩). وقد كانت مدينة متحضرة للغاية وآهلة بالكثير من السكان في غابر الزمن. ولكن ما إن أخذت سلطة ملوك تلمسان في الضعف حتى أصبحت عرضة لمضايقات العرب ، ففقدت ثلث أهليها. ومع هذا لا تزال تضم قرابة ألف وخمسمائة أسرة ، ولها جامع جميل جدا. وفيها العديد من الصناع الذين ينسجون أقمشة الكتان. وبيوتها جميلة كما تكثر بها موارد المياه. ويجتاز البلدة نهر صغير يحرك طواحينها (٨٠). ويوجد في خارج المدينة الكثير من البساتين البديعة ، ولكن معظمها مهجور. والأراضي التي حولها جيدة للزراعة وخصيبة. ولها ميناء صغير تقصده أحيانا السفن الأوربية ، ولكن لا يعقد التجار فيها صفقات هامة لأن سكانها في فقر مدقع.

برشك

وهي مدينة قديمة بناها الرومان (٨١) على البحر المتوسط على مسافة أميال عديدة من المدينة السابقة (٨٢). وهي مأهولة جدا بسكان أجلاف يعمل أكثرهم في حياكة أقمشة الكتان. وهم رجال مهرة وبواسل كالأسود ومن عادة كل واحد أن يرسم على خديه وعلى إحدى يديه صليبا أسود وصليبا في راحة يده ، تحت الأصابع. ويحتفظ كل الجبليين المجاورين لمدينة الجزائر وبجاية بهذه العادة. ويروى لنا المؤرخون الافارقة أن عددا لا يحصى من البلاد والسواحل والجبال كانت تحت سلطة القوط (٨٣) ، وأصبح الكثير من

__________________

(٧٩) الحقيقة هي على مسافة ٤ كم شمال مازاغران و ١٤ كم جنوب مصب نهر الشلف.

(٨٠) وهو نهر عين صفرا

(٨١) هناك مسافة قدرها ٢٣٧ كم أو ١٥٠ ميلابين مستغانم من جهة وبين قبة وزاوية سيدي إبراهيم الخواص من جهة أخرى. وقد بنيت هذه القبة والزاوية بين أنقاض غرنوغو. ولكن برشك لم تترك أي أثر وقد تخرب جدار سورها على أثر زلزال عام ١٥١٣ م. وفي سنة ١٥٣٣ كانت لا تزال تحوي ٧٠٠ نسمة.

(٨٢) مستعمرة غونوغو الرومانية.

(٨٣) أي الفندال.




المغاربة نصارى. وقد أصدر ملوك القوط أمرا بعدم استيفاء أية جزية من الذين كانوا نصارى. وفي وقت دفع الضريبة كانوا يدّعون جميعا أنهم نصارى ، ولكن القوط الذين كانوا يجهلون لغة السكان وعاداتهم لم يكونوا قادرين على التمييز بين النصراني الحقيقي ومدعى النصرانية. فأعطيت الأوامر عندئذ للنصارى باستعمال الوشم بهذه الصلبان. وعندما انتزعت السلطة من القوط عاد كل الناس إلى الديانة الإسلامية. ولكن مع مرور الزمن بقيت عادة الوشم بهذه الصلبان ، وهناك عدد لا يحصى من الناس لا يعرفون سبب ذلك. ولأمراء موريتانيا ، شأن عامة الناس ، هذه المعادة نفسها ، وهو رسم صليب على الخد بواسطة شفرة سكين (٨٤) ، ونرى في أوربا بعض الأشخاص يصنعون نفس الشىء مثل أولئك.

وتعيش مدينة برشك فى رخاء ، ولا سيما لكثرة التين. وتنتج الأرياف الجميلة الواقعة حولها الكتان والشعير بكمية كبيرة. وسكانها حلفاء وأصدقاء لسكان الجبال المجاورة (٨٥) ، وبفضل دعم هؤلاء استطاعت أن تحمى نفسها خلال مائة عام ، وأن تظاحرة من الضريبة حتى عهد التركى بربروس الذي فرضها بشكل ثقيل. وينقل كثير من أهل برشك التين والكتان بحرا إلى الجزائر وبجاية وإلى تونس ، ويجنون من وراء ذلك كسبا طيبا.

ولا يزال فى المدينة كثير من آثار أبنية وعمارات رومانية وقد بنيت الأسوار من مواد أنقاضها (٨٦).

مدينة شرشال

تلك هي مدينة كبيرة جدا وموغلة في القدم بنيت بدورها في عهد الرومان على ساحل البحر المتوسط (٨٧) ، وكان محيطها في الماضي يعادل ثلاثة أميال (٨٨) ، وهو طول

__________________

(٨٤) انقرضت هذه العادة الآن.

(٨٥) من قبيلة زتيمة ، وهي فرع من نفزاوة.

(٨٦) لم يبق شيء من هذه الآثار ، والتي تعرضت لحت البحر الذي قرض قسما من الرأس الصخري الذي كانت تقوم عليه المستعمرة الرومانية غونوغو.

(٨٧) وهي كولونيا جوليا قيصريا. وكانت في البدء مكتبا تجاريا فينيقيا ثم بونيا قرطاجيا اسمه يول ، ثم عاصمة موريتانيا ـ


جدار سورها الشديد الارتفاع والمبني بحجارة ضخمة منحوتة. ويظهر فيها بجوار البحر جامع كبير عال جدا لا يزال محرابه قائما حتى الآن وهو مستور كليا بالرخام من الداخل. وفي عصر مضى كانت هناك قلعة كبيرة قائمة فوق جرف صخري يمكن منها مراقبة البحر على مسافة شاسعة وتحيط بالمدينة أراض زراعية طيبة. ومع أن هذه المدينة تعرضت لتخريب شديد على أيدي القوط (٨٩) فإن قسما منها كان مأهولا بكثرة إبان الحكم الإسلامي. واستمر هذا الوضع مدة خمسمائة عام تقريبا. وبعدئذ هجرت المدينة في أعقاب الحروب بين ملوك تلمسان وملوك فاس ، وظلت خاوية خلال مدة تقارب ثلاثمائة عام حتى سقوط غرناطة بأيدي النصارى (٩٠) ، وحينئذ قصدها كثير من الغرناطيين وأعادوا بناء قسم كبير من منازلها وكذلك قلعتها وزرعوا أراضيها ، ثم بنوا كثيرا من سفن الملاحة ، وكانوا يزاولون كذلك أعمال صناعة الحرير ، لأنهم وجدوا كمية لا تحصى من أشجار التوت الأبيض والأسود. وتحسنت أحوال هؤلاء يوما بعد يوم حتى إنهم أصبحوا يسكنون مائتين وألفا من البيوت. ولم يخضعوا إلا لبربروس ، وكانوا يدفعون له ضريبة لا تزيد عن ثلاثمائة دينار في السنة.

مليانة

مليانة مدينة كبيرة جدا قديمة بناها الرومان وكانت تدعى ماغنانه ، ولكن العرب حرفوا هذا الاسم (٩١). وتقع هذه المدينة فوق قمة جبل (٩٢) وتقع على مسافة أربعين ميلا (٩٣) عن البحر ، أي عن شرشال. والجبل الذي شيدت عليه مليء بالينابيع ومغطى بأشجار الجوز حتى إن ثمارها لا تقطف ، وحتى إن أحدا من أهلها لا يحتاج إلى شراء

__________________

ـ البربرية ، التي منحها ملكها البربري جوبا ، لويوبا ، اسم جوليا قيصريا ، تكريما لذكرى يوليوس قيصر ، ثم أصبحت مستعمرة رومانية.

(٨٨) أو ٤٨٠٠ مترا.

(٨٩) الفندال.

(٩٠) في عام ١٤٩٢ م.

(٩١) يعطي كتاب مسالك انطونان اسم ملّيانا.

(٩٢) فى الحقيقة فوق هضبة السفح الجنوبي لجبل زكار. وارتفاع هذه القمة ١٥٧٩ م ومليانه على ارتفاع ٧٢٠ م ووادي الشلف على ارتفاع ٢٧٢ م فوق سطح البحر.

(٩٣) ٦٤ كم.


الجوز. وتحيط بالمدينة أسوار عالية قديمة. ويشرف الجرف من جانب (٩٤) على واد سحيق (٩٥) ، ومن جهة أخرى يوجد سفح يبدأ من قمة الجبل (٩٦) ويذكرنا بنارنى ، وهى مدينة قريبة من روما (٩٧) وبيوت مليانة متقنة وفى داخلها فستقيات جميلة. ويكاد السكان جميعا يكونون من الصناع ومن الحاكة ومن الخراطين. ويصنع هؤلاء اواني جميلة من الخشب. وينصرف كثيرون منهم للعمل في الأرض كذلك. وقد عاشوا جميعا فى حرية حتى عهد بربروس الذى فرض عليهم ضرائب.

مدينة تينس

هي مدينة قديمة جدا شيدت في غابر الزمن على أيدي الأفارقة على سفح جبل ، وعلى مسافة خطوات من البحر المتوسط (٩٨) وهي محاطة بسور وفيها العديد من السكان وهم أجلاف للغاية. وقد كانت دائما تابعة لملك تلمسان. ولكن عندما أدرك الموت الملك محمد (٩٩) ، وهو جد الملك الذي يحكم اليوم (١٠٠) ، كان قد خلف ثلاثة أبناء. فالأكبر كان يدعى عبد الله ، والثاني أبازيان ، والثالث يحيى. وإلى الأول آل الحكم بعد والده (١٠١). وقد تواطأ الاثنان الأخيران مع بعض شخصيات تلمسان فى مؤامرة لاغتياله. ولكن تم اكتشاف هذه الخيانة ، وقبض على أبي زيان وأودع السجن ولكن

__________________

(٩٤) حيث توجد حاليا ساحة.

(٩٥) أي وادي نهر الشلف.

(٩٦) أي الهضبة.

(٩٧) إن مقطع الطريق الذي يهبط من مليانه إلى أفروفيل يشبه ، إلى حد ما ، الطريق الذي يهبط من نارنى إلى وادي نارا ، ولكن النبات البهيج في مليانه لا مثيل له فوق التل الذي تقوم في أعلاه مدينة نارنى الإيطالية.

(٩٨) المقصود هنا ما نسميه تينس القديمة. أما تينس الحالية فتقوم فوق أطلال مدينة رومانية هي كرتناس أو كارت تناس ، حيث كان لا يزال قصر مأهول بالسكان عندما وصلها بحارة أندلسيون سنة ٢٦٢ ه‍ / ٨٧٦ م وأسسوا على منعطف النهر المسمى حينئذ تناتين ، على مسافة كيلومترين من البحر ، المدينة التي بقيت باسم تينس القديمة. وقد استوطنها معمرون اندلسيون ومن بربر المنطقة. وقد استلم قيادتها أمير سليماني ، هو إبراهيم بن محمد بن سليمان.

(٩٩) أبو عبد الله محمد بن تبتي المتوفي سنة ١٥٠٥ م.

(١٠٠) أبو عبد الله محمد الذي نودي به ملكا سنة ١٥٢٨ ، وهو توضيح يبرهن على أن هذه الأسطر قد كتبت في تاريخ يلي ١٠ آذار (مارس) ١٥٢٦ وهو التاريخ الذي يعطيه المؤلف في خاتمة كتابه.

(١٠١) وهو أبو عبد الله محمد ، حكم بين ١٥٠٥ و ١٥١٦ م.


بعد أن طرد الشعب أبا حمو (١٠٢) ، استرد أبو زيان حريته واسترجع التاج وظل يحكم إلى أن قتله بربروس (١٠٣) كما قلنا آنفا. وهرب الأخ الثالث (١٠٤) إلى فاس وارتمى بين يدي الملك (١٠٥). واستدعاه سكان تينس ونودي به ملكا وحكم فيها بضعة أعوام وترك المملكة بعد وفاته لابنه ، وهو شاب طرده بربروس أيضا. وهكذا اضطر إلى الذهاب إلى أسبانيا لمقابلة صاحب الجلالة القيصرية الامبراطور شارل ، الذي كان حينئذ ملك أسبانيا. ووعده بالمساندة ، ولكن مضى وقت طويل قبل أن يفي بوعده ؛ وفي هذه الأثناء تنصر أمير تينس وكذلك أخوه الأصغر ، وظل الاثنان في أسبانيا ومنحهما الامبراطور معاشا طيبا. وآلت تينس إلى يدي أحد الأخوين بربروس (١٠٦).

ولا يوجد أي أثر للتهذيب في هذه المدينة ، وتنتج أرضها الكثير من القمح والكثير من العسل ، ولكن هذا كله لا يعود إلا بمبالغ تافهة.

مازونه

مازونة مدينة قديمة بنيت ، حسب قول بعضهم ، على أيدي الرومان على مسافة أربعين ميلا من البحر (١٠٧). وتمتد على مساحة كبيرة وأسوارها منيعة ، ولكن بيوتها قبيحة وبائسة. وفيها جامع وبعض مساجد.

وقد كانت في الماضي مدينة متحضرة جدا ولكنها كثيرا ما تعرضت للنهب ، تارة من قبل ملوك تونس ، وتارة أخرى من قبل العصاة. وكان آخر خراب لحق بها في أعقاب سيطرة العرب (١٠٨) حتى لم يبق فيها الآن سوى النذر اليسير من السكان. وهؤلاء هم من الحياك أو من الفلاحين. وجميعهم فقراء لأن العرب يرهقونهم بالإتاوات ، وأراضيها الزراعية طيبة ومنتجة.

__________________

(١٠٢) استلم أبو حمو بن تبتي السلطة عام ١٥١٦ على إثر وفاة ابن أخيه ثم خلع وطرّد عام ١٥١٧ م.

(١٠٣) سنة ١٥١٨ م.

(١٠٤) يحيى.

(١٠٥) محمد البرتغالي ، الوطّاسي.

(١٠٦) وهو خير الدين ، أمير البحر الذي عمل في خدمة العثمانيين.

(١٠٧) أي حواني ٦٤ كم عن تينس.

(١٠٨) أي الهلاليون.


ويظهر قرب المدينة الكثير من البلدان الخربة التي كان الرومان قد بنوها. ولا تحمل أى اسم معروف لدينا ، ولكن يمكن التعرف على أنها كانت رومانية من العدد الهائل من الكتابات المنقوشة على صفحات الرخام. ولا يورد مؤرخونا الإفريقيون عنها ذكرا.

الجزائر

الجزائر ومعناها الجزر ، وقد دعيت هذه المدينة بهذا الاسم لأنها مجاورة لجزر مايورقة ومينورقة ولويزة (١٠٩) ولكن الأسبان يسمونها آلجر. وهي مدينة قديمة بنتها قبيلة إفريقية تدعى مزغنة ولذلك كان الأقدمون يسمونها مزغنة (١١٠).

وهي كبيرة جدا وتضم حوالي أربعة آلاف أسرة. وأسوارها رائعة وقوية للغاية ، ومشيدة بحجارة كبيرة وتتألف من بيوت جميلة وأسواق جيدة التنسيق لكل منها مكانها الخاص. كما نجد فيها أيضا عددا كبيرا من الفنادق والحمامات. ويشاهد فيها ، فى عداد الأبنية الأخرى ، جامع بهي كبير جدا يقع على حافة البحر. وتمتد أمام الجامع ساحة جميلة جدا ممددة فوق سور المدينة ذاته ، وتتلاطم الأمواج عند أسفلها. ويظهر حول الجزائر الكثير من البسانين والأراضي المزروعة بأشجار مثمرة.

ويمر من جوار المدينة ، من الجانب الشرقي ، نهر نصبت عليه طواحين. ويستخدم هذا النهر لحاجات المدينة من ماء الشرب وللاستعمالات الأخرى.

وسهول المنطقة جميلة جدا ، ولا سيما ما يسمى المتيجه الذي يبلغ طوله حوالي خمسة وأربعين ميلا بعرض مقداره ست وثلاثون ميلا (١١١) وحيث ينمو قمح وفير للغاية من أجود الأنواع.

وقد ظلت الجزائر ، ولمدة طويلة ، تحت سلطة تلمسان. ولكن بعد أن قام ملك جديد في بجاية وضعت نفسها تحت تصرفه ، لأنها كانت أقرب إلى مملكة بجاية ، ولما

__________________

(١٠٩) تفسير غير صحيح لأن جزائر بني مزغنة كانت عبارة عن جزر صغيرة صخرية ارتبطت اليوم بالبر وتغلق ميناء الجزائر من طرف واحد.

(١١٠) والحقيقة هي أن المدينة كانت تدعى في عصر الرومان ايكوسيوم.

(١١١) أي ٧٢ كم في ٤٨ كم.


راى أهل الجزائر أن ملك تلمسان لا يستطيع أن ينجدهم ، وأن ملك بجاية يستطيع أن يضرهم كثيرا ، فقد قدموا لهذا الأخير خضوعهم وضريبتهم ، ولكنهم ظلوا أحرارا نوعا ما. وبعدئذ سلحوا بعض المراكب للقرصنة وتحولوا إلى قراصنة ، وهكذا راحوا يغيرون على جزر إبيزا ومايورقة ومينورقة ، وحتى السواحل الأسبانية.

ولهذا السبب أرسل الملك الكاثوليكي فرديناند أسطولا عظيما لمحاصرة الجزائر. فبنى هذا الأسطول فوق جزيرة صغيرة صخرية ، وفي مواجهة المدينة تماما ، بنى قلعة جميلة وكبيرة وقريبة جدا ، فكان الرمي يصيب الأرض ، حتى إن رمي المدفعية كان يمر من فوق اسوار المدينة ، من سور لآخر (١١٢).

ونتيجة لذلك اضطر سكان الجزائر لإرسال سفارة إلى أسبانيا لاقتراح هدنة مدتها عشرة أعوام مقابل دفع جزية معينة رضي بها الملك (١١٣) ، وهكذا ظلوا في سلام مدة بضعة أشهر.

وفي هذه الأثناء جاء بربروس وحاصر بجاية (١١٤) ، وبعد أن احتل قلعة من بناء الأسبان ، أحكم الحصار أمام الأخرى. ولكن ذلك لم يؤد إلى نتيجة لأن كل قبائل الجبل التي هرعت لمساعدته ، تخلت عنه بدون استئذان في موسم البذار ، وفعل الكثير من جنود الأتراك نفس الشيء (١١٥). واضطر بربروس للهرب ؛ ولكن قبل أن يذهب أشعل بيده النار في اثني عشر زورقا كانت راسية في النهر على مسافة ثلاثة أميال من بجاية. والتجأ مع أربعين من جماعته إلى قصر جيجل الذي يقع على مسافة ستين ميلا (١١٦) وظل فيه بعض الوقت (١١٧) وفي هذه الفترة مات الملك الكاثوليكي (١١٨) ورغب

__________________

(١١٢) لقد عهد الكونت بيار نافارو الأمير الأكبر للأسطول الأسباني ، عهد في عام ١٥١٠ م لديبجو ديفيرا ، قائد العمارة البحرية في البحر المتوسط ببناء قلعة صخرة الجزائر ، وهذا بموافقة الجزائريين من أبناء المدينة ، الذين ساعدوه بالأعمال وقدموا له مواد البناء.

(١١٣) ربما كان ذلك في ربيع عام ١٥١٥ م.

(١١٤) ٤ آب (أغسطس) ١٥١٥ م.

(١١٥) هطلت في أواسط شهر أيلول (سبتمبر) أمطار شديدة في جبال القبائل أدت إلى خسائر جسيمة ، فهربوا من المعركة لحراثة أراضيهم.

(١١٦) جيجلى وتقع فعلا على مسافة ٩٦ كم من بجاية.

(١١٧) من أواخر أيلول (سبتمبر) حتى ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٥١٥ م.

(١١٨) مات فرديناند الكاثوليكي في ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ١٥١٦ م.


سكان الجزائر في نقض الهدنة والتخلص من الجزية التي كانوا يدفعونها لأسبانيا. ولما وثقوا بقدرة بربروس العسكرية الكبرى وكفاءته في شن الحرب على النصارى ، استدعوه ونادوا به أميرا. وكان بربروس يعيش في حالة سوء تفاهم مع شخص كان قد جعل من نفسه أميرا على مدينة الجزائر. فقتله غيلة في حمام. وكان هذا الحاكم أميرا على العرب الذين كانوا يسكنون سهل المتيجة ، ويدعى سليم التومي من قبيلة ثعلبة ، وهي فرع من معقل (١١٩). فعلى أثر احتلال الأسبان بجاية (١٢٠) جعل هذا الأمير من نفسه حاكما على الجزائر واحتفظ بالسلطة لمدة بضعة أعوام حتى وصل بربروس. وبعد مقتل سليم نادى بربروس بنفسه ملكا وضرب عملة باسمه (١٢١) ووعده كل سكان المناطق المجاورة بالطاعة وأرسلوا له الجزيرة. ذاك هو أصل قوة بربروس وعظمته.

وقد كنت حاضرا خلال معظم هذه الأحداث ، لأنني كنت أقوم حينئذ برحلة من فاس إلى تونس. ونزلت بضيافة السفير الذي أوفد إلى أسبانيا والذي جلب معه ، عند عودته ، حوالي ثلاثة آلاف مخطوط عربي اشتراها من شاطبة ، وهي مدينة في مملكة بلنسية. ثم غادرت الجزائر إلى بجاية حيث وجدت بربروس منهمكا في حصاره قلعتها ، ومكثت معه لرؤية نهاية هذه المعركة ، حتى الوقت الذي هرب فيه والتجأ إلى جيجل. ثم غادرتها وقصدت قسنطينة كي أرحل منها إلى تونس ، وفي ذلك الوقت قيل لي إن بربروس قد قتل في تلمسان وأن أحد إخوته المدعو خير الدين سمي أميرا على الجزائر ولا زال يحكم حتى الساعة الحالية (١٢٢). وقد روى لي أن الامبراطور شارل حاول مرتين احتلال الجزائر وأرسل في سنتين مختلفتين أسطولا ضد هذه المدينة. ففي الأولى هزم الأسطول وغرقت معظم قطعه الحربية في ميناء الجزائر. واستطاعت الثانية

__________________

(١١٩) سليم التومي ، أمير نعلبة ، فخذ من معقل.

(١٢٠) في ٥ كانون الثاني (يناير) ١٥١٠ م.

(١٢١) لقد جرى خنق سليم التومي بواسطة عروج ، الذي نودي به أميرا ، مع لقب ملكي هو القائم بأمر الله.

(١٢٢) في الحقيقة لم يستطع المؤلف أن يغادر فاس قبل منتصف شهر آب (اغسطس) لأنه إذا لم يكن قد شهد معركة المعمورة ، قرب الرباط ، فهو قد علم بتفاصيلها ، لأنه يذكر لنا كثيرا من الأمكنة التي قطعها في أثناء الطريق ، ولم يتمكن إذن من بلوغ بجاية إلا بعد منتصف أيلول (سبتمبر). وقد قتل عروج في أيار (مايو) ١٥١٨ م في الوقت الذي كان فيه المؤلف في المشرق منذ وقت طويل ، لأنه سيذكرنا أنه كان في رشيد ، في مصر ، مع امبراطور الأتراك السلطان سليم ، ونحن نعرف من جهة أخرى أن الامبراطور العثماني زار رشيد في حزيران (يونية) ١٥١٧ م. وحكم خير الدين بربروس مدينة الجزائر من ١٥١٨ حتى ١٥٣٣.


أن تنزل قواتها ونشبت معركة لا هوادة فيها خلال ثلاثة أيام. وقد انكسر النصارى ، فقتل معظمهم ، وتم أسر الآخرين الذين أصبحوا عبيد بربروس ، ولم ينج من هذا الجيش إلا عدد قليل. وقد حدث هذا عام ٩٢٢ للهجرة (١٢٣).

تغدمت

هذه مدينة قديمة جدا تأسست ، حسب قول بعضهم ، في عهد الرومان. وقد أطلق عليها الأفارقة هذا الاسم ، لأن هذه الكلمة تعني عتيقة. وطول محيطها عشرة أميال (١٢٤) ، كما يلاحظ ذلك من أساسات جدار السور عند متابعتها. ولا تزال تظهر فيها آثار معبدين كبيرين حيث كانت تعبد الأوثان. وفي الوقت الذي آلت فيه لحكم المسلمين غدت مدينة متحضرة جدا ، آمنة ، وكان فيها عدد كبير من العلماء والشعراء. وقد تولى إمارتها أخ لوالد إدريس الثاني مؤسس فاس. وظلت الإمارة في أسرته قرابة مائة وخمسين سنة. ثم خربت تغدمت بسبب الحرب التي شنها خليفة القيروان الشيعي عام ٣٦٥ للهجرة (١٢٥). ولا يرى فيها الآن سوى بقايا أساساتها ، كما لاحظت ذلك بنفسي (١٢٦).

__________________

(١٢٣) حدثت أولى هاتين الحملتين بتحريض الكاردينال كسيمينس في أيلول (سبتمبر) ١٥١٦ م / شعبان ٩٢٢ ه‍. فقد أنزلت ثمانون سفينة قواتها أمام مدينة الجزائر ، وكانت هذه القوات بقيادة دييغو ديفيرا ، ولكن مكائد عروج بربروس الخربية قهرت البسالة الأسبانية ، وهبت عاصفة أغرقت الاسطول برمته تقريبا ، بحيث سقط ٣٠٠٠ قتيل منهم ، وسقط ٤٠٠ منهم أسرى ، وانتهت المحاولة الثانية بهزيمة اشنع أيضا. ففي ١٧ آب (أغسطس) ١٥١٨ م قدمت مجموعة من سفن نقل مخفورة بثمانية وثلاثين سفينة حربية وأنزلت قوات عظيمة العدد بقيادة دون أوغو دومنكادا ، نائب الملك في صقلية. ولكن هذا تردد في مهاجمة خير الدين بربروس الذي خلف أخاه عروج ، الذي قتل في شهر أيار السابق ، وكان قد أجاد تجهيز دفاعه. وحدت الهجوم في ٢٥ آب (أغسطس) الموافق ١٨ شعبان ٩٢٤ ه‍ ، وفي أثناء نشوب معركة شرسة مستمرة ، هبت عاصفة رهيبة ، ثارت فجأة وبعثرت الاسطول وقضت على ست وعشرين سفينة. وخسر الأسبان أربعة آلاف قتيل وثلاثة آلاف أسير.

(١٢٤) أي ١٦ كم.

(١٢٥) أو ٩٧٥ ـ ٩٧٦ م.

(١٢٦) تتألف تغدمت من أطلال تقع على مسافة ٤ كم غرب تيارت. ولهذا الاسم بالبربرية فعلا معنى قديمة ، ولكن له أيضا ، مع نطق يختلف قليلا حسب اللهجات ، معنى طبل صغير مربع الشكل ، ولهذا مدلوله أيضا ، لأن المدينة سبق لها أن شغلت تلّا بشكل هضبة ولا يزال يرى في نهايتها الغربية القصوى بقايا أسوار قصر رباعي الأضلاع. ولا تزال أنقاضه تتناثر فوق المنحدر الجنوبي لهذا التل فوق رقعة يبلغ إطارها ثلاثة كيلومترات تقريبا ، ولم نشاهد هنا أي أثر يظهر أنه روماني. وكانت المدينة الرومانية تدعى ، كما يعتقد ، تنغورتيا. تحرفت بلا شك على لسان العرب إلى شكل تيهارت أو ـ


ميديه

وهي مدينة بناها الأفارقة على تخوم نوميديا ، على مسافة ثمانين ميلا تقريبا من البحر المتوسط (١٢٧). وتقع في سهل خصيب جميل للغاية وتحيط بها عدة أنهار صغيرة وبساتين. وسكانها أغنياء لأنهم يتاجرون مع نوميديا. وهم جيدو الهندام يقطنون بيوتا جميلة. بيد أنهم يتعرضون لتعسف العوائد التي يدفعونها للعرب. ونظرا إلى أنهم يبعدون مسافة مائتي ميل (١٢٨) عن تلمسان ، فإن ملكها لا يستطيع أن يدافع عنهم ولا أن يسيطر عليهم. وقد كانت ميديه بيد أمير تينس ، ثم آلت إلى بربروس ، ثم إلى أخيه (١٢٩). وقد مكثت بهذه المدينة مدة شهرين تقريبا ، وكانت إقامتي فيها ممتازة ،

__________________

ـ تاهرت ، ولا تختلف في استعمالها عن تسمية تيارت لدينا ، وربما خربت المدينة الرومانية عام ٦٨٢ م على أثر حملة عقبة من نافع الذي خاص معركة في هذا الموقع. وأعيد بناء المدينة سنة ١٤٤ ه‍ / ٧٦١ م على يد عبد الرحمن بن رستم ، زعيم الخوارج الاباضيين والوهبيين الذي قدم ليسكنها بعد أن طرد من القيروان ، ونادى بنفسه خليفة. وقد استمرت هذه الخلافة ، العزيزة دوما على قلوب سكان «المزاب» الحاليين ، ورثة هذه العقيدة ، استمرت مدة ١٥٢ سنة هجرية ، أي حتى رمضان ٢٩٦ ه‍ / حزيران (يونية) ٩٠٩ م ، وكان لتاهرت بريق جعلها تستحق لقب عراق المغرب ، وكانت سلطتها تضم شرقا جبل نفوسة جنوبي طرابلس ، الذي لا زالت جماعة من الخوارج الأباضية تقيم فيه ، وهم بربر ، وبلغت جنوبا ضفاف النيجر ، وامتدت غربا حتى الإمارات «الخارجية» حتى لقد كان لها منفذ على البحر في مرسى فروج أو فاروخ ، وربما في موقع بلدة تدعى بالفرنسية بوسكيه حاليا ، وشرقا حتى رأس إيفي. والواقع كان هناك مدينتان تحملان اسم تاهرت ، كما كان هناك فولوبيليس ووليلي ، وزالي ومسيلة ... الخ. وقد اتخذت المدينة التي بناها عبد الرحمن بن رستم اسم تاهرت الجديدة ، أو السفلى ، او تغدمت ، في حين استخدم الحصن الروماني القديم الذي يحرس المدينة من الشرق ، في عهد الأمير الرستمي ، استحدم قلعة لقبيلة بركجانه ، واتخذ اسم تاهرت القديمة أو العليا ، وهي تيارت الحالية. وكانت مدينتا تاهرت على قدر كبير من الأهمية ، لأن تاهرت الجديدة كانت المدينة التجارية على الخصوص. ولا نزال نجهل تاريخها ، لأن كتب التاريخ دمجتها في نفس التسمية. وكان الدعي الفاطمي أبو عبد الله هو الذي قضى على الأسرة الرستمية في حزيران (يونية) ٩٠٩ م عند ما انطلق من القيروان إلى سجلماسة لإنقاذ المهدي عبيد الله الذي كان سجينا. وظلت تاهرت مع ذلك مركزا هاما جدا تعرض لتقلبات كثيرة إلى أن خربت ، ويظهر أن خرابها وقع بعد الغارة التي شنها عليها في عام ١٢٠٨ م الدعي المرابطي يحيى بن غانية والتمرد الزناتي العنيف الذي أعقب ذلك : وفي ١٢٢٣ م لم يبق فيها شيء سوى الآثار. ولم يغفل المؤلف ذكر مدة بقاء الخليفة الرستمي ولا بريق خلافته ، ولكنه أخطأ بتقديمه على أنه أمير سليماني. فقد أسس سليمان بن عبد الله ، أخو إدريس وحفدته ، بالفعل ، في بلاد التل كثيرا من إمارات ، امتدت من نومالاته ، وهي مغنية الحالية في الغرب حتى سوق حمزة ، وهي البويرة الحالية شرقا ، ولكنها تعايشت مع الخلافة الرستمية ، وقد تم القضاء عليها جميعا في القرن العاشر الميلادي مع الفتح الفاطمي.

(١٢٧) لا تبعد ميديه أكثر من ٥٦ ميلا أو ٩٠ كم عن الجزائر. وكانت هي المدينة الرومانية التي كانت تدعى لاميديا ، بإسم لمديّه ، وهي قبيلة صنهاجية. ولا تزال أسرة في ميديه تدعى حتى الآن بالعربية لمداني.

(١٢٨) على الاقل ٣٠٠ ميل أو ٤٨٠ كم.

(١٢٩) أي كانت بيد عروج بربروس ثم آلت إلى خير الدين.


ممتعة حقا. وقد أحطت فيها بتقدير أكثر من أمير المدينة. والحقيقة هي أنهم عند ما يمر بهم غريب ، يمسك به السكان بالقوة تقريبا لتسوية خلافاتهم ، ولكتابة العقود ، ولإسدائهم النصح حول ما يدور بينهم من منازعات. وهكذا جنيت في هذين الشهرين بضع عشرات الدنانير ، سواء على شكل بضائع أو مال أو حيوانات ، حتى لقد كانت نفسي تراودني على البقاء في هذه المدينة ، ولكن اضطررت للتخلي عن ذلك بسبب ما كنت مكلفا به من مولاي.

تامند فوست

تامند فوست مدينة قديمة بناها الرومان على ساحل البحر المتوسط على مسافة اثني عشر ميلا من مدينة الجزائر (١٣٠) ، ولها ميناء طيب يستخدمه أهل الجزائر ، إذ ليس لدى هؤلاء ميناء ، وليس عندهم سوى ساحل رملي. وقد هدم القوط هذه المدينة (١٣١). وشيدت جميع أسوار الجزائر تقريبا من الحجارة المقلوعة من تامند فوست.

دلّيس

دلّيس مدينة قديمة من بناء الأفارقة على مسافة تربو على الخمسين ميلا (١٣٢) على ضفاف البحر المتوسط وهي محاطة بأسوار قديمة وقوية. وأكثر سكانها من الصباغين لأن للمدينة عدة ينابيع وجداول. وهؤلاء السكان لطفاء ويحيون حياة مرحة. ويجيدون كلهم تقريبا الضرب على العود وعلى القانون. ولديهم الكثير من الأراضي الزراعية الخصيبة التي تجود بها زراعة القمح. ويلبسون ثيابا لائقة ، مثلما يفعل سكان الجزائر. ولجميعهم عادة الصيد بالشباك ويصيدون الكثير من السمك (١٣٣). ولا يباع هذا السمك ولا يشترى بل يعطى منه لمن يشاء. وقد حاكت هذه المدينة دوما ما كانت تفعله الجزائر ، سواء فيما يتعلق بحكومتها أو إمارتها.

__________________

(١٣٠) المقصود بها الأطلال الرومانية لمستعمرة روسغونية ، شرقي ساحل الجزائر ، على مسافة ٢٧ كم من العاصمة وغرب البلدة التي كان الفرنسيون يسمونها لابيروز ، وهي ميناء صغير طيب يحميه رأس ماتيفو. وقد ظلت مع ذلك عند الحصن التركي القديم الذي لا يزال فوق هذا الرأس.

(١٣١) أي الفندال.

(١٣٢) أي أكثر من ٨٠ كم.

(١٣٣) أو الحوت عند المغاربة.


جبال مملكة تلمسان

جبال بني سناسن

يقع جبل يني سناسن على مسافة خمسين ميلا (١٣٤) غرب تلمسان. فهو يتاخم صحراء غارت من جهة ، وصحراء أنجاد من جهة أخرى. ويمتد على طول يناهز خمسة وعشرين ميلا (١٣٥) وعلى عرض مقداره خمسة عشر ميلا (١٣٦). وهو جبل وعر ، عال جدا وعسير المرتقى كثيرا. وهو مستور بالكثير من الأحراش التي تنتج كمية كبيرة من الخروب الذي يعتبر الغذاء الرئيسي للسكان ، إذ ليس لديهم سوى القليل من الشعير. وفي هذا الجبل الكثير من القرى المأهولة بأناس بواسل وشجعان.

وتقوم في أعلى الجبل قلعة قوية جدا يقيم فيها أمراء البلاد ، وهم يقتتلون فيما بينهم ، لأن كل واحد يطمح إلى أن يكون قائدا. وقد كانت لي علاقات ودية مع هؤلاء الأمراء الذين تعرفت عليهم في بلاط فاس ، والذين كانوا يجلونني كثيرا.

وفي هذا الجبل حوالي عشرة آلاف محارب.

جبل متغاره

هذا الجبل عال جدا وشديد البرد ، ولكنه مأهول بشكل طيب. ويقع على مسافة ستة أميال عن ندرومه. وسكانه بواسل ، ولكنهم فقراء إذ لا ينبت في جبلهم من الحبوب سوى الشعير. ولكن تنبت فيه كمية كبيرة من شحر الخروب. ويرتبط سكان ندرومه بحلف مع هؤلاء الجبليين. وهم يتناصرون فيما بينهم ضد ملك تلمسان (١٣٧).

__________________

(١٣٤) ٨٠ كم.

(١٣٥) ٤٠ كم.

(١٣٦) ٢٤ كم.

(١٣٧) ترتفع كتلة فيلاوسين الجبلية إلى ١١٥٦ م كما أن ندرومه الواقعة فوق أسفل السفح يكون متوسط إرتفاعها ٤٠٠ م. وكانت هذه المدينة تحمل في القرن التاسع الميلادي اسم فالوسان. وتسكنها حاليا قبيلة الترارة ، الذين تسميهم النصوص القديمة اتراره ، وتسميهم في نفس الوقت متغارة.


جبل أولاسّة (١٣٨)

يجاور هذا الجبل المرتفع مدينة حنين وتسكنه قبيلة شرسة ، ولكنها في فقر مدقع ، تقاتل سكان حنين في أكثر الأوقات ، وهم الذين نهبوا هذه المدينة. وينبت فيه قليل من الحنطة ، وكثير من الخروب (١٣٩).

جبل أغبال

تقطن هذا الجبل جماعة منحطة تخضع لحكومة مدينة وهران وكل سكانه فلاحون وحطابون. ويجلب هؤلاء الحطب إلى وهران. وفي العصر الذي كانت فيه وهران تابعة للمسلمين كان هؤلاء يعيشون بحالة طيبة من الرخاء ، ولكن بعد أن سقطت هذه المدينة في أيدي النصارى ، انحدروا إلى درك شديد من الفقر ، وينالهم دائما من هؤلاء النصارى أضرار أخرى (١٤٠).

بني أورنيد

يقع هذا الجبل على مسافة ثلاثة أميال من مدينة تلمسان ، وهو آهل كثيرا بالسكان ، وينتج الكثير من الثمار ، لا سيما التين والكرز ، وأهله فحامون وحطابون ويزاولون كذلك فلاحة الأرض حتى إن هذا الجبل يعطي أثني عشر ألف دينارا من العوائد في العام ، استنادا إلى ما قاله لي كاتب ملك تلمسان (١٤١).

__________________

(١٣٨) أو جبل ولهاسّه.

(١٣٩) لا تشغل قبيلة ولهاسة في أيامنا هذه سوى ضفاف نهر التافنة جنوب رشغون ، ولكن المحتمل أنهم شغلوا في الماضي كورة كبيرة تمتد من حنين غربا حتى رأس اولاسّه شرقا.

(١٤٠) تعني كلمة أغبال بالبربرية نبع. وقد أطلق اسم محرف ، هو إربال ، على محطة سكة حديد واقعة على مسافة ١٩ كم من وهران التي تخدم مزرعة تدعى آربال ، القريبة من أطلال رومانية تعتبر خرائب آدرجياس حسب مسالك انطونان. وقد وجد في اغبال ، فيما مضى ، بلدة مسورة يبدو أنها تخربت لأول مرة حوالي ١٣٣٥ م في أثناء حملة السلطان المريني أبو الكساس على ضد تلمسان. ولما احتل الأسبان المنطقة أقاموا فيها سورا من حجارة لسكنى حامية صغيرة أبيدت على أيدي العرب في آذار (مارس) ١٥٣١ م.

(١٤١) لا تزال زناتة بني أورنيد باقية جنوب تلمسان. ويبدو أن الشكل البربري القديم لهذا الاسم كان آيت وارينيد.


جبل مغراوه

يمتد هذا الجبل على مسافة أربعين ميلا (١٤٢) على طول البحر المتوسط ، غرب مستغانم ، وهي مدينة سبق لنا الكلام عنها آنفا. وأهله أشراف وبواسل. ويملكون أراض طيبة وهم فضلا عن ذلك بشوشون وغاية في الكرم (١٤٣).

جبل بني أبو سعيد

يجاور هذا الجبل مدينة تينس وهو مأهول جدا بأناس في غاية القساوة والعنف ، ولكنهم شجعان. ولديهم مقادير كبيرة من العسل والشعير والماعز ، ويجلبون الصمغ والجلود حتى شط تينس الرملي لبيعها إلى التجار الأوربيين. وكانوا يدفعون ضريبة زهيدة لملك تينس عند ما كان أقاربه يحكمون المنطقة (١٤٤).

جبل الورسنيس

وهو جبل شديد الارتفاع ، تسكنه قبيلة شريفة (١٤٥) شنت الحرب على ملوك تلمسان أكثر من مرة. وقد استمرت هذه الحروب أكثر من ستين عاما وربما أكثر بفضل دعم ملوك فاس. ولهذا الجبل تربة ممتازة للزراعة وتكثر فيه العيون. وتوجد في قمته ، وهي قاحلة جدا ، كمية كبيرة من التوتياء (١٤٦). وفي هذا الجبل عشرون ألف مقاتل منهم ألفان وخمسمائة من الفرسان. وسكان هذا الجبل هم الذين قدموا دعمهم للأمير يحيى ، وهو الذي نصب نفسه ملكا على تونس ، ولكن بعد أن بدّلت دولة تينس إمارتها راح فرسان هذا الجبل يشنون الغارات في سائر أنحاء البلاد (١٤٧).

__________________

(١٤٢) ٦٤ كم.

(١٤٣) لم يبق ما يذكرنا اليوم بهذه القبيلة الكبيرة سوى راس مغراوة الذي يقع على مسافة ١٠٤ كم شرق مستغانم و ١٦ كم غرب تينس ، ويبدو أن زناته مغراوة ، وفي البربرية إيما غران ، يبدو أنها هي الماشليس الذين أشار اليهم هيرودوت في الأصقاع المجاورة لجزيرة جربه وهم الماشراية عند بلين Pline والماشريس عند بطليموس Ptolemee.

(١٤٤) كان بنو أبي سعيد فرعا من مغراوة ، وكانوا يشغلون على التحديد جبل زتيمة الواقع جنوب برشك.

(١٤٥) أي زناته بني توجين.

(١٤٦) أو كسيد الزنك ، فلز الزنك.

(١٤٧) تحمل هذه الكتلة الجبلية اليوم اسم الورسنيس ، وهو تحريف لكلمة ونشريش التي أصبحت ونشريس ثم ونسريس.


جبال دولة الجزائر

يوجد في جنوب وشرق سهل الجزائر ، وعلى تخومه ، عدد لا يحصى من جبال تقطنها قبائل جريئة ، معفاة من أية ضريبة وهم أغنياء جدا وغاية في الأريحية ، ولديهم أراض زراعية ممتازة ، وكثير من الماشية وعدد كبير من الخيل. وهم في أغلب الحالات في حالة حرب فيما بينهم ، حتى أنه لا يجرؤ إنسان ، سواء كان من أبناء المنطقة أو غريبا ، أن يمر بسلام دون أن يكون مصحوبا بأحد الفقهاء.

ويقيم هؤلاء فيما بينهم معارض وأسواق. ولا يوجد في هذه الجبال شيء سوى الحيوانات والحبوب والصوف والقليل من أدوات الخياطة التي تجلب من المدن ، المجاورة.



القسم الخامس



مملكة بجاية وتونس

عندما قسّمت بلاد البربر الى ممالك ، في بداية هذا المؤلف ، اعتقدت أن من الواجب اعتبار دولة بجاية مملكة ، ثم تأملت القضية بترو فلاحظت أن بجاية لم تكن أبدا مدينة ملكية إلا منذ عهد قريب وحتى الأزمنة الأخيرة ، وأن حكومة هذه المدينة تتبع فعلا ملك تونس. ولكنها كانت تحت حكم ملوك تلمسان وظلت مدة طويلة تابعة لهم ، الى أن شعر أبو فارس ، ملك تونس ، أنه أصبح على درجة كبيرة من القوة ، فقام على رأس جيشه بحملة انتهت ببسط يده على بجاية ، وأصبح ملك تلمسان تابعا يدفع له الضريبة (١). وترك أبو فارس أحد أبنائه وهو عبد العزيز حاكما وأميرا على بجاية ، وذلك كي يؤمن سلامة هذه المدينة. ولتلافي الفتن التي قد تنشب بين أبنائه بعد وفاته ؛ أعطى ابنا آخر وهو عثمان ، مملكة تونس وحكم هذا الأخير مدة أربعين سنة. وأعطى ابنا ثالثا ، يدعى عمار ، قيادة بلاد الجريد. وقد ثار هذا ضد أخيه عثمان ، ملك تونس ، فطاره هذا إلى أن أحتل مدينة صفاقس. واختار المتمرد عقابه بنفسه : فسملت عيناه واقتيد الى تونس حيث عاش ضريرا بضعة اعوام. وظل أمير بجاية مطيعا لأخيه على الدوام (٢). وظلت السلطة الملكية لمدة طويلة في أسرة أمير بجاية الى ان

__________________

(١) في الحقيقة لم تكن بجاية اكثر من ميناء صغير يعيش فيه بحارة اندلسيون وظلت كذلك الى ان رأى الملك الحمّادى الناصر بن آليناس ، في عام ١٠٦٧ م ، وهو امير دولة صنهاجة كبيرة وقوية ، حينما حاصره عرب بني هلال في عاصمته تاكر بوست ، او قلعة بني حماد ، رأى ان من الحكمة ان يلتجىء الى الساحل ، وبنى هذه المدينة (بجاية) التي اصبحت عاصمة بني حماد حتى سقوطها بيد الخليفة الموحدي عبد المؤمن سنة ١١٥٢ م. وظلت بعد ذلك رغم التقلبات المختلفة والمتعددة ، عاصمة ولاية في الامبراطورية الموحدية في مراكش اولا ، ثم في تونس. وفى عام ١٤٢٤ م قام سلطان تونس ابو فارس عبد العزيز باجتياح تلمسان وأخضع مملكة بني عبد الواد.

(٢) على اثر موت ابي فارس ، في ١٨ تموز (يوليه) ١٣٤٣ م ، كان وريثه وولي عهده حفيده ، ابو عبد الله محمد المنتصر ، هو الذي خلفه. وعهد هذا الاخير الى احد اعمامه وهو أبو الحسن علي ، بحكومة بجاية. ولكنه سمل عيني عم آخر ، وهو المعتمد ، الذي ثار عليه وهرب عند تسنّمه السلطة (سبتمبر) ١٤٣٥ م.

وعين مكانه اخوه ، ابو عمرو عثمان ، الذي توفي في بداية أيلول (سبتمبر) ١٤٨٨ م ، بعد خمسة واربعين عاما هجريا من الحكم المجيد. وعند جلوسه على العرش قام عمه حاكم بجاية ، ابو الحسن علي ، بالتمرد عليه. وانتهى الامر بعد تقلبات مختلفة ، الى الحكم على هذا المتمرد بالاعدام في شهر تشرين الأول (اكتوبر) ١٤٥٢ م.


خلع عنها بتدخل من الملك فرديناند وبتأثير القوة الحربية لبيير نافار وتأثير اقدامه (٣)

مدينة بجاية الكبرى

بجاية (٤) مدينة قديمة ، بناها الرومان ، كما يظن بعضهم ، فوق سفح جبل شديد الأرتفاع ، على ساحل البحر المتوسط ، وتحيط بهذه المدينة أسوار عالية وقوية ، وتضم ثمانية آلاف أسرة ، وأقصد بذلك القسم المسكون ، لأنها لو امتلأت بالمساكن لاحتوت أكثر من أربع وعشرين ألف أسرة ، وتمتد من حيث العرض على خاصرة الجبل امتدادا كبيرا خارقا للعادة. وسائر بيوتها جميلة ، وهي مجهزة بالجوامع بشكل طيب ، وبالمدارس التي يكثر فيها الطلاب وكذلك اساتذة الشريعة والعلوم. كما تحوى أيضا زوايا للمتعبدين المسلمين ، وحمامات وفنادق ومارستانات وكلها عمارات حسنة البنيان وأسواقها جميلة حسنة التنسيق. وتقوم المدينة كلها على تلال صغيرة ، حتى أنه ليتعذر السير بضع خطوات بدون صعود أو نزول.

وإلى جانب الجبل توجد قلعة كبيرة ذات جدران متينة. وتزدان بالكثير من الفسيفساء ، وبالجص المجزع ، وبالأخشاب المحفرة بالنقوش التي تعلوها رسومات عجيبة بلون أزرق سماوي ، حتى لتساوي هذه الأشغال الفنية من حيث القيمة أكثر من البنيان ذاته.

وكان أهل بجاية على قدر كبير من الغنى ، فكانوا يسلحون مراكب وسفنا حربية ويرسلونها لغزو سواحل أسبانيا. وهذا هو ما أدى الى سقوطها وحفز الكونت بيير نافار وعلى غزوها واحتلالها. ويعيش الناس في فاقة لأن أراضيها الزراعية هزيلة للغاية لا تنتج الحبوب ، ولكنهم مغمورون بالثمار ، اذ يوجد حول المدينة عدد لا يحصى من البساتين المليئة بالاشجار المثمرة ، وتكثر هذه الحدائق من جهة الباب الذي يشرف على الشرق.

والمنطقة مليئة بجبال وعرة مغطاة بغابات تعج بالقردة والفهود.

__________________

(٣) اسندت مهمة حكم بجاية بالتعاقب لأمراء حفصيين مختلفين ، ولكنها كانت تتمتع باستقلال كان يتزايد على توالي الأيام ، حتى إن الكونت بيير دونافار وعندما قام بإنزال قواته في ٥ كانون الثاني (يناير) ١٥١٠ م ، وجفل السكان ، حاول ان يتضامن مع «الملك» الشرعي عبد الله ، الذي سبق ان خلع قبل وقت قليل على يدعمه «الملك» عبد الرحمن.

(٤) بالبربرية بجيت ، وهو اسم قبيلة ، وفى العربية بجاية ، وفي العصور القديمة سلداءة.


وأهل بجاية رجال لطيفو المعشر ميالون الى المرح والى الموسيقى والرقص ، ولا سيما الأمراء الذين لم يقووا على محاربة مخلوق ، حتى لقد تجلى خورهم عندما جاء الكونت بيير نافارو مع بضع سفن من سفن النقل (٥) ، فقد لاذ حينئذ جميع السكان ، والملك على رأسهم ، بالفرار الى الجبل ، حاملين معهم كل ما يملكون بدون أن يمتشقوا حساما. فاحتل الكونت بيير المدينة ونهبها ، ثم عمد فورا لبناء قلعة قرب البحر ، في مكان يوجد فيه ساحل طيب ، هذا كما حصّن قلعة قديمة كانت قريبة من البحر وبجوار دار الصناعة (٦).

وبعد ستة اعوام (٧) أراد التركي بربروس ان ينتزع المدينة من أيدي النصارى وجاء ورابط أمام المدينة مع الف من الجنود الأتراك. وهاجم القلعة القديمة فاحتلها وحصنها. وجاءت كل قبائل الجبال المجاورة لمساعدة بربروس ، فقوى عزمه على احتلال القلعة الأخرى ، المجاورة للشاطىء. ولكن عند اول هجوم سقط مائة تركي من بين أكثرهم بسالة ، ومائة من أهل الجبال قتلى ، حتى إن القوات التركية عزفت عن استئناف المعركة واضطر بربروس للالتجاء الى قصر جيجل ، كما سبق أن قلنا آنفا (٨).

قصر جيجل (٩)

هو قصر قديم بناه الأفارقة على ساحل البحر ، فوق جرف عال ، على مسافة ستين ميلا من بجاية (١٠) ويضم حوالي خمسمائة أسرة وبيوته جميلة جدا. ورجاله بواسل كرماء واوفياء! وكلهم فلاحون وأراضيهم وعرة غير صالحة الا لزراعة الشعير والكتان والقنب الذي ينمو هنا بكمية كبيرة. ويوجد في هذا القصر كذلك الكثير من شجر الجوز والتين ، وتنقل ثمرات هذا الشجر الى تونس فوق مراكب صغيرة. وقد حافظ

__________________

(٥) ١٤ سفينة كانت تنقل ٨٠٠٠ رجل.

(٦) سقطت بجاية في عام ٩١٧ ه‍) في يوم السبت ٢٤ رمضان الموافق ٥ كانون الثاني (يناير) ١٥١٠ م.

(٧) في رجب ٩٢١ ه‍ / آب (أغسطس) ١٥١٥ م.

(٨) في منتصف ايلول (سبتمبر) زادا الطين بلة هطول امطار غزيرة وذهب الفلاحون الى فلاحتهم.

(٩) جيجيل أو جيجيلي.

(١٠) وهي ايعيلغيلي الرومانية ، وجيجل بالعربية ، وكانت جيجللي تقع فوق شبه جزيرة منخفضة جدا ومنبسطة كثيرا ، واقعة على مسافة ٩٦ كم او ٦٠ ميلا من بجاية.


هذا القصر دوما على حريته ، رغما عن ملوك بجاية وملوك تونس لاستحالة محاصرته ، غير ان هؤلاء السكان خضعوا بمحض إرادتهم لبربروس (١١). ولم يفرض عليهم بربروس سوى ضريبة العشر على الحبوب والثمار ، وهو أمر كان دائما مشروعا في العادة. ولم يترك ممثلا له في القصر سوى مفوض واحد.

مدينة مسيلة

هي مدينة قديمة بناها الرومان على تخوم صحراء نوميديا ، في داخل الأراضي على مسافة مائة وأربعين ميلا من بجاية (١٢). ومع أن الأسوار المحيطة بها جميلة فإن بيوتها قبيحة. وكل سكانها صناع ومزارعون. وهم رديئو الهندام لأنهم فقراء. وهذا بسبب العرب جيرانهم الذين يغتصبون أموالهم واقواتهم ، ولأن ملك بجاية فرض عليهم عدة ضرائب. وفي الوقت الذي مررت فيه بمسيلة أصبت بالذهول من البؤس السائد فيها. وقد عانيت صعوبات جمة للحصول على الشعير اللازم لحصانين ولليلة واحدة. ولو بقيت فيها ليلة اضافية لما وجدت بها نفس الكمية بسبب الشدة والمجاعة اللتين كانتا مستفحلتين فيها.

ستيف

ستيف (١٣) مدينة بناها الرومان على مسافة ستين ميلا (١٤) جنوب بجاية ، بعد اجتياز كل الجبال ، في سهل جميل جدا. وهذه المدينة محاطة بأسوار مشيدة بحجارة بديعة وكبيرة ، منحوتة ومكعبة الشكل. وقد كانت في غابر الزمن آمنة متحضرة كثيرة السكان ، ولكنها جنحت للانحطاط بعد الفتح الاسلامي وعلى الخصوص بعد قدوم العرب (١٥) الذين هدموا قسما من أسوارها. ولم يبق فيها سوى مائة بيت مسكون ،

__________________

(١١) استرد بربروس قصر جيجل هذا من الجنويين الذين احتلوه ، وذلك في عام ١٥١٤ م ، بمعونة امير محلي هو ابن القاضي الذي ساعد بربروس.

(١٢) لقد تأسست المسيلة في عام ٩٢٦ م على مسافة ٧ كم من اطلال المدينة الرومانية زابي التي تحمل اليوم اسم بشيلغه ، وتقع مسيلة على مسافة ١٢٠ ميلا او ١٩٠ كم من بجاية.

(١٣) ستيفيس الرومانية ، او سطيف ، ستيف.

(١٤) ٩٦ كم.

(١٥) أي الهلاليون في آخر القرن الحادي عشر الميلادي.


ولكن موقعها الفسيح لا زال موجودا ، وهذا ما أدركته عند ذهابي من فاس الى تونس.

نكاوس

نكاوس (١٦) مدينة تتاخم نوميديا. وقد بناها الرومان على مسافة مائة ميل من البحر المتوسط وثلاثين ميلا تقريبا من مسيلة (١٧). وهي محاطة بأسوار قديمة قوية. ويمر بجوارها نهر ، تقع مزارع التين والجوز على ضفافه. ويشتهر تين المنطقة بأنه أفضل انواع التين في مملكة تونس ، وينقل الى قسنطينة الواقعة على مسافة اربعين ميلا عنها (١٨). وتوجد حول نكاوس سهول جيدة صالحة لزراعة القمح. وسكانها اغنياء ، شرفاء كرماء. ويلبسون ثيابا لائقة ، مثل سكان بجاية. وتحتوي البلدة على بيت معد لسكنى الغرباء. وفيها أيضا مدرسة للطلاب الذين جرت العادة أن يعفوا من نفقات الكساء والغذاء. كما أن فيها جامعا جميلا فسيحا جدا ومجهزا بكل ما تمس الحاجة اليه. والنساء هنا جميلات ، لون بشرتهن أبيض ، وشعورهن فاحمة ولامعة ، لأنهن يكثرن من التردد على الحمامات ويعتنين بأنفسهن كثيرا. وليس لبيوتها على العموم سوى طابق واحد أرضي. ومع ذلك فهي أنيقة جدا ، وبهيجة المنظر لأن لكل بيت منها حديقته المليئة بالزهور المتنوعة ، لا سيما من ورود دمشق ، والريحان والبنفسج ، والحبق ، والقرنفل وأزهار أخرى لا تقل عنها بهاء. ولجميع المنازل تقريبا عيون ماء تسقى منها. وعلى الجانب الآخر من الحديقة تظهر «تكعيبة» بديعة تعطي في الصيف ظلا ظليلا ومنعشا حول الجزء المكشوف من المسكن. ولهذا فإن الذي يقصد نكاوس يود لو يبقى فيها حينا طويلا من الدهر ويأسف لاضطراره إلى مغادرتها ، وذلك لما لقيه من اهلها المضيافين المحبين من حفاوة وترحاب (١٩).

__________________

(١٦) اونيسبوس الرومانية ، وهي أكثر شهرة بشكل غير مباشر باسم نيسيفيبوس ، ونيكاوس بالعربية ، او نكاوس.

(١٧) او ٦٠ كم و ٤٨ كم.

(١٨) ٦٤ كم.

(١٩) لا تنطبق هذه اللوحة الفاتنة على نكاوس في الوقت الحاضر : فالمدينة القديمة المسورة الواقعة قرب النهر ليست اكثر من ميدان حجارة لاشكل لها ، والبلدة الحديثة ، الواقعة على السفح الذي يشرف عليها ، ليس فيها شيء فريد ، ولكن الموقع يكون نسبيا جميلا ، كما أن وفرة المياه قد تبرر جزئيا هذا الوصف الذي يبدو انه كتب بناء على معلومات محابية.


مدينة القالة

القالة مدينة كبيرة بناها كذلك الرومان على حافة البحر المتوسط ، عند حضيض جبل عال جدا. وليس لهذه المدينة في الوقت الحاضر أسوار. فقد هدم أسوارها القوط (٢٠) ، وقد تركها المسلمون الذين حكموها من بعدهم ، على الحالة التي وجدوها عليها. مع ذلك فهي مدينة آمنة ، مليئة بالصناع ، وسكانها أناس لطفاء وكرماء. وهم يقومون بتجارة طيبة لأنهم يستمدون من جبلهم الكثير من الشمع ، ولديهم كمية كبيرة من الجلود. ويقايضون هذه المنتجات بالسلع التي يجلبها الجنويون الذين يترددون على مينائهم. واراضيهم الزراعية منتجة ، ولكنها واقعة في الجبل. ويعيش السكان في حرية : وقد كانت دائما في حماية ملك تونس ومن أمير قسنطينة ، لأن المسافة بين قسنطينة وبين القالة تبلغ مائة وعشرين ميلا (٢١). ونصف اراضي كورة القالة مؤلفة من جبال يسكنها رجال بواسل جدا.

ولا يوجد على ساحل مملكة تونس مدينة اكثر غنى من هذه المدينة. فهي تربح من تجارتها مع الجنويين (اهل جنوة) ضعف قيمة ما تعطيه اياهم. ثم تبيع بالمفرّق (٢٢) في الجبال المجاورة البضائع التي جلبها الجنويون وتجنى من ذلك كسبا ضخما.

سكيكدة (٢٣)

وهي مدينة قديمة جدا ، بناها الرومان على ساحل البحر ، على مسافة خمسة وثلاثين ميلا من قسنطينة (٢٤). وقد خربها القوط في الماضي (٢٥). ولكن نظرا لوجود ميناء

__________________

(٢٠) أي الفندال.

(٢١) في الحقيقة ٨٠ ميلا او ١٢٨ كم.

(٢٢) او القطاعي.

(٢٣) «وقد سماها الفرنسيون فيليبفيل في اثناء فترة استعمارهم القطر الجزائري تخليدا لذكرى الملك لويس فيليب الذي كان على رأس البلاد عند الفتح» (المترجم).

(٢٤) اسم المدنية الرومانية روز يكاد ، وقد تحولت الى سكيكدة عند العرب ، وتقع على مسافة ٥٤ ميلا او ٨٧ كم من قسنطينة.

(٢٥) الفندال.


فيها فقد أقام امير قسنطينة بها مساكن ومستودعات للجنويين الذين يتاجرون في البلاد ، وبنى كذلك قرية في قمة جبل مجاور (٢٦) ، ويقيم في هذه القرية باستمرار مرشد يعطي اشارة للسفن المتجهة نحو الميناء. ويزاول سكان جبل سكيكدة التجارة بكثرة مع الجنويين ، فيقدمون لهم القمح ويأخذون منهم بالمقابل اقمشة ومنتوجات اوروبية اخرى. ويمتد بين هذا الميناء ومدينة قسنطينة طريق مبلطة بحجارة سوداء ، كما ترى في ايطاليا الطرق التي يسمونها الطرق الرومانية. وفي ذلك دليل قوي على ان سكيكدة قد بناها الرومان (فقد رصفوا بعض طرقها على غرار طرق ايطاليا) (٢٧).

مدينة قسنطينة

قسنطينة مدينة قديمة من بناء الرومان (٢٨). ومن المستحيل نكران ذلك عندما ترى أسوارها القديمة العهد ، العالية ، والسميكة ، والمصنوعة من حجارة منحوتة مسودّة. وتقع قسنطينة فوق جبل شديد الارتفاع وهي محاطة من الجهة الجنوبية بجروف عالية يمر من أسفلها نهر يدعى سوفغمار (٢٩). والضفة الاخرى للنهر محفوفة أيضا بجروف ، حتى أن الفج العميق الذي يقع بين هذين الجرفين القائمين يقوم بوظيفة خندق بالنسبة للمدينة ، ولكنه اكثر فائدة للمدينة من مجرد خندق.

وتتمتع المدينة من الشمال بأسوار غاية في المناعة ، وهي فضلا عن ذلك تقع في اعلى قمة في الجبل. وينتج عن ذلك تعذر الوصول الى قسنطينة الا بدروب ضيقة صغيرة. بعضها من الشرق ، وبعضها من الغرب. وللمدينة أبواب جميلة كبيرة جيدة التصفيح بالحديد.

__________________

(٢٦) على رأس سكيكدة.

(٢٧) هناك كتابة فوق جسور هذا الطريق تدل على انها شيدت بجهود كتيبة اوغستا بناء على امر الامبراطور هادريان (١١٧ ـ ١٢٨ م).

(٢٨) كانت تدعى في العصر القديم سيرتا ، وكيرتا في اللغة البونية ، اي المدينة. ولقد تخربت في اعقاب ثورة ثم اعيد بناؤها بأمر من الامبراطور قسطنطين (٣٠٦ ـ ٣٢٣ م) ومنحت اسم قسطنطين ، وفي العربية قسنطينة.

(٢٩) ذكر هذا الاسم على شكل سوفغمار في القسم العاشر. وقد نقله مارمول على شكل سوفوغمار بومرزوق. وكلمة سوف تعني النهر في بعض اللجهات البربرية ، ولكن لم يكن التعرف على معنى بقية الكلمة بشكل مضبوط ، ويبدو ان المقصود بها وادي الرمل الذي يرفده واد بومرزوق قبل دخوله قسنطينة.


وتستطيع قسنطينة ، استنادا إلى أبعادها ، أن تضم ثمانية آلاف أسرة. ولديها موارد كبيرة ، وهي مدينة مطمئنة ، مليئة بأبنية شريفة وبمنازل كبيرة ، كالجامع الكبير ومدرستين وثلاث زوايا أو أربع. وأسواقها عديدة ، حسنة التنظيم ، ولكل أصحاب مهنة فيها مقر منفصل عن مقر اصحاب المهن الأخرى. ورجالها شجعان ، ميالون للخصام ، ويشتد هذا الميل بين الصناع. وفيها عدد كبير من الباعة الذين يزاولون تجارة الأقمشة الصوفية المصنوعة محليا. ويصدر بعض التجار الزيت والحرير الى نوميديا. وكذلك الأقمشة الكتانية. ويباع كل ذلك بالمقايضة مقابل التمور والعبيد. ولا توجد مدينة في جميع بلاد البربر ترخص اثمان تمورها بمقدار رخصها في قسنطينة ، إذ يمكن شراء ثمانية أرطال إلى عشرة (٣٠) مقابل ثلاثة بيوكشيات (٣١). ويميل أهل قسنطينة الى القصد في شئون ثيابهم وزينتهم ، وهم متعجرفون وذو وتفكير سقيم. وكان من عادة ملوك تونس منح قسنطينة لولدهم البكر. ولكن الملك الحالي (٣٢) كان يعطيها تارة لهذا وتارة لذاك من أبنائه. فقد عهد بها في البداية الى ولي عهده (٣٣) الذي شرع في اعمال جليلة اذ ذهب مع جيشه لملاقاة العرب. ولكنه قتل في أول حملة على أيدي هؤلاء وقضي على كل جيشه (٣٤) ، وعلى أثر ذلك اعطى الملك المدينة لولد آخر من اولاده يدعى عبد العزيز ، وهو شاب قاس ظالم ، كان ثملا باستمرار ، وانتهى به الامر الى الهلاك بسرطان نهش خاصرتيه.

ثم أعطاها لولد آخر ، وهو غلام صغير ، كان أقرع ، لوطيا ، سكيرا عربيدا ظالما. وثار الشعب عليه وحاصره في القلعة ، الى أن ارسل والده بعض الضباط الذين اقتادوه مكبلا بالأغلال الى تونس. والقي به في السجن وأجبره على دفع غرامة بلغت خمسين الفا من الدنانير المزدوجة (٣٥). وبعد هذا أرسل الملك الى قسنطينة ،

__________________

(٣٠) اي ما يعادل ٧ ، ٢ كغم إلى ٤ ، ٣ كغم.

(٣١) حوالي ٢٠ سنت ذهب.

(٣٢) السلطان ابو عبد الله محمد.

(٣٣) الناصر.

(٣٤) قال المؤلف في كتابه الأول انه في عام ٩١٥ ه‍ (بين ٢ / ٤ / ١٥٠٩ و ٩ / ٤ / ١٥١٠ م ذهب ابن ملك تونس لاستلام الضريبه من الشاوية فتعرض لهجوم وانكسر وقتل وكان على رأس قوة قوامها ٢٠٠٠ فارس على رأسها الناصر ذاته. «الشاوية هم بربر جبال الاوراس وليسوا من العرب» (المترجم).

(٣٥) ضعف الدينار التونسي او ما يعادل ٨١١٠٠٠ فرنك ذهب.


وكيلا ، كان رجلا طيبا ، وابن موظف ملكي كبير يدعى فرح وكان هذا نصرانيا اعتنق الاسلام ، كان الملك يستعين به في اكثر القضايا اهمية سواء في الخدمة او في الادارة. وقد انشرحت نفوس السكان لهذا الوكيل ، وهو رجل شريف ومتواضع في قيادته.

وفي الجانب الشمالي من قسنطينة تقع قلعة قوية كبيرة بنيت في زمن تأسيس المدينة ، ودعمت تحصيناتها على يد الوكيل الحالي ، وهو كذلك نصراني اعتنق الاسلام ، واصله من مقاطعة بروقانس. ويدعى السيد نبيل (٣٦).

وكان هذا الرجل على درجة كبيرة من الدهاء فقد استطاع ان يبث مكائد خطيرة بين سكان قسنطينة بعضهم ضد بعض ، وكان يحرك هذه الخصومات في الاتجاهات التي تحقق اغراضه ، ولجأ كذلك الى مداورات مع العرب المجاورين للمدينة ، ومع أن هؤلاء كانوا أنبل العرب الموجودين في افريقيا وأشدهم بأسا (٣٧) فقد جعلهم يعيشون في حذر دائم. وقبض مرة على رئيس من هؤلاء العرب كان تحت امرته خمسة آلاف فارس ، وقبض على أبنائه وحفدته وإخوته ، ولم يطلق سراحه الا بعد ان ترك عنده ثلاثة من ابنائه رهائن في قلعة قسنطينة.

وبلغ به الغرور ان راح يضرب عملة تحمل اسمه. وقد بدت هذه العملة افضل من عملة الملك ولما علم الملك بالأمر استدعاه على عجل ، ولكنه لم يستجب لدعوة الملك ولم يرغب في ذلك ، واكتفى بأن أرسل للملك كمية كبيرة من الدنانير مع هدية عظيمة. واضطر الملك الى السكوت لأنه لم يستطع ان يفعل شيئا آخر.

وانتهى الامر بنبيل الى ارتكاب الكثير من المظالم تجاه الشعب الذي ثار عليه ، في الوقت الذي كان في نوميديا يضرب الحصار على مدينة بسكرة. وعند سماعه بهذه الانتفاضة ، عاد مباشرة الى قسنطينة ولكنه عجز عن دخولها. واضطر الى الذهاب الى تونس طالبا نجدة الملك. ولكن الملك رماه في سجن مظلم بمجرد وصوله وفرض عليه غرامة مقدارها خمسة آلاف دينار. وبعد ان دفع الغرامة وخرج من السجن منحه الملك النجدة التي طلبها وأرسله كي يضرب الحصار على قسنطينة فدخلها بعد عدة ايام بفضل

__________________

(٣٦) استلم السلطان ابو عبد الله محمد مقاليد السلطة في ١٦ ايار (مايو) ١٤٩٤ م كما توفي القائد ابو الفهم نبيل في ٢١ ايار (مايو) ١٤٥٣ م في عهد السلطان عثمان.

(٣٧) قبيلة رياح.


ما كان تحت إمرته من قوة وما هداه اليه حذقه وتدبيره. وعمد حينئذ الى قتل عدد كبير من الشخصيات الرئيسية في المدينة ، حتى ان الشعب ثار عليه من جديد. وحوصر في القلعة وكان يقوم بمعركة يومية ضد المهاجمين ، ولكن سقط كثير من أتباعه صرعى ، ووقع هو نفسه في اكتئاب وغم شديدين ، وأصيب بعلة مات على اثرها بعد بضعة أيام. فاستسلم اهل القلعة وردوها الى الشعب الذي دخلها ونهب قصر نائب الملك فعثر فيه على اشياء ثمينة وحوالي اثنى عشر الف كيل من الحب فضلا عن مائة رأس من كرام الخيل (٣٨).

وعلى اثر هذه الحوادث ارسل الملك نائبا الى قسنطينة لكي يشرح للشعب ان صاحب الجلالة قد عفا عنهم وضرب صفحا عن كل الاهانات. فأنشرح صدر السكان الذين لم يعودوا راغبين في ان يرسل الملك بعد الآن نائبا عنه. ولهذا أرسل الملك بالتعاقب اولاده واحدا فواحدا كما سبق ان قلنا قبل قليل.

وجميع الأراضي الزراعية الواقعة حول المدينة طيبة وخصيبة. ويبلغ محصولها ثلاثين ضعفا لما بذر فيها. وكذلك توجد بساتين جميلة جدا في السهل على طول النهر ولكنها لا تنتج كثيرا من الثمار لأن اهلها لا يعرفون كيفية زراعتها.

ويشاهد في ظاهر قسنطينة بضعة أبنية شريفة قديمة ، وعلى مسافة ميل ونصف من المدينة ، يوجد قوس نصر شبيه بأقواس النصر في روما. ولكن العامي يعتقد ، وذلك لحمقه ، أنه يوجد هنا قصر تسكنه الشياطين الذين طردهم المسلمون فى العصر الذي قد قدموا فيه ليسكنوا هذه المنطقة.

ويوجد بجوار النهر ، تحت الجرف ، درج من أجل النزول منحوت فى الصخر بالمعول. وعند حافة الماء يوجد رواق على شكل قبة منحوتة هي أيضا في الصخر ، حتى ان السقف والاعمدة والأرضية تؤلف جميعا قطعة واحدة. ومن عادة نساء المدينة الذهاب اليه لغسل الثياب.

وعلى مسافة ثلاث رميات حجر من المدينة تقريبا ، يوجد حمام ، مؤلف من نبع

__________________

(٣٨) في الحقيقة مات القائد ابو الفهم نبيل بن ابي كتاية في ٢١ ايار (مايو) ١٤٥٣ سجينا في تونس من قبل السلطان ابي عمر وعثمان.


ساخن يتدفق بين جلاميد كبيرة (٣٩). وتوجد كمية كبيرة من السلاحف التي يعتبرها النسوة ارواحا شريرة. وعند ما تصاب ، على سبيل الصدفة ، احدى تلك النساء بالحمى أو بأي مرض آخر ، فإنها تعتبرها خطيئة السلاحف ، وتعالج مرضها بأن تذبح حالا دجاجة بيضاء ، تضعها في وعاء مع كل ريشها ، ثم تحملها الى العين وتتركها بعد ان تربط حول الوعاء بضع شمعات مصنوعة من شمع العسل. ويقوم بعض الفطنين بمتابعة المرأة عند ما يرونها تتجه نحو العين مع الوعاء والدجاجة ، كي يأخذوها بمجرد أن تقفل راجعة ، ثم يطبخوا الدجاجة ويأكلوها.

وعلى مسافة أبعد من نبع الماء الحار يوجد نبع ماء بارد يقوم بجانبه بناء من الرخام ، وقد رأيت كثيرا من أشباهه في ايطاليا وفي كل بلاد أوروبا. ويعتقد العامة انه كانت هنا مدرسة لدراسة الآداب كان استاذها وتلاميذها فاسقين فمسخهم الله تعالى الى رخام ، عقابا على آثامهم. وتحولت كذلك أبنية مدرستهم الى قطعة رخام. ويجتمع اهل قسنطينة مرتين في العام في قافلة تذهب الى نوميديا. وينقلوا اليها اقمشة الصوف المصنوعة في بلادهم ونوعا من دنس يسمى الحشيش (٤٠). ونظرا لكثرة تعرضهم لهجمات العرب ، فهم يصطحبون معهم بعض رماة البنادق من الاتراك الذين ينالون اجرا طيبا على ذلك. هذا ولا يدفع تجار قسنطينة رسم دخول الى تونس ، ولكنهم يدفعون عند الخروج من قسنطينة مقدار اثنين ونصف بالمئة من قيمة بضائعهم. ولكن اضرار رحلتهم الى تونس تزيد على منافعها ، اذ تسيطر عليهم في اثنائها متعة الفسق والفجور فينفقون معظم ما ربحوه على النساء الساقطات.

مدينة ميله

ميله مدينة قديمة بناها الرومان على مسافة اثنين وثلاثين ميلا من قسنطينة (٤١) وهي محاطة بأسوار قديمة وتحوي قرابة ثلاثة آلاف أسرة. ولكنها أقفرت اليوم ، ولم يبق فيها كثير من البيوت المسكونة ، وذلك بسبب ظلم الأمراء. وفيها عدد كبير من الصناع ، ولا

__________________

(٣٩) حاليا حمام سيدي مسيد.

(٤٠) الحشيش هو تركيب اساسه القنب الهندي. «ويزرع حاليا على نطاق واسع في منطقة الريف في شمال المغرب حيث يسمى المشموم ، ويعتبر إدمان تدخينه محنة وطنية لشدة فتكه بالمواطنين» (المترجم).

(٤١) اكثر من ٥٠ كم.


سيما الذين يعملون في نسج أقمشة الصوف الذي تصنع منه أغطية السرائر. ويوجد في ساحتها عين بديعة يستخدم ماؤها في حاجات سكان المدينة. وهؤلاء السكان أناس بواسل ، ولكن مع فهم سقيم.

والمنطقة ذات إنتاج غزير من التفاح والكمثرى والثمار الأخرى. وأظن أن اسم هذه المدينة مشتق من كلمة لاتينية هي ميتا ، أي التفاح (٤٢) ، ويكثر فيها كذلك القمح.

ومن عادة أمير قسنطينة أن يرسل لهذه المدينة حاكما مهمته تحقيق العدالة فيها وجباية الضرائب المخصصة له. ويمكن تحصيل مبلغ أربعة آلاف دينار تقريبا من ميله. ولكن في الغالب يثور سكان هذه المدينة على هؤلاء الحكام ويقتلونهم منقادين في ذلك الى نزعة العنف المتأصلة فيهم.

مدينة عنابة

عنابة مدينة (٤٣) قديمة بناها الرومان على ساحل البحر المتوسط على مسافة مائة وعشرين ميلا نحو الشرق (٤٤). وكانت تدعى في القديم اوربونه. وهنا كان القديس أوغسطين أسقفا. وكانت تحت سلطة القوط (٤٥) ولكن الخليفة عثمان استولى عليها ، وهو ثالث خليفة بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم فخربها وتركت مهجورة بعد أن استحوذ على الغنائم وأحرقها (٤٦).

وشيدت بعد ذلك مدينة أخرى تبعد عن السابقة مسافة ميلين تقريبا. وقد بنيت بحجارة المدينة القديمة. وأكثرية الناس تسمى هذه المدينة الجديدة بلد العناب ، أي مدينة ثمر العناب ، بسبب كثرة هذه الثمار في هذه البقعة. وتجفف ثمار العناب كي

__________________

(٤٢) اشتقاق متكلف ، لأن اسم بلدة «ميتا» اللاتيني كان ميلو أو ميليئو ، وهي كلمة بربرية يقينا.

(٤٣) أو بونه أو هيبونه.

(٤٤) تعادل المسافة المذكورة ١٩٢ كم بالنسبة لقسنطينة.

(٤٥) أي الفندال.

(٤٦) تقع خلافة عثمان بين ٦٤٤ و ٦٥٦ م. ولا نزال نجهل تاريخ سقوط هيبونه ولكن المؤلف سيقول نفسه إن رومان قرطاج قد التجأوا إليها بعد سقوط مدينتهم وخرابها ، وقد حدث ذلك عام ٦٩٣ ه‍.

«أضف إلى هذا أن الخليفة عثمان لم يفتحها شخصيا كما يذكر المؤلف إذ لم يكن على رأس الجيش مطلقا» (المترجم).


تؤكل أثناء الشتاء. وتضم المدينة حوالي ثلاث آلاف أسرة. وسكانها متكاثفون جدا فيها ، ولكن لا يوجد فيها سوى القليل من المنازل الجميلة. ويظهر فيها جامع جميل جدا بني على ساحل البحر.

والرجال فيها وديعون فبعضهم تجار وبعضهم الآخر من الصناع والحاكة. ويبيع الأخيرون كمية كبيرة من أقمشتهم الكتانية في مدن نوميديا. ولكن العنابيين على درجة قصوى من العجرفة والعنف حتى إنهم لا يقنعون بقتل حكامهم بل تبلغ بهم الجرأة أن يهددوا بتسليم مدينتهم للنصارى إذا لم يرسل لهم الملك حكاما طيبين وعادلين. ويضيفون إلى هذا الصلف سذاجة كبيرة ، فمن ذلك أنهم يبجلون أشخاصا يتجولون في المدينة كالمجانين ، ويعتقدون أن هؤلاء أولياء ويحيطونهم بكل اعتبار وتقدير.

هذا ولا توجد في عنابة ينابيع وأنما توجد فيها خزنات «مواجن» تجمع فيها مياه المطر. ويظهر في الجانب الشرقي من المدينة قلعة كبيرة وحصينة محاطة باسوار سميكة ، وقد شيدها ملوك تونس ، وفيها يسكن الحاكم. والأرض في خارج المدينة مزروعة على مسافة تبلغ أربعين ميلا تقريبا طولا وعلى خمسة وعشرين ميلا عرضا (٤٧). وكل هذه الأراضي ممتازة لزراعة القمح. وتقطنها قبيلة عربية تدعى مرداس ، وهم الذين يزرعونها ، ويملكون عددا كبيرا من الأبقار والثيران والأغنام. وتنتج هذه المواشي كمية ضخمة من السمن ، ولكن العرب لا يجنون منها فائدة يعتد بها عند ما يذهبون لبيعها في عنابة. وكذلك الحال بالنسبة للقمح. وفي كل السنين تقصد هذه المدينة سفن عديدة قادمة من تونس ومن جربه ومن كل الساحل ، حتى جنوا ، لشراء القمح والسمن من عنابة ، ويستقبل أهل المدينة هذه السفن بكل ترحاب.

ويعقد في كل ايام الجمعة سوق خارج المدينة ، قرب الاسوار ، ويستمر حتى المساء.

وعلى مسافة ليست ببعيدة عن القالة يوجد ساحل للبحر به كثير من المرجان ، ولكن ليس لأحد الحق في صيده أو في التقاطه من على الساحل لأن الملك أعطى هذا

__________________

(٤٧) أي ٦٤ كم في ٤٠ كم.


الساحل بالتأجير إلى أهل جنوا الذين يتعرضون لمضايقة القراصنة حتى إنهم طلبوا السماح لهم ببناء قلعة فيه. ولكن السكان لم يقبلوا ذلك بدعوى أن أهل جنوا سبق لهم في الماضي أن هيمنوا على المدينة بسبب هذه الحيلة ونهبوها ، ثم استردها ملك تونس فيما بعد.

تيفش

تيفش مدينة بناها الأفارقة في العصر القديم على مسافة خمسين ميلا من عنابة باتجاه الجنوب (٤٨). وقد كانت في الماضي مدينة آمنة كثيرة السكان ومزدانة بأبنية فخمة ، ولكنها تخربت عند ما جاء العرب (٤٩) إلى إفريقيا. ثم أعيد إعمارها فيما بعد ، أي بعد بضعة أشهر ، ولم تتعرض حينئذ لأي أذى. وبعد ذلك احتلها عرب آخرون وخربوها من جديد.

وظلت أخيرا في حوزة قبيلة إفريقية لم تستخدمها إلا لتخزين حبوبها. وتدعى هذه القبيلة هوارة. ولها في أيامنا أمير يدعى نسر. وبعد أن جمع هذا الأمير العديد من الفرسان راح يحارب لمصلحة قبيلته حتى بلغت به الشجاعة أن يوطد مركزه في الأرياف على الرغم من العرب. وهو الذي قتل أمير قسنطينه الذي يدعى الناصر ، ابن ملك تونس. وبعد هذا جاء الملك بشخصه ، في إحدى المرات التي كان عائدا فيها من نوميديا ، ومر بتيفش ونهبها وهدم ما كان قائما فيها. وقد وقعت هذه الأحداث في عام ٩١٥ ه‍ (٥٠).

__________________

(٤٨) تقع تيفش على مسافة ٨٠ ميلا أو ١٢٨ كم من عنابة ولا يرى فيها سوى القليل من آثار تيبازا نوميدا روم في المنطقة النوميدية الخالصة. وهذا الاسم هو مثال واضح للتحريف اللاتيني للحروف الصوتية البربرية فانقلب حرف ب الى حرف ف كما انقلب حرف س الى حرف ش «وعلى هذا يمكن لفظها تيفش» (المترجم).

(٤٩) أي البدو الهلاليون «ونظريته في هذا الصدد تماثل آراء ابن خلدون تماما» (المترجم).

[انظر تعليقنا رقم ٣٥٩ على مقدمة ابن خلدون لتوضيح ما يقصده ابن خلدون من كلمة «العرب» في جميع الفصول التي وردت فيها هذه الكلمة في مقدمته ، الجزء الثاني الطبعة الثانية للجنة البيان تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافي ص ٥٧٩ وتوابعها ، وانظر كذلك مقالا لنا بعنوان «اتهام ابن خلدون بالتحامل على العرب» نشر بمجلة «الأصالة» الجزائرية عدد سبتمبر ـ أكتوبر ١٩٧٣]. (المراجع).

(٥٠) أي بين ٢١ / ٤ / ١٥٠٩ و ٩ / ٤ / ١٥١٠ م.


مدينة تبسّه

تبسه مدينة قديمة وحصينة بناها الرومان (٥١) على تخوم نوميديا (٥٢) على مسافة مائتي ميل جنوب البحر المتوسط (٥٣). وهي محاطة بأسوار عالية ، قوية وسميكة ، مشيدة بحجارة منحوتة تشابه جدران الكوليزه في روما. ولم أر أسوارا من هذا الصنف لا في أفريقيا ولا في أوربا (٥٤). ويمر من قرب المدينة نهر كبير جدا (٥٥) يدخل في جزء من المدينة. ويوجد في الساحة العامة ، وفي أماكن أخرى ، أعمدة من رخام وعليها كتابات لاتينية بحروف كبيرة وعمارة تقوم على أعمدة رخامية مربعة تعلوها قبة (٥٦).

وأريافها منتجة ، مع أن تربتها ضعيفة. وعندما يصل الإنسان لمسافة أربعة أو خمسة أميال من تبسه يخالها واقعة في غابة ، ولكن الأشجار ليست سوى أشجار جوز كبيرة (٥٧).

وبجوار المدينة يوجد جبل يحتوي على تجاويف عديدة محفورة بالمعول. ويعتقد العوام أنها كانت تستخدم مساكن للجبابرة ، ولكن من الواضح أنها مقالع حجارة استعان بها الرومان لبناء أسوار تبسه.

وسكان المدينة بخلاء غلاظ قساة ، ولا يحبون رؤية أي غريب ، حتى أن الدباغ وهو شاعر ذائع الصيت وأصله من مالقة التابعة لغرناطة ، تلقى إهانة عند مروره بهذه المدينة ، وكتب الأبيات التالية التي أوثر ذكرها لما تدل عليه من حقارة هذه المدينة وانحطاط أهلها :

فيما عدا أشجار الجوز لا شيء في تبسّه

مما يمكن اعتباره ذا قيمة وجديرا بالاهتمام

__________________

(٥١) تيفسته عن الرومان.

(٥٢) «المقصود دوما بنو ميديا المناطق الواقعة جنوب جبال الأطلس مباشرة» (المترجم).

(٥٣) الحقيقة لا يوجد سوى ١٥٠ ميلا تقريبا أو ٢٤٠ كم بين عنابة وتبسّه.

(٥٤) إن ما بقي من أسوارها يدل على وجود مبالغة أكيدة في قول المؤلف.

(٥٥) وهو اليوم جاف في معظم أيام السنة.

(٥٦) وربما كان هذا الكنيسة الكبرى.

(٥٧) لقد اختفت أشجار الجوز من المناطق المجاورة لمدينة تبسه في الوقت الحاضر.


لقد أخطأت : فيها كذلك الأسوار والماء النقي في النهر المجاور. وهذه المدينة قد تجردت من الفضائل وسأقول : ذلك هو الجحيم ، مع كثير من الخنازير الذين يسكنون منازلها وقد كان الدباغ شاعرا عربيا أنيقا ، مقذعا في هجائه (٥٧).

ولنعد الآن إلى سكان تبسّه. فقد عاشوا دوما في حالة تمرد ضد ملوك تونس. وكانوا يقتلون الحكام الموفدين من قبلهم. وحينما مر ملك فاس الحالي (٥٨) في أثناء آخر رحلة له في نوميديا ، بهذه المدينة ، ووصل لمسافة قريبة منها ، أرسل إليها طلائعه فنادوا عند اقترابهم من الأسوار «من يعيش هنا؟» فأجيبوا : «السور الأحمر» ومعنى ذلك سور المدينة. وعندها استشاط الملك غضبا وأصدر أمرا بالهجوم فدخل إلى تبسّه عنوة وشنق فيها أكثر من مائة رجل وذبح أكثر من مائة آخرين ، ثم نهب المدينة ، حتى أصبحت خاوية تقريبا. وحدث هذا عام ٩١٥ هجرية (٥٩).

مدينة الأربص

الأربص مدينة قديمة بناها الرومان كما يستدل على ذلك من اسمها (٦٠). وتقع في سهل بديع جدا ، هو زهرة الولايات الإفريقية كلها. وأرضها منبسطة مع سهولة كبيرة في الري. وتقدم أريافها لتونس القمح والشعير.

وتقع الأربص على مسافة تسعين ميلا جنوبي تونس (٦١). وتكثر فيها الأطلال الرومانية. ويوجد فيها كذلك تماثيل من رخام وصفائح رخامية موضوعة فوق الأبواب تحمل كتابات محفورة بالحروف اللاتينية ، والكثير من الحجارة المنحوتة. وقد سقطت

__________________

(٥٧) نفتقر للمعلومات عن هذا الشاعر الذي لا يعطينا المؤلف أكثر من كنيته.

(٥٨) أبو عبد الله محمد.

(٥٩) أي بين ٢١ / ٤ / ١٥٠٩ و ٩ / ٤ / ١٥١٠ م.

(٦٠) كان يشار إلى مستعمرة لارس اللاتينية ، حسبما هو مألوف عند اللاتين ، بعبارة لاريبوس. وحرف العرب الكلمة صوتيا فأصبحت عندهم اربص التي اعتقد المؤلف أنها أوريس أي المدينة ، باللاتينية ، ولم يبق شيء من هذه المدينة الواقعة على مسافة ٣٠ كم غرب الكاف.

(٦١) ويقول في مكان آخر ٥٠ والحقيقة ٩٠ ميلا أو ١٤٤ كم بين الأربص وتونس.


المدينة بيد القوط (٦٢) وأغراهم باحتلالها أن نبلاء الرومان الذين كانوا يستوطنون أفريقيا التجأوا إليها وجمعوا فيها ثرواتهم. وظلت حينا من الدهر مهجورة ، ثم عمرها الناس ، ولكنها ظلت قرية.

ويمر بين قلعة تقع فيها (٦٣) وبين حيين من أحيائها جدول ذو ماء صالح للشرب يجري في قناة حجارتها ناصعة البياض حتى لكأنها من الفضة. ويحرك هذا الجدول طواحين قمح ، وينبع من تل واقع على مسافة ميل ونصف من المدينة تقريبا (٦٤) ، والأربص مدينة غير مطمئنة كثيرا لأن سكانها مرهقون بالضرائب من ملك تونس ، وينقسمون الى طائفتين : طائفة الحاكة ؛ وطائفة الفلاحين ، ولو عرف ملوك تونس خصوبة هذه المنطقة ، وما يمكن أن تنتجه سواء من الحب أو من الماشية ، ووفرة مائها ، ونقاوة هوائها ، لهجروا تونس وسكنوها. ويعرف العرب كل ذلك ، ولهذا يأتون كل سنة إلى أرياف الأربص حيث يملئون أكياسهم من القمح دون أن يدفعوا شيئا ثم يعودون للصحراء.

مدينة باجة

باجة مدينة قديمة بناها الرومان على مسافة خمسة وعشرين ميلا تقريبا (٦٥) من البحر المتوسط وعلى مسافة ثمانين ميلا ، أو أكثر قليلا ، من تونس (٦٦). وقد بناها الرومان فوق موقع مدينة أخرى ، ولهذا دعيت فكّشيا : وبعدئذ أبدلت الفاء باء ، وتحولت الكاف المشددة إلى ج فأصبحت باجه (٦٧). ولكنني أظن أن الاسم الأول الذي أعطاها إياه الرومان قد حرف بسبب كثرة تقلب الأمراء على المدينة واختلاف لهجاتهم وبسبب تبدلات الديانة ، لأننا نلاحظ أن هذه الكلمة ليس عربية. وقد احتفظت باجه

__________________

(٦٢) المقصود الفندال.

(٦٣) وربما كانت خرائب حصن روماني.

(٦٤) لقد أصبحت الجداول التي كانت تنبع من الكدية الغربية في الغرب ومن جبل الأربص من الشرق ، أصبحت جافة.

(٦٥) ٤٠ كم.

(٦٦) وهي لا تبعد في الواقع أكثر من ٦٥ ميلا أو ١٠٥ كم عن تونس.

(٦٧) كانت المدينة الرومانية تدعى فاجا ، وباجة هي التحريف العربي ، أما فكشيا أي العتيقة فهي كلمة إيطالية لم يعرفها اللاتين.


حتى اليوم بأسوارها القديمة البدائية.

وسكانها منظمون ويحرصون على أن تظل مدينتهم على حالة جيدة. وفيها جميع أنواع الحرف ولا سيما الحياكة. ويرى فيها عدد كبير من المزارعين لأن ريف باجه متسع جدا وغزير الإنتاج. ولكن عدد السكان لا يكفي لزراعة الحقول ، ولهذا فهم يقومون باستزراع قسم كبير منها بواسطة العرب ، ورغم هذا ، لا يزال الكثير من الأراضى بحالة بور. ومع ذلك يباع في كل عام مقدار عشرين ألف كيل من الحب (٦٨).

ولأهل مدينة تونس عادة القول أنه لو كان هناك اثنتان مثل باجه لتجاوز عدد حبات القمح حبات الرمل. ويثقل ملك تونس كاهل سكان هذه المدينة بالضرائب حتى إنهم راحوا ينحطون شيئا فشيئا وفقد هؤلاء المعدمون الكثير من أخلاقهم الحميدة (٦٩).

عين زمّيت

أنشئت هذه المدينة في أيامنا على أيدي ملوك تونس ، على مسافة ثلاثين ميلا من مدينة باجة (٧٠). وقد أسسوها كيلا يخسروا ذلك القسم من الأرض الخصيبة التي لم تكن مزروعة. ولكنها تخربت على أيدي العرب في بضعة أيام مع موافقة ملك تونس. ومع ذلك لا تزال مآذنها قائمة في الساحة الحالية ، وكذلك لا ينقص بيوتها سوى السقوف ، كما رأيت ذلك بنفسي.

القصبات

هي مدينة قديمة بناها الرومان وسط سهل كبير جدا ربما كان يمتد على مسافة اثني عشر ميلا (٧١) حول المدينة.

__________________

(٦٨) ويعادل هذا كما يبدو ١٥٠٠ طن.

(٦٩) ملاحظة طيبة من المؤلف إذ يربط بين تدهور الاقتصاد وتدهور القيم الخلقية. وهناك قول مأثور : «ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر» (المترجم).

(٧٠) بني السلطان أبو عمرو عثمان (حكم بين ١٤٣٥ ـ ١٤٨٨ م) زاوية عين الزمّيت. ولا يزال الموقع الذي يعطيه المؤلف على مسافة ٤٨ كم تقريبا من باجه ، وربما إلى الشرق منها ، ويعتقد أنها في حوض وادي الطين ، أقول لا يزال هذا الموقع غير معروف.

(٧١) ١٩ كم.


وتقع على مسافة أربع وثلاثين ميلا من تونس (٧٢). ولا تزال أسوارها قائمة ، وهي مبنية بحجارة كبيرة منحوتة. ولكن المدينة تخربت على أيدي العرب ، وأريافها غير مزروعة ، بسبب عجز ملوك تونس من ناحية وبسبب كسل السكان الذين يملكون اراض بمثل هذه الخصوبة ، وفي متناول أيديهم ، ويستسلمون للموت جوعا من ناحية أخرى.

قصر خيرس

هو قصر شيد في العصر الحديث على نهر المجردة ، على مسافة ثمانية أميال من تونس. وتحيط بهذا القصر أراض زراعية ممتازة وتوجد بجواره غابة كبيرة من الزيتون. وقد تحول إلى خرائب بفعل بعض العرب الذين يسمون بني علي ، وهم في حالة تمرد دائم ضد ملك تونس ، ولا يعيشون إلا من السلب والاغتيال والابتزاز من الفلاحين البؤساء الذين تزيد ضرائبهم الباهظة زيادة كبيرة عن الضرائب المألوفة (٧٣).

بنزرت

بنسرت أو بنزرت ، كما نقول ، هي مدينة قديمة بناها الأفارقة على ساحل البحر المتوسط ، على مسافة خمسة وثلاثين ميلا من تونس (٧٤). وهي صغيرة يسكنها أناس فقراء ويدخل البحر بالقرب من المدينة إلى داخل الأراضي من خلال ممر ضيق وقصير ويزداد عرضا في الجنوب فيشكل نوعا من بحيرة كبيرة تقوم حولها قرى عديدة يسكنها العديد من الصيادين والفلاحين ، إذ يمتد غرب البحيرة سهل كبير يدعى سهل ماطر. وهذا السهل خصيب للغاية ، ولكنه ينوء تحت وطأة ضرائب ثقيلة يفرضها ملك تونس وكذلك العرب. وتصاد من البحيرة كمية كبيرة من الأسماك ولا سيما أسماك المرجان

__________________

(٧٢) ٥٤ كم ، وهي مسافة تكاد تكون صحيحة بين تونس وهنشير القصبات ، وفيها أطلال ثوبور بوماجوس ، قرب جسر الفحص.

(٧٣) لم يمكن تشخيص هذا الموقع ، كما يستحيل تحديد اسمه. وهناك مذكرة أسبانية كتبت في عام ١٥٣٦ م عن قبائل عرب المنطقة تقول إن أولاد علي ، وهم فخذ من خمسمائة مقاتل من قبيلة أولاد شيفة ، كانوا يسكنون بين باجه والأربص ، وهي أرض كبيرة فيها ٢٠٠٠ بيت جنوبي باجة.

(٧٤) في الحقيقة ٦٤ كم.


الكبيرة التي تزن الواحدة منها ما بين خمسة وستة أرطال (٧٥). وبعد أنقضاء شهر تشرين الأول (أكتوبر) يصاد نوع من سمك يسميه الأفارقة الزرافة ، وأظن أن هذا هو ما يسمى في روما بإسم سمك لكشيا (٧٦). ويعود هذا إلى أن مياه البحيرة تصبح بفضل الأمطار أقل ملوحة ، فيدخل السمك عندئذ إلى البحيرة ، أضف إلى ذلك أن البحيرة ليست عميقة. ويستمر الصيد حتى بداية شهر أيار (مايو) ، ثم يهاجر السمك ، كما يهاجر السمك الذي يصاد من النهر الذي يمر قرب فاس.

المدينة الكبيرة : قرطاجين (٧٧)

وهي ، كما هو مشهور ، مدينة قديمة. يذهب بعضهم إلى أن مؤسسها هو شعب قدم من سورية ، ويؤكد آخرون أن بناتها جاءوا من أرمينيا ، وأنهم اجتازوا بحر الموره ، وأنهم توقفوا في هذه المنطقة ، وبنوا فيها هذه المدينة. ويقول المؤرخ ابن رقيق أنها تأسست على يد قوم جاءوا من برقه ، وكان قد سبق أن أجلاهم ملك مصر عن مملكته ٤١٣ لخلاصة لا يعرف أي مؤلف من الأفارقة ولا يجزم بحقيقة هذا الموضوع. ومن جهة أخرى لم يقم مؤرخو الأفارقة ولا جغرافيوهم مثل ابن فشيد (٧٨) والشريف (٧٩) بإعطاء أية إشارة عن هذه المدينة ، اللهم إلا بعد سقوط الامبراطورية الرومانية. وفي ذلك العصر كان كل الحكام ونواب الامبراطور الذين كانوا في إفريقيا ، كانوا فيها عبارة عن أشباه ملوك مستقلين في مناطقهم المختلفة. ولكن القوط (٨٠) انتزعوا منهم السلطة. وعندما قدم المسلمون إلى أفريقيا واحتلوا طرابلس وبلاد البربر وقابس ، خرج سكان هاتين المدينتين وجاءوا ليسكنوا قرطاج التي اجتمع فيها نبلاء الرومان والقوط. وتحالفوا للدفاع عن أنفسهم ضد الجيوش الإسلامية. ولكن هرب الرومان إلى عنابة بعد معارك عديدة وهجر القوط قرطاج التي نهبت وأحرقت (٨١).

__________________

(٧٥) من ٢ إلى ٥ ، ٢ كجم.

(٧٦) ويسمى بالفرنسية سمك آلوزAlose.

(٧٧) قرطاجنة ، قرطاج ، قرطاجة.

(٧٨) وربما ابن رقيق نفسه.

(٧٩) الشريف الإدريسي الشهير (١١٥٤ م).

(٨٠) الفندال.

(٨١) حوالي العام ٦٩٤ م.


وظلت مدة طويلة غير مأهولة حتى زمن المهدي ، الخليفة الشيعي ، الذي عمل على إعمارها بالسكان. ولكن لم يعمر منها سوى واحد من عشرين من رقعتها التي كانت مسكونة بالأصل. وترى في بعض أمكنتها أسوار كاملة ، فضلا عن خزان ماء ذي سعة كبيرة جدا. وكانت هناك قناة تأتي إلى قرطاج بالماء من جبل يقع على مسافة ثلاثين ميلا من هنا ولا تزال كاملة على حالها. ولهذه القناة نفس ارتفاع القناة التي تقود الماء إلى القصر الكبير في روما (٨٢). وقد ذهبت إلى مأخذ الماء الذي يغذي قناة قرطاج (٨٣). وتظل القناة على مستوى سطح الأرض على مسافة طولها عشرة أميال (٨٤) لأن الأرض مرتفعة بجوار الجبل. وكلما ابتعدت عن الجبل ، وكلما انخفضت الأرض ، أصبحت القناة أعلى فأعلى إلى أن تصل إلى قرطاج.

وقد رأيت كذلك في خارج المدينة كثيرا من الأبنية القديمة والتي لم أعد أتذكرها بصورة دقيقة في الوقت الحالي. ويقوم حول قرطاج ، ولا سيما من الغرب والجنوب ، عدد عظيم من مزارع الأشجار المليئة بالثمار التي لا تقل رونقا في نوعها وجودتها عن حجمها ، وخاصة الدراق والرمان والزيتون والتين. وتستمد تونس من هذه المزارع فواكهها.

والأراضي الزراعية المجاورة لها طيبة للزراعة ولكنها صغيرة الرقعة للغاية. إذ يقع البحر من طرف الشمال ومن الشرق ، وبحيرة حلق الواد من الجنوب ، والتلال من الغرب ، ومن ورائها تتاخم سهول بنزرت التي تؤلف قسما من أراضي هذه المدينة الأخيرة.

أما اليوم فقد آلت مدينة قرطاج إلى حالة قصوى من البؤس فلا نجد فيها أكثر من عشرين أو خمسة وعشرين دكانا وحوالي خمسمائة من البيوت القبيحة المنحطة. ولكن يوجد فيها جامع جميل ، شيد في أيامنا ، ومدرسة ليس بها أي طالب ، حتى أن عوائدها تصرف إلى الخزينة الملكية.

__________________

(٨٢) أي إلى قصر البالاتان في روما.

(٨٣) أي إلى نيمفيا الرومانية الواقعة على مسافة ٥٥ كم جنوب تونس قرب المدينة الصغيرة زغوان والتي تجمع الماء من عدة عيون في جبل زغوان.

(٨٤) ١٦ كم.


ولأهل قرطاج تكبر يفوق القياس ولكنهم فقراء وبؤساء. ويبدو عليهم شدة التدين. وأكثرهم بساتنة وفلاحون. ويرهقهم الملك بالضرائب حتى لا تجد منهم من يملك عشرة دنانير. وفي ذلك جور يعرفه الجميع.

مدينة تونس الكبرى

تسمى تونس عند اللاتين تونيتوم ، ولدى العرب تونس. ولكن يعتقد هؤلاء أن هذا الاسم محرف لأنه لا يعني شيئا في لسانهم. وكانت تدعى في غابر الزمن ترسيس ، كتلك المدينة الموجودة في آسيا (٨٥). ومهما كان الأمر ، فقد كانت في الماضي مدينة صغيرة بنيت على أيدي الأفارقة على ضفة بحيرة تتكون مياهها من ممر حلق الواد ، على مسافة ميلين تقريبا من البحر المتوسط.

وقد أخذت هذه المدينة بالتوسع بعد خراب قرطاج ، سواء فيما يتعلق بعدد مساكنها او فيما يتعلق بعدد سكانها. والواقع هو أن القوات التي احتلت قرطاج لم ترغب في المكث فيها خشية وصول بعض النجدات القادمة من أوربا فسكنوا تونس وبنوا فيها بيوتا. وبعدئذ قدم قائد جيش عثمان ، ثالث خليفة ، واسمه عقبة ، فأعطى هذا امرا للقوات بألّا تقيم في أية مدينة كانت قريبة من البحر أو على شاطىء البحر نفسه. ولهذا السبب بنى المدينة التي دعيت القيروان ، على مسافة ست وثلاثين ميلا من البحر وحوالي مائة ميل من تونس. فغادرت القوات إذن تونس واستقرت في القيروان. فاحتل أهل تونس البيوت التي غادرها الجنود (٨٦)

__________________

(٨٥) يقارب المؤلف اسم مدينة تارس في كيليكيه (واسمها اليوم طرسوس) مع ترسيس أو ترشيش التي ورد ذكرها في التوراة والتي يعتقد أنها منطقة «حلوة» و «أشبيلية» في أسبانيا. وقد ظن العرب بالفعل أن ترسيس كان هو اسم تونس القديمة.

(٨٦) على الرغم من فقدان الدقة في معرفة أحداث الفتح الإسلامي لإفريقيا وعن تواريخها ، لأن هذا الأمر مضطرب كل الاضطراب ، فإن ولاية إفريقيا خرجت عن سلطة امبراطور القسطنطينة ، كونستان الثاني في عام ٦٤٦ م بسبب تمرد القائد البيزنطي جريجوار. ولكن هذا قتل في صيف عام ٦٤٨ م في معركة ضد جيش عربي لم يمكث في هذه البلاد سوى خمسة عشر شهرا جمع خلالها الغنائم وعاد أدراجه. وعادت ولاية إفريقية إذن للسلطة الامبراطورية ولم يتم الفتح الإسلامي الفعلي لهذه البلاد إلا من قبل الخليفة معاوية عام ٦٦٥ م. وفي خلال حكم كونستان الثاني حتى ٦٦٨ م وابنه قسطنطين باغونات حتى ٦٨٨ م لم يستطع العرب اكتساح الكتلة الجبلية في بلاد تونس الشمالية. وفضلا عن ذلك ظلت الخلافة في المشرق بين ٦٨٠ م ، ٦٩٣ م عرضة لاضطرابات خطيرة ، فأهملت قضية إفريقيا. كما أن القادة الذين تعاقبوا ـ


وبعد مضي قرابة ثلاثمائة وخمسين عاما تخربت مدينة القيروان على أيدي العرب ، في أعقاب تمرد قائد أفريقيا الذي خرج على الخليفة القائم ، حتى إن هذا الحاكم انسحب نحو الغرب وحكم بجاية وكل البلاد المحيطة بها (٨٧).

وبقيت في تونس أسرة تمت بصلة القرابة لقائد إفريقيا. وإليها كان ينتسب الأمراء الذين كانت يمتلكون تونس (٨٨). وبعد عشرة أعوام تم طرد أمراء بجاية على يد يوسف بن تاشفين الذي أقرّ أمراء تونس في مناصبهم بعد أن رأى خضوعهم

__________________

ـ على إفريقيا ، مثل معاوية بن حديج الكندي بين ٦٦٥ م إلى ٦٧٠ وعقبة بن نافع الفهري من ٦٧٠ إلى ٦٨٥ م ، الذي أسس القيروان ، وابو مهاجر دينار من ٦٧٥ إلى ٦٨١ م ، وعقبة بن نافع للمرة الثانية من ٦٨١ إلى ٦٨٣ م لم يخوضوا معارك حقيقية ضد البيزنطيين ، وقتل عقبة في تهوده ، قرب بسكرة على أيدي البربر الذين حكم زعيمهم كسيلة خلال خمسة أعوام في القيروان. وقدمت حملة عسكرية انتصرت على هؤلاء البربر وقتلت هذا الزعيم في ممس سنة ٦٨٧ م ، ولكن هذه القوات اضطرت للعودة في اتجاه مصر ولاحقها البيزنطيون حتى إنها انكسرت في برقة ، في ليبيا الحالية ، بحيث ضاعت إفريقيا بعدها من أيدي المسلمين. غير أن اضطرابات المشرق الإسلامي هدأت في عام ٦٩٣ م واستردت الخلافة حرية التصرف. وتجاه ذلك ارتكب الامبراطور جوستنيان الثاني كل الاخطاء الممكنة حتى أنه تعرض لبتر أحد أعضائه وللنفي في سنة ٦٩٥ م. وفي تاريخ غير دقيق ، وفي حدود العام ٦٩٣ م تراءى للخليفة عبد الملك أن الوقت قد حان للتحرك في أفريقيا فأرسل إليها جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل بقيادة الحسن بن النعمان الغساني وأفلح هذا في اجتياح قرطاج. واعتقد بعد ذلك أنه خضد شوكة الملكة البربرية الكاهنة ديا ، ولكنه تعرض لهزيمة اضطرته للبقاء خمسة أعوام متريثا على الحدود الشرقية لولاية طرابلس وصحراء سيرت. وهكذا استرد البيزنطيون ملكية قرطاج. وبعد أن أرسل الخليفة عبد الملك المال اللازم والقوات الجديدة استأنف الحسن الغساني حملته ضد الملكة البربرية ، فكسر قواتها وقتلها ، واسترد بعد ذلك قرطاج ومنطقتها وأصبح الفتح نهائيا. ويبدو أن الحسن الذي جعل مقره القيروان اهتم بوجه خاص بمدينة تونس ، وليس من المستبعد أن يكون هو الذي أعاد القوات المرابطة في تونس إلى القيروان ، مما سمح لأهل المنطقة بشغل المساكن التي أصبحت خالية ، وساعد على ازدهار هذه المدينة الصغيرة بعد أن تهدمت قرطاج.

(٨٧) بعد أكثر من ثلاثمائة وستين سنة هجرية أي في ٤٤٩ ه‍ / ١٠٥٧ م لجأ ملك القيروان المعز بن باديس ، الذي كان تحت التهديد المستمر من زحف العرب الهلاليين الذين كانوا يثيرون الفوضى في القيروان ومنطقتها منذ ١٠٥٢ م ، لجأ إلى المهدية حيث توفي في ١٤ آب ١٠٦٢ م ، واحتفظ أحفاده بسلطة مزعزعة حتى سقوط هذه المدينة بيد أمير البحر النصراني جورج التابع للملك روجر ، ملك صقلية ، بتاريخ ٢٢ حزيران (يونية) ١١٤٨ م. وقد خلط المؤلف قصة المعز ، وهو ملك القيروان الصنهاجي الزيري ، مع قصة جاره في الغرب ومنافسه ، وابن عمه البعيد الناصر بن علناس ، وهو ملك من بني حماد في تاكربوست ، أو قلعة بني حماد ، قرب مسيلة ، والذي ارتكب المعز في حقه غلطة الاستنجاد بالعرب في عام ١٠٥٢ م. ولما بلغ ذروة صولته على أثر انهيار الملك الزيري الناصر ، احتل بلدة بجاية سنة ١٠٦٧ م وبنى فيها مدينة استقر فيها عام ١٠٦٨ م.

(٨٨) لا يبدو أن هذه الأسرة ، وهي بنو خراسان ، كانت تنتسب إلى الزيريين ، ولكنها تحالفت مع ملوك بني حماد بعد عام ١٠٥٧ م.


واستكانتهم (٨٩). ولكن بعد أن استرد عبد المؤمن ، ملك مراكش ، مدينة المهدية من النصارى ، مر بتونس في أثناء عودته ، وانتزع منهم هذه الإمارة (٩٠).

وظلت تونس طيلة حياة عبد المؤمن (٩١) ، ملك مراكش ، ثم ابنه يوسف (٩٢) ثم ابن هذا ، يعقوب المنصور (٩٣) ، ظلت آمنة في سلام تحت حكم ملوك مراكش. وبعد موت المنصور ، أعلن ابنه محمد الناصر ، حربا على ملك أسبانيا ، ولكنه انكسر وهزم (٩٤) واضطر للهرب إلى مراكش حيث لم يعش بعدها أكثر من بضعة أعوام (٩٥). وبعد وفاته انتخب أخوه ، ولكن هذا الملك قتل على يد بعض جنود ملك تلمسان (٩٦). وفي الفترة الواقعة بين هزيمة محمد وموته وبين موت أخيه يوسف ، عاد العرب لسكنى دولة تونس وكثيرا ما ضربوا الحصار على حاكمها. فأخبر هذا ملك مراكش بأنه إذا لم يرسل له نجدة قوية ، فسيضطر لتسليم المدينة للعرب (٩٧) ، وقد فكر الملك (٩٨) أن مشروعا كبيرا كهذا يحتاج لرجل مجرب. ولهذا اختار من بين رجال حاشيته

__________________

(٨٩) لم يكن بين يوسف بن تاشفين وبين جيرانه الشرقيين ، أي بني حماد ، أكثر من خلافات خفيفة سرعان ما هدأت باسم قرابة الدم النظرية باعتبارهم صنهاجيين ، كما أنه لم يهتم مطلقا بالبعيدين وهم بنو خراسان في تونس.

(٩٠) انتزع عبد المؤمن ، بادىء ذي بدء ، أي قبل نهاية شهرآب (أغسطس) ١١٥٢ م ، انتزع مدينة بجاية من أيدي بني حماد الذين تلاشت أسرتهم. وبعد أن استدعي في عام ١١٥٩ لإنقاذ المهدية ، دخل تونس إثر معركة وقعت في ٤ حزيران (يونية) وانتزع السلطة من بني خراسان ، ثم دخل المهدية في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٦٠ م بعد حصار طويل.

(٩١) توفى سنة ١١٦٣ م.

(٩٢) مات يوسف سنة ١١٨٤ م.

(٩٣) توفى يعقوب المنصور ١١٩٩ م.

(٩٤) فى معركة حصن العقاب ، واسمها لاس نافاس دي طولوشه ، عند الأسبان ، في ١٦ تموز (يولية) ١٢١٢ م.

(٩٥) مات محمد الناصر في ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ١٢١٣ م ، أي بعد عام فقط من المعركة المشئومة» (المترجم).

(٩٦) لقد كان يوسف أخا الناصر وليس ابنه. وقد قتلته في ٦ كانون الثاني (يناير) بقرة هائجة ، وفضلا عن ذلك لم تظهر مملكة تلمسان إلا فى ١٢٣٦ م.

(٩٧) وهنا يقع المؤلف في خطإ تاريخي : فقد جاء الخليفة الناصر لنجدة تونس التي سقطت في شهر كانون الأول (ديسمبر) ١٢٠٣ م بيد يحيى بن غانية وتخربت على أيدي العرب حلفاؤه. وبعد موت أخيه علي سنة ١١٨٩ تزعم يحيى حركة المرابطية. واستمر فى خلال خمسة وأربعين عاما ، مع استماتة وسرعة في الحركة لا يتصورها عقل ، في حملة أو صلته من تلمسان حتى حدود مصر ، ومن ورقلة إلى تونس ، ولكنه كان متمركزا بوجه الخصوص في الجنوب التونسي. وكان عرب هذه المنطقة أهم أعوانه ، والثورة التي حرض فيها زناته ضد الموحدين في المغرب الأوسط ، هي التي كانت سبب تخريب هذه اليلاد.

(٩٨) أي محمد الناصر نفسه.


رجلا اسمه عبد الواحد ، وأصله من أشبيلية ، من بلاد غرناطة. فأرسله إلى تونس مزوّدا بالصلاحيات المطلقة. فوصل هذا إلى تونس على رأس خمس وثلاثين سفينة كبيرة. فوجد المدينة شبه مدمرة على أيدي العرب (٩٩). وبفضل شدة حذره وفصاحته الأخاذة ، استطاع أن يسنوي الأمور ، ووطد الدولة وحصّل الضرائب من كل البلاد (١٠٠). وأعقب هذا الرجل ولده أبو زكريا (١٠١) الذي فاق والده في المهارة السياسية والذكاء. وبني في تونس ، في الجزء الأكثر ارتفاعا من المدينة ، أي في الغرب ، بنى قلعة كبيرة مع قصور بديعة من داخلها ، وجامعا جميلا ذا منارة عالية امتازت هي أيضا بإتقان بنيانها الفائق (١٠٢).

وذهب أبو زكريا في حملة عسكرية حتى طرابلس ، وعاد عن طريق بلاد الجنوب واستلم ضرائب هذه المناطق ، حتى لقد ترك عند وفاته أموالا ضخمة في الخزينة (١٠٣) وبعد موت أبي زكريا (١٠٤) خلفه أحد أبنائه (١٠٥) وكان شابا متغطرسا لم يرض لنفسه الاعتراف بالتبعية لملوك مراكش الذين أخذت بوادر انحطاط أسرتهم في الظهور (١٠٦).

__________________

(٩٩) بعد أن نودي بالناصر ملكا في ٢٢ كانون الثاني (يناير) ١١٩٩ م قرر حوالي العام ١٢٠٢ م أن يذهب لتوطيد الامن في شرقي امبراطوريته وبعد أن وصل الى مدينة الجزائر ؛ أرسل أسطولا ضد جزيرة مايورقة ، وهي مركز امارة بني غانية من المرابطين ، وربما ذهب إليها بنفسه وسقطت مايورقة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) ١٢٠٣ م ، وجاء الأسطول المذكور بعدئذ لاستخلاص تونس ، فهرب ابن غانية. ولاحقه الناصر وحاربه بأفضل قواده ، وهو الشيخ أبو محمد عبد الواحد ، الذي لم يكن اشبيليا ، بل ابن تلميذ شهير وقائد من قواد المهدي بين تومرت ، واسمه أبو حفص عمر الهنتاتي. ولم يغادر الناصر مدينة تونس إلا في أيار (مايو) ١٢٠٧ م ، تاركا فيها حاكما من قبله هو عبد الواحد ، الذي دخل اليها في ١٢ أيار (مايو).

(١٠٠) كان عبد الواحد واليا على تونس ابتداء من ١٢ أيار (مايو) ١٢٠٧ حتى وفاته في ٢٥ شباط (فبراير) ١٢٢١ م.

وقد كان واليا ممتازا.

(١٠١) في الحقيقة تقلد أبو زكريا يحيى وظيفة والي تونس في حزيران (يونية) ١٢٢٨ م ، ولكنه تملص شيئا فشيئا من طاعة خليفة مراكش الموحدي ، وفي ١٢٢٦ م نادى بنفسه أميرا مستقلا.

(١٠٢) بنيت القصبة في أيام الأغالبة ، في القرن التاسع الميلادي ، ولكن أضيفت لهذه القصبة ، بعض الأبنية ، وشيد جامعها في عام ١٢٣٢ م.

(١٠٣) عمل أبو زكريا منذ بداية حكمه على مطاردة يحيى بن غانية حتى واحة ورقلة في الصحراء الجزائرية. ولكن هذا مات بصورة غامضة سنة ١٢٣٤ م ، وقد كان ازدهار المملكة الجديدة عظيما بفضل مهارة هذا الملك. وقد استمرت الأسرة الحفصية التي أسسها حتى ١٣ أيلول ١٥٧٤ م ، «أي الى اليوم الذي سقطت فيه تونس بيد الأتراك العثمانيين» (المترجم)

(١٠٤) في ٩ تشرين الأول ١٢٤٩ م.

(١٠٥) أبو عبد الله محمد.

(١٠٦) في شهر شباط (فبراير) ١١٥٣ اتخذ أبو عبد الله لنفسه لقب الخليفة أمير المؤمنين وكان عمره ستا وعشرين سنة. ـ


وفي هذه الأثناء أخذ بنو مرين يحكمون مناطق فاس في حين كان بنو زيان قد فرغوا من تأسيس مملكتهم في تلمسان. كما ثارت بلاد الأندلس هي أيضا على ملوك مراكش وطردت حكامهم من شبه الجزيرة. وفضلا عن ذلك ، أصبحت. السلطة في مراكش هدفا للمنازعات والمؤامرات ، فإبن الأخ يحارب عمه والأب ضد ابنه. وعندها شعر ملك تونس بقوته ، فقاد حملة ضد تلمسان على رأس جيشه. ففرض الجزية على ملك تلمسان (١٠٧). وما إن علم بذلك الملك المريني الذي كان حينئذ في حملة ضد مراكش ، حتى أرسل له هدايا جزيلة وأوصاه بنفسه وبمملكته خيرا. ورضي ملك تونس بذلك واعتبره صديقا ، مع النظر إليه دوما على أنه دونه (١٠٨). ولما قفل الملك راجعا إلى تونس مكللا بالنصر دخلها احتفال كبير ونادى بنفسه ملكا على إفريقيا. وأخذ في تنظيم بلاطه الملكي مستعينا بالكتاب والمستشارين وبقائد عام. وطبق كل مراسم الاحتفالات التي كانت دارجة عند ملوك مراكش (١٠٩).

ومنذ ذلك الوقت حتى عصرنا ، لم تنفك تونس عن التزايد في السكان وفي الامتياز على سواها ، حتى أصبحت أكثر مدن أفريقيا لمعانا.

وعلى أثر وفاة هذا الملك ، شيد ابنه الذي حظي بالتاج الملكي ، أربعة ارباض حول تونس (١١٠). فبنى أحد هذه الأرباض في خارج الباب المسمّى باب سويقة ، وكان يضم ثلاثمائة أسرة. وأقيم ثان في خارج باب المنارة وكان يحوي قرابة ألف أسرة.

__________________

ـ ولم تكن سلطة خليفة مراكش ، المرتضي ، الذي نودي به في حزيران (يونية) ١٢٤٨ م ، تمتد لأكثر من المسافة الواقعة بين سلا والسوس ، وظل خمسة أعوام لا يجرؤ على الخروج من عاصمته مراكش خوفا من المرينيين. أما في المشرق فلم يكن لخليفة بغداد السني أي ظل من السلطة. ومات آخر خليفة عباسي وهو المستعصم بصورة بائسة بعد عدة أيام من استسلامه لهولاكو في ١١ شباط (فبراير) ١٢٥٨ م ، أي في نفس السنة التي سقطت فيها قرطبة بيد الأسبان ، وأطلق هولاكو العنان لجنوده المنغول في ١٤ شباط (فبراير) لتذبيح مسلمي بغداد ولتدمير عاصمة الخلافة.

(١٠٧) تعود هذه الحملة إلى زمن أبي زكريا في سنة ١٢٤٢ م. فقد استلم يغمراسن بن زيان السلطة في تلمسان في شهر آب (أغسطس) عام ١٢٣٦ م ، ولكن مع الاعتراف نظريا بسلطة خليفة مراكش. وفي تموز (يولية) ١٢٤٢ م وصل أبو زكريا الى أبواب تلمسان مع قوات كبيرة فنهب المدينة ورد الملك الجديد إلى جادة الصواب.

(١٠٨) لم يحاول بنو مرين شيئا في ذلك الوقت ضد حكومة مراكش. حتى إن أميرهم أبو معرّف محمد لم يكن يحمل بعد لقب ملك ، ولكن بعد ستة عشر عاما من ذلك اتخذ أخوه يعقوب بتاريخ ٣٠ تموز (يوليه) ١٢٥٨ م لقب ملك.

(١٠٩) كان ملوك الأسرة الحفصية يعتبرون أنفسهم موحدين شرعيين.

(١١٠) نودي بأبي زكريا يحيى الواثق ملكا يوم ١٧ أيار (مايو) ١٢٧٧ م بعد ساعات من وفاة والده. واضطره الخليفة أبو عبد الله المنتصر للتنازل في آب (أغسطس) ١٢٧٠ م ، ولا يوجد نص يؤدي المعلومات الواردة أعلاه.


وهذان الربضان مليئان بعدد لا يحصى من الصناع والصيادين والعطارين .. الخ. وكان يقوم في الربض الأخير حي منفصل يؤلف بنفسه نوعا من ربض صغير ، وهنا يقيم نصارى تونس المستخدمون في حرس الملك أو من الذين يمارسون مهنا لم يألف المسلمون ممارستها. وبعد ذلك تشكل ربض آخر في خارج باب البحر ، أي باب البحرية ، الواقع على مسافة نصف ميل تقريبا من بحيرة حلق الواد. ويقيم التجار الأجانب كالجنويين (أهل جنوة) والبنادقة والقطالونيين في هذا الربض ولهم فيه فنادقهم ومخازنهم على حدة. وهذا الربض على درجة من الاتساع إذ يحوي حوالي ثلاثمائة أسرة بين نصارى ومسلمين.

ومدينة تونس جميلة جدا ودقيقة التنسيق. فلكل جماعة مهنية موضعها الخاص بها. وفضلا عن ذلك فهي مدينة مزدحمة بسكان متكاثفين تكاثفا كبيرا. وغالبية سكان تونس من الحاكة. وتصنع فيها كمية كبيرة من الأقمشة المتقنة كل الإتقان والتي تباع في كل إفريقيا. وهي مرتفعة السعر كثيرا لأنها ناعمة ومتينة. ويرجع السبب في ذلك إلى أن النساء يتقن مهنة الغزل كل الإتقان. وللقيام بذلك يجلسن فوق مقعد مرتفع نوعا ما ويدعن مغزلهن يتدلى كثيرا ، فيقعدن مثلا في نافذة ويتركن المغزل ينزل إلى صحن البيت ، أو ينزل من ثقب مفتوح في أرضية البيت بين كل طابق وآخر. ونظرا إلى ثقل المغزل يبرم الخيط المشدود برما قويا بصورة جيدة وعلى ثخانة منتظمة.

وهناك سوق خاص في تونس يحوي عددا كبيرا من تجار القماش. ويعتبر هؤلاء أكثر أهل المدينة ثراء. ويشغل تجار آخرون وصناع معهم هذا السوق ، كالعطارين وباعة الأشربة والترياقات (١١١) وباعة العطور والحرير والخياطين والسراجين والفرائين ، وباعة الفاكهة ، والحلابين ، وصناع الزلابية ، والقصابين الذين يذبحون في فصلي الربيع والصيف من الخراف أكثر من سائر الحيوانات الأخرى. وثم مهن كثيرة أخرى تمارس في هذا السوق لا يتسع المقام لذكرها.

وأهل تونس طيبون للغاية ومحببون كثيرا. ويلبس صناعها وتجارها وأئمتها وجميع موظفيها هنداما جميلا لائقا. ويضعون فوق رءوسهم قلنسوة مغطاة بقماشة طويلة. كما يضع العسكريون وموظفو البلاط قلنسوة أيضا ولكن بدون قماشة. ولا

__________________

(١١١) مستحضرات من مساحيق طبية مغلفة بشراب من السكر أو العسل.


يوجد الكثير من الأغنياء ، بسبب ندرة القمح لأن سعره في داخل البلد يقارب ثلاثة أضعاف سعره في البلاد المصدرة له ، أي اربعة دنانير ايطالية. ويرجع السبب في ندرته الى أن السكان لا يستطيعون زراعة الأراضي المجاورة بسبب السلب الذي يقوم به العرب. فالقمح يجلب من بعيد ، من الأربص ومن باجة ومن عنابة بشكل خاص. (ولاضطرار الناس لشراء القمح بهذا السعر المرتفع لا يوجد كثير من الأغنياء في هذا البلد) غير أن لدى بعض سكان المدينة أملاكا زراعية صغيرة بجوار المدينة يزرعونها قمحا وشعيرا. وتحتاج هذه الأراضي للري ، ولهذا يوجد في كل مزرعة بئر يستخرج الماء منه بسواق مبنية بناء فنيا دقيقا. ويرسل إليها الماء بواسطة آلة مركبة من دولاب يديره بغل أو جمل (١١٢) كي تروي المزروعات. فلا يمكن مع ضيق المساحة وكثرة هذه النفقات اللازمة للري وتسوير الضيعة وصيانتها أن يحصل منها صاحبها على غلة يعتد بها فلا يستطيع شخص ما أن يجني من ضيعته ما يكفيه لنصف العام.

ولكن مع هذا يوجد خبز ظريف جدا في تونس ، وهو أبيض اللون ومخبوز بشكل حسن. وهو لا يصنع من الدقيق فحسب بل يمزج معه السميد. وتبذل عناية كبيرة في صنع هذا الخبز ، ولا سيما لتحضير العجين الذي يضرب بمدقة شبيهة بتلك التي يضرب بها الأرز في مصر. ومن عادة الباعة والصناع وسكان المدينة أن يتناولوا في النهار وجبة خفيفة مؤلفة من دقيق الشعير المحلول بالماء ، وله قوام الصمغ ويوضع فيه قليل من الزيت أو شيء من عصير الليمون أو البرتقال. وتبلع هذه العجينة نيئة بدون مضغ. وتدعى البسيس ، وهي كريهة المذاق. ويوجد سوق لا يباع فيه سوى دقيق الشعير لصنع البسيس. وهناك غذاء من نفس النوع ولكنه أفضل كثيرا. تضنع عجينة خفيفة ، ثم تغلى في الماء ، وبعد أن تنضج تعجن في وعاء ثم ترص في وسط الإناء ، وبعد أن تسقى بالزيت أو بمرق اللحم ، تبلع دون مضغ. وهذا ما يسمى بالبازين (١١٣). وهناك وجبات أخرى أكثر لذة في الطعم وأكثر عناية.

هذا ولا يوجد أي طاحون يحرك بالماء ، لا في تونس ، ولا في خارج المدينة. فكلها تدار بالحيوانات. وينتج عن هذا أن الطاحون لا يكاد يطحن أكثر من حمل قمح في اليوم إلا بصعوبة. ولا يوجد في تونس نبع ، ولا نهر ولا بئر ، بل تستخدم خزانات

__________________

(١١٢) أي الناعورة.

(١١٣) البازين والبسيس هما وجبتان معروفتان جدا في الأرياف التونسية الليبية (المترجم).


يجمع فيها ماء المطر. ولكن توجد بئر ماء صالحة للشرب في خارج المدينة ولكن ماءها مالح نوعا ما ، ويحمل منه السقاءون الماء على ظهور حيواناتهم وفي قربهم التي يملئونها ثم ينطلقون لبيعها في المدينة. ويأخذ منه الناس لشربهم لأنه أنقى من الوجهة الصحية من ماء الخزان. كما توجد في خارج المدينة آبار أخرى ذات مياه ممتازة ولكنها مخصصة لاستعمال الملك وأهل حاشيته.

ولمدينة تونس جامع جميل جدا (١١٤) ، فسيح للغاية ، وله مستخدمون عديدون وموارد عظيمة. وهناك جوامع أخرى في المدينة وفي الأرباض ولكنها أقل أهمية ، وتضم بضع مدارس للطلاب وعددا من الزوايا للمتعبدين المسلمين ، وهي مؤسسات تسمح أوقافها بالإنفاق عليها واستمرار وظائفها في صورة مناسبة.

وتسيطر على أذهان أهل تونس عقيدة حمقاء وهي اعتبار كل مجنون يقذف بالحجارة من أولياء الله. وعندما كنت في تونس قام الملك ببناء زاوية بديعة جدا لأحد هؤلاء المجانين المدعو سيدي الضاحي (١١٥). وكان هذا الرجل يمشي في الشوارع لابسا كيسا ، عاري الرأس وحافيا ، يقذف بالحجارة ويصرخ كالمسعور. وقد خصص له الملك دخلا طيبا كي يعيش هو وأفراد أسرته.

ولأكثر المنازل منظر بديع ، وهي مبنية بحجارة مجهزة وجيدة النحت. وسقوفها مزدانة كثيرا بالفسيفساء وبالجصّ المجزع ، مع فن رائع ، ومزوقة باللون الأزرق وبألوان زاهية أخرى ، ويعود هذا إلى أن ألواح الخشب وأخشاب النجارة نادره للغاية ، ولذلك يستخدم في الغالب الخشب المتوافر محليا ، وهذا لا يمكن أن يتخذ منه سوى ألواح رديئة. وتبلط الغرف بمربعات من بلاط مطلي بلون فاتح ، كما يبلط الصحن أيضا ببلاط مطلي بالدهان. وبيوتها على العموم وحيدة الطابق. ولها مدخل بديع مع أول باب يطل على الطريق وباب ثان يطل على المسكن ، الذي يتوصل إليه بواسطة سلم يتألف من بضع درجات مبلطة بصورة حسنة. ويلجأ كل واحد إلى جعل مدخل بيته أكثر أناقة وأكثر تزيينا من البقية ، إذ يقف الناس في أغلب الأحيان في مداخل البيوت عندما يتحادثون مع أصدقائهم أو عندما تكون لديهم مشاكل ينبغي تسويتها مع خدامهم.

__________________

(١١٤) هو جامع الزيتونة.

(١١٥) سيدي الضاهي أو الداهي.


والحمامات كثيرة ، وهي أدق نظاما وأكثر يسرا وتسهيلا من حمامات فاس ، ولكنها لا تضارعها جمالا ولا اتساعا.

وتوجد في خارج تونس مزارع غاية في الإبداع تنتج فواكه رائعة ، بكميات قليلة ، ولكنها في غاية الجودة. وهناك عدد لا يحصى من البساتين المزروعة بالبرتقال والليمون ، وبالورود وبزهور جميلة أخرى. وفي المكان الذي يدعى الباردو على الخصوص توجد البساتين والقصور الفخمة لملك تونس. وهذه القصور مبنية بصورة رائعة مع منحوتات ورسوم كثيرة الإتقان.

وعلى مسافة أربعة إلى ستة أميال حول المدينة (١١٦) تنتشر مصانع عديدة لإنتاج الزيت لا لتموين مدينة تونس فحسب بل للتصدير كذلك إلى مصر. ويصنع من حطب الزيتون فحم يستخدم في المدينة. ويستعمل جزء من هذا الحطب في التدفئة فلا يبقى منه شيء يعتد به للاستعمالات الأخرى. وكذلك لا توجد مدينة في العالم يعوزها الحطب لهذه الاستعمالات بالقدر الذي يعوز تونس.

وأخيرا فإن البؤس الذي يفتك بفقراء الشعب في تونس يؤدي إلى اضطرار الكثير من النساء إلى أن يأكلن بأثدائهن بثمن بخس ، والكثير من الغلمان إلى التخنث ، وهؤلاء الغلمان هم أكثر دناءة وأفحش وقاحة ، وأشد فجورا من النساء المومسات.

ومهما كان عليه الحال فإن لسيدات تونس هنداما جيدا ويتزين بتظرف. وعندما يكن في الخارج يسترن وجوههن مثل نساء فاس. ويخفين وجوههن بوضع عصبة عريضة جدا من قماش فوق الجبين. وهناك حجاب آخر يدعى سفساري ، يجعل من رءوس النساء رءوسا ضخمة كبيرة ، ولا تعنى النسوة إلا بزينتهن وعطرهن ، ودليل ذلك أن باعة العطور هم دوما آخر من يغلق دكاكينهم.

ولسكان تونس عادة أكل نوع من مستحضر يدعى الحشيش (١١٧). وهو غال جدا. وعندما يؤكل منه مقدار اونسه (١١٨) يصبح آكله مرحا ، ويستغرق فى الضحك ،

__________________

(١١٦) من ٨ إلى ١٠ كم.

(١١٧) يستخلص الحشيش من القنب الهندي ويضاف إليه السكر ومستحضرات متنوعة.

(١١٨) حوالي ٢٨ غرام.


وتزيد شهيته للطعام بما يعادل ثلاثة أشخاص. ويكون متعاطيه في حال أسوأ من الرجل الثمل. وهذا المخدر مهيج لدرجة خارقة للعادة.

بلاط الملك ، ترتيبه ، عوائد الإكرام فيه ، موظفوه

يسمى ملك تونس حسب الخط الوراثي عن طريق اختيار أبيه مع أدائه القسم أمام الشخصيات الرئيسية : كالقواد ، والعلماء والأئمة والقضاة والأساتذة. وعندما يموت الملك ينتخب خليفته ، فيجلس على العرش ، ويحلف له الجميع يمين الطاعة.

وبعد الملك يأتي الشخص الذي يشغل أسمى المراتب. ويسمى المنفذ. وهو كنائب الملك بالنسبة لحكومة المملكة. ويقدم المنفذ تقريرا للملك يشتمل على القضايا التي عالجها. وهو الذي يسمي الموظفين في وظائفهم ، مع موافقة الملك وبمعرفته بالتفصيل عن كل الشخصيات التي عهد إليها بهذه المناصب وكذلك عن النفقات العسكرية.

ويدعى صاحب المنصب الثاني المزوار ، وهو نوع من قائد عام مخول بكل الصلاحيات على الجيوش والحرس الملكي. ويستطيع توزيع المعاشات ، فيزيدها أو ينقصها كما يحلو له ، وله التصرف في أمر الترقية ، ويعطي الأوامر لتحرك القوات المسلحة ... الخ.

والمنصب الثالث هي مرتبة صاحب القصر. وهو الذي يهتم بحرس القصر ، وبالأبنية التي تشغلها هذه القوات ، وبالقصور الملكية ، وبالسجناء المعتقلين في القصر من أجل مخالفات قليلة الأهمية. وله السلطة أيضا في تحقيق العدالة للأشخاص الذين يعرضون قضاياهم عليه كما لو كان الملك ذاته.

والشخصية الرابعة هو حاكم تونس الذي له صلاحية الفصل في القضايا الجنائية ، ويقرر الأحكام حسب خطورة الجريمة.

والخامس هو الكاتب الكبير الذي يكتب ويجيب باسم الملك. وله الحق في فتح رسائل كل الناس ، باستثناء الواردة للشخصيتين الساميتين السابقتين.

والسادس هو صاحب القاعة. وعلى عاتقه تزيين القاعة. ففي أيام الاجتماعات عليه أن يزين قاعة المجلس بالسجاد والمفارش ، ويحدد لكل عضو في المجلس مكانه.


وهو يطلب من السعاة باسم الملك الإعلان عن القرارات المتخذة في المجلس ، أو أن يقوموا بتوقيف بعض الشخصيات الهامة ، وهذا الموظف على علاقة وثيقة بالملك ، إذ يستطيع أن يكلمه في أي وقت يشاء.

والسابع هو الخازن الذي يستلم المال من الجباة ، ويودعه لدى أمناء صندوق بيت المال ، وينفقه بناء على حوالات الملك أو الوزير الأول مع المصادقة عليه بيد الملك.

والثامن هو مدير المكس. وهو يتلقى رسوم البضائع الداخلة إلى تونس عن طريق البر. والرسوم التجارية التي يدفعها التجار الغرباء عن تونس تبلغ اثنين ونصف بالمائة. ولدى هذا الموظف عدد كبير من المأمورين الذين ما إن يروا أجنبيا دخل المدينة ، وتظهر عليه علائم رجل ميسور ، حتى يقتادوه إلى مدير المكس. فإذا لم يكن هذا حاضرا أودعوه السجن إلى أن يحضر ، فيجبر المدير عندئذ هذا الأجنبي أن يدفع نسبة مئوية عن المال الذي يحمله ويكلف بالقوة بأداء اليمين عن الكشف الذي قدمه.

والموظف التاسع هو مدير الجمرك الذي تقوم وظيفته على استيفاء الرسوم الجمركية عن البضائع التي تخرج من تونس للتصدير عن طريق البحر وكذلك الواردة بحرا. ويعهد بهذه المهمة عادة ليهودي غني. وتقع دائرة الجمرك على بحيرة باب الواد ، قرب تونس.

والموظف العاشر هو آمر الصرف. وتتمثل وظيفته في الإشراف على شئون التموين. فهو يعمل على توفير حاجات القصر الملكي من الخبز واللحم والأشياء الضرورية الأخرى. كألبسة السيدات وآنسات الملك ، والخصيان ، والإماء الزنجيات اللواتي هن خادمات الملك. وهو الذي يسدد نفقات أبناء الملك الصغار ومربياتهم ، مثلما يوزع بين العبيد والنصارى وظائفهم المسندة اليهم ، سواء في القصر ، أو في خارج القصر. ويوفر لهؤلاء العبيد غذاءهم وكساءهم حسب الحاجات.

تلك هي الوظائف الرئيسية وأهم المناصب في هذا البلاط. وفيه أيضا بعض وظائف أخرى ذات مستوى أقل سموا كوظائف رئيس الاسطبلات ، ومعلم الصوان ، وإمام الملك ، وقاضي العسكر ، ومعلم أولاد الملك ورئيس الحشم .. الخ.


ولملك تونس ألف وخمسمائة من الفرسان ومعظمهم من النصارى الذين اعتنقوا الإسلام. ولكل واحد منهم مرتب لنفقته هو ولحصانه. ولهؤلاء الفرسان قائدهم الخاص الذي يعينهم ويسرحهم كما يشاء.

ولدى الملك أيضا مائة وخمسون فارسا ، وهم مسلمون بالولادة ، وهم عبارة عن مستشارين عسكريين للملك فيما يتعلق بالأوامر التي تعطى وبشئون الحرب. وهم عبارة عن ضباط أركان حرب.

ولدى الملك ، من ناحية أخرى ، مائة من راشقي السهام والكثير منهم نصارى أسلموا. وهم يواكبون الملك عندما يخرج راكبا في المدينة أو في خارجها.

ولكن الملك يحاط عن قرب أكثر عند خروجه بالحرس السري ، المؤلف من نصارى يسكنون الربض الذي تكلمنا عنه. ومن ناحية أخرى يتقدمه حرس آخر ، مشاة ، مؤلف من أتراك مسلحين بالأقواس وبالطبنجات (١١٩) ويمشي أمام الملك ، راكبا ، رئيس الحشم ، الذي يكون مواكبا من جانب بالضابط حامل حربة الملك ، ومن الجانب الآخر بالضابط الذي يحمل ترسه ، ومن خلفه الضابط الذي يحمل راشقة السهام. ويركب حوله بعض الضباط مثل رؤساء أركان الحرب والمشرفين على شئون التشريفات الملكية.

ذاك هو النظام السائد حسب القواعد المقررة والعادات المتعارف عليها في بلاط تونس ، ولكن ذلك معروض بصورة عامة ، لأن الاختلاف كبير بين أسلوب الحياة العادية لقدامى الملوك وطريقة الحياة الفريدة لدى الملك الحالي. والواقع أن هذا الملك هو من نوعية أخرى مختلفة ، فله عادات وسلوك آخر يختلف عن أسلافه. ويعتورني الخجل من الكلام عن الرذائل الشخصية لملك ما ، ولا سيما ملك لقيت منه الكريم من اللفتات. ومع هذا ، حتى لو تجاوزت هذه النقائص وضربت صفحا عنها ، فيجب علي أن أقول إن هذا الملك برع في استخلاص المال من رعاياه. ويعطى قسما منه إلى العرب وينفق الباقي لبناء قصوره ، حيث يحيا فيها حياة كلها ميوعة وشهوانية ، بين الموسيقيين والمطربين والمطربات ، تارة في القصبة ، وتارة أخرى في بساتين بديعة.

__________________

(١١٩) الطبنجة عبارة عن بندقية قصيرة وعريضة الفوهة تحمل باليد ، وظهرت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.


وعندما يكون على الرجل أن يغني أو أن يدق على آلة موسيقية بحضرته ، تعصب عيناه كما يصنع مع الصقور ، ثم يدخل في الحجرة حيث يكون الملك مع عشيقاته (١٢٠).

ويزن الدينار الذي سكه ملك تونس أربعة وعشرين قيراطا ، وهو يعادل دينارا وثلثا من الدنانير الدارجة في أوربا. كما تسك أيضا عملة فضية مربعة الشكل وتزن ستة قراريط. وتعادل ثلاثون أو اثنان وثلاثون من هذه القطع دينارا واحدا (١٢١).

رادس

هي مدينة صغيرة بناها الرومان على ساحل البحر المتوسط قرب حلق الواد. وقد كانت في الماضي متمدنة وآمنة جدا ، ولكن لم يبق فيها سوى بعض المزارعين الذين يزرعون الكتان ، ولا يجنون أي محصول آخر (١٢٢).

قمرط

قمرط هي مدينة أخرى ، تعود تاريخيا أيضا للعصر القديم وتجاور قرطاج على مسافة ثمانية عشر ميلا تقريبا (١٢٣) إلى الشمال من تونس ، وهي مأهولة جيدا بزراعي الخضر الذين يجلبون خضرهم إلى تونس. وينبت هنا الكثير من قصب السكر ويباع في تونس. ويكتفي الذين يشترونه بمصه ، لأنهم لا يعرفون طريقة استخراج السكر منه.

المرسى

هي مدينة صغيرة قديمة بنيت على ساحل البحر. وهنا يقع ميناء قرطاج. وقد

__________________

(١٢٠) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن الذي مات مسموما في ٩ شباط (فبراير) ١٥٢٦ م ، كما يعتقد ، على يدي إحدى زوجاته التي نادت بابنه ملكا وهو ابو محمد الحسن.

(١٢١) نرى من خلال ذلك أن الأسرة الحفصية ظلت أمينة للنظام النقدي الموحدي. والقطع النقدية الفضية المربعة الشكل هي عملة نوعية موحدية ، وكانت الواحدة منها تسمى الناصري ، مما يسمح بالافتراض بأنها ابتدعت أيام حكم الخليفة الموحدي محمد الناصر الذي احتل شخصيا مدينة تونس بين أواخر عام ١٢٠٣ م وحتى أيار ١٢٠٧ م.

(١٢٢) لقد أخطأ المؤلف فسمى هذه البلدة نابل ، ولكن الوصف ينطبق على رادس وهي مكسولا الرومانية لأن نابل التي تقوم قرب أطلال نيابوليس القديمة ، تقع على الساحل الجنوبي لشبه جزيرة الرأس الطيب Cap Bon او الوطن القبلي.

(١٢٣) ٢٩ كم.


تخربت في الماضي وظلت أطلالا لمدة طويلة. ولكن يشغلها اليوم صيادون ومزارعون وقصار والأقمشة الكتانية. وتقوم بالقرب منها قصور ملكية ومزارع يقضي فيها الملك الحالي عادة كل فصل الصيف (١٢٤).

أريانة

هي مدينة صغيرة قديمة بناها القوط (١٢٥) على مسافة ثمانية أميال من تونس. ونجد بالقرب منها مزارع أشجار تنتج مختلف الثمار ولا سيما الخروب ، وأسوارها قديمة ، ويسكنها فلاحون.

الحمّامات

الحمّامات مدينة حديثة بناها المسلمون وتحيط بها أسوار قوية. وتقع على مسافة أربعين ميلا (١٢٦) من تونس ويسكنها أناس فقراء مدقعون. وكلهم صيادون وبحارة ، وفحامون وقصار والأقمشة الكتانية. وهي مرهقة بالضرائب من جانب الملك حتى إن فقراءها يكادون يكونون متسولين.

هرقلية (١٢٧)

وهى مدينة صغيرة بناها الرومان (١٢٨). وقد تخربت على أيدي العرب.

سوسة

سوسة مدينة كبيرة قديمة بناها الرومان على ساحل البحر المتوسط على مسافة مائة

__________________

(١٢٤) المرسى ومعناها مرفأ ، وهو مذكر ويخطىء الفرنسيون وغيرهم فيؤنثونه. وأما الميناء البوني ، واسمه كروتون ، فقد كان يقع جنوب تل قرطاج.

(١٢٥) الفندال ، ويحتمل أن اسمها العربي (أريانة) قد جاء من وصف الفندال ، لأن الفندال كانوا نصارى أريانيين أي من التابعين لمذهب آريوس القائل ببشرية المسيح.

(١٢٦) ٦٤ كم.

(١٢٧) وتلفظ اهرقلية وهرقلة.

(١٢٨) واسمها اللاتيني هورّيس كوليا ، ومنها الكلمة العربية أهرقليا ، التي تحرّفت إلى هرقلة.


ميل من تونس (١٢٩). وعندما احتلها المسلمون على الساحل جعلوا منها مقر النائب الحاكم. وهنا شيّد قصر الحاكم ، ذلك القصر الذي تحول الآن إلى ما يشبه الزاوية. وتحيط بالمدينة أسوار جميلة وبها قلعة قوية وكبيرة. وهي مدينة أنيقة وموقعها بديع. وقد كانت في الماضي كثيرة السكان وآمنة. كما كانت تحوي منازل جميلة لا زال بعضها باقيا. ويوجد فيها كذلك جامع جميل جدا. وفي خارجها أملاك كثيرة مزروعة بالزيتون الذي تستخرج منه كمية كبيرة من الزيت ومزروعة كذلك بالتين. كما توجد أيضا هناك أراض ممتازة لزراعة الشعير. ولكن لا يمكن استغلالها بسبب الأعباء المادية التي يفرضها العرب.

وسكانها أناس وديعون يستقبلون الأجانب بحفاوة بالغة. ومعظمهم بحارة ، ويبحرون على المراكب التجارية التي تذهب إلى المشرق وإلى تركيا ، أو على مراكب القرصنة ، فيذهبون لمهاجمة مدن صقلية المجاورة أو سواها من البلدان الأخرى في إيطاليا. وتتألف بقية السكان من حاكة وبقّارة وخزّافين. ويصنع هؤلاء أباريق ودوارق وقماقم وكل أنواع الأوعية غير المطليّة. ويصدّرون الخزف لكل الساحل وإلى مدينة تونس أيضا.

ولكن سوسة المسكينة خلت الآن من ساكنيها بسبب ظلم الملوك وجورهم. ولم يبق فيها سوى خمس بيوتها المأهولة. ولا نجد فيها أكثر من خمس أو ست دكاكين ، وهم إما باعة جبن أو بقالون ، أو باعة خضار أو باعة سلع دنيئة. وقد مكثت مدة أربعة أيام في هذا الميناء بسبب عاصفة. وقد آلمنا كثيرا أن رأينا هذه المدينة خاضعة لمثل هذا النوع من المعاملة.

ألمنستير

المنستير مدينة قديمة بناها الرومان على ساحل البحر ، على مسافة اثني عشر ميلا من سوسة (١٣٠) وهي محاطة بأسوار قوية وعالية. وبيوتها متقنة البناء .. وهناك أمر مؤكد هو ان سكانها فقراء مدقعون إلى درجة التسول. فهم يلبسون ثيابا رثة وخشنة ويضعون

__________________

(١٢٩) في الحقيقة ١٥٠ كم.

(١٣٠) في الحقيقة ٢١ كم.


في أرجلهم نعالا من القصب البحري. وأكثرية هؤلاء السكان حاكة أو صيادون. ويقتاتون بخبز الشعير أو بهذا البازين المخلوط بالزيت الذي تكلمنا عنه من قبل ، كما يصنعه كل أهل مدن الساحل ، إذ لا ينبت هنا غير الشعير. وفي هذه المناسبة إليكم ما حدث لي بينما كنت أسافر على ظهر سفينة بصحبة سفير أصله من هذه البلدة وكان يقصد تركيا. ولما كنا نتكلم في مواضيع مختلفة ، فقد تطرّق الحديث الى أن ذكر لي أن الملك خصص له معاشا يتألف من عدد من الدنانير وأربعة وعشرين كيلا من الشعير في العام. ولما لم تكن لديّ أية خبرة عن هذه البلاد ، قلت له : «إذن لديك بضعة خيول؟» فأجابني بالنفي ، فرددت عليه بقولي : «إذن ما ذا تصنع بكل هذا القدر من الشعير؟». فرأيته وقد احمرّ وجهه وفهمت أنه يريد أن يقول أنه يأكله. وقد امتعضت من نفسي لأنني طرحت عليه مثل هذا السؤال الذي خطر ببالي ، لأنني كنت أفكر بأن الفقراء وحدهم هم الذين يأكلون الشعير.

ويوجد في خارج المنستير عدد كبير من الملكيات الزراعية المغروسة بالأشجار المثمرة كالمشمش والتين والتفاح والرمان وبعدد لا يحصى من أشجار الزيتون. غير أن الملك يحمّل المدينة من الضرائب ما يفوق طاقتها.

طبلبة

طبلبة مدينة قديمة من بناء الرومان ، على البحر المتوسط على مسافة اثني عشر ميلا من المنستير (١٣١). وقد كانت في وقت ما كثيرة السكان ، وكانت أراضيها تنتج الكثير جدا من الزيتون. ولكن كل أراضيها أصبحت الآن مهجورة بسبب غزوات العرب. ولم يبق الآن سوى القليل من البيوت في طبلبة ، وهي مسكونة بأنواع من المتعبدين الذين لهم مسكن كبير يقوم بوظيفة مارستان لسكنى الغرباء. ويقصد بعض العرب أيضا هذه المدينة ولكن بدون أن يسببوا أي إزعاج للناس.

مدينة المهدية

المهدية مدينة بنيت في زمننا (١٣٢) بمسعى من المهدي ، الشيعي ، أول خليفة في

__________________

(١٣١) تقع طبلبة على مسافة ٢ كيلومتر عن ساحل البحر و ٢٢ كم جنوب شرق المنستير.

(١٣٢) يقصد المؤلف بعبارة زمننا ، أو الأزمنة الحديثة ، كل الحقبة التالية لفتح المسلمين افريقيا.


القيروان (١٣٣). وقد بناها على ساحل البحر المتوسط فوق نتوء صخري. وأحاطها بأسوار عالية قوية ، مع أبراج ضخمة وأبواب مصفحة بالحديد. كما يحتمي الميناء أيضا بصورة محكمة بواسطة أسوار جيدة.

وقد وصل المهدي إلى هذه المنطقة بثياب حاج ، وحظي بترحيب السكان متظاهرا بأنه من نسل الرسول. وتوصل بعون من الشعب إلى أن ينادي بنفسه الخليفة المهدي للحصول على حظوة أكبر. ثم راح يجبي الضريبة في بلاد نوميديا الواقعة على مسافة أربعين ميلا الى الغرب من القيروان. ولكنه وقع بيد أمير سجلماسه الذي رمى به في السجن. ولكن الأمير تأثر بالشفقة عليه ، فردّ عليه حريته ، وعرفانا منه بالجميل ، قام المهدي بقتله (١٣٤). ومارس المهدي بعدئذ سلطة طاغية ، حتى أن الشعب ائتمر بقتله (١٣٥).

وحينئذ ظهر داعية يسمى أبا يزيد الملقّب فارس الحمار ، لأنه كان يركب حمارا

__________________

(١٣٣) الخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي.

(١٣٤) في الحقيقة لقد اقضّت الحركة الفاطمية في القرن التاسع مضاجع الخلفاء العباسيين لأن دعاتها المتحمسين انتشروا في كل العالم الاسلامي ، ولأن احدهم ، وهو أبو عبد الله ، الذي استقر سنة ٨٩٣ م في ايكجان ، شمال ستيف ، استطاع أن يثير قبيلة كتامة الكبرى وتمكّن من تحريضها وتحريض جميع أهل المنطقة على الثورة السافرة ضد أمراء القيروان الأغالبة. أما المهدي عبيد الله ، الذي كان يدعى له بوصفه إماما ومهديا منتظرا ، فإنه بعد أن غادر المشرق عام ٩٠٢ م اختبأ في مصر ، ومع أنه كان مطاردا ملاحقا ، فقد استطاع أن يلحق بالمغرب ، وذلك أنه سافر متخفيا بزي تاجر خوفا من التنكيل بأسرته. وتحاشى الذهاب بقصد اللحاق بكتامة رهط أبي عبد الله وانتظر بضعة أعوام نتيجة الأحداث في سجلماسة التي كانت حينئذ عاصمة مزدهرة ، وعاصمة أمير خارجي لا يعترف بسلطة خليفة بغداد ، وبعد أن لقي ترحيبا طيبا ألقى به في السجن لأن هذه الحركة الفاطمية الشرقية أصبحت شيئا فشيئا مزعجة بالنسبة للملوك المستقلين الذين كانوا يحكمون في الغرب. وفي نيسان (ابريل) ٩٠٩ م هزم الداعية ابو عبد الله أمير قيروان الأغلبي ، زيادة الله ، ثم ذهب نحو الغرب ، على رأس رجال من قبيلة كتامة ، الملتهبين حماسا نتيجة انتصارهم ، وقضى على الاسرة الرستمية في تاهرت ، وهزم أعداءه أمام سجلماسة واطلق سراح عبيد الله الذي نادى بنفسه إماما. وقد قتل أمير سجلماسة في المعركة ، واصطحب أبو عبد الله معه عبيد الله إلى رقادة قرب القيروان ونادى به خليفة مع لقب المهدي في كانون الأول (ديسمبر) ٩٠٩ م.

(١٣٥) يبدو أن الخلافة الفاطمية قد برهنت في البداية على درجة عالية من الحرية ، في حين يبدو أن الإسلام كما فهمه البربر في القرون الأولى كان شديد التزمت. وكان عبيد الله يطمع في المشرق. فابتداء من عام ٩١٣ م وبينما كان يجهز أول حملة ضد مصر ؛ أخذ يبحث عن نقطة في الساحل يستطيع أن يستقر فيها في طمأنينة لكي يكون لديه نافذة بحرية مفتوحة على المشرق. وابتدأت أعمال بناء المهدية في ٦ حزيران (يونية) ٩١٦ م وما أن تم بناء أسوار القصبة حتى غادر عبيد الله رقادة. التي تخربت بعد قليل ، وجاء ليقيم في المهدية نهائيا.


باستمرار ، وهاجم القيروان بجيش قوامه أربعون ألف رجل ، فهرب المهدي والتجأ إلى المدينة الجديدة. وأنجده ملك قرطبة بأربعين سفينة فقاتل بها إلى أن هزم أبا يزيد وقتله وقتل أحد أبنائه. ومن هناك عاد إلى القيرووان وطمأن الشعب واسترد مودّته (١٣٦).

وظلت السلطة في أسرة المهدي حتى العصر الذي اتكلم عنه في هذا الكتاب (١٣٧).

وبعد ثلاثين عاما سقطت المهدية بيد النصارى (١٣٨) ولكن عبد المؤمن ، خليفة مراكش وملكها (١٣٩) استرد هذه المدينة بعد ذلك.

وهي الآن تحت سلطة ملك تونس الذي يرسل إليها حاكما ويثقل الضرائب على هذه المدينة. ويزاول سكانها التجارة البحرية ويعيشون في عداء كبير مع العرب ، حتى انهم لا يستطيعون زراعة أراضيهم.

__________________

(١٣٦) توفى المهدي عبيد الله في ٣ أذار (مارس) ٩٣٤ م وخلفه إبنه أبو الحسن محمد القائم إلى ان اندلعت في عام ٩٤٣ الثورة الخارجية الرهيبة التي كانت تؤجج بتأثير فقيه يدعى أبو يزيد مخلد بن كيداد ، من توزر في الجنوب التونسي. وقامت الجحافل المتعصبة والضارية بتخريب البلاد ، إلى أن حاصرت المهدية في ٩٤٤ م. ولما كان القائم قد توفي في ١٧ أيار (مايو) ٩٤٦ م فقد تمكن إبنه أبو طاهر اسماعيل المنصور ، عدة مرات بعد كر وفر ، أن يحاصر المتمرد في جبل تاكربوست ، قرب مسيلة وأن يأسره جريحا. ومات أبو يزيد بعد بضعة أيام أي بعد ١٩ آب (اغسطس) ٩٤٧ م. ولكن ابنه الفضل ، الذي يتكلم عنه المؤلف هنا ، لم يقتل غدرا إلا في أيار (مايو) ٩٤٨. وفي نفس هذا العام أي في ٩٤٨ م غادر المنصور المهدية نهائيا كي يجعل مكان إقامته جدا من القيروان ، في بلدة اختفت اليوم وهي صبرة ، التي اتخذت اسم المنصورية.

(١٣٧) بتاريخ ٦ آب (أغسطس) ٩٧٢ م غادر ابن اسماعيل المنصور ، وهو أبو تميم معدّ المعز ، غادر المنصورية نهائيا كي يذهب للاقامة في القاهرة ، ولكن مقر حكومة نائب الملك في افريقيا ظل في المنصورية. وفي بداية سنة ١٠٥٢ م وفي الوقت الذي كان نائب الملك هذا وهو المعز بن باديس ، والذي كان على خلافات شديدة مع خليفة القاهرة الفاطمي ، كان يقطع كل ولاء ديني ، أي الخطبة ، وكل طاعة تجاه مليكه وانحاز إلى الخليفة العباسي في بغداد. وهذا الانسحاب من التبعية هو الذي أدى الى زحف العرب الهلاليين. وهذا الزحف جعل حياته في القيروان مستحيلة. فأضطر إلى اللجوء ، تحت مظلة من حماية العرب ، إلى المهدية سنة ١٠٥٧ م. وعادت هذه المدينة حينذاك عاصمة ، ولكن عاصمة دولة صغيرة زيرية ، تعاني دوما مصاعب كثيرة مع جيرانها العرب الهمجيين.

(١٣٨) في سنة ٤٤٣ ه‍ / بداية عام ١٠٥٢ م اعترف ملك افريقية الزيري ، المعز بن باديس ، اعترف رسميا بسلطة خليفة بغداد العباسي. وفي تاريخ ٢٢ حزيران (يونية) ١١٤٨ م ، الموافق ، ٢ صفر ٥٤٣ ه‍ ، أي بعد مائة عام هجري استولى الاميرال جورج الأنطاكي على المهدية بإسم ملك صقلية روجر. وهرب الأمير الحسن الزيري.

(١٣٩) لقد استرد الخليفة الموحدي المهدية بعد حصار استمر بضعة أشهر في ٢١ كانون الثاني (يناير) ١١٦٠ م.


وفي أيامنا فكر الكونت بييرنافارو في احتلال المهدية بتسع سفن. ولكن المدينة دافعت عن نفسها بشكل طيب بواسطة مدفعيتها فاضطر هذا للانسحاب بعد خسائر شديدة. وحدث هذا عام ١٥١٩ ميلادية (١٤٠).

صفاقس

صفاقس مدينة قديمة عمّرها الأفارقة على ساحل البحر المتوسط في الزمن الذي كانوا فيه بحالة حرب مع الرومان. وهي مدينة كبيرة لها أيضا أسوارها العالية المنيعة. وكانت في الماضي كثيرة السكان ، ولكنها لا تحوي اليوم أكثر من ثلاثمائة إلى أربعمائة أسرة (١٤١). وعدد الدكاكين فيها قليل لأنها تتعرض لابتزاز العرب وملك تونس. وغالبية سكانها من الحاكة والبحارة والصيادين. ويصطادون كمية كبيرة من السمك الذي يدعى سبارس ، وهو اسم ليس عربيا ولا بربريا ولا لاتينيا. ويتغذون كسائر الناس الذين تكلمنا عنهم ، أي بخبز الشعير والبازين. وهم رديئو الهندام ، ويذهب بعضهم لمزاولة التجارة في مصر وفي تركيا.

القيروان التي كانت مدينة كبيرة

القيروان أو القروان مدينة شريفة ، أسسها عقبة ، قائد جيوش بلاد العرب الصحراوية (١٤٢) التي أرسلها عثمان ، ثالث خليفة. وبناها على مسافة ستة وثلاثين ميلا عن البحر المتوسط ، وحوالي مائة ميل عن تونس لهدف وحيد ، وهو وضع جيشه والغنائم التى غنمها من مدن بلاد البربر ونوميديا في أمان. وقد أحاط القيروان بسور جميل كله من القرميد. وشيّد فيها جامعا كبيرا رائعا مع أعمدة مرمرية بهيجة ، منها اثنان قرب المحراب ، لهما ارتفاع لا يتصوره عقل ، لهما لون أحمر مرقّش بنقاط بيضاء ، مثل الرخام السماقي. وبعد موت عثمان ، أقرّه معاوية في قيادته حتى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك ، الذي كان يحكم حينذاك في دمشق (١٤٣). وعندئذ أرسل الوليد

__________________

(١٤٠) لا نعلم شيئا عن هذه المحاولة الفاشلة.

(١٤١) «أي ما بين ١٥٠٠ و ٢٠٠٠ نسمة. وسكانها الآن يقاربون مائة ضعف هذا الرقم» (المترجم).

(١٤٢) «بالمقابلة مع بلاد العرب السعيدة ، أي اليمن» (المترجم).

(١٤٣) يتطلب هذا العرض التاريخي إعادة نظر. في الواقع يهتم المؤرخون أن يذكروا لنا ان اول فاتح عربي كان عبد الله ـ


إلى القيروان أحد قواده وهو موسى بن نصير (١٤٤) على رأس جيش كبير. وعند وصول موسى إلى القيروان أقام فيها بعض الوقت إلى أن استراح جيشه تماما ، ثم اندفع نحو الغرب ، فاحتل مدنا عديدة ووصل أخيرا إلى ساحل المحيط. وهناك خاض في البحر مع جواده إلى ان بلغ الماء ركائبه (١٤٥). ورأى أن انتصاره كان كافيا في هذه المرة وقفل عائدا إلى القيروان. وأرسل أحد قواده إلى موريتانيا. وكان هذا يدعى طارق وهو الذي عقد معاهدة مع الكونت جوليان أمير سبتة (١٤٦) وأمره موسى أن يعبر إلى بلاد بتيكا (١٤٧) ، وهذا ما فعله في شهر نيسان (ابريل) ٧١١ م ، واستطاع طارق أن يحتل العديد من المدن والأقاليم برمتها ، كما نقرأ ذلك في كتاب ابن حيان (١٤٨) وفي كتاب الآخرين من مؤرخي الاندلس. وقد انتابت موسى الغيرة وأمر طارق بالتوقف

__________________

ـ ـ بن سعد الذي كسر في سنة ٦٤٨ م الوالي البيزنطي غريغوار وقتله وأنه لم يؤسس القيروان قاعدة للعمليات الحربية ، كما أن معاوية بن حديج أقام معسكره ، لدى وصوله عام ٦٦٥ م على سفح جبل وسلات ، في موقع يسمى القرن ، وأن خلفه عقبة أقام معسكره حيث قامت القيروان. وقد أرسل عقبة إلى افريقية سنة ٦٧٠ م بعد مقتل الخليفة عثمان بعد ١٧ حزيران (يونية) ٦٥٦ م. وقد عزله حاكم مصر عن قيادته سنة ٦٧٥ م وحل مكانه أبو المهاجر دينار الذي أقام «قيروانة» على مسافة ٥ ، ٣ كم من المعسكر الأول ، على طريق تونس. ولكن الخليفة يزيد رد القيادة سنة ٦٨١ م الى عقبة الذي استشهد عام ٦٨٣ م. ولكن بعد مقتل عقبة جلا العرب عن أفريقيا واصبحت القيروان مدينة بربرية خالصة الى أن قرر الخليفة عبد الملك ، وهو من قدامى المحاربين في أفريقيا ، أن يستأنف فتح هذا الإقليم وأرسل الحسن بن النعمان الغساني خلال العام ٦٩٣ م. ولكن هذا لم يستطيع الاستقرار نهائيا في القيروان إلا حوالي العام ٦٩٨ م. ولنتذكر أن كل هذه التواريخ غير موثوق بها كل الثقة. وربما لم تتحول القيروان التي أقامها عقبة إلى مدينة إلا في عصر حسان بن النعمان.

ويتفق المؤرخون على القول بأن المكان الذي اختاره عقبة كان بقصد السلامة ولتحاشي المنطقة الساحلية الشديدة الخطورة. ومن المحتمل أيضا أن القائد العربي كان موجها بأسباب تكتيكية فجعل قاعدته في نهاية سهل صحراوي يجاذي كتلة جبلية كانت في أيدي البيزنطيين. وكان من اللازم أن يكون تحت إمرته جيش بدوي كي يعيش في هذه البقعة الفقيرة بالمياه.

(١٤٤) توفي الخليفة عبد الملك في ٨ تشرين الأول (اكتوبر) ٧٠٥ م وخلفه إبنه الوليد. ولم يتمكن موسى بن نصير أن يصل إلى القيروان إلا في عام ٧٠٦ م.

(١٤٥) وتنسب هذه الرواية عموما إلى عقبة بن نافع بعد وصوله إلى السوس سنة ٦٨٣ م ولا نكاد نعرف شيئا عن هذا الفتح السريع نسبيا.

(١٤٦) من المجتمل أن طارق بن زياد كان مولّدا ، أي لأب عربي وأم أجنبية ، وعلى الأرجح افريقية ، مما ساعده على الكلام باللاتينية (لعله يقصد العربية) وبالبربرية وأن يتولى قيادة مصمودة في منطقة طنجة ، وقد انجز إخضاع البلاد حوالي العام ٧٠٩ م. وهناك رواية يسردها ابن القوطية مفادها أن جوليان الذي دخل معه طارق في مفاوضات لم يكن كونت سبتة ، بل ثريا أسبانيا يعمل في التصدير ، وكان يزاول التجارة في طنجة.

(١٤٧) «شبه جزيرة ايبريا ، أو أسبانيا ، وعلى وجه الدقة بلاد الأندلس» (المترجم).

(١٤٨) ابن حيّان ، مؤرخ أسبانيا والأسرة الأموية التي قامت في هذه البلاد ، ويعتبره ابن خلدون كنموذج للمؤرخين.


وانتظاره. وهذا ما فعله هذا على الساحل الأندلسي. ووصل موسى بعد اربعة اشهر مع جيش كبير. وبعد عبوره بحر غرناطة (١٤٩) ، قاما بتوحيد جيشيهما وتوغلا في الداخل لمجابهة جيش القوط. وتوجه ملك القوط «لذريق» للقائهما. ولسوء حظه انكسر وقضى على جيشه. وتابع القائدان انتصارهما ، وتقدما حتى قشتالة ، واحتلا طليطلة حيث وجدا أموالا طائلة ، وثروات عظيمة ، وبقايا قديسين موضوعة في كنيسة هذه المدينة ، ولا سيما المائدة التي تناول عليها المسيح العشاء الرباني مع الحواريين ، وهي مائدة مكسوة بالذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة ، وتقدر قيمتها بنحو نصف مليون دينار (١٥٠). وبعد فتح طليطلة عاد موسى مع قسم من جيشه وحمل معه كل ثروات أسبانيا. وعبر البحر كي يعود إلى القيروان ، ولكنه تلقى في هذه الأثناء رسائل استدعاء من قبل الوليد خليفة دمشق. وسار في طريقه نحو مصر مع كنوزه. وما أن بلغ الاسكندرية حتى أعلمه شقيق خليفة دمشق ، واسمه هشام ، أن الخليفة في النزع الأخير ، ومن الأجدر به ألا يأتي لأنه إذا وقع موت الخليفة ، فإن من المحتمل جدا أن تتعرض هذه الكنوز للنهب. ولكن موسى لم ينصت لذلك وقدم إلى دمشق ، ووجد فعلا ، كما قال هشام ، أن الخليفة في حالة احتضار.

ونودي بأخيه هشام خليفة ، ولكن هذا عزل موسى من قيادة افريقيا وسمي قائدا آخر عليها يدعى يزيد بن المهلب (١٥١) الذي خلفه إبنه وأخوه وحفيده بالتتالي ، وحكموا مدينة القيروان في اثناء المدة التي استمرت فيها أسرة بني أمية في الخلافة (١٥٢).

وبعد أن فقدت أسرة بني أمية سلطتها وانتقلت الخلافة بقوة السيف إلى أسرة بني

__________________

(١٤٩) «أو بحر الزقاق أو مضيق جبل طارق» (المترجم).

(١٥٠) لقد سمى كل المؤلفين الذين جاءوا بعد ابن خرداذبة الذي كتب حوالي العام ٨٤٦ م ، هذه المائدة «مائدة سليمان».

(١٥١) على أثر موت الوليد تولى الخلافة بتاريخ ٢٤ شباط (فبراير) ٧١٥ م أخوه سليمان الذي عين محمد بن يزيد حاكما على افريقيا وأسبانيا ، سنة ٧١٥ م ، وبعد موت سليمان في أيلول (سبتمبر) ٧١٧ م خلفه ابن عمه عمر بن عبد العزيز.

واحل مكان محمد بن يزيد بعد موته ، في ١٠ شباط (فبراير) ٧٢٠ م ، يزيد بن المهلب ، الذي توفي في ٢٤ كانون الثاني (يناير) سنة ٧٢٤ م. وفي هذا الوقت على الضبط أصبح هشام بن عبد الملك وشقيق الوليد خليفة. وبعد تعيين يزيد بن المهلب عهد بحكم افريقيا للمدعو يزيد بن أبي مسلم الذي حكم لفترة قصيرة.

(١٥٢) هذا السرد غير صحيح لأن حكام افريقيا في عصر الأمويين كانوا كما يبدو لا يمتون بعضهم إلى بعض بصلة القربى.


العباس ، وعند حكم السفاح ، أرسل هذا الخليفة قائدا يدعى الأغلب بن سليم ، الذي حكم في صورة ملك مستقل (١٥٣). وفي هذا العصر هجر الخلفاء المسلمون دمشق واستقروا في بغداد لأسباب معروضة في الكتب التاريخية الاسلامية (١٥٤). وبعد وفاة الأغلب تعاقبت ذريته في الحكم وبقيت أمارة افريقيا في أيدي هؤلاء الأمراء مائة وستين سنة ، إلى أن طرد آخر واحد منهم على يد الخليفة الشيعي المهدي (١٥٥).

وقد توسعت القيروان وازدهرت في زمن ملوك أسرة الأغلب كما كثر سكانها حتى إن المدينة لم تعد قادرة على احتواء كل سكانها. وهكذا بنى الملك (١٥٦) مدينة أخرى أطلق عليها اسم الرقادة ، حيث أقام مع شخصيات بلاطه الرئيسية. وفي هذه الحقبة تم فتح صقلية على يد الجيوش التي أرسلها بحرا بقيادة قائد يدعى علقمة. وقام هذا القائد ببناء مدينة صغيرة في هذه الجزيرة كي تكون قلعة لسلامته الشخصية وأطلق اسمه على هذه القلعة. وكادت هذه المدينة أن تسقط تحت حصار القوات التي قدمت لنجدة صقلية. ولهذا أرسل ملك القيروان قوات أكثر عددا بقيادة قائد باسل يدعى أسد ، الذي جاء ليدعم علقمة. فجمع الاثنان قواتهما واحتلا بقية المدن. وقد جلبت هذه الحملة واحتلال صقلية إلى القيروان التوسع والازدهار وتزايد السكان (١٥٧).

__________________

(١٥٣) حكم أول خلفاء بني العباس ، أبو العباس محمد ، والذي كنّى نفسه بالسفاح ، حكم بين ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٧٤٩ م الى ٩ حزيران (يونية) ٧٥٤ م. وقام أخوه وخلفه ابو جعفر عبد الله المنصور ، بتعيين حاكم على افريقيا وهو قائد كان موجودا في هذه البلاد ، هو الأغلب بن سليم التميمي الذي شغل هذا المنصب من آب (أغسطس) ٧٦٥ م الى موته في ايلول (سبتمبر) ٧٦٧ م. وفي عام ٨٠٠ م عين الخليفة هارون الرشيد حاكما مطلق الصلاحية ابن الأغلب ، وهو إبراهيم ، الذي استلم منصبه في ٨ تموز (يولية) ٨٠٠ م وهو التاريخ الذي يشير الى بداية عهد الأسرة لأغلبية.

(١٥٤) لقد أقام السفاح في مدينة الأنبار ، وهي مدينة فارسية على الفرات ، ولكن أخاه وخلفه أبا جعفر عبد الله اختط بغداد سنة ٧٦٢ م.

(١٥٥) لم يمض سوى مائة وثمانية وأربعين عاما بين تقلد الأغلب بن سليم سلطانه في عام ١٤٨ ه‍ وبين هرب زيادة الله بعد طرده من رقادة على يد الداعية أبي عبد الله في سنة ٢٩٦ ه‍ ، ولكن قوة الأغالبة لم تكن مستقلة ووراثية إلا في أثناء مائة واثني عشر عاما هجريا ، أي بين ١٨٤ ه‍ و ٢٩٦ ه‍ / تموز (يولية) ٨٠٠ الى نيسان (ابريل) ٩٠٩ م.

(١٥٦) ابراهيم بن أحمد الذي حكم بين ٨٧٨ و ٨٧٩ م.

(١٥٧) علقمة هو اسم عربي حقيقي ، ولكن هذه الشخصية في هذا النص خيالية. فمدينة الكامو ، قرب بالرمو ، كانت تدعى في العصور القديمة لونغار يكوم ، ويبدو أن اسمها الحالي من أصل عربي ولا تزال تحمل آثار الاحتلال الاسلامي. وفي ١٣ حزيران (يونية) ٨٢٧ م انطلقت سبعون سفينة من ميناء سوسة وحملت إلى صقلية قوة قوامها ٧٠٠ فارسا بقيادة قاضي القيروان أسد بن الفرات ، بأمر من الملك زيادة الله. وابتداء من هذه الفترة أصبحت صقلية وجنوبي إيطاليا ـ


وتقع القيروان في برية رملية وخاوية حيث لا ينبت شجر ولا حب. فالقمح وكل منتجات الأرض الضرورية للحياة تجلب من الساحل ، سواء من سوسة ، أو من المنستير ، أو من المهدية وتبعد كل واحدة منها مسافة أربعين ميلا. وعلى مسافة اثني عشر ميلا من المدينة يوجد جبل يدعى وسلات حيث لا تزال بعض الأطلال الرومانية ماثلة (١٥٨). وهنا توجد ينابيع عديدة قرب أراض مزروعة بالخروب. ومن وسلات يجلب ماء الشرب للقيروان ، التي لا تحوي نبعا ولا بئرا صالحا للشرب ، بل بعض الخزانات. غير أن بعض الخزانات القديمة ، تقوم في خارج المدينة وتمتلىء في وقت الأمطار. ولكن ما أن يمضي شهر حزيران (يونية) حتى لا يعثر على ماء فيها لأن الناس يسقون منها حيواناتهم. ويأتي العرب في الصيف ليقيموا حول المدينة ، مما يضاعف من ندرة الماء والقمح ، ولكن وجودهم يؤدي رغم ذلك إلى كثرة اللحم والتمور المجلوبة من موريتانيا ، التي تبعد عن القيروان بمسافة مائة وسبعين ميلا (١٥٩).

ولقد ازدهرت الدراسات الدينية في القيروان في مرحلة من تاريخها ، حتى أن أكثر علماء افريقيا كانوا من خريجيها.

وبعد أن تخربت هذه المدينة على أيدي العرب أخذت في الوقت الحاضر تعمر بالسكان من جديد ، ولكن بصورة بائسة. فلا نرى فيها حاليا سوى صناع فقراء ومعظمهم من دباغي جلود الأغنام والماعز ، الذين يبيعون الثياب الجلدية في مدن نوميديا حيث لا تتوافر الأقمشة الأوروبية. وفضلا عن ذلك يتعرضون لا بتزاز ملك تونس ، وقد أوقعهم ذلك في كرب عظيم كما رأيت ذلك في اثناء رحلة من تونس إلى نوميديا ، حيث كان هناك معسكر ملك تونس في عام ٩٢٢ للهجرة (١٦٠).

مدينة قابس

قابس مدينة كبيرة جدا بناها الرومان على حافة البحر المتوسط في صدر

__________________

ـ بالنسبة للمسلمين مسرح عمليات عسكرية. وسقطت بالرمو تحت سلطتهم سنة ٨٣١ م وأصبحت صقلية تحت حكم نائب ملك أغلبي. ثم أصبحت تابعة للفاطميين. وظهر النورمان الفرنسيون لأول مرة سنة ١٠٣٨ م في جملة النصارى الذين يهاجمون المسلمين وفي ١٠٩١ م أصبح الملك النورماندي السيد الأوحد في الجزيرة.

(١٥٨) أو سلاتوم عند الرومان ، وسمي ممطور عند الفتح العربي ، ويسمى حاليا وسلات.

(١٥٩) ٢٧٢ كم.

(١٦٠) بين ٥ / ٢ / ١٥١٦ الى ٢٣ / ١ / ١٥١٧ م.


خليج (١٦١). وهي محاطة بأسوار عالية قديمة وكذلك الحال أيضا بالنسبة لقصبتها. ويجري جدول صغير قرب المدينة ، ولكن ماءه حار يكاد يكون مالحا. وقد أدى نهب قابس على ايدي العرب (١٦٢) إلى انحطاطها. وقد أساءوا كثيرا إلى سكانها حتى إنهم هجروها وذهبوا ليعيشوا في خارجها ، أي في حديقة النخيل التي تنتج مقادير عظيمة من التمور. ولا يمكن حفظ هذه التمور على مدى العام ، لأنها تصبح مرة المذاق. ولا شيء آخر ينمو في هذه الأرض ، باستثناء الثمر الذي ينمو تحت الأرض. وله شكل الفجل ، ولكنه صغير كالفول. وعندما يمص تكون له عذوبة اللوز ، ويكون له تقريبا نفس الطعم. ويستهلك في كل المملكة التونسية. ويدعوه العرب حب العزيز (١٦٣).

ولسكان قابس بشرة سوداء اللون ، وهم فلاحون فقراء أو صيادون فقراء ، مرهقون بالأتاوات ، سواء من قبل العرب أو من جانب ملك تونس.

الحامّة

الحامة (١٦٤) مدينة تعود لأوائل العصر القديم ، بناها الرومان في داخل الأراضي ، على مسافة خمسة عشر ميلا (١٦٥) من قابس. وهي محاطة بسور مبني بحجارة كبيرة حسنة النحت للغاية. وحتى اليوم لا تزال تظهر فوق الأبواب لوحات مرمر مع كتابات منقوشة عليها. وبيوتها وشوارعها قبيحة. والسكان فقراء ولصوص. وأراضي المدينة كالحة وجافة : ولا ينبت فيها سوى تمور من نوع غير جيد.

وعلى مسافة ميل ونصف من المدينة ينبجس ينبوع ضخم من ماء شديد الحرارة ، ويؤلف جدولا يخترق المدينة من أوسطها في قنوات عريضة. وتقوم فوق هذه القنوات أبنية ، هي نوع من حجرات منفصلة بعضها عن بعض ، تحت مستوى الأرض. ويتألف بلاط هذه الغرف من قعر القناة. وعندما تدخل في غرفة فإن الماء يصعد الى

__________________

(١٦١) كان اسمها القديم تاكابس ، وكابيس عند العرب الأوائل ، وقابس حاليا.

(١٦٢) الهلاليون.

(١٦٣) وهو نبات جذري له أرومة تؤكل واسمه العلمي Cyperus esculentus ويعتبر مقويا جنسيا.

(١٦٤) «وكانت تدعى في الماضي حامّة مطماطة ، واليوم حامّة قابس. والحامّة معناها النبع المعدني الحار. «وتسمى في بلاد الشام الحمّة كالحمة الواقعة على ضفة اليرموك الشمالية قبيل التقائه بنهر الأردن» (المترجم).

(١٦٥) والحقيقة ١٧ ميلا أو ٢٧ كم.


سرّتك ، ولكن لا يجرؤ أحد على الدخول فيها لأن الماء مفرط في سخونته. غير أن السكان يشربون هذا الماء. وعندما يريدون أن يشربوه في الصباح يجلبونه في المساء حتى يبرد والعكس بالعكس.

ويتجمع كل هذا الماء ، عند الخروج من المدينة ، إلى الشمال منها ، ويؤلف بحيرة تدعى بحيرة المجذومين. ولها بالفعل خاصية شفاء الجذام والتئام الجروح. ولهذا يقيم عدد كبير من المجذومين حول هذه البحيرة. ولكن عندما يشرب ماؤها يكون له طعم الكبريت ، كما تأكدت من ذلك لمّا تذوقته ، حتى أنه لا يروي من الظمأ.

قصر محرس

محرس (١٦٦) قصر بناه الأفارقة (١٦٧) في زمننا من مدخل خليج قابس. وقد شيّد بقصد حراسة هذا الخليج من هجمات السفن المعادية. ويقع على مسافة خمسين ميلا من جزيرة جربة (١٦٨). ويقوم سكانه بنسج بعض الأقمشة الصوفية. وكثير منهم بحارة وصيادون. ولهم علاقات تجارية مع جزيرة جربة. ويتكلمون جميعا نفس اللهجة الافريقية شأن أهل جربة. وبما أنهم لا يملكون أراض زراعية ، أو أية ملكية زراعية ، فإن الذين لا يعملون في النسيج يعتاشون من مهنة ركوب متن البحر.

جزيرة جربة

جربة جزيرة قريبة من البحر وكلها منبسطة ورملية. وتظهر فيها مزارع لا تحصى من النخيل والكرمة والزيتون وأشجار مثمرة أخرى ، ويبلغ طول محيطها ثمانين ميلا تقريبا (١٦٩). ويعيش سكانها في مداشر تتبعثر فيها البيوت ، ولكل مزرعة بيتها الذي تسكنه عائلة واحدة منعزلة. ولكن رغم هذا توجد بعض الدساكر ذات المساكن

__________________

(١٦٦) المحرس ، ومعناها الذي يقوم بوظيفة الحراسة.

(١٦٧) «المقصود بالأفارقة عند المؤلف البربر او سكان افريقيا الأصليون» (المترجم)

(١٦٨) وهي مسافة صحيحة عن طريق البحر. والواقع هناك مسافة ٤٥ ميلا بحريا بين المحرس والساحل الشمالي الغربي لجزيرة جربة.

(١٦٩) ١٢٨ كم ، مع متابعة التعرجات الساحلية.


المتجمعة. والتربة هنا هزيلة ، ولهذا يجب العكوف على خدمتها وريّها بماء ينتح من أبار عميقة كي يمكن زراعة قليل من الشعير فيها. وينجم عن ذلك ندرة شديدة في الغلة ، وهذا يؤدي الى ارتفاع سعرها حتى إن الكيل يساوي فيها دائما ست دوبلات (١٧٠) وأحيانا أكثر. واللحم كذلك غال جدا.

وتقوم في الجزيرة قلعة شيدت على حافة البحر حيث يقيم الحاكم وأسرته. وبجوار القلعة توجد قرية ضخمه يقيم فيها التجار الغرباء ، من مسلمين ونصارى. ويقام في هذه القرية سوق مرة كل أسبوع. وهو يشبه معرضا لأن كل سكان الجزيرة يتجمّعون فيه ويقصده الكثير من العرب كذلك من البر وهم يقودون ماشيتهم ويجلبون إليه كمية كبيرة من الصوف (١٧١). ويعيش معظم سكان الجزيرة من تجارة الأقمشة الصوفية التي تصنع في الجزيرة نفسها. وهم ينقلونها إلى تونس وإلى الاسكندرية ، ويصدرون كذلك الزبيب.

ولقد هوجمت هذه الجزيرة قبل خمسين عاما تقريبا من اسطول نصراني احتلها ونهبها ، ولكن ملك تونس استردها بعد قليل واعاد إعمارها بالسكان من جديد. وحينئذ بنيت فيها القلعة ، إذ لم يكن فيها في الماضي سوى المداشر (١٧٢).

وكانت جربة تحكم باستمرار باسم ملك تونس ، ويتولى الحكم فيها باسمه رئيسا الحزبين اللذين تنتمي اليهما مجموعة سكان الجزيرة. وكان الملك يرسل اليها كذلك قاضيا وجابيا (١٧٣).

وعلى اثر موت الملك عثمان (١٧٤) طالبت الجزيرة بحريتها ، نظرا لضعف سلطة الذين خلفوه ، وسارعوا الى قطع الجسر الذي كان يربط الجزيرة بالبر ، خوفا من قدوم القوات عن طريق البر ، وعمد أحد الرئيسين لقتل وجهاء الحزب الآخر. وبذلك

__________________

(١٧٠) «عملة ايطالية قديمة من أجزاء الدوكا ، أي الدينار الايطالي» (المترجم)

(١٧١) ويقصد بها بلدة حومة السوق. أما القلعة المقصودة فقد تلاشت ، وليست هي كشتيل الموجودة في الجنوب.

(١٧٢) لقد كانت هذه الحملة بقيادة الفونس الخامس ملك آرغون ، ملك ايطاليا الاسبانية. وقد وقعت في آخر آب (اغسطس) ومطلع ايلول (سبتمبر) من عام ١٤٣٢ م. وجاء السلطان ابو فارس شخصيا لنجدة الجزيرة.

(١٧٣) منذ بداية دخول الجزيرة في الاسلام واعتناق اهلها هذا الدين ، انحاز سكانها للمذهب الخارجى من الفرع الإباضي وانقسموا الى مذهبين فرعيين متنافسين هما المذهب الوهبي والمذهب النكاري.

(١٧٤) توفي ابو عمرو عثمان في بداية شهر ايلول (سبتمبر) ١٤٨٨ م.


ظل وحده أميرا على الجزيرة وخلفه أقرباؤه من بعده ، وظلت الجزيرة تحت إمرتهم حتى يومنا هذا.

وتنتج جربة عشرين ألف دوبل من رسوم الجمرك والدخولية ، بسبب التجارة الكبيرة التي تمارس فيها ، إذ يقصدها الكثير من تجار الاسكندرية وتونس والأتراك. ولكن الناس الذين يسيطرون على الحكم فيها يلجأوون إلى أشد أنواع الغدر : فالابن يقتل أباه ، والأخ يفتك بأخيه كي يحصل على الزعامة ، حتى لقد قتل فيها ستة امراء في فترة خمس عشرة سنة.

وفي أيامنا أرسل فرديناند ملك أسبانيا الى جربة اسطولا كبيرا بقيادة دوق دالب. ولما كان هذا لا يعرف شيئا عن الجزيرة ، أنزل قواته على مسافة بضعة أميال من الساحل. وقد دافع المسلمون ببسالة عن الجزيرة ، واضطر الأسبان للقتال متقهقرين. وقد عانوا مشقة شديدة من الحر اللاهب ومن العطش إذ لم يجدوا ماء للشرب. وقد نزلوا في وقت المدّ : وعند عودتهم كان البحر بحالة الجزر ، وانسحبت المراكب مع موجة الجزر كيلا ترسو على القاع حتى لقد كان هناك أربعة آلاف من الغرقى بسبب انحسار البحر. وقد أضيف هؤلاء الى الجنود الأسبان الذين كانوا منهكين ورأوا أنفسهم في خطر جعلهم يهربون بحالة فوضى نحو سفنهم ، وكان يطاردهم الفرسان المسلمون. وقد قتل معظمهم او سقطوا فى الأسر. ولم يتمكن من العودة الى صقلية مع الأسطول سوى القليل منهم (١٧٥). وبعدئذ ، وفي زمن صاحب الجلالة القيصرية الامبراطورية شارل ، أرسل أسطولا آخر إلى جربة بأمر منه ، تحت قيادة دون نوفو ، فارس ورئيس دير من طائفة القديس يوحنا في مدينة مسينا. وقد استطاع هذا الأخير بفضل يقظته ومهارته وبدون الاشتباك في معركة ان يحظى بخضوع المسلمين الذين تعهدوا بدفع جزية معينة لصاحب الجلالة القيصرية الامبراطور واوفدوا سفراء وصلوا المانيا لتوثيق الاتفاقيات التي عقدوها مع القائد دون نوفو. وقد

__________________

(١٧٥) قرر الكونت ببارنا فارو بعد استيلائه على طرابلس في ٢٥ تموز (يولية) ١٥١٠ م أن يقوم بمحاولة ضد جزيرة جربة. وفي يوم الجمعة ٣٠ اب (اغسطس) عند الفجر نزل فيها ١٢٠٠٠ رجل قادمين من طرابلس و ٣٠٠٠ من بجاية ، وكان بينهم ولدا دوق دالب ، وقد قتل أحدهما وهو غارسيا دو طليطلة بصورة بطولية في المعركة. وبلغت الحسائر ١٥٠٠ رجل منهم ١٠٠٠ ماتوا عطشا ، أو على الأصح بضربة الشمس ، وسقط ٥٠٠ بين قتيل وجريح. وعادت القوات الباقية في المساء ، وفي صبيحة اليوم التالي عاد الاسطول الى طرابلس.


وقع عليها الامبراطور وأمر بأن تدفع الجزيرة كل سنة خمسة آلاف دوبل لنائب الملك في صقلية ، ولا زالت هذه المعاهدة نافذة المفعول (١٧٦).

مدينة زاورة

زوارة مدينة صغيرة بناها الأفارقة على ساحل البحر المتوسط على مسافة خمسين ميلا من جربة الى الشرق (١٧٧) وهي محاطة بأسوار قبيحة وضعيفة ويسكنها فقراء الناس الذين لا يعيشون إلا من صنع الكلس والجص ومن نقلهما الى طرابلس. وليس لديهم أراض زراعية ويعيشون في فزع دائم من ان يهاجمهم قراصنة النصارى ، لا سيما بعد ان سقطت طرابلس.

لبدة

بنيت هذه المدينة من قبل الرومان. وهي محاطة بأسوار عالية من حجارة ضخمة. ولقد تخربت في الماضي ، غير أنها عادت فأعمرت بالسكان عندما جاءت الجيوش الاسلامية وظلت كذلك حتى زحف الاعراب عليها ، وحينئذ تخربت مرة أخرى وآلت إلى الحالة التي نراها عليها اليوم. وقد استخدمت حجارتها وأعمدتها لبناء طرابلس (١٧٨).

طرابلس القديمة (١٧٩)

وهي مدينة قديمة بناها الرومان (١٨٠) وبعدئذ حكمها القوط (١٨١) ، ثم اقتحمها

__________________

(١٧٦) تعوزنا المعلومات عن هذه الأحداث.

(١٧٧) المسافة بين جربة وزوارة بطريق البحر ٧٠ ميلا بحريا والميل البحري ١٨٥٢ م.

(١٧٨) والمقصود بها لبتيس ماغنا الرومانية ، والتي تحمل أطلالها عند العرب اسم لبدة. وتقع على مسافة ٢٤٠ كم الى الشرق من زواره و ١٢٣ فيما وراء طرابلس. والمؤلف الذي لا يعرف البلاد الواقعة بين قابس ومصر الّا من خلال بعض المحطات التي توقف فيها على طول الساحل فى رحلته البحرية من مصر الى جربة ، سيبدو في العرض الذي سيقدمه عن هذه المناطق بعض مظاهر الاضطراب والخطأ في الترتيب.

(١٧٩) صبراته.

(١٨٠) وهي صبراته كولونيا لدى الرومان. وصبرة عند العرب ، قرب زواغة.

(١٨١) أى الفندال.


المسلمون واحتلوها في عهد عمر ، الخليفة الثاني ، وقد حوصر الدوق القوطي فيها خلال ستة أشهر واضطر الى الفرار الى قرطاج. فتعرضت المدينة للنهب وقتل سكانها او اقتيدوا أسرى الى مصر والى شبه جزيرة العرب ، وذلك استنادا الى ما يرويه المؤرخ ابن رقيق (١٨٢).

طرابلس بلاد البربر

بنيت طرابلس على أيدي الأفارقة على اثر خراب طرابلس القديمة (١٨٣) وهي مطوّقة بأسوار عالية جميلة ، ولكنها ليست قوية كثيرا. وتقع في سهل رملي مزروع بالعديد من النخيل. وبيوتها جميلة بالقياس الى بيوت تونس ، وأسواقها منسقة ، مع انفصال في جماعات المهن ، ولا سيما فيما يختص بالحاكة. وليس فيها موارد ماء ، ولا آبار ، ولا شيء سوى الخزانات ، وندرة الحبوب فيها شديدة لأن كل أريافها عبارة عن رمل ، مثل أرياف نوميديا. والسبب في ذلك أن البحر المتوسط يتوغل في هذه المناطق بعيدا نحو الجنوب ، حتى إن الأمكنة التي كان يجب أن تكون قديما (١٨٤) سميكة وخصيبة ، أصبحت مغطاة بالمياه. ويقول سكان هذه البلاد انه كانت في قديم الزمن رقعة كبيرة من الأراضي تتقدم بعيدا كثيرا في اتجاه الشمال ، ولكن تغطت مع توالي العصور بالمياه بسبب توغل البحر المستمر وانتقاصه الأرض من أطرافها ، كما يظهر الآن فوق سواحل المنستير والمهدية وصفاقس وقابس وجزيرة جربة والمدن الأخرى الواقعة الى الشرق حيث لا يكون البحر عميقا ، حتى ليستطيع الشخص أن يدخل فيه ، ولا يصل الماء إلى أكثر من سرته. فهم يقولون ان هذه الأمكنة كانت أرضا ثم غطاها البحر منذ زمن سحيق. ويقولون فيما يتعلق بطرابلس التي نتحدث عنها إن المدينة كانت تمتد لأكثر من

__________________

(١٨٢) لقد ضاع كتاب ابن رقيق مع الاسف ، ولكن من المؤكد ان المؤلف يقع هنا في ارتباك ، فطرابلس هي التي حاصرها عمرو بن العاص سنة ٦٤٢ م. وبعد سقوط طرابلس دخلت فصيلة من قوات عمرو الى صبراته بدون قتال.

(١٨٣) كانت المستعمرة الرومانية أويا ، ومستعمرة صبراته ، ومستعمرة لبتس ، كانت هذه البلاد تؤلف في القديم منطقة اتخذت اسما يونانيا هو تريبوليس ، اي المدن الثلاث ، وظل هذا الاسم للعاصمة أويا ، ثم حرّف الى أطرابلس عند العرت. وتريبولي في اللغات الرومانية. [أي اللغات المنشعبة عن اللاتينيةLes Langues Romanes ـ المراجع].

(١٨٤) صفحة ٨٥ من مخطوط الحسن الوزاني ، وهي الصفحة الواقعة عند هذه الجملة من المخطوط ، مفقودة ، وقد اثبتنا هنا ما تحويه هذه الصفحة استنادا الى ما يقابلها من ترجمة تامبورال ، وذلك حتى كلمة «التماسا للسلامة» في آخر الفقرة التالية.


ذلك في اتجاه الشمال ، ولكن أثر البحر التقويضي جعل المدينة تتقهقر دائما نحو الجنوب ، وحتى في الوقت الحاضر تظهر بيوت وابنية محتجبة تحت الماء. وقد كان في هذه المدينة قديما جوامع كثيرة وعدة مدارس ومستشفيات لسكنى الفقراء والغرباء. ويستعمل السكان لحما (١٨٥) رديئا جدا ، مصنوعا من بازين الشعير ، لأن الأقوات التي تجلب الى المدينة لا تكفي مطلقا لمعيشة يوم واحد فقط ، ويعتبر الفلاح غنيا إذا استطاع أن يدخر صاعا من الحب او اثنين لمؤونته. غير انهم ينصرفون كثيرا للتجارة لأن المدينة قريبة من نوميديا ومن تونس ، دون أن يمنع ذلك من ذهابهم بعيدا حتى الاسكندرية. كما أن طرابلس قريبة ايضا من مالطة ومن صقلية. وكان من عادة سفن البنادقة في الماضي ان ترسو فيها وتقوم بتجارة كبيرة مع تجارها ومع الذين يقصدونها كل سنة بسبب وجود هذه المراكب.

وقد كانت هذه المدينة دوما تحت وصاية ملك تونس ، فيما عدا الفترة التي جاء فيها أبو الحسن ملك فاس وضرب معسكره بجوار تونس ، فاضطر الملك للإلتجاء الى صحارى العرب التماسا للسلامة.

ولكن ملك تونس (١٨٦) استرد سلطته بعد أن ألحق الهزيمة بأبي الحسن وقضى على جيشه ، وثارت تونس في هذه الفترة واستمرت الثورة خمسة اعوام إلى أن قام ملك فاس ابو عنان بحملة على مملكة تونس (١٨٧) ونهض ملك تونس الذي كان يدعى ابا العباس لملاقاته واشتبك الجيشان فانكسر ملك تونس الذي اضطر الى الالتجاء الى قسنطينة. وتقدم ملك فاس وضرب معسكره أمام هذه المدينة وهاجمها بعنف جعل السكان يعجزون عن المقاومة وفتحوا الأبواب. وألقي القبض على ملك تونس وأقتيد أسيرا إلى فاس ، ثم اعتقل في قلعة سبتة (١٨٨).

__________________

(١٨٥) وربما المقصود غذاء.

(١٨٦) في نيسان (ابريل) ١٣٤٨ م استطاع العرب المتمردون القضاء على الجيش المريني قرب القيروان. واستطاع السلطان أبو الحسن ان يتماسك أيضا في تونس في وضع وقتي حتى كانون الاول (ديسمبر) ١٣٤٩ م ، وبعدئذ اضطر للهرب الى المغرب حيث حارب بلا طائل ضد ولده أبي عنان فارس الذي وثب على السلطة وذلك في الوقت الذي كانت المملكة الحفصية هدف منافسات مضطربة.

(١٨٧) في عام ١٣٥٢ م على التحديد ابتدأ أبو عنان حملة / ضد / المملكة الحفصية التي كانت في هذه الاثناء منقسمة بين ثلاثة ملوك ؛ احدهم في بجاية ، والثاني في قسنطينة ، والثالث في تونس.

(١٨٨) كان ابو العباس احمد في الحقيقة سلطان قسنطينة ، في حين ان سلطان تونس كان عمه ابو اسحق ابراهيم. ـ


وبينما كان ملك فاس يقود ملك تونس الى الأسر ، تعرضت طرابلس لهجوم أسطول مؤلف من عشرين سفينة جنوية ، استطاعت بعد معركة طاحنة ان تجتاح المدينة وأن تنهبها وأخذوا كل سكانها أسرى. وفي الحال كتب هلال بن ميمون ، الذي كان حينذاك نائب الملك أبي عنان في تونس يخبره بما حدث وأنه تفاهم مع الجنويين على أن يدفع لهم خمسين ألف دينار. وبعد أن تمّ دفع المبلغ أخلى الجنويون المدينة وأطلقوا سراح السجناء ، ولكنهم وجدوا بعد رحيلهم أن نصف الدنانير كانت مزوّرة (١٨٩).

وبعد ذلك أطلق أبو سليم ، ملك فاس ، سراح ملك تونس ، بسبب صلة قرابة كانت بينهما ، واسترد السلطة (١٩٠).

وهكذا عادت طرابلس أيضا تحت سلطة ملك تونس. واستمر هذا حتى زمن الأمير ابي بكر ، إبن ملك تونس عثمان. وقد قتل أبو بكر في قلعة طرابلس مع أحد أبنائه بأمر من يحيى ، ابن أخ لهذا الأمير. وقد قتل هذا ، أي يحيى ، بعدئذ في اثناء معركة مع ابن عمه عبد المؤمن الذي انتزع منه المملكة واحتفظ بها حتى موته. وخلفه

__________________

ـ شهرآب (اغسطس) ١٣٥٧ م فقط تمكن السلطان المريني ابو عنان من احتلال قسنطينة. ولما استسلم ابو العباس سجن في سبتة. وبعد ذلك بقليل اسطاعت القوات البرية والأسطول أن تحتل تونس بينما التجأ السلطان ابو اسحق الى العرب.

ولكنه عاد الى تونس في نهاية عام ١٣٥٧ م. ولما سئم السلطان ابو عنان من ضروب المقاومة التي لاقاها في كل معاركه والتي ثبطت همة قواته التي تشتتت ، قرر العودة الى فاس

(١٨٩) بتاريخ الثاني من نيسان (ابريل) ١٣٥٥ م باغت القائد الجنوي فيليب دوريا طرابلس على رأس خمس عشرة سفينة حربية فاحتل المدينة على حين غرة وكان يحكمها حينئذ أمير صغير محلي. وقد غادر المدينة في ٢٢ أب (اغسطس) ١٣٥٥ واقتاد معه سبع آلاف أسير وغنائم ضخمة ، بعد أن قبض تعويضا حربيا بالغا ، ساهم فيه سلطان فاس المريني الذي لم يكن يحكم بلاد تونس في تلك الفترة ـ بمبلغ خمسين ألف دينار ذهب نقدا. ويقول لنا ابن جزى ، منشىء «رحلة ابن بطوطة» ـ وقد كتب ذلك بعد ثلاثة اشهر من وقوع هذه الاحداث ـ يقول أن أبا عنان أعطى الأمر لخدامه ، اي عمالّه ، في مدن افريقيا ، ان يقوموا بافتداء طرابلس ، قائلا : «الحمد لله الذي انقذ طرابلس من ايدي الكفار مقابل هذا المبلغ الزهيد» ، بعد ان علم بنتيجة هذه المفاوضات ، وقد أرسل مبلغ الخمسين الف دينار ، أو ما يعادل خمسة قناطير ، أو ٥٠٠ رطل مريني من القطع الذهبية ، الى افريقية. ويمتدح ابن جزي اريحية السلطان العظيمة وفضله ، ولكن يغفل الكلام عن حيلة القطع النقدية المزيفة.

(١٩٠) بينما كان السلطان ابو عنان في النزع الاخير اجهز عليه وزيره الأول بتاريخ ٣ كانون الاول (ديسمبر) ١٣٥٨ م.

وفي تموز (يولية) ١٣٥٩ تمكّن اخوه اخو سليم ابراهيم من الحصول على مبايعته ملكا في فاس. وفي آب (اغسطس) ١٣٦٠ اطلق سراح الملك الحفصي أبي العباس احمد ، المعتقل في سبتة ، واسترد هذا حكمه المستقل في قسنطينة. أمّا سلطان تونس ، أبو اسحق ابراهيم ، فقد توفي فجأة في ١٩ شباط (فبراير) ١٤٦٩ م وقام ابن اخيه ابو العباس احمد باحتلال تونس بتاريخ ٩ تشرين الثاني (يناير) ١٣٧٠ وظل حاكم المملكة الأوحد.


زكريا ابن الملك يحيى وهلك بالطاعون بعد بضعة اشهر. وحينئذ انتخب شعب تونس وكبراؤه محمد ، ابن الحسن وابن عم زكريا ، ورفعوه إلى سدة العرش. ولكن محمد بعد أن وصل الى هذا المنصب السامي تملكته العجرفة مع نوع من استبداد جعل شعب طرابلس يطرد حاكمه والموظفين الملكيين ويختار أحد أبناء المدينة أميرا ، ووضع تحت تصرفه كل العوائد وخزينة طرابلس. وقد حكم هذا الرجل المدينة بتواضع كبير (١٩١).

ولكي يثأر ملك تونس من هذا التمرد ، أرسل الى طرابلس جيشا كبيرا بقيادة نائبه. ولكن هذا القائد مات مسموما بفعل العرب وبتحريض من أهل طرابلس ، وحينئذ تفرق الجيش. ولكنه حدث أن أمير طرابلس هذا ، الذي بدا في أول أمره متواضعا ، راح يمارس سلطة طاغية ، فقتله صهره. وحينئذ أجبر الشعب أحد شخصيات حاشية الأمير أبي بكر ، الذي كان قد اعتزل متنسكا ، على استلام إمارة طرابلس ، فاحتفظ بها بضعة أشهر إلى أن أرسل الملك الكاثوليكي فرديناند أسطولا ضد طرابلس بقيادة الكونت بيير نافارو. ووصل هذا الأسطول في إحدى الليالي على حين غرة أمام طرابلس. وفي اليوم التالي أخذ المدينة وسقط كل أهلها أسرى. وأقتيد الأمير وأحد أصهاره إلى مسيّنا حيث أمضوا في السجن بضع سنين ، ثم نقلوا الى بالرمو وهناك اعاد الامبراطور شارل لهما حريتهما. وعادا الى طرابلس بمحض ارادتهما. وكانت هذه المدينة قد تخربت على أيدي النصارى بعد سقوطها. وقاما فعلا بتحصين القلعة بسور متين مع تجهيزه بمدفعية ضخمة كما رأينا ذلك في عام ١٥١٨ م. واستنادا الى ما سمعته منذ وقت قريب ، فإن الأمير راح يعمرها بالسكان بإذن من القيصر شارلكان (١٩٢).

__________________

(١٩١) على اثر موت سلطان تونس عثمان في ايلول (سبتمبر) ١٤٨٨ م تقلد السلطة خلفه الذي اوصى به ، وهو حفيده ابو زكريا يحيى ، حاكم قسنطينة. ولما حاول احد أبناء عثمان وهو ابو بكر ، الذي كان يحكم حينذاك طرابلس ، حاول ان يثير أحقيته بالملك ، قتله ابن اخيه. وقد قتل السلطان يحيى في معركة شنها عليه ابن عمه عبد المؤمن في حزيران (يونيه) ١٤٨٩ م ، ونودي بهذا الاخير سلطانا ثم طرد من تونس في ١٣ تشرين الأول (اكتوبر) ١٤٩٠ م وهرب ثم مات في السجن بلا ريب. وبعد أن أستولى أبو يحيى ، وهو أبو يحيى زكريا ، على تونس ، تقلد منصب ملك. ومات من الطاعون في ١٥ ايار (مايو) ١٤٩٤ م. وقد خلفه ابن عمه ابو عبد الله محمد ابن الحسن وحكم حتى ٩ شباط (فبراير) ١٥٢٦ م.

(١٩٢) بعد ان احتل الكونت بيير نافارو بجاية في ٥ كانون الثاني (يناير) ١٥١٩ م راح يحارب في اثناء عدة اشهر حول المدينة الى ان ظهر الطاعون. فقرر حينئذ حملة على طرابلس ، وقاد خمسة عشر ألف رجل وقصد صقلية طلبا للمؤونة ـ


وهذا هو كل ما استطعت أن أذكره عن مدن مملكة تونس.

جبال دولة بجاية

تتألف كل دولة بجاية تقريبا من جبال عالية وعرة حيث يوجد الكثير من الغابات والعيون. وتسكن هذه الجبال قبائل عريقة غنية كريمة ، تملك عددا كبيرا من الماعز ومن الثيران والخيل. وقد عاشت دائما تقريبا في حرية ، ولا سيما بعد أن سقطت بجاية بأيدي النصارى (١٩٣). ويحمل كل الناس تقريبا في هذه البلاد وشما في صورة صليب على الخد ، حسب العادة القديمة التي اشرنا اليها من قبل. وغذاؤهم الرئيسي خبز الشعير. ولديهم كمية كبيرة من أشجار الجوز والتين التي تكثر على الخصوص في الجبال المحاذية للبحر والمسماة جبل زواوة (١٩٤). وتوجد في هذه الجبال مناجم حديد. ويصنع من هذا الحديد سبائك صغيرة من وزن نصف رطل (١٩٥) تستخدم عملة. كما تضرب النقود الفضية من وزن أربع حبات (١٩٦). وينبت هنا الكثير من الكتان والقنب. وتصنع منه كمية كبيرة من الاقمشة الكتانية ، وكلها غليظة خشنة.

وأهل هذه البلاد يتصفون بالغيرة. وهم أقوياء البنية ومحبون لعمل الخير. وكلهم تقريبا من ذوي الهندام الحسن.

وتمتد دولة بجاية هذه في قسمها الجبلي ، على طول البحر المتوسط على مسافة مائة

__________________

ـ ووصل أسطوله المؤلف من خمسين سفينة في ٢٤ تموز (يوليه) تجاه ساحل طرابلس الى ان سقطت في ٢٥ تموز (يوليو) بعد مقاومة ضارية جدا لان الناس الذين كان لهم علم بذلك منذ زمن طويل كانوا بحالة اهبة للدفاع. وكانت الخسائر جسيمة وهدمت المدينة انتقاما. وعادت للإعمار بالسكان عند ما عاد اليها حاكمها السابق المسلم. وبعد ان انتزع الأتراك رودس في ١٥٢٣ م من فرسان نظام القديس يوحنا ، أعطاهم الامبراطور شارلكان جزيرة مالطة وفي ١٥٢٨ م عهد اليهم بطرابلس حيث اصبح احد فرسانهم حاكما عليها. وقد انقذ القائد التركي سنان باشا طرابلس من أيدي أتباع نظام القديس يوحنا بتاريخ ٤ آب (اغسطس) ١٥٥١ م رغم الدفاع المستميت الذي قام به القائد العام في هذه المدينة وهو الفارس الفرنسي دوكامبري.

(١٩٣) «المقصود هنا هو انهم لم يكونوا ملتزمين بدفع الضرائب لا سيما بعد ان سقطت عاصمة المنطقة بأيدي الاسبان» (المترجم)

(١٩٤) جبال زواوة هي جبال القبائل الكبرى حاليا إلى الغرب من بجاية. ويعتبر السكان البربر القائليون أنفسهم من زواوة.

(١٩٥) حوالي ١٧٥ غرام.

(١٩٦) ٢٠ غرام.


وخمسين ميلا وعلى عمق اربعين ميلا (١٩٧). وتسكن كل جبل من هذه الجبال قبيلة تختلف عن التي تسكن جبلا آخر. ولكن لا توجد اختلافات فيما بينها في أسلوب الحياة. ولهذا سأغفل الكلام عنها.

جبال الأوراس

وهي كتلة جبلية عالية جدا يسكنها قوم على ذكاء محدود ، وهم فضلا عن ذلك لصوص وقتلة.

وتقع الأوراس على مسافة ثمانين ميلا من بجاية وستين ميلا من قسنطينة (١٩٨) وتنفصل عن الجبال الأخرى وتمتد على طول ستين ميلا. وتتاخم من الجنوب نوميديا ، ومن الشمال أراضي مسيلة وستيف ونغاوس وقسنطينة (١٩٩). ويتولد فوق المرتفعات العديد من العيون التي ينساح ماؤها في السهل وتتكون منها بعض أنواع المستنقعات. وعند ما يصبح الطقس حارا تتحول هذه المستنقعات الى ملاحات.

ولا يستطيع أي انسان أن يقيم علاقات مع سكان اوراس الجبليين ، لأنهم لا يريدون أن تكون المداخل إلى جبلهم معروفة خوفا من أعدائهم العرب ومن الأمراء المجاورين.

جبال دولة قسنطينة

تمتلىء المنطقة الوافعة شمال وغرب قسنطينة بعدد غير محدود من جبال تتاخم بجاية وتمتد على طول البحر المتوسط حتى قرب عنابة ، أي على طول مقداره مائة ميل تقريبا (٢٠٠). وكل هذه الجبال وفيرة الانتاج ، لأن الأراضي المزروعة الموجودة فيما

__________________

(١٩٧) اذن كانت تضم السفح الشرقي لجبال القبائل الكبرى وكل جبال القبائل الصغرى او قبائل بابور. على مسافة ٢٣٠ كم.

(١٩٨) في الحقيقة ١٦٠ ميلا او ٢٥٦ كم عن بجاية و ٨٠ ميلا او ١٢٨ كم عن قسنطينة.

(١٩٩) في الحقيقة لا تمتد كتلة اوراس الجبلية بحد ذاتها الا من شمال بسكرة حتى الجنوب من خنشلة ، وتمتد في الواقع على مسافة ٦٠ ميلا. ولكن المؤلف يحددها إلى جنوب نغاوس وستيف ومسيلة ، اي يجب قراءة هذا الرقم ١٦٠ ميلا أو ٢٠٦ كم.

(٢٠٠) أي حوالي ٢١٠ كم ، أي من جنوب جيجل حتى أدوغ تقريبا ، والتي تشكل جزءا من جبال عنابة.


بينها تقع في السهل ، وهي كثيرة الخصب ، حتى إنها لتمون كل المدن المجاورة مثل قسنطينة والقالة وجيجل وكذلك العرب أيضا.

وسكان هذه الجبال أكثر حضارة من أهل جبال بجاية ويمارسون مختلف المهن ويصنعون على الخصوص كمية من أقمشة الكتان.

ومن عادة نساء هذه البلاد الهرب الى جبل آخر حينما لا يعجبهن أزواجهن. وتترك المرأة الهاربة أولادها. واذا كان الجبل الذي تقصده معاديا لجبل زوجها ، تتزوج من جديد. ومن هذا تنشب النزاعات. ولكن يتوصل أحيانا الى تفاهم ، سواء عن طريق التعويض المادي ، او بطريقة من طرق المقايضة ، كأن يعطي الرجل التي استقبل الهاربة إحدى بناته او إحدى أخواته للرجل الذي هربت زوجته منه.

وسكان هذه المنطقة أغنياء جدا لأنهم لا يدفعون اية ضريبة. ولكنهم لا يستطيعون مزاولة التجارة لا في السهل خوفا من العرب ، ولا في المدن خوفا من الأمراء. فيقيمون كل أسبوع سوقا في ايام مختلفة ، يقصده تجار من قسنطينة ومن القالة. ويجب ان يكون لكل من هؤلاء التجار صديق يقوم بدور كفيل ، إذ بدون ذلك لا يستطيع أحد أن ينصفهم إذا تعرضوا للغش.

ولا يوجد هنا قضاة ولا أئمة ، ولا أي شخص يعرف القراءة. وإذا احتاج احد لقراءة رسالة ، فعليه ان يبحث عن قارىء على مسافة اثنى عشرة او خمسة عشرة ميلا.

وفي هذه الجبال نحو أربعين الف فارس. ولو كان هؤلاء الناس متحدين جيدا لاستطاعوا بسهولة السيطرة على كل افريقيا لأنهم على غاية من الإقدام.

جبال عنابة

تحوي عنابة ، المحفوفة من الشمال بالبحر ، بعض الجبال في غربها ، وفي جنوبها. وهي متصلة بجبال قسنطنية. ولكن توجد إلى الشرق جبال ، على شكل تلال ، مغطاة بأراض صالحة للزراعة. وكانت تضم في الماضي بضع مدن وعددا من القصور التي بناها الرومان ، ولكن لم يبق منها الآن الا أطلال لا يعرف أحد اسم أي منها.

والمناطق الصالحة للزراعة غير مسكونة بسبب العرب ، باستثناء منطقة صغيرة


تزرعها بعض القبائل التي تعيش في الأرياف والذين ثبتوا فيها بقوة السلاح على الرغم من العرب.

وتمتد هذه التلال على طول يقارب ثمانين ميلا (٢٠١) من الشرق الى الغرب ، أي من جوار عنابة حتى باجة وعلى عرض ثلاثين ميلا (٢٠٢). ويوجد في هذه الجبال عدد من الينابيع تتولد عنها أنهار تخترق السهل الواقع بين هذه الكتلة الجبلية وبين البحر المتوسط.

الجبال المجاورة لتونس

تونس واقعة في السهل ، ولا يوجد في جوارها مباشرة جبال سوى بعض مرتفعات صخرية تتقدم فى البحر الى الغرب ، كالجبل الذي تقوم فوقه قرطاج (٢٠٣). غير أنه يوجد جبل عال جدا وكثير البرودة يقع على مسافة ثلاثين ميلا الى الجنوب الشرقي من تونس (٢٠٤) ويدعي جبل زغوان ، ولكنه غير مأهول. ولكن تظهر فيه مع ذلك بعض أكواخ الفلاحين الذين ينصرفون لتربية النحل ويزرعون القليل من الشعير. وفي العصر القديم ، وعندما كان الرومان يحكمون افريقيا كان جبل زغوان مأهولا. فقد بنوا فوق قمته ، وعلى سفوحه ، وعند حضيضه قصورا عديدة وقرى تبدو اليوم مهدّمة تماما. ونجد بين هذه الآثار القديمة الكثيرة للغاية ، العديد من الكتابات باللغة اللاتينية. وقد رأيتها بنفسي كما أن عددا منها قرئي لي وترجم بواسطة نصراني اعتنق الاسلام وهو صقلي الأصل. وفي ذلك العصر تمّ جر المياه من زغوان حتى قرطاج ولا تزال القناة ظاهرة حتى الآن.

جبال بني يفرن ونفوسة

هذه الجبال منعزلة بواسطة الصحراء ، وواقعة على مسافة ثلاثين ميلا (٢٠٥) من

__________________

(٢٠١) ١٣٠ كم.

(٢٠٢) ٥٠ كم.

(٢٠٣) «الحقيقة هي أن هذا الجبل عبارة عن نشز بسيط من الأرض لا يرتفع اكثر من ٢٥ مترا عن مستوى البحر» (المترجم)

(٢٠٤) هو جبل زغوان.

(٢٠٥) ٥٠ كم.


جربة ومن صفاقس. وهي عالية وباردة ، ولا ينبت فيها القمح. وينبت فيها شيء يسير من الشعير ، مما لا يكفي لاستهلاك نصف العام. وسكان هذه الجبال شجعان حقا. ولكنهم يعتبرون من ناحية العقيدة مارقين في نظر المسلمين من مذهب خلفاء القيروان. وقد عزف الناس في مختلف اقطار افريقيا عن هذه العقائد المارقة باستثناء هؤلاء الجبليين. ولهذا يذهبون الى ضواحي تونس وللمدن الأخرى حيث يمارسون المهن الحقيرة كي يكسبوا قوتهم ، ولا يجرؤون على الجهر بمعتقداتهم ، خوفا من عقاب المفتشين (٢٠٦).

جبال غريان

غريان جبل عال وبارد ، يبلغ طوله أربعين ميلا وعرضه خمسة عشر ميلا (٢٠٧)

__________________

(٢٠٦) وهنا يضم المؤلف تحت اسم جبال نفوسة جبال مطماطة الحالية في جنوب غرب قابس وجبل نفوسة ذاته من منطقة طرابلس. والمارقون المقصودون هنا هم الخوارج من المذهبين الأباضي والوهبي. واستنادا الى اقوال ابن حوقل أنه بعد معركة النهروان ، سنة ٦٥٨ م ، حيث سحق الخليقة على بن أبي طالب عصابة مسلّحة مؤلفة من ألف وخمسمائة خارجي ، التجأ اثنان من زعمائهم وهما عبد الله بن أباض وعبد الله بن وهب الى جبل نفوسة قبل عام ٦٦١ م وماتا فيه. وكان بعض الذين نجوا من النهروان بصحبتهما. وبعد ذلك أصبح جبل نفوسة وكل جنوب بلاد البربر عبارة عن مكان لجوء للخوارج الشرقيين من مختلف المذاهب ، وقد ظل الحلفاء السنّيون يطاردونهم. والحقيقة هي أن هؤلاء الخوارج هم الذين نشروا الاسلام في كل بلاد البربر باستثناء المدن والمناطق التي استطاع الفتح العربي أن يوحدها وأن يقيم فيها ادارة مدنية وعسكرية كافية. وظل جبل نفوسة وجزيرة جربة ومنطقة وادي المزاب في الجنوب الجزائري موطن الخوارج من المذهبين الأباضي والوهبي. ولا نعرف شيئا عن التفتيش الاسلامي في القرن السادس عشر ، ولكن في أيامنا ظل الاسلام السنى والاسلام الخارجي متفاهمين عمليا رغم بقاء كل منهما مصرّا على مواقفه العقائدية. وكان خلفاء القيروان يتبعون المذهب الشيعي (الاسماعيلي) ، والذي كان له نزاعات خطيرة مع الخوارج في بلاد البربر. «ويشبه المؤلف هنا مواقف المسلمين من أشياع السنة من الخوارج كموقف النصارى من مسلمي الاندلس بعد سقوطه بأيديهم والذين لاقوا الأهوال من محاكم التفتيش الاسبانية الرهيبة ، وهذا لم يحدث مطلقا لأن التسامح كان ولا يزال من ابرز ملامح الاسلام في كل زمان ومكان» (المترجم).

«المذهب الأباضي في اتجاهه الفقهي التشريعي مذهب اسلامي يستمد احكامه من الاصول التي تستمد منها المذاهب الاسلامية الاخرى أحكامها ، وان كان لأصحابه طرائق فى الاستنباط تختلف عن طرائق غيرهم. ويدرس هذا المذهب في كلية الشريعة بجامعة الأزهر ويرجع اليه فقهاؤنا في كثير من الشؤن. وهو احد المذاهب التي تتضمنها موسوعة الأحكام الفقهية التي يقوم بإعددها مجمع البحوث الاسلامية والمجلس الاعلى للشؤون الاسلامية في دولة الكويت. ولا يعتبر اتباعه مارقين عن الاسلام. ويسير عليه الآن معظم سكان مسقط وعمان وكثير من اهل زنجبار وليبيا وتونس والجزائر ، انظر كتابنا «المجتمع العربي ص ٧٤». (المراجع)

(٢٠٧) ٦٤ كم في ٢٤ كم.


وينفصل عن الجبال الأخرى ببعض الرقع الرملية. ويبعد عن طرابلس بمقدار خمسين ميلا تقريبا (٢٠٨). وينبت فيه الكثير من الشعير وتمور ممتازة يحسن أكلها طرية. وينتج هذا الجبل كذلك كثيرا من الزيتون الذي تستخرج منه كمية كبيرة من الزيت تنقل الى الاسكندرية والى المدن المجاورة.

وينبت فيه كذلك الزعفران بكثرة. وهو متميز من حيث اللون والنوعية وأفضل بكثير وأغلى سعرا من الأنواع التي تجلب من مختلف انحاء العالم. فاذا كان سعر زعفران اليونان او تونس مثلا يساوي في القاهرة عشر أشرفيات للرطل الواحد ، فإن الرطل من زعفران غريان يساوي خمس عشرة أشرفية ، وذلك حسبما رواه لي أحدهم الذي كان حاكما في هذا الجبل (٢٠٩). وقد قال لي هذا الشخص أن هذا الجبل كان دخله السنوي ، في عصر امير طرابلس ، مقدار ستين الف دوبل ، وكان محصول الزعفران ، في أثناء حكمه ، يبلغ ثلاثين قنطارا ، وهذا يمثل خمسة عشر حمل بغل (٢١٠).

وكان سكان غريان يتعرضون دوما لابتزاز العرب وملوك تونس ، ولهم الكثير من القرى ، وعددها حوالي مائة وثلاثين ، مؤلفة من بيوت فقيرة وشنيعة.

جبال بني وليد

يقع هذا الجبل على مسافة مائة ميل من طرابلس (٢١١) ، وتقطنه قبيلة باسلة وغنية

__________________

(٢٠٨) تقع كتلة جبل غريان ، التي تتمدد شرقا بجبل يفرن ، على مسافة ١٠٠ كم جنوب طرابلس.

(٢٠٩) الأشرف ، وبالإيطالية ، شرافو ، وبالإسبانية سراف ، كان هو الدينار الاشرفي ، الذي ضربه في مصر السلطان سيف الدين برسباي الأشرف في كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٤٢٥ م. وكان هذا من الذهب الخالص الخالي من الخلائط وكان يزن نظريا ٤٦٦ ، ٣ غراما ، أو ما يعادل بالقيمة الحالية ١٢ فرنك ذهب. وكان دارجا جدا في كل أقطار المشرق حتى الهند ، وكان مرغوبا فيه حتى ان عبارة «ذهب شرف» كانت تعني في فرنسا ، في القرن السادس عشر ، الذهب من النوع الأول. وكان الرطل العطاري أو رطل العطارين ، يعادل حوالي ٤٤٥ غراما. مما كان يعادل تقريبا سعر زعفران غريان وهو ٤ فرنكات ذهب في القاهرة وزعفران اليونان وتونس ٧ ، ٢ فرنك الغرام ، وهو سعر غاية من الارتفاع بالنسبة لذلك العصر.

(٢١٠) كانت ٦٠٠٠ دوبل بسعر الدوبل ٢١٩ ، ١٦ فرنك ذهبي وهي تمثل ٩٧٣٠٠ فرنك ذهب ، و ٣٠ قنطارا من وزن ١٠٠ رطل تساوي حوالي ١٣٥٥ كغم ، وكل بغل يحمل ٨٩ كغم من أزهار الزعفران.

(٢١١) ١٦٠ كم وهو يقع على طريق فزان ، في الجنوب الشرقي.


تعيش في حرية ، وهي متحالفة مع سكان جبال آخرين ، على تخوم صحراء نوميديا.

* * *

بعد أن فرغت من الكلام عن الجبال ، سأتابع كلامى على اقاليم مملكة تونس التي ليس فيها مدن ، ولا قصور ، بل أنواع قرى صغيرة فحسب (*) ، وسنتابعها واحدة فواحدة.

قصر أحمد (٢١٢)

شيّد هذا القصر قائد الجيوش التي قدمت الى افريقيا ، وقد هدمه العرب.

سبيخة

كانت سبيخة (٢١٣) أيضا قصرا بنى فى العصر الذي قدمت فيه الجيوش الاسلامية إلى افريقيا. وكان كثير السكان ، ولكنه تهدم على أيدى العرب. ولكنه لا يزال مأهولا بصيادين وأفراد آخرين من فقراء الناس.

قصر حسّان (٢١٤)

وهو قصر آخر مبنى على ساحل البحر على أيدى الجيوش الاسلامية ، وقد تهدم شأن القصور الأخرى ، على أيدي العرب.

قرية الغار (٢١٥)

وهي قرية على حافة البحر ، وتكثر فيها التمور ، وأرضها قاحلة ، ويزرع فيها

__________________

(*) وان بعضها كان يطلق عليه اسم قصر كما سيأتي (المراجع).

(٢١٢) لم يمكن التعرف على مكان هذا القصر.

(٢١٣) تصغير سبخة ، أي مستنقع ملحي ، أو شط. ولم يمكن التعرف على هذا الموقع.

(٢١٤) لا يوجد أثر عن قصر حسن أو حسّان غرب طرابلس. ولكن بما أن مذكرات المؤلف مضطربة جدا فيما يتعلق بهذه المنطقة فيمكن الظن بأن قصور حسّان عند المؤرخين والجغرافيين العرب ، كانت قد بيت في الموقع الذي انسحب اليه القائد حسان بن النعمان الغساني مع جيشه على أثر هزيمته التي الحقتها به حوالي العام ٦٩٣ م الكاهنة ، ملكة أوراس البربرية ، على ضفاف واد نينى قرب باغية ، حيث ظل خمس سنوات بمنأى عنها بانتظار المدد واستئناف فتح افريقيا. والمعتقد أن هذه القصور كانت واقعة على حافة البحر ، على مسافة ٤٠٠ كم من طرابلس و ١٤٠ كم تقريبا جنوب تاورغة ، في المكان المسمى اليوم تماد حسان ، وتماد تعنى المستنقع الصغير الذي يجف صيفا.

(٢١٥) هذا الموقع الذي يظن أنه كان يحمل اسم الغار ، أي الكهف ، لم يمكن التعرف عليه.


قليل من الشعير الذي يتغذى به السكان.

غار الغار

وهي أرض تظهر فيها حفريات عديدة ذات اتساع كبير. ويظّن أن الحجارة التي استخدمت في بناء طرابلس القديمة قد اقتلعت من هذه الحفر ، لأن هذا الموقع قريب منها (٢١٦).

صرمان (٢١٧)

هي قرية كبيرة آهلة بالسكان ، قرب طرابلس القديمة ، وتكثر فيها التمور ، ولكن لا ينبت في أرضها غير الشعير.

زاوية ابن يربوع (٢١٨)

هي قرية أخرى لا تبعد كثيرا عن البحر ، ينبت فيها القليل من القمح. ويسكنها نساك. ويظهر فيها كثير من النخيل.

جنزور (٢١٩)

أو زنزور ، قرية قريبة من البحر على مسافة اثنى عشر ميلا من طرابلس. وهي مليئة بالصناع وخصيبة جدا بالتمور والرمان والسفرجل. وسكانها فقراء ، وخاصة بعد ان استولى النصارى على طرابلس. غير انهم يمارسون التجارة مع هؤلاء النصارى ويبيعون لهم الفواكه.

عمروس (٢٢٠)

وهي قرية على مسافة ستة أميال من طرابلس في داخل الاراضي. وتضم عددا

__________________

(٢١٦) يجب ان تساعد هذه التوضيحات على التعرف بسهولة على المقالع القديمة وعلى التعرف على اسمها الحالى.

(٢١٧) تقع صرمان على مسافة ١٠ كم شرق صبراتة.

(٢١٨) من المحتمل ان المقصود بها مدينة الزاوية الحالية ، وهى بلدة واقعة على مسافة ٢٠ كم الى الشرق من صرمان والتي كانت تدعى فى الماضي زاوية أولاد سهيل والزاوية الغربية.

(٢١٩) تقع جنزور او زنرور كما يلفظها السكان المحليون ، على مسافة ٣٠ كم شرق الزاوية و ١٦ كم غرب طرابلس.

(٢٢٠) عمروس حديقة نخيل صغيرة على مسافة ١٠ كم تقريبا شرقي طرابلس.


تاجوراء (٢٢١)

تاجورة هي منطقة ريفية على مسافة ثلاثة عشر ميلا تقريبا شرقي طرابلس. وفيها بضع قرى مع حدائق مزروعة بالنخيل وبأشجار مثمرة اخرى. وقد أصبحت هذه المنطقة مزدهرة جدا بعد سقوط طرابلس (٢٢٢) إذ لجأ اليها الكثيرون من سكان هذه المدينة. ولكن يوجد في كل القرى والمداشر المذكورة أناس جهّال ولصوص. ويسكن هؤلاء الناس في أخصاص من سعف النخيل ويتغذون بخبز الشعير وبالبازين. ويخضعون جميعا لملك تونس وللعرب ، باستثناء أولئك الذين يعيشون في البادية.

إقليم مسلّاتة

مسلّاتة إقليم على حافة البحر المتوسط على مسافة خمسة وثلاثين ميلا من طرابلس (٢٢٣). ويحوي بعض القصور والقرى الكثيفة السكان. وأهلها أثرياء. ويوجد بها كثير من النخيل ومن شجر الزيتون. ويعيش أهلها في حرية. وقد اعتادوا أن يختاروا من بينهم رئيسا يحكى صورة الأمير ، ويدبر شئون السلم والحرب مع العرب. وبهذا الإقليم نحو خمسة الف مقاتل.

إقليم مصراتة

مصراتة هي كذلك اقليم على ساحل البحر المتوسط ، وتبعد عن طرابلس بنحو مائة ميل (٢٢٤). وتشتمل على قصور وقرى يقع بعضها في السهل ، ويقع بعضها الآخر في الجبل. وسكانها واسعو الثراء لا يدفعون اية ضريبة. ويزاولون التجارة ، فيأخذون البضائع التي تصل الى البلاد على سفن البنادقة وينقلونها الى نوميديا حيث يقايضون عليها ببضائع تأتي من أثيوبيا ومن السودان وتتمثل في الرقيق ، وقط الزباد

__________________

(٢٢١) أو تاجورة.

(٢٢٢) في كانون الثاني (يناير) ، ١٥١٠ م.

(٢٢٣) في الحقيقة ٦٥ ميلا تقريبا أي حوالي ١٠٤ كم.

(٢٢٤) نحو مائة وثلاثين ميلا ، أي زهاء ٢٠٠ كم.


والمسك. ويحملون كل ذلك الى تركيا وهكذا يجنون ربحا من رحلة الذهاب ومن رحلة الإياب.

* * *

لقد فرغنا من مملكة تونس وسنتابع الحديث عن صحراء برقه

صحراء برقة

تبدأ هذه الصحراء بكورة مصراتة وتمتد نحو الشرق حتى تخوم الاسكندرية على مسافة تقارب ألف وثلاثمائة ميلا (نحو ٢٠٨٠ كم) ويقارب عرضها مائتي ميل (٢٢٥). وبرقة إقليم صحراوي وقاحل ، ولا يوجد فيها ماء ولا أراض زراعية. وحتى قبل مجيء العرب إلى افريقيا ، كانت هذه الصحراء خالية من السكان (٢٢٦). ولكن حينما جاءها العرب ، استقر أقواهم في المناطق الخصبة ، والذين كانوا أقل منهم بأسا ظلوا في الصحراء ، حفاة عراة يتضورون من الجوع. وهذه الصحراء نائية عن كل منطقة مسكونة ولا ينبت فيها شيء ، حتى إن العرب إذا ما أرادوا الحصول على القمح أو أي شيء ضروري ، لا يحصلون عليه إلا إذا وضعوا أبناءهم رهينة. ويأتيهم القمح وتأتيهم هذه الأشياء عن طريق البحر بواسطة الصقليين الذين يعودون بالرهائن. وما أن يذهب هؤلاء ، حتى ينطلق العرب من جهتهم إلى السلب حتى نوميديا ، وهم أكبر اللصوص وأسوأ الغدّارين في العالم قاطبة. فهم يسلبون الحجاج المساكين والمسافرين. ولما كانوا يظنون أن ضحاياهم ربما يكونون قد ابتلعوا ما يملكونه من نقود وأخفوه في بطونهم عندما اقتربوا من هذه الصحراء ، لذلك يسقونهم الحليب الساخن ، ويهزونهم بعنف ، ويتقاذفونهم في الهواء ، إلى أن يضطر هؤلاء المساكين إلى التقيّؤ ، حتى لتكاد أمعاؤهم تخرج من أفواههم. ويبحث هؤلاء العرب في هذا القيء عما يحتويه من بعض الدنانير ، لأن هؤلاء البهائم الأجلاف يتوهمون أن المسافرين ربما يكونون قد ابتلعوا نقودهم عندما اقتربوا من هذه الصحراء ، كيلا تظهر عليهم فى متاعهم.

__________________

(٢٢٥) ٣٢٠ كم. ربما كان المؤلف يضم تحت هذا الاسم كل المنطقة الساحلية المحدودة جنوبا ببرقة عن طريق القوافل بين بلاد طرابلس ومصر وبواحات أوجلة والجغبوب وسيوه والبحرية.

(٢٢٦) تقول الشواهد التاريخية على خلاف ذلك فمن هذه الشواهد يظهر أن المناطق الصالحة للزراعة فى برقة كانت تتمتع بازدهار نسبي حتى الزحف الهلالي في أواسط القرن الحادي عشر الميلادى.



القسم السادس



نوميديا

لقد سبق أن قلنا فى القسم الأول من هذا الكتاب أن نوميديا تعتبر أقل أهمية من بلاد البربر لأسباب يوردها الجغرافيون والمؤرخون الأفارقة.

وبعض بلاد نوميديا قريبة جدا من جبال الأطلس. وقد تكلمنا عنها في القسم الثاني من هذا الكتاب الذي يعالج بلاد حاحة وإقليم السوس وإقليم جزولة. وقد ذكرنا في مملكة تونس الحامّة وقابس. ويرى بعضهم أن هاتين البلدتين تنتسبان إلى نوميديا. غير أننا عددناهما في جملة مناطق بلاد البربر لأن بطليموس يضم كل ساحل مملكة تونس في بلاد البربر. وسنتكلم عن الأخرى واحدة فواحدة.

تيسّت : مدينة في نوميديا

هي مدينة صغيرة ، بناها النوميديون في أزمنة سحيقة في القدم على تخوم صحراء ليبيا. ولها جدار سور من الطوب النيء (١). ولا ينبىء مظهرها عن الشيء الكثير ، حتى انها لا تعطي أبدا صفة مدينة متحضرة آمنة. وفيها قرابة أربعمائة أسرة. ولا يوجد حولها سوى مناطق رملية. ويوجد قرب المدينة رقعة صغيرة صالحة للزراعة ، ومزروعة فعلا بالنخيل ، ورقعة أخرى تزرع شعيرا ودخنا يقيم بها السكان أود معيشتهم البائسة. ويدفع هؤلاء الناس جعلا ثقيلا للعرب ، جيرانهم في الصحراء ، ومن عادتهم أن يقوموا برحلات تجارية مع بضائعهم إلى بلاد السودان وإلى جزولة ، حتى إنه لا يمكث في البيوت سوى نصفهم. وهم شديد والقبح وسود تقريبا وليس لهم أي حظ من التعليم. والنساء هن اللواتي يتعلمن ويقمن بدور معلمات المدرسة للفتيات وللفتيان. وعند ما يبلغ الفتية سن الثانية عشرة يشغّلهم أبوهم في مزرعته ، سواء لعزق الارض أو لاستخراج الماء من البئر لريها. والنساء اكثر بدانة من الرجال

__________________

(١) ويقول راموزيو إنها من الحجر الغشيم. وهذه العبارة تعني من حجارة غير متلاحمة بملاط.


واكثر بياضا منهم. وفيما عدا اللواتي يمارسن التدريس واللواتي يغزلن الصوف ، فإن جميع الباقيات منهن يبقين عاطلات عن العمل ، وايديهن على نطاقاتهن. والفقر هنا من نصيب الجميع. فالماشية نادرة وتتألف من فصيلة الأدمّان (٢) وليس لديهم ثيران ولا أغنام ، وتحرث الأرض بمقرونة تتألف من حصان وجمل. وهي العادة في كل نوميديا (٣).

__________________

(٢) أدمّان. وهو اسم بربري للغنم الصحراوي Ovis Longipes

(٣) على الرغم من ان كل الشارحين قد ذهبوا بدون تردد إلى أن بلدة تيسّت التي يوردها الحسن الوزان هي نفسها تيشيت في صحراء موريتانيا ، فإن من الضروري ان نتقدم في هذا الموضوع برأي يختلف نوعا ما في هذا الصدد عما يذهب اليه هؤلاء فبلدة تيسّت تتفق مع تيشيت فيما يلي :

١ ـ انعزال تيسّت : تبعد ٣٠٠ ميل عن أي مسكن في صحراء ليبيا.

٢ ـ اهمية البلدة ـ ٤٠٠ أسرة ـ كما تبين قصورها استنادا الى ما تبقى منها.

٣ ـ موقعها : على تخوم ليبيا [من الجنوب]. ج ٦ ص ٥.

٤ ـ بها واحة نخيل وزراعة دخن وشعير (ج ٦ ص ٥).

٥ ـ يأتي عرب كمن؟ إلى هذه المنطقة شتاء لقضاء مصالحهم : والشتاء هو حقا الفصل الموائم لبدو شمال الصحراء كي يذهبوا إلى تشيت. ونضيف الى ذلك ان الحوائط التي يذكرها الحسن الوزان (ج ٦ ص ٥) على أنها محيطة بالمدينة لا توجد الآن. ولكن من الممكن أنها كانت موجودة وهدمت منذ القرن السادس عشر الميلادي. ولكن هناك تفاصيل أخرى لا يمكن أن تنطبق على تيشيت :

١ ـ موضع تيشيت إنما هو في نوميديا (شمال الصحراء الكبرى ج ٦ ص ٥) على حين أن من المفروغ منه أن هذه البلدة التي يتحدث عنها الحسن في هذه الفقرة يجب أن تكون موضوعة في ليبيا مثل وادان ، توات ، قوارة ، فزان ، وغدامس.

٢ ـ يقول إن المناطق المجاورة للبلدة التي يتحدث عنها رملية خالصة (ج ٦ ص ٥) على حين أن تيشيت واقعة على بروز عال مؤلف من ضلع.

٣ ـ حراثة : «مع حصان واحد وجمل» (ج ٦ ص ٥) ، في حين ان المحراث مجهول تماما في موريتانيا الحالية. وقد ساهم مارمول (ج ٣ ص ٧٢٦) في هذا الالتباس والبلبلة عند كلامه عن الزيتون ومعاومات أخرى يشك كثيرا في صحتها ، بل تبدو مختلقة (وجود فرقة عسكرية تابعة للشريف ... الخ) ولا سيما وصفه تيست بأنها بلدة في الجنوب المغربي وهي التي سماها الوزان تيّوت. وهذا ما يفسر حيرة رسّامي الخرائط في القرن السادس عشر والسابع عشر الذين وضعوا تيسّت في جنوبي المغرب.

ولم يذهب الحسن الوزان الى تيشيت ، ولكن يظهر أنه حصل على معلومات عن هذه المدينة في أثناء وجوده في منطقة الأطلس الصحراوية ، وحسب أن هذه المدينة هي أقرب للشمال. لأن «الثلاثمائة ميل» التي يذكرها هي في الحقيقة مسافة ١٢٠٠ كم على خط مستقيم والتي تفصل تيشيت عن قوليمين ، وبالتالي جعلها في نوميديا. وهذا الخطأ في الموقع ، المضاف إلى معلومات خاطئة ، هو الذي يفسر الالتباسات التي قام بها مؤلفنا. وعلى كل فإن تيست عنده يقصد بها تيشيت الحقيقية ـ ت. م ، ور. م.R.mauny وTh.monod


وادان

وادان (٤) قرية واقعة في صحراء نوميديا التي تتاخم ليبيا. ويقطنها سكان حفاة وفقراء. ولا ينبت فيها شيء آخر سوى كمية ضئيلة من النخيل. وليس لدى السكان موارد ، ويعيشون شبه عراة. ولا يجرؤون على الخروج من قريتهم بسبب عداء جيرانهم. ويزاولون الصيد بواسطة الأشراك (٥) فيلقون القبض على بعض الحيوانات الوحشية في هذه المناطق ، مثل اللمت (٦) وطيور النعام. وليس عندهم من لحم غير لحم هذه الحيوانات. وهم يملكون بعض الماعز ، ولكنهم يوبونها لحليبها ، وهم يميلون للسواد اكثر من البياض (٧).

أفران

تتألف أفران (٨) من أربعة قصور بناها النوميديون ، يبعد الواحد عن الآخر مسافة ثلاثة أميال ، مع جدول يجري خلال الشتاء ويجف صيفا. وفي هذه القصور عدة حدائق نخيل. والسكان أغنياء نسبيا لأنهم يتاجرون بسلعهم مع البرتغاليين في ميناء غار تغسّم (٩) حيث يأخذون منهم الأقمشة الخشنة والأقمشة الكتانية ... الخ التي يحملونها إلى بلاد السودان بين ولّاته وتومبوكتو. ويقيم في هذه القصور الكثير من الصناع ، ولا سيما صانعو آنية النحاس ، وهي أدوات رائجة في بلاد السودان. ويعود هذا إلى أن بضعة مناجم للنحاس توجد في ضواحي أفران عند حضيض جبال الأطلس (١٠).

__________________

(٤) هي بلا ريب وادان الحالية على الخرائط ، قصر في ادرار في جمهورية موريتانيا الاسلامية الحالية. إقرأ عنها كتاب ت مونو «وصف ساحل افريقيا من سبته حتى السنغال» تأليف فرناندز (١٥٠٦ ـ ١٥٠٧ م) باريس. دار لاروز ١٩٣٨ م ص ١٥٥ ، هامش ١٥٤.

(٥) المقصود بها فخ ذو أسنان شعاعية ، سيشير إليه الحسن الوزان فيما بعد في معرض كلامه عن الخمر الوحشية ـ ه. ل.H.Lhote

(٦) الوعل addax أوoryx «وتعني كلمة ودّان في ليبيا نوعا من المها البري بحجم العجل» (المترجم).

(٧) لقد كانت وادان في ذلك العصر مخزن الملح المستخرج من ايجل ، ومرحلة هامة بين السودان والجنوب المراكشي.

(٨) أفران ، في واد نون الأعلى.

(٩) وهو ميناء أغادير على المحيط الاطلنطي والذي كان بيد البرتغاليين بين ١٥٠٥ م إلى ١٥٤١ م.

(١٠) كان النحاس معروفا حينذاك بإسم صيني.


ويقام مرة في كل أسبوع سوق في أحد هذه القصور (١١). ولكن هناك عوز مزمن للحبوب. والناس يكتسون بصورة لائقة تماما. ولهم جامع جميل ويقوم على شؤون أفران أئمة وقاض لمعالجة قضايا الديون والإرث. أما فيما يتعلق بالمجرمين ، فليس هناك من عقوبة غير النفي (١٢).

عكا

تتألف عكا من ثلاثة قصور صغيرة متقاربة ، في صحراء نوميديا ، على تخوم ليبيا. وقد كانت مأهولة جدا بالسكان. ولكن على أثر اضطرابات أهلية ، هجرت من سكانها. وبعد ذلك ، وبفضل تدخل شخصية دينية ، هدأت هذه المنازعات وعقدت صلات قرابة بين الخصوم السابقين ، وعادت القصور لتعمر من جديد بالسكان. وقد أصبح هذا الشخص أميرا على عكا. وهؤلاء هم في الحقيقة أكثر أهل الدنيا فقرا. فليس لهم من عمل سوى جني تمورهم (١٣).

درعة

الدرعة إقليم يبدأ من جبال الأطلس ويمتد جنوبا على مسافة مائتين وخمسين ميلا عبر صحراء ليبيا (١٤). وهذا الإقليم ضيق. ويقيم سكانه فعلا على ضفاف النهر الذي يحمل نفس الإسم ، والذي قد يفيض في أثناء الشتاء حتى إنه ليشبه بحرا ، وتارة ينضب خلال الصيف حتى ليمكن اجتيازه خوضا. وحينما يفيض يسقي كل البلاد وإذا

__________________

(١١) «القصور في بلاد المغرب الجنوبية تعني قرى محصنة فيها مخازن متعددة الطوابق لخزن الحبوب» (المترجم).

(١٢) تذكر النصوص العربية هذه المدينة على شكل ايفران أو أفران. وكان الأحرى وصف قصور أفران في بحث إقليم السوس أو في جزولة.

(١٣) لقد كانت حدائق نخيل عكا ، الواقعة في خانق Cuse في جبل باني ، على السفح الجنوبي للاطلس الصحراوي ، كانت واقعة ضمن بلاد جزولة.

(١٤) لما كان المؤلف قد ألحق تنزيته بإقليم هسكورة ، فإن قطاع وادي الدرعة الذي يعتبره إقليما من نوميديا يجب أن يبدأ من جنوب زاوية تنزيته التي تقع الى القرب من ثكنة زاغورة. وأول كورة نوميدية يجب أن تكون كورة تمغدرت. وابتداء من هذه المنطقة لا يكون وادي الدرعة مسكونا على مسافة ١٠٠ كم. وهذه المسافة المذكورة هي ٢٥٠ ميلا أي ٤٠٠ كم تنطبق على القسم المأهول من الوادي ، سواء في عالية زاغورة أو في سافلتها.


لم يحدث الفيضان في بداية نيسان (ابريل) (١٥) فإن كل المحصول يتلف ، وإذا وقع في الوقت المذكور جادت الأرض بمحصول طيب.

ويتعاقب على ضفاف النهر عدد كبير من القرى والقصور المبنية بالحجر وبالطين. وجميع السقوف مصنوعة من جذوع النخيل ، ويستعاض عن ألواح الخشب بجريد النخيل ، مع أن هذا الخشب لا قيمة كبيرة له لأنه ليفي وغير متكتل كأنواع الخشب الأخرى. ويوجد بجوار النهر ، على مسافة خمسة إلى ستة أميال (١٦) عدد لا يحصى من حدائق النخيل التي تنتج تمورا كبيرة الحجم من النوع الفاخر. ويمكن خزن هذه التمور مدة سبعة أعوام في مستودع دون أن تفسد ، بشرط أن يكون هذا المستودع واقعا في الطابق الأول. ولما كانت هذه التمور من أصناف مختلفة ، ومن ألوان متباينة ، فإن أسعارها تكون بالتالي مختلفة. فبعضها يساوي الكيل منها دينارا واحدا ، وبعضها الآخر ربع دينار. وهذه تصلح فقط لتغذية الجمال والخيل. والنخل منها المؤنث ومنها المذكر. والإناث منها هي التي تعطي الثمار ، بينما لا تنتج الذكور منها سوى عناقيد التلقيح. وقبل تفتح الأزهار يجب قطع فرع صغير من الزهور المذكرة وتثبيته على الزهور المؤنثة ، وإلا فإن الشجرة لن تنتج سوى تمورا ردئية مع نواة كبيرة جدا. ويتغذى سكان البلاد بالتمور من هذا النوع ، ولا سيما في الأيام التي لا يأكلون فيها شيئا آخر. ويقتاتون بحساء من شعير وببعض الأشياء التافهة الأخرى ، ولا يأكلون خبزا إلا في أيام العيد وفي الأعراس.

وليس في قصور هذا الإقليم سوى القليل من موارد الحياة المتحضرة. ومع هذا يوجد صناع من المسلمين وكذلك صناع من اليهود في نهاية الإقليم التي تواجه موريتانيا ، على طريق فاس توميوكتو. إلا أن المنطقة تحوي أيضا ثلاثة أو أربعة بلدان

__________________

(١٥) «إليكم قائمة بالأشهر الشمسية كما في اقطار آسيا العربية ، ثم في وادي النيل وليبيا ، وأخيرا في أقطار المغرب وذلك تسهيلا لمعرفة الأشهر المذكورة في كل أنحاء العالم العربي.

كانون الثاني ، شباط ، آذار ، نيسان ، أيار ، حزيران ، تموز ، آب ، أيلول ، تشرين الأول ، تشرين الثاني ، كانون الأول : يناير ، فبراير ، مارس ، إبريل ، مايو ، يونيه ، يوليه ، أغسطس ، سبتمبر ، أكتوبر ، نوفمبر ، ديسمبر ، جانفي ، فيفري ، مارس ، افريل ، ماي ، جوان ، جويليه ، أوغشت ، سبتمبر ، أكتوبر ، نوفمبر ، ديسمبر.» (المترجم)

(١٦) من ٨ إلى ١٠ كم.


ضخمة يقيم فيها تجار غرباء عن البلاد وتجار محليون. ولهذه البلاد حوانيتها ، وجوامعها المجهزة بكل الضروريات.

وتسمى أهم بلدة من هذه البلدان صبيح (١٧). ولها جدار سور. وتقسم إلى قسمين ويحكمها زعيمان مختلفان ، يحتربان في أغلب الأوقات ، وفي حالة شقاق دائما ، وهذا على الخصوص في موسم سقي المزروعات بسبب شح المياه الجارية. وأهل هذه البلاد رجال بواسل وكرماء. ويقبلون استضافة تاجر عندهم ، وعلى حسابهم ، لمدة عام كامل وحتى أكثر ، ولا يأخذون منه إلا ما يتركه لهم ، حسب طيب خاطره.

ويوجد بين سكان الدرعة بضعة زعماء يشتبكون بالأسلحة باستمرار. ويستعين كل حزب منهم بالعرب المجاورين الذين يؤجرون على ذلك بسخاء بمعدل نصف دينار يوميا لكل خيال يتطوع ليحارب على حسابه. ولكن يؤجر هؤلاء العرب يوميا فيوما وعن بضعة أيام فقط استخدموا فيها سلاحهم. وقد بدا أهل هذه البلاد منذ وقت وجيز باستخدام راشقات السهام والطبنجات ، ولم أر رماة أفضل من هؤلاء ، فهم يصيبون رأس الإبرة. وهكذا أخذوا يبيدون بعضهم البعض بهذه الراشقات.

وتنمو في هذه المنطقة كمية كبيرة من أشجار النيلة (١٨) ، وهو نبت للصباغة يشبه نبات الباستل (١٩) ، ويقايضونه بالبضائع المجلوبة من فاس وتلمسان. والحنطة غالية جدا ، ويحصل عليها بالتبادل مع التمور ، ويستورد القمح من فاس ، ومن مدن مجاورة أخرى. والخيل قليلة ، وكذلك الماعز. وتعلف الخيول بالتمر عوضا عن الشعير مع نوع من علف يدعى فارفا في مملكة نابولي. وتغذى الماعز بنوى التمر بعد جرشها. وبفضل هذا الغذاء تسمن العنزات وتعطي الكثير من الحليب ، ويأكل الناس عادة الكثير من لحم التيس الهرم والجمل المتقدم في السن ، وهي في الواقع وجبة تافهة. كما تربى طيور النعام ، من ناحية لأخرى ، لأكلها. ويماثل طعم هذا الحيوان تقريبا لحم الدجاج ، ولكنه قاس وله رائحة منفرة ولا سيما لحم الفخذ الذي يكون لزجا.

__________________

(١٧) يقع قصر بني صبيح في ناحية لكتاوة ، وهي على مسافة ٢٠ كم شمال كوع الدرعة ، وقد أقيم مخفر تاغوديت فى جواره.

(١٨) واسمها العلمي indigofera argentea ، أو النيلة الفضية.

(١٩) نبات صباغي من الصليبيات ، يعطي أزهارا بلون أزرق ، واسمه العلمي isatis tinticorea


والنساء جميلات وسمان : وهن لطيفات وللكثير منهن أخلاق غير محمودة. ولأهل البلاد عبيد زنوج من الجنسين الذين يتوالدون ويحتفظ الناس بهؤلاء الأولاد وبأهليهم لخدمتهم. ولهذا السبب يكون بعض الناس سودا ، وبعضهم هجناء ، ولكن القليل جدا منهم بلون أبيض خالص.

سجلماسة

بلاد سجلماسة (٢٠) إقليم يستمد اسمه من المدينة الرئيسية ، وتمتد على طول نهر زيز» ابتداء من الخانق القريب من مدينة غرسلوين (٢١) كما تمتد جنوبا على مسافة مائة وعشرين ميلا (٢٢) حتى تخوم صحراء ليبيا. وتقطن الإقليم قبائل بربرية تنتسب إلى زناتة وصنهاجة وهوارة. وقد كانت في الماضي تحت سلطة ملك كان مستقلا ، ولكنها انضوت بعدئذ تحت سلطة يوسف ، ملك لمتونة (٢٣) ، ثم انتقلت لأيدي الموحدين.

وبعد أن فقد الموحدون مملكتهم ، حكمتها أسرة بني مرين. وعهد بحكمها لأقارب الملوك الأقربين ، ومن ناحية المبدأ لأبنائهم. وظل الأمر كذلك حتى موت أحمد ، ملك فاس. وعندئذ ثارت المنطقة ، وقتل أهل البلاد الحاكم وخربوا جدار سور المدينة. وظلت هذه المدينة مهجورة حتى الوقت الحاضر. وتجمع الناس من جديد وبنوا قصورا ضخمة بين مزارعهم وفي كور الإقليم. وبعض هذه القصور حرة ، وبعضها الآخر خاضع للعرب (٢٤).

__________________

(٢٠) أو كورة سجلماسة. لم يبق في أيامنا من مدينة سجلماسة سوى بعض قصور متهدمة ، مرتصفة على طول وادي زيز وتعرف باسم مدينة الحمراء.

(٢١) عند فم زهبل.

(٢٢) ١٩٠ كم.

(٢٣) وهو يوسف بن تاشفين ، زعيم المرابطين.

(٢٤) لا تزال آثار عديدة شاهدة على استيطان قديم جدا وهام كثيرا في وادي الزيز ، في عالية تافيلالت. وقد اعتبرت بعض آثار هذه المنطقة على أنها رومانية ، ولكن هذا الرأي ليس يقينا. وتعود أوائل الروايات التاريخية لعام ١٤٠ ه‍ / ٧٥٧ ـ ٧٥٨ م وهو تاريخ تأسيس سجلماسة ، التي خلفت من جهة أخرى مدنا سابقة منها مدينة زيز. ولقد سبق أن قلنا في معرض كلامنا عن جبل نفوسة أن كثيرا من الخوارج الشرقيين ، أو المشارقة المضطهدين من الخلفاء السنيين ، قد التجأوا لبلاد البربر في آخر القرن السابع الميلادي ودعوتهم هي التي أدت لدخول البلاد في الإسلام. وقد تمرد الخوارج من المذهب الصفري خاصة ، والذين كان لهم أتباع حتى بين القوات البربرية في أسبانيا ، تمردوا جهارا ضد الحكم القائم حتى كادوا يقضون عليه في سنة ٧٤٠ م. وقد كان القمع قاسيا وتجمع الصفريون في نقاط منيعة بالنسبة ـ


__________________

ـ للقوات النظامية. وهكذا أسست قبيلة مكناسة الصفرية الجنوبية مدينة سجلماسة عام ١٤٠ ه‍ ، وعهد بإمارتها لأسرة تدعى بنو مدرار. وقد احتفظت هذه الأسرة بالسلطة حتى عام ٣٦٦ ه‍ / ٩٧٦ ـ ٩٧٧ م. وكان لإمارة سجلماسة حظ خارق : فقد حظر سلطان مصر أحمد بن طولون على القوافل وعلى الجماعات المنعزلة سلوك الطرق التي كانت تذهب من واحة الخارجة في جنوب مصر قاصدة المغرب أو السودان المغربي نظرا لكثرة الحوادث التي وقعت بسبب طول الطريق الصحراوي وانعدام الأمن على هذا الطريق. وحينئذ راح التجار القادمون من الكوفة والبصرة وبغداد ومن مدن المشرق الأخرى للمتاجرة في السوداني الغربي ، راحوا يسلكون هم وعائلاتهم ، طريق قوافل يؤدي إلى سجلماسة مرورا ببلاد البربر. وقد أشار المؤلفون القدامى في القرن العاشر الميلادى إلى اتساع سجلماسة العجيب وتشابه أبنيتها مع عمارات المشرق. وكانت دهشة المؤرخين كبيرة لوجود الشبه بين قصبات جبال الأطلس والعمائر المذكورة ، وللصلات الوثيقة بينهما في الفن الموسيقي وفي كثير من التفاصيل ، ومن المستغرب ألا نجد أي مؤرخ لم يذكر حتى ذلك الوقت أن إمارة سجلماسة كانت متأثرة كل التأثر بحضارة المشرق والأندلس. وبلغ ازدهار البلاد حدا جعل عمالة سجلماسة تقدم للخزينة الفاطمية فى القيروان عام ٩٥١ م ، مبلغ ٤٠٠٠٠٠ دينار من الضرائب سنويا تجبى في ثلاث فترات ، مدة كل فترة منها خمسة أيام ، أو ما يعادل ما كانت تقدمه بلاد البربر كلها لهذه الخزينة أو بيت المال. ويبدو أن الإمارة المدرارية ظلت مستقلة حتى عام ٩٠٩ م ، أي حوالي الوقت الذى جاء فيه المدعي الفاطمي أبو عبد الله لإنقاذ المهدى عبيد الله الذى كان معتقلا فيها. وألحق هذه الإمارة بالإمبراطورية. وفى أواسط القرن العاشر ترك الأمير الحاكم العقيدة الصفرية واعتنق المذهب السني المالكي. ولكن في ذلك الوقت كان خلفاء بني أمية في قرطبة يتنازعون مع الفاطميين في المغرب ، كما كان أمراء البربر ينحازون تارة لقرطبة وتارة أخرى إلى القيروان.

وانتهى الأمر بحكم المدراريين إلى الزوال في سنة ٩٧٦ م. وانتقلت السلطة من مكناسة إلى زناتة مغراوة. ولكن هذا التبدل في الأسرة الحاكمة لم يحل دون ازدهار الإمارة. ففي اواسط القرن الحادي عشر كانت تضم إليها أودية الزيز والدرعة والملوية الأعلى وتجاوزت الأطلس لتشمل صفرو. وكانت آخر نقطة في الإمارة غربا ، قلعة المهدي بن تواله ، في منطقة فزاز. وقد كانت لقمة شهية بالنسبة للمرابطين الصحراويين القادمين من موريتانيا الحالية. وفي عام ٤٤٥ ه‍ / ١٠٥٣ ـ ١٠٥٤ م ، قاموا بغزوة على قطيع من الإبل يبلغ تعداده خمسين ألف رأس أرسلها أمير سجلماسة لترعى في مراعي وادي الدرعة. وكان هذا الأمير ، وهو مسعود بن وانودين ، يرغب في استخلاص إبله وطرد الصحراويين. ولكنه انكسر وقتل في المعركة واحتل المرابطون سجلماسة. ولم يظهر يوسف بن تاشفين على مسرح التاريخ إلا في نهاية أيار (مايو) ١٠٥٦ م ، بوصفه قائدا تحت زعامة ابن عمه أبي بكر عمر ، أمير لمنونة وزعيم المرابطين الحربي. وظل كذلك حتى موت ابن عمه ، الذي قتل في تاغنت في موريتانيا الحالية ، في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٠٨٧ م ، ولكن في ١٠٦١ كان أبو بكر قد ترك سجلماسة باتجاه الصحراء الكبرى وترك يوسف بن تاشفين في هذه المدينة مع نصف الجيش المرابطي ، أي مع أربعين ألف رجل ، وقيادة البلاد المفتوحة. ويبدو أن الفتح المرابطي أدى ، عن طريق إبادة مدينة أوداغست ، وخراب مملكة غانا ، إلى القضاء على ازدهار إقليم سجلماسة الفريد ، التي أصبح تاريخها بعدئذ تاريخ ولاية عادية. ويبدو أنها انحازت إلى المرابطين في عام ١١٤٥ م في الوقت الذي كان فيه عبد المؤمن يحاصر تلمسان ، بعد موت الخليفة الموحدي تاشفين بصورة مأساوية في وهران. وقد استولى عليها الأمير المريني أبو يحيى عام ١٢٥٧ م ، ولا توجد أية وثيقة أخرى معروفة تؤيد الخبر الذي يعطيه المؤلف هنا عن تاريخ خراب سجلماسة بعد موت السلطان المريني أبي عباس أحمد المستنصر ، الذي وقع في تازة بتاريخ ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٣٩٣ م.


الخانق

الخانق (٢٥) ولاية ، أو على الأصح كورة على نهر زيز. وهي تتاخم جبال الاطلس (٢٦). ونجد فيها بضعة قصور ، وقرى ، وحدائق نخيل صغيرة. ولكن الأراضي الزراعية هزيلة وضئيلة الرقعة. وهي هنا عبارة عن شرطان ضيقة على حافة النهر عند حضيض الجبل ، ولا يتجاوز عرضها مرمى حجر أحيانا وحيث يزرع بعض الشعير.

وبعض سكانه تابعون للعرب أو لمدينة غرسلوين ، وبعضهم الآخر أحرار. والأولون فقراء للغاية ، حتى إنهم تحولوا إلى التسول ، في حين أن الآخرين أغنياء لأنهم يسيطرون على ممر طريق فاس إلى سجلماسة ويقسرون التجار على دفع مبالغ عالية.

ويوجد في هذا الخانق ثلاثة قصور هامة. الأول يدعى زهبل ، ويقع في أعلى جرف عند مدخل الخانق (٢٧). ويقال إن هذا الجرف يلامس السماء لشدة ارتفاعه. ويقف في اسفله الحرس الذي يجبي رسم المرور ، وهو ربع دينار عن كل جمل.

ويدعى القصر الآخر غسترير ، وهو على مسافة خمسة عشر ميلا من السابق ، ولكنه على سفح الجبل ، حتى لكأنه في السهل ، وهو أكثر شرفا وغنى من الأول (٢٨).

ويسمى الثالث تامارا كشت : ويوجد على مسافة عشرين ميلا تقريبا من غسترير وعلى الطريق الكبيرة (٢٩). وإضافة إلى ذلك توجد بعض القرى والقصور الصغيرة. وتعوز الحبوب سكان هذا الخانق كثيرا ، ولكن لديهم عدد كبير من الماعز التي يؤوونها في الشتاء ضمن كهوف كبيرة. وهنا تقع قلاعهم لأن هذه الكهوف واقعة على ارتفاع شاهق ولها مدخل ضيق جدا ولا يمكن الوصول إليها إلا بدروب محفورة بيد الإنسان

__________________

(٢٥) الخانق. ممر جبلي ضيق.

(٢٦) الواقع هو عبارة عن كلوزCluse في الأطلس يجتازه واد زيز.

«الكلوز تعبير فرنسي يعني ممرا يقطع طية من صخور التوائية ، كممر وادي بردى عند الربوة قبيل دخوله دمشق» (المترجم).

(٢٧) لقد تلاشى القصر ، ولكن تم حفر نفق في الجرف يسمح للطريق الحديثة باجتياز فم زهبل.

(٢٨) لم يمكن التحقق من هذا القصر.

(٢٩) لا يزال قصر تاماراكشت قائما على مسافة خمسة كيلومترات جنوب فم زهبل.


وحيث يستطيع شخصان أن يتصديا لهجوم المنطقة برمتها. ويمتد هذا الممر على طول مقداره أربعون ميلا تقريبا (٣٠).

متغارة

وهي كورة أخرى تتاخم السابقة في اتجاه الجنوب في خارج الممر. وتحتوي على عدة قصور واقعة أيضا على نهر زيز. ويسمى أهلها هلال (٣١). وهنا يقيم أمير الكورة ، وهو عربي وهناك فخذ من قبيلته (٣٢) يسكنون الخيام في البادية. ويوجد أمير آخر في القصور مع بعض الجنود. ولا يستطيع أحد أن يجتاز منطقته بدون إذن صريح. وإذا صادف جنوده قافلة بدون جواز مرور ، نهبوها حالا وسلبوا التجار والسائقين ويوجد هنا أيضا قصور أخرى وقرى ، كما رأيت ذلك بنفسي ولكنها كلها بائسة.

رطب

وهي أيضا كورة تتاخم متغارة وتمتد على طول واد زيز ، باتجاه الجنوب ، وعلى مسافة عشرين ميلا (٣٣). وأهلها بخلاء للغاية وجبناء : ولا يجرؤ مائة من خيرة فرسانهم التصدي لعشرة فرسان من العرب. ويزرعون أراضيهم لحساب هؤلاء العرب كما لو كانوا عبيدا لهم. وتتاخم هذه الكورة من الشرق جبلا غير مأهول (٣٤) ومن الغرب سهلا خاويا ورمليّا حيث يخيم العرب عند عودتهم من الصحراء (٣٥).

منطقة سجلماسة

لقد تكلمت بإيجاز عما بدا لي أنه جدير بالتسجيل عن إقليم سجلماسة. غير أنه بقي لي أن أقول إن المنطقة الخاصة بسجلماسة والتي تمتد على مسافة عشرين ميلا (٣٦)

__________________

(٣٠) في الحقيقة عشرون ميلا.

(٣١) لا وجود له وربما حل مكانه قصر السوق.

(٣٢) قبيلة مندبة.

(٣٣) حوالي ٢٠ كم.

(٣٤) وهو هضبة تيماسنت الصحراوية تماما.

(٣٥) تافيلالت.

(٣٦) ٣٢ كم.


بمحاذاة واد زيز ، من الشمال للجنوب ، تحتوي أيضا على ثلاثمائة وخمسين قصرا ، بين صغير وكبير ، هذا فيما عدا القرى (٣٧).

وعدد القصور الرئيسية ثلاثة :

فالأول يدعى تاينجيوت (٣٨). ويضم ألف أسرة. وهو أقربها إلى سجلماسة. ويحوى بضعة صناع. ويدعى الثاني تابوعسمت : ويقوم على مسافة ثمانية أميال (٣٩) تقريبا جنوبي القصر السابق. وهو أكبر وأكثر تمدنا ، ونجد فيه العديد من الباعة الغرباء والكثير من اليهود ، من صناع وتجار. وفي الحقيقة يوجد في هذا القصر من السكان أكثر من كل بقية الإقليم (٤٠) ويحمل الثالث اسم المأمون. وهذا الأخير كبير أيضا ، وهو حصين ومأهول كثيرا بالسكان ، ولا سيما من التجار اليهود والمسلمين (٤١).

ويحكم كل قصر من هذه القصور أمير خاص وهو زعيم طائفة.

ويوجد بالفعل بين هؤلاء السكان انقسامات شديدة وشقاقات. وهم على الدوام في حرب بعضهم ضد بعض ، ويسبب بعضهم الضرر لبعض قدر استطاعتهم كتخريب قنوات الري القادمة من النهر ، كما يقطعون النخيل أيضا من على مستوى الأرض وينهب بعضهم بعضا ويساعدهم العرب على ذلك.

وتضرب في هذه القصور عملة فضية وذهبية ، فالدنانير تشابه «البسلاكشي» الخفيفة والذهب من عيار خفيف. ويعادل وزنه قطعة الفضة النقية أربع حبات (٤٢) ،

__________________

(٣٧) تشتمل المنطقة حاليا على حدائق نخيل تيزميت وتافيلالت. ومنذ زمن طويل ، في القرن السادس عشر ، كان اسم تافيلالت يعني منطقة سجلماسة ذاتها ، ولكن الاستعمال المتشابه والمتكافىء تقريبا لكلمتي سجلماسة وتافيلالت جعل الأوربيين يعتقدون ـ شأن مارمول الذي كتب حوالي العام ١٥٧٣ م ، بعد أن أمضى بضعة أعوام رقيقا في مراكش ، والذي تجول في أفريقيا الشمالية ـ يعتقدون أن سجلماسة وتافيلالت كانتا مدينتين متميزتين ، ولم يتلاش هذا الخطأ تماما إلا بعد أن استطاع الأوربيون التعرف على جغرافية هذه البلاد في القرن التاسع عشر.

(٣٨) لقد اختفى قصر تاينجوت ولكن اسمه ظل على الكورة الواقعة في شمال شرق تافيلالت.

(٣٩) ١٣ كم.

(٤٠) لا يزال قصر تابوعسمت باقيا على الضفة اليمنى لوادي الزيز على مسافة خمسة كيلومترات تقريبا من أطلال سجلماسة الواقعة على الضفة اليمنى.

(٤١) لقد تخرب قصر المأمون حوالي عام ١٨٣٠ م وكان يقع على مسافة كيلومتر واحد جنوب شرق تابوعسمت ، على ضفة الزيز اليسرى ، مباشرة إلى الشمال من قصر عبادو الحالي.

(٤٢) الحبة ٤٩ جرام فالأربع حبات تساوي ١٦٩ جراما.


وأربع وعشرون قطعة من هذه النقود تساوي دينارا. ويستولي زعماء الطوائف على قسم من الضرائب. تلك مثلا حالة جزية اليهود وأرباح سك العملة. والقسم الآخر يقبضه العرب (٤٣) رسوما للجمرك. والسكان أدنياء وكل الذين يهاجرون منهم يمارسون مهنا وضيعة (٤٤). ولكن يوجد بينهم بعض الأغنياء الوجهاء ، وكثير منهم يسافرون إلى بلاد السودان حاملين بضائع بلاد البربر لمقايضتها بالذهب والرقيق.

وتتغذى عامة الناس بالتمور وبالقليل من القمح.

وتكثر العقارب هنا بصورة مفرطة في كل القصور ، ولكن لا توجد براغيث. وتكون الحرارة في الصيف شديدة والغبار يملأ الجو حتى لقد اعتقدت أنه السبب في إصابة جميع السكان بالتهاب في عيونهم. ويكون النهر ، في هذا الفصل جافا على الأكثر ، وتكون ندرة المياه كبيرة ، إذ لا يكون لديهم سوى الماء المالح المستخرج من آبار محفورة باليد. ويبلغ محيط هذه الكورة ثمانين ميلا من الطول (٤٥). وحينما كان كل الناس على وئام ، تم بناء جدران لمنع غزو الفرسان العرب وذلك بالقليل من النفقات. وقد ظلوا أحرارا طالما كانوا متوحدين مع إرادة مشتركة. ولكن ما إن تشكلت الأحزاب حتى تقوضت هذه الجدران ، وأصبح كل حزب منها يستدعي العرب للدفاع عن نفسه. وهكذا أصبح هؤلاء الناس أتباعا أو عبيدا تقريبا للعرب.

مدينة سجلماسة (٤٦)

لقد بنيت هذه المدينة ، وذلك استنادا إلى بعض مؤلفينا ، على يد قائد روماني ، سبق أن انطلق من موريتانيا ، وفتح كل نوميديا ثم وصل غربا حتى ماسّه ، فبناها وأعطاها اسم سيجيللوم ماسة لأنها كانت آخر بلدة في دولة ماسّه ، ولأنها كانت نوعا ما

__________________

(٤٣) من قبيلة العمارنة.

(٤٤) «والغريب أن أهل هذه المناطق الفقيرة نسبيا يهاجرون في أيامنا هذه إلى فرنسا على الخصوص طلبا للعمل ، ويعملون في المهن الشاقة التي يأنف العمال الفرنسيون منها أو في المهن الخطرة على الصحة ، كما في مناجم الفحم» (المترجم).

(٤٥) ١٢٨ كم.

(٤٦) سجلماسة ، أو المدينة الحمراء على الزيز. أنظر تراس. مذكرات عن أطلال سجلماسة. المجلة الأفريقية. الجزائر ١٩٣٦ بالفرنسية


الخاتم الذي يشير إلى نهاية فتحه. وقد تحرف هذا الاسم بعدئذ وتحول إلى سجلماسة. وحسب رواية أخرى ، هي بالأحرى رواية الجغرافي البكري وأتباعه ، أن الإسكندر الكبير هو الذي بنى هذه المدينة للمرضى وللعجزة في جيشه (٤٧). وقد قامت هذه المدينة في سهل على واد الزيز ، وكانت محاطة بسور عال لا تزال بعض أجزائه ماثلة (٤٨). وعندما دخل المسلمون إلى إفريقيا ، كانت خاضعة لملوك من قوم زناتة ، وقد استمر حكمهم إلى أن طردهم الملك يوسف بن تاشفين زعيم لمتونة.

وكانت سجلماسة مدينة آمنة جدا ، وذات منازل جميلة ، وكان سكانها أغنياء بسبب التجارة التي كانوا يمارسونها مع بلاد السودان. وكانت تحوي جوامع بهية ومدارس مجهزة بالعديد من الموارد التي كان يأتي ماؤها من النهر. وكانت هناك نواعير كبيرة تنتح هذا الماء من نهر الزيز وتصبه في قنوات تسوقه إلى المدينة. وكان هواؤها طيبا ، غير أن الشتاء كان كثير الرطوبة ، وكان ذلك يسبب الكثير من مرض الزكام بين السكان. وكانوا يعانون في الصيف من أمراض العيون ولكن كانوا يشفون بسرعة.

وتبدو سجلماسة في الوقت الحاضر مهدمة تماما كما سبق أن قلنا ، فإن سكانها تجمعوا في قصور وتشتتوا في كل مكان تقريبا من أراضي المنطقة. وقد أقمت في هذه المدينة وفي منطقتها وعقدت علاقات مع أهلها ، وكانت البلاد آهلة جدا بالسكان حتى أني مكثت في إحدى المرات مدة سبعة أشهر في قصر المأمون (٤٩).

__________________

(٤٧) والحقيقة أن البكري هو الذي كتب في مؤلفه سنة ١٠٦٨ م وأعطى أولى المعلومات عن تأسيس سجلماسة في عام ١٤٠ ه‍. ولكن النص الذي بين أيدينا لا يقول كلمة واحدة عن الإسكندر الكبير في هذا الصدد. ومن المحتمل أن الرواية التي أصبحت منسية اليوم ، قد وجدت آنئذ عن احتلال روماني مزعوم لمدينة تافيلالت.

(٤٨) من المحتمل أن خرائب سجلماسة الحالية تتطابق مع هذه المدينة المسورة ، ولكن الرقعة الحقيقة لسجلماسة كانت ، كما ينتظر ، أكثر اتساعا لأن المسعودي كتب في القرن العاشر ، أنه كان للمدينة شارع طوله مسافة نصف يوم مشيا ، وأن ابن بطوطة قال ، في القرن الرابع عشر ، أن كل واحد من سكان سجلماسة كانت عنده حديقة وحقل يتوسطهما بيته ، تماما كما في مدن الصين ، مما يجعل هذه المدينة كبيرة الاتساع.

(٤٩) لقد ظل اسم سجلماسة شائع الاستعمال حتى خلال القرن السابع عشر الميلادي ، وقد أصبح الآن منسيا تماما بين عامة الناس ، ويبدو أنه كان يلفظ فعلا سجلماسة كما كتبه المؤلف ، وكما ظهر في النصوص الفرنسية في القرن السادس عشر الميلادي.


قصر السويهيلة (٥٠)

وهو قصر صغير يقع على مسافة اثني عشر ميلا (٥١) عن إقليم سجلماسة نحو الجنوب. وقد بناه العرب في الصحراء كي يودعوا فيه أرزاقهم وأقواتهم بمنأى عن أعدائهم. ولا يوجد شيء فيما حوله سوى لعنة الله ، إذ لا يظهر هنا لا مزارع أشجار ولا خضر ولا حقل زراعي ، ولا أي أثر عن حياة ، ولا شيء سوى الحجارة السوداء والرمال (٥٢).

أم الحدج

وهو قصر آخر على مسافة ثمانية عشر ميلا من سجلماسة (٥٣) وقد بناه العرب أيضا للسبب الذي أوردناه ، ولا يوجد حول القصر سوى برية كالحة حيث ينمو كثير من ... (٥٤) والذي عندما ينظر إليها من بعيد ، يخالها برتقالات رميت على الأرض (٥٥).

أم العفن

وهو قصر رديء على مسافة خمسة وعشرين ميلا (٥٦) من سجلماسة. وقد بناه العرب في صحراء جرداء ، على الطريق بين سجلماسة والدرعه. وجدرانه من حجر أسود تقريبا يشابه الفحم. ويقيم هنا بصورة دائمة حرس بعض الأمراء العرب. ولا

__________________

(٥٠) اسم غير معين أو محدد مكانيا

(٥١) ٢٠ كم.

(٥٢) سيقول المؤلف في الجزء التاسع أن واد الزيز ، يجري بجوار قصر سوغيهيله ، بعد أن خرج من واحة النخيل كما يظن ، ولم يكن من المستطاع استعادة الاسم الصحيح لقصر سوغيهيله ، ولم يمكن التثبت من الاسم الصحيح لهذه القصة ، التي كتت أيضا على شكل السويهلية واسوغيلة ، ولا العثور على أثر منها

(٥٣) ٥٩ كم والحقيقة ٢٤ كم عن الطريق المباشر.

(٥٤) ترك المؤلف المكان أبيض لأنه يجهل بلا شك الاسم الايطالى لنبات الحنظل.

(٥٥) لا تزال خرائب قصبة أم الحدج تهيمن بصورة بديعة على واد الزيز ، وتبدو مرئية بشكل جيد على مسافة خمسة كيلومترات من مقرن واد الزيز ووادي آمر بوح. وأم الحدج تعني «أم الحنظل» والصورة التي يقدمها المؤلف صحيحة تماما. فمن حيث اللون تبدو ثمار الحنظل هذه وكأنها برتقالات كبيرة متناثرة على الأرض.

(٥٦) ٤٠ كم.


يستطيع أحد أن يمردون أن يدفع ربع دينار عن كل جمل. ويجبي نفس المبلغ عن كل يهودي. وقد حدث أن مررت من هنا مرة بصحبة أربعة عشر يهوديا. وسألنا الحرس عن عددنا فصرحنا بعدد يقل باثنين عن الحقيقي. وعدّنا الحرس وأراد الإمساك باثنين منا. فأكدنا بأن اثنين منا مسلمون والباقي يهود. ولكي يتأكد من ذلك طلب منا نحن الاثنين أن نتلو الصلاة الإسلامية (يقصد الفاتحة) وبعد أن تلوناها اعتذر وسمح لنا بالذهاب (٥٧).

تابلبالة

وهي مكان مسكون في وسط صحراء نوميديا ، على مسافة مائتي ميل من جبل الأطلس ، ومائة ميل جنوب سجلماسة. وهنا تقوم ثلاثة قصور كثيرة السكان. وأراضيها الصالحة للزراعة مغروسة بالنخيل (٥٨).

والماء فيها نادر جدا ، وكذلك اللحم : وتؤكل فيها طيور النعام والوعول التي تصاد. والسكان فقراء مع أنهم يزاولون التجارة مع أرض السودان لأنهم أتباع للعرب (٥٩).

تودغة

التودغة هي إقليم صغير على مجرى ماء صغير له نفس الاسم. وتكثر التمور في هذا الإقليم ، وكذلك الدراق والأعناب والتين. وتقوم هنا أربعة قصور وعشر قرى يسكنها فقراء الناس. ويعمل معظمهم في الفلاحة والدباغة. ويقع هذا الإقليم على مسافة أربعين ميلا من سجلماسة (٦٠).

__________________

(٥٧) لا تعرف أطلال أم العفن إلا باسم إيغرم ، ومعناه باللغة البربرية المحلية قصر. ولكن لا تزال بركة تقع على مسافة بضع مئات الأمتار الى الشمال من هذه الخرائب تحمل اسم أم العفن ، لأن البدو كانوا يأتون بأعداد كبيرة ليستحموا فيها. وتقع هذه الآثار على مسافة ستين كيلومترا جنوب سجلماسة ، على ضفة وادي غريس اليسرى.

(٥٨) هذه القصور الثلاثة هي حاليا : الشرائية ، زكري ومخلوف.

(٥٩) أي عرب العمارنة. والحقيقة تقع تابلبالة على مسافة ٥٠٠ كم من الأطلس و ٣٥٠ كم جنوب سجلماسة.

(٦٠) لقد ولع المؤلف هنا في الالتباس ، ذلك أن فيركله هي التي تقع على مسافة ٩٠ كم غربي سجلماسة ، أما تودغة فهي أكثر بعدا نحو الغرب ، وليس من الممكن تحديد أي من الواحتين كان ينطبق عليهما هذا الوصف.


فيركله

وهي كورة أخرى مأهولة ، على نهر صغير. وتكثر فيها التمور والثمار الأخرى ، ولكن لا ينبت فيها حب ، باستثناء كمية زهيدة. وتحوي ثلاثة قصور وخمس قرى. وتقع على مسافة مائة ميل من جبال الأطلس وستين ميلا من سجلماسة ، والسكان هم أتباع للعرب (٦١).

تزارين

تزارين منطقة جبلية مأهولة تقع على جدول على مسافة ثلاثين ميلا من فيركله وعلى مسافة عشرة أميال من الأطلس. وهذه الكورة خصيبة جذا بالتمور. وتضم خمس عشرة قرية ، وستة قصور وبقايا مدينتين لا يعرف اسمهما. ومن هنا جاءت تسميتها لأن تزارين تعني المدن في اللغة الإفريقية (٦٢).

بني جومي

وهي كورة أخرى مسكونة على نهر غير. وتكثر فيها أشجار النخيل. وسكان هذه المنطقة فقراء. ويمارسون في فاس كل ضروب المهن الحقيرة. ويشترون بما يكسبونه فى أثناء عام حصانا يقودونه حتى قراهم ويبيعونه بعدئذ من التجار الذين

__________________

(٦١) تقع فيركلة على مسافة ٩٠ كم جنوب شرق تافيلالت ، وعلى ثلاثين كم جنوب الأطلس ، في حين أن تودغة تقع على مسافة تقل عن ١٢٠ كم شمال غرب تافيلالت ، ويقع قسم من واديها في الأطلس ذاته. ويقول المؤلف في كتابه الأول إن روحه وهم فرع من عرب معقل كانوا يسكنون فيركلة ، في حين أن المقصود هو تودغة ، وأن العمارنة وهم من «دوي منصور» وهو فرع آخر من معقل ، كانوا يستوفون عوائد من أهل سجلماسة وتودغة ، في حين أن المقصود هي فيركلة ، وقد ارتكب المؤلف نفس الخلط في الكتاب الثاني عند ما وضع جبال ايمغارن بجوار فيركلة وجبال تادس وكأنها مجاورة لتودغة.

(٦٢) إن المؤلف الذي كان لا يعرف اللغة البربرية قد خلط بين تزارين أو تازارين التي تعني أشجار التين مع تدارين التي تعني البيوت ، وتطلق بطريق التوسع على القرى. وتقع تزارين كما تشير إليها الخرائط الفرنسية الحديثة على مسافة مائة كيلومتر جنوب غرب فيركلة وعند حضيض جيل صاغر ومن الجنوب ، الذي يؤلف قسما من الأطلس. وقد فقدت حدائق نخيل تزارين الكثير من أهميتها ، وكذلك حال نخيل تافيلالت وكل هذه المناطق التي يجتاحها اليبس تدريجيا ويبدو هذا حتى فى أثناء حياة شخص عادي.

«المقصود باللغة الإفريقية اللغة البربرية ، والمقصود بالأفارقة دوما البربر» (المترجم).


يذهبون إلى أرض السودان. ويوجد في هذه الكورة ثمانية قصور صغيرة وأكثر من خمس عشرة قرية تبعد عن سجلماسة حوالي مائة وخمسين ميلا في اتجاه الجنوب الشرقي (٦٣).

قصر المزاليق وقصر أبى عنان (٦٤)

وهما قصران في صحراء نوميديا ، ويقعان على مسافة خمسين ميلا من سجلماسة ، ويعيش سكانها العرب دوما في ضنك وفاقه ولا ينبت في هذه الأراضي أي نوع من الحبوب ، ولا يوجد بها سوى بعض النخلات. ويقع هذان القصران على ضفة واد غير (٦٥).

قصر المزاليق وقصر أبي عنان (٦٤)

وهي مدينة صغيرة في صحراء نوميديا ، على مسافة مائة وعشرين ميلا تقريبا من جبال الأطلس. وفيها منجم رصاص وآخر للأثمد. وعمل السكان هو إنتاج هذين المعدنين ، وينقلونهما إلى فاس ، ولا ينبت شيء حول هذه البلدة (٦٦).

__________________

(٦٣) تتواكب قصور بني قومي أو جومي على مسافة ٢٥٠ كم تقريبا إلى الجنوب الشرقي من تافيلالت وتمتد على مسافة عشرين كيلومترا على طول وادي زوزفانه وليس واد غير كما وقد أمكن التعرف على القصور الثمانية التي كانت موجودة في عصر المؤلف ، ولكن اختفت خمس منها ، وحلت محلها قصور أخرى وأهمها قصر تاغيت ، وهو أكثر قصور الجنوب روعة بسحر الألوان المتغيرة على موقعه حسب وضع الشمس ، وهذا ما اجتذب إليه الرسامين ، ومخرجي الافلام السينمائية والسواح. وقد اختفت القرى أيضا. وقد استقر هذا الفخذ من بني جومي ، وهو فرع من زناته عبد الواد ، في هذه النقطة على أحد طرق السودان الرئيسية.

«والسودان هنا يعني الأقطار الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى والتي يسكنها الزنوج» (المترجم).

(٦٤) لم يكن التعرف على قصر أبي عنان.

(٦٥) لم يكن التعرف على قصر المزاليق. وتقع بودنيب على واد غير وعلى نفس المسافة المذكورة. ولا يقع قصر أبي عنان على واد الغير ، ولكن رافده ، وادي أبي عنان. ويقع القصر المذكور على مسافة بضعة كيلومترات شمالي المخفر الذي يحمل نفس الاسم.

(٦٤) لم يكن التعرف على قصر أبي عنان.

(٦٦) القصير ومعناه القصر الصغير ، وقد اختفى. ولكن يمكن الاستدلال على موقعه بموقع حاسي قصير. ويحمل مجرى الوادي الجاف الموجود هنا اسم وادي قصير ، وهناك كتلة كثبان مجاورة ، هي عرق القصير ونجد كذلك نفس الاسم على الممر الواقع إلى الشرق الذي يسمح بالدخول إلى الهضبة المسماة حمادة غير وثنية قصير. ويقع حاسي قصير على مسافة ٧٠ كم جنوب شرق سجلماسة ، إذن تبعد عن الاطلس مسافة ١٩٢ كم. وهذا يطابق المسافة بين القصير ومدخل الخانق حيث كان يمر بالتأكيد معدن الرصاص والأثمد اللذين كانا ينقلان إلى فاس.


بني بصري

وهي كورة مسكونة ، حيث يوجد ثلاثة قصور عند أقدام جبال الأطلس. وتكثر هنا الثمار ، ولكن لا ينبت فيها النخيل ولا الحبوب. ويقع هنا منجم حديد يمون كل إقليم سجلماسة بحاجته. ونجد في هذه الكورة بعض القرى تحت سلطة أمير دبدو. ويعمل السكان في المنجم (٦٧).

واكدة

واكدة كورة تقع على مسافة مائة وسبعين ميلا إلى الشرق من سجلماسة. ونجد فيها ثلاثة قصور كبيرة وبضعة قرى وكلها على ضفة واد غير (٦٨) ولا ينبت هنا سوى القليل من القمح ، ولكن تجنى كمية كبيرة من التمور. وينقل السكان بضائعهم إلى بلاد السودان. وكلهم من الذين يدفعون الإتاوة للعرب.

فيقيق

وهى عبارة عن ثلاثة قصور فى وسط الصحراء ، توجد بالقرب منها كمية كبيرة من أشجار النخيل. وتنسج النسوة فيها أقمشة صوفية من نوع ملاءات السرير ، ولكنها ناعمة للغاية ومتقنة حتى ليظن انها من حرير ، وتباع بأسعار غالية جدا في مدن بلاد البربر مثل تلمسان وفاس. ورجال هذه القصور غاية في الذكاء. وينصرف بعضهم للتجارة فى بلاد السودان ، كما يقصد الآخرون فاس لدراسة الآداب. وعند ما يحصل أحدهم على شهادة الدكتوراه (٦٩) يعود إلى نوميديا ويعمل إماما أو خطيبا. وكل الناس

__________________

(٦٧) تقع فصور بنى بصرى فى رأس وادى غيس ، وهو فرع رافد لواد أبي عنان ، رافد وادي غير. وتقع على مسافة مائتي كيلومتر جنوب دبدو تقريبا ، وعلى مسافة ثلاثين كيلومترا جنوب غرب ثكنة تلسنت. وتوجد حاليا خمسة قصور لبنى بصرى والثلاثة الأولى القديمة خربة ، وبالقرب من هذه القصور الحالية تسكن عشائر بني يحيى أو غيس ، وآيت عيسى أو على وتخوالت. ولم يبق سوى آثار عن مناجم الحديد بجوار هذه القصور كما توقف استغلالها.

(٦٨) يقع القصران الباقيان فى واحة النخيل على واد بشار الذي لا اتصال له مطلقا مع واد غير. وهذان القصران هما واكدة على مسافة ستة كيلومترات فى الجنوب الغربي ، وبشار الذى أصبح اسمه أيام الحكم الفرنسي للجزائر كولومب بشار. وهو مركز إدارى هام.

(٦٩) أى العالمية.


هنا أغنياء. وتقع هذه القصور على مسافة خمسين ومائتى ميل شرقي سجلماسة (٧٠).

تسابيت

تسابيت كورة مأهولة ، في صحراء نوميديا ، على مسافة خمسين ومائتي ميل إلى الشرق من سجلماسة وعلى مسافة ستمائة ميل من الأطلس. وتحوي أربعة قصور وبضع قرى على تخوم ليبيا ، على طريق فاس وتلمسان إلى مملكة أغادس في بلاد السودان. وسكانها مدقعون ، ولا ينبت في بلادهم شيء سوى التمور والقليل من الشعير. وهؤلاء الناس زنوج غير أن نساءهم جميلات ولكنهن سمراوات (٧١).

تيغورارين

التيغورارين (٧٢) منطقة مسكونة في صحراء نوميديا ، تبعد مائة وعشرين ميلا تقريبا شرق تسابيت ، حيث يوجد حوالي خمسين قصرا وأكثر من مائة قرية بين حدائق النخيل (٧٣). وسكان هذه البقعة أغنياء لأن عادتهم الذهاب كثيرا مع بضائعهم إلى بلاد السودان حيث يجنون أرباحا كبيرة. وهنا يقع رأس خط القوافل. حيث ينتظر تجار بلاد البربر تجار بلاد السودان ثم يذهبون سوية.

ولهذه البلاد الكثير من الأراضي الصالحة للزراعة ، ولكن يجب ريها بمياه الآبار وتسميدها بالسماد ، لأن هذه الأراضي جافة وغير خصيبة ، ولهذا يعيرون مساكنهم للغرباء بدون تعويض كي يحصلوا على سماد الخيل وبراز الآدميين وأكبر ما يغضب صاحب المنزل هو أن يقضي الضيف حاجته خارج البيت. وإذا رآه صاحب البيت اغتم

__________________

(٧٠) تضم فقيق أو فيقيق خمسة تجمعات سكانية هي قصور ودغير ، أولاد سليمان ، المعيز ، وقصر الحمام في الشمال ، وقصر زناته في الجنوب ، وتقع واحة النخيل الرائعة هذه على مسافة ٤٠٠ كم من سجلماسة وهي في طريق الانحطاط حاليا. ولا تزال قيمة أهل فقيق ومهارتهم مشهورة ، ولكن يظهر أن سر المنسوجات الجميلة قد ضاع.

(٧١) تعتبر تسابيت في أيامنا كورة من تيغورارين أو قوراره ، ومن ناحية أخرى تبعد ألف كيلومتر أو أكثر من ٦٠٠ ميل عن الأطلس أو بين سجلماسة وتسابيت على مختلف الدروب الممكنة.

(٧٢) تيغورارين معناها المخيمات بالبربرية ، وقد عربت على شكل قورارة.

(٧٣) يظن أن المؤلف لا يقتصر هنا على حدائق النخيل في قوراره (ما عدا تسابيت ، ومنها واحة تيميمون ، وهي أشهرها في أيامنا) ، بل يعرض كذلك لواحة توات ، التي ذكرها في كتابه الأول من هذا المؤلّف ، والتي أوردها على شكل تغات بين أقسام نوميديا بين فقيق وتسابيت. وعدد القصور المسورة والقرى غير المسورة الذي يعطيه هنا يؤكد هذا الافتراض كما يبدو.


وصرخ «ألا يوجد مرحاض فى بيتى حتى تضطر لقضاء حاجاتك فى الخارج؟» واللحم غال جذا فى تيغورارين إذ لا يمكن اقتناء ماشية بسبب جفاف البلاد. ولا يوجد سوى بعض العنزات التى تربى من أجل الحليب. ويؤكل لحم الجمال المشتراه من العرب الذين يأتون للأسواق التي تقام فى المنطقة. وتربى هذه الجمال لأنها لا تصلح كحيوانات حمل. كما يستخدم أيضا في هذا الغذاء التافه السمن المملح الذى يستودره تجار فاس وتلمسان ويجنون من وراء ذلك ربحا كبيرا. وكان يقيم فى تيغورارين بعض اليهود الواسعي الثراء. ولكن تدخل أحد أئمة تلمسان (٧٤) أدى إلى نهب أرزاقهم كما أن السكان قتلوا أكثرهم. وقد وقع هذا الحادث فى العام الذى طرد فيه الملك الكاثوليكي اليهود من أسبانيا ومن صقلية (٧٥).

وحكومة الشعب في يد بعض زعماء الطوائف. وكثيرا ما يقتتلون فيما بينهم ، ولكنهم لا يلحقون أي ضرر بالغرباء ومن عادتهم دفع إتاوة زهيدة للعرب (٧٦) لأنهم أتباع لهم.

مزاب

المزاب (٧٧) منطقة مسكونة في صحاري نوميديا على مسافة ثلاثمائة ميل تقريبا شرق تيغورارين وعلى نفس المسافة من البحر المتوسط (٧٨) وتضم ستة قصور وبضع

__________________

(٧٤) لقد تمتعت كل من واحتي قوراره وتوات بالتأكيد بإزدهار كبير نسبيا في الماضي ، عند ما كانت تجارة السودان تتم بواسطة الطريق العابر للصحراء الكبرى. غير أن ضعف ممالك جزيرة المغرب ، ثم تقدم الملاحة الأوربية قضت تدريجيا على هذا الازدهار ، وقد ساهم زحف بحر الرمال نحو الغرب والذي يتألف من العرق الغربي الكبير في هذا الخراب ، وأخيرا فإن تمرد عام ١٤٩٢ م الذي قضى على هيمنة اليهود في هذه المناطق لم يكن قليل التأثير على الانحطاط التجارى الذي استفحل تدريجيا.

(٧٥) يعود تاريخ مرسوم طرد يهود أسبانيا لتاريخ الثالث من آذار (مارس) ١٤٩٢ م أي بعد حوالي شهرين من سقوط غرناطة بأيدي الأسبان. وقد نشأت في هذه الواحات شيئا فشيئا طبقة من شخصيات ينية إسلامية ، من أشراف وسواهم ، عرفوا باسم المرابطين ـ نفس اسم مرابطي لمتونة ـ. وقد عمد المحرض المغيلي ، الذى طرد من فاس ، إلى استثارة سكان قورارة وتوات ضد اليهود.

(٧٦) وهم بنو عمير ، فرع من بني هلال. انظر الكتاب الأول.

(٧٧) واحات المزاب ومدينتها الرئيسية غرداية. [وجمع سكان هذه المنطقة تقريبا يتبعون المذهب الاباضي] (المراجع)

(٧٨) والحقيقة ٦٠٠ كم تقريبا جنوبي البحر المتوسط و ٧٠٠ كم عن قورارة.


قرى (٧٩) والسكان أغنياء. وهى أيضا رأس الخط التجارى حيث يتلاقى تجار مدينة الجزائر وبجاية مع تجار بلاد السودان. ويدفع أهل المنطقة إتاوة للعرب ، بوصفهم اتباعا لهم.

طوقورت

طوقورت مدينة قديمة بناها النوميديون على جبل له شكل نتوء يمر عند سفحه نهر صغير يجتازه جسر متحرك كما نجد امثالا له عند أبواب المدن. وهي محاطة بجدار من الحجر الغشيم والطين ، باستثناء طرف الجبل الذي تعد جروفه وسائل دفاع (٨٠). وتقع هذه المدينة على مسافة خمسمائة ميل من البحر المتوسط وثلاثمائة ميل تقريبا من تيغورارين (٨١). وتسكن طوقورت خمسمائة وثلاثة آلاف أسرة (٨٢). وبيوتها من الآجر المشوى والنيء. والجامع وحده من الحجارة المنحوتة الجميلة. وهي مأهولة جيدا بالصناع والوجهاء الذين هم من ملاكي حدائق النخيل الأغنياء. ولكن المدينة تفتقر للقمح الذي يجلب اليها من قسنطينة بالتبادل مع التمور. ويحب أهل طوقورت الغرباء كثيرا ويستضيفونهم في بيوتهم بالمجان ، ويرجحون تزويج بناتهم للغرباء أكثر من اهل البلاد ، ومن عادتهم ان يعطوا بناتهم مهرا مؤلفا من أثاث كعادة اهل اوروبا. ويقدمون هدايا كبيرة للغرباء حتى ولو عرفوا انهم لن يعودوا مطلقا ، وذلك لانهم مفرطون في الكرم. وقد كانت طوقورت في الماضي تحت سلطة ملوك مراكش (٨٣) ثم اصبحت تابعة لملوك تلمسان. واخيرا صارت تابعة لملك تونس الذي تدفع له خمسين

__________________

(٧٩) إن القصور الستة التي كانت في ذلك العصر هي : العطف ، بونواره ، بني ايسغن ، وغرداية. وقد أسست هذه القصور الأربعة في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي على يد جماعات من زناتة الأباضيين الذين قدموا تقريبا من كل حدب وصوب كي يلتجئوا إلى هذه المنطقة الموحشة للغاية والعسيرة المواصلات ، ثم أنشئت مليكه سنة ١٣٨٠ م ، وأخيرا سيدي سعيد التي خربها الأتراك في القرن السابع عشر. أما القرى فليست معروفة بالنسبة لدينا.

(٨٠) هذا الوصف مجاف للحقيقة كل المجافاة. وهذا يقودنا الى الظن بأن المؤلف كان مضطرا لقبول معلومات قدمها له مازح ردئي ولا يمكن انه وقع في التباس ما ، إذ ليس لبلدة اخرى في هذه المناطق مجموع هذه الخصائص ، ولا تحوي الجولية سوى بعضها.

(٨١) لا يوجد اكثر من ٣٣٠ ميل او. ٥٣ كم بين طوقورت والبحر المتوسط ، وتبلغ المسافة بين طوقورت وتيميمون والجولية على الطريق المباشر مقدار ٥٥٠ ميلا او ٨٨٠ كم.

(٨٢) مبالغة اكيدة.

(٨٣) من المرابطين ثم الموحدين ، ويبدو ان المنطقة ظلت لمدة طويلة مركز مقاومة مرابطية.


الف دينار في السنة ، ولكن على شرط أن يأتي شخصيا لاستلام هذه الضريبة.

وقد ذهب ملك تونس الحالي (٨٤) اليها مرتين. ويوجد حول طوقورت بضعة قصور وقرى ، وكذلك اماكن مسكونة على مسافة تمتد حتى ثلاثة او اربعة ايام مشيا (٨٥). وكل من هذه تتبع امير طوقورت الذي ينال بذلك مقدار مائة وثلاثين الف دينار من العوائد. ولهذا الامير حرس من الفرسان ، ومن راشقي السهام (الرماة) ومن حملة البنادق الأتراك : ويعطي لهم مرتبا طيبا كي يظل كل واحد منهم في الخدمة بمحض ارادته. وهو شاب طيب القلب وكريم يدعى عبد الله وقد كانت لي علاقة به ووجدته لطيفا حقا ، وديعا ومرحا للغاية ، ينظر للغرباء نظرة طيبة (٨٦).

ورقلة

وهي مدينة قديمة جدا بناها النوميديون في صحراء نوميديا. ولها جدار سور من اللبن ، وبيوت جميلة حولها في واحة نخيل واسعة. وتقوم الى جوارها بضعة قصور وعدد لا يحصى من القرى. ويكثر في هذه المدينة الصناع ، وسكانها من كبار الاغنياء لأنهم على علاقة بمملكة آغادس. ونجد بين ظهرانيهم الكثير من الباعة الغرباء عن البلاد ، ولا سيما القادمين من قسنطينة ومن تونس. ويجلب هؤلاء الى ورقلة منتجات بلاد البربر كي يتبادلوها بالسلع التي جلبها تجار بلاد السودان.

وتفتقر البلدة كثيرا الى القمح واللحم. ويؤكل لحم الجمل ولحم طير النعام. وأكثرية الرجال سود ، وليس ذلك بسبب المناخ ، ولكن لأن لهؤلاء الناس الكثير من الجواري ذوات اللون الاسود ، ويتخذونهن سريات لهم ، فيرث اولادهم الوان أمهاتهم ، ويخصون الغرباء باستقبال طيب لأنهم لا يملكون شيئا سوى ما يأتيهم به هؤلاء وخاصة فيما يتعلق بالقمح ، واللحم المملح ، والسمن ، والأقمشة الصوفية والكتانية ، والاسلحة ، والمدى ، وبالجملة كل ما هم بحاجة اليه.

__________________

(٨٤) ابو عبد الله محمد.

(٨٥) حتى الريغ او ريغ.

(٨٦) يظهر أن المؤلف صادف هذا الشاب في بلاط ملك تونس وانه هو الذي خدعه بوصف طوقورت بهذه المظاهر.


ولها أمير تقدم له التشريفات الملكية (٨٧) ، وينفق هذا الامير على حرسه البالغ الف فارس. وتجلب له دولته مائة وخمسين الف دينار ، ويدفع لجيرانه العرب إتاوة مرتفعة (٨٨).

ولاية الزاب

تقع هذه الولاية في وسط صحارى نوميديا. وتبدأ في الغرب من تخوم مسيلة ، ويحدها من الشمال جبال مملكة بجاية. وتمتد شرقا حتى بلاد الجريد (٨٩) التي تواجه مملكة تونس ، وتمتد جنوبا حتى الصحاري التي يخترقها طريق طو قورت ورقلة. وهذه المنطقة شديدة الحر ورملية. ولا يتوافر فيها سوى القليل من الماء ، والقليل من الأراضي الزراعية الصالحة لزراعة الحبوب ، ولكن عدد حدائق النخيل لا يكاد يحصى فيها ، ويضم هذا الاقليم خمس مدن وعددا كبيرا من القرى. وسنصف المدن حسب ترتيبها :

بسكرة

بسكرة (٩٠) مدينة قديمة تأسست في العصر الذي كان فيه الرومان يحكمون بلاد البربر ، وبعدئذ تخربت ، ثم أعيد بناؤها في الزمن الذي دخلت فيه الجيوش الاسلامية الى افريقيا. وتبدو اليوم آهلة تماما بالسكان. وجدار سورها من اللبن النيء ، وتربية السكان طيبة ولكنهم فقراء لان اراضيهم لا تنتج شيئا سوى التمور.

وقد تبدل حكام هذه البلدة عدة مرات ، فقد ظلت حقبة من الزمن تحت سلطة ملك تونس ، حتى وفاة الملك عثمان (٩١). وفي هذه الفترة اعلن امام المدينة (القائم بشئون الدين) الثورة فيها ونصب نفسه أميرا. وقد عجز ملك تونس عن استعادتها منذ

__________________

(٨٧) كان هذا الأمير يحمل فعلا لقب سلطان ، حسب العادة المتعارف عليها.

(٨٨) اي عرب سعيد. انظر الكتاب الأول.

(٨٩) او الجريد في الجنوب التونسي.

(٩٠) وهي مسكرة الرومانية.

(٩١) مات ابو الحسن عثمان في ايلول (سبتمبر) ١٤٨٨ م.


ذلك الحين. ويوجد فيها عدد كبير من العقارب التي تقتل لسعتها فورا. ولهذا السبب يغادر السكان المدينة في اثناء الصيف ويقيمون في مزارعهم حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) (٩٢)

البرج

وهي مدينة اخرى على مسافة اربعة وعشرين ميلا (٩٣) الى الغرب من بسكرة. وهي مدينة مطمئنة وآهلة بالسكان. ونجد فيها الكثير من الصناع ، ولكن المزارعين يشكلون فيها الأغلبية. وتؤدي ندرة المياه فيها إلى أن كل مزارع يجلب الماء الى حقله خلال ساعة او اثنتين ، حسب مساحة أرضه (٩٤) وذلك عندما يريد سقايتها بماء القناة التي تمر من جوار حقله. ولكل مزارع منهم ساعات معينة يسقي أرضه في اثنائها ، وعندما تفرغ يكون وقت الري الذي يحق له قد انتهى. والذي يكون الماء تحت تصرفه لا يحق له الاحتفاظ به بعد انتهاء مدته. وينتج عن ذلك ان تحدث في اغلب الاحيان مشاجرات ويقع بعض القتلى (٩٥).

نفطة

نفطة مدينة أو بالاحرى نفطة مكان مأهول وتقسم الى ثلاثة قصور كبيرة جدا ، ولا سيما أحدها ، حيث توجد القلعة. وأعتقد أنها من بناء الرومان استنادا الى الأبنية التي ترى فيها. ومهما كان الأمر فهي مأهولة كثيرا وليس لها مطلقا صفة مدينة متحضرة آمنة. وكان سكانها اغنياء في العادة لأنها كانت واقعة على تخوم ليبيا ، على الطريق المؤدية لبلاد السودان. ولكن منذ مائة سنة دخلت في تمرد مستمر مع ملك تونس. وقاد ملك تونس الحالي (٩٦) حملة ضدها ، فاحتلها ونهبها ، وقتل الكثير من سكانها وهدم

__________________

(٩٢) تتكاثر العقارب بشدة دائما في اثناء الصيف ، ولكن نادرا ما تكون لسعتها مميتة.

(٩٣) ٣٨ كم.

(٩٤) ليس هذا النظام خاصا بالبرج ، فهو النظام الشائع بلا ريب في كل الواحات.

(٩٥) لا يزال هذا صحيحا في كل الواحات ، ولكن نظام القياس وتوزيع الماء يختلف باختلاف المناطق.

(٩٦) ابو عبد الله محمد.


جدار سورها ، حتى لقد أصبحت قصورها الثلاثة اليوم قرية واحدة. ويمر من قربها جدول تميل مياهه للسخونة (٩٧).

تولغه

تولغة مدينة بناها النوميديون ، ولها جدار سور صغير. ويمر من جوارها جدول ذو ماء ساخن ، وتنتج اراضيها التمور بوفرة ، ولكنها لا تنتج سوى الفليل من القمح. وسكانها فقراء ايضا ومرهقون بالضرائب من قبل العرب وملك تونس. ولكنهم بخلاء ومتعجرفون لا قصى حد وينظرون للغرباء نظرة سوء وريب (٩٨).

دوسن (٩٩)

دوسن مدينة قديمة جدا بناها الرومان عند النقطة التي تتاخم مملكة بجاية صحراء نوميديا. وقد تهدمت عند دخول الجيوش الاسلامية افريقيا. ويعود هذا لوجود كونت روماني فيها مع عدد كبير من رجال شجعان. ولما لم يقبل هذا مطلقا تسليم المدينة الى القائد المسلم ، فقد استمر الحصار مضروبا عليها مدة عام تقريبا. وعندما سقطت بالقوة وقتل كل الرجال ، أخذت النساء واخذ الاطفال اسرى ثم أشعلت فيها النيران. وقد احترقت المنازل لان الاسوار كانت من حجارة ضخمة ، فلم تتقوض. ولكنها تظهر مهدمة من الواجهتين ، ولا اعرف كيف تم ذلك بأي آلة او بزلزال. وتظهر قرب المدينة بعض الآثار التي تشبه المدافن. وعند هطول الامطار تكشف الامطار عن قطع كبيرة من الذهب والفضة يعثر عليها الصيادون مع صور وكتابات حول اطارها لم يستطع احد ان يفسر لي معناها (١٠٠).

__________________

(٩٧) ليس من المؤكد انه يقصد نفطة بالتأكيد. فأولا تقع نفطة في منطقة الجريد وليس في الزاب ، وهو ما لا يمكن ان يجهله المؤلف ، حتى ولو لم يكتب ذلك إلا بناء على معلومات استقاها. ثم انها لا تقع على طريق القوافل الكبيرة في الجنوب. وأخيرا فإن هذا التفصيل عن الجدول ذي الماء الحار لا ينطبق على ما تتصف به نفطة ، وتتصف به مجموعة ينابيعها. وهذه الجداول الحارة انما توجد على طريق الجنوب فيما وراء بسكرة. وربما يقصد المؤلف او ماشي ، الواقعة على مسافة ٢٠ كم جنوب بسكره.

(٩٨) لا تبعد تولغة اكثر من كيلومترين شرق البرج ، في نفس واحة النخيل. ولا يمكن تفسير سبب تحديد المؤلف لموقع مدينة نفطة بين البرج وتولغة.

(٩٩) وهي بلدة صغيرة على مسافة ٢٥ كم جنوب شرق البرج.

(١٠٠) تحوي هذه البلدة آثارا رومانية ، وقد أمكن التعرف على اهميتها منذ عهد قريب بفضل الصور الجوية.


بلاد الجريد

تمتد هذه الولاية من تخوم بسكرة حتى جزيرة جربة. وفيها قسم يبتعد كثيرا عن البحر المتوسط ، كحالة بلاد قفصة التي تكون على مسافة ثلاثمائة ميل في داخل الأراضي (١٠١). وهذه البلاد شديدة الحر وكثيرة الجفاف ، ولا تتبت فيها الحبوب ، ولكن تنتج كمية كبيرة من تمور ممتازة ، غاية في الجودة ، وتنقل الى الساحل التونسي (١٠٢). وتضم الولاية بضع مدن ، كما سنسرد ذلك.

توزر

توزر (١٠٣) مدنية قديمة بناها الرومان في صحراء نوميديا على مجرى ماء صغير يأتي من بعض الجبال من جهة الجنوب (١٠٤). وكانت جدارن أسوارها سميكة وصلبة تحيط برقعة كبيرة من الارض ، ولكن هدمها المسلمون عند الفتح في نفس الوقت مع قصور لم تعد الآن سوى انقاض. والسكان أغنياء ، سواء فيما يتعلق بالعقار أو فيما يتعلق بالنقد ، لأنهم يقيمون في مدينتهم بضعة أسواق يقصدها اناس من مختلف القبايل النوميدية والبربرية. وهم يتوزعون بين منطقتين تنفصل كلتاهما عن الأخرى بنهر صغير. ويطلق على إحدى هاتين المنطقتين اسم فنطاسة (١٠٥) وإليها ينتسب كل ما هو حسن المنبت وشريف في المدينة. ويطلق على الأخرى إسم مرداس ، وتتألف من عرب مكثوا في المدينة منذ أن سقطت بأيدي المسلمين (١٠٦). وهاتان المجموعتان

__________________

(١٠١) أي ٤٨٠ كم. ولكن قفصة لا تبعد سوى ٢١٧ كم عن ميناء محرس ، وتوزر ٢١١ كم عن قابس.

(١٠٢) «لا تزال بلاد الجريد محافظة على سمعة طيبة جدا في تمورها من نوع دقلة النور التي تصدّر الى أوروبا» (المترجم).

(١٠٣) وهي توزوروس عند الرومان.

(١٠٤) يدل هذا الخطأ الجسيم على أن المؤلف لم ير توزر ، وكتب ما كتب استنادا الى معلومات غير صحيحة استقاها من احد الناس : فتوزر واقعة على حافة شط الجريد الى الشمال منه ، وهي سبخة تكمارت القديمة. كما ان اصل المجرى المائي ، وهو رأس العيون ، يكون متميزا هنا.

(١٠٥) تقع البلدة المسماة فنطاسة على الجانب الآخر من شط الجريد ، على ضفته الجنوبية ، في منطقة نفزاوة ، وعندما نذهب من توزر ونجتاز الشط ، فإننا نصل مباشرة الى فنطاسة.

(١٠٦) لقد ذكر المؤلف سابقا ، في القسم الخامس ، وجود فخذ من مرداس في ضواحي عنابة ، ومرداسيو توزرهم من فخذ آخر من هذه القبيلة ، فرع من عوف ، وهي قبيلة سليمانية لحقت بالقبائل الهلالية عند انطلاق الزحف غربا وحينما هاجروا الى المغرب في اواسط القرن الحادي عشر ، وليس عند الفتح الاسلامي.


متعاديتان ، الواحدة ضد الأخرى ، ومن النادر ان يدينوا بالطاعة لملك تونس الذي يعاملهم بقسوة عندما يأتي شخصيا الى توزر ، ولا سيما الملك الحالي.

مدينة قفصة

قفصة (١٠٧) مدينة قديمة ، بناها الرومان ، وظلت بأيدي أمرائهم إلى أن قدم عقبة ، قائد جيش عثمان ، لمحاصرتها (١٠٨). وعندئذ سقطت بأيدي المسلمين ، الذين هدموا جدار سورها. ولكنهم عجزوا عن هدم القلعة ، التي تعد حقيقة من الخوارق ، لان لها جدرانا ترتفع الى خمسة وعشرين ذراعا (١٠٩) وسمكها ثلاثة أذرع (١١٠) مبنية بحجارة ضخمة منحوتة ، مثل كوليزة روما. وقد أعيد بناء الاسوار بعد مضي بعض الوقت وأخذت المدينة تسترد طابعها كمدينة آمنة حتى قدوم المنصور ، ملك مراكش وخليفتها. ولكنه قام بتقويض جدار السور من جديد مع شقة حائط من القلعة. وإليكم السبب : لقد ظل في هذه المنطقة أمير من أسرة ملك لمتونة ، الذي كان يسيطر على البلاد ويوقع الكثير من الأذى بالساحل التونسي ، بالاستعانة بالعرب (١١١) ، ولما جاء المنصور لأول مرة الى هذه البلاد مع جيوشه ، سرعان ما غادر الامير المذكور المنطقة وذهب الى الصحراء مع بعض العرب. وقبل المنصور خضوع المنطقة وعاد الى مراكش ، وما أن وصلها ، حتى عاد الامير من الصحراء وطرد الحاكم المعينّ من قبل المنصور. وهكذا عاد المنصور بعد عدة أعوام مع جيش كبير متجها الى

__________________

(١٠٧) قفصة او كابسة عند الرومان.

(١٠٨) ارسل عقبة بن نافع الى افريقيا حوالي سنة ٦٧٠ من قبل معاوية (الخليفة الاموي الأول). فاحتل قفصة عند التجاقه بالجيش العربي بقيادة معاوية بن حديج ، الذي عزله عن قيادته ، ثم اسس القيروان.

(١٠٩) ٧٥ ، ١٦ م.

(١١٠) ٣٥ ، ٣ م.

(١١١) بتاريخ يوم الجمعة ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٨٤ م نزل سلطان ماجورقة المرابطي ، على بن اسحق المايورقي ، واسمه ابن غانية ، لأنه كان ينحدر من يوسف بن تاشفين ، من طرف جده غانية ، نزل في بجاية على أمل إحياء الأسرة المرابطية في بلاد البربر ، وافلح في تحقيق عدد من الانتصارات في الشمال. وقد استرد الموحدون أنفاسهم وتم طرد علي ومرابطيه الى الجنوب التونسي حيث وجدوا عونا من العرب وحيث حققوا اتصالهم مع القوات التركية ، او الغز ، الذين كانوا بقيادة المدعو قراقوش الناصري ، وهو مملوك لملك مصر صلاح الدين الايوبي ، وكان قد جاء لمحاولة فتح بلاد طرابلس باسم مليكه. وقد استطاع المرابطون والاتراك مع دعم من العرب ان يحتلوا مدن الجريد من قابس الى قفصة.


قفصة (١١٢) ، حتى وصل اليها. وقد فوجىء الأمير الذي كان في القلعة بذلك فهاجمه المنصور دون توان. وكان الدفاع سهلا لأن اسوار المدينة كانت تكفي لصد هجوم افريقيا برمتها. ولكن الامير البائس لم يكن لديه ما يكفي من أقوات في القلعة. فحاول في أحد الأيام القيام بخروج مسلّح مع أولاده وأهله وحاربوا جميعا إلى ان تقطعت أجسادهم. وحينئذ قام المنصور بهدم واجهة القلعة (١١٣) ، وعينّ المنصور حكاما وموظفين في الاقليم وقفل عائدا الى الغرب ، واقتاد معه زعماء العرب الذين كانوا سبب تمرد البلاد (١١٤).

واليوم عادت قفصة فأمتلأت بالسكان ، ولكن مساكنها متواضعة ، باستثناء بعض المساجد. وشوارعها عريضة جدا ، وكلها مبلطة بالحجارة السوداء كشوارع نابولي وفلورنسة. والسكان مهذبون ولكنهم فقراء لأنهم ينوءون تحت وطأة ضرائب ملك تونس. ويوجد في قلب المدينة ينابيع منظمة مع أحواض مستطيلة عميقة وعريضة. وتحاط هذه العيون بالجدر ، وتوجد بين الجدران والأحواض فرجة يستطيع

__________________

(١١٢) لقد وقع المؤلف هنا في التباس. فقد شنت أول حملة على قفصة في عام ١١٨٠ م ، إذ ذهب اليها ابن يعقوب يوسف لأنتزاع المدينة من الأمير الصنهاجي الذي اصبح سيدا عليها. وكان ابن هذا الخليفة وخلفه ، ابو يوسف يعقوب المنصور ، الذي نودي به في ٣٠ تموز (يولية) ١١٨٤ هو الذي تأثر من الاضطرابات التي أثارها ابن غانية في هذا الجزء من امبراطوريته ، وكان هو الذي انطلق من مراكش مع قواته في ١٧ كانون الاول (ديسمبر) ١١٨٦ ، وذهب على مهل حتى إنه لم يدرك على بن غاينة وقرقوش الا في تشرين الاول (اكتوبر) ١١٨٧ م في منطقة قابس. وفي ١٤ تشرين الأول (اكتوبر) ١١٨٧ م قرب الحامة هزمهم هزيمة منكرة اضطروا على اثرها ان يهربوا الى الصحراء وتبعثرت عصاباتهم من العرب ومن الغز.

(١١٣) بعد هرب علي بن غانية وقرقوش الى الصحراء وتشتت قواتهما ، احتل يعقوب المنصور فورا قابس ومدن الجريد. ولكن قفصة التي ثبتت بعزم بقيادة القائد الأعلى لقراقوش ، وهو الملوك ابراهيم بن قرة تيكين مع جنوده الاتراك ، تعرضت للحصار ودافعت بعض الوقت. ولكنها سقطت في شهر كانون الثاني (يناير) ، فقتل ابراهيم وذبح حلفاؤه العرب ، ولكن عفى عن الغز وكذلك عن سكان قفصة ، الذين استسلموا ، وبعد ذلك فرض الخليفة على عرب البلاد عقابا قاسيا.

(١١٤) في شهر ايار (مايو) ١١٨٨ م استأنف الخليفة يعقوب المنصور الطريق المباشر من المهدية الى تلمسان مرورا بالهضاب العليا وعاد الى مراكش في ايلول (سبتمبر) ، وأجلى معه بعض قبائل من جشم ورياح وعاصم الذين كان لهم اكبر نصيب في التمرد. ومما لا ريب فيه أنه اراد ان يكونوا تحت يده كي يضبطهم بصورة افضل وكي يجد فيهم بعض حاجته من القوات في حروب اسبانيا. وقبيل وفاته في كانون الثاني (يناير) ١١٩٩ م اعترف بأنه ارتكب بذلك غلطة خطيرة ، مع انه من الممكن حينئذ توقع النتائج الطويلة لعمله هذا.


الناس أن يمروا خلالها كي يغتسلوا ، لأن الماء ساخن ، ويشرب هذا الماء بعد تركه ليتبرد مدة ساعة او ساعتين (١١٥).

وهواء قفصة وخيم للغاية. ولهذا السبب فإن نصف السكان مصاب دائما بالحمىّ. وهؤلاء الناس فقراء وأشرار على الخصوص. ولا يودون عقد صداقة مع الأغراب ، ولذلك فهم مذمومون في كل افريقيا (١١٦). ويوجد في خارج المدينة عدد لا يحصى من أشجار النخيل والزيتون والبرتقال. والتمور هي أجمل وأفضل وأكبر حجما من جميع نظائرها في سائر الاقاليم. وكذلك الحال بالنسبة للزيتون الذي يصنع منه زيت جيد في مذاقه وجميل في لونه. وهناك أربعة أشياء من الطراز الأول في قفصة : التمور والزيتون والاقمشة الكتانية والخزف. ويرتدي اهلها لباسا لائقا ، ولكن فيما يتعلق بالنعال فإن معظم اهلها يستعملون نعالا من جلد الوعل وهي عريضة جدا ، كي يمكن تجديد النعل عدة مرات.

وقد سبق لنا الكلام عن مدينة الحامة ، وقابس وجربة في معرض كلامنا عن مملكة تونس.

نفزاوة

تتشكل نفزاوة من ثلاثة قصور متقاربة. ولها سكان عديدون ، ولكنهم محاطون بأسوار حقيرة تضم بيوتا أكثر كآبة. والأراضي تجود فيها التمور ، ولا ينبت فيها اي نوع من الحبوب. والسكان فقراء لانهم مثقلون بضرائب ملك تونس ، ويبعدون مسافة تقارب مائة ميل عن البحر المتوسط (١١٧).

__________________

(١١٥) لا تزال هذه المسابح العامة باقية حتى اليوم وتحمل الاسم اللاتيني «ترميد» وهو اسم ورثته عن الماضي القديم.

(١١٦) يظهر ان السبب في هذا الزعم يرجع الى ان المؤلف قد ذهب الى قفصة ، ولقي هناك استقبالا سيئا ، ومن هذا جاءت ملاحظته ، وهو اتجاه انتقامي صغير مألوف عند الكتاب العرب.

(١١٧) حوالي ١٦٠ كم (١٠٠ ميل) ، وربما كانت قصور نفزاوة الثلاثة هي توّره وتلمين ، اي النقطة العسكرية الرومانية توريس تاميللين ، بشريع ، وليكامس وهي ليماغس.


تاورغه

تاورغه (١١٨) هي مكان مسكون على تخوم دولة طرابلس ، وعلى تخوم صحراء برقة. وتظهر فيها ثلاثة قصور وبعض القرى مع الكثير من النخيل. ولا تنبت فيها حبوب. وحرمان السكان من المال لا يقل في شدته عن حرمانهم من سائر ضروريات الحياة. وذلك لأنهم محصورون في الصحراء بعيدا عن كل مركز متحضر.

زليطن

زليطن (١١٩) منطقة مأهولة على ساحل البحر المتوسط حيث تقوم بضعة قصور مع حدائق نخيل. وينعم السكان فيها برخاء نسبي ، ذلك أن موقعهم على ساحل البحر سمح لهم بمقايضة سلعهم مع المصريين ومع الصقليين.

غدامس : منطقة مسكونة

غدامس منطقة كبيرة مسكونة حيث توجد بضعة قصور وقرى مأهولة ، على مسافة ثلاثمائة ميل عن البحر المتوسط (١٢٠) وسكانها أغنياء يملكون أموالا وبساتين من نخيل ، ذلك لأنهم يتجرون مع بلاد السودان. ويحكمون أنفسهم بأنفسهم ويدفعون إتاوة للعرب. وكانوا في الماضي تحت سلطة ملك تونس ، أي تحت سلطة نائية عن طرابلس. وفي هذه المنطقة يرتفع سعر القمح واللحم إرتفاعا كبيرا.

فزان

فزان ، هي أيضا منطقة كبيرة تقوم فيها قصور ضخمة وقرى كبيرة ، وكلها مأهولة بأناس أغنياء ، بالمال وبحدائق النخيل. وهم واقعون فعلا على تخوم آغادس

__________________

(١١٨) تقع تاورغة على مسافة ٢٦٠ كم شرقي طرابلس ، وعلى مسافة اربعين كيلومترا حنوب ميناء مصراته التي اشار اليها المؤلف عند ما وصف منطقة طرابلس في القسم الخامس.

(١١٩) نقع واحة زليطن الهامة على مسافة ١٦٠ كم شرق طرابلس وعلى مسافة ٦٠ كم غرب ميناء مصراته ، بين ولايتي مسلّاته ومصراته ، اللتين تكلم عنهما المؤلف في وصف الاقليم الطرابلسي.

(١٢٠) المسافة هي ٥٣٧ كم اي ٣٣٥ ميل بين زوارة وغدامس.


وصحراء ليبيا التي تتاخم مصر ، على مسافة ستين يوما على طريق القاهرة. ولا يوجد بين فزان ومصر مناطق مسكونة سوى أوجلة الواقعة في صحراء ليبيا. ويحكم فزان أمير هو نوع من قاض أول للشعب ، وتحت تصرفه كل عوائد البلاد لفائدة الأهالي او لبعض الإتاوات التي يدفعها لجيرانه العرب. ويندر هنا القمح واللحم بدرجة كبيرة. ويأكل الناس لحم الجمل وهو مع ذلك غال جدا.

* * *

صحاري ليبيا

صحراء زناقة

والآن بعد أن تكلمنا عن نوميديا ، وهي الجزء الثاني من افريقيا ، سنتحدث لكم الآن عن صحاري ليبيا ، التي تنقسم خمسة اقسام ، كما سبق ان قلنا في مطلع هذا القسم.

وسنبدأ بصحراء زناقة : هي صحراء جافة جدا وقاحلة ، تبدأ من المحيط غربا وتمتد نحو الشرق حتى ملاحات تغازة. وتنتهي شمالا على تخوم نوميديا ، أي عند تخوم السوس ، عند عكا والدرعه ، وتمتد جنوبا حتى بلاد السودان ، حتى مملكتي ولّاته وتومبوكتو. ولا يعثر فيها على ماء الّا كل مائة او مائتي ميل. وفضلا عن ذلك فمياهها مالحة ومرة وفي آبار غاية في العمق ، ولا سيما على الطريق الذاهب من سجلماسة الى تومبوكتو. ويوجد في هذه الصحراء الكثير من الحيوانات المتوحشة ومن الأفاعي ، كما سنذكر ذلك في موضعه. ويوجد في هذه المنطقة صحراء فريدة ، كالحة جدا ، وعسيرة الاجتياز للغاية ، تدعى ازواد ، حيث لا يصادف على مسافة مائتي ميل (١٢١) لا ماء ولا مسكن ، وتمتد بين آبار ازواد وآبار اروان التي تبعد مسافة مائة وخمسين ميلا من تومبوكتو (١٢٢).

__________________

(١٢١) ٣٢٠ كم. والواقع توجد مسافة ٢٦٠ كم على خط مستقيم بين اروان وبيرأونان ، و ٣٠٠ كم حتى جرف خناشيش.

(١٢٢) ٢٣٠ كم. والحقيقة اكثر من ذلك بقليل. ويطلق اليوم اسم ازواد عموما على منطقة الكثبان الميتة الواقعة في شمال وشمال شرق تومبوكتو. ويبدو حقا ان كلمة ازواد يجب ان تنطبق على السهل المتموج الرملي العاري والصلب الذي يفصل الكتبان الميتة في الجنوب (ذات ممرات بين الاقواز ، وفيها شجر) عن المنطقة التي يظهر فيها الصخر الرملي في خناشيس ، إذن إجمالا ، كما يقول الحسن الوزان ، بين اروان وبيراونان ـ ت. م. (Th.Monod)


ويموت فيها الكثير من الناس من الحر والعطش ، وأذكر أنني قلت ذلك (١٢٣)

__________________

(١٢٣) لقد استوحى هذا التعميم من ابن خلدون (نهاية القرن الرابع عشر ميلادي) الذي قال عنهم ما يلي في اثناء كلامه عن وضع البربر في الصحراء الكبرى : «يؤلفون نوعا من حزام على حدود بلاد السودان ، حزام يمتد غربا بشكل متواز مع الحزام الذي يشكله العرب على تخوم المغربين وافريقية ، فجدالة وهي احدى قبائلهم ، تقع في مواجهة «دوي حسن» ، فرع من قبيلة عربية من معقل التي تسكن السوس الاقصى ، أما لمتونة وأونزيقة (أو اوزيجا) فيسكنون في مواجهة «دوي منصور و «دوي عبيد الله» وهم من معاقيل المغرب الأوسط ، وتسكن لمتة في مواجهة رياح ، وهي قبيلة عربية تقطن الزاب وبراري بجاية وقسنطينة ، وأما تارغة التي تقع في مقابل سليم ، فهي قبيلة عربية في افريقية» (تاريخ البربر ج ٥ ، ص ١٠٤). ومهما كانت قلة دقة الاشارات فهي تعطي تقريبا وضع قبائل الملثمين بالنسبة للمواضع التي كانت تشغلها القبائل العربية الضاربة في الشمال ، ومن الغرب الى الشرق ، وتشمل قبائل جدالة ، لمتونة ، او نزيقة ، لمتة والتارغة. وقد استوحى الحسن الوزان نفس التصنيف ، ضامّا على كل حال حدالة ولمتونة تحت اسم زناقة ، وحرّف اسم او نزيقة الى قنزيفة ، وقلب وضع لمتة والتارغة ، واضعا في ترتيبه من الغرب الى الشرق الأخيرة قبل سابقتها ، اي تارغة قبل لمتة. وجميع رسامي الخرائط ، الذين استوحوا رسومهم من الحسن الوزان ومن شارحيه ، قبلوا هذه التقسيمات ، ناسبين ان لكل قبيلة نطاقا شماليا جنوبيا يتواصل بشكل متواز ويمتد من المغرب حتى النطاق السوداني ، مع بعض التفاصيل الجزئية. وينجم عن هذه النظرة وضع سكاني يختلف عن الوضع السكاني للقبائل البربرية الحالية في الصحراء الكبرى ، وهذا يدل على أنه قد حدثت تغيرات سكانية كبرى ، نتجت عنها مختلف المجموعات المغربية ، من عرب وبربر وطوارق ، التي تحتل القسم الغربي من الصحراء الكبرى والصحراء الوسطى والسودان. وقد قدّمت عدة فرضيات في هذا الموضوع ، ويمكن القول أن أية واحدة منها لم تأخذ بعين الاعتبار النصوص التي سبقت الحسن الوزان ولا سيما كتابات ابن حوقل ، والبكري ، والادريسي ، وابن بطوطة وابي الفدا ، الذين عرّفونا على مواضع مختلف المجموعات العربية والبربرية والطوارق. وفيما عدا تبدل مواقع بعض القبائل الذي حدث فيما بعد ، فإن هذه المجموعات لا تزال ، مع اختلافات طفيفة ، في نفس النطاقات التي نجدها اليوم فيها. ولا يجوز ان يغرب عن نظرنا ، انه كان للتضاريس في كل زمن ، في الصحراء الكبرى ، ولا سيما في المنطقة التي تشغلها قبائل الطوارق ، دور عظيم في اختيار نطاقات الوزان ، ومن قبله ، ابن خلدون ، ضمن المجموعات الحالية بحيث يمكن العثور عليها. وسنرى فيما بعد أن هذا لم يصادف صعوبة ، إذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار واقعا هو انه لم يكن لدى ابن خلدون والحسن الوزان اكثر من معلومات سطحية عن النطاق الجنوبي للصحراء الكبرى. ومن هذا الواقع نرى ان ابن خلدون قد حدّد امكنة قبائل المغرب العربية ، أي بالنسبة للشمال ، في حين لا يتكلم الثاني عن قبائل الطوارق الرحالة بين تومبوكتو وغوبر وآيير والتي كان لا بد ان يمرّ بها إذا كان قد أنجز فعلا الرحلة بين تومبوكتو والقاهرة عن طريق السودان الغربي ، كما أكّد ذلك. ولندرك أيضا أنه إذا كان الحسن الوزان قد أوجد بلبلة نوعا ما على الخرائط المرسومة بناء على اقوال ابن خلدون ، فهو في مقابل ذلك قد قدّم بعض التفاصيل عن حدود مختلف هذه «الصحارى». وهذه التفاصيل ، رغم عدم دقة وضوحها ، تساعد على العثور على الشبكة الشطرنجية التي تعيش ضمنها القبائل في الصحراء الكبرى. ولنتذكر في اثناء ذلك أن عبارة «صحراء» المستعملة عند الحسن الوزان ليست لها المعنى الثابت لرقعة صحراوية ، اي دون ماء ونبات. بل اراض غير مسكونة ، غامرة ، او بلاد الخلاء عند العرب ، لاسباب قد تكون متباينة ، سواء لحالتها الصحراوية. أو بسبب انعدام الأمن. اما في ما يتعلق بصحراء زناقة ، فقد كانت حسب اقوال الوزان ، مؤلفة من مثلث يمس رأسه السوس. بينما كانت قاعدته محددة بخط تومبوكتو ـ ولاته ـ المحيط ، ويمر الضلع الغربي من المحيط ، والضلع الشرقي من خط سوس ـ تغازه ـ تومبوكتو. وكانت المنطقة المحصورة ببين تغازه والساورة. والتي يدمجها ضمن صحراء ونزيقة ، كانت مغمورة ، او تكاد ، تقع ، كما سنرى ذلك فيما بعد. واستنادا الى نص ابن خلدون ، حوالي مركز الرقّان. في الصحراء الجزائر ـ


الصحراء التي يسكنها قوم قنزيغه

تبدأ الصحراء الثانية في الغرب من تخوم تغازة وتمتد شرقا حتى تخوم آيير وهي صحراء يسكنها الطوارقة ، وتتاخم من الشمال صحراء سجلماسة ، وصحراء تبلبالة وبني قومي ، ومن الجنوب صحراء غير ، التي تقابل مملكة غوبر. وهذه الصحراء اكثر وحشة وقحلا من الصحراء السابقة. ومن هنا يمر التجار الذين يذهبون من تلمسان الى تومبوكتو وهم يقطعونها في اكبر قطر لها ، فتؤدي صعوبة الاجتياز الى هلاك كثير من الناس والحيوانات لفقدان الماء. ويوجد في هذا القفر صحراء فريدة ، تدعى جيوغدم ، حيث لا يعثر على ماء لمدة تسعة أيام ، ويجب الاكتفاء بالماء الذي حمل على ظهر الجمل ، باستثناء ماء بعض البرك التي قد تتكون أحيانا من ماء المطر ، ولكن هذا يحدث فجأة ومن قبيل الصدف (١٢٤).

__________________

ـ الحالية. وفي الواقع كان مجال زناقة يمتد سياسيا حتى أوائل واحات توات. وينطبق على الصحراء الكبرى الغربية ، وعلى المجالات الحالية لقبائل الرقيبات والبرابيش ومختلف القبائل العربية ـ الاسبانية للتاغنت وللأدرار الموريتانية.

) H. Lhote («ويقصد بالاسبانية سكان الصحراء الاسبانية سابقا» (المترجم).

(١٢٤) يضم هذا التحديد إذن رقعة واسعة جدا لأنها ، نظريا ، كانت تمتد بصورة عرضية من الشمال الشرقي في الصحراء الكبرى نحو جنوبها الشرقي. وعلى كل حال عند ما يقول الحسن الوزان انها تتاخم صحراء سجلماسة او حتى تخوم تغازه فمعنى ذلك ان هناك غموضا قد يكون منشؤه صعوبة في شحر النص ، إذ لا نرى اي منطقة يتوافر فيها الوصف الذي ذكره. أين كانت تنتهي صحراء سجلماسة ، وأين تبدأ صحراء تابلبالة.؟ لا نعرف شيئا عن ذلك. لأن هذه الأسماء لا تعني اليوم سوى بلدانا لا مناطق صحراوية. ويشتمل النص على مظاهر كثيرة من هذا الأضطراب حتى ليتراءى بجلاء ان الحسن الوزان لم يستطع ان يقيم تحديده الا بناء على معلومات استقاها من بعض الأفراد ، وأنه ليس لديه سوى مفاهيم غامضة عن داخل الصحراء الكبرى. ومن جهة أخرى إذا انتبهنا إليه ، نجده يقول أن آيير كانت مأهولة بالطوارق ، ولكن عند ما يتكلم عن مملكة آغادس ، لا يذكر إسم آيير ولا مرة واحدة ، ويبدو انه يجهل العلاقات السلالية التي كانت قائمة بين بدو هذه الكتلة الجبلية وبين إخوانهم قنزيغة ، والطوارق ولمتة. وربما كانت هذه العلاقة بين الطوارق وآيير ناتجة عن أن الحسن الوزان استقى معلومات مفادها ان قبائل «كل آيير» كانت من نفس عائلة الطوارق ، غير انه ، في الحقيقة ، هناك عدد من قبائل هي من أصل طارقي وقدمت من خزان في وقت متأخر عن الفتح العربي. وفي هذا لفتة نظر بسيطة بضم «كل آيير» من الطوارق الذين يتكلم عنهم الوزان ، ولكنها تستطيع تبرير بلبلته. أما فيما يتعلق «بصحراء غير التي تقابل مملكة غوبر» فلا نعرف على أي شيء تنطبق ، لأن اسم «غير» غير موجود ظاهريا في المنطقة ، كما أن غوبر لم تكن أبدا صحراء. وهذا الخلط في هذه النقطة الأخرى مستحيل التفسير ما دام الوزان يقول أنه كان في غوبر ، وأنه من غير المفهوم أن يعد المنطقة صحراء. ويجب أن نستخلص من ذلك أن الوزان إذا كان قد زار آيير وغوبر ، فهو لم يعرف أن يحكم الاتصال في مخططه او لأنه ، من الاحتمال الآخر ، قد اجترح خطأ مؤسفا. والواقع يتحدد النطاق الصحراوي بتخوم الآيير وبالمنطقة الواقعة بعيدا إلى شمال غوبر حسب خط يربط تقريبا بين آبار تاماية ـ


ـ ونبغيدا تيسمت وتاكنتكوتات ، وهنا يجب ان تتوقف مناطق القنزيغة. وهذه الاشارة التي اعطيت ، فعلا عن دس ايفوراس ، والتي تحوى ، بلا خلاف ، على اخطار كبيرة ، هذه الاشارة تضعنا في بيئة اكثر وضوحا ، لأن النطاق المعبور تابع لطوارق تايتوك ، إذ لا يوجد قوم يدعون قنزيغة بالمعنى الدقيق ، قد ذكر ابن خلدون (ج ٢ ، ص ١٠٤) ونزيقة ، من جنوب المغرب الاقصى ، ولكن هذا الاسم غير مؤكد ، ويمكن قراءته ، استنادا الى ترجمة دوسلان ، أو ترغاس. ولربما كان هذا ، على ما يبدو ، نوعا من تحريف لكلمة انزيزة أو ونزيزة الذي كان له حينئذ معنى «اهل انزيزة» والذي ربما كان كنية. وقد تلقى الحسن الوزان هذا الاسم من ابن خلدون وجعله قنزيغه ومن جهة اخرى فإن انزيزه ليس اكثر من تحريف عربي لكلمة اينهيها حسب لفظ جماعة «كل آهكار» ، واينشيشاو ، حسب لفظ قبيلة «كل ادرار» ، وكلمة اينزيزا وحسب لهجة قبيلة كل آيير ، وهو بئر يقع في جبل صغير له نفس الأسم ، بين ادرار آهنت وادرار دس ايفوراس ، وورد بلفظ انيزيز فوق الخرائط الفرنسية الحديثة. ولهذا المورد المائي ، ذي الاهمية الفريدة في اتصالات القوافل بين توات والسودان ، شهرة سابقة في كل خرائط العصر الوسيط ، حيث ورد تحت اسم آنيا (الخربطة القطالونية في القرن الخامس عشر) وآنزيكا (خريطة ميسيا دوميلادستس ، ١٤١٣ م) وأنسيشا (خارطة فالسيشا ١٤٣٩ م) وآنزيش (لوحة فللتري ١٤٣٥ م) وخرائط قطالونية اخرى في القرن الخامس عشر).

وكان كل ارباب القوافل يقصدون انزيزة كثيرا ، ولا تزال ، والذين كانوا يأتون من عين صالح ، ومن أبعد منها شمالا ، قاصدين تادميكا ، تومبوكتو او غاءو. ويقع هذا البئر في اراضي تجوال طوارق تيتوك وكل آهنت الذين كانوا يذهبون حتى رقّان وآلّن اذا كان المرعى يسمح بذلك. وكان الأمر على هذه الحالة في عصر ابن خلدون ، يقول عند كلامه عن والن (ج ٢ ، ص ٢٤١): «إن هذا «القصر» كان قصر قوم من متغارة ، وأنه لما كان هذا من أقرب الأمكنة للبلاد التي يقطنها اهل اللثام ، نرى فيه وصول عصائب من بدو في السنين التي تقسرهم شدة الحر على مغادرة صحرائهم». وتبدو الحدود التي ينسبها الحسن الوزان الصحراء قنزيقة ، لأول وهلة غير مطابقة لأي وحدة جغرافية. ولكن العلاقة بين والن وانزيز. وتيتوك تضعنا ، لحسن الحظ ، على الطريق. وتؤلف جماعة التايتوك واقرباؤهم كل آهنت ، مجموعة طوارقية معروفة أحيانا تحت اسم عرعر فن آهنت ، والتي تنسب عموما لجماعة كل آهقّار ، ولكن لم يكن لها في كل الأزمنة اكثر من علاقات متراخية معها ، وقد اعتبروا أنفسهم مستقلين على الدوام. وتمتد اراضي نجعاتهم غربا حتى توات. وكانت منطقة والّن ، كما سنرى ، تضم جبال أدرار آهنت ، التي تؤلف القسم الشرقي من كتلة جبل الهقّار ، أي كل المنطقة الصحراوية المحصورة بين الهقار من ناحية وادرار دس ايفوراس ، والزاوية الجنوبية من آيير ، من ناحية أخرى. وقد حدث أيضا في السنوات الأخيرة ان وصلت جماعة التايتوك وكل آهنت حتى انزيزة ، في ادرار ناهالت ، إلى تيم ميّساو ، عند ما تحيي الامطار مراعي هذه المنطقة حيث نجد الكثير من دمن مخيماتهم. ومنذ قرن واحد تقريبا فقط ، وعلى أثر نزاعات دموية مع قبيلة كلديلة ، وهي قبيلة طبل في الهقّار ، أخذت تجنح الى الجلاء من آهنت كي تستوطن بصورة دائمة التخوم الغربية لمرتفعات آيير حيث استقروا نهائيا منذ عام ١٩٤٥ م ، وهو تاريخ الحافهم إداريا بدائرة آغادس ، ومن جهة أخرى كانت منطقة تغازة مألوفة لديهم ، ومن المشهور انهم كانوا يمدّون نطاق غزواتهم حتى الدرعة. ويتجلّى من الآن ان أراضي نجعاتهم القديمة التي كانت تنطبق بالفعل على النطاق الذي يصفه الوزان ، على اعتباره المنطقة التي يسكنها قوم ونزيقة ، إذن ينطبق عليهم هذا الاسم. ولكن ماذا تمثل صحراء جوغدم؟ وسنجد هذا الاسم على شكل غوغادم (الادريسي) وكوكادام (ابو الفدا) وكاكدم (ابن خلدون) ، واستنادا الى الادريسي ترجمة (. دوزي وم. ج. دي خويه. ص ٦٩) فان اسم كوكادام هذا يعني «في لسان اهل غينيا» مدينة ازوغي البربرية. أما بالنسبة لأبي الفداء فهي مدينة اخرى واقعة على مسافة ثمانية ايام شمال غربي آزوغي ، وتعني ايضا جبلا له نفس الأسم. وأخيرا فإن ابن خلدون (ج ٢ ص ٦٥) يقصد بها صحراء تسكنها أفخاذ مختلفة من لمتونه. ولم يرد أي ذكر عن وجود مدينة بجوار آزوغي بإسم كوكادم ، باستثناء المدينة التي يذكرها ابو الفدا الذي لم يكن أكثر من جمّاعة ولم يكن التوفيق حليفه دائما. ويظهر أن رواية الأدريسي ، الذي يمدج هذه المدينة ـ


الصحراء التي يسكنها قوم الطارقة (١٢٥)

تبدأ الصحراء الثالثة من تخوم آيير شرقا وتمتد حتى صحراء ايغيدي غربا والى الشمال تتاخم صحراء توت وتيغورارين والمزاب ، وتتاخم من الجنوب الصحاري القريبة من مملكة آغادس. وليست صحراء الطارقة بمثل وحشة وخطورة الصحراوين السابقتين ، إذ يعثر فيها في كل يومين على ماء طيب في آبار عميقة جدا ، ولا سيما بجوار آيير ، التي هي صحراء معتدلة وذات هواء معتدل وحيث يتبت الكثير من الكلأ (١٢٦) ،

__________________

ـ بمدينة آزوغي هي الرواية الطيبة. ويتكلم ابن خلدون عن صحراء ، ولكن ربما كان الاسم الذي يقصده هو اسم لمدينة قريبة. اذن المقصود بذلك صحراء محلية واقعة جنوب شرق آزوغي او الى الشمال منها ، على الطريق الذاهبة من سجلماسة الى تومبوكتو. ولا يظن ان الحسن الوزان قد اجتازها بنفسه ، والذي ربما يبدو اكثر صحة انه تلقى معلومات عنها ، وإلا لكان حدد مكانها بصورة اكثر صحة. وكان عليه حقا ان يوردها في صحراء زناقة. ويضع دولافوس الفرنسي منطقة «كاوكادام او غوغادم» بين الادرار والدرعة ، ولكنه لا يقدم أسباب هذا الاختيار. ومن الممكن قبول روايته ، ولكن مع التحفظ ، بأنها كانت اكثر قربا الى الدرعة منها الى مرتفعات الادرار الموريتانية ، في جمهورية موريتانيا الاسلامية الحالية. وهناك ثلاثة عشر يوما من السير بين سجلماسة وآزوغي ، لهذا يكون من المحتمل ان هذه هي المنطقة الصحراوية التي نالت اسم غوغدم وليس ذلك سوى مجرد فرض لأن الوزان وصف هذه الصحراء على أنها اقسى الصحاري الموجودة في منطقة فنزيغة. ويظهر إذن من المنطقي تشخيصها بمنطقة تنزر وفت التي تربط حقا بين صحاري زناقة وصحاري فنزيغة وفي رأينا لا يوجد في ذلك انعدام توافق مع ما رأيناه ، آنفا ، لأنه استنادا إلى طريقة الوزان في تعريف بعض المناطق الصحراوية باسم اقرب بلدة لها ، فقد يكون اسم غوغدم قد اتخذ للكناية عن تنزروفت ، ذلك الاسم الذي لا يذكره.

وهو اسم طوارقي والذي شملنا به منطقة واسعة ، دون حدود دقيقة ، في حين ان السكان المحليين من عرب وبربر يحددون فيه عدة مناطق طبيعية تحت اسماء متميزة. وامام هذا الاشتباه فقد احجمت عن تثبيت مكان صحراء غوغدم على الخارطة ـ ه. ل.H.Lhote.

(١٢٥) ابتدأ ذكر الطارقة او الطوارق في النصوص العربية في القرن العاشر الميلادي. وطارقة اسم بربري يعني ساقية او قناة ، ويعني في لهجة تاماهاك ، وهم طوارق الشمال ساكن صحراء «فزان» (صحراء في غرب ليبيا) وقد طبق العرب هذا الاسم على قبائل الملثمين.

(١٢٦) مساحة هذه الصحراء عظيمة ، لانها تمتد بين الشمال والجنوب من مزاب حتى تخوم آيير ذاتها ، وتلامس ، من جهة اخرى ، كثبان ايغيدي ، وتوات وكثبان قورارة. ولا يمكن ان يكون المقصود بها سوى مجال نجعة طوارق الهقّار. ويبدو أن الحسن الوزان قد ارتكب هنا خطأ في وضع آيير في الغرب ، وايغيدي في الشرق ، ويجب قراءة العكس (وقد صححنا هذا في النص) «المترجم». وقد خطر ببالنا ان ايغيدي هي صحراء تينيرة ، ولكن كلمة ايغيدي لها مدلول عرق رملي ، مؤلف من كثبان عالية ولا يمكن تمثيله بتينيرة ، اذن لا يمكن ان يقع هنا خطأ محتمل. وهذه الصحراء تنطبق على صحراء لمتة عند ابن خلدون ، الذي يحدد مكان هذه القبيلة الى الجنوب من الزاب واقليم قسنطينة. ولكن الوزان ، وهذا حسب قوله ، قلب موضع القبيلتين ، ولم يحدث تبدل هام في موضع هاتين المجموعتين الكبيرتين من الطوارق ، لأن الادريسي (١١٥٤ م) أورد ذكر «الأزغار» في جبل طنطانو ، وهو مرتفعات تاسيلي اما ابن بطوطة (١٣٥٤ م) ، من جهته ، فقد اجتاز بنفسه بلاد «الهقّار» وبلاد «كاهر» التي يمكن ترجمتها بكل آيير. ويروى لنا ابن خلدون بأن هجرة ـ


والى أبعد من ذلك ، اي قرب آغادس (١٢٧). ويوجد هنا الكثير من المن. ويكون هنا شيئا عجيبا. ويذهب الناس لجمع هذا المن في الصباح الباكر ، ويملئون اواني من القرع ثم يبيعونه طازجا في شوارع آغادس. والجرة التي سعتها «بوكالة» (١٢٨) تساوي اثنين من «بيوكشي» (١٢٩) ، ويشرب هذا المن ممزوجا بالماء ، مما يعطي شرابا ممتازا ، ولهذا لا يمرض الناس في آغادس كما يحدث لهم في تومبوكتو ، ذات الهواء الوخيم (١٣٠). وتمتد هذه الصحراء من الشمال للجنوب على مسافة ثلاثمائة ميل (١٣١).

الصحراء التي يسكنها شعب لمته

تبدأ الصحراء الرابعة من ايغيدي التي تكلمنا عنها قبل قليل وتمتد حتى تخوم الصحراء التي يسكنها شعب بردواة. وتتاخم من الشمال صحاري طوقورت وورقلة

__________________

ـ قبيلة هوارة قد اعطت اسمها للهقار (أهقّار). ومن الصحيح ، من جهة أخرى ، ان قبيلة كل اهقار كانت تهيمن ، في الماضي ، على كل الأراضي الممتدة حتى ايغيدي ، وكذلك على كل هضبة تادماثيت. وانهم قسروا فيما بعد ، كل القبائل التابعة لهم ، ولا سيما قبيلة ايسكمارن ، على الانكفاء نحو كتلة جبل الهقار لدعم امن المنطقة. ونرى هنا ان الوزان لا يفصل هذه الصحراء عن مرتفعات آيير بشكل واضح ولا يضم آغادس في هذه الكتلة ، أي آيير. وهنا أيضا يتراءى جيدا أنه لم تك لديه اكثر من فكرة غامضة عن قلب الصحراء الكبرى وانه لم يعرف كيفية توضيح مخطط خارطته ـ ه. ل. H. Lhote.

(١٢٧) لقد كان الحسن الوزان اول من أورد ذكر مدينة آغادس. اما بالنسبة لتاريخ تأسيسها فلدينا نص مارمول الذي يذكر انها بنيت حوالي العام ١٤٣٠. وهناك تاريخ آخر يبدو انه يعكس الحقيقة بشكل أصدق ، فيقول بأن سلاطين آيير سكنوا ، وذلك قبل أن يستقروا في آغادس ، في تاديليزة ثم تينشامان. وفي حوالي العام ١٥٠٢ م أخذوا يقيمون في آغادس حيث اقيم قصر لهذه المناسبة. وفي الحقيقة لم يتم الانتقال اليها الا حوالي عام ١٥٠٤ ـ ١٥٠٥ م ، لان السلطان كان لا يزال في تاديليزة عندما زاره المغيلي عام ١٥٠٤ م ـ ه. ل.H.Lhote.

(١٢٨) سعة ٨٢٨ ، ١ ليتر.

(١٢٩) ١٥ سنت ذهب.

(١٣٠) على الرغم من الابحاث التي قمنا بها في مجال علم التغذية في آغادس ولدى طوارق آيير ، لم يكن من المستطاع التعرف على المن. ولا بجلب للأسواق حاليا ضمن أوعية او في جرار كي يستهلك ممزوجا بالماء او يمكن ان يضاف اليه الماء. ويجلب الى سوق آغادس العسل الذي يشرب ممزوجا بالماء ويضاف أحيانا الى الآريجيرة ، وهو دقيق الدخن الممزوج بالماء والذي تضاف اليه الشطّة واللبن الزبادي ، وربما كان الحسن الوزان يعتبر هذا مشروبا. والمن المعروف عادة هو صمغ نوع من السنط ، سواء بحالته الطبيعية ، أو ممزوجا بالماء. وفيما عدا ذلك لم اره يباع في سوق آغادس. وعلى كل حال فإن العسل الذي يباع في آغادس لا يأتي من مرتفعات آيير ، بل من بلاد الهوسا في الجنوب. ويرجع السبب في صفاء هواء آغادس الى عدم وجود البعوض ، باستثناء فترة قصيرة خلال فصل الإمطار ـ ه. ح H.Lhate.

(١٣١) او ٤٨٠ كم. وهي على مسافة ٣٦٠ كم من اينزاوة ، وهو بئر واقع في الجزء الأبعد نحو الشمال من مرتفعات آيير ، حتى آغادس ، والخطأ هنا محسوس نوعا ما.


وغدامس ، وجنوبا حتى الصحاري التي تمتد حتى كانو ، مملكة ارض الزنج. وهي يابسة وخطرة على التجار الذين يجتازونها ، كالصحاري التي تمتد من قسنطينة حتى هذه البلاد الزنجية (١٣٢).

ويدّعي سكان هذه الصحراء ان امارة ورقلة تعتدي على أراضيهم. ويعلنون عداءهم لأمير ورقلة ويسلبون كل التجار الذين يلاقونهم في الصحراء. ولكن أهل ورقلة يقتلونهم بدون رحمة ولا شفقة (١٣٣).

__________________

(١٣٢) بعد أن تحددت بلاد لمتة ، والحقيقة الطارقة ، نجدها تنطبق على المناطق التي تجوبها قبائل «كل آجر». مع التحفظ بأنها لا تمتد غربا حتى صحراء ايغيدي ، والتي ورد اسمها عرضيا هنا بسبب الالتباس الذي وقع فيه المؤلف مع الطوارق. وكانت قبائل لمته الحقيقة (كل آهقّار) تذهب حتى ايغيدي ، ولكن ليس الطوارقى. وفي حالات استثنائية كانت الآجرّ تصل حتى حافة تادمائيت ، ولكنها لم تتجاوز مطلقا خط طول اينغتاره ، وحتى هذا لم يكن مقبولا الا بالنسبة لبعض المخيمات من قبيلة ايفوراس في تيماسينين. اما بلاد برداوة فهي بلاد التبو : وهذا التخم الشرقي صحيح ، كالتخم الشمالي ، المحدد بصحراء ورقلة وغدامس. اما التخم الجنوبي فيفتقر الى الدقة ، ولكن عبارة «الصحاري التي تمتد حتى كانو» يمكن ان تنطبق على التينيره التي تفصل تاسيلي عن آيير والتي يجب اختراقها عمليا للذهاب الى كانو. ورغم بعض النقاط الغامضة الصغيرة فالمقصود بها قبيلة آجر ، بعد ان تمت التصحيحات بخصوص لمتة طارقة. فقد ورد ذكر لمته ، وبالبربرية ايلمتين ، في كتب المؤلفين العرب منذ القرن التاسع ميلادي ، كاليعقوبي الذي كتب عام ٨٨٩ م والذي حدد مكانهم حول زويلة فزان ، في اتجاه أوجلة واجدابية. وكانوا اول من هرب في وجه الزحف العربي. وجعلهم ابن خلدون اخوة صنهاجة ، والاوريبة ، والجزولة ، وازداجة ، وابناء عمومة هوارة من ناحية جدتهم المشتركة تيسكي العرجاء. ويقول لنا المؤلف ذاته ان قسما كان يسكن بجوار صنهاجة من حملة اللثام وقسم آخر في الصحاري الواقعة حنوب تلمسان وجنوب افريقية (ج ٢). ويظهر انهم اشتركوا في اول استيطان بجبال الهقّار قبل قدوم الهوارة. هذا ويحمل النبلاء العريقون لدى كل أهقار اسم لوميت ، الذي يبدو انه من نفس جذر ايلمتين (لام فميم فتاء) ، والذي يبدو وكأنه توكيد لوجود لمته منذ القديم في هذه المنطقة ، ومن الممكن ان عناصر من هذه القبيلة قد وصلت بعدئذ الى السودان حيث ان اسم لمته قد طبق عليهم.

كما ان مؤلف «تاريخ السودان» يقول انهم قدموا من المغرب في القرن الحادى عشر. ويعتقد ان منهم نشأت جماعة تاديمكّت وقبيلة لولّيميدّن. وعلى كل فإن الاسم الاخير لم يصدر عن لمته كما زعم دولافوس ، بل عن اوايلمد وهو الجد الذي منح اسمه للقبيلة. والى لمته ينسب عادة تاسيس امبراطورية سونغاي في السودان الغربي. اما بالنسبة الى لمته الغرب ، فقد سبق ان ذكرهم ابن حوقل في القرن العاشر الميلادي في منطقة وادنون ، على ساحل المغرب الاقصى وكانت عاصمتهم «نول لمتانه». «حيث توجد اليوم واحة نخيل أسرير ، قرب قوليمين جنوب السوس. وبعد ان جرفتهم الحركة المرابطية ، خلفوا ذكراهم في اسم كورة شمال فاس. اما الذين بقوا في هذه المنطقة فقد قتلوا او اندمجوا في عرب معقل وأصبح اسمهم تكنه بلادنون. وعن لمته صدر اسم لمت ، الذي يطلق على الصحراء القريبة على مها اوريكس ، والذي كانوا يستعملون جلده لصنع التروس. وعلى كل فهذا النسب ليس كاملا تماما من جهة اخرى ، ويمكن الرجوع في هذا الخصوص إلى ب. دو سينيفال وت. مونو : «وصف ساحل افريقيا من سبتة الى السنغال» تأليف فالنتيم فرناندس. مذكرة رقم ٩ ص ١٥٩ ـ ١٦١. وظلت ذكرى لمته في الصحراء الوسطى حيث يعرف سكان ـ


الصحراء التي يسكنها شعب برداوة

تبدأ الصحراء الخامسة من الغرب حيث تنتهي الصحراء السابقة وتمتد شرقا حتى صحراء اوجله. وتتاخم من الشمال صحراء فزان وصحراء برقة. أما من الجنوب فتتاخم صحراء بورنو. والأرض شديدة الجفاف في هذه المنطقة. ولا يمكن اجتياز هذه المنطقة بسلام. وأهل غدامس وحدهم هم الذين يستطيعون القيام بذلك ، لأنهم أصدقاء البرداوة. ويحملون من فزان الأقوات والأقمشة ... الخ التي هي ضرورية للرحلة (١٣٤).

__________________

ـ توات دوما جماعة «كل اهقّار» تحت اسم ايلمتين ، في حين ان هذا الاسم لم يعد معروفا اللهم الا بالنسبة لفخذ صغير من المستقرين في واحة البرقة ، قرب غات ـ ه. ل H.Lhote.

(١٣٣) ان هذه الفقرة التي يقصد بها قبيلة كل آجر يمكن ان تشمل أيضا كل آهقّار ، لان علاقات هؤلاء وأولئك مع الشعانبه في ورقلة كانت احيانا من أسوأ ما يكون ـ ه. ل.H.Lhote.

(١٣٤) يعني اسم برداوه سكان إقليم برداي في تيبستي في شمال جمهورية التشاد الحالية ، ثم أطلق على التدا ، وتتجاوز الحدود المذكورة هنا التيبستي كثيرا ، ولكن هذا الغموض هو أمر معروف لدى الحسن الوزان ، الذي يبدأ بدراسة صحراء حيث انتهى من أخرى ، دون أن تكون الحدود فيها محددة بشكل جبد ، وأحيانا تكون بينهما منطقة واسعة خالية. وعلى كل فان قوم برداوة ينطبق جيدا على التدا ؛ أو التبو ، وقد ورد هذا الإسم قبلا عند المقريزي ، الذي اعتبرهم بربر. وربما كان الحسن الوزان قد استمد هذا المفهوم منه ، لأن ابن خلدون لم يشر إليهم. هذا إن لم يكن قد انتشر في العالم العربي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، فهو لم يفترض مطلقا قرابتهم مع القوران ، الذي يتكلم عنهم في مكان آخر ، ولكنه يقول إنهم ينتسبون لعرق خاص ، مماثل لعرق «زنغاري». و «الزنغاري» هم في الحقيقة أقوام من أصل درافيدي في جنوبي الهند ، والذين يعرفون في أوروبا باسم تزيغان ، او رومانيون او بوهيميون. والأقوام الافريقية التي شبهت أحيانا بالتزيغان ، «الذين يدعون النور او القرباط في بلاد المشرق العربي» ، هم البهل ، ومن المحتمل أن الوزان كان يريد أن ينسب هؤلاء الى القوارن. وقد ادّت قضية أصل التدا لفرضيات عديدة التي يمكن الرجوع اليها مختصرة عند دللوني «بعثة في تيبستي ، المجلد الثاني ، جمعية علم الاجتماع ، ج ٢ ، ١٩٣٥. اثنولوجي ص ٤٠٥ وما بعدها».

والتدا ليسوا من البربر ، وأكثر الدراسات جدّة تقبل الفرضية المقدمة من قبل ناشتيفال ، وهو أول اوروبي زارهم بانهم سكان المغاور عند هيرودوت. وتنسب لغتهم الى لغة الكانوري وتتبع مجموعة اللغات الزنجية في التشاد. كما أن النموذج الفيزيولوجي ليس منسجما ، ويدل على تهجينات عديدة حيث يمكن ملاحظة تأثيرات زنجية وحبشية ومن البحر المتوسط في آن واحد. ويعملون اليوم رعاة الشاة والجمال ، كما أن اخلاقهم وأثاثهم يعكس مؤثرات تجعلهم من الناحية الثقافية ينتسبون الى حضارة الرعاة الحامية ، ولكنهم خضعوا فيما بعد لمؤثرات زنجية قدمت من التشاد.

وتؤكد قائمة الرسومات المحفورة والرسوم الصخرية في تيبستي قدوم موجة من رعاة الأبقار الى كتلة تبيستي ، وربما يعود أصلهم لمصر العليا ، والذين عرفوا أيضا مناطق أكثر بعدا للغرب مثل فزان وتسيلي وهقار وادرار ودس ايفوراس .. الخ ، ولكن عناصرهم بقيت في تيبستي لمدة متأخرة أكثر من المناطق الأخرى. أما الأقوام الخيالة الذين نفذوا الى الصحراء الكبرى الوسطى ، والذين شهدت عليهم الرسوم المحفورة ورسوم الخيول المركوبة وغير المركوبة ، والتي هي شواهد ـ


أما بقية صحارى ليبيا ، أي التي تمتد من أوجاه حتى النيل ، فهي مأهولة بالعرب وبقوم يدعون لواته ، وهم من أصل أفريقي كذلك (١٣٥).

وهنا ينتهي وصف صحارى ليبيا. وسيتبعه الوصف المتعلق بالأمكنة المسكونة في هذه الصحارى.

نون : منطقة مسكونة

نون منطقة مسكونة على حافة المحيط. وليس فيها سوى قرى مأهولة بفقراء الناس. وتقع بين نوميديا وليبيا ، ولكن القسم الأعظم منها ينتسب إلى ليبيا ، ولا يجود فيها سوى الشعير وكمية صغيرة من التمور ، ولكنها رديئة. ولسكان هذه المنطقة هندام سيء ، وهم فقراء لأن العرب يبتزونهم بكثرة. ويذهب بعضهم للمتاجرة في مملكة ولاته (١٣٦).

__________________

ـ على هجرات ليبية ، فلم تبلغ تيبستي ، حيث تكون الكتابات الليبية البربرية معدومة تماما ، وهذا ما يستبعد أية فكرة عن الأصل البربري للتدا.

وعلى خلاف ذلك ، تظهر على جروف تيبستي في نفس العصر تقريبا مؤثرات زنجية الأصل ، تتمثل ماديا أولا على شكل أناس مسلحين بالسكين المقذوفة ، ثم في وقت متأخر ، برسومات بشرية أخرى ، مسلحة برماح عريضة الشفرة ، من النموذج الوّدائي. إذن يكون من المحتمل قبول مجيء اقوام من رعاة تعود لأصل حامي ، جاءت فوق ارضية قديمة جدا من زنوج العصر الحجري الأعلى ، جاءت لتتمازج معها. ثم قدمت بعد ذلك عناصر تشادية. ومن المؤكد أيضا أن العناصر الفزانية والبربرية قدمت لتساهم أيضا في تكوين التدا ، ولكن بأعداد قليلة ، سواء عن طريق هجرة أفخاذ صغيرة منعزلة ، قبل مجيء العرب إلى فزان ، أو بعد فزان من قبل التدا ، والذي حدث في القرن الثاني عشر الميلادي. ـ ه. ل.H.Lhote.

(١٣٥) اللواتة هم اللوبيم في التوراة واللبو ولا باتاي عند الاغريق ، ولواته عند الرومان ، ولا فات عند كوريبوس. وقد لعبوا دورا هاما في تاريخ مصر ، اولا بمهاجمتها ، ثم في خدمتها ، فقدمت لها المرتزقة ، وذلك حتى قدوم العرب. ويعودون أصلا لأقوام البحر ، وهم الذين منحوا اسمهم الى ليبيا. ويعطيهم ابن خلدون جدّا اسمه لوابن زدجيك بن مدغيس ، وهؤلاء هم البربر البتر. وكانوا يسكنون ، في الوقت الذي وصل فيه العرب ، في منطقة المدن الخمس وفي بلاد برقة. وقد هاجرت بعض أفخاذلواته نحو الغرب ، حتى المحيط ، وربما في فترة سبقت الإسلام ، وهجرة أخرى في أعقاب الفتح العربي. وقد ساهمت بعض من قبائلهم ، ومنها سدراته ، في إعمار منطقة آيير بالسكان ، في الصحراء الكبري ـ ه. ل.H.Lhote

(١٣٦) اذا كان المؤلف قد ذهب الى تاغاوست ، كما ذكر في كتابه الثاني ، فيكون إذن قد ذهب الى مركز بلاد نون ، وكانت تسمى قديما نول ، اي الإبرة في اللغة البربرية القديمة. ولا يبدو أنه ارتاب في ذلك. ويضع هذه المنطقة الى الجنوب أكثر من الحقيقة وإلى الغرب أكثر من الواقع. وكانت عاصمة المنطقة في الماضي نول لاماتاته ، التي ربما حلت محلها محليا بلدة تاغاوست ، وتدعى اليوم قوليمين. وقد احتفظ السهل الذي تشرف عليه باسم واد نون. ووادي اسّاكه ـ


تغازة (١٣٧)

تغازة مكان مأهول حيث توجد مناجم الملح التي تشبه مقالع الرخام. ويؤخذ هذا الملح من حفر بنيت حولها أخصاص يسكنها أولئك الذين يمتهنون استخراج الملح ، والذين يمارسون هذه المهنة ليسوا من سكان هذه البقعة ، بل أناس من أصل غريب ، يأتون مع القوافل ويظلون يعملون عمال مناجم. وهم يستخرجون هذا الملح ويحتفظون به الى ان تأتي قافلة أخرى تشتريه منهم. ويحمل كل جمل أربعة ألواح من الملح. وليس لعمال مناجم تغازة من أقوات سوى التي تجلب لهم من تومبوكتو او من الدرعه ، الواقعتين كلتيهما على مسافة عشرين يوما من تغازة (١٣٨). وقد حدث أن وجد بعض هؤلاء العمال موتى من الجوع في أكواخهم ، لانعدام الأقوات التي افتقدوها بسبب عدم قدوم القافلة. وفضلا عن ذلك يهب في الصيف ريح السيروكو الذى يتلف عيونهم ويفقد عددا منهم بصره. وقد مكثت مرة مدة ثلاثة أيام في تغازة ، أى الوقت اللازم لتحميل الملح ، واضطررت طيلة هذا الوقت لشرب ماء مالح من بعض الآبار القريبة من المنجم (١٣٩).

أوجله (١٤٠)

أوجله هي منطقة مسكونة من صحراء ليبيا على مسافة أربعمائة وخمسين ميلا (١٤١) من النيل (١٤٢). وتظهر فيها ثلاثة قصور وبعض القرى الصغيرة المحاطة بحدائق

__________________

ـ هو الذى يصرّف مياه هذا الوادى ويجعلها تصب في المحيط. أما رأس واد نون الشهير عند الملاحين الاوروبيين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر فلم يعد يحمل هذا الاسم ، الذى كان دائما مجهولا لدى سكان المنطقة. ولكن على مسافة ١٥ كم الى الشمال من مصب واد أسّاكة يوجد فى ايفني رأس يوجد فوقه ، وبجوار ضريح سيدي ورزيك ، مكان يدعي سوق النصارى ، وبالبربرية تاغا ديرتن روميين ، أو مخزن الاوروبيين الصغير. وهذا يكفي لتشخيص رأس نون.

(١٣٧) أو تاغازّة بتشديد الزاى.

(١٣٨) أو حوالى الف كيلومتر ، بمعدل عشر ساعات من المشي يوميا ، وفي المتوسط ٥ كم في الساعة.

(١٣٩) لقد هجرت تغازة فى أواسط القرن السابع عشر ميلادي ، الى تاودني الواقعة اكثر منها الى الشرق. وقد زارها فى السنوات الاخيرة عدة رحالة.

(١٤٠) أوجلة وأوجيلة عند هيرودوت والرومان.

(١٤١) ٧٢٠ كم.

(١٤٢) تقع واحة اوجلة ، التي وصفها لنا هيرودوت تحت هذا الاسم ، تقع على مسافة تزيد على ١٠٠٠ كم من النيل وكان ـ


النخيل (١٤٣). ولا ينبت فيها قمح. والواقع أن العرب يجلبونه من مصر. وتقع أوجلة على الطريق الكبيرة بين موريتانيا ومصر عبر صحراء ليبيا (١٤٤).

سيرت (١٤٥)

سيرت (١٤٦) مدينة قديمة ، يقول البعض إنها من بناء المصريين ، ويقول آخرون إنها من بناء الرومان ، في حين يرى آخرون أن الأفارقة هم مؤسسوها. ومهما كان الأمر فهي الآن متهدمة. ويظن أن المسلمين هم الذين هدموها مع أن المؤرخ ابن رقيق (١٤٧) ينسب خرابها الى الرومان. ولا يرى فيها سوى بقايا صغيرة من الأسوار (١٤٨).

برداوه (١٤٩) : منطقة مسكونة

تتمثل في ثلاثة قصور وخمس أوست قرى ، في وسط صحراء ليبيا ، على مسافة خمسمائة ميل (١٥٠) من نهر النيل. وفيها العديد من أشجار النخيل التي تنتج كمية كبيرة من التمور الممتازة. وقد اكتشفت هذه القصور الثلاثة منذ ثمانية عشر عاما وذلك بواسطة دليل يدعي حمر. فقد ضلّ هذا الرجل الطريق بعد ان داهمه مرض في عيونه. ولما كان لا يوجد أى شخص في القافلة يعرف الطريق ، فقد سار في المقدمة على جمله ، وعند قطع كل ميل ، كان يقدم له شيء من الرمل ويشمه. وبفضل هذا الأسلوب

__________________

ـ يقصدها جماعة «النسامون» الذين كانوا يأتون لجنى التمور. وتزعم جماعة «السندال» و «كل غرس» و «كل وي» و «كل فروان» الذين يتجولون اليوم في مرتفعات آيير وفي غوبر ، يزعمون أن أصولهم ترجع الى أوجله ه. ل H.Lhote.

(١٤٣) وهي اوجلة وجالو وجيكرة ، وهي حدائق نخيل منفصلة تشكل مثلثا ، وتبعد الواحدة عن الأخرى مسافة ٣٠ كم أو ٤٠ كم مع العديد من المداشر.

(١٤٤) وهو الطريق الذي يمر من واحتي الجغبوب وسيوة ، وهي سنتريا القديمة ، أو واحة عمون الشهيرة.

(١٤٥) سرت أو سورت.

(١٤٦) وهي سيرت القديمة.

(١٤٧) أبو اسحق إبن القاسم بن رقيق.

(١٤٨) إن مدينة سرت القديمة ، التي منحت اسمها لخليجين : هما سرت الكبير في ليبيا وسرت الصغير بين ليبيا وتونس ، تحمل اسم سرت (بضم السين) في النصوص العربية ، ولا يمثلها سوى قرية سرت على ساحل البحر المتوسط ، على مسافة ٤٥٠ كم ، الى الشرق من طرابلس.

(١٤٩) مجموعة واحات الكفرة

(١٥٠) ٨٠٠ كم.


أخبرهم ، عند ما وصلت القافلة لمسافة اربعين ميلا (١٥١) من هذا المكان قائلا : «اعلموا اننا أصبحنا قريبين من المنطقة المسكونة». ولم يتمكن أحد من تصديقه ، لأنهم يعرفون أنهم على مسافة (١٥٢) أربعمائة وثمانين ميلا (١٥٣) من مصر ، وتساءلوا فيما إذا كانت القافلة ستعود الى أوجله. ولكن فى اليوم الثالث أصبحت في مرأى من القصور الثلاثة (١٥٤) ، وقد ذهل أهل البلاد من رؤية وصول الغرباء ، وانسحبوا الى قصورهم ، وغلّقوا الابواب ورفضوا تقديم ماء الشرب للقافلة ، التي عانت الكثير من ذلك ، لأن الآبار كانت في داخل القصور. وبعد معركة خفيفة ، احتل أهل القافلة القصور ، وحملوا مؤونتهم من الماء الكافي وتابعوا رحلتهم (١٥٥)(١٥٦).

الواحات

الواحات ، منطقة مسكونة على مسافة تقارب مائة وعشرين ميلا من مصر ، فى الصحراء الليبية. وفيها ثلاثة قصور والعديد من القرى وبضع واحات نخيل. وسكانها أناس ذو وبشرة سوداء ، منحطون وبخلاء ، ولكنهم أغنياء لأنهم يوجدون بين مصر وغاوغاو. ولهم رئيس هو نوع من ملك ، الا أنهم يدفعون إتاوة لجيرانهم العرب

__________________

(١٥١) ٦٤ كم.

(١٥٢) ٧٦٨ كم.

(١٥٣) تقطع القوافل من هذا النوع أكثر من خمسين كيلومترا في اليوم.

(١٥٤) وربما كانت تازربو أو كبابو.

(١٥٥) يعود هذا الاكتشاف إذن الى حوالي العام ١٥٠٧ م. كما ان التعرف على آثار انسانية أو حيوانية عن طريق الشم أمر لا يدعو للدهشة بالنسبة لمن يعرف حدة الحواس التي لا تصدّق لدى الادلّاء الصحراويين. وربما تمّ اكتشاف واحة تازربو صدفة ، كما يروي ذلك البكرى ، والذي يسميها صوبرو. وتبدو واحات الكفرة مأهولة في أيامنا بعناصر مختلفة ، ويعود معظمهم من حيث الأصل للتدا الذين انضم اليهم عناصر متباينة اجتذبهم اليها السنوسيون ـ أ. وـ ه. ل et H.Lhote Epaulard

(١٥٦) يحدد المؤلف مكان الواحات في كتابه الاول في نوميديا. ويبلغ طول الخط الحديدي الذي يربط وادي النيل بعاصمة واحة الخارجة ١٢٢ ميل انكليزي أي ١٩٥ كم. وتعنى الواحات ، من حيث المبدأ ، سبحة من الواحات المتباعدة في منخفض يتجه بصورة محسوسة من الشمال للجنوب في الصحراء الليبية ، وأبعد واحة في الشمال هي واحة سيوة ، التي كان يوجد فيها في الماضي معبد آمون الذي زاره الاسكندر المقدوني. ولكن يقصد بهذا الاسم على الخصوص واحتين ، الشمالية وتدعى الداخلة (بالنسبة لصحراء ليبيا) والخارجة في الجنوب الشرقي ، لأنها أقرب الى النيل. وكانت هذه الواحة بالنسبة لقدماء المصريين مكان إقامة الموتى كما افترضوا أو «وا». وهذه الكلمة موجودة في اللغة البربرية ـ


__________________

ـ القديمة ، كما يدل على ذلك تصغيرها ، توات ، في الصحراء الكبرى الغربية : ومنها جاءت الكليمة اليونانية وازيس ، وربما الكلمة العربية واح. ويبدو أن المؤلف لا يتعرض هنا لغير واحة الخارجة ، وهي عبارة ممن باب مصر الحقيقي على السودان الغربي منذ غابر الزمن كما تشهد على ذلك الاطلال الباقية فيها ، وقد سبق أن أشار هيرودوت إلى اهميتها. وكان ابن حوقل أول مؤلف عربي معروف لدينا يتكلم عن تجارتها مع غانا والمغرب وذلك قبل القرن التاسع الميلادي. «ولكن ابن حوقل يسمى الواحة «جزيرة». فيقول «جزيرة أوجلة» عوضا عن واحة. وتشبيهه هنا موفق للغاية ، اذ يشبه الواحة بجزيرة خضرة وسط الفيافي وبحار الرمال والقفار الحصوية. ومن هذا سمى الجغرافيون العرب اقطار افريقيا الشمالية «جزيرة المغرب» ، لوقوعها بين البحر من الشمال والشرق وبحر الظلمات من الغرب ، والصحراء الكبرى من الجنوب. هذا او يطلق ابناء الصحراء الكبرى من العرب على الاقطار الهامشية جنوبي الصحراء الكبرى ، حيث يوجد الكلأ والماء ، بلاد الساحل والتي تمتد من نهر السنغال غربا حتى الخرطوم شرقا باعتبار الصحراء قفر تنعدم فيه الحياة كالبحر ، وهذه المنطقة التي تكثر فيها المراعي ساحله.

وكلمة اوازيس يونانية ومنها اخذت الكلمة العربية واحة ، ولا نجد هذه الكلمة في المؤلفات العربية القديمة بل هناك كلمات أخرى عربية صرفة مثل روضة ، رياض ، غوطة ، أغواط ، غاط ، غيط ، غيطان. (المترجم)



القسم السابع



بلاد السّودان

لم يكتب الجغرافيون القدامى ، مثل البكري والمسعودي ، شيئا عن أرض السودان فيما عدا الواحات وعن غانا (١). ففي عصرهم ، لم يكن يعرف شيء سواهما عن بلاد الزنوج الأخرى. ولكنها اكتشفت بعد عام ثلاثمائة وثمانين هجرية (٢). إذ في ذلك الوقت اعتنقت لمتونة وكل سكان ليبيا الإسلام بفضل دعوة إمام قام ، بالإضافة إلى ذلك ، بدفع لمتونة لفتح كل بلاد البربر (٣) وعندئذ بدأ الناس يقصدون هذه البلاد ، وأخذوا في التعرف عليها.

وهذه الأقطار ، جميعها ، مسكونة بأناس يعيشون كالبهائم بدون ملوك ، ولا أمراء ، وبدون جمهوريات ولا حكومات ولا تقاليد (٤). ولا يعرفون غير الطرق البدائية

__________________

(١) وهذا ليس صحيحا تماما ، فقد قدم المسعودى فى أواسط القرن العاشر الميلادى ، والبكرى الذى كتب سنة ١٠٨٨ م ، قدّما بالفعل معلومات عن واحات مصر وعن غانا. ونلاحظ أن المؤلف قد وضع الواحات فى السابق فى نوميديا ثم فى ليبيا. ألا تذكرنا هذه الواحات هنا بأوداغست.؟

(٢) أى ٩٩٠ م.

(٣) لقد بدأت الدعوة للإسلام ، فى السودان الشمالى ، على يد تجار مسلمين كانوا يتاجرون مع الزنوج ، بدأت قبل القرن العاشر الميلادى بكثر. ولكن الفقيه عبد الله بن ياسبن ، من قبيلة جزولة ، جاء ليعظ القبيلة المذكورة بناء على طلب زعيم زناقة إيغدالن ، وبالعربية قدالة ، والتى كانت تحتل الأراضى الواقعة على الضفة الشمالية لنهر السنغال الأدنى.

وأسس فى إحدى الجزر رباطا كان عبارة عن مركز لمجاهدين حفظ التاريخ لنا ذكرهم باسم المرابطين ، ودعا إلى الجهاد ودفع بقبائل زناقة الصحراوية ، والتى كانت أهم قبيلة فيها هى لمتونة ، من مرتفعات إدرار فى موريتانيا الحالية لفتح بلاد الشمال واستشهد فى معركة على ضفاف وادى كرفله ، فى تامسنة ، وهى بلاد الشاوية الحالية فى المغرب الأقصى جنوب شرق الرباط ، فى يوم الأحد ١٩ تموز ١٠٥٨ م. ويبدو أن حملات المرابطين ضد الممالك السودانية بدأت فى زمنه. وكان أمير لمتونة ، وهو الزعيم الحربى للمرابطين ، أبو بكر بن عمر ، هو الذى تابع بنشاط كبير تلك المهمة بين ١٠٦٢ و ١٠٨٧ م. ويظهر أنه بلغ مملكة مالى ، على نهر النيجر الأعلى. وقد قتل برمية سهم فى شعبان ٤٨٠ ه‍ / تشرين الثانى (نوفمبر) ١٠٨٧ م ، بينما كان يجتاز ممر تاغنت. الواقع على مسافة ٥٥ كم جنوب بلدة تيجيكجة الحالية فى جمهورية موريتانيا الإسلامية ، فى أثناء عودته من إحدى حملاته ، وربما كان هذا التاريخ وهو ٤٨٠ ه‍ ، والذى لم يستطع المؤلف حفظه على الضبط. كان بالأصل ٣٨٠ ه‍ ، والذى قدمه لنا فى النص أعلاه.

(٤) وقد قال لنا المؤلف نفس الشىء عن عيوب الزنوج فى كتابه الأول ، وتدل بقية هذا الوصف بأن الوضع ليس كهذه ـ


لبذر الحب ، ويكتسون بجلود الأغنام. وليس لأحدهم زوجة خاصة به أو منفردة به. ففي النهار يرعون الماشية أو يعزقون الأرض ، وفي المساء يجتمعون ما بين عشرة الى إثني عشر رجلا وامرأة في كوخ وينام كل منهم مع التي تعجبه أكثر من غيرها ، ويستريحون وينامون على جلود الغنم. ولا يشنّون حربا على إنسان ، ولا يضع واحد قدمه خارج موطنه. بعضهم يعبد الشمس ويسجدون لها بمجرد أن يروها تنبثق من الأفق. والآخرون ، مثل أهل ولاتة ، يعبدون النار. وجماعة منهم نصارى على مذهب المصريين : تلك هي حالة أهل منطقة غاوغاو (٥). وقد حكم يوسف ، ملك مراكش ومؤسسها مع أقوام ليبيا الخمسة ، حكموا هؤلاء الزنوج وعلموهم الشريعة الإسلامية والمعارف الضرورية لسلوكهم في الحياة (٦). فدخل الكثير منهم في الإسلام ، وحينئذ أخذ تجار بلاد البربر يقصدون هذه البلاد لمبادلة مختلف السلع ، حتى إنهم تعلموا لغاتهم (٧).

وقد اقتسمت أقوام ليبيا الخمسة هذه البلاد إلى خمس عشرة حصة ونال كل من أقوام ليبيا ثلاثا من هذه الحصص. والحقيقة أن ملك تومبوكتو الحالي ، أبو بكر أسكيا ، هو من عرق أسود. وقد سمّي قائدا عاما لقوم سوني علي ، وملكا على تومبوكتو وغاءو وهو من أصل ليبي (٨) ، وبعد موت سوني على (٩) ، ثار أبو بكر ضد أبنائه وقتلهم. ثم أنقذ كل الأقوام الزنجية من أيدى زعماء قبائل ليبيا ، حتى إنه فتح بضع ممالك فى خلال ستة أعوام. وعند ما فرغ من نشر السلام والهدوء فى مملكته ، شعر

__________________

ـ الحالة ، ونحن نعرف فى أيامنا أن الحضارة السوداء ، والتى تعود لآلاف السنين تخضع لعادات محددة بشكل دقيق للغاية وهى متينة التسلسل.

(٥) إذا كان لهذا الخبر بعض الصحة ، فمعنى ذلك أنه كان هناك نصارى زنوج من القائلين بطبيعة واحدة للمسيح ، فى السودانى الشرقى. والمقصود هنا مملكة غاوغاو وليس مدينة غاءو.

(٦) لا يبدو أن يوسف بن تاشفين ومرابطيه قد واصلوا عملية الفتح السودانى بعد وفاة أبى بكر بن عمر ، ومهما كان عليه الأمر فإن دخول الزنوج فى الإسلام بصورة بطيئة ـ وهو لا يزال مستمرا حتى أيامنا هذه ـ يعود فقط لدعاة ولتجار مسلمين ، وقد كان هناك دوما نوع من عدم تداخل بين بربر الصحراء الكبرى الملثمين وبين الزنوج.

(٧) على عكس ذلك يبدو أن تخريب أوداغست وانهيار قوة مملكة غانة بفعل المرابطين قد ألحق أكبر الضرر بازدهار الطريق التجارى الغربى المار من موريتانيا الحالية.

(٨) هذه المعطيات خاطئة : فقد تطورت الممالك الزنجية فى الحقيقة تطورا ذاتيا. فالملك السونى على الذى فتح تومبوكتو حوالي العام ١٤٦٨ وانتزعها من ملك مالى ، كان ملك غاءو ، وهو سونغى من ناحية أمه ، ومانديغى من ناحية أبيه. وعلى إثر موته آلت السلطة إلى قائده العام ، وهو سونينكي ، من تكرور ، أى من قوم فوتا السنغالى ، والذى كان له اسم


بالرغبة فى أداء مناسك الحج إلى مكة. وأنفق فى هذه الحجة كل خزينته وبلغت ديونه خمسين ألف دينار (١٠).

وتمتد هذه الممالك الخمس عشرة التى نعرفها على طول ضفتى نهر النيجر وروافده (١١). وهى واقعة بين صحراوين واسعتين ، تبدأ الواحدة عند نوميديا وتنتهى عند هذه البلاد ، وتمتد الأخرى إلى الجنوب منها حتى المحيط. وتوجد هنا مناطق عديدة جدا ولكنها مجهولة بالنسبة لنا ، سواء بسبب طول ومشقة الرحلة أو بسبب تنوع اللغات والمعتقدات ، والتي تحول بينها وبين أن يكون لها علاقات مع البلاد المعروفة لدينا ، كما تمنع أقوامنا أن يكون لهم علاقات معها. ولكن هناك مع ذلك بعض العلاقات مع الزنوج الذين يعيشون على ساحل المحيط.

مملكة ولاته (١٢)

هذه مملكة صغيرة ذات وضع هزيل بالقياس إلى الممالك الزنجية الأخرى. فهى لا تحوى فى الواقع من الأمكنة المأهولة سوى ثلاث قرى وأكواخ مبعثرة بين بعض حدائق النخيل. وتقع هذه القرى على مسافة ثلاثمائة ميل تقريبا جنوب نون. وعلى مسافة خمسمائة ميل تقريبا شمال تومبوكتو ، وعلى مسافة مائة ميل من المحيط (١٣).

__________________

ـ محلي هو توريه فضلا عن اسم إسلامى وهو أبو بكر محمد. ونال لقب اسكيا. وكان مؤسس أسرة آسكيا الزنجية. ويمكن اعتبار ملوك مالى ، وحدهم ، من وجهة نظر البربر الصحراويين أنهم من نسلهم ، لأن إحدى جداتهم كانت ابنة الأمير أبي بكر عمر ، ولدى هؤلاء الصحراويين بعض بقايا من مفهوم «النظام الأمي» أي «البطن يجلب النبل» Epaulard.

ـ وعلى كل يجب أن نذكر أن التقاليد لدى زنوج سونغاي كانت دائما تعتبر أسرة دياوسوني من أصل أبيض ، وهو رأي مقبول على العموم اليوم لدى المختصين بشئون إفريقيا. وفضلا عن ذلك يظهر أيضا ، كما سنرى فيما بعد ، أن مملكة غوبر ، ومملكة كانم ـ بورنو قد أسستا على أيدي «ليبيين» مما يجعل رأي الحسن الوزان مقبولا تماما. وأبو بكر أسكيا المذكور هنا ، كان هو اسكيا الحاج محمد بن أبو بكر ، وقد حكم من عام ١٤٩٣ إلى ١٥٢٨ م ، وكان ملك بلاد سونغاى وعاصمته غاءو ، وليس تومبوكتو ـ ه. ل H.Lhote

(٩) في ١٤٩٣ م.

(١٠) عن حجة اسكيا محمد بن أبو بكر إلى مكة سنة ١٤٩٧ ـ ١٤٩٨ م انظر تاريخ الفتاش ص ١٢٤ ـ ١٣٣ وتاريخ السودان ص ١١٩ ـ ١٢١.

(١١) يعتبر المؤلف الذي ظل مخلصا للمعطيات التقليدية لدى الجغرافيين العرب ، يعتبر أن النيجر ينبع من تشاد ، وهي منابع النيل وأنه يصب في المحيط عن طريق مصب نهر السنغال.

(١٢) ولاته مدينة ثلاثة أرباعها عبارة عن خرائب ، واقعة في جنوب جمهورية موريتانيا.

(١٣) والحقيقة على مسافة ١٩٠٠ كم جنوب نون ، ٤٥٠ كم غرب تومبوكتو ، ٩٠٠ كم عن المحيط.


وفي العصر الذي كانت فيه أقوام ليبيا تسيطر على المنطقة ، قام فيها مقر الحكومة الملكية ، وبالتالي ، كان لدى الكثير من تجار بلاد البربر عادة القدوم إليها (١٤) ، ولكن منذ عصر سوني علي ، الذى كان رجلا عظيما ، ترك التجار ولاته شيئا فشيئا وذهبوا إلى تومبوكتو وإلى غاءو ، حتى لقد أصبح أمير ولّاته فقيرا وبدون سلطة.

ويتكلم أهل هذه البلد لغة تدعى سونغاى (١٥). وهم أناس حالكو السواد وأدنياء ، ولكنهم لطاف جدا وخاصة مع الأغراب. ويدفع الأمير الذي يحكمهم إتاوة لملك تومبوكتو لأن هذا جاء مرة إلى هذه البلدة مع جيشه ، وحينئذ هرب أمير ولاته ، وعاد للصحراء حيث يوجد أهله. ورأى ملك تومبكتو أنه لن يستطيع السيطرة على البلاد كما يرغب لأن هذا الأمير ، المدعوم بأقربائه ، يستطيع أن يسبب له متاعب ، فاتفق معه على دفع ضريبة محددة. فعاد الأمير إلى ولاته ورجع الملك إلى تومبكتو (١٦). ونمط حياة أهل ولاته وعاداتهم هي نفسها التي نجدها لدى جيرانهم سكان الصحراء (١٧) ، ولا ينبت سوى القليل من الحب في هذا البلد : أى الدخن ونوع آخر من الحب مدور وأبيض اللون كالحمص ولا يرى مثله فى أوربا (١٨). وتعاني المنطقة من ندرة اللحم. ومن عادة الرجال والنساء أيضا أن يبقوا على وجوههم ملثمة. وكل تنظيم مدني مجهول فى المنطقة ، فلا يوجد رجال بلاط ولا قضاة (١٩). ويعيش هؤلاء الناس في حالة قصوى من الإملاق.

__________________

(١٤) فى الحقيقة يبدو أن الصحراويين أيولاتن ، وعند العرب ولّاته ، وهم فخذ من سوفة الدين كانوا فى المبدأ فى القسم الغربى من الصحراء الكبرى والواقعة إلى الشمال من هذه المنطقة ، لم يقومو بتحقيق خدمة القوافل التجارية العابرة للصحراء وقيادتها وحمايتها فحسب ، بل ساهموا كذلك فى حكم هذه المنطقة. ومنهم استمدت قرية بيرو اسم أيو ألاتن ، ثم ولاته الذى احتفظت به حتى نيسان (أبريل) ١٣٥٢ عند مرور الرحالة الكبير ابن بطوطه ، إذ كانت تحت حكم رجل أسود ، هو نائب أو «فربا» ملك مالى ، والذى استقبل ابن بطوطه وكان محاطا بوجهاء مسوفة.

(١٥) سونعىء أو سونغائى. ويتكلم كل السكان العربية حاليا ، ولكن كان الناس يتكلمون لغة آزر التى ظلت معروفة أيضا ، وهى لهجة سونيكة التى ظلت حتى القرن العشرين.

(١٦) وهذا الحادث غير المؤكد بمصادر أخرى ربما حدث حوالى العام ١٤٦٩ م.

(١٧) أى يعيشون كالصحراويين وليس كالزنوج.

(١٨) وربما كان الذرة البيضاء ، لأن الدخن هو من نوع دخن الشمعدان.

(١٩) هذا التفصيل يوضح الفكرة التى يتصورها المؤلف عن مملكة ما. فهى بالنسبة له رقعة أرضية تتعلق بحكومة واحدة ، والتى ربما لا تكون أبدا حكومة ملك : وهكذا يوجد أمير صحراوى فى ولاته ، هو تابع بسيط لملك تومبوكتو وليس لديه موظفون حكوميون ولا عدليون.


مملكة جنة (٢٠)

وهي مملكة يسميها التجار الأفارقة جنيوه (٢١) ويسميها أهل البلاد جنيّ (٢٢) وكذلك البرتغاليون ، أما الذين لديهم معرفة بهذه الأصقاع فى أوربا فيسمونها غينيا (٢٣). وتتاخم المملكة السابقة ، غير أنه توجد بين الواحدة والأخرى مسافة تقارب خمسمائة ميل (٢٤) فى خلال الصحراء. فولاته تقع فى الشمال ، وتومبوكتو فى الشرق ومالى فى الجنوب. وتمتد على نهر النيجر على مسافة مائتين وخمسين ميلا تقريبا (٢٥).

ولها قسم يطل على المحيط ، وهو القسم الذى يصب عنده نهر النيجر فى البحر (٢٦).

ويكثر هنا الشعير والأرز والماشية والسمك والقطن بشكل مفرط. ويجنى سكان البلاد أرباحا عظيمة من تجارة أقمشة القطن التى يمارسونها مع تجار بلاد البربر ، ويبيع منهم هؤلاء بالمقايضة الكثير من الأقمشة الأوربية ، والنحاس والخارصين ، والأسلحة مثل الخناجر. والعملة التى يستعملها الزنوج من ذهب غير مسكوك اى التبر. كما يستعملون قطعا من الحديد لتسديد ثمن أشياء زهيدة القيمة ، كالحليب والخبز والعسل ، وتزن الواحدة من هذه القطع رطلا ، ونصف رطل ، أو ربع رطل.

ولا تنبت أية شجرة مثمرة فى هذه البلاد ، ولهذا لا يرى أى ثمر سوى التمر الأسود من ولاته أو من نوميديا. ولا توجد هنا مدينة ولا قصر وكل ما هنالك قرية

__________________

(٢٠) جنّة أو دينيّة ، والواقع لم تكن هناك مطلقا مملكة حقيقية في جنة.

(٢١) كناوه ، جناوا ، اسم لا زال دارجا فى المغرب الأقصى للكناية عن الزنوج وعن بلدهم.

(٢٢) مدينة قديمة في السودان الفرنسي سابقا ، أو مالى الحالية ، قرب باني ، رافد الجير ، وقد نقلت وظائفها التجارية اليوم إلى موبتي.

(٢٣) التباس من الحسن الوزان بين مدينة جنة وغينيا على ساحل المحيط الأطلنطى.

(٢٤) أي ٨٠٠ كم ، والحقيقة هي أن المسافة بين ولاته وجنة ٤٥٠ كم.

(٢٥) ٦٠ كم.

(٢٦) يقصد به طبعا نهر السنغال ، لأن المؤلف يتمسك بالرأى التقليدى لدى الجغرافيين العرب حتى ذلك العصر.


كبيرة (٢٧) يسكنها الملك والفقهاء والعلماء والباعة والوجهاء من الناس. وكل البيوت التي يسكنها هؤلاء الناس هي كالأكواخ ، مطلية بالطين ومغطاة بالقش.

وأهل هذه القرية ذو وهندام جيد جدا. ويضعون لثاما كبيرا من القطن ، أسود وأزرق ، يتغطون به حتى رأسهم ، ولكن الفقهاء والعلماء يلبسونه أبيض اللون. وأخيرا تشكل هذه القرية نوعا من جزيرة خلال ثلاثة أشهر فى العام ، فى تموز ، وآب ، وأيلول (يولية وأغسطس وسبتمبر) إذ في هذه الفترة يتعرض النيجر للفيضان الشبيه تماما بفيضان النيل.

ومن عادة تجار تومبوكتو القدوم إليها فى هذه الفترة ، فيجلبون بضائعهم فى مراكب صغيرة ضيقة جدا ، مصنوعة من نصف جذع شجرة مجوّفة ويجدفون طيلة النهار ، ويربطون مراكبهم فى المساء ، وينامون على الأرض.

وكانت تحكم هذه المملكة فى الماضى أسرة تعود أصلا لقوم من ليبيا ، ولكن فى عصر الملك سوني على أصبح أمير هذه المملكة تابعا له (٢٨). وعندما خسر سونى على مملكته على يد خلفه أسكيا قبض أسيكا على هذا الأمير وسجنه في غاءو حتى وفاته.

وأصبحت المملكة بعدئذ يحكمها نائب من قبل أسكيا.

مملكة مالى

تمتد مالى (٢٩) على طول فرع من نهر النيجر (٣٠) على مسافة قد تبلغ ثلاثمائة ميل (٣١). وهي تتاخم المملكة السابقة من الشمال وتتاخم صحراء وجبالا قاحلة نحو الجنوب. وتحدها من الغرب غابات موحشة تمتد حتى المحيط ، وتتاخم من الشرق أراضي غاءو. ويوجد في هذا القطر قرية كبيرة جدا تضم ستة آلاف أسرة وتدعى

__________________

(٢٧) هى جنة.

(٢٨) تقول الأسطورة إن سونى على عجز عن احتلال جنة بسبب الجوع بعد حصار طويل وأنه تزوج والدة أم. هذه البلاد.

(٢٩) وهى مملكة الماندينغ الهامة والتى بلغت أوجها فى القرن الرابع عشر الميلادى.

(٣٠) ولا سيما على هذا النهر ذاته ، والذى يدعى أيضا ديوليبا.

(٣١) ٤٨٠ كم.


مالى (٣٢) ، ومنها جاء اسم كل بقية المملكة. ويقطنها الملك وحاشيته. ويكثر في البلاد اللحم والقطن والغلال. كما يوجد في هذه القرية عدد كبير من الصناع ومن الباعة المحليين والأغراب ، ويتمتع هؤلاء برعاية الملك أكثر من الآخرين. والسكان أغنياء بسبب تجارتهم ، لأنهم يقدمون لجنّة ولتومبوكتو كثيرا من المنتجات. ولديهم عدة جوامع ، وأئمة وأساتذة يعملون في الجوامع ، نظرا لعدم وجود مدارس. وهؤلاء هم الأكثر تمدنا وذكاء واعتبارا من جميع السود. فقد كانوا الأوائل في اعتناق دين محمد (صلّى الله عليه وسلّم). وقد كانوا محكومين في عصر دخولهم الإسلام من قبل أكبر أمراء ليبيا ، وهو الذى كان عما ليوسف ، ملك مراكش (٣٣) ، وقد ظلت السلطة بيد حفدة إخوته من أمه ، حتى عصر اسكيا (٣٤) وأصبح آخر هؤلاء تابعا له. وكانت التزاماته المالية ثقيلة جدا حتى لقد عجز عن إطعام أسرته.

تومبكتو

اسم هذه المملكة حديث العهد ، فهو اسم مدينة بناها ملك يدعى منسى سليمان فى عام ٦٠٠ للهجرة (٣٥) على مسافة اثني عشر ميلا من فرع النيجر (٣٦).

__________________

(٣٢) يجب أن يكون المقصود بها حينذاك نيانى ، وهى قرية على نهر سنكارانى ، قرب مقرنه مع النيجر. وقد تبدل موقع عاصمة مالى عدة مرات.

(٣٣) كان يوسف بن تاشفين ابن عم أبى بكر بن عمر ، كبير أمراء المرابطين. ويظهر أن هذا قد عاش دوما في الأدرار الموريتانى ، مع قبيلته لمتونة وذلك فيما عدا المراحل التي كان يقوم في أثنائها بحملاته العسكرية فى البلاد الأخرى. ولكن تذكر الروايات أنه زوج إحدى بناته من ملك من أسرة محلية من الماندينغ الذين كانوا يحكمون وقتئذ.

(٣٤) اسكيا الحاج محمد. ولا يجوز خلط هذا الاسم مع إسحق الذى حكم من ١٥٣٩ إلى ١٥٤٩ م.

(٣٥) ١٢١٣ ـ ١٢١٤ م. ويجب أن نذكر أن منسى سليمان حكم بالفعل من عام ١٣٣٦ إلى ١٣٥٩ م. وكان ابن بطوطة أول من ذكر تومبوكتو (١٣٥٤ م).

(٣٦) لقد تأسست المدينة ، بناء على أقوال الروايات ، فى القرن الحادى عشر من قبل الطوارق ، الذين أقاموا هنا مخزنا للبضائع التى عهدوا بحراستها لعبد يدعى تينبوتو ، أى من السرّة ، ثم تحولت على ألسنة السود إلى تونبوتو ، ولفظها العرب تونبوكتو. واستقر فيها العديد من التجار والعلماء المسلمين الذين كانوا فى ولّاته ، وتوسعت المدينة بسرعة. وفي أثناء عودة كنكان موسى ، امبراطور مالى ، من مكة ، مربغاء وحيث تلقى مراسم التبعية ، ثم احتل تومبوكتو حوالي العام ١٣٢٤ م. وفى ١٤٣٣ أصبح الطوارق سادتها بقيادة تامبنوكال اكيل آغ آملويل ، ووضعوا عليها أميرا من صنهاجة شنقيط. وفى هذا العصر لم يكن الطوارق من قبيلة تادمكت قد هبطوا من الأدرار ومن مرتفعات دس ايفوراس ، وأصحت المنطقة ، شأن ولّاته ، تحت سيطرة قبائل المسوفه من الملثمين ، من أصل زناتي طارقي. والغالب على الظن أن أكيل كان ينتسب إلى هذا الفخذ ، واحتفظ بالإمارة عليها حتى عام ١٤٦٩ م ، أى حتى التاريخ الذي قام فيه زعيم من سونغائى. وهو سونى على ، باحتلالها ه. ل H.I.hote.


وبيوت تومبوكتو هى أكواخ مصنوعة من أعمدة مطلية بالطين مع سقوف من القش. ويقع فى وسط المدينة الجامع المبنى بحجارة منحوتة مع طين الكلس على يد مهندس من الأندلس ، مولود فى مدينة المانه ، كما أن هناك قصرا كبيرا بناه المهندس نفسه وحيث يسكن الملك (٣٧) ، وبها كثير من دكاكين الصناع والباعة ، ولا سيما حاكة قماش القطن ، وتصل أقمشة أوربا إلى تومبوكتو ويجلبها تجار من بلاد البربر.

ولا زال من عادة نساء المدينة وضع الحجاب على وجوههن ، باستثناء الاماء اللواتى يبعن كل الأشياء المأكولة. والسكان واسعو الثراء ، ولا سيما الأغراب الذين أقاموا فى البلاد ، حتى إن الملك الحالى (٣٨) أعطى اثنتين من بناته زوجتين لأخوين تاجرين بسبب ثرائهما. ويوجد فى تومبوكتو عدة آبار مياه عذبة ، وفضلا عن ذلك فإن الماء يصل حتى المدينة بواسطة قنوات فى وقت فيضان النيجر. وتغزر هناك الحبوب والمواشى ويكثر تبعا لذلك استهلاك الحليب والسمن. ولكن هناك افتقار شديد للملح ، لأن هذا يجلب من تغازة ، التى تيعد عن توميوكتو بنحو خمسمائة ميل (٣٩). وقد كنت موجودا فى هذه المدينة فى وقت كان فيه سعر حمل الملح ثمانين دينارا (٤٠). ولدى الملك خزينة كبيرة من العملة ومن سبائك الذهب ، وتزن إحدى هذه السبائك ألفا وثلاثمائة رطل (٤١).

والبلاط الملكى جيد التنظيم للغاية وذو أبهة. وعندما يذهب الملك من مدينة

__________________

(٣٧) إن الذى أشرف على بناء هاتين العمارتين هو رجل يدعى إسحق السهيلى الغرناطى ، الذى اصطحبه كنكان موسى من مصر فى أثناء مروره بالقاهرة. وينسب إليه أيضا بناء الجامع فى غاءو. أما الجامع الذى شيد بناء على أوامر كنكان موسى فقد تخرب فيما بعد وأعاد بناءه القاضى العقيل بن محمود. كما أن القصر الذى ذكر فى كتب التاريخ باسم معدوغو قد اختفى اليوم. ه. ل.H.Lhote

(٣٨) لم يكن هناك ملك فى تومبوكتو بل نائب عن امبراطور غاءو السونغائى ، والذى كان يلقب بتومبوكتو كوى. أما الذى كان موجودا فى أثناء مرور الحسن الوزان فكان يدعى عمر بن محمد النّدى. وقد نصبه أسكيا الحاج محمد سنة ١٤٩٣ وتوفى عام ١٥٢١ ، وكان هذا المنصب أسمى مناصب الامبراطورية ، وكان يخول صاحبه امتيازات عديدة ، ولا سيما امتلاك الطبل ، وهى شارة قيادة عليا. ه. ل H.Lhote

(٣٩) ٨٠٠ كم.

(٤٠) أى أربعة ألواح من الملح الصخرى.

(٤١) أو حوالى ٤٠٠ كغم من الأرطال المصرية. وقد سبق للبكرى أن تكلم عن سبيكة ضخمة من التبر يملكها ملك غانة ، ويوضح الإدريسي في سنة ١١٥٤ م انها كانت تزن ثلاثين رطلا وكان يربط بها حصان الملك. وعن هذه السبيكة بلا شك يتكلم ابن خلدون ويذكر عنها أن الملك الماندينغي ماريدياتا الثاني الذي حكم بين ١٣٥٩ و ١٣٧٤ م قد باعها لنخاسين مصريين وأن هذه الكتلة كانت تزن ٢٥ قنطارا. فمن هذا يظهر أن الرقم الذي ذكره الحسن الوزان مبالغ فيه.


لأخرى مع رجال حاشيته يمتطى جملا وتقاد الخيول بأيدى الخدم المسلمين. وإذا أراد الحرب ، تعقل هذه الجمال ويركب الجنود خيولهم. وفى كل مرة يريد أحد مخاطبة الملك يجثو أمامه ، ويأخذ التراب ويحثوه على رأسه وكتفيه : وهذه طريقة التعببر عن الاحترام ، ولكن هذا غير مطلوب إلا من الذين لم يسبق لهم أن خاطبوا الملك سابقا ، أو من السفراء. ولدى الملك حوالى ثلاثة آلاف فارس وعدد لا يحصى من المشاة المسلحين بالأقواس المصنوعة من خشب «الشمرة» البرية (٤٢) ، ويرمى هؤلاء بسهام مسمومة. ويشن هذا الملك الحرب على الأعداء من جبرانه وعلى الذين يمتنعون عن دفع الإتاوة له. وحينما يحرز النصر يبيع فى تومبكتو أسراه حتى الأطفال الذين غنمهم فى المعركة.

ولا يولد فى هذه البلاد من الخيول سوى بعض البراذين الصغيرة. ويستخدمها التجار فى أسفارهم ، وكذلك رجال بطانة الملك أثناء تجوالهم فى المدينة. ولكن تأتى كرام الخيل من بلاد البربر ، وتأتى مع قافلة. وبعد عشرة أو اثنى عشر يوما من وصولها ، تعرض أمام الملك الذى يأخذ منها العدد الذى يرغبه ويدفع ثمنها بالسعر المناسب.

وهذا الملك هو العدو اللدو لليهود. فهو لا يرغب أن يسكن أحد منهم في المدينة. وإذا بلغه أن تاجرا من بلاد البربر يتردد عليهم أو يتاجر معهم يصادر أرزاقه. ويوجد في تومبوكتو العديد من القضاة والعلماء والأئمة ، ولجميعهم مرتبات طيبة من الملك ، وهو يكرم الأدباء كثيرا. ويباع هنا الكثير من الكتب المخطوطة التي تأتي من بلاد البربر. ويجنى من هذا البيع ربح يفوق كل بقية السلع.

وتستخدم قطع الذهب الصافي عوضا عن العملة المسكوكة ، في حين يستعمل الودع لشراء الأشياء البسيطة ، وهي قواقع مجلوبة من بلاد فارس (٤٣) ويعادل الأونس الروماني من الذهب (٤٤) ستة وثلثين من دنانيرهم (٤٥).

__________________

(٤٢) نبات غير محدد. ففي المناطق المتقدمة في السودان نحو الجنوب ، تصنع الأقواس من خشب البامبو.

(٤٣) وهي C.anulus وCypraeamonetas وتأتي في الحقيقة من جزر الملديف في المحيط الهندي.

(٤٤) ٢٥٦ ، ٢٨ جراما.

(٤٥) إذن يزن المثقال السوداني ٢٣٨ ، ٤ غرامات.


ولأهل تومبوكتو طبع مرح. ومن عادتهم التريض فى المدينة فى أثناء الليل ، بين الساعة الثانية والعشرين والواحدة صباحا ، وهم يعزفون بآلات موسيقية ويرقصون. ويعمل فى خدمة سكان المدينة الكثير من الرقيق بين رجال ونساء.

وهذه المدينة كثيرة التعرض لخطر الحريق. وفى الوقت الذي كنت موجودا فيها فى أثناء رحلتى الثانية (٤٦) ، احترق نصف المدينة فى فترة خمس ساعات. وكانت الريح عنيفة وأخذ سكان النصف الثانى من المدينة فى إخلاء أمتعتهم خوفا من أن تحترق اجسامهم كذلك.

ولا يوجد حول تومبوكتو أى بستان أو مزرعة أشجار (٤٧)

مدينة كاباره

كاباره مدينة كبيرة لها مظهر قرية دون جدار سور. وتبعد مسافة اثني عشر ميلا عن تومبوكتو على النيجر (٤٨) ومن هنا تشحن أو توسق البضائع على المراكب كي تذهب إلى جنّه ومالى. ولا تختلف هذه المدينة في بيوتها وسكانها عن المدن التي تكلمنا عنها آنفا. ونجد هنا زنوجا من أعراق مختلفة لأن هؤلاء يقصدون هذا الميناء من مناطق مختلفة على مراكبهم.

وقد أوفد ملك تومبوكتو نائبا عنه لكي ييسر للسكان المقابلات الملكية وتوفير مشقة مسيرة اثني عشر ميلا (٤٩).

وفي الوقت الذي كنت فيه في كاباره ، كان هذا النائب قريبا للملك ويدعى أبا

__________________

(٤٦) وربما كان ذلك فى عام ١٥١٢ م.

(٤٧) يوجد من هذه الخضرة حاليا فى غرب المدينة وهي مجتمعة حول الآبار.

(٤٨) لا تقع كاباره على نهر النيجر ذاته ، ولكن كما قيل آنفا ، على ذراع من هذا النهر ، يؤلف قناة طولها ١٧ كم مما يسمح بالوصول إلى تومبكتو عن طريق الماء فى وقت الفيضان ، بين منتصف كانون الأول (ديسمبر) وشباط (فبراير) ، ولكن عن طريق البر لا تبعد هذه المدينة أكثر من ٧ كم عن الأخرى. وهذه الملاحظة تسمح بالافتراض بأن المؤلف قد ذهب من مدينة لأخرّى بالقارب بين منتصف كانون الأول (ديسمبر) ومنتصف شباط (فبراير) وربما كان ذلك سنة ٩١٨ ه‍ / ١٥١٢ ـ ١٥١٣ م.

(٤٩) وهو كاباراكوتي ، المسئول عن شرطة الميناء ومراقبة نقل البضائع من كاباره إلى تومبوكتو ، سواء بواسطة الحمالين أو على ظهور الحمير ، فى الفصل الجاف ، أو بواسطة المراكب في فترة الفيضان H.Lhote.


بكر ولقبه باغارمه ، وكان حالك السواد ، ولكنه كان كبير القدر بسبب ذكائه وكثرة عدله.

ومما يضر كثيرا بهذه المدينة كثرة الأمراض الناجمة عن نوع الأغذية التي تستهلك فيها ، من سمك وحليب وزبدة ولحم مخلوط بعضها ببعض. ونصف الأقوات الموجودة في تومبوكتو تقريبا إنما تأتي من كاباره (٥٠).

غاءو ومملكتها

غاءو (٥١) مدينة كبيرة شبيهة بالسابقة ، أي بدون جدار سور. وتبعد هذه المدينة مسافة أربعمائة ميل تقريبا عن تومبوكتو (٥٢) إلى الجنوب الشرقي. وبيوتها قبيحة في معظمها ، ومن بينها بيوت جميلة المظهر جدا حيث يقيم الملك وحاشيته (٥٣). وسكانها تجار أغنياء يتجولون دائما في المنطقة مع بضائعهم. ويقصدها عدد لا يحصى من السود الذين يجلبون كمية كبيرة من الذهب ليشتروا به أشياء مجلوبة من أوربا ومن بلاد

__________________

(٥٠) والواقع أن الأطعمة فى كاباره ليست أكثر رداءة من المناطق الأخرى ، ولكن كاباره وخيمة بسبب الحميات الناجمة عن كثرة البعوض H.Lhote.

(٥١) غاءو. لا نزال نجهل المعلومات عن التاريخ الصحيح لتأسيس هذه المدينة. ولكننا نعرف على كل حال أن أبا المحرّض الخارجي ، أبو يزد ، سكن هذه البلدة في طفولته : «فقد سكن أبوه ، كداد تاكيس ، مدينة في أراضي كستيليا (توزر) وكان يزاول التجارة في السودان. وبعد أن اشترى في بلدة تادمكت (تادميكه) أمة اسمها سبيكة ، جاءه منها ولد كان أعرج وكانت له شارة على لسانه. وقد خطر له أخيرا أن يأخذه إلى كوكو (غاءو) ويعرضه على أحد هؤلاء العرافين. وبعد أن فحصه هذا قال : سيكون لهذا الولد شأن كبير ، سيكون ملكا فيما بعد». وهذا القول مأخوذ من وثائق غير منشورة عن الخارجي أبي يزد مخلد بن كداد ، من تادمكت. وقد ولد أبو يزد هذا حوالى العام ٨٨٥ م ، إذن وصلنا إلى اليقين بأن غاءو كانت موجودة في القرن التاسع الميلادى. ولربما أن ذكر هذه المدينة قد ورد قبل ذلك لأن الجغرافي الخوارزمي ذكر ، وذلك حوالي العام ٨٣٣ م ، مدينة كوكو ، كونكو أو كانكو ، والتي ربما كانت غاءو. وأخيرا فإن اليعقوبي يذكر ، حوالي العام ٨٧٢ م ، مملكة باسم كاوكاو. وقد أصبحت غاءو عاصمة بلاد سونغائي حوالي القرن الحادي عشر ، عند ما غادر الملك كوكبا ، الواقعة باتجاه السافلة بالنسبة لغاءو. وقد عثر على شواهد يرجع تاريخها لبداية القرن الثاني عشر الميلادي في قبر ملكي مشترك في سانه ، قرب غاءو. والاسم المحلي لمدينة غاءو هو غاءو غاءو. وقد كتبها المؤلفون العرب في القرن العاشر وحتى الرابع عشر الميلادي على شكل كوكو وكاوكاو ، ولكن الكتابة الرسمية فى المغرب الأقصى في القرن الرابع عشر كنت كاغو ، ومنها غاغو التي تمثل اللفظ الصحيح الذي نعثر عليه فى الوثائق الأوربية. ه. ل H.L hote

(٥٢) في الحقيقة ٤٥٠ كم تقريبا وليس ٦٥٠ كم.

(٥٣) إذا وثقنا بقول باشا جودر الذي احتل غاءو سنة ١٥٩١ فإن «بيت رئيس الحمارين (أى رئيس الذين يسوقون الحمير) في مراكش يساوي أكثر من قصر آسكيا».


البربر ، ولكنهم لا يجدون أبدا من هذه الأشياء ما يكفي لإنفاق ذهبهم ، ويعودون دوما لبلادهم ، بنصفه أو بثلثيه. وهذه المدينة مطمئنة بالأمان أكثر من تومبوكتو ، والخبز واللحم فيها متوافران لأقصى حد ، ولكن لا يمكن العثور فيها على خمر ولا على فواكه. ويكثر فيها البطيخ والخيار واليقطين الممتاز والأرز بكميات ضخمة. وآبار مياهها العذبة عديدة. وفيها ساحة يباع فيها يوم السوق عدد لا يحصره عد من الرقيق ، من ذكور وإناث. ففتاة عمرها خمس عشرة سنة تساوي حوالي ستة دنانير والشاب مثل هذا القدر تقريبا ، ويساوي الأطفال الصغار النصف تقريبا وكذلك العبيد المتقدمين في السن. ولدى الملك قصر خاص مخصص لعدد ضخم من النساء ، والمحظيات ، والعبيد ، ومن الخصيان المعينين لحراسة هاته الغسوة. ولديه كذلك حرس كبير العدد من فرسان ومن مشاة مسلحين بالأقواس. ويوجد بين الباب العام والباب الخاص في قصره ساحة كبيرة محاطة بسور. ويمتد على كل طرف من هذه الباحة رواق يستخدم للاستقبالات. ومع أن الملك يباشر بنفسه كل قضاياه ، فإن لديه كثيرا من الموظفين كالكتاب والمستشارين والقادة والنواب.

وإذا كانت عائدات المملكة ضخمة فإن نفقاتها أضخم. فالحصان الذي يساوي في أوربا عشرة دنانير يباع هنا بأربعين إلى خمسين دينارا ، وأردأ قماش صوفي في أوربا تباع هنا «الكانا» (٥٤) منه بأربعة دنانير ، والأقمشة الرفيعة مثل قماش «موناكشينو» و «مينيمو» يباع بخمسة عشر دينارا (٥٥) ، والجوخ البندقي الناعم مثل الوردي والبنفسجي والأزرق بثلاثين دينارا. والسيف السيء في أوربا الذي يساوي ثلث دينار يكلف شراؤه هنا أربعة دنانير أو على الأقل ثلاثة ، وكذلك الحال بالنسبة للمهاميز والأعنة. وكل سلع الخياطة والعطارة أيضا غالية جذا كذلك. والعشر من الملح يساوي دينارا في هذه البلاد (٥٦).

وتتألف بقية المملكة من بلدان صغيرة ومن قرى يعيش فيها الزراع والرعاة. وفي الشتاء يلبس هؤلاء جلود الأغنام ، وفي الصيف يمشون حفاة عراة ، غير أنهم

__________________

(٥٤) الكانا التجارية الايطالية كانت تساوي حوالي المترين.

(٥٥) من أسماء الأقمشة الايطالية في ذلك العصر.

(٥٦) العشر الإيطالي هو عشرة أرطال أو ٣٩ ، ٣ كجم.


يسترون عوراتهم بقماش صغير وأحيانا يحمون باطن أرجلهم بنعال من جلد الجمل (٥٧).

وهؤلاء الناس على قدر عظيم من الجهل ، إذ لا يمكن العثور على شخص في مسافة مائة ميل يعرف الكتابة والقراءة إلا بمشقة. ولكن ملكهم يعاملهم كما يستحقون ، لأنه لا يترك لهم سوى ما يكفيهم للعيش ، بسبب ثقل الضرائب التي يقسرهم على دفعها.

مملكة غوبر (٥٨)

وتقع هذه المملكة على مسافة ثلاثمائة ميل إلى الشرق من مملكة غاءو (٥٩). وبين هاتين المملكتين تقع صحراء لا يعثر فيها إلّا على القليل من الماء لأنها تقع على مسافة أربعين ميلا من نهر النيجر (٦٠). وتقع هذه المملكة بين جبال شديدة الارتفاع (٦١). وتشتمل على عدد عظيم من القرى التي يسكنها الرعاة والبقارة ، إذ توجد بالفعل مقادير عظيمة من الأغنام والثيران ، ولكنها صغيرة الحجم. والناس هنا على العموم متمدنون جدا. وبينهم عدد كبير جدا من حاكة الأقمشة ، ولا سيما الحذائين الذين

__________________

(٥٧) لم يكن جلد الجمل مستعملا مطلقا لدى السودانيين لصناعة النعال ، اللهم إلا بصورة استثنائية لدى الرقيق. ففي غاءو تستخدم على الخصوص جلود الثيران وجلود الحيوانات البرية كالزرافة والودّان والغرير.

(٥٨) غوبر ، ومحرفت من غوبير إلى آيير وهو اسم أوائل القبائل الليبية التي هاجرت حوالي القرن السابع الميلادي ، وذلك حسب الروايات المحفوظة في مرتفعات آيير ، والذين هم من أصل قبطي (؟). وقد قدموا عن طريق تيبستي وبيلما وامتزجوا بالسكان المحليين من الهوسا. ومن المحتمل أنهم اضطروا للنزوح الى آيير حوالي القرن الثاني عشر الميلادي ، تحت ضغط وافدين جدد وهم السندال. ، و «الكل غرس» و «الكل وي» وأقاموا في منطقة مادا واتسّاوا ، التي حملت اسمهم منذ ذلك الوقت. وقد أصبحوا اليوم متزنجين تماما دما وأخلاقا ـ ه. ل H.L hote.

(٥٩) تقع بلاد غوبر في الحقيقة ، وهي تؤلف إقليم الحدود مع جمهورية نيجيريا ، على مسافة ١٠٠٠ كم جنوب شرق غاءو أي ٦٣٥ ميلا.

(٦٠) يقع نهر النسيجر بالفعل على مسافة ٤٠٠ كم تقريبا من غوبر ، ويعود هذا الخطأ إلى النسخ ، أو أن الحسن الوزان لم ير أبدا بلاد غوبر. وربما كان هذا فرعا كاذبا لنهر النيجر الشرقي الذي تصوره الجغرافيون العرب على أنه نهر النيجر ، والذي يصب في بحيرة تشاد ، كي يختفي من جديد ويتصل بعدئذ بالنيل ـ ه. ل H.L hote.

(٦١) لا يوجد في الواقع سوى سلاسل جبلية صغيرة ليس لها كبير أهمية ، وهي تنبثق هنا وهناك في السهل ولا تزيد ارتفاعاتها عن المائة متر ـ ه. ل H.L hote.


يصنعون أحذية شبيهة بتلك التي كان يحتذيها قدامى الرومان (٦٢). وترسل هذه الأحذية إلى تومبوكتو وإلى غاءو. وتتوافر فيها بكثرة كميات الرز والعسل ، وكذلك نوع من الحبوب لم أرة أبدا في إيطاليا وهو معروف في أسبانيا ، كما أعتقد. وعند ما يفيض النيجر يغمر كل السهول التي تحيط بهذه الأمكنة المأهولة ، والعادة أن يبذر الحب في الماء (٦٣). وبين هذه التجمعات السكنية توجد قرية كبيرة تضم ستة آلاف أسرة. ويسكنها تجار البلاد والغرباء. وكان هناك في الماضي مقر الملك وحاشيته ، وهو الذى اعتقله وأعدمه الملك اسكيا ، ملك تومبوكتو في أيامنا (٦٤). كما قام اسكيا أيضا بخصى أحفاد ملك غوبر هذا وخصصهم لخدمة قصره. وأصبح سيد هذه المملكة. ووضع فيها حاكما. وقد كان السكان مرهقين بالضرائب. ولكنهم على كل حال يجنون أرباحا تجارية طائلة ، وقد افتقر هؤلاء السكان حاليا وهبطت مكاسبهم إلى النصف ، لأن آسكيا انتزع من هذه البلاد عددا كبيرا من الرجال واحتفظ ببعضهم أسرى وضرب الرق على الباقين.

آغادس ومملكتها

آغادس مدينة مسورة ، بناها الملوك المعاصرون على تخوم ليبيا. وهى مدينة السود ولكنها تكاد تكون أقرب مثيلاتها إلى مدن البيض ، هذا إذا استثنينا ولاته. وبيوتها غاية فى اتقان البنيان على نمط بيوت بلاد البربر ، لأن كل سكانها تقريبا من التجار الأغراب ، وفيها القليل من السكان المحليين ، ويكاد يكون كل هؤلاء السود صناعا أو جنودا لدى ملك المدينة. ويملك كل تاجر عددا كبيرا من العبيد الذين يستخدمهم حرسا على الطريق بين كانو إلى بورنو ، لأن هذه المسافة تكون نهبا لعدد لا يحصى من

__________________

(٦٢) وهى نوع من نعل ، أو كلاش ، وتسمى طوارقى ، وتدعى بالعربية نعل ، وصناعته من اختصاص الصناع الهوسا. ولا تزال مدينة ماداوا الواقعة فى منطقة غوبر ذات شهرة بصنع هذه النعال ـ ه. ل.H.L hote.

(٦٣) ليس المقصود بذلك نهر النيجر الذى يجرى على مسافة بضع مئات من الكيلومترات Epaulard. ولكن النهر المعنى هنا يجب أن يكون نهر كولبينكارا وهو رافد قديم للنيجر ويمتلىء بالماء وقت الأمطار ويزرع الدخن فعلا فى القيعان ويروى بصورة طبيعية فى الوقت الذى تمتلىء فيه الخبرات. ه. ل H.L hote.

(٦٤) المقصود به هنا أيضا ملك غاءو وليس ملك تومبوكتو آسكيا الحاج محمد. فقد ذهب آسكيا على رأس حملة إلى بلاد كاتسنة حوالى العام ١٥١٣ م. وربما مر فى هذه المناسة بغوير وأخضعها ـ ه. ل H.L hote.


القبائل التي تهيم في الصحراء. وهؤلاء الناس الذين يشبهون أفقر فئات الزنغاري (٦٥) يتعرضون دوما للتجار ويغتالونهم. ولهذا يعمد التجار لاصطحاب العبيد المسلحين جيدا بالحراب وبالسيوف وبالأقواس ، حتى إنهم أخذوا يستعملون اليوم راشقات السهام (٦٦). وهكذا لا يستطيع هؤلاء اللصوص أن يعملوا شيئا (٦٧).

وما أن يصل أحد التجار الى مدينة ما ، فإنه يستخدم هؤلاء العبيد في مختلف الأعمال كي يكسبوا عيشهم ويحتفظ بعشرة او بإثني عشرة منهم لحاجاته الشخصية ولحراسة بضائعه.

ويقوم ملك آغادس بإحاطة نفسه بحرس كبير العدد ، وله قصر في قلب المدينة. والواقع يعود هو أصلا لتلك الأقوام الليبية ، وفي بعض الاحيان تقوم هذه بخلعه كي تنصّب في مكان أحد اقربائه. ولكنهم لا يغتالونه البتّة ، ويعينّ ملكا على آغادس الذي يقدم أكبر خدمة لأهل الصحراء.

أما في بقية المملكة ، أي في كل المنطقة الجنوبية ، فينصرف الناس لتربية الماعز والأبقار. ويعيشون في أكواخ من أغصان أو من حصر ينقلونها على الثيران عند ما

__________________

(٦٥) الزنغاري الطليان هم البوهيميون الجوالة في أيامنا أو الرومانيشل وهم من أصل هندي.

«ويماثل هؤلاء النور أو القرباط في أقطار المشرق العربي والذين يعيشون في البوادي كفئة منحطة تزاول أدنأ الأعمال كسلخ جلود الحيوانات النافقة ، وحتى في المدن حيث لهم حي خاص بهم في جنوب شرق حلب يدعى القرباط» (المترجم).

(٦٦) وهذه الإشارة الوحيدة التي وردت عن آلة رشق السهام في هذه المنطقة. ولا يوجد منها اليوم أي أثر ، بينما بقي القوس ولا زال معروفا عند الهوسا والبهل ، ولكن ليس لدى الطوارق الذين يظهر انهم لم يستعملوه أبدا. غير ان بعض قبائل دامرغو المستقرة الذين صاروا أتباعا لهم والذين رافقوهم عدة مرات في المعارك ، كانوا مسلحين بها ، ولهذا كان من الخطأ القول بأن طوارق جنوب آيير كانوا يمارسون الحرب بالقوس. أما العرب فقد امتلكوا راشقة السهام منذ القرن الثامن الهجري كما كانوا يقذفون بالبنادق وكانوا يرمون بالرصاص. كما ورد ذكرها عند سلاطين بني مرين في المغرب حوالي العام ١٣٤٥ م الذين كان لديهم فرق من الأندلسيين وفصيلة من مهرة الرماة بالراشقات الخيالة (العمري : مسالك الأبصار. ترجمة جودفروا دو مومبين. باريس ١٩٢٧ ص ١٤٧) ترى هل كانت راشقات السهام المذكورة في آيير كان يتسلح بها تجار تواتّيون مقيمون في المدينة؟ وحتى القرن السادس عشر كانت راشقة السهام لا تزال مستخدمة في المغرب الأقصى ، ومن المؤكد انها كانت مستخدمة في توات ، حيث بقيت على شكل لعبة أطفال. وربما عن هذا الطريق وصلت الى آيير. ه. ل H.L hote.

(٦٧) وربما المقصود بهم قطاع الطرق من قوم دازا أو غوران ، وهم أقارب التدا ، وغريزة النهب لديهم ليست بأقل مما هي عند الآخرين.


ينتجعون وينصبونها حيث يرعون حيواناتهم ، كما يفعل العرب (٦٨) ، ويستمد الملك دخلا كبيرا من الرسوم التي يدفعها التجار الغرباء وأيضا من حاصلات البلاد ولكنه يدفع جزية تبلغ مائة وخمسين ألف دينار لملك تومبوكتو (٦٩).

__________________

(٦٨) يبدو وصف آغادس أمين جدا. وإذا كان جدار السور غير موجود اليوم ، فإن بقايا منه لا تزال ظاهرة في بعض الامكنة. ويوجد مخطط صغير في كتاب «الصحراء الفرنسية» تأليف كابوراي ، شكل ٢ ، والسكان زنوج حقا ، وينصّب ملكها من طرف طوارق قبيلة كل وي وكلغرس مجتمعين ، مثلما يخلع من طرفهم ، إذا لم يرضهم ، كما ذكر الحسن الوزان. أما الاخصاص من الأغصان أو من الحصر التي يسكنها البدو والتي ينقلونها على الثيران ، فهي عبارة عن أكواخ قابلة للنقل والتي تستحدم خاصة لدى كل وي ، وقد وصفت هنا بصورة صادقة ، ولا يشير الوزان الى انه زار آغادس ، والملاحظ أنه لا يذكر اسم آيير في هذا الفصل ، وهذا ما يثير الاستغراب. ولا يثق الجنرال ايبولار بكلامه ، إذ توجد «ثغرات» من ناحية أخرى ، ثغرات صارخة في وصفه المنطقة المحصورة بين النيجر والنيل ، ولكن يجب أن نعترف على كل حال بأنه استفهم عن هذه المنطقة بصورة صائبة ، عن أهلها وخاصة عن المدينة. ويروي الوزان أنه كان في بورنو ، وربما انه حصل فيها على المعلومات ، ولكن ايبولار يرفض ايضا هذه الفرضية ـ ه. ل.

(٦٩) إن تاريخ خضوع سلطان آغادس الى آسكيا يثير الجدل ، لأنه من المقبول عموما أن ذلك كان نتيجة حملة سونغائي في آيير والتي وقعت سنة ١٥١٥ م. وهذا هو رأي الباحثين دولافوس واورفوا اللذين عالجا هذه المسألة. ولكن كانت هناك حملتان وهذا ما سنحاول البرهنة عليه فيشير كتاب «تاريخ الفتاش» (ص ١٣٥) ضمنيا ان آسكيا قام بحملة سنة ١٥٠٠ م ضد منطقة آيير ويعبر عن ذلك بما يلي : «في عام ٩٠٦ ه‍ (بين تموز ١٥٠٠ و ١٦ تموز ١٥٠١) قام بحملة ضد تلدزه في الآيار حيث وصلت الكاكاكي [طبول صغيرة كانت تؤلف جزءا من الامتيازات الملكية في السلطنات الزنجية المسلمة في السودان ـ ه. ل] ، وهذا ما لم يحدث قبل ذلك. ويؤكد تاريخ السودان (ص ١٢٤) هذا الواقع ويقول : «خلال السنة السادسة من حكمه قام (اي آسكيا) بحملة ضد آيار وقسر تلدزه على الدخول في سلطته». وقد خطر ببال المترجمين هوداس ودولافوس ان هناك علاقة بين آيار وآيير ولكنهما لم يأخذا بهذه الفرضية ، ورجّحا عليها آيورو ، وهي بلدة واقعة على النيجر الأوسط. والواقع هو أن دولافوس في كتابه «السنغال الأعلى والنيجر» ج ٢ ص ٩٠ ترجم دون تحفظ آيار بكلمة آيورو ، وأشار الى أن تلدزه ، التي كتبها على شكل تيلديا ، يمكن ان تكون تيللا بيري. ويظهر على اورفوا اثناء كلامه عن قضايا آيير أنه يشك في حملة عام ١٥٠٠ م ، واخيرا لا يتمسك بدعواه (تاريخ سكان السودان الأوسط ص ١٧٢). ومع هذا يوجد مكان في آيير يحمل اسما قريبا جدا من اسم تلدزه والذي يتطلب النرضيح بصورة حاسمة ، لا سيما وأنه كان حوالي العام ١٥٠٠ مقر سلاطين هذه البلاد. وفي الواقع فإن مخطوط ب من تواريخ آغادس الذي نشره في «تواريخ آغادس ، أو حوليات ، جريدة الجمعية الافريقية ، مجلد ٤. ١٩٣٤ م فصل ٢ ، ص ١٥٤» يقول ما يلي : «وبعدئذ نهضت قبائل سندال الخمس لمواجهة السلطان ووجدوه في بلاد أعارم كتافاو [والمقصود بذلك بلدة آدوسيّه في قلب آيير ـ ه. ل] ونقلته الى بلاد تادوليزه ، لأن الثيران التي كانت تجلب الدخن الى آيير كانت تجهد كثيرا. وبعدئذ اقتادوه الى تينشمان وبنوا له حصنا. ولم يكن له من أصحاب سوى أناس من القبائل الأربع التي شيدت قصر السلطان ، وتقاسمت العمل فيما بينها ، أي قبيلة آموسّوفان. فهؤلاء هم الذين كانوا يسيطرون على بلاد بارغو [بوركو ، بلدة واقعة في جنوب شرق آيير ، والمكان الذي يتجمّع فيه اصحاب القوافل الذين يشتركون في قافلة بيلما ، في شمال التشاد ، قبل أن يجتازوا صحراء تينيره الرهيبة ـ ه. ل] في موقع تيغيّدا وآدربيسّينات. وبنوا بأنفسهم العمائر أمام المسجد الجامع في آغادس وثابر أحفاده السلاطين من بعده على سكنى هذه العمائر حتى أيامنا». ومما لا ريب فيه أن


__________________

ـ تداليزه المذكورة في الحولية ، هي بلدة لا تزال باقية وتقع على مسافة ٢٠ كم شمالي اغادس ، وهي تطابق تلدزه في كتابي «تاريخ الفتاش» و «تاريخ السودان». وأن آيار هي بالفعل آيير وليس آيورو. وتصبح هذه الفرضية توكيدا عندما نثابر على تدقيق النصوص. فحوليات آغادس تسرد بوضوح وقائع ستيز لنا الأحداث الهامة التي وقعت في ذلك العصر ، واستنادا إليها فإن السلطان الذي كان يمارس السلطة سنة ١٥٠٠ م هو محمد عبد الرحمن ، الذي حكم مدة تسع سنوات ومات وهو على رأس الحكم إذ اغتيل سنة ١٩٠٢ م ، ويذكر «تاريخ السودان» (ص ١٢٩) و «تاريخ الفتاش» (ص ٣١٩) من ناحية أخرى ، في عبارات مماثلة ، أن آسكيا شنّ معركة سنة ١٥١٥ م ضد العدلاء ، وهو سلطان آغادس. وهذا ينسجم بالواقع مع الحوليات (ص ١٥٢) التي تقول بعد الإشارة الى اغتيال محمد عبد الرحمن : «استلم بعد ذلك السلطة ابناء ناتي مللت ، محمد العادل [العدلاء في التاريخ ـ ه. ل] ومحمد حماد في ٩٠٨ ه‍ (١٥٠٢ م) ، وحكموا مدة اربعة عشر عاما ، وهو التاريخ الذي حاقت به مصيبة آسكيا». ولقد رأينا أن مقام سلاطين آيير كان بالتتالي : أسّوله ، تادليزه ، نيتشمان وآغادس وكان المقر في آغادس عندما قدم آسكيا الى آيير لأول مرة سنة ١٥٠٠ ، وهذا ما ينسجم مع الحملة ضد «تدلز» في آيار في الحوليات. ومن جهة أخرى نحن نعرف أنه في عام ١٥٠٢ قدم المغيلي الى هذه المدينة ليزور السلطان. أما إقامة السلاطين في نيتشمان ، كما توحي بذلك الحولية ، فلم تكن طويلة ، هذا وإذا قبلنا بأن الحسن الوزان مر بتومبوكتو سنة ١٥١٣ وأنه ذكر حينئذ سيطرة آسكيا على آغادس ، فيمكننا أن نستنتج من ذلك من ناحية أخرى ، أنه بين ١٥٠٢ م و ١٥١٣ أصبحت آغادس عاصمة سلاطين آيير وإن أول حملة يقوم بها آسكيا ، من ناحية أخرى ، حدثت على وجه الدقة ، سنة ١٥٠٠ ، لأن الثانية تعود لعام ١٥١٥ ، وأن الوزان لم يستطع ذكر سلطة آسكيا على آغادس. وهكذا تتفق كتب التاريخ مع حوليات آغادس ونص الحسن الوزان. وحوالي نفس الفترة جرى بناء أول جامع ، وليس الجامع الموجود اليوم ، والمؤرخ في أواسط القرن التاسع عشر ، بل الجامع الذي رآه بارت عند زيارته والذي كان له وضع مأثل جدا. وإذا كانت دهشته من أن آسكيا ذهب إلى آيير مع فاصل زمني مقداره أربعة عشر عاما ، فإن الوقائع تصبح مفهومة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن محمد بن عبد الرحمن الذي أعلن خضوعه حوالي سنة ١٥٠٠ ، قد اغتيل سنة ١٥٠٢. ولا تعطى الحولية سببا لهذا الاغتيال ، ولكن يمكن الافتراض أنه كان هناك سبب ونتيجة ، وأن هذا الخضوع كان ينص على جزية ثقيلة يجب دفعها ، وهذا هو السبب. أما خلفاؤه الذين حكموا في نفس الوقت مثل محمد العادل ومحمد الحماد واللذان كانا وراء هذا الاغتيال ، أو ربما كانا بطلي المعارضة ضد آسكيا ، فقد رفضا الدفع بالتأكيد ، والغالب أن هذا هو السبب الذي دفع بآسكيا لشن حملة ثانية على آيير ، ولكن هذه المرة ضد آغادس ، التي أصبحت عاصمة. وتقوم الحولية إن محمد بن تالاز هو الذي خلف عام ١٥١٦ ولدى فاتي مللت ، أي الحاكمين المشتركين اللذين ورد ذكرهما. وبما أن هذا التاريخ يعقب تاريخ الحملة السونغائية الثانية ، فإن من الممكن الظن بأن هذين الاثنين قتلا في المعركة أو أنهما أبعدا عن السلطة ، أو أن آسكيا قد أعدمهما ، وهو ما كان منسجما مع أخلاق العصر ونتيجة لمحاولتهما التملص من سيادة غاءو التي أقر بها سلفهما. وعندئذ كان على آسكيا أن يترك حامية عسكرية أو نوابا عنه في آغادس ، الذين أرسوا قواعد المستعمرة السونغائية ، والذين يحس بأثرها حتى أيّامنا. وبعد أن رتبنا الأحداث ، فإنه لا حاجة للتنويه بأن حملة آسكيا ضد ابن سوني علي ، اللاجىء في آيرو ، كما تصور ذلك دولافوس (ج. ، ص ٨٩) تسقط لتجنبها الصواب. وسنلاحظ أيضا أن في حولية آغادس ، قيل إن القبائل الخمس في الحلف كانت المهيمنة على كل الجزء الجنوبي من آيير وربما على كل الكتلة الجبلية «من بارغو إلى تيغيّده وإلى آدر بيسيّنات». وقد أشير إلى هذه المواقع على أنها آبار متاخمة للقسم الجنوبي من آيير ، أما بوركو ، فكان الموقع الأكثر بعدا نحو الشرق ، تماما على تخم صحراء التينيره وتيغيد انتسوت ويجب أن نعي هذه الناحية ، لأنه استنادا إلى رواية متداولة سجلها آبادي (مستعمرة النيجر ، باريس ١٩٢٧ ص ٢٧٦ هامش) ونفيد أن ملاحات تيغيده لم تكتشف إلا حوالي سنة ١٧٥٠ فإذا لم يكن المقصود تيغيدا تنسمت فإنه لا يمكن اعتبار دتغيد انتناغائيت أو تيغيدّ ان أدرار تخما غربيا لمنطقة آيير ، من ناحية ، وعلى طريق غاءو إلى آيير من ناحية أخرى ، وهو نهاية الخط في كلا الاتجاهين ـ ه. ل H.Lhote.


كانو

كانو (٧٠) إقليم كبير على مسافة خمسمائة ميل تقريبا إلى الشرق من النيجر (٧١). ويضم هذا الإقليم أقوامأ تسكن قرى وتعيش إما من تربية الأغنام والأبقار ، وإما من زراعة الأرض. ونجد فيها جبالا خاوية مليئة بالغابات والعيون. وفي هذه الغابات الكثير من شجر البرتقال والليمون البرية وتحمل ثمارا ذات مذاق لا يختلف كثيرا عن مذاق البرتقال والليمون المزروع.

وفي وسط هذا الإقليم مدينة استمد منها الإقليم اسمه. ولها جدار سور ، مبني من عواميد ومن طين. والبيوت مبنية من نفس المواد. ويتألف السكان من صناع متمدنين ومن تجار أغنياء. وقد كان ملكهم في الماضي قويا جدا. فكان لديه بلاط هام والعديد من الفرسان ، حتى لقد جعل من ملك زقزق ومن ملك كاسينه تابعين له. ولكن آسكيا ملك تومبوكتو (٧٢) تظاهر بأنه يريد القدوم لنجدة هذين الملكين فقتلهما غدرا واحتل مملكتيهما. وبعد ثلاثة أعوام أعلن الحرب على ملك كانو ، ثم أجبره ، بعد حصار طويل ، على التزوج بإحدى بناته ، وبأن يدفع له كل سنة ثلث دخله ، وترك في المملكة بضعة نواب وجباة لاستيفاء حصته من الضرائب.

كاتسنه ومملكتها

كاتسنه (٧٣) مملكة مجاورة للسابقة من الشرق ، وتتضمن الكثير من الجبال (٧٤) وأراضيها وعرة ، ولكنها جيدة للشعير والدخن. والسكان حالكو السواد. ولهؤلاء السكان أنوف غليظة بشكل قبيح وشفاه سميكة. وكل الأماكن المسكونة في هذا القطر هي قرى صغيرة مؤلفة من أكواخ القش ولجميعها منظر كريه. ولا يتجاوز سكان أية قرية ثلاثمائة أسرة. وهنا يجتمع الفقر والدناءة. وكان هؤلاء السكان في الماضي تحت

__________________

(٧٠) كانو مدينة هامة في بلاد الهوسا في جمهورية نيجيريا.

(٧١) ٨٠٠ كم.

(٧٢) نفس الملاحظة السابقة ، أي المقصود هو آسكيا الحاج محمد.

(٧٣) تقع كاتسنه على مسافة ١٦٠ كم شمال غرب كانو.

(٧٤) في الحقيقة لا يتعدى الأمر بضع قباب صخرية متواضعة الارتفاع.


حكم ملك ، ولكن هذا قتل على يد آسكيا ، وفني نصف السكان ، وأصبح آسكيا سيد المملكة كما سبق أن قلنا (٧٥).

زقزق ومملكتها

وهي بلد تتاخم كانو نحو الجنوب الشرقي (٧٦). ولكنها تقع على مسافة مائة وخمسين ميلا تقريبا عن كاتسنه (٧٧). وأهلها من الأغنياء الذين يزاولون التجارة فى كل المنطقة. وتنقسم هذه المنطقة قسمين : أحدهما حار جدا والآخر بارد (٧٨) حتى إن السكان لا يستطيعون احتماله في الشتاء ، فيضعون في أرضية أكواخهم مواقد كبيرة يوقدون فيها الكثير من الجمرات ويضعونها تحت سررهم المرتفعة نوعا ما وبذلك ينامون. وتنتج أراضيها فواكه وتكثر فيها المياه والغلال ، وتتشابه البيوت والقرى مع البيوت التي تكلمنا عنها آنفا. ويوجد فى هذه البلاد ملك مستقل ولكن آسكيا قتله وأعلن نفسه أيضا ملكا على هذه المملكة.

زنفاره

زنفاره منطقة تتاخم المنطقة السابقة الذكر من الشرق. ويسكنها بضعة أقوام أجلاف ومنحطين. وتتوافر الحبوب فى هذه البلاد وكذلك الأرز والدخن والقطن. وسكان زنفاره طوال القامة ولكنهم سود فاحمون مع وجوه طويلة كالبهائم ، ويقتربون

__________________

(٧٥) نفس الملاحظة السابقة رقم (٦٩) فيروي «تاريخ السودان» (ص ١٢٩) الوقائع كما يلي :

«في أواخر العام الثاني من حكمه (١٩ آذار ـ ١٥١٢ و ٩ آذار ١٥١٣) قام الأمير (آسكيا الحاج محمد) بحملة إلى كالشنه ، وعاد منها في ربيع الأول من العام العشرين ١٥ أيار (مايو) ـ ٦ حزيران (يونيو) ١٥١٣ م». ولا تذكر المصادر السونغائية أن كاتسنه كانت تابعة لامبراطورية غاءو ، ولكن هذا ما تؤكده مصادر الهوسا. انظر في هذا الموضوع : ١. اورفوا ، وتاريخ سكان السودان الأوسط. ص ٣٢. وهذه الفقرة عن كاتسنه مفقودة في ترجمة تامبورال ـ ه. ل.H.Lhote.

(٧٦) تقع زقزق أو زاريا إلى الجنوب الغربي من كانو. وزقزق أو زازّاء إنما جاء من اسم عاصمتها ، وكانت مأهولة بالأصل بقوم الهوسا الذين أجلوا في القرن السابع الميلادي نحو منطقة يوبيّه على يد جماعة كيسارا ، القادمين من الشرق ، وربما من مصر. ويعود تحولها إلى مملكة إلى القرن الحادي عشر ، وكانت عاصمتها حينئذ ريكيشي ، ثم ووششري. وفي النصف الأول من القرن الخامس عشر اجتاح المنطقة أناس قادمون من فوتاتورو ، وعلى رأسهم امرأة اسمها باكاء وتورونكو. وحملت العاصمة اسمها. ولا تزال خرائبها ماثلة للآن إلى الجنوب من زاريا. وقد تأسست هذه حوالي العام ١٥٣٥ على يد الملك الزقزقي الثاني والعشرين ، وقد تلاشت أسرته حوالي العام ١٨٠٢ م وحل محلها كما يظن أسرة من البهل (أنظر. اورفوا. تاريخ سكان السودان الأوسط. ص ٢٣١) ـ ه. ل H.Lhote.

(٧٧) وتتاخم هذه الأراضي نيجيريا الحالية.

(٧٨) تتمتع هضبة يوشي وحدها بحرارة لطيفة نسبيا نظرا لارتفاعها النسبي.


من الحيوان أكثر من الإنسان. وقد دسّ آسكيا السم لمليكهم وأباد قسما كبيرا من شعبه(٧٩).

مملكة وانغاره (٨٠)

وهي منطقة تتاخم المنطقة السابقة من الجنوب الشرقي (٨١). ويسكن هذه المنطقة شعب كبير ، يحكمه ملك يستطيع أن يعبىء سبعة آلاف من المشاة المسلحين بالقسي وحوالي خمسمائة فارس من الغرباء. ويجني دخلا كبيرا من رسوم البضائع ومن الرسوم التجارية. وكل الأماكن المسكونة عبارة عن قرى من القش ، باستثناء واحدة ، أكثر اتساعا وجمالا من الأخريات. والسكان أغنياء كثيرا لأنهم يذهبون مع بضائعهم لأقطار بعيدة ولأنهم يجاورون ، من الجنوب ، البلاد التي يوجد فيها الذهب بكمية كبيرة. غير أنهم لا يستطيعون اليوم ممارسة هذه التجارة الخارجية ، لأن لهم عدوين قويين وقاسيين هما آسكيا من الغرب وملك بورنو من الشرق. وعندما كنت موجودا في بورنو ، قام ملك هذه المملكة ، إبراهيم (٨٢) بجمع كل جيشه لمهاجمة ملك وانغاره. ولكن عندما وصل مقتربا من هذه المملكة بلغه أن عماره ، أمير غاءو ، يتجهز للسير على بورنو ،

__________________

(٧٩) تقع بلاد زنفاره أو زمفاره إلى الجنوب من غوبر وشمال غرب كاتسنه التي تفصلها عن زقزق ، وهي أكثر من ذلك إلى الجنوب ، وسكان هذه الدولة الصغيرة من أصل مجهول ، وربما كانوا سونغائي أو كانوري ، وقد اتخذوا فيما بعد لغة وعادات الهوسا. والحسن الوزان هو أول من أورد ذكرهم ونعرف القليل من الأشياء عن تاريخ هذه الأمة. وقد كانت لهم نزاعات ، في مناسبات عدة ، مع الطوارق الذين كانوا يذهبون لمزاولة التجارة في كبّي. وفقد هؤلاء استقلالهم حوالي أواسط القرن الثامن عشر الميلادي (انظر. أ. أورفوا ، تاريخ سكان السودان الأوسط. ص ٢٤٥) ـ ه. ل Lhote H ..

(٨٠) وانغارا «هذه الغوانغاره أو وانغاره ، ليست كما ظن بارث ، هي وانغارا الحقيقية في الغرب ، أي امبراطورية مالي. بل هي دولة نشأت في بلاد الهوسا في القرن الثالث عشر ، حول مهاجرين وفدوا من وانغاره والتي ظلت خلال ثلاثة قرون أقوى دول الهوسا وأكثرها نشاطا. ونشاطها التجاري كان على قدر من الأهمية. وقد اندمجت في القرن الخامس عشر مع مملكة كاتسنه المتوسعة». (مذكرة. أ. أورفوا «تاريخ امبراطورية البورنو» مذكرة بجث إيفان ، رقم ٧. اريس. دار لاروز ١٩٤٩ م ص ٦٧ هامش ٥)

(٨١) سيقول المؤلف فيما بعد أنها تقع إلى الغرب من بورنو. ويبدو أنه يقصد تسّاوه ، الواقعة شمال شرق زنفاره ، وشمال كانو ، وشمال غرب بورنو. ويوجد موقع في تساوه يدعى غمفاره. ويدل اسم وانغاره في أيامنا هذه على مجموعة من تجار من الهوسا مبعثرين فى هذه الأقاليم السودانية. ومن المحتمل أنهم أحفاد مهاجرى القرن الثالث عشر ـ ه. ل Lhote H ..

(٨٢) استنادا إلى أ. أورفوا (تاريخ بورنو. مذكرة إيفان. باريس ـ لارز ١٩٤٩ م ص ٦٧). وهنا وقع الحسن الوزان فى خطأ. فقد كان هناك ملك واحد حكم من ١٤٣٢ إلى ١٤٤٠ واسمه إبراهيم.


فترك مشروعه فورا كي يعود ، على عجل ، إلى مملكته. وكان هذا من حسن حظ ملك وانغاره. ويضطر تجار وانغاره ، حينما يسافرون لبلاد الذهب أن يجتازوا جبالا عالية ووعرة لا تستطيع حيوانات النقل اجتيازها. فينظمون أنفسهم كالتالي : يحمل عبيدهم على رءوسهم البضائع والأشياء الضرورية لهم ، والموضوعة في قشور قرع عريضة وعميقة. ويستطيع كل عبد أن يقطع عشرة أميال (٨٣) سيرا وحتى أكثر من ذلك مع حمل مقداره مائة رطل (٨٤) على الرأس. ورأيت منهم من يقوم بقطع هذه المسافة مرتين في نفس اليوم. وليس لديهم شعر فوق الجمجمة بسبب الثقل العظيم الذي اعتادوا حمله. وينقلون ، فيما عدا البضائع الأقوات لسادتهم ولكل العبيد المسلحين والمستخدمين في خراسة التجار (٨٥).

بورنو ومملكتها

البورنو (٨٦) إقليم كبير يتاخم وانغاره في الغرب ويمتد شرقا على مسافة خمسمائة ميل (٨٧) تقريبا ويبعد حوالى مائة وخمسين ميلا (٨٨) عن العين التي ينبع منها نهر النيجر (٨٩). ويتاخم من الجنوب صحراء سو. ومن الشمال يتاخم أيضا الصحارى التي تقابل برقة. ويحوى هذا الإقليم مواقع متنوعة. فبعض المناطق جبلية ، والأخرى مؤلفة من سهول. ويوجد هنا فى السهول العديد من القرى المسكونة بأناس متمدنين وبباعة أغراب ، من سود وبيض. وفي أكبر هذه القرى يقيم الملك مع جنده.

أما الجبل فمأهول برعاة يرعون ماعزهم وأبقارهم. ويزرع فيه الدخن أيضا وبعض الحبوب الأخرى التي لا نعرفها. ويتجول أهل البلاد عراة فى فصل الصيف ، مع فوطة من جلد ، أما في الشتاء فيسترون جسومهم بجلود الأغنام التي يستخدمونها

__________________

(٨٣) ١٦ كم.

(٨٤) ٣٤ كجم.

(٨٥) يبدو أن المؤلف قد خلط هنا ذكريات قراءاته مع معلوماته عن وانغاره في السودان الغربي ، أي رامبوك ؛ بلاد الذهب ، مع ما استطاع أن يعرفه عن وانغاره في السودان الأوسط. وفضلا عن ذلك فإن النقل بواسطة الآدميين هو أمر يمارس في كل إفريقيا السوداء.

(٨٦) بورنو هو إقليم نيجيريا الشمالية الحالية.

(٨٧) ٨٠٠ كم.

(٨٨) ٢٣٠ كم.

(٨٩) يقول المؤلف في كتابه الأول إن النيجر ينبع في صحراء سو ، ساءو ، وهي بحيرة كبيرة جدا ، أي بحيرة التشاد.


أيضا كمفرش. وهؤلاء أناس لا ديانة لهم ، لا نصرانية ، ولا يهودية ، ولا اسلامية ، بل هم بلا إيمان كالحيوانات. ولهم نساء وأولاد على طريق الشيوع. وبناء على ما سمعته من تاجر عاش فى هذه البلاد ويفهم لغتها ، أنه لا يسمى الواحد منهم باسم خاص كما هو الشأن فى البلاد الأخرى ، وإنما يطلق عليه الوصف الخاص بقامته أو ببعض أجزاء جسمه. فإذا كان ذا قامة طويلة مثلا سمّي بالطويل ، وإذا كان قصر القامة سمى بالقصير. وإذا كان أحول العينين سمى الأحول. وهكذا يميز الناس بأوضاع أجسامهم الخاصة وما أصيبوا به.

وهذا الإقليم تحت قيادة أمير قوى جدا ، أصله من برداوه ، قوم من ليبيا (٩٠) ولديه قرابة ثلاثة آلاف فارس وما يقارب ذلك من المشاة لأن كل الشعب فى خدمته. وهو يقودهم حيث شاء ، لأنه لا يتطلب منهم أية ضريبة سوى عشر منتجات الأرض (٩١) ، وليس للملك من دخل سوى ما يوفره له النهب وقتل جيرانه الذين هم أعداؤه. وعدد السكان كبيرا جدا ويعيشون فيما وراء صحراء «سو». وكانوا فى الماضي يجتازون هذه الصحراء سيرا على الأقدام ويخربون كل مملكة بورنو. ولكن الملك الحالي استدعى تجارا من بلاد البربر لجلب خيول له كي يبادلوها بالعبيد ، أى حصان واحد مقابل خمسة عشر عبدا أو عشرين. وكان يقوم بواسطة هذه الخيول بحملة ضد العدو ويجعل التجار ينتظرون مدة شهرين أو ثلاثة ويعيشون في تلك الفترة على حسابه ، وعند عودته من حملته كان يجلب ما يكفي من عبيد ليسدد بهم ثمن الحيوان. ولكن قد يضطر هؤلاء في بعض المرات للانتظار حتى العام التالي لأن الملك لا يكون لديه ما يكفي من رقيق لتسديد حقوقهم ، ولا يمكن القيام بحملة ، بدون أن يتعرض لخطر ، إلا مرة في العام. وعندما قصدت هذه المملكة وجدت فيها عدة تجار بائسين ويودون العزوف عن هذه التجارة وألا يعودوا مطلقا إلى هذه البلاد ، لأنهم ينتظرون هنا منذ عام على أمل تسديد حقوقهم. غير أن الملك يتيه فخرا بثرائه وبالخزينة العظيمة التي يملكها ، ورأيت كل تجهيزات خيوله ، والمهاميز ، والركابات ، والأعنة

__________________

(٩٠) لنتذكر أن المؤلف يجعل من البرداوة أناسا بيض اللون من نفس عرق الطوارق ، في حين أنهم زنوج من عرق فريد هو التدا ، وتنقل الروايات المحلية لنا بالفعل أن التدا قدموا من كانم فقضوا على قوم الساءو أو اندمجوا بهم فتشكلت أقوام الكانوري أو البورتوان. انظر. ـ. بالمر. البورنو في الصحراء الكبرى والسودان. ج. موراى ، ١٩٣٦ م. وأ. ا. أورفوا. بتاريخ البورنو. مذكرة إيفان ، رقم ٧ ، باريس. دار لاروز ١٩٤٩.

(٩١) أي الضريبة الإسلامية الشرعية على ما تنتجه الأرض ، أي العشر.


واللجامات ، وكلها مصنوعة من الذهب (٩٢) ، كما أن القصعات والأواني الأخرى التي يستخدمها لطعامه وشرابه هي أيضا من الذهب الخالص. غير أن هذا الرجل ، كما سبق أن قلنا ، بخيل جدا ويرجح التسديد بالرقيق وليس بالذهب.

ويضع تحت سلطته بضع ممالك. ولكن كل البلاد التي يسيطر عليها تسمى بورنو عند البيض ، إذ لم تحدث رحلات كافية في هذه البلاد لمعرفة خصائصها وإطلاق اسم خاص على كل منها. وهذه هي حالتي على الخصوص لأنني لم أمكث فى هذا الإقليم سوى شهر تقريبا (٩٣).

غاوغه ومملكتها

وهو إقليم يتاخم إقليم بورنو من الغرب ، ويمتد شرقا حتى حدود مملكة نوبيا ، التي تقع على النيل ، وتنتهي جنوبا بصحراء تتاخم أيضا عكسا يصنعه النيل ، وتمتد شمالا حتى صحراء سيرت وحدود مصر. وهي تمتد غربا فى شرق على مسافة خمسمائة ميل تقريبا. وعرضا على نفس المسافة تقريبا (٩٤).

__________________

(٩٢) تكون قطع تجهيزات الخيول ، كاللجامات والأعنة والركابات ومسند السرج ، مزدانة بصفيحات من نحاس منقوشة برسوم تزيينية ، مثقبة ومضغوطة لتعطي أجمل شكل. وربما يريد المؤلف أن يحكي لنا عن هذا البذخ الفريد جدا فى التجهيزات ، ومن المتوقع أن يكون جهاز حصان السلطان مجهزا بصفائح ذهبية ، لأن هذه الصفحات رقيقة للغاية ، ولأن الكمية اللازمة من هذا المعدن الثمين ليست كبيرة جدا.

(٩٣) لقد انحدر البورنوويون من بربر زغاوة الذين يعتبرهم ابن خلدون منحدرين من هواره والذين أشار إليهم الإدريسى فى جوار آيير (نيتشامان). ويعتقد أنهم قدموا إلى بورنو حوالى القرن التاسع الميلادي حيث تهجنوا مع زنوج ساءو الذين كانوا يقيمون هنا ، وعن هذا الخليط نتج الكانوري ، الذين يمثلون النموذج الزنجى غير الفاحم. وإذا قبلنا أن هذه الموجات قد استمرت حتى القرن الثالث عشر الميلادى فمن الممكن القول أنه كانت هجرات قبل القرن التاسع الميلادى بكثر ، لأنه من المعتقد أن قبائل بيضاء ، من أصل ليبى ، سبق لها أن وصلت إلى التشاد حوالى مطلع التاريخ الميلادى. وفى القرن الثالث عشر كانت دولة كانم ـ بورنو تسيطر على كل منطقة التشاد. وبعدئذ تعرضوا للاجلاء غربا على أيدى البولاله ، وراحوا يستقرون على ضفاف نهر بوبه. وبعد مرور فترة غير زاهرة كثيرا ، توحدت قبائل الكانورى من جديد بقيادة ماى على غازى دوناغام ، حوالى عام ١٤٧٧ ، وهو الذى عرف كيف يعطى مملكته بريقا لم تدركه أبدا في السابق واستمرت شهرتها هذه حتى القرن الثامن عشر. وبقيت مملكة بورنو حتى عام ١٨٩٣ ثم انضوت تحت سلطة السلطان رباح (انظرا. أورفوا. تاريخ شعوب السودان الأوسط ، ص ٣٢١) ه. ل H.L hote.

(٩٤) من الطبيعى أن تكون هذه الحدود مبالغا فيها. فمملكة بواله ، المعروفة باسم غاوغه ، كانت تتاخم فى اتجاه كانم من الغرب ، مملكة بورنو فعلا : ولكن حدودها من سائر الجهات الأخرى كانت غامضة جدا ، ففى الشرق ، حيث لم تكن مملكة النوبة قد قامت فعلا قبل ١٥٠٤ كانت القبائل العربية تتوغل حينئذ حتى دارفور ، ولأبعد من ذلك. ولكنها توقفت فى الشمال فى صحراء مأهولة بالتبو ، وفى الجنوب كانت القبائل العربية تتوغل حينئذ حتى دارفور ، ولأبعد من ـ


ولا توجد هنا حضارة ، ولا معرفة بالآداب ، ولا حكومة. وأهل هذه البلاد أغبياء ، ولا سيما الذين يعيشون فى الجبال. وهم يمشون عراة فى الصيف دون أى لباس سوى نوع من سروال قصير من جلد يستر عوراتهم. والبيوت هى أخصاص من أغصان تحترق بمجرد هبوب أدنى ريح ، ويربون قطعانا كبيرة من الأغنام والأبقار.

وقد عاش هؤلاء فى حرية لفترة طويلة. ولكن منذ مائة عام حرمهم إياها عبد أسود من هذه المنطقة. فقد جاء سيده إلى هنا ، وكان تاجرا غنيا جدا. وعند ما رأى نفسه قريبا من بيته اغتال سيده بينما كان هذا نائما لا تساوره أية ريبة واستولى على ما كان معه من أموال ، وكانت تتمثل فى أحمال جمال عديدة ، ومنسوجات وأسلحة. ثم عاد لبيته واقتسم كل هذه بين ذويه وأصدقائه.

وبعد أن أشترى بضعة رءوس من الخيل من تجار بيض ، راح يقوم بحملات على أراضى أعدائه. وقد كان النصر حليفه على الدوام لأن رجاله كانوا مسلحين بأسلحة حديثة ، فى حين لم يكن لدى خصومه سوى أقواس من خشب. واستطاع أن يجمع الكثير من الرقيق الذين كان يبادلهم بالخيول القادمة من مصر ، وراح عدد جنوده يتزايد ، وكان مطاعا من الجميع ، لأنهم كانوا يعتبرونه زعيمهم وأميرهم.

وخلفه بعد موته ابنه ، ولم يكن ابنه هذا أقل بسالة ولا أقل إقداما منه. وظل يمارس السلطة مدة أربعين عاما. ثم حكم بعده أحد إخوته المدعو موسى ، الذى خلفه أحد أحفاده المسمى عماره ، وهو الذي يحكم اليوم. وقد استطاع هذا أن يوسع رقعة أملاكه كثيرا ، وبفضل هداياه ومجاملاته استطاع أن يكسب صداقة سلطان القاهرة ورعايته ، فأرسل له أسلحة وأقمشة وخيولا. وكان يدفع ضعف ثمنها كى يظهر كريما ، حتى إن تجار مصر لا يذهبون لأبعد من بلاطه ، وكان الكثير من فقراء القاهرة يأتون لمقابلته حاملين إليه بعض الهدايا الجميلة والنادرة ، ويدفع لهم ضعف ثمنها ، وكان لا يخرج أحد من عنده إلا وهو مغمور بفضله وفرح بما ناله منه. وكان يعامل الناس المثقفين ـ ولا سيما الذين ينتسبون لآل البيت ـ بكثير من مظاهر الإكرام. وقد كنت حاضرا حينما وقد عليه رجل من دمياط وقدم له حصانا غاية في الجمال ، وسيفا

__________________

ـ ذلك ، ولكنها توقفت في الشمال في صحراء مأهولة بالتبو ، وفي الجنوب كانت تصطدم بقبائل عديدة فى بلاد نهر شارى وروافده. ر ـ م.R.Mauny.


تركيا ، وقميصا من الزرد ، وطبنجة ، وبعض المرايا الجميلة ، وسبحات من مرجان ، وبعض السكاكين ، ولا يتجاوز ثمن هذا كله خمسين دينارا في القاهرة (٩٥) ، ولكن الملك أعطاه في مقابل ذلك خمسة من العبيد ، وخمسة جمال ، وخمسمائة دينار من عملة البلاد ، وحوالي مائة من أنياب الفيلة (٩٦).

النوبة ومملكتها

تتاخم مملكة النوبة (٩٧) المملكة السابقة الذكر ، أي مع صحاريها نحو الغرب. تمتد على طول النيل ، وتتاخم من الجنوب صحراء القرعان (٩٨). وتتاخم أرض مصر من الشمال.

ولا يمكن الذهاب بواسطة الملاحة من النوبة إلى مصر ، لأن ماء النيل ينتشر في سهل وهو ضئيل العمق حتى ليعبر الناس والحيوانات هذا النهر خوضا على الأقدام (٩٩).

وفي هذه المملكة مدينة رئيسية تدعى دنقلة (١٠٠). وهي مأهولة بشكل طيب للغاية ، وتضم حوالي عشرة آلاف أسرة. ولكن كل بيوتها قبيحة ومبنية بأعمدة رفيعة ومن الطين. والسكان أغنياء ومتحضرون لأنهم يزاولون في القاهرة وفي كل مدن مصر تجارة الأقمشة والأسلحة وسائر البضائع الأخرى (١٠١).

__________________

(٩٥) أي ٥٠ شرفيا.

(٩٦) غاوغة تعني بلاد واقعة إلى الشرق من التشاد ، أى مملكة رواله ، وهذا الاسم هو نفس عبارة كاوكه أو كوغه لدى المؤلفين العرب ، وهي أسماء لم يتم التحقق منها جميعا. وكانت هذه المملكة تتمركز على نهر ياءو فيتري.

(٩٧) لقد تقوضت مملكة دنقله النصرانية على أيدى العرب فى بداية القرن الرابع عشر ، ولكنها بقيت فى الجنوب آخر مملكة نصرانية ، وهي مملكة علوة ، التي أخضعها الفونج سنة ١٥٠٤.

(٩٨) كوران أو على الأصح القرعان ، وهو الاسم الذى أطلقه العرب على دازا من مجموعة ييدا ـ دازا الذين يعيشون حاليا شمال بحيرة التشاد وفى الشمال الشرقى حتى بوركو وفى اينيدى فى شمال شرق التشاد ـ ت. م ود. م.R Mauny Th.Mond ,

(٩٩) على العكس يصلح النيل للملاحة هنا ، ولكن الشلالات هى التي تقطع الطرق الملاحية.

(١٠٠) كانت ذنقلة عاصمة بلاد النوبة بعد ناباته ومروة.

(١٠١) يطلق على هؤلاء النوبيين بالعربية اسم برابرة ، والفرد بربرى ، ومنها كانت العبارة الفرنسية بار باران. وهم زنوج وليسوا ببربر ، وربما كانوا من ذوى الدماء المختلطة منذ عصور موغلة في القدم.


وتقوم قرى على ضفتى النيل فى بقية المملكة ، وهى مأهولة بالزراع ، وتكثر الغلال فى كل بلاد النوبة ، وكذلك السكر ، ولكن لا يعرفون طريقة طبخه ، حتى إنه يصبح أسود اللون وكريها. ويوجد فى دنقله الكثير من قط الزبّاد ومن خشب الآبنوس الكاذب أو السانغو (١٠٢) ، وكذلك العاج بكمية كبيرة لأنه يجرى صيد الكثير من الفيلة كما توجد هنا سموم غاية فى الشدة. فحبة (١٠٣) من أحدها ، إذا ما وزعت به عشرة رجال قتلتهم فى خلال ربع ساعة. وسعر هذه السموم يعادل مائة دينار للأونسة (١٠٤). ولا تباع للأجانب إلا مقابل تأمين ، وحتى قسم ، بأنهم لن يستعملوها فى بلاد النوبة. ويدفع المشترى للملك ضريبة تعادل ثمن السم. ولهذا لا يجرؤ أى واحد أن يبيع منه سرا خشية أن توقع عليه عقوبة الإعدام. وملك النوبة فى حالة حرب دائمة ، تارة ضد القرعان ، الذين ينتسبون لعرق مشابه لعرق الزنغاري (١٠٥) ، والذين يعيشون بحالة بائسة فى الصحراء ولا يفهم أحد لغتهم ، وتارة مع نوع آخر من الناس الذين يعيشون فى الصحراء أيضا ولكن فى القسم الواقع إلى الشرق ، فيما وراء النيل. وتمتد هذه الصحراء حتى البحر الأحمر ، تجاه تخوم سواكن.

ويتكلم هؤلاء لغة أعتقد أنها مخلوطة بالكلدانية ، والتى تقترب كثيرا من اللغة التى يتكلمها أهل سواكن وفى الحبشة العليا وحيث يوجد مقر البطريق يوحنا. ويدعى هذا الشعب البجا (١٠٦) ، وهم رجال من سفلة القوم ، رديئو الهندام وفقراء ، يعيشون على الحليب ولحم جمالهم ومن الصيد البرى. وبنالون أحيانا بعض المعونات من أمير سواكن أو من أمير دنقله.

وكان لهم فى الماضى مدينة ضخمة على البحر الأحمر تدعى عيذاب ، حيث كان يقوم ميناء واقع مباشرة تجاه ميناء جدة الواقع على مسافة أربعين ميلا من مكة (١٠٧).

__________________

(١٠٢) واسمه العلمي DalBergia Melanoxylon

(١٠٣) أي ٤٩ ميلجرام.

(١٠٤) أي شرفي مصري والأونسة ٢٨ جرام.

(١٠٥) أي البوهيميين أو النور.

(١٠٦) فى العربى بجا بضم الباء ، ولغتهم خاصة بهم هي اللغة البجاوية ، التي تتلاشى شيئا فشيئا أمام اللغة العربية ، والبجا هم قوم بلّميس فى العصور القديمة.

(١٠٧) الحقيقة ٥٥ ميلا أو ٨٧ كم.


ولكن منذ مائة عام خلت قام هؤلاء بنهب قافلة كانت تنقل السلع والأقوات إلى مكة ، فاستشاط سلطان مصر غضبا ، وأرسل عن طريق البحر الأحمر أسطولا احتل مدينة عيذاب ، وميناءها وخربها (١٠٨) وكان الميناء والمدينة تعود عليه بعوائد تقدر بمائة ألف شرفي ذهبي. ونجا البجاويون والتجأوا إلى دنقلة وإلى سواكن حيث يكسبون عيشهم قليلا قليلا. ولكن بعد قليل قام أمير سواكن ، بدعم من الأتراك المسلحين بالطبنجات وبالقسى ، وألحقوا بهم هزيمة منكرة إذ سقط منهم في خلال معركة واحدة أكثر من أربعة الاف قتيل من بين هؤلاء الرعاع الذين يعيشون عراة. كما اقتيد ألف منهم إلى سواكن حيث تولى ذبحهم النساء والأطفال.

ذلك هو كل ما قدرت أن أكتبه بإيجاز عن بلاد السودان. ولا يمكن إعطاء معلومات أكثر تفصيلا عنه ، لأن كلا من هذه الممالك الخمس عشرة تشابه الأخرى فى طيعة بلادها وفى حضارتها ، وعادات السكان ونمط حياتهم. وهم تحت حكم أربعة ملوك (١٠٩).

وسأتابع الآن حديثى عن مصر.

__________________

(١٠٨) لم يمكن العثور على آثار عن مدينة عيذاب ، ولا زال موقع المدينة غير مؤكد ، وقد تخربت عيذاب حوالى العام ١٤٢٥ م.

(١٠٩) أي من قبل ملك تومبوكتو ، ملك بورنو ، ملك غاوغة ، وملك النوبة.



الجزء الثامن



(مصر)

لإقليم مصر الشهير (١) من الغرب حد هو صحاري برقة ، وصحراء نوميديا وليبيا ، وتتاخم من الشرق الصحاري الواقعة بين النيل والبحر الأحمر. وتدرك البحر الأبيض المتوسط من الشمال. وتتاخم من الجنوب بلاد البجا ، والأمكنة التي تشغلها على النيل. ويبلغ طولها بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد البجا حوالي أربعمائة وخمسين ميلا تقريبا (٢) ، ولكن عرضها شبه معدوم ، لأنه لا يمثل سوى القليل من الأراضي المزروعة التي توجد على ضفتي النيل ، والذي يجري بين جبال يابسة تطيف بالصحاري التي فرغنا من الكلام عنها قبل قليل. والحق يقال إن لمصر بعض العرض قرب البحر الأبيض المتوسط لأن النيل ، على مسافة ثمانين ميلا في عالية القاهرة ، ينقسم إلى فرعين ، أولهما أي الغربي يلتقي بالفرع الرئيسي بعد ان تولد عنه (٣) ، وعلى مسافة ستة عشر ميلا في سافلة القاهرة (٤) ينقسم النيل من جديد إلى فرعين ، يذهب أحدهما إلى رشيد ، والثاني إلى دمياط. وينفصل عن نيل دمياط فرع جديد ينقلب إلى بحيرة (٥) ولكن يبقى ، مع ذلك ، ممر يصل هذه البحيرة بالبحر (٦) وعلى هذا الممر تقع تينس ، وهي مدينة تعود لتاريخ قديم جدا (٧). وبما أن النيل يتشعب بهذه الطريقة نرى مصر تزداد عرضا كما سبق أن قلنا. وكل أقاليم مصر هي عبارة عن سهل خصيب بالغلال والخضر وتملك مراعي ممتازة للمواشي وكمية لا حصر لها من الدجاج والأوز.

__________________

(١) لا يعطي المؤلف إلا هذا العنوان ، أي إقليم ، لأن مصر كانت فعلا في ذلك العصر إقليما من الامبراطورية العثمانية.

(٢) ٧٢٠ كم وهو رقم صحيح تقريبا. بالنسبة للمسافة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وأسوان على خط مستقيم.

(٣) الواقع ليس للنيل فرعان ، بل على مسافة مائة وثلاث وتسعين ميلا عن القاهرة ، وليس ثمانين ميلا ، ينفصل عنه فرع متعرج ، مواز تقريبا للنهر ، هو بحر يوسف الذي كان يتصل بالماضي بأحد فرعي دلتا النيل في سافلة القاهرة ، والذي يذهب منه قسم لري الفيوم.

(٤) أي ٢٦ كم.

(٥) أي بحيرة المنزلة.

(٦) وهو مصب النيل التانيتي القديم.

(٧) تانيس ، ولم يبق فيها سوى أطلال ، وهي بالفعل فوق جزيرة في بحيرة المنزلة ، على مسافة ٩ كم جنوب شرقي بور سعيد.


ولكل أهل هذه البلاد لون بشرة أسمر. غير أن للذين يسكنون المدن لونا أبيض. وهم جيدو الهندام. فيلبسون ثوبا ضيقا مخيطا فوق الصدر. وبعد ذلك يكون مفتوحا حتى القدمين مع أكمام ضيقة أيضا. ويضعون فوق رأسهم عمامة ملفوفة حول قلنسوة من وبر. ويضعون في أقدامهم نعالا من الطراز القديم ، وللقليل منهم عادة لبس أحذية. ويلبسون هذه الأحذية بعد ثني مؤخرتها تحت الكعب. ولباسهم في الصيف قماش القطن المقلم بالألوان. وفي الشتاء يحشى هذا القماش بالقطن ، أو المبطنة ، ويسمى هذا اللباس الهبرية ، أما التجار والشخصيات المرموقة فيلبسون أقمشة أوربية.

والمصريون أناس طيبون ، لطفاء المعشر ، يغلب عليهم الكرم. ويستخدمون الكثير من الحليب ومن الجبن في غذائهم. ولكنهم يستهلكون أيضا الكثير من اللبن الزبادي أو من الحليب الذي يخثرونه بطرائق خاصة بهم. وهم يكثرون من تمليح أجبانهم. ولا يستسيغ الغريب الذي لم يعتد على طعامهم أن يأكل ما يأكلونه ، وهم الذين يتلذذون به. ويضعون اللبن الحامض في كل أنواع الحساء عندهم.

أقسام إقليم مصر

في عصرنا ؛ أي منذ أن أخذ المسلمون يهيمنون على هذا الإقليم (٨) ، قسمت مصر إلى ثلاثة أجزاء. فما بين القاهرة حتى رشيد ، يدعى الريف ، أي الساحل. ومن القاهرة باتجاه العالية حتى تخوم البجا (٩) يدعى الصعيد ، أي الأرض الزراعية (١٠). أما القسم الواقع بين فرعي النيل الذاهب إلى دمياط وإلى تينس فيدعى البحرية ، نسبة إلى البحر.

ولهذه المناطق الثلاث درجة قصوى في الخصب والوفرة. ولكن الصعيد ينتج على الخصوص الحبوب والخضر والمواشي والطيور والكتان. ويقدم الريف الثمار والأرز ،

__________________

(٨) أي منذ ٦٤٢ ه‍ «أي بعد وفاة الرسول بعشرة أعوام تماما» (المترجم).

(٩) «العالية أي باتجاه المنبع ، والسافلة باتجاه المصب ، والعالية هي بالإنجليزيةupstream أوamont بالفرنسية ، في حين تقابل السافلة كلمةdownstream الإنجليزية أوaval بالفرنسية» (المترجم).

(١٠) أي الأرض التي تصعد من حيث الارتفاع.


وتنتج البحرية القطن والسكر وبعض الثمار المسماة الموز. هذا وسكان الريف ومصر البحرية أكثر تطورا من أهل الصعيد ، لأن هاتين المنطقتين أقرب للبحر ، ويقصدهما غرباء قادمون من بلاد البربر ومن أوربا ومن بلاد آشور : أما أهل الصعيد الذين يعيشون في داخل الأراضي فلا يرون أجانب أبدا. وهم يقطنون فيما وراء القاهرة. وليس من عادة الغرباء ، باستثناء بعض الأحباش ، أن يذهبوا إلى تلك البلاد.

أصل المصريّين وأنسابهم

يعود المصريون ، كما كتب موسى (١١) ، من حيث الأصل إلى مسرائم بن كوش بن حام بن نوح (١٢). ويطلق العبرانيون على هذه المنطقة وعلى سكانها نفس الاسم ، وهو اسم مصريين (١٣). ولكنهم يطلقون على السكان اسم القبط ، ويقولون إن قبط كان أول من حكم هذه البلاد وبنى فيها البيوت (١٤). وأهل البلاد نفسهم يسمون بعضهم بنفس الطريقة (١٥) ولكن لم يبق من هؤلاء المصريين الحقيقيين سوى النصارى الموجودين فيه حاليا. وكل من عداهم فهم من معتنقي الديانة الإسلامية وينتسبون إلى العرب وإلى الأفارقة.

وقد ظلت مملكة مصر لمدة طويلة تحت حكم المصريين ، أى الفراعنة ، الذين كانوا ملوكا عظاما ، وأقوياء جدا كما تشهد على ذلك آثار من أبنية بديعة وعجيبة. ولا زال التاريخ يتكلم عنهم كما يتكلم عن البطالسة. ثم سقطت مصر بيد الرومان فى أعقاب زواج ... (١٦) التي كانت تحكم حينئذ بقائد رومانى كبير ، كما يذكر التاريخ ذلك.

__________________

(١١) منذ عهد قريب لم يعد ينسب إلى موسى كتابة الأسفار الخمسة [يقصد بها الأسفار التي يعتبرها اليهود التوراة ، وهي أسفار التكوين والخروج والتثنية والعدد واللاويين]. انظر كتابنا «الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام» ص ، ١٦ ، ١٧ (المراجع).

(١٢) يشير سفر التكوين فقرة ٦ من الإصحاح العاشر أن مسرائيم هو ابن حام وأخو كوش.

(١٣) والحقيقة أن عبارة مسرى أو مصرى كانت الاسم البابلي لمصر.

(١٤) ألواقع هو أن قبط هو تحريف عربي لاسم قديم جدا حرفه اليونانيون إلى آيجيبتيوه والذى تحول عند الأوربيين إلى إيجبسيان.

(١٥) أي الأقباط.

(١٦) في المخطوط هنا أبيض ، لأن المؤلف لم يتذكر اسم كليوباتره ، التي تزوجت أنطونيو.


وبعد بعثة المسيح أصبح المصريون نصارى ، غير أن مصر ظلت تؤلف جزءا من الامبراطورية الرومانية. وعندما انهارت هذه الامبراطورية ، انتقلت مصر إلى امبراطورية القسطنطينية وبذل الأباطرة اهتماما كبيرا للاحتفاظ بهذه المملكة.

وأخيرا وبعد ظهور محمد (صلّى الله عليه وسلّم) احتل المسلمون مصر. وقد استولى عليها عمرو بن العاص ، قائد جيش عربي لدى الخليفة الثاني عمر (١٧) وقد ترك عمرو لكل فرد الحق في ممارسة ديانته ، ولم يطلب منهم شيئا آخر سوى الجزية.

وبنى على ضفة النيل مدينة صغيرة سماها العرب الفسطاط ، والتي تعني في لغتهم «الخيام» وذلك أن عمرو عندما قام بحملته وجد هذه البقعة خالية تماما من السكان وغير مزروعة ، مما جعل الجيش يقيم تحت الخيام (١٨). وتسمي عامة الشعب هذه المدينة مصر العتيقة (١٩) ، أي المدينة القديمة ، وهذا بالنسبة للقاهرة التي هي المدينة الجديدة ، إذ جاز القول.

وهناك الكثير من العلماء اللامعين في الوقت الحاضر ، من مسلمين ونصارى ويهود ، يرتكبون خطأ الاعتقاد بأن مصر كانت المدينة التي كان يسكنها فرعون موسى وفرعون يوسف. والحقيقة كانت عاصمة فرعون تقع في القسم الإفريقي من مصر ، أي على ذراع النيل الذي يمر إلى الغرب (٢٠) ، وحيث تقوم الأهرامات. وتنقل الكتب المقدسة نوعا من شاهد على ذلك في سفر التكوين ، عندما يروي أن اليهود قد أجبروا على بناء أفتون ، وهي مدينة بناها الفراعنة في عصر موسى ، وهي أيضا على الضفة

__________________

(١٧) وهو عمرو بن العاص. لقد تم الفتح الإسلامي لمصر في خلافة عمر بتاريخ كانون الأول (ديسمبر) ٦٣٩ إلى تشرين الثاني (نوفمبر) ٦٤١ وهو التاريخ الذي تم فيه التوقيع على التسليم وإن تخلي فيه القوات الامبراطورية البيزنطية البلاد بموجبه خلال مهلة قدرها أحد عشر شهرا.

(١٨) هذا غير صحيح ، فإذا كانت كلمة الفسطاط تعني بالعربية خيمة من قماش قطني فإن الوثائق تدل على أن هذا الاسم هو تحزيف للاسم الذي أعطته القوات اليونانية للقلعة ، بالإغريقية ، أي «فوسّاطون» أي قلعة مدينة بابل المصرية ، وحيث تمركز دفاع القوات الامبراطورية. وقد حاصر الجيش العربي هذه القلعة واضطرت القوات الامبراطورية للاستسلام يوم الاثنين ، يوم الفصح ،. ا نيسان (أبريل) ٦٤١ م. واحتفظت باسمها على شكل فسطاط العربية ، وهذا الاسم بقي لها حتى بعد تأسيس القاهرة. وليس من الصحيح القول إن المنطقة كانت خاوية وغير مزروعة. فقد كانت هذه المنطقة منذ غابر العصور القديمة مأهولة جدا بالسكان.

(١٩) أي مصر القديمة حاليا ، أو القاهرة القديمة.

(٢٠) بحر يوسف.


الإفريقية ، على مسافة خمسين ميلا تقريبا جنوب القاهرة ، على ذراع النيل الذي تكلمنا عنه ، وهو الذراع الذي يقع إلى الغرب من الفرع الرئيسي للنهر (٢١). وهناك دليل آخر على أن مدينة فرعون هي في المكان الذي أشرت إليه ، ذلك أنه عند تفرع نهر النيل إلى فرعين (٢٢) توجد بناية تعود لتاريخ موغل في القدم تدعى قبر يوسف : فهناك دفن يوسف قبل نقل جثمانه على أيدي العبرانيين إلى مدافن أجداده (٢٣) ، إذ ليس للقاهرة وللمدن المجاورة أية علاقة مع مدن قدامى الفراعنة.

هذا ويجب أن نعرف أن أشراف قدامى الفراعنة كانوا يسكنون الصعيد في عالية القاهرة ، في المدن المسماة الفيوم ومنف (٢٤) وأخميم (٢٥) ومدن أخرى شهيرة.

ولكن بعد أن احتل الرومان مملكة مصر اجتمع كل وجهاء البلاد في الريف ، على الساحل ، حيث تقع الإسكندرية ورشيد. وحتى هذا اليوم لا نزال نجد بضعة بلدان تحمل أسماء لا تينية. وعندما انتقلت الامبراطورية من روما إلى اليونان ، انسحبت هذه الطبقة النبيلة تدريجيا نحو مصر البحرية. وقد جعل نائب الامبراطور من الاسكندرية مقره العادي.

وعندما قدمت الجيوش الإسلامية إلى مصر ، أقامت تقريبا في وسط المملكة ، لمواجهة هدف مزدوج ، وهو نشر السلام في جزئي المملكة من جهة والبقاء من جهة أخرى في مأمن من النصارى الذين كانوا يخشونهم كثيرا فيما لو ظلوا في مصر البحرية.

__________________

(٢١) ليس هذا الكلام منقولا عن سفر التكوين بل عن سفر الخروج حيث يرد فيه أن أبناء إسرائيل بنوا مدينتي بيتوم وراسيس كي تستخدما مستودعات لفرعون. ولم تكن بيتوم على بحر يوسف. فقد حدد مكانها في تل الرطابة ، في وادي الاسماعيلية. وقد تصور ذلك في مدينة الفيوم التي تقع على الأقل على مسافة ستين ميلا من القاهرة على طريق الدرب الأقصر ، وليس خمسين ميلا.

(٢٢) أى تفرع بحر يوسف.

(٢٣) من المحتمل أن المقصود هي أطلال مدافن فرعون آمينمنس الثالث ، القريبة من هرم الهوارة ، على مسافة ٦ كم تقريبا جنوب شرق مدينة الفيوم ، وهو معبد التيه الشهير.

(٢٤) أو ممفيس القديمة عند الإغريق ، ومنف عند الأقباط ، على مسافة ٢٥ كم جنوب القاهرة ، والتي تلاشت أطلالها الواسعة برمتها تقريبا بين قريتي بدرشين وسقاره على الضفة اليسرى للنيل.

(٢٥) أخميم مدينة على الضفة اليمنى للنيل على مسافة ٥٢٠ كم تقريبا في عالية القاهرة على الطريق النهري الملاحي.


خصائص مناخ مصر وتقلباته

هواء مصر مؤذ جدا وحار للغاية. ففي هذه المنطقة لا يهطل المطر إلا نادرا. وتسبب الأمطار عدة أمراض : فيصاب بعض الأشخاص بالحمى والنزلات الصدرية ، في حين يصاب آخرون بتورم الخصيتين بصورة تثير العجب عند رؤيتهما. ويعزو الأظباء ذلك إلى تناول الجبن المملح وإلى ما يأكلونه من لحم الجاموس (٢٦).

وتظهر البلاد ملتهبة صيفا نظرا للحرارة المفرطة في هذا الفصل. ولهذا تبنى في كل المدن مداخن عالية لها فتحة في أعلاها وأخرى في قاعدتها ، وتكون في حجرات البيت. ويدخل الريح من الأعلى ويخرج من الأسفل ويجلب شيئا من البرودة ، ولولاه لتعذر العيش نظرا لاستحالة احتمال السخونة (*). وأحيانا يداهم الطاعون الذي يقتل عددا لا يحصى من الأشخاص ، وخاصة في القاهرة. ويحدث أحيانا أن يموت اثنا عشر ألف شخص يوميا من الطاعون. أما المرض الإفرنجي (٢٧) فلا أظن أن هناك بلدا في العالم قد سبب فيه هذا المرض أضرارا قدر ما سببه في هذه البلاد. فنرى في القاهرة الكثير من الناس الذين فقدوا بعض أعضائهم أو من الذين شوههم هذا المرض. ويتم الحصاد في مصر في بداية نيسان (ابريل) ويتم الدراس في موسمين ، الأول في نيسان أيضا ، والآخر في أيار (مايو) وقبل العشرين من أيار لا يبقى مطلقا أي نوع من الحبوب في الحقول.

ويبدأ النيل في الارتفاع في أواسط حزيران (يونية) (٢٨) ولا يستمر فيضانه أكثر من أربعين يوما ، وتدوم التحاريق أيضا أربعين يوما (٢٩). وفي خلال هذه الفترة التي

__________________

(٢٦) لقد أثار مرض الفيل هذا الذي يصيب الصفن والذي نتج عن دودة خيطية ، أثار دهشة المؤلف كثيرا وتكلم عنه في الكتاب الأول من مؤلفه.

(*) «ويدعى الباذنج في مدينة حلب ، وكان معروفا في البيوت العربية التقليدية حتى مطلع القرن العشرين ، ثم اندثر ، كما هو دارج جدا في مدن الباكستان ، ولا سيما في كراتشي» (المترجم).

(٢٧) وهو الزهري أو السيفيلس.

(٢٨) في القاهرة.

(٢٩) الحقيقة أن النقصان أو التحاريق أو ما يسمى بالصيهود في العراق ، يستمر حتى فيضان العام التالي ، ولكن بعد فترة تتفاوت في طولها يأخذ النهر ، بعد حوالي سبعين يوما بعد بداية الفيضان ، أو حوالي ٢٦ أيلول (سبتمبر) يأخذ في الانخفاض ويسترد مجراه الذي كان عليه في شهر تشرين الثاني (نوفمبر).


تمتد على ثمانين يوما تشبه مصر وقراها جزرا لا يمكن الانتقال فيها من بلدة لأخرى إلا على المركب. ومن السهل جدا صنع جرمات ضخمة (٣٠) ، حتى إن بعضها يحمل ستة آلاف إلى سبعة آلاف كيل من الحب ، هذا فضلا عن بضع مئات من الأغنام. ولا تستطيع الإيجار صعدا ضد التيار إلا إذا كانت فارغة وبصعوبة. ويتوقع المصريون بالضبط استنادا إلى ما تكون عليه حالة فيضان النيل ، ما يمكن أن تكون عليه أسعار الحنطة في كل عام ، وذلك كما سأشرح لكم ذلك عندما أتكلم عن جزيرة النيل الواقعة في مواجهة القاهرة العتيقة ، وذلك بمناسبة الكلام عن مقياس النيل.

وليس في نيتي أن أتكلم عن كل مدن مصر. وكتّابنا غير متفقين بالفعل فيما بينهم بخصوصها. فبعضهم لا يريدون سوى ربط جزء من مدن مصر بإفريقيا ، في حين يكون رأي الآخرين على العكس ، وهناك بضعة أفراد منهم يؤكدون أن الجزء الواقع من طرف صحاري بلاد البربر ، ونوميديا ، وليبيا ينتسب إلى أفريقيا. وأخيرا يقول بعضهم بأن كل البلدان الواقعة على الفرع الرئيسي للنيل هي إفريقية ، وأن كل البلدان التي لا تقع عند هذا الفرع غير إفريقية. تلك هي حال مدينة منوف (٣١) ، ومدينة الفيوم ، وسمنود ، ودمنهور ، والبرلس (٣٢) وتينس ودمياط. ذاك هو أيضا رأيي ، وذلك لعدة أسباب مقبولة (٣٣) ولهذا لن أصف سوى المدن الواقعة على الفرع الرئيسي لنهر النيل.

مدينة بوصير

بوصير كانت مدينة قديمة ، بناها المصريون على ساحل البحر المتوسط على مسافة عشرين ميلا غربي الإسكندرية (٣٤). وكانت محاطة بأسوار قوية جدا وكان فيها بيوت غاية في جمالها. وتنتشر حولها اليوم عدة حدائق نخيل ، ولكن لا أحد يعتني بها ، لأنه

__________________

(٣٠) اسم زوارق على النيل. والمفرد جرمة.

(٣١) اي ممفيس

(٣٢) أي المدن الواقعة على الفرع الشرقي للنيل.

(٣٣) من المؤسف أن المؤلف لم يتكلم عنها بتفصيل إذ لا يمكن تمييزها مما يدفع للأفتراض بأنه رجح عدم وصف هذه البلدان لأنه لا يعرفها ، ولكن سيتكلم مثلا عن الفيوم رغم هذا التحذير المبدئي.

(٣٤) والحقيقة ٤٠ ميلا عن طريق محطة سكة حديد باهيج ، وهي في الواقع أطلال مدينة تابوز يريس ماغنا الرومانية.


عندما سقطت الإسكندرية بيد النصارى ونهبوها ، ترك أهلها مدينتهم وهربوا بسرعة نحو بحيرة يسمونها البحيرة (٣٥).

الإسكندرية : مدينة مصر الكبرى

لقد تأسست الإسكندرية ، كما هو معلوم ، من قبل الإسكندر الكبير الذي بناها (٣٦) وفق مخطط مشاهير المهندسين المهرة في موقع بديع ، فوق رأس يتقدم في البحر المتوسط على مسافة أربعين ميلا (٣٧) ، إلى الغرب من النيل. ومما لا ريب فيه أنها كانت فيما يتعلق بأهمية قصورها وجمالها ومنازلها أشرف المدن طرا. واحتفظت بشهرتها لمدة طويلة إلى أن سقطت بيد المسلمين (٣٨).

وبعد ذلك راحت تخسر أهميتها تدريجيا ، على مدى السنين ، وفقدت شرفها القديم إذ لم يعد أي تاجر من اليونان أو من أوربا يستطيع أن يمارس فيها التجارة ، حتى لقد كادت أن تصبح خاوية تماما من السكان. ولكن نسب أحد الخلفاء الدهاة (٣٩) إلى الرسول محمد (صلّى الله عليه وسلّم) قولا زورا لا يخلو من مكر ، وهو أن الرسول منح أهل الإسكندرية في إحدى نبوءاته ، العديد من الكرامات ، أي إلى الذين يعودون إليها في يوم ما لتحقيق حمايتها وحماية الذين يؤتون الزكاة. وبعد برهة من الوقت امتلأت بالسكان ، من غرباء عن البلاد ، ومن أخلاط الناس الذين قصدوها لهذه الكرامات (٤٠).

وأقام كل هؤلاء الناس مساكن لهم في أبراج جدار السور ، وأقاموا عدة مدارس

__________________

(٣٥) أو البحر الصغير ، وتدعى الآن بحيرة مريوط ، من الاسم اليوناني القديم ماريوتيس. وكان سقوط الإسكندرية هذا نتيجة غارة ملك قبرص أيام الصليبيين ، وهو بيير الأول دولوزينيان ، وذلك بتاريخ ١٠ تشرين الأول (اكتوبر) ١٣٦٥ م.

(٣٦) أي عام ٣٣١ قبل الميلاد.

(٣٧) ٦٤ كم.

(٣٨) ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٦٤٢ م «وهذا يعود ، بلا ريب ، إلى أنها أصبحت هدفا لهجمات أساطيل البيزنطيين الذين أخرجوا منها ، ولأنها خسرت وظيفتها كعاصمة للبلاد لأنها كانت مقر الحاكم الرومي» (المترجم).

(٣٩) ولعله الحاكم بأمر الله أو سواه من «الخلفاء الفاطميين» (المترجم).

(٤٠) لا توجد أية وثيقة تاريخية معروفة تؤيد هذا الزعم.


لطلاب الآداب وبضع زوايا للمتعبدين الذين قصدوها ورعا.

وللمدينة شكل مربع ، مع أربعة أبواب ، أحدها يتجه نحو الشرق ، من جهة النيل ، والآخر نحو الجنوب ، نحو بحيرة تدعى البحيرة ، والثالث غربا من طرف صحراء برقة ، والرابع نحو الجبهة الشمالية حيث يقوم الميناء (٤١) وهو باب البحرية حيث يقوم الحراس وموظفو المكس الذين يفتشون الناس حتى في داخل سراويلهم (٤٢) لأن مكس هذه المدينة يتقاضى رسوما تبلغ نسبة مئوية معينة على الدنانير ذاتها كما لو كانت بضائع. هذا ويوجد أيضا قرب الأسوار بابان متصلان أحدهما بالآخر بواسطة شارع عريض. وقلعة منيعة جدا واقعة عند مدخل الميناء المسمى المرسى البرجي ، أي ميناء البرج ، وفيه ترسو أكثر السفن جمالا ، وكذلك أكثرها أهمية كمراكب البندقية والسفن الجنوية والراقوزية (٤٣) ، وكذلك المراكب الأوربية الأخرى (٤٤). وتشاهد عادة في الإسكندرية سفن قادمة حتى من الفلاندر ، وانكلترا ، وبسكاي ، والبرتغال ومن كل السواحل الأوربية ، ولكن أكثرها عددا هي السفن الإيطالية ولا سيما سفن بوليا وصقلية ، وكذلك سفن اليونان ، أي التي تأتي سوية إلى هذا الميناء كي تكون في مأمن من القراصنة ومن العواصف. وهناك ميناء آخر يدعى ميناء السلسلة حيث ترسو السفن القادمة من بلاد البربر ، ومن جربة ومن أمكنة أخرى (٤٥).

__________________

(٤١) كان للمدينة المسورة شكل مستطيل متطاول ، والباب الشمالي ، وهو باب البحرية ، كان يطل على الميناء القديم ، أو الميناء الغربي ، ومن الشرق باب رشيد ، وكان يطل على الطريق المؤدية إلى النيل ، وإلى الجنوب الباب الذي كان المصريون يسمونه باب سدره ، وهو باب البهار عند الأوربيين ، وكان على طريق بلاد المغرب ، والباب الرابع هو باب الجنوب الذي كان يطل على القرافة ، أي المقبرة.

(٤٢) «يتفق الحسن الوزان في هذه الملاحظة مع ابن جبير ، وابن بطوطة» (المترجم).

(٤٣) نسبة إلى راقوزة في صقلية عاصمة إقليم سيراكوزة ، وتشتهر بمصانع القطن والصوف.

(٤٤) لم يترك الشارع المذكور ولا البابان أي أثر. أما القلعة ، وهي حصن قايتباي الحالي ، فقد شيد فوق شبه جزيرة ، في موقع الفنار المشهور ، الذي أتى على آخر بقاياه زلزال حدث في أواسط القرن الرابع عشر ، وقد بناها السلطان سيف الدين قايتباي الأشرف الذي حكم بين ١٤٦٨ و ١٤٩٦ م. ومرسى البرج هو الميناء الكبير لدى القدامى شرقي المنار ، وهو اليوم خليج صغير بسيط.

(٤٥) وهو ميناء أو توستوس في العصر القديم ، وكان الأوربيون يسمونه حينذاك الميناء القديم ، وهو الذي دعي مرسى السلسلة ، لأن الموانىء كانت تغلق بالسلاسل. وكان قلعة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر.


ويقوم في داخل المدينة تل عال جدا يشابه تل تستكشيو في روما (٤٦) يعثر فيه على الحديد من الأبنية القديمة ، وفي الواقع هو عبارة عن تل اصطناعي (٤٧). ويقوم فوق هذا المرتفع برج صغير حيث يقوم راصد على الدوام لمراقبة السفن التي تمر. ويتقاضى عن كل سفينة يخبر عنها موظفي المكس جعالة معينة ، وإذا نام أو راح يتروض أو وصل مركب دون أن يخبر عنه موظفي المكس ، يحكم عليه بغرامة تبلغ ضعف جعالته ، وتدفع هذه الغرامة لخزينة السلطان.

وكل منازل الإسكندرية مبنية فوق صهاريج ماء ذات قناطر تقوم فوق أعمدة وأقواس. ويصل ماء النيل حتى هذه الصهاريج. وفي الحقيقة يصل الماء على أثر الفيضان بواسطة قناة اصطناعية محفورة في السهل ، من النيل حتى الإسكندرية حيث يدخل بعد مروره من تحت سور المدينة (٤٨) ، كي تصب في الصهاريج كما قلنا قبل قليل.

أما فيما يتعلق بموارد هذه المدينة ، فالإسكندرية واقعة في وسط صحراء رملية ، حتى إنها لا تملك شيئا لا من الأراضي الزراعية ولا من الكروم ولا من مزارع الأشجار المثمرة. ويجلب القمح إليها من مسافة أربعين ميلا منها. ويوجد قرب القناة التي تجر ماء النيل إليها بعض بساتين الخضر الصغيرة ، ولكن منتجاتها مؤذية. على الأكثر ، لأن الناس يصابون بالحمى أو بالأمراض الأخرى بمجرد أن يتناولوا شيئا منها. وعلى مسافة ستة أميال تقريبا من المدينة ، من ناحية الغرب ، توجد أبنية قديمة جدا منها عمود ضخم للغاية وشديد الارتفاع يحمل اسما عربيا هو عمود السواري. ونجد مكتوبا في المؤلفات التي تكتب عن عجائب العالم في زمن الاسكندر أن فيلسوفا يدعى بطليموس بناه لتأمين سلامة المدينة تجاه العدو (٤٩). وقد وضع في ذروة هذا العمود مرآة

__________________

(٤٦) تل من الردم ارتفاعه ٣٥ م قرب نهر التيبر جنوبي روما.

(٤٧) كان يوجد في ذلك العصر تلان أحدهما في داخل الإسكندرية والآخر في خارجها. وكان اسم هذه المرتفعات الثلاثة : كوم الديماس ، أي تل القبو ، وكوم الديك ، وفي الخارج كوم الشقفة (كوم الشقافة) أي تل الكسرات ، ومن المفترض أن توجد الأشياء الأثرية في كوم الديماس.

(٤٨) في منطقة تقابل تقريبا موقع محطة السكة الحديدية الحالية.

(٤٩) يقع هذا العمود في الحقيقة على مسافة نصف ميل ، أو ٨٠٠ م من جنوب غرب باب سدرة ، وإن كان يظهر من اسمه العربي أنه باب سوارى السفن فإن معناه هنا عمود الأعمدة. وكان يدعى بالفرنسية عمود بومبي Pompee. ويبدو أنه شيد سنة ٣٩٢ لتمجيد ذكرى الامبراطور ديوقليسيان.

[الصحيح أنه شيد لذكرى استشهاد المسيحيين المصريين (الأقباط) على يد ديوكلسيان الذي كان من ألد أعداء المسيحية] (المراجع).


كبيرة من فولاذ ، حتى إن كل سفينة قد تمر من جانب هذه المرآة تشتعل حالا إذا كشفت المرآة ، ولكن هذه المرآة تلفت في العصر الذي وصل فيه المسلمون إلى أفريقيا وتقول الأسطورة إنها تخربت على يد يهودي فركها بالثوم (٥٠).

ولا زال يوجد في الإسكندرية ، بين سكانها القدامى ، الكثير من أولئك النصارى الذين يدعون اليعاقبة. ولهم كنيسة خاصة بهم ، وقد أعيد بناؤها عدة مرات ، ولا تزال قائمة في أيامنا ، وسبق أن دفن فيها جسد القديس مرقص الرسول الذي سرق غدرا عام ٨٢٩ م على أيدي تجار بنادقة ونقل إلى البندقية. وكل أولئك اليعاقبة تجار وصناع ويدفعون جزية لملك القاهرة. ولا يجوز أن نغفل ذكر مكان في قلب المدينة في وسط الأطلال ، فيه بيت صغير منخفض ، كأنه نوع من مسجد ، يقع فيه ضريح مبجل جدا ومكرم عند المسلمين ، حيث توقد الأنوار فيه ليلا ونهارا. ويقال إن هذا هو قبر الإسكندر الكبير ، الذي كان نبيا وملكا كما ورد في القرآن الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم (٥١). ويأتي الكثير من العربان من أقطار بعيدة لرؤية هذا الضريح وللقيام ببعض التضرعات ، ويتركون عنده صدقات عظيمة جدا (٥٢).

وأحجم عن الكلام من ذكر أشياء أخرى كثيرة بارزة كيلا أزيد حجم هذا الكتاب ، الذي سيصبح حينئذ مملا وثقيلا على القارىء.

مدينة أبي قير

وهي مدينة صغيرة قديمة بنيت على ساحل البحر المتوسط على مسافة ثمانية أميال تقريبا شرقي الإسكندرية (٥٣). وقد تخربت في أيامنا ولا زال هناك الكثير من أنقاض

__________________

(٥٠) كان عمود بومبي ، وهو قطعة صخر واحدة بطول ٢٢ م ، وارتفاعه الكلي ٣٠ م ، كان يؤلف جزءا من عمارة واسعة أثرية سبق أن تخربت مع أربعمائة عمود من ذوات الأبعاد العادية في عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي ، في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وقد خلط المؤلف بسرده أسطورة المرآة الحارقة بين عمود بومبئى وبين الفنار ، مع أنه يستحيل الصعود إليه عمليا ، إلا أن قمته كانت تحوي شيئا لا يمكن تعريفه.

(٥١) «لم يرد ذكر الإسكندر في القرآن باسمه الصريح بل ورد بصفة ذي القرنين» (المترجم).

(٥٢) لقد احتفى قبر الإسكندر ولا يعلم أحد عن مكانه شيئا ، ويظن أنه كان في مكان كوم الديماس ، في الغرب قرب جامع النبي دانيال الحالي ، والنص القرآني المقصود هو في سورة ١٨ آية ٣٢ إلى ٩٨. [صوابه آيات ٨٣ إلى ٩٨] (المراجع).

(٥٣) الحقيقة على مسافة ٢٣ كم ، وأكثر من أربعة عشر ميلا بقليل.


أسوارها. وتقوم بعض مزارع النخيل فوق موقعها. وتغذي تمورها بعض فقراء الناس الذين يسكنون أخصاصا منعزلة. ويشاهد برج على ساحل خطر حيث يتحطم العديد من السفن القادمة من سواحل بلاد الشام ليلا التي لا يوجد على دفتها شخص يعرف كيفية الدخول إلى ميناء الإسكندرية ، وحيث تجنح سفن أخرى على الساحل بسبب الظلام الدامس ، ولا يوجد حول هذه البلدة سوى أرباض رملية تمتد حتى النيل.

رشيد ويسميها الطليان روزيتّو

رشيد (٥٤) مدينة على النيل ، في الضفة الآسيوية ، على مسافة ثلاثة أميال من مصب نهر النيل (٥٥). وقد بناها عبد لأحد الخلفاء ، كان نائبا على مصر (٥٦). وفيها بيوت جميلة وقصور مشيدة على ضفة النهر. ولها سوق كبير مليء بالصناع والتجار. وفيها جامع بديع جدا ، جميل المنظر ، وتطل بعض أبوابها على السوق ، والأخرى على النهر الذي يهبط إليه بدرج رائع. ويقع الميناء قبالة الجامع. ومن المألوف أن تتجمع في هذا الميناء بعض السفن الكبيرة التي تحمل البضائع إلى القاهرة.

ولكن ليس لهذه المدينة سور. ولها على الأرجح منظر بلدة كبيرة لا منظر مدينة. ويظهر حول المدينة العديد من المصانع التي يضرب فيها الأرز ببعض الأدوات الخشبية. وأعتقد أنه يقشر فيها وينظف في كل شهر أكثر من ثلاثة آلاف كيل من الرز. ويوجد في خارج المدينة ، ضمن نوع من ربض ، الكثير من البغال والحمير للتأجير لأولئك الذين يريدون الذهاب إلى الإسكندرية. والذي يستأجر أحد هذه الحيوانات لا يحتاج إلى قيادته ، وما عليه إلا أن يتركه يسير وحده وسيذهب به إلى مقصده ، وكذلك الحال في العودة فسيرجع به إلى البيت ، ولا يبقى عليه إلا أن يتركه يذهب وحده إلى حظيرته. وهي حيوانات سريعة جدا حتى إنها لتقطع أربعين ميلا بين الصباح ووقت العصر ، وتتبع دوما ساحل البحر ، حتى إن الأمواج لتضرب أحيانا قوائمها.

__________________

(٥٤) وبالقبطية راشت ، ومنها بالفرنسية القديمة راشو ، وبالإيطالية روزيتّو ، وبالفرنسية روزيت.

(٥٥) في الحقيقة على الضفة اليسرى أو «الضفة الإفريقية ، حسب رأي المؤلف ، على مسافة ٧ كم تقريبا من البحر في ذلك العصر ، وهي مسافة تضاعفت تقريبا حاليا نظرا لمجلوبات نهر النيل من الطعي «التي توقفت بعد بناء السد العالي» (المترجم).

(٥٦) رشيد مدينة قديمة ، ولكن أعيد بناؤها عام ٨٧٠ م في عصر أبي العباس أحمد بن طولون ، حاكم مصر المستقل والذي كان أبوه عبدا لأحد الخلفاء.


ويوجد حول بلدة رشيد العديد من حدائق النخيل وأراض ممتازة لزراعة الرز ، والسكان أناس أليفون ولطفاء تجاه الأغراب ويقضون معهم راغبين وقتا ممتعا. وفي المدينة حمام جميل للغاية مع عدة صنابير من ماء بارد وماء حار. ولا يوجد في كل مصر مثيل لهذا الحمام في جماله وسهوله الإفادة منه. وقد كنت في رشيد في الوقت الذي مر فيه السلطان التركي سليم عائدا من الإسكندرية (٥٧). وقد أراد رؤية هذا الحمام شخصيا بصحبة رجال حاشيته المقربين وقد ظهر عليه أنه وجد فيها انشراحا كبيرا.

مدينة آنثيوس

آنثيوس مدينة بناها الرومان على الضفة الآسيوية للنيل. ولا يزال يرى فيها اليوم الكثير من الكتابات اللاتينية فوق ألواح من رخام. وهي مدينة آمنة فيها أشخاص يعملون في كل المهن. وريفها خصيب جدا بالرز والقمح. ولها حديقة نخل واسعة ، ويشتهر سكانها بطيبتهم وببشاشتهم. ومن عادتهم جميعا نقل الرز إلى القاهرة ويجنون من ذلك ربحا طيبا وفيرا (٥٨)

برنبال

برنبال أو برمبال مدينة قديمة مبنية على النيل ، على الضفة الآسيوية. وقد بنيت في العصر الذي صار فيه سكان مصر نصارى. وهي غاية في جمالها وتكثر فيها المحاصيل ولا سيما الرز. وضاربو الرز أغراب ، أي معظمهم من بلاد البربر. ويربحون أكثر من ثمن الرز ، ويحيون حياة داعرة. ولهذا السبب تتوافد كل مومسات مصر إلى برنبال ، مجذوبات بضاربي الرز هؤلاء ، حتى إن هؤلاء العمال يكونون دوما خائري القوى ، لأن مكاسبهم تنتقل لأيدي هاتيك النسوة.

__________________

(٥٧) حزيران (يونية) ١٥١٧. انظر كتاب «ليون الإفريقي» نشر شيفر ـ ١٨٩٦. ج ١ ص.XIII

(٥٨) لم يكن تشخيص اسم هذه البلدة.


مدينة طيبة

طيبة (٥٩) قديمة جدا بنيت على النيل ، على الضفة البربرية (٦٠). ويختلف المؤرخون فيما بينهم بالنسبة لمؤسسيها. فالبعض يرى أن المصريين هم الذين أسسوها ، ويقول آخرون إنهم الرومان ، والبعض الآخر يقول الإغريق. ويعثر فيها الآن على كثير من الكتابات بالحروف اللاتينية أو الإفريقية أو المصرية. ولا تحوي هذه المدينة في زمننا أكثر من ثلاثمائة أسرة ، ولكنها مزدانة ببيوت جميلة. ويكثر فيها القمح والرز والسكر وذلك النوع من الثمر الذي يدعى الموز وهو ممتاز. وفيها بعض الصناع والتجار ولكن الأكثرية هم من الزراع. وعند ما يتجول الإنسان بالبلدة خلال النهار لا يجد فيها سوى النساء اللواتي لا يقل لطفهن عن جمالهن. ومزارع النخيل حول البلدة واسعة جدا حتى أنه لا يمكن رؤية هذه البلدة إلا عند الاقتراب من جدرانها. هذا كما تحوي الكثير من مزارع الشجر التي تنتج العنب والتين والدراق ، وتنقل كمية كبيرة من هذه الفواكه إلى القاهرة.

ولا تزال في خارج المدينة بقايا عديدة من أبنية قديمة ، على شكل أعمدة وكتابات ، وجدران مبنية بحجارة منحوتة ضخمة. ويستخلص من هذا أنها كانت مدينة كبيرة جدا نظرا لاتساع أطلالها (٦١).

مدينة فوّة

فوة مدينة قديمة بناها المصريون (٦٢) على الضفة الآسيوية من النيل ، على مسافة خمسة وأربعين ميلا (٦٣) جنوب رشيد. وهي آهلة جدا بالسكان ، متمدنة ، ومزدهرة

__________________

(٥٩) مدينة لم يكن تشخيصها بعد.

(٦٠) أي الغربية أو اليسرى.

(٦١) لا نعرف أين كانت تقع مدينة طيبة الشهيرة في عصر المؤلف ، ولكن ليس هناك أية بلدة على الضفة اليسرى لهذا الفرع من النيل ينطبق عليه هذا الوصف. وتوجد على الضفة اليمنى التي يسميها المؤلف آسيوية ، وتوجد قرية متوبي ، أو ميتوباس ، والتي يقارب اسمها اسم طيبة ، والآثار القديمة الوحيدة ، والتي هي بالفعل قليلة الأهمية ، هي أطلال سائيس ، الواقعة بعيدا في عالية متوباس «وتسمى حاليا صالحجر» (المترجم)

(٦٢) ويقصد بهم قدامى المصريين قبل الفتح الإسلامي.

(٦٣) ٧٢ كم.


كثيرا. وللناعة وللصناع فيها دكاكين جميلة ، ولكن شوارع السوق ضيقة. ويحب سكانها الهدوء والأفراح وتتمتع النسوة بكثير من الحرية حتى إنهن يقضين النهار حيثما أردن. ويعدن في المساء لبيوتهن دون أن يسألهن أزواجهن عما فعلن.

وفى خارج المدينة حي ، أو بعبارة أدق ، ربض ، تسكن فيه بنات الهوى اللواتى يؤلفن قسما لا بأس به من السكان. ومزارع النخيل حول فوة عديدة للغاية. والأرض طيبة لقصب السكر وكذلك للقمح. ولكن القصب الذي ينبت في هذه الأرض لا يعطي سكرا جيدا. ويستخرج عوضا عن السكر نوع من عسل ، شبيه بالدبس ، ويستهلك في كل مصر ، ذلك لأنه لا يوجد عسل في هذا القطر (٦٤).

جزيرة الذهب

تقع هذه الجزيرة بمواجهة فوة تماما ، في وسط النيل (٦٥) وأراضيها مرتفعة حتى أننا نجد في هذه الجزيرة كل أنواع الأشجار المثمرة ، ما عدا الزيتون. وتحوي بضع دساكر وقصورا فخمة (٦٦) ولكن لا يمكن رؤيتها بسبب كثافة أشجار النخيل والأشجار الأخرى. والأرض هنا ممتازة لزراعة قصب السكر والرز. ويعمل كل السكان في زراعة الأرض أو في نقل بضائعهم إلى القاهرة.

المحلة

المحلة مدينة بناها المسلمون على النيل ، فوق الضفة الآسيوية. ولها جدار سور رديء. وهي مأهولة كثيرا بالسكان ، ولكن غالبية سكانها من الحاكة أو الزراع. ولديهم كمية كبيرة من الأوز التي يبيعونها في القاهرة ، والتربة حول المدينة صالحة للقمح وللكتان. وأهل هذه البلدة قليلو التربية ورديئو المعشر (٦٧).

__________________

(٦٤) «وهو ما يسميه المصريون العسل الأسود» (المترجم).

(٦٥) قبل أن يصل النيل إلى فوة ، ينحرف نحو الغرب ، وينفصل عنه ذراع نحو الشمال يحيط بقطعة أرض ، على الضفة اليمنى ، قبل فوة ، وبذلك يشكل جزيرة.

(٦٦) «قبل كتابة هذه الأسطر بعدة سنوات كانت هذه الجزيرة ملكا خاصا لأولى زوجات السلطان قانصوه الغوري الذي قتل في مرج دابق قرب حلب ، قبل وجود المؤلف في مصر بعام واحد» (المترجم).

(٦٧) يوجد في مصر عدد كبير من القرى التي تحمل اسم المحلة ، والذي له هنا معنى موقع ، واسم فرقة عسكرية ، كما في المغرب الأقصى. ويكون هذا الاسم متبوعا دوما بنعت. ولا نعرف حاليا سوى محلة الأمير على الضفة اليسرى للنيل ، مقابل برنبال.


مدينة ديروط

ديروط مدينة شريفة بناها الرومان على الضفة الإفريقية لنهر النيل. وليس لها جدار سور. وهي مأهول بالسكان بشكل طيب. ومزدانة ببيوت جميلة ذات بناء متقن جدا. وأرباضها كبيرة ومليئة بالدكاكين الجميلة. كما تحوي أيضا جامعا بديعا. وسكانها واسعو الثراء لأن لديهم الكثير من مزارع قصب السكر. وتدفع كورتها حوالي مائة ألف أشرفي (٦٨). في العام للسلطان عن صنع السكر. ويوجد في ديروط مصانع كبيرة تشبه قصرا ، تقوم فيها المعاصر والمراجل لاستخراج السكر وطبخه. ولم أر في أي مكان آخر مثل هذا العدد من العمال المستخدمين في هذه الصناعة. ولقد سمعت من فم أحد موظفي البلدة بأنه ينفق يوميا حوالي مائتي أشرفي على هؤلاء العمال.

محلة قيس

محلة قيس مدينة حديثة بنيت في عصر المسلمين على ضفة النيل الأفريقية ، فوق تل عال ، وكل أراضيها الزراعية مرتفعة حتى إن المزارع لتتألف من الكرمة ، لأن النيل لا يستطيع أن يدركها عند فيضانه. وتقدم هذه المدينة للقاهرة العنب الطازج في أثناء نصف موسمه. وهي بلدة قليلة الطمأنينة ، وجل سكانها تقريبا ملاحون (بحارة) إذ ليس لديهم سوى القليل من الأراضي الزراعية (٦٩).

القاهرة : المدينة الكبرى الباهرة

من المشهور أن القاهرة هي إحدى أكبر مدن العالم ومن أكثرها رونقا وبهاء. وسأصف لكم مظهرها وموقعها بصورة مفصلة. تاركا جانبا كل الأكاذيب التي حيكت حول موضعها في كل مكان تقريبا.

ولنبدأ أولا باسمها. فالقاهرة كلمة عربية ، ولكنها مشوهة في اللغات

__________________

(٦٨) أو ديناريزن ٤٧٦ ، ٣ جرامات من الذهب الصافي.

(٦٩) لم يكن باستطاعتنا العثور على أثر من محلة قيس ، والتي وجدت مع ذلك ، لأنها تظهر على خارطة الكادستر ولعام ١٣٧٥ م. «وللعنب القيسي شهرة كبيرة في منطقة حلب ولونه أبيض وحباته شفافة ومستديرة» (المترجم).


الأوربية ، ومعناها التي «تقهر» (٧٠). وقد تأسست في العصور الحديثة على يد عبد من أمة الصقالبة ، واسمه جوهر الكاتب ، كما أظن أني ذكرته في الجزء الأول من هذا الكتاب(٧١).

وأود أن أؤكد أن المدينة ، وأقصد بها المدينة المحاطة بسور ، تضم ثماني آلاف أسرة. وهنا يقيم الناس الميسورون ، وحيث تتدفق عليهم الثروات من كل حدب وصوب ، وحيث يوجد الجامع المشهور المسمى الجامع الأزهر ، أي الجامع اللامع.

وقد قامت المدينة في سهل عند حضيض جبل يدعى المقطّم. ويقع على مسافة ميلين من النيل. وهي محاطة بأسوار حصينة وجميلة مع أبواب بديعة مصفحة بالحديد. وأشهر هذه الأبواب ثلاثة : الأول يدعى باب النصر ، أي باب الظفر ، ويقع في الشرق ، باتجاه الصحراء التي يتجازها المسافر إلى البحر الأحمر ، ويدعى الثاني باب زويلة ، وهو الباب المؤدي إلى النيل ونحو المدينة القديمة (٧٢) ، والآخر يدعى باب الفتوح ويؤدي إلى بحيرة (٧٣) حيث كان يجتمع حجاج مكة قبل سفرهم في قافلة ، وحيث الأراضي المزروعة (٧٤).

وهذه المدينة مجهزة بما يلزم من الصناع والباعة الذين يقيمون على الخصوص في شارع يذهب من باب النصر حتى باب زويلة. وهنا يقيم أكبر جزء من نبلاء القاهرة. ويوجد في هذا الشارع بضع مدارس مدهشة بأبعادها ، وبجمال بنائها ورونقها ، كما توجد فيها بضع جوامع فسيحة وجميلة جدا ، منها جامع الحاكم ، وهو ثالث خليفة من

__________________

(٧٠) صحيح أن هذا هو المعني الدقيق. ولكن الروايات تشير إلى أن هذا الإسم قد منح لها لأنه في اليوم الذي بوشر فيه بناء جدار سورها كان الكوكب المريخ ، وفي العربية القاهر ، كان يمر في خط طوله ، وقد كان لعلم التنجيم أهميته فى الماضي في قضايا تأسيس المدن.

(٧١) يذكر المقريزى أن تأسيسها بتاريخ السبت ٢٣ جمادي الثانية عام ٣٥٩ هجرية. ويجب بالتأكيد تصحيح ٢٣ برقم ١٣ مما يعطي تاريخ السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٩٧٠ م. ويجعل المؤلف من جوهر يوغسلافيا ، بينما يقول الآخرون أنه يوناني ، وكان يسمى أبا الحسن إسماعيل. وجوهر كان اسمه بوصفه رقيقا ، وقد خلد تحت هذه التسمية ، أما الكاتب فكانت وظيفته. انظر الكتاب الأول «ويظهر لنا من العبارة الأخيرة أنه لم يقرأ كتابه بعد أن فرغ من تأليفه ولم ينقحه» (المترجم).

(٧٢) وسمي كذلك باسم جنود جوهر الذين قدموا من زويلة ، وهو ربض مدينة المهدية ، في القطر التونسى.

(٧٣) هي بركة الحاج.

(٧٤) أي نحو المطرية.


المذهب الشيعي الإسماعيلي أو مذهب الفاطميين الذين حكموا في القاهرة (٧٥). وهناك عدد من جوامع كبيرة معروفة أيضا ، ولكن ليس هذا مكان تعدادها واحدا فواحدا. وهناك أيضا بضع حمامات مشيدة بفن هندسي كبير.

ويضم الحي المسمى بين القصرين دكاكين يباع فيها اللحم المطبوخ في حوالي ستين دكانا ، وكلها مجهزة بالأواني القصديرية. ويباع في دكاكين أخرى ماء مصنوع من كل أنواع الزهور : ولأصناف المياه هذه مذاق لذيذ جدا ، ولهذا يشرب منه كل الأشراف ، أما الذين يبيعونه فيحفظونه في قماقم زجاجية أو من قصدير بديعة جذا ومنقوشة بمهارة. وبعد ذلك تأتي دكاكين أخرى تباع فيها الحلوى المعروضة بشكل أنيق جدا ، وتختلف عن التي تباع في أوربا : وهي من نوعين بالعسل وبالسكر. ثم يأتي باعة الفواكه الذين يبيعون الثمار القادمة من بلاد الشام كالكمثرى والسفرجل والرمان وما إلى ذلك من الفاكهة التي لا تنمو في مصر. ويوجد بين هذه الدكاكين عدد آخر من دكاكين مبعثرة تباع فيها الزلابية والبيض المقلي ، والجبن المقلي. ونجد بجوار هذه الدكاكين حيا مشغولا بالصناع من مختلف المهن الشريفة. وأبعد من ذلك قليلا نجد المدرسة التي بناها السلطان الغوري ، وهو الذي قتل في حرب مع سليم ، امبراطور الأتراك (٧٦). وتقع بعد هذه المدرسة فنادق الأقمشة ويضم كل فندق عددا كبيرا من الدكاكين. وتباع في أول فندق الأقمشة الأجنبية وكلها من النوع الأول ، مثل قماش بعلبك ، وهو قماش قطني غاية في النعومة ، وأقمشة الموصل ، أي نينوى ، وهي رائعة لنعومتها ولمتانتها ، وتصنع كل الشخصيات الكبرى والأشخاص المرموقون منها قمصانهم والقماش الذي يلفونه حول طاقياتهم لصنع العمامة. وبعد ذلك تأتي الفنادق التي تباع فيها أجمل أقمشة إيطاليا ، كالساتان الموشي ، والمخامل ، والتفتا والبروكار ، وأستطيع أن أوكد أني لم أر من أمثالها في إيطاليا ، حيث تصنع هناك (٧٧). وتقع بعد

__________________

(٧٥) وهو الخليفة الفاطمي الحاكم المنصور الذي حكم بين ٩٩٦ و ١٠٢٠ م وجامع الحاكم هو اليوم عبارة عن أطلال.

(٧٦) لقد بنى السلطان الأشرف قانصوه الغوري مدرسة انتهت سنة ١٥٠٣ م وبنى إلى جانبها ضريحه الخاص ، الذي أنجز سنة ١٥٠٤ والمدرسة والضريح يعتبران من أجمل مباني القاهرة. ولكن السلطان الغوري هلك بتاريخ ٢٥ آب (أغسطس) ١٥١٦ فى معركة مرج دابق قرب حلب ، بعد أن سقط عن جواده واختفت معالم جثته.

(٧٧) «يبدو أن هذه السياسة الاقتصادية التي تقضي بتصدير المصنوعات الممتازة لحساب السوق الخارجية كانت معروفة في أوربا منذ العصور الوسطى ، وهي ما يسمى بسياسة غمر الأسواق أوDumping أي بيع الأشياء الجيدة في الخارج بأسعار تقل عنها فى البلاد المنتجة ذاتها ، كحال الزبدة الفرنسية فى البلاد العربية ، والسيارات اليابانية. ويعتبر هذا قمة الوعي الاقتصادى» (المترجم).


ذلك فنادق الأقمشة الصوفية ، والتي تستورد من كل أقطار أوربا مثل أجواخ البندقية ومايورقة ، وأجواخ إيطاليا الوسطى ، والمارش ، وبعد ذلك تباع أقمشة مصنوعة من شعر الماعز (٧٨) ، وشيئا فشيئا نصل إلى باب زويله حيث نجد عددا لا يحصى من الصناع. ويوجد قرب هذا الباب فندق خان الخليلي ، حيث يقيم التجار العجم. ويشبه هذا الفندق قصر أمير كبير ، فهو مرتفع كثيرا ، ومتين البنيان جدا ، ومؤلف من ثلاثة أدوار. ففي الطابق الأرضي توجد الغرف التي يستقبل فيها التجار زبائنهم ويمارسون تجارة البضائع العالية القيمة. والتجار الذين يملكون موارد عظيمة هم وحدهم الذين يملكون مستودعات في هذا الفندق. وتتألف بضائعهم من التوابل والأحجار الكريمة والأقمشة الهندية مثل الكريب ... الخ.

وعلى الطرف الآخر من الشارع الرئيسي يقع حي باعة العطور : كالزباد ، والمسك والجاوي. وهذه المنتجات وفيرة ، حتى إنه لو أراد أحدهم شراء أونس واحد (٧٩) من المسك ، يعرض عليه مائة رطل (٨٠) وهو أمر عجيب ويقع على جزء من هذا الشارع الرئيسي حيّ يباع فيه الورق الجميل الصقيل. والتجار الذين يبيعون هذا الورق يبيعون أيضا الحجارة الكريمة. وهناك مناد يحملها من مكان لآخر معلنا المزاد.

وعلى نفس الشارع يقع حي يقيم فيها الصاغة. وهم يهود تمر بين أيديهم ثروات كبرى. وفي حي آخر يوجد التجار الذين يبيعون كمية كبيرة من المنسوجات من النوع الفاخر ويكونون قد اشتروها من أهل المدينة أو من أناس مرموقين. وليست هذه الأشياء عبارة عن برانس أو عباءات أو خمارات بل قطع رائعة ذات قيمة لا يتصورها عقل. وقد رأيت فيما رأيت سجاف خيمة أسود اللون ، وهو مشغول بالإبرة ، ومغطى تغطية كاملة بشبكة من اللآلى. وقال لي البائع إن اللآلى تزن لوحدها خمسة واربعين رطلا (٨١) من الأرطال المصرية وقد بيع البساط لوحده دون اللآلى بمبلغ عشرة آلاف أشرفي. وقد رأيت الكثير من الأشياء الأخرى في هذه الدكاكين وبأسعار مماثلة.

__________________

(٧٨) كانت هذه الأقمشة عبارة عن منسوجات من شعر نوع معين من الماعز ، هو المرعز ، الذي يربى خصوصا في ضواحي قونية ، في آسيا الصغرى. وكان هذا القماش ناصع البياض للغاية ، وله نعومة الحرير.

(٧٩) ٢٥ ، ٢٨ غراما.

(٨٠) أو ٤٤ كغم.

(٨١) او ٢٠ كغم.


وفي القاهرة مستشفى كبير بناه بيبرس ، أول سلطان من المماليك (٨٢). ولهذا المستشفى إيرادات تبلغ مائة ألف أشرفي. ويمكن قبول أي شخص فيه ويجد المريض فيه كل التسهيلات والعناية الطبية ، وكذلك كل ما يحتاج إليه حتى شفائه. ولكن إذا توفي فإن كل أرزاقه تؤول للمستشفى.

ربض باب زويله

وهو ربض كبير جدا يضم حوالي اثني عشر ألف أسرة ويبدأ عند باب زويلة. ويمتد غربا على مسافة ميل تقريبا وجنوبا حتى قلعة السلطان ، وشمالا حتى ربض يدعى باب اللوق (٨٣). ويحوي ربض باب زويلة هذا تقريبا نفس الوجهاء من السكان كما في المدينة. فكثير من السكان لهم دكاكينهم في الربض ومسكنهم في المدينة والعكس بالعكس. وهو بضم العديد من الجوامع والزوايا والمدارس ، وعلى الخصوص المدرسة الشهيرة التي أسسها السلطان الحسن. ولهذه المدرسة من علو قبابها ومن متانة بنيانها الرائع ما يجعلها وسيلة للتحصن والهجوم ، في حالة تمرد سلطان ضد آخر ، فإذا استطاع المتمرد بشيء من الحذق والمهارة أن يحتل هذه المدرسة ، فإنه يتحصن فيها ومنها يهاجم القلعة التي يمسك بها السلطان الآخر ، لأن المدرسة لا تبعد عن القلعة أكثر من نصف رمية من راشقة السهام (٨٤).

ربض جامع طولون

وهو ربض آخر يتاخم السابق من الشرق ، ويمتد غربا حتى الخرائب التي تجاور

__________________

(٨٢) لم يكن بيبرس ، رابع سلطان مملوكي (وهو الذي حكم بين ١٢٦٠ و ١٢٧٧ م) هو الذي أسس هذا المارستان ، بل السلطان السابع ، المنصور سيف الدين قلاوون ، الذي حكم من ١٢٧٩ إلى ١٢٩٠ م. وقد تمت عمارته في ١٢٩٣ م في عهد ابنه. وقد تلاشى المارستان ، غير أن الجامع والمدرسة اللذين كانا يؤلفان مجموعة هندسية وائعة لا يزالان حتى اليوم معروفين باسم جامع ومدرسة قلاوون.

(٨٣) كان ربض باب اللوق في غرب الشمال الغربي بين باب زويلة والنيل.

(٨٤) تعتبر هذه المدرسة من أكثر ابنية القاهرة جمالا وحتى في العالم قاطبة. وتسمى جامع الحسن ، والأحرى أن تسمى مدرسة الحسن وكانت تدرس فيها ، في ذلك العصر ، المذاهب الأربعة في الإسلام السني. وقد شيدت في عهد السلطان الناصر سيف الدين حسن بين ١٣٥٥ و ١٣٥٦ م وبالتدقيق في نفس الوقت الذي كان يجري فيه بناء تلك الدرة الفريدة في الفن الهندسي ، وهي المدرسة الأبوعنانية (نسبة إلى أبي عنان من ملوك بني مرين) في فاس.


المدينة القديمة (٨٥). وقد بنى هذا الربض قبل القاهرة بمساعي المدعو طولون ، وهو مولي أحد خلفاء بغداد ، ووالي مصر ، وكان رجلا عاقلا وحذرا وقد هجر المدينة القديمة وجاء ليسكن هذا الربض. وبنى فيه قصرا فخيما وكبيرا جدا. وكذلك جامعا فسيحا أيضا لا يقل بهاء عن القصر (٨٦). ويوجد في هذا الربض عدد ضخم من الصناع والتجار ، ولا سيما من بلاد البربر.

ربض باب اللوق

وهو أيضا ربض كبير على مسافة ميل تقريبا من سور القاهرة. ويضم حوالي ثلاثة آلاف أسرة. وهو يشتمل على صناع وباعة من كل نوع. وفيه ساحة كبيرة فيها قصر فسيح ومدرسة بديعة بناها مملوك اسمه يزبك ، كان مستشار أحد السلاطين في الماضي. وكانت هذه الساحة تدعى بسبب ذلك الأزبكية (٨٧). ويجتمع في هذه الساحة عادة كل جمعة كل سكان القاهرة بعد الصلاة والخطبة ، إذ توجد في هذه الضاحية بعض الملاهي غير الشريفة ، كالمواخير والنساء الساقطات. ويجتمع في هذه الساحة أيضا العديد من المشعوذين الذين يقومون بترقيص الجمال والحمير والكلاب. وهذا بالفعل أمر مروح عن النفس. واليكم مثلا مشهد الحمار : فبعد أن يرقص المهرج حماره قليلا يتحدث إليه فيشرح له أن السلطان يريد أن يقوم بمشروع بناء كبير وأن في نيته استخدام كل حمير القاهرة لنقل الكلس والحجارة وكل ما هو ضروري لهذا البناء. وفي الحال يرخي الحمار جسمه ويسقط على الأرض رافعا قوائمه في الهواء. وينفخ بطنه ويغمض عينيه كما لو كان ميتا. وهنا يأخذ المهرج بالنحيب أمام المشاهدين على فقدان حماره ويطلب المساعدة لشراء حمار آخر. وبعد أن يجمع التبرعات يتابع كلامه : «لا تصدقوا أن حماري قد مات فهذا النهم يعرف فقر صاحبه ، ويتظاهر بالموت كي أشتري له ما

__________________

(٨٥) أطلال حي العسكر الذي كان أيضا مقر الحكام.

(٨٦) هو أبو الحسن أحمد بن طولون ، ابن عبد تركي كان عند الخليفة المأمون ، وعين على حكومة مصر في ١٥ أيلول (سبتمبر) ٨٦٨ م. واستغل المصاعب التي كانت عليها خلافة بغداد حينئذ وأصبح مستقلا. وأقام مدينته كوتاي فوق مرتفع يدعى جبل يشكر شمال شرق حي العسكر. وقد اختفى قصره ولكن جامعه الذي شيد سنة ٨٧٦ ـ ٨٧٧ م لا زال من أشهر أبنية القاهرة.

(٨٧) تلك هي ساحة الأزبكية الشهيرة التي تحتلها الحدائق حاليا. وهي مركز القاهرة الحديث. وكان الأمير يزبك الذي تنسب إليه الأزبكية هو القائد العام لدى السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي. وقد اختفت الأبنية المذكورة. أما الجامع ـ المدرسة الذى شيد عام ١٤٩٦ م فقد كان جديدا تماما في عصر المؤلف.


يأكله بما جمعته من المشاهدين» ثم يلتفت إلى الحمار ويناشده أن ينهض. ولكن الحيوان لا يتحرك مطلقا. وهنا تحين الفرصة لأن يوجه له عدة ضربات عصى متواترة. ولكن الحمار لا يبدي حراكا. وحينئذ يستأنف الرجل شعوذته ويقول : «سادتي : يجب أن تعلموا أن السلطان أصدر المرسوم التالي : على كل سكان القاهرة في الغد أن يخرجوا لحضور دخوله المظفر. وهو يأمر أن تركب كل سيدات المجتمع الراقي وكل النساء الجميلات على حمير جميلة وستعطيها شعيرا وشرابا من ماء النيل». وما يكاد المهرّج يتلفظ بهذه الكلمات الأخيرة حتى يقفز الحمار على قوائمه ويتصنع الزهو ويبدو فرحا جدا. ويستأنف المشعوذ : «الحقيقة لقد طلب مني عمدة الحي أن أعيره حماري الأنيق لزوجته العجوز والقبيحة» وعند سماعه هذه الكلمات يتظاهر الحمار بالاشمئزاز وكأن لديه ذكاء بشريا ، فيخفض عينيه ويأخذ بالمشي متصنعا العرج كما لو كان كسيحا. وعندها يقول له سيده : «هل تعجبك الصبايا إذن؟» وهنا يهز الحمار رأسه وكأنه يقول «نعم» ويستمر المهرج قائلا : «يوجد هنا الكثير من الصبايا ، قل لي إذن : من هي التي تعجبك أكثر؟» وهنا يدور الحمار حول دائرة النظار الذين توجد بينهم دائما بعض النساء اللواتي يتفرجن على المشهد ، فيختار أجملهن ويتجه نحوها ويلمسها برأسه. وعندها يصرخ الجمهور «هيه يا زوجة الحمار» استهزاء بالمرأة. وعندئذ يفقز المهرج على حماره ويمضي لمكان آخر.

وهناك نوع آخر من المشعوذين. ولدى هؤلاء عصافير صغيرة مربوطة إلى جانب صندوق صغير على شكل مائدة صغيرة. وتستخرج هذه العصافير بمنقارها بطاقات مكتوبة تشير إلى الحظ من الفأل الحسن أو العكس. وما على الذين يرغبون في التعرف على المستقبل إلا أن يرموا فلسا أمام العصفور الذي يحمله في منقاره ويضعه في العلبة ثم يعود حاملا في منقاره البطاقة التي تحمل الجواب المكتوب. وقد حدث لي شخصيا أن تناولت بطاقة حظ سيء لم أعرها أدنى اهتمام ، غير أن ما حدث لي كان أسوأ بكثير مما كان مكتوبا فيها (٨٨).

ويرى الإنسان أيضا فوق ساحة الأزبكية المتبارزين بالسيف والترس ،

__________________

(٨٨) «وهذا قبل أن يعود إلى بلاده بحرا ويسقط في أسر القراصنة عند جزيرة جربة. ويظهر هنا فرط تأثره على ما حدث له من آلام البعد عن الأهل والوطن والإكراه على تغيير الدين ولو إلى حين لأنه عاد إلى تونس في أواخر حياته ومات في أحضان الإسلام» (المترجم).


وبالعصا ، والمتصارعين ... إلخ وأناسا آخرين ينشدون أمجادا لمعارك بين العرب والمصريين في إثر فتح مصر. وعلى كل فإن الحماقات والدعابات والكلام القبيح الذي يقال هنا ، كل ذلك لا يحصره عد ، ويعتبر من وسائل التسلية. ولكن لا يمكن سرد كل هذه الأمور في كتاب كهذا.

الربض المسمى بولاق

بولاق ربض كبير يبعد مسافة ميلين تقريبا عن المدينة المسورة. ولكن نجد على طول الطريق بيوتا ومطاحن تديرها الحيوانات. وقد بنى هذا الربض القديم جدا على ضفة النيل. ويضم حوالي أربعة آلاف أسرة. ويشتمل على كثير من الصناع والباعة ولا سيما تجار الحبوب والزيت والسكر.

وتوجد في هذا الحي أبنية جميلة كالجوامع والبيوت ومدارس الطلاب. والبيوت المبنية على ضفة النيل على الخصوص ، جميلة جدا ، وإنها لمتعة كبيرة أن يرى الإنسان من نوافذ هذه البيوت السفن التي تأتي من طريق النيل لميناء القاهرة الواقع في هذا الربض. ويظهر هنا أحيانا حوالي ألف مركب في الميناء ولا سيما في موسم حصاد الحبوب. وهنا يقف موظفو الضريبة الذين يراقبون البضائع القادمة من الإسكندرية أو من دمياط. غير أن هذه البضائع لا تخضع إلا لضرائب خفيفة بعد أن دفعت عنها رسوم المكس عند إنزالها على الشط. ولكن البضائع التي تأتي من مصر هي وحدها التي تدفع رسما كاملا.

ربض القرافة

القرافة (٨٩) ربض أشبه بمدينة صغيرة ، على مسافة رمية حجر من الجبل ، وعلى مسافة ميلين تقريبا من أسوار المدينة وتضم حوالي ألفي أسرة. وقد كانت في الماضي أكثر سكانا مما هي في الوقت الحاضر حيث تظهر شبه مخربة. وتظهر فيها قبور عديدة لشخصيات يعتبرها العوام ، في جملة حمقهم ، كأنهم أولياء. ولهذه القبور (٩٠) ابنية

__________________

(٨٩) القرافة من اسم قبيلة عربية كانت تعسكر عند قدم المقطم عند الفتح ، ثم اتخذ هذا الاسم معنى مقبرة في القاهرة.

(٩٠) تدعى الآن قبور المماليك.


عالية مع قباب جليلة. وهي مزدانة من الداخل بنقوش متنوعة وبرسوم ، وأرضها وجدرانها مغطاة بأجود أنواع الزرابي ، ويأتي كثير من أهل القاهرة وأرباضها في صبيحة أيام الجمعة لزيارة هذه الأضرحة ورعا وتبركا ويتركون فيها صدقات عديدة.

المدينة القديمة المسمّاة مصر العتيقة

وهي أول مدينة بنيت في مصر في عصر المسلمين (٩١) وقد أسسها عمرو والي ثاني خليفة ، عمر (٩٢). وقد بناها على ضفة النيل. وهي ليست محاطة بسور ، ولكنها بنيت على شكل ربض كبير يمتد على طول النيل ، وتوجد فيها بضعة قصور عالية ، ولا سيما تلك التي تقع على ضفة النهر. وفيها جامع عجيب ، يدعى جامع عمرو ، ويعتبر مدهشا لجماله وعظمته ومتانته (٩٣). وهذه المدينة مجهزة بما يكفي من صناع من مختلف المهن.

وهنا يوجد قبر السيدة المبجلة جدا لدى المسلمين وهي السيدة نفيسة (٩٤). وقد كانت ابنة المسمى زين العابدين بن علي ، ابن عم محمد (صلّى الله عليه وسلّم) (*). وبعد أن رأت هذه السيدة أسرتها وقد انتزعت منها الخلافة على أيدي أقاربها أنفسهم ، انتابها اليأس ، وغادرت الكوفة ، وهي مدينة ببلاد العرب السعيدة ، وجاءت لتسكن هذه

__________________

(٩١) كانت موجودة قبل ذلك بثمانية أو تسعة قرون باسم بابل ، وربما تأسست على يد جماعة قدمت من بابل وظلت معروفة بهذا الاسم بعدئذ على ألسنة الأوربيين ، وكان سلطان مصر. يحمل حتى ذلك العصر لقب سلطان أو سلطان بابل.

(٩٢) عمرو بن العاص والى مصر من قبل عمر بين الخطاب.

(٩٣) عندما رأى المؤلف جامع عمرو كان هذا قد توسع منذ عهد قريب وجرت عليه تصليحات.

(٩٤) هذا خطأ ، لأن المسجد الذي يحوي ضريح السيدة نفيسة يقع عند أحد أبواب القرافة.

(*) [سلسلة النسب التي ذكرها المؤلف غير صحيحة. فالسيدة نفيسة صاحبة المقام المعروف في مصر هي بنت الحسن الأنور ابن زيد الأبلج ابن الحسن بن علي بن أبي طالب وقد تزوجت من إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين. فهي حفيدة الإمام الحسن لا الإمام الحسين وزوجها هو الذي يتصل نسبه بالحسين. ولدت السيدت نفيسة بمكة المكرمة سنة ١٤٥ ه‍ وتوفيت بمصر سنة ٢٠٨ ه‍. وأنجبت من زوجها إسحاق الذي كان يدعى إسحق المؤتمن ، ولدين هما القاسم وأم كلثوم. وقد كان لها بمصر مجلس علم حضره الإمام الشافعي نفسه وسمع عليها فيه الحديث] (المراجع).


المدينة (٩٥). ولهذا أصبحت نفيسة معتبرة لدى الشعب ، نظرا لحياتها الفاضلة جدا التي كانت تحياها ، ولأنها من أسرة محمد (صلّى الله عليه وسلّم) ، على أنها من أولياء الله. ولهذا السبب عمل الخلفاء الشيعيون في فترة حكمهم ، وهم من أقارب هذه السيدة ، على تشييد ضريح حسن جدا لها ، ازدان اليوم بسجاد الحرير وبالمصابيح الفضية (٩٦) ... الخ وبلغت شهرة نفيسة درجة جعلت كل مسلم يأتي إلى القاهرة ، سواء كان تاجرا أم غير تاجر ، جاء عن طريق البر أو البحر ، يقصد هذا الضريح للتشرف به ويقدم له النذور والهدايا. ويصنع كل سكان المناطق المجاورة نفس الشيء ، حتى إن الصدقات تصعد سنويا إلى مائة ألف أشرفي ، وتوزع بين الفقراء من نسل محمد (صلّى الله عليه وسلّم) وعلى الذين يقومون بخدمة الضريح. ويحاول هؤلاء باسم الكرامات المزعومة المنسوبة لهذه السيدة أن يشحذوا ورع البسطاء ليدفعوا بهم إلى حماس أكبر وإلى أن يبسطوا أيديهم كل البسط بالصدقات والنذور التي تعود فائدتها على هؤلاء. وعلى أثر دخول عظيم الترك سليم إلى القاهرة (٩٧) قامت الانكشارية بنهب المزار ووجدوا فيه خمسمائة ألف أشرفي نقدا ، هذا عدا المصابيح والسلاسل الفضية والسجاد. وقد أعاد سليم القسم الأعظم من هذا الكنز للضريح. أما الذين كتبوا عن حياة الأولياء المسلمين فلا يكادون يشيرون بأي ذكر لهذه السيدة : وقد قالوا إنها كانت سيدة شريفة طاهرة ونبيلة من أسرة علي. ولكن العامّي في سذاجته اعتقد في هذه الكراما وهذه الكرامات هي التي شكلت ثروة هذا القبر.

وفي جنوبي هذه الضاحية ، على النيل ، يقوم المكس بالنسبة للبضائع القادمة من الصعيد.

* هذا ويوجد في خارج المدينة المسوّرة أضرحة السلاطين وهي جميلة وفخمة ،

__________________

(٩٥) لقد اغتيل الإمام علي ، ابن عم الرسول وصهره ، في جامع الكوفة ، وهي مدينة فى العراق وليست في اليمن ، بتاريخ ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٦٦١ م وتوفي بعد يومين. وقد كان قريبه ومنافسه معاوية قد أصبح خليفة بدمشق ، واعترفت به أكثرية المسلمين. وكان معاوية الحفيد الأصغر لأمية ، ابن عم جد الرسول ، واتخذت الأسرة التي انشأها معاوية لهذا السبب اسم الأسرة الأموية.

وأضطرت أكثرية العلويين لمغادرة أوطانهم. وقد التجأت زينب بنت على وأخوها زين العابدين إلى الفسطاط.

(٩٦) كان الخلفاء الفاطميون يدعون أنهم ينحدرون من على ومن فاطمة ، ابنة الرسول محمد (صلّى الله عليه وسلّم)

(٩٧) في ٢٢ كانون الثاني (يناير) ١٥١٧ م.


ومبنية بشكل حسن جدا ، ومؤلفة من أبنية مرتفعة تعلوها قباب كبيرة. وقام سلطان عاش في زمن قريب منا بمد شارع بين جدارين عاليين ، يبدأ من أحد أبواب المدينة ويمتد حتى المكان الذي توجد فيه القبور (٩٨). وفي نهاية هذين الجدارين ، كان يوجد برجان للحرس الذي يرصد البضائع القادمة من ميناء جبل سيناء.

وعلى مسافة ميل من هذه الأضرحة تقع الأراضي الزراعية المسماة المطريّة. وهنا يقع البستان والشجرة الوحيدة التي تنتج البلسم ، إذ لا يوجد في العالم قاطبة سوى هذه الشجرة. وقد زرعت في وسط نبع يشبه البئر ، وهي ليست بالشجرة الكبيرة جدا وأوراقها تشابه أوراق الكرمة ، ولكنها أصغر. وبناء على ما سمعته يعتقد السكان أنه إذا انخفض ماء العين ، يبست الشجرة فورا ، وسيحدث لها أسوأ من ذلك إذا سقيت من ماء آخر. وفي ذلك إحدى عجائب الطبيعة. والبستان الذي تقع فيه محاط تماما بأسوار حصينة ، ولا يمكن الدخول إليه إلا بالتماس كبير أو بفضل بعض الهدايا التي تقدم للحارس (٩٩).

وتقع في وسط النيل ، وتجاه المدينة القديمة ، جزيرة تدعى المقياس ، لأنه يظهر فيها الجهاز الذي يقيس فيضان النيل (١٠٠). وبالفيضان يتعلق الرخاء أو المجاعة التي سيسود أحدهما في مصر. وهي تجربة لا تخطىء توصل إليها قدامى المصريين.

وهذه الجزيرة غاصة بالسكان ، وتحوي قرابة ألف وخمسمائة أسرة. ويظهر في نهايتها قصر كبير بناه سلطان عاش في أيامنا ، وجامع فسيح ذو مظهر جميل لأنه على حافة النهر. وعلى طرف هذا الجامع يقع بناء صغير منعزل ومغلق ، أقيمت في وسطه حفرة مربعة مغطاة عمقها سبعة عشر ذراعا (١٠١). وعلى واجهة هذه الحفرة تنفتح قناة باطنية

__________________

(٩٨) كانت قبور السلاطين التي تدعى خطأ اليوم قبور الخلفاء ، أي أضرحة الخلفاء الفاطميين ، كانت واقعة في المكان الذي قام فيه خان الخليلي ، ولكنها خربت واختفت ، مثلما اختفى الطريق المذكور. ومن المحتمل أن برح الظفر الذي بقيت منه أطلاله ، كان أحد برجي المراقبة. أما ميناء سيناء فمن المحتمل أنه كان القلزم الذي حل مكانه ميناء السويس.

(٩٩) هناك مسافرون فرنسيون معاصرون تقريبا للمؤلف أعطونا وصفا عن بستان المطرية ، أي بستان العذراء مريم ، وكذلك عن البلسم ، أكثر تكاملا وأكثر صحة. فلم يكن عبارة عن حديقة هزيلة يقصدها السياح ، بل كان من أكثر الأمكنة أهمية في العالم.

(١٠٠) وتدعى هذه الجزيرة الروضة ، وكان المقياس في نهايتها.

(١٠١) في الحقيقة ١٤ ذراعا ، والذراع ٥٤ سم ، ويقسم كل ذراع من الأذرع العشرة العليا إلى ٢٤ قيراطا ، أو إصبعا ، او ٢٢٥١ سم.


تتصل مع مجرى النيل. وفي وسط الحفرة عمود مدرّج ومقسم إلى عدد مساو من الأذرع لعمق الحفرة ، أي سبعة عشر ذراعا. وعندما يأخذ النيل بالزيادة (١٠٢) ، يدخل الماء في القناة ويصل إلى الحفرة. ويصعد يوميا بمقدار إصبعين ، وفي يوم ثلاثة أصابع ، وفي يوم آخر نصف ذراع. ويأتي كل يوم أشخاص معينون لهذه الوظيفة لمراقبة ارتفاع الفيضان على هذا العمود (١٠٣). وينقلون ذلك لأولاد معممين بمنديل أصفر كي يمكن التعرف عليهم ، ومهمة هؤلاء الأولاد إعلان ارتفاع النيل في سائر أنحاء القاهرة وفي الأرباض. وينالون على ذلك هدايا من كل الصناع ومن كل التجار ومن النساء حتى نهاية الفيضان. وتبيّن التجربة أنه إذا بلغ الفيضان خمسة عشر ذراعا على العمود ، فإن العام سيكون ممتازا (١٠٤) ، وإذا لم يبلغ مستواه لأكثر من اثني عشر ذراعا إلى خمسة عشر ذراعا فإن العام سيكون هزيلا. أما إذا تراوح بين عشرة أو اثني عشر ذراعا فإن هذا يدل على أن سعر كيل القمح سيبلغ عشرة دنانير. ولكن إذا بلغ الفيضان ثمانية عشر ذراعا فإن كل الأماكن المسكونة في مصر ستتعرض لخطر الغرق. وعلى موظفي المقياس تحذير السكان من ذلك ، وينطلق الأولاد في الشوارع صارخين : «أيها الناس اتقوا الله من جبل إلى جبل». وهذا معناه أن الماء يصل إلى الجبل في ضفة النيل وإلى الجبل الآخر على الضفة الأخرى. وعندئذ يستبد الخوف بالناس ويؤدون الصلوات ويعطون الصدقات.

وهكذا يستمر تزايد النيل في اثناء أربعين يوما ويتناقص في أثناء نفس الفترة من الوقت (١٠٥) ، وفي أثناء تلك الفترة من حركة المياه يلاحظ نقص في الأقوات. ولهذا يكون لكل واحد الحق في أن يبيع الخبز بالسعر الذي يريد. ولكن ذلك يتم مع نوع من (١٠٦)

__________________

(١٠٢) أي من بعد ١٧ حزيران (يونية).

(١٠٣) كان هناك شيخ مقياس النيل ، كان له في الماضي لقب القاضي.

(١٠٤) كان يعلن عن وفاء النيل عندما كان مقياس النيل يبلغ ١٥ ذراعا و ١٦ إصبعا أي ٤٥ ، ٨ م.

(١٠٥) لقد بدلت المشاريع الهيدروليكية الهائلة التي حدثت في عصرنا ، وضع الفيضان ونظمته. ولكن قبل ذلك كان يعلن عن الفيضان عموما في القاهرة في يوم ١٧ حزيران (يونية) عن طريق تبدل لون المياه التي تأخذ بالصعود حوالي يوم ٢١ حزيران (يونية). وفي ٤ تموز (يولية) كان المنادون يظهرون في الشوارع ليعلنوا كل يوم عن ارتفاع الماء وحوالي منتصف آب (أغسطس) كان يعلن عن قدوم وفاء النيل ، الذي كان يوم فتح السدود. ويؤدي فتح القنوات إلى تباطؤ الفيضان الذي يبلغ أقصاه حوالي ٢٦ أيلول (سبتمبر). ثم يبدأ النقصان ، بصورة غير منتظمة نوعا ما ، وفي شهر تشرين الثاني (نوفمبر) يكون نهر النيل قد عاد إلى مجراه.

(١٠٦) وبالتالي حوالي الأول من أيلول (سبتمبر) إذا كان خبر المؤلف صحيحا.


تحفظ وحيطة. وبعد مضي ثمانين يوما يحدد المحتسب سعر الأقوات ولا سيما سعر الخبز. ويقع هذا التسعير مرة واحدة في العام ، ذلك لأن الموظفين يعرفون استنادا إلى فيضان النيل ، المناطق التي رويت بشكل طيب ، والتي نالها الماء بإفراط ، والمناطق التي لم تأخذ كفايتها من الماء ، وذلك حسب مستوى أرض الزراعة. وعلى أساس هذه المعطيات تثبت أسعار القمح. وفي بداية أيام الفيضان في البلاد (١٠٧) يقام في القاهرة احتفال كبير جدا. وتقوم حينئذ ضجة من غناء وصراخ وموسيقى حتى لكأن المدينة قد انقلبت رأسا على عقب. وتستأجر كل أسرة مركبا وتزينه وهكذا يصبح كل السكان في المراكب ويلهو كل حسب وسائله. كما يشترك السلطان نفسه مع أمرائه الكبار وضباطه بهذا الاحتفال. ويذهب لقناة تدعى القناة الكبرى ، وهي قناة مسوّرة (١٠٨). وهنا يأخذ فأسا ويضرب الجدار ويقوم كبار شخصيات حاشيته بصنع نفس الشيء إلى أن يتخرب القسم من الجدار الذي كان يمنع وصول الماء. وعندئذ ينهمر ماء النيل حالا في القناة بعنف كبير ومنها يوزع في القنوات الأخرى في الضواحي وفي المدينة المسورة. حتى إن مدينة القاهرة لتشبه مدينة البندقية ، ويمكن التنقل في المركب إلى كل الأماكن المأهولة وإلى كل بلدان مصر. ويستمر الاحتفال سبعة أيام حتى إن كل ما يربحه بائع أو صانع في العام ينفقه في هذا الأسبوع على غذائه وعلى الحلوى والمشاعل والعطور ، وعلى الموسيقيين. وهذا العيد هو نوع من مخلفات قدامى المصريين(١٠٩).

* * *

وفي خارج القاهرة ، تقع قلعة السلطان بجانب ربض باب زويلة ، وقد شيدت على نتوء من جبل المقطم. وهذه القلعة محاطة بأسوار عالية ومتينة ، وهي مطوقة بقصور عجيبة تعجز الكلمات عن وصفها ، ومبلطة بأنواع من الرخام المتعدد الألوان ، ومجموع بعضها إلى بعض بشكل مدهش. وقد كسيت السقوف بالذهب وبأزهى الألوان. والنوافذ مزدانة بزجاج ملوّن ، كالتي يرى منها في بعض أنحاء أوربا. ونجارة الأبواب منقوشة بفن رفيع ومغطاة بالرسوم وبالتذهيبات. وكانت هذه القصور

__________________

(١٠٧) أي يوم وفاء النيل حيث يتم فتح السدود كي ينساب الماء في القنوات ومنها يغمر الأراضي القابلة للزراعة.

(١٠٨) في فم الخليج ، أي فم القناة الكبرى.

(١٠٩) كان فرعون يذهب بنفسه بالفعل لكسر السد .. وعيد الوفاء كان موجودا دائما ، ولكنه رمزي صرف ، وهو نوع من تقليد منذ أن أصبح فيضان النيل نوعا من حياة او موت بالنسبة لشعب مصر.


مخصصة سواء لأسرة السلطان ذاته ، أو لنسائه ، أو لمحظياته ، أو لخصيانه ، أو لحرسه ، وكان البعض منها مخصصا لولائم السلطان الرسمية أو لاستقبال السفراء ، وحيث تقام احتفالات الأفراح الكبرى. وكانت هناك قصور أخرى مخصصة للموظفين المكلفين بإدارة البلاط. ولكن كل ذلك اختفى الآن. فقد ألغى السلطان سليم كل ذلك (١١٠).

عادات وثياب وتصرّفات سكان القاهرة وأرباضها

سكان القاهرد أناس لطفاء ومرحون. وهم لا يبخلون بالكلمات الطيبة ، ولكنهم لا يصنعون الكثير من الأشياء ، كما هو مألوف في كل مدن القانونية الكبرى. ويزاولون التجارة والصناعة ، غير أنهم لا يخرجون من بلادهم. وينصرف كثير منهم لدراسة الشريعة ، والقليل منهم لدراسة الآداب. وعلى الرغم من أن المدارس تكون دائما مليئة بالطلاب ، فليس هناك سوى عدد قليل منهم من الذين يحصلون على فائدة من ذلك.

ولأهل القاهرة هندام حسن. ففي الشتاء يلبسون أقمشة صوفية وبعض الثياب المحشوة بالقطن ، أما في الصيف فيلبسون قمصانا طويلة من قماش رقيق وفوقه نوع من ثوب من قماش مصنوع من حرير ومقلم بالألوان أو ثوبا من الحرير ويضعون فوق الرأس عمائم كبيرة من قماش الكريب والمستورد من الهند.

ويظهر البذخ على لباس النساء ، فهن يخرجن متبرجات بالحلى التي يلبسنها على شكل أطواق على الجبين وفي العنق. ويضعن فوق رءوسهن عصابة غالية الثمن ، ضيقة تعلوها ريشة (١١١) على شكل أنبوب. وتتألف كسوتهن من ثوب من جوخ ذي أكمام طويلة. وتختلف طبيعة القماش ، ولكن الثوب يكون مفصلا بعناية ومزدانا بتطريزات بديعة. ويلففن جسومهن بوشاح من قماش القطن الرقيق جدا والشديد النعومة والمستورد من الهند. ويضعن على وجوههن برقعا صغيرا أسود اللون من قماش غاية في

__________________

(١١٠) لقد كانت قلعة الجبل هذه عبارة عن مدينة ملكية حقيقية. وقد كتب الرحالة جان تينو والمعاصر للمؤلف «لم يكن قصر السلطان أقل اتساعا من مدينة أورليئان».

(١١١) حوالي ٢٢ سم.


الرقة ، ولكنه خشن نوعا ما حتى ليقال إنه مصنوع من الشعر. وبفضل هذا البرقع يستطعن رؤية الرجال دون أن يمكن التعرف عليهن. وينتعلن في أقدامهن خفا أو أحذية جميلة على الطراز التركي. وهذه النسوة عاليات الكلفة كثيرا ويعلقن أهمية كبرى على ما يقال ، حتى إنه لا توجد واحدة منهن تقبل أن تغزل ، ولا أن تخيط الثياب ، أو تطهو الطعام. ولهذا يجب على الزوج أن يشتري من الخارج الطعام الجاهز المطبوخ من محلات الطباخين والشوائين. والقليل من الناس هم الذين يصنعون طعامهم ببيوتهم ، باستثناء العائلات الكثيرة العدد. وتتمتع هذه النسوة بحرية كبيرة وبالكثير من الاستقلال. وهكذا فعندما يذهب الزوج إلى دكانه ، تلبس الزوجة ثيابها وتتعطر ، ثم تستأجر حمارا وتذهب لتتنزه في المدينة ولزيارة أهلها وأصدقائها.

وإليكم بعض التفاصيل عن الحمير التي تركبها النساء والرجال. ففى القاهرة توجد جماعة من الناس تعيش من مهنة تأجير الحمير. ولديهم من أجل ذلك حيوانات كبيرة مدربة لها مظهر الرهاوين (١١٢) وتكون مزدانة ببراذع جميلة. ويؤجرونها مع أحد غلمانهم كسائق ومع الركابين (١١٣). وفي القاهرة عدد كبير جدا من الأشخاص الذين لا يمشون ربع ميل على أقدامهم. وفي هذه المدينة كما فى كثير من المدن الأخرى عدد لا يحصى من الذين يتجولون طيلة النهار ، وهم يبيعون أشياء مختلفة كالفواكه والجبن واللحم النيىء والمشوي ، والسلع الأخرى من هذا الصنف. ويوجد كذلك عدد كبير من الرجال الذين يحملون على الجمال كميات من القرب المليئة بالماء ، لأن المدينة تقع ، كما قلت ، على مسافة ميلين من النيل. ويحمل رجال آخرون قربا معلقة برقبتهم ، وهذه القربة مزخرفة بتزيينات وفتحتها مجهزة بأبنوبة من النحاس الأصفر. ويحملون بيدهم طاسة رشيقة منقوشة بصورة فنية ويسيرون منادين على مائهم. ويدفع الزبون نصف فلس من عملتهم المحلية.

ويرى الإنسان كثيرا من باعة «الكتاكيت» يتجولون في المدينة ويبيعونها بالكيل لا بالوحدة حسب عادة البلد ، ولهؤلاء الناس أسلوب مدهش لتفقيس الفراخ. وهم يأخذون ألف بيضة أو أكثر ويضعونها جميعا في نوع من أفران متعددة الطوابق ، ويكون

__________________

(١١٢) أى تمشي رهوا وهو سير لا يتعب الراكب كثيرا

(١١٣) الركابى هو الذى يساعد الفارس على الركوب وعلى النزول وكان يحمل الحقائب أو صرر الثياب.


الطابق العلوي مثقوبا بفتحة. ويوقدون نارا هادئة تحت هذه الأجهزة. وبعد سبعة أيام تبدأ الفراخ بالتفقيس بأعداد كبيرة. وتجمع هذه الفراخ في أوعية كبيرة وتباع مستخدمين كيلا بدون قعر يوضع في سلة المشتري. ويملأ هذا الكيل بالكتاكيت وعندما تمتلىء ترفع. ويدفع المختصون بتفقيس هذه الفراخ ضريبة عالية للسلطان (١١٤). ويحتفظ أصحاب المطاعم بدكاكينهم مفتوحة حتى منتصف الليل ، بينما يغلق الآخرون قبل الساعة الثالثة والعشرين ويذهبون من ربض لآخر كي يتروضوا ويمرحوا في المدينة.

* * *

هذا ويخلو الحياء من أحاديث سكان القاهرة. ولنضرب صفحا عن كل هذه العيوب ، ولكن لنذكر أن كثيرا ما تشتكي زوجة ما أمام القاضي من أن زوجها لا يقوم كل ليلة كما يجب بوظيفته الزوجية. وكثيرا ما يكون هذا سببا للطلاق ، والزواج مرة ثانية ، وهذا ما سنقوله بعد في الكتاب الصغير الحاضر عن الشريعة المحمدية ويؤكد كاتب هذه السطور أنه رأى في القاهرة أشياء على درجة من القبح تجعله يستحي من الكلام عنها.

* وحينما يحدث أن يقوم واحد من الصناع ، في مهنته ، بإنتاج شيء جميل يدل على الابتكار ، الذي لم يسبق أن رأى أحد له مثيلا ، يكسى بعباءة من قماش الحرير ، ويطوفون به من دكان لدكان ، مصحوبا بموسيقيين ويعطيه كل منهم شيئا من المال. وقد رأيت في القاهرة رجلا حاز على هذه التشريفات الاقتصادية لأنه صنع سلسلة لبرغوث كان يمسك به مكبلا فوق ورقة. وكان أحد رفاقه يريه للناس ويجمع النقود. كذلك رأيت ضربا من البراعة قام به أحد السقائين الذين يتجولون حاملين قربا معلقة برقابهم. فقد راهن صاحبنا آخر بأنه سيحمل قربة من جلد عجل ، مليئة بالماء ومربوطة بسلسلة من حديد عدة أيام ، وفي أثناء سبعة أيام متتاليات ، من الصباح إلى المساء ، ظل يحمل هذه القربة المعلقة بسلسلة تمر فوق كتفه العاري ، إلى أن ربح الرهان. وقد تلقى تكريمات النصر الباهر ، مع مواكبته بمختلف الموسيقيين وبكل

__________________

(١١٤) وهي صناعة مصرية وطنية تعود لأقدم عصور التاريخ.


سقائي القاهرة الذين يقارب عددهم ثلاثة آلاف. ومن وجهات نظر أخرى فإن سكان القاهرة ليسوا على قدر كبير من الشجاعة. وليس لديهم أسلحة في منازلهم ، ولا يعثر الإنسان على سكين لقطع الجبن إلا بصعوبة. وقد يتشاجرون أحيانا ويتبادلون اللكمات ، في حين تهرع فئات المشاهدين ولا ينصرفون حتى يتم الصلح بين المتخاصمين.

وأكثر انواع الغذاء رواجا لحم الجاموس مع كمية كبيرة من الخضر. وعند الطعام يمدّ خوان قصير ومستدير ، هذا إذا لم تكن الأسرة كثيرة العدد ، وإذا كانت الأسرة كثيرة الأفراد يستخدم سماط طويل كالذي يستعمل في البلاط.

ويوجد لدى المسلمين مذهب ديني يبيح أكل لحم الحصان (١١٥). وعندما يتعرض حصان لكسر في أحد أطرافه ويصبح عاجزا عن العمل ، يشتريه الجزارون الذين يتبعون هذا المذهب ، ويسمنونه ، ويذبحونه ، ويتهافت الناس على شراء لحمه. ويدعى هذا المذهب بالمذهب الحنفي (*). ويتبع الأتراك هذا المذهب والمماليك ومعظم مسلمي آسيا. ومع أن لحم الحصان شرعي وحلال بالنسبة للأتراك فليس من عادتهم أكله.

ونجد في القاهرة كما في كل مصر أربعة مذاهب دينية مختلفة فيما بينها في إقامة العبادات وفي تطبيق الشريعة المدنية والقانونية ، ولكنها ترتكز جميعا على تعاليم القرآن. وعلينا أن نعرف أن أربعة علماء أوجدوا ، في الماضي ، وذلك بفضل اجتهادهم ، أوجدوا طريقة لاستنباط حالات فريدة في العموميات التي جاءت في دين محمد (صلّى الله عليه وسلّم). وقد فسر كل منهم القرآن حسب وجهة نظره واستخلص منه النتائج

__________________

(١١٥) «عادة أكل لحم الحصان ليست جديدة ولا تلفت النظر ، فقد ذبح حاتم الطائي فرسه ليقدمها لضيوفه. كما أن مسلمي القفقاس يأكلونه وكذلك حاليا في أوربا ولا سيما في باريس ، ولكن غلاء ثمنه في العصور الماضية في عالم الإسلام حال دون ذبحه وبالتالي نسيان عادة استهلاك لحمه» (المترجم).

(*) [في مذهب الإمام أبي حنيفة فيما يتعلق بأكل لحم الفرس قولان : أحدهما ينسب للإمام نفسه ويقرر أن أكله جائز ولكنه مكروه كراهة تنزيه (أي كراهة خفيفة) في رواية ، وكراهة تحريم (أي كراهة شديدة) في رواية أخرى ؛ والآخر ينسب للصاحبين (وهما أبو يوسف ومحمد من أبرز تلاميذ أبي حنيفة) ويقرر أن أكله جائز ولا كراهية فيه. ـ هذا وهناك مذاهب أخرى غير مذهب أبي حنيفة من مذاهب أهل السنة وغيرهم يجيز أكل لحم الفرس. ـ انظر الميداني على القدوري في مذهب أبي حنيفة ص ٣١٧] (المراجع).


التي اعتقد أنها صائبة ، ولهذا تختلف آراؤهم كثيرا (١١٦) بعضها عن بعض ، وقد اكتسب هؤلاء العلماء الأربعة شهرة عظيمة بفضل شدة التقدير التي اكتسبته قواعدهم. وكانوا هم أهل المذاهب الأربعة واعتبروا رؤساءها. وتتبع كل أمة من الأمم الإسلامية أحد هذه المذاهب. وعندما يعتنق أحدهم واحدا من هذه المذاهب لا يستطيع تركه واتباع آخر ، إلا إذا كان ضليعا يفهم الأسباب ويدركها. ويوجد في القاهرة أربعة أشخاص يدعون شيوخ القضاة والذين يفصلون في القضايا الهامة (١١٧).

وقد وضع تحت سلطة كل واحد منهم عدد لا يحصى من القضاة ، حتى إننا لنجد منهم اثنين أو ثلاثة في كل حي للفصل في القضايا العادية جدا. فإذا كان المدعى عليه يتبع مذهبا وخصمه مذهبا آخر ، فإن المدعي يذكر هذا أمام القاضي الذي يتعلق به. ولكن المدعى عليه يستطيع الاستئناف أمام قاض معين من قبل الأربعة كقاض أعلى ، وهو قاضي المذهب الشافعي. وإذا ارتكب أحدهم عملا محظورا في المذهب الذي يتبعه ، فإن قاضي هذا المذهب يعاقبه بشدة.

كما يتمسك أئمة هذه المذاهب المختلفة فيما بينهم باختلافات في طرائق الصلاة ، وفي عدة مناسبات أخرى ولكن رغم هذه الاختلافات ، فليس لدى أحد أي حقد أو كره للآخرين ولا سيما بين عامة الشعب. ولكن تقوم أحيانا بين المثقفين ، الذين تعمقوا في الدراسات ، مناقشات ويتنازعون على حالات خاصة ، ويدافعون عن وجهات نظرهم ، ويرغب كل واحد في أن يبرهن على أن مذهبه هو الأفضل. وعلى كل حال لا يستطيع أن يتكلم أي منهم بسوء نحو أحد العلماء الأربعة الكبار ، لأن من يجرؤ على ذلك ينال عقوبات جسدية قاسية. والمسلمون متساوون في مادة الإيمان لأنهم يظلون على النهج الذي رسمه الأشعري سيد علماء التوحيد ، ومذهبه هو المتبع

__________________

(١١٦) القرآن والأحاديث النبوية ، اللذان يؤلفان مصدري الإسلام السني ، يعتبر ان أساس عقيدة لا تمس إطلاقا.

ولكنها فسرت حب طرائق مختلفة ، منها أربعة تعتبر مقبولة لدى الإسلام السني الأصيل. وهذه المذاهب هي : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، وهي مذاهب الإمام مالك بن أنس ، من المدينة المنورة ، المتوفي عام ٧٩٥ م ، ومذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، من الفسطاط ، والمتوفي عام ٨٢٠ م ، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل من بغداد ، والمتوفي سنة ٨٥٥ م ، ومذهب الإمام أبي حنيفة بن النعمان بن ثابت ، من الكوفة والمتوفي سنة ٧٦٧ م.

(١١٧) لم يكن في القاهرة سوى قاض قضاة شافعي واحد يساعده ثلاثة نواب ، يعتبر كل واحد منهم كقاضي قضاة في مذهبه الواحد حنفي والثاني مالكي ، والثالث حنبلي. وقد شغل المؤرخ الشهير ابن خلدون المتوفي في ١٦ آذار (مارس ١٤٠٦ م في القاهرة ، وظيفة قاضي قضاة المالكية ، وهي وظيفة تسنّمها في عدة مناسبات منذ عام ١٣٨٤ م.


في كل أفريقيا وآسيا ، باستثناء البلاد التي يحكمها الصوفي (١١٨). فسكان هذا القطر الأخير لا يتبعون قاعدة الأشعري ، ولا أيا من المذاهب الأربعة ، ولهذا يعتبرون رافضة. وسيكون طويلا وباعثا على السأم إذا أردنا تفسير الأسباب التي تعلل الاختلافات في الرأي التي حدثت بين هؤلاء العلماء. ولقد عرفتها في كتاب صغير كتبته عن الإيمان والشريعة المحمدية استنادا إلى مذهب الإمام مالك (١١٩) ، وهو رجل على قدر عظيم من الذكاء والمعرفة العالية ، ولد في مدينة النبي ، أي في المدينة التي دفن فيها محمد (صلّى الله عليه وسلّم). ومذهبه متبع في كل إفريقيا ، كما نجده أيضا في مصر ، وفي سورية ، وفي جزيرة العرب ، ومن يجد فائدة في معرفة المزيد فليس عليه سوى قراءة ذلك المؤلف ، وسيحصل على كل بغيته.

والعقوبات المفروضة على المفسدين في مصر قاسية ومؤلمة ، ولا سيما التي تصدر في محكمة الملك. فالذي يسرق يشنق. والذي يرتكب جناية قتل غدرا يتعرض للعقاب التالي : يمسك به أحد اعوان الجلاد من قدميه ، ويمسك الآخر برأسه ، ويمسك منفذ الإعدام المسلح بسيف في يديه. ويقطع الجسم الى قسمين. ويوضع القسم الأعلى فوق كومة من الكلس الحي وقد يعيش مدة عشرين دقيقة مستمرا في كلامه. وهو شيء رهيب عند المنظر وعند السماع (١٢٠). اما القتلة والمتمردون فيسلخ جلدهم وهم أحياء كما يحشى جلدهم بالنخالة ويخاط ، بحيث يكون له مظهر رجل عادي. ويوضع هذا التمثال على جمل ويطاف به في كل المدينة مع المناداة على الجرم الذي اقترفه هذا المعاقب. وهذا هو أفظع عقاب قضائي رأيته في العالم لأن المحكوم يتعذب كثيرا قبل ان يموت وذلك أنه يظل يتعذب وهو يسلخ حيا ، ولا يموت الّا حينما تصل سكين السلخ الى سرته ، فحينئذ يقضى عليه فورا. ولكن هذا لا يمكن ان يحدث الّا بناء على أمر خاص من السلطة العليا.

__________________

(١١٨) ولد أبو الحسن علي الأشعري عام ٨٧٣ م في البصرة وتوفي في بغداد سنة ٩٣٥ م. ولم يقف بحثه عند حد العقيدة بل تعرض كذلك إلى المسائل العملية التي تتعلق بسلوك المسلمين في حالات معينة. وقد اتخذ الإسلام السني وجهات نظره عن مسئولية الإنسان الشخصية ، وعن الصفات الإلهية ، وعن القرآن الخالد وغير المخلوق ... الخ. والصوفى هو شاه فارس.

(١١٩) هو مذهب الإمام مالك بن أنس.

(١٢٠) يبدو هذا الامر مستحيلا من الناحية الفيزلولوجية ، غير أنه قد تأكد في أماكن أخرى. وكان هذا العقاب دارجا ، ويدعي عقوبة الوسط ، كعقاب قطع الرأس بالمقصلة في أوربا.


أما الأشخاص المسجونون بسبب ديونهم ، إذا عجزوا عن التسديد ، فان قائد السجن يعوض على دائنيهم نيابة عن هؤلاء. فيمسك بهؤلاء التعساء معتقلين ، ويرسلهم كل يوم إلى مدينة مكبلين من الرقاب تحت قيادة حراسهم طلبا للصدقة. ويستلم هذا مجموع هذه الصدقات ولا يترك للمساجين إلا ما يكفيهم ليحيوا حياة بائسة.

* * *

وهناك نساء عجائز يتجولن في المدينة ، يصحن بعبارات لا أفهمها. ومهنتهن هي ختن البنات ، وهي عملية أمر بها محمد (صلّى الله عليه وسلّم) (*) ولكن لا تطبق إلا في مصر وفي بلاد الشام (١٢١).

السلطان

أهمّ موظفيه وضبّاطه حسب مرتباتهم

جرد سلطان مصر من منصبه ومن سلطته على يد عظيم الترك سليم في عام ١٥١٧ من ميلاد المسيح (١٢٢). وبذلك تغيرت جميع النظم التي كانت متبعة في عهد سلاطين مصر ، وبما أنه قد اتفق وجودي بمصر في عهد قريب من عهد هؤلاء السلاطين. وأنني استطعت ان أرى وأن أدرس نمط الحياة في هذا القطر في أثناء الرحلات الثلاث التي قمت بها ، وذلك كما سبق أن قلت في هذا المؤلف الصغير ، يتراءى الى أنه من المفيد إعطاء المعلومات التالية عن بلاط السلطان وعن تسلسل المراتب فيه.

السلطان ـ وكان أكثر المماليك شرفا ، ومن ثم كان ينتخب لهذه المرتبة ولهذه الدرجة.

وكان المماليك نصارى أسروا في طفولتهم على أيدي التتر من اقليم الشراكسة على

__________________

(*) [لم يثبت ورود أمر ولا استحباب بذلك من الرسول عليه السّلام] (المراجع).

(١٢١) عادة لا تزال دارجة في أيامنا في مصر وفي منطقة الدناقل في السودان ، وتقوم على بتر البظر.

(١٢٢) لقد تم تسليم آخر سلطان مملوكي ، وهو طومان باي ، بعد محاولته القيام بمقاومة يائسة ، الى السلطان سليم عن طريق الخيانة وشنق في ١٢ نيسان ١٥١٧ م.


البحر الاسود (١٢٣) ، وكانوا يباعون في مدينة تدعى الكافّة (١٢٤). ومن الكافة كان يأتي بهم الى القاهرة تجار ويشتريهم السلطان (١٢٥). الذي كان يقوم بتبديل اسمائهم التي تعمدوا عليها ، ثم يسلمهم لأساتذة في اللغة العربية وفي اللغة التركية وفي التربية العسكرية. وعن هذا الطريق كان هؤلاء المماليك يترقون ، عبر درجات ، الى مراتب ومناصب ، كي يصلوا أحيانا الى السلطة القصوى.

ولكن هذه العادة التي تقضي بأن يكون السلطان مملوكا أو عبدا لم تكن معهودة الا منذ مائتي وخمسين سنة ، اي منذ انقراض اسرة البطل صلاح الدين الذي كان مجده معروفا لدى الجميع (١٢٦).

وفي العصر الذي اراد فيه ملك القدس ان يحتل القاهرة التي كادت ان تصبح تابعة له بسبب جبن وغفلة الخليفة الذي كان يحكم وحده حينئذ (١٢٧) قام العلماء والقضاة بموافقة من الخليفة ، واستنجدوا بأمير من آسيا من أمة تدعى الكرد ، وهم قوم يعيشون تحت الخيام كالعرب وكان هذا الامير يدعي صلاح الدين (١٢٨).

__________________

(١٢٣) أي شراكسة من حيث المبدأ ، ولكن كان بينهم رقيق من كل أصل ، حتى من أصل أوروبي.

(١٢٤) أو تيودوزيا في الإغريقي ، وتدعى اليوم فودوزيا ، في شبه جزيرة القرم شمالي البحر الاسود.

(١٢٥) ومن هذا جاءت عبارة مملوك ، أي حصل عليه صاحبه مقابل ثمن.

(١٢٦) يبدو ان إنشاء هذه الفرقة الأجنبية الحقيقة ، اي جيش المماليك ، قد ظهر لأول مرة في أيام الخليفة العباسي المعتصم الذي حكم بين ٨٣٣ ـ ٨٤٢ م. وهكذا استطاع كل المرتزقة الشرقيين التوصل لأكثر وظائف الدولة أهمية.

فصلاح الدين نفسه ، الذي كان كرديا ، استخدم هؤلاء الأغراب على نطاق واسع ، ولكن أحد أحفاده وخلفائه ، وهو الملك الأيوبي نجم الدين أيوب الصالح ، الذي حكم بين ١٢٤٠ و ١٢٤٩ م ، هو الذي استحدث التنظيم المملوكي في مصر. واول سلطان مملوكي كان آيبك ، الذي انتخب في ٣١ تموز (يوليو) ١٢٥٠ م / ١٩ ربيع الثاني ٦٤٨ ه‍ ، وآخرهم هو طومان باي الذي شنق في ١٢ نيسان (ابريل) ١٥١٧ م / ١٩ ربيع الاول ٢٩٣ ه‍ فالسلاطين المماليك قد احتفظوا إذن بالسلطة الملكية في مصر مدة ٢٧٥ سنة هجرية. ولكن الفتح التركي لم يقض على المماليك حتى لقد استردوا السلطة فعلا سنة ١٦٦٦ م ، وفي ١٧٩٨ م حاولوا فعلا منع الجنرال نابليون بونابرت والجيوش الفرنسية من احتلال البلاد ، حيث كان عددهم ٠٠٠ ، ٥٠ منهم ١٢٠٠٠ فارس ، وفي خلال معركة الأهرام وحدها التي وقعت في ٢١ تموز (يوليو) ١٧٩٨ سقط منهم ٧٠٠٠ قتيل ، وفي الأول من أيار (مايو) ١٨١١ استطاع باشا مصر محمد علي ان يبيد أواخر المماليك بعد مأدبة القلعة الشهيرة.

(١٢٧) ملك القدس وهو آمورى الاول الذى ارتقى العرش في ١٨ شباط (فبراير) ١١٦٢ وعمره ٢٧ سنة والذي لم يكن آخر ملك حقيقي على القدس. ـ والخليفة الفاطمي المذكور هنا هو العاضد بالله.

(١٢٨) الواقع كانت مصر الفاطمية تقيم علاقات حسن جوار مع مملكة القدس النصرانية. ولكن كان يحكم في حلب أمير سني ، وهو نور الدين محمود ، الذي كان عدو النصارى اللدود في فلسطين وعدو فاطميي مصر ، وفي عام ١١٦٧ م أرسل نور الدين لفتح مصر قائده الأعلى أسد الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب ، الذي كان حتى ذلك الوقت منكبا على ـ


وعين أسد الدين صلاح الدين قائدا عاما على الجيش المهيأ لمحاربة ملك القدس. وقدم إلى مصر مع خمسين الف فارس. ومع ان صلاح الدين كان لا يزال شابا ، فقد عرف عنه شدة إقدامه ، وعين اميرا لجمع عوائد مصر وإنفاقها. وبعد ان نظم جيوشه سار صلاح الدين ضد النصارى ، فأحرز عليهم نصرا خاطفا وطردهم على أثره من القدس ومن كل بلاد الشام. ولما عاد الى القاهرة عمل مشروعا لكي يكون ملكا عليها. فقتل زعماء حرس الخليفة ، وكانا من جنسيتين مختلفتين ، لانه كان هناك حرس من زنوج أثيوبيا وحرس من الصقالبة ، وكان زعيماهما يهيمنان على كل الدولة برمتها. ولما وجد الخليفة نفسه بدون حماية ، فكر في وضع صلاح الدين في السجن ، ولكن بمجرد ان علم صلاح الدين بذلك ، قضى على الخليفة وأرسل فورا خضوعه لخليفة بغداد الذي كان الخليفة الحقيقي ، لأن خليفة القاهرة كان شيعيا (١٢٩).

__________________

ـ الدراسات الدينية في دمشق. وكان الخليفة العاضد قد تخلى فعليا عن السلطة لزعيم المرتزقة. شاوار ، الذي كان الفرنجة يسمونه بالفعل سلطانا ، وكانت إدارة البلاد في يدي خصي نوبي ، مؤتمن الخلفاء ، وهو قائد الحرس الأسود. ولما علمت الحكومة المصرية بقدوم أسد الدين استنجدت بالملك الصليبي آموري الذي جاء شخصيا مع أمرائه الفرنجة للدفاع عن مصر ضد قوات أسد الدين شيركوه وحدثت معركة غير حاسمة في مصر العليا بتاريخ ٢٣ آذار (مارس) ١١٦٧ م ، كاد الملك آموري نفسه يسقط فيها أسيرا ، واضطر أسد الدين بعد ذلك الى العزوف عن محاولته ، ولكن عند تراجعه احتل الإسكندرية ، حيث ترك ابن أخيه صلاح الدين يوسف حاكما عليها. وجاء الملك آموري وقواته من الفرنجة لمحاصرتها فاضطر صلاح الدين للتسليم في ٤ آب (أغسطس) ١١٦٧ م. ولكن الملك الفرنجي الفارس ، وكان سنه اثنتين وثلاثين سنة ، عامل خصمه بتكريم ولطف وأطلق سراحه ، وكان لصلاح الدين من السن حينئذ ثلاثون سنة. وفي أعقاب هذه الحملة أصبحت مصر تحت ما يشبه الحماية الفرنجية ، وأقام مدير شرطة افرنجي في القاهرة كما أصبحت حراسة أبوابها منوطة بالفرنجة. وحينئذ تمكن الأمراء الفرنجة من إقناع الملك الفرنجي آموري الذي قرر محاولة فتح مصر. ولكن رد الفعل الإسلامي كان فوريا. ورغم المذهب الشيعي (الذي كان مذهب الخليفة الفاطمي حينئذ) فقد استنجد وجهاء مصر بأمير حلب نور الدين. فأرسل هذا قواته الى مصر بقيادة اسد الدين شيركوه ، الذي ظل ابن أخيه صلاح الدين يعاونه.

وقد كسب الملك الفرنجي آموري معركة بلبيس ووصل الى القاهرة بتاريخ ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١١٦٨ م ، ولكن لما وجد الفسطاط ملتهبة بالحرائق بشكل مفتعل ، وجد من الحيطة العودة الى فلسطين ، وتواجه الجيشان الإسلامي والصليبي بدون أن يشتبكا.

(١٢٩) يتطلب هذا العرض التوضيح التالي. لقد دخل أسد الدين شيركوه الى القاهرة في ٨ كانون الثاني ١١٦٨ م ، فشعر شاوار وهو صاحب السلطة الحقيقة حينئذ ، أنه خاسر لا محالة ، ففكر باعتقال أسد الدين وصلاح الدين وأهم ضباطهما خلال مأدبة ، ولكن المؤامرة اكتشفت. فقام صلاح الدين نفسه باعتقال شاوار ثم حصل على إذن من الخليفة وقطع رأسه في ١٨ كانون الثاني (يناير) ١١٦٩ م. وحينئذ منح العاضد ، الضعيف ، أسد الدين لقب ملك. ومات أسد الدين الهرم في ٢٣ آذار ١١٦٩ م وأصبح ابن أخيه صلاح الدين يتمتع بلقب ملك. ولما استدعى الخصي ، المؤتمن ، الملك الإفرنجي آموري ، سقطت الرسالة بتاريخ ٢٠ آب (أغسطس) ١١٦٩ بيد صلاح الدين فعمد الى قطع رأس المؤتمن وقتل كل الحرس الأسود. وقد احترم صلاح الدين سلطة الخليفة الفاطمي رغم التحريضات المستعجلة من طرف نور ـ


وهكذا حكم خلفاء القاهرة مدة مائتين وثلاثين عاما (١٣٠). وعند ما مات آخرهم (١٣١) لم يبق سوى خليفة بغداد الذي هو الخليفة الشرعي الحقيقي. وبعد اتلاشي شيعية الخلفاء نشب الخلاف بين سلطان بغداد وصلاح الدين ، الذي أصبح سلطانا في القاهرة ، ذلك لأن سلطان بغداد ، الذي كان ينتسب لأمة آسيوية والذي كان قبل ذلك ملكا على مازنداران وخوارزم ، وهما إقليمان واقعان على نهر الغانج ، كان يعتقد أن القاهرة تتبعه. وأراد شن الحرب على صلاح الدين ولكن منعه من ذلك ظهور التتر الذين نفذوا الى خراسان وقاموا فيها بتخريبات شديدة (١٣٢). وكان صلاح الدين ، من جهته يخشى قدوم النصارى الى بلاد الشام بقصد الثأر من الاهانة التي ألحقا بهم ، كما انقرض جنوده ، فقسم منهم قضى عليه في الحروب ، وآخرون هلكوا بالطاعون ، وقسم ثالث منهم استخدموا في ادارة المملكة وحكمها.

ولهذا السبب أخذ يشتري الرقيق الشراكسة الذين كان من عادة ملك ارمينيا

__________________

ـ الدين أمير حلب ، الذي كان صلاح الدين يعتبر نفسه دوما ، بكل بساطة نائبا له. غير أن العاضد سقط مريضا بشكل خطر. وفي يوم الجمعة السابع من محرم ٦٥٧ ه‍ / ١٠ أيلول (سبتمبر) ١١٧١ نودي بالخطبة ، في الجامع الأزهر ، للخليفة العباسي في بغداد. وكان العاضد يعاني سكرات الموت ووافاه الأجل بعد أيام ثلاثة. وبعد هذه الاحداث قام صلاح الدين بحملاته في بلاد الشام ضد المملكة النصرانية مع العديد من المعارك المظفرة تارة والفاشلة تارة اخرى.

(١٣٠) في يوم الجمعة ٢٠ شعبان ٣٥٨ ه‍ / ٩ تموز (يوليه) ٩٦٩ م ، جعل جوهر الصقلي خطبة الجمعة في جامع الفسطاط الكبير باسم الخليفة الفاطمي المعز. وبذلك تكون الخلافة الفاطمة قد دامت في مصر مدة تقل قليلا عن ٢٠٩ سنة هجرية وليس ٢٣٠ كما يقول المؤلف. والأسرة الفاطمية التي ظهرت بعد المناداة بالمهدي عبيد الله يوم الجمعة ٢١ ربيع الاول ٢٨٧ ه‍ / ٨ كانون الاول (ديسمبر) ٩٠٩ م دامت اجماليا مدة ٢٧٠ سنة عربية.

(١٣١) يقصد الفاطميين.

(١٣٢) لقد كان المؤلف مضللا من ذاكرته او مذكراته ويبدو عرضه عشوائيا. فلا نرى من كان سلطان بغداد هذا الذي احتل مانداران ، وهو إقليم يحاذي ساحل بحر قزوين الجنوبي وخوارزم ، وهي ولاية تقع على المجري الأدنى لنهر آموداريا الحالي ، وهي أكسوس لدى القدامى ، وجيحان عند العرب ، والذي تدخل ضد التتر في خراسان. والواقع لم يستطع خليفة بغداد العباسي ، الذي كان على قدر لا بأس به من السلطة في ذلك العصر ، لم يستطع الا دعم صلاح الدين الذي أعاد له سلطته الدينية في مصر ، وكان السلطان نور الدين زنكي في حلب يطمع حقيقة في السلطة الفعلية على مصر ، ولكن كان صلاح الدين ، طيلة حياته ، يعلن أنه تابعه الأمين. وبعد وفاة نور الدين قام صلاح الدين وتخلص من حلفائه.

«لم يستطع. أبيولار أن يميز بين سلطان بغداد وبين خليفة بغداد ، وهي الازدواجية التي حدثت في اواخر ايام العباسيين إذ كان السلاطين من الآسيويين من أتراك كالسلاجقة وفرس كالبويهيين ، كما أن مازنداران وخوارزم لا يقعان على نهر الغانج الهندي» (المترجم).


القبض عليهم وإرسالهم للبيع في القاهرة. ولجأ صلاح الدين الى اخراجهم من الديانة النصرانية ، والى تعليمهم مهنة استعمال السلاح واللغة التركية التي كانت لغتهم الخاصة (١٣٣). وزادت أهمية وعدد هؤلاء الرقيق حتى لقد ظهر فيهم جنود جيدون وضباط ذو وخبرة وموظفون ممتازون لكل المملكة (١٣٤). وبعد وفاة صلاح الدين ظلت الدولة بيد أسرته (١٣٥). في أثناء مدة مائة وخمسين عاما (١٣٦) وحافظ خلفاؤه من بعده على عادة شراء الرقيق.

وعلى أثر سقوط أسرة صلاح الدين ، اختار هؤلاء العبيد أميرا عليهم وسلطانا مملوكا عالى الهمة اسمه بيبرس (١٣٧). وابتداء من تلك الفترة ظلت هذه الطريقة هي الدارجة ، حتى إن السلطان كان لا يستطيع بلوغ تلك المرتبة ما لم يكن مملوكا ، وكان في البداية نصرانيا ، ثم اعتنق الإسلام ، ولم تسبق له معرفة اللغة الشركسية واللغة التركية. وقد أرسل بضعه سلاطين أبناءهم الى قفقاسيا. حيث أمضوا طفولتهم كي يتعلموا هناك اللغة التركية ، لكي ينشأوا على العادات الخشنة كي يصبحوا مؤهلين لكي يصبحوا سلاطين (١٣٨) فيما بعد ، ولكن وسيلتهم هذه ظلت بلا نتيجة لان المماليك لم يقبلوهم مطلقا (١٣٩).

__________________

(١٣٣) الواقع كان صلاح الدين كردي الاصل ، وليس تركيا ، وكانت ثقافته عربية.

(١٣٤) لقد كان التنظيم العسكري والمدني المملوكي موجودا قبل صلاح الدين بكثير ولكن هذا لم يعمل اكثر من إتقانه واستعماله لأقصى حد. والواقع التاريخي المدهش حقا هو قوة هذا التنظيم الذي استمر يقاوم ستة قرون ، وكان ينتج نخبة من الرجال عرفت كيف تحكم بلدا واسعا اوصلت عاصمته لدرجة عالية من الازدهار ، وهي نتيجة باهرة بالنسبة لفرق أجنبية حقيقية تم جمع أفرادها بصورة فريدة غريبة ، وكونت فئة متعملة وممتازة.

(١٣٥) أى الايوبيين.

(١٣٦) توفي صلاح الدين في ليلة ٣ الى ٤ آذار (مارس) ١١٩٣ م / ٢ صفر ٤٨٦ ه‍ وكان توارن شا آخر ملك أيوبي هو الذي اغتيل على يد قائد مملوكي هو بيبرس بتاريخ ٣٠ نيسان (إبريل) ١٢٥٠ م / ٢٦ محرم ٦٤٨ ه‍ ، أي بعد مائة سنة واثنين وستين عاما.

(١٣٧) هذا غير صحيح لأن القائد المملوكي الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداري لم يستلم السلطة إلا بعد ان قتل بيده السلطان المملوكي مظفر سيف الدين بتاريخ ٢٢ تشرين الاول (اكتوبر) ١٢٦٠ م.

(١٣٨) «كانت هذه الطريقة معروفة عند الخلفاء الامويين والعباسيين ، فقد كانوا يرسلون أبناءهم للبادية كسبا للفصاحة في اللسان والتعود على شظف العيش والخشونة والاقتراب من الفطرة. ويقول أحد العلماء الجغرافيين الفرنسيين : تولد الشعوب في الريف وتحتضر في المدن. فهل هناك علاقة بين الحضارة والاحتضار؟» (المترجم)

(١٣٩) الواقع كان هناك عدة سلاطين متوارثين ، ولعبت القرابة أحيانا دورا لا يستهان به كما لدى المماليك البحرية.


ذاك هو ذكر وقائع الأسرة المملوكية وامرائها الملقبين بالسلاطين ، وذلك حتى العصر الحالي.

* * *

الداوادار (١٤٠). كانت هذه ثاني رتبة بعد رتبة السلطان ، الذي كان يعطي صاحب هذا المنصب سلطة لا تكاد تقل عنه للقيادة ، وللاجابة على المراسلات ، وتعيين الموظفين ، وتسريحهم ، وتسوية كل القضايا ، وكان للداوادار بلاط لا يختلف كثيرا عن بلاط السلطان.

الامير الكبير او كبير الأمراء : كان هذا ثالث منصب. وكان صاحبه نوعا من قائد عام. فكان ينظم الجيوش ويرسلها ضد العرب والأعداء ، وكان يسمى أمراء الحصون وحكام المدن. وكان يتصرف في أموال الخزينة وينفق منها على كل ما يراه ضروريا.

نائب الشام ـ كان رابع شخصية في الدولة ، وكان يقيم في بلاد الشام كنائب ملك. وكان يحكم هذه الدولة وينفق ريع البلاد كما يروق له. ولكن من الصحيح القول إن القصور والقلاع كانت بأيدي قواد يسميهم السلطان. وكان على هذا الوزير ان يدفع للسلطان بضعة آلاف من الاشرفيات في العام.

أستاذ الدارأ والاستدار ـ خامس شخصية. وكان سيد القصر وكانت مهمته تموين السلطان وأسرته بالأقوات ، والمجوهرات ، وكل الأشياء الضرورية. وكان السلطان يعين عادة لهذه الوظيفة رجلا فاضلا متقدما في السن ، تحترمه جماعته الذين رباهم منذ طفولتهم.

امير الآخور ـ وهو السادس ومهمته توفير الخيول والجمال للبلاط مع تجهيزاتها وأعلافها. وكان يوزعها بين عائلات البلاط حسب وضع كل منهم ومرتبته.

أمير الألف (١٤١) وهو سابع منصب وكان يعهد به لبعض كبار المماليك الذين هم في

__________________

(١٤٠) ضابط المحبرة أو الدواة.

(١٤١) أمير الألف ، وهو من أقدم المناصب في العالم والذي نعثر عليه في الألواح البابلية ، وتعطينا قصيدة رولان ، في الأبيات ٨٥٠ ، ٨٩٤ ، ١٢٦٩ هذه العبارة على شكل «أميرافل» مما يدل على أن هذه التسمية انتقلت الى اللغة الرومانية.


مرتبة تعادل مرتبة الكولونيل أو العقيد في أوربا. وكان كل منهم زعيما على ألف مملوك (١٤٢). وكان ثم عدة مناصب من هذا النوع وكان لهم صلاحية لشن المعركة وتدريب جيوش الملك(١٤٣).

أمير المائة ـ وهي ثامن وظيفة ويتولاها بعض ذوي المناصب ويقود كل منهم مائة مملوك ، وكانوا يحيطون دوما بالملك في حالة ركوبه وفي حالة أخذ التحية العسكرية (١٤٤).

الخزندار (١٤٥) ـ وهو التاسع بين أصحاب المناصب ، أي أمير الخزينة ، الذي يمسك بحساب ايرادات المملكة. وهو يستلمها ويصرفها لصندوق السلطان. ويعطى أصحاب المصارف المبالغ الضرورية للنفقات ويحتفظ بالباقي في القلعة.

أمير السلاح ـ ويمثل المنصب العاشر ، وهو المسئول عن أسلحة السلطان : يحرسها ويحتفظ بها مخزونة في قاعة كبيرة ويقوم بصقلها وتنظيفها ، ويبدلها حسب الحاجة. ولصيانة هذه الاسلحة يكون تحت تصرفه بضعة مماليك (١٤٦).

تختخانة ـ وهو صاحب المنصب الحادي عشر في الترتيب. ومهمته العناية بكسوات التشريفات ، التي يعهد بها اليه من قبل سيد القصر. ويقوم بتوزيعها حسب أوامر الملك. وكان من رسم السلطان ، بالفعل ، أن يكسو كلا من أولئك الذين كان يعهد إليهم بمنصب عال ، وكانت هذه الثياب من المخمل ، ومن البروكار ، ومن الساتان (١٤٧). ويمشي صاحب هذا المنصب في الشارع مصحوبا دوما بالعديد من الحشم المسلحين.

__________________

(١٤٢) وكانوا مسئولين عن هؤلاء ويحققون احتياجاتهم حسب كيفيات محددة.

(١٤٣) أي فيما عدا الألف مملوكي ، فقد كانوا يستطيعون ان يضعوا تحت امرته قوات أخرى.

(١٤٤) يستطيع أمير المائة ان يكون مقدما ، أي على ألف.

(١٤٥) ضابط الخزينة أو بيت المال.

(١٤٦) السلجدار ، عند استيلاء الخليفة الموحدي يعقوب المنصور على قفصة ، سنة ١١٨٧ م ، كان فيها حاكم اسمه ابراهيم بن قرة تيكين ودافع عنها ، وكان يشغل وظيفة سلحدار عند صلاح الدين الايوبي.

(١٤٧) لقد وقع المؤلف هنا في التباس ، لان تختحانة تعني المكان الذي كانت تحفظ فيه الاقمشة المعدة لكسوة السلطان والحجارة الكريمة ، والسيوف والأشياء الاخرى التي من نفس النوع ، وحيث كانت تغسل ثيابه. وكان رئيس هذه المصلحة يحمل لقب تختدار. وكان الملوك المسلمون يوزعون ثيابا تشريفية ، والمعروف انهم خلعوها والتي كانت تسمى خلعة ، وجمعها خلع ، ولكن هذه الخدمة التوزيعية كانت متميزة عن وظيفة التختدار.


وكان في البلاط وظائف أخرى كوظيفة الشرابدار. وهذا يهتم بمشروبات السلطان فكان يحتفظ بأنواع لذيذة من المياه المحلاة وبأخرى من المياه المركبة.

وهناك الفراشون ، اي مختلف الحجّاب ، ومهتمهم تزيين شقق السلطان بالبسط من الساتان وبالزاربي وكذلك يهتمون بالمصابيح وبمشاعل الشمع الذي يمزج بالعنبر ، لكي تقوم في حالة إشعالها بتنوير الغرف وبتعطيرها ، وكان يوجد أيضا «شبابا طية» أي الحشم المسلح (١٤٨).

وهناك آخرون يدعون تبردارية. وهم الرماحة الذين يقفون بجانب السلطان عند ما يركب الحصان أو عند ما يستقبل (١٤٩) ، وهناك العدّاوية الذين يسبقون موكب السلطان عند ما يكون في البرية أو في رحلة. ومن بين هؤلاء ينتقى الجلاد عند ما تشغر وظيفته. وفي كل مرة يمارس فيها الجلاد وظيفته على مجرم ما ، فان أحد هؤلاء يساعده كي يتعلم المهنة ، ولا سيما لسلخ الحكومين وهم أحياء ، أو لممارسة التعذيب لأنتزاع الاعترافات (١٥٠). وهناك أيضا السعاة الذين كانوا ينقلون رسائل السلطان الى بلاد الشام والذين كانوا يقطعون ستين ميلا باليوم سيرا على الأقدام (١٥١) لأنه لا يوجد جبل ولا أراض وحلية بين مصر وبر الشام. غير أن أولئك الذين يحملون الرسائل ذات الأهمية القصوى كانوا يمتطون الخيل (١٥٢).

__________________

(١٤٨) وربما كانت محرفة عن شبط؟ اي ارتبط بشيء ما ، فالحشم المسلح كانوا يرتبطون من حيث المبدأ بمخزن عدة الخيل.

(١٤٩) وهنا يقع المؤلف في التباس ، فالتبردية او التبردار ، اي المسلحون بالبلطة ، من كلمة تبار الفارسية ، وكانوا يمشون امام السلطان ، مع صلاحية قتل أي إنسان يحاول الاقتراب منه.

(١٥٠) لم يكن التعرف على لقب هؤلاء الاشخاص العاملين في الشرطة الملكية ، ترى هل يمكن قراءته الداوية ، أى الذين يأتون ليلا ، كنوع من حراسة الليل في موكب السلطان.

(١٥١) أو ٩٦ كم ، وقد تعرفنا شخصيا على الركاس الذي ظل يقطع لمدة خمسة عشر عاما ، في عام ١٩٠٧ ، في خدمة البريد المغربي بين الدار البيضاء والرباط ، وكان يقطع في كل يوم مسافة ٩٢ كم وهي المسافة الفاصلة بين المدينتين.

(١٥٢) كان ساعي البريد الذي يركب الجمل العادي يسمى النجاب ، اما الساعي على الهجن او ابل السباق فيسمى الهجان.


عسكر السّلطان

كانت عساكر السلطان تقسم أربعة أصناف.

الأولى وتضم الخساكية (١٥٣) اي الفرسان. وكانوا عبارة عن نخبة في مهنة السلاح ، وكان السلطان يختار من بينهم قواده وولاته في المدن ، وكان ينال البعض منهم راتبا نقديا من الخدمة الملكية ، بينما كان البعض الآخر يقبض عوائد القرى والقصور (١٥٤).

أما العسكر من الصنف الثاني فكانوا يسمون السيفية : وكانوا مشاة لا سلاح لهم غير السيف. وكان راتبهم يأتي أيضا من ميزانية السلطان (١٥٥).

وكانت الفئة الثالثة تدعى القرانصة ، أي الذين ينتظرون. وكان هؤلاء فضلا عن كونهم من الجيش ذي الراتب ، كانوا أيضا معفين من أية ضرائب أخرى. فعندما كان يموت مملوك ذو مرتب ، كان أحد هؤلاء يعيّن في مكانه (١٥٦) وكان هناك جنود آخرون يدعون الجلب (١٥٧). وكان هؤلاء عبارة عن مماليك انخرطوا حديثا في سلك الجندية من الذين لا يعرفون التركية ولا العربية ، ولم يقدموا بعد ما يدل على أن لهم مكانة يعتدبها.

__________________

(١٥٣) ومفردها خسّاكي.

(١٥٤) كان هؤلاء الخساكية في الواقع من المماليك الذين يثق بهم السلطان ، فكانوا في صحبته عند ما يكون بلا عمل ، وكان يعهد اليهم بالقضايا الشخصية.

(١٥٥) وهم مماليك السلطان السابق الذين ورثهم السلطان الجديد ، لأن المماليك لم يتخلصوا ابدا من كونهم عبيدا.

(١٥٦) لم يتوضح تركيب تنظيم الجيش المملوكي في هذا النص ، ولكن المماليك القرانصة ، او القرناصية ، وهي كلمة أجنبية الأصل كان من المفروض أن يكونوا من قدامى المحاربين ، في حين يعتبرهم المؤلف من الجند في مرحلة التمرين.

«وفي حلب مدرسة قديمة تدعى القرناصية وتعود للعهد المملوكي» (المترجم).

(١٥٧) الجلب ، عبارة تنطبق على الرقيق الدين جلبوا من عهد قريب. «وكلمة جلب تعني في بلاد الشام غير محلى ، أو مستورد» (المترجم).


الموظفون المعيّنون في الإدارة العامة.

النادر الخاص (١٥٨) ـ وهو نوع من كامر لنغ (١٥٩) كانت مهمته الإشراف على مكوس وضرائب الدخولية في الدولة. وكان يدفع عوائدها للخازن. وكان يمارس بشخصه في القاهرة وظيفة مدير المكوس. وهذا ما كان يعود عليه بمبلغ يقارب مائة الف أشرفي. ولا يستطيع إنسان أن يمارس هذه الوظيفة بدون أن يدفع سلفا مبلغ مائة ألف أشرفي للسلطان ، واذا دفع هذا المبلغ أمكن ان يتسلم هذا المنصب في مدة ستة شهور.

كاتب السر (١٦٠) ـ وكان هذا أمين السر ، وتتمثل وظائفه العادية في إملاء الرسائل والوجيزات (١٦١) والإجابة باسم السلطان ، وكان بجانب ذلك يمسك بكشف خاص عن تعداد الأرض المزروعة في مصر. ويستلم شخصيا عوائد قسم من هذه الأراضي التي كان يملكها إقطاعا له.

الموقّع (١٦٢) ـ وكان سكرتيرا ثانيا ، من مرتبة أدنى من الأول ، ولكنه أكثر اتصالا وثقة لدى السلطان وكانت مهتمه استلام الوجيزات المكتوبة بيد الاول لملاحظة ما إذا كانت مطابقة لتعليمات السلطان ، ثم يسجل في المجال الأبيض الذي تركه الخطاط لهذا الغرض اسم السلطان. ولكن كان يعمل لدى السكرتير الاول عدة مختزلين معتادين على كتابة هذه الوثائق حتى إنه ليكون من النادر ان يجد الموقع فيها شيئا يمكن طمسه نظرا لشدة تمرس هؤلاء المختزلين بعملهم.

المحتسب (١٦٣) ـ وكان هذا الموظف عبارة عن مشرف على شئون السوق. فكان يراقب أسعار بيع القمح وكل السلع الغذائية ، التي كانت ترتفع وتنخفض حسب عدد المراكب القادمة من الصعيد ومن الريف وكذلك حسب فيضان النيل. وكان يفرض

__________________

(١٥٨) المفتش الخاص.

(١٥٩) موظف في البلاط البابوي في ذلك العصر ، ومكلف على وجه الدقة بالقضايا الإدارية والشئون المالية.

(١٦٠) وهو يقابل في أيامنا السكرتير او أمين السر.

(١٦١) «كان المؤلف يستخدم عبارات الإدارة البابوية لأنه كان يعيش في روما ، والوجيزة هي الرسالة القصيرة المكتوبة بيد البابا شخصيا ومختومة بالشمع الأحمر» (المترجم)

(١٦٢) من فعل وقّع ، ومعناها يسجل الأمر الملكي ويمهره بالخاتم.

(١٦٣) أو مدقق المكاييل والموازين.


على المخالفين عقوبات يحددها السلطان. وقد تناقل الى مسمعي عندما كنت في إلقاهرة ان هذه الوظيفة كانت تعود بمبلغ ألف أشرفي يوميا ، ولا تأتي من القاهرة فحسب ، بل من كل المدن والمواقع التي وضع فيها هذا الموظف مأمورين وممثلين عليهم ان يكتبوا له.

أمير الحج (١٦٤) ـ وكانت هذه الوظيفة تمثل منصبا عاليا ومهمة ثقيلة. وكان السلطان يعهد بها لأغنى مملوك وأكثرهم أهلية لديه. وكان هذا الشخص قائد القافلة التي كانت تذهب مرة في العام من القاهرة إلى مكة. وهو لا يستطيع أن يقوم بتنفيذ هذه المهمة بدون نفقة ضخمة اذا أراد ان يقوم بهذه الرحلة بأبهة ويسر. وكان يصطحب معه الكثير من المماليك الآخرين لحراسة القافلة. وكانت الرحلة تدوم ثلاثة شهور ذهابا وايابا. ولا يمكن وصف شدة المصاعب ولا كثرة النفقات التي كانت تقع على عاتق هذا القائد ، وذلك بدون تعويض من السلطان ولا من أهل القافلة (١٦٥).

وهناك وظائف أخرى أقل أهمية ، ولا فائدة ترجى من وراء الكلام عنها.

الجيزة

الجيزة (١٦٦) مدينة واقعة على ضفة النيل ، تجاه المدينة القديمة. وتفصلها الجزيرة (١٦٧) عن هذه المدينة. وهي آهلة كثيرا بالسكان المتمدنين. وتحوي قصورا جميلة ، بناها كبار المماليك لمتعتهم بعيدا عن دهماء القاهرة. ويوجد فيها أيضا الكثير من الصناع والباعة ، ولا سيما باعة المواشي. ويأتي العرب بهذه الماشية من جبال برقة. ولا يتم نقل الماشية في المراكب لعبور النهر الا بصعوبة كبيرة ، ولهذا السبب يوجد هنا تجار

__________________

(١٦٤) ويدعى أيضا امير الركاب.

(١٦٥) يروي جان تينوJ.Thenaud ، وهو من الإخوة الفرنسيكان الذي وصل إلى القاهرة في ٢٥ آذار (مارس) ١٥١٢ م ، يروي المشاهدة التالية : «وما إن وصلنا إلى القاهرة حتى دخلت القافلة الكبيرة ، أي الجماعة التي ذهبت الى مكة سواء لجلب البضائع أو للرحلة ، والتي كانت تضم ما بين مائة ومائة وعشرين ألف جمل ، والتي كانت بقيادة الأمير الكبير ، وهو ابن عم السلطان مع مائتي مملوك ، وجلب معه كمية كبيرة من التوابل والأدوية والحجارة الكريمة والعطور».

(١٦٦) الجيزة تعني اتجاه ، أو جانب ، حسب رأي المقريزي.

(١٦٧) أي جزيرة الروضة التي كان فيها مقياس النيل.


يشرونها ويبيعونها مرة ثانية إلى قصابي القاهرة الذين يأتون اليهم ليأخذوا ما يحتاجون اليه من هذه الانعام. ويرى على ضفة النيل جامع المدينة وأبنية أخرى جميلة وجذابة. وتقوم حول الجيزة مزارع شجر وحدائق نخيل. ويأتي مختلف الصناع من القاهرة ليعملوا في الجيزة ويعودوا في المساء لمنازلهم.

ويمر من خلال هذه المدينة طريق الأهرامات ، التي هي أضرحة ملوك مصر القدامى. وكان يسمّى المكان الذي تقع فيه منفيس في العصور القديمة (١٦٨). ولا يوجد بين الجزيرة والأهرامات سوى صحراء رملية حيث يوجد الكثير من البرك المتشكلة من فيضان النيل. ومع هذا يمكن الذهاب إليها بدون صعوبة كبيرة مع دليل طيب يعرف البلاد بصورة جيدة (١٦٩).

المعلقة

المعلقة مدينة صغيرة تقع على مسافة ثلاثة أميال تقريبا من المدينة القديمة ، وقد شيدت على حافة النيل في عصر قدامى المصريين. وفيها بيوت جميلة وأبنية حسنة ، ولا سيما الجامع الذي قام على ضفة النيل ذاتها وتقوم حول هذه المدينة مزارع نخيل وجميز. وللسكان نفس عادات سكان القاهرة (١٧٠).

الخانقاة

الخانقاة (١٧١) مدينة كبيرة مبنية على طرف الصحراء التي تقع على طريق سيناء ، على مسافة ستة اميال من القاهرة (١٧٢). وتضم بيوتا جميلة وجوامع حسنة ومدارس. وعلى

__________________

(١٦٨) كانت ممفيس تقع في الحقيقة إلى الجنوب أكثر من ذلك أي بين اهرامات سقارة وبين النيل.

(١٦٩) يجب ان نفترض أن المؤلف يتعرض هنا للرحلة التي تعقب الفيضان بقليل ، حيث كان يوجد وقتئذ مستنقعات وحلية ، لأنه في الوقت العادي ، وحتى قبل بناء الطريق المعبد الحالي ، كان الطريق ميسورا نسبيا.

(١٧٠) والمقصود بها في الحقيقة القاهرة القديمة ، او الفسطاط العتيق الذي خلف بابل ، والواقع لقد تشوشت مذكرات المؤلف ، فالمعلقة ليست سوى صفة كنيسة قبطية في القاهرة القديمة. وقد سميت كذلك لأنها مبنية فوق مصطبة السور القديم لمدينة فوساتون الإغريقية ، والتي تحمل بقاياها اليوم اسم قصر الشمعة ، وهذه الكنيسة القبطية هي كنيسة الست مريم.

(١٧١) الخانقاة ، ومعناها زاوية الصوفيين ، وتكتب في أيامنا خطأ على شكل خانقة.

(١٧٢) والحقيقة أربعة عشر ميلا او ٢٢ كم.


مسافة ستة أميال على الطريق بين هذه المدينة وبين القاهرة يوجد الكثير من البساتين وحدائق النخيل ، ولكن من هنا إلى ميناء سيناء لا يوجد أي مكان مأهول على مسافة مائة وأربعين ميلا (١٧٣).

وسكان الخانقاه واسعو الثراء لأن المسافرين يتجمعون فيها بقصد السفر في القافلة (١٧٤) الى بلاد الشام. ويشتري هؤلاء المسافرين منها اشياء مختلفة تأتي من القاهرة ، إذ لا ينبت شيء في خانقاه فيما عدا النخيل. وينطلق منها طريقان رئيسيان ، الاول يذهب الى جزيرة العرب والآخر الى بلاد الشام. وليس لها من موارد اخرى للماء سوى ما يأتي اليها بواسطة القنوات من فيضان النيل وينتشر الماء في السهل حيث يشكل بحيرات صغيرة ، ومنها يجر الماء الى المدينة بواسطة سواق ويدخل في الصهاريج والخزانات (١٧٥).

المعيصرة

وهي مدينة صغيرة على ضفة النيل ، على مسافة ثلاثين ميلا من القاهرة. وتنبت هنا كمية كبيرة من السمسم ويوجد في المدينة بضعة طواحين تستخرج الزيت من حبات السمسم. وكل السكان زراع باستثناء بعضهم الذين يعملون في دكاكين (١٧٦).

بني سويف

بني سويف مدينة صغيرة بنيت على الضفة الإفريقية للنيل على مسافة مائة وعشرين ميلا من القاهرة (١٧٧) وهي محاطة برقعة كبيرة من الأراضي الزراعية الممتازة حيث تجود فيها زراعة الكتان والقنب. والكتان فيها من الدرجة الاولى ، حتى إنه ليصدر منه إلى تونس في بلاد البربر. ويصنع منه قماش مدهش لنعومته ومتانته. وتستمد مصر كل حاجاتها من هذا الكتان. ويقرض النيل باستمرار أرض هذه المنطقة

__________________

(١٧٣) او ٢٢٤ كم ، وميناء سيناء هو القلزم او السويس الآن.

(١٧٤) ولكنها ليست نفس محطة الذهاب إلى الحج الى مكة.

(١٧٥) «يطلق عليه الصهريج او الخزان وفى اللهجة التونسية الماجن وجمعه مواجن» (المترجم).

(١٧٦) في الحقيقة تقع المعصرة على مسافة ١٢ ميلا أو ٢٠ كم ، بالطريق النهري ، ابتداء من ميناء بولاق. وقد استعمل المؤلف هنا تصغير المعصرة ، أي المعيصرة.

(١٧٧) حوالي ٧١ ميلا أو ١٢٥ كم.


حتى إنه ليقتلع الأرض في أثر الفيضان ، ويؤدي لتقليص الرقعة الزراعية. وعندما كنت موجودا فيها ، على الخصوص ، قضى النيل على أكثر من نصف حديقة النخيل. وينهمك نصف السكان في الاشغال التي يتطلبها الكتان بعد حصاده.

ويوجد فيما وراء المدينة التماسيح التي تفترس المخلوقات الآدمية ، كما سنقول في الكتاب المخصص للحيوانات ، في هذا الكتاب.

المنيا

المنيا مدينة حسنة جدا بنيت في زمن المسلمين على يد نائب في مصر اسمه الخصيب ، وكان صديقا لخليفة بغداد (١٧٨). وتمثل موقعا مرتفعا على ضفة النيل الافريقية. وهي محاطة بالعديد من مزارع الاشجار والكروم التي تنتج ثمارا ممتازة ، وتصدر كمية كبيرة منها الى القاهرة ، ولكنها لا يمكن ان تظل طازجة ، لأن هذه المدينة تقع على مسافة مائة وثمانين ميلا عن القاهرة (١٧٩). وتملك المنيا عمارات حسنة جدا ، وقصورا وجوامع ، وكذلك أطلال أبنية تعود لقدامى المصريين والسكان أغنياء لأنهم يقصدون ممكلة غاوغه في بلاد السودان.

مدينة الفيوم

وهي مدينة قديمة بناها أحد الفراعنة في الزمن الذي خرج فيه العبريون من مصر. وقد استخدمهم هذا الفرعون في صنع الطوب وفي الاشغال الأخرى. وقد بنى المدينة على فرع صغير من النيل (١٨٠). في بقعة مرتفعة حيث يوجد الكثير من الأشجار المثمرة ومن الزيتون. ولكن زيتونها لا يصلح إلا للاكل ولا يستخرج منه زيت. وفي هذه المدينة دفن يوسف بين يعقوب (أو اسرائيل). وقد نقل موسى جسمه عندما هرب

__________________

(١٧٨) كان الخصيب بن عبد الحميد وكيل المالية في مصر من طرف الخليفة هارون الرشيد ، فظلت المدينة لمدة طويلة تحمل اسم منية الخصيب ، «كما في رحلة ابن بطوطة» أي محطة الخصيب النهرية ، ثم أصبحت مع تقادم الزمن المينا.

(١٧٩) الحقيقة ١٥٧ ميلا أو ٢٥٢ كم.

(١٨٠) هو فرع بحر يوسف.


العبرانيون من مصر. وهذه المدينة مطمئنة ، ومأهولة بصورة حسنة ، وتضم الكثير من الصناع لا سيما الحاكة (١٨١)

منفلوط

منفلوط مدينة كبيرة للغاية وموغلة في القدم. فقد بناها المصريون وهدمها الرومان. وفي عصر المسلمين استؤنف سكناها من جديد ، ولكنها لا تكاد تبدو مأهولة بالموازنة مع ما كانت عليه في غابر الزمن. ولا تزال تظهر منها اعمدة غليظة ومرتفعة وبوابات كتبت عليها أشعار باللغة المصرية. وبقرب النيل توجد خربة كبيرة هي أطلال بناء فسيح يبدو أنه كان معبدا. ويجد السكان أحيانا مداليات ذهبية وفضية ورصاصية تحمل على الوجه الواحد حروفا مصرية وعلى الآخر صورة ملوك قدامى. والأرض هنا خصيبة ولكن الطقس هنا حار جدا ، وتسبب التماسيح أضرارا جمة. ويعتقد أن هذا هو السبب الذي جعل الرومان يهجرون المدينة (١٨٢). بيد ان سكان منفلوط في رغد من العيش لأنهم يزاولون التجارة مع بلاد السودان (١٨٣).

أسيوط

وهي كذلك مدينة قديمة بناها المصريون على ضفة النيل على مسافة مائتين وخمسين ميلا تقريبا من القاهرة (١٨٤) وهي مدهشة لا تساعها. ولأبنيتها القديمة ، وكتاباتها العديدة ، ولكنها جميعا بحالة خراب وتلف. ومع هذا يمكن التعرف فيها على الكتابات المصرية. وكانت في عهد المسلمين مأهولة بكثير من الفرسان والأشراف.

__________________

(١٨١) لقد اعتبر المؤلف مسبقا أن بيتوم الواردة في التوراة هي مدينة الفيوم ، ويبدو انه اعتبر متاهة هيرودوت على أنها قبر يوسف عليه السلام. ونلاحظ من جهة أخرى أنه قال آنفا بأنه لا يريد الكلام عن الفيوم ، التي يعتبرها لسبب غير مفهوم غير تابعة لإفريقيا.

(١٨٢) تقع مغارة التماسيح بجوار منفلوط حيث عثر بعد اجتيازتيه تحت الأرض من العسير الوصول إليه ، على آلاف من مومياءات التماسيح وأيضا على مومياءات بشرية تعود للعصر الإغريقي الروماني.

(١٨٣) منفلوط واقعة على ضفة النيل اليسرى على مسافة ٣٦٠ كم من القاهرة ، ومن هناك يصعد درب يؤدي لواحة الداخلة ، ومنها إلى واحة الخارجة ، والتي يسميها المؤلف الواحات ، وكان يذهب منها المسافرون إلى السودان الأوسط.

(١٨٤) مسافة صحيحة تماما أو ٤٢٢ كم.


وحتى هذا اليوم تحتفظ بالغنى والنبل. وفيها حوالي مائة بيت من النصارى مع ثلاث أو أربع كنائس. ويقوم في خارج المدينة دير نصراني يعيش فيه مائة راهب لا يأكلون لحما ولا ، سمكا ، بل يتغذون بالخبز والخضر والزيتون ، ويطهون أكلات ممتازة لا يدخل فيها أي دهن. وهذه الدير غني ومن عادته ان يقدم الطعام لكل غريب عابر سبيل كما يحقق له الضيافة مدة ثلاثة أيام. ولهذا الغرض يربون الكثير من الحمام والدجاج والمواشي.

أخميم

أخميم هي أقدم مدينة في مصر. فقد أسسها أخمين ، إبن مسرائيم ، الذي كان أبوه كوش ، إبن حام (١٨٥). وقد بناها على ضفة النيل الآسيوية ، وعلى مسافة ثلاثمائة ميل إلى الشرق من القاهرة (١٨٦). ولكنها تخربت عند مجيء المسلمين إلى مصر لأسباب يسردها التاريخ ، حتى لم يبق شيء آخر من المدينة سوى الأساسات لأن الأعمدة والحجارة الأخرى نقلت إلى الضفة المقابلة لبناء المدينة الآتية وهي (١٨٧) :

المنشية

لقد شيّدت هذه المدينة ، إذن بأنقاض المدينة السابقة على يد نائب خليفة (١٨٨). وليس لها ظرف ولا جمال ، فشوارعها ضيفة ولا يمكن التجول فيها صيفا لكثرة الغبار (١٨٩).

__________________

(١٨٥) سفر التكوين ، الاصحاح العاشر ، فقرات ٦ ، ١٣ ، ١٤ ، تجعل من مسرائيم ومن كوش أخوين. ولدي حام. ولا نجد بين أبناء مسرائيم السبعة واحدا يحمل إسم اخمين. والحقيقة هي أن إسم هذه المدينة خمين بالقبطية وخمينس باليونانية ، وقد أشتق هذا الاسم من اسم الوثن الذي كانت تعبده وهو «مين» الذي يتمثل بانسان له عضو تناسلي بحالة انتصاب.

(١٨٦) في الحقيقة ٣٢٠ ميلا أو ٥١٢ كم جنوب القاهرة بالطريق النهري.

(١٨٧) لقد احتفظ المؤلف طبعا بذكرى الكتابات المتعلقة بالاضطرابات الخطيرة التي تعاقبت في هذه المدينة حيث سخط النصارى أولا والمسلمون فيما بعد من التقاليد المحلية الناجمة عن التمثيلات الفاحشة للوثن المعبود «مين».

(١٨٨) يقصد خليفة فاطميا ، واعطيت إسما مسجلا في تعداد القرى عام ١٣٧٥ م هو المنشية «أو التي تنشر رائحة» ولكن الإسم تحرف اليوم إلى المنشاة.

(١٨٩) «وهنا يغيب عن المؤلف شيئا ، وهو أن الغبار هنا لا ينتشر في الصيف فقط بل ينتشر كذلك في الشتاء لانعدام ـ


ويكثر في هذه المدينة القمح والمواشي.

وقد كانت هذه البلدة وأراضيها اقطاعة أمير افريقي من قوم البربر يدعون الهوارة. وكان هذا الرجل يحتفظ بالأمارة عن أجداده ، الذين كانوا أمراء هوارة ، والذين قدموا لمساعدة جوهر الصقّلي ، الذي أسسّ القاهرة. وعندما جاء الخليفة القائم من القيروان ووصل القاهرة أعطى أراضي أخميم إلى أمير هوارة مكافأة له (١٩٠). ولم يرغب هذا الامير في إعادة بناء أخميم لأن العرب كانوا يسببون له المتاعب. لهذا بنى المنشّية على الضفة الأخرى للنيل (١٩١) لتحاشي العرب. وظلت الأمارة في هذه الأسرة حتى العهد الحاضر وتدفع دوما عائداتها للسلطان. ولكن انتزعت منها أمارتها في عهد سليمان ، تاسع الأباطرة الأتراك ، وصودر الجميع لمصلحة خزينة عظيم الترك (١٩٢).

جرجا (١٩٣)

كانت جرجا ديرا نصرانيا كبيرا وغنيا جدا يدعى دير القديس جورج (١٩٤) على مسافة ستة أميال من المنشية (١٩٥) وكانت محاطة بأراض زراعية واسعة ومروج وكانت تضم أكثر من مائتي راهب ، كان من عادتهم أيضا إطعام الغرباء. وما كان يزيد عن حاجتهم من عوائد الدير كانوا يرسلونه الى بطريرك القاهرة الذي كان يوزعها على فقراء النصارى. ولكن ظهرت منذ مائة عام جائحة طاعون في مصر وقضت على كل رهبان هذا الدير. وظل المكان خاليا خلال ثلاثة أعوام ولم يأت إنسان لسكنى الدير حتى أن

__________________

ـ الأمطار تقريبا في هذه المنطقة على مدار العام ، ونظرا لأن المؤلف من بلاد ذات مناخ رومي (مناخ البحر الأبيض المتوسط) ذي أمطار شتوية ، فهو يتصور ان الغبار لا يمكن أن يثور إلا في أثناء الصيف في كل مكان» (المترجم)

(١٩٠) كان الخليفة الفاطمي ، وهو أبو القاسم محمد القائم ، قد توفي عام ٩١٦ م بينما جاء حفيد أبو تميم معدّ المعز ليستقر في القاهرة في حزيران (يونيه) ٩٧٣ م.

(١٩١) أي على الضفة اليسرى على مسافة ٣٣١ ميل أو ٥٣٠ كم عن القاهرة.

(١٩٢) تشير دوائر الكادسترو لثلاثة مواقع باسم منشية وهي متجاورة : منشية بني ضبعان ، ومنشية بني غرواسان ، ومنشية كاي ، وتحمل الاثنتان الأخيرتان بشكل واضح إسمى فخذين من بربر هوارة.

(١٩٣) رسمها المؤلف بفتح الجيم ، ولكنها تنطق الآن بكسر الجيم.

(١٩٤) لقد اختفى دير مار جرجس منذ حوالي قرن ونصف من الزمن.

(١٩٥) المسافة الحقيقية هي ثلاثة عشر ميلا أي ٢٠ كم إلى الجنوب.


أمير المنشية بدأ يحيطه بجدار. ثم راح ينبى فيه بيوتا لإسكان الصناع والتجار من مختلف المهن وجاء هو بنفسه ليسكن هنا ، مجذوبا بجمال بعض مزارع الأشجار الجميلة الواقعة فوق التلال بجوار الدير. غير أن البطريرك اليعقوبي اشتكى للسلطان ، حتى لقد اضطر أن يبنى ديرا آخر في المكان الذي كانت فيه المدينة القديمة ، ومنحه دخلا كافيا لمعيشة ثلاثين راهبا بصورة لائقة.

الخيام

الخيام (١٩٦) مدينة صغيرة مبنية على النيل في عهد المسلمين. ولا يسكن فيها سوى نصارى يعاقبة وهم جميعا مزارعون ويربون الدجاج والأوز. ولديهم أيضا أعداد لا تحصى من الحمام ، حتى أنك لو قدّمت لهم قطعة نقد قيمتها حوالي درهمين لأعطوك عشرة من الطير. ويوجد بضعة أديرة نصرانية تقدم الطعام أيضا للأغراب. ولا يوجد في هذه المدينة من المسلمين سوى الوكيل وأسرته.

دندرة

دندرة (١٩٧) مدينة بناها قدامى المصريين على ضفة النيل ، على مسافة أربعمائة ميل من القاهرة (١٩٨). وقد خربها الرومان ولا يرى منها اليوم أي شيء سوى أطلال ضخمة. وقد نقلت أفضل مواد البناء منها إلى إسنا التي سنتكلم عنها بعد قليل. ويعثر في هذه الأطلال على الكثير من المداليات الذهبية والفضية وكذلك الكثير من قطع الزمرد (١٩٩).

قنا

قنا مدينة قديمة بنيت على النيل تجاه دندرة. وهي محاطة بسور من الطوب

__________________

(١٩٦) جمع خيمة ، بلدة على ضفة النيل اليمنى على مسافة ٣٥٩ ميل أو ٥٧٧ كم من القاهرة.

(١٩٧) أطلال معبد دندرة الفرعوني.

(١٩٨) تقع دندرة على مسافة ٤١٧ ميل من القاهرة على الطريق النهري أي ٦٧١ كم ، وهي على الضفة اليسرى.

(١٩٩) والمقصود بذلك بلا ريب أطلال معبد الإلهة هاتور الفسيح ، قرب دندرة.


النيء. وسكانها أناس فقراء الحال ، من الزراع. ولكن المدينة تغصّ بالقمح لأنها مستودع البضائع التي تنقل من القاهرة إلى مكة بواسطة النيل.

وبالفعل تقع قنا على مسافة تقارب مائة وعشرين ميلا (٢٠٠) من البحر الأحمر عن طريق الصحراء. ولا يوجد في هذه الصحراء ماء حتى الساحل (٢٠١). ويقوم على الساحل ميناء يدعى القصير (٢٠٢). ويوجد هنا بضع أكواخ لتفر مغ البضائع وجميع بيوت هذا الميناء مبنية بالحصر ويصاد الكثير من السمك في القصير.

وفي مقابل هذا الميناء على الساحل الآسيوي من البحر الأحمر يقوم ميناء يدعى ينبع (٢٠٣). وتتوقف المراكب والقوافل في هذا الميناء للذهاب إلى المدينة حيث يوجد جثمان محمد صلّى الله عليه وسلّم. وتغذي ينبع المدينة المنورة ومكة بالقمح ، لأن هاتين المدينتين تعانيان من شحّ فيه.

اسنا

كانت اسنا تسمى سيان في العصر القديم ، ولكن العرب سموها إسنا لأن اسم سيانة كان يشابه كلمة عربية تعني قبيح (٢٠٤) ، في حين أن اسنا تعني حسنة (٢٠٥). وهي في الواقع مدينة جميلة جدا مبنية على ضفة النيل الإفريقية (٢٠٦). ومع أنها كانت شبه مخربة على أيدي الرومان فقد أعيد بناؤها بصورة حسنة جدا في عصر المسلمين. ولكن بالموازنة مع الأزمنة القديمة تبدو مهجورة ، لأننا لا نزال نرى فيها في الوقت الحالي أسس أسوارها على دائرة واسعة. وسكانها أثرياء بالحبوب وبالمواشي وبالعملة النقدية لأنهم

__________________

(٢٠٠) ١٩٢ كم.

(٢٠١) وهذا غير صحيح تماما فقد أوجد الرومان عدة آبار ليست الآن سوى آثار.

(٢٠٢) أي القصر الصغير على مسافة أربعة أو خمسة أيام من قنا بالنسبة للقوافل.

(٢٠٣) وهو ينبع البحر.

(٢٠٤) «سيان ، وحل المستنقع الآسن» (المترجم). [أو لعل الكلمة كانت قريبة من كلمة «شين» بمعنى قبيح] (المراجع)

(٢٠٥) ليس لهذا التفسير قيمة ، فكلمة سيان هو اسم أسوان القديمة ، أما أسنا أو على الارجح إيسنا ، فهو تحريف للإسم القبطي سنه ، والذي هو نفسه تحريف عن اللغة المصرية القديمة تيسنان.

(٢٠٦) على مسافة ٤٩٦ ميل أو ٩٧٨ كم من القاهرة بالطريق النهري.


يزاولون التجارة مع النوبة عن طريق الصحراء وبواسطة النيل (٢٠٧).

ونجد في سور المدينة القديم أطلال أبنية كبيرة جدا وقبورا مدهشة مع شواهد قبور تحمل كتابات بحروف مصرية وأحيانا بحروف لاتينية (٢٠٨).

مدينة أسوان

أسوان مدينة كبيرة قديمة بناها المصريون على شط النيل ، على مسافة ثمانين ميلا من اسنا (٢٠٩). وهي محاطة بأراض ممتازة لزراعة الحبوب (٢١٠). وهذه المدينة عامرة جدا بالسكان ، والتجارة فيها هامة لأنها تتاخم مملكة النوبة ولأنه لا يمكن أبدا ركوب النيل فيما بعدها باتجاه الجنوب. والواقع يعرض النيل في عاليتها خلال سهول ويكون الماء ضحلا للغاية مما يتعذر استخدامه (٢١١).

وتتاخم أيضا الصحراء التي يخترقها المسافرون للذهاب إلى سواكن على البحر الأحمر ، عند بداية اثيوبيا.

ويكون الحر في أسوان مفرطا في الصيف ، وبسببه يكون كل السكان سمر الوجوه ، كذلك لأنهم مختلطون مع النوبيين ومع الأحباش. وتظهر فيها ايضا في عديد من الأماكن أبينة قدامى المصريين وبعض الأبراج الشديدة الارتفاع (٢١٢) والتي تسمى في هذه البلاد باربه.

* * *

وفيما وراء أسوان لا نجد أية مدينة ولا أي مكان مأهول يستحق الذكر. فليس هناك سوى بعض القرى المأهولة بأناس من عرق أسمر يتكلمون لغة تخالطها العربية

__________________

(٢٠٧) لقد كانت اسنا بكل تأكيد منذ غابر الأزمنة القديمة سوقا كبيرة للجنوب المصري عند عقدة مواصلات هامة بين الطريق النهري النيلي والطرق البرية.

(٢٠٨) وهي أطلال معبد الرب خموم ، وهو معبد تعرض لتعديلات على أيدي عدة اباطرة رومان.

(٢٠٩) في الحقيقة ٥ ، ٩٨ ميلا من اسنا أو ١٥٨ كم وعلى مسافة ٥ ، ٥٩٤ ميل من القاهرة أو ٩٥٦ كم.

(٢١٠) تبدو اليوم محروقة بالحرارة.

(٢١١) والحقيقة لأن الشلالات تقطع الخط الملاحي على النهر.

(٢١٢) وهي أعمدة معابد جزيرة فيلة وجزيرة برباع عند العرب.


والمصرية (٢١٣) والحبشية. ويخضع هؤلاء السكان لقوم يسمّون البجا الذين يعيشون في البوادي حسب أسلوب العرب. وليس للسلطان أي نفوذ في هذه المناطق وهنا تنتهي دولته.

* * *

تلك هي أشهر المدن على ذراع النيل الكبير. وقد رآها كاتب هذه الاسطر ، ودخل بعضها ، ومرّ من قرب بعضها الآخر ، ولكنه استفهم تماما عنها من سكانها أو من الملاحين الذين رافقوه من القاهرة حتى أسوان والذين عاد معهم إلى قنا. ومن هناك ذهب في الصحراء الى البحر الأحمر الذي اجتازه للوصول إلى ساحل بلاد العرب الصحراوية إلى ميناءي ينبع وجدة (٢١٤) الواقعين في آسيا. وبما أنهما لا يقعان في افريقيا فلا مجال للتحدث عنهما.

* * *

ولكن لدى المؤلف أكبر رغبة من أن يصف ، بعون الله ، في كتاب صغير الجزء الآسيوي الذي رآه. وهكذا سيتكلم عن بلاد العرب الصحراوية ، وعن بلاد العرب السعيدة ، وعن بلاد العرب الحجرية ، وعن القسم المصري الواقع في آسيا ، كما سيتكلم عن بابل ، وعن قسم من فاس وارمينيا وجزء من بلاد التتر التي تجول فيها في بداية مراهقته. كما سيصف بضع جزر رآها خلال آخر رحلة له من فارس إلى القسطنطينية ، ومن القسطنطينية الى مصر عن طريق البحر ، ثم في اثناء عودته من مصر إلى ساحل إيطاليا.

وبعد ذلك لديه النية الصادقة في أن يضع مؤلفه في انتظام عند ما يعود سالما معافى ، بفضل الله ، من رحلته في أوروبا. وسيبدأ بوصف أوروبا ، والتي هي أجدر بأن تأتي في رأس البحث لشرفها ، ثم يتابع مع اكبر عناية واجتهاد وصف آسيا ، أي القسم الذي رآه من آسيا ، وأخيرا سيضع هذا المؤلف الصغير في المرتبة الثالثة.

__________________

(٢١٣) أي القبطية.

(٢١٤) «لأداء فريضة الحج» (المترجم)



القسم التاسع



أكثر الأنهار والنباتات والحيوانات

شهرة في أفريقيا

يعالج هذا القسم جميع الأنهار ، والحيوانات ، وأكثر النباتات جدارة بالذكر في افريقيا. وسنتكلم أولا عن أكثر الأنهار شهرة في بلاد البربر بادئين من الغرب.

نهر تانسفت

التانسفت نهر كبير ينشأ في الأطلس قرب مدينة تدعى آنيماي ، إلى الشرق من مراكش (١) ويجري نحو الغرب من خلال سهول إلى أن يصب في المحيط ، في كورة آسفي ، في منطقة دكالة. وقبل أن يدرك البحر يتلقى بضعة أنهار أشهرها نهران : أحدهما يدعى آسيف المل ، الذي ينبع من جبل هنتاتة ، القريب من مراكش ، ثم يهبط في السهل إلى أن يلتحق بالنهر ، والآخر يدعى النفيس الذي ينبع أيضا من جبال الأطلس في أطراف مراكش ، ثم يجري في السهل الذي يطيف بمراكش ويصب في النهر.

ونهر التانسفت عميق جدا ، ولكن يمكن اجتيازه خوضا في بعض الأمكنة ، مع أن الماء يغطي ركابات الخيّال ويضطر الماشي إلى خلع ثيابه كي يقطعه. ويوجد قرب مراكش جسر بناه الملك المنصور (٢) وعليه خمس عشرة قنطرة (٣) وهو من أجمل الأبنية التي توجد في افريقيا. وقد تخربت ثلاث قناطر في عهد أبي دبوس ، آخر ملك وخليفة في مراكش كي يمنع عبور يعقوب ، أول ملك من أسرة مرين ، ولكن هذا لم ينفعه إطلاقا في شيء (٤).

__________________

(١) يقع نبع التانسفت ، أو رأس الماء ، على مسافة بضعة كيلومترات شمال غرب آنيماي ، التي تدعى اليوم سيدي رحّال ، الواقعة على واد ردوم رافد التانسفت.

(٢) لقد ابتدأت أعمال بناء الجسر يوم الأحد ٢٥ تشرين الأول (اكتوبر) ١١٧٠ م في عهد الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن والد المنصور.

(٣) الواقع له خمس وعشرون قنطرة ، وطوله ٣٥٠ م وعرضه ٥ م ، ولكن ربما تعرض لبعض التعديل منذ بداية القرن السادس عشر.

(٤) كان لا يزال أبو العلا ، الملقب بأبي دبوس ، يمارس سلطته بوصفه خليفة موحّديا شرعيا في منطقة مراكش عند ما قرر المريني ابو يعقوب يوسف بن عبد الحق ، الذي تم الاعتراف به ملكا في المنطقة الواقعة شمال نهر أم الربيع منذ ٣٠ تموز ـ


تسّاوين

تسّاوين هما نهران ينبعان من جبل غجدامه ويبعد الواحد عن الآخر ثلاثة أميال تقريبا. ويحمل كل من هذين النهرين نفس الإسم ، وهو تسّاوت بالمفرد وتسّاوين بالمثنى والجمع ، الذي يعني باللغة الافريقية تخوم (٥).

واد العبيد

ينبع هذا النهر من الأطلس بين جبال عالية وباردة ، ويمر من أودية سحيقة على تخوم هسكورة مع إقليم تادلة ، ويهبط في السهل متجها نحو الشمال إلى أن يصب في نهر أم الربيع ، وهو نهر كبير جدا ، ولا سيما في شهر أيار (مايو) على أثر ذوبان الثلوج في الجبل.

أم الربيع

أم الربيع نهر كبير جدا يتولد في الأطلس بين جبال عالية على تخوم تادلة ومنطقة فاس (٦) ويجري هذا النهر مخترقا سهل آداخسن (٧) ثم يجتاز خوانق ضيقة حيث يظهر جسر جميل بناه أبو الحسن ، رابع ملك مريني (٨). وبعد ذلك الجسر وفي اتجاه

__________________

ـ (يولية) ١٢٥٨ م ، قرر أن يحتل مراكش. وقام في أواخر تموز (يولية) ١٢٦٩ م بمحاولة ضد هذه المدينة ، ولكن قطع الجسر أدى إلى فشلها. ولكن أبا دبوس لاحق خصمه فقتل في معركة في دكالة يوم الجمعة ٣٠ آب (أغسطس) ، ١٢٦٩ م ، إذن لم يؤد قطع جسر التانسفت إلى الحيلولة دون نهاية أسرة الموحدين في مراكش.

(٥) هذان النهران هما واد الأخضر في الشمال وتسّاوت في الجنوب ثم إلى الغرب. وقد أعطى المؤلف في القسم الثاني اسم تسّاون للكتلة الجبلية حيث ينبعان منها ، وهما متباعدان أحدهما عن الآخر. والكتلة الجبلية هي جبل فتواكة وليس جبل غجدامه ، الذي يقع إلى الغرب أكثر من تسّاوت. وتسّاوين هو جمع تسّاوت ، وهي كلمة لا تعني شيئا في اللهجات البربرية في المغرب الأقصى ، ولكن يمكن ربطها بأصل لغوي وهو كلمة آسا ، ومعناها تجويف ، حوض ، واد.

(٦) ومعناه أم فصل الربيع أو أم العشب ، ولكن اللفظ المحلي هو مربعة. وربما كان هذا تشويها لهذا الإسم أو أنه اسم بربري قديم.

(٧) والآن سهل خنيفرة.

(٨) أبو الحسن علي ، حكم بين ١٣٣١ ـ ١٣٤٨ م وهو سادس سلطان مريني. والمقصود بلا شك الجسر المتهدم عند دشرة الواد ، والذي ربما تخرب سنة ١٥٤٥ م بعد أن ألحق الشريف أبو عبد الله محمد الشيخ ، سلطان مراكش ، هزيمة بسلطان فاس ، احمد الوطاسي ، على واد درنة ، الذي سقط بيده أسيرا. وبعد خمسة عشر عاما قامت أرملة السلطان محمد الشيخ ، وهي مسعودة بنت أحمد الوزغيتي الوار زازاتي ، وأم السلطان الشهير أبي العباس احمد المنصور الذهبي ، قامت ببناء جسر آخر يبدو أنه هو الذي تقع أطلاله على مسافة بضعة كيلومترات في سافلة الجسر السابق ، قرب زاوية الشيخ.


الجنوب ، يخترق النهر سهولا بين دكالة ومنطقة تامسنة إلى أن يصب في المحيط قرب جدار أسوار مدينة آزمّور. ومن المستحيل عبوره خوضا في الشتاء أو في الربيع ، ولكن سكان القرى المجاورة له يقومون بتمرير الناس وأمتعتهم بالاستعانة بأرماث كبيرة مثبتة فوق قرب منفوخة.

وتصب بعض الأنهار الصغيرة في هذا النهر.

وابتداء من موسم هطول الأمطار في افريقيا حتى شهر أيار (مايو) تصاد من نهر ام الربيع كمية كبيرة من ذلك السمك الذي يسمى لكشيا (٩) في إيطاليا. والذي تشبع منه كل مدينة آزمور. وتذهب سفن عديدة موسقة بهذا السمك المملّح إلى مملكة البرتغال كما سبق أن قلنا عند الكلام عن مدينة آزمور.

أبو الرقراق

يتولّد هذا النهر من أحد جبال تتفرع عن جبال الأطلس. ويمر عبر أودية وغابات عديدة ، ثم يبرز من بين التلال في سهل يمر منه إلى المحيط. وهنا تقع مدينتان ، سلا والرباط ، وتقعان عند بداية مملكة فاس. وليس لهاتين المدينتين من ميناء سوى مصب النهر الذي يكون مدخله عسيرا على السفن. ويجب أن تكون السفينة بقيادة ربّان محنّك ، وإلّا فإنها تجنح على الرمل. ولو لم يكن مدخل النهر عسيرا لما بقيت هاتان المدينتان حرتين : إذ لكان الدفاع عنهما مستحيلا ضد أسطول صغير لأي ملك نصراني.

البهت

البهت نهر ينبع أيضا من الأطلس ويجرى نحو الشمال بين جبال وغابات ثم يجرى وسط تلال كي ينساح فى سهل من اقليم آزغار ، حتى أنه ليتحول فيه إلى بطائح وإلى بحيرات يصاد فيها عدد لا يحصى من الأسماك ، والحنكليس والشبّوط والجرّى ، وهي مدهشة لكبرها ولدهنها. ويقيم حول هذه الغيضات وهذه البحيرات رعاة من العرب يعتاشون من ماشيتهم ومن صيدهم. وهم يأكلون كثيرا من السمك ، ومن

__________________

(٩) سمك الشوط.


الحليب ومن الزبدة ، حتى أن الكثير منهم مصابون بمرض يسمى المورفيه (١٠). ويمكن اجتياز هذا النهر خوضا في كل وقت ، ومن بعض الممرات المعروفة ، إلّا في موسم الأمطار الكبرى أو عند ذوبان الثلوج. وهو يتلقّى عدة أودية صغيرة تنبع هي أيضا من جبال الأطلس.

السبو

السبو نهر ينبع من جبل يدعى سليلغو ، في الحوز ، اقليم مملكة فاس. وأصله من نبع كبير في غابة مخيفة. ويهبط من هنالك في واد بين جبال وتلال ، ثم يجري في سهل ويمر على مسافة ستة أميال (١١) من فاس. ويجتاز بعدئذ سهلا ويفصل الهبط عن آزغار. ويتابع مجراه إلى أن يصب في المحيط قرب منطقة تدعى المعمورة ، تبعد

بمقدار اثنين وعشرين ميلا (١٢) ، عن سلا وتصب بضعة أنهار في السبو. فبعضها يهبط من جبال غماره مثل الورغة والاودور (١٣) ، وبعضها يأتي من جبال تقع في إقليم تازه. ومجرى هذا النهر طويل ، ومياهه غزيرة ، ولكن توجد عليه ، مع ذلك ، نقاط عديدة يمكن عندها اجتيازه خوضا ، وهذا ما لا يمكن عمله في فصل الشتاء ولا في الربيع. وعندئذ يستعان بمراكب صغيرة لعبوره. وكذلك يصب في نهر السبو النهر الذي يخترق مدينة فاس والذي يحمل اسم نهر اللآلىء في لغة أهل البلاد (١٤). وتوجد في السبو كمية كبيرة من الأسماك ، ولا سيما في موسم سمك الآلوزalose كما سبق أن قلنا في أوضاع المعيشة في فاس ، حتى أن هذا السمك يكون فيها بثمن بخس.

__________________

(١٠) كانت تعني هذه العبارة حينذاك عدة أمراض تتميز بظهور بقع جلدية ، ومن بينها مرض الجذام ، ومن الصحيح أن الناس الذين يعيشون على السمك يكونون حسّاسين على الخصوص بهذه الأمراض.

(١١) ١٠ كم.

(١٢) ٣٥ كم. واستنادا إلى هذه المعطيات غير الواضحة التي يقدمها في كتابه الثالث ، فإن نهر السبو يجتاز منطقة فاس حتى ضواحي تنصور ، وهي منطقة أشار إليها أنها تقع إلى الشرق اكثر من الهبط ، ثم يفصل الاقليم المذكور عن منطقة فاس حتى المصب الحالي لنهر المكسّ ، وربما كان هذا نهر بونصر عند المؤلف. ولهذا اعتبره كحد فاصل بين الهبط وآزغار على مسافة قصيرة بين هذه النقطة وأخرى تقع جنوب شرق سوق الجمعة في بلاد بني مالك ، الواقعة في آزغار على الضفة اليمنى لنهر الورغة ، ثم يجتاز الآزغار ويعتبر مصبه ، من جديد ، حدا فاصلا بين آزغار وإقليم فاس. وتقع المعمورة في هذا الإقليم.

(١٣) الاودور رافد الورغة.

(١٤) وهو واد الجواهر ، وهو إسم وادي فاس ، وهو اسم لا يعرفه سوى المثقفين.


ويشكل السبو عند وصوله البحر مصبّا غاية في العرض ، وكثير العمق ، حتى لتستطيع السفن الضخمة أن تلج فيه ، كما برهن على ذلك الأسبان والبرتغاليون في عدة مرات. وهذا النهر صالح للملاحة تماما. ولكن نظرا إلى جهل أهل البلاد فليس فيه أية سفينة نهرية ولا أي مركب يستطيع أن ينقل أي شيء. ولو كان أهل فاس يستغلّون السبو في الملاحة ، لأدى هذا بالتأكيد إلى انخفاض سعر القمح بمقدار النصف. وقد لاحظت بالفعل أن نقل قمح أزغار إلى فاس يكلف نقل كل وسق منه ما يعادل ثمن القمح نفسه ، مع أن القمح يباع في فاس بثلث دينار حسب هذا الأسلوب في النقل. ولو كان القمح ينقل بطريق الماء لما بلغ ثمنه حينئذ ولا ربع دينار لكل وسق (١٥).

اللّكوس

اللّكوس أو اللّقس ، نهر ينشأ في جبال غمارة ويجري في اتجاه الغرب عبر سهلي الهبط وآزغار ، ويمر من قرب مدينة القصر الكبير ثم يستأنف سيره إلى أن يصب في المحيط إلى قرب مدينة الاعراش (١٦) في إقليم آزغار على تخوم الهبط. ويقع ميناء المدينة في مصب النهر ، ولكن من العسير جدا الولوج فيه ، وخاصة لمن ليس لديه أية خبرة.

ملّولو

ملّولو نهر ينبع من جبال الأطلس على تخوم مدينة تازه ودبدو ، ولكنه أقرب إلى دبدو. ويمر في سهول قاحلة ومتجففة تدعى تيرست وطفراته ، وبعد ذلك يصب في نهر الملوية (١٧).

__________________

(١٥) نحن لا نعرف ما كان يمثله الوسق في ذلك العصر ، وهي وحدة وزن يترجمها المؤلف بكلمة سوما الايطالية أي الحمل. ولكننا نعرف من جهة أخرى أنه من فترة رخاء في القرن السادس عشر كان الوسق من القمح يساوي في مراكش ربع مثقال. وحمل الجمل في «سوس» كان يزن ٢٣٧ كغم ، وسعر القمح في فاس كان كل مائة كيلو جرام منه تساوي فرنكين دهبا. فلو استخدمت الوسيلة التي يصفها الوزان وهي النفل بطريق الماء لبلغ ثمن هذه الكمية اقل من فرنك ونصف فرنك من الذهب.

(١٦) أو العرايش.

(١٧) هذا الوصف غير صحيح ، فنهر الملولو هو رافد أيسر لنهر الملويّة في حين ان سهل طفراته يقع على الضفة اليمنى. أما اسم نيرست فيبدو أنه قد اختفى من المنطقة.


الملويّة

الملويّة نهر كبير ينبع في جبال الأطلس في منطقة الحوز على مسافة خمسة وعشرين ميلا من مدينة غارسلوين (١٨). ويخترق هذا النهر من البداية بعض السهول القاحلة والمتجففة ثم يدخل في سهل أسوأ من هذه كثيرا ، بين صحراء أنجاد وصحراء غارت. ويمر من سفح جبل بنيّ سناسن ويدخل في البحر المتوسط غير بعيد عن مدينة غساسة (١٩). وفي الصيف يمكن عبور هذا النهر خوضا على كل طول مجراه ، ويوجد فيه قرب البحر سمكا ممتازا.

زاء

الزاء نهر ينبع من الاطلس ويحري في سهل صحراء أنجاد ، على تخم مملكتي فاس وتلمسان. ولم أر مطلقا سرير هذا النهر مليئا ، ولكنه متعمق كثيرا. ويوجد الكثير من السمك في زاء بيد أن اهل المنطقة ، وهم جهلة ، لا يستطيعون صيدها لسببين :

أولا لأنهم لا يملكون وسائل صيد ، والثاني لأن ماء النهر صاف تماما ، ولذلك لا يصلح أبدا للصيد.

التافنة

التافنة نهر هو أقرب إلى الصغر وينشأ من جبال واقعة على تخوم نوميديا ويجري نحو الشمال عبر صحراء أنجاد إلى أن يدخل في البحر المتوسط. ويمر على مسافة خمسة عشر ميلا من تلمسان (٢٠). ولا يوجد في هذا النهر سوى أسماك غاية في الصغر لا قيمة لها مطلقا.

__________________

(١٨) يقع نبع الملوية على مسافة تزيد على ١٠٠ كم إلى الغرب. ويمر هذا النهر على مسافة ٨٠ كم شمال غارسلوين ، على واد زيز.

(١٩) غساسة على الساحل الغربي لشبه جزيرة الشوكات الثلاث ، وعلى مسافة ٨٠ كم تقريبا غرب مصب نهر الملوية.

(٢٠) الحقيقة على مسافة ٣٠ كم أو ١٩ ميلا.


المينا

المينا نهر كبير نوعا ما يهبط من الجبال المجاورة لتكدمت ويمر من سهل مدينة البطحة. ثم ينطلق نحو الشمال إلى أن يصب في البحر المتوسط (٢١).

الشلف

الشلف نهر كبير يتولد في جبال الورسنيس (٢٢) ويهبط عبر سهول خاوية تقع على تخوم مملكتي تلمسان وتينس. ويتابع مجراه إلى أن يصب في البحر المتوسط فاصلا بلدة تدعى مازغران عن مدينة مستغانم (٢٣) ، ويصاد في مصب هذا النهر كمية كبيرة من سمك غاية في الجودة ، بين كبير وصغير.

الشفة

وهو نهر ليس بالطويل كثيرا. وينبع من الأطلس ويجري في سهل يدعى المتيّجة المجاور لمدينة الجزائر. ويصب في البحر المتوسط قرب مدينة قديمة تدعى تامندفوست (٢٤).

النهر المسمّى الكبير (٢٥)

ينبع هذا النهر من الجبال التي تحاذي إقليم الزاب. ويهبط من بين جبال عالية جدا إلى أن يصب في البحر المتوسط على مسافة ثلاثة أميال (٢٦) من بجاية. وليس له من فيضان إلّا في زمن المطر والثلج. وليس من عادة صيادي بجاية الصيد فيه لأن لديهم البحر بجوارهم مباشرة.

__________________

(٢١) وهذا خطأ لأن المينا هو رافد للشلف.

(٢٢) وكانت في الماضي الونشريس.

(٢٣) الواقع لا يمر الشلف بين مازغران ومستغانم ، بل يصب في البحر شمال هذه المدينة وتلك.

(٢٤) يصب نهر الشفة في البحر غرب مدينة الجزائر تحت إسم وادي مازفران. أما الوادي الذي يقع مصبه قرب أطلال المستعمرة الرومانية روسغونيا ، أو تامندفوست البربرية فيدعي واد الحميز.

(٢٥) الوادي الكبير واسمه الآن الصمّام.

(٢٦) ٥ كم.


سوفغمار (٢٧)

ينبع هذا النهر من الجبال التي تتاخم جبال الاوراس ويهبط عبر بريّة متجففة كي يجري في أراضي إقليم قسنطينة. وهنا يمر من تحت الأرض ويجتمع بنهر آخر. ثم يذهب نحو الشمال ، تارة بين التلال ، وتارة بين الجبال ، إلى أن يصب في البحر المتوسط بعد أن فصل كورة مدينة القالة عن كورة قصر جيجل (٢٨).

نهر إيدوغ (٢٩)

وهو نهر ليس بالكبير. وينبع من بعض الجبال المجاورة لمدينة قسنطينة ويجرى بين جبال ، نحو الشرق ، إلى أن يصب في البحر المتوسط قرب عنابة (٣٠).

وادي البربر

ينبع هذا النهر من بعض جبال تتاخم كورة مدينة الاربص. ويجري دوما بين تلال وجبال ، ومجراه شديد التعرج حتى أن المسافرين الذين يقصدون تونس من عنابة يضطرون لعبوره حوالي خمس وعشرين مرة ، بينما لا توجد قنطرة عليه ولا مركب. ويصب أخيرا فى البحر المتوسط قرب ميناء خال يدعى طبرقة ، على مسافة خمسة عشر ميلا من باجة (٣١).

__________________

(٢٧) نهر الرمل.

(٢٨) ذكر المؤلف ، فى القسم الخامس ، اسم سوفغمار علىّ اعتباره اسم ذلك النهر ، وربما نهر الرمل ، مع أنه لم يذكر أنه ينبع من طرف جبال الاوراس. أما النهر الصغير المقصود هنا فالمعتقد أنه بومرزوق الذي يلتقي فعلا بنهر الرمل فى عالية خوانق قسنطينة وليس فى سافلتها.

(٢٩) نهر ايدوغ واسمه الحالي نهر السيبوز.

(٣٠) يحمل هذا النهر فى أيامنا إسم السيبوز ، وهي كتابة محرّفة عن اسم سبوز ، أى حيث كانت تقع أطلال مدينة هيبونة الرومانية. أما أدوغ فهو الجبل الذى يطل على عنابة من الغرب. من المحتمل أن المؤلف قد تعرض هنا إلى التباس.

(٣١) لقد كان النهر الصغير الساحلي الذي يقع مصبه عند طبرقة ، والذى يدعى حاليا الوادى الكبير ، كان يحمل اسم وادى البربر. ولكن النهر الذى ينبع في منطقة الأربص هو نهر تسّه ، الرافد الأيمن للمجردة. والنهر الذى يجب اجتيازه خمس وعشرين مرة على طريق تونس ـ عنابة لا يمكن أن يكون غير المجرّدة فى مجراه الجبلى.


المجردة

المجردة (٣٢) نهر كبير جدا ينبع من الجبال التي تتاخم إقليم الزاب ، قرب مدينة تبسّة (٣٣). ويتجه هذا النهر نحو الشمال إلى أن يصب في البحر المتوسط في المكان المسمى غار الملح ، على مسافة أربعين ميلا من تونس. وتغزر مياهه كثيرا في موسم الأمطار ، حتى ان التجار والمسافرين يضطرون الانتظار يومين أو ثلاثة كي تنخفض مياهه ، إذ لا يوجد هنا أي مركب ، كما أن هذا الممر يقع على مسافة ستة أميال من تونس. ويمكننا أن نحكم من هذا الواقع على قلة قيمة الأفارقة ، وعلى هزال ذكائهم ، وعلى قلة حماسهم في العمل.

نهر قابس

وهو مجرى مائي يولد في صحراء ، نحو الجنوب ، وينحدر بين سهول رملية إلى أن يدخل في البحر المتوسط قرب مدينة قابس. ولمائه طعم الكبريت وهو حار جدا. ويجب تركه ليبرد مدة ساعة كي يمكن شربه.

تلك هي الأنهار التي تستحق الذكر في بلاد البربر. وهناك أنهار كثيرة أخرى هامة لن نتكلم عنها في هذا الكتاب الصغير كيلا أكون مفرطا في الإطناب في سرد أشياء غير معروفة. وسنتابع الآن كلامنا عن أنهار نوميديا.

السوس

السوس نهر كبير ينبع من جبال الأطلس ، أي من الجبال التي تفصل منطقة حاحة عن منطقة السوس. وينحدر نحو الجنوب بين هذه الجبال ويجري في براري منطقة السوس ، ثم يجري غربا إلى أن يدخل في المحيط قرب بلدة تدعى آغادير. وفي الشتاء تعزر مياهه كثيرا حتى أنه يجرف الكثير من التراب الهشّ ، ولكن مستوى مياهه يهبط في الصيف حتى ليمكن عبوره خوضا بسهولة في بعض الأمكنة.

__________________

(٣٢) وهو نهر بغرادة عند الرومان.

(٣٣) إن نهر الملّاق هو الذي ينبع قرب تبسّه ويصب بعدئذ في المجردة.


الدرعة

وهو نهر ينبع من جبال الأطلس عند تخوم هسكورة ويهبط نحو الجنوب عبر إقليم الدرعة. ثم يمر في الصحراء ناشرا ماءه عبر برّية ينمو فيها الكثير من العشب فى الربيع ، ويأتي إليها العرب المجاورون لرعي إبلهم. ولكنهم كثيرا ما يحتربون على هذه المراعي ويقتتلون.

وفي الصيف يصبح هذا النهر جافا حتى ليمكن اجتيازه مع الاحتفاظ بالأحذية. ولكن تغزر مياهه في الشتاء حتى ليتعذر عبوره بأية وسيلة كانت ، حتى بالقوارب. وعندما يكون الطقس حارا يغدو ماء هذا النهر ساخنا.

زيز

ينبع الزيز من الأطلس ، من جبال تسكنها قبائل زناقة. ويجرى نحو الجنوب بين جبال عديدة ويمر من قرب مدينة تدعى غار سلوين. ويستمر فيما بعد عبر كورة خانق ، ومتغارة ، ورطب. ويدخل في أراضي مدينة سجلماسة ، ويمر بين أراض زراعية ويجري قرب قصر السغيلة (٣٤). ثم يؤلف بحيرة وسط الرمل ، حيث لا نجد أى مسكن (٣٥) ، ولكن للقنّاصة العرب عادة التردد على المناطق المجاورة لهذه البحيرة حيث يحصلون على صيد وفير للغاية.

غير

غير نهر ينبع أيضا من الأطلس ويجري نحو الجنوب عبر صحارى ، ثم يمر من منطقة مأهولة تدعى بني قومي (٣٦) وبعد ذلك يعود للصحراء وينتهي به الأمر أن يتحول هو أيضا إلى بحيرة وسط الصحراء (٣٧).

__________________

(٣٤) السغيلة ، قصر غير معروف المكان.

(٣٥) لم تذهب ذكرى هذه البحيرة بعد من هذه المنطقة.

(٣٦) الحقيقة هي أن بني قومي يسكنون على ضفاف زوزفانه قبل التقائه بوادي غير عند إيغلي ، حيث يتخذ الواديان المتحدان اسم وادي الساورة.

(٣٧) لقد اختفت هذه البحيرة منذ زمن طويل بسبب زحف الرمال في المنطقة.


لقد تكلمت لكم مسبقا عن النهر الذي يسميه بطليموس النيجر في القسم الأول من هذا الكتاب في معرض كلامي عن تقسيمات افريقيا.

* * *

نهر النيل الكبير

إن جميع ما يتعلق بالنيل ومجراه لظواهر ذات أهمية بالغة وإعجاب شديد. ويمكن قول نفس الشيء بالنسبة للحيوانات التي توجد في هذا النهر ، كخيول البحر وعجول البحر ، والتماسيح العديدة جدا والشديدة الضراوة ، كما سبق أن قلنا في الفصل المتعلق بالنيجر وكما سنقوله في الفصل المخصص للحيوانات الغريبة في افريقيا.

ولم تكن التماسيح في عصر المصريين والرومان تحدث من الأضرار مثل ما تصنعه اليوم. ولكنها أصبحت رهيبة أكثر منذ أن احتل المسلمون مصر. ويروى المسعودي (٣٨) في كتابه عن الاكتشافات الرائعة فى الأزمنة الحديثة ، في عصر كان فيه أحمد بن طولون واليا على مصر بإسم جعفر المتوكل ، خليفة بغداد ، في عام ٢٧٠ هجرية ، وذلك عندما عثر على تمساح من رصاص ، له نفس حجم أحد هذه الحيوانات ، وكان تظهر عليه حروف مصرية (٣٩). وقد تم اكتشاف هذا التمثال في أساسات معبد وثني. وقام الحاكم بإتلافه ، وفي نفس العام ، أخذت التماسيح تعيث فسادا وتحدث أضرارا كبيرة ، ولقد ساد الاعتقاد بأن هذا التمساح قد صنع تحت بعض الاقترانات الكوكبية والسحرية لاتقاء شرور هذه الحيوانات. لكن ما يبدو أقرب للخوارق هو أن التماسيح التي تعيش في النيل بين القاهرة والبحر لا تقوم بأى أذى فى حين أن تلك التي توجد في عالية القاهرة تقتل الناس وتحدث الكثير من الأضرار المادية.

__________________

(٣٨) هو ابو الحسن علي المسعودي ، المتوفي حوالي سنة ٩٨٥ م ، ومؤلف كتاب يقع في ثلاثين مجلدا هو «أخبار الزمان ومن أباده الحدثان من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الدائرة» وهو مؤلف ضخم لم يصلنا منه سوى بعض أجزائه. [العنوان الأصلي لكتاب المسعودي الكبير في التاريخ هو «مروج الذهب ...» (المراجع)].

(٣٩) هو ابو العباس احمد بن طولون. وقد استلم وظائفه حاكما على مصر في ١٥ ايلول (سبتمبر) ٨٦٨ م باسم الخليفة زبير المعتز الذي كان أباه الخليفة جعفر المتوكل قد اغتيل في ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٨٦١ م. وتوفي احمد بن طولون فى رمضان ٢٧٠ ه‍ ١ آذار (مارس) ٨٨٤ م.


ويستمر فيضان النيل أربعين يوما في مصر وذلك ابتداء من السابع عشر من حزيران (يونية) ، وتستمر التحاريق أربعين يوما أيضا (٤٠) وقبل أن يصل إلى مصر يستغرق الفيضان كل شهر أيار (مايو) وقسما من حزيران (يونية) كي ينزل إلى مجرى النيل (٤١). وتوجد آراء مختلفة حول موضوع أصل النيل. فالبعض يقولون أنه يأتي من جبل يدعى جبل القمر. ويدّعي آخرون أنه ينبع في سهول مهجورة في حضيض هذا الجبل ، عن طريق بضعة ينابيع شديدة التباعد بعضها عن بعض. ويؤكد أنصار الرأي الأول أن النهر يهبط من الجبل مع عنفوان شديد حتى أنه ليدخل تحت الأرض ويخرج منها بعدئذ بواسطة عيون مختلفة. ولكن هذين الرأيين ليسا أكثر من افتراضين إذ لم ير أحد أبدا شيئا من ذلك ولا يزال من غير الممكن رؤية ذلك عيانا.

بيد أن تجار الحبشة الذين يزاولون التجارة في دنقلة يقولون أن النيل يزداد عرضا في الجنوب حتى إنه ليصبح بحيرة ، وحتى ليتعذر تماما معرفة معالم مجراه. ويتشعب في الجنوب كذلك إلى فروع لا تحصى تجري بين هذه القيعان الضحلة وتنتشر من الشرق إلى الغرب فتمنع الناس من تجاوز المجاري الأصلية للنهر.

ويؤكد الكثير من الأحباش الذين ينتجعون في هذه الأرجاء كالعرب ، أن بعضا منهم فقدوا جمالا في موسم اللقاح ، وأنهم ذهبوا للبحث عنها جنوبا على مسافة ألف ميل (٤٢) ولم يروا شيئا آخر من النيل سوى زمرة من بحيرات صغيرة ومن فروع كثيرة ، ووجدوا جبالا كبيرة جافة وخاوية. ويسرد نفس المؤرخ ، أي المسعودي ، أنه يعيش في هذه الجبال متوحشون يركضون كالوعول ويأكلون العشب ويعيشون في الصحاري كالحيوانات المفترسة. ولكن ربما كان في ذلك بعض الأكاذيب المشهورة ، من بين

__________________

(٤٠) يبدأ الفيضان في القاهرة فقط ، في ١٧ حزبران (يونية) كما أن نظام النيل يختلف عما يذكره لنا المؤلف ، كما رأينا ، ويدّعي أن هذا الواقع يعود إلى كثرة الأمطار في ايثيوبيا في بداية أيار (مايو). والحقيقة في شباط (فبراير) وفي آذار (مارس) تتضافر الأمطار وذوبان الثلوج في منطقة البحيرات الاستوائية على تشكيل كتل الماء التي تؤلف الفيضان ، والذي يستغرق بضعة أشهر ريثما يصل إلى مصر.

(٤١) بتاريخ ٢٦ نيسان (ابريل) يبدأ النيل الأزرق القادم من الحبشة فيضانه في الخرطوم ، وفي ١٩ أيار (مايو) يأتي النيل الأبيض القادم من البحيرات الكبرى الاستوائية ليضم موجته عند الخرطوم. وفي ١٧ أيار (مايو) يصل الفيضان إلى دنقلة ، وفي ٢٩ أيار (مايو) يصل إلى أسوان. ويستغرق الفيضان ٥٢ يوما كي يقطع مسافة ٢٧٥٩ كم التي تفصل الخرطوم عن القاهرة.

(٤٢) ١٦٠٠ كم.


أكاذيب أخرى أضعفت الثقة في مسائل هذا الكتاب. ويقول أيضا أنه يوجد فى هذه الجبال أحجار الزمرد وهذا ربما كان صحيحا. ولو سردنا كل ما قاله الجغرافيون عن النيل ، إذن لأصيب كل الناس بالدهشة والتعجب. ومن المحتمل ألّا يصدّقوا ذلك. ولهذا لن نتعرض لذلك بشيء كيلا يضيع الوقت في أمور غير موثوق بها.

* * *

عن الحيوانات

لننتقل الآن إلى الحيوانات. وليس لديّ النية الكلام عن كل الحيوانات الموجودة في افريقيا. لأن هذا سيكون حقا أمرا يكاد يكون مستحيلا ، ولكن سنقتصر فى كلامنا على تلك التي لا توجد في أوروبا. أو تختلف ببعض خصائص عن نظائرها في أوروبا. وسأتعرض بالتعاقب للحيوانات الأرضية ، فالحيوانات المائية ، فالحيوانات الطائرة. وسأغفل كثيرا من الأشياء التي كتبها بلين المؤرخ ، الذي كان عالما فريدا فى مكانته. غير أنه ارتكب أخطاء عن بعض الأشياء الصغيرة في افريقيا. ولم يكن ذلك خطؤه ، بل خطأ الذين أخبروه من المؤلفين الذين كتبوا قبله ، كما يقول المثل العامي العربي «ما هو الوسخ الذي يسببه تبول طفل في مياه البحر؟».

الفيل

الفيل حيوان وحشي ، ولكنه قادر على التعلم. ويوجد عدد كبير من هذه الحيوانات في غابات بلاد السودان. وعند ما تتصادف مع انسان فهي تتحاشاه وتخلي له المكان ، ولكن إذا أثارها ، امسكته بخرطومها الطويل ، ورفعته في الهواء ثم رمته على الأرض وتدوسه إلى أن تتركه ميتا. وعلى الرغم من أن الفيل حيوان ضخم وشرس فإن صيادي الحبشة يصطادون الكثير منه بالطريقة التالية :

يذهبون إلى الغابات الكثيفة حيث يعرفون ان هذه الحيوانات تستريح فيها خلال الليل. وهنا يصنعون بين الأشجار حظيرة مؤلفة من أغصان قوية تشكل زريبة منيعة ، ولكنهم يتركون فيها مساحة صغيرة فارغة ، ويربطون بها بابا يتركونه ممّددا على الأرض ، ويستطيعون رفعه بحبل لإغلاق الممر بسرعة. وعند ما يدخل الفيل لينام في الزريبة يشدّون الحبل بقوة فيصبح الحيوان سجينا. وعندئذ ينزل الصيادون من


الأشجار ويقتلون الفيل بالسهام ثم يأخذون أنيابه لبيعها. ولكن إذا نجا الفيل من الزريبة فهو يقتل جميع من يراهم من الرجال.

ويوجد في الهند وفي الحبشة العليا طريقة أخرى للصيد سأغفل ذكرها.

الزراف

هذا الحيوان وحشي حتى ليكون من النادر أن يتمكن أحد من رؤيته ، لأنه يختفي في الغابات وفي الصحاري حيث لا توجد حيوانات أخرى. وعند ما يرى البشر يهرب ولكنه ليس سريعا في عدوه. وله رأس جمل ، وأذني ثور وقوائم .. (٤٣) ولا يحاول الصيادون صيد الزرافات الكبيرة ، بل يقصدون الغابات بحثا عن الصغار وهي في كناسها.

الجمل

الجمل حيوان أهلي هادىء ، وتوجد مقادير كبيرة منه في افريقيا ، وخاصة في صحاري نوميديا ، وليبيا ، وحتى في بلاد البربر. وتؤلف الجمال ثروة العرب وارزاقهم. وعند ما يريد أحدهم الكلام عن ثروة أمير أو شريف عربي يقول عادة : «لدى فلان كذا من آلاف الإبل» ولا يقال أبدا : «لديه كذا من الدنانير أو كذلك من الأملاك».

وكل العرب الذين يملكون إبلاهم أمراء يعيشون أحرارا ، لأنهم يستطيعون مع هذه الحيوانات البقاء في الصحاري حيث لا يقدر ملك أو أمير أن يذهب إليها بسبب الجفاف.

وتوجد هذه الحيوانات في كل أجزاء العالم ، في آسيا ، في افريقيا ، وحتى في اوروبا (٤٤). ففي آسيا تستخدمه جماعات التتر والاكراد والديلم (٤٥) والتركمان ،

__________________

(٤٣) هنا ابيض. وقد ترجمه تامبورال «آذار وقوائم ثور ...»

(٤٤) لم تصل أنباء اكتشاف امريكا إلى مسامع الحسن الوزان علما بأنه كان يكتب هذه الأسطر بعد مضي أكثر من ثلث قرن من وصول كولومب إلى القارة الجديدة.

(٤٥) سكان الديلم وجيلان من العرب ، ومازانديران من الفرس ، والديلم كتلة جبلية تطيف ببحر قزوين من الجنوب.


كما يوجد لدى أمراء الترك في أوروبا ويستخدمونه في قوافلهم ، وكذلك الحال في افريقيا بالنسبة للعرب وسكان صحراء ليبيا ، كما يقتنى الملوك منها لنقل الأقوات والمتاع.

ولكن جمال افريقيا أفضل من جمال آسيا لأنها تحمل الوسق خلال أربعين أو خمسين يوما دون أن يكون من الضروري تقديم ما تأكله عند المساء : بل تحط عنها الرحال ويطلق سراحها لكي ترعى في البرية قليلا من العشب ، ومن الأشواك ، وبعض الأغصان. ولا يمكن عمل ذلك مع جمال آسيا.

وللذهاب في رحلة ما يجب أن يكون الجمل سمينا تماما. وقد أظهرت التجربة أن الجمل عند ما يسافر مدة خمسة أيام حاملا وسقه بدون طعام ، يختفي منه أولا شحم سنامه ، وبعد خمسة أيام أخرى يفقد شحم بطنه ، وبعد خمسة أيام أخريات يخسر شحم فخذيه ، وعند ما يفقد كل شحمه ، لا يستطيع أن يحمل مائة رطل (٤٦). ولهذا يعمد التجار الذين يستخدمون الجمال في آسيا إلى إعطائها في كل مساء نصيبا من العلف ، مما يضطرهم إلى أن يقتادوا مع كل جمل جملا آخر ينقل الأعلاف. وبهذا الأسلوب نجد الجمال ، في قوافل آسيا ، تمشي دوما وهي محمّلة ، سواء في الذهاب أو في العودة ، غير أنها تظل مع ذلك سمينة ، مع أنها تضاعف الرحلة. غير أن التجار الأفارقة الذين يقصدون ايثيوبيا (٤٧) لا يشغلون بالهم بالعودة ، لأن حيواناتهم تعود بلا حمل ، لأن ما يجلب من ايثيوبيا لا وزن كبيرا له بالقياس إلى ما حمل إليها. ويؤدى ذلك إلى أن تصبح الجمال هزيلة ، وتصبح ظهورها مليئة بالفروح عند ما تصل الى اثيبويا وعندئذ تباع ببعض الدنانير إلى أهل الصحراء الذين يجهدون فى إعادتها لحالتها الأولى.

ولا يحتاج التجار لعودتهم إلى نوميديا أو إلى بلاد البربر إلا لعدد قليل من الحيوانات معدّة لحملهم ولنقل الأقوات والذهب وبعض الأشياء الخفيفة

وهناك ثلاثة أصناف من الإبل. فجمال النوع الأول تدعى الهجن (٤٨) وهى

__________________

(٤٦) ٣٤ كغم.

(٤٧) أي السودان جنوبي الصحراء الكبرى ، أو افريقيا الغربية.

(٤٨) جمع هجين ، أي جمل من نوعية دنيا ، في حين أن الجمل الأصيل يحمل أيضا اسم هجان ومنها جاءت كلمة هجّان أو مهاري في المغرب ، والذي ورد في الكتاب السابق كناية عن البريد السريع.


رشيقة القوام وغليظة ، وهي حيوانات حمل ممتازة ، ولكنها لا تستطيع أن تحمل حملا قبل سن الرابعة من عمرها. وحينئذ يصبح أضعفها قادرا على حمل ألف رطل ، من أوزان إيطاليا (٤٩). ولتحميله تضرب ركبته وعنقه ضربة خفيفة بعصا صغيرة ، فيبرك حالا على الأرض بغريزته الطبيعية. وعند ما يشعر الجمل أن الوزن الذي صار عليه كافيا بالنسبة له ، ينهض. ومن عادة الأفارقة الذين يرغبون في الاحتفاظ بمزايا حمالهم أن يخصوها ، فلا يتركون اكثر من ذكر واحد لكل عشر من الإناث.

أما الجمل من النوع الثاني فيدعى البختي (٥٠) ، ولهذا الجمل سنامان ، وهذا النوع كالسابق يصلح للأثقال أو للركوب ، ولكنه لا يوجد إلّا في آسيا ، وتدعى جمال الصنف الثالث رواحل (٥١). وهي رقيقة الجسم ، دقيقة الأطراف ولا تصلح لغير الركوب. ولكنها سريعة جدا. ويستطيع الكثير منها أن يقطع بالفعل مائة ميل في يوم واحد (٥٢) ، وحتى اكثر من ذلك مع محافظة على هذه المسيرة خلال ثمانية أو عشرة أيام في الصحراء ومع أقوات زهيدة. ويستخدم كل الزعماء بين عرب نوميديا ومن أفارقة ليبيا هذه الحيوانات مطايا لهم. وعند ما يريد ملك تومبوكتو نقل معلومات هامة لتجار نوميديا ، فإنه يرسل خطابه بواسطة ساع يركب أحد هذه الجمال التي تقطع مسافة تسعمائة ميل (٥٣) بين تومبوكتو والدرعة أو سجلماسة في ستة أيام أو ثمانية. ولكن مما لا غنى عنه أن يكون لدى الرجال المكلفين بمثل هذه المهمات خبرة كبيرة بالصحراء. ويطلبون خمسمائة دينار للقيام بهذه الرحلة ذهابا وإيابا.

ويحل موسم لقاح الإبل في بداية الشتاء (٥٤). وفي هذا الحين لا تتقاتل فيما بينها فحسب ، بل تهاجم باستماتة الرجال الذين أساءوا معاملتها ، لأنها تتذكر عندئذ كل

__________________

(٤٩) ٣٤٠ كغم.

(٥٠) البختي ، وجمعها بخاتي أي من بلاد بكتريان ، أي بلاد ما وراء النهر «أو تركستان السوفياتية حاليا» (المترجم).

(٥١) رواحل ، جمع راحلة ، أي حيوان السفر أو جمل القتب ، وفي أيامنا تدعى المهارة ، ومفردها مهاري ، ومنها الجندي المهاري في المغرب أو الهجّان في المشرق.

(٥٢) ١٦٠ كم. ولا يمكن أن يستمر هذا النسق من السرعة اكثر من ثلاثة أو أربعة أيام وعلى حيوانات ممتازة. وإذا بذل الحيوان جهدا متواصلا أكثر فقد يؤدي ذلك غالبا إلى موت الحيوان ـ ه. ل.H.L hote.

(٥٣) ١٤٤٠ كم ، لا يمكن قطع مسافة كهذه من الزمن المذكور إلّا بتبديل المطيّة عدة مرات ، ومن ناحية أخرى فإن القليل من الرجال هم الذين يستطيعون بذل مثل هذا المجهود ، وتبدو كل هذه الفقرة مبالغة. ه. ل H.L hote

(٥٤) أي نزوان ذكورها على إناثها.


دقيقة تلقّت فيها ضربات من صاحبها. وعند ما تأخذ أحدا بين أسنانها فهي تدعه يسقط ثم تدوسه بعنف بمقدمة قوائمها. ولا تظل في حالة الهيجان هذه سوى أربعين يوما وتعود لهدوئها بعدئذ. وتتحمل هذه الحيوانات العطش وتصبر على الجوع. فهى تستطيع أن تبقى مدة خمسة عشر يوما دون شراب ودون أن يؤذيها ذلك. وإذا سقى أحد هذه الإبل مرة كل ثلاثة أيام ، فإن هذا سيؤذيها ، لأنها اعتادت ألّا تشرب إلّا كل خمسة أيام أو مرة كل تسعة أيام. وتستطيع أن تبقى منتظرة مدة خمسة عشر يوما إذا اقتضت الضرورة ذلك. ولدى الجمال حساسية عاطفية طبيعية وتملك بعض العواطف الانسانية. وعند ما يحدث للذين يقودونها على الطريق بين ايثيوبيا وبلاد البربر أن يضطروا في بعض المرات أن يتوقفوا في مرحلة اكثر من العادة ، وعند ما يرون أن جمالهم لا تريد السير لأبعد من ذلك ، فلا يضطروها للمشي بضربات العصي ، بل ينشدون لها بعض الألحان الخاصة. وتشعر عندها هذه الحيوانات بسرور كبير حتى أنها تتابع طريقها بسرعة تفوق سرعة حصان مدفوع بالسوط أو بالمهماز ، وبسرعة تجعل رجال القافلة يجدون صعوبة في اللحاق بها.

وقد رأيت في القاهرة جمالا ترقص على نغمات الطبل. وقد شرح لي صاحبه كيف درّبه. وإليك ما فام به. فقد اختار قعودا وحبسه مدة نصف ساعة في غرفة مبنيّة كأنها غرفة حمّام ، وكانت أرضيتها مدّفأة بواسطة موقد. وفي خلال هذا الوقت كان يقف الرجل خارج الحجرة ويلعب بدقّ الطبل. وكان الجمل يرفع رجلا ويخفض أخرى ، كما لو كان يرقص ولكن ليس بسبب هذه الموسيقى بل بسبب السخونة التي كانت تؤلمه. وبعد عشرة أشهر أو سنة من هذا الترويض ، قاد الرجل هذا الجمل إلى الساحة العامة ، وما أن يسمع هذا قرعات الطبل ، حتى يظن أنه فوق الأرض التي كان عليها وذلك بسبب تذكّره حرارة النار التي كان تلسع خفّيه ، فيروح يرفع قوائمه بنفس الطريقة ، حتى ليبدو وكأنه يرقص. وبما أن العادة طبع ثان ، فإن الجمل لن ينس مطلقا هذه العادة المذكورة.

ويمكنني قول الكثير من الأشياء عن الجمل وسأضرب عنها صفحا كيلا أكون مملا.




الحصان العربي

تدعى هذه الخيول فى ايطاليا «البربرى» وكذلك الحال فى كا أوروبا (٥٥) ، لأنها تأتي من بلاد البربر. وهي من نوع يولد في هذه البلاد. والذين يعتقدون أنها من عرق خاص ينخدعون لأن الخيول العادية فى بلاد البربر هي كالأخرى فى البلاد الخارجية. ولكن سواء كنا فى بلاد الشام ، أم فى مصر ، أو في بلاد العرب الصحراوية ، أو السعيدة ، أو فى آسيا ، فإن الخيول الرشيقة والسريعة تدعى باللغة العربية الخيل العراب. ويرى المؤرخون أن هذا النوع نتج عن خيول متوحشة كانت تتيه فى صحاري جزيرة العرب ، وأن العرب هم الذين عملوا على تأهيلها منذ أيام إسماعيل ، حتى ان عدد هذه الحيوانات تزايد وانتشرت فى كل افريقيا. وأرى أن هذا الرأى مؤكد لأننا لا نزال ، فى العصر الحالي ، نرى بعض هذه الخيول الوحشية فى صحارى جزيرة العرب ، وفي بعض الصحارى الإفريقية ، وقد رأيت أنا نفسى فى صحراء نوميديا ، فى أثناء رحلتي الثانية التي قمت بها ، مهرا عمره سنة ونصف ، كان أبيض اللون وكانت له ذؤابة منتصبة ، مع وجه حيوان وحشى ، ولم يكن يبعد عنى اكثر من رميتى حجر

والامتحان الرئيسي لسرعة هذه الخيول هو الجري خلف حيوان يدعى اللمت أو خلف نعامة. وعند ما يتمكن الحصان من اللحاق بأحد هذين الحيوانين يقدر ثمنه بألف دينار أو بمائة بعير.

ولا يوجد الكثير من الخيول العربية في بلاد البربر ، ولكن عرب الصحراء وسكان ليبيا يربّون الكثير منها ولا يستخدمونها للسفر ولا للحرب بل للصيد فحسب. ولا يقدمون لها شيئا سوى حليب الناقة مرتين في الليل وفي النهار. وبذلك يبقون عليها خفيفة متحفزة على الرغم من أنها تبدو ضامرة. وفي موسم المراعي يتركونها ترعى العشب ولكن لا يركبونها في ذلك الوقت.

أما الخيول التي يملكها ملوك البربر فهي ليست بمثل هذه السرعة في السباق ، ولكنها أكثر جمالا بكثير ، وأكثر اكتنازا ، لأنهم يقدمون لها علفها من الغلال. وبهذه الخيول يطلبون النجاة عند ما يكون عليهم التخلص من مطاردة أعدائهم.

__________________

(٥٥) وقد تفوقت كلمة «بارب» في فرنسا.


الحصان الوحشي

يعتبر الحصان الوحشي حيوان صيد ، ولا يرى عيانا إلّا فيما ندر. وعند ما يصطاد عرب الصحراء واحدا ، يأكلونه ويقولون إن لحمه لذيذ لا سيما إذا كان الحيوان صغير السن. ولكن من النادر أن يمكن القبض على واحد بواسطة خيول عادية وكلاب. ولهذا تصنع فخاخ توضع فوق الماء الذي تقصده هذه الحيوانات للشرب وتغطى برمل.

وما أن يضع حيوان منها احدى قوائمه في هذا الفخ يتعرقل حتى ليضطر للبقاء في مكانه وهكذا يمكن القبض عليه (٥٦)(*).

اللمت (٥٧)

وهو حيوان يشبه الثور من حيث شكله ، ولكنه أصغر حجما ، وقوائمه وقرونه أكثر دقة. ويكاد يكون لونه أبيض ، غير أن أظلافه سوداء فاحمة. ويتصف بسرعة قصوى ، بحيث لا يوجد حيوان يتجاوزه في الطراد ، باستثناء بعض الخيل البربرية كما سبق أن قلنا (٥٨). ويمكن قنصه بسهولة في الصيف لأنه يفقد أظفاره بسبب سخونة الرمل وبالتالي يفقد سرعة عدوه ، حتى يمنعه الألم من الركض. ولنفس السبب تصاد الوعول الكبيرة والغزلان. ويصنع من جلد اللمت تروسا شديدة المقاومة لا يخترقها شيء باستثناء قذيفة من سلاح ناري. وتباع هذه التروس بأسعار عالية جدا (٥٩).

الثور الوحشي

يشبه هذا الحيوان الثور ، ولكنه أصغر حجما. وتكاد تكون كل الثيران الوحشية

__________________

(٥٦) حيوان غير محدد ، ولكن بالتأكيد ليس هو حمار الوحشي المخطط الذي لم يوجد مطلقا في صحاري شمال المدار في لزمن التاريخي.

(*) [هناك طرق أخرى كثيرة لصيد الحصان الوحشي من أشدها غرابة طريقة كان يستخدمها بعض عشائر الهنود الحمر في أمريكا ، وقد شرحتها في كتابي عن «الهنود الحمر» (انظر صفحات ٦١ ـ ٧٢ من هذا الكتاب)] (المراجع).

(٥٧) اللمت أو وعل أوريكس أو المها.

(٥٨) وقد قال المؤلف قبل قليل أن اللمت يطارد بالخيول العربية.

(٥٩) لقد انقرض هذا اللمت. وكانت هذه الكلمة معرّبة منذ زمن طويل لأنها ترد مع أل التعريف دوما ، والمشهور عن لمت الصحراء الكبرى أنه كانت تصنع من جلده أفضل التروس.


ذات لون رمادي أسمر. وهو أيضا حيوان سريع جدا. ويوجد في كل الصحارى أو على تخوم الصحارى ، ولحمه ممتاز (٦٠)

الحمار الوحشي

يوجد الكثير من هذه الحمير في الصحراء. وهي أيضا ذات لون رمادي أسمر وسريعة جدا ، ولا يفوقها في السرعة سوى الخيول العربية. وما أن ترى إنسانا حتى تأخذ بالنهيق وبالرفس. وتظل في مكانها إلى ان يصل الانسان قرببا منها حتى ليكاد يلمسها وعندئذ تهرب. ويقبض عليها عرب الصحراء بالفخاخ وبوسائل اخرى ، وتظل هذه الحمير دوما على شكل قطيع عندما ترعى وعندما ترد الماء. ولحمها طيب ولكن عندما يكون ساخنا يعطي رائحة كريهة ، رائحة الحيوانات الوحشية. ولكن إذا ترك ليبرد مدة ساعتين بعد طهيه فإن لحمه يصبح طيبا لذيذ الطعم (٦١).

أبقار جبال إفريقيا

إن كل الأبقار الأهلية التي تولد في جبال افريقيا صغيرة جدا حتى لتشابه العجول العادية التي بلغت السنتين فقط. غير أن سكان الجبال يستخدمونها للحراثة ويقولون إنها جلدة كثيرا وشديدة الاحتمال للتعب.

آدمّين أو أديمّان

هذا الحيوان أهلي ، وله شكل خروف ، ولكن له قامة حمار هزيل. وأذناه طويلتان ومتدليتان. ولسكان ليبيا قطعان من أغنام من هذا النوع ويستخلصون منها كمية كبيرة من الحليب الذى يصنعون منه زبدة وجبنا. وصوفه جيد ولكنه قصير والإناث وحدها هي التي لها قرون لأن الذكور تخلو منها. وهي حيوانات هادئة جدا.

__________________

(٦٠) البقر الوحشي هوaddax. وقد سمّاه المؤلف في الكتاب الأول «المها» وهو إسم مستعمل دائما في بلاد موريتانيا الحالية.

(٦١) استنادا إلى علماء الطبيعة ، فقد انقرض الحمار الوحشي من افريقيا الشمالية منذ العصور القديمة ، والكلام هنا عن حمر كانت أهلية ، ثم انطلقت في الصحراء فتوحشت.


وفي خلال طيش طفولتي أردت مرة التعرف على قوة هذا الحيوان : فركبت إحدى هذه. الاكباش الذي حملني لمسافة ربع ميل (٦٢). ولا نجد اعدادا ضخمة منه إلّا في صحارى ليبيا. ومع ذلك ترى بعض الرؤس منها في كور نوميديا ، ولكنها تعتبر هناك كأنها شيء غير مألوف (٦٣).

الأغنام

لا نختلف هذه الأغنام عن الأخرى إلا بالذيل الذي يكون ضخما. وكلما كان الذيل ضخما كان الحيوان سمينا. ويزن الذيل في بعض منها خمسة عشر رطلا إلى عشرين (٦٤). ويحدث هذا عندما تتغذى هذه الحيوانات بنفسها. ولكن هناك الكثير من الناس في مصر يمتهنون تسمين هذه الأغنام عن طريق تغذيتها بالنخالة وبالحبوب ، حتى ان ذيلها ليتضخم حتى يصل جزء كبير منه إلى الأرض لدرجة تجعل المربين يربطونه فوق عربة صغيرة حتى يستطيع الحيوان المشي. ولقد رأيت في أسيوط ، وهي مدينة مصرية واقعة على النيل ، على مسافة مائتين وخمسين ميلا من القاهرة (٦٥) ، إحدى هذه الأغنام التي كانت إليتها تزن ثمانين رطلا (٦٦). ويؤكد الكثير من الناس أنهم رأوا إليات تبلغ مائة وخمسين رطلا (٦٧). وكل دهن هذا الحيوان هو في الإلية ، ولا توجد هذه الحيوانات إلا في تونس وفي مصر (٦٨).

الأسد

وهذه الحيوانات وحشية وخطرة على سائر الحيوانات. وهي أكثر جلدا وشجاعة واكثر شراسة من كل تلك الحيوانات الأخرى. ولا تفترس الأسود الحيوانات فحسب بل الآدميين كذلك. وقد كان لبعضها ، في بعض الأماكن ، الجرأة على مهاجمة مائتي

__________________

(٦٢) ٤٠٠ م.

(٦٣) وهو الغنم الصحراوى أو السودانى والذى لا يزال يدعى دامان فى الصحراء الكبرى أوDrisIongipes

(٦٤) من ٥ إلى ٧ كغم.

(٦٥) أو ٤٢٢ كم وهو رقم صحيح والذي قدمه المؤلف فى وصفه أسيوط فى القسم السابع.

(٦٦) أكثر من ٢٧ كغم من الأرطال الايطالية.

(٦٧) أكثر من ٥٠ كغم من الأرطال الايطالية.

(٦٨) وهو الغنم البربرى. «ولكنه يكثر أيضا في آسيا الغربية مثل تركيا وبلاد الشام والعراق» (المترجم).


فارس ويرمي الاسد بنفسه دون تردد على قطيع وينتزع منه فريسته التي يحملها الى الغابة او الي الكهف الذي يكون مأوى لصغاره. أما بالنسبة للرجال الفرسان ، كما قلت قبل قليل ، فقد يقتل منهم خمسة أو ستة. والأسود التي تعيش في الجبال الباردة أقل جرأة وشراسة ، فلا تكون مؤذية جدا ، وخاصة بالنسبة للإنسان. وعلى خلاف ذلك ، كلما كان الحر اكثر ، كانت هذه الحيوانات هائجة وجريئة. تلك هي حالة الاسود التي توجد بين تامسنة ومملكة فاس ، وفي صحراء انجاد قرب تلمسان ، وبين عنابة وتونس ، وهنا نجد أشهر الأسود وأكثرها قساوة في كل افريقيا. وفي الشتاء ، وعندما تكون الأسود في موسم اللقاح فإنها تثير فيما بينها معارك دامية ويا تعس من يصادفها وتظهر أحيانا عشرة إلى أثنى عشر أسدا تتبع نفس اللبوة.

وقد سمعت من كثير من الرجال ومن النساء أنه عندما تكون إمرأة وحدها في مواجهة أسد ، في مكان منعزل ، فما عليها إلّا أن تريه فرجها وعندئذ يطلق الأسد زئيرا شديدا ويخفض عينيه ويذهب لحاله. وليعتقد كل واحد ما يشاء. وأخيرا فإن كل ما يصطاده الأسد حتى لو كان جملا ، فإنه يحمله في شدقه. وفي مرتين كدت أن أكون فريسة أسود. ولكن بفضل لطف الله نجوت من الخطر في هاتين المرتين.

النمور

تعيش هذه الحيوانات (٦٩) في غابات بلاد البربر. وهي قوية وضارية ، ولكنها لا تتعرض للانسان بأذى ، الّا فيما نذر من الحالات حينما تصادف أحدهم في درب ضيق وحيث لا يستطيع الرجل أن يتزحزح عن الطريق. ولكنها تهاجم أي شخص يصرخ او يتحرش بها. وعندها يقفز الوحش على ظهر الرجل ويشرح وجهه بمخالبه ويقتلع من لحمه قدر استطاعته. وقد يهشّم أحيانا جمجمته ويقتله. والنمر لا يهاجم أبدا قطعان الماشية ، ولكنه عدو الكلاب اللدود فيقتلها ويفترسها. ومن عادة أهل جبال منطقة قسنطينة اصطياده على الحصان. فيقطعون عليه كل الدروب ، والنمر في محاولته الهرب يتجه نحو أحد هذه المخارج ، ولكن يجد عنده عددا من الفرسان ، فيجري نحو جهة أخرى ، ويجد منهم المزيد ، واخيرا وبعد أن يركض عبثا في كل الجهات ،

__________________

(٦٩) ويسمى الفهد في كل افريقيا الشمالية والغربية.


يقتل. وأي رجل يتركه ليهرب من المكان الذي رابط فيه يفرض عليه ، جزاء على تقصيره ، ان يقوم بوليمة لكل الصيادين الآخرين ولو كان عددهم ثلاثمائة.

الضبع

الضبع حيوان له قامة الذئب وله تقريبا نفس شكل هذا الحيوان. ولرجليه وقائمتيه شبه مع أطراف الانسان السفلى (٧٠). والضبع هو الاسم الذي يطلقه عليه العرب ، أما الأفارقة فيسمّونه إيفيس. ولا يسبب هذا الحيوان ضررا لسواه من الحيوانات ، ولكنه ينبش الجثث البشرية من قبرها ويأكلها. وهو حيوان كريه وبليد. وعندما يعرف الصيادون الكهف الذي يسكنه ، يذهبون اليه وهم ينقرون الدفوف وينشدون. وتعجبه هذه الموسيقى كثيرا حتى انه لا يرى الرجل الذي يربط قائمتيه بحبل متين. وعندما يصبح مكبلا يسحب الى خارج وجاره ويقوم الصيادون الآخرون بقتله (٧١).

القط الذي ينتج الزباد

وهذه القطط وحشية طبعا. وتوجد في غابات اثيوبيا. ويقتنصها التجار وهي صغيرة ثم يربونها في قفص ويغذونها بالحليب وبمغلى النخالة ، ويقدمون لها اللحم كذلك. ويستخرج منه الزباد مرتين أو ثلاث مرات في اليوم. والزباد ليس سوى عرق الحيوان. ولهذا يضرب الحيوان بعصا صغيرة كي يضطرب في قفصه ويعرق ، وحينئذ يجمع العرق من تحت إبطيه وحالبيه ومن تحت ذيله. ويتكون الزباد من هذا العرق (٧٢).

__________________

(٧٠) هو شبه بعيد جدا.

(٧١) إن تذوق الضبع للموسيقى هو أمر اكثر من أن يكون مشكوكا فيه ، ولكن هناك شواهد عديدة تدل على ان هذا الحيوان يصاب بنوع من الشلل حينما يفاجأ في وكره.

(٧٢) الزباد هو بالواقع مادة لا تفرزها الغدد العرقية بل من غدة خاصة عند الحيوان تدعى Viverraciretta أو عموما زباد ويسميه العرب القط الزباد. ولا يتم جمع المادة الموجودة في كيس الزباد ، تحت الذيل ، عدة مرات في اليوم كما يقول المؤلف ، بل مرتين في الاسبوع فقط.


القردة

القردة على أنواع مختلفة. فبعضها وهي التي تسمى في الايطالية ، مونه ، لها ذيل ، والأخرى التي تسمى ، بابويني ، لا ذيل لها. وتصادف القردة بأعداد كبيرة في جبال موريتانيا وفى جبال قسنطينة. ولا يقتصر شبهها بالانسان على أقدامها وأيديها ، بل يظهر هذا الشبه في وجهها كذلك. وقد وهبتها الطبيعة حيلة عجيبة وذكاء. وتتغذى بالأعشاب وبالحبوب. وعندما تريد السطو على السنابل تأتي مجتمعة بمقدار عشرين أو ثلاثين قردا ، ويبقى احدها خارج الحقل ليقوم بوظيفة الديدبان ، وما ان يرى مالك الحقل قادما ، حتى يطلق صرخات حادة. وحينئذ تهرب الأخرى بسرعة قافزة فوق الاشجار وتنتقل بقفزات كبيرة بين شجرة وأخرى. ومن عادة الإناث حمل صغارها على كتفيها وتقفز مع صغيرها المتشبث بها. وتقوم القردة المروضة بأشياء لا يصدقها عقل. وهي حيوانات غضوبة ومؤذية ، ولكنها تهدأ بسهولة.

الأرانب

توجد الأرانب الوحشية بكمية كبيرة في جبال غمارة وفي موريتانيا وتصاد هناك كالأرانب البرية ويقول بعض الجغرافيين ان هذه الحيوانات لم تكن فيما مضى من الزمن وحشية. ولكن بعد ان اجتاح القوط والرومان ممالك افريقيا ظل العديد من المدن والقصور مهجورا. وهكذا أصبحت الارانب التي كانت فيها متوحشة ولجأت الى الغابات. ولا يمكن التثبت من صحة ذلك أو من خطئه ، ولكن يمكن تصديقه لأن لحم هذه الأرانب الوحشية له نفس لون ونفس مذاق لحم الارانب الأهلية.

الأسماك

سمك العنبرة

لنتكلم الآن عن الأسماك. فالعنبرة سمك رهيب بشكله وكبره. ولا يشاهد مطلقا الا ميتا لأن البحر يقذفه عندئذ على الساحل. ورأسه صلب جدا ، كما لو كان من حجر. ومن هذا السمك ما يبلغ طوله خمسة وعشرين ذراعا (٧٣) ، ومنها ما هو أكثر

__________________

(٧٣) أي ٧٥ ، ١٦ م.


من ذلك. ويقول سكان ساحل المحيط بأن هذا السمك هو الذي يفرز العنبر ، ولكنهم ليسوا متفقين على معرفتما إذا كان هذا عبارة عن برازه او منيه. ومهما كان عليه الأمر ، فهو يستحق ان يدعى حوتا ، اذا اعتبرنا حجمه (٧٤).

حصان البحر

يوجد هذا الحيوان في نهر النيجر وكذلك في نهر النيل (٧٥) وله شكل حصان ، ولكن ليس له وبر. وجلده شديد القساوة ، وحجمه يعادل حمارا وهو يعيش في الماء كما يعيش فوق الأرض ، ولكنه لا يخرج من الماء الا ليلا. وهو حيوان مؤذ وخطر بالنسبة للقوارب التي تهبط الى نهر النيجر وهي موسوقة ، فإذا ما اصطدمت بظهره فإنه يقوم بقلبها وإغراقها ، ويا لتعس من لا يعرف السباحة.

ثور البحر

وهو حيوان يشبه الثور من كل النواحي ، ولكنه أصغر حجما بكثير ، لان له تقريبا قوام عجل سنه ستة شهور. ويعثر عليه في النيجر وكذلك في النيل. ويقبض الصيادون على أفراده التي تعيش فترة طويلة على الارض. وجلده قاس للغاية. وقد رأيت منه واحدا في القاهرة كان يقوده رجل وهو مربوط في عنقه بواسطة سلسلة ، وقد قال لي بأنه اصطاده في النيل ، قرب إسنا ، وهي مدينة تقع على مسافة أربعمائة ميل جنوب القاهرة (٧٦).

السلحفاة الجبّارة

علينا أن نعتبر هذا الحيوان في عداد الحيوانات الارضية لأنه يعيش في

__________________

(٧٤) ان العنبر الرمادى ، وهو مرغوب جدا في صناعة العطور ، عبارة عن تخثر معوى فى حوت العنبر.

(٧٥) ويقصد به فرس البحر أو حصان الماء. «او باللهجة العامية المصرية سيد قشطة» (المترجم).

(٧٦) تقع إسنا على مسافة ٤٩٦ ميلا أو ٧٩٨ كم على الطريق النهرى جنوب القاهرة. والمقارنة مع الثور تجعل من المتعذر تشخيص هذا الحيوان بحيوان لامنتان ، هذا إلى أن اللامتنان غير معروف في حوض النيل. ترى هل المقصود به وعلا برمائيا؟ ويظهر أن المؤلف خلط أيضا فى هذه الفقرة معلومات تتعلق بحيوان لامنتان النيجر ـ ت. م. ور. م. Th. MonodetR. mauny


الصحارى. ويوجد منها الكثير في صحارى ليبيا حيث يكون لها أبعاد البوّطة (٧٧). وقد كتب الجغرافي البكري في كتابه عن مسالك افريقيا وممالكها ان رجلا طيبا كان في إحدى هذه الصحارى الليبية في إحدى الليالي ، وقد كان مرهقا من طول الطريق التي قطعها ، فرأى بجواره صخرة عالية كثيرا وجد أنه يستطيع أن ينام عليها كي يكون بمنأى عن أذى بعض الدواب السامة. وفي صبيحة اليوم التالي وجد نفسه على مسافة ثلاثة أميال من المكان الذي توقف فيه. فذهل ولاحظ عندها أن ما خاله صخرة كان عبارة عن سلحفاة جبارة تظل ساكنة بلا حراك خلال النهار وتسري ليلا كي ترعى ، ولكن ببطء شديد حتى لا يكاد يشعر به أحد (٧٨). ولم أر مطلقا سلاحف كبيرة بمثل هذا الحجم ، ولكن رأيت مع ذلك بعضا منها لها حجم برميل كبير (٧٩). ويدعي سكان الصحراء أن أي شخص مصاب بالجذام منذ مدة تقل عن سبع سنين ويأكل من لحم هذه السلاحف مدة سبعة أيام فإنه يبرأ. وهم يعرفون عدة وصفات سرية قائمة على خصائص هذا الحيوان. ولكن لن أتكلم عنها ، لان هذا الكتاب الصغير ليس مطولا في الطب (٨٠).

التمساح

ويوجد هذا بأعداد كبيرة في نهري النيجر والنيل. وهو حيوان شرير ومؤذ للغاية. وطوله اثنا عشر ذراعا (٨١) ، ولا يقل طول ذيله عن طول بقية جسمه. ولكن من النادر أن نجد من مثل هذه الأبعاد. وله أربعة أطراف وله شكل الحرباء تماما. ولا يزيد ارتفاعه عن ذراع ونصف (٨٢). ويبدو الذيل وكأنه مؤلف من زمرة من

__________________

(٧٧) مكيال للخمر في عصره أو ٤٦٥ ، ٩٣٣ ليترا أو قرابة المتر المكعب.

(٧٨) تتعلق الرواية في نص البكري بالسلاحف الجبارة من برية وبحرية بالتأكيد ، ولكن الحكاية ليست على الوجه الذي ينقله المؤلف. فهو يتكلم عن مسافر أراد أن يضع أمتعته في مأمن من الأرض فطرح حملي جمله فوق ما اعتقد أنه صخرة كبيرة ولم يجد شيئا في الصباح عند بزوغ الفجر. فلحق بأثر السلحفاة ووجدها بعد بضعة أميال عن مكانه الأصلي ولا زالت أمتعته على ظهرها.

(٧٩) البرميل هو سدس البوطة وكان يعادل ٣٤١ ، ٥٨ لترا.

(٨٠) لقد كانت خصائص لحم هذه السلاحف في معالجة الجذام مقبولة في ذلك العصر ، وحتى في أوروبا ، فقد استعان الملك لويس الحادي عشر ، الذي ظن نفسه مجذوما ، بهذا العلاج (حكم من ١٤٦١ إلى ١٤٨٣ م).

(٨١) ٨ م.

(٨٢) ١ م.


الحلقات. وجلد هذا الحيوان على قساوة لا تسمح لراشقة سهام قوية باختراقه. وهناك بعض التماسيح التي لا تأكل شيئا آخر سوى السمك ، ويأكل البعض الآخر الحيوانات الارضية والبشر. وتظل هذه التماسيح ، الشديدة المكر ، مختبئة قرب ضفاف النهر التي يتردد عليها الناس والحيوانات العديدة. وما ان ترى هذه التماسيح أحدا حتى تقذف فجأة بذيلها خارج الماء ، وتحيط بالرجل أو بالحيوان وتجره نحو الماء وتفترسه.

وعندما تأكل يتحرك فكها الأعلى فقط لأن الفك الاسفل ملتحم بعضم الصدر. ولكن ليست كل التماسيح من هذا الصنف ، إذ لو كان ذلك لما استطاع انسان ان يسكن على ضفاف النيجر او النيل.

وقد ابحرت مرة على متن مركب كان يذهب من القاهرة الى قنا ، وهي مدينة في مصر العليا ، تقع على مسافة اربعمائة ميل من القاهرة (٨٣) وبينما كنا في وسط الرحلة (٨٤) ، في ليلة كان القمر فيها شبه محجوب خلف الغمام ، صرنا نسير في ريح طيبة ، وكنا نياما جميعا تقريبا ما بين بحارة وركاب. أما بالنسبة لي فقد عدت إلى حجرتي وكنت اشتغل فيها على بصيص شمعة ، عندما ناداني رجل هرم طيب كان يسهر ويبتهل الى الله. وقال لي : «يا فلان ، ايقظ احدا من جماعتنا كي يساعدني في التقاط قطعة خشب كبيرة ستكون نافعة لنا في الغد من أجل طهو الطعام» فأجبته : «هل تريد ان احضر بنفسي؟ فهذا خير من ايقاظ احد في مثل هذه الساعة». وكان الوقت منتصف الليل تقريبا. وعندها قال لي الكهل : «سأريك انني استطيع التقاطها لوحدي». وعندما اصبح المركب حسب تقديره ، على مقربة من قطعة الخشب ، مد يده لتمرير عقدة انشوطة من هذه الخشبة المزعومة ، وفي هذه الفترة انبثق من الماء ذيل طويل طوّق خصره ورماه على الحال في النهر. وأخذت بالصراخ وقفز كل أهل المركب واقفين على اقدامهم. وطوى الشراع والقى المركب مراسيه. وقفز عدة أشخاص إلى الماء وبقينا حوالي الساعة الكاملة راسين بجوار الشط. ولكن كان كل ذلك عبثا ، اذ لم يعثر على أثر للرجل الهرم واقتنع الجميع بأن التمساح قد افترسه ومع متابعتنا طريقنا المائي رأينا طوائف منها تضم عشرة الى اثنى عشر فوق جزيرات النيل : وكانت تبقى في

__________________

(٨٣) قنا على مسافة ٤١٧ ميلا عن القاهرة بالطريق المائية.

(٨٤) أي في انحاء منفلوط وقرب كهف التماسيح المحنّطة المشهور.


الشمس ، واشداقها مفتوحة ، وكانت عصافير صغيرة بيضاء في حجم عصفور السمّان تدخل فيها. وتبقى بضع برهات ثم تخرج لتطير لمكان آخر. وقد استفهمت عن ذلك فقيل لي : «ان التماسيح تأكل الكثير من الأسماك والحيوانات الاخرى ، وتظل دوما بين لثتها وأسنانها فضلات لحم تتعفن وتتولد فيها ديدان صغيرة تزعج هذه الحيوانات. وترى هذه العصافير الديدان في أثناء طيرانها فتدخل في شدق التمساح لتأكلها. ويقوم التمساح بغلق شدقه ليبتلع العصفور ، ولكن للعصفور فوق قمة جمجمته شوكة قاسية حادة توخز سقف حلق التمساح فيفتح له شدقه من جديد ، وبذلك يهرب العصفور. ومما لا شك فيه لو قدّر لي الحصول على واحد من هذه العصافير لسردت هذه الحكاية بوثوق أكبر.

وتضع التماسيح بيوضها على الارض وتسترها بالرمل. وما أن تتخلق صغارها حتى تهبط في النهر. وهناك أيضا بعض التماسيح التي تتحاشى الماء وتعيش في الصحراء. وهذه الاخيرة تكون سامة ، ولكن ليس للتماسيح التي تعيش في الماء سم. ويأكل كثير من الناس في مصر لحم التمساح ويؤكدون انه طيب جدا. ويباع شحم التماسيح في القاهرة بثمن غال للغاية. ويقال إنه يفيد في شفاء الجروح المزمنة والمتقرّحة.

ويصاد التمساح حسب الطريقة التالية : يستعين الصيادون بحبل طوله مائة ذراع (٨٥) أو أكثر من ذلك ويربطون رأسه بشكل متين بشجرة كبيرة أو بعمود مغروز في الارض لهذا الغرض على ضفة النيل. ويثبتون في النهاية الاخرى من الحبل كلّابة من حديد طولها ذراع (٨٦) ويعادل غلظها إصبع الانسان ويربطون بها نعجة أو عنزة حيّة. ويخرج التمساح من الماء ويتقدم للضفة ويبلع الحيوان على التوّ مع كلّابة الحديد التي تخترق احشاءه وتثبت فلا يمكن إخراجها. وحينئذ يقوم الصيادون بلفّ الحبل تارة او يجرّونه ناحيتهم تارة أخرى ، ويقاوم التمساح ويلطم الارض بذيله من هنا وهناك. وأخيرا يغلب على أمره ويسقط بجسمه كأنه ميت. وحينئذ يقتله الصيادون بضربات الحراب ، فيثقبون شدقه واعلا قائمتيه الاماميتين ، وعند البطن حيث يكون الجلد قليل الثخانة ، في حين يكون جلد الظهر سميكا جدا وقاسيا للغاية. فلا تستطيع

__________________

(٨٥) ٦٧ م.

(٨٦) ٦٧ سم.


البندقية ولا المدفع الصغير اختراقه الا بصعوبة.

ولقد شاهدت على جدران قنا اكثر من ثلاثمائة رأس تمساح معلقة ، وأشداقها مفتوحة ، شدق عريض جدا وكبير بحيث تستطيع بقرة كاملة ان تدخل فيه. وكانت الاسنان فيها حادة وطويلة. ومن عادة كل صيادي مصر أن يقطعوا رأس التمساح بعد صيده ويربطونه الى الجدار ، كما يعمل القنّاصون في الحيوانات المفترسة.

التنّين

يوجد الكثير من التنينات الضخمة في كهوف الاطلس. وهي حيوانات ثقيلة تتحرك بصعوبة لأن جزءا من جسمها ضخم جدا ، وهو الجذع ، في حين تكون الأجزاء الأخرى دقيقة جدا ، سواء من طرف الذيل أو من طرف الرأس. ولهذه الحيوانات سم زعاف. فإذا صدف أن مسّها أحد أو عضته فإن لحم عضلاته يصبح على الفور هشّا ويتراخى كالصابون ولا يمكنه أن ينجو منها (٨٧)

الهيدرة

الهيدرة ثعبان قصير ، ذو رأس وذيل دقيقين. ويوجد الكثير منها في صحراء ليبيا. وسمّها فعّال للغاية. وليس هناك من دواء لمن عضّته هذه الأفعى ، كما يقال ، سوى بتر الجزء المصاب بالعضة من العضو قبل سريان السم الى الاعضاء الأخرى (٨٨).

الضب

وهو حيوان يعيش في الصحارى (٨٩) وهو يشبه الجرذ في شكله ولكنه أكبر حجما.

__________________

(٨٧) يشارك المؤلف معاصريه في هذا المعتقد عن وجود التنين. وربما يمكن تفسير ذلك بكثرة رسوم هذا الحيوان على النقوش التزيينية التي ترجع للعصر الروماني القديم. والمقصود هنا الثعبان الدرفيل ، وهو حيوان ضخم وبطيء موجود فعلا في المغرب الأقصى.

(٨٨) يغلب على الظن ان المقصود في الأفعى ذات القرنين Cerastes Cornutus التي تتكاثر فعلا في بعض نطاقات السهب ما قبل الصحراوي وكانت الهيدرة تعتبر في القرون الوسطى كأنها حيوان مائي كما وصفها برونية لاتان في «كتاب الكنز» حوالي عام ١٢٦٥ م والذي ذكره بول ألوار في كتابه «أولى المنتخبات الحية من شعر الماضي» نشر دار سيجيرSeghers باريس ١٩٥١ ص ٤٦.

(٨٩) وهو جرذ يدعى الضب ويشتهر باسم دارج عامي هو جرذ النخيل ، مع أنه لا علاقة له بالنخيل ، ولكن منظر ـ


ويبلغ طوله طول ذراع رجل وعرضه أربع أصابع. وهو لا يشرب مطلقا ، وإذا أريد إجباره على الشرب وذلك بوضع ماء في حلقه فإنه يموت من ذلك على الفور. ويضع بيضا مثل بيض السلحفاة. وليس له سم ورأينا بعض العرب يصطادونه من الصحراء وقد صدت انا نفسي بعضها وذبحتها ولكن لم يخرج منها الكثير من الدم. ولا ينتزع جلده إلّا بعد شيّه وعند أكله. ولحمه لذيذ الطعم كلحم الضفدع وله نفس المذاق. وهو حيوان سريع كالحرذون. وإذا اختبأ في حجر وبقي الذيل في الخارج ، فليس هنالك من قوة تقدر على اخراجه من هناك. ولهذا يقوم الصيادون بتوسيع الثقب بواسطة معول ويقبضون عليه. وإذا قرّبناه من النار بعد ثلاثة أيام من ذبحه ، فإنه يتحرك كما لو قد ذبح للتوّ (٩٠).

الورل

الورل (٩١) حيوان يشابه السابق ، ولكنه أكبر حجما. وسمّه في رأسه وفي ذيله. ورأيت بعض العرب يقطعون هاتين النهايتين ويأكلونه. وله لون كريه ومنظر قبيح ، حتى ان لم اتجرأ أبدا على أن آكل منه.

الحرباء

الحرباء حيوان له حجم الحرذون ولكنه قبيح ، أحدب ، هزيل ، مع ذيل طويل كذنب الجرذ. وهو يمشي ببطء. ويتغذى بالهواء وبأشعة الشمس (٩٢). وما أن

__________________

ـ الأشواك على ذيله يوحي بنوع من شبه مع جذع النخلة ، ويدعى أيضا «الذيل الكرباج» وهو حرذون نباتي اسمه العلمي uromastix acathinurus.

(٩٠) ينحصر وجود هذا الجرذ الضخم في المناطق الحجرية الوعرة والجبال. ويصظاده السكان المحليون بشكل حثيث.

ويقوم الطوارق من سكان الصحراء الكبرى والنطاقات شبه الصحراوية في شمالها وجنوبها لجبال الهقار وتاسيلي بتجفيفه وينقلونه إلى أسواق الواحات حيث كانت تتراوح أسعارها في عام ١٩٣٩ بين ربع ونصف الفرنك الفرنسي. ه. ل. H. L hote.

(٩١) في العربية ورل ، وقد حرفت الكلمة في الفرنسية إلى فاران واسمه العلمي Varanusgriseus ، وعلى خلاف ما يقول المؤلف ، فإن هذا الجرذ غير سام. ه. ل.H.L hote.

(٩٢) لقد ظل هذا الاعتقاد سائدا لمدة طويلة. فالسرعة القصوى التي يقتنص بها الحرباء الذباب بواسطة لسانه اللزج لا تسمح لملاحظ عادي أن يفهم الطريقة التي يتغذى بها هذا الحيوان.


يظهر شعاع شمس حتى يتجه نحوه فاغرا فاه وحيثما استدارت الشمس دار معها هو أيضا. وهو يبدّل لونه باختلاف الأمكنة التي يوجد فيها : فإذا كان فوق أرضية سوداء ، يصح اسود ، واذا كان فوق مكان اخضر ، صار اخضر ، وهكذا دواليك بالنسبة لبقية الألوان. وقد قمت بنفس التجربة. وهو العدو اللدود للأفاعي السامة. فعندما يرى واحدة منها نائمة تحت شجرة ، يصعد حالا ، الى الشجرة ويختار مكانا يكون فيه تماما فوق رأس الأفعى. وعندئذ يبصق شريطا من لعاب مماثل للعاب الضفدع ، شريط تؤلف نهايته قطرة مشابهة لحبة لؤلؤ صغيرة. وإذا رأى أن الشريط لا يهبط بخط مستقيم على رأس الأفعى ، انتقل إلى أن تسقط هذه القطرة على رأس الحيوان ولهذه القطرة خاصية النفوذ في رأس الأفعى وبمجرد أن تلمسه تقتله. وقد قال كتابنا الأفارقة كثيرا من الأشياء عن خصائص وفوائد الحرباء ولم أعد أتذكرها الان (٩٣).

* * *

الطيور

النعام

لنتكلم أيضا شيئا يسيرا عن الطيور.

فالنعام طير وحشي كبير الجثة ، له تقريبا شكل أوزّة. ولكن لها قائمتان ورقبة طويلة للغاية. ولبعضها رقبة تبلغ ذراعين طولا (٩٤). وكذلك طول الساقين أيضا وجسم النعام ضخم ، ويزدان الجناحان بريش كبير. ولهذا تعجز عن الطيران ، ولكن عند ما تركض ، فهي تستعين بضرب جناحيها والذيل. وريشها أسود وأبيض كريش اللقلق. وتعيش عادة في الصحارى المتجففة حيث لا يوجد ماء. وتضع بيضها في الرمل ، ما بين عشر إلى اثنتي عشرة بيضة ، ويبلغ حجم البيضة حجم قذيفة مدفع من وزن خمسة عشر إلى ستة عشر رطلا (٩٥). ولكن النعامات الشابة تضع بيضا أصغر

__________________

(٩٣) الحرباء هو بالتأكيد من أكثر الحيوانات غرابة وأكثرها استثارة للفضول عند ملاحظته. ولكن لا رأي فيما ذكره المؤلف عن طريقة قضائها على الأفاعي السامة ، ونترك مسئولية هذه الحقيقة على المؤلف نفسه. وهذا الحيوان أساسا هو من آكلات الحشرات.

(٩٤) ٣٤ ، ١ م.

(٩٥) من ٥ إلى ٥ ، ٥ كغم.


حجما. وما أن تضع بيضها حتى تنسى المكان الذي تركتها فيه لضعف ذاكرتها. وينتج عن ذلك أن الأنثى ما أن تجد أيّ بيض كان ، سواء كانت لها أم لغيرها ، فإنها تحضنه وتدفئه وما أن تفقس الفراخ حتى تنطلق في البرية باحثة عن غذائها. وهي سريعة جدا في العدو حتى قبل أن ينبت ريشها ، حتى ليتعذر الإمساك بها. والنعامة بليدة وليس لديها أي إحساس من طرف أذنيها ، فهي صمّاء (٩٦). وتأكل النعامة كل ما تجد ، حتى الحديد. ولحمها منفّر ولزج ولا سيما لحم الفخذين. ومع ذلك تؤكل اعداد كبيرة منها في بقاع نوميديا ، لأنهم يمسكون هناك بصغارها وتعلف وتسمّن ، كما سبق أن قلنا (٩٧). وتسير هذه الطيور في الصحراء على شكل قطيع ، الواحدة خلف الأخرى. ومن يراها من بعيد يخالها رتلا من الخيّالة ويتسبب هذا في حدوث قلق كبير وذعر شديد لدى رجال القوافل. وقد أكلت أنا أيضا من لحم النعام عند ما كنت في نوميديا ، ولم أجده رديئا جدا.

النسور (*)

تضم هذه الطيور بضعة أنواع متميزة حسب خصائصها ، وقامتها ، ولونها ، ويسمى النوع الأول الرئيسي منها «النسر» باللغة العربية (٩٨).

النسر

وهو اكبر طير موجود في افريقيا. وهو أكبر من الكركي ، ولكن قائمتيه ورقبته ومنقاره أقل طولا ويرتفع في الجو عند ما يطير إلى ارتفاع يختفي فيه فلا يرى ، وعند ما يرى جيفة ينقضّ عليها فورا. وعند طيرانه يكون دوما ضمن جماعة تضم بضعة نسور أخرى ، وهو يعمّر كثيرا ، ويتساقط ريشه كلما تقدم سنه ، حتى ليبدو المعمر دون أية

__________________

(٩٦) هذا غير صحيح. فقد رأينا حارس حظيرة لتربية النعام وهو يقوم بجمع فراخها لإعطائها غذاءها باستعمال قرقعة صفيحة بنزين فارغة ، وكان تتراكض بسرعة رائعة كتلك التي يذكرها المؤلف.

(٩٧) انظر القسم السادس ، بحث وصف الدرعة.

(*) [المشهور بأن ذكور النعام هي التي تقوم بحضانة البيض. وذلك أن طائفة من الإناث تجتمع في مكان ما وتبيض كل واحدة منها بيضة فيه ، ثم تنتقل إلى مكان آخر وتبيض فيه مجتمعة كذلك ، وهكذا حتى تفرغ ما في عنا قيدها من بيض ، ثم تأتى الذكور وتتوزع على هذه المواضع وتقوم بحضانة ما فيها من بيض. انظر كتابنا «غرائب النظم والتقاليد والعادات» خاتمة الجزء الثاني بعنوان «غرائب النزعات الاجتماعية الفطرية عند الحيوان» الجزء الثامن صفحة ١٥٨. (المراجع).

(٩٨) أو النسر الأصلع Vautour باللغة الفرنسية.


ريشة على الرأس. كما لو كان حليقا. وتعيش هذه الطيور ، كما قلنا قبل قليل ، العديد من السنوات ، ومع تطاول الزمن يتساقط كل ريشها وريش قوادمها التي تطير بها. وينتهي بها الحال بان تبقى بالعش كما لو كانت قد فقست من البيضة من جديد ؛ وتقدم لها النسور الشابة غذاءها. وقد سمعت في اللغة الايطالية أن هذا الطير يحمل اسم فولتوري Voltore وهو شيء لم استطع التثبت منه. ويعشش عادة في جروف اعلى القمم الجبلية المهجورة ولا سيما في جبال الأطلس. والذين يقصدون هذه الأمكنة يقبضون على بعض هذه الطيور.

البازي

البازي ويسمى بالايطالية آستوري Astore (٩٩). وتوجد هذه الطيور بمقادير كبيرة في افريقيا وبعضها بيضاء اللون. وتصاد في جبال صحاري نوميديا. وهي أعلاها سعرا وأفضلها وهي التي تستخدم في الصيد فيستعان ببعضها لصيد اللقلق (١٠٠) ، والسمان ، ويستعان ببعضها الآخر لصيد الأرانب البرية.

وفي إفريقيا تدرب النسور العادية على اقتناص الثعالب والذئاب (١٠١) وتدرب كذلك على الصراع فيما بينها والنسور المدربة على الصيد تمسك الحيوانات من ظهرها بمخالبها ، وبرأسها بوساطة منسرها حتى لا تتمكن من عضها ، وقد تنقلب على ظهرها ، ولكن النسور لا تتخلى عنها إلى أن تقتلها أو تقتلع عيونها.

الخفاش

توجد هذه الطيور ، الكريهة ، عدوة النور ، في سائر أرجاء العالم. ولكن يرى الكثير منها في كهوف جبال الاطلس بحجم الحمام وأكبر منها ، ولا سيما فيما يتعلق بأبعاد أجنحتها. ولم أر منها شخصيا أي واحد منها ، ولكن بلغني ذلك من أولئك الذين يمارسون الحفريات عن الكنوز (١٠٢).

__________________

(٩٩) وهو الباز أو الصقر. ويقصد المؤلف بهذا الاسم صقور الصيد.

(١٠٠) «وربما يقصد بذلك الحباري وهي من فصيلة الدجاجيات» (المترجم).

(١٠١) وقد يكون المقصود بهذه الكلمة ابن آوى والنوع الذي يسمى بذئب أوروباCanis lupaster.

(١٠٢) تكون لخفافيش جبال الأطلس أبعاد متوسطة ، وليس فيها ما يبلغ قوام خفافيش «الحمراوات» في افريقيا المدارية.


الببغاوات

توجد في غابات اثيوبيا كمية كبيرة من هذه الطيور ، وهي ذات ريش متنوع الألوان. وأفضلها هي التي تتعلم بصورة أفضل تقليد الصوت البشرى ، وهي الببغاوات الخضراوات. ويرى منها الكثير وهي كبيرة الحجم كالحمامات ، وهي من ألوان مختلفة : سوداء وحمراء ورمادية وسمراء. ولا تكون هذه قادرة تماما على تقليد النطق البشرى ولكن لها تغريد جميل وعذب.

الجراد

يشاهد احيانا في افريقيا مقادير هائلة من هذه الحيوانات التي تحجب الشمس حينما تطير أرجالها كالسحاب. وتأكل من الاشجار الثمر والورق. وعند مغادرتها تترك بيضها الذي تتولّد عنها جرادات أخرى لا تطير أبدا ، ولكنها أسوأ من أمهاتها ، فهي تقضي على الأخضر واليابس ، وتلتهم حتى لحاء الشجر. وحيثما مرت تخلف وراءها مجاعة كبرى ، ولا سيما في موريتانيا.

غير أن سكان جزيرة العرب وليبيا يعتبرون زحف أرجال الجراد هذه من أسعد الاحداث. فبعضهم يأكلها ، مقلّية ، والبعض الآخر يجففونها في الشمس ثم يسحقونها فيحصلون بذلك على نوع من دقيق يستهلكونه (١٠٣).

تلك هي تقريبا كل المميزات المتعلقة بالطيور والحيوانات التي لا توجد في أوروبا أو التي تختلف في بعض النقاط عن مثيلاتها الأوروبية. وسنقول الآن بعض النبذات الصغيرة عن المعادن التي تتوافر في افريقيا ، وبعض الثمار والاشجار المزروعة والبرية ، ومن ثم نختتم هذا التصنيف.

__________________

(١٠٣) هذه الطريقة في تخضير واستهلاك الجراد والتي ذكرها هيرودوت لدى الأقوام الليبية لا تزال معهودة لدى سكان الصحراء الكبرى. «وفي بادية الشام كان الجراد يسلق في ماء ملح ثم يجفف بالشمس ويوضع في عدول ويستخدم مئونة تستهلك شتاء» (المترجم).


المعادن

الملح

لا يوجد في القسم الأعظم من إفريقيا أي ملح سوى ذلك الذي يستخرج من مناجم ، وذلك بحفر أنفاق كما يستخرج الجبس أو الرخام ، ومنه الملح الرمادي ، ومنه الأبيض ومنه الأحمر ويتوافر بمقادير كبيرة في بلاد البربر ، اما في نوميديا فهو نادر نوعا ما ، ولكنه كاف للحاجات المحلية. أما في بلاد السودان فلا يوجد منه شيء ، وخاصة في الحوزة الداخلية ، حيث يساوي ثمن الرطل منه نصف دينار. ولهذا لا يكون من عادة أهل هذه البلاد وضع ممالح على المائدة ، ولكن عند ما يأكلون خبزا ، يمسكون بقطعة ملح في اليد ، ومع كل لقمة ، يلحسون هذه القطعة كيلا يستهلكون منه الكثير.

ويتبلور الملح في بعض البحيرات والمستنقعات في بلاد البربر ، في أثناء الصيف ، ويشكل طبقة بيضاء ومنتظمة ، كما في ضواحي فاس مثلا.

الأثمد

ينشأ هذا المعدن في بعض بقاع افريقيا في مناجم الرصاص ، ويقوم العمال المعلّمون بفصله عن الرصاص بالاستعانة بالكبريت. وتوجد كمية كبيرة منه في حضيض جبال الأطلس ، نحو الجنوب ، ولا سيما عند تخوم نوميديا مع مملكة فاس (١٠٤). وفي بعض الأمكنة الأخرى يوجد أيضا الكثير من الكبريت.

اللبانة

اللبانة هي صمغ نبات ينمو على شكل شجيرة من شوك برّي (١٠٥). وينمو بين أغصان هذه النبتة ثمار بحجم الخيار ، تكون خضراء ومغطّاة بحبيبات كالخيار ،

__________________

(١٠٤) توجد مناجم الأثمد بالفعل في موقعي الكسايب وفي ادانة جنوب غرب عكا. ويعالج الفلز في قرية تيزونين على الطريقة العربية ويشوى في أفران. وكان هذا الأثمد في الماضي مادة يتاجر فيها مع مصر ، وحاليا يرسل الى مراكش على شكل مسحوق في أكياس صغيرة من وزن ١٥ كغم ـ ه. ل.H.L hote.

(١٠٥) واسمه العلمي Euphorbia resinifera ـ ت. م.Th.Monod.


ولكنها أكثر طولا من الخيار ، ويصل بعضها الى ذراع (١٠٦) وبعضها يصل إلى أطول من ذلك. ولا تنمو هذه الثمار على أغصان الشجيرة ، بل تخرج من الأرض في صورة ساق أو جذع. ويتولد من شجيرة واحدة من اللبانة عشرون او خمس وعشرون وحتى ثلاثون ثمرة. وعندما تنضج هذه الثمار يشقها الفلاحون بسكين ويخرج منها عصير كالحليب يصبح لزجا. ويفصل هذا العصير بالاستعانة بسكين ويوضع في قرب حيث يجف. ويلاحظ أن هذه النبتة تكون مغطّاة بالاشواك (١٠٧).

القطران

هناك نوعان للقطران. فالأول طبيعي ، ويجمع من على الحجارة التي توجد في وسط الينابيع التي ينشر ماؤها رائحة كريهة وله نفس الطعم (١٠٨). والآخر اصطناعي ويستخرج من العرعر أو من الصنوبر (١٠٩). ولقد شهدت تحضيره في جبال الأطلس. فيصنع تنور مدوّر وعميق مع ثقب ، في قسمه الأسفل ، يتصل بتجويف على شكل وعاء. وتؤخذ أغصان خضراء من العرعر أو من الصنوبر ، ثم تقطع إلى قطع صغيرة وتوضع في التنور الذي تغلق فوهته ويحمى بنار هادئة. ويتقطر الحطب بالحرارة ويخرج الناتج في التجويف عن طريق الثقب المفتوح لهذا الغرض في قعر التنور ويجمع القطران بهذه الطريقة ويوضع في القرب الجلدية.

ثمر الموز

وهذه الثمرة جميلة جدا وكثيرة الحلاوة. وهي كبيرة تعادل خيارة صغيرة وتتولد فوق نبتة صغيرة ذات أوراق كبيرة عريضة ، وطولها ذراع ، ويقول العلماء المسلمون ان هذه الثمرة هي التي حرمها الله على آدم وحواء. وقد أرادا ان يسترا سوأتهما بعد ان أكلا الثمرة ، فعمدا إلى أوراق هذا النبات الذي يحقق هذا الغرض بشكل أفضل من

__________________

(١٠٦) ٦٧ سم.

(١٠٧) إن هذا الوصف لثمرة اللبانة هو وهمي إطلاقا.

(١٠٨) البيتوم أو البترول.

(١٠٩) وهو قطران الخشب ، أما الذي يستخرج من العرعر الشبيه بالأرز فهو زيت الكاد الطبي Epaulard. وفي تيديكلت وعند طوارق الصحراء الوسطى يستخدم نبات الفرسيغ والطرفاء. ويستخرج القطران بواسطة انبيق بدائي لا يخلو من مهارة في صنعه ـ ه. ل.H.Lhote.


سائر النباتات الأخرى (١١٠). وينبت منها الكثير في سلا ، وهي مدينة من مملكة فاس ، ولكن أكبر كمية تنتج في مصر ولا سيما في دمياط.

خيار شنبر

الأشجار التي تنتج هذا الخيار ضخمة جدا وأوراقها شبيهة جدا بأوراق شجر التوت. وأزهارها كبيرة وشديدة البياض. وتنتج كمية ضخمة من الثمار حتى ليقطف كثير منها قبل النضج لتخفيف الاغصان التي تتكسر تحت الوزن. ولا تنبت إلّا في مصر (١١١).

الطرفاس (١١٢)

يمكن القول أن الطرفاس هو ، على الأرجح ، نوع من درن أكثر منه ثمرا. وهو يشبه الكمأة ، ولكنه أكبر حجما وله قشرة بيضاء. وينشأ في الرمل في الأمكنة الحارة. ويمكن التعرف على وجوده لأن الأرض التي ينبت فيها تحوي حدبات متشققة نوعا ما. وبعض ثمار الطرفاس كبيرة كالجوزة ، وبعضها الآخر ، كالبرتقالات. وتعتبر ثمرة مرطبة في نظر الأطباء الذين يسمونها الكمأة. وينبت بكمية كبيرة في صحراء نوميديا. ويأكلها العرب بشهية كما لو كانت من السكر والحقيقة أنها أكلة شهية جدا عندما تكون مشوية على الجمر ، ومقشرة ، ثم مطبوخة في مرق دسم. ويأكلها العرب مسلوقة في الماء أو في الحليب. وتوجد أيضا بكثرة في رمل ضواحي مدينة سلا.

__________________

(١١٠) ومن هذه القصة جاء الاسم العلمي لأحد انواع الموز ، وهو الموز الفردوسي MusaParadisiaca

(١١١) هذا الوصف غير صحيح. فقد كتب العالم الطبيعي بيار بيلون P.Belon الذي زار القاهرة بعد بضع سنوات بعد المؤلف يقول : «يكون شجر خيار الشنبرcassier بمثل كبر وارتفاع اشجار الموز ، ولها نفس الأوراق. وهي شجرةCaneficier أوCassiaFistula

(١١٢) الطرفاس واسمه العلمي terfesia ويشتمل على عدة أنواع ، وهو الكمأة البيضاء ، ذات الطعم الطيب ، ولكنه أقل نكهة من الكمأة السوداء ـ Epaulard. وينتشر الطرفاس خاصة في شمال الصحراء الكبرى. ويوجد أيضا في الهقّار حتى ارتفاع ١٦٠٠ م. ويكثر عادة في فصل الربيع الذي يتلو فترة كثيرة الامطار. وله قوام وطعم القلقاس تقريبا ويحضرّ غالبا مسلوقا بالماء. ويضاف له الزيت او الخل او يقلى ه. ل H.L hote «الكمأة البيضاء تدعى زبيدية وتسمى الكمأة عموما الفقع في جزيرة العرب ، وطرفاس في المغرب العربي» (المترجم)


نخيل التمر

لن أقول شيئا الآن عن شجرة التمر التي تكلمنا عنها عندما وصفنا سجلماسة وهي إحدى مدن نوميديا.

تين مصر المسمّى الجميّز عند المصريين

أخشاب هذا النوع من التين وأوراقه مماثلة لأخشاب أنواع التين الأخرى ولأوراقها. ولكن هذه الاشجار ضخمة جدا ولا تنشأ الثمار بين الأوراق أو على الأغصان ، أو في نهاية الأفنان ، بل على جذع الشجرة نفسه ، حيث لا توجد أوراق ، ولها نفس طعم ثمار التين العادية ، ولكن قشرها سميك للغاية ولها لون بنفسجي (١١٣).

شجرة الطلح

وهي شجرة كبيرة شوكية لها أوراق كالعرعر وتنتج صمغا شبيها بالمصطكا ويستخدم عطار وافريقيا هذا الصمغ للتدليس به عن المصطكا ، لأن له نفس اللون ونفس الطعم تقريبا. ويوجد في صحاري نوميديا وليبيا وكذلك في بلاد السودان. ولكن لأنواع نوميديا عند شقّها نفس البياض من الداخل شأن الأشجار الأخرى في حين تكون أشجار بلاد السودان سوداء تماما. وخشب هذه الاشجار هو الذي يسمى سانغو في إيطاليا وتصنع منه المصنوعات الظريفة الجميلة. ويستعمل أطباء افريقيا الخشب البنفسجي حاليا لمعالجة المرض الافرنجي ، ولهذا يسمى باللغة الدارجة خشب المرض الافرنجي. (١١٤)

جذر السرغينة

وهو جذر عطري يوجد على ساحل المحيط ، إلى الغرب. ويجلبه تجار موريتانيا

__________________

(١١٣) وهي أشجار تين وفرعون او الجميز او سيكومور بالفرنسيه.

(١١٤) وربما عود الحبوب ، اي خشب السفليس وهو مرض الزهري وقد اختفى اسم سانغو من اللغة الايطالية الحديثة ، ولكن كلمة سانغو لا تزال تعنى في موريتانيا الحالية ، شمال السنغال نبات Dalbergia melanoxylon Guill ـ perr الذي يعتبر ابنوسا كاذبا ، وهو الخشب البنفسجي وهذه الشجرة ليست من طائفة الاكاسيا. ومن انواع الاكاسيا نوع يسمى الطلح واسمه العلمي AcaciaTortilis.


إلى بلاد السودان حيث يستعمل عطرا رفيعا. ولا حاجة لحرقه أو لتسخينه لأنه إذا وضع في حجرة ، فهو ينشر فيها نفس الرائحة بأية طريقة كانت (١١٥). ويساوي حمل جمل من السرغينة في موريتانيا مبلغ دينار ونصف ، وثمن نفس الحمل أو الوسق في بلاد السودان ثمانون أو مائة دينار ، وأحيانا أكثر من ذلك.

القتاد

وهو نبات له جذر شديد السمّية حتى ان درهما (١١٦) من ماء مقطر من هذا الجذر يحوي من السم ما يكفي لقتل رجل في خلال ساعة واحدة. وهذا شيء معروف في كل افريقيا ، حتى لدى النسوة (١١٧).

السرمق

وهو أيضا جذر نبات ينمو في الجزء الغربي من جبال الأطلس. واستنادا إلى ما يتناقله الناس فإن له خاصة تقوية العضو الجنسي لدى الرجل ويسمح بتعدّد عملية الجماع لدى من يأخذ شيئا منه في قليل من لعوق. ويؤكدون أيضا انه إذا ما تبوّل رجل صدفة فوق هذا الجذر فإنه يشعر فورا بالانتصاب. ولا أريد ان أسكت أبدا عما يرويه كل سكان جبل الاطلس. فيقولون أنه شوهد الكثير من الشابات ، من بين اللواتي يرعين ماشيتهن في الجبل ، وقد فقدن عرضيا بكارتهن لأنهن تبولن فوق ذلك الجذر. وقد أجبت على الذين قصّوا عليّ ذلك مازحا : انني أصدّق تماما ما قالوه لي عن هذا الجذر وأن تلك الشابّات أصبن بتسمم شديد بفعله حتى انهن لم يفقدن بكارتهن فحسب بل انتشى منه وانتفخ كل جسمهن (١١٨).

__________________

(١١٥) ويقول ابن بطوطة ان السود يتجرون به والمقصود به Corrigiala Telephi : fiola : ـ pourr وبالبربرية تاسرغنت ، وبالعربية سرغينة والذي يجنى من منطقة شلاله في الجزائر لتحضير عطر عن طريق التبخير. اما فيما يتعلق باستعماله حاليا في المغرب الاقصى ، فيمكن قراءة بحث «مساهمة لدراسة العطارة المغربية بقلم صباح سولومون. اطروحة في الصيدلية سترا سبورج ١٩٤٨ ص ٦٥ ـ ٦٦.

(١١٦) ٥ ، ٣ غرامات.

(١١٧) القتاد هو شوك ذودبق Atractylis gummifera يحوي جذره العطري عنصرا ساما انظر : شارنو علم السّميات في المغرب الاقصى ، مذكرة جمعية العلوم الوطنية في المغرب ، ج ـ ٤٧.

(١١٨) السرمق هو نوع من البقلةAtriplex dimorphostegiur ونجد صدى لهذه المعتقدات الشعبية في اسمين عاميين يطلقان على هذه النبتة في المغرب.


ذاك ما رأيته أنا ، حناليون ، من حسن وجدير بالتذكار كل افريقيا التي جبتها من طرف لآخر. وقد سجلت بعناية ، يوما فيوما ، كل الأشياء التي بدت لي جديرة بالذكر ثم الوضع الذي رأيتها عليه. أما التي لم ارها بنفسي فقد استقيت معلومات موثوقة وكاملة عنها من اشخاص جديرين بالثقة. ومن ثم رتّبت هذه المذكرات قدر استطاعتي. وقد عملت منها أخيرا مادة مصنف عندما كنت في رومية ، في العام ١٥٢٦ من الميلاد ، في ١٠ آذار (مارس).

وهنا ينتهي كتاب ، حناليون ، المولود في غرناطة والناشىء في بلاد البربر.

* * *

تم الفراغ بعون الله من ترجمته نقلا عن ترجمته الفرنسية للجنرال الدكتور ايبولار إلى العربية في الرياض ، حاضرة المملكة العربية السعودية في الساعة التاسعة من يوم الجمعة الخامس من جمادى الثانية ١٣٩٨ هجرية ، الموافق الثاني عشر من أيار (مايو) ١٩٧٨ ميلادية ، بتكليف من فضيلة الاستاذ الشيخ محمد بن عبد الله عرفه الامين العام للجنة التحضيرية للمؤتمر الجغرافي الاسلامي الاول وعميد كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

ولله الحمد أولا وآخرا.

عبد الرحمن حميده

* * *

تقدم اللجنة جزيل شكرها الى الاستاذ علي عبد الواحد وافى رئيس قسم الاجتماع وعلم النفس بكلية العلوم الاجتماعية بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية لمراجعته هذه الترجمة مراجعة دقيقة ظهرت آثارها فى معظم عبارات هذا الكتاب متنه وحواشيه ، ولما اضاف اليه من تعليقات قيمة


فهرست

مقدمة

١٧

وصف افريقيا وما فيها من اشياء

الى سعادة جيروم فراكاستور من جان باتيست راموزير

٢٩

جديرة بالاهتمام

٣٣

القسم الاول

منشأ اسم افريقيا

دوي منصور

٦٤

حدود افريقيا

٣٥

دوي عبيد الله

٦٥

اقسام افريقيا

٣٦

عادات وانماط معيشة الافارقة الذين يعيشون في صحراء ليبيا

٦٦

اقسام وممالك هذه الاجزاء الاربعة

نمط حياة الذين يسكنون افريقيا

٧١

من افريقيا ...

٣٨

العرب الذين يسكنون الصحارى الواقعة بين بلاد البربر ومصر وعاداتهم

٧٤

اقسام نوميديا ، اي البلاد التي ينمو فيها النخيل

٣٩

الشاوية ، أي ارباب الشاة. سكان افريقيا الذين يعيشون حسب النمط العربي ديانة قدامى الافارقة

٧٦

تقسيم الصحاري الواقعة بين نوميديا وبلاد السودان

٤٠

الكتابة التي يستعملها الافارقة

٧٩

تقسيم بلاد السودان الى ممالك اعمار افريقيا ، مدلول كلمة البربر

٤٢

مواقع افريقيا الاماكن الموحشة والثلجية في افريقيا

٨٢

اصل الافارقة

٤٣

حركات الهواء الطبيعية في افريقيا والتغيرات التي تنجم عنها

 ٨٧

تقسيم الافارقة البيض الى عدة اقوام

٤٤

حدود ومميزات الفصول

 ٨٩

الاختلافات والمطابقات في اللغة الافريقية

٤٧

قصر امد الحياة وطوله لدى الافارقة

 ٩٢

العرب الذين يسكنون في افريقيا تحت الخيام وليس في منازل

٤٩

اكثر الامراض شيوعا عن الافارقة

 ٩٣

تقسيم العرب الذين قدموا لسكنى افريقيا والذين دعوا بالعرب المتبربرين

٥٨

المزايا والاشياء المحمودة عند الافارقة

٩٦

التوزع الارضي للعرب عددهم

٥٩

العيوب والاشياء المذمومة عند الافارقة

٩٨

قبيلة بني هلال ـ مناطقهم

٦١

قبيلة معقل ـ اراضيها ـ عددها

٦٢


القسم الثاني

استهلال

١٠٥

منطقة مراكش. موقع المنطقة الجمعة ، مدينة في هذه المنطقة

١٣٣

مملكة مراكش. حاحة. منطقة غربية موقع وطبيعة حاحه

١٠٧

ايمجاجن

١٣٤

نمط حياة هؤلاء الناس لباس هؤلاء الناس وعوائدهم

١٠٨

تنزّه

تدنست ، مدينة من حاحه

١١٠

سوق الجمعة الجديد

١٣٥

تاكوليت ، مدينة من حاحه

١١٢

آميزميز

١٣٦

هادكيّس ، مدينة من حاحه

١١٣

تومغلاست

١٣٧

ايد أو يزوغ غواغن

١١٤

مدينة تشرافت

١٣٨

تيّوت

مدينة مراكش الكبرى

تيسيعدلت

١١٥

مدينة اغمات

 ٤٨

مدينة تغتسّة

١١٦

انيماي

١٤٩

آيت دوّاد

١١٧

انفيفه

١٥٠

قليعة المريدين

١١٨

جبل سمد

١٥١

ايغيلنغيغيل ، مدينة من حاحه

١١٩

جبل سوساوه

تفتنه ، مدينة وميناء في حاحه

١٢٠

جبل سكسيوه

١٥٢

ايد آو آكال ، اول قسم من جبال الاطلس

١٢١

جبل ومدينة تينمل

١٥٣

جبل دمنسرة

١٢٢

جبل غدميوا

جبل الحديد

١٢٣

جبل هنتاته

١٥٤

السوس

١٢٤

جبل آديمي

مدينة ماسّه

١٢٥

منطقة جزوله

١٥٥

تيوت ، دددمدينة في السوس

١٢٧

منطقة دكالة

١٥٧

تارودنت ، مدينة في السوس

١٢٩

مدينة آسفي

غارتغويسيّم (اغادير)

١٣٠

كونتي ، مدينة في دكالة

١٦١

تيدسي ، مدينة في السوس

١٣١

تيت ، مدينة في دكاله

تاغاوست

١٣١

المدينة ، مدينة في دكالة

١٦٢

جبل حنكيسة

١٣٢

المائة بير ، مدينة في نفس المنطقة

جبل الهلاله

تامرا كشت

١٦٤

ترغه


بولوان

١٦٥

جبل تنزيته

١٨٠

مدينة آزمور

١٦٦

جبل غجدامه

١٨٢

مرامر جبل بني

١٦٨

تاساوين

الجبل الاخضر

١٦٩

منطقة تادله

١٨٣

منطقة هسكورة

١٧١

تفزه ، مدينة من تادله

المدينة ، بلدة من هكسوره

١٧٢

أفزه ، مدينة من تادله

١٩٠

المدين ، مدينة في نفس الاقليم

١٧٣

آيت عتّاب ، مدينة من تادله

١٩١

تاغوداست ، مدينة في هسكوره

١٧٤

آيت اياد ، مدينة من نفس الاقليم

الجمعة

١٧٦

سغمه ، جبل في نفس الاقليم

١٩٢

بزو : مدينة في هكسوره

جبل ايمغران

١٩٣

جبل تينواواز

١٧٧

جبل دادس

١٩٤

القسم الثالث

مملكة فاس

فنزاره

٢١٤

تامسنه

١٩٩

معمورة

٢١٦

أنفه. مدينة من تامسنه

٢٠٢

تفلفلت

٢١٩

مدينة المنصورة

٢٠٣

مكناس

مدينة نخيلة

٢٠٤

جامع الحمّام

آدندون

خميس متغاره

٢٢٢

تغت

٢٠٥

بني باسل

٢٢٣

عين حلوف

٢٠٦

المدينة الكبرى : فاس ،

الرباط

٢٠٧

عاضمة سائر موريتانيا

٢٢٤

سلا

وصف دقيق ومتقن لفاس

٢٢٧

المعدن العوام

٢٠٩

المارستانات والحمامات الموجودة في فاس

٢٣٣

تاغيه

الفنادق

٢٣٦

ظرفه

٢١١

الطواحين

٢٣٨

ولاية فاس

٢١٢

الصناع المتنوعون ، الدكاكين ، الاسواق

٢٣٩

سلا

٢١٣

سوق التجار

٢٤٥

لحة عن اسم الشوارع الملقبة بالقيصريات

والمسماة كذلك نسبة الى قيصر

٢٤٦


العطارون وارباب المهن الاخرى

٢٤٧

جبل زلاغ

القسم الثاني من مدينة فاس

٢٤٩

جبل زرهون

٢٩٤

القضاة واساليب ادارة العدالة

وليلي : مدينة في جبل زرهون

٢٩٥

والفصل فيها وطراز اللباس

٢٥٣

قصر فرعون

٢٩٦

العادات المتعلقة بالغذاء

٢٥٥

الحجر الاحمر

٢٩٧

العادات المتبعة في الزيجات

٢٥٧

مغيلة

العادات الاخرى المعهودة في الاعياد

قصر الحياء

وطريقة البكاء على الموتى

٢٦٠

بني ورايتين

٢٩٨

طيور الحمام

٢٦١

كورة السايس

اساليب اللعب

٢٦٢

جبل تغات

٢٩٩

شعراء العامية

تيغر يعزه

٣٠٠

مدارس الاطفال

٢٦٣

آزغار ، منطقة من مملكة فاس

٣٠١

العرّافون

٢٦٥

الجمعة ، مدينة من آزغار

السحرة

٢٦٦

مدينة العرائش

٣٠٢

القواعد والخصائص التي يطبقها البعض

القصر الكبير

٣٠٣

تجاه شريعة محمد (صلعم)

٢٦٩

منطقة الهبط

٣٠٥

مختلف الطرائق والمذاهب الاخرى.

آزجن

٣٠٦

سرعة تصديق الجمهور للاباطيل

٢٧١

بني توده

الباطنيون والمذاهب الاخرى

٢٧٣

آمرغو

٣٠٧

الباحثون عن الكنوز

٢٧٥

تنصور

الكيمائيون

آغله

٣٠٨

المشعوذون وسحرة الافاعي

٢٧٧

نارنجه

أرباض المدينة الخارجية

٢٧٨

الجزيرة

٣٠٩

مقابر خارج المدينة

بصرة

٣١٠

اضرحة الملوك

٢٨١

الحمر

٣١١

مزارع الاشجار المثمرة والرياض

ارزيلا

٣١٢

مدينة فاس الجديد

٢٨٢

طنجة

٣١٤

نمط الحياة المألوف في بلاط ملك فاس

٢٨٥

القصر الكبير

مكرمدة

٢٩٢

سبتة ، مدينة كبيرة

٣١٧

قصر العبّاد

تطوان

الزاوية

٢٩٣

جبال الهبط

٣٢٠

خولان

جبل رهونه

٣٢١


جبل بني زكار

جبل لوكاي

٣٣٩

جبل بني عروس

٣٢٢

بني زروال

جبل حبيب

٣٢٣

جبل بني ورياغل

٣٤٠

بني حسن

بني احمد

٣٤١

جبل عنجره

٣٢٤

جبل بني جنفن

٣٤١

ودراس

جبل بني مسغيلده

٣٤٢

جبل بني واغرافت

٣٢٥

بني وامود

الريف ، منطقة من مملكة فاس

٣٢٦

غارت ، المنطقة السادسة من مملكة فاس

٣٤٣

ترغة

مليلة

٣٤٤

بادس

٣٢٧

غساسة

ايللّيش

٣٢٩

تازوتة

٣٤٥

تاغسّه

مدينة آمجّاو

٣٤٦

جبها

٣٣٠

جبل كبدانه

٣٤٧

المزمّه

جبل بني سعيد

جبل بني جرير

جبل أزجنجان

جبل بني منصور

٣٣٢

جبل بني توزين

٣٤٨

جبل بوكّويه

جبل وردان

٣٤٩

جبل بني خالد

٣٣٣

صحراء غارت

٣٥٠

بني منصور

الحوز ، المنطقة السابعة من مملكة فاس

٣٥١

بني يوسف

تاوريرت

٣٥٢

جبل بني زرويل

٣٣٤

حداجيه

جبل بني رزين

جرسيف

٣٥٣

جبل شيشاون

مدينة دبدو

٣٥٤

بني جباره

٣٣٥

مدينة تازة

٣٥٧

جبل بني يرزو

جبل متغاره

جبل تيزارين

٣٦

جبل جياته أو غيّاته

٣٥٩

بني بوشيبه

جبل مغاسّه

جبل بني وليد

جبل البرانس

٣٦٠

جبل مرنيسه

٣٣٧

بني ورتناج

٣٦١

جبل آيشترم

جبل وابلان

جبل بني ابدر

٣٣٨


بني يستيتن

٣٦٢

ازغار ايغمارن

٣٦٨

جبل سليليو

٣٦٣

جبل المائة بير

٣٦٩

جبل بني يازغه

٣٦٤

جبل خنيق الغربان

٣٧٠

آزغان

تزرغه

٣٧١

مدينة صفرو

٣٦٥

ام جنيبه

مزدغه

٣٦٦

جبل بني مراسن

٣٧٢

بني بهليل

جبل مستاسة

عين الاصنام

٣٦٧

جبال الزيز

٣٧٣

المهديّة

مدينة غارسلوين

٣٧٤

سهب المرجة

٣٦٨

ازغار ايغمارن

٣٦٨

القسم الرابع

 مملكة تلمسان

٣٧٩

مازاغران

٤٠٠

صحراء انجاد

 ٣٨٢

مستغانم

قصر تمزيز دغت

برشك

٤٠١

قصر إيسلي

٣٨٣

مدينة شرشال

٤٠٤

مدينة وجده

مليانه

٤٠٥

مدينة ندرومه

٣٨٤

مدينة تينس

٤٠٦

مدينة تبحريت

٣٨٥

مدينة مازونه

٤٠٧

مدينة حنين

٣٨٦

الجزائر

٤٠٨

رشغون

٣٨٧

تغدمت

٤١١

المدينة الكبرى تلمسان

٣٨٨

ميديه

٤١٢

عادات ومصالح البلاط الملكي

٣٩٢

تامندفوست

مدينة عبّاد

٣٩٤

دلّيس

٤١٣

تفسّره

جبال مملكة تلمسان

تسّاله

٣٩٥

جبال بني سناسن

٤١٤

ولاية بني راشد

جبل متغاره

مدينة البطحة

٣٩٧

جبل اولاسّة

مدينة وهران

٣٩٩

جبل اغبال

٤١٥

المرسى الكبير

٤٠٠

بني اورنيد


جبل مغراوه

٤١٦

جبل الورسنيس

٤١٦

جبل بني ابو سعيد

جبال دولة الجزائر

٤١٧

القسم الخامس

مملكة بجاية وتونس

٤٢١

الحمامات

مدينة بجاية الكبرى

٤٢٢

هرقلية

٤٥٥

قصر جيجل

٤٢٣

سوسة

مدينة مسيلة

المنسنير

٤٥٦

ستيف

٤٢٤

طبلبه

٤٥٧

نكاوس

٤٢٥

مدينة المهدية

مدينة القالة

صفاقس

٤٦٠

سكيكدة

٤٢٦

القروان ، التي كانت مدينة كبيرة

مدينة ميله

٤٣١

مدينة قابس

٤٦٤

مدينة عنابه

٤٣٢

الحامّة

٤٦٥

تبفش

 ٣٤

قصر محرس

٤٦٦

مدينة تبسّه

٤٣٥

جزيرة جربه

مدينة الأربص

٤٣٦

مدينة زوارة

مدينة باجة

٤٣٧

لبدة

٤٦٩

عين زمّيت

طرابلس القديمة

القصبات

٤٣٨

طرابلس بلاد البربر

٤٧٠

قصر خيرس

جبال دولة بجايه

٤٧٤

بنزرت

٤٣٩

جبال الاوراس

المدينة الكرى : قرطاجين

٤٤٠

جبال دولة قسنطينة

٤٧٥

مدينة تونس الكبرى

٤٤٢

جبال عنابه

٤٧٦

بلاط الملك ، ترتيبه ، عوائد. الاكرام

الجبال المجاورة لتونس

فيه ، موظفوه

٤٥١

جبال نبي يفرن ونفوسه

٤٧٧

رادس

جبال غريان

٤٧٨

قمرط

٤٥٤

جبال بني وليد

٤٧٩

المرسى

قصر احمد

اريانه

٤٥٥

سبيخه

٤٨٠


قصر حسّان

عمروس

٤٨١

قرية الغار

٤٨٠

تاجوراء

غار الغار

اقليم مسلّاتة

صرمان

٤٨١

اقليم مصراتة

٤٨٢

زاوين ابن يربوع

صحراء برقة

٤٨٣

جنزور

القسم السادس

نوميديا

واكدة

تيسّت ، مدينة في نوميديا

٤٨٧

فيقيق

٥٠٤

وادان

تسابيت

افران

٤٨٩

تيغورارين

٥٠٥

عكا

مزاب

٥٠٦

درعة

٤٩٠

طوقورت

٥٠٧

سجلماسة

٤٩٣

ورقله

٥٠٨

الخانق

٤٩٥

ولاية الزاب

٥٠٩

متغارة

بسكرة

رطب

٤٩٦

البرج

منطقة سجلماسة

نفطة

٥١٠

مدينة سجلماسة

٤٩٨

تولغه

قصر السويهيلة

دوسن

٥١١

ام الحدج

٥٠٠

بلاد الجريد

ام العفن

توزر

٥١٢

تابلباله

مدينة قفصة

٥١٣

تودغة

٥٠١

نفزاوة

٥١٥

فيركله

تاورغه

تزارين

٥٠٢

زليطن

بني جومي

غدامس ، منطقة مسكونة

٥١٦

قصر المزاليق وقصر ابي عنان

٥٠٣

فزان

بني بصري

٥٠٤

صحاري ليبيا


الصحراء التي يسكنها قوم قنزيغه

٥١٩

تغازه

الصحراء التي يسكنها قوم الطارقة

٥٢١

اوجله

٥٢٦

الصحراء التي يسكنها قوم شعب لمته

٥٢٢

سيرت

الصحراء التي يسكنها قوم برداوة

٥٢٤

برداوة ، منطقة مسكونه

٥٢٧

نون ، منطقة مسكونة

٥٢٥

الواحات

٥٢٨

القسم السابع

بلاد السودان

٥٣٣

آغادس ومملكتها

٥٤٦

مملكة ولاته

٥٣٥

كانو

مملكة جنه

٥٣٧

كاتسنه ومملكتها

٥٥٠

مملكة مالي

٥٣٨

زقزق ومملكتها

تومبكتو

٥٣٩

زنفاره

٥٥١

مدينة كاباره

٥٤٢

مملكة وانغاره

٥٥٢

غاء ومملكتها

٥٤٣

بورنو ومملكتها

٥٥٣

مملكة غوبر

٥٤٥

غاوغة ومملكتها

٥٥٥

النوبة ومملكتها

٥٥٧

القسم الثامن

مصر

٥٦٣

مدينة فوّه

٥٧٦

اقسام اقليم مصر

٥٦٤

جزيرة الذهب

اصل المصريين وانسابهم

٥٦٥

المحلة

٥٧٧

خصائص مناخ مصر وتقلباته

٥٦٨

مدينة ديروط

مدينة بوصير

٥٦٩

محلة قيس

٥٧٨

الاسكندرية مدينة مصر الكبرى

٥٧٠

القاهرة ، المدينة الكبرى الباهرة

مدينة ابي قير

٥٧١

ربض باب زويله

رشيد ، ويسميها الطليان روزيتّو

٥٧٤

ربض جامع طولون

٥٨٢

مدينة آنثيوس

ربض باب اللوق

٥٨٣

برنبال

٥٧٥

الربض المسمى بولاق

مدينة طيبه

٥٧٦

ربض القرافة

٥٨٥


المدينة القديمة او مصر العتيقة

٥٨٦

المحتسب

٦٠٧

عادات ، ثياب ، تصرفات سكان

امير الحج

القاهرة وارباضها

٥٩١

الجيزة

السلطان

٥٩٧

المعلقة

٦٠٨

اهم موظفيه وضباطه حسب مراتبهم

الخانقاه

الداوادار

المعيصره

٦٠٩

الامير الكبير او كبير الامراء

بني سويف

نائب الشام

المنيا

استاذ الدار او الاستدار

٦٠٢

مدينة الفيوم

٦١٠

امير الآخور

منفلوط

٦١١

امير الألف

اسيوط

امير المائة

٦٠٣

اخميم

٦١٢

الخزندار

المنشية

امير السلاح

جرجا

تختخانه

٦٠٤

الخيام

٦١٤

عسكر السلطان

٦٠٥

دندره

الموظفون المعينون في الادارة العامة

قنا

النادر الخاص

اسنا

٦١٥

كاتب السر

٦٠٦

مدينة اسوان

٦١٦

الموقّع

القسم التاسع

 اكثر الانهار والنباتات والحيوانات

السبو

٦٢٤

شهرة في افريقيا

٦٢١

اللكوس

٦٢٥

نهر التانسفت

ملّولو

تسّاوين

الملوية

واد العبيد

٦٢٢

زاء

٦٢٦

ام الربيع

التافنة

ابو الرقراق

٦٢٣

المينا

البهت

٦٢٣

الشلف

٦٢٧


الشفة

٦٢٧

سمك العنبرة

النهر المسمى الكبير

حصان البحر

سوفغمار

٦٢٨

ثور البحر

٦٤٧

نهر ايدوغ

السلحفاة الجبارة

وادي البربر

التمساح

٦٤٨

المجرده

التنّين

نهر قابس

٦٢٩

الهيدره

٦٥١

السوس

الضب

الدرعة

الورل

٦٥٢

زيز

٦٣٠

الحرباء

غير

الطيور

٦٥٣

نهر النيل الكبير

٦٣١

النعام

عن الحيوانات

٦٣٣

النسور

٦٥٤

الفيل

النسر

الزراف

٦٣٤

البازي

٦٥٥

الجمل

الخفاش

الحصان العربي

٦٤٠

الببغاوات

٦٥٦

الحصان الوحشي

٦٤١

الجراد

اللمت

المعادن

الثور الوحشي

الملح

٦٥٧

الحمار الوحشي

٦٤٢

الائمد

ابقار جبال افريقيا

اللبانة

آدميّن او آديّمان

القطران

٦٥٨

الاغنام

٦٤٣

ثمر الموز

الاسد

خيار شنبر

٦٥٩

النمور

الطرفاس

الضبع

٦٤٥

نخيل التمر

القط الذي ينتج الزباد

تين مصر المسمى الجمّيز عند المصريين

٦٦٠

القردة

شجرة الطلح

الارانب

جذر السرغينة

عن الاسماك

٦٤٦

القتاد

٦٦١

السرمق



لائحة الأشكال

الفيل الافريقي (عن امبرواز باريه) ..

خارطة تكسيرا ، ١٥٧٣ م (المكتبة الوطنية الفرنسية) لوحة تلي الغلاف بالالوان الاربعة ..

خارطة المغرب الجنوبي (حاحه ، السوس ، مراكش ، جزوله ، دكاله ، هسكورة وتادلة) ..

خارطة مملكة فاس (عدا غارت) ..

القرد الافريقي (عن دابير ، ١٦٨٦ م) ..

افريقيا ، بناء على معلومات الحسن الوزان (خارطة من رسم ماتيا هاسيو ١٧٣٧ م. لوحة تلي الغلاف).

خارطة مملكة تلمسان والقسم الشرقي من مملكة فاس ..

خارطة مملكة بجاية وتونس ..

مدينة أيجل (عن دابير ١٦٨٦ م) ...

خارطة ضواحي تونس

خارطة مملكة بجاية وتونس (القسم الشرقي من بلاد طرابلس الغرب) ..

خارطة نوميديا الغربية ..

خارطة اقليم مصر ...

الاهرامات المصرية (عن دابير ١٦٨٦ م) ..

قط الزباد وكويجلو؟ (عن دابير ١٦٨٦ م) ...

الزرافة (عن امبرواز باريه) ...

تماسيح وحيوانات اخرى (عن دابير ١٦٨٦ م) ..

جمل آسيا (عن بروسبر آلبان ١٧٣٥ م) ..

افريقيا ، بناء على معلومات الحسن الوزان (خارطة من رسم هنري لوت) ..

وصف افريقا

المؤلف:
الصفحات: 675