سورة فاطر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ


وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ


وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً


(٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)

القمطير : المشهور أنه القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة ، ويأتي ما قال المفسرون. الجدد : جمع جدة ، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل ، كالقطعة العظيمة المتصلة طولا. وقال الزمخشري : والجدد : الخطط والطرائق. وقال لبيد : أو مذهب جدد على الواحد ، ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء التي على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه. انتهى. وقال الشاعر :

كأن مبرات وجدة ظهره

كساءين يجري بينهن دليص

الجدة : الخط الذي في وسط ظهره ، يصف حمار وحش. الغريب : الشديد السواد. لغب يلغب لغوبا : أعيا.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ، يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ، إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ، الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).


هذه السورة مكية. ولما ذكر تعالى في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين ، وأنزلهم منازل العذاب ، تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه ووصفه بعظيم آلائه ، كما في قوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

وقرأ الضحاك والزهري : فطر ، جعله فعلا ماضيا ونصب ما بعده. قال أبو الفضل الرازي : فأما على إضمار الذي فيكون نعتا لله عزوجل ، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال. انتهى. وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين ، وأما الحال فيكون حالا محكية ، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو فطر ، وتقدم شرح (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وأن المعنى خالقها بعد أن لم تكن ، والسموات والأرض عبارة عن العالم.

وقال أبو عبد الله الرازي : الحمد يكون في غالب الأمر على النعمة ، ونعم الله عاجلة ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٢) ، إشارة إلى أن النعمة العاجلة ودليله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً) (٣) ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) (٤) ، إشارة إليها أيضا ، وهي الاتقاء ، فإن الاتقاء والصلاح بالشرع والكتاب. والحمد في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ، ودليله : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها*) (٥) منها ، وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) (٦) ، وهنا إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ، دليله : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٧). ففاطر السموات والأرض شاقهما لنزول الأرواح من السماء ، وخروج الأجساد من الأرض دليله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) : أي في ذلك اليوم. فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى ، لأن كما فعل بأشياعهم من قبل بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب. ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمن وبشره بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة.

وقرأ الحسن : جاعل بالرفع ، أي هو جاعل ؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : وجاعل رفعا بغير تنوين ، الملائكة نصبا ، حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن يعمر ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٢.

(٤) سورة الكهف : ١٨ / ١.

(٥) سورة سبأ : ٣٤ / ٢ ، وسورة الحديد : ٥٧ / ٤.

(٦) سورة سبأ : ٣٤ / ٣.

(٧) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٣.


وخليد بن نشيط : جعل فعلا ماضيا ، الملائكة نصبا ، وذلك بعد قراءته فاطر بألف ، والجر كقراءة من قرأ : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) (١). وقرأ الحسن ، وحميد بن قيس : رسلا بإسكان السين ، وهي لغة تميم. وقال الزمخشري : وقرىء الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة. فمن قرأ : فطر وجعل ، فينبغي أن تكون هذه الجمل إخبارا من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم ، كما تقول : الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا خولنا كذا ، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل ، كذلك يكون في قوله : فطر ، جعل ، لأن في ذلك نعما لا تحصى. ومن قرأ : وجاعل ، فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي ، فيكونان صفة لله ، ويجيء الخلاف في نصب رسلا. فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل ، وإن كان ماضيا لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني. ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب ، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلا. وقيل : هو مستقبل تقديره : يجعل الملائكة رسلا ، ويكون أيضا إعرابه بدلا. ومعنى رسلا بالوحي وغيره من أوامره ، ولا يريد جميع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلا. فمن الرسل : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، والملائكة المتعاقبون ، والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم ، كالملك الذي أرسله الله إلى الأعمى والأبرص والأقرع.

و (أَجْنِحَةٍ) جمع جناح ، صيغة جمع القلة ، وقياس جمع الكثرة فيه جنح على وزن فعل ، فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملا في القليل والكثير. وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في أول النساء مشبعا ، ولكن المفسرون تعرضوا لكلام فيه هنا ، فقال الزمخشري : مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير. وأما بالوصفية ، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها؟ انتهى. فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها ، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل. وأما قوله : ألا تراك ، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة ، وليس بصحيح ، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة ، بل اشترطوا فيه. فليس الشرط موجودا في أربع ، لأن شرطه أن لا يقبل تاء التأنيث. وليس شرطه في ثلاثة موجودا ، لأنه لم يجعل علة

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٦.


مع التأنيث. فقياس الزمخشري قياس فاسد ، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة. وقال ابن عطية : عدلت عن حال التنكير ، فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل : للعدل والصفة. انتهى. وهذا الثاني هو المشهور ، والأول قول لبعض الكوفيين. والظاهر أن الملك الواحد من صنف له جناحان ، وآخر ثلاثة ، وآخر أربعة ، وآخر أكثر من ذلك ، لما روي أن لجبريل ستمائة جناح ، منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب. قال قتادة : وأخذ الزمخشري يتكلم على كيفية هذه الأجنحة ، وعلى صورة الثلاثة بما لا يجدي قائلا : يطالع ذلك في كتابه. وقالت فرقة : المعنى أن في كل جانب من الملك جناحان ، ولبعضهم ثلاثة ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد ، لما اعتدلت في معتاد ما رأينا نحن من الأجنحة. وقيل : بل هي ثلاثة لواحد ، كما يوجد لبعض الحيوانات. والظاهر أن المراد من الأجنحة ما وضعت له في اللغة.

وقال أبو عبد الله الرازي : يزيل بحثه في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وهو الذي حكينا عنه أن قوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، أقل ما يكون لذي الجناح ، إشارة إلى الجهة ، وبيانه أن الله ليس شيء فوقه ، وكل شيء تحت قدرته ونعمته ، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذن الله ، كما قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (١) ، وقوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٢) ، وقال تعالى في حقهم : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٣) ، فهما جناحان ، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة ، وفيهم من يفعله لا بواسطة. فالفاعل بواسطة فيهم من له ثلاث جهات ، ومنهم من له أربع جهات وأكثر. انتهى. وبحثه في هذه ، وفي (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بحث عجيب ، وليس على طريقة فهم العرب من مدلولات الألفاظ التي حملها ما حمل. والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة ، وقيل : (أُولِي أَجْنِحَةٍ) معترض ، و (مَثْنى) حال ، والعامل فعل محذوف يدل عليه (رُسُلاً) ، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع. قيل : وإنما جعلهم أولي أجنحة ، لأنه لما جعلهم رسلا ، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء. فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين ، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب كالطير.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ٥.

(٣) سورة النازعات : ٧٩ / ٥.


(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي أجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله ، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، والظاهر عموم الخلق. وقال الفراء : هذا في الأجنحة التي للملائكة ، أي يزيد في خلق الملائكة الأجنحة. وقالوا : في هذه الزيادة الخلق الحسن ، أو حسن الصوت ، أو حسن الخط ، أو لملاحة في العينين أو الأنف ، أو خفة الروح ، أو الحسن ، أو جعودة الشعر ، أو العقل ، أو العلم ، أو الصنعة ، أو العفة في الفقراء ، والحلاوة في الفم ، وهذه الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر. والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق ، وقد شرحوا هذه الزيادة بالأشياء المستحسنة ، وما يشاء عام لا يخص مستحسنا دون غيره. وختم الآية بالقدرة على كل شيء يدل على ذلك ، والفتح والإرسال استعارة للإطلاق ، (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) مكان لا فاتح له ، والمعنى : أي شيء يطلق الله.

(مِنْ رَحْمَةٍ) : أي نعمة ورزق ، أو مطر ، أو صحة ، أو أمن ، أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها. وما روي عن المفسرين المتقدمين من تفسير رحمة بشيء معين فليس على الحصر منه ، إنما هو مثال. قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا يقدر أحد على إمساكها وحبسها ، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. انتهى. والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة لبيان ذلك العام من أي صنف هو ، وهو مما اجتزئ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط ، وتقديره : من الرحمات ، ومن في موضع الحال ، أي كائنا من الرحمات ، ولا يكون في موضع الصفة ، لأن اسم الشرط لا يوصف. والظاهر أن قوله : (وَما يُمْسِكْ) عام في الرحمة وفي غيرها ، لأنه لم يذكر له تبيين ، فهو باق على العموم في كل ما يمسك. فإن كان تفسيره (مِنْ رَحْمَةٍ) ، وحذفت لدلالة الأول عليه ، فيكون تذكير الضمير في (فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) حملا على لفظ ما ، وأنث في (مُمْسِكَ لَها) على معنى ما ، لأن معناها الرحمة. وقرىء : فلا مرسل لها ، بتأنيث الضمير ، وهو دليل على أن التفسير هو (مِنْ رَحْمَةٍ) ، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وعن ابن عباس : (مِنْ رَحْمَةٍ) : من باب توبة ، (فَلا مُمْسِكَ لَها) : أي يتوبون إن شاؤوا وإن أبوا ، (وَما يُمْسِكْ) : من باب ، (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) من بعده ، فهم لا يتوبون. وعنه أيضا : (مِنْ رَحْمَةٍ) : من هداية. قال الزمخشري : فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس؟ قلت : أراد بالتوبة : الهداية لها والتوفيق فيها ، وهو الذي أراده


ابن عباس ، إن قاله فمقبول ، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب فمردود ، لأن الله تعالى يشاء التوبة أبدا ، ولا يجوز عليه أن لا يشاء بها. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. (مِنْ بَعْدِهِ) : هو على حذف مضاف ، أي من بعد إمساكه ، كقوله : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) (١) ، أي من بعد إضلال الله إياه ، لأن قبله وأضله الله على علم ، كقوله : و (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) (٢) ، وقدره الزمخشري من بعد هداية الله ، وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية ، جرى فيه على طريقة الاعتزال. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على الإرسال والإمساك ، (الْحَكِيمُ) الذي يرسل ويمسك ما اقتضته حكمته.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) : خطاب لقريش ، وهو متجه لكل مؤمن وكافر ، ولا سيما من عبد غير الله ، وذكرهم بنعمه في إيجادهم. و (اذْكُرُوا) : ليس أمرا بذكر اللسان ، ولكن به وبالقلب وبحفظ النعمة من كفرانها وشكرها ، كقولك لمن أنعمت عليه : اذكر أياديّ عندك ، تريد حفظها وشكرها ، والجميع مغمورون في نعمة الله. فالخطاب عام اللفظ ، وإن كان نزل ذلك بسبب قريش ، ثم استفهم على جهة التقرير. (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) : أي فلا إله إلا الخالق ، ما تعبدون أنتم من الأصنام. وقرأ ابن وثاب ، وشقيق ، وأبو جعفر ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : غير بالخفض ، نعتا على اللفظ ، و (مِنْ خالِقٍ) مبتدأ. و (يَرْزُقُكُمْ) : جوزوا أن يكون خبرا للمبتدأ ، وإن يكون صفته ، وأن يكون مستأنفا ، والخبر على هذين الوجهين محذوف تقديره لكم. وقرأ شيبة ، وعيسى ، والحسن ، وباقي السبعة : (غَيْرُ) بالرفع ، وجوزوا أن يكون نعتا على الموضع ، كما كان الخبر نعتا على اللفظ ، وهذا أظهر لتوافق القراءتين ؛ وأن يكون خبرا للمبتدأ ، وأن يكون فاعلا باسم الفاعل الذي هو خالق ، لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام ، فحسن إعماله ، كقولك : أقائم زيد في أحد وجهيه؟ وفي هذا نظر ، وهو أن اسم الفاعل ، أو ما جرى مجراه ، إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل ، فرفع ما بعده ، هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فتقول : هل من قائم الزيدون؟ كما تقول : هل قائم الزيدون؟ والظاهر أنه لا يجوز. ألا ترى أنه إذا جرى مجرى الفعل ، لا يكون فيه عموم خلافه إذا أدخلت عليه من ، ولا أحفظ مثله في لسان العرب ، وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلام العرب؟ وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي : غير بالنصب على الاستثناء ، والخبر إما يرزقكم وإما محذوف ، ويرزقكم مستأنف ؛ وإذا كان يرزقكم مستأنفا ، كان أولى لانتفاء

__________________

(١) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٦.


صدق خالق على غير الله ، بخلاف كونه صفة ، فإن الصفة تقيد ، فيكون ثم خالق غير الله ، لكنه ليس برازق. ومعنى (مِنَ السَّماءِ) : بالمطر ، (وَالْأَرْضِ) : بالنبات ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون على التوحيد إلى الشرك ، وأن يكذبوك إلى الأمور ، تقدم الكلام على ذلك.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : شامل لجميع ما وعد من ثواب وعقاب وغير ذلك. وقرأ الجمهور : (الْغَرُورُ) بفتح الغين ، وفسره ابن عباس بالشيطان. وقرأ أبو حيوة ، وأبو السمال : بضمها جمع غار ، أو مصدرا ، كقوله : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) (١) ، وتقدم الكلام على ذلك في آخر لقمان. (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) : عداوته سبقت لأبينا آدم ، وأي عداوة أعظم من أن يقول في بنيه : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*) (٢) ، (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) (٣)؟ (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) : أي بالمقاطعة والمخالفة باتباع الشرع. ثم بين أن مقصوده في دعاء حزبه إنما هو تعذيبهم في النار ، يشترك هو وهم في العذاب ، فهو حريص على ذلك أشد الحرص حتى يبين صدق قوله في : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) ، (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) ، لأن الاشتراك فيما يسوء مما قد يتسلى به بخلاف المنفرد بالعذاب. ثم ذكر الفريقين ، وما أعدّ لهما من العقاب والثواب. وبدأ بالكفار لمجاورة قوله : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) ، فاتبع خبر الكافر بحاله في الآخرة. قال ابن عطية : واللام في ليكون لام الصيرورة ، لأنه لم يدعهم إلى السعير ، إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك. انتهى. ونقول : هو مما عبر فيه عن السبب بما تسبب عنه دعاؤهم إلى الكفر ، وتسبب عنه العذاب. و (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا). مبتدآن ، وجوز بعضهم في (الَّذِينَ كَفَرُوا) أن يكون في موضع خفض بدلا (مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) ، أو صفة ، وفي موضع نصب بدلا من (حِزْبَهُ) ، وفي موضع رفع بدلا من ضمير (لِيَكُونُوا) ، وهذا كله بمعزل من فصاحة التقسيم وجزالة التركيب.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) : أي فرأى سوء عمله حسنا ، ومن مبتدأ موصول ، وخبره محذوف. فالذي يقتضيه النظر أن يكون التقدير : كمن لم يزين له ، كقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (٤) ، (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) (٥) ، (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٦) ، ثم قال : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٢.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٣٩.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١١٩.

(٤) سورة محمد : ٤٧ / ١٤.

(٥) سورة الرعد : ١٣ / ١٩.

(٦) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.


الظُّلُماتِ) (١) ، وقاله الكسائي ، أي تقديره : تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ). وقيل : التقدير : فرآه حسنا ، فأضله الله كمن هداه الله ، فحذف ذلك لدلالة : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ، وذكر هذين الوجهين الزجاج. وشرح الزمخشري هنا (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) على طريقته في غير موضع من كتابه ، من أن الإضلال هو خذلانه وتخليته وشأنه ، وأتى بألفاظ كثيرة في هذا المعنى. وقرأ الجمهور : (أَفَمَنْ زُيِّنَ) مبينا للمفعول سوء رفع. وقرأ عبيد بن عمير : زين له سوء ، مبنيا للفاعل ، ونصب سوء ؛ وعنه أيضا أسوأ على وزن أفعل منصوبا ؛ وأسوأ عمله : هو الشرك. وقراءة طلحة : أمن بغير فاء ، قال صاحب اللوامح : للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ، ويجوز أن يكون بمعنى حرف النداء ، فحذف التمام كما حذف من المشهور الجواب. انتهى. ويعني بالجواب : خبر المبتدأ ، وبالتمام : ما يؤدي لأجله ، أي تفكر وارجع إلى الله ، (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) تسلية للرسول عن كفر قومه ، ووجوب التسليم لله في إضلاله من يشاء وهداية من يشاء. وقرأ الجمهور : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) ، مبنيا للفاعل من ذهب ، ونفسك فاعل. وقرأ أبو جعفر ، وقتادة ، وعيسى ، والأشهب ، وشيبة ، وأبو حيوة ، وحميد والأعمش ، وابن محيصن : تذهب من أذهب ، مسند الضمير المخاطب ، نفسك : نصب ، ورويت عن نافع : والحسرة هم النفس على فوات أمر. وانتصب (حَسَراتٍ) على أنه مفعول من أجله ، أي فلا تهلك نفسك للحسرات ، وعليهم متعلق بتذهب ، كما تقول : هلك عليه حبا ، ومات عليه حزنا ، أو هو بيان للمتحسر عليه ، ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر ، فلا يتقدّم معموله. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون حالا ، كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير :

مشق الهواجر لحمهن مع السرى

حتى ذهبن كلاكلا وصدروا

يريد : رجعن كلا كلا وصدورا ، أي لم يبق إلا كلا كلها وصدورها ، ومنه قوله :

فعلى إثرهم تساقط نفسي

حسرات وذكرهم لي سقام

انتهى. وما ذكر من أن كلا كلا وصدورا حالان هو مذهب سيبويه. وقال المبرد : هو تمييز منقول من الفاعل ، أي حتى ذهبت كلا كلها وصدورها. ثم توعدهم بالعقاب على سوء صنعهم فقال : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) : أي فيجازيهم عليه.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.


(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ، مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).

لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة ، ذكر أشياء من الأمور الأرضية : الرياح وإسالها ، وفي هذا احتجاج على منكري البعث. دلهم على المثال الذي يعاينونه ، وهو وإحياء الموتى سيان. وفي الحديث : «أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال : هل مررت بوادي أهلك محلا ، ثم مررت به يهتز خضرا؟ فقالوا : نعم ، فقال : فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه».

قيل : (أَرْسَلَ) في معنى يرسل ، ولذلك عطف عليه (فَتُثِيرُ). وقيل : جيء بالمضارع حكاية حال يقع فيها إثارة الرياح السحاب ، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية ، ومنه فتصبح الأرض مخضرة. قال الزمخشري : وكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز خصوصية بحال يستغرب ، أو يتهم المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبط شرا :

بأني قد لقيت الغول تهوي

بشهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلاد هش فخرت

صريعا لليدين وللجران

لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي يشجع فيها ابن عمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياهم ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول ، وثباته عند كل شدّة. وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها. لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة وقيل : فسقنا وأحيينا ، معدولا بهما عن لفظ الغيبة


إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : أي أرسل بلفظ الماضي. لما أسند إلى الله وما يفعله تعالى بقوله : كن ، لا يبقى زمانا ولا جزء زمان ، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه ، ولأنه فرغ من كل شيء ، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند الإثارة إلى الريح ، وهي تؤلف في زمان ، قال : (فَتُثِيرُ) ، وأسند (أَرْسَلَ) إلى الغائب ، وفي (فَسُقْناهُ) ، و (فَأَحْيَيْنا) إلى المتكلم ، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ، ثم لما عرف قال : أنا الذي عرفتني سقت السحاب فأحييت الأرض. ففي الأول تعريف بالفعل العجيب ، وفي الثاني تذكير بالبعث. وفسقناه وفأحيينا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين فتثير وأرسل. انتهى. وهذا الذي ذكر منا الفرق بين أرسل وفتثير لا يظهر. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الروم : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) (١) ، وفي الأعراف : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (٢) ، كيف جاء في الإرسال بالمضارع؟ وإنما هذا من التفنن في الكلام والتصرف في البلاغة. وأما الخروج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه فهو من باب الالتفات ، وكذلك ما في الأعراف (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (٣). وأما قوله : وما يفعله تعالى إلى آخره ، وكل فعل ، وإن كان أسند إلى غيره مجازا ، فهو فعله حقيقة ، فلا فرق بين ما يسنده إلى ذاته ، وبين ما يسند إلى غيره ، لأن جميع ذلك هو إيجاده وخلقه. والنشور ، مصدر نشر : الميت إذا حيي ، قال الأعشى :

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميت الناشر

والنشر : مبتدأ ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر ، والتشبيه وقع لجهات لما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها ، كذلك الأعضاء تقبل الحياة. أو كما أن الريح يجمع قطع السحاب ، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء ؛ أو كما يسوق الرياح والسحاب إلى البلد الميت ، يسوق الروح والحياة إلى البدن. (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) : أي المغالبة ، (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) : أي ليست لغيره ، ولا تتم إلا به ، والمغالب مغلوب. ونحا إليه مجاهد وقال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) بعبادة الأوثان ، وهذا تمثيل لقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٤). وقال قتادة : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) وطريقها القويم

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٤٨.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٥٧.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٥٧.

(٤) سورة مريم : ١٩ / ٨١.


ويحب نيلها ، (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) : أي به وعن أمره ، لا تنال عزته إلا بطاعته. وقال الفراء : من كان يريد علم العزة ، (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) : أي هو المتصف بها. وقيل : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) : أي لا يعقبها ذلة ، ويصار بها للذلة. وقال الزمخشري : كان الكافرون يتعززون بالأصنام ، كما قال عزوجل : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (١). والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢) ، فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه وقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣). انتهى. ولا تنافي بين قوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٤) ، وإن كان الظاهر أنها له لا لغيره ، وبين قوله (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٥) وإن كان يقتضي الاشتراك ، لأن العزة في الحقيقة لله بالذات ، وللرسول بواسطة قربه من الله ، وللمؤمنين بواسطة الرسول. فالمحكوم عليه أولا غير المحكوم عليه ثانيا. ومن اسم شرط ، وجملة الجواب لا بد أن يكون فيها ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفا ، والجواب محذوف تقديره على حسب تلك الأقوال السّابقة. فعلى قول مجاهد : فهو مغلوب ، وعلى قول قتادة : فيطلبها من الله ، وعلى قول الفراء : فلينسب ذلك إلى الله ، وعلى القول الرابع : فهو لا ينالها ؛ وحذف الجواب استغناء عنه بقوله : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ، لدلالته عليه. والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة : فليطلبها من العزة له يتصرف فيها كما يريد ، كما قال تعالى : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (٦) ، وانتصب جميعا على المراد ، والمراد عزة الدنيا وعزة الآخرة.

و (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) : التوحيد والتحميد وذكر الله ونحو ذلك. وقال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل : ثناء بالخير على صالحي المؤمنين. وقال كعب : إن لسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر لدويا حول العرش كدوي النحل بذكر صاحبها. وقرأ الجمهور : (يَصْعَدُ) ، مبنيا للفاعل من صعد ؛ (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) : مرفوعا ، فالكلم جمع كلمة. وقرأ علي ، وابن مسعود ، والسلمي ، وإبراهيم : يصعد من أصعد ، الكلام الطيب على البناء للمفعول. انتهى. وقرأ زيد بن علي : يصعد من صعد الكلام : رقي ، وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه ، لأنه تعالى ليس في جهة ، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود ، لأن الصعود من الاجرام يكون ، وإنما ذلك كناية عن

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٨١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٣٩.

(٣) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٣٩.

(٥) سورة فاطر : ٣٥ / ١٠.

(٦) سورة آل عمران : ٣ / ٢٦.


القبول ، ووصفه بالكمال. كما يقال : علا كعبه وارتفاع شأنه ، ومنه ترافعوا إلى الحاكم ، ورفع الأمر إليه ، وليس هناك علو في الجهة.

وقرأ الجمهور : والعمل الصالح يرفعهما. فالعمل مبتدأ ، ويرفعه الخبر ، وفاعل يرفعه ضمير يعود على العمل الصالح ، وضمير النصب يعود على الكلم ، أي يرفع الكلم الطيب ، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك. وقال الحسن : يعرض القول على الفعل ، فإن وأفق القول الفعل قبل ، وإن خالف رد. وعن ابن عباس نحوه ، قال : إذ اذكر الله العبد وقال كلاما طيبا وأدّى فرائضه ، ارتفع قوله مع عمله ؛ وإذ قال ولم يؤدّ فرائضه ، رد قوله على عمله ؛ وقيل : عمله أولى به. قال ابن عطية : وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ، ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن القاضي لفرائضه إذ ذكر الله وقال كلاما طيبا ، فإنه مكتوب له متقبل ، وله حسناته وعليه سيئاته ، والله يتقبل من كل من اتقى الشرك. وقال أبو صالح ، وشهر بن حوشب عكس هذا القول : ضمير الفاعل يعود على الكلم ، وضمير النصب على العمل الصالح ، أي يرفعه الكلم الطيب. وقال قتادة : إن الفاعل هو ضمير يعود على الله ، والهاء للعمل الصالح ، أي يرفعه الله إليه ، أي يقبله. وقال ابن عطية : هذا أرجع الأقوال. وعن ابن عباس : والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه ، فجعله على حذف مضاف. ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفا على الكلم الطيب ، أي يصعدان إلى الله ، ويرفعه استئناف إخبار ، أي يرفعهما الله ، ووحد الضمير لا شتراكهما في الصعود ، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة ، فيكون لفظه مفردا ، والمراد به التثنية ، فكأنه قيل : ليس صعودهما من ذاتهما ، بل ذلك برفع الله إياهما. وقرأ عيس ، وابن أبي عبلة : والعمل الصالح ، بنصبهما على الاشتغال ، فالفاعل ضمير الكلم أو ضمير الله ، ومكر لازم ، والسيئات نعت لمصدر محذوف ، أي المكرات السيئات ، أو المضاف إلى المصدر ، أي أضاف المكر إلى السيئات ، أو ضمن يمكرون معنى ، يكتسبون ، فنصب السيئات مفعولا به. وإذا كانت السيئات نعتا لمصدر ، أو لمضاف لمصدر ، فالظاهر أنه عنى به مكرات قريش في دار الندوة ، إذ تذاكروا إحدى ثلاث مكرات ، وهي المذكورة في الأنفال : إثباته ، أو قتله ، أو إخراجه ؛ و (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين مكروا تلك المكرات. (يَبُورُ) أي يفسد ويهلك دون مكر الله بهم ، إذ أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعا وحقق فيهم قوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١) ، وقوله :

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٠.


(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (١) ، وهو مبتدأ ، ويبور خبره ، والجملة خبر عن قوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ). وأجاز الحوفى وأبو البقاء أن يكون هو فاصلة ، ويبور خبر ، ومكر أولئك والفاصلة لا يكون ما بعدها فعلا ، ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له ؛ فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا وردّ ذلك عليه.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) : من حيث خلق أبينا آدم. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي بالتناسل. (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) : أي أصنافا ذكرانا وإناثا ، كما قال : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) (٢). وقال قتادة : قدّر بينكم الزوجية ، وزوّج بعضكم بعضا ، ومن في (مِنْ مُعَمَّرٍ) زائدة ، وسماه بما يؤول إليه ، وهو الطويل العمر. والظاهر أن الضمير في (مِنْ عُمُرِهِ) عائد على معمر لفظا ومعنى. وقال ابن عباس وغيره : يعود على معمر الذي هو اسم جنس ، والمراد غير الذي يعمر ، فالقول تضمن شخصين : يعمر أحدهما مائة سنة ، وينقص من الآخر. وقال ابن عباس أيضا ، وابن جبير ، وأبو مالك : المراد شخص واحد ، أي يحصي ما مضى منه إذ مر حول كتب ذلك ثم حول ، فهذا هو النقص ، وقال الشاعر :

حياتك أنفاس تعدّ فكلما

مضى نفس منك انتقصت به جزءا

وقال كعب الأحبار : معنى (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) : لا يخترم بسببه قدرة الله ، ولو شاء لأخر ذلك السبب. وروي أنه قال ، لما طعن عمر رضي‌الله‌عنه : لو دعا الله لزاد في أجله ، فأنكر المسلمون عليه ذلك وقالوا : إن الله تعالى يقول : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ*) (٣) ، فاحتج بهذه الآية. قال ابن عطية : وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين ، وبنحوه تمسك المعتزلة. وقرأ الجمهور : ولا ينقص ، مبنيا للمفعول. وقرأ يعقوب ، وسلام ، وعبد الوارث ، وهارون ، كلاهما عن أبي عمرو : ولا ينقص ، مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن : (مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ). قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ. وقال الزمخشري : يجوز أن يراد كتاب الله علم الله ، أو صحيفة الإنسان. انتهى.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) : هذه آية أخرى يستدل بها على كل عاقل أنه مما لا مدخل لصنم فيه. وتقدم شرح : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) ، وشرح : (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) في سورة

__________________

(١) هذه السورة آية رقم ٤٣.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٣٤.


الفرقان (١). وهنا بين القسمين صفة للعرب ، وبين قوله : (سائِغٌ شَرابُهُ). وقرأ الجمهور : سائغ ، اسم فاعل من ساغ. وقرأ عيسى : سيغ على وزن فيعل ، كميت ؛ وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم. وقرأ عيسى أيضا : سيغ مخففا من المشدد ، كميت مخفف ميت. وقرأ الجمهور : ملح ، وأبو نهيك وطلحة : بفتح الميم وكسر اللام ، وقال أبو الفضل الرازي : وهي لغة شاذة ، ويجوز أن يكون مقصورا من مالح ، فحذف الألف تخفيفا. وقد يقال : ماء ملح في الشذوذ ، وفي المستعمل : مملوح. وقال الزمخشري : ضرب البحرين ، العذب والملح ، مثلين للمؤمن والكافر. ثم قال على صفة الاستطراد في صفة البحرين وما علق بها : من نعمته وعطائه. (وَمِنْ كُلٍ) ، من شرح الزمخشري : ألفاظا من الآية تكررت في سورة النحل. ثم قال : ويحتمل غير طريقة الاستطراد ، وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر ، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ ، وجرى الفلك فيه. وللكافر خلو من النفع ، فهو في طريقة قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) (٢) الآية. انتهى. (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : يريد التجارات والحج والغزو ، أو كل سفر له وجه شرعي.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : تقدم شرح هذه الجمل. ولما ذكر أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة ، من إرسال الرياح ، والإيجاد من تراب وما عطف عليه ، وإيلاج الليل في النهار ، وتسخير الشمس والقمر ؛ أشار إلى أن المتصف بهذه الأفعال الغريبة هو الله فقال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) ، وهي أخبار مترادفة ؛ والمبتدأ (ذلِكُمُ) ، و (اللهُ رَبُّكُمْ) خبران ، و (لَهُ الْمُلْكُ) جملة مبتدأ في قران قوله : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ). قال الزمخشري : ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة وعطف بيان ، وربكم خبر ، لو لا أن المعنى يأباه. انتهى. أما كونه صفة ، فلا يجوز ، لأن الله علم ، والعلم لا يوصف به ، وليس اسم جنس كالرجال ، فتتخيل فيه الصفة. وأما قوله : لو لا أن المعنى يأباه ، فلا يظهر أن المعنى يأباه ، لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم ، أي مالكم ، أو مصلحكم ، وهذا معنى لائق سائغ ، والذين يدعون من دونه هي الأوثان. وقرأ الجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب ، وعيسى ، وسلام ، ويعقوب : بياء الغيبة. وقال صاحب الكامل أبو القاسم بن جبارة : يدعون بالياء ، اللؤلؤي عن أبي عمرو وسلام ، والنهاوندي عن قتيبة ، وابن الجلاء عن نصير ، وابن حبيب

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٥٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٧٤.


وابن يونس عن الكسائي ، وأبو عمارة عن حفص. والقطمير ، تقدم شرحه. وقال جويبر عن رجاله ، والضحاك : هو القمع الذي في رأس التمرة. وقال مجاهد : لفافة النواة ؛ وقيل : الذي بين قمع التمرة والنواة ؛ وقيل : قشر الثوم ؛ وأيا ما كان ، فهو تمثيل للقليل ، وقال الشاعر :

وأبوك يخفف نعله متوركا

ما يملك المسكين من قطمير

(لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) ، لأنهم جماد ؛ (وَلَوْ سَمِعُوا) ، هذا على سبيل الفرض ؛ (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) ، لأنهم لا يدعون لهم من الإلهية ، يتبرؤون منها. وقيل : ما نفعوكم ، وأضاف المصدر : في شرككم ، أي بإشراككم لهم مع الله في عبادتكم إياهم كقوله : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (١) ، فهي إضافة إلى الفاعل. وقوله : (يَكْفُرُونَ) ، يحتمل أن يكون بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة ناطق ، ومدافعة كل محتج ، فيجيء هذا على طريق التجوز ، كقول ذي الرمة :

وقفت على ربع لمية ناطق

تخاطبني آثاره وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه

تكلمني أحجاره وملاعبه

(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ، قال قتادة وغيره من المفسرين : الخبير هنا أراد به تعالى نفسه ، فهو الخبير الصادق الخبر ، نبأ بهذا ، فلا شك في وقوعه. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) من تمام ذكر الأصنام ، كأنه قال : فلا يخبرك مثل من يخبرك عن نفسه ، أي لا يصدق في تبرئها من شرككم منها ، فيريد بالخبير على هذا المثل لهما ، كأنه قال : ولا ينبئك مثل خبير عن نفسه ، وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء. وقال الزمخشري : لا يخبرك بالأمر مخبر ، هو مثل خبير عالم به ، يريد أن الخبير بالأمر هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به. والمعنى : أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ، لأني خبير بما أخبر به. وقال في التجريد : يحتمل وجهين : أن يكون ذلك خطابا للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده ، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لو لا إخبار الله عنه ، قال تعالى : انهم بربهم يكفرون ، أي يكفرون بهم يوم القيامة ، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمرا عجيبا هو كما قال ، لأن

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٨.


المخبر عنه خبير. والثاني : أن يكون خطابا ليس مختصا بأحد ، أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ، لا ينبئك أيها السامع كائنا من كنت مثل خبير.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ، إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)

هذه آية موعظة وتذكير ، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإنعامه في جميع أحوالهم ، لا يستغنى أحد عنه طرفة عين ، وهو الغني عن العالم على الإطلاق. وعرّف الفقراء ليريهم شديد افتقارهم إليه ، إذ هم جنس الفقراء ، وإن كان العالم بأسره مفتقر إليه ، فلضعفهم جعلوا كأنهم جميع هذا الجنس ؛ ولو نكر لكان المعنى : أنتم ، يعني الفقراء ، وقوبل الفقراء بالغني ، ووصف بالحميد دلالة على أنه جواد منعم ، فهو محمود على ما يسديه من النعم ، مستحق للحمد. ولما ذكر أنه الغني على الإطلاق ، ذكر ما يدل على استغنائه عن العالم ، وأنه ليس بمحتاج إليهم فقال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) : أي إن يشأ إذهابكم يذهبكم ، وفي هذا وعيد بإهلاكهم. (وَما ذلِكَ) : أي إذهابكم ، والإتيان بخلق جديد (بِعَزِيزٍ) ، أي بممتنع عليه ، إذ هو المتصف بالقدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء مما يريده. ومعنى : (بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) : بدلكم لقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (١). وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده ، لا يشرك به شيئا. وقد جاء هذا المعنى من ذكر الإذهاب بعد وصفه تعالى بالغني في قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) (٢). وجاء أيضا تعليق الإذهاب مختوما آخر الآية بذكر القدرة الدالة على ذلك في قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) (٣).

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٣٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٣٣.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٣٣.


روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين : اكفروا بمحمد وعليّ وزركم ، فنزلت. وأخبر تعالى ، لا يحمله أحد عن أحد. قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هذه الآية في الذنوب والجرائم. ويقال : وزر الشيء : حمله ، ووازرة : صفة لمحذوف ، أي نفس وازرة : حاملة ، وذكر الصفة ولم يذكر الموصوف مقتصرا عليه ، لأن المعنى : أن كل نفس لا ترى إلا حاملة وزرها ، لا وزر غيرها ، فلا يؤاخذ نفسا بذنب نفس ، كما يأخذ جبابرة الدنيا الجار بالجار ، والصديق بالصديق ، والقريب بالقريب. وقال ابن عطية : ومن تطرف من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة ، كفعل زياد ونحوه ، فإنما ذلك ظلم ، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بموازرة ومواصلة ، أو اطلاع على حاله وتقرير لها ، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب. انتهى. وكأن ابن عطية تأول أفعال زياد وما فعل في الإسلام ، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجاج ، ولا منافاة بين هذه الآية والتي في العنكبوت ، لأن تلك في الضالين المضلين يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، فكل ذلك أثقالهم ، ما فيها من ثقل غيرهم شيء. ألا ترى : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) (١)؟

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) : أي نفس مثقلة بحملها ، (إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) : أي لا غياث يومئذ لمن استغاث ، ولا إعانة حتى أن نفسا قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وزرها لم تجب وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ فالآية قبلها في الدلالة على عدل الله في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها وهذه في نفي الإعانة والحمل ما كان على الظهر في الأجرام فاستعير للمعاني كالذنوب ونحوها فيجعل كل محمول متصلا بالظهر كقوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) (٢) ، كما جعل كل اكتساب منسوبا إلى اليد. وقرأ الجمهور : لا يحمل بالياء ، مبينا للمفعول ؛ وأبو السمال عن طلحة ، وإبراهيم بن زادان عن الكسائي : بفتح التاء من فوق وكسر الميم ، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء ، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه ، والفاعل بيحمل ضمير عائد على مفعول تدع المحذوف ، أي وإن تدع مثقلة نفسا أخرى إلى حملها ، لم تحمل منه شيئا. واسم كان ضمير يعود على المدعو المفهوم من قوله : (وَإِنْ تَدْعُ) ، هذا معنى قول الزمخشري ، قال : وترك المدعو ليعم ويشمل كل مدعو. قال : فإن قلت : فكيف استفهام إضمار ، ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقل؟ قلت : هو من العموم الكائن على طريق البلد. انتهى. وقال ابن عطية : واسم كان مضمر تقديره ولو كان. انتهى ، أي ولو كان

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ١٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣١.


الداعي ذا قربى من المدعو ، فإن المدعو لا يحمل منه شيئا. وذكر الضمير حملا على المعنى ، لأن قوله : (مُثْقَلَةٌ) ، لا يريد به مؤنث المعنى فقط ، بل كل شخص ، فكأنه قيل : وإن تدع شخصا مثقلا. وقرىء : ولو كان ذو قربى ، على أن كان تامة ، أي ولو حضر إذا ذاك ذو قربى ودعته ، لم يحمل منه شيئا. وقالت العرب : قد كان لبن ، أي حضر وحدث. وقال الزمخشري : نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة ، لأن المعنى : على أن المثقلة إذا دعت أحدا إلى حملها لا يحمل منه ، وإن كان مدعوها ذا قربى ، وهو معنى صحيح ملتئم. ولو قلت : ولو وجد ذو قربى ، لتفكك وخرج عن اتساقه والتئامه. انتهى. وهو نسق ملتئم على التقدير الذي ذكرناه ، وتفسيره كان ، وهو مبني للفاعل ، يؤخذ المبني للمفعول تفسير معنى ، وليس مرادفا ومرادفه ، حدث أو حضر أو وقع ، هكذا فسره النحاة.

ولما سبق ما تضمن الوعيد وبعض أهوال القيامة ، كان ذلك إنذارا ، فذكر أن الإنذار إنما يجدي وينفع من يخشى الله. (بِالْغَيْبِ) : حال من الفاعل أو المفعول ، أي يخشون ربهم غافلين عن عذابه ، أو يخشون عذابه غائبا عنهم. وقيل : بالغيب في السر ، وقيل : بالغيب ، أي وهو بحال غيبه عنهم إنما هي رسالة. وقرأ الجمهور : (وَمَنْ تَزَكَّى) ، فعلا ماضيا ، (فَإِنَّما يَتَزَكَّى) : فعلا ، مضارع تزكى ، أي ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي ، فإنما ثمرة ذلك عائدة عليه ، وهو إنما زكاته لنفسه لا لغيره ، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة. وقرأ العباس عن أبي عمرو : ومن يزكى فإنما يزكى ، بالياء من تحت وشدّ الزاي فيهما ، وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى ، أدغمت التاء في الزاي ، كما أدغمت في الذال في قوله : (يَذَّكَّرُونَ) (١). وقرأ ابن مسعود ، وطلحة : ومن ازكى ، بإدغام التاء في الزاي. واجتلاب همزة الوصل في الابتداء ؛ وطلحة أيضا : فإنما يزكى ، بإدغام التاء في الزاي. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) : وعد لمن يزكى بالثواب.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الآية : هي طعن على الكفرة وتمثيل. فالأعمى الكافر ، والبصير المؤمن ، أو الأعمى الصنم ، والبصير الله عزوجل وعلا ، أي لا يستوي معبودهم ومعبود المؤمنين. والظلمات والنور ، والظل والحرور : تمثيل للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب. والأحياء والأموات ، تمثيل لمن دخل في الإسلام ومن لم يدخل فيه. والحرور : شدّة حر الشمس. وقال الزمخشري : والحرور : السموم ، إلا أن السموم تكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار ؛ وقيل : بالليل. انتهى. وقال ابن عطية : قال

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٦ وغيرها من السور.


رؤبة : الحرور بالليل ، والسموم بالنهار ، وليس كما قال ، وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره : أن السموم يختص بالنهار. ويقال : الحرور في حر الليل ، وفي حر النهار. انتهى. ولا يرد على رؤبة ، لأنه منه تؤخذ اللغة ، فأخبر عن لغة قومه. وقال قوم : الظل هنا : الجنة ، والحرور : جهنم ، ويستوي من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد. فدخول لا في النفي لتأكيد معناه لقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) (١). وقال ابن عطية : دخول لا إنما هو على هيئة التكرار ، كأنه قال : ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات ، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ، ودل مذكور الكلام على متروكه. انتهى. وما ذكر غير محتاج إلى تقديره ، لأنه إذا نفى استواء الظلمات والنور ، فأي فائدة في تقدير نفي استوائهما ثانيا وادعاء محذوفين؟ وأنت تقول : ما قام زيد ولا عمرو ، فتؤكد بلا معنى النفي ، فكذلك هذا. وقرأ زادان عن الكسائي : وما تستوي الأحياء ، بتاء التأنيث ؛ والجمهور : بالياء ، وترتيب هذه المنفي عنها الاستواء في غاية الفصاحة. وذكر الأعمى والبصير مثلا للمؤمن والكافر ، ثم البصير. ولو كان حديد النظر لا يبصر إلا في ضوء ، فذكر ما هو فيه الكافر من ظلمة الكفر ، وما هو فيه المؤمن من نور الإيمان. ثم ذكر مآلهما ، وهو الظل ، وهو أن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة ، والكافر بكفره في حر وتعب.

ثم ذكر مثلا آخر في حق المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير ، إذ الأعمى قد يشارك البصير في إدراك ما ، والكافر غير مدرك إدراكا نافعا ، فهو كالميت ، ولذلك أعاد الفعل فقال : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) ، كأنه جعل مقام سؤال ، وكرر لا فيما ذكر لتأكيد المنافاة. فالظلمات تنافي النور وتضاده ، والظل والحرور كذلك ، والأعمى والبصير ليس كذلك ، لأن الشخص الواحد قد يكون بصيرا. ثم يعرض له العمى ، فلا منافاة إلا من حيث الوصف. والمنافاة بين الظل والحرور دائمة ، لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد ؛ فلما كانت المنافاة أتم ، أكد بالتكرار. وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلا للحياة ، فيصير محلا للموت. فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ، لأن هذين قد يشتركان في إدراك ما ، ولا كذلك الحي. والميت يخالف الحي في الحقيقة ، لا في الوصف ، على ما بين في الحكمة الإلهية. وقدّم الأشرف في مثلين ، وهو الظل والحر ؛ وآخر في مثلين ، وهما البصير والنور ، ولا يقال لأجل السجع ، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ ، بل فيه. وفي المعنى : والشاعر قد يقدّم ويؤخر لأجل

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٣٤.


السجع والقرآن. المعنى صحيح ، واللفظ فصيح ، وكانوا قبل المبعث في ضلالة ، فكانوا كالعمي ، وطريقهم الظلمة. فلما جاء الرسول ، واهتدى به قوم ، صاروا بصيرين ، وطريقهم النور ، وقدّم ما كان متقدّما من المتصف بالكفر ، وطريقته على ما كان متأخرا من المتصف بالإيمان وطريقته. ثم لما ذكر المآل والمرجع ، قدّم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب ، كما جاء : سبقت رحمتي غضبي ، فقدّم الظل على الحرور.

ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى ، وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ) : الذين آمنوا بما أنزل الله ، (وَلَا الْأَمْواتُ) : الذين تليت عليهم الآيات البينات ، ولم ينتفعوا بها. وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن ، فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافر. وأفرد الأعمى والبصير ، لأنه قابل الجنس بالجنس ، إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء ، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد. فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به ، لا بين الأفراد. وجمعت الظلمات ، لأن طرق الكفر متعدّدة ؛ وأفرد النور ، لأن التوحيد والحق واحد ، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال : الظلمات لا تجد فيها ما يساوي هذا النور. وأما الأحياء والأموات ، فالتفاوت بينهما أكثر ، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا ، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات ، سواء قابلت الجنس بالجنس ، أم قابلت الفرد بالفرد. انتهى. من كلام أبي عبد الله الرازي ، وفيه بعض تلخيص.

ثم سلى رسوله بقوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) : أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا ، وكنى بالإسماع عن الذي تكون عنه الإجابة للإيمان. ولما ذكر أنه (ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) ، قال : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) : أي هؤلاء ، من عدم إصغائهم إلى سماع الحق ، بمنزلة من هم قد ماتوا فأقاموا في قبورهم. فكما أن من مات لا يمكن أن يقبل منك قول الحق ، فكذلك هؤلاء ، لأنهم أموات القلوب. وقرأ الأشهب ، والحسن بمسمع من ، على الإضافة ؛ والجمهور : بالتنوين. (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) : أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر. فإن كان المنذر ممن أراد الله هدايته سمع واهتدى ، وإن كان ممن أراد الله ضلاله فما عليك ، لأنه تعالى هو الذي يهدي ويضل. و (بِالْحَقِ) : حال من الفاعل ، أي محق. أو من المفعول ، أي محقا ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي إرسالا بالحق ، أي مصحوبا. قال الزمخشري : أو صلة بشير ونذير ، فنذير على بشير بالوعد الحق ؛ ونذير بالوعيد. انتهى. ولا يمكن أن يتعلق بالحق هذا بشير ونذير معا ، بل ينبغي أن يتأول كلامه


على أنه أراد أن ثم محذوفا ، والتقدير : بالوعد الحق بشيرا ، وبالوعيد الحق نذيرا ، فحذف المقابل لدلالة مقابله عليه.

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ، الأمة : الجماعة الكثيرة ، والمعنى : أن الدعاء إلى الله لم ينقطع عن كل أمة. أما بمباشرة من أنبيائهم وما ينقل إلى وقت بعثه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناه لم يباشرهم ولا آباؤهم القريبين ، وأما أن النذارة انقطعت فلا. ولما شرعت آثار النذرات تندرس ، بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات ، فإن ذلك على حسب العرض لأنه واقع ، ولا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله وعبارته. واكتفى بذكر نذير عن بشير ، لأنها مشفوعة بها في قوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) ، فدل ذلك على أنه مراد ، وحذف للدلالة عليه. (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) : مسلاة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجمل في أواخر آل عمران. وقوله : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ، توعد لقريش بما جرى لمكذبي رسلهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ).

لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها ، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال : (أَلَمْ تَرَ) ، وهذا الاستفهام تقريري ، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا. والخطاب للسامع ، وتر من رؤية القلب ، لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل ، وإن كان إنزال المطر مشاهدا بالعين ، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها. وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله : (فَأَخْرَجْنا) ، لما في ذلك من الفخامة ، إذ هو مسند للمعظم المتكلم. ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة


الإخراج ، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم ، وما دونه بضمير الغائب. والظاهر أن الألوان ، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك ، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ. وقرأ الجمهور : (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) ، على حد اختلف ألوانها. وقرأ زيد بن علي : مختلفة ألوانها ، على حد اختلفت ألوانها ، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء ، وأن لا تلحق. وقرأ الجمهور : (جُدَدٌ) ، بضم الجيم وفتح الدال ، جمع جدة. قال ابن بحر : قطع من قولك : جددت الشيء : قطعته. وقرأ الزهري : كقراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح : جمع جدة ، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها. وعنه أيضا ، بضم الجيم والدال : جمع جديدة وجدد وجدائد ، كما يقال في الاسم : سفينة وسفن وسفائن. قال أبو ذؤيب :

جون السراة أم جدائد أربع

وعنه أيضا : بفتح الجيم والدال ، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى ، ولا صححه أثرا. وقال غيره : هو الطريق الواضح المبين ، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقال أبو عبيدة : يقال جدد في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية. وقال صاحب اللوامح : جدد جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان. انتهى. وقال : مختلف ألوانها ، لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف ، فأبيض لا يشبه أبيض ، وأحمر لا يشبه أحمر ، وإن اشتركا في القدر المشترك ، لكنه مشكل. والظاهر عطف (وَغَرابِيبُ) على (حُمْرٌ) ، عطف ذي لون على ذي لون. وقال الزمخشري : معطوف على (بِيضٌ) أو على (جُدَدٌ) ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد. وقال بعد ذلك : ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) ، بمعنى : ذو جدد بيض وحمر وسود ، حتى تؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال : (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها). (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) يعني : ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرأ ابن السميفع : ألوانها. انتهى.

والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب ، وهو الشديد السواد ، لم يذكر فيه مختلف ألوانه ، لأنه من حيث جعله شديد السواد ، وهو المبالغ في غاية السواد ، لم يكن له ألوان ، بل هذا لون واحد ، بخلاف البيض والحمر ، فإنها مختلفة. والظاهر أن قوله : (بِيضٌ وَحُمْرٌ) ليسا مجموعين بجدة واحدة ، بل المعنى : جدد بيض ، وجدد حمر ، وجدد غرابيب. ويقال :


أسود حلكوك ، وأسود غربيب ، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعا. فقال ابن عطية : قدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر ، وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيرا على هذا. وقال الزمخشري : الغربيب تأكيد للاسود ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد ، كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق ، وما أشبه ذلك ؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله ، فيكون الذي بعده تفسيرا لما أضمر ، كقول النابغة :

والمؤمن العائذات الطير

وإنما يفعل لزيادة التوكيد ، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعا. انتهى. وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد. ومن النحاة من منع ذلك ، وهو اختيار ابن مالك. وقيل : هو على التقديم والتأخير ، أي سود غرابيب. وقيل : سود بدل من غرابيب ، وهذا أحسن ، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدا ، ومنه ما جاء في الحديث : «أن الله يبغض الشيخ الغريب» ، يعني الذي يخضب بالسواد ، وقال الشاعر :

العين طامحة واليد سابحة

والرجل لائحة والوجه غربيب

وقال آخر :

ومن تعاجيب خلق الله غالية

البعض منها ملاحيّ وغربيب

وقرأ الجمهور : (وَالدَّوَابِ) ، مشدد الباء ؛ والزهري : بتخفيفها ، كراهية التضعيف ، إذ فيه التقاء الساكنين. كما همز بعضهم (وَلَا الضَّالِّينَ) (١) ، فرارا من التقاء الساكنين ، فحذف هنا آخر المضعفين وحرك أول الساكنين. ومختلفة ، صفة لمحذوف ، أي خلق مختلف ألوانه كذلك ، أي كاختلاف الثمرات والجبال ؛ فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله ، والوقف عليه حسن. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب ، كأنه قال : كما جاءت القدرة في هذا كله.

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) : أي المخلصون لهذه العبر ، الناظرون فيها. انتهى. وهذا الاحتمال لا يصح ، لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق بهذا المجرور قبلها ، ولو خرج مخرج السبب ، لكان التركيب : كذلك يخشى الله من عباده ، أي لذلك الاعتبار ،

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٧.


والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله. ولكن التركيب جاء بإنما ، وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها ، والعلماء هم الذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه ، فعظموه وقدروه حق قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا ، ومن كان علمه به أقل كان آمن ، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية. وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق ، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. ومن ادعى أن إنما للحصر قال : المعنى ما يخشى الله إلا العلماء ، فغيرهم لا يخشاه ، وهو قول الزمخشري. وقال ابن عطية : وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر ، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضا دونه ، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه. انتهى.

وجاءت هذه الجملة بعد قوله : (أَلَمْ تَرَ) ، إذ ظاهره خطاب للرسول ، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته ، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ، وما يستدل به عليه وعلى صفاته ، فكأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته. وقرأ الجمهور : بنصب الجلالة ورفع العلماء. وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك ، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم ، لأن من خشي وهاب أجل وعظم من خشيه وهاب ، ولعل ذلك لا يصح عنهما. وقد رأينا كتبا في الشواذ ، ولم يذكروا هذه القراءة ، وإنما ذكرها الزمخشري ، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) : تعليل للخشية ، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم ، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ) : ظاهره يقرأون ، (كِتابَ اللهِ) : أي يداومون تلاوته. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية القراء ، ويتبعون كتاب الله ، فيعملون بما فيه ؛ وعن الكلبي : يأخذون بما فيه. وقال السدي : هم أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورضي عنهم وقال : «عطاءهم المؤمنون». ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية ، وهي عمل القلب ، ذكر أنهم يتلون كتاب الله ، وهو عمل اللسان. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) : وهو عمل الجوارح ، وينفقون : وهو العمل المالي. وإقامة الصلاة والإنفاق : يقصدون بذلك وجه الله ، لا للرياء والسمعة. (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) : لن تكسد ، ولا يتعذر الربح فيها ، بل ينفق عند الله. (لِيُوَفِّيَهُمْ) : متعلق بيرجون ، أو بلن تبور ، أو بمضمر تقديره : فعلوا ذلك ، أقوال. وقال الزمخشري : وإن شئت فقلت : يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم ، أي فعلوا جميع ذلك لهذا الغرض. وخبر إن قوله : (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) لأعمالهم ، والشكر مجاز عن


الإثابة. انتهى. وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم ، وزيادته من فضله. قال أبو وائل : بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم. وقال الضحاك : بتفسيح القلوب ، وفي الحديث : «بتضعيف حسناتهم». وقيل : بالنظر إلى وجهه. والكتاب : هو القرآن ، ومن : للتبيين أو الجنس أو التبعيض ، تخريجات للزمخشري. و (مُصَدِّقاً) : حال مؤكدة لما (بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب الإلهية : التوراة والإنجيل والزبور وغيره ، وفيه إشارة إلى كونه وحيا ، لأنه عليه‌السلام لم يكن قارئا كاتبا ، وأتى ببيان ما في كتب الله ، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى. (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) : عالم بدقائق الأشياء وبواطنها ، بصير بما ظهر منها ، وحيث أهلك لوحيه ، واختارك برسالته وكتابه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) ، وثم قيل : بمعنى الواو ، وقيل : للمهلة ، إما في الزمان ، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه. والكتاب فيه قولان ، أحدهما : أن المعنى : أنزلنا الكتب الإلهية ، والكتاب على هذا اسم جنس. والمصطفون ، على ما يأتي بيانه أن المعنى : الأنبياء وأتباعهم ، قاله الحسن. وقال ابن عباس : هم هذه الأمة ، أورثت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كل كتاب أنزله الله. وقال ابن جرير : أورثهم الإيمان ، فالكتب تأمر باتباع القرآن ، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها ، يدل عليه : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ) ، ثم أتبعه بقوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) ، فعلمنا أنهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ كان معنى الميراث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته. فإذا قلنا : هم الأنبياء وأتباعهم ، كان المعنى : أورثنا كل كتاب أنزل على نبي ، ذلك النبي وأتباعه. والقول الثاني : أن الكتاب هو القرآن ، والمصطفون أمة الرسول ، ومعنى أورثنا ، قال مجاهد : أعطينا ، لأن الميراث عطاء. ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام الثلاثة ، قال مكي : فقيل هم المذكورون في الواقعة. فالسابق بالخيرات هو المقرب ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة ، وهو قول يروى معناه عن عكرمة والحسن وقتادة ، قالوا : الضمير في منهم عائد على العباد. فالظالم لنفسه الكافر والمنافق ، والمقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق ، وقالوا : هو نظير ما في الواقعة. والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول ، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذبا ضالا لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله ، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين. قال عثمان بن عفان : سابقنا أهل جهاد ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جمعة ولا جماعة. وقال معاذ : الظالم لنفسه : الذي مات على كبيرة لم


يتب منها ، والمقتصد : من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها ، والسابق : من مات نائبا عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك. وقيل : الظالم لنفسه : العاصي المسرف ، والمقتصد : متقي الكبائر ، والسابق : المتقي على الإطلاق. وقال الحسن : الظالم : من خفت حسناته ، والمقتصد : من استوت ، والسابق : من رجحت. وقال الزمخشري : قسمهم إلى ظالم مجرم ، وهو المرجأ لأمر الله ، ومقتصد ، وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا ؛ وسابق ، من السابقين. انتهى. وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولا في هؤلاء الأصناف الثلاثة. وقرأ أبو عمران الحوفي ، وعمر بن أبي شجاع ، ويعقوب في رواية ، والقراءة عن أبي عمرو : سباق ؛ والجمهور. سابق ، قيل : وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله. وقال الزمخشري : للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم ، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل. انتهى. (بِإِذْنِ اللهِ) : بتيسيره وتمكينه ، أي أن سبقه ليس من جهة ذاته ، بل ذلك منه تعالى. والظاهر أن الإشارة بذلك الى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة.

و (جَنَّاتُ) على هذا مبتدأ ، و (يَدْخُلُونَها) الخبر. وجنات ، قرأة الجمهور جمعا بالرفع ، ويكون ذلك إخبارا بمقدار أولئك المصطفين. وقال الزمخشري ، وابن عطية : (جَنَّاتُ) بدل من (الْفَضْلُ). قال الزمخشري : فإن قلت : فكيف جعلت (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدلا من (الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب ، فأبدلت عنه جنات عدن. انتهى. ويدل على أنه مبتدأ قراءة الجحدري وهارون ، عن عاصم. جنات ، منصوبا على الاشتغال ، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها. وقرأ رزين ، وحبيش ، والزهري : جنة على الأفراد. وقرأ أبو عمرو : يدخلونها مبنيا للمفعول ، ورويت عن ابن كثير والجمهور مبنيا للفاعل. والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائدا على الأصناف الثلاثة ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وأبي الدرداء ، وعقبة بن عامر ، وأبي سعيد ، وعائشة ، ومحمد بن الحنيفة ، وجعفر الصادق ، وأبي إسحاق السبيعي ، وكعب الأحبار. وقرأ عمر هذه الآية ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له». ومن جعل ثلاثة الأصناف هي التي في الواقعة ، لأن الضمير في يدخلونها عائد عنده على المقتصد والسابق. وقال الزمخشري : هو عائد على السابق فقط ، ولذلك جعل ذلك إشارة إلى السبق بعد التقسيم ، فذكر ثوابهم. والسكوت عن الآخرين ما فيه من


وجوب الحذر ، فليحذر المقتصد ، وليهلك الظالم لنفسه حذرا ، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله ، ولا يغتر بما رواه عمر رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له» ، فإن شرط ذلك صحة التوبة ، عسى الله أن يتوب عليهم. وقوله : إما يعذبهم ، وإما يتوب عليهم ، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخداع. انتهى ، وهو على طريق المعتزلة. وقرأ الجمهور : (يُحَلَّوْنَ) بضم الياء وفتح الحاء وشد اللام ، مبنيا للمفعول. وقرىء : بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام ، من حليت المرأة فهي حال ، إذا لبست الحلي. ويقال : جيد حال ، إذا كان فيه الحلي ، وتقدم في سورة الحج الكلام على (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ).

وقرأ الجمهور : (الْحَزَنَ) : بفتحتين ؛ وقرىء بضم الحاء وسكون الزاي ، ذكره جناح بن حبيش ، والحزن يعم جميع الأحزان ، وقد خص المفسرون هنا وأكثروا ، وينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل لا على التعيين ، فقال أبو الدرداء : حزن : أهوال يوم القيامة ، وما يصيب هنالك من ظلم نفسه من الغم والحزن. وقال سمرة بن جندب : معيشة الدنيا الخير ونحوه. وقال قتادة : حزن الدنيا في الحوفة أن لا يتقبل أعمالهم. وقال مقاتل : حزن الانتقال ، يقولونها إذا استقروا فيها. وقال الكلبي : خوف الشيطان. وقال ابن زيد : حزن : تظالم الآخرة ، والوقوف عن قبول الطاعات وردها ، وطول المكث على الصراط. وقال القاسم بن محمد : حزن : زوال الغم وتقلب القلب وخوف العاقبة ، وقد أكثروا حتى قال بعضهم : كراء الدار ، ومعناه أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا. (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) ، لغفور : فيه إشارة إلى دخول الظالم لنفسه الجنة ، وشكور : فيه إشارة إلى السابق وأنه كثير الحسنات. والمقامة : هي الإقامة أي الجنة ، لأنها دار إقامة دائما لا يرحل عنها. (مِنْ فَضْلِهِ) : من عطائه.

(لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) : أي تعب بدن ، (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) : أي تعب نفس ، وهو لازم عن تعب البدن. وقال قتادة : اللغوب : الوضع. وقال الزمخشري : النصب : التعب والمشقة التي تصيب المنتصب المزاول له ، وأما اللغوب : فما يلحقه من القتور بسبب النصب. فالنصب نفس المشقة والكلفة ، واللغوب نتيجته ، وما يحدث منه من الكلال والفترة. انتهى. فإن قلت : إذا انتفى السبب انتفى مسببه ، فما حكمه إذا نفي السبب وانتفى مسببه؟ وأنت تقول : ما شبعت ولا أكلت ، ولا يحسن ما أكلت ولا شبعت ، لأنه يلزم


من انتفاء الأكل انتفاء الشبع ، ولا ينعكس ، فلو جاء على هذا الأسلوب لكان التركيب لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة؟ فالجواب : أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا ، فإن أماكنها على قسمين : موضع يمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري ، وموضع يمس فيه الإعياء كالبيوت والمنازل التي فيها الصغار ، فقال : (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) ، لأنها ليست مظان المتاعب لدار الدنيا ؛ (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) : أي ولا نخرج منها إلى موضع نصب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء. وقرأ الجمهور : لغوب ، بضم اللام ، وعلي بن أبي طالب والسلمي : بفتحها. قال الفراء : هو ما يلغب به ، كالفطور والسحور ، وجاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف ، كأنه لغوب ، كقولهم : موت مائت. وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون مصدرا كالقبول ، وإن شئت جعلته صفة لمضمر ، أي أمر لغوب ، واللغوب أيضا في غير هذا للأحمق. قال أعرابي : إن فلانا لغوب جاءت كتابي فاحتقرها ، أي أحمق ، فقيل له : لم أنثته؟ فقال : أليس صحيفة؟

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ، إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً ، إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).

لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم ، ذكر حال الكافرين ، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) هم مقابلوهم ، (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) : أي لا يجهز عليهم فيموتوا ، لأنهم إذا ماتوا بطلت حواسهم فاستراحوا. وقرأ الجمهور : (فَيَمُوتُوا) ، بحذف النون منصوبا في جواب النفي ، وهو على أحد معنيي النصب ؛ فالمعنى انتفى القضاء عليهم ، فانتفى مسببه ، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون ، كقولك : ما تأتينا فتحدثنا ، أي ما يكون حديث ، انتفى الإتيان ، فانتفى الحديث. ولا يصح أن يكون على المعنى الثاني من معنى النصب ، لأن المعنى : ما تأتينا محدثا ، إنما تأتي ولا تحدث ، وليس المعنى هنا :


لا يقضى عليهم ميتين ، إنما يقضى عليهم ولا يموتون. وقرأ عيسى ، والحسن : فيموتون ، بالنون ، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى. وقال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة. انتهى. وقال أبو عثمان المازني : هو عطف ، أي فلا يموتون ، لقوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (١) ، أي فلا يعتذرون ولا يخفف عنهم نوع عذابهم. والنوع في نفسه يدخله أن يحيوا ويسعدوا. قال ابن عطية : وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل ، كقوله :

فاليوم أشرب غير مستحقب

وقرأ الجمهور : (نَجْزِي كُلَ) ، مبنيا للفاعل ، ونصب كل ؛ وأبو عمرو ، وأبو حاتم عن نافع : بالياء مبنيا للمفعول ، كل بالرفع. (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ) : بني من الصرخ يفتعل ، وأبدلت من التاء طاء ، وأصله يصرخون ، والصراخ : شدة الصياح ، قال الشاعر :

صرخت حبلى أسلمتها قبيلها

واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته ، قال الشاعر :

وطول اصطراخ المرء في بعد قعرها

وجهد شقي طال في النار ما عوى

(رَبَّنا أَخْرِجْنا) : أي قائلين ربنا أخرجنا منها ، أي من النار ، وردنا إلى الدنيا. (نَعْمَلْ صالِحاً) قال ابن عباس : نقل : لا إله إلا الله ، (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، أي من الشرك ، ونمتثل أمر الرسل ، فنؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية. وقال الزمخشري. هل اكتفى بصالحا ، كما اكتفى به في (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) (٢)؟ وما فائدة زيادة (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) على أنه يوهم أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلت : فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به ، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي ، ولأنهم كانوا يحسنون صنعا فقالوا : أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله. انتهى. روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) ، وهو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير ، وما مصدرية ظرفية ، أي مدة يذكر. وقرأ الجمهور : (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ). وقرأ الأعمش : ما يذكر فيه ، من اذكر ، بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها في الدرج. وهذه المدة ، قال الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكر ، وقيل : سبع عشرة سنة. وقال قتادة : ثمان عشرة سنة.

__________________

(١) سورة المرسلات : ٧٧ / ٣٦.

(٢) سورة السجدة : ٣٢ / ١٢.


وقال عمر بن عبد العزيز : عشرون. وقال ابن عباس : أربعون ؛ وقيل : خمسون. وقال علي : ستون ، وروي ذلك عن ابن عباس. (وَجاءَكُمُ) معطوف على (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) ، لأن معناه : قد عمرناكم ، كقوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) (١) ، وقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٢) ، ثم قال : (وَلَبِثْتَ فِينا) (٣) وقال (وَوَضَعْنا) (٤) ، لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا. والنذير جنس ، وهم الأنبياء ، كل نبي نذير أمته. وقرىء : النذر جمعا ، وقيل : النذير : الشيب ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسفيان ، ووكيع ، والحسن بن الفضل ، والفراء ، والطبري. وقيل : موت الأهل والأقارب ؛ وقيل : كمال السفل.

(فَذُوقُوا) : أي عذاب جهنم. وقرأ جناح بن حبيش : عالم منونا ، غيب نصبا ؛ والجمهور : على الإضافة. ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائما مدة كفرهم. كانت مدة يسيرة منقطعة ، فأخبر أنه تعالى (عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فلا يخفى عليه ما تنطوى عليه المصدور من المضمرات. وكان يعلم من الكافر أنه تمكن الكفر في قلبه ، بحيث لو دام إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبده. وخلائف : جمع خليفة ، وخلفاء : جمع خليف ويقال للمستخلف : خليفة وخليف ، وفي هذا تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم ، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من مكذبي الرسل وما حل بهم من الهلاك ، ولا اعتبروا بمن كفر ، ولم يتعظوا بمن تقدم. (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) : أي عقاب كفره ، والظاهر أنه خطاب عام ؛ وقيل : لأهل مكة. والمقت : أشد الاحتقار والبغض والغضب ، والخسار : خسار العمر. كان العمر رأس مال ، فإن انقضى في غير طاعة الله ، فقد خسره واستعاض به بدل الربح بما يفعل من الطاعات سخط الله وغضبه ، بحيث صاروا إلى النار.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ) ، قال الحوفي : ألف الاستفهام ذلك للتقرير ، وفي التحرير : أرأيتم : المراد منه أخبروني ، لأن الاستفهام يستدعي ذلك. يقول القائل : أرأيت ماذا فعل زيد؟ فيقول السامع : باع واشترى ، ولو لا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا. وقال ابن عطية : أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني. وقال الزمخشري : أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني ، كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعن ما استحقوا به الإلهية والشركة ، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله ، أم لهم مع الله

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٨.

(٢) سورة الشرح : ٩٤ / ١.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٨.

(٤) سورة الشرح : ٩٤ / ٢.


شركة في خلق السموات؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه؟ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب ، أو يكون الضمير في (آتَيْناهُمْ) للمشركين لقوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) (١) ، (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) (٢).

(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ) : وهم الرؤساء ، (بَعْضاً) : وهم الأتباع ، (إِلَّا غُرُوراً) وهو قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٣). انتهى. أما قوله : (أَرُونِي) بدل من (أَرَأَيْتُمْ) فلا يصح ، لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل ، وأيضا فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ، ثم البدل على نية تكرار العامل ، ولا يتأتى ذلك هنا ، لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني. وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاما شافيا. والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني ، وهي تطلب مفعولين : أحدهما منصوب ، والآخر مشتمل على استفهام. تقول العرب : أرأيت زيدا ما صنع؟ فالأول هنا هو (شُرَكاءَكُمُ) ، والثاني (ما ذا خَلَقُوا) ، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد. ويحتمل أن يكون ذلك أيضا من باب الإعمال ، لأنه توارد على ماذا خلقوا ، أرأيتم وأروني ، لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم : أما ترى ، أي ترى هاهنا ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. وقيل : يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاما حقيقيا ، وأروني أمر تعجيز للتبيين ، أي أعملتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز ، أو تتوهمون فيها قدرة؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة ، فكيف تعبدونها؟ أو توهمتم لها قدرة ، فأروني قدرتها في أي شيء هي ، أهي في الأرض؟ كما قال بعضهم : إن الله إله في السماء ، وهؤلاء آلهة في الأرض. قالوا : وفيها من الكواكب والأصنام صورها ، أم في السموات؟ كما قال بعضهم : إن السماء خلقت باستعانة الملائكة ، فالملائكة شركاء في خلقها ، وهذه الأصنام صورها ، أم قدرتها في الشفاعة لكم؟ كما قال بعضهم : إن الملائكة ما خلقوا شيئا ، ولكنهم مقربون عند الله ، فنعبدهم لتشفع لنا ، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة؟ انتهى. وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء لله ، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم ، قيل : ويحتمل شركاءكم في النار لقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٤). والظاهر أن الضمير في (آتَيْناهُمْ) عائد على الشركاء ، لتناسب الضمائر ، أي هل مع

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٣٥.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٢١.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ١٨.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٨.


ما جعل شركاء لله كتاب من الله فيه إن له شفاعة عنده؟ فإنه لا يشفع عنده إلا بإذنه. وقيل : عائد على المشركين ، ويكون التفاتا خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضا عنهم وتنزيلا لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب ، ومعناه : أن عبادة هؤلاء أما بالعقل ، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءا من الأجزاء ولا له شرك في السماء ؛ وأما بالنقل ، ولم نؤت المشركين كتابا فيه أمر بعبادة هؤلاء ، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية. انتهى. وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وحفص ، وأبان عن عاصم : (عَلى بَيِّنَةٍ) ، بالإفراد ؛ وباقي السبعة : بالجمع.

ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها ، عقبه بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده ، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) : والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنها وتسقط السموات عن علوها. وقيل : معناه أن تزولا عن الدوران. انتهى. ولا يصح أن الأرض لا تدور. ويظهر من قول ابن مسعود : أن السماء لا تدور ، وإنما تجري فيها الكواكب. وقال : كفى بها زوالا أن تدور ، ولو دارت لكانت قد زالت. وأن تزولا في موضع المفعول له ، وقدر لئلا تزولا ، وكراهة أن تزولا. وقال الزجاج : يمسك : يمنع من أن تزولا ، فيكون مفعولا ثانيا على إسقاط حرف الجر ، ويجوز أن يكون بدلا ، أي يمنع زوال السموات والأرض ، بدل اشتمال. (وَلَئِنْ زالَتا) : إن تدخل غالبا على الممكن ، فإن قدرنا دخولها على الممكن ، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال ، فإن ذلك ممكن ، ثم واقع بالخبر الصادق ، أي ولئن جاء وقت زوالهما. ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض ، أي ولئن فرضنا زوالهما ، فيكون مثل لو في المعنى. وقد قرأ ابن أبي عبلة : ولو زالتا ، وإن نافية ، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدّر قبل لام التوطئة في لئن ، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية ، كقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) (١). أي ما يتبعون ، وكقوله : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) (٢) : أي ليظلوا ، فيقدّر هذا كله مضارعا لأجل إن الشرطية ، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه. قال الزمخشري : و (إِنْ أَمْسَكَهُما) جواب القسم في (وَلَئِنْ زالَتا) ، سدّ مسدّ الجوابين. انتهى ، يعني أنه دل على الجواب المحذوف ، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح ، لأنه لو سدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٥.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٥١.


جواب الشرط ، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم. والشيء الواحد لا يكون معمولا غير معمول. ومن في (مِنْ أَحَدٍ) لتأكيد الاستغراق ، ومن في (مِنْ بَعْدِهِ) لابتداء الغاية ، أي من بعد ترك إمساكه. وسأل ابن عباس رجلا أقبل من الشام : من لقيت؟ قال كعبا ، قال : وما سمعته يقول؟ قال : إن السموات على منكب ملك ، قال : كذب كعب ، أما ترك يهوديته بعد؟ ثم قرأ هذه الآية. وقال ابن مسعود لجندب البجلي ، وكان رجل : أي كعب الأحبار في كلام آخره ما تمكنت اليهودية في قلب وكادت أن تفارقه. وقالت طائفة : اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول ، والأرض كذلك ، لإشراك الكفرة ، فيمسكها حكما منه عن المشركين وتربصا ليغفر لمن آمن منهم ، كما قال في آخر آية أخرى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (١) الآية. وقال الزمخشري : (حَلِيماً غَفُوراً) ، غير معاجل بالعقوبة ، حيث يمسكها ، وكانتا جديرتين بأن تهدهد العظم كلمة الشرك ، كما قال (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (٢) الآية.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً ، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً ، وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً).

الضمير في (وَأَقْسَمُوا) لقريش. ولما بين إنكارهم للتوحيد ، بين تكذيبهم للرسل. قيل : وكانوا يلعنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم ، وقالوا : لئن أتانا رسول (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) من إحدى الأمم. فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كذبوه. (لَئِنْ جاءَهُمْ) : حكاية لمعنى كلامهم لا للفظهم ، إذ لو كان اللفظ ، لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم ، أي من واحدة مهتدية من الأمم ، أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها ، كما قالوا : هو أحد الأحدين ، وهو أحد الأحد ، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له ، وقال الشاعر :

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٩٠.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٩٠.


حتى استشاروا في أحد الأحد

شاهد يرادا سلاح معد

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس ، وهو الظاهر. وقال مقاتل : هو انشقاق القمر. (ما زادَهُمْ) : أي ما زادهم هو أو مجيئه. (إِلَّا نُفُوراً) : بعدا من الحق وهربا منه. وإسناد الزيادة إليه مجاز ، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفورا ، كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١) ، وصاروا أضل مما كانوا. وجواب لما : (ما زادَهُمْ) ، وفيه دليل واضح على حرفية لما لا ظرفيتها ، إذ لو كانت ظرفا ، لم يجز أن يتقدّم على عاملها المنفي بما ، وقد ذكرنا ذلك في قوله : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ) (٢) ، وفي قوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) (٣). والظاهر أن (اسْتِكْباراً) مفعول من أجله ، أي سبب النفور وهو الاستكبار ، (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) معطوف على (اسْتِكْباراً) ، فهو مفعول من أجله أيضا ، أي الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار ؛ و (الْمَكْرُ السَّيِّئُ) ، وهو الخداع الذي ترومونه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكيد له. وقال قتادة : المكر السيء هو الشرك. وقيل : (اسْتِكْباراً) بدل من (نُفُوراً) ، وقاله الأخفش. وقيل : حال ، يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، ومكر السيء من إضافة الموصوف إلى صفته ، ولذلك جاء على الأصل : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ). وقيل : يجوز أن يكون (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) معطوفا على (نُفُوراً). وقرأ الجمهور : ومكر السيء ، بكسر الهمزة ؛ والأعمش ، وحمزة : بإسكانها ، فإما إجراء للوصل مجرى الوقف ، وإما إسكانا لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل ، كقوله : لنا إبلان. وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن. قال أبو جعفر : وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه. وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر ، لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني ، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا ، وقال : إنما كان يقف على من أدّى عنه ، والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأوّل لأنها ضمة بين كسرتين. وقال الزجاج أيضا : قراءة حمزة ومكر السيء موقوفا عند الحذاق بياءين لحن لا يجوز ، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار. وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد ، والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والاضطرار ، والوصل بنية الوقف ، قال : فإذا ساغ ما ذكرناه في هذه القراءة

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٥.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ١٤.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٦٨.


من التأويل ، لم يسغ أن يقال لحن. وقال ابن القشيري : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرىء به فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال لحن. وقال الزمخشري : لعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ، ثم ابتدأ (وَلا يَحِيقُ). وروي عن ابن كثير : ومكر السيء ، بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة ، وهو مقلوب السيء المخفف من السي ، كما قال الشاعر :

ولا يجزون من حسن بسيّ

ولا يجزون من غلظ بلين

وقرأ ابن مسعود : ومكرا سيئا ، عطف نكرة على نكرة ؛ (وَلا يَحِيقُ) : أي يحيط ويحل ، ولا يستعمل إلا في المكروه. وقرىء : يحيق بالضم ، أي بضم الياء ؛ المكر السيء : بالنصب ، ولا يحيق الله إلا بأهله ، أما في الدنيا فعاقبة ذلك على أهله. وقال أبو عبد الله الرازي : فإن قلت : كثيرا نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر ، والآية تدل على عدم ذلك. فالجواب من وجوه : أحدها : أن المكر في الآية هو المكر بالرسول من العزم على القتل والإخراج ، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر. وثانيها : أنه عامّ ، وهو الأصح ، فإنه عليه‌السلام نهى عن المكر وقال : «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا ، فإنه تعالى يقول : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلا فلا يزد نقصا». وثالثها : أن الأمور بعواقبها ، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ، ففي الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك. انتهى.

وقال كعب لا بن عباس في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها» ، فقال له ابن عباس : إنا وجدنا هذا في كتاب الله ، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). انتهى.

وفي أمثال العرب «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا». و (سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) : إنزال العذاب على الذين كفروا برسلهم من الأمم ، وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم. وسنة الأولين أضاف فيه المصدر. وفي (لِسُنَّتِ اللهِ) إضافة إلى الفاعل ، فأضيفت أولا إليهم لأنها سنة بهم ، وثانيا إليه لأنه هو الذي سنها. وبين تعالى الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها بغيرها ولا يحولها إلى غير أهلها ، وإن كان ذلك كائن لا محالة. واستشهد عليهم مما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم ، في رحلتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم وديارهم ، كديار ثمود ونحوها ، وتقدّم الكلام على نظير هذه


الجملة في سورة الروم. وهناك (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (١) : استئناف إخبار عن ما كانوا عليه ، وهنا : (وَكانُوا) : أي وقد كانوا ، فالجملة حال ، فهما مقصدان. (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) : أي ليفوته ويسبقه ، (مِنْ شَيْءٍ) : أي شيء ، و (مِنْ) لاستغراق الأشياء (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) : فبعلمه يعلم جميع الأشياء ، فلا يغيب عن علمه شيء ، وبقدرته لا يتعذر عليه شيء.

ثم ذكر تعالى حلمه تعالى على عباده في تعجيل العقوبة فقال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) : أي من الشرك وتكذيب الرسل ، وهو المعنى في الآية التي في النحل ، وهو قوله : (بِظُلْمِهِمْ) (٢) ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الآية في النحل ، وهناك (عَلَيْها) (٣) ، وهنا على (ظَهْرِها) ، والضمير عائد على الأرض ، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام ، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به ، وهو قوله : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ). ولما كانت حاملة لمن عليها ، استعير لها الظهر ، كالدابة الحاملة للأثقال ، ولأنه أيضا هو الظاهر بخلاف باطنها. فإنه (كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) : توعد للمكذبين ، أي فيجازيهم بأعمالهم.

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٩.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٦١.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٦١.


سورة يس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ


(٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا


أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ


(٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)

قمح البعير رأسه : رفعه أثر شرب الماء ، ويأتي الكلام فيه مستوفى. العرجون : عود العذق من بين الشمراخ إلى منبته من النخلة. وقال الزجاج : هو فعلون من الانعراج ، وهو الانعطاف. الجدث : القبر ، وسمع فيه جدف بإبدال الثاء فاء ، كما قالوا : فم في ثم ، وكما أبدلوا من الفاء ثاء ، قالوا في معفور معثور ، وهو ضرب من الكمأة. المسخ : تحويل من صورة إلى صورة منكرة. الرميم : البالي المفتت.

(يس ، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ، وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ).

هذه السورة مكية ، إلا أن فرقة زعمت أن قوله : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ، و (آثارَهُمْ) ، نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول ، وليس زعما صحيحا. وقيل : إلا قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) الآية.


وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة ، قال ابن جبير هنا : إنه اسم من أسماء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودليله (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). قال السيد الحموي :

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة

على المودة إلا آل ياسينا

وقال ابن عباس : معناه يا إنسان بالحبشية ، وعنه هو في لغة طيء ، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ، ويجمعونه على أياسين ، فهذا منه. وقالت فرقة : يا حرف نداء ، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه. وقال الزمخشري : إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيء ، فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين ، فكثر النداء على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره ، كما قالوا في القسم : م الله في أيمن الله. انتهى. والذي نقل عن العرب في تصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف ، فدل على أن أصله أنيسان ، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ، ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين ، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين ، فلا يجوز ذلك ، لا أن يبنى على الضم ، ولا يبقى موقوفا ، لأنه منادى مقبل عليه ، مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ، ويمتنع ذلك في حق النبوة. وقوله : كما قالوا في القسم م الله في أيمن الله ، هذا قول. ومن النحويين من يقول : إن م حرف قسم وليس مبقى من أيمن. وقرىء : بفتح الياء وإمالتها محضا ، وبين اللفظين. وقرأ الجمهور : بسكون النون مدغمة في الواو ؛ ومن السبعة : الكسائي ، وأبو بكر ، وورش ، وابن عامر : مظهرة عند باقي السبعة. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى : بفتح النون. وقال قتادة : يس قسم. قال أبو حاتم : فقياس هذا القول فتح النون ، كما تقول : الله لأفعلن كذا. وقال الزجاج : النصب ، كأنه قال : اتل يس ، وهذا على مذهب سيبويه أنه اسم للسورة. وقرأ الكلبي : بضم النون ، وقال هي بلغة طيء : يا إنسان. وقرأ السماك ، وابن أبي إسحاق أيضا : بكسرها ؛ قيل : والحركة لالتقاء الساكنين ، فالفتح كائن طلبا للتخفيف والضم كحيث ، والكسر على أصل التقائهما. وإذا قيل أنه قسم ، فيجوز أن يكون معربا بالنصب على ما قال أبو حاتم ، والرفع على الابتداء نحو : أمانة الله لأقومن ، والجر على إضمار حرف الجر ، وهو جائز عند الكوفيين. والحكيم : إما فعيل بمعنى مفعل ، كما تقول : عقدت العسل فهو عقيد : أي معقد ، وإما للمبالغة من حاكم ، وإما على معنى السبب ، أي ذي حكمة. (عَلى صِراطٍ) : خبر ثان ، أو في موضع الحال منه عليه‌السلام ، أو من المرسلين ، أو متعلق بالمرسلين. والصراط المستقيم : شريعة الإسلام.

وقرأ طلحة ، والأشهب ، وعيسى : بخلاف عنهما ؛ وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي :


تنزيل ، بالنصب على المصدر ؛ وباقي السبعة ، وأبو بكر ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش : بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو تنزيل ؛ وأبو حيوة ، واليزيدي ، والقورصي عن أبي جعفر ، وشيبة ؛ بالخفض إما على البدل من القرآن ، وإما على الوصف بالمصدر. (لِتُنْذِرَ) : متعلق بتنزيل أو بأرسلنا مضمرة. (ما أُنْذِرَ) ، قال عكرمة : بمعنى الذي ، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب ، فما مفعول ثان ، كقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (١). قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ، والآباء على هذا هم الأقدمون من ولد إسماعيل ، وكانت النذارة فيهم. و (فَهُمْ) على هذا التأويل بمعنى فإنهم ، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة ، فتتعلق بقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (لِتُنْذِرَ) ، كما تقول : أرسلتك إلى فلان لتنذره ، فإنه غافل ، أو فهو غافل. وقال قتادة : ما نافية ، أي أن آباءهم لم ينذروا ، فآباؤهم على هذا هم القربيون منهم ، وما أنذر في موضع الصفة ، أي غير منذر آباؤهم ، وفهم غافلون متعلق بالنفي ، أي لم ينذروا فهم غافلون ، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) : المشهور أن القول (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢). وقيل : لقد سبق في علمه وجوب العذاب. وقيل : حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه ؛ فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك. والظاهر أن قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) الآية هو حقيقة لا استعارة. لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ، أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. قال ابن عطية : وقوله (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) يضعف هذا ، لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله. انتهى ، ولا يضعف هذا. ألا ترى إلى قوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً) (٣) ، وقوله : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) (٤)؟ وإما أن يكون قوله : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥) ، كناية عن إدراكه ما يؤول إليه ، حتى كأنه يبصره. وقال الجمهور : ذلك استعارة. قال ابن عباس ، وابن إسحاق : استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء ، جعل الله هذا لهم مثلا في كفه إياهم عنه ، ومنعهم من أذاه حين بيتوه. وقال

__________________

(١) سورة النبأ : ٧٨ / ٤٠.

(٢) سورة هود : ١١ / ١١٩.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ١٢٥.

(٥) سورة ق : ٥٠ / ٢٢.


الضحاك ، والفراء : استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله ، كما قال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) (١) وقال عكرمة : نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم ، وفي غير ذلك من المواطن ، فمنعه الله ؛ وهذا قريب من قول ابن عباس ، فروى أن أبا جهل حمل حجرا ليدفع به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يصلي ، فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق ، فما فكوه إلا بجهد ، فأخذ آخر ، فلما دنا من الرسول ، طمس الله بصره فلم يره ، فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه ، فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة. ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل ، فنسب ذلك إلى الجمع. وقالت فرقة : استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه. قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ، لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يؤمنون ، لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلولين. انتهى. وقال الزمخشري : مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا يبصرون ، إنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال. ألا ترى إلى قول أهل السنة استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان؟ وقول الزمخشري مثل تصميمهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله. والغل ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر ، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل. والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال ، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها. قال ابن عطية : هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان ، والذقن مجتمع اللحيين ، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء ، وذلك هو الإقماح ، وهو نحو الأقناع في الهيئة. وقال الزمخشري : الأغلال وأصله إلى الأذقان مكزوزة إليها ، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن ، فلا تخليه يطاطىء رأسه ويوطىء قذاله ، فلا يزال مقمحا. انتهى. وقال الفراء : القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه. وقال الزجاج نحوه قال : يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو. وقال أبو عبيدة : قمح قموحا : رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب ، والجمع قماح ، ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها :

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٩.


ونحن على جوانبها قعود

نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود. وقال الزجاج : للكانونين شهرا قماح ، لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده ، وأنشد أبو زيد بيت الهذلي :

فتى ما ابن الأعز إذا شتونا

وحب الزاد في شهري قماح

رواه بضم القاف ، وابن السكيت بكسرها ، وهما لغتان. وسميا شهري قماح لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه. وقال الحسن : القامح : الطافح ببصره إلى موضع قدمه. وقال مجاهد : الرافع الرأس ، الواضح يده على فيه. وقال الطبري : الضمير في فهي عائد على الأيدي ، وإن لم يتقدم لها ذكر ، لوضوح مكانها من المعنى ، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين ، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق. وأرى علي ، كرم الله وجهه ، الناس الأقماح ، فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه. وقال الزمخشري : جعل الأقماح نتيجة قوله : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ). ولو كان الضمير للأيدي ، لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهرا. على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج. انتهى. وقرأ عبد الله ، وعكرمة ، والنخعي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وحمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، وحفص : (سَدًّا) بفتح السين فيهما ؛ والجمهور : بالضم ، وتقدم شرح السد في الكهف. وقرأ الجمهور : (فَأَغْشَيْناهُمْ) بالغين منقوطة ؛ وابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن يعمر ، وعكرمة ، والنخعي ، وابن سيرين ، والحسن ، وأبو رجاء ، وزيد بن علي ، ويزيد البربري ، ويزيد بن المهلب ، وأبو حنيفة ، وابن مقسم : بالعين من العشاء ، وهو ضعف البصر ، جعلنا عليها غشاوة. (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) الآية : تقدّم الكلام على نظيرها تفسيرا وإعرابا في أول البقرة.

(إِنَّما تُنْذِرُ) : تقدم (لِتُنْذِرَ قَوْماً) ، لكنه لما كان محتوما عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) ، لم يجد الإنذار لانتفاء منفعته فقال : (إِنَّما تُنْذِرُ) : أي إنذارا ينفع من اتبع الذكر ، وهو القرآن. قال قتادة : أو الوعظ. (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ) : أي المتصف بالرحمة ، مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء ، لكنه مع برحمته هو يخشاه خوفا من أن يسلبه ما أنعم به عليه بالغيب ، أي بالخلوة عند معيب


الإنسان عن غيوب البشر. ولما أحدث فيه النذارة ، بشره بمغفرة لما سلف ؛ (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) على ما أسلف من العمل الصالح ، وهو الجنة.

ولما ذكر تعالى الرسالة ، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمنا ، ذكر الحشر ، وهو أحد الأصول الثلاثة. والثالث هو توحيد ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) : أي بعد مماتهم. وأبعد الحسن والضحاك في قوله : إحياؤهم : إخراجهم من الشرك إلى الإيمان. (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ، كناية عن المجازاة : أي ونحصي ، فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء. وقرأ زر ومسروق : ويكتب ما قدموا وآثارهم بالياء مبنيا للمفعول ، وما قدموا من الأعمال. وآثارهم : خطاهم إلى المساجد. وقال : السير الحسنة والسيئة. وقيل : ما قدّموا من السيئات وآثارهم من الأعمال. وقال الزمخشري : ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها ، وما هلكوا عنه من أثر حسن ، كعلم علموه ، وكتاب صنفوه ، أو حبيس أحبسوه ، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك ، أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تحيرهم ، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه ، وكذلك كل سنة حسنة ، أو سيئة يستن بها ، ونحوه قوله عزوجل : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (١) ، من آثاره. انتهى. وقرأ الجمهور : (وَكُلَّ شَيْءٍ) بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال : بالرفع على الابتداء. والإمام المبين : اللوح المحفوظ ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد ، وقالت فرقة : أراد صحف الأعمال.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ، إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ، قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ، قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ، وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ، قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ، قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ، وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ، وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).

__________________

(١) سورة القيامة : ٨٥ / ١٣.


تقدم الكلام على (اضْرِبْ) مع المثل في قوله : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) (١) ، والقرية : أنطاكية ، فلا خلاف في قصة أصحاب القرية. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) : هم ثلاثة ، جمعهم في المجيء ، وإن اختلفوا في زمن المجيء. (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ). الظاهر من أرسلنا أنهم أنبياء أرسلهم الله ، ويدل عليه قوله المرسل إليهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا). وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله ، وهذا قول ابن عباس وكعب. وقال قتادة وغيرهم من الحواريين : بعثهم عيسى عليه‌السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه ، فافترق الحواريون في الآفاق ، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية ، وكان أهلها عباد أصنام ، صادق وصدوق ، قاله وهب وكعب الأحبار. وحكى النقاش بن سمعان : ويحنا. وقال مقاتل : تومان ويونس. (فَكَذَّبُوهُما) ، أي دعواهم إلى الله ، وأخبرا بأنهما رسولا الله ، (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) : أي قوينا وشددنا ، قاله مجاهد وابن قتيبة ، وقال : يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب ، وقال غيره : يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها ، ويقال للأرض الصلبة القرآن ، هذا على قراءة تشديد الزاي ، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو بكر ، والمفضل ، وأبان : بالتخفيف. قال أبو علي : فغلبنا. انتهى ، وذلك من قولهم من عزني ، وقوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢). وقرأ عبد الله : بالثالث ، بألف ولام ، والثالث شمعون الصفا ، قاله ابن عباس. وقال كعب ، ووهب : شلوم ؛ وقيل : يونس. وحذف مفعول فعززنا مشددا ، أي قويناهما بثالث مخففا ، فغلبناهم : أي بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ما ذكر في قصتهم ، وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله. وجاء أولا مرسلون بغير لام لأنه ابتداء إخبار ، فلا يحتاج إلى توكيد بعد المحاورة. (لَمُرْسَلُونَ) بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار ، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) ، وراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه ، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط ، وما عليهم من هداهم وضلالهم ، وفي هذا وعيد لهم. ووصف البلاغ بالمبين ، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال ، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت.

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) : أي تشاء منا. قال مقاتل : احتبس عليهم المطر. وقال آخر : أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل. قال ابن عطية : والظاهر أن تطير هؤلاء كان

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٣.


سبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس ، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى نحو ما خوطب به موسى عليه‌السلام. وقال الزمخشري : وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وقبلته طباعهم ، وتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابتهم نعمة أو بلاء قالوا : ببركة هذا وبشؤم هذا ، كما حكى الله عن القبط : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) (١) ؛ وعن مشركي مكة : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) (٢). انتهى. وعن قتادة : إن أصابنا شيء كان من أجلكم. (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة ، قاله قتادة. (عَذابٌ أَلِيمٌ) : هو الحريق.

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) : أي حظكم وما صار لكم من خير أو شر معكم ، أي من أفعالكم ، ليس هو من أجلنا بل بكفركم. وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وعمرو بن عبيد ، وزر بن حبيش : طيركم بياء ساكنة بعد الطاء. وقرأ الحسن فيما نقل : أطيركم مصدر أطير الذي أصله تطير ، فأدغمت التاء في الطاء ، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر. وقرأ الجمهور : طائركم على وزن فاعل. وقرأ الجمهور : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) بهمزتين ، الأولى همزة الاستفهام ، والثانية همزة إن الشرطية ، فخففها الكوفيون وابن عامر ، وسهلها باقي السبعة. وقرأ زر : بهمزتين مفتوحتين ، وهي قراءة أبي جعفر وطلحة ، إلا أنها البناء الثانية بين بين.

وقال الشاعر في تحقيقها :

أإن كنت داود بن أحوى مرحلا

فلست بداع لابن عمك محرما

والماجشوني ، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة المدني : بهمزة واحدة مفتوحة ؛ والحسن : بهاء مكسورة ؛ وأبو عمرو في رواية ، وزر أيضا : بمدة قبل الهمزة المفتوحة ، استثقل اجتماعهما ففضل بينهما بألف. وقرأ أبو جعفر أيضا ، والحسن أيضا ، وقتادة ، وعيسى الهمداني ، والأعمش : أين بهمزة مفتوحة وياء ساكنة ، وفتح النون ظرف مكان. وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضا. فالقراءة الأولى على معنى : إن ذكرتم تتطيرون ، بجعل المحذوف مصب الاستفهام ، على مذهب سيبويه ، وبجعله للشرط ، على مذهب يونس ؛ فإن قدرته مضارعا كان مجزوما. والقراءة الثانية على معنى : ألان ذكرتم تطيرتم ، فإن مفعول من أجله ، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة ؛ وقراءة الهمزة المكسورة وحدها ، فحرف شرط بمعنى الإخبار ، أي إن ذكرتم

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٧٨.


تطيرتم. والقراءة الثانية الأخيرة أين فيها ظرف أداة الشرط ، حذف جزاؤه للدلالة عليه وتقديره : أين ذكرتم صحبكم طائركم ، ويدل عليه قوله : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ). ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط ، وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد ، يجوز أن يكون الجواب (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ، وكان أصله : أين ذكرتم فطائركم معكم ، فلما قدم حذفت الفاء. وقرأ الجمهور : ذكرتم ، بتشديد الكاف ؛ وأبو جعفر ، وخالد بن الياس ، وطلحة ، والحسن ، وقتادة ، وأبو حيوة ، والأعمش من طريق زائدة ، والأصمعي عن نافع : بتخفيفها. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) : مجاوزون الحد في ضلالكم ، فمن ثم أتاكم الشؤم.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) اسمه حبيب ، قاله ابن عباس وأبو مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل. قيل : وهو ابن إسرائيل ، وكان قصارا ، وقيل : إسكافا ، وقيل : كان ينحت الأصنام ، ويمكن أن يكون جامعا لهذه الصنائع. و (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) : أي من أبعد مواضعها. فقيل : كان في خارج المدينة يعاني زرعا له. وقيل : كان في غار يعبد ربه. وقيل : كان مجذوما ، فميز له أقصى باب من أبوابها ، عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره. فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله قال : هل من آية؟ قالوا : نعم ، ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك ، فقال : إن هذا لعجيب! لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع ، يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا : نعم ، ربنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر ، فآمن. ودعوا ربهم ، فكشف الله ما به ، كأن لم يكن به بأس. فأقبل على التكسب ، فإذا مشى ، تصدق بكسبه ، نصف لعياله ، ونصف يطعمه. فلماهم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ). وحبيب هذا ممن آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تبع الأكبر ، وورقة بن نوفل وغيرهما ، ولم يؤمن بنبي غيره أحد إلا بعد ظهوره.

وقال ابن أبي ليلى : سباق الأمم ثلاثة ، لم يكفروا قط طرفة عين : علي بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون. وأورد الزمخشري قول ابن أبي ليلى حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذوما ، عبد الأصنام سبعين سنة ، فالله أعلم. وهنا تقدم : (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) ، وفي القصص تأخر ، وهو من التفنن في البلاغة. (رَجُلٌ يَسْعى) : يمشي على قدميه. (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ). الظاهر أنه لا يقول ذلك إلا بعد تقدم إيمانه ، كما سبق في قصة. وقيل : جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه. روي أنه تعقب أمرهم وسبره بأن قال لهم : أتطلبون أجرا على دعوتكم هذه؟ قالوا : لا ، فدعا عند


ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم ، واحتج عليهم بقوله : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) : أي وهم على هدى من الله. أمرهم باتباع المرسلين ، أي هم رسل الله إليكم فاتبعوهم ، ثم أمرهم ثانيا بجملة جامعة في الترغيب ، في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنياهم شيء ، وفي كونهم يهتدون بهداهم ، فيشتملون على خيري الدنيا والآخرة. وقد أجاز بعض النحويين في (مَنْ) أن تكون بدلا من (الْمُرْسَلِينَ) ، ظهر فيه العامل كما ظهر إذا كان حرف جر ، كقوله تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) (١). والجمهور : لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب ، بدلا ، بل يجعلون ذلك مخصوصا بحرف الجر. وإذا كان الرافع والناصب ، سمعوا ذلك بالتتبيع لا بالبدل. وفي قوله : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) ، دليل على نقص من يأخذ أجرا على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة له ، كالصلاة.

ولما أمرهم باتباع المرسلين ، أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة الله ، فأبرزه في صورة نصحه لنفسه ، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم ؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ، فوضع قوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ، موضع : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ ولذلك قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، ولو لا أنه قصد ذلك لقال : وإليه أرجع. ثم أتبع الكلام كذلك مخاطبا لنفسه فقال : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) قاصرة عن كل شيء ، لا تنفع ولا تضر؟ فإن أرادكم الله بضر ، وشفعت لكم ، لم تنفع شفاعتهم ، ولم يقدروا على إنقاذكم فيه ، أولا بانتفاء الجاه عن كون شفاعتهم لا تنفع ، ثم ثانيا بانتفاء القدر. فعبر بانتفاء الإنقاذ عنه ، إذ هو نتيجته. وفتح ياء المتكلم في يردني مع طلحة السمان ، كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب ابن خالويه طلحة بن مطرف ، وعيسى الهمداني ، وأبو جعفر ، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو. وقال الزمخشري : وقرىء إن يردني الرحمن بضر بمعنى : إن يجعلني موردا للضر. انتهى. وهذا والله أعلم رأي في كتب القراءات ، يردني بفتح الياء ، فتوهم أنها ياء المضارعة ، فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة ، فلذلك أدخل عليه همزة التعدية ، ونصب به اثنين. والذي في كتب القراء الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطأ ونطقا لالتقاء الساكنين. قال في كتاب ابن خالويه : بفتح ياء الإضافة. وقال في اللوامح : إن يردني الرحمن بالفتح ، وهو أصل الياء عند البصرية ، لكن هذه محذوفة ، يعني البصرية ، أي المثبتة بالخط البربري بالبصر ،

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٣.


لكونها مكتوبة بخلاف المحذوفة خطأ ولفظا ، فلا ترى بالبصر. (إِنِّي إِذاً) ، إن لم أعبد الذي فطرني واتخذت آلهة من دونه ، في حيرة واضحة لكل ذي عقل صحيح.

ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق ، فقال مخاطبا لقومه : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) : أي الذي كفرتم به ، (فَاسْمَعُونِ) : أي اسمعوا قولي وأطيعون ، فقد نبهتكم على الحق ، وأن العبادة لا تكون إلا لمن منه نشأتكم وإليه مرجعكم. والظاهر أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو ، وهو لقومه ، والأمر على جهة المبالغة والتنبيه ، قاله ابن عباس وكعب ووهب.

وقيل : خاطب بقوله (فَاسْمَعُونِ) الرسل ، على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم. وقيل : الخطاب في (بِرَبِّكُمْ) ، وفي (فَاسْمَعُونِ) للرسل. لما نصح قومه أخذوا يرجمونه ، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال ذلك ، أي اسمعوا إيماني واشهدوا لي به. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) : ظاهره أنه أمر حقيقي. وقيل : معناه وجبت لك الجنة ، فهو خبر بأنه قد استحق دخولها ، ولا يكون إلا بعد البعث ، ولم يأت في القرآن أنه قتل. فقال الحسن : لما أراد قومه قتله ، رفعه الله إلى السماء ، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السموات وهلاكه الجنة ، فإذا أعاد الله الجنة دخلها. وقيل : لما قال ذلك ، رفعوه إلى الملك ، فطول معهم الكلام ليشغلهم عن قتل الرسل إلى أن صرح لهم بإيمانه ، فوثبوا عليه فقتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قلبه من دبره وألقي في بئر ، وهي الرس. وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : «اللهم اهد قومي» ، حتى مات. وقال الكلبي : رموه في حفرة ، وردوا التراب عليه فمات. وعن الحسن : حرقوه حرقا ، وعلقوه في باب المدينة ، وقبره في سور أنطاكية. وقيل : نشروه بالمناشير حتى خرج من بين رجليه. وعن قتادة : أدخله الله الجنة ، وهو فيها حي يرزق. أراد قوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ) (١) : وفي النسخة التي طالعنا من تفسير ابن عطية ما نصه. وقرأ الجمهور : فاسمعون بفتح النون. قال أبو حاتم : هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر ، فإما حذف النون ، وإما كسرها على جهة البناء. انتهى ، يعني ياء المتكلم والنون للوقاية. وقوله : وقرأ الجمهور وهم فاحش ، ولا يكون ، والله أعلم ، إلا من الناسخ ؛ بل القراء مجمعون فيما أعلم على كسر النون ، سبعتهم وشواذهم ، إلا ما روي عن عصمة عن عاصم من فتح النون ، ذكره في الكامل مؤلف أبي القاسم الهذلي ، ولعل ذلك وهم من عصمة. وقال ابن عطية : هنا محذوف تواترت به

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٩ ، ١٧٠.


الأحاديث والروايات ، وهو أنهم قتلوه ، فقيل له عند موته : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ، وذلك ، والله أعلم ، بأن عرض عليه مقعده منها ، وتحقق أنه من ساكنيها ، فرأى ما أقر عينه ، فلما حصل ذلك ، تمنى أن يعلم قومه بذلك. انتهى. وقوله : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) كأنه جواب لسائل عن حاله عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه فقيل : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ، ولم يأت التركيب : قيل له ، لأنه معلوم أنه المخاطب ، وتمنيه علم قومه بذلك هو مرتب على تقدير سؤال عن ما وجد من قوله عند ذلك استيفاقا ونصحا لهم ، أي لو علموا ذلك لآمنوا بالله. وفي الحديث : «نصح قومه حيا وميتا». وقيل : تمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ في أمره ، وهو على صواب ، فيندموا ويحزنهم ذلك ويبشر بذلك. وموجود في طباع النشر أن من أصاب خيرا في غير موطنه ، ودّ أن يعلم بذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم. وبلغنا أن الوزير ذنك الدين المسيري ، وكان وزيرا لملك مصر ، راح إلى قريته التي كان منها ، وهي مسير ، وهي من أصغر قرى مصر ، فقيل له في ذلك ، فقال : أردت أن يراني عجائز مسير في هذه الحالة التي أنا فيها ، قال الشاعر :

والعز مطلوب وملتمس

وأحبه ما نيل في الوطن

والظاهر أن ما في قوله : (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) مصدرية ، جوزوا أن يكون بمعني الذي ، والعائد محذوف تقديره : بالذي غفره لي ربي من الذنوب ، وليس هذا بجيد ، إذ يؤول إلى تمني علمهم بالذنوب المغفرة ، والذي يحسن تمنى علمهم بمغفرة ذنوبه وجعله من المكرمين. وأجاز الفراء أن تكون ما استفهاما. وقال الكسائي : لو صح هذا ، يعني الاستفهام ، لقال بم من غير ألف. وقال الفراء : يجوز أن يقال بما بالألف ، وأنشد فيه أبياتا. وقال الزمخشري : ويحتمل أن تكون استفهامية ، يعني بأي شيء غفر لي ربي ، يريد ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز دين الله حتى قيل : إن قولك (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) يريد ما كان منه معهم بطرح الألف أجود ، وإن كان إثباتها جائزا فقال : قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت. انتهى. والمشهور أن إثبات الألف في ما الاستفهامية ، إذا دخل عليها حرف جر ، مختص بالضرورة ، نحو قوله :

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرغ في رماد

وحذفها هو المعروف في الكلام ، نحو قوله :

على م يقول الرمح يثقل كاهلي

إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت


وقرىء : من المكرمين ، مشدد الراء مفتوح الكاف ؛ والجمهور : بإسكان الكاف وتخفيف الراء.

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ، يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ، وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ، وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ، وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ، سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ، وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).

أخبر تعالى بإهلاك قوم حبيب بصيحة واحدة صاح بهم جبريل ، وفي ذلك توعد لقريش أن يصيبهم ما أصابهم ، إذ هم المضروب لهم المثل. وأخبر تعالى أنه لم ينزل عليهم لإهلاكهم جندا من السماء ، كالحجارة والريح وغير ذلك ، وكانوا أهون عليه. وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) ، يدل على ابتداء الغاية ، أي لم يرسل إليهم رسولا ، ولا عاتبهم بعد قتله ، بل عاجلهم بالهلاك. والظاهر أن ما في قوله : (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) نافية ، فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها ، أي وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاكهم جندا من السماء ، لأنه تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض ، كما قال : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) (١) الآية. وقالت فرقة : ما اسم معطوف على جند. قال ابن عطية : أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم. انتهى ، وهو تقدير لا يصح ، لأن من في من جند زائدة. ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين : أحدهما : أن يكون قبلها نفي ، أو نهي ، أو استفهام. والثاني : أن يكون بعدها نكرة ، وإن كان كذلك ، فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة. لا يجوز : ما ضربت من رجل ولا زيد ، وإنه لا يجوز :

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٠.


ولا من زيد ، وهو قدر المعطوف بالذي ، وهو معرفة ، فلا يعطف على النكرة المجرورة بمن الزائدة. وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون ما زائدة ، أي وقد كنا منزلين ، وقوله ليس بشيء.

وقرأ : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً) ، بنصب الصيحة ، وكان ناقصة واسمها مضمر ، أي إن كانت الأخذة أو العقوبة. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ومعاذ بن الحارث القارئ : صيحة بالرفع في الموضعين على أن كانت تامة ، أي ما خدثت أو وقعت إلا صيحة ، وكان الأصل أن لا يلحق التاء ، لأنه إذا كان الفعل مسندا إلى ما بعد إلا من المؤنث ، لم تلحق العلامة للتأنيث فيقول : ما قام إلا هند ، ولا يجوز : ما قامت إلا هند ، عند أصحابنا إلا في الشعر ، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة. ومثله قراءة الحسن ، ومالك بن دينار ، وأبي رجاء ، والجحدري ، وقتادة ، وأبي حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبي بحرية : لا ترى إلا مساكنهم بالتاء ، والقراءة المشهورة بالياء ، وقول ذي الرمة :

وما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقول الآخر :

ما برئت من ريبة وذمّ

في حربنا إلا بنات العمّ

فأنكر أبو حاتم وكثير من النحويين هذه القراءة بسبب لحوق تاء التأنيث. (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) : أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة ، لم يتأخر. وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم ، كنار خمدت بعد توقدها. ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك ، هذا تقدير نداء ، مثل هذا عند سيبويه ، وهو منادى منكور على قراءة الجمهور. وقرأ أبيّ ، وابن عباس ، وعلي بن الحسين ، والضحاك ، ومجاهد ، والحسن : يا حسرة العباد ، على الإضافة ، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم ، ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم ، لما فاتهم من اتباع الرسل حين أحضروا للعذاب ؛ وطباع البشر تتأثر عند معاينة عذاب غيرهم وتتحسر عليهم.

وقرأ أبو الزناد ، وعبد الله بن ذكوان المدني ، وابن هرمز ، وابن جندب : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) ، بسكون الهاء في الحالين حمل فيه الوصل على الوقف ، ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر ، لما في الهاء من التأهه كالتأوّه ، ثم وصلوا على تلك الحال ، قاله صاحب اللوامح. وقال ابن خالويه : يا حسرة على العباد بغير تنوين ، قاله ابن عباس ، انتهى ، ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء ، كما


اجتزأ بالكسرة عن الياء فيه. وقد قرىء : يا حسرتا ، بالألف ، أي يا حسرتي ، ويكون من الله على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ، وفرط إنكاره وتعجيبه منه. والظاهر أن العباد هم مكذبو الرسل ، تحسرت عليهم الملائكة ، قاله الضحاك. وقال الضحاك أيضا : المعنى يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم. وقال أبو العالية : المراد بالعباد الرسل الثلاثة ، وكان هذا التحسر هو من الكفار ، حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم. قال ابن عطية : وقوله (ما يَأْتِيهِمْ) الآية يدفع هذا التأويل. انتهى. قال الزجاج : الحسرة أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيرا. وقيل : المنادى محذوف ، وانتصب حسرة على المصدر ، أي يا هؤلاء تحسروا حسرة. وقيل : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، لما وثب القوم لقتله. وقيل : هو من قول الرسل الثلاثة ، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل وجل بهم العذاب ، قالوا : يا حسرة على هؤلاء ، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا. انتهى. فالألف واللام للعهد إذا قلنا إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم. والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين وتلخص أن المتحسر الملائكة أو الله تعالى أو المؤمنون أو الرسل الثلاثة أو ذلك الرجل ، أقوال.

(ما يَأْتِيهِمْ) إلى آخر الآية : تمثيل لقريش ، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا). قال ابن عطية : وكم هنا خبرية ، وأنهم بدل منها ، والرؤية رؤية البصر. انتهى. فهذا لا يصح ، لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب بأهلكنا ، ولا يسوغ فيها إلا ذلك. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون أنهم بدل منها ، لأن البدل على نية تكرار العامل ، ولو سلطت أهلكنا على أنهم لم يصح. ألا ترى أنك لو قلت أهلكنا انتفاء رجوعهم ، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون ، لم يكن كلاما؟ لكن ابن عطية توهم أن يروا مفعوله كم ، فتوهم أن قولهم أنهم لا يرجعون بدل ، لأنه يسوغ أن يتسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم لا يرجعون؟ وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية. وقال الزجاج : هو بدل من الجملة ، والمعنى : ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون ، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي. وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء ، لأنه ليس بدلا صناعيا ، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو. وقال أبو البقاء : أنهم إليهم. انتهى ، وليس بشيء ، لأن كم ليس بمعمول ليروا. ونقل عن الفراء أنه يعمل يروا في الجملتين من غير إبدال ،


وقولهم في الجملتين تجوز ، لأن أنهم وما بعده ليس بجملة ، ولم يبين كيفية هذا العمل. وقال الزمخشري : (أَلَمْ يَرَوْا) : ألم يعلموا ، وهو معلق عن العمل في كم ، لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام ، إلا أن معناها نافذ في الجملة ، كما نفذ في قولك : ألم يروا أن زيدا لمنطلق؟ وأن لم تعمل في لفظه. و (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل من (أَهْلَكْنا) على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم؟ انتهى. فجعل يروا بمعنى يعلموا ، وعلقها على العمل في كم. وقوله : لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها ، كانت للاستفهام أو للخبر ، وهذا ليس على إطلاقه ، لأن العامل إذا كان حرف جر أو اسما مضافا جاز أن يعمل فيها ، نحو كم على : كم جذع بيتك؟ وأين : كم رئيس صحبت؟ وعلى : كم فقير تصدّقت؟ أرجو الثواب ، وأين : كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟ وقوله : أو للخبر الخبرية فيها لغتان : الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار واللغة الأخرى ، حكاها الأخفش ؛ يقولون فيها : ملكت كم غلام؟ أي ملكت كثيرا من الغلمان. فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير ، كذلك يجوز أن يتقدم على كم لأنها بمعناها. وقوله : لأن أصلها الاستفهام ، ليس أصلها الاستفهام ، بل كل واحدة أصل في بابها ، لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر. وقوله : إلا أن معناها نافذ في الجملة ، يعني معنى يروا نافذ في الجملة ، لأن جعلها معلقة ، وشرح يروا بيعلموا. وقوله : كما تقدم في قولك : ألم يروا أن زيدا لمنطلق؟ فإن زيد المنطلق معمول من حيث المعنى ليروا ، ولو كان عاملا من حيث اللفظ لم تدخل اللام ، وكانت أن مفتوحة ، فإن وفي خبرها اللام من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب. وقوله : و (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلا ، لا على اللفظ ولا على المعنى. أما على اللفظ فإنه زعم أن يروا معلقة ، فيكون كم استفهاما ، وهو معمول لأهلكنا ، وأهلكنا لا يتسلط على (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) ، وتقدّم لنا ذلك. وأما على المعنى ، فلا يصح أيضا ، لأنه قال تقديره ، أي على المعنى : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم؟ فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك ، فلا يكون بدل كل من كل ، ولا بعضا من الإهلاك ، ولا يكون بدل بعض من كل ، ولا يكون بدل اشتمال ، لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه ، وكذلك بدل بعض من كل ، وهذا لا يصح هنا. لا تقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم ، وفي بدل الاشتمال نحو : أعجبني الجارية ملاحتها ، وسرق زيد ثوبه ، يصح


أعجبني ملاحة الجارية ، وسرق ثوب زيد ، وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) (١) ، في سورة الأنعام. والذي تقتضيه صناعة العربية أن أنهم معمول لمحذوف ، ودل عليه المعنى ، وتقديره : قضينا أو حكمنا (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ). وقرأ ابن عباس والحسن : إنهم بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقطع الجملة عن ما قبلها من جهة الإعراب ، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا. والضمير في أنهم عائد على معنى كم ، وهم القرون ، وإليهم عائد على من أسند إليه يروا ، وهم قريش ؛ فالمعنى : أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا. وقيل : الضمير في أنهم عائد على من أسند إليه يروا ، وفي إليهم عائد على المهلكين ، والمعنى : أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة ، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم. وقرأ عبد الله : ألم يروا من أهلكنا ، وأنهم على هذا بدل اشتمال ؛ وفي قولهم : أنهم لا يرجعون ، رد على القائلين بالرجعة. وقيل لا بن عباس : إن قوما يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة ، فقال : ليس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه.

وقرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر : بتثقيل لما ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها. فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا ، وإن نافية ، أي ما كل ، أي كلهم إلا جميع لدينا ، محضرون : أي محشورون ، قاله قتادة. وقال ابن سلام : معذبون ؛ وقيل : التقدير لمن ما وليس بشيء ، ومن خفف لما جعل إن المخففة من الثقيلة ، وما زائدة ، أي إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين. وأما الكوفيون ، فإن عندهم نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت في لسان العرب بنقل الثقات ، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك. وقال أبو عبد الله الرازي : في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب ، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعا. وهما لم وما ، فتأكد النفي ؛ وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا ، فاستعمل أحدهما مكان الآخر. انتهى ، وهذا أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا ، إلا أن الفراء جعل إن المخففة من الثقيلة وما زائدة ، أي إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين. وأما الكوفيون ، فإن عندهم نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت حرف نفي ، وهو قول مردود عند النحاة ركيك ، وما تركب منه وزاد تحريفا أرك منه ، وكل بمعنى الإحاطة ، وجميع فعيل بمعنى مفعول ، ويدل على الاجتماع ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٦.


وجميع محضرون هنا على المعنى ، كما أفرد منتصر على اللفظ ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيه الفواصل.

وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإهلاك تبيينا أنه تعالى ليس من أهله يترك ، بل بعد إهلاكهم جمع وحساب وثواب وعقاب ، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) وما بعده من الآيات. وبدأ بالأرض ، لأنها مستقرهم ، حركة وسكونا ، حياة وموتا. وموت الأرض جدبها ، وإحياؤها بالغيث. والضمير في لهم عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر. و (أَحْيَيْناها) : استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية ، وكذلك نسلخ. وقيل : أحييناها في موضع الحال ، والعامل فيها آية بما فيها من معنى الإعلام ، ويكون آية خبرا مقدما ، والأرض الميتة مبتدأ ؛ فالنية بآية التأخير ، والتقدير : والأرض الميتة آية لهم محياة كقولك : قائم زيد مسرعا ، أي زيد قائم مسرعا ، ولهم متعلق بآية ، لا صفة. وقال الزمخشري : ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل ، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض ، وليل بإحيائهما ، فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال ونحوه :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

انتهى.

وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك. وأما يسبني فحال ، أي سابا لي ، وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليفه. وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة تبهج النفس والعين ، وإخراج الحب منها حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون ، لا في السماء ولا في الهواء ، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب ، وربما تاقت النفس إلى النقلة ، فالأرض يوجد منها الحب ، والشجر يوجد منه الثمر ، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر ، ولو كان من السماء لم يدر أين يغرس ولا أين يقع المطر. وقرأ جناح بن حبيش : (وَفَجَّرْنا) بالتخفيف ، والجمهور : بالتشديد. و (مِنْ ثَمَرِهِ) بفتحتين ؛ وطلحة ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي : بضمتين ؛ والأعمش : بضم الثاء وسكون الميم ؛ والضمير في ثمره عائد على الماء ، قيل : لدلالة العيون عليه ولكونه على حذف مضاف ، أي من ماء العيون ؛ وقيل :


على النخيل ، واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثمره ، أو يراد من ثمر المذكور ، وهو الجنات ، كما قال الشاعر :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

فقيل له : كيف قلت بعيون ، كأنه والذي تقدم خطوط؟ فقال أرت : كان ذاك. وقيل : عائد إلى التفجير الدال عليه وفجرنا الآية أقرب مذكور ، وعنى بثمره : فوائده ، كما تقول : ثمرة التجارة الربح. وقال الزمخشري : وأصله من ثمرنا ، كما قال : (وَجَعَلْنا) ، (وَفَجَّرْنا) ، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات ، والمعنى : ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ، ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه ، وبأن أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كد بني آدم. ويجوز أن تكون ما نافية ، على أن الثمر خلق الله ، ولم تعمله أيديه الناس ، ولا يقدرون على خلقه. وقرأ الجمهور : (وَما عَمِلَتْهُ) بالضمير ، فإن كانت ما موصولة فالضمير عائد عليها ، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر. وقرأ طلحة ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : بغير ضمير مفعول عملت على التقديرين محذوفة ، وجوز في هذه القراءة أن تكون ما مصدرية ، أي وعمل أيديهم ، وهو مصدر أريد به المعمول ، فيعود إلى معنى الموصول.

ولما عدد تعالى هذه النعم ، حض على الشكر فقال ؛ (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ، ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد ، أو يشرك به مشرك ، فذكر إنشاء الأزواج ، وهي الأنواع من جميع الأشياء ، (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) : من النخل والشجر والزرع والثمر وغير ذلك. وكل صنف زوج مختلف لونا وطمعا وشكلا وصغرا وكبرا ، (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) : ذكورا وإناثا ، (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) : أي وأنواعا مما لا يعلمون ، أعلموا بوجوده ولم يعلموا ما هو ، إذ لا يتعلق علمهم بماهيته ، أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا. وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليل على اتساع ملكه وعظم قدرته.

ولكا ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض ، وهي المكان الكلي ، ذكر الاستدلال بالليل والنهار ، وهو الزمان الكلي ؛ وبينهما مناسبة ، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر ، والزمان لا تستغني عنه الأعراض ، لأن كل عرض فهو في زمان ، ومثله مذكور في قوله :


(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (١) ، ثم قال بعده : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) (٢) الآية. وبدأ هناك بالزمان ، لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) (٣) الآية ، ثم الحشر بقوله : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) (٤) ، وهذا المقصود الحشر أولا لأن ذكره فيها أكثر ، وذكر التوحيد في فصلت أكثر بدليل قوله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) (٥). انتهى ، وهو من كلام أبي عبد الله الرازي ، وفيه تلخيص.

و (نَسْلَخُ) : معناه نكشط ونقشر ، وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل. و (مُظْلِمُونَ) : داخلون في الظلام ، كما تقول : أعتمنا وأسحرنا : دخلنا في العتمة وفي السحر. واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل والنهار فرع طارئ عليه ، ومستقر الشمس بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها. كما جاء في حديث أبي ذر : «ويقال لها اطلعي من حيث طلعت ، فإذا كان طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا». وقال ابن عباس : إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه ، استوت تحت العرش إلى أن تطلع. وقال الحسن : للشمس في السنة ثلاثمائة وستون مطلعا ، تنزل كل يوم مطلعا ، ثم لا تنزل إلى الحول ، وهي تجري في فلك المنازل ، أو يوم القيامة ، أو غيبوبتها ، لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه ، أو أحد مطالعها في المنقلبين ، لأنهما نهايتا مطالعها ؛ فإذا استقر وصولها كرت راجعة ، وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين. ونحا إلى هذا ابن قتيبة ، أو وقوفها عند الزوال كال يوم ، ودليل استقرارها وقوف ذلك الظلام حينئذ. وقال الزمخشري : بمستقر لها : لحدّ لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة. شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره ، أو كمنتهى لها من المشارق والمغارب ، لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع ، فلذلك حدها ومستقرها ، لأنها لا تعدوه أو لا يعدلها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب. وقيل : مستقرها : محلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه ، وهو آخر السنة. وقيل : الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها ، وهو يوم القيامة.

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٣٧.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٣٩.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٣٧.

(٤) سورة فصلت : ٤١ / ٣٩.

(٥) سورة فصلت : ٤١ / ٩.


وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : في المستقر وجوه في الزمان وفي المكان ، ففي الزمان الليل أو السنة أو يوم القيامة ، وفي المكان غاية ارتفاعها في الصيف وانخفاضها في الشتاء ، وتجري إلى ذلك الموضع فترجع ، أو غاية مشارقها ، فلها في كل يوم مشرق إلى ستة أشهر ، ثم تعود على تلك المقنطرات ؛ وهذا هو ما تقدم في الارتفاع. فإن اختلاف المشارق سبب اختلاف الارتفاع ، أو وصولها إلى بيتها في الأسد ، أو الدائرة التي عليها حركتها ، حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس. ويحتمل أن يقال : تجري مجرى مستقرها ، فإن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس في فلك ، والفلك يدور فيدير الشمس ، فالشمس تجري مجرى مستقرها. انتهى. وقرىء : إلى مستقرها. وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، وعطاء بن رباح ، وزين العابدين ، والباقر ، وابنه الصادق ، وابن أبي عبدة : لا مستقر لها ، نفيا مبينا على الفتح ، فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا ، أي هي تجري دائما فيها ، لا تستقر ؛ إلا ابن أبي عبلة ، فإنه قرأ برفع مستقر وتنوينه على إعمالها إعمال ليس ، نحو قول الشاعر :

تعز فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر مما قضى الله واقيا

الإشارة بذلك إلى جري الشمس : أي ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق.

(تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) : الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علما بكل معلوم. وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، والحسن : بخلاف عنه. (وَالْقَمَرَ) : بالرفع على الابتداء ؛ وباقي السبعة : بالنصب على الاشتغال. و (قَدَّرْناهُ) على حذف مضاف ، أي قدرنا سيره ، و (مَنازِلَ) : طرف ، أي منازله ؛ وقيل : قدرنا نوره في منازل ، فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية. وقيل : قدرناه : جعلنا أنه أجرى جريه عكس منازل أنوار الشمس ، ولا يحتاج إلى حذف حرف الصفة ، فإن جرم القمر مظلم ، ينزل فيه النور لقبوله عكس ضياء الشمس ، مثل المرأة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع.

وهذه المنازل معروفة عند العرب ، وهي ثمانية وعشرون منزلة ، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها ، لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، على تقدير مستولا يتفاوت ، يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يسير ليلتين إذا نقص الشهر ، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة ، وهي : الشرطين ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الدبرة ، الصرفة ، العواء ،


السماك ، العفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، ويقال له الرشاء ، فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس واصفر ، فشبه بالعرجون القديم من ثلاثة الأوجه. وقرأ سليمان التيمي : كالعرجون ، بكسر العين وفتح الجيم ؛ والجمهور : بضمهما ، وهما لغتان كالبريون. و (الْقَدِيمِ) : ما مر عليه زمان طويل. وقيل : أقل عدة الموصوف بالقدم حول ، فلو قال رجل : كل مملوك لي قديم فهو حر ، أو كتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر. انتهى. والقدم أمر نسبي ، وقد يطلق على ما ليس له سنة ولا سنتان ، فلا يقال العالم قديم ، وإنما تعتبر العادة في ذلك.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) : ينبغي لها مستعملة فيما لا يمكن خلافه ، أي لم يجعل لها قدرة على ذلك ، وهذا الإدراك المنبغي هو ، قال الزمخشري : إن الله تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان ، وضرب له حدا معلوما ، ودبر أمرهما على التعاقب. فلا ينبغي للشمس أن لا يستهل لها ، ولا يصح ، ولا يستقيم ، لوقوع التدبير على العاقبة. وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان ، على حياله أن يدرك القمر ، فتجتمع معه في وقت واحد ، وتداخله في سلطانه ، فتطمس نوره. ولا يسبق الليل النهار ، يعني آية الليل آية النهار ، وهما النيران. ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، وينقص ما ألف ، فيجمع بين الشمس والقمر ، فتطلع الشمس من مغربها. انتهى. وقال ابن عباس ، والضحاك : إذا طلعت ، لم يكن للقمر ضوء ؛ وإذا طلع ، لم يكن للشمس ضوء. وقال مجاهد : لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر. وقال قتادة : لكل أحد حدّ لا يعدوه ولا يقصر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا. وقال ابن عباس أيضا : إذا اجتمعا في السماء ، كان أحدهما بين يدي الآخر ، في منازل لا يشتركان فيها. وقال الحسن : لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة ، أي لا تبقى الشمس حتى يطلع الفجر ، ولكن إذا غربت طلع. وقال يحيى بن سلام : لا تدركه ليلة البدر خاصة ، لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها. وقيل : لا يمكنها أن تدركه في سرعته ، لأن دائرة فلك القمر داخلة في فلك عطارد ، وفلك عطارد داخل في فلك الزهرة ، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس. فإذا كان طريق الشمس أبعد ، قطع القمر جميع أجزاء فلكه ، أي من البروج الاثني عشر ، في زمان نقطع الشمس فيه برجا واحدا من فلكه. وقال النحاس : ما قيل فيه ، وأبينه أن مسير القمر مسير سريع ، والشمس لا تدركه في السير. انتهى ، وهو ملخص القول الذي


قبله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) ، لا يعارض قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) (١) ، لأن ظاهر قوله : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) ، أن النهار سابق أيضا ، فيوافق الظاهر. وفهم أبو عبد الله الرازي من قوله : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أن النهار يطلب الليل ، والليل سابقه. وفهم من قوله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) ، أن الليل مسبوق لا سابق ، فأورده سؤالا. وقال : كيف يكون الليل سابقا مسبوقا؟ وأجاب بأن المراد من الليل هنا سلطان الليل ، وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة. والمراد من الليل هناك نفس الليل ، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه. انتهى. وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في يطلبه عائدا على النهار ، وضمير المفعول عائدا على الليل. والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل ، لأنه كان قبل دخول همزة النقل (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) (٢) ، وضمير المفعول عائد على النهار ، لأنه المفعول قبل النقل وبعده. وقرأ عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي : سابق بغير تنوين ، النهار : بالنصب. قال المبرد : سمعته يقرأ فقلت : ما هذا؟ قال : أردت سابق النهار ، فحذفت لأنه أخف. انتهى ، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين. وتقدّم شرح : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) في سورة الأنبياء.

والظاهر من الذرية أنه يراد به الأنباء ومن نشأ منهم. وقيل : ينطلق على الآباء وعلى الأبناء ، قاله أبو عثمان. وقال ابن عطية : هذا تخليط ، ولا يعرف هذا في اللغة. انتهى. وتقدّم الكلام في الذرية في آل عمران. والظاهر أن الضمير في لهم وفي ذرياتهم عائد على شيء واحد ، فالمعنى أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء ، وهم آباؤهم الأقدمون ، في سفينة نوح عليه‌السلام ، قاله ابن عباس وجماعة. ومن مثله : للسفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة أو أريد بقوله : ذرياتهم ، حذف مضاف ، أي ذريات جنسهم ، وأريد بالذرية من لا يطيق المشي والركوب من الذرية والضعفاء. فالفلك اسم جنس من عليهم بذلك ، وكون الفلك مرادا به الجنس ، قاله ابن عباس أيضا ومجاهد والسدّي ، ومن مثله : الإبل وسائر ما يركب. وقيل : الضميران مختلفان ، أي ذرية القرون الماضية ، قاله عليّ بن سليمان ، وكان آية لهؤلاء ، إذ هم نسل تلك الذرية. وقيل : الذرية : النطف ، والفلك المشحون : بطون النساء ، ذكره الماوردي ، ونسب إلى عليّ بن أبي طالب ، وهذا لا يصح ، لأنه من

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٥٤.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٥٤.


نوع تفسير الباطنية وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة ، يحرفون الكلم عن مواضعة. ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) : يعني الإبل والخيل والبغال والحمير ، والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط ، هذا إذا كان الفلك جنسا. وأما إن أريد به سفينة نوح ، فالمماثلة تكون في كونها سفنا مثلها ، وهي الموجودة في بني آدم. ويبعد قول من قال : الذرية في الفلك قوم نوح في سفينته ، والمثل الأجل : وما يركب ، لأنه يدفعه قوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ). وقرأ نافع ، وابن عامر ، والأعمش ، وزيد بن عليّ ، وأبان بن عثمان : ذرياتهم بالجمع ؛ وكسر زيد وأبان الذال ؛ وباقي السبعة ، وطلحة ، وعيسى : بالإفراد. وقال الزمخشري : ذريتهم : أولادهم ومن يهمهم حمله. وقيل : اسم الذرية يقع على النساء ، لأنهن مزارعها. وفي الحديث : «أنه نهى عن قتل الذراري» ، يعني النساء.

(مِنْ مِثْلِهِ) : من مثل الفلك ، (ما يَرْكَبُونَ) : من الإبل ، وهي سفائن البر. وقيل : (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : سفينة نوح. ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها : أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم. وإنما ذكر ذرياتهم دونهم ، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. و (مِنْ مِثْلِهِ) : من مثل ذلك الفلك ، (ما يَرْكَبُونَ) : من السفن. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي : إنما خص الذريات بالذكر ، لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم ، أي لم يكن الحمل حملا لهم ، وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين. وقال أيضا : الضمير في وآية لهم عائد على العباد في قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) ثم قال بعد (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) ، (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) ، (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) : ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون الضمير في الموضعين لمعنيين ، فهو كقوله : (لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) ، إنما يريد : لا يقتل بعضكم بعضا ، فكذلك هذا. (وَآيَةٌ لَهُمْ) : أي آية كل بعض منهم ، (أَنَّا حَمَلْنا) ذرية كل بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم. انتهى. والظاهر في قوله : (وَخَلَقْنا) أنه أريد الإنشاء والاختراع ، فالمراد الإبل وما يركب ، وتكون من للبيان ، وإن كان ما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى الله خلقا ، لكن الأكثر ما ذكرنا. وإذا أريد به السفن ، تكون من للتبعيض ، ولهم الظاهر عوده على ما عاد عليه (وَآيَةٌ لَهُمْ) ، لأنه المحدث عنهم ، وجوز أن يعود على الذرية ؛ والظاهر أن الضمير في مثله عائد على

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٩.


الفلك. وقيل : يعود على معلوم غير مذكور وتقديره : من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) (١) ، كما قالوا : في قوله (مِنْ ثَمَرِهِ) ، أي من ثمر ما ذكرنا. وقرأ الحسن : نغرقهم مشددا ؛ والجمهور : مخففا ؛ والصريخ : فعيل بمعنى صارخ : أي مستغيث ، وبمعنى مصرخ : أي مغيث ، وهذا معناه هنا ، أي فلا مغيث لهم ولا معين. وقال الزمخشري : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) : أي فلا إغاثة لهم. انتهى. كأنه جعله مصدرا من أفعل ، ويحتاج إلى نقل أن صريخا يكون مصدرا بمعنى صراخ. والظاهر أن قوله : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) : أي لا مغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم ، (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) : أي ينجون من الموت بالغرق. نفى أولا الصريخ ، وهو خاص ؛ ثم نفى ثانيا إنقاذهم بصريخ أو غيره. وقال ابن عطية : وقوله (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) استئناف إخبار عن المسافرين في البحر ، ناجين كانوا أو مغرقين ، فهم في هذه الحال لا نجاة لهم إلا برحمة الله. وليس قوله : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) مربوطا بالمغرقين ، وقد يصح ربطه به ، والأول أحسن فتأمله. انتهى ، وليس بحسن ولا أحسن. والفاء في (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) تعلق الجملة بما قبلها تعليقا واضحا ، وترتبط به ربطا لائحا. والخلاص من العذاب بما يدفعه من أصله ، فنفى بقوله : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) ، وما يرفعه بعد وقوعه ، فنفى بقوله : (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ). وانتصب (رَحْمَةً) على الاستثناء المفرغ للمفعول من أجله ، أي لرحمة منا. وقال الكسائي ، والزجاج : (إِلى حِينٍ) : أي إلى حين الموت ، قاله قتادة. وقال الزمخشري : إما لرحمة منا ، وليتمتع بالحياة إلى حين : أي إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق. انتهى. وإنما قال : لا بد لهم من موت الغرق ، لأنه تعالى قال (وَإِنْ نَشَأْ) : أي إغراقهم ، (نُغْرِقْهُمْ) : فمن شاء إغراقه لا بد أن يموت بالغرق. والظاهر أن (رَحْمَةً) ، (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) يكون للذين ينقذون ، فلا يفيد الدوام ، بل ينقذه الله رحمة له ويمتعه إلى حين ثم يميته. وقيل : فيه تقسيم ، إلا رحمة لمن علم أنه يؤمن فينقذه الله رحمة ، ومن علم أنه لا يؤمن يمنعه زمانا ويزداد إثما.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ، فَلا

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٦.


يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ، قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ، فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

الضمير في (لَهُمُ) لقريش ، و (ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) ، قال قتادة ومقاتل : عذاب الأمم قبلكم ، (وَما خَلْفَكُمْ) : عذاب الآخرة. وقال مجاهد : عكسه. وقال الحسن : خوفوا بما مضى من ذنوبهم وما يأتي منها. وقال مجاهد أيضا ، كقول الحسن : (ما تَقَدَّمَ مِنْ) ذنوبكم وما تأخر ، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وجواب إذا محذوف يدل عليه ما بعده ، أي أعرضوا. (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) : أي دأبهم الإعراض عند كل آية تأتيهم. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) : لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين ، قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به ، وكان ذلك بمكة أولا قبل نزول آيات القتال ، فندبهم المؤمنون إلى صلة قراباتهم فقالوا : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ). وقيل : سحق قريش بسبب أذية المساكين من مؤمن وغيره ، فندبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النفقة عليهم ، فقالوا هذا القول. وقيل : قال فقراء المؤمنين : أعطونا ما زعمتم من أموالكم ، إنها لله ، فحرموهم وقالوا ذلك على سبيل الاستهزاء. وقال ابن عباس : كان بمكة زنادقة ، إذا أمروا بالصدقة قالوا : لا والله ، أيفقره الله ونطمعه نحن؟ أو كانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله : لو شاء الله لأغنى فلانا ، ولو شاء لأعزه ، ولو شاء لكان كذا ، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون. وقال القشيري : نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع ، استهزاء بالمسلمين بهذا القول.

وقال الحسن : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) ، أي اليهود ، أمروا بإطعام الفقراء. وجواب لو نشاء قوله : أطعمهم ، وورود الموجب بغير لام فصيح ، ومنه : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) (١) ، (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) (٢) ؛ والأكثر مجيئه باللام ، والتصريخ بالموضعين من الكفر والإيمان دليل على أن المقول لهم هم الكافرون ، والقائل لهم هم المؤمنون ، وأن كل وصف حامل صاحبه على ما صدر منه ، إذ كل إناء بالذي فيه يرشح. وأمروا بالإنفاق (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ، وهو عام في الإطعام وغيره ، فأجابوا بغاية المخالفة ، لأن نفي إطعامهم يقتضي نفي الإنفاق

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٠.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٠.


العام ، فكأنهم قالوا : لا ننفق ، ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها ويؤثرون بها على أنفسهم ، وهو الإطعام الذي به يفتخرون ، وهذا على سبيل المبالغة. كمن يقول لشخص : أعط لزيد دينارا ، فيقول : لا أعطيه درهما ، فهذا أبلغ من لا أعطيه دينارا. والظاهر أن قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من تمام كلام الكفار يخاطبون المؤمنين ، أي حيث طلبتم أن تطعموا من لا يريد الله إطعامه ، إذ لو أراد الله إطعامه لأطعمه هو. ويجوز أن يكون من قول الله لهم استأنف زجرهم به ، أو من قول المؤمنين لهم. ثم حكى تعالى عنهم ما يقولون على سبيل الاستهزاء والتعجيل : لما توعدون به؟ أي متى يوم القيامة الذي أنتم توعدوننا به؟ أو متى هذا العذاب الذي تهددوننا به؟ وهو سؤال على سبيل الاستهزاء منهم لما أمروا بالتقوى ، ولا يتقي إلا مما يخاف ، وهم غير مؤمنين. سألوا متى يقع هذا الذي تخوفونا به استهزاء منهم.

(ما يَنْظُرُونَ) : أي ما ينتطرون. ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها ، وهذه هي النفخة الأولى تأخذهم فيهلكون ، وهم يتخاصمون ، أي في معاملاتهم وأسواقهم ، في أماكنهم من غير إمهال لتوصية ، ولا رجوع إلى أهل. وفي الحديث : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه ، فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه ، فما تصل إلى فيه حتى تقوم». وقيل : لا يرجعون إلى أهلهم قولا ؛ وقيل : ولا إلى أهلهم يرجعون أبدا. وقرأ أبي : يختصمون على الأصل ؛ والحرميان ، وأبو عمرو ، والأعرج ، وشبل ، وابن فنطنطين : بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها إلى الخاء ؛ وأبو عمرو أيضا ، وقالون : يخالف بالاختلاس وتشديد الصاد ، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم ؛ وباقي السبعة : بكسر الخاء وشد الصاد ؛ وفرقة : بكسر الياء اتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد. وقرأ ابن محيصن : يرجعون ، بضم الياء وفتح الجيم. وقرأ الأعرج : في الصور ، بفتح الواو ؛ والجمهور : بإسكانها. وقرىء : من الأجداف ، بالفاء بدل الثاء. وقرأ الجمهور : بالثاء ، وينسلون ، بكسر السين ؛ وابن أبي إسحاق ، وأبو عمرو : بخلاف عنه بضمها. وهذه النفخة هي الثانية التي يقوم الناس أحياء عنها. ولا تنافر بين (يَنْسِلُونَ) وبين (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١) ، لأنه لا ينسل إلا قائما ، ولأن تفاوت الزمانين يجعله كأنه زمان واحد.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٨.


وقرأ ابن أبي ليلى : يا ويلتنا ، بتاء التأنيث ؛ وعنه أيضا : يا ويلتى ، بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة ، ومعنى هذه القراءة : أن كل واحد منهم يقول يا ويلتى. والجمهور : و (مَنْ بَعَثَنا) : من استفهام ، وبعث فعل ماض ؛ وعلي ، وابن عباس ، والضحاك ، وأبو نهيك : من حرف جر ، وبعثنا مجرور به. والمرقد : استعارة عن مضجع الميت ، واحتمل أن يكون مصدرا ، أي من رقادنا ، وهو أجود. أو يكون مكانا ، فيكون المفرد فيه يراد به الجمع ، أي من مراقدنا. وما روي عن أبيّ بن كعب ومجاهد ، وقتادة : من أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر ، فقالوا : هو غير صحيح الإسناد. وقيل : قالوا من مرقدنا ، لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم. والظاهر أن هذا ابتداء كلام ، فقيل : من الله ، على سبيل التوبيخ والتوقيف على إنكارهم. وقال الفراء : من قول الملائكة. وقال قتادة ، ومجاهد : من قول المؤمنين للكفار ، على سبيل التقريع. وقال ابن زيد : من قول الكفرة ، أو البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ، قالوا ذلك. والاستفهام بمن سؤال عن الذي بعثهم ، وتضمن قوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) ، ذكر الباعث ، أي الرحمن الذي وعدكموه ، وما يجوز أن تكون مصدرية على سمة الموعود ، والمصدر فيه بالوعد والصدق ، وبمعنى الذي ، أي هذا الذي وعده الرحمن. والذي صدق المرسلون ، أي صدق فيه من قولهم : صدقت زيدا الحديث ، أي صدقه فيه ؛ ومنه قولهم : صدقني سن بكره ، أي في سنّ بكره. وقال الزجاج : ويجوز أن يكون إشارة إلى المرقد ، ثم استأنف ما وعد الرحمن ، ويضمر الخبر حق أو نحوه. وتبعه الزمخشري فقال : ويجوز أن يكون هذا صفة للمرقد ، وما وعد خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا وعد الرحمن ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي ما وعد الرحمن وصدق المرسلون حق عليكم. انتهى. وتقدمت قراءة (إِلَّا صَيْحَةً) بالرفع وتوجيهها. (فَالْيَوْمَ) : هو يوم القيامة ، وانتصب على الظرف ، والعامل فيه لا يظلم. والظاهر أن الخطاب لجميع العالم ، ويندرج فيه من تقدم ذكره. قيل : والصيحة قول إسرافيل عليه‌السلام : أيتها العظام النخرة والأوصال المنقطعة والشعور المتمزقة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ، وهذا معنى قوله تعالى : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (١).

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ، هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ، لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ، سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ، وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٤٢.


الْمُجْرِمُونَ ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ، هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ، وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ، وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ، وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ، لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ).

لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ، أعقب ذلك بحال السعداء والأشقياء. والظاهر أنه إخبار لنا بما يكونون فيه إذا صاروا إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب. وقيل : هو حكاية ما يقال في ذلك اليوم ، وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود له في النفوس ، وترغيب إلى الحرص عليه وفيما يثمره ؛ والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال. وقال قريبا منه مجاهد ، وبعضهم خص هذا الشغل بافتضاض الأبكار ، قاله ابن عباس ؛ وعنه أيضا : سماع الأوتار. وعن الحسن : شغلوا عن ما فيه أهل النار. وعن الكلبي : عن أهاليهم من أهل النار ، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا. وعن ابن كيسان : الشغل : التزاور. وقيل : ضيافة الله ، وأفرد الشغل ملحوظا فيه النعيم ، وهو واحد من حيث هو نعيم. وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : بضم الشين وسكون الغين ؛ وباقي السبعة بضمها ؛ ومجاهد ، وأبو السمال ، وابن هبيرة فيما نقل ابن خالويه عنه : بفتحتين ؛ ويزيد النحوي ، وابن هبيرة ، فيما نقل أبو الفضل الرازي : بفتح الشين وإسكان الغين. وقرأ الجمهور : (فاكِهُونَ) ، بالألف ؛ والحسن ، وأبو جعفر ، وقتادة ، وأبو حيوة ، ومجاهد ، وشيبة ، وأبو رجاء ، ويحيى بن صبيح ، ونافع في رواية : بغير ألف ؛ وطلحة ، والأعمش : فاكهين ، بالألف وبالياء نصبا على الحال ، وفي شغل هو الخبر. فبالألف أصحاب فاكهة ، كما يقال لابن وتامر وشاحم ولاحم ، وبغير ألف معناه : فرحون طربون ، مأخوذ من الفكاهة وهي المزحة ، وقرىء : فكهين ، بغير ألف وبالياء. وقرىء : فكهون ، بضم الكاف. يقال : رجل فكه وفكه ، نحو : يدس ويدس. ويجوز في هم أن يكون مبتدأ ، وخبره في ضلال ، ومتكئون خبر ثان ، أو خبره متكئون ، وفي ظلال متعلق به ، أو يكون تأكيدا للضمير المستكن في فاكهون ، وفي ظلال حال ، ومتكئون خبر ثان لأن ، أو يكون تأكيدا للضمير المستكن في شغل ، المنتقل إليه من العامل فيه.


وعلى هذا الوجه والذي قبله يكون الأزواج قد شاركوهم في التفكه والشغل والاتكاء على الأرائك ، وذلك من جهة المنطوق. وعلى الأول ، شاركوهم في الظلال والاتكاء على الأرائك من حيث المنطوق ، وهن قد شاركنهم في التفكه والشغل من حيث المعنى. وقرأ الجمهور : (فِي ظِلالٍ). قال ابن عطية : وهو جمع ظل ، إذ الجنة لا شمس فيها ، وإنما هواؤها سجسج ، كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس. انتهى. وجمع فعل على فعال في الكثرة ، نحو : ذئب وذئاب. وأما أن وقت الجنة كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس ، فيحتاج هذا إلى نقل صحيح. وكيف يكون ذلك؟ وفي الحديث ما يدل على حوراء من حور الجنة ، لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا ، أو نحو من هذا؟ قال : ويحتمل أن يكون جمع ظلة. قال أبو عليّ : كبرمة وبرام. وقال منذر بن سعيد : جمع ظلة ، بكسر الظاء. قال ابن عطية : وهي لغة في ظلة. انتهى. فيكون مثل لقحة ولقاح ، وفعال لا ينقاس في فعلة بل يحفظ. وقرأ عبد الله ، والسلمي ، وطلحة ، وحمزة ، والكسائي : في ظل جمع ظلة ، وجمع فعلة على فعل مقيس ، وهي عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل. وقرأ عبد الله : متكئين ، نصب على الحال ؛ ويدعون مضارع ادعى ، وهو افتعل من دعا ، ومعناه : ولهم ما يتمنون. قال أبو عبيدة : العرب تقول ادع علي ما شئت ، بمعنى تمن عليّ وتقول فلان في خبر ما تمنى. قال الزجاج : وهو من الدعاء ، أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقيل : يدعون به لأنفسهم. وقيل : يتداعونه لقوله ارتموه وتراموه.

وقرأ الجمهور : سلام بالرفع. وقيل : وهو صفة لما ، أي مسلم لهم وخالص. انتهى. ولا يصح إن كان ما بمعنى الذي ، لأنها تكون إذ ذاك معرفة. وسلام نكرة ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. فإن كانت ما نكرة موصوفة جاز ، إلا أنه لا يكون فيه عموم ، كحالها ، بمعني الذي. وقيل : سلام مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصب لقوله : (قَوْلاً) ، أي سلام يقال ، (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ، أو يكون عليكم محذوفا ، أي سلام عليكم ، (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ). وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو سلام. وقال الزمخشري : (سَلامٌ قَوْلاً) بدل من (ما يَدَّعُونَ) ، كأنه قال : لهم سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم ، والمعنى : أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بغير واسطة ، مبالغة في تعظيمهم ، وذلك متمناهم ، ولهم ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس : والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. انتهى. وإذا كان سلام بدلا من ما يدعون ، كان ما يدعون خصوصا. والظاهر أنه عموم في


كل ما يدعون ، وإذا كان عموما ، لم يكن سلام بدلا منه. وقيل : سلام خبر لما يدعون ، وما يدعون مبتدأ ، أي ولهم ما يدعون سلام خالص لا شرب فيه ، وقولا مصدر مؤكد ، كقوله : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ) : أي عدة من رحيم. قال الزمخشري : والأوجه أن ينتصب على الاختصاص ، وهو من مجازه. انتهى. ويكون لهم متعلقا على هذا الإعراب بسلام. وقرأ محمد بن كعب القرظي : سلم ، بكسر السين وسكون اللام ، ومعناه سلام. وقال أبو الفضل الرازي : مسالم لهم ، أي ذلك مسالم. وقرأ أبيّ ، وعبد الله ، وعيسى ، والقنوي : سلاما ، بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري : نصب على الحال ، أي لهم مرادهم خالصا.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ) : أي انفردوا عن المؤمنين ، لأن المحشر جمع البر والفاجر ، فأمر المجرمون بأن يكونوا على حدة من المؤمنين. والظاهر أن ثم قولا محذوفا لما ذكر تعالى ما يقال للمؤمنين في قوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ، قيل : ويقال للمجرمين : (امْتازُوا). ولما امتثلوا ما أمروا به ، قال لهم على جهة التوبيخ والتقريع : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ)؟ وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه. وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى ، فعلى هذا معناه أن بعضهم من بعض. وعن قتادة : اعتزلوا عن كل خير. والعهد : الوصية ، عهد إليه إذا وصاه. وعهد الله إليهم : ما ركز فيهم من أدلة العقل ، وأنزل إليهم من أدلة السمع. وعبادة الشيطان : طاعته فيما يغويه ويزينه. وقرأ الجمهور : أعهد ، بفتح الهمزة والهاء. وقرأ طلحة ، والهذيل بن شرحبيل الكوفي : بكسر الهمزة ، قاله صاحب اللوامح ، وقال لغة تميم ، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة ، يعني : نعهد وتعهد. وقال ابن خالويه : ألم أعهد ؛ يحيى بن وثاب : ألم أحد ، لغة تميم. وقال ابن عطية : وقرأ الهذيل بن وثاب : ألم أعهد ، بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء ، وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء. وروي عن ابن وثاب : ألم أعهد ، بكسر الهاء ، يقال : عهد يعهد. انتهى. وقوله : بكسر الميم والهمزة يعني أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة ، لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة ، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو الميم. اعهد بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظا ، لأن هذا لا يجوز. وقال الزمخشري : وقرىء أعهد بكسر الهمزة ، وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء ؛ وأعهد بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم ، وضرب يضرب ، وأحهد بالحاء وأحد ، وهي لغة


تميم ، ومنه قولهم : دحا محا. انتهى. وقوله : إلا في الياء ، لغة لبعض كلب أنهم يكسرون أيضا في الياء ، يقولون : هل يعلم؟ وقوله : دحا محا ، يريدون دعها معها ، أدغموا العين في الحاء ، والإشارة بهذا إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن.

وقرأ نافع ، وعاصم : (جِبِلًّا) ، بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وهي قراءة أبي حيوة ، وسهيل ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وأبي رجاء ؛ والحسن : بخلاف عنه. وقرأ العربيان ، والهذيل بن شرحبيل : بضم الجيم وإسكان الباء ؛ وباقي السبعة : بضمها وتخفيف اللام ؛ والحسن بن أبي إسحاق ، والزهري ، وابن هرمز ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وحفص بن حميد : بضمتين وتشديد اللام ؛ والأشهب العقيلي ، واليماني ، وحماد بن مسلمة عن عاصم : بكسر الجيم وسكون الباء ؛ والأعمش : جبلا ، بكسرتين وتخفيف اللام. وقرىء : جبلا بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام ، جمع جبلة ، نحو فطرة وفطر ، فهذه سبع لغات قرىء بها. وقرأ علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين : جيلا ، بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف ، واحد الأجيال ؛ والجبل بالباء بواحدة من أسفل الأمة العظيمة. وقال الضحاك : أقله عشرة آلاف. خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان تقريعا لهم. وقرأ الجمهور : (أَفَلَمْ تَكُونُوا) بتاء الخطاب ؛ وطلحة ، وعيسى : بياء الغيبة ، عائدا على جبل. ويروى أنهم يجحدون ويخاصمون ، فيشهد عليهم جيرانهم وعشائرهم وأهاليهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث : «يقول العبد يوم القيامة : إني لا أجيز عليّ شاهد إلا من نفسي فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقال : بعدا لكنّ وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل».

وقرىء : يختم مبينا للمفعول ، وتتكلم أيديهم ، بتاءين وقرىء : ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ : ولتكلمنا أيديهم ولتشهد ، بلام كي والنصب على معنى : وكذلك يختم على أفواههم والظاهر أن الأعين هي الأعضاء المبصرة ، والمعنى : لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون ، قاله الحسن وقتادة ، ويؤيده مناسبة المسخ ، فهم في قبضة القدرة وبروج العذاب إن شاءه الله لهم. وقال ابن عباس : أراد عين البصائر ، والمعنى : لو نشاء لختمت عليهم بالكفر فلا يهتدي منهم أحد أبدا. والطمس : إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد. فإن


أريد بالأعين الحقيقة ، فالظاهر أنه يطمس بمعنى يمسخ حقيقة ، ويجوز أن يكون الطمس يراد به العمى من غير إذهاب العضو وأثره. وقرأ الجمهور : (فَاسْتَبَقُوا) ، فعلا ماضيا معطوفا على (لَطَمَسْنا) ، وهو على الفرض والتقدير. والصراط منصوب على تقدير إلى حذفت ووصل الفعل ، والأصل فاستبقوا إلى الصراط ، أو مفعولا به على تضمين استبقوا معنى تبادروا ، وجعله مسبوقا إليه. قال الزمخشري : أو ينتصب على الظرف ، وهذا لا يجوز ، لأن الصراط هو الطريق ، وهو ظرف مكان مختص. لا يصل إليه الفعل إلا بوساطة في إلا في شذوذ ، كما أنشد سيبويه :

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب

ومذهب ابن الطراوة أن الصراط والطريق والمخرم ، وما أشبهها من الظروف المكانية ليست مختصة ، فعلى مذهبه يسوغ ما قاله الزمخشري. وقرأ عيسى : فاستبقوا على الأمر ، وهو على إضمار القول ، أي فيقال لهم استبقوا الصراط ، وهذا على سبيل التعجيز ، إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين. (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) : أي كيف يبصر من طمس على عينه؟ والظاهر أن المسخ حقيقة ، وهو تبديل صورهم بصور شنيعة. قال ابن عباس : (لَمَسَخْناهُمْ) قردة وخنازير ، كما تقدم في بني إسرائيل ؛ وقيل حجارة. وقال الحسن ، وقتادة ، وجماعة : لأقعدناهم وأزمناهم ، فلا يستطيعون تصرفا. والظاهر أن هذا لو كان يكون في الدنيا. وقال ابن سلام : هذا التوعد كله يوم القيامة. وقرأ الحسن : (عَلى مَكانَتِهِمْ) ، بالإفراد ، وهي المكان ، كالمقامة والمقام. وقرأ الجمهور ، وأبو بكر : بالجمع. والجمهور : (مُضِيًّا) ، بضم الميم : وأبو حيوة ، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي : بكسرها اتباعا لحركة الضاد ، كالعتبى والقتبى ، وزنه فعول. التقت واو ساكنة وياء ، فأبدلت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكسر ما قبلها لتصح الياء. وقرىء : مضيا ، بفتح الميم ، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل ، كالرسيم والوجيف.

ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشبه ، ذكر تعالى دليلا على باهر قدرته في تنكيس المعمر ، وأن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى. وتنكيسه : قبله وجعله على عكس ما خلقه أولا ، وهو أنه خلقه على ضعف في جسد وخلو من عقل وعلم ، ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال ، إلى أن يبلغ أشده وتستكمل قوته ، ويعقل ويعلم ما له وما عليه. فإذا انتهى نكسه في الخلق ، فيتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبا في ضعف


جسده وقلة عقله وخلوه من الفهم ، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله ، وفي هذا كله دليل على أن من فعل هذه الأفاعيل قادر على أن يطمس وأن يفعل بهم ما أراد. وقرأ الجمهور : (نُنَكِّسْهُ) ، مشددا ؛ وعاصم ، وحمزة : مخففا. وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، وأبو عمرو في رواية عباس : تعقلون بتاء الخطاب ؛ وباقي السبعة : بياء الغيبة.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) : الضمير في علمناه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا يقولون فيه شاعر. وروي أن القائل عقبة بن أبي معيط ، فنفى الله ذلك عنه ، وقولهم فيه شاعر. أما من كان في طبعه الشعر ، فقوله مكابرة وإيهام للجاهل بالشعر ؛ وأما من ليس في طبعه ، فقوله جهل محض. وأين هو من الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام ، وغير ذلك مما يتورع المتدين عن إنشاده ، فضلا عن إنشائه : وكان عليه‌السلام لا يقول الشعر ، وإذا أنشد بيتا أحرز المعنى دون وزنه ، كما أنشد :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك من لم تزود بالأخبار

وقيل : من أشعر الناس ، فقال الذي يقول :

ألم ترياني كلما جئت طارقا

وجدت بها وإن لم تطيب طيبا

أتجعل نهبي ونهب العبي

د بين الأقرع وعيينة

وأنشد يوما :

كفى بالإسلام والشيب ناهيا

فقال أبو بكر وعمر : نشهد أنك رسول الله ، إنما قال الشاعر : كفى الشيب والإسلام ، وربما أنشد البيت متزنا في النادر. وروي عنه أنشد بيت ابن رواحة :

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

ولا يدل إجراء البيت على لسانه متزنا أنه يعلم الشعر ، وقد وقع في كلامه عليه‌السلام ما يدخله الوزن كقوله :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

وكذلك قوله :

هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت


وهو كلام من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته ، من غير صنعة فيه ولا قصد لوزن ولا تكلف. كما يوجد في القرآن شيء موزون ولا يعد شعرا ، كقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١). وقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٢). وفي كثير من النثر الذي تنشئه الفصحاء ، ولا يسمى ذلك شعرا ، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر. (وَما يَنْبَغِي لَهُ) : أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب ، لأنه عليه‌السلام في طريق جد محض ، والشعر أكثره في طريق هزل ، وتحسين لما ليس حسنا ، وتقبيح لما ليس قبيحا ومغالاة مفرطة. جعله تعالى لا يقرض الشعر ، كما جعله أميا لا يخط ، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وقيل : في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر ، وقد قال عليه‌السلام : «ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي». وذهب قوم إلى أنه لا غضاضة فيه ، وإنما منعه الله نبيه عليه الصلاة والسلام. وإن كان حلية جليلة ليجيء القرآن من قبله أغرب ، فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن : هذا من تلك القوة. قال ابن عطية : وليس الأمر عندي كذلك ، وقد كان عليه‌السلام من الفصاحة والبيان في النثر في الرتبة العليا ، ولكن كلام الله يبين بإعجازه ويندر بوصفه ، ويخرجه إحاطة علم الله عن كل كلام ؛ وإنما منع الله نبيه من الشعر ترفيعا له عن ما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول. وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر ، وهذا كان أسلوب كلامه ، عليه‌السلام ، قولا واحدا. انتهى. والضمير في له للرسول ، أي وما ينبغي الشعر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن ، أي وما ينبغي الشعر للقرآن ، ولم يجر له ذكر ، لكن له أن يقول : يدل الكلام عليه ، ويبينه عود الضمير عليه في قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) : أي كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ، وينال بتلاوته والعمل به ما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزات الشياطين؟ وقرأ نافع ، وابن عامر : لتنذر بتاء الخطاب للرسول ؛ وباقي السبعة : بالياء للغيبة ، فاحتمل أن يعود على الرسول ، واحتمل أن يعود على القرآن. وقرأ اليماني : (لِيُنْذِرَ) ، بالياء مبينا للمفعول ، ونقلها ابن خالويه عن الجحدري. وقال عن أبي السمال واليماني أنهما قرأ : لينذر ، بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال ، إذا علم بالشيء فاستعد له. (مَنْ كانَ حَيًّا) : أي غافلا ، قاله الضحاك ، لأن الغافل كالميت ؛ ويريد به من حتم عليه بالإيمان ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩٢.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٢٩.


وكذلك قابله بقوله : (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) : أي كلمة العذاب ، (عَلَى الْكافِرِينَ) المحتوم لهم بالموافاة على الكفر.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ، وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ ، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ، فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

الإخبار وتنبيه الاستفهام لقريش ، وإعراضها عن عبادة الله ، وعكوفها على عبادة الأصنام. ولما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد ، عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) : أي مما تولينا عمله ، ولا يمكن لغيرنا أن يعمله. فبقدرتنا وإرادتنا برزت هذه الأشياء ، لم يشركنا فيها أحد ، والباري تعالى منزه عن اليد التي هي الجارحة ، وعن كل ما اقتضى التشبيه بالمحدثات. وذكر الأنعام لها لأنها كانت جل أموالهم ، ونبه على ما يجعل لهم من منافعها. (لَها مالِكُونَ) : أي ملكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك ، مختصون بالانتفاع بها ، أو (مالِكُونَ) : ضابطون لها قاهرونها ، من قوله :

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

أي : لا أضبطه ، وهو من جملة النعم الظاهرة. فلولا تذليله تعالى إياها وتسخيره ، لم يقدر عليها. ألا ترى إلى ما ندّ منها لا يكاد يقدر على رده؟ لذلك أمر بتسبيح الله راكبها ، وشكره على هذه النعمة بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١). وقرأ الجمهور : (رَكُوبُهُمْ) ، وهو فعول بمعنى مفعول ، كالحضور والحلوب والقذوع ، وهو مما لا ينقاس. وقرأ أبي ، وعائشة : ركوبتهم بالتاء ، وهي فعولة بمعنى مفعولة. وقال

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ١٣.


الزمخشري : وقيل الركوبة جمع. انتهى ، ويعني اسم جمع ، لأن فعولة بفتح الفاء ليس بجمع تكسير. وقد عد بعض أصحابنا أبنية أسماء الجموع ، فلم يذكر فيها فعولة ، فينبغي أن يعتقد فيها أنها اسم مفرد لا جمع تكسير ولا اسم جمع ، أي مركوبتهم كالحلوبة بمعنى المحلوبة. وقرأ الحسن ، وأبو البرهسم ، والأعمش : ركوبهم ، بضم الراء وبغير تاء ، وهو مصدر حذف مضافه ، أي ذو ركوبهم ، أو فحسن منافعها ركوبهم ، فيحذف ذو ، أو يحذف منافع. قال ابن خالويه : العرب تقول : ناقة ركوب حلوب ، وركوبة حلوبة ، وركباة حلباة ، وركبوب حلبوب ، وركبى حلبى ، وركبوتا حلبوتا ، كل ذلك محكي ، وأنشد :

ركبانة حلبانة زفوف

تخلط بين وبر وصوف

وأجمل المنافع هنا ، وفصلها في قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) (١) الآية. والمشارب : جمع مشرب ، وهو إما مصدر ، أي شرب ، أو موضع الشرب. ثم عنفهم واستجهلهم في اتخاذهم آلهة لطلب الاستنصار. (لا يَسْتَطِيعُونَ) : أي الآلهة ، نصر متخذيهم ، وهذا هو الظاهر. لما اتخذوهم آلهة للاستنصار بهم ، رد تعالى عليهم بأنهم ليس لهم قدرة على نصرهم. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الضمير في (يَسْتَطِيعُونَ) عائدا للكفار ، وفي (نَصْرَهُمْ) للأصنام. انتهى. والظاهر أن الضمير في وهم عائد على ما هو الظاهر في (لا يَسْتَطِيعُونَ) ، أي والآلهة للكفار جند محضرون في الآخرة عند الحساب على جهة التوبيخ والنقمة. وسماهم جندا ، إذ هم معدون للنقمة من عابديهم وللتوبيخ ، أو محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقودا للنار. قيل : ويجوز أن يكون الضمير في وهم عائدا على الكفار ، وفي لهم عائدا على الأصنام ، أي وهم الأصنام جند محضرون متعصبون لهم متحيرون ، يذبون عنهم ، يعني في الدنيا ، ومع ذلك لا يستطيعون ، أي الكفار التناصر. وهذا القول مركب على أن الضمير في لا يستطيعون للكفار. ثم آنس تعالى نبيه بقوله : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) : أي لا يهمك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم ، وتوعد الكفار بقوله : (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ، فنجازيهم على ذلك.

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) : قبح تعالى إنكار الكفرة البعث ، حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرج النجاسة. أفضى به مهانة أصله إلى أن يخاصم الباري تعالى ويقول : من يحيي الميت بعد ما رمّ؟ مع علمه أنه منشأ من موات. وقائل ذلك

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨٠.


العاصي بن وائل ، أو أمية بن خلف ، أو أبي بن خلف ، أقوال أصحها أنه أبي بن خلف ، رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله ابن إسحاق وغيره. والقول أنه أمية ، قاله مجاهد وقتادة ؛ ويحتمل أن كلا منهم واقع ذلك منه.

وقد كان لأبيّ مع الرسول مراجعات ومقامات ، جاء بالعظم الرميم بمكة ، ففتته في وجهه الكريم وقال : من يحيي هذا يا محمد؟ فقال : «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم» ، ثم نزلت الآية. وأبيّ هذا قتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده يوم أحد بالحربة ، فخرجت من عنقه. ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول ، لأن السورة والآية مكية بإجماع ، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة. وبين قوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) وبين : (خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) ، جمل محذوفة تبين أكثرها في قوله في سورة المؤمنون : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (١) ، وإنما اعتقب قوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) الوصف الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام ، أي فإذا هو بعد ما كان نطفة ، رجل مميز منطيق قادر على الخصام ، مبين معرب عما في نفسه.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) : أي نشأته من النطفة ، فذهل عنها وترك ذكرها على طريق اللدد والمكابرة والاستبعاد لما لا يستبعد. وقرأ زيد بن علي : ونسي خالقه ، اسم فاعل ؛ والجمهور : خلقه ، أي نشأته. وسمى قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهي إنكار قدرة الله على إحياء الموتى ، كما هم عاجزون عن ذلك. وقال الزمخشري : والرميم اسم لما بلي من العظام غير صفة ، كالرمة والرفاة ، فلا يقال : لم لم يؤنث؟ وقد وقع خبرا لمؤنث ، ولا هو فعيل أو مفعول. انتهى. واستدل بقوله : (قُلْ يُحْيِيهَا) على أن الحياة تحلها ، وهذا الاستدلال ظاهر. ومن قال : إن الحياة لا تحلها ، قال : المراد بإحياء العظام : ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حسن حساس. (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) : يعلم كيفيات ما يخلق ، لا يتعاظمه شيء من المنشآت والمعدات جنسا ونوعا ، دقة وجلالة.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) : ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من النطفة ، وهو إبراز الشيء من ضده ، وذلك أبدع شيء ، وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر. ألا ترى أن الماء يطفىء النار؟ ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٣.


والأعراب توري النار من الشجر الأخضر ، وأكثرها من المرخ والعفار. وفي أمثالهم : في كل شيء نار ، واستمجد المرخ والعفار. يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين ، وهما أخضران يقطر منهما الماء ، فيستحق المرخ وهو ذكر ، والعفار وهي أنثى ، ينقدح النار بإذن الله عزوجل. وعن ابن عباس : ليس شجر إلا وفيه نار إلا العنا. وقرأ الجمهور : الأخضر ؛ وقرىء : الخضراء ؛ وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء ؛ وأهل نجد يذكرون ألفاظا ، واستثنيت في كتب النحو.

ثم ذكر ما هو أبدع وأغرب من خلق الإنسان من نطفة ، ومن إعادة الموتى ، وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف العدم إلى الوجود ، فقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)؟ قرأ الجمهور : بقادر ، بباء الجر داخلة على اسم الفاعل. وقرأ الجحدري ، وابن أبي إسحاق ، والأعرج ، وسلام ، ويعقوب : يقدر ، فعلا مضارعا ، أي من قدر على خلق السموات والأرض من عظم شأنهما ، كان على خلق الأناس قادرا ، والضمير في مثلهم عائد على الناس ، قاله الرماني. وقال جماعة من المفسرين : عائد على السموات والأرض ، وعاد الضمير عليهما كضمير من يعقل ، من حيث كانت متضمنة من يعقل من الملائكة والثقلين. وقال الزمخشري : (مِثْلَهُمْ) يحتمل معنيين : أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السموات والأرض ، أو أن يعيدهم ، لأن المصادر مثل للمبتدأ وليس به. انتهى. ويقول : إن المعاد هو عين المبتدأ ، ولو كان مثله لم يسم ذلك إعادة ، بل يكون إنشاء مستأنفا. وقرأ الجمهور : (الْخَلَّاقُ) بنسبة المبالغة لكثرة مخلوقاته. وقرأ الحسن ، والجحدري ، ومالك بن دينار ، وزيد بن علي : الخالق ، اسم فاعل.

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : تقدّم شرح مثل هذه الجملة ، والخلاف في فيكون من حيث القراءة نصبا ورفعا. (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) : تنزيه عام له تعالى من جميع النقائص. وقرأ الجمهور : ملكوت ؛ وطلحة ، والأعمش : ملكة على وزن شجرة ، ومعناه : ضبط كل شيء والقدرة عليه. وقرىء : مملكة ، على وزن مفعلة ؛ وقرىء : ملك ، والمعنى أنه متصرف فيه على ما أراد وقضى. والجمهور : (تُرْجَعُونَ) ، مبنيا للمفعول ، وزيد بن علي : مبنيا للفاعل.


سورة الصافات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ


يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ


لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)

الزجر : الدفع عن الشيء بتسليط وصياح. والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبل والغنم ، إذا صاح عليهما فرجعت لصوته ، قال الشاعر :

زجر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم

يريد تصويته بها. الثاقب : الشديد النفاذ. اللازب : اللازم ما جاوره واللاصق به. اللذيذ : المستطاب ، يقال لذّ الشيء يلذ ، فهو لذيذ ولذ على وزن فعل ، كطلب. قال الشاعر :

تلذ بطعمه وتخال فيه

إذا نبهتها بعد المنام

وقال :

ولذ كطعم الصرخدي تركته

بأرض العدا من خشية الحدثان

يريد النوم.

وقال :

بحديثك اللذي الذي لو كلمت

أسد الفلاة به أتين سراعا

الغول : اسم عام في الأذى ، تقول : غاله كذا وكذا ، إذا ضره في خفاء ، ومنه : الغيلة في العقل ، والغيلة في الرضاع ، وغاله الشيء : أهلكه وأفسده ، ومنه : الغول التي في أكاذيب العرب وفي أمثالهم : الغضب غول الحلم. وقال الشاعر :

مضى أولونا ناعمين بعيشهم

جميعا وغالتني بمكة غول

أي : عاقتني عوائق ، وقال :

وما زالت الخمر تغتالنا

وتذهب بالأول فالأول

نزفت الشارب الخمر وأنزف هو : ذهب عقله من السكر ، فهو نزيف ومنزف ، الثلاثي متعد


والرباعي لازم ، نحو : كبيت الرجل وأكب ، وقشغت الريح السحاب ، وقشع هو : أي دخلا في الكب والقشع. قال الشاعر ، وهو الأسود :

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم

لبئس الندامى كنتم آل أبجرا

ونزف الشارب ، بضم الزاي ، ويقال : نزف المطعون : ذهب دمه كله ، مبينا للمفعول ، ونزحت الركية حتى نزفتها : لم يبق فيها ماء ، ويقال : أنزف الرجل بعد شرابه ، فأنزف مشترك بين سكر ونفد. البيض : معروف ، وهو اسم جنس ، الواحد بيضة ، وسمي بذلك لبياضه ، ويجمع على بيوض. قال الشاعر :

بتيهاء قفر والمطي كأنها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

الزقوم : شجرة مسمومة لها لبن ، إن مس جسم إنسان تورم ومات منه في أغلب الأمر ، تنبت في البلاد المجدبة المجاورة للصحراء. والتزقم : البلع على شدة وجهد. شاب الشيء بالشيء يشوبه شوبا : خلطه ومزجه. راغ يروغ : مال في خفية من روغة الثعلب. زف : أسرع ، وأزف : دخل في الزفيف ، فهمزته به ليست للتعدية ، وأزفه : حمله على الزفيف. قال الأصمعي : فالهمزة فيه للتعدية. وقال الشاعر ، وهو الفرزدق :

فجاء فربع الشول قبل إفالها

يزف وجاءت خلفه وهي زفف

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً* إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).

هذه السورة مكية ، ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى ، وأنه هو منشئهم ، وإذا تعلقت إرادته بشيء ، كان ذكر تعالى وحدانيته ، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجودا وعدما إلا بكون المريد واحدا ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١).

وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته فقال : (وَالصَّافَّاتِ). قال ابن مسعود ، وقتادة ، ومسروق : هم الملائكة ، تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفا ؛ وقيل : تصف أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله. وقيل : من يصف من بني آدم في قتال في سبيل

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٢.


الله ، أو في صلاة وطاعة. وقيل : والطير صافات. والزاجرات ، قال مجاهد ، والسدي : الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى. وقال قتادة : آيات القرآن لتضمنه النواهي الشرعية ؛ وقيل : كل ما زجر عن معاصي الله. والتاليات : القارئات. قال مجاهد : الملائكة يتلون ذكره. وقال قتادة : بنو آدم يتلون كلامه المنزل وتسبيحه وتكبيره. وقال مجاهد : الملائكة يتلون ذكره. قال الزمخشري : ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات ، فالزاجرات بالموعظة والنصائح ، فالتاليات آيات الله ، والدارسات شرائعه ؛ أو بنفوس قراء القرآن في سبيل الله التي تصف الصفوف ، وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلو الذكر مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل. انتهى. وقال ما معناه : إن الفاء العاطفة في الصافات ، إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله :

يا لهف زيابة للحارث الصا

بح ، فالغانم ، فالآيب

أي الذي صبح فغنم فآب ؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه ، كقولك : خذ الأفضل فالأفضل ، واعمل الأحسن فالأجمل ؛ وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك ، كقولك : رحم الله المحلقين فالمقصرين. فأما هنا ، فإن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصافات في التفاضل ، فإذا كان الموحد الملائكة ، فيكون الفضل للصف ، ثم الزجر ، ثم التلاوة ؛ وإما على العكس ، وإن تليت الموصوف ، فترتب في الفضل ، فتكون الصافات ذوات فضل ، والزاجرات أفضل ، والتاليات أبهر فضلا ، أو على العكس. انتهى. ومعنى العكس في المكانين : أنك ترتقي من أفضل إلى فاضل إلى مفضول ؛ أو تبدأ بالأدنى ، ثم بالفاضل ، ثم بالأفضل. وأدغم ابن مسعود ، ومسروق ، والأعمش ، وأبو عمرو ، وحمزة : التاءات الثلاث. والجملة المقسم عليها تضمنت وحدانيته تعالى ، أي هو واحد من جميع الجهات التي ينظر فيها المتفكرون خبر بعد خبر ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وهو أمدح ، أي هو رب.

وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار ، والإبصار بها أكلف ، وذكرها يغني عن ذكر المغارب ، إذ ذاك مفهوم من المشارق ، والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقا ، وكذلك المغارب. تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وتغرب في مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وثنى في (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١) ، باعتبار مشرقي الصيف

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ١٧.


والشتاء ومغربيهما. وقال ابن عطية : أراد تعالى مشارق الشمس ومغاربها ، وهي مائة وثمانون في السنة ، فيما يزعمون ، من أطول أيام السنة إلى أقصرها.

ثم أخبر تعالى عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب ، وانتظام التزيين أن جعلها حفظا وحذرا من الشيطان. انتهى. والزينة مصدر كالسنة ، واسم لما يزان به الشيء ، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة. وقرأ الجمهور : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بالإضافة ، فاحتمل المصدر مضافا للفاعل ، أي بأن زانت السماء الكواكب ، ومضافا للمفعول ، أي بأن زين الله الكواكب. واحتمل أن يكون ما يزان به ، والكواكب بيان للزينة ، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به ، أو مما زينت الكواكب من إضاءتها وثبوتها. وقرأ ابن مسعود ، ومسروق : بخلاف عنه ؛ وأبو زرعة ، وابن وثاب ، وطلحة : بزينة منونا ، الكواكب بالخفض بدلا من زينة. وقرأ ابن وثاب ، ومسروق : بخلاف عنهما ؛ والأعمش ، وطلحة ، وأبو بكر : بزينة منونا ، الكواكب نصبا ، فاحتمل أن يكون بزينة مصدرا ، والكواكب مفعول به ، كقوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) (١). واحتمل أن يكون الكواكب بدلا من السماء ، أي زينا كواكب السماء. وقرأ زيد بن علي بتنوين زينة ، ورفع الكواكب على خبر مبتدأ ، أي هو الكواكب ، أو على الفاعلية بالمصدر ، أي بأن زينت الكواكب. ورفع الفاعل بالمصدر المنون ، زعم الفراء أنه ليس بمسموع ، وأجاز البصريون ذلك على قلة. وقال ابن عباس : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) : بضوء الكواكب ؛ قيل : ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة ، كشكل الثريا ، وبنات نعش ، والجوزاء ، وغير ذلك ، ومطالعها ومسايرها. وخص (السَّماءَ الدُّنْيا) بالذكر ، لأنها التي تشاهد بالأبصار ؛ والحفظ من الشياطين ، إنما هو فيها وحدها. وانتصب (وَحِفْظاً) على المصدر ، أي وحفظناها حفظا ، أو على المفعول من أجله على زيادة الواو ، أو على تأخير العامل ، أي ولحفظها زيناها بالكواكب ، وحملا على معنى ما تقدم ، لأن المعنى : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا : وكل هذه الأقوال منقولة ، والمارد تقدم شرحه في قوله : (شَيْطاناً مَرِيداً) (٢) في النساء ، وهناك جاء (مَرِيداً) ، وهنا (مارِدٍ) ، مراعاة للفواصل.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) : كلام منقطع مبتدأ اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا أو يسمعوا ، وهم مقذوفون بالشهب مبعدون

__________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١١٧.


عن ذلك ، إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة ، فعندها تعاجله الملائكة باتباع الشهاب الثاقب. ولا يجوز أن يكون لا يسمعون صفة ولا استئنافا جوابا لسائل سأل لم يحفظ من الشياطين ، لأن الوصف كونهم لا يسمعون ، أو الجواب لا معنى للحفظ من الشياطين على تقديرهما ، إذ يصير المعنى مع الوصف : وحفظا من كل شيطان مارد غير سامع أو مسمع ، وكذلك لا يستقيم مع كونه جوابا. وقول من قال : إن الأصل لأن لا يسمعوا ، فحذفت اللام وإن ، فارتفع الفعل ، قول متعسف يصان كلام الله عنه. وقرأ الجمهور : لا يسمعون : نفي سماعهم ، وإن كانوا يسمعون بقوله : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (١) ، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه ؛ وابن وثاب ، وعبد الله بن مسلم ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون ، أدغمت التاء في السين ، وتقتضي نفي التسمع. وظاهر الأحاديث أنهم يتسمعون حتى الآن ، لكنهم لا يسمعون ؛ وإن سمع أحد منهم شيئا لم يفلت حرسا وشهبا من وقت بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان الرجم في الجاهلية أحق ، فأما كانت ثمرة التسمع هو السمع ، وقد انتفى السمع بنفي التسمع في هذه القراءة لانتفاء ثمرته ، وهو السمع. و (الْمَلَإِ الْأَعْلى) يعم الملائكة ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض. وقال ابن عباس : هم أشراف الملائكة ، وعنه كتابهم.

(وَيُقْذَفُونَ) : يرمون ويرجمون ، (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) : أي من كل جهة يصعدون إلى السماء منها ، والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض ، وليست بالكواكب الجارية في السماء ، لأن تلك لا ترى حركتها ، وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا ، قاله مكي والنقاش. وقرأ محبوب عن ابن عمرو : ويقذفون مبنيا للفاعل ، ودحورا مصدر في موضع الحال. قال مجاهد : مطرودين ، أو مفعول من أجله ، أي ويقذفون للطرد ، أو مصدر ليقذفون ، لأنه متضمن معنى الطرد ، أي ويدحرون من كل جانب دحورا ، ويقذفون من كل جانب قذفا. فإما أن يكون التجوز في ويقذفون ، وإما في دحورا. وقرأ عليّ ، والسلمي ، وابن أبي عبلة ، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر : دحورا ، بنصب الدال ، أي قذفا دحورا ، بنصب الدال. ويجوز أن يكون مصدرا ، كالقبول والولوغ ، إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة. والواصب : الدائم ، قاله السدّي وأبو صالح ، وتقدّم في سورة النحل.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٢.


ويقال : وصب الشيء وصوبا : دام. وقال مجاهد : الموجع ، ومنه الوصب ، كأن المعنى : أنهم في الدنيا مرجومون ، وفي الآخرة معذبون. ويجوز أن يكون هذا العذاب الدائم لهم في الدنيا ، وهو رجمهم دائما ، وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع.

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) : من بدل من الضمير في لا يسمعون ، ويجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء ، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف. وقرأ الجمهور : خطف ثلاثيا بكسر الطاء. وقرأ الحسن ، وقتادة : بكسر الخاء والطاء مشددة. قال أبو حاتم : ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مرة. وقرىء : خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى ، وعن الحسن أيضا التخفيف. وأصله في هاتين القراءتين اختطف ، ففي الأول لما سكنت للإدغام ، والخاء ساكنة ، كسرت لالتقاء الساكنين ، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعا لحركة الخاء. وعن ابن عباس : خطف بكسر الخاء والطاء مخففة ، اتبع حركة الخاء لحركة الطاء ، كما قالوا نعم. وقرىء : فاتبعه ، مخففا ومشددا. والثاقب ، قال السدي وقتادة : هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ، بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ، وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ، وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ، وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ، قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ، وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ، هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

الاستفتاء نوع من السؤال ، والهمزة ، وإن خرجت إلى معنى التقرير ، فهي في الأصل لمعنى الاستفهام ، أي فاستخبرهم ، والضمير لمشركي مكة. وقيل : نزلت في أبي الأشد بن كلدة ، وكني بذلك لشدة بطشه وقوته. وعادل في هذا الاستفهام التقريري في الأشدية بينهم وبين من خلق من غيرهم من الأمم والجن والملائكة والأفلاك والأرضين. وفي مصحف عبد الله : أم من عددنا ، وهو تفسير لمن خلقنا ، أي من عددنا من الصافات وما بعدها من المخلوقين. وغلب العاقل على غيره في قوله : (مَنْ خَلَقْنا) ، واقتصر على الفاعل في (خَلَقْنا) ، ولم يذكر متعلق الخلق اكتفاء ببيان ما تقدمه ، وكأنه قال : أم من خلقنا من غرائب المصنوعات وعجائبها. وقرأ الأعمش : أمن بتخفيف الميم دون أم ، جعله استفهاما ثانيا تقريرا أيضا ، فهما جملتان مستقلتان في التقرير ، ومن مبتدأ ، والخبر محذوف


تقديره أشد. فعلى أم من هو تقرير واحد ونظيره : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) (١). قال الزمخشري : وأشد خلقا يحتمل أقوى خلقا ، من قولهم : شديد الخلق ، وفي خلقه شدة ، وأصعب خلقا. وأشد خلقا وأشقه يحتمل أقوى خلقا من قولهم : شديد الخلق ، وفي خلقه شدة ، على معنى الرد ، لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى. وإن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ، ولم يصعب عليه اختراعها ، كان خلق الشر عليه أهون. وخلقهم من طين لازب ، إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة ، لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة ؛ أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب. فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله؟ قالوا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. انتهى. والذي يظهر الاحتمال الأول. وقيل : (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) من الأمم الماضية ، كقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) (٢) ، وقوله : و (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) (٣) ، وأضاف : الخلق من الطين إليهم ، والمخلوق منه هو أبوهم آدم ، إذ كانوا نسله. وقال الطبري : خلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء ، وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا يلزم ما جاوره. وعن ابن عباس : اللازب بالجر ، أي الكريم الجيد.

وقرأ الجمهور : (بَلْ عَجِبْتَ) ، بتاء الخطاب ، أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ، ومما تريهم من آثار قدرة الله ، أو عجبت من إنكارهم البعث ، وهم يسخرون من أمر البعث. أو عجبت من إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى ، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن سعدان ، وابن مقسم : بياء المتكلم. ورويت عن عليّ ، وعبد الله ، وابن عباس ، والنخعي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وشقيق ، والأعمش. وأنكر شريح القاضي هذه القراءة. وقال : الله لا يعجب ، فقال إبراهيم : كان شريح معجبا بعلمه ، وعبد الله أعلم منه ، يعني عبد الله بن مسعود. والظاهر أن ضمير المتكلم هو لله تعالى ، والعجب لا يجوز على الله تعالى ، لأنه روعة تعتري المتعجب من الشيء. وقد جاء في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى ، وتؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه. فالمعنى : بل عجبت من ضلالتهم وسوء عملهم ، وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن فيها من شرعي وهداي متعجبا. وقال الزمخشري : أي بلغ من

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ٢٧.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ٣٦.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٤٤.


عظيم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها ، فكيف بعبادي وهؤلاء ، لجهلهم وعنادهم ، يسخرون من آياتي؟ أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله ، وهم يسخرون بمن يصف الله بالقدرة عليه ، قال : ويجرد العجب لمعنى الاستعظام ، أو يخيل العجب ويفرض. وقيل : هو ضمير الرسول ، أي قل بل عجبت. قال مكي ، وعليّ بن سليمان : وهم يسخرون من نبوتك والحق الذي عندك.

(وَإِذا ذُكِّرُوا) ووعظوا ، (لا يَذْكُرُونَ) ، ولا يتعظون. وذكر جناح بن حبيش : ذكروا ، بتخفيف الكاف. روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة ، لقيه الرسول في جبل خال يرعى غنما له ، وكان من أقوى الناس ، فقال له : «يا ركانة ، أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي»؟ قال : نعم ، فصرعه ثلاثا ، ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ، فلم يؤمن ، وجاء إلى مكة فقال : يا بني هاشم ، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض ، فنزلت فيه وفي نظرائه : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ). قال مجاهد ، وقتادة : يسخرون ، يكون استفعل بمعنى المجرد. وقيل : فيه معنى الطلب ، أي يطلبون أن يكونوا ممن يسخرون. وقال الزمخشري : يبالغون في السخرية ، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. وقرىء : يستسحرون ، بالحاء المهملة ، وهو عبارة عن ما قال ركانة لأسحر الرسول. والإشارة بهذا إلى ما ظهر على يديه ، عليه‌السلام ، من الخارق المعجز.

وتقدم الخلاف في كسر ميم (مِتْنا) وضمها. ومن قرأ : (أَإِذا) بالاستفهام ، فجواب إذا محذوف ، أي نبعث ، ويدل عليه إنا لمبعوثون ، أو يعرى عن الشرط ويكون ظرفا محضا ، ويقدر العامل : أنبعث إذا متنا؟ وقرأ الجمهور : (أَوَآباؤُنَا) بفتح الواو في أو. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وابن عامر ، ونافع في رواية قالون : بالسكون ، فهي حرف عطف ، ومن فتح فالواو حرف عطف دخلت عليه همزة الاستفهام. قال الزمخشري : (أَوَآباؤُنَا) معطوف على محل إن واسمها ، أو على الضمير في مبعوثون. والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام ، والمعنى : أيبعث أيضا آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل. انتهى. أما قوله معطوف على محل إن واسمها فمذهب سيبويه خلافه ، لأن قولك : إن زيدا قائم وعمرو ، فيه مرفوع على الابتداء ، وخبره محذوف. وأما قوله : أو على الضمير في (لَمَبْعُوثُونَ) إلى آخره ، فلا يجوز عطفه على الضمير ، لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل ، لا على المفرد ، لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملا في المفرد بوساطة حرف العطف ، وهمزة الاستفهام لا يعمل


فيما بعدها ما قبلها. فقوله : (أَوَآباؤُنَا) مبتدأ ، خبره محذوف تقديره مبعوثون ، ويدل عليه ما قبله. فإذا قلت : أقام زيد أو عمرو ، فعمرو مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا ، واستفهامهم تضمن إنكارا واستبعادا ، فأمر الله نبيه أن يجيبهم بنعم.

(وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) : أي صاغرون ، وهي جملة حالية ، العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون ، وزادهم في الجواب أن بعثهم وهم ملتبسون بالصغار والذل. وقرأ ابن وثاب : نعم بكسر العين ، وتقدم الخلاف فيها في سورة الأعراف ، وهي كناية عن البعثة ، فإنما بعثتهم (زَجْرَةٌ) : أي صيحة ، وهي النفخة الثانية. لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. وقال الزمخشري : هي مبهمة يوضحها خبرها. انتهى. وكثيرا ما يقول هو وابن مالك أن الضمير يفسره الخبر ، وجعل من ذلك ابن مالك (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) (١) ، وتكلمنا معه في ذلك في شرح التسهيل. وقال الزمخشري : فإنما جواب شرط مقدر ، وتقديره : إذا كان ذلك ، فما هي إلا زجرة واحدة. انتهى. وكثيرا ما تضمن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ ، تقديره : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي ، وما ذكر معهما على قول بعضهم ، أما ابتداء فلا يجوز حذفه.

و (يَنْظُرُونَ) : من النظر ، أي فإذا هم بصراء ينظرون ، أو من الانتظار ، أي فإذا هم ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به. والظاهر أن قوله : (يا وَيْلَنا) من كلام بعض الكفار لبعض ، إلى آخر الجملتين ، أقروا بأنه يوم الجزاء ، وأنه يوم الفصل ، وخاطب بعضهم بعضا. ووقف أبو حاتم على قوله : (يا وَيْلَنا) ، وجعل (هذا يَوْمُ الدِّينِ) إلى آخره من قول الله لهم أو الملائكة. وقيل : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) من كلام الكفرة ، و (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) ليس من كلامهم ، وإنما المعنى يقال لهم هذا يوم الفصل. ويوم الدين : يوم الجزاء والمعاوضة ، ويوم الفصل : يوم الفرق بين فرق الهدى وفرق الضلال. وفي (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) توبيخ لهم وتقريع.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ، قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ، قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٣٧.


مُؤْمِنِينَ ، وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ، فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ ، فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ، فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ، إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ ، بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ، وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(احْشُرُوا) : خطاب من الله للملائكة ، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض ، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات ، قاله ابن عباس ، ورجحه الرماني. وأنواعهم وضرباؤهم ، قاله عمر وابن عباس أيضا ، أو أشباههم من العصاة ، وأهل الزنا مع أهل الزنا ، وأهل السرقة ، أو قرناؤهم الشياطين. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي : (وَأَزْواجَهُمْ) ، مرفوعا عطفا على ضمير ظلموا ، أي وظلم أزواجهم. (فَاهْدُوهُمْ) : أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يصطلوها ، والجحيم طبقة من طبقات جهنم. (وَقِفُوهُمْ) ، كما قال : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) (١) ، وهو توبيخ لهم ، (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ). وقرأ عيسى : أنهم ، بفتح الهمزة. قال عبد الله : يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم ، وعنه أيضا : يسألون عن لا إله إلا الله. وقال الجمهور : وعن أعمالهم ، ويوقفون على قبحها. وفي الحديث : «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن ما عمل فيما علم». وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) ، أي إنهم مسؤولون عن امتناعهم عن التناصر ، وهذا على سبيل التوبيخ في الامتناع. وقال الزمخشري : هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين. وقال الثعلبي : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) ، جواب أبي جهل حين قال في بدر : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٢). وقرىء : لا تناصرون ، بتاء واحدة وبتاءين ، وبإدغام إحداهما في الأخرى.

(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) : أي قد أسلم بعضهم بعضا ، وخذله عن عجز ، وكل واحد منهم مستسلم غير منتصر. (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) ، قال قتادة : هم جن وإنس ، وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط. قالوا : أي قالت الإنس للجن. قال مجاهد ، وابن زيد : أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم. و (الْيَمِينِ) :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٢٧.

(٢) سورة القمر : ٥٤ / ٤٤.


الجارحة ، وليست مرادة هنا. فقيل : استعيرت لجهة الخير ، أو للقوة والشدة ، أو لجهة الشهوات ، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد ، أو الحلف. ولكل من هذه الاستعارات وجه.

فأما استعارتها لجهة الخير ، فلأن الجارحة أشرف العضوين وأيمنها ، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح ، ويصافحون ويماسحون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور ، ويباشرون بها أفاضل الأشياء ، وجعلت لكاتب الحسنات ، ولأخذ المؤمن كتابه بها ، والشمال بخلاف ذلك. وأما استعارتها للقوة والشدة ، فإنها يقع بها البطش ، فالمعنى : أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال. وأما استعارتها لجهة الشهوات ، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده ، وجهة شماله فيها قلبه ومكره ، وهي أخف ، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر ، إذ هو أخف شقيه. وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء ، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه. وأما الحلف ، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه.

(قالُوا) ، أي المخاطبون ، إما الجن وإما قادة الكفر : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) : أي لم نقركم على الكفر ، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان. وقال الزمخشري : وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم ، بل كنتم قوما على الكفر غير ملجئين ، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم ، بل كنتم قوما مختارين الطغيان. انتهى. ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جريا على مذهبهم. (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) : أي لزمنا قول ربنا ، أي وعيده لنا بالعذاب. والظاهر أن قوله : (إِنَّا لَذائِقُونَ) ، إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم ، الرؤساء ، والأتباع. وقال الزمخشري : فلزمنا قول ربنا : (إِنَّا لَذائِقُونَ) ، يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة. ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون ، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ، ونحوه قول القائل :

لقد زعمت هوازن قل مالي

ولو حكى قولها لقال : قل مالك ، ومنه قول المحلف للحالف. لأخرجن ، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف ، والتاء لإقبال المحلف على الحلف. انتهى. (فَأَغْوَيْناكُمْ) : دعوناكم إلى الغي ، فكانت فيكم قابلية له فغويتم. (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) : فأردنا أن تشاركونا


في الغي. (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) : أي يوم إذ تساءلوا وتراجعوا في القول ، وهذا إخبار منه تعالى ، كما اشتركوا في الغي ، اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب. (إِنَّا كَذلِكَ) : أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم ، فيترتب على إجرامه عذابه. ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم ، وهو الشرك بالله ، واستكبارهم عن توحيده ، وإفراده بالآلهية. ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول ، وهو نسبته إلى الشعر والجنون ، وأنهم ليسوا بتاركي آلهتهم له ولما جاء به ، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. وقولهم : (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) : تخليط في كلامهم ، وارتباك في غيهم. فإن الشاعر هو عنده من الفهم والحذق وجودة الإدراك ما ينظم به المعاني الغريبة ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة ، ومن كان مجنونا لا يصل إلى شيء من ذلك.

ثم أضرب تعالى عن كلامهم ، وأخبر بأن جاء الحق ، وهو إثبات الذي لا يلحقه اضمحلال ، فليس ما جاء به شعرا ، بل هو الحق الذي لا شك فيه. ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين ، إذ هو وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم إلى التوحيد وترك عبادة غيره. وقرأ عبد الله : وصدق بتخفيف الدال ، المرسلون بالواو رفعا ، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم. وقرأ الجمهور : (لَذائِقُوا الْعَذابِ) ، بحذف النون للإضافة ؛ وأبو السمال ، وأبان ، عن ثعلبة ، عن عاصم : بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب. كما حذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ أحد الله ، ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ : لذائق منونا ، العذاب بالنصب ، ويخرج على أن التقدير جمع ، وإلّا لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في (إِنَّكُمْ) ، وقول الشاعر :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلا قليلا

وقرىء : لذائقون بالنون ، العذاب بالنصب ، وما ترون إلا جزاء مثل عملكم ، إذ هو ثمرة عملكم. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ، يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ، بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ، وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ، قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ، قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ،


أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ).

(إِلَّا عِبادَ اللهِ) : استثناء منقطع. لما ذكر شيئا من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ونعيمهم. و (الْمُخْلَصِينَ) : صفة مدح ، لأن كونهم عباد الله ، يلزم منه أن يكونوا مخلصين. ووصف (رِزْقٌ) بمعلوم ، أي عندهم. فقد قرت عيونهم بما يستدر عليهم من الرزق ، وبأن شهواتهم تأتيهم بحسبها. وقال الزمخشري : معلوم بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل : معلوم الوقت كقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١). وعن قتادة : الرزق المعلوم : الجنة. وقوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يأباه. انتهى. (فَواكِهُ) بدل من (رِزْقٌ) ، وهي ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة ، يعني أن رزقهم كله فواكه لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالأقوات لأنهم أجسام محكمة مخلوقة نلأبد ، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ. وقرأ ابن مقسم : مكرمون ، بفتح الكاف مشدد الراء.

ذكر أولا الرزق ، وهو ما يتلذذ به الأجسام. وثانيا الإكرام ، وهو ما يتلذذ به النفوس ، ورزق بإهانة تنكيد. ثم ذكر المحل الذي هم فيه ، وهو جنات النعيم. ثم أشرف المحل ، وهو السرر. ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضا ، وهو أتم السرور وآنسه. ثم المشروب ، وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم ، بل يطاف عليهم بالكؤوس. ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد. ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية ، وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق ، وهي أبلغ الملاذ ، وهي التآنس بالنساء.

وقرأ الجمهور : (عَلى سُرُرٍ) ، بضم الراء ؛ وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة بعض تميم ؛ وكلب يفتحون ما كان جمعا على فعل من المضعف إذا كان اسما. واختلف النحويون في الصفة ، فمنهم من قاسها على الاسم ففتح ، فيقول ذلك بفتح اللام على تلك اللغة الثانية في الاسم. ومنهم من خص ذلك بالاسم ، وهو مورد السماع في تلك اللغة. وقيل : التقابل لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وفي الحديث : «أنه في أحيان ترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ولا محالة أن أكثر أحيانهم فيها قصورهم». و (يُطافُ) : مبني للمفعول وحذف الفاعل ، وهو المثبت في آية أخرى في قوله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦٢.


مُخَلَّدُونَ) (١) ، (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ) (٢) ، ولعلهم من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي صحيح البخاري أنهم خدم أهل الجنة. والكأس : ما كان من الزجاجة فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ، ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك. وقد سمى الخمر نفسها كأسا ، تسمية للشيء باسم محله ، قال الشاعر :

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

وقال ابن عباس ، والضحاك ، والأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر. وقيل : الكأس هيئة مخصوصة في الأواني ، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ، ولا يراعى كونه لخمر أو لا. (مِنْ مَعِينٍ) : أي من شراب معين ، أو من ثمد معين ، وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء. و (بَيْضاءَ) : صفة للكأس أو للخمر. وقال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وفي قراءة عبد الله : صفراء ، كما قال بعض المولدين :

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها

لو مسها حجر مسته سراء

و (لَذَّةٍ) : صفة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على حذف ، أي ذات لذة ، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ. (لا فِيها غَوْلٌ) ، قال ابن عباس ، وقتادة : هو صداع في الرأس. وقال ابن عباس أيضا ، ومجاهد ، وابن زيد : وجع في البطن. انتهى. والاسم يشمل أنواع الفساد الناشئة عن شرب الخمر ، فينتفي جميعها من مغص ، وصداع ، وخمار ، وعربدة ، ولغو ، وتأثيم ، ونحو ذلك. ولما كان السكر أعظم مفاسدها ، أفرده بالذكر فقال ؛ (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ). وقرأ الحرميان ، والعربيان : بضم الياء وفتح الزاي هنا ، وفي الواقعة : وبذهاب العقل ، فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وحمزة ، والكسائي : بكسرها فيهما ؛ وعاصم : بفتحها هنا وكسرها في الواقعة ؛ وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي ؛ وطلحة : بفتح الياء وضم الزاي. قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : (قاصِراتُ الطَّرْفِ) : قصرن الطرف على أزواجهن ، لا يمتد طرفهن إلى أجنبي بقوله تعالى : (عُرُباً) (٣) ، وقال الشاعر :

من القاصرات الطرف لو دب محول

من الذر فوق الخد منها لأثرا

والعين : جمع عيناء ، وهي الواسعة العين في جمال. (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) : شبههن ،

__________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ١٩.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ٢٤.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٣٧.


قال الجمهور : ببيض النعام المكنون في عشه ، وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة ، وبها تشبه النساء فقال :

مضيئات الخدود

ومنه قول امرئ القيس :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

كبكر مغاناة البياض بصفرة

غذاها نمير الماء غير المحلل

وقال السدي ، وابن جبير : شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخل ، وهو غرقىء البيضة ، وهو المكنون في كن ، ورجحه الطبري وقال : وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون. وعن ابن عباس ، البيض المكنون : الجوهر المصون ، واللفظ ينبو عن هذا القول. وقالت فرقة : هو تشبيه عام جملة المرأة بجملة البيضة ، أراد بذلك تناسب أجزاء المرأة ، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائها إلى نوعه ؛ فنسبة شعرها إلى عينها مستوية ، إذ هما غاية في نوعها ، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء ، لأنها من حيث حسنها في النظر واحد ، كما قال بعض الأدباء يتغزل :

تناسب الأعضاء فيه فلا ترى

بهن اختلافا بل أتين على قدر

وتساؤلهم في الجنة سؤال راحة وتنعم ، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته. و (فَأَقْبَلَ) : معطوف على (يُطافُ عَلَيْهِمْ) ، والمعنى : يشربون فيتحدثون على الشراب ، كعادة الشراب في الدنيا. قال الشاعر :

وما بقيت من اللذات إلا

أحاديث الكرام على المدام

وجيء به ماضيا لصدق الإخبار به ، فكأنه قد وقع. ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى ، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه ، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب ، وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد منهم. قال ابن عباس وغيره : كان هذا القائل وقرينه من البشر. وقالت فرقة : هما اللذان في قوله : (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (١). وقال مجاهد : كان إنسيا وجنيا من الشياطين الكفرة. وقرأ الجمهور : (لَمِنَ

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٨.


الْمُصَدِّقِينَ) ، بتخفيف الصاد ، من التصديق ؛ وفرقة : بشدها ، من التصديق. قال قرة بن ثعلبة النهراني : كانا شريكين بثمانية آلاف درهم ، يعبد الله أحدهما ، ويقصر في التجارة والنظر ؛ والآخر كان مقبلا على ماله ، فانفصل من شريكه لتقصيره ، فكلما اشترى دارا أو جارية أو بستانا ونحوه ، عرضه على المؤمن وفخر عليه ، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة ، فكان من أمرهما في الآخرة ما قصه الله. وقال الزمخشري : نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله ، فاحتاج ، فاستجدى بعض إخوانه ، فقال : وأين مالك؟ فقال : تصدقت به ليعوضني الله في الآخرة خيرا منه ، فقال : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بيوم الدين ، أو من المتصدقين لطلب الثواب؟ والله لا أعطيك شيئا.

(أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) ، قال ابن عباس ، وقتادة والسدي : لمجازون محاسبون ؛ وقيل : لمسوسون مديونون. يقال : دانه : ساسه ، ومنه الحديث : «العاقل من دان نفسه». والظاهر أن الضمير في (قالَ هَلْ أَنْتُمْ) عائد على قائل في قوله : (قالَ قائِلٌ). قيل : وفي الكلام حذف تقديره : فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة : إن قرينك هذا في جهنم يعذب ، فقال عند ذلك : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ). والخطاب في (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) يجوز أن يكون للملائكة ، وأن يكون لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساءلون ، أو لخدمته ، وهذا هو الظاهر. لما كان قرينه ينكر البعث ، علم أنه في النار فقال : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) إلى النار لأريكم ذلك القرين؟ وعلى هذا القول لا يحتاج الكلام إلى حذف ، ولا لقول الملائكة : إن قرينك في جهنم يعذب. قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل : القائل (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) الله تعالى. وقيل : بعض الملائكة يقول لأهل الجنة : بل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقرأ الجمهور : (مُطَّلِعُونَ) ، بتشديد الطاء المفتوحة وفتح النون ، واطلع بشد الطاء فعلا ماضيا. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي : مطلعون ، بإسكان الطاء وفتح النون ، فأطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج. وقرىء : فأطلع ، مشددا مضارعا منصوبا على جواب الاستفهام. وقرىء : مطلعون ، بالتخفيف ، فاطلع مخففا فعلا ماضيا ، وفأطلع مخففا مضارعا منصوبا. وقرأ أبو البرهسم ، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار : مطلعون ، بتخفيف الطاء وكسر النون ، فاطلع ماضيا مبنيا للمفعول ؛ ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره. لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم. والوجه مطلعي ، كما قال ، أو مخرجي


هم ، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع ، وأنشد الطبري على هذا قول الشاعر :

وما أدري وظني كل ظن

أمسلمني إلى قومي شراحي

قال الفراء : يريد شراحيل. وقال الزمخشري : يريد مطلعون إياي ، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله :

هم الفاعلون الخير والآمرونه

أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما ، كأنه قال : تطلعون ، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر. انتهى. والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح ، وتخريجه الأول لا يجوز ، لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل ، فيكون المتصل وضع موضعه ، لا يجوز هند زيد ضارب إياها ، ولا زيد ضارب إياي ، وكلام الزمخشري يدل على جوازه ، فالأولى تخريج أبي الفتح ، وقد جاء منه : أمسلمني إلى قومي شراحي وقول الآخر :

فهل فتى من سراة القوم يحملني

وليس حاملني إلا ابن خمال

وقال الآخر :

وليس بمعييني

فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم ، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجزاء للنون مجرى التنوين ، لا لاجتماعهما في السقوط للإضافة. ويقال : طلع علينا فلان واطلع بمعنى واحد. ومن قرأ : فاطلع مبنيا للمفعول ، فضميره القائل الذي هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو متعد بالهمزة ، إذ يقول : طلع زيد وأطلعه غيره. وقال صاحب اللوامح : طلع واطلع ، إذا بدا وظهر ؛ واطلع اطلاعا ، إذا أقبل وجاء مبنيا ، ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون؟ فأقبل. وإن أقيم المصدر فيه مقام الفاعل بتقديره فاطلع الاطلاع ، أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع به ، لأنه اطلع لازم ، كما أن أقبل كذلك. انتهى. وقد ذكرنا أن أطلع عدى بالهمزة من طلع اللازم ، وأما قوله : أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع به ، فهذا لا يجوز ، لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، لأنه نائب عن الفاعل. فكما أن


الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله ، فكذلك هذا. لو قلت : زيد ممدود أو مغضوب ، تريد به أو عليه ، لم يجز. و (سَواءِ الْجَحِيمِ) : وسطها ، تقول : تعبت حتى انقطع سوائي. قال ابن عباس : سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب ، يعني سواء الجحيم.

وقال خليل العصري : رآه : تبدلت حاله ، فلو لا ما عرفه الله به لم يعرفه ، قال له عند ذلك : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) : أي لتهلكني بإغوائك. وإن مخففة من الثقيلة ، يلقي بها القسم ؛ وتالله قسم فيه التعجب من سلامته منه إذا كان قرينه قارب أن يرديه. (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) : وهي توفيقه للإيمان والبعد من قرين السوء ، (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للعذاب ، كما أحضرته أنت. (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) ، قرأ زيد بن عليّ : بمائتين ، والظاهر أنه من كلام القائل : يسمع قرينه على جهة التوبيخ له ، أي لسنا أهل الجنة بميتين ، لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا ، بخلاف أهل النار ، فإنهم في كل ساعة يتمنون فيها الموت.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ، كحال أهل النار ، بل نحن منعمون دائما. ويكون في خطابه ذلك منكلا له ، مقرعا محزنا له بما أنعم الله به عليه من دخول الجنة ، معلما له بتباين حاله في الآخرة بحاله. كما كانتا تتباينان في الدنيا من أنه ليس بعد الموت جزاء ظهر له خلافه ، يعذب بكفره بالله وإنكار البعث. ويجوز أن يكون خطابا من القائل لرفقائه ، لما رأى ما نزل بقرينه ، وقفهم على نعمه تعالى في ديمومة خلودهم في الجنة ونعيمهم فيها. ويتصل قوله : (إِنَّ هذا) إلى قوله : (الْعامِلُونَ) بهذا التأويل أيضا ، لا واضحا خطابا لرفقائه. ويجوز أن يكون تم كلامه عند قوله : (لَتُرْدِينِ) ، ويكون (أَفَما نَحْنُ) إلى (بِمُعَذَّبِينَ) من كلامه وكلام رفقائه ، وكذلك (إِنَّ هذا) إلى (الْعامِلُونَ) : أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه من النعيم والنجاة من النار. وقيل : هو من قول الله تعالى ، تقريرا لقولهم وتصديقا له وخطابا لرسول الله وأمّته ، ويقوي هذا قوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) ، والآخرة ليست بدار عمل ، ولا يناسب ذلك قول المؤمن في الآخرة إلا على تجوز ، كأنه يقول : لمثل هذا ينبغي أن يعمل العاملون. وقال الزمخشري : الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه : أنحن مخلدون؟ أي منعمون ، فما نحن بميتين ولا معذبين. انتهى. وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام ، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما ، يصح به إقرار الهمزة والحرف في محليهما اللذين وقعا فيهما ، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير ، والهمزة بعده ، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت ، فالتقدير عند الجماعة. فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة ، وتقدم الكلام معه في ذلك.


(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ، إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ، إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ، إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ، وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ، وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ).

لما انقضت قصة المؤمن وقرينه ، وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء إلى شيء ، عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعده الله فيها لأهلها فقال : أذلك الرزق (خَيْرٌ نُزُلاً)؟ والنزول ما يعد للأضياف ، وعادل بين ذلك الرزق وبين (شَجَرَةُ الزَّقُّومِ). فلاستواء الرزق المعلوم يحصل به اللذة والسرور ، وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم ، فلا اشتراك بينهما في الخيرية. والمراد تقرير قريش والكفار وتوقيفهم على شيئين ، أحدهما فاسد. ولو كان الكلام استفهاما حقيقة لم يجز ، إذ لا يتوهم أحد أن في شجرة الزقوم خيرا حتى يعادل بينهما وبين رزق الجنة. ولكن المؤمن ، لما اختار ما أدّى إلى رزق الجنة ، والكافر اختار ما أدّى إلى شجرة الزقوم ، قيل ذلك توبيخا للكافرين وتوقيفا على سوء اختيارهم. (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) ، قال قتادة ، ومجاهد ، والسدي : أبو جهل ونظراؤه ، لما نزلت قال للكفار ، يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار ، وهي تأكلها وتذهبها ، ففتنوا بذلك أنفسهم وجملة أتباعهم. وقال أبو جهل : إنما الزقوم : التمر بالزبد ، ونحن نتزقمه. وقيل : منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. واستعير الطلع ، وهي النخلة ، لما تحمل هذه الشجرة ، وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رؤوس الشياطين ، وهي بناحية اليمن يقال لها الاستن ، وذكرها النابغة في قوله :

تحيد من استن سود أسافله

مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما

وهو شجر خشن مر منكر الصورة ، سمت ثمره العرب بذلك تشبها برؤوس الشياطين ، ثم صار أصلا يشبه به. وقيل : هو شجرة يقال لها الصوم ، ذكرها ساعدة بن حوبة الهذلي في قوله :


موكل بشدوف الصوم يرقبها

من المناظر مخطوف الحشازرم

وقيل : الشياطين صنف من الحيات ذوات أعراف ، ومنه :

عجيز تحلف حين أحلف

كمثل شيطان الحماط أعرف

وقيل : شبه بما اشتهر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها ، وإن كانت غير مرثية ، ولذلك يصورون الشيطان في أقبح الصور. وإذا رأوا أشعث منتفش الشعر قالوا : كأنه وجه شيطان ، وكأن رأسه رأس شيطان ، وهذه بخلاف الملك ، يشبهون به الصورة الحسنة. وكما شبه امرؤ القيس المسنونة الزرق بأنياب الغول في قوله :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وإن كان لم يشاهد تلك الأنياب ، وهذا كله تشبيه تخييلي. والضمير في منها يعود على الشجرة ، أي من طلعها. وقرأ الجمهور : (لَشَوْباً) بفتح الشين ؛ وشيبان النحوي : بضمها. وقال الزجاج : الفتح للمصدر والضم للاسم ، يعني أنه فعل بمعنى مفعول ، أي مشوب ، كالنقص بمعنى المنقوص. وفسر بالخلط والحميم الماء السخن جدا ، وقيل : يراد به هنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ساح منهم. ولما ذكر أنهم يملأون بطونهم من شجرة الزقوم للجوع الذي يلحقهم ، أو لإكراههم على الأكل وملء البطون زيادة في عذابهم ، ذكر ما يسقون لغلبة العطش ، وهو ما يمزج لهم من الحميم. ولما كان الأكل يعتقبه ملء البطن ، كان العطف بالفاء في قوله : (فَمالِؤُنَ). ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل ، أتى بلفظ ثم المقتضية المهلة ، أو لما امتلأت بطونهم من ثمرة الشجرة ، وهو حار ، أحرق بطونهم وعطشهم ، فأخر سقيهم زمانا ليزدادوا بالعطش عذابا إلى عذابهم ، ثم سقوا ما هو أحر وآلم وأكره.

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) : لما ذهب بهم من منازلهم التي أسكنوها في النار إلى شجرة الزقوم للأكل والتملؤ منها والسقي من الحميم ونواحي رجوعهم إلى منازلهم ، دخلت ثم للدلالة على ذلك ، والرجوع دليل على الانتقال في وقت الأكل والشرب إلى مكان غير مكانهما ، ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم. والضمير لقريش ، وأن ذلك التقليد كان سببا لاستحقاقهم تلك الشدائد ، أي وجدوا آباءهم ضالين ، فاتبعوهم على ضلالتهم ، مسرعين في ذلك لا يثبطهم شيء. ثم أخبر بضلال أكثر من تقدم من الأمم ، هذا وما خلت أزمانهم من إرسال الرسل ، وإنذارهم عواقب التكذيب. وفي قوله : (فَانْظُرْ) ما يقتضي


إهلاكهم وسوء عاقبتهم ، واستثنى المخلصين من عباده ، وهم الأقل المقابل لقوله : (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) ، والمعنى : إلا عباد الله ، فإنهم نجوا. ولما ذكر ضلال الأولين ، وذكر أولهم شهرة ، وهم قوم نوح ، عليه‌السلام ، تضمن أشياء منها : الدعاء على قومه ، وسؤاله النجاة ، وطلب النصرة. وأجابه تعالى في كل ذلك إجابة بلغ بها مراده. واللام في (فَلَنِعْمَ) جواب قسم كقوله :

يمينا لنعم السيدان وجدتما

والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : فلنعم المجيبون نحن ، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء لقوله : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (١) و (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) ، قال السدي : الغرق ، ومنه تكذيب الكفرة وركوب الماء ، وهوله ، وهم فصل متعين للفصلية لا يحتمل غيره. قال ابن عباس ، وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح. وفي الحديث : «أنه عليه‌السلام قرأ (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) فقال : سام وحام ويافث». وقال الطبري : العرب من أولاد سام ، والسودان من أولاد حام ، والترك وغيرهم من أولاد يافث. وقالت فرقة : أبقى الله ذرية نوح ومد في نسله ، وليس الناس منحصرين في نسله ، بل في الأمم من لا يرجع إليه.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) : أي في الباقين غابر الدهر ؛ ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسنا جميلا في آخر الدهر ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وسلام : رفع بالابتداء مستأنف ، سلم الله عليه ليقتدي بذلك البشر ، فلا يذكره أحد من العالمين بسوء. سلم تعالى عليه جزاء على ما صبر طويلا ، من أقوال الكفرة وإذايتهم له. وقال الزمخشري : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ، هذه الكلمة ، وهي (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) يعني : يسلمون عليه تسليما ، ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي ، كقولك : قرأت سورة أنزلناها. انتهى. وهذا قول الفراء وغيره من الكوفيين ، وهذا هو المتروك عليه ، وكأنه قال : وتركنا على نوح تسليما يسلم به عليه إلى يوم القيامة. انتهى. وفي قراءة عبد الله : سلاما بالنصب ، ومعنى في العالمين : ثبوت هذه التحية مثبوتة فيهم جميعا ، مدامة عليه في الملائكة ، والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. ثم علل هذه التحية بأنه كان محسنا ، ثم علل إحسانه بكونه مؤمنا ، فدل على جلالة الإيمان ومحله عند الله. (ثُمَّ

__________________

(١) سورة المرسلات : ٧٧ / ٢٣.


أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) : أي من كان مكذبا له من قومه ، لما ذكر تحياته ونجاة أهله ، إذ كانوا مؤمنين ، ذكر هلاك غيرهم بالغرق.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ، فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ، فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ ، ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ، فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ، قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ، قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ).

والظاهر عود الضمير في (مِنْ شِيعَتِهِ) على نوح ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، أي ممن شايعه في أصول الدين والتوحيد ، وان اختلفت شرائعهما ، أو اتفق أكثرهما ، أو ممن شايعه في التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفا سنة وستمائة وأربعون سنة ، وبينهما من الأنبياء هود وصالح ، عليهما‌السلام. وقال الفراء : الضمير في (مِنْ شِيعَتِهِ) يعود على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأعراف أن المتأخر في الزمان هو شيعة للمتقدم ، وجاء عكس ذلك في قول الكميت :

وما لي إلا آل أحمد شيعة

وما لي إلا مشعب الحق مشعب

جعلهم شيعة لنفسه. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق الظرف؟ قلت : بما في الشيعة من معنى المشايعة ، يعني : وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم ، أو بمحذوف ، وهو اذكر. انتهى. أما التخريج الأول فلا يجوز ، لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وهو قوله : (لَإِبْراهِيمَ) ، لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ ، وزاد المنع ، إذ قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم. وأيضا فلام التوكيد يمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها. لو قلت : إن ضاربا لقادم علينا زيدا ، وتقديره : إن ضاربا زيدا لقادم علينا ، لم يجز. وأما تقديره اذكر ، فهو المعهود عند المعربين. ومجيئه ربه بقلب سليم : إخلاصه الدين لله ، وسلامة قلبه : براءته من الشرك والشك والنقائص التي تعتري القلوب من الغل والحسد والخبث والمكر والكبر ونحوها. قال عروة بن الزبير : لم يلعن شيئا قط. وقيل : سليم من الشرك ولا معنى للتخصيص. وأجازوا في نصب (أَإِفْكاً) وجوها : أحدها : أن يكون مفعولا بتريدون ، والتهديد لأمته ، وهو استفهام تقرير ، ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه ، وذكره الزمخشري قال : فسر الإفك بقوله : آلهة من دون الله ، على أنها إفك في


أنفسهم. والثاني : أن يكون مفعولا من أجله ، أي تريدون آلهة من دون الله إفكا ، وآلهة مفعول به ، وقدمه عناية به ، وقدم المفعول له على المفعول به ، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم ، وبدأ بهذا الوجه الزمخشري. والثالث : أن يكون حالا ، أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟ قاله الزمخشري ، وجعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أما في نحو : أما علما فعالم.

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) : استفهام توبيخ وتحذير وتوعد ، أي : أي شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه ، إذ هو رب العالمين حتى تركتم عبادته وعدلتم به الأصنام؟ أي : أيّ شيء ظنكم بفعله معكم من عقابكم ، إذ قد عبدتم غيره؟ كما تقول : أسأت آل فلان ، فما ظنك به أن يوقع بك خيرا ما أسأت إليه؟ ولما وبخهم على عبادة غير الله ، أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تنفع ولا تضر ، فعهد إلى ما يجعله منفردا بها حتى يكسرها ويبين لهم حالها وعجزها. (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) ، والظاهر أنه أراد علم الكواكب ، وما يعزى إليها من التأثيرات التي جعلها الله لها. والظاهر أن نظره كان فيها ، أي في علمها ، أو في كتابها الذي اشتمل على أحوالها وأحكامها. قيل : وكانوا يعانون ذلك ، فأتاهم من الجهة التي يعانونها ، وأوهمهم بأنه استدل بأمارة في علم النجوم أنه سقيم ، أي يشارف السقم. قيل : وهو الطاعون ، وكان أغلب الأسقام عليهم إذ ذاك ، وخافوا العدوى وهربوا منه إلى عيدهم ، ولذلك قال : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) ، قال معناه ابن عباس ، وتركوه في بيت الأصنام ففعل ما فعل. وقيل : كانوا أهل رعاية وفلاحة ، وكانوا يحتاجون إلى علم النجوم. وقيل : أرسل إليهم ملكهم أن غدا عيدنا ، فاحضر معنا ، فنظر إلى نجم طالع فقال : إن هذا يطلع مع سقمي. وقيل : معنى (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) ، أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم ، ومعنى : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) ، أي لكفرهم به واحتقارهم له ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، من المعاريض ، عرض أنه يسقم في المآل ، أي يشارف السقم. قيل : وهو الطاعون ، وكان أغلب ، وفهموا منه أنه ملتبس بالسقم ، وابن آدم لا بد أن يسقم ، والمثل : كفى بالسلامة داء. قال الشاعر :

فدعوت ربي بالسلامة جاهدا

ليصحني فإذا السلامة داء

ومات رجل فجأة ، فاكتنف عليه الناس فقالوا : مات وهو صحيح ، فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه؟ (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) : أي أصنامهم التي هي في زعمهم


آلهة ، كقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) (١) ، وعرض الأكل عليها. واستفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء ، لكونها منحطة عن رتبة عابديها ، إذ هم يأكلون وينطقون. وروي أنهم كانوا يضعون عندها طعاما ، ويعتقدون أنها تصيب منه شيئا ، وإنما يأكله خدمتها. (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) : أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا ، فهو مصدر فى موضع الحال ، أو يضربهم ضربا ، فهو مصدر فعل محذوف ، أو ضمن فراغ عليهم معنى ضربهم ، وباليمين : أي يمين يديه. قال ابن عباس : لأنها أقوى يديه أو بقوته ، لأنه قيل : كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس. وقيل : سبب الحلف الذي هو : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) (٢).

وقرأ الجمهور : (يَزِفُّونَ) ، بفتح الياء ، من زف : أسرع ، أو من زفاف العروس ، وهو التمهل في المشية ، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم. وقرأ حمزة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، والأعمش : بضم الياء ، من أزف : دخل في الزفيف ، فهي للتعدي ، قاله الأصمعي. وقرأ مجاهد أيضا ، وعبد الله بن يزيد ، والضحاك ، ويحيى بن عبد الرحمن المقري ، وابن أبي عبلة : يزفون مضارع زف بمعنى أسرع. وقال الكسائي ، والفراء : لا نعرفها بمعنى زف. وقال مجاهد : الوزيف : السيلان. وقرىء : يزفون مبنيا للمفعول. وقرىء : يزفون بسكون الزاي ، من زفاه إذا حداه ، فكان بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه. وبين قوله : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) وبين قوله : (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) جمل محذوفة هي مذكورة في سورة اقترب ، ولا تعارض بين قوله : (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) وبين سؤالهم (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) (٣) ، وأخبار من عرض بأنه إبراهيم كان يذكر أصنامهم ، لأن هذا الإقبال كان يقتضي تلك الجمل المحذوفة ، أي فأقبلوا إليه ، أي إلى الإنكار عليه في كسر أصنامهم وتأنيبه على ذلك. وليس هذا الإقبال من عندهم ، بل بعد مجيئهم من عندهم جرت تلك المفاوضات المذكورة في سورة اقترب.

واستسلف الزمخشري في كلامه أشياء لم تتضمنها الآيات ، صارت الآيات عنده بها كالمتناقضة. قال ، حيث ذكر هاهنا : إنهم أدبروا عنه خيفة العدوى ، فلما أبصروه يكسر أصنامهم ، أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به. وذكرتم أنهم سألوا عن الكاسر حتى قيل :

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٢٧ ، وسورة القصص : ٢٨ / ٦٢ ، و ٧٤ ، وسورة فصلت : ٤١ / ٤٧.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٥٧.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٥٩.


سمعنا إبراهيم يذمهم ، فلعله هو الكاسر. ففي إحداهما أنهم شاهدوه يكسرها ، وفي الأخرى أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. انتهى. ما أبدى من التناقض ، وليس في الآيات ما يدل على أنهم أبصروه يكسرهم ، فيكون فيه كالتناقض. ولما قرر أنه كالتناقض قال : قلت فيه وجهان : أحدهما : أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرا منهم دون جمهورهم وكبرائهم ، فلما رجع الجمهور والعلية من عندهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة ، اشمأزوا من ذلك وسألوا من فعل هذا بها؟ لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة ، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم : سمعنا فتى يذكرهم لبعض الصوارف. والثاني : أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد ، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم ، وسؤالهم عن الكاسر ، وقولهم : (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) (١). انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي ذكر هو الصحيح.

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) : استفهام توبيخ وإنكار عليهم ، كيف هم يعبدون صورا صوّروها بأيديهم وشكلوها على ما يريدون من الأشكال؟ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) : الظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في خلقكم ، أي أنشأ ذواتكم وذوات ما تعملون من الأصنام ، والعمل هنا هو التصوير والتشكيل ، كما يقول : عمل الصائغ الخلخال ، وعمل الحداد القفل ، والنجار الخزانة ؛ ويحمل ذلك على أن ما بمعنى الذي يتم الاحتجاج عليهم ، بأن كلا من الصنم وعابده هو مخلوق لله تعالى ، والعابد هو المصور ذلك المعبود ، فكيف يعبد مخلوق مخلوقا؟ وكلاهما خلق الله ، وهو المنفرد بإنشاء ذواتهما. والعابد مصور الصنم معبوده. و «ما» في : و (ما تَنْحِتُونَ) بمعنى تاذي ، فكذلك في (وَما تَعْمَلُونَ) ، لأن نحتهم هو عملهم. وقيل : ما مصدرية ، أي خلقكم وعملكم ، وجعلوا ذلك قاعدة على خلق الله أفعال العباد. وقد بدد الزمخشري تقابل هذه المقالة بما يوقف عليه في كتابه. وقيل : ما استفهام إنكاري ، أي : وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناما تنحتونها؟ أي لا عمل لكم يعتبر. وقيل : ما نافية ، أي وما أنتم تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء. وكون ما مصدرية واستفهامية ونعتا ، أقوال متعلقة خارجة عن طريق البلاغة. ولما غلبهم إبراهيم ، عليه‌السلام ، بالحجة ، مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة والجمع فقالوا : (ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) ، أي في موضع إيقاد النار. وقيل : هو

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦١.


المنجنيق الذي رمي عنه. وأرادوا به كيدا ، فأبطل الله مكرهم ، وجعلهم الأخسرين الأسفلين ، وكذا عادة من غلب بالحجة رجع إلى الكيد.

وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩)


إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)

تل الرجل الرجل : صرعه على شقه ، وقيل : وضعه بقوة. وقال ساعدة بن حوبة : وتل.

تليلا للجبين وللفم

والجبينان : ما اكتنف من هنا ومن هنا ، وشذ جمع الجبين على أجبن ، وقياسه في


القلة أجبنة ، ككثيب وأكثبة ، وفي الكثرة : جبنات وجبن ، ككثبات وكثب. الذبح : اسم ما يذبح ، كالرعي اسم ما يرعى. أبق : هرب. ساهم : قارع. المدحض : المقلوب. الحوت : معروف. ألام : أتى بما يلام عليه ، قال الشاعر :

وكم من مليم لم يصب بملامة

ومتبع بالذنب ليس له ذنب

العراء : الأرض الفيحاء لا شجر فيها ولا يعلم ، قال الشاعر :

رفعت رجلا لا أخاف عثارها

ونبذت بالمين العراء ثيابي

اليقطين : يفعيل كاليفصيد ، من قطن : أقام بالمكان ، وهو بالمكان ، وهو ما كان من الشجر لا يقوم على ساق من عود ، كشجر البطيخ والحنظل والقثاء. الساحة : الفناء ، وجمعها سوح ، قال الشاعر :

فكان سيان أن لا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها واغبرت السوح

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ).

لما سلمه الله منهم ومن النار التي ألقوه فيها ، عزم على مفارقتهم ، وعبر بالذهاب إلى ربه عن هجرته إلى أرض الشام. كما قال : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) (١) ، ليتمكن من عبادة ربه ويتضرع له من غير أن يلقى من يشوش عليه ، فهاجر من أرض بابل ، من مملكة نمرود ، إلى الشام. وقيل : إلى أرض مصر. ويبعد قول من قال : ليس المراد بذهابه الهجرة ، وإنما مراده لقاء الله بعد الإحراق ، ظانا منه أنه سيموت في النار ، فقالها قبل أن يطرح في النار. و (سَيَهْدِينِ) : أي إلى الجنة ، نحا إلى هذا قتادة ، لأن قوله : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) يدفع هذا القول ، والمعتقد أنه يموت في النار لا يدعو بأن يهب الله له ولدا صالحا. (سَيَهْدِينِ) : يوفقني إلى ما فيه صلاحي. (مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي ولدا يكون في عداد

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٦.


الصالحين. ولفظ الهبة غلب في الولد ، وإن كان قد جاء في الأخ ، كقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (١). واشتملت البشارة على ذكورية المولود وبلوغه سن الحلم ووصفه بالحلم ، وأي حلم أعظم من قوله ، وقد عرض عليه أبوه الذبح : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)؟

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) ، بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف تقديره : فولد له وشب. (فَلَمَّا بَلَغَ) : أي بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : والسعي هنا : العمل والعبادة والمعونة. وقال قتادة : السعي على القدم ، يريد سعيا متمكنا ، وفيه قال الزمخشري : لا يصح تعلقه ببلغ به بلوغهما معا حد السعي ولا بالسعي ، لأن أصله المصدر لا يتقدم عليه ، فنفى أن يكون بيانا ، كأنه لما قال : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) ، أي الحد الذي يقدر فيه على السعي ، قيل : مع من؟ فقال : مع أبيه ، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس وأعطفهم عليه وعلى غيره وبما عنف عليه في الاستسعاء ، فلا يحتمله ، لأنه لم يستحكم قوله ، ولم يطلب عوده ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. انتهى.

(قالَ يا بُنَيَ) : نداء شفقة وترحم. (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) : أي بأمر من الله ، ويدل عليه : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ). ورؤيا الأنبياء وحي كاليقظة ، وذكره له الرؤيا تجسير على احتمال تلك البلية العظيمة. وشاوره بقوله : (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) ، وإن كان حتما من الله ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم ، ويصبره إن جزع ، ويوطن نفسه على ملاقاة هذا البلاء ، وتسكن نفسه لما لا بد منه ، إذ مفاجأة البلاء قبل الشعور به أصعب على النفس ، وكان ما رآه في المنام ولم يكن في اليقظة ، كرؤيا يوسف عليه‌السلام ، ورؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخول المسجد الحرام ، ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناما سواء في الصدق متظافرتان عليه.

قيل : إنه حين بشرت الملائكة بغلام حليم قال : هو إذن ذبيح الله.

فلما بلغ حد السعي معه قيل له : أوف بنذرك. قيل : رأى ليلة التروية قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا. فلما أصبح ، روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح. أمن الله هذا الحلم ، فمن ثم سمي يوم التروية. فلما أمسى ، رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثم سمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمّ بنحره ، فسمي يوم النحر.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٥٣.


وقرأ الجمهور : (تَرى) ، بفتح التاء والراء ؛ وعبد الله ، والأسود بن يزيد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، ومجاهد ، وحمزة ، والكسائي : بضم التاء وكسر الراء ؛ والضحاك ، والأعمش أيضا بضم التاء وفتح الراء. فالأول من الرأي ، والثاني ماذا ترينيه وما تبديه لأنظر فيه؟ والثالث ما الذي يخيل إليك ويوقع في قلبك؟ وانظر معلقة ، وماذا استفهام. فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي ، فما مبتدأ ، والفعل بعد ذا صلة. وإن كانت ذا مركبة ، ففي موضع نصب بالفعل بعدها. والجملة ، واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لأنظر. ولما كان خطاب الأب (يا بُنَيَ) ، على سبيل الترحم ، قال : هو (يا أَبَتِ) ، على سبيل التعظيم والتوقير. (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) : أي ما تؤمره ، حذفه وهو منصوب ، وأصله ما تؤمر به ، فحذف الحرف ، واتصل الضمير منصوبا ، فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه. وقال الزمخشري : أو أمرك ، على إضافة المصدر إلى المفعول الذي لم يسم فاعله ، وفي ذلك خلاف ؛ هل يعتقد في المصدر العامل أن يجوز أن يبنى للمفعول ، فيكون ما بعده مفعولا لم يسم فاعله ، أم يكون ذلك؟ (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) : كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله ، والرضا بما أمر الله.

(فَلَمَّا أَسْلَما) : أي لأمر الله ، ويقال : استسلم وسلم بمعناها. وقرأ الجمهور : أسلما. وقرأ عبد الله ، وعلي ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وجعفر بن محمد ، والأعمش ، والثوري : سلما : أي فوضا إليه في قضائه وقدره. وقرىء : استسلما ، ثلاث قراءات. وقال قتادة في أسلما : أسلم هذا ابنه ، وأسلم هذا نفسه ، فجعل أسلما متعديا ، وغيره جعله لازما بمعنى : انقادا لأمر الله وخضعا له. (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) : أي أوقعه على أحد جنبيه في الأرض مباشرا الأمر بصبر وجلد ، وذلك عند الصخرة التي بمنى ؛ وعن الحسن : في الموضع المشرف على مسجد منى ؛ وعن الضحاك : في المنحر الذي ينحر فيه اليوم. وجواب لما محذوف يقدر بعد (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) ، أي أجزلنا أجرهما ، قاله بعض البصريين ؛ أو بعد (الرُّؤْيا) ، أي كان ما كان مما تنطبق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما وحمدهما الله على ما أنعم به إلى ألفاظ كثيرة ذكرها الزمخشري على عادته في خطابته ؛ أو قبل (وَتَلَّهُ) تقديره : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ). قال ابن عطية : وهو قول الخليل وسيبويه ، وهو عندهم كقول امرئ القيس :

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

وقال الكوفيون : الجواب مثبت ، وهو : (وَنادَيْناهُ) على زيادة الواو. وقالت فرقة : هو


(وَتَلَّهُ) على زيادة الواو. وذكر الزمخشري في قصة إبراهيم وابنه ، وما جرى بينهما من الأقوال والأفعال فصولا ، الله أعلم بصحتها ، يوقف عليها في كتابه. وأن مفسرة ، أي (قَدْ صَدَّقْتَ). وقرأ زيد بن علي : وناديناه قد صدقت ، بحذف أن ؛ وقرىء : صدقت ، بتخفيف الدال. وقرأ فياض : الريا ، بكسر الراء والإدغام وتصديق الرؤيا. قال الزمخشري : بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه ، لكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه ، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم. ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا؟ بل يسمى مطيعا ومجتهدا ، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم. وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ، ولا قبل أوان الفعل في شيء ، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه. وقال ابن عطية : (قَدْ صَدَّقْتَ) ، يحتمل أن يريد بقلبك على معنى : كانت عندك رؤياك صادقة حقا من الله فعملت بحسبها حين آمنت بها ، واعتقدت صدقها. ويحتمل أن يريد : صدقت بقلبك ما حصل عن الرؤيا في نفسك ، كأنه قال : قد وفيتها حقها من العمل. انتهى. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : تعليل لتخويل ما خولهما الله من الفرج بعد الشدة ، والظفر بالبغية بعد اليأس.

(إِنَّ هذا) : أي ما أمر به إبراهيم من ذبح ابنه ، (لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) : أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون وغيرهم ، أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها. (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ) ، قال ابن عباس : هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل. وقال أيضا هو والحسن : فدي بوعل أهبط عليه من سرو. وقال الجمهور : كبش أبيض أقرن أقنى ، ووصف بالعظم. قال مجاهد : لأنه متقبل يقينا. وقال عمرو بن عبيد : لأنه جرت السنة به ، وصار دينا باقيا إلى آخر الدهر. وقال الحسن بن الفضل : لأنه كان من عند الله. وقال أبو بكر الوراق : لأنه لم يكن عن نسل ، بل عن التكوين. وقال ابن عباس ، وابن جبير : عظمته كونه من كباش الجنة ، رعى فيها أربعين خريفا. وفي قوله : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) دليل على أن إبراهيم لم يذبح ابنه ، وقد فدي. وقالت فرقة : وقع الذبح وقام بعد ذلك. قال ابن عطية : وهذا كذب صراح. وقالت فرقة : لم ير إبراهيم في منامه الإمرار بالشفرة فقط ، فظن أنه ذبح مجهز ، فنفذ لذلك. فلما وقع الذي رآه وقع النسخ ، قال : ولا اختلاف ، فإن إبراهيم عليه‌السلام ، أمرّ الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع. انتهى. والذي دل عليه القرآن أنه (تَلَّهُ لِلْجَبِينِ) فقط ، ولم يأت في حديث


صحيح أنه أمرّ الشفرة على حلق ابنه. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) إلى : (الْمُؤْمِنِينَ) ، تقدم تفسير نظيره في آخر قصة نوح ، قبل قصة إبراهيم هنا ، وقال هنا كذلك دون إنا ، اكتفاء بذكر ذلك قبل وبعد.

(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) : الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة ، وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل ، وأنه هو الذبيح لا إسحاق ؛ وهو قول ابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومحمد بن كعب القرظي ، والشعبي ، والحسن ، ومجاهد ، وجماعة من التابعين ؛ واستدلوا بظاهر هذه الآيات وبقوله عليه‌السلام : أنا ابن الذبيحين ، وقول الأعرابي له : يا ابن الذبيحين ، فتبسم عليه‌السلام ، يعني إسماعيل ، وأباه عبد الله. وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بها. وفيما أوحى الله لموسى في حديث طويل. وأما إسماعيل ، فإنه جاد بدم نفسه. وسأل عمر بن عبد العزيز يهوديا أسلم عن ذلك فقال : إن يهوديا ليعلم ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة. وسأل الأصمعي أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي ، أين عزب عنك عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة؟ انتهى. ووصفه تعالى بالصبر في قوله : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١) ، وهو صبره على الذبح ؛ وبصدق الوعد في قوله : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) (٢) ، لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به. وذكر الطبري أن ابن عباس قال : الذبيح إسماعيل ، ويزعم اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود. ومن أقوى ما يستدل به أن الله تعالى بشر إبراهيم بإسحاق ، وولد إسحاق يعقوب. فلو كان الذبيح إسحاق ، لكان ذلك الإخبار غير مطابق للواقع ، وهو محال في إخبار الله تعالى. وذهبت جماعة إلى أن الذبيح هو إسحاق ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، وابن مسعود ، وعلي ، وعطاء ، وعكرمة ، وكعب ، وعبيد بن عمير ، وابن عباس في رواية ، وكان أمر ذبحه بالشأم. وقال عطاء ومقاتل : ببيت المقدس ؛ وقيل : بالحجاز ، جاء مع أبيه على البراق. وقال عبيد بن عمير ، وابن عباس في رواية : وكان أمر ذبحه بالشأم ، كان بالمقام. وقال ابن عباس : والبشارة في قوله : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) ، هي بشارة نبوته. وقالوا : أخبر تعالى عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدا ، ثم أتبع تلك البشارة بغلام حليم ،

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٥.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٥٤.


ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به ، ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف ، عليهما‌السلام : من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. ومن جعل الذبيح إسحاق ، جعل هذه البشارة بشارة بنبوته ، كما ذكرنا عن ابن عباس. وقالوا : لا يجوز أن يبشره الله بولادته ونبوته معا ، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبيا. ومن جعله إسماعيل ، جعل البشارة بولده إسحاق. وانتصب نبيا على الحال ، وهي حال مقدرة. فإن كان إسحاق هو الذبيح ، وكانت هذه البشارة بولادة إسحاق ، فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال. فإن قلت : فرق بين هذا وقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (١) ، وذلك أن المدخول موجود مع وجود الدخول ، والخلود غير موجود معهما ، فقدرت مقدرين للخلود ، فكان مستقيما. وليس كذلك المبشر به ، فإنه معلوم وقت وجود البشارة ، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله ، لأن الحال حلية لا تقوم إلا بالمحلى. وهذا المبشر به الذي هو إسحاق ، حين وجد لم توجد النبوة أيضا بوجوده ، بل تراخت عنه مدة طويلة ، فكيف يجعل نبيا حالا مقدرة؟ والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به. فالخلود ، وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة ، فتقديرها صفتهم ، لأن المعنى : مقدرين الخلود. وليس كذلك النبوة ، فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق. قلت : هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك ، والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف وذلك قوله : (وَبَشَّرْناهُ) بوجود إسحاق نبيا ، أي بأن يوجد مقدرة نبوته ، فالعامل في الحال الوجود ، لا فعل البشارة ؛ وبذلك يرجع نظير قوله تعالى : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٢) ، (مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣) ، حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ ، لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصالحين. انتهى.

(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) : أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، وبأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ) : فيه وعيد لليهود ومن كان من ذريتهما لم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه دليل على أن البر قد يلد الفاجر ، ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ

__________________

(١ ـ ٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٧٣.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٣٩ وغيرها من السور.


الْمُسْتَقِيمَ ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ، أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ، اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

(الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : تعبد القبط لهم ، ثم خوفهم من جيش فرعون ، ثم البحر بعد ذلك ، والضمير في (وَنَصَرْناهُمْ) عائد على موسى وهارون وقومهما ؛ وقيل : عائد على موسى وهارون فقط ، تعظيما لهما بكناية الجماعة. و (هُمُ) : يجوز أن يكون فصلا وتوكيدا أو بدلا. و (الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) : التوراة ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (١). و (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : هو الإسلام وشرع الله. و (إِلْياسَ) ، قال ابن مسعود وقتادة : هو إدريس عليه‌السلام. ونقلوا عن ابن مسعود ، وابن وثاب ، والأعمش ، والمنهال بن عمر ، والحكم بن عتيبة الكوفي أنهم قرأوا : وإن إدريس لمن المرسلين ، وهي محمولة عندي على تفسيرة ، لأن المستفيض عن ابن مسعود أنه قرأ : (وَإِنَّ إِلْياسَ) ، وأيضا تفسيره إلياس بأنه إدريس لعله لا يصح عنه ، لأن إدريس في التاريخ المنقول كان قبل نوح. وفي سورة الأنعام ذكر إلياس ، وأنه من ذرية إبراهيم ، أو من ذرية نوح على ما يحتمله قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) (٢) ، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ) (٣) ، وذكر في جملة هذه الذرية إلياس ، وقيل : إلياس من أولاد هارون. قال الطبري : هو إلياس بن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن هارون. وقرأ الجمهور : (وَإِنَّ إِلْياسَ) ، بهمزة قطع مكسورة. وقرأ عكرمة ، والحسن : بخلاف عنهما ؛ والأعرج ، وأبو رجاء ، وابن عامر ، وابن محيصن : بوصل الألف ، فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع ، واحتمل أن يكون اسمه يأسا ، ودخلت عليه أل ، كما دخلت على أليسع. وفي حرف أبيّ ومصحفه : وإن إبليس ، بهمزة مكسورة ، بعدها ياء ساكنة ، بعدها لام مكسورة ، بعدها ياء ساكنة وسين مفتوحة. وقرىء : وإن أدراس ، لغة في إدريس ، كأبراهام في إبراهيم.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤٤.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٨٤.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٨٤.


(أَتَدْعُونَ بَعْلاً) : أي أتعبدون بعلا ، وهو علم لصنم لهم ، قاله الضحاك والحسن وابن زيد. قيل : وكان من ذهب ، طوله عشرون ذراعا ، وله أربعة أوجه ، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام ، وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقال عكرمة ، وقتادة : البعل : الرب بلغة اليمن. وسمع ابن عباس رجلا ينشد ضالة ، فقال له رجل : أنا بعلها ، فقال ابن عباس : الله أكبر ، أتدعون بعلا؟ ويقال : من بعل هذه الدار ، أي ربها؟ والمعنى على هذا : أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله؟ وقالت فرقة : إن بعلا اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها. وقرىء : أتدعون بعلاء ، بالمد على وزن حمراء ، ويؤنس هذه القراءة قول من قال : إنه اسم امرأة.

وقرأ الكوفيون ، وزيد بن عليّ : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ) ، بالنصب في الثلاثة بدلا من (أَحْسَنَ) ، أو عطف بيان إن قلنا إن إضافة التفضيل محضة ؛ وباقي السبعة بالرفع ، أي هو الله ؛ أو يكون استئنافا مبتدأ وربكم خبره. وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب ، وإذا قطع رفع. (فَكَذَّبُوهُ) : أي كذبه قومه ، إما في قوله : (اللهَ رَبَّكُمْ) هذه النسب ، أو فكذبوه فيما جاء به من عند الله من الأمر بالتوحيد وترك الصنم والايمان بما جاءت به الرسل. ومحضرون : مجموعون للعذاب. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه ، فهو استثناء متصل من ضمير (فَكَذَّبُوهُ) ، ولا يجوز أن يكون استثناء من (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) ، لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب ، ويكونون (عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ، وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعا ، إذ يصير المعنى : لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب ، ولا مسيس لهؤلاء الممسوسين بالآية التي فيها قصة إلياس هذه. وقرأ زيد بن عليّ ، ونافع ، وابن عامر : على آل ياسين. وزعموا أن آل مفصولة في المصحف ، وياسين اسم لإلياس. وقيل : اسم لأبي إلياس ، لأنه إلياس بن ياسين ، وآل ياسين هو ابنه إلياس. وقيل : ياسين هو اسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ باقي السبعة : (عَلى إِلْ ياسِينَ) ، بهمزة مكسورة ، أي الياسين ، جمع المنسوبين إلى الياس معه ، فسلم عليهم. وهذا يدل على أن من قومه من كان اتبعه على الدين ، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس ، فلما جمعت ، خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف ، فالتقى ساكنان : الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع ، فحذفت لالتقائهما ، كما قالوا : الأشعرون والأعجمون


والخبيبون والمهلبون. وحكى أبو عمرو أن مناديا نادى يوم الكلاب : هلك اليزيديون. وقال الزمخشري : لو كانا جمعا ، لعرف بالألف واللام. وقرأ أبو رجاء ، والحسن : على الياسين ، بوصل الألف على أنه جمع يراد به إلياس وقومه المؤمنون ، وحذفت ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرون ، والألف واللام دخلت على الجمع ، واسمه على هذا ياس. وقرأ ابن مسعود ، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس : سلام على إدراسين. وعن قتادة : وإن إدريس. وقرأ : على إدرسين. وقرأ ابن عليّ : إبليس ، كقراءته وإن إبليس لمن المرسلين. (إِلَّا عَجُوزاً) : هي امرأة لوط ، وكانت كافرة ، إما مستترة بالكفر ، وإما معلنة به. وكان نكاح الوثنيات عندهم جائزا. (مُصْبِحِينَ) : أي داخلين في الأصباح. والخطاب في (وَإِنَّكُمْ) لقريش ، وكانت متاجرهم إلى الشام على مدائن قوم لوط. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ، فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ، فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ، وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

يونس بن متى من بني إسرائيل. وروي أنه نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، بعثه الله إلى قومه ، فدعاهم للإيمان فخالفوه ، فوعدهم بالعذاب ، فأعلمهم الله بيومه ، فحدده يونس لهم. ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا ، فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم. وتقدم شرح قصته ، وأعدنا طرفا منها ليفيد ما بين الذكرين. قيل : ولحق يونس غضب ، فأبق إلى ركوب السفينة فرارا من قومه ، وعبر عن الهروب بالإباق ، إذ هو عبد الله ، خرج فارا من غير إذن من الله. وروي عن ابن مسعود أنه لما أبعدت السفينة في البحر ، ويونس فيها ، ركدت. فقال أهلها : إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه ، فلنقترع. فأخذوا لكل سهما ، على أن من طفا سهمه فهو ، ومن غرق سهمه فليس إياه ، فطفا سهم يونس. فعلوا ذلك ثلاثا ، تقع القرعة عليه ، فأجمعوا على أن يطرحوه. فجاء إلى ركن منها ليقع منها ، فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له. فانتقل


إلى الركن الآخر ، فوجدها حتى استدار بالمركب وهي لا تفارقه ، فعلم أن ذلك من عند الله ، فترامى إليها فالتقمته. ففي قصة يونس عليه‌السلام هنا جمل محذوفة مقدرة قبل ذكر فراره إلى الفلك ، كما في قصته في سورة الأنبياء في قوله : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) (١) هو ما بعد هذا ، وقوله : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) (٢) ، جمل محذوفة أيضا. وبمجموع القصص يتبين ما حذف في كل قصة منها.

(فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) : من المغلوبين ، وحقيقته من المزلقين عن مقام الظفر في الاستفهام. وقرىء : (وَهُوَ مُلِيمٌ) ، بفتح الميم ، وقياسه ملوم ، لأنه من لمته ألومه لوما ، فهو من ذوات الواو ، ولكنه جيء به على أليم ، كما قالوا : مشيب ومدعى في مشوب ، ومدعو بناء على شيب ودعى. (مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) : من الذاكرين الله تعالى بالتسبيح والتقديس. والظاهر أنه يريد ما ذكر في قوله في سورة الأنبياء : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣). وقال ابن جبير : هو قوله سبحان الله. وقالت فرقة : تسبيحه صلاة التطوع ؛ فقال ابن عباس ، وقتادة ، وأبو العالية : صلاته في وقت الرخاء تنفعه في وقت الشدة. وقال الضحاك بن قيس على منبره : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة ، إن يونس كان عبدا ذاكرا ، فلما أصابته الشدة نفعه ذلك. قال الله عزوجل : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وقال الحسن : تسبيحه : صلاته في بطن الحوت. وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه يقول : لأبنين لك مسجدا حيث لم يبنه أحد قبلي.

وروي أن الحوت سافر مع السفينة رافعا رأسه ليتنفس ويونس يسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء ، فأسلموا. والظاهر أن قوله للبث في بطنه إلى يوم البعث ، وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة. وذكر في مدة لبثه في بطن الحوت أقوالا متكاذبة ، ضربنا عن ذكرها صفحا. (وَهُوَ سَقِيمٌ) : روي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد ، قاله ابن عباس والسدي. وقال ابن عباس ، وأبو هريرة ، وعمرو بن ميمون : اليقطين : القرع خاصة ، قيل : وهي التي أنبتها الله عليه ، وتجمع خصالا ، برد الظل ، ونعومة الملمس ، وعظم الورق ، والذباب لا يقربها. قيل : وماء ورقه إذا رش به مكان لم يقربه ذباب ، وقال أمية بن أبي الصلت :

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.


فأنبت يقطينا عليه برحمة

من الله لولا الله ألفى ضياعيا

وفيما روي : إنك لتحب القرع ، قال : أجل ، هي شجرة أخي يونس. وقيل : هي شجرة الموز ، تغطى بورقها ، واستظل بأغصانها ، وأفطر على ثمارها. ومعنى (أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً) ، في كلام العرب : ما كان على ساق من عود ، فيحتمل أن يكون الله أنبتها ذات ساق يستظل بها وبورقها ، خرقا للعادة ، فنبت وصح وحسن وجهه ، لأن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده.

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) ، قال الجمهور : رسالته هذه هي الأولى التي أبق بعدها ، ذكرها آخر القصص تنبيها على رسالته ، ويدل عليه : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ) ، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس عليه‌السلام حتى أبق. وقال ابن عباس ، وقتادة : هي رسالة أخرى بعد أن نبذه بالعراء ، وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل. وقال الزمخشري : المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه ، وهم أهل نينوى. وقيل : هو إرسال ثان بعد ما جرى إليه إلى الأولين ، أو إلى غيرهم. وقيل : أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى ، لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم ، فقال لهم : إن الله باعث إليكم نبيا. وقرأ الجمهور : (أَوْ) ، قال ابن عباس بمعنى بل. وقيل : بمعنى الواو وبالواو ، وقرأ جعفر بن محمد. وقيل : للإبهام على المخاطب. وقال المبرد وكثير من البصريين : المعنى على نظر البشر ، وحزرهم أن من وراءهم قال : هم مائة ألف أو يزيدون ، وهذا القول لم يذكر الزمخشري غيره. قال : أو يزيدون في مرأى الناظر ، إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة ، والزيادة ثلاثون ألفا ، قاله ابن عباس ؛ أو سبعون ألفا ، قاله ابن جبير ؛ أو عشرون ألفا ، رواه أبي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا صح بطل ما سواه.

(فَآمَنُوا) : روي أنهم خرجوا بالأطفال والأولاد والبهائم ، وفرقوا بينها وبين الأمهات ، وناحوا وضجوا وأخلصوا ، فرفع الله عنهم. والتمتع هنا هو بالحياة ، والحين آجالهم السابقة في الأزل ، قاله قتادة والسدي. والضمير في (فَاسْتَفْتِهِمْ) ، قال الزمخشري : معطوف على مثله في أول السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة. أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا ، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض ، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى. انتهى. ويبعد ما قاله من العطف. وإذا كانوا عدوا الفصل بجملة مثل قولك : كل لحما واضرب زيدا وخبزا ، من أقبح


التركيب ، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ فالقول بالعطف لا يجوز ، والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على الله ، حيث جعلوا لله الإناث في قولهم : الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم لهن ، ووأدهم إياهن ، واستنكافهم من ذكرهن. وارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام ؛ وتفضيل أنفسهم ، حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى ؛ واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله ، حيث أنثوهم ، وهم الملائكة.

بدأ أولا بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله : (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) ، وعدل عن قوله : ألربكم ، لما في ترك الإضافة إليهم من تحسينهم وشرف نبيه بالإضافة إليه. وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة يقتضي المشاهدة ، فأنكر عليهم بقوله : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) : أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئا من حالهم ، كما قال في الأخرى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) (١) وكما قال (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (٢). ثم أخبر عنهم ثالثا بأعظم الكفر ، وهو ادعاؤهم أنه تعالى قد ولد ، فبلغ إفكهم إلى نسبة الولد. ولما كان هذا فاحشا قال : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم ولد الله ، ويكون تأكيدا لقوله : (مِنْ إِفْكِهِمْ) ، واحتمل أن يعم هذا القول. فإن قلت : لم قال : (وَهُمْ شاهِدُونَ) ، فخص علمهم بالمشاهدة؟ قلت : ما هو إلا استهزاء وتجهيل كقوله : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) (٣) ، وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق ، لا بطريق استدلال ولا نظر. ويجوز أن يكون المعنى أنهم يقولون ذلك ، كالقائل قولا عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم ، كأنهم قد شاهدوا خلقه. وقرأ : (وَلَدَ اللهُ) : أي الملائكة ولده ، والولد فعل بمعنى مفعول يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. تقول : هذه ولدي ، وهؤلاء ولدي. انتهى.

وقرأ الجمهور : (أَصْطَفَى) ، بهمزة الاستفهام ، على طريقة الإنكار والاستبعاد. وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة ، وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة : بوصل الألف ، وهو من كلام الكفار. حكى الله تعالى شنيع قولهم ، وهو أنهم ما كفاهم أن قالوا ولد الله ، حتى جعلوا ذلك الولد بنات الله ، والله تعالى اختارهم على البنين. وقال

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ١٩.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٥١.

(٣) سورة الزخرف : ٤٣ / ١٩.


الزمخشري : بدلا عن قولهم ولد الله ، وقد قرأ بها حمزة والأعمش ، وهذه القراءة ، وإن كان هذا محملها ، فهي ضعيفة ؛ والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها ، وذلك قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين سببين ، وليست دخيلة بين نسيبين ، بل لها مناسبة ظاهرة مع قولهم ولد الله. وأما قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، فهي جملة اعتراض بين مقالتي الكفر ، جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم. (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) : تقريع وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة. وقرأ طلحة بن مصرف : تذكرون ، بسكون الذال وضم الكاف. (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ) : أي حجة نزلت عليكم من السماء ، وخبر بأن الملائكة بنات الله. (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) ، الذي أنزل عليكم بذلك ، كقوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) (١) ، فهو يتكلم بما كانوا به يشركون.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ، فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ، ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ ، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ ، وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ، وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ ، لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ، فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ، سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

الظاهر أن الجنة هم الشياطين ، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة. منها أنه تعالى صاهر سروات الجن ، فولد منهم الملائكة ، وهم فرقة من بني مدلج ، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق. (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) : أي الشياطين ، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب ، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : إذا فسرت الجنة بالشياطين ، فيجوز أن يكون الضمير في (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) لهم. والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم ، ولو كانوا مناسبين له ، أو شركاء في وجوب الطاعة ، لما عذبهم. وقيل : الضمير في (وَجَعَلُوا) لفرقة من كفار قريش والعرب ، والجنة : الملائكة ، سموا بذلك لاجتنانهم وخفائهم. وقال الزمخشري : وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٣٥.


وتصغيرا لهم ، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم ، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار ، وهو من صفات الأجرام ، لا يصح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. انتهى.

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) : أي الملائكة ، (إِنَّهُمْ) : أي الكفرة المدعين نسبة بين الملائكة وبين الله تعالى ، محضرون النار ، يعذبون بما يقولون. وأضيف ذلك إلى علم من نسبوا لذلك ، مبالغة في تكذيب الناسبين. ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ) ، فإنهم يصفونه بصفاته. وأما من المحضرون ، أي إلا عباد الله ، فإنهم ناجون مدة العذاب ، وتكون جملة التنزيه اعتراضا على كلا القولين ، فالاستثناء منقطع. والظاهر أن الواو في (وَما تَعْبُدُونَ) للعطف ، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم ، وأن الضمير في عليه عائد على ما ، والمعنى : قل لهم يا محمد : وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم ، وغلب الخطاب. كما تقول : أنت وزيد تخرجان عليه ، أي على عبادة معبودكم. (بِفاتِنِينَ) : أي بحاملين بالفتنة عبادة ، إلا من قدر الله في سابق علمه أنه من أهل النار. والضمير في (عَلَيْهِ) عائد على ما على حذف مضاف ، كما قلنا ، أي على عبادته. وضمن فاتنين معنى : حاملين بالفتنة ، ومن مفعولة بفاتنين ، فرغ له العامل إذ لم يكن بفاتنين مفعولا. وقيل : عليه بمعنى : أي ما أنتم بالذي تعبدون بفاتنين ، وبه متعلق بفاتنين ، المعنى : ما أنتم فاتنين بذلك الذي عبدتموه إلا من سبق عليه القدر أنه يدخل النار. وجعل الزمخشري الضمير في عليه عائدا على الله ، قال فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه. ويجوز أن تكون الواو في (وَما تَعْبُدُونَ) بمعنى مع مثلها في قولهم : كل رجل وضيعته. فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، جاز أن يسكت على قوله : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) ، لأن قوله : (وَما تَعْبُدُونَ) ساد مسد الخبر ، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون ، والمعنى : فإنكم مع آلهتكم ، أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونهم. ثم قال (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) : أي على ما تعبدون ، (بِفاتِنِينَ) : بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال ، إلا من هو ضال منكم. انتهى. وكون الواو في (وَما تَعْبُدُونَ) واو مع غير متبادر إلى الذهن ، وقطع (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) عن إنكم وما تعبدون ليس بجيد ، لأن اتصافه به هو السابق إلى الفهم مع صحة المعنى ، فلا ينبغي العدول عنه.


وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة : صالو الجحيم بالواو ، وهكذا في كتاب الكامل للهذلي. وفي كتاب ابن خالويه عنهما : صال مكتوبا بغير واو ، وفي كتاب ابن عطية. وقرأ الحسن : صالو مكتوبا بالواو ؛ وفي كتاب اللوامح وكتاب الزمخشري عن الحسن : صال مكتوبا بغير واو. فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة. حمل أولا على لفظ من فأفرد ، ثم ثانيا على معناها فجمع ، كقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (١) ، حمل في يقول على لفظ من ، وفي وما هم على المعنى ، واجتمع الحمل على اللفظ ، والمعنى في جملة واحدة ، وهي صلة للموصول ، كقوله : (إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢). وقول الشاعر :

وأيقظ من كان منكم نياما

ومن لم يثبت الواو احتمل أن يكون جمعا ، وحذفت الواو خطأ ، كما حذفت في حالة الوصل لفظا لأجل التقاء الساكنين. واحتمل أن يكون صال مفردا حذفت لامه تخفيفا ، وجرى الإعراب في عينه ، كما حذف من قوله : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) (٣) ، (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) (٤) ، برفع النون والجوار ، وقالوا : ما باليت به بالة ، أي بالية من بالى ، كعافية من عافى ، فحذفت لام باليت وبالية. وقالوا بالة وبال ، بحذف اللام فيهما. وقال الزمخشري : وقد وجه نحوا من الوجهين السابقين وجعلهما أولا وثالثا فقال : والثاني أن يكون أصله صائل على القلب ، ثم يقال : صال في صائل ، كقولهم : شاك في شائك. انتهى. (وَما مِنَّا) : أي أحد ، (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) : أي مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر الله ، مقصور عليه لا يتجاوزه. كما روي : فمنهم راكع لا يقيم ظهره ، وساجد لا يرفع رأسه ، وهذا قول الملائكة ، وهو يقوي قول من جعل الجنة هم الملائكة تبرؤوا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله ، وأخبروا عن حال عبوديتهم ، وعلى أي حالة هم فيها. وفي الحديث : «أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي» ، وعن ابن مسعود : «موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه» ، وحذف المبتدإ مع من جيد فصيح ، كما مر في قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَ) (٥) ، أي وأن من أهل الكتاب أحد.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ٥٤.

(٤) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٤.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٥٩.


وقال العرب : منا ظعن ومنا أقام ، يريد : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام. وقال الزمخشري : وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، كقوله :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

بكفي كان من أرمي البشر

انتهى. وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، لأن أحدا المحذوف مبتدأ. وإلا له مقام معلوم خبره ، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله : وما منا أحد ، فقوله : (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) هو محط الفائدة. وإن تخيل أن (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) في موضع الصفة ، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها ، وأنها فارقت غير إذا ؛ كانت صفة في ذلك ، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه ، وجعل ذلك كقوله : أنا ابن جلا ، أي ابن رجل جلا ؛ وبكفي كان ، أي رجل كان ، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) : أي أقدامنا في الصلاة ، أو أجنحتنا في الهواء ، أو حول العرش داعين للمؤمنين. وقال الزهراوي : قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية ، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) : أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة ، أو المنزهون بلفظ التسبيح ، أو المصلون. وينبغي أن يجعل قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من كلام الملائكة ، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد ، فكأنه قيل : ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب ؛ وقالوا : سبحان الله ، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله ؛ وقالوا للكفرة : فإنكم وآلهتكم إلى آخره. وكيف نكون مناسبيه ، ونحن عبيد بين يديه ، لكل منا مقام من الطاعة؟ إلى ما وصفوا به أنفسهم من رتبة العبودية. وقيل : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ، هو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله ، من قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

ثم ذكر أعمالهم ، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال. والضمير في (لَيَقُولُونَ) لكفار قريش ، (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً) : أي كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولم نكذب كما كذبوا. (فَكَفَرُوا بِهِ) : أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه ، وهو أشرف الأذكار ، لإعجازه من بين الكتب. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم ، وما يحل بهم من الانتقام. وأكدوا قولهم


بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك ، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ ، كقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١).

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) : قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد. وقرأ الضحاك : بالجمع ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة. وقال الحسن : ما غلب نبي في الحرب ، ولا قتل فيها. (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) : أي إلى مدّة يسيرة ، وهي مدّة الكف عن القتال. وعن السدّي : إلى يوم بدر ، ورجحه الطبري. وقال قتادة : إلى موتهم. وقال ابن زيد : إلى يوم القيامة. (وَأَبْصِرْهُمْ) : أي انظر إلى عاقبة أمرهم ، فسوف يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل ، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم. وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة ، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها ، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه‌السلام. (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) : استفهام توبيخ.

(فَإِذا نَزَلَ) هو ، أي العذاب ، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره ، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم ، فلم يلتفتوا إلى إنذراه ، ولا أخذوا أهبته ، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى أناخ بفنائهم ، فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم. وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحا ، فسميت الغارة صباحا ، وإن وقعت في وقت آخر. وما فصحت هذه الآية ، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها ، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور : مبنيا للفاعل ؛ وابن مسعود : مبنيا للمفعول ؛ وساحتهم : هو القائم مقام الفاعل. ونزل ساحة فلان ، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر ؛ وسوء الصباح : يستعمل في حلول الغارات والرزايات ؛ ومثل قول الصارخ : يا صباحاه ؛ وحكم ساء هنا حكم بئس. وقرأ عبد الله : فبئس ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : فساء صباح المنذرين صباحهم. (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) : كرر الأمر بالتولي ، تأنيسا له عليه الصلاة والسلام ، وتسلية وتأكيدا لوقوع الميعاد ؛ ولم يقيد أمره بالإبصار ، كما قيده في الأول ، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصارا ، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المسرات ، والإبصار منهم من صنوف المساءات. وقيل : أريد بالأول عذاب الدنيا ، وبالآخرة عذاب الآخرة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٩.


وختم تعالى هذه السورة تنزيهه عن ما يصفه به المشركون ، وأضاف الرب إلى نبيه تشريفا له بإضافته وخطابه ، ثم إلى العزة ، وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين ، وكذلك قال الفقهاء من جهة أنها مربوبة. وقال محمد بن سحنون وغيره : من حلف بعزة الله تعالى يريد عزته التي خلقت بين عباده ، وهي التي في قوله : (رَبِّ الْعِزَّةِ) ، فليست بيمين. وقال الزمخشري : أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها ، كأنه قيل : ذو العزة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه بالصدق. انتهى. فعلى هذا تنعقد اليمين بعزة الله لأنها صفة من صفاته. قال : ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها ، لقوله : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) (١). وعن علي ، كرم الله وجهه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) ، إلى آخر السورة.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢٦.


سورة ص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)

لات : هي لا ، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب ، فقالوا : ثمت وربت ، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه ، وعمل إن في مذهب الأخفش. فإن ارتفع ما بعدها ، فعلى الابتداء عنده ؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو ، ويأتي شيء منها هنا عند ذكر القراءات التي فيها. والمناص : المنجأ والغوث ، يقال ناصه ينوصه : إذا فاته. قال الفراء : النوص : التأخير ، يقال ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا : أي فر وزاغ ، وأنشد لا مرىء القيس :


أم ذكر سلمى ان نأتك كنوص

واستناص طلب المناص

قال حارثة بن بدر :

غمر الجراء إذا قصرت عنانه

بيدي استناص ورام جري المسحل

وقال الجوهري : استناص : تأخر. وقال النحاس : ناص ينوص : تقدم. الوتد : معروف ، وكسر التاء أشهر من فتحها. ويقال : وتد واتد ، كما يقال : شغل شاغل. قال الأصمعي وأنشد :

لاقت على الماء جذيلا واتدا

ولم يكن يخلفها المواعدا

وقالوا : ودّ فأدغموه ، قال الشاعر :

تخرج الودّ إذا ما أشحذت

وتواريه إذا ما تشتكر

وقالوا فيه : دت ، فأدغموا بإبدال الدال تاء ، وفيه قلب الثاني للأول ، وهو قليل.

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ، كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ، وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ، ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ، أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ، أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ ، جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ).

هذه السورة مكية ، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) (١) ، لأخلصوا العبادة لله. وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به. بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن ، لأنه الذكر الذي جاءهم ، وأخبر عنهم أنهم كافرون ، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به ؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا. وروي أنه لما مرض أبو طالب ، جاءت قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعند

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٦٨.


رأس أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنعه ، وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، ما تريد من قومك؟ فقال : يا عم ، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب ، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم. قال : وما الكلمة؟ قال : كلمة واحدة ، قال : وما هي؟ قال : لا إله إلا الله ، قال فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا؟ قال : فنزل فيهم القرآن : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ، حتى بلغ ، (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ).

قرأ الجمهور : ص ، بسكون الدال. وقرأ أبي ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وابن أبي عبلة ، ونصر بن عاصم : صاد ، بكسر الدال ، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين. وهو حرف من حروف المعجم نحو : ق ونون. وقال الحسن : هو أمر من صادى ، أي عارض ، ومنه الصدى ، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام ، أي عارض بعملك القرآن. وعنه أيضا : صاديت : حادثت ، أي حادث ، وهو قريب من القول الأول. وقرأ عيسى ، ومحبوب عن أبي عمرو ، وفرقة : صاد ، بفتح الدال ، وكذا قرأ : قاف ونون ، بفتح الفاء والنون ، فقيل : الفتح لالتقاء الساكنين طلبا للتخفيف ؛ وقيل : انتصب على أنه مقسم به ، حذف منه حرف القسم نحو قوله : الله لأفعلن ، وهو اسم للسورة ، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل ، وهو ابن أبي إسحاق في رواية. وقرأ الحسن أيضا : صاد ، بضم الدال ، فإن كان اسما للسورة ، فخبر مبتدأ محذوف ، أي هذه ص ، وهي قراءة ابن السميفع وهارون الأعور ؛ وقرأ ق ونون ، بضم الفاء والنون. وقيل : هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم ، فقال الضحاك : معناه صدق الله. وقال محمد بن كعب : مفتاح أسماء الله محمد صادق الوعد صانع المصنوعات. وقيل : معناه صدق محمد.

قال ابن عباس ، وابن جبير ، والسدّي : ذي الذكر : ذي الشرف الباقي المخلد. وقال قتادة : ذي التذكرة ، للناس والهداية لهم. وقيل : ذي الذكر ، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم ، قيل : مذكور ، فقال الكوفيون والزجاج : هو قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (١). وقال الفراء : لا نجده مستقيما في العربية لتأخره جدا عن قوله : (وَالْقُرْآنِ). وقال الأخفش : هو (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) ، وقال قوم : (كَمْ أَهْلَكْنا) ، وحذف اللام أي لكم ، لما طال الكلام ؛ كما حذفت في (وَالشَّمْسِ) (٢) ، ثم قال : (قَدْ

__________________

(١) هذه السورة آية : ٦٤.

(٢) سورة الشمس : ٩١ / ١.


أَفْلَحَ) (١) ، حكاه الفراء وثعلب ، وهذه الأقوال يجب اطراحها. وقيل : هو صاد ، إذ معناه : صدق محمد وصدق الله. وكون صاد جواب القسم ، قاله الفراء وثعلب ، وهذا مبني على تقدم جواب القسم ، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه. وقيل : الجواب محذوف ، فقدره الحوفي : لقد جاءكم الحق ونحوه ، والزمخشري : إنه لمعجز ، وابن عطية : ما الأمر كما تزعمون ، ونحو هذا من التقدير. ونقل أن قتادة والطبري قالا : هو محذوف قبل (بَلِ) ، قال : وهو الصحيح ، وقدره ما ذكرنا عنه ، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جوابا للقرآن حين أقسم به ، وذلك في قوله تعالى : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢) ، ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ، وقال هناك : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) (٣) ، فالرسالة تنضمن النذارة والبشارة ، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به ، واعتراف بالحق.

وقرأ حماد بن الزبرقان ، وسورة عن الكسائي ، وميمون عن أبي جعفر ، والجحدري من طريق العقيلي : في غرة ، بالغين المعجمة والراء ، أي في غفلة ومشاقة. (قَبْلِهِمْ) : أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق ، وهذا وعيد لهم. (فَنادَوْا) : أي استغاثوا ونادوا بالتوبة ، قاله الحسن ؛ أو رفعوا أصواتهم ، يقال : فلان أندى صوتا : أي أرفع ، وذلك بعد معاينة العذاب ، فلم يك وقت نفع. وقرأ الجمهور : (وَلاتَ حِينَ) ، بفتح التاء ونصب النون ، فعلى قول سيبويه ، عملت عمل ليس ، واسمها محذوف تقديره : ولات الحين حين فوات ولا فرار. وعلى قول الأخفش : يكون حين اسم لات ، عملت عمل إن نصبت الاسم ورفعت الخبر ، والخبر محذوف تقديره : ولات أرى حين مناص. وقرأ أبو السمال : ولات حين ، بضم التاء ورفع النون ؛ فعلى قول سيبويه : حين مناص اسم لات ، والخبر محذوف ؛ وعلى قول الأخفش : مبتدأ ، والخبر محذوف. وقرأ عيسى بن عمر : ولات حين ، بكسر التاء وجر النون ، خبر بعد لات ، وتخريجه مشكل ، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله :

طلبوا صلحنا ولات حين أوان

فأجبنا أن لات حين بقاء

قال : شبه أوان بإذ في قوله : وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض ، لأن الأصل : ولات أوان صلح. فإن قلت : فما تقول في حين مناص ، والمضاف

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ١ ـ ٣.

(٣) سورة يس : ٣٦ / ٦.


إليه قائم؟ قلت : نزل قطع المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضا من الضمير المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافا إلى غير متمكن. انتهى. هذا التمحل ، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة ، والبيت النادر في جر ما بعد لات : أن الجر هو على إضمار من ، كأنه قال : لات من حين مناص ، ولات من أوان صلح ، كما جروا بها في قولهم : على كم جذع بيتك؟ أي من جذع في أصح القولين ، وكما قالوا : لا رجل جزاه الله خيرا ، يريدون : لا من رجل ، ويكون موضع من حين مناص رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائما ، والخبر محذوف ، وهذا على قول سيبويه ، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف ، على قول الأخفش. وقال بعضهم : ومن العرب من يخفض بلات ، وأنشد الفراء :

ولتندمن ولات ساعة مندم

وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين ، أي ولات حين أوان ، حذف حين وأبقى أوان على جره. وقال أبو إسحاق : ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه ، فوجب أن لا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين ؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري ، أخذه من أبي إسحاق الزجاج ، وأنشده المبرد : ولات أوان بالرفع. وعن عيسى : ولات حين ، بالرفع ، مناص : بالفتح. وقال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك ، فلعله بنى حين على الضم ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية ، وبنى مناص على الفتح مع لات ، على تقدير : لات مناص حين ، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره ، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه. انتهى. وقرأ عيسى أيضا : ولات بكسر التاء ، وحين بنصب النون ، وتقدم تخريج نصب حين. ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء ، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج ، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء ، وقوم على لا ، وزعموا أن التاء زيدت في حين ؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أنه رآه في الإمام مخلوطا تاؤه بحين ، وكيف يصنع بقوله : ولات ساعة مندم ، ولات أوان. وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا ، قال بعضهم لبعض : مناص ، أي عليكم بالفرار ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص ، فقال الله : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ). قال القشيري : فعلى هذا يكون التقدير : فنادوا مناص ، فحذف لدلالة ما بعده عليه ، أي ليس الوقت وقت ندائكم به ، وفيه نوع تحكم ، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند الاضطرار. انتهى. وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص ، أي ساعة


لا منجا ولا فوت. فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو ، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرا مثل : جاء زيد راكبا ، ثم تقول : جاء زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : (فَنادَوْا). انتهى. وكون أصل هذه الجملة : فنادوا حين لا مناص ، وأن حين ظرف لقوله : (فَنادَوْا) دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن ، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح ، والجملة في موضع الحال ، فنادوا وهم لات حين مناص ، أي لهم.

ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق ، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة ، من نسبتهم إليه السحر والكذب. ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : (وَقالَ الْكافِرُونَ) ، أي : وقالوا تنبيها على الصفة التي أوجبت لهم العجب ، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب. (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) ، قالوا : كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم؟ وجعل : بمعنى صير في القول والدعوى والزعم ، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه. والضمير في (وَعَجِبُوا) لهم ، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم. وقرأ الجمهور : (عُجابٌ) ، وهو بناء مبالغة ، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع. وقرأ علي ، والسلمي ، وعيسى ، وابن مقسم : بشد الجيم ، وقالوا : رجل كرّام وطعام طياب ، وهو أبلغ من فعال المخفف. وقال مقاتل : عجاب لغة أزد شنوءة. والذين قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) ، قال ابن عباس : صناديد قريش ، وهم ستة وعشرون.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) : الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب ، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدّم في سبب النزول ؛ ويكون ثم محذوف تقديره : يتحاورون. (أَنِ امْشُوا) ، وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف ، وامشوا أمر بالمشي ، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس. وقال الزمخشري : وأن بمعنى أي ، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول والأمر بالمشي ، أي بعضهم أمر بعضا. وقيل : أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم. ويجوز أن تكون أن مصدرية ، أي وانطلقوا بقولهم امشوا ، وقيل : الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام ، وأن مفسرة على هذا ، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا ، إنما معناه : سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم. وقيل : (امْشُوا) دعاء بكسب الماشية ، قيل : وهو ضعيف ، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة ، لأنه إنما يقال : أمشى الرجل إذا صار صاحب ماشية ؛ وأيضا فهذا المعنى غير متمكن في الآية. وقال الزمخشري : ويجوز أنهم


قالوا : امشوا ، أي أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ؛ ومنه الماشية للتفاؤل. انتهى. وأمروا بالصبر على الآلهة ، أي على عبادتها والتمسك بها.

والإشارة بقوله : (إِنَّ هذا) أي ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلوه بالنبوة ، (لَشَيْءٌ يُرادُ) : أي يراد منا الانقياد إليه ، أو يريده الله ويحكم بإمضائه ، فليس فيه إلا الصبر ، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا ، فلا انفكاك عنه ، وأن دينكم لشيء يراد ، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه ، احتمالات أربعة. وقال القفال : هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف ، المعنى : أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين ، وإنما غرضه أن يستولي علينا ، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد. (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل : ملة النصارى ، لأن فيها التثليث ، ولا توحد. وقال مجاهد ، وقتادة : ملة العرب : قريش ونجدتها. وقال الفراء ، والزجاج : ملة اليهود والنصرانية ، أشركت اليهود بعزير ، وثلث النصارى. وقيل : في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان ، وذلك أنه قبل المبعث ، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين. ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع ، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما ، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم. وقيل : في الملة الآخرة ، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) : أي افتعال وكذب.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم ، وهذا الإنكار هو ناشىء عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) : أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه ، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ). (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) : أي بعد ، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) : أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة ، فيعطون ما شاؤوا ، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا ، ويصطفون للرسالة من أرادوا ، وإنما يملكها ويتصرف فيها (الْعَزِيزِ) : الذي لا يغالب ، (الْوَهَّابِ) : ما شاء لمن شاء.

لما استفهم استفهام إنكار في قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) ، وكان ذلك دليلا على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك ، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم


فقال : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ليس لهم شيء من ذلك. (فَلْيَرْتَقُوا) : أي ألهم شيء من ذلك ، فليصعدوا ، (فِي الْأَسْبابِ) ، الموصلة إلى السماء ، والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم ، فيضعون الرسالة فيمن اختاروا. ثم صغرهم وحقرهم ، فأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة. قيل : وما زائدة ، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم ، أو التحقير ، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين. و (هُنالِكَ) : ظرف مكان يشار به للبعيد. والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بتلك الكلمات السابقة ، وهو مكة ، فيكون ذلك إخبارا بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح ، فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح. وقيل : (هُنالِكَ) ، إشارة إلى الارتقاء في الأسباب ، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم. وقيل : أشير بهنالك إلى جملة الأصنام وعضدها ، أي هم جند مهزوم في هذه السبيل. وقال مجاهد ، وقتادة : الإشارة إلى يوم بدر ، وكان غيبا ، أعلم الله به على لسان رسوله. وقيل : الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة. وقال الزمخشري : وهنالك ، إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم : لمن يندبه لأمر ليس من أهله ، لست هنالك. انتهى. و (هُنالِكَ) ، يحتمل أن يكون في موضع الصفة لجند ، أي كائن هنالك ؛ ويحتمل أن يكون متعلقا بمهزوم ، وجند خبر مبتدأ محذوف ، أي هم جند ، ومهزوم خبره. وقال أبو البقاء : جند مبتدأ ، وما زائدة ، وهنالك نعت ، ومهزوم الخبر. انتهى. وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله. ومعنى (مِنَ الْأَحْزابِ) : من جملة الأحزاب الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل. ولما ذكر تعالى أنه أهلك قبل قريش قرونا كثيرة لما كذبوا رسلهم ، سرد منهم هنا من له تعلق بعرفانه. و (ذُو الْأَوْتادِ) : أي صاحب الأوتاد ، وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده. قال الأفوه العوذي :

والبيت لا يبتنى إلا على عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر ، كما قال الأسود :

في ظل ملك ثابت الأوتاد

قاله الزمخشري ، وأخذه من كلام غيره. وقال ابن عباس ، وقتادة ، وعطاء : كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها. وقال السدي : كان يقتل الناس بالأوتاد ، ويسمرهم في الأرض بها. وقال الضحاك : أراد المباني العظيمة الثابتة. وقيل : عبارة عن كثرة أخبيته


وعظم عساكره. وقيل : كان يشج المعذب بين أربع سواري ، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروبة فيها وتد من حديد ، ويتركه حتى يموت. روي معناه عن الحسن ومجاهد ، وقيل : كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ، ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل : يشدهم بأربعة أوتاد ، ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه. وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، في رواية عطية : الأوتاد : الجنود ، يشدون ملكه ، كما يقوي الوتد الشيء. وقيل : بنى منارا يذبح عليها الناس ، قاله ابن جبير. (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) : أي الذين تحزبوا على أنبيائهم ، كما تحزب قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والظاهر أن الإشارة بأولئك إلى أقرب مذكور ، وهم قوم نوح ومن عطف عليهم ؛ وفيه تفخيم لشأنهم وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله ، أي هؤلاء العظماء لما كذبوا عوقبوا ، وكذلك أنتم.

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) : فوجب عقابهم. كذبت قوم نوح ، آذوا نوحا فأغرقوا ؛ وقوم هود فأهلكوا بالريح ؛ وفرعون فأغرق ؛ وثمود بالصيحة ؛ وقوم لوط بالخسف ؛ والأيكة بعذاب الظلة. ومعنى (إِنْ كُلٌ) : ما كان من قوم نوح فمن بعدهم ، (فَحَقَّ عِقابِ) : أي وجب عقابهم ، فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بالرسول. قال الزمخشري : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) ، قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم هم هم ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولقد ذكرت تكذيبهم أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية ، فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم ، فقد كذبوا جميعا ، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا ، وبالاستثناء ثانيا ، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العذاب وأبلغه. ثم قال : (فَحَقَّ عِقابِ) : أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم. انتهى.

وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا


الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)

الفواق ، بضم الفاء وفتحها : الزمان الذي ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ، وفي الحديث : «العبادة قدر فواق الناقة». وأفاقت الناقة إفاقة : اجتمعت الفيقة في ضرعها فهي مفيق ومفيقة ، عن أبي عمرو. والفيقة : اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، ويجمع على


أفواق ، وأفاويق جمع الجمع. وقال أبو عبيدة والفراء ومؤرج : الفواق ، بالفتح : الإفاقة والاستراحة. القط ، قال الفراء : الحظ والنصيب ، ومنه قيل للصك : القط ، وقال أبو عبيدة والكسائي : القط : الكتاب بالجوائز ، وقال الأعشى :

ولا الملك النعمان يوم لقيته

بغبطته يعطي القطوط ويأفق

ويروى بأمته : أي بنعمته ، ويأفق : يصلح ، وهو في الكتاب أكثر استعمالا. قال أمية بن أبي الصلت :

قوم لهم ساحة أرض العراق وما

يجبى إليهم بها والقط والعلم

ويجمع أيضا على قططة ، وفي القليل قط وأقطاط. تسور الحائط والسور وتسنمه والبعير : علا أعلاه. والسور : حائط المدينة ، وهو غير مهموز. الشطط : مجاوزة الحد وتخطي الحق. وقال أبو عبيدة : شططت على فلان وأشططت : جرت في الحكم. التسع : رتبة من العدد معروفة ، وكسر التاء أشهر من الفتح. النعجة : الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن ، ويكنى بها عن المرأة. قال الشاعر :

هما نعجتان من نعاج تبالة

لذي جؤذرين أو كبعض لدى هكر

وقال ابن عون :

أنا أبوهن ثلاث هنه

رابعة في البيت صغراهنه

ونعجتي خمسا توفيهنه

إلا فتى سجح يغذيهنه

عزه : غلبه ، يعزه عزا ؛ وفي المثل : من عزّ بزّ ، أي من غلب سلب. وقال الشاعر :

قطاة عزها شرك فباتت

تجاذبه وقد علق الجناح

الصافن من الخيل : الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه ، وقد يفعل ذلك برجله ، وهي علامة الفراهة ، وأنشد الزجاج :

ألف الصفون فما يزال كأنه

مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عبيدة : الصافن : الذي يجمع يديه ويسويهما ، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم. وقال القتبي : الصافن : الواقف في الخيل وغيرها. وفي الحديث : «من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار» ، أي يديمون له القيام ، حكاه قطرب. وأنشد النابغة :

لنا قبة مضروبة بفنائها

عتاق المهارى والجياد الصوافن


وقال الفراء : على هذا رأيت العرب وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة. جاد الفرس : صار رابضا ، يجود جودة بالضم ، فهو جواد للذكر والأنثى من خيل جياد وأجواد وأجاويد. وقيل : الطوال الأعناق من الجيد ، وهو العنق ، إذ هي من صفات فراهتها. وقيل : الجياد جمع جود ، كثوب وثياب. الرخاء : اللينة ، مشتقة من الرخاوة.

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ ، وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ، اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ، وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ، وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ، قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

(وَما يَنْظُرُ) : أي ينظر ، (هؤُلاءِ) : إشارة إلى كفار قريش ، والإشارة بهؤلاء مقوية أن الإشارة بأولئك هي للذين يلونها من قوم نوح وما عطف عليه. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر ، أو لأنهم كالحضور عند الله. انتهى. وفيه بعد ، وهو أخبار منه تعالى صدقه الوجود. والصيحة : ما نالهم من قتل وأسر وغلبة ، كما تقول ؛ صاح فيهم الدهر. وقال قتادة : توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور. وقيل : بصيحة يملكون بها في الدنيا. فالقول الأول فيه الانتظار من الرسول لشيء معين فيهم ، وعلى هذين القولين هم بمدرج عقوبة ، وتحت أمر خطر ما ينتظرون فيه إلا الهلكة. وقرأ الجمهور : (مِنْ فَواقٍ) ، بفتح الفاء ؛ والسلمي ، وابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وطلحة : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، كقصاص الشعر. وقال ابن زيد ، والسدي : بالفتح ، إفاقة من أفاق واستراح ، كجواب من أجاب. قال ابن عباس : (مِنْ فَواقٍ) : من ترداد. وقال مجاهد : من رجوع.

(عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) : نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا. قاله الحسن وقتادة وابن جبير. وقال أيضا ، ومجاهد : نصيبنا من العذاب. وقال أبو العالية والكلبي : صحفنا


بإيماننا. وقال السدي : المعنى : أرنا منازلنا من الجنة حتى نتابعك ، وعلى كل قول ، فإنما قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف والاستهزاء. ومعنى (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) : أي الذين يزعمون أنه واقع في العالم ، إذ هم كفرة لا يؤمنون بالبعث.

ولما كانت مقالتهم تقتضي الاستخفاف ، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم ، وذكر قصصا للأنبياء : داود وسليمان وأيوب وغيرهم ، وما عرض لهم ، فصبروا حتى فرج الله عنهم ، وصارت عاقبتهم أحسن عاقبة. فكذلك أنت تصبر ، ويؤول أمرك إلى أحسن مآل ، وتبلغ ما تريد من إقامة دينك وإماتة الضلال. وقيل : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ، وعظم أمر مخالفتهم لله في أعينهم ، وذكرهم بقصة داود وما عرض له ، وهو قد أوتي النبوة والملك ، فما الظن بكم مع كفركم وعصيانكم؟ انتهى. وهو ملتقط من كلام الزمخشري مع تغيير بعض ألفاظه لا تناسب منصب النبوة. وقيل : أمر بالصبر ، فذكر قصص الأنبياء ليكون برهانا على صحة نبوته. وقيل : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ، وحافظ على ما كلفت به من مصابرتهم ، وتحمل أذاهم ، واذكر داود وكرامته على الله ، وما عرض له ، وما لقي من عتب الله. (ذَا الْأَيْدِ) : أي ذا القوة في الدين والشرع والصدع بأمر الله والطاعة لله ، وكان مع ذلك قويا في بدنه. والأوّاب : الرجّاع إلى طاعة الله ، قاله مجاهد وابن زيد. وقال السدي : المسبح. ووصفه بأنه أوأب يدل على أن ذا الأيد معناه : القوة في الدين. ويقال : رجل أيد وأيد وذو أد وأياد : كل بمعنى ما يتقوى. و (الْإِشْراقِ) : وقت الإشراق. قال ثعلب : شرقت الشمس ، إذا طلعت ؛ وأشرقت : إذا أضاءت وصفت. وفي الحديث ، أنه عليه‌السلام ، صلى صلاة الضحى وقال : «يا أم هانىء ، هذه صلاة الإشراق ، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل». وتقدّم كل الكلام في تسبيح الجبال في قصة داود في سورة الأنبياء ، وأتى بالمضارع باسم الفاعل دلالة على حدوث التسبيح شيئا بعد شيء ، وحالا بعد حال ؛ فكأن السامع محاضر تلك الجبال سمعها تسبح. ومثله قول الأعشى :

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في بقاع تحرق

أي : تحرق شيئا فشيئا. ولو قال محرقة ، لم يدل على هذا المعنى. وقرأ الجمهور : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) ، بنصبهما ، عطفا على الجبال يسبحن ، عطف مفعول على مفعول ، وحال على حال ، كقولك : ضربت هندا مجردة ، ودعدا لا بسة. وقرأ ابن أبي عبلة ، والجحدري : والطير محشورة ، برفعهما ، مبتدأ وخبر ، أو جاء محشورة باسم المفعول ،


لأنه لم يرد أنها تحشر شيئا ، إذ حاشرها هو الله تعالى ، فحشرها جملة واحدة أدل على القدرة. والظاهر عود الضمير في له على داود ، أي كل واحد من الجبل والطير لأجل داود ، أي لأجل تسبيحه. سبح لأنها كانت ترجع تسبيحه ، ووضع الأواب موضع المسبح. وقيل : الضمير عائد على الله ، أي كل من داود والجبال والطير أواب ، أي مسبح مرجع للتسبيح.

وقرأ الجمهور : (وَشَدَدْنا) ، مخففا : أي قوينا ، كقوله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) (١). والحسن ، وابن أبي عبلة : بشد الدال ، وهي عبارة شاملة لما وهبه الله تعالى من قوة وجند ونعمة ، فالتخصيص ببعض الأشياء لا يظهر. وقال السدي : بالجنود. قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مسلم يحرسونه ، وهذا بعيد في العادة ؛ وقيل : بهيبة قذفها الله له في قلوب قومه. و (الْحِكْمَةَ) هنا : النبوة ، أو الزبور ، أو الفهم في الدين ، أو كل كلام ، ولقن الحق أقوال. (وَفَصْلَ الْخِطابِ) ، قال علي والشعبي : إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي : القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه. وقال الشعبي : كلمة أما بعد ، لأنه أول من تكلم بها وفصل بين كلامين. قال الزمخشري : لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه ، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أما بعد. ويجوز أن يراد بالخطاب : القصد الذي ليس له فيه اختصار مخل ، ولا إشباع ممل ؛ ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصل لا نذر ولا هذر. انتهى. ولما كان تعالى قد كمل نفس نبيه داود بالحكمة ، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة فقال : (وَفَصْلَ الْخِطابِ).

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) : لما أثنى تعالى على داود عليه‌السلام بما أثنى ، ذكر قصته هذه ، ليعلم أن مثل قصته لا يقدح في الثناء عليه والتعظيم لقدره ، وإن تضمنت استغفاره ربه ، وليس في الاستغفار ما يشعر بارتكاب أمر يستغفر منه ، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة. ومجيء مثل هذا الاستفهام إنما يكون لغرابة ما يجيء معه من القصص ، كقوله : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٢) ، فيتهيأ المخاطب بهذا الاستفهام لما يأتي بعده ويصغي لذلك. وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء ، ضربنا عن ذكرها صفحا ، وتكلمنا على ألفاظ الآية. والنبأ : الخبر ، فالخبر أصله

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٣٥.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٩.


مصدر ، فلذلك تصلح للمفرد والمذكر وفروعهما ، وهنا جاء للجمع ، ولذلك قال : (إِذْ تَسَوَّرُوا) : إذ دخلوا ، كما قال الشاعر :

وخصم يعدون الدخول كأنهم

قروم غيارى كل أزهر مصعب

والظاهر أنهم كانوا جماعة ، فلذلك أتى بضمير الجمع. فإن كان المتحاكمان اثنين ، فيكون قد جاء معهم غيرهم على جهة المعاضدة أو المؤانسة ، ولا خلاف أنهم كانوا ملائكة ، كذا قال بعضهم. وقيل : كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم ، والأول أشهر. وقيل : الخصم هنا اثنان ، وتجوز في العبارة فأخبر عنهما أخبار ما زاد على اثنين ، لأن معنى الجمع في التثنية. وقيل : معنى خصمان : فريقان ، فيكون تسوروا ودخلوا عائدا على الخصم الذي هو جمع الفريقين ، ويدل على أن خصمان بمعنى فريقان قراءة من قرأ : بغى بعضهم على بعض. وقال تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) (١) ، بمعنى : فأما إن هذا أخي. وما روي أنه بعث إليه ملكان ، فالمعنى : أن التحاكم كان بين اثنين ، ولا يمتنع أن يصحبهما غيرهما. وأطلق على الجميع خصم ، وعلى الفريقين خصمان ، لأن من جاء مع متخاصم لمعاضدة فهو في سورة خصم ، ولا يبعد أن تطلق عليه التسمية ، والعامل في الظرف ، وهو إذ أتاك ، قاله الحوفي ورد بأن إتيان النبأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقع إلا في عهده ، لا في عهد داود. وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : العامل فيه نبأ ورد بما رد به ما قبله أن النبأ الواقع في عهد داود عليه‌السلام لا يصح إتيانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإذا أردت بالنبإ القصة في نفسها ، لم يكن ناصبا. وقيل : العامل فيه محذوف تقديره : وهل أتاك تخاصم الخصم؟ قاله الزمخشري. ويجوز أن ينتصب بالخصم ، لما فيه من معنى الفعل. وإذ دخلوا بدل من إذ الأولى ؛ وقيل : ينتصب بتسوروا. وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما ، فتسورا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان. قال ابن عباس : جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوما للعبادة ، ويوما للقضاء ، ويوما للاشتغال بخواص أموره ، ويوما لجميع بني إسرائيل ، فيعظهم ويبكيهم.

فجاءوه في غير القضاء ، ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه ، فخاف أن يؤذوه. وقيل : كان ذلك ليلا ، ويحتمل أن يكون فزعه من أجل أن

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ١٩.


أهل ملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان ، فيكون فزعه على فساد السيرة ، لا من الداخلين. وقال أبو الأحوص : فزع منهم لأنهما دخلا عليه ، وكل منهما آخذ برأس صاحبه. وقيل : فزع منهم لما رأى من تسورهم على موضع مرتفع جدا لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد. وقيل : إنهما قالا : لم نتوصل إليك إلا بالتسور لمنع الحجاب ، وخفنا تفاقم الأمر بيننا ، فقبل داود عذرهم. ولما أدركوا منه الفزع قالوا : (لا تَخَفْ) ، أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم. (خَصْمانِ) : يحتمل أن يكون هذا موصولا بقولهما : (لا تَخَفْ) ، بادرا بإخبار ما جاءا إليه. ويحتمل أن يكون سألهم : ما أمركم؟ فقالوا : خصمان ، أي نحن خصمان. (بَغى) : أي جار ، (بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) ، كما قال الشاعر :

ولكن الفتى حمل بن بدر

بغى والبغي مرتعه وخيم

وقرأ أبو يزيد الجراد ، عن الكسائي : خصمان ، بكسر الخاء ؛ وفي أمرهم له ونهيهم ببعض فظاظة على الحكام ، حمل على ذلك ما هم فيه من التخاصم والتشاجر ، واستدعوا عدله من غير ارتياب في أنه يحكم بالعدل. وقرأ الجمهور : (وَلا تُشْطِطْ) ، مفكوكا من أشط رباعيا ؛ وأبو رجاء ، وابن أبي عبلة ، وقتادة ، والحسن ، وأبو حيوة : تشطط ، من شط ثلاثيا. وقرأ قتادة أيضا : تشط ، مدغما من أشط. وقرأ زر : تشاطط ، بضم التاء وبالألف على وزن تفاعل ، مفكوكا ، وعن قتادة أيضا : تشطط من شطط ، و (سَواءِ الصِّراطِ) : وسط طريق الحق ، لا ميل فيه من هنا ولا هنا.

(إِنَّ هذا أَخِي) : هو قول المدعي منهما ، وأخي عطف بيان عند ابن عطية ، وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري. والأخوّة هنا مستعارة ، إذ هما ملكان ، لكنهما لما ظهرا في صورة إنسانين تكلما بالأخوّة ، ومجازها أنها أخوة في الدين والإيمان ، أو على معنى الصحبة والمرافقة ، أو على معنى الشركة والخلطة لقوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) ، وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء ، ويندب إلى العدل. وقرأ الجمهور : (تِسْعٌ وَتِسْعُونَ) ، بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن ، وزيد بن علي : بفتحها. وقرأ الجمهور : (نَعْجَةً) ، بفتح النون ؛ والحسن ، وابن هرمز : بكسر النون ، وهي لغة لبعض بني تميم. قيل : وكنى بالنعجة عن الزوجة. (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) : أي ردها في كفالتي. وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ، أي نصيبي. وقال ابن عباس : أعطنيها ؛ وعنه ، وعن ابن مسعود : تحول لي عنها ؛ وعن أبي العالية : ضمها إلي حتى أكفلها. (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) ، قال


الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني. وقال ابن عطية : كان أوجه مني وأقوى ، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي ، وقوته أعظم من قوتي. وقال الزمخشري : جاءني محجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به. وأراد بالخطاب : مخاطبة المحاج المجادل ، أو أراد خطيب المرأة ، وخطبها هو فخاطبني خطابا : أي غالبني في الخطبة ، فغلبني حيث زوجها دوني ؛ وقيل : غلبني بسلطانه ، لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. قال الحافظ أبو بكر بن العربي : كان ببلادنا أمير يقال له سيري بن أبي بكر ، فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غضب لها؟ فقلت : أما إذا كان عدلا فلا. وقرأ أبو حيوة ، وطلحة : وعزني ، بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح : حذف الزاي الواحدة تخفيفا ، كما قال أبو زبيد :

أحسن به فهز إليه شوس

وروي كذلك عن عاصم. وقرأ عبيد الله ، وأبو وائل ، ومسروق ، والضحاك ، والحسن ، وعبيد بن عمير : وعازني ، بألف وتشديد الزاي : أي وغالبني. والظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن ، ولا يكنى بها عن المرأة ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لأن ذلك الإخبار كان صادرا من الملائكة ، على سبيل التصوير للمسألة والفرض لها مرة غير تلبس بشيء منها ، فمثلوا بقصة رجل له نعجة ، ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع في نعجة خليطة ، وأراد انتزاعها منه ؛ وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، ويدل على ذلك قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) ، وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) : ليس هذا ابتداء من داود ، عليه‌السلام ، إثر فراغ لفظ المدعي ، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب ، فقيل ذلك على تقدير ، أي لئن كان ما تقول ، (لَقَدْ ظَلَمَكَ). وقيل : ثم محذوف ، أي فأقر المدعى عليه فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) ، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدّعى عليه ، لأنه معلوم من الشرائع كلها ، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدّعى عليه. فأما ما قاله الحليمي من أنه رأى في المدّعي مخايل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم ، كما تقول ، فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه ، فاستعجل بقوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) ، فقوله ضعيف لا يعول عليه. وروي أن داود ، عليه‌السلام ، لما سمع كلام الشاكي قال للآخر : ما تقول؟ فأقر فقال له : لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك ، وقال للثاني : (لَقَدْ


ظَلَمَكَ) ؛ فتبسما عند ذلك وذهبا ، ولم يرهما لحينه ، ورأى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه. وأضاف المصدر إلى المفعول ، وضمن السؤال معنى الإضافة ، أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال والطلب ، ولذلك عداه بإلى.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) : هذا من كلام داود ، ويدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيرا. والخلطاء : الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، الواحد خليط. قصد داود بهذا الكلام الموعظة الحسنة ، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة ، وأن يكره إليهم الظلم ، وأن يسلي المظلوم عن ما جرى عليه من خليطه ، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة. وقرىء : ليبغي ، بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة ، وأصله : ليبغين ، كما قال :

اضرب عنك الهموم طارقها

يريد : اضربن ، ويكون على تقدير قسم محذوف ذلك القسم ، وجوابه خبر لأن. وعلى قراءة الجمهور ، يكون ليبغي خبرا لأن. وقرىء : ليبغ ، بحذف الياء كقوله :

محمد تفد نفسك كل نفس

أي : تفدي على أحد القولين. و (قَلِيلٌ) : خبره مقدّم ، وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجب ، وهم مبتدأ. (وَظَنَّ داوُدُ) : لما كان الظن الغالب يقارب العلم ، استعير له ، ومعناه : وعلم داود وأيقن أنا ابتليناه بمحاكمة الخصمين. وأنكر ابن عطية مجيء الظن بمعنى اليقين. وقال : لسنا نجده في كلام العرب ، وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر ، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ودلالة اليقين التام ، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون : ظن بمعنى أيقن ، وطول ابن عطية في ذلك بما يوقف عليه في كتابه. وقرأ الجمهور : (فَتَنَّاهُ) ؛ وعمر بن الخطاب ، وأبو رجاء ، والحسن : بخلاف عنه ، شد التاء والنون مبالغة ؛ والضحاك : أفتناه ، كقوله :

لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت

وقتادة ، وأبو عمرو في رواية ؛ يخفف التاء والنون ، والألف ضمير الخصمين. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ، راكعا : حال ، والخرور : الهويّ إلى الأرض. فإما أنه عبر بالركوع عن السجود ، وإما أنه ذكر أول أحوال الخرور ، أي راكعا ليسجد. وقال الحسن : لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع. وقال الحسن بن الفضل : أخر من ركوعه ، أي


سجد بعد أن كان راكعا. وقال قوم : يقال خر لمن ركع ، وإن لم ينته إلى الأرض. والذي يذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفي غير وقت جلوسه للحكم ، وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه. فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة ، وبرز منهم اثنان للتحاكم ، كما قص الله تعالى ، وأن داود عليه‌السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنقاذ من الله له أن يغتالوه ، فلم يقع ما كان ظنه ، فاستغفر من ذلك الظن ، حيث أخلف ولم يكن يقع مظنونه ، وخر ساجدا ، أو رجع إلى الله تعالى فغفر له ذلك الظن ؛ ولذلك أشار بقوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) ، ولم يتقدّم سوى قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) ، ويعلم قطعا أن الأنبياء ، عليهم‌السلام ، معصومون من الخطايا ، لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أن لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك ، بطلت الشرائع ، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى ، وما حكى القصاص مما فيه غض عن منصب النبوة طرحناه ، ونحن كما قال الشاعر :

ونؤثر حكم العقل في كل شبهة

إذا آثر الأخبار جلاس قصاص

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ، وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ، وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ، رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ، قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ، هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

جعله تعالى داود خليفة في الأرض يدل على مكانته ، عليه‌السلام ، عنده واصطفائه ، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئا مما لا يليق بمنصب النبوّة. واحتمل لفظ خليفة أن


يكون معناه : تخلف من تقدمك من الأنبياء ، أن يعلي قدرك بجعلك ملكا نافذ الحكم ، ومنه قيل : خلفاء الله في أرضه. واستدل من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله ، ولا يلزم ذلك من الآية ، بل لزومه من جهة الشرع والإجماع. قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله إلا لرسول. وأما الخلفاء ، فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز ، كما قال قيس الرقيات :

خليفة الله في بريته

حقت بذاك الأقلام والكتب

وقالت الصحابة لأبي بكر : خليفة رسول الله ، وبذلك كان يدعى مدته. فلما ولي عمر قالوا : خليفة خليفة رسول الله ، وطال الأمر وزاد أنه في المستقبل ، فدعوه أمير المؤمنين ، وقصر هذا الاسم على الخلفاء. انتهى. (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) : أمر بالديمومة ، وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس. فمن حيث هو معصوم لا يحكم إلا بالحق ، أمر أولا بالحكم ؛ ولما كان الهوى قد يعرض لغير المعصوم ، أمر باجتنابه ، وذكر نتيجة اتباعه ، وهو إضلاله عن سبيل الله. و (فَيُضِلَّكَ) : جواب للنهي ، والفاعل في فيضلك ضمير (الْهَوى) ، أو ضمير المصدر المفهوم من (وَلا تَتَّبِعِ) ، أي فيضلك اتباع الهوى. ولما ذكر ما ترتب على اتباع الهوى ، وهو الإضلال عن سبيل الله ، ذكر عقاب الضال. وقرأ الجمهور : (يَضِلُّونَ) ، بفتح الياء ، لأنهم لما أضلهم اتباع الهوى صاروا ضالين. وقرأ ابن عباس ، والحسن : بخلاف عنهما ؛ وأبو حيوة : بضم الياء ، وهذه القراءة أعم ، لأنه لا يضل إلا ضال في نفسه ؛ وقراءة الجمهور أوضح. و (بِما نَسُوا) : متعلق بما تعلق به لهم ، ونسوا : تركوا ، و (يَوْمَ) : يجوز أن يكون منصوب بنسوا ، أو بما تعلق به لهم ، ويكون النسيان عبارة عن ضلالهم عن سبيل الله. وانتصب (باطِلاً) على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي خلقا باطلا ، أو على الحال ، أي مبطلين ، أو ذوي باطل ، أو على أنه مفعول من أجله. معنى باطلا : عبثا.

(ذلِكَ) : أي كون خلقها باطلا ، (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي مظنونهم ، وهؤلاء ، وإن كانوا مقرين بأن خالق السموات والأرض هو الله تعالى ، فهم من حيث أنكروا المعاد والثواب والعقاب ظانون أن خلق ذلك ليس بحكمة ، وأن خلق ذلك إنما هو عبث ؛ ولذلك قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١). فنبه على المعاد

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١١٥.


والرجوع إلى جزائه ، ثم ذكر ما بين المؤمن ، عامل الصالحات ، والمفسد من التباين ، وأنهما ليسا سيين ، وقابل الصلاح بالفساد ، والتقوى بالفجور. قال ابن عباس : هي عامة في جميع المسلمين والكافرين. وقيل في قوم من مشركي قريش قالوا : نحن لنا في الآخرة أعظم مما لنا في الدنيا ، فأنزل الله هذه الآية. وقيل في جماعة من المؤمنين والكافرين معينين بارزوا يوم بدر عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث ، رضي‌الله‌عنهم ، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة ؛ ووصف كلا بما ناسبه. والاستفهام بأم في الموضعين استفهام إنكار ، والمعنى : أنه لا يستوي عند الله من أصلح ومن أفسد ، ولا من اتقى ومن فجر ، وكيف تكون التسوية بين من أطاع ومن عصى؟ إذن كان يبطل الجزاء ، والجزاء لا محالة واقع ، والتسوية منتفية.

ولما انتفت التسوية ، بين ما تصلح به لمتبعه السعادة الأبدية ، وهو كتاب الله تعالى ، فقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) ، وارتفاعه على إضمار متبدأ ، أي هذا كتاب. وقرأ الجمهور : (مُبارَكٌ) ، على الصفة. وقرىء : مباركا ، على الحال اللازمة ، أي هذا كتاب. وقرأ الجمهور : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) ، بياء الغيبة وشد الدال ، وأصله ليتدبروا. وقرأ عليّ بهذا الأصل. وقرأ أبو جعفر : بتاء الخطاب وتخفيف الدال ؛ وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما ، والأصل : لتتدبروا بتاءين ، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها ، أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها؟ واللام في ليدبروا لام كي ، وأسند التدبر في الجميع ، وهو التفكر في الآيات ، والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء. وأسند التذكر إلى أولي العقول ، لأن ذا العقل فيه ما يهديه إلى الحق وهو عقله ، فلا يحتاج إلا إلى ما يذكره فيتذكر ، والمخصوص بالمدح محذوف ، التقدير : (نِعْمَ الْعَبْدُ) هو ، أي سليمان. وقرىء : نعم على الأصل ، كما قال :

نعم الساعون في القوم الشطر

أثنى تعالى عليه لكثرة رجوعه إليه ، أو لكثرة تسبيحه. (إِذْ عُرِضَ) ، الناصب لإذ ، قيل : (أَوَّابٌ) ، وقيل : اذكر على الاختلاف في تأويل هذه الآية. قال الجمهور : عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له ، وقيل : ألف واحد ، فأجريت بين يديه عشيا ، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له ، فقال : ردوها عليّ. فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف لما كانت سبب الذهول عن ذلك الذكر ، فأبدله الله أسرع منها الريح. وقال قوم ،


منهم الثعلبي : كانت بالناس مجاعة ، ولحوم الخيل لهم حلال ، فعقرها لتؤكل على سبيل القربة ، ونحر الهدي عندنا. انتهى. وفي هذه القصة ألفاظ فيها غض من منصب النبوّة كفينا عنه. والخير في قوله (حُبَّ الْخَيْرِ) : أي هذا القول يراد به الخيل. والعرب تسمي الخيل الخير ، قاله قتادة والسدي : وقال الضحاك ، وابن جبير : الخير هنا المال ، وانتصب حب الخير ، قيل : على المفعول به لتضمن أحببت معنى آثرت ، قاله الفرّاء. وقيل : منصوب على المصدر التشبيهي ، أي أحببت الخيل كحب الخير ، أي حبا مثل حب الخير. وقيل : عدى بعن فضمن معنى فعل يتعدى بها ، أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي ، أو جعلت حب الخير مغنيا عن ذكر ربي. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان أن أحببت بمعنى : لزمت ، من قوله :

مثل بعير السوء إذ أحبا

وقالت فرقة : (أَحْبَبْتُ) : سقطت إلى الأرض ، مأخوذ من أحب البعير إذا أعيى وسقط. قال بعضهم : حب البعير : برك ، وفلان : طأطأ رأسه. وقال أبو زيد : بعير محب ، وقد أحب إحبابا ، إذا أصابه مرض أو كسر ، فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. قال ثعلب : يقال للبعير الحسير محب ، فالمعنى : قعدت عن ذكر ربي. وحب الخير على هذا مفعول من أجله ، والظاهر أن الضمير في (تَوارَتْ) عائد على (الصَّافِناتُ) ، أي دخلت اصطبلاتها ، فهي الحجاب. وقيل : حتى تورات في المسابقة بما يحجبها عن النظر. وقيل : الضمير للشمس ، وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العشي عليها. وقالت طائفة : عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة ، فأشار إليهم أني في صلاتي ، فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات ؛ فقال هو لما فرغ من صلاته : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) ، أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، كأنه يقول : فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها ، ردوها عليّ فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها. وقال ابن عباس والزهري : مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف بل بيديه تكريما لها ومحبة ، ورجحه الطبري. وقيل : بل غسلا بالماء. وقال الثعلبي : إن هذا المسح كان في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله. انتهى. وهذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء ، لا القول المنسوب للجمهور ، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء.

و (حَتَّى تَوارَتْ) : غاية ، فالفعل يكون قبلها متطاولا حتى تصح الغاية ، فأحببت : معناه أردت المحبة. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (رُدُّوها عَلَيَ)؟ قلت :


بمحذوف تقديره : قال ردوها عليّ ، فأضمروا ضمير ما هو جواب له ، كأن قائلا قال : فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهرا. ثم ذكر الزمخشري لفظا فيه غض من النبوة فتركته. وما ذهب إليه من هذا الإضمار لا يحتاج إليه ، إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ). فهذه الجملة وجملة (رُدُّوها عَلَيَ) محكيتان بقال ، وطفق من أفعال المقاربة للشروع في الفعل ، وحذف غيرها لدلالة المصدر عليه ، أي فطفق يمسح مسحا. وقرأ الجمهور : (مَسْحاً) : وزيد بن علي : مساحا ، على وزن قتال ، والباء في (بِالسُّوقِ) زائدة ، كهي في قوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) (١). وحكى سيبويه : مسحت برأسه ورأسه بمعنى واحد ، وتقدم الكلام على ذلك في المائدة. وقرأ الجمهور : (بِالسُّوقِ) ، بغير همز على وزن فعل ، وهو جمع ساق ، على وزن فعل بفتح العين ، كأسد وأسد ؛ وابن كثير بالهمز ، قال أبو علي : وهي ضعيفة ، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو وقدر أنها عليها فهمزت ، كما يفعلون بالواو المضمومة. ووجه همز السوق من السماع أن أبا حبة النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة ، وكان ينشد :

حب المؤقدين إلى مؤسى

انتهى. وليست ضعيفة ، لأن الساق فيه الهمزة ، ووزن فعل بسكون العين ، فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة. وقرأ ابن محيصن : بهمزة بعدها الواو ، رواهما بكار عن قنبل. وقرأ زيد بن علي : بالساق مفردا ، اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس. ومن غريب القول أن الضمير في ردوها عائد على الشمس ، وقد اختلفوا في عدد هذه الخيل على أقوال متكاذبة ، سودوا الورق بذكرها.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) : نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها في كتبهم ، وهي مما لا يحل نقلها ، وأما هي من أوضاع اليهود والزنادقة ، ولم يبين الله الفتنة ما هي ، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان. وأقرب ما قيل فيه : أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال : «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، وجاءته بشق رجل». قال

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٣ ، وسورة المائدة : ٥ / ٦.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون». فالمراد بقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) هو هذا ، والجسد الملقى هو المولود شق رجل. وقال قوم : مرض سليمان مرضا كالإغماء حتى صار على كرسيه جسدا كأنه بلا روح. ولما أمر تعالى نبيه عليه‌السلام بالصبر على ما يقول كفار قريش وغيرهم ، أمره بأن يذكر من ابتلي فصبر ، فذكر قصة داود وقصة سليمان وقصة أيوب ليتأسى بهم ، وذكر ما لهم عنده من الزلفى والمكانة ، فلم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوه به ويستحيل عقلا وجود بعض ما ذكروه ، كتمثل الشيطان بصورة نبي ، حتى يلتبس أمره عند الناس ، ويعتقدون أن ذلك المتصور هو النبي ، ولو أمكن وجود هذا ، لم يوثق بإرسال نبي ، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية ، نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها. (ثُمَّ أَنابَ) : أي بعد امتحاننا إياه ، أدام الإنابة والرجوع.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) : هذا أدب الأنبياء والصالحين من طلب المغفرة من الله هضما للنفس وإظهارا للذلة والخشوع وطلبا للترقي في المقامات ، وفي الحديث : «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» ، والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه ، فيترتب عليه أمر دنياه ، كقول نوح في ما حكى الله عنه : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١) الآية. والظاهر أن طلب الملك كان بعد هذه المحنة. وذكر المفسرون أنه أقام في ملكه عشرين سنة قبل هذا الابتلاء ، وأقام بعدها عشرين سنة ، فيمكن أنه كان في ملك قبل المحنة ، ثم سأل بعدها ملكا مقيدا بالوصف الذي بعده ، وهو كونه لا ينبغي لأحد من بعده ، واختلفوا في هذا القيد ، فقال عطاء بن أبي رباح وقتادة : إلى مدة حياتي ، لا أسلبه ويصير إلى غيري. قال ابن عطية : إنما قصد بذلك قصدا جائزا ، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوة. وانظر إلى قوله : (لا يَنْبَغِي) ، إنما هي لفظة محتملة ليست تقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد. انتهى.

وقال الزمخشري : كان سليمان عليه‌السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما ؛ فأراد أن يطلب من ربه معجزة ، فطلب على حسب إلفه ملكا زائدا على الممالك

__________________

(١) سورة نوح : ٧١ / ١٠ ـ ١١.


زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ، ليكون ذلك دليلا على نبوته ، قاهرا للمبعوث إليهم ، ولن يكون معجزة حتى تخرق العادات ، فذلك معنى قوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي). وقيل : كان ملكا عظيما ، فخاف أن يعطى مثله أحد ، فلا يحافظ على حدود الله فيه ، كما قالت الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١). وقيل : ملكا لا أسلبه ، ولا يقوم فيه غيري مقامي. ويجوز أن يقال : علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين ، وعلم أنه لا يطلع بأحبابه غيره ، وأوجبت الحكمة استيهابه ، فأمره أن يستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أن لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول : ملكا عظيما ، فقال : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، ولم يقصد بذلك إلا عظمة الملك وسعته ، كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. انتهى.

ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه ، أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) : أي الكثير الهبات ، لا يتعاظم عنده هبة. ولما طلب الهبة التي اختص بطلبها ، وهبه وأعطاه ما ذكر تعالى من قوله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ). وقرأ الجمهور : بالإفراد ؛ والحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وأبو جعفر : الرياح بالجمع ، وهو أعم لعظم ملك سليمان ، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس. (تَجْرِي) : يحتمل أن تكون جملة حالية ، أي جارية ، وأن تكون تفسيرية لقوله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ). (بِأَمْرِهِ) ؛ أي لا يمتنع عليه إذا أراد جريها. (رُخاءً) ، قال ابن عباس والحسن والضحاك : مطيعة. وقال مجاهد : طيبة. (حَيْثُ أَصابَ) : أي حيث قصد وأراد ، حكى الزجاج عن العرب. أصاب الصواب فأخطأ الجواب : أي قصد. وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان؟ فقال : هذه طلبتنا. ويقال : أصاب الله بك خيرا ، وأنشد الثعلبي :

أصاب الكلام فلم يستطع

فأخطأ الجواب لدى المفصل

وقال وهب : حيث أصاب ، أي أراد. قيل : ويجوز أن يكون أصاب دخلت فيه همزة التعدية من صاب ، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر ، وقيل :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.


أصاب : أراد ، بلغة حمير. وقال قتادة : بلغة هجر. (وَالشَّياطِينَ) : معطوف على الريح و (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) : بدل ، وأتى ببنية المبالغة ، كما قال : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) (١) الآية ، وقال النابغة :

إلا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند

وجيش الجنّ إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

والمعطوف على العام عام ، فالتقدير : وكل غواص ، أي في البحر يستخرجون له الحلية ، وهو أول من استخرج الدر : (وَآخَرِينَ) : عطف على كل ، فهو داخل في البدل ، إذ هو بدل كل من كل بدل التفصيل ، أي من الجنّ ، وهم المردة ، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم. وقال النابغة في ذلك :

فمن أطاعك فانفعه بطاعته

كما أطاعك وادلله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة

تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

وتقدم تفسير (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) في آخر سورة إبراهيم عليه‌السلام ، وأوصاف من ملك سليمان في سورة النمل. (هذا عَطاؤُنا) : إشارة لما أعطاه الله تعالى من الملك الضخم وتسخير الريح والإنس والجنّ والطير ، وأمره بأن يمنّ على من يشاء ويمسك عن من يشاء. وقفه على قدر النعمة ، ثم أباح له التصرف فيها بمشيئته ، وهو تعالى قد علم أنه لا يتصرف إلا بطاعة الله. قال الحسن وغيره ، قاله قتادة : إشارة إلى ما فعله الجن ، أي فامنن على من شئت منهم ، وأطلقه من وثاقه ، وسرحه من خدمته ، وامسك أمره كما تريد. وقال ابن عباس : إشارة إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليهنّ من جماعهنّ ، ولعله لا يصح عن ابن عباس ، لأنه لم يجر هنا ذكر النساء ، ولا ما أوتي من القدرة على ذلك ، و (بِغَيْرِ حِسابٍ) : في موضع الحال من (عَطاؤُنا) ، أي هذا عطاؤنا جما كثيرا لا تكاد تقدر على حصره. ويجوز أن يكون (بِغَيْرِ حِسابٍ) من تمام (فَامْنُنْ). (أَوْ أَمْسِكْ) : أي لا حساب عليك في إعطاء من شئت أو حرمانه ، وفي إطلاق من شئت من الشياطين أو إيثاقه.

وختم تعالى قصته بما ذكر في قصة والده ، وهو قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ). وقرأ الجمهور : (وَحُسْنَ مَآبٍ) ، بالنصب عطفا على الزلفى. وقرأ الحسن ،

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.


وابن أبي عبلة : بالرفع ، ويقفان على (لَزُلْفى) ، ويبتدان (وَحُسْنَ مَآبٍ) ، وهو مبتدأ ، خبره محذوف تقديره : وحسن مآب له.

وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ


(٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)

الضغث : حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان ، وقيل : القبضة الكبيرة من القضبان ، ومنه قولهم : ضغث على إبلة ، والإبالة : الحزمة من الحطب ، والضغث : القبضة عليها من الحطب أيضا ، ومنه قول الشاعر :

وأسفل مني نهدة قد ربطتها

وألقيت ضغثا من خلى متطيب

الحنث : فعل ما حلف على تركه ، وترك ما حلف على فعله ، الغساق : ما سال ، يقال : غسقت العين والجرح. وعن أبي عبيدة : أنه البارد المنتن ، بلغة الترك ؛ وقال الأزهري : الغاسق : البارد ، ولهذا قيل : ليل غاسق ، لأنه أبرد من النهار. الاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها ، والقحمة : الشدة.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ، وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ، وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ).

لما أمر نبيه بالصبر ، وذكر ابتلاء داود وسليمان ، وأثنى عليهما ، ذكر من كان أشدّ ابتلاء منهما ، وأنه كان في غاية الصبر ، بحيث أثنى الله عليه بذلك. وأيوب : عطف بيان أو


بدل. قال الزمخشري : وإذ بدل اشتمال منه. وقرأ الجمهور : (أَنِّي) بفتح الهمزة ، وعيسى : بكسرها ، وجاء بضمير التكلم حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك لقال : إنه مسه ، لأنه غائب ، وأسند المس إلى الشيطان. قال الزمخشري : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب ، نسبه إليه وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ، ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به البلاء ، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم ، فلم يغثه. وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر ، فداهنه ولم يفده. وقيل : أعجب بكثرة ماله. انتهى.

ولا يناسب مناصب الأنبياء ما ذكره الزمخشري من أن أيوب كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به ، وأن ذلك كان سببا لما مسه الله به من النصب والعذاب ، ولا أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه ، ولا أنه داهن كافرا ، ولا أنه أعجب بكثرة ماله. وكذلك ما رووا أن الشيطان سلطه الله عليه حتى أذهب أهله وماله لا يمكن أن يصح ، ولا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس الفاسدة لغير المعصوم. والذي نقوله : أنه تعالى ابتلى أيوب عليه‌السلام في جسده وأهله وماله ، على ما روي في الأخبار. وروى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم ، ولم يصبر عليه إلا امرأته ، ولم يبين لنا توالي السبب المقتضي لعلته. وأما إسناده المس إلى الشيطان ، فسبب ذلك أنه كان يعوده ثلاث من المؤمنين ، فارتد أحدهم ، فسأل عنه فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين ، فحينئذ قال : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) ، نزل لشفقته على المؤمنين.

مس الشيطان ذلك المؤمن حتى ارتد منزلة مسه لنفسه ، لأن المؤمن الخير يتألم برجوع المؤمن الخير إلى الكفر ؛ ولذلك جاء بعده : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) ، حتى يغتسل ويذهب عنه البلاء ، فلا يرتد أحد من المؤمنين بسبب طول بلائه ، وتسويل الشيطان أنه تعالى لا يبتلي الأنبياء. وقيل : أشار بقوله : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) إلى تعريضه لامرأته ، وطلبه أن تشرك بالله ، وكأنه بتشكي هذا الأمر كان عليه أشدّ من مرضه. وقرأ الجمهور : (بِنُصْبٍ) ، بضم النون وسكون الصاد ، قيل : جمع نصب ، كوثن ووثن ؛ وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عمارة عن حفص ، والجعفي عن أبي بكر ، وأبو معاذ عن نافع : بضمتين ،


وزيد بن علي ، والحسن ، والسدّي ؛ وابن أبي عبلة ، ويعقوب ، والجحدري : بفتحتين ؛ وأبو حيوة ، ويعقوب في رواية ، وهبيرة عن حفص : بفتح النون وسكون الصاد. وقال الزمخشري : النصب والنصب ، كالرشد والرشد ، والنصب على أصل المصدر ، والنصب تثقيل نصب ، والمعنى واحد ، وهو التعب والمشقة. والعذاب : الألم ، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. انتهى.

وقال ابن عطية : وقد ذكر هذه القراءات ، وذلك كل بمعنى واحد معناه المشقة ، وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء. وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ ، والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم : أنصبني الأمر ، إذ شق عليّ انتهى. وقال السدّي : بنصب في الجسد وعذاب في المال ، وفي الكلام حذف تقديره : فاستجبنا له وقلنا : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) ، فركض ، فنبعت عين ، فقلنا له : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) فيه شفاؤك ، فاغتسل فبرأ ، (وَوَهَبْنا لَهُ) ، ويدل على هذه المحذوفات معنى الكلام وسياقه. وتقدم الكلام في الركض في سورة الأنبياء. وعن قتادة والحسن ومقاتل : كان ذلك بأرض الجابية من الشام.

ومعنى (هذا مُغْتَسَلٌ) : أي ما يغتسل به ، (وَشَرابٌ) ، أي ما تشربه ، فباغتسالك يبرأ ظاهرك ، وبشر بك يبرأ باطنك. والظاهر أن المشار إليه كان واحدا ، والعين التي نبعت له عينان ، شرب من إحداهما واغتسل من الأخرى. وقيل : ضرب برجله اليمنى ، فنبعت عين حارة فاغتسل. وباليسرى ، فنبعت باردة فشرب منها ، وهذا مخالف لظاهر قوله : (مُغْتَسَلٌ بارِدٌ) ، فإنه يدل على أنه ماء واحد. وقيل : أمر بالركض بالرجل ، ليتناثر عنه كل داء بجسده. وقال القتبي : المغتسل : الماء الذي يغتسل به. وقال مقاتل : هو الموضع الذي يغتسل فيه. وقال الحسن : ركض برجله ، فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها ، ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا ، ثم ركض برجله ، فنبعت عين ، فشرب منها. قيل : والجمهور على أنه ركض ركضتين ، فنبعت له عينان ، شرب من إحداهما ، واغتسل من الأخرى. والجمهور : على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله ، وعافى المرضى ، وجمع عليه من شتت منهم. وقيل : رزقه أولادا وذرية قدر ذريته الذين هلكوا ، ولم يردّ أهله الذين هلكوا بأعيانهم ، وظاهر هذه الهيئة أنها في الدنيا. وقيل ذلك وعد ، وتكون تلك الهيئة في الآخرة. وقيل : وهبه من كان حيا منهم ، وعافاه من الأسقام ، وأرغد لهم العيش ، فتناسلوا حتى تضاعف عددهم وصار مثلهم.


و (رَحْمَةً) ، (وَذِكْرى) : مفعولان لهما ، أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه ، وليتذكر أرباب العقول ، وما يحصل للصابرين من الخير ، وما يؤول إليه من الأجر. وفي الكلام حذف تقديره : وكان حلف ليضربن امرأته مائة ضربة لسبب جرى منها ، وكانت محسنة له ، فجعلنا له خلاصا من يمينه بقولنا : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً). قال ابن عباس : الضغث : عثكال النخل. وقال مجاهد : الأثل ، وهو نبت له شوك. وقال الضحاك : حزمة من الحشيش مختلفة. وقال الأخفش : الشجر الرطب ، واختلفوا في السبب الذي أوجب حلفه. ومحصول أقوالهم هو تمثل الشيطان لها في صورة ناصح أو مداو. وعرض لها شفاء أيوب على يديه على شرط لا يمكن وقوعه من مؤمن ، فذكرت ذلك له ، فعلم أن الذي عرض لها هو الشيطان ، وغضب لعرضها ذلك عليه فحلف. وقيل غير ذلك من الأسباب ، وهي متعارضة. فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها ، لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها ، وقد وقع مثل هذه الرخصة في الإسلام. أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمخدج قد خبث بأمة فقال : «خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة». وقال بذلك بعض أهل العلم في الإيمان ، قال : ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة ، إما أطرافها قائمة ، وإما أعراضها مبسوطة ، مع وجود صورة الضربة. والجمهور على ترك القول في الحدود ، وأن البر في الإيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات. ووصف الله تعالى نبيه بالصبر. وقد قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) (١) ، فدل على أن الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الوصف بالصبر. وقد قال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله على أن أيوب عليه‌السلام طلب الشفاء خيفة على قومه أن يوسوس إليهم الشيطان أنه لو كان نبيا لم يبتل ، وتألفا لقومه على الطاعة ، وبلغ أمره في البلاء إلى أنه لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يمنعني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعانا ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان ، فكشف الله عنه.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ) ، وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة ، عبدنا على الإفراد ، وإبراهيم بدل منه ، أو عطف بيان. والجمهور على الجمع ، وما بعده من الثلاثة بدل أو عطف بيان. وقرأ الجمهور : (أُولِي الْأَيْدِي) ، بالياء. قال ابن عباس ومجاهد : القوة في طاعة الله. وقيل : إحسانهم في الدين وتقدمهم عند الله على عمل صدق ، فهي كالأيدي ،

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٣.


وهو قريب مما قبله. وقيل : النعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والمكانة. وقيل (الْأَيْدِي) : الجوارح المتصرفة في الخير ، (وَالْأَبْصارِ) الثاقبة فيه.

قال الزمخشري : لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت ، فقيل في كل عمل : هذا مما عملت أيديهم ، وإن كان عملا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمال جذما لا أيدي لهم ، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) ، يريد : أولي الأعمال والفكر ؛ كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ، ولا يجاهدون في الله ؛ ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ، ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم ، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم ؛ وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ، ولا من المستبصرين في دين الله ، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منها. انتهى ، وهو تكثير. وقال أبو عبد الله الرازي : اليد آلة لأكثر الأعمال ، والبصر آلة لأقوى الإدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد ، وعن الإدراك بالبصر. والنفس الناطقة لها قوّتان : عاملة وعالمة ، فأولي الأيدي والأبصار إشارة إلى هاتين الحالتين. وقرأ عبد الله ، والحسن ، وعيسى ، والأعمش : الأيد بغير ياء ، فقيل : يراد الأيدي حذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها ، ولما كانت أل تعاقب التنوين ، حذفت الياء معها ، كما حذفت مع التنوين ، وهذا تخريج لا يسوغ ، لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر. وقيل : الأيدي : القوة في طاعة الله ، والأبصار : عبارة عن البصائر التي يبصرون بها الحقائق وينظرون بنور الله تعالى. وقال الزمخشري : وتفسير الأيدي من التأييد قلق غير متمكن ، وإنما كان قلقا عنده لعطف الأبصار عليه ، ولا ينبغي أن يعلق ، لأنه فسر أولي الأيدي والأبصار بقوله : يريد أولي الأعمال والفكر. وقرىء : الأيادي ، جمع الجمع ، كأوطف وأواطف.

وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، ونافع ، وهشام : بخالصة ، بغير تنوين ، أضيفت إلى ذكرى. وقرأ باقي السبعة بالتنوين ، و (ذِكْرَى) بدل من (بِخالِصَةٍ). وقرأ الأعمش ، وطلحة : بخالصتهم ، و (أَخْلَصْناهُمْ) : جعلناهم لنا خالصين وخالصة ، يحتمل ، وهو الأظهر ، أن يكون اسم فاعل عبر به عن مزية أو رتبة أو خصلة خالصة لا شوب فيها ، ويحتمل أن يكون مصدرا ، كالعاقبة ، فيكون قد حذف منه الفاعل ، أي أخلصناهم بأن أخلصوا ذكرى الدار ، فيكون ذكرى مفعولا ، أو بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار ، أو يكون الفاعل ذكرى ، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والدار في كل وجه في موضع نصب بذكرى ، وذكرى


مصدر ، والدار دار الآخرة. قال قتادة : المعنى بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ، ودعا الناس إليها وحضهم عليها. وقال مجاهد : خلص لهم ذكرهم الدار الآخرة ، وخوفهم لها. والعمل بحسب ذلك. وقال ابن زيد : وهبنا لهم أفضل ما في الدار الآخرة ، وأخلصناهم به ، وأعطيناهم إياه. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا ، على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس ، والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي ، فتجيء الآية في معنى قوله : (لِسانَ صِدْقٍ*) (١) ، وقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ*) (٢). انتهى. وحكى الزمخشري هذا الاحتمال قولا فقال : وقيل (ذِكْرَى الدَّارِ) : الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق. انتهى. والباء في بخالصة باء السبب ، أي بسبب هذه الخصلة وبأنهم من أهلها ، ويعضده قراءة بخالصتهم. (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) ، أي المختارين من بين أبناء جنسهم ، (الْأَخْيارِ) : جمع خير ، وخير كميت وميت وأموات. وتقدم الكلام في اليسع في سورة الأنعام ، وذا الكفل في سورة الأنبياء. وعندنا ظرف معمول لمحذوف دل عليه المصطفين ، أي وأنهم مصطفون عندنا ، أو معمول للمصطفين ، وإن كان بأل ، لأنهم يتسمحون في الظرف والمجرور ما لا يتسمحون في غيرهما ، أو على التبيين ، أي أعني عندنا ، ولا يجوز أن يكون عندنا في موضع الخبر ، ويعني بالعندية : المكانة ، ولمن المصطفين : في موضع خبر ثان لوجود اللام ، لا يجوز أن زيدا قائم لمنطلق ، (وَكُلٌ) : أي وكلهم ، من الأخيار.

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ، مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ، وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ، هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ، إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ، هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ ، هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ ، هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ ، قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ ، قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ، وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ، أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ، إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ، قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٥٠ ، وسورة الشعراء : ٢٦ / ٨٤.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ٧٨ و ١٠٨ و ١١٩ و ١٢٩.


لما أمره تعالى بالصبر على سفاهة قومه ، وذكر جملة من الأنبياء وأحوالهم ، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين والكافرين من الجزاء ، ومقر كل واحد من الفريقين. ولما كان ما يذكره نوعا من أنواع التنزيل ، قال : (هذا ذِكْرٌ) ، كأنه فصل بين ما قبله وما بعده. ألا ترى أنه لما ذكر أهل الجنة ، وأعقبه بذكر أهل النار قال : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ)؟ وقال ابن عباس : هذا ذكر من مضى من الأنبياء. وقيل : (هذا ذِكْرٌ) : أي شرف تذكرون به أبدا. وقرأ الجمهور : (جَنَّاتِ) بالنصب ، وهو بدل ، فإن كان عدن علما ، فبدل معرفة من نكرة ؛ وإن كان نكرة ، فبدل نكرة من نكرة. وقال الزمخشري : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) معرفة لقوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) (١) ، وانتصابها على أنها عطف بيان بحسن مآب ، ومفتحة حال ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. وفي مفتحة ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير تقديره : مفتحة هي الأبواب لقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، وهو من بدل الاشتمال. انتهى. ولا يتعين أن يكون جنات عدن معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي) ، لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن ، ولا يتعين ما ذكره ، إذ يجوز أن تكون التي بدلا من جنات عدن. ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء ، فتلي العوامل ، ولا يلزم أن تكون صفة؟ وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز ، لأن النحويين في ذلك على مذهبين : أحدهما : أن ذلك لا يكون إلا في المعارف ، فلا يكون عطف البيان إلا تابعا لمعرفة ، وهو مذهب البصريين. والثاني : أنه يجوز أن يكون في النكرات ، فيكون عطف البيان تابعا لنكرة ، كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم الفارسي. وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف. وقد أجاز ذلك في قوله : (مَقامِ إِبْراهِيمَ) (٢) ، فأعربه عطف بيان تابعا لنكرة ، وهو (آياتٍ بَيِّناتٍ*) (٣) ، و (مَقامِ إِبْراهِيمَ*) معرفة ، وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران. وأما قوله : وفي مفتحة ضمير الجنات ، فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولا لم يسم فاعله. وجاء أبو علي فقال : إذا كان كذلك ، لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن. من الحالية أن أعرب مفتحة حالا ، أو من النعت أن أعرب نعتا لجنات عدن ، فقال : في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى ترتبط الحال بصاحبها ، أو النعت بمنعوته ،

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦١.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.


والأبواب بدل. وقال : من أعرب الأبواب مفعولا ، لم يسم فاعله العائد على الجنات محذوف تقديره : الأبواب منها. وألزم أبو علي البدل في مثل هذا لا بد فيه من الضمير ، إما ملفوظا به ، أو مقدرا. وإذا كان الكلام محتاجا إلى تقدير واحد ، كان أولى مما يحتاج إلى تقديرين. وأما الكوفيون ، فالرابط عندهم هو أل لمقامه مقام الضمير ، فكأنه قال : مفتحة لهم أبوابها. وأما قوله : وهو من بدل الاشتمال ، فإن عنى بقوله : وهو قوله اليد والرجل ، فهو وهم ، وإنما هو بدل بعض من كل. وإن عنى الأبواب ، فقد يصح ، لأن أبواب الجنات ليست بعضا من الجنات. وأما تشبيهه ما قدره من قوله : مفتحة هي الأبواب ، بقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، فوجهه أن الأبواب بدل من ذلك الضمير المستكن ، كما أن اليد والرجل بدل من الظاهر الذي هو زيد. وقال أبو إسحاق : وتبعه ابن عطية : مفتحة نعت لجنات عدن. وقال الحوفي : مفتحة حال ، والعامل فيها محذوف يدل عليه المعنى ، تقديره : يدخلونها. وقرأ زيد بن علي ، وعبد الله بن رفيع ، وأبو حيوة : جنات عدن مفتحة ، برفع التاءين : مبتدأ وخبر ، أو كل منهما خبر مبتدأ محذوف ، أي هو جنات عدن هي مفتحة. والاتكاء : من هيئات أهل السعادة يدعون فيها ، يدل على أن عندهم من يستخدمونه فيما يستدعون ، كقوله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) (١).

ولما كانت الفاكهة يتنوع وصفها بالكثرة ، وكثرتها باختلاف أنواعها ، وكثرة كل نوع منها ؛ ولما كان الشراب نوعا واحدا وهو الخمر ، أفرد : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ). قال قتادة : معناه على أزواجهن ، (أَتْرابٌ) : أي أمثال على سنّ واحدة ، وأصله في بني آدم لكونهم مس أجسادهم التراب في وقت واحد ، والأقران أثبت في التحاب. والظاهر أن هذا الوصف هو بينهن ، وقيل : بين أزواجهن ، أسنانهن كأسنانهم. وقال ابن عباس : يريد الآدميات. وقال صاحب الغنيان : حور. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : هذا ما يوعدون ، بياء الغيبة ، إذ قبله وعندهم ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب على الالتفات ، والمعنى : هذا ما وقع به الوعد ليوم الجزاء. (إِنَّ هذا) : أي ما ذكر للمتقين مما تقدم ، (لَرِزْقُنا) دائما : أي لا نفاد له.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) ، قال الزجاج : أي الأمر هذا ، وقال أبو علي : هذا للمؤمنين ، وقال أبو البقاء : مبتدأ محذوف الخبر ، أو خبر محذوف المبتدأ ، والطاغون هنا :

__________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ١٩.


الكفار ؛ وقال الجبائي : أصحاب الكبائر كفارا كانوا أو لم يكونوا. وقال ابن عباس ، المعنى : الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مآب : أي مرجع ومصير. (فَبِئْسَ الْمِهادُ) : أي هي. (هذا) في موضع رفع مبتدأ خبره (جَهَنَّمَ) ، (وَغَسَّاقٌ) ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي العذاب هذا ، وحميم خبر مبتدأ ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، أي ليذوقوا. (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ) : خبر مبتدأ ، أي هو حميم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي منه حميم ومنه غساق ، كما قال الشاعر :

حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس

وغودر البقل ملوى ومحصود

أي : منه ملوى ومنه محصود ، وهذه الأعاريب مقولة منقولة. وقيل : هذا مبتدأ ، وفليذوقوه الخبر ، وهذا على مذهب الأخفش في إجازته : زيد فاضربه ، مستدلا بقول الشاعر :

وقائلة خولان فانكح فتاتهم

والغساق ، عن ابن عباس : الزمهرير ؛ وعنه أيضا ، وعن عطاء ، وقتادة ، وابن زيد : ما يجري من صديد أهل النار ؛ وعن كعب : عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية أو عقرب أو غيرهما ، يغمس فيها فيتساقط الجلد واللحم عن العظم ؛ وعن السدي : ما يسيل من دموعهم ؛ وعن ابن عمر : القيح يسيل منهم فيسقونه. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وقتادة ، وابن وثاب ، وطلحة ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، والفضل ، وابن سعدان ، وهارون عن أبي عمرو : بتشديد السين. فإن كان صفة ، فيكون مما حذف موصوفها ، وإن كان اسما ، ففعال قليل في الأسماء ، جاء منه : الكلاء ، والجبان ، والفناد ، والعقار ، والخطار. وقرأ باقي السبعة : بتخفيف السين. وقرأ الجمهور : (وَآخَرُ) على الإفراد ، فقيل : مبتدأ خبره محذوف تقديره : ولهم عذاب آخر. وقيل : خبره في الجملة ، لأن قوله : (أَزْواجٌ) مبتدأ ، و (مِنْ شَكْلِهِ) خبره ، والجملة خبر. وآخر ، وقيل : خبره أزواج ، ومن شكله في موضع الصفة ، وجاز أن يخبر بالجمع عن الواحد من حيث هو درجات ، ورتب من العذاب ، أو سمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل. وقال الزمخشري : وآخر ، أي وعذاب آخر ، أو مذوق آخر ؛ وأزواج صفة آخر ، لأنه يجوز أن يكون ضروبا أو صفة للثلاثة ، وهي : حميم وغساق وآخر من شكله. انتهى. وهو إعراب أخذه من الفراء. وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والجحدري ، وابن جبير ، وعيسى ، وأبو عمرو : وأخر على الجمع ،


وهو مبتدأ ، ومن شكله في موضع الصفة ؛ وأزواج خبره ، أي ومذوقا آخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة ؛ (أَزْواجٌ) : أجناس. وقرأ مجاهد : من شكله ، بكسر الشين ؛ والجمهور : بفتحها ، وهما لغتان بمعنى المثل والضرب. وأما إذا كان بمعنى الفتح ، فبكسر الشين لا غير. وعن ابن مسعود : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) : هو الزمهرير.

والظاهر أن قوله : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) ، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض ، والفوج : الجمع الكثير ، (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) : أي النار ، وهم الأتباع ، ثم دعوا عليهم بقولهم : (مَرْحَباً بِهِمْ) ، لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قرن معه في العذاب ، ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب ، ولم يكن هو السالم من العذاب وأتباعه في العذاب. ومرحبا معناه : ائت رحبا وسعة لا ضيقا ، وهو منصوب بفعل يجب إضماره ، ولأن علوهم بيان للمدعو عليهم. وقيل : (هذا فَوْجٌ) ، من كلام الملائكة خزنة النار ؛ وأن الدعاء على الفوج والتعليل بقوله : (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) ، من كلامهم. وقيل : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) ، من كلام الملائكة ، والدعاء على الفوج والإخبار بأنهم صالوا النار من كلام الرؤساء المتبوعين. (قالُوا) أي الفوج : (لا مَرْحَباً بِكُمْ) ، رد على الرؤساء ما دعوا به عليهم. ثم ذكروا أن ما وقعوا فيه من العذاب وصلى النار ، إنما هو بما ألقيتم إلينا وزينتموه من الكفر ، فكأنكم قدمتم لنا العذاب أو الصلى. وإذا كان (لا مَرْحَباً بِهِمْ) من كلام الخزنة ، فلم يجىء التركيب : قالوا بل هؤلاء لا مرحبا بهم ، بل جاء بخطاب الأتباع للرؤساء ، لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم ، حيث تسببوا في كفرهم ، وأنكى للرؤساء. (فَبِئْسَ الْقَرارُ) : أي النار ؛ وهذه المرادة والدعاء كقوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) (١). ولم يكتف الأتباع برد الدعاء على رؤسائهم ، ولا بمواجهتهم بقوله : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) ، حتى سألوا من الله أن يزيد رؤساءهم ضعفا من النار ، والمعنى : من حملنا على عمل السوء حتى صار جزاءنا النار ، (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) ، كما جاء في قول الأتباع : (رَبَّنا آتِهِمْ) ، أي ساداتهم ، (ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) (٢) ، (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) (٣).

ولما كان الرؤساء ضلالا في أنفسهم وأضلوا أتباعهم ، ناسب أن يدعو عليهم بأن

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٣٨.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٨.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٣٨.


يزيدهم ضعفا ، كما جاء : فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، فعلى هذا الضمير في قوله : (قالُوا) للاتباع ، ومن قدم : هم الرؤساء. وقال ابن السائب : (قالُوا رَبَّنا) إلى آخره ، قول جميع أهل النار. وقال الضحاك : (مَنْ قَدَّمَ) ، هو إبليس وقابيل. وقال ابن مسعود : الضعف حيات وعقارب. (وَقالُوا) : أي أشراف الكفار ، (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) : أي الأرذال الذين لا خير فيهم ، وليسوا على ديننا ، كما قال : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) (١). وروي أن القائلين من كفار عصر الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هم : أبو جهل ، وأمية بن خلف ، وأصحاب القليب ، والذين لم يروهم : عمار ، وصهيب ، وسلمان ، ومن جرى مجراهم ، قاله مجاهد وغيره. قيل : يسألون أين عمار؟ أين صهيب؟ أين فلان؟ يعدون ضعفاء المسلمين فيقال لهم : أولئك في الفردوس. وقرأ النحويان ، وحمزة : اتخذناهم وصلا ، فقال أبو حاتم ، والزمخشري ، وابن عطية : صفة لرجال. قال الزمخشري : مثل قوله : (كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ). وقال ابن الأنباري : حال ، أي وقد اتخذناهم. وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، والحسن ، وقتادة ، وباقي السبعة : بهمزة الاستفهام ، لتقرير أنفسهم على هذا ، على جهة التوبيخ لها. والأسف ، أي اتخذناهم سخريا ، ولم يكونوا كذلك. وقرأ عبد الله ، وأصحابه ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : سخريا ، بضم السين ، ومعناها : من السخرة والاستخدام. وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى ، وابن محيصن ، وباقي السبعة : بكسر السين ، ومعناها : المشهور من السخر ، وهو الهزء. قال الشاعر :

إني أتاني لسان لا أسر بها

من علو لا كذب فيها ولا سخر

وقيل : بكسر السين من التسخير. وأم إن كان اتخذناهم استفهاما إما مصرحا بهمزته كقراءة من قرأ كذلك ، أو مؤولا بالاستفهام ، وحذفت الهمزة للدلالة. فالظاهر أنها متصلة لتقدم الهمزة ، والمعنى : أي الفعلين فعلنا بهم ، الاستسخار منهم أم ازدراؤهم وتحقيرهم؟ وإن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحم. ويكون استفهاما على معنى الإنكار على أنفسهم ، للاستسخار والزيغ جميعا. وقال الحسن : كل ذلك قد فعلوا ، اتخذوهم سخريا ، وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وأن اتخذناهم ليس استفهاما ، فأم منقطعة ، ويجوز أن تكون

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٢٧.


منقطعة أيضا مع تقدم الاستفهام ، يكون كقولك : أزيد عندك أم عندك عمرو؟ واستفهمت عن زيد ، ثم أضربت عن ذلك واستفهمت عن عمرو ، فالتقدير : بل أزاغت عنهم الأبصار. ويجوز أن يكون قولهم : (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) له تعلق بقوله : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً) ، لأن الاستفهام أولا دل على انتفاء رؤيتهم إياهم ، وذلك دليل على أنهم ليسوا معه ، ثم جوزوا أن يكونوا معه ، ولكن أبصارهم لم ترهم. (إِنَّ ذلِكَ) : أي التفاوض الذي حكيناه عنهم ، (لَحَقٌ) : أي ثابت واقع لا بد أن يجري بينهم. وقرأ الجمهور : (تَخاصُمُ) بالرفع مضافا إلى (أَهْلِ). قال ابن عطية : بدل من (لَحَقٌ). وقال الزمخشري : بين ما هو فقال : تخاصم منونا ، أهل رفعا بالمصدر المنون ، ولا يجيز ذلك الفراء ، ويجيزه سيبويه والبصريون. وقرأ ابن أبي عبلة : تخاصم أهل ، بنصب الميم وجر أهل. قال الزمخشري : على أنه صفة لذلك ، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. وفي كتاب اللوامح : ولو نصب تخاصم أهل النار ، لجاز على البدل من ذلك. وقرأ ابن السميفع : تخاصم : فعلا ماضيا ، أهل : فاعلا ، وسمى تعالى تلك المفاوضة التي جرت بين رؤساء الكفار وأتباعهم تخاصما ، لأنّ قولهم : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) ، وقول الأتباع : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) ، هو من باب الخصومة ، فسمى التفاوض كله تخاصما لاستعماله عليه. (قُلْ) : يا محمد ، (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) : أي منذر المشركين بالعذاب ، وأن الله لا إله إلا الله ، لا ند له ولا شريك ، وهو الواحد القهار لكل شيء ، وأنه مالك العالم ، علوه وسفله ، العزيز الذي لا يغالب ، الغفار لذنوب من آمن به واتبع لدينه.

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ، ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ، إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ، إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ، قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ، قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ، قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ، قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).


الضمير في قوله : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ) يعود على ما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كونه رسولا منذرا داعيا إلى الله ، وأنه تعالى هو المنفرد بالألوهية ، المتصف بتلك الأوصاف من الوحدانية والقهر وملك العالم وعزته وغفرانه ، وهو خبر عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. وقال ابن عباس : النبأ العظيم : القرآن. وقال الحسن : يوم القيامة. وقيل : قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وقال صاحب التحرير : سياق الآية وظاهرها أنه يريد بقوله : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) ، ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار ومقاولة الأتباع مع السادات ، لأنه من أحوال البعث ، وقريش كانت تنكر البعث والحساب والعقاب ، وهم عن ذلك معرضون. وقوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) : احتجاج على قريش بأن ما جاء به من عند الله لا من قبل نفسه. فإن من في الأرض ما له علم بمن في السماء إلا بإعلام الله تعالى ؛ وعلم المغيبات لا يوصل إليه إلا بإعلام الله تعالى ، وعلمه بأحوال أهل النار ، وابتداء خلق آدم لم يكن عنه علم بذلك ؛ فإخباره بذلك هو بإعلام الله والاستدلال بقصة آدم ، لأنه أول البشر خلقا ، وبينه وبين الرسول عليه‌السلام أزمان متقادمة وقرون سالفة. انتهى ، وفي آخره بعض اختصار.

ثم احتج بصحة نبوته ، بأن ما ينبىء به عن الملأ الأعلى واختصامهم أمر لم يكن له به من علم قط. ثم علمه من غير الطريق الذي يسلكه المتعلمون ، بل ذلك مستفاد من الوحي ، وبالملأ متعلق بعلم ، وإذ منصوب به. وقال الزمخشري : بمحذوف ، لأن المعنى : ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. و (إِذْ قالَ) بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على الملأ الأعلى ، وهم الملائكة ، وأبعد من قال إنهم قريش ، واختصام الملائكة في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض. وقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (١). قال ابن عباس : وقال الحسن : إن الله خالق خلقا كنا أكرم منه وأعلم. وقيل : في الكفارات وغفر الذنوب ، فإن العبد إذا عمل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما يشاء. وفي الحديث : «قال له ربه في نومه ، عليه‌السلام : فيم يختصمون؟ فقلت : لا أدري ، فقال : في الكفارات وفي إسباغ الوضوء في السرات ونقل الخطا إلى الجماعات.

وقال الزمخشري : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك ، وكان المقاول في الحقيقة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.


هو الملك المتوسط ، فيصح أن التقاول بين الملائكة وآدم وإبليس ، وهم الملأ الأعلى ؛ والمراد بالاختصام : التقاول. وقيل : الملأ الأعلى : الملائكة ، وإذ يختصمون : الضمير فيه للعرب الكافرين ، فبعضهم يقول : هي بنات الله ، وبعضهم : آلهة تعبد ، وغير ذلك من أقوالهم.

(إِنْ يُوحى إِلَيَ) : أي ما يوحى إليّ ، (إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ) : أي للإنذار ، حذف اللام ووصل الفعل والمفعول الذي لم يسم فاعله يجوز أن يكون ضميرا يدل عليه ، المعنى ، أي أن يوحى إليّ هو ، أي ما يوحى إلا الإنذار ، وأقيم إلى مقامه ، ويجوز أن يكون إنما هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، أي ما يوحى إليّ إلا الإنذار. وقرأ أبو جعفر : إلا إنما ، بكسر همزة إنما على الحكاية ، أي ما يوحى إليّ إلا هذه الجملة ، كأن قيل له : أنت نذير مبين ، فحكى هو المعنى ، وهذا كما يقول الإنسان : أنا عالم ، فيقال له : قلت إنك عالم ، فيحكى المعنى. وقال الزمخشري : وقرىء إنما بالكسر على الحكاية ، أي إلا هذا القول ، وهو أن أقول لكم (أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، فلا أدعي شيئا آخر. انتهى. في تخريجه تعارض ، لأنه قال : أي إلا هذا القول ، فظاهره الجملة التي هي (أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، ثم قال : وهو أن أقول لكم إني نذير ، فالمقام مقام الفاعل هو أن أقول لكم ، وأن وما بعده في موضع نصب ، وعلى قوله : إلا هذا القول ، يكون في موضع رفع فيتعارضا. وتقدم أن ، إذ قال بدل من : إذ يختصمون ، هذا إذا كانت الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض ، وعلى غيره من الأقوال يكون منصوبا بأذكر.

ولما كانت قريش ، خالفوا الرسول ، عليه‌السلام ، بسبب الحسد والكبر. ذكر حال إبليس ، حيث خالف أمر الله بسبب الحسد والكبر وما آل إليه من اللعنة والطرد من رحمة الله ، ليزدجر عن ذلك من فيه شيء منهما. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح أن يقول لهم : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) ، وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت : وجهه أن يكون قد قال لهم : إني خالق خلقا من صفة كيت وكيت ، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم. انتهى. والبشر هو آدم عليه‌السلام ، وذكر هنا أنه خلقه من طين ، وفي آل عمران : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (١) ، وفي الحجر : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢) ، وفي الأنبياء : (مِنْ عَجَلٍ) (٣) ؛ ولا منافاة في تلك المادة البعيدة ، وهي التراب ، ثم ما يليه وهو الطين ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٩.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٢٦.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٧.


ثم ما يليه وهو الحمأ المسنون ، ثم المادة تلي الحمأ وهو الصلصال ؛ وأما من عجل فمضى تفسيره.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ) : تقدم الكلام على هذا في الحجر ، وهنا (اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ، وفي البقرة : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١) ، وفي الأعراف : (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (٢) ، وفي الحجر : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣) ، وفي الإسراء : (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٤) ، وفي الكهف : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٥). والاستثناء في جميع هذه الآيات يدل على أنه لم يسجد ، فتارة أكد بالنفي المحض ، وتارة ذكر إبايته عن السجود ، وهي الأنفة من ذلك ، وتارة نص على أن ذلك الامتناع كان سببه الاستكبار. والظاهر أن قوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أريد به كفره ذلك الوقت ، وإن لم يكن قبله كافرا ؛ وعطف على استكبر ، فقوى ذلك ، لأن الاستكبار عن السجود إنما حصل له وقت الأمر. ويحتمل أن يكون إخبارا منه بسبق كفره في الأزمنة الماضية في علم الله.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) ، وفي الأعراف : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (٦) ، فدل أن تسجد هنا ، على أن لا في أن لا تسجد زائدة ، والمعنى أيضا يدل على ذلك ، لأنه لا يستفهم إلا عن المانع من السجود ، وهو استفهام تقرير وتوبيخ. وما في (لِما خَلَقْتُ) ، استدل بها من يجيز إطلاق ما على آحاد من يعقل ، وأول بأن ما مصدرية ، والمصدر يراد به المخلوق ، لا حقيقة المصدر. وقرأ الجحدري : لما بفتح اللام وتشديد الميم ، خلقت بيدي ، على الإفراد ؛ والجمهور : على التثنية ؛ وقرىء بيديّ ، كقراءة بمصرخي ؛ وقال تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) (٧) بالجمع ، وكلها عبارة عن القدرة والقوة ، وعبر باليد ، إذ كان عند البشر معتادا أن البطش والقوة باليد. وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن اليد صفة ذات. قال ابن عطية : وهو قول مرغوب عنه.

وقرأ الجمهور : (أَسْتَكْبَرْتَ) ، بهمزة الاستفهام ، فأم متصلة عادلت الهمزة. قال

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٤.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١١.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٣١.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٦١.

(٥) سورة الكهف : ١٨ / ٥٠.

(٦) سورة الأعراف : ٧ / ١٢.

(٧) سورة يس : ٣٦ / ٧١.


ابن عطية : وذهب كثير من النحويين إلى أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين ، وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد ، كقولك : أزيد قام أم عمرو؟ وقولك : أقام زيد أم عمرو؟ فإذا اختلف الفعلان كهذه الآية ، فليست معادلة. ومعنى الآية : أحدث لك الاستكبار الآن ، أم كنت قديما ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك؟ وهذا على جهة التوبيخ. انتهى. وهذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح. قال سيبويه : وتقول أضربت زيدا أم قتلته. فالبدء هنا بالفعل أحسن ، لأنك إنما تسأل عن أحدهما ، لا تدري أيهما كان ، ولا تسأل عن موضع أحدهما ، كأنك قلت : أي ذلك كان؟ انتهى. فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين. (مِنَ الْعالِينَ) : ممن علوت وفقت. فأجاب بأنه من العالين ، حيث قال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ). وقيل : استكبرت الآن ، أو لم تزل مذ كنت من المستكبرين؟ ومعنى الهمزة : التقرير. انتهى. وقرأت فرقة ، منهم ابن كثير وغيره : استكبرت ، بصلة الألف ، وهي قراءة أهل مكة ، وليست في مشهور ابن كثير ، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام حذفت لدلالة أم عليها ، كقوله :

بسبع رمين الجمر أم بثمان

واحتمل أن يكون إخبارا خاطبه بذلك على سبيل التقريع ، وأم تكون منقطعة ، والمعنى : بل أنت من العالين عند نفسك استخفافا به. (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) : تقدم الكلام على ذلك في الأعراف. (قالَ : فَاخْرُجْ مِنْها) إلى قوله : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : تقدم الكلام على مثل ذلك في الحجر ، إلا أن هنا (لَعْنَتِي) وهناك (اللَّعْنَةُ) (١) أعم. ألا ترى إلى قوله : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٢)؟ وأما بالإضافة ، فالعموم في اللعنة أعم ، واللعنات إنما تحصل من جهة أن عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل لاعن ، هذا من جهة المعنى ، وأما باللفظ فيقتضي التخصيص. (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ) : أقسم إبليس هنا بعزة الله ، وقال في الأعراف : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَ) (٣) ، وفي الحجر : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَ) (٤). وتقدم الكلام عليهما في موضعهما ، وأن من المفسرين من قال : إن الباء في : بما أغويتني ، وفي : فبما أغويتني ليست باء القسم. فإن كانت باء القسم ، فيكون ذلك في موطئين : فهنا : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) ، وفي الأعراف : (لَأَقْعُدَنَ) ، وفي الحجر : (لَأُزَيِّنَنَ). وقرأ الجمهور : فالحق والحق ،

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٣٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٥٩.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٦.

(٤) سورة الحجر : ١٥ / ٣٩.


بنصبهما. أما الأول فمقسم به ، حذف منه الحرف كقوله : أمانة الله لأقومن ، والمقسم عليه (لَأَمْلَأَنَ). (وَالْحَقَّ أَقُولُ) : اعتراض بين القسم وجوابه. قال الزمخشري : ومعناه : ولا أقول إلا الحق. انتهى ، لأن عنده تقدم المفعول يفيد الحصر. والحق المقسم به إما اسمه تعالى الذي في قوله : (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (١) ، أو الذي هو نقيض الباطل. وقيل : فالحق منصوب على الإغراء ، أي فالزموا الحق ، ولأملأن : جواب قسم محذوف. وقال الفراء : هو على معنى قولك : حقا لا شك ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء ، أي لأملأن جهنم حقا. انتهى. وهذا المصدر الجائي توكيدا لمضمون الجملة ، لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة ، وذلك مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدتان جمودا محضا. وقال صاحب البسيط : وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة ، قال : والمبتدأ يكون ضميرا نحو : هو زيد معروفا ، وهو الحق بيننا ، وأنا الأمير مفتخرا ؛ ويكون ظاهرا كقولك : زيد أبوك عطوفا ، وأخوك زيد معروفا. انتهى. وقالت العرب : زيد قائم غير ذي شك ، فجاءت الحال بعد جملة ، والخبر نكرة ، وهي حال مؤكدة لمضمون الجملة ، وكأن الفراء لم يشترط هذا الذي ذكره أصحابنا من كون المبتدأ والخبر معروفين جامدين ، لأنه لا فرق بين تأكيد مضمون الجملة الابتدائية وبين تأكيد الجملة الفعلية. وقيل : التقدير فالحق الحق ، أي افعله. وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والأعمش : بالرفع فيهما ، فالأول مبتدأ خبره محذوف ، قيل : تقديره فالحق أنا ، وقيل : فالحق مني ، وقيل : تقديره فالحق قسمي ، وحذف كما حذف في : لعمرك لأقومن ، وفي : يمين الله أبرح قاعدا ، أي لعمرك قسمي ويمين الله قسمي ، وهذه الجملة هي جملة القسم وجوابه : لأملأن. وأما (وَالْحَقَّ أَقُولُ) فمبتدأ أيضا ، خبره الجملة ، وحذف العائد ، كقراءة ابن عباس : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى *) (٢). وقال ابن عطية : أما الأول فرفع على الابتداء ، وخبره في قوله : (لَأَمْلَأَنَ) ، لأن المعنى : أن أملأ. انتهى. وهذا ليس بشيء ، لأن لأملأن جواب قسم ، ويجب أن يكون جملة ، فلا يتقدر بمفرد. وأيضا ليس مصدرا مقدرا بحرف مصدري ، والفعل حتى ينحل إليهما ، ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ ، حكم أنه خبر عنه. وقرأ الحسن ، وعيسى ، وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر : بجرهم ، ويخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة تقديره : فوالحق ، والحق معطوف عليه ، كما تقول : والله والله لأقومن ، وأقوال اعتراض بين القسم وجوابه. وقال الزمخشري : (وَالْحَقَّ أَقُولُ) : أي ولا أقول إلا

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٢٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٥.


الحق على حكاية لفظ المقسم به ، ومعناه التوكيد والتسديد ، وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع ، وهو وجه دقيق حسن. انتهى. وملخصه أنه أعمل القول في لفظ المقسم به على سبيل الحكاية نصبا أو رفعا أو جرا. وقرأ مجاهد ، والأعمش : بخلاف عنهما ؛ وأبان بن تغلب ، وطلحة في رواية ، وحمزة ، وعاصم عن المفضل ، وخلف ، والعبسي : برفع فالحق ونصب والحق ، وتقدم إعرابهما. والظاهر أن قوله : (أَجْمَعِينَ) تأكيد للمحدث عنه والمعطوف عليه ، وهو ضمير إبليس ومن عطف عليه ، أي منك ومن تابعيك أجمعين. وأجاز الزمخشري أن يكون أجمعين تأكيدا للضمير الذي في منهم ، مقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس ، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم. انتهى. والضمير في عليه عائد على القرآن ، قاله ابن عباس. وقيل : عائد على الوحي. وقيل : على الدعاء إلى الله. (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) : أي المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله ، فانتحل النبوة والقول على الله. (إِنْ هُوَ) : أي القرآن ، (إِلَّا ذِكْرٌ) : أي من الله ، (لِلْعالَمِينَ) : الثقلين الإنس والجن. (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) : أي عاقبة خبره لمن آمن به ومن أعرض عنه ، (بَعْدَ حِينٍ) ، قال ابن عباس وعكرمة وابن زيد : يعني يوم القيامة. وقال قتادة ، والفراء ، والزجاج : بعد الموت. وكان الحسن يقول : يا ابن آدم ، عند الموت يأتيك الخبر اليقين. وقيل : المعنى ليظهرن لكم حقيقة ما أقوال. (بَعْدَ حِينٍ) : أي في المستأنف ، إذا أخذتكم سيوف المسلمين ، وذلك يوم بدر ، وأشار إلى ذلك السدّي.


سورة الزمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ


قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ


فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)

التكوير : اللف واللي ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها. خوله النعمة : أي أعطاه ابتداء من غير مجازاة ، ولا يقال في الجراء خول. قال زهير :

هنالك إن يستخولوا المال يخولوا

ويروى يستخيلوا المال يخيلوا

وقال أبو النجم :

أعطى فلم يبخل ولم يبخل

كوم الذرى من خول المخول

هاج الزرع : ثار من منابته ، وقيل : يبس. الحطام : الفتات بعد يبسه. القشعريرة : تقبض الجلد ، يقال : اقشعر جلده من الخوف : وقف شعره ، وهو مثل في شدة الخوف. الشكاسة : سوء الخلق وعسره.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ ، لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ، خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ، خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ، إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ


وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

هذه السورة مكية ، وعن ابن عباس : إلا (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ، و (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا). وعن مقاتل : إلا (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) ، وقوله : (يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ). وعن بعض السلف : إلا (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) ، إلى قوله : (تَشْعُرُونَ) ، ثلاث آيات. وعن بعضهم : إلا سبع آيات ، من قوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا). ومناسبتها لآخر ما قلبها أنه ختم السورة المتقدمة بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١) ، وبدأ هنا : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). وقال الفراء والزجاج : (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (مِنَ اللهِ) الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا تنزيل ، ومن الله متعلق بتنزيل ؛ وأقول إنه خبر ، والمبتدأ هو ليعود على قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، كأنه قيل : وهذا الذكر ما هو؟ فقيل : هو تنزيل الكتاب. وقال الزمخشري : أو غير صلة ، يعني من الله ، كقولك : هذا الكتاب من فلان إلى فلان ، وهو على هذا خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا تنزيل الكتاب. هذا من الله ، أو حال من تنزيل عمل فيها معنى الإشارة. انتهى. ولا يجوز أن يكون حالا عمل فيها معنى الإشارة ، لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هو فيه محذوفا ، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزدق :

وإذ ما مثلهم بشر

أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر ، أي وأن ما في الوجود في حال مماثلتهم بشر. والكتاب يظهر أنه القرآن ، وكرر في قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) على جهة التفخيم والتعظيم ، وكونه في جملة غير السابقة ملحوظا فيه إسناده إلى ضمير العظمة وتشريف من أنزل إليه بالخطاب وتخصيصه بالحق. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى : تنزيل بالنصب ، أي اقرأ والزم. وقال ابن عطية : قال المفسرون في تنزيل الكتاب هو القرآن ، ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب ، وكأنه أخبر إخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله ، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) ، والعزيز في قدرته ، الحكيم في ابتداعه.

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٨٧.


والكتاب الثاني هو القرآن ، لا يحتمل غير ذلك. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بالكتاب؟ قلت : الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن ، وعلى الثاني أنه السورة. انتهى. وبالحق في موضع الحال ، أي ملتبسا بالحق ، وهو الصدق الثابت فيما أودعناه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف ، فهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل به ، أو يكون بالحق : بالدليل على أنه من عند الله ، وهو عجز الفصحاء عن معارضته. وقال ابن عطية : أي متضمنا الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره ، أو بمعنى الاستحقاق وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله. انتهى ملخصا.

ولما امتن تعالى على رسوله بإنزال الكتاب عليه بالحق ، وكان الحق إخلاص العبادة لله ، أمره تعالى بعبادته فقال : (فَاعْبُدِ اللهَ) ، وكأن هذا الأمر ناشىء عن إنزال الكتاب ، فالفاء فيه للربط ، كما تقول : أحسن إليك زيد فاشكره. (مُخْلِصاً) : أي ممحضا ، (لَهُ الدِّينَ) : من الشرك والرياء وسائر ما يفسده. وقرأ الجمهور : الدين بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة : بالرفع فاعلا بمخلصا ، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين ، أي الدين منك ، أو يكون أل عوضا من الضمير ، أي دينك. وقال الزمخشري : وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا بفتح اللام ، كقوله تعالى : (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) (١) ، حتى يطابق قوله : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ، والخالص والمخلص واحد ، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي ، كقولهم : شعر شاعر. وأما من جعل مخلصا حالا من العابد ، وله الدين مبتدأ وخبر ، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك : لله الدين ، أي لله الدين الخالص. انتهى. وقد قدمنا تخريجه على أنه فاعل بمخلصا ، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها ، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء. (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) : أي من كل شائبة وكدر ، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة ، لاطاعه على الغيوب والأسرار ، ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم. قال الحسن : الدين الخالص : الإسلام ؛ وقال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) : مبتدأ ، والظاهر أنهم المشركون ، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكي به قوله : (ما نَعْبُدُهُمْ) ، أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا : ما نعبد تلك الأولياء (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، واحتمل أن يكون الخبر :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٤٦.


(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ، وذلك القول المحذوف في موضع الحال ، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم. وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ) ، وقالوا : المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين ، فلا يكون له موضع من الإعراب ، وكأنه من بدل الاشتمال. وفي مصحف عبد الله : قالوا ما نعبدهم ، وبه قرأ هو وابن عباس ومجاهد وابن جبير ، وأجاز الزمخشري أن يكون (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) بمعنى المتخذين ، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم ، والضمير في اتخذوا عائد على الموصول محذوف تقديره : والذين اتخذهم المشركون أولياء ، وأولياء مفعول ثان ، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر ، وهذه المقالة شائعة في العرب ، فقال ذلك ناس منهم في الملائكة وناس في الأصنام والأوثان. قال مجاهد : وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزيز ، وقوم من النصارى في المسيح. وقرىء : ما نعبدهم بضم النون ، اتباعا لحركة الباء.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) : اقتصر في الرد على مجرد التهديد ، والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على المتخذين ، والمتخذين والحكم بينهم هو بإدخال الملائكة وعيسى عليه‌السلام الجنة ، ويدخلهم النار مع الحجارة والخشب التي نحتوها وعبدوها من دون الله ، يعذبهم بها ، حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم. واختلافهم أن من عبدوه كالملائكة وعيسى كانوا متبرئين منهم لاعنين لهم موحدين لله. وقيل : الضمير في بينهم عائد على المشركين والمؤمنين ، إذا كانوا يلومونهم على عبادة الأصنام فيقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، والحكم إذ ذاك هو في يوم القيامة بين الفريقين.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) : كاذب في دعواه أن لله شريكا ، كفار لأنعم الله حيث جعل مكان الشكر الكفر ، والمعنى : لا يهدي من ختم عليه بالموافاة على الكفر فهو عام ، والمعنى على الخصوص : فكم قد هدى من سبق منه الكذب والكفر. قال ابن عطية : لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره. وقال الزمخشري : المراد بمنع الهداية : منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم ، وأنهم في علم الله من الهالكين. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال. وقرأ أنس بن مالك ، والجحدري ، والحسن ، والأعرج ، وابن يعمر : كذاب كفار. وقرأ زيد بن علي : كذوب وكفور.

ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله ، وعبدوها عقبه بقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ، تشريفا له وتبنيا ، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد


المعروف ، (لَاصْطَفى) : أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولدا على سبيل التبني ، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (١) ، وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء. ويدل على أن الاتخاذ هو التبني ، والاصطفاء قوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) : أي من التي أنشأها واخترعها ؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيها مطلقا فقال : (سُبْحانَهُ) ، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم. وقال الزمخشري : يعني لو أراد اتخاذ الولد لا متنع ، ولم يصح لكونه محالا ، ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم ، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه ، وقد فعل ذلك بالملائكة ، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنه أولاده جهلا منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد ، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه ، وهم الملائكة ، إلا أنكم لجهلكم به ، حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم ، فجعلتموهم بنات ، وكنتم كذابين كفارين مبالغين في الافتراء على الله وملائكته. انتهى. والذي يدل عليه تركيب لو وجوابها أنه كان يترتب اصطفاء الولد مما يخلق على تقديره اتخاذه ، لكنه لم يتخذه ، فلا يصطفيه. وأما ما ذكره الزمخشري من قوله يعني : لو أراد إلى آخره ، وقوله : بعد ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد ، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه ، وهم الملائكة ، فليس مفهوما من قوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر ، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق ، وتكوير الليل والنهار ، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد ، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما ، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة ، أو وقت قوايسها كل شهر. والتكوير : تطويل منهما على الآخر ، فكأن الآخر صار عليه جزء منه. قال ابن عباس : يحمل الليل على النهار. وقال الضحاك : يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر. وقال أبو عبيدة : يدخل هذا على هذا. وقال الزمخشري : وفيه أوجه : منها أن الليل والنهار خلفة ، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس ؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار ؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كرورا

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٩٢.


متتابعا ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. انتهى. (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) : العزيز الذي لا يغالب ، الغفار لمن تاب ، أو الحليم الذي لا يعجل ، سمى الحلم غفرانا مجازا.

ولما ذكر ما دل على وحدانيته وقهره ، ذكر الإنسان ، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف ، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة ، وهي آدم عليه‌السلام ، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم ، فقد صار خلقا من نفس واحدة لوساطة حواء. وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء ، فعلى هذا كان خلقا من آدم بغير واسطة. وجاءت على هذا القول على وضعها ، ثم للمهلة في الزمان ، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا ، وليس كذلك. فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها ، فليس الترتيب في زمان الجعل. وقيل : ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة ، أي من نفس وحدت ، أي انفردت.

(ثُمَّ جَعَلَ) ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ، وما تعطيه من معنى التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عددها ، دالا على وحدانيته وقدرته. تشعب هذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه ، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة ، والأخرى لم تجر بها العادة ، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيري رجل ، فكانت أدخل في كونها آية ، وأجلب لعجب السامع ، فعطفها بثم على الآية الأولى ، للدلالة على مباينتها فضلا ومزية ، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، لا من التراخي في الوجود. انتهى. وأما (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ، فقد تقدّم الكلام على هذا الجعل في أول سورة النساء ، ووصف الأنعام بالإنزال مجازا ما ، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون وأما لعيشها بالنبات والنبات ناشىء عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها ، فيكون مثل قول الشاعر :

أسنمة الإبال في ربابه

أي : في سحابه ، وقال آخر :

صار الثريد في رؤوس العيدان

وقيل : خلقها في الجنة ثم أنزلها ، فعلى هذا يكون إنزال أصولها حقيقة. والأنعام :


الإبل والبقر والضأن والمعز ، (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ، لأن كلا منها ذكر وأنثى ، والزوج ما كان معه آخر من جنسه ، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. وقال تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (١).

قال ابن زيد : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) : آخر من ظهر آدم وظهور الآباء. وقال عكرمة ومجاهد والسدي : رتبا (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) على المضغة والعلقة وغير ذلك. وأخذه الزمخشري فقال : حيوانا سويا ، من بعد عظام مكسوة لحما ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف. انتهى. وقرأ عيسى وطلحة : يخلقكم ، بإدغام القاف في الكاف ، والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن. (ذلِكُمُ) : إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السموات وما بعد ذلك من الأفعال. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) : أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره؟

(إِنْ تَكْفُرُوا) ، قال ابن عباس : خطاب للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وعباده : هم المؤمنون ، ويؤيده قوله قبله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، وهذا للكفار ، فجاء (إِنْ تَكْفُرُوا) خطابا لهم ، (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) ، وعن عبادتكم ، إذ لا يرجع إليه تعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مخاطبا لجميع الناس ، لأنه تعالى غني عن جميعهم ، وهم فقراء إليه. انتهى. ولفظ عباده عام ، فقيل : المراد الخصوص ، وهم الملائكة ومؤمنو الإنس والجن. والرضا بمعنى الإرادة ، فعلى هذا صفة ذات. وقيل : المراد العموم ، كما دل عليه اللفظ ، والرضا مغاير للإرادة ، عبر به عن الشكر والإثابة ، أي لا يشكره لهم دينا ولا يثيبهم به خيرا ، فالرضا على هذا صفة فعل بمعنى القبول والإثابة. قال ابن عطية : وتأمل الإرادة ، فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد ، والرضا حقيقته إنما هو فيما قد وقع ، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده ، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارهم على جهة التجوز هذا بدل هذا. وقال الزمخشري : ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر ، فقال : هذا من العام الذي أريد به الخاص ، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ*) (٢) ، يريد المعصومين لقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (٣) ، تعالى الله

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٣٩.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٤٢ ، وسورة الإسراء : ١٧ / ٦٥.

(٣) سورة الإنسان : ٧٦ / ٦.


عما يقول الظالمون. انتهى. فسمى عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنة بعض الغواة ، وأطلق عليهم اسم الظالمين ، وذلك من سفهه وجرأته ، كما قلت في قصيدتي التي ذكرت فيها ما ينقد عليه :

ويشتم أعلام الأممة ضلة

ولا سيما إن أولجوه المضايقا

(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، قال ابن عباس : يضاعف لكم ، وكأنه يريد ثواب الشكر ؛ وقيل : يقبله منكم. قال صاحب التحرير : قوة الكلام تدل على أن معنى تشكروا : تؤمنوا حتى يصير بإزاء الكفر ، والله تعالى قد سمى الأعمال الصالحة والطاعات شكرا في قوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (١). انتهى. وتقدم الكلام على هذه الآية في سبأ. وقرأ النحويان ، وابن كثير : يرضه بوصل ضمة الهاء بواو ؛ وابن عامر وحفص : بضمة فقط ؛ وأبو بكر : بسكون الهاء ، قال أبو حاتم : وهو غلط لا يجوز. انتهى. وليس بغلط ، بل ذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل. وقوله : (وَلا تَزِرُ) إلى : (بِذاتِ الصُّدُورِ) ، تقدم الكلام عليه.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ، أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ، قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ، قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ).

الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر ، وقيل : معين ، كعتبة بن ربيعة. ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال. (دَعا رَبَّهُ) : استجار ربه وناداه ، ولم يؤمل في كشف الضر سواه ، (مُنِيباً إِلَيْهِ) : أي راجعا إليه وحده في إزالة ذلك. (ثُمَّ إِذا

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.


خَوَّلَهُ) : أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه. وحقيقة خوله أن يكون من قولهم : هو خائله ، قال : إذا كان متعهدا حسن القيام عليه ، أو من خال يخول ، إذا اختال وافتخر ، وتقول العرب :

إن الغني طويل الذيل مياس

(نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا) : أي ترك ، والظاهر أن ما بمعنى الذي ، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل : ما بمعنى من ، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره. وقيل : ما مصدرية ، أي نسي كونه يدعو. وقيل : تم الكلام عند قوله : (نَسِيَ) ، أي نسي ما كان فيه من الضر. وما نافية ، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله مقصورا من قبل الضرر ، وعلى الأقوال السابقة. (مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل تخويل النعمة ، وهو زمان الضرر. (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) : أي أمثالا يضاد بعضها بعضا ويعارض. قال قتادة : أي من الرجال يطيعونهم في المعصية. وقال غيره : أوثانا ، وهذا من سخف عقولهم. حين مس الضر ، دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه ؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به ، فاللام لام العلة ، وقيل : لام العاقبة. وقرأ الجمهور : (لِيُضِلَ) ، بضم الياء : أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، وعيسى : بفتحها ، ثم أتى بصيغة الأمر فقال : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) : أي تلذذ واصنع ما شئت قليلا ، أي عمرا قليلا ، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله. (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) : أي من سكانها المخلدين فيها. وقال الزمخشري : وقوله (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) ، أي من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قيل له : إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك. ويؤمر بتركه مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه ، لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به ، ونظيره في المعنى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) (١). انتهى.

ولما شرح تعالى شيئا من أحوال الظالمين الضالين المشركين ، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ). وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والأعمش ، وعيسى ، وشيبة ، والحسن في رواية : أمن ، بتخفيف الميم. والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير ، ومقابله محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٧.


بقوله (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ)؟ ويدل عليه قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). ومن حذف المقابل قول الشاعر :

دعاني إليها القلب إني لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها

تقديره : أم غيّ. وقال الفراء : الهمزة للنداء ، كأنه قيل : يا من هو قانت ، ويكون قوله قل خطابا له ، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده. وضعف هذا القول أبو علي الفارسي ، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة. وقرأ باقي السبعة ، والحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبو جعفر : أمّن ، بتشديد الميم ، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من ، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره : أهذا الكافر خير أم من هو قانت؟ قال معناه الأخفش ، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب ، وهو أن يحذف المعادل الأول. واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة والتقدير : بل أم من هو قانت صفته كذا ، كمن ليس كذلك. وقال النحاس : أم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ، والتقدير : بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله. انتهى. ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل ، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة ، يدل عليه مقابله : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ). والقانت : المطيع ، قال ابن عباس ، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة.

وقرأ الجمهور : (ساجِداً وَقائِماً) ، بالنصب على الحال ؛ والضحاك : برفعهما إما على النعت لقانت ، وإما على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين. (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) : أي عذاب الآخرة ، (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) : أي حصولها ، وقيل : نعيم الجنة ، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف ، قال مقاتل : عمار ، وصهيب ، وابن مسعود ، وأبو ذر. وقال ابن عمر : عثمان. وقال ابن عباس في رواية الضحاك : أبو بكر وعمر. وقال يحيى بن سلام : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين. وفي الآية دليل على فضل قيام الليل ، وأنه أرجح من قيام النهار.

ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، فدل أن كما الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فكما لا يستوي هذان ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه. وقرأ : يذكر ، بإدغام تاء يتذكر في الذال. (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ، وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى


أرض الحبشة ، وعدهم تعالى فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ). والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا ، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة ، أي حسنة عظيمة ، وهي الجنة ، قاله مقاتل ، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى ، لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة. وقال السدي : في هذه من تمام حسنة ، أي ولو تأخر لكان صفة ، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا. فلما تقدم انتصب على الحال ، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى.

ثم حض على الهجرة فقال : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) ، كقوله : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (١) ، أي لا عذر للمفرطين البتة ، حتى لو اعتلوا بأوطانهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات ، قيل لهم : إن بلاد الله كثيرة واسعة ، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات. وقال عطاء : وأرض الله : المدينة للهجرة ، قيل : فعلى هذا يكون أحسنوا : هاجروا ، وحسنة : راحة من الأعداء. وقال قوم : أرض الله هنا : الجنة. قال ابن عطية : وهذا القول تحكم ، لا دليل عليه. انتهى. وقال أبو مسلم : لا يمتنع ذلك ، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة ، وهي الخلود في الجنة ؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) (٢) ، وقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٣).

ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب ، كما جاء : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه. وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء ، وخصوصا من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة. ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب ، أي لا يحاسبون في الآخرة ، كما يحاسب غيرهم ؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة. (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) : أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله ، يخلصها من الشوائب ، (وَأُمِرْتُ) : أي أمرت بما أمرت ، لأكون أول من أسلم ، أي انقاد لله تعالى ، ويعني من أهل عصره أو من قومه ، لأنه أول من حالف عباد الأصنام ، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاما ، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي قولا وفعلا ، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عطف

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٧.

(٢) سورة الزمر وهذه السورة : آية ٧٤.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٣.


أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء. وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت ، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع. والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) (١). انتهى. ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون ، فيكون قد حذفت اللام ، والمأمور به محذوف ، وهو المصرح به هنا (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ). (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس.

لما أمره أولا أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله ، أمر ثانيا أن يخبر بأنه يعبد الله وحده. وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد ، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص ، قال : ولدلالته على ذلك ، قدم المعبود على فعل العبادة ، وأخره في الأول. فالكلام أولا واقع في الفعل في نفسه وإيجاده ، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذلك رتب عليه قوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ). والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية. انتهى. وقال غيره : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ) : صيغة أمر على جهة التهديد لقوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) (٢). (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) : أي حقيقة الخسران ، (الَّذِينَ خَسِرُوا) : أي هم الذين خسروا أنفسهم ، حيث صاروا من أهل النار ، (وَأَهْلِيهِمْ) : الذين كانوا معهم في الدنيا ، حيث كانوا معهم في النار ، فلم ينتفعوا منهم بشيء ، وإن كان أهلوهم قد آمنوا ، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم. وقال قتادة : كأن الله قد أعد لهم أهلا في الجنة فخسروهم ، وقال معناه ميمون بن مهران. وقال الحسن : هي الحور العين ، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولا ، والإشارة إليه ، وتأكيده بالفعل ، وتعريفه بأل ، ووصفه بأنه المبين : أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل.

ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم ، ذكر حالهم في جهنم ، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل ، فيظهر أن النار تغاشهم من فوقهم ومن تحتهم ، وسمى ما تحتهم ظللا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٤.

(٢) سورة الزمر : ٨.


لمقابلة ما فوقهم ، كما قال : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، وقال لهم : (مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) (١) وقيل : هي ظلل للذين هم تحتهم ، إذ النار طباق. وقيل : إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة ، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرا. (ذلِكَ) : أي ذلك العذاب ، (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) : ليعلموا ما يخلصكم منه ، ثم ناداهم وأمرهم فقال : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) : أي اتقوا عذابي.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ، لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ، أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

قال ابن زيد : نزلت (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) في زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر. وقال ابن إسحاق : الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، والزبير ، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر ، سمعوا ذلك فجاؤوه وقالوا : أسلمت؟ قال : نعم ، وذكرهم بالله ، فآمنوا بأجمعهم ، فنزلت فيهم ، وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة. والطاغوت : تقدم الكلام عليها في البقرة. وقرأ الحسن : الطواغيت جمعا. (أَنْ يَعْبُدُوها) : أي عبادتها ، وهو بدل اشتمال. (لَهُمُ الْبُشْرى) : أي من الله تعالى بالثواب. (فَبَشِّرْ عِبادِ) : هم المجتنبون الطاغوت إلى الله. وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنهم هم ، وليترتب على الظاهر الوصف ، وهو : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) ، وهو عام في جميع الأقوال ، (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) : ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن ، فإذا سمعوا قولا تبصروه. قيل : وأحسن القول : القرآن وما يرجع إليه. وقيل : القول : القرآن ، وأحسنه : ما فيه من صفح وعفو واحتمال ونحو ذلك. وقال قتادة : أحسن القول طاعة الله. وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم ، فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو ، فيحدث بأحسن ما سمع ، ويكف عن ما سواه. و (الَّذِينَ) : وصف لعباد. وقيل : الوقف على عباد ، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده.

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ٤١.


(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) : قيل نزلت في أبي جهل ، أي نفذ عليه الوعيد بالعذاب. والظاهر أنها جملة مستقلة ، ومن موصولة مبتدأ ، والخبر محذوف ، فقيل تقديره : يتأسف عليه ، وقيل : يتخلص منه. وقدره الزمخشري : فأنت تخلصه ، قال : حذف لدلالة أفأنت تنقذ عليه؟ وقدر الزمخشري بين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها ، فقال : التقدير : أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب ، وهو قول انفرد به فيما علمناه. والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة ، لكن الهمزة ، لما كان لها صدر الكلام ، قدمت ، فالأصل عندهم : فأمن حق عليه ، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) ، استفهام توقيف ، وقدم فيه الضمير إشعارا بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار ، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا الله. وذهبت فرقة ، منهم الحوفي والزمخشري ، إلى أن من شرطية ، وجواب الشرط أفأنت ، فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار ، وهو ظاهر ، موضع المضمر ، إذ كان الأصل تنقذه ، وإنما أظهر تشهيرا لحالهم وإظهارا لخسة منازلهم. قال الحوفي : وجيء بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيدا ، ولولا طوله ، لم يجز الإتيان بها ، لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم ، وألف أخرى في الجزاء. ومعنى الكلام : أفأنت تنقذه؟ انتهى. وعلى هذا القول ، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر ، فيجيء الخلاف بين سيبويه ويونس : هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط؟ وعلى تقدير الزمخشري : لم تدخل الهمزة على اسم الشرط ، فلم يجتمع استفهام وشرط ، لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده ، وهو : أأنت مالك أمرهم؟ وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة ، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام ، ونزل استحقاقهم العذاب ، وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار ، ونزل اجتهاد الرسول عليه‌السلام في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار.

ولما ذكر حال الكفار في النار ، وأن الخاسرين لهم ظلل ، ذكر حال المؤمنين ، وناسب الاستدراك هنا ، إذ هو واقع بين الكافرين والمؤمنين ، فقال : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا). ففي ذلك حض على التقوى ، لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية ، أي بناء المنازل التي سويت على الأرض. والضمير في (مِنْ تَحْتِهَا) عائد على الجمعين ، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا ، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب (وَعْدَ اللهِ) على المصدر


المؤكد لمضمون الجملة قبله ، إذ تضمنت معنى الوعد. (أَلَمْ تَرَ) : خطاب وتوقيف للسامع على ما يعتبر به من أفعال الله الدالة على فناء الدنيا واضمحلالها. (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) : أد أدخله مسالك وعيونا. والظاهر أن ماء العيون هو من ماء المطر ، تحبسه الأرض ويخرج شيئا فشيئا. (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) ، ذكر منته تعالى علينا بما تقوم به معيشتنا. (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) : من أحمر وأبيض وأصفر ، وشمل لفظ الزرع جميع ما يرزع من مقتات وغيره ، أو مختلفا أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك. (ثُمَّ يَهِيجُ) : يقارب الثمار ، (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) : أي زالت خضرته ونضارته. وقرأ أبو بشر : ثم يجعله ، بالنصب في اللام. قال صاحب الكامل وهو ضعيف. انتهى. (إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة ، الحطامية ، (لَذِكْرى) : أي لتذكرة وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) : نزلت في حمزة ، وعلي ، ومن مبتدأ ، وخبره محذوف يدل عليه (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) تقديره : كالقاسي المعرض عن الإسلام ، وأبو لهب وابنه كانا من القاسية قلوبهم ، وشرح الصدر استعارة عن قبوله للإيمان والخير والنور والهداية. وفي الحديث : «كيف انشراح الصدور؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا : وما علامة ذلك؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت». (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) : أي من أجل ذكره ، أي إذا ذكر الله عندهم قست قلوبهم. وقال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب. (أُولئِكَ) : أي القاسية قلوبهم ، (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي في حيرة واضحة ، لا تخفى على من تأملها.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ، كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ).


عن ابن عباس ، أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدثنا بأحاديث حسان ، وبأخبار الدهر ، فنزل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وعن ابن مسعود ، أن الصحابة ملأوا مكة ، فقالوا له : حدثنا ، فنزلت. والابتداء باسم الله ، وإسناد نزل لضميره مبنيا عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه ، كما تقول : الملك أكرم فلانا ، هو أفخم من : أكرم الملك فلانا. وحكمة ذلك البداءة بالأشرف من تذكر ما تسند إليه ، وهو كثير في القرآن ، كقوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (١) ،

و (كِتاباً) بدل من (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون حالا. انتهى. وكان بناء على أن (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) معرفة لإضافته إلى معرفة. وأفعل التفضيل ، إذا أضيف إلى معرفة ، فيه خلاف. فقيل : إضافته محضة ، وقيل : غير محضة. و (مُتَشابِهاً) : مطلق في مشابهة بعضه بعضا. فمعانيه متشابهة ، لا تناقض فيها ولا تعارض ، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب ، بحيث أعجزت الفصحاء والبلغاء. وقرأ الجمهور : (مَثانِيَ) ، بفتح الياء ؛ وهشام ، وابن عامر ، وأبو بشر : بسكون الياء ، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل أن يكون منصوبا ، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال ، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها. ومثاني يظهر أنه جمع مثنى ، ومعناه : موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد. وقيل : يثنى في الصلاة بمعنى : التكرير والإعادة. انتهى. ووصف المفرد بالجمع ، لأن فيه تفاصيل ، وتفاصيل الشيء جملته. ألا ترى أنك تقول : القرآن سور وآيات؟ فكذلك تقول : أحكام ومواعظ مكررات ، وأصله كتابا متشابها فصولا مثاني ، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق ، وأن يكون تمييزا عن متشابها ، فيكون منقولا من الفاعل ، أي متشابها مثانيه. كما تقول : رأيت رجلا حسنا شمائل ، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس ، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة. والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة ، إذ هو موجود عند الخشية ، محسوس يدركه الإنسان من نفسه ، وهو حاصل من التأثر القلبي. وقيل : هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم ، والمعنى : أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد ، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم.

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٥.


ثم إذا ذكروا لله ورحمته لانت جلودهم ، أي زال عنها ذلك التقبض الناشئ عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها ، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة ، وقلوبهم راجية غير خاشية ، ولذلك عداه بإلى. وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع ، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب. فلما ذكر اللين ذكرهما ، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله ، كما كان في قوله : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (١) ، دليل بقوله : (وَجِلَتْ) عن ذكر المحذوف ، أي إذا ذكر وعيد الله وبطشه. وقال العباس بن عبد المطلب : قال النبي عليه‌السلام : «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها». وقال ابن عمر : وقدر أي ساقطا من سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله ، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن قوما اليوم إذا سمعوا القرآن خر أحدهم مغشيا عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق. والإشارة بذلك إلى الكتاب ، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين ، أي أثر هدى الله. (أَفَمَنْ يَتَّقِي) : أي يستقبل ، كما قال الشاعر :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

أي : استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى. والظاهر حمل بوجهه على حقيقته. لما كان يلقى في النار مغلولة يداه إلى رجليه مع عنقه ، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه. قال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة. وقيل : المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب ، يتقيه أولا بجوارحه ، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه ، وفيه جواب ، وهو غاية العذاب. قال ابن عطية : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة. في هذا المضمار يجري قول الشاعر :

يلقي السيوف بوجهه وبنحره

ويقيم هامته مقام المغفر

لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها ، فهو يلقاها بكل مجن ، وبكل شيء عنه ، حتى بوجهه

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٣٥.


وبنحره. انتهى. و (سُوءَ الْعَذابِ) : أشده ، وخبر من محذوف قدره الزمخشري : كمن أمن العذاب ، وابن عطية : كالمنعمين في الجنة. (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) : أي قال ذلك خزنة النار ، (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ) : أي وبال ما كنتم (تَكْسِبُونَ) من الأعمال السيئة. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : تمثيل لقريش بالأمم الماضية ، وما آل إليه أمرهم من الهلاك. (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) : من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها. كانوا في أمن وغبطة وسرور ، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي. ثم أخبر أن ما أعد لهم في الآخرة أعظم. وانتصب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) على الحال ، وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو عربيا ، وقرآنا توطئة له. وقيل : انتصب على المدح ، ونفى عنه العوج ، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض. وقال عثمان بن عفان : غير مضطرب. وقال ابن عباس : غير مختلف. وقال مجاهد : غير ذي لبس. وقال السدي : غير مخلوق. وقيل : غير ذي لحن. قال الزمخشري : فإن قلت : فهلا قيل مستقيما أو غير معوج؟ قلت : فيه فائدتان : إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط ، كما قال : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١) والثانية : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل : المراد بالعوج : الشك واللبس ، وأنشد :

وقد أتاك يقينا غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

انتهى.

ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : أي محتاج إليه ، ضرب هنا مثلا لعابد آلهة كثيرة ، ومن يعبد الله وحده ، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق ، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده ، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم ، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام ، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم. ورجل آخر مملوك جميعه لرجل واحد ، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء ، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه ، فلا يلقى من سيده إلا إحسانا ، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده. وقال الكسائي : انتصب رجلا على إسقاط الخافض ، أي مثلا لرجل ، أو في رجل فيه ، أي في رقه مشتركا ، وفيه صلة لشركاء. وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، والحسن :

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١.


بخلاف عنه ؛ والجحدري ، وابن كثير وأبو عمرو : سالما اسم فاعل من سلم ، أي خالصا من الشركة. وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، وطلحة ، والحسن : بخلاف عنه ؛ وباقي السبعة : سلما بفتح السين واللام. وقرأ ابن جبير : سلما بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة. وقرىء : ورجل سالم ، برفعهما. وقال الزمخشري : أي وهناك رجل سالم لرجل. انتهى ، فجعل الخبر هناك. ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ ، لأنه موضع تفصيل ، إذ قد تقدم ما يدل عليه ، فيكون كقول امرئ القيس :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشقّ وشق عندنا لم يحوّل

وقال الزمخشري : وإنما جعله رجلا ليكون أفظن لما شقي به أو سعد ، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. وانتصب مثلا على التمييز المنقول من الفاعل ، إذ التقدير : هل يستوي مثلهما؟ واقتصر في التمييز على الواحد ، لأنه المقتصر عليه أولا في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، ولبيان الجنس. وقرىء : مثلين ، فطابق حال الرجلين. وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضمير في يستويان للمثلين ، لأن التقدير مثل رجل ، والمعنى : هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية؟ كما يقول : كفى بهما رجلين. انتهى. والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين ، فأما إذا جعلته عائدا إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل ، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير ، إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين؟ قل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي الثناء والمدح لله لا لغيره ، وهو الذي ثبتت وحدانيته ، فهو الذي يجب أن يحمد ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، فيشركون به غيره. ولفظة الحمد لله تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة ، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه ، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة ، وهو الحكم العدل ، فيتميز المحق من المبطل ، وهو عليه‌السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة ، والكافرون هم المبطلون. فالضمير في وإنك خطاب للرسول ، وتدخل معه أمته في ذلك. والظاهر عود الضمير في (وَإِنَّهُمْ) على الكفار ، وغلب ضمير الخطاب في (إِنَّكَ) على ضمير الغيبة في إنهم ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٥.


ولذلك جاء (تَخْتَصِمُونَ) بالخطاب ، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت ، وكذبوا واجتهدت في الدعوة ، ولجوا في العناد. وقال أبو العالية : هم أهل القبلة ، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم. وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان ، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك ، رضي‌الله‌عنهم. وقيل : يختصم الجميع ، فالكفار يخاصم بعضهم بعضا حتى يقال لهم : لا تختصموا لدي. والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج ، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. وقرأ ابن الزبير ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى ، واليماني ، وابن أبي غوث ، وابن أبي عبلة : إنك مائت وإنهم مائتون ، وهي تشعر بحدوث الصفة ؛ والجمهور : ميت وميتون ، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي


قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ


لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ


حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)

اشمأز ، قال أبو زيد : زعر. قال غيره : تقبض كراهة ونفورا. قال الشاعر :

إذا عض الثقاف بها اشمأزت

وولته عشوزية زبونا

المقاليد : المفاتيح ، قيل : لا واحد لها من لفظها ، قاله التبريزي. وقيل : واحدها مقليد ، وقيل : مقلاد ، ويقال : إقليد وأقاليد ، والكلمة أصلها فارسية. الزمر : جمع زمرة ، قال أبو عبيد والأخفش : جماعات متفرقة ، بعضها إثر بعض. قال : حتى احزألت زمر بعد زمر ويقال : تزمر. والحفوف : الإحداق بالشيء ، قال الشاعر :

تحفه جانب ضيق ويتبعه

مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد

وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف ، وهو الجانب ، ومنه قول الشاعر :

له لحظات عن حفافي سريره

إذا كرها فيها عقاب ونائل

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ، وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ، لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ، أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ، قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ).

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) : هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة ، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين ، والمعنى : لا أجد في المكذبين أظلم ممن افترى على الله ، فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك ، وحرّم وحلل من غير أمر الله ؛ (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) : وهو ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ (إِذْ جاءَهُ) : أي وقت


مجيئه ، فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر ، بل وقت مجيئه كذب به. ثم توعدهم توعدا فيه احتقارهم على جهة التوقيف ، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر ، أي مثوى لهم ، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم ، وهو الكفر. (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) معادل لقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ). (وَصَدَّقَ بِهِ) مقابل لقوله : (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ). والذي جنس ، كأنه قال : والفريق الذي جاء بالصدق ، ويدل عليه : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، فجمع. كما أن المراد بقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) ، يراد به جمع ، ولذلك قال (مَثْوىً لِلْكافِرِينَ). وفي قراءة عبد الله : والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به. وقيل : أراد والذين ، فحذفت منه النون ، وهذا ليس بصحيح ، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون ، لكان الضمير مجموعا كقوله : وإن الذي حانت بفلح دماؤهم ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى؟ كقوله :

أبني كليب أن عميّ اللذا

قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وقيل : الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدق به هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عليّ ، وأبو العالية ، والكلبي ، وجماعة : الذي جاء بالصدق هو الرسول ، والذي صدق به هو أبو بكر. وقال أبو الأسود ، ومجاهد ، وجماعة : الذي صدق به هو عليّ بن أبي طالب. وقال الزمخشري : والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. جاء بالصدق وآمن به ، وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (١) ، ولذلك قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، إلا أن هذا في الصفة ، وذلك في الاسم. ويجوز أن يريد : والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به ، وهو الرسول الذي جاء بالصدق ، وصحابته الذين صدقوا به. انتهى. وقوله : وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه. استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه ، وإنما هو متصل ، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه ، كما أراده بموسى وقومه : أي لعل قومه يهتدون ، إذ موسى عليه‌السلام مهتد. فالمترجى هداية قومه ، لا هدايته ، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقودا لا موجودا. وقوله : ويجوز إلخ ، فيه توزيع

__________________

(١) المؤمنون : ٢٣ / ٤٩.


الصلة ، والفوج هو الموصول ، فهو كقوله : جاء الفريق الذي شرف وشرّف. والأظهر عدم التوزيع ، بل المعطوف على الصلة ، صلة لمن له الصلة الأولى.

وقرأ الجمهور : (وَصَدَّقَ) مشددا ؛ وأبو صالح ، وعكرمة بن سليمان ، ومحمد بن جحازة : مخففا. قال أبو صالح : وعمل به. وقيل : استحق به اسم الصدق. قال ابن عطية : فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأن أمته في ضمن القول ، وهو الذي يحسن (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). انتهى وقال الزمخشري : أي صدق به الناس ، ولم يكذبهم به ، يعني : أداه إليهم ، كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل : معناه : وصار صادقا به ، أي بسببه ، لأن القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه ، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق ، فيصير لذلك صادقا بالمعجزة. وقرىء : وصدق به. انتهى ، يعني : مبنيا للمفعول مشددا. وقال صاحب اللوامح : جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله ، أي في قوله ، أو في مجيئه ، فاجتمع له الصفتان من الصدق : من صدقه من عند الله ، وصدقه بنفسه ، وذلك مبالغة في المدح. انتهى.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) : عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم. و (لِيُكَفِّرَ) : متعلق بالمحسنين ، أي الذين أحسنوا ليكفر ، أو بمحذوف ، أي يسر ذلك لهم ليكفر ، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير. و (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) : هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام. والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ، فقيل : ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوا به. وقال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوي ، وهذا قول المرجئة ، يقولون : لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان. واحتج بهذه الآية ، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين ، أي ذلك جزاؤهم ، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب. والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل ، وبه قرأ الجمهور : وإذا كفر أسوأ أعمالهم ، فتكفير ما هو دونه أحرى. وقيل : أفعل ليس للتفضيل ، وهو كقولك : الأشج أعدل بني مروان ، أي عادل ، فكذلك هذا ، أي سيء الذين عملوا. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم ، وحامد بن يحيى ، عن ابن كثير : أسوأ هنا ؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء ، ولا تفضيل فيه. والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل : لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقي في الجزاء على قياسه ، وإن تخلف عنه بالتقصير. وقيل : بأحسن ثواب أعمالهم. وقيل : بأحسن من عملهم ، وهو الجنة ، وهذا ينبو عنه


(بِأَحْسَنِ الَّذِي). وقال الزمخشري : أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه ، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ ، وحسنهم بالأحسن. انتهى ، وهو على رأي المعتزلة ، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم ، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله ، وذلك توزيع في أفعل التفضيل ، وهو خلاف الظاهر.

قالت قريش : لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا وتعييبنا ، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء ، فأنزل الله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) : أي شر من يريده بشر ، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير ، أي هو كاف عبده ، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه. وقرأ الجمهور : عبده ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ أبو جعفر ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي : عباده بالجمع ، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين ؛ (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) : وهي الأصنام. ولما بعث خالدا إلى كسر العزى ، قال له سادنها : إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقوم لها شيء. فأخذ خالد الفأس ، فهشم به وجهها ثم انصرف. وفي قوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ) ، تهكم بهم لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر. ونظير هذا التخويف قول قوم هود له : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (١). وقرىء : بكافي عبده على الإضافة ، ويكافي عباده مضارع كفى ، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية ، كقولك : يجازى في يجزي ، وهو أبلغ من كفى ، لبنائه على لفظ المبالغة ، وهو الظاهر لكثرة تردّد هذا المعنى في القرآن ، كقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) (٢). ويحتمل أن يكون مهموزا من المكافأة ، وهي المجازاة ، أي يجزيهم أجرهم.

ولما كان تعالى كافي عبده ، كان التخويف بغيره عبثا باطلا. ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين ، أخبر أن ذلك كله هو فاعله ، ثم قال : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) : أي غالب منيع ، (ذِي انْتِقامٍ) : وفيه وعيد لقريش ، ووعد للمؤمنين. ولما أقروا بالصانع ، وهو الله ، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد. فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضرا ولا تمسك رحمة ، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك. وأرأيتم هنا جارية على وضعها ، تعدت إلى مفعولها الأول ، وهو ما يدعون. وجاء المفعول الثاني جملة

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٥٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٣٧.


استفهامية ، وفيها العائد على ما ، وهو لفظ هن وأنت تحقيرا لها وتعجيزا وتضعيفا. وكان فيها من سمى تسمية الإناث ، كالعزى ومناة واللات ، وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها ، لأنهم خوفوه مضرتها ، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله. ثم استخبرهم عن أصنامهم ، هل تدفع شرّا وتجلب خيرا؟ وقرأ الجمهور : كاشفات وممسكات على الإضافة ؛ وشيبة ، والأعرج ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى : بخلاف عنه ؛ وأبو عمرو ، وأبو بكر ؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما. ولما تقرر أنه تعالى كافيه ، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع ، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه ، أي كافيه. والجواب في هذا الاستخبار محذوف ، والتقدير : فإنهم سيقولون : لا تقدر على شيء من ذلك. وقال مقاتل : استخبرهم فسكتوا. (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا) : تقدم الكلام على نظيرها.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ، اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

لما كان عليه‌السلام يعظم عليه عدم إيمانهم ورجوعهم إلى ما أنزل الله تعالى عليه ، سلاه تعالى عن ذلك ، وأخبره أنه أنزل عليه الكتاب ، وهو القرآن ، مصحوبا بالحق ، وهو دين الإسلام ، للناس : أي لأجلهم ، إذ فيه تكاليفهم. (فَمَنِ اهْتَدى) : فثواب هدايته إنما هو له ، (وَمَنْ ضَلَ) : فعقاب ضلاله إنما هو عليه ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) : أي فتجبرهم على الإيمان. قتال قتادة : بوكيل : بحفيظ. وقال الزمخشري : للناس : لأجل حاجتهم إليه ، ليبشروا وينذروا. فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية ، فلا حاجة لي إلى ذلك ، فأنا الغني. فمن اختار الهدى ، فقد نفع نفسه ؛ ومن اختار الضلالة ،


فقد ضرها ، وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى. فإن التكليف مبني على الاختيار دون الإجبار. انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة.

ولما ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب على رسوله بالحق للناس ، نبه على أنه من آياته الكبرى يدل على الوحدانية ، لا يشركه في ذلك صنم ولا غيره ، فقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) ، والأنفس هي الأرواح. وقيل : النفس غير الروح ، قاله ابن عباس. فالروح لها تدبير عالم الحياة ، والنفس لها تدبير عالم الإحساس. وفرقت فرقة بين نفس التمييز ونفس التخييل. والذي يدل عليه الحديث واللغة أن النفس والروح مترادفان ، وأن فراق ذلك من الجسد هو الموت. ومعنى يتوفى النفس : يميتها ، والتي : أي والأنفس التي لم تمت في منامها ، أي يتوفاها حين تنام ، تشبيها للنوام بالأموات. ومنه : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (١). فبين الميت والنائم قدر مشترك ، وهو كونهما لا يميزان ولا يتصرفان. فيمسك من قضى عليه الموت الحقيقي ، ولا يردها في وقتها حية ؛ ويرسل النائمة لجسدها إلى أجل ضربه لموتها. وقيل : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) : يستوفيها ويقبضها ، وهي الأنفس التي يكون معها الحياة والحركة. ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، وهي أنفس التمييز ، قالوا : فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس. والنائم يتنفس ، وكون النفس تقبض ، والروح في الجسد حالة النوم ، بدليل أنه يتقلب ويتنفس ، هو قول الأكثرين. ودل على التغاير وكونها شيئا واحدا هو قول ابن جبير وأحد قولي ابن عباس ؛ والخوض في هذا ، وطلب إدراك ذلك على جليته عناء ولا يوصل إلى ذلك. (إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي في توفي الأنفس مائتة ونائمة ، وإمساكها وإرسالها إلى أجل ، (لَآياتٍ) : لعلامات دالة على قدرة الله وعلمه ، (لِقَوْمٍ) يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرأ الجمهور : (قَضى) مبنيا للفاعل ، (الْمَوْتَ) : نصبا ؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وطلحة ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي : مبنيا للمفعول ؛ الموت : رفعا. فأم منقطعة تقدر ببل والهمزة ، وهو تقرير وتوبيخ. وكانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عندنا ، والشفاعة إنما هي لمن ارتضاه الله وبإذنه تعالى ، وهذا مفقود في آلهتهم. وأولو معناه : أيتخذونهم شفعاءهم بهذه المثابة من كونهم لا يعقلون ولا يملكون شيئا ، وذلك عام النقص ، فكيف يشفع هؤلاء؟ وتقدم لنا الكلام في أولو في سورة البقرة. وقال ابن عطية : متى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير. انتهى. وإذا كانوا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٦٠.


لا يملكون شيئا ، فكيف يملكون الشفاعة؟ وقال الزمخشري : أي ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئا قط حتى يملكوا الشفاعة ، ولا عقل لهم. انتهى. فأتى بقوله : قط ، بعد قوله : لا يملكون ، وليس بفعل ماض ، وقط ظرف يستعمل مع الماضي لا مع غيره ، وقد تكرر للزمخشري هذا الاستعمال ، وليس باستعمال عربي.

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) : فهو مالكها ، يأذن فيها لمن يشاء ثم أتى بعام وهو : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فاندرج فيه ملك الشفاعة. ولما كانت الشفاعة من غيره موقوفة على إذنه ، كانت الشفاعة كلها له. ولما أخبر أنه له ملك السموات والأرض ، هددهم بقوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، فيعلمون أنهم لا يشفعون ، ويخيب سعيكم في عبادتهم. وقال الزمخشري : معناه له ملك السموات والأرض اليوم ، ثم إليه ترجعون يوم القيامة ، فلا يكون الملك في اليوم ذلك إلا له ، فله ملك الدنيا والآخرة.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) : أي مفردا بالذكر ، ولم يذكر مع آلهتهم. وقيل : إذا قيل لا إله إلا الله ، (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، وهي الأصنام. والاشمئزاز والاستبشار متقابلان غاية ، لأن الاشمئزاز : امتلاء القلب غما وغيظا ، فيظهر أثره ، وهو الانقباض في الوجه ، والاستبشار : امتلاؤه سرورا ، فيظهر أثره ، وهو الانبساط ، والتهلل في الوجه. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في وإذا ذكر؟ قلت : العامل في إذا الفجائية تقديره : وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا الاستبشار. وقال الحوفي : (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ، إذا مضافة إلى الابتلاء والخبر ، وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه ، والتقدير : إذا كان ذلك هم يستبشرون ، فيكون هم يستبشرون العامل في إذا ، المعنى : إذا كان ذلك استبشروا. انتهى. أما قول الزمخشري : فلا أعلمه من قول من ينتمي للنحو ، وهو أن الظرفين معمولان لعامل واحد ، ثم إذا الأولى ينتصب على الظرف ، والثانية على المفعول به. وأما قول الحوفي فبعيد جدّا عن الصواب ، إذ جعل إذا مضافة إلى الابتداء والخبر ، ثم قال : وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه ، فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هم يستبشرون؟ وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحدث فيه ، وقد تقدم لنا في مواضع إذا التي للمفاجأة جوابا لإذا الشرطية ، وقد قررنا في علم النحو الذي كتبناه أن إذا الشرطية ليست مضافة إلى الجملة التي تليها ، وإن كان مذهب الأكثرين ، وأنها ليست بمعمولة للجواب ، وأقمنا الدليل على ذلك ، بل هي معمولة للفعل الذي يليها ، كسائر أسماء الشرطية الظرفية ، وإذا الفجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط ، كالفاء ؛ وهي


معمولة لما بعدها. إن قلنا إنها ظرف ، سواء كان زمانا أو مكانا. ومن قال إنها حرف ، فلا يعمل فيها شيء ، فإذا الأولى معمولة لذكرهم ، والثانية معمولة ليستبشرون. ولما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله ، واستبشارهم بذكر الأصنام ، أمره أن يدعو بأسماء الله العظمى من القدرة والعلم ونسبة الحكم إليه ، إذ غيره لا قدرة له ولا علم تام ولا حكم ، وفي ذلك وصف لحالهم السيّء ووعيد لهم وتسلية للرسول عليه‌السلام. وتقدم الكلام في (اللهُمَ) في سورة آل عمران.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : تقدم الكلام على تشبيهه في العقود. (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ) : أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة ، حسب ضلالاتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه. فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة ، ظهر لهم خلاف ما كانوا يظنون ، وما كان في حسابهم. وقال سفيان الثوري : ويل لأهل الرياء من هذه الآية. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا) : أي جزاء ما كانوا وما فيما كسبوا ، يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، أي سيئات أعمالهم ، وأن تكون مصدرية ، أي سيئات كسبهم. والسيئات : أنواع ، العذاب سميت سيئات ، كما قال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١).

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ، أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).

تقدم في غير آية كون الإنسان إذا مسه الضر التجأ إلى الله ، مع اعتقادهم الأوثان وعبادتها. فإذا أصابتهم شدة ، نبذوها ودعوا رب السموات والأرض ، وهذا يدل على تناقض آرائهم وشدة اضطرابها. والإنسان جنس وضر مطلق ، والنعمة عامة في جميع ما يسر ، ومن ذلك إزالة الضر. وقيل : الإنسان معين ، وهو حذيفة بن المغيرة. والظاهر أن ما في إنما

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٠.


كافة مهيئة لدخول إن على الجملة الفعلية ، وذكر الضمير في (أُوتِيتُهُ) ، وإن كان عائدا على النعمة ، لأن معناها مذكر ، وهو الأنعام أو المال ، على قول من شرح النعمة بالمال ، أو المعنى : شيئا من النعمة ، أو لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث ، فغلب المذكر. وقيل : ما موصولة ، والضمير عائد على ما ، أي قال : إن الذي أوتيته على علم مني ، أي بوجه المكاسب والمتاجر ، قاله قتادة ، وفيه إعجاب بالنفس وتعاظم مفرط. أو على علم من الله فيّ واستحقاق جزائه عند الله ، وفي هذا احتراز الله وعجز ومنّ على الله. أو على علم مني بأني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق ، بل هي فتنة إضراب عن دعواه أنه إنما أوتي على علم ، بل تلك النعمة فتنة وابتلاء. ذكر أولا في (أُوتِيتُهُ) على المعنى ، إذ كانت ما مهيئة ، ثم عاد إلى اللفظ فأنث في قوله (بَلْ هِيَ) ، أو تكون هي عادت على الإتيان ، أي بل إتيانه النعمة فتنة. وكان العطف هنا بالفاء في فإذا ، وبالواو في أول السورة لأنها وقعت مسببة عن قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ) ، أي يشمئزون عند ذكر الله ، ويستبشرون بذكر آلهتهم. فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره. ومناسبة السببية أنك تقول : زيد مؤمن ، فإذا مسه الضر التجأ إلى الله. فالسبب هنا ظاهر ، وزيد كافر ، فإذا مسه الضر التجأ إليه ، يقيم كفره مقام الإيمان في جعله سببا للالتجاء ، يحكي عكس ما فيه الكافر. يقصد بذلك الإنكار والتعجب من فعله المتناقض ، حيث كفر بالله ثم التجأ إليه في الشدائد.

وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة ، بل ناسبت ما قبلها ، فعطفت عليه بالواو ، وإذا كانت فإذا متصلة بقوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) ، كما قلنا ، فما بينهما من الآي اعتراض يؤكد به ما بين المتصلين. فدعاء الرسول ربه بأمر منه وقوله : (أَنْتَ تَحْكُمُ) ، وتعقيبه الوعيد ، تأكيد لاشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم. وقوله : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يتناول لهم ، أو لكل ظالم ، إن جعل مطلقا أو إياهم خاصة إن عنوا به. انتهى ، وهو ملتقط أكثره من كلام الزمخشري ، وهو متكلف في ربط هذه الآية بقوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) مع بعد ما بينهما من الفواصل. وإذا كان أبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين ، فكيف يجيزه بهذه الجمل الكثيرة؟ والذي يظهر في الربط أنه لما قال : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) الآية ، كان ذلك إشعارا بما ينال الظالمين من شدة العذاب ، وأنه يظهر لهم يوم القيامة من العذاب ما لم يكن في حسابهم ، أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه ، إذ كان إذا مسه دعا ربه ، فإذا أحسن إليه ، لم ينسب ذلك إليه. ثم إنه بعد وصف تلك النعمة أنها ابتلاء وفتنة ، كما بدا له في الآخرة من عمله الذي كان يظنه


صالحا ما لم يكن في حسابه من سوء العذاب المترتب على ذلك العمل ، ترتب الفتنة على تلك النعمة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أي إن ذلك استدراج وامتحان.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي قال مثل مقالتهم (أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ). والظاهر أن قائلي ذلك جماعة من الأمم الكافرة الماضية ، كقارون في قوله : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (١). وقيل : الذين من قبلهم هم قارون وقومه ، إذ رضوا بمقالته ، فنسب القول إليهم جميعا. وقرىء : قد قاله ، أي قال القول أو الكلام. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) : يجوز أن تكون ما نافية ، وهو الظاهر. وأن تكون استفهامية ، فيها معنى النفي. (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أي من الأموال. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) : إشارة إلى مشركي قريش ، (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) : جاء بسين الاستقبال التي هي أقل تنفيسا في الزمان من سوف ، وهو خبر غيب ، أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره. قتل رؤساءهم ، وحبس عنهم الرزق ، فلم يمطروا سبع سنين ؛ ثم بسط لهم ، فمطروا سبع سنين ، فقيل لهم : ألم تعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله تعالى؟.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) : نزلت في وحشي قاتل حمزة ، قاله عطاء ؛ أو في قوم آمنوا عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ، ففتنتهم قريش ، فافتتنوا وظنوا أن لا توبة لهم ، فكتب عمر لهم بهذه الآية ، قاله عمر والسدي وقتادة وابن إسحاق. وقيل : في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا : وما ينفعنا الإسلام وقد زنينا وقتلنا النفس وأتينا كل كبيرة؟ ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب ، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب الله ، ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمن العبد ورجع إلى الله. وكثيرا تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف. وهذه الآية عامة في كل كافر يتوب ، ومؤمن عاص يتوب ، تمحو الذنب توبته. وقال عبد الله ، وعلي ، وابن عامر : هذه أرجى آية في كتاب الله. وتقدم الخلاف في قراءة (لا تَقْنَطُوا) في الحجر.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) : عام يراد به ما سوى الشرك ، فهو مقيد أيضا بالمؤمن العاصي غير التائب بالمشيئة. وفي قوله : (يا عِبادِيَ) ، بإضافتهم إليه وندائهم ، إقبال وتشريف. و (أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) : أي بالمعاصي ، والمعنى : إن ضرر تلك الذنوب إنما

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٨.


هو عائد عليهم ، والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء ، وإضافة الرحمة إلى الله التفات من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب ، لأن في إضافتها إليه سعة للرحمة إذا أضيفت إلى الله الذي هو أعظم الأسماء ، لأنه العلم المحتوي على معاني جميع الأسماء. ثم أعاد الاسم الأعظم ، وأكد الجملة بأن مبالغة في الوعد بالغفران ، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة ، وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر. وقال الزمخشري : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) ، شرط التوبة. وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن ، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه ، لأن القرآن في حكم كلام واحد ، ولا يجوز فيه التناقض. انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة.

ولما كانت هذه الآية فيها فسحة عظيمة للمسرف ، أتبعها بأن الإنابة ، وهي الرجوع ، مطلوبة مأمور بها. ثم توعد من لم يتب بالعذاب ، حتى لا يبقى المرء كالممل من الطاعة والمتكل على الغفران دون إنابة. وقال الزمخشري : وإنما ذكر الإنابة على إثر المغفرة ، لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة ، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ، مثل قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، وهو القرآن ، وليس المعنى أن بعضا أحسن من بعض ، بل كله حسن. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً) ، أي فجأة ، (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) : أي وأنتم غافلون عن حلوله بكم ، فيكون ذلك أشد في عذابكم.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ، وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق ، أتاه إبليس فقال له : تمتع من الدنيا ثم تب ، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور. فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان ، فقال :


(يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) ، وذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربي ، فندم حين لا ينفعه ، فأنزل الله خبره. (أَنْ تَقُولَ) : مفعول من أجله ، فقدره ابن عطية : أي أنيبوا من أجل أن تقول. وقال الزمخشري : كراهة أن تقول ، والحوفي : أنذرناكم مخافة أن تقول ، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو أريد الكثير ، كما قال الأعشى :

ورب نفيع لو هتفت لنحوه

أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا

يريد أفواجا من الكرام ينصرونه ، لا كريما واحدا ؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر ، أو بعذاب عظيم. قال هذه المحتملات الزمخشري ، والظاهر الأول. وقرأ الجمهور : يا حسرتا ، بإبدال ياء المتكلم ألفا ، وأبو جعفر : يا حسرتا ، بياء الإضافة ، وعنه : يا حسرتي ، بالألف والياء جمعا بين العوض والمعوض ، والياء مفتوحة أو سانة. وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه (كتاب اللوامح) : ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك ، لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد ، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة ، لكثرة حسراتهم يومئذ ؛ أو أراد حسرتين فقط من فوت الجنة لدخول النار ، لكان مذهبا ، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب. انتهى. وقرأ ابن كثير في الوقف : يا حسرتاه ، بهاء السكت. قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل : هذا وقتك فاحضري. والجنب : الجانب ، ومستحيل على الله الجارحة ، فإضافة الجنب إليه مجاز. قال مجاهد ، والسدي : في أمر الله. وقال الضحاك : في ذكره ، يعني القرآن والعمل به. وقيل : في جهة طاعته ، والجنب : الجهة ، وقال الشاعر :

أفي جنب تكنى قطعتني ملامة

سليمى لقد كانت ملامتها ثناء

وقال الراجز :

الناس جنب والأمير جنب

ويقال : أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته ؛ وفلان لين الجنب والجانب. ثم قالوا : فرط في جنبه ، يريدون حقه. قال سابق البربري :

أما تتقين الله في جنب عاشق

له كبد حرى عليك تقطع

وهذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه ، فقد أثبته فيه. ألا ترى إلى قوله :


إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

ومنه قول الناس : لمكانك فعلت كذا ، يريدون : لأجلك ، وكذلك فعلت هذا من جهتك. وما في ما فرطت مصدرية ، أي على تفريطي في طاعة الله. (إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) ، قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها. وقال الزمخشري : ومحل وإن كنت النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي. انتهى. ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا ، لا حال. (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) : أي خلق في الهداية بالإلجاء ، وهو خارج عن الحكمة ، أو بالألطاف ، ولم يكن من أهلها فيلطف به ، أو بالوحي ، فقد كان ، ولكنه أعرض ، ولم يتبعه حتى يهتدي. وإنما يقول هذا تحيرا في أمره ، وتعللا بما يجدي عليه. كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحوه : لو هدانا الله لهديناكم. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. وانتصب (فَأَكُونَ) على جواب التمني الدال عليه لو ، أو على كرة ، إذ هو مصدر ، فيكون مثل قوله :

فما لك منها غير ذكرى وحسرة

وتسأل عن ركبانها أين يمموا

وقول الآخر :

للبس عباءة وتقر عيني

أحب إليّ من لبس الشفوف

والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني ، كانت أن واجبة الإضمار ، وكان الكون مترتبا على حصول المتمني ، لا متمنى. وإذا كانت للعطف على كرة ، جاز إظهار أن وإضمارها ، وكان الكون متمنى. (بَلى) : هو حرف جواب لمنفي ، أو لداخل عليه همزة التقرير. ولما كان قوله : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) وجوابه متضمنا نفي الهداية ، كأنه قال : ما هداني الله ، فقيل له : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) مرشدة لك ، فكذبت. وقال الزمخشري : رد من الله عليه ومعناه : بلى قد هديت بالوحي. انتهى ، جريا على قواعد المعتزلة. وقال ابن عطية : وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، وقوله : (بَلى) جواب لنفي مقدر ، كأن النفس قالت : فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر ، أو قالت : فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا. انتهى. وليس حق بلى ما ذكر ، بل حقها أن تكون جواب نفي. ثم حمل التقرير على النفي ، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب ، وأجابه بنعم ، ووقع ذلك أيضا في كلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير بنعم اتباعا لبعض العرب. وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا


قرن الجواب بما هو جواب له ، وهو قوله : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) ، ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت : لأنه لا يخلو ، إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن ، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى. فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن ؛ وأما الثاني ، فلما فيه من نقض الترتيب ، وهو التحسر على التفريط في الطاعة ، ثم التعلل بفقد الهداية. ثم تمنى الرجعة ، فكان الصواب ما جاء عليه ، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. انتهى ، وهو كلام حسن.

وقرأ الجمهور : (قَدْ جاءَتْكَ) ، بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها ، خطابا للكافر ذي النفس. وقرأ ابن يعمر والجحدري ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، ومسعود بن صالح ، والشافعي عن ابن كثير ، ومحمد بن عيسى في اختياره وعن نصير ، والعبسي : بكسر الكاف والتاء ، خطاب للنفس ، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة ، رضي‌الله‌عنهما ، وروتهما أم سلمة عن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : جأتك ، بالهمز من غير مد ، بوزن بعتك ، وهو مقلوب من جاءتك ، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف ، كما سقطت في رمت وعرت. ولما ذكر مقالة الكافر ، ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبه ، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه ، عليه‌السلام. والرؤية هنا من رؤية البصر ، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد ، وشرعهم ما لم يأذن به الله. والظاهر أنه عام في المكذبين على الله ، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين. وقال الحسن : هم القدرية يقولون : إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل. وقال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف الله بما لا يليق به نفيا وإثباتا ، فأضاف إليه ما يجب أن لا يضاف إليه ، فالكل كذبوا على الله ؛ فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز.

وقال الزمخشري : (كَذَبُوا عَلَى اللهِ) : وصفوه بما لا يجوز عليه ، وهو متعال عنه ، فأضافوا إليه الولد والشريك ، وقالوا : (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١) ، وقالوا : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) (٢) ، وقالوا : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) (٣) ، ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح. ويجوز أن يخلق خلقا لا لغرض ، وقوله : لا لغرض ، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق ، ويجسمونه

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٨.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٢٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٢٨.


بكونه مرئيا مدركا بالحاسة ، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا مستترين بالبلكفة ، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدما. انتهى ، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة. والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر ، وأن (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) جملة في موضع الحال ، وفيها رد على الزمخشري ، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية المشتملة على ضمير ذي الحال شاذ ، وتبع في ذلك الفراء ، وقد أعرب هو هذه الجملة حالا ، فكأنه رجع عن مذهبه ذلك ، وأجاز أيضا أن تكون من رؤية القلب في موضع المفعول الثاني ، وهو بعيد ، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب. وقرىء : وجوههم مسودّة بنصبهما ، فوجوههما بدل بعض من كل. وقرأ أبيّ : أجوههم ، بإبدال الواو همزة ، والظاهر أن الاسوداد حقيقة ، كما مر في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) (١). وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز ، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم.

ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله ، ذكر حال المتقين ، أي الكذب على الله وغيره ، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه ، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى. قال السدي : (بِمَفازَتِهِمْ) : بفلاحهم ، يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده ، وتفسير المفازة قوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، كأنه قيل : وما مفازتهم؟ قيل : لا يمسهم السوء ، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم ، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) (٢) ، أي بمنجاة منه ، لأن النجاة من أعظم الفلاح ، وسبب منجاتهم العمل الصالح ، ولهذا فسر ابن عباس رضي‌الله‌عنه المفازة : بالأعمال الحسنة ؛ ويجوز بسبب فلاحهم ، لأن العمل الصالح سبب الفلاح ، وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة ، لأنه سببها. فإن قلت : (لا يَمَسُّهُمُ) ، ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت : أما على التفسير الأول فلا محل له ، لأنه كلام مستأنف ، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال. انتهى. وقرأ الجمهور : بمفازتهم على الإفراد ، والسلمي ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : على الجمع ، من حيث النجاة أنواع ، والأسباب مختلفة. قال أبو علي : المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (٣). وقال

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٦.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٨.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٠.


الفراء : كلا القراءتين صواب ، تقول : قد تبين أمر الناس وأمور الناس. ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ، عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد ، فذكر أنه خالق كل شيء ، فدل على أعمال العباد لاندراجها في عموم كل شيء ، وأنه على كل الأشياء قائم لحفظها وتدبيرها.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : قال ابن عباس : مفاتيح ، وهذه استعارة ، كما تقول : بيد فلان مفتاح هذا الأمر. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن المقاليد لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير». وتأويله على هذا : أن لله هذه الكلمات ، يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض ، من تكلم بها من المتقين أصاب. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) وكلماته توحيده وتمجيده ، (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)؟ قلت : بقوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) ، و (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، (هُمُ الْخاسِرُونَ) واعترض بينهما : بأن خالق الأشياء كلها ، وهو مهيمن عليها ، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء ، وأن (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قال أبو عبد الله الرازي : وهذا عندي ضعيف من وجهين : الأول : أن وقوع الفاصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد. والثاني : أن قوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : جملة فعلية ، وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) : جملة اسمية ، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، والأقرب عندي أن يقال : إنه لما وصف بصفات الإلهية والجلالة ، وهو كونه خالق الأشياء كلها ، وكونه مالكا لمقاليد السموات والأرض ، وقال : الذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة هم الخاسرون. انتهى ، وليس بفاصل كثير. وقوله : وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، كلام من لم يتأمل لسان العرب ، ولا نظر في أبواب الاشتغال. وأما قوله : والأقرب عندي فهو مأخوذ من قول الزمخشري ، وقد جعل متصلا بما يليه ، على أن كل شيء في السموات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه ، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ، بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ


شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ).

روي أنه قال للرسول عليه‌السلام المشركون : استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ، وغير منصوب بأعبد. قال الأخفش : تأمروني ملغاة ، وعنه أيضا : أفغير نصب بتأمروني لا بأعبد ، لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها ، إذ الموصول منه حذف فرفع ، كما في قوله :

ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى

والصلة مع الموصول في موضع النصب بدلا منه ، أي أفغير الله تأمرونني عبادته؟ والمعنى : أتأمرونني بعبادة غير الله؟ وقال الزمخشري : أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله : (تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) ، لأنه في معنى تعبدون وتقولون لي : اعبده ، وأ فغير الله تقولون لي اعبد ، فكذلك أفغير الله تقولون لي أن اعبده ، وأ فغير الله تأمروني أن أعبد. والدليل على صحة هذا الوجه قراءات من قرأ أعبد بالنصب ، يعني : بنصب الدال بإضمار أن. وقرأ الجمهور : تأمروني ، بإدغام النون في نون الوقاية وسكون الياء ؛ وفتحها ابن كثير. وقرأ ابن عامر : تأمرونني ، بنونين على الأصل ؛ ونافع : تأمروني ، بنون واحدة مكسورة وفتح الياء. قال ابن عطية : وهذا على حذف النون الواحدة ، وهي الموطئة لياء المتكلم ، ولا يجوز حذف النون الأولى ، وهو لحن ، لأنها علامة رفع الفعل. انتهى. وفي المسألة خلاف ، منهم من يقول : المحذوفة نون الرفع ، ومنهم من يقول : نون الوقاية ، وليس بلحن ، لأن التركيب متفق عليه ، والخلاف جرى في أيهما حذف ، ونختار أنها نون الرفع.

ولما كان الأمر بعبادة غير الله لا يصدر إلا من غبي جاهل ، ناداهم بالوصف المقتضي ذلك فقال : (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ). ولما كان الإشراك مستحيلا على من عصمه الله ، وجب تأويل قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) أيها السامع ، ومضى الخطاب على هذا التأويل. ويدل على هذا التأويل أنه ليس براجع الخطاب للرسول ، إفرادا لخطاب في (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) ، إذ لو كان هو المخاطب ، لكان التركيب : لئن أشركتما ، فيشمل ضمير هو ضمير الذين من قبله ، ويغلب الخطاب. وقال الزمخشري : فإن قلت : المومى إليهم جماعة ، فكيف قال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) على التوحيد؟ قلت معناه : لئن أوحى إليك ، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، و (إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) مثله ، وأوحى إليك وإلى كل واحد منهم (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) ، كما


تقول : كسانا حلة ، أي كل واحد منا. فإن قلت : كيف يصح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم؟ قلت : هو على سبيل الفرض والمحالات يصح فرضها ثم ذكر كلاما يوقف عليه في كتابه. ويستدل بهذه الآية على حبوط عمل المرتد من صلاة وغيرها. وأوحى : مبني للمفعول ، ويظهر أن الوحي هو هذه الجمل : من قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) إلى (مِنَ الْخاسِرِينَ) وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، لأن الجمل لا تكون فاعلة ، فلا تقوم مقام الفاعل. وقال مقاتل : أوحى إليك بالتوحيد ، والتوحيد محذوف. ثم قال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، والخطاب للنبي عليه‌السلام خاصة. انتهى. فيكون الذي أقيم مقام الفاعل هو الجار والمجرور ، وهو إليك ، وبالتوحيد فضلة يجوز حذفها لدلالة ما قبلها عليه. وقرأ الجمهور : (لَيَحْبَطَنَ) مبنيا للفاعل ، (عَمَلُكَ) : رفع به. وقرىء بالنون أي : لنحبطن عملك بالنصب ، والجلالة منصوبة بقوله : فاعبد على حدّ قولهم : زيد فاضرب ، وله تقرير في النحو وكيف دخلت هذه الفاء. وقال الفراء : إن شئت نصبه بفعل مضمر قبله ، كأنه يقدر : اعبد الله فاعبده.

وقال الزمخشري : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) ، ردّ لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته ، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله ، فحذف الشرط وجعل تقدم المفعول عوضا منه. انتهى. ولا يكون تقدم المفعول عوضا من الشرط لجواز أن يجيء : زيد فعمرا اضرب. فلو كان عوضا ، لم يجز الجمع بينهما. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لأنعمه التي أعظمها الهداية لدين الله. وقرأ عيسى : بل الله بالرفع ، والجمهور : بالنصب. (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : أي ما عرفوه حق معرفته ، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره ، إذ أشركوا معه غيره ، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة. وقرأ الأعمش : حق قدره بفتح الدال ؛ وقرأ الحسن ، وعيسى ، وأبو نوفل ، وأبو حيوة : وما قدروا بتشديد الدال ، حق قدره : بفتح الدال ، أي ما عظموه حقيقة تعظيمه. والضمير في قدروا ، قال ابن عباس : في كفار قريش ، كانت هذه الآية كلها محاورة لهم وردّا عليهم. وقيل : نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله وجلاله ، فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط. وهذه الجملة مذكورة في الأنعام وفي الحج وهنا.

ولما أخبر أنهم ما عرفوه حق معرفته ، نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريق التصوير والتخييل فقال : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).


وقال الزمخشري : والغرض من هذا الكلام ، إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. انتهى. ويعني : أو جهة مجاز معين ، والإخبار : التصوير ، والتخييل هو من المجاز. وقال غيره : الأصل في الكلام حمله على حقيقته ، فإن قام دليل منفصل على تعذر حمله عليها ، تعين صرفه إلى المجاز. فلفظ القبضة واليمين حقيقة في الجارحة ، والدليل العقلي قائم على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى ، فوجب الحمل على المجاز ، وذلك أنه يقال : فلان في قبضة فلان ، إذا كان تحت تدبيره وتسخيره ، ومنه : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ*) (١) ، فالمراد كونه مملوكا لهم ، وهذه الدار في يد فلان ، وقبض فلان كذا ، وصار في قبضته ، يريدون خلوص ملكه ، وهذا كله مجاز مستفيض مستعمل. وقال ابن عطية : اليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة ، وما اختلج في الصدر من غير ذلك باطل. وما ذهب إليه القاضي ، يعني ابن الطيب ، من أنها صفات زائدة على صفات الذات ، قول ضعيف ، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحصها العلم.

قال عزوجل : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به. انتهى. وقال القفال : هذا كقول القائل : وما قدرني حق قدري ، وأنا الذي فعلت كذا وكذا ، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت ، وجب أن لا تخطىء عن قدري ومنزلتي ، ونظيره : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٢) ، أي كيف تكفرون بمن هذه صفته وحال ملكه؟ فكذا هنا ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : أي زعموا أن له شركاء ، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى ، مع أن الأرض والسموات في قبضة قدرته. انتهى. (وَالْأَرْضُ) : أي والأرضون السبع ، ولذلك أكد بقوله : (جَمِيعاً) ، وعطف عليه (وَالسَّماواتُ) ، وهو جمع ، والموضع موضع تفخيم ، فهو مقتض المبالغة. والقبضة : المرة الواحدة من القبض ، وبالضم : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال في المقدار : قبضته بالفتح ، تسمية له بالقدر ، فاحتمل هنا هذا المعنى. واحتمل أن يراد المصدر على حذف مضاف ، أي ذوات قبضة ، أي يقبضهن قبضة واحدة ، فالأرضون مع سعتها وبسطتها لا يبلغن إلا قبضة كف ، وانتصب جميعا على الحال. قال الحوفي : والعامل في الحال ما دل عليه قبضته انتهى. ولا يجوز أن يعمل فيه قبضته ، سواء كان مصدرا ، أم أريد به المقدار. وقال الزمخشري : ومع القصد إلى الجمع يعني في الأرض ، وأنه أريد بها الجمع

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٨.


قال : وتأكيده بالجميع ، أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء ذلك الخبر ، ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ، ولكن عن الأراضي كلهن. انتهى. ولم يذكر العامل في الحال ، ويوم القيامة معمول لقبضته. وقرأ الحسن : قبضته بالنصب. قال ابن خالويه : بتقدير في قبضته ، هذا قول الكوفيين. وأما أهل البصرة فلا يجيزون ذلك ، كما لا يقال : زيد دارا انتهى. وقال الزمخشري : جعلها ظرفا مشبها للوقت بالمبهم. وقرأ عيسى ، والجحدري : مطويات بالنصب على الحال ، وعطف والسموات على الأرض ، فهي داخلة في حيز والأرض ، فالجميع قبضته. وقد استدل بهذه القراءة الأخفش على جواز : زيد قائما في الدار ، إذ أعرب والسموات مبتدأ ، وبيمينه الخبر ، وتقدمت الحال والمجرور ، ولا حجة فيه ، إذ يكون والسموات معطوفا على والأرض ، كما قلنا ، وبيمينه متعلق بمطويات ، ومطويات : من الطي الذي هو ضد النشر ، كما قال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (١) ، وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه. وقيل : قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع ، وبيمينه : وبقدرته.

قال الزمخشري : وقيل : مطويات بيمينه : مفنيات بقسمه ، لأنه أقسم أن يفنيها ؛ ثم أخذ ينحى على من تأول هذا التأويل بما يوقف عليه في كتابه ، وإنما قدر عظمته بما سبق إردافه أيضا بما يناسب من ذلك ، إذ كان فيما تقدم ذكر حال الأرض والسموات يوم القيامة ، فقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ، وهل النفخ في الصور ثلاث مرات أو نفختان؟ قول الجمهور : فنفخة الفزع هي نفخة الصعق ، والصعق هنا الموت ، أي فمات من في السموات ومن في الأرض. قال ابن عطية : والصور هنا : القرن ، ولا يتصور هنا غير هذا. ومن يقول : الصور جمع صورة ، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث. وروي أن بين النفختين أربعين. انتهى ، ولم يعين. وقراءة قتادة ، وزيد بن عليّ هنا : في الصور ، بفتح الواو جمع صورة ، يعكر على قول ابن عطية ، لأنه لا يتصور هنا إلا أن يكون القرن ، بل يكون هذا النفخ في الصور مجازا عن مشارفة الموت وخروج الروح. وقرىء : فصعق بضم الصاد ، والظاهر أن الاستثناء معناه : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ، فلم يصعق : أي لم يمت ، والمستثنون : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، أو رضوان خازن الجنة ، والحور ، ومالك ، والزبانية ؛ أو المستثنى الله ، أقوال آخرها للحسن ، وما قبله للضحاك. وقيل : الاستثناء يرجع إلى من مات قبل الصعقة الأولى ، أي يموت من في السموات والأرض إلا من سبق موته ، لأنهم

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٤.


كانوا قد ماتوا ، وهذا نظير : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١) ثم نفخ فيه أخرى ، واحتمل أخرى على أن تكون في موضع نصب ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، كما أقيم في الأول ، وأن يكون في موضع رفع مقاما مقام الفاعل ، كما صرح به في قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (٢).

(فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣) : أي أحياء قد أعيدت لهم الأبدان والأرواح ، (يَنْظُرُونَ) : أي ينتظرون ما يؤمرون ، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، أو يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. والظاهر قيامهم الذي هو ضد القعود لأجل استيلاء الذهن عليهم. وقرأ زيد بن علي : قياما بالنصب على الحال ، وخبر المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية ، وهي حال لا بد منها ، إذ هي محط الفائدة ، إلا أن يقدر الخبر محذوفا ، أي فإذا هم مبعوثون ، أي موجودون قياما. وأن نصبت قياما على الحال ، فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف. إن قلنا الخبر محذوف ، وأن لا عامل ، فالعامل هو العامل في الظرف ، فإن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه كلام سيبويه ، فتقديره : فبالحضرة هم قياما ؛ وإن كان ظرف زمان ، كما ذهب إليه الرياشي ، فتقديره : ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه ، هم أي وجودهم ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة ؛ وإن كانت إذا حرفا ، كما زعم الكوفيون ، فلا بد من تقدير الخبر ، إلا أن اعتقد أن ينظرون هو الخبر ، ويكون ينظرون عاملا في الحال.

وقرأ الجمهور : (وَأَشْرَقَتِ) مبنيا للفاعل ، أي أضاءت ؛ وابن عباس ، وعبيد بن عمير ، وأبو الجوزاء : مبنيا للمفعول من شرقت بالضوء تشرق ، إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله ، كما تقول : ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا ، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : وهذا إنما يترتب على فعل يتعدى ، فهذا على أن يقال : أشرق البيت وأشرقه السراج ، فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز ، كرجع ورجعته ووقف ووقفته. والأرض في هذه الآية : الأرض المبدلة من الأرض المعروفة ، ومعنى أشرقت : أضاءت وعظم نورها. انتهى. وقال صاحب اللوامح : وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت ، فيصير متعديا بالفعل بمعنى : أذهبت ظلمة الأرض ، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت ، فإن ذلك لازم ، وهذا قد تعدى إلى الأرض لما لم يذكر الفاعل ، وأقيمت

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ٥٦.

(٢ ـ ٣) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٣.


الأرض مقامه ؛ وهذا على معنى ما ذهب إليه بعض المتأخرين من غير أن يتقدم في ذلك ، لأن من الأفعال ما يكون متعديا لازما معا على مثال واحد. انتهى.

وفي الحديث الصحيح : «يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ، ليس بها علم لأحد بنور ربها». قيل : يخلق الله نورا يوم القيامة ، فيلبسه وجه الأرض ، فتشرق الأرض به ، وقال ابن عباس : النور هنا ليس من نور الشمس والقمر ، بل هو نور يخلقه الله فيضيء الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة ، والمعنى : أشرقت بنور خلقه الله تعالى ، أضافه إليه إضافة الملك إلى الملك. وقال الزمخشري : استعار الله النور للحق ، والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، وهذا من ذلك. والمعنى : وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، وبسط من القسط في الحسنات ، ووزن الحسنات والسيئات ، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه ، لأنه هو الحق العدل ، وإضافة اسمه إلى الأرض ، لأنه يزينها حين ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه ، ويقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما يقولون : أظلمت البلاد بجور فلان. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة» ، وكما فتح الآية بإثبات العدل ، ختمها بنفي الظلم.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) : أي صحائف الأعمال ووحد ، لأنه اسم جنس ، وكل أحد له كتاب على حدة ، وأبعد من قال : الكتاب هنا اللوح المحفوظ. وروي ذلك عن ابن عباس ، ولعله لا يصح ، وقد ضعف بأن الآية سيقت مقام التهديد في سياق الخبر. (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليشهدوا على أممهم ، (وَالشُّهَداءِ) ، قيل : جمع شاهد ، وهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. وقيل : هم الرسل من الأنبياء. وقيل : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يشهدون للرسل. وقال عطاء ، ومقاتل ، وابن زيد : الحفظة. وقال ابن زيد أيضا : النبيون ، والملائكة ، وأمة محمد عليه‌السلام ، والجوارح. وقال قتادة : الشهداء جمع شهيد ، وليس فيه توعد ، وهو مقصود الآية. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي بين العالم ، ولذلك قسموا بعد إلى قسمين : أهل النار وأهل الجنة ، (بِالْحَقِ) : أي بالعدل. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) : أي جوزيت مكملا. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) ، فلا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد ، وفي ذلك وعيد وزيادة تهديد.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها


أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة على سبيل الإجمال ، بين بعد كيفية أحوال الفريقين وما أفضى إليه كل واحد منهما فقال : (وَسِيقَ) ، والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف ، وهو الغالب فيه. وجواب إذا : (فُتِحَتْ أَبْوابُها) ، ودل ذلك على أنه لا يفتح إلا إذا جاءت ؛ كسائر أبواب السجون ، فإنها لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فيفتح ثم يغلق عليهم. وتقدم ذكر قراءة التخفيف والتشديد في فتحت وأبوابها سبعة ، كما ذكر في سورة الحجر. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) ، على سبيل التقريع والتوبيخ ، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) : أي من جنسكم ، تفهمون ما ينبئونكم به ، وسهل عليكم مراجعتهم. وقرأ ابن هرمز : تأتكم بتاء التأنيث ؛ والجمهور : بالياء. (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) : أي الكتب المنزلة للتبشير والنذارة ، (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) : وهو يوم القيامة ، وما يلقى فيه المسمى من العذاب ، (قالُوا بَلى) : أي قد جاءتنا ، وتلوا وأنذروا ، وهذا اعتراف بقيام الحجة عليهم ، (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١). (عَلَى الْكافِرِينَ) : وضع الظاهر موضع المضمر ، أي علينا ، صرحوا بالوصف الموجب لهم العقاب.

ولما فرغت محاورتهم مع الملائكة ، أمروا بدخول النار.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) : عبر عن الإسراع بهم إلى الجنة مكرمين بالسوق ، والمسوق دوابهم ، لأنهم لا يذهبون إليها إلا راكبين. ولمقابلة قسيمهم ساغ لفظ السوق ، إذ لو لم يتقدم لفظ وسيق لعبر بأسرع ، وإذا شرطية وجوابها قال الكوفيون : وفتحت ، والواو زائدة ؛ وقال غيره محذوف. قال الزمخشري : وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة ، فدل على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وحق موقعه ما بعد

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨.


خالدين. انتهى. وقدره المبرد بعد خالدين سعدوا. وقيل الجواب : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) ، على زيادة الواو ، قيل : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها). ومن جعل الجواب محذوفا ، أو جعله : (وَقالَ لَهُمْ) ، على زيادة الواو ؛ وجعل قوله : وفتحت جملة حالية ، أي وقد فتحت أبوابها لقوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (١). وناسب كونها حالا أن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من تجيء إليها ، بخلاف أبواب السجون. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : يحتمل أن يكون تحية منهم عند ملاقاتهم ، وأن كون خبرا بمعنى السلامة والأمن. (طِبْتُمْ) : أي أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء. (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) : أي مقدرين الخلود.

(وَقالُوا) ، أي الداخلون ، الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) : أي ملكناها نتصرف فيها كما نشاء ، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه. وقيل : ورثوها من أهل النار ، وهي أرض الجنة ، ويبعد قول من قال هي أرض الدنيا ، قاله قتادة وابن زيد والسدي. (نَتَبَوَّأُ) منها ، (حَيْثُ نَشاءُ) : أي نتخذ أمكنة ومساكن. والظاهر أن قوله : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) : أي بطاعة الله هذا الأجر من كلام الداخلين. وقال مقاتل : هو من كلام الله تعالى. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) : الخطاب للرسول حافين. قال الأخفش : واحدهم حاف. وقال الفراء : لا يفرد. وقيل : لأن الواحد لا يكون حافا ، إذ الحفوف : الإحداق بالشيء من حول العرش. قال الأخفش : من زائدة ، أي حافين حول العرش ؛ وقيل : هي لابتداء الغاية. والظاهر عود الضمير من بينهم على الملائكة ، إذ ثوابهم ، وإن كانوا معصومين ، يكون على حسب تفاضل مراتبهم. فذلك هو القضاء بينهم بالحق ؛ وقيل : ضمير (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). الظاهر أن قائل ذلك هم من ذوات بينهم المخاطبة من الداخلين الجنة ومن خزنتها ، ومن الملائكة الحافين حول العرش ، إذ هم في نعم سرمدي منجاة من عذاب الله. وقال الزمخشري : المقضي بينهم ، إما جميع العباد ، وإما الملائكة ، كأنه قيل : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ). وقالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على إفضاله وقضائه بيننا بالحق ، وأنزل كل منا منزلة التي هي حقه. وقال ابن عطية : وقيل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خاتمة المجالس المجتمعات في العلم.

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٥٠.


سورة غافر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ


الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي


يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ


أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ


جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ


مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)

أزف الشيء : قرب ، قال الشاعر :

أزف الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

التباب : الخسران ، السلسلة معروفة ، السحب : الجر ، سجرت التنور : ملأنه نارا.

(حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ، وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

سبع الحواميم مكيات ، قالوا بإجماع. وقيل : في بعض آيات هذه السور مدني. قال ابن عطية : وهو ضعيف. وفي الحديث : «أن الحواميم ديباج القرآن» وفيه : «من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم» ، وفيه : «مثل الحواميم في القرآن مثل


الحبرات في الثياب وهذه الحواميم مقصورة على المواعظ والزجر وطرق الآخرة وهي قصار لا تلحق فيها سآمة».

ومناسبة أول هذه السورة لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر ما يؤول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين ، ذكر هنا أنه تعالى (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) ، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان ، وإلى الإقلاع عما هو فيه ، وأن باب التوبة مفتوح. وذكر شدة عقابه وصيرورة العالم كلهم فيه ليرتدع عما هو فيه ، وأن رجوعه إلى ربه فيجازيه بما يعمل من خير أو شر. وقرىء : بفتح الحاء ، اختيار أبي القاسم بن جبارة الهذلي ، صاحب كتاب : (الكامل في القرآن) ، وأبو السمال : بكسرها على أصل التقاء الساكنين ، وابن أبي إسحاق وعيسى : بفتحها ، وخرج على أنها حركة التقاء الساكنين ، وكانت فتحة طلبا للخفة كأين ، وحركة إعراب على انتصابها بفعل مقدر تقديره : اقرأ حم. وفي الحديث : «أن أعرابيا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حم ما هو؟ فقال : أسماء وفواتح سور» ، وقال شريح بن أبي أوفى العبسي :

يذكرني حاميم والرمح شاجر

فهلا تلا حاميم قبل التقدم

وقال الكميت :

وجدنا لكم في آل حميم آية

تأولها منا تقي ومعرب

أعربا حاميم ، ومنعت الصرف للعلمية ، أو العلمية وشبه العجمة ، لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب ، وإنما وجد ذلك في العجم ، نحو : قابيل وهابيل. وتقدم فيما روي في الحديث جمع حم على الحواميم ، كما جمع طس على الطواسين. وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه ابن منصور اللغوي أنه قال : من الخطأ أن تقول : قرأت الحواميم ، وليس من كلام العرب ؛ والصواب أن يقول : قرأت آل حم. وفي حديث ابن مسعود : «إذا وقعت في آل حميم وقعت في روضات دمثات» انتهى. فإن صح من لفظ الرسول أنه قال : «الحواميم كان حجة على من منع ذلك» ، وإن كان نقل بالمعنى ، أمكن أن يكون من تحريف الأعاجم. ألا ترى لفظ ابن مسعود : «إذا وقعت في آل حميم» ، وقول الكميت : وجدنا لكم في آل حاميم؟ وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة في أول البقرة ، وقد زادوا في حاميم أقوالا هنا ، وهي مروية عن السلف ، غنينا عن ذكرها ، لاضطرابها وعدم الدليل على صحة شيء منها.

فإن كانت حم اسما للسورة ، كانت في موضع رفع على الابتداء ، وإلا فتنزيل مبتدأ ،


ومن الله الخبر ، أو خبر ابتداء ، أي هذا تنزيل ، ومن الله متعلق بتنزيل. و (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : صفتان دالتان على المبالغة في القدرة والغلبة والعلم ، وهما من صفات الذات. وقال الزجاج : غافر وقابل صفتان ، وشديد بدل. انتهى. وإنما جعل غافر وقابل صفتين وإن كانا اسمي فاعل ، لأنه فهم من ذلك أنه لا يراد بهما التجدد ولا التقييد بزمان ، بل أريد بهما الاستمرار والثبوت ؛ وإضافتهما محضة فيعرف ، وصح أن يوصف بهما المعرفة ، وإنما أعرب (شَدِيدِ الْعِقابِ) بدلا ، لأنه من باب الصفة المشبهة ، ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة ، وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة ، إذا أضيف إلى معرفة ، جاز أن ينوي بإضافته التمحض ، فيتعرف وينعت به المعرفة ، إلا ما كان من باب الصفة المشبهة ، فإنه لا يتعرف. وحكى صاحب المقنع عن الكوفيين أنهم أجازوا في حسن الوجه وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة ، قال : وذلك خطأ عند البصريين ، لأن حسن الوجه نكرة ، وإذا أردت تعريفه أدخلت فيه أل. وقال أبو الحجاج الأعلم : لا يبعد أن يقصد بحسن الوجه التعريف ، لأن الإضافة لا تمنع منه. انتهى ، وهذا جنوح إلى مذهب الكوفيين.

وقد جعل بعضهم (غافِرِ الذَّنْبِ) وما بعده أبدالا ، اعتبارا بأنها لا تتعرف بالإضافة ، كأنه لا حظ في غافر وقابل زمان الاستقبال. وقيل : غافر وقابل لا يراد بهما المضي ، فهما يتعرفان بالإضافة ويكونان صفتين ، أي إن قضاءه بالغفران وقبول التوب هو في الدنيا. قال الزمخشري : جعل الزجاج (شَدِيدِ الْعِقابِ) وحده بدلا بين الصفات فيه نبو ظاهر ، والوجه أن يقال : لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة ، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن ، فهي محكوم عليها أنها من الرجز ، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل ، ولا نبو في ذلك ، لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل. وقوله : فقد آذنت بأن كلها أبدال تركيب غير عربي ، لأنه جعل فقد أذنت جواب لما ، وليس من كلامهم : لما قام زيد فقد قام عمرو ، وقوله : بأن كلها أبدال فيه تكرار الأبدال ، أما بدل البدل عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال ، وأما بدل كل من كل ، وبدل بعض من كل ، وبدل اشتمال ، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها ، أو منعه ، إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر ، وذلك في قول الشاعر :

فإلى ابن أم أناس ارحل ناقتي

عمرو فتبلغ ناقتي أو تزحف

ملك إذا نزل الوفود ببابه

عرفوا موارد مزنه لا تنزف


قال : فملك بدل من عمرو ، بدل نكرة من معرفة ، قال : فإن قلت : لم لا يكون بدلا من ابن أم أناس؟ قلت : لأنه قد أبدل منه عمرو ، فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى ، لأنه قد طرح. انتهى. فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ، ويتحد المبدل منه ؛ ودل على أن البدل من البدل جائز ، وقوله : جاءت تفاعيلها ، هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعول أو تفعيل ، وليس شيء من هذه الأوزان يكون معدولا في آخر العروض ، بل أجزاؤها منحصرة ، ليس منها شيء من هذه الأوزان ، فصوابه أن يقول : جاءت أجزاؤها كلها على مستفعلن. وقال سيبويه أيضا : ولقائل أن يقول هي صفات ، وإنما حذفت الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا ، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه من عنادليه ، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع. على أن الخليل قال في قولهم : لا يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك ، ويحسن بالرجل خير منك أن يفعل ، على نية الألف واللام ، كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام. ومما يسهل ذلك أمن اللبس وجهالة الموصوف. انتهى. ولا ضرورة إلى اعتقاد حذف الألف واللام من شديد العقاب ، وترك ما هو أصل في النحو ، وتشبيه بنادر مغير عن القوانين من تثنية الوتر للشفع ، وينزه كتاب الله عن ذلك كله.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يقال قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة ، وعلى ما لا شيء أدهى منه ، وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. انتهى. وأجاز مكي في غافر وقابل البدل حملا على أنهما نكرتان لاستقبالهما ، والوصف حملا على أنهما معرفتان لمضيهما. وقال أبو عبد الله الرازي : لا نزاع في جعل غافر وقابل صفة ، وإنما كانا كذلك ، لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار ، وكذلك شديد العقاب تفيد ذلك ، لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد ، فمعناه : كونه بحيث شديد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبدا ، لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن. انتهى. وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ، ولا نظر فيه ، ويلزمه أن يكون حكيم عليم من قوله : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (١) ، ومليك مقتدر من قوله : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٢) ، معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد ، ولأنها صفات لم تحصل بعد أن لم تكن ، ويكون تعريف صفات بأل وتنكيرها سواء ، وهذا لا يذهب إليه مبتدىء في علم النحو ، فضلا عمن صنف فيه ، وقدم على تفسير كتاب الله.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦.

(٢) سورة القمر : ٥٤ / ٥٥.


وتلخص من هذا الكلام المطوّل أن غافر الذنب وما عطف عليه وشديد العقاب أوصاف ، لأن المعطوف على الوصف وصف ، والجميع معارف على ما تقرر أو أبدال ، لأن المعطوف على البدل بدل لتنكير الجميع. أو غافر وقابل وصفان ، وشديد بدل لمعرفة ذينك وتنكير شديد. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما بال الواو في قوله : (وَقابِلِ التَّوْبِ)؟ قلت : فيها نكتة جليلة ، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين ، بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول. انتهى. وما أكثر تلمح هذا الرجل وشقشقته ، والذي أفاد أن الواو للجمع ، وهذا معروف من ظاهر علم النحو. وقال صاحب الغنيان : وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ، وقطع شديد العقاب عنهما فلم يعطف لانفراده. انتهى ، وهي نزغة اعتزالية. ومذهب أهل السنة جواز غفران الله للعاصي ، وإن لم يتب إلا الشرك. والتوب يحتمل أن يكون كالذنب ، اسم جنس ؛ ويحتمل أن يكون جمع توبة ، كبشر وبشرة ، وساع وساعة. والظاهر من قوله : (وَقابِلِ التَّوْبِ) أن توبة العاصي بغير الكفر ، كتوبة العاصي بالكفر مقطوع بقبولها. وذكروا في القطع بقبول توبة العاصي قولين لأهل السنة.

ولما ذكر تعالى شدة عقابه أردفه بما يطمع في رحمته ، وهو قوله : (ذِي الطَّوْلِ) ، فجاء ذلك وعيدا اكتنفه وعدان. قال ابن عباس : الطول : السعة والغنى ؛ وقال قتادة : النعم ؛ وقال ابن زيد : القدرة ، وقوله : طوله ، تضعيف حسنات أوليائه وعفوه عن سيئاتهم.

ولما ذكر جملة من صفاته العلا الذاتية والفعلية ، ذكر أنه المنفرد بالألوهية ، المرجوع إليه في الحشر ؛ ثم ذكر حال من جادل في الكتاب ، وأتبع بذكر الطائعين من ملائكته وصالحي عباده فقال : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وجدالهم فيها قولهم : مرة سحر ، ومرة شعر ، ومرة أساطير الأولين ، ومرة إنما يعلمه بشر ، فهو جدال بالباطل ، وقد دل على ذلك بقوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) (١). وقال السدي : ما يجادل : أي ما يماري. وقال ابن سلام : ما يجحد. وقال أبو العالية : نزلت في الحارث بن قيس ، أحد المستهزئين. وأما ما يقع بين أهل العلم من النظر فيها ، واستيضاح معانيها ، واستنباط الأحكام والعقائد منها ، ومقارعة أهل البدع بها ، فذلك فيه الثواب الجزيل. ثم نهى السامع

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٥.


أن يغتر بتقلب هؤلاء الكفار في البلاد وتصرفاتهم فيها ، بما أمليت لهم من المساكن والمزارع والممالك والتجارات والمكاسب ، وكانت قريش تتجر في الشام والمين ؛ فإن ذلك وبال عليهم وسبب في إهلاكهم ، كما هلك من كان قبلهم من مكذبي الرسل.

وقرأ الجمهور : (فَلا يَغْرُرْكَ) ، بالفك ، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ زيد بن علي : وعبيد بن عمير : فلا يغرك ، بالإدغام مفتوح الراء ، وهي لغة تميم. ولما كان جدال الكفار ناشئا عن تكذيب ما جاء به الرسول ، عليه‌السلام ، من آيات الله ، ذكر من كذب قبلهم من الأمم السالفة ، وما صار إليه حالهم من حلول نقمات الله بهم ، ليرتدع بهم كفار من بعث الرسول ، عليه‌السلام ، إليهم ؛ فبدأ بقوم نوح ، إذ كان عليه‌السلام أول رسول في الأرض ، وعطف على قومه الأحزاب ، وهم الذين تحزبوا على الرسل. ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله ، ومنهم : عاد وثمود وفرعون وأتباعه ، وقدم الهم بالأخذ على الجدال بالباطل ، لأن الرسل لما عصمهم الله منهم أن يقتلوهم رجعوا إلى الجدال بالباطل. وقرأ الجمهور : (بِرَسُولِهِمْ) ؛ وقرأ عبد الله : برسولها ، عاد الضمير إلى لفظ أمة. (لِيَأْخُذُوهُ) : ليتمكنوا منه بحبس أو تعذيب أو قتل. وقال ابن عباس : ليأخذوه : ليملكوه ، وأنشد قطرب :

فأما تأخذوني تقتلوني

فكم من آخذ يهوى خلودي

ويقال للقتيل والأسير : أخيذ. وقال قتادة : (لِيَأْخُذُوهُ) : ليقتلوه ، عبر عن المسبب بالسبب. (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) : أي بما هو مضمحل ذاهب لا ثياب له. وقيل : الباطل : الكفر. وقيل : الشيطان. وقيل : بقولهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) (١). (لِيُدْحِضُوا) : ليزلقوا ، (بِهِ الْحَقَ) : أي الثابت الصدق. (فَأَخَذْتُهُمْ) : فأهلكتهم. (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) إياهم ، استفهام تعجيب من استئصالهم ، واستعظام لما حل بهم ، وليس استفهاما عن كيفية عقابهم ، وكانوا يمرون على مساكنهم ويرون آثار نعمة الله فيهم ؛ واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة لأنها فاصلة ، والأصل عقابي. (وَكَذلِكَ حَقَّتْ) : أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة ، كونهم من أصحاب النار ، من تقدم منهم ومن تأخر. و (أَنَّهُمْ) : بدل من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) ، فهي في موضع رفع ، ويجوز أن يكون التقدير لأنهم وحذف لام العلة. والمعنى : كما وجب إهلاك أولئك الأمم ، وجب إهلاك هؤلاء ، لأن الموجب لإهلاكهم وصف جامع لهم ، وهو كونهم من أصحاب النار. وفي مصحف

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ١٥.


عبد الله : وكذلك سبقت ، وهو تفسير معنى ، لا قراءة. وقرأ ابن هرمز ، وشيبة ، وابن القعقاع ، ونافع ، وابن عامر : كلمات على الجمع ؛ وأبو رجاء ، وقتادة ، وباقي السبعة : على الإفراد.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ، رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ، قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ، ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ).

لما ذكر جدال الكفار في آيات الله وعصيانهم ، ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه ، وهم حمله العرش ، (وَمَنْ حَوْلَهُ) ، وهم الحافون به من الملائكة. وذكروا من وصف تلك الجملة وعظم خلقهم ، ووصف العرش ، ومن أي شيء خلق ، والحجب السبعينيات التي اختلفت أجناسها ، قالوا : احتجب الله عن العرش وعن حامليه ، والله أعلم به على أن قدرته تعالى محتملة لكل ما ذكروه مما لا يقتضي تجسيما ، لكنه يحتاج إلى نقل صحيح. وقرأ الجمهور : (الْعَرْشَ) بفتح العين ؛ وابن عباس وفرقة : بضمها ، كأنه جمع عرش ، كسقف وسقف ، أو يكون لغة في العرش.

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : أي ينزهونه عن جميع النقائص ، (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : بالثناء عليه بأنه المنعم على الإطلاق. والتسبيح : إشارة إلى الإجلال ؛ والتحميد : إشارة إلى الإكرام ، فهو قريب من قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (١) ، ونظيره : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) (٢) ؛ وقولهم : ونحن نسبح بحمدك. (وَيُؤْمِنُونَ) : أي ويصدقون بوجوده تعالى وبما وصف به نفسه من صفاته العلا ، وتسبيحهم إياه يتضمن الإيمان. قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٧٨.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٧٥.


الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمالهم الخير بقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) ، فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى ، وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب. ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا ، وأنه منزه عن صفات الإجرام.

وقد روعي التناسب في قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم ، وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة ، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن ، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان ، ولا بين سماء وأرض قط ثم لما جاء جامع الإيمان ، جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض ، قال تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٢). انتهى ، وهو كلام حسن. إلا أن قوله : إن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير فيه نظر ، وقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) تخصيص لعموم قوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ). وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغش العباد للعباد الشياطين ، وتلا هذه الآية. انتهى. وينبغي أن يقال : أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة. (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) : أي يقولون : ربنا واحتمل هذا المحذوف بيانا ليستغفرون ، فيكون في محل رفع ، وأن يكون حالا ، فيكون في موضع نصب. وكثيرا ما جاء النداء بلفظ ربنا ورب ، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي رباه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه ، فهو جدير بأن لا يناديه إلا بلفظ الرب. وانتصب رحمة وعلما على التمييز ، والأصل : وسعت رحمتك كل شيء ، وعلمك كل شيء ؛ وأسند الوسع إلى صاحبها مبالغة ، كأن ذاته هي الرحمة والعلم ، وقد وسع كل شيء. وقدم الرحمة ، لأنهم بها يستمطرون إحسانه ويتوسلون بها إلى حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة.

__________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٧.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥.


ولما حكى تعالى عنهم كيفية ثنائهم عليه ، وأخبر باستغفارهم ، وهو قولهم : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ). وطلب المغفرة نتيجة الرحمة ، وللذين تابوا يتضمن أنك علمت توبتهم ، فهما راجعان إلى قوله : (رَحْمَةً وَعِلْماً) ، و (اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) ، وهي سبيل الحق التي نهجتها لعبادك ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) : الذي لا تغالب ، (الْحَكِيمُ) : الذي يضع الأشياء مواضعها التي تليق بها. ولما طلب الغفران يتضمن إسقاط العذاب ، أردفوه بالتضرع بوقايتهم العذاب على سبيل المبالغة والتأكيد ، فقالوا : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ، وطلب المغفرة ، ووقاية العذاب للتائب الصالح ، وقد وعد بذلك الوعد الصادق بمنزلة الشفاعة في زيادة الثواب والكرامة.

ولما سألوا إزالة العقاب ، سألوا اتصال الثواب ، وكرر الدعاء بربنا فقالوا : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ). وقرأ الجمهور : جنات جمعا ؛ وزيد بن علي ، والأعمش : جنة عدن بالإفراد ، وكذا في مصحف عبد الله ، وتقدم الكلام في إعراب التي في قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) (١) في سورة مريم. وقرأ ابن أبي عبلة : صلح بضم اللام ، يقال : صلح فهو صليح وصلح فهو صالح. وقرأ عيسى : وذريتهم ، بالإفراد ؛ والجمهور بالجمع. وعن ابن جبير في تفسير ذلك أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول : أين أبي؟ أين أمي؟ أين ابني؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحه ولتنبيهه عليه وطلبه إياهم ، وهذه دعوة الملائكة. انتهى. وإذا كان الإنسان في خير ، ومعه عشيرته وأهله ، كان أبهج عنده وأسر لقلبه. والظاهر عطف ومن على الضمير في وأدخلهم ، إذ هم المحدث عنهم والمسئول لهم. وقال الفراء ، والزجاج : نصبه من مكانين : إن شئت على الضمير في (وَأَدْخِلْهُمْ) ، وإن شئت على الضمير في (وَعَدْتَهُمْ).

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) : أي امنعهم من الوقوع فيها حتى لا يترتب عليها جزاؤها ، أو وقهم جزاء السيئات التي اجترحوها ، فحذف المضاف ولا تكرار في هذا ، وقوله : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) لعدم توافق المدعو لهم أن الدعاء الأول للذين تابوا ، والثاني أنه لهم ولمن صلح من المذكورين ، أو لاختلاف الدعاءين إذا أريد بالسيئات أنفسها ، فذلك وقاية عذاب الجحيم ، وهذا وقاية الوقوع في السيئات. والتنوين في يومئذ تنوين العوض ، والمحذوف جملة عوض منها التنوين ، ولم تتقدم جملة يكون التنوين عوضا منها ، كقوله :

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦١.


(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (١) ، (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) (٢) أي حين إذ بلغت الحلقوم ، فلا بد من تقدير جملة يكون التنوين عوضا منها كقوله ، يدل عليها معنى الكلام ، وهي (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ) : أي جزاءها يوم إذ يؤاخذ بها (فَقَدْ رَحِمْتَهُ). ولم يتعرض أحد من المفسرين الذين وقفنا على كلامهم في الآية للجملة التي عوض منها التنوين في يومئذ ، وذلك إشارة إلى الغفران. ودخول الجنة ووقاية العذاب هو الفوز بالظفر العظيم الذي عظم خطره وجل صنعه.

ولما ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ، ذكر شيئا من أحوال الكافرين ، وما يجري لهم في الآخرة من اعترافهم بذنوبهم واستحقاقهم العذاب وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا. ونداؤهم ، قال السدي : في النار. وقال قتادة : يوم القيامة ، والمنادون لهم الزبانية على جهة التوبيخ والتقريع. واللام في (لَمَقْتُ) لام الابتداء ولام القسم ، ومقت مصدر مضاف إلى الفاعل ، التقدير : لمقت الله إياكم ، أو لمقت الله أنفسكم ، وحذف المفعول لدلالة ما بعده عليه في قوله : (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ). والظاهر أن مقت الله إياهم هو في الدنيا ، ويضعف أن يكون في الآخرة ، كما قال بعضهم لبقاء (إِذْ تُدْعَوْنَ) ، مفلتا من الكلام ، لكونه ليس له عامل تقدم ، ولا مفسر لعامل. فإذا كان المقت السابق في الدنيا ، أمكن أن يضمر له عامل تقديره : مقتكم إذ تدعون. وقال الزمخشري : وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول ، والمعنى : أنه يقال لهم يوم القيامة : إن الله مقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان ، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر ، أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار ، إذ أوقعتكم فيها بأتباعكم هواهن. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال. وأخطأ في قوله : (إِذْ تُدْعَوْنَ) منصوب بالمقت الأول ، لأن المقت مصدر ، ومعموله من صلته ، ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته ، وقد أخبر عنه بقوله : (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، وهذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تخفى على المبتدئين ، فضلا عما تدعي العجم أنه في العربية شيخ العرب والعجم.

ولما كان الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، لا يجوز قدرنا العامل فيه مضمر ، أي مقتكم إذ تدعون ، وشبيهه قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٣). قدروا العامل برجعه (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) للفصل ب (لَقادِرٌ) بين المصدر ويوم. واختلاف زماني

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٨٣.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٨٤.

(٣) سورة الطارق : ٨٦ / ٨ ـ ٩.


المقتين الأول في الدنيا والآخرة هو قول مجاهد وقتادة وابن زيد والأكثرين ، وتقدم لنا أن منهم من قال في الآخرة ، وهو قول الحسن. قال الزمخشري : وعن الحسن لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا : (لَمَقْتُ اللهِ). وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ، كقوله تعالى : (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (١) ، و (إِذْ تُدْعَوْنَ) تعليل. انتهى. وكان قوله : (إِذْ تُدْعَوْنَ) تعليل من كلام الزمخشري. وقال قوم : إذ تدعون معمول ، لأذكر محذوفة ، ويتجه ذلك على أن يكون مقت الله إياهم في الآخرة ، على قول الحسن ، قيل لهم ذلك توبيخا وتقريعا وتنبيها على ما فاتهم من الإيمان والثواب. ويحتمل أن يكون قوله : من مقت أنفسكم ، أن كل واحد يمقت نفسه ، أو أن بعضكم يمقت بعضا ، كما قيل : إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر ، والرؤساء يمقتون الأتباع ، وقيل : يمقتون أنفسهم حين قال لهم الشيطان : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ، والمقت أشد البغض ، وهو مستحيل في حق الله تعالى ، فمعناه : الإنكار والزجر.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) : وجه اتصال هذه بما قبلها أنهم كانوا ينكرون البعث ، وعظم مقتهم أنفسهم هذا الإنكار ، فلما مقتوا أنفسهم ورأوا حزنا طويلا رجعوا إلى الإقرار بالبعث ، فأقروا أنه تعالى أماتهم اثنتين وأحياهم اثنتين تعظيما لقدرته وتوسلا إلى رضاه ، ثم أطمعوا أنفسهم بالاعتراف بالذنوب أن يردوا إلى الدنيا ، أي إن رجعنا إلى الدنيا ودعينا للإيمان بادرنا إليه. وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو مالك : موتهم كونهم ماء في الأصلاب ، ثم إحياؤهم في الدنيا ، ثم موتهم فيها ، ثم إحياؤهم يوم القيامة. وقال السدي : إحياؤهم في الدنيا ، ثم إماتتهم فيها ، ثم إحياؤهم في القبر لسؤال الملكين ، ثم إماتتهم فيه ، ثم إحياؤهم في الحشر. وقال ابن زيد : إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ، ثم إماتتهم بعد ، ثم إحياؤهم في الدنيا ، ثم إماتتهم ، ثم إحياؤهم ، فعلى هذا والذي قبله تكون ثلاثة إحياءات ، وهو خلاف القرآن. وقال محمد بن كعب : الكافر في الدنيا حي الجسد ، ميت القلب ، فاعتبرت الحالتان ، ثم إماتتهم حقيقة ، ثم إحياؤهم في البعث ، وتقدم الكلام في أول البقرة على الإماتتين والإحياءين في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (٢) الآية ، وكررنا ذلك هنا لبعد ما بين الموضعين. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح أن يسمي خلقهم أمواتا إماتة؟ قلت : كما صح أن يقول : سبحان من

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٨.


صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل ، وقولك للحفار ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ، ولا من صغر إلى كبر ، ولا من ضيق إلى سعة ، ولا من سعة إلى ضيق ، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة ، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين ، وهو متمكن منهما على السواء ، فقد صرف المصنوع إلى الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه. انتهى. يعني أن خلقهم أمواتا ، كأنه نقل من الحياة وهو الجائز الآخر. وظاهر (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أنه متسبب عن قبولهم.

(رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) ، وثم محذوف ، أي فعرفنا قدرتك على الإماتة والإحياء ، وزال إنكارنا للبعث ، (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) السابقة من إنكار البعث وغيره. (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) : أي سريع أو بطيء من النار ، (مِنْ سَبِيلٍ) : وهذا سؤال من يئس من الخروج ، ولكنه تعلل وتحير. (ذلِكُمْ) : الظاهر أن الخطاب للكفار في الآخرة ، والإشارة إلى العذاب الذي هم فيه ، أو إلى مقتهم أنفسهم ، أو إلى المنع من الخروج والزجر والإهانة ، احتمالات. قوله. وقيل : الخطاب لمحاضري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير في فإنه ضمير الشأن. (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) : أي إذا أفرد بالإلهية ونفيت عن سواه ، (كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) : أي ذكرت اللات والعزى وأمثالها من الأصنام صدقتم بألوهيتها وسكنت نفوسكم إليها. (فَالْحُكْمُ) بعذابكم ، (لِلَّهِ) ، لا لتلك الأصنام التي أشركتمها مع الله ، (الْعَلِيِ) عن الشرك ، (الْكَبِيرِ) : العظيم الكبرياء. وقال محمد بن كعب : لأهل النار خمس دعوات ، يكلمهم الله في الأربعة ، فإذا كانت الخامسة سكتوا. (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) الآية ، وفي إبراهيم : (رَبَّنا أَخِّرْنا) (١) الآية ، وفي السجدة : (رَبَّنا أَبْصَرْنا) (٢) الآية ، وفي فاطر : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) (٣) الآية ، وفي المؤمنون : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) (٤) الآية ، فراجعهم اخسؤا فيها ولا تكلمون ، قال : فكان آخر كلامهم ذلك.

ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين ، أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ، ليصير ذلك دليلا على أنه لا يجوز جعل الأحجار المنحوتة والخشب المعبودة شركاء لله ، فقال : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) ، أيها الناس ، ويشمل آيات قدرته من الريح السحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها من الآثار العلوية ، وآيات كتابه المشتمل

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٤.

(٢) سورة السجدة : ٣٢ / ١٢.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٣٧.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٦.


على الأولين والآخرين ، وآيات الإعجاز على أيدي رسله. وهذه الآيات راجعة إلى نور العقل الداعي إلى توحيد الله. ثم قال : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) ، وهو المطر الذي هو سبب قوام بنية البدن ، فتلك الآيات للأديان كهذا الرزق للأبدان. (وَما يَتَذَكَّرُ) : أي يتعظ ويعتبر ، وجعله تذكرا لأنه مركوز في العقول دلائل التوحيد ، ثم قد يعرض الاشتغال بعبادة غير الله فيمنع من تجلى نور العقل ، فإذا تاب إلى الله تذكر.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ، يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ، الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ، وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ، وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ).

الأمر بقوله : (فَادْعُوا اللهَ) للمنيبين المؤمنين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي اعبدوه ، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك على كل حال ، حتى في حال غيظ أعدائكم المتمالئين عليكم وعلى استئصالكم. ورفيع : خبر مبتدأ محذوف. وقال الزمخشري : ثلاثة أخبار مترتبة على قوله : (الَّذِي يُرِيكُمْ) (١) ، أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا. انتهى. أما ترتبها على قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) ، فبعيد كطول الفصل ، وأما كونها أخبارا لمبتدأ محذوف ، فمبني على جواز تعدد الأخبار ، إذا لم تكن في معنى خبر واحد ، والمنع اختيار أصحابنا. وقرىء : رفيع بالنصب على المدح ، واحتمل أن يكون رفيع للمبالغة على فعيل من رافع ، فيكون الدرجات مفعولة ، أي رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة. وبه فسر ابن سلام ، أو عبر بالدرجات عن السموات ، أرفعها سماء فوق سماء ، والعرش فوقهنّ. وبه فسر ابن جبير ، واحتمل أن يكون رفيع فعيلا من رفع الشيء علا فهو رفيع ، فيكون من باب الصفة المشبهة ، والدرجات : المصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش ، أضيفت إليه دلالة على عزه وسلطانه ، أي درجات ملائكته ، كما وصفه بقوله :

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٢.


(ذِي الْمَعارِجِ) (١) ، أو يكون ذلك عبارة عن رفعه شأنه وعلو سلطانه. كما أن قوله : (ذُو الْعَرْشِ) عبارة عن ملكه ، وبنحوه فسر ابن زيد قال : عظيم الصفات. و (الرُّوحَ) : النبوة ، قاله قتادة والسدي ، كما قال : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٢) ؛ وعن قتادة أيضا : الوحي. وقال ابن عباس : القرآن ، وقال الضحاك : جبريل يرسله لمن يشاء. وقيل : الرحمة ، وقيل : أرواح العباد ، وهذان القولان ضعيفان ، والأولى الوحي ، استعير له الروح لحياة الأديان المرضية به ، كما قال : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٣). وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عامل لكل ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة. انتهى. وقال الزجاج : الروح : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال ميت. انتهى. وقال ابن عباس : (مِنْ أَمْرِهِ) : من قضائه. وقال مقاتل : بأمره ، وحكى الشعبي من قوله ، ويظهر أن من لابتداء الغاية.

وقرأ الجمهور : (لِيُنْذِرَ) مبنيا للفاعل ، (يَوْمَ) بالنصب ، والظاهر أن الفاعل يعود على الله ، لأنه هو المحدث عنه. واحتمل يوم أن يكون مفعولا على السعة ، وأن يكون ظرفا ، والمنذر به محذوف. وقرأ أبيّ وجماعة : كذلك ، إلا أنهم رفعوا يوم على الفاعلية مجازا. وقيل : الفاعل في القراءة الأولى ضمير الروح. وقيل : ضمير من. وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح : لينذر مبنيا للمفعول ، يوم التلاق ، برفع الميم. وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه : لتنذر بالتاء ، فقالوا : الفاعل ضمير الروح ، لأنها تؤنث ، أو فيه ضمير الخطاب الموصول. وقرىء : التلاق والتناد ، بياء وبغير ياء ، وسمي يوم التلاق لالتقاء الخلائق فيه ، قاله ابن عباس. وقال قتادة ومقاتل : يلتقي فيه الخالق والمخلوق. وقال ميمون بن مهران : يلتقي فيه الظالم والمظلوم. وحكى الثعلبي : يلتقي المرء بعلمه. وقال السدّي : يلاقي أهل السماء أهل الأرض. وقيل : يلتقي العابدون ومعبودهم. (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) : أي ظاهرون من قبورهم ، لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لأن الأرض إذ ذاك قاع صفصف ، ولا من ثياب ، لأنهم يحشرون حفاة عراة. ويوما بدل من يوم التلاق ، وكلاهما ظرف مستقبل. والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الاسمية ، لا يجوز : أجيئك يوم زيد ذاهب ، إجراء له مجرى إذا ، فكما لا يجوز أن تقول :

__________________

(١) سورة المعارج : ٧٠ / ٣.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٢.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.


أجيئك إذا زيد ذاهب ، فكذلك لا يجوز هذا. وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك ، فيتخرج قوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) على هذا المذهب. وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة ، والدلائل مذكورة في علم النحو. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف ، والعامل فيه قوله : (لا يَخْفى) ، وهي حركة إعراب لا حركة بناء ، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن ، كيومئذ. وقال الشاعر :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وكقوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) (١). وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن ، كما تقول : جئت يوم زيد أمير ، فلا يجوز البناء. انتهى. يعني أن ينتصب على الظرف قوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ). وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن ، فالبناء ليس متحتما ، بل يجوز فيه البناء والإعراب. وأما تمثيله بيوم ينفع ، فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب ، ومذهب الكوفيين جواز البناء والإعراب فيه. وأما إذا أضيف إلى جملة اسمية ، كما مثل من قوله : جئت يوم زيد أمير ، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب ، كما ذكر ، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء. وذهب إليه بعض أصحابنا ، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك. ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء ، وهذا قول لم يذهب إليه أحد ، فهو وهم. (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) : أي من سرائرهم وبواطنهم. قال ابن عباس : إذا هلك من في السموات ومن في الأرض ، فلم يبق إلا الله قال : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ، فلا يجيبه أحد ، فيرد على نفسه : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). وقال ابن مسعود : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد بأرض بيضاء ، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط ، فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فيجيبوا كلهم : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). روي أنه تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعا ، فيجيب نفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، فيجيب الناس ، وإنما خص التقرير باليوم ، وإن كان الملك له تعالى في ذلك اليوم وفي غيره ، لظهور ذلك للكفرة والجهلة ووضوحه يوم القيامة.

وإذا تأمّل من له مسكة عقل تسخير أهل السموات الأرض ، ونفوذ القضاء فيهم ، وتيقن أن لا ملك إلا لله ، ومن نتائج ملكه في ذلك اليوم جزاء كل نفس بما كسبت ، وانتفاء

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٩.


الظلم ، وسرعة الحساب ، إن حسابهم في وقت واحد لا يشغله حساب عن حساب. قال ابن عطية : وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبد. انتهى ، وهو على طريقة الأشعرية. وروي أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار. و (يَوْمَ الْآزِفَةِ) : هو يوم القيامة ، يأمر تعالى نبيه أن ينذر العالم ويحذرهم منه ومن أهواله ، قاله مجاهد وابن زيد. والآزفة صفة لمحذوف تقديره يوم الساعة الآزفة ، أو الطامة الآزفة ونحو هذا. ولما اعتقب كل إنذار نوعا من الشدة والخوف وغيرهما ، حسن التكرار في الآزفة القريبة ، كما تقدم ، وهي مشارفتهم دخول النار ، فإنه إذ ذاك تزيغ القلوب عن مقارها من شدة الخوف. وقال أبو مسلم : يوم الآزفة : يوم المنية وحضور الأجل ، يدل عليه أنه يعدل وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق ، ويوم بروزهم ، فوجب أن يكون هذا اليوم غيره ، وهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات ، يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب ، وأيضا فالصفات المذكورة بعد قوله : (يَوْمَ الْآزِفَةِ) ، لائقة بيوم حضور المنية ، لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب لعظم خوفه ، يكاد قلبه يبلغ حنجرته من شدّة الخوف ، ولا يكون له حميم ولا شفيع يرفع عنه ما به من أنواع الخوف.

(إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) ، قيل : يجوز أن يكون ذلك يوم القيامة حقيقة ، ويبقون أحياء مع ذلك بخلاف حالة الدنيا ، فإن من انتقل قلبه إلى حنجرته مات ، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ما يبلغون إليه من شدة الجزع ، كما تقول : كادت نفسي أن تخرج ، وانتصب كاظمين على الحال. قال الزمخشري : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى ، إذ المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ، ويجوز أن تكون حالا عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها ، مع بلوغها الحناجر. وإنما جمع الكاظم جمع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١). وقال : فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ويعضده قراءة من قرأ : كاظمون ، ويجوز أن يكون حالا عن قوله : أي وانذرهم مقدرين. وقال ابن عطية : كاظمين حال ، مما أبدل منه قوله تعالى : (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ) (٢) : أراد تشخص فيه أبصارهم ، وقال الحوفي : القلوب رفع بالإبتداء ، ولدي الحناجر الخبر متعلق بمعنى الاستقرار. وقال أبو البقاء : كاظمين حال من القلوب ، لأن المراد أصحابها. انتهى. (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) : أي مجب مشفق ، ولا شفيع يطاع في موضع الصفة لشفيع ، فاحتمل أن يكون في

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٢ ـ ٤٣.


موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع على الموضع ، واحتمل أن ينسحب النفي على الوصف فقط ، فيكون من شفيع ، ولكنه لا يطاع ، أي لا تقبل شفاعته ، واحتمل أن ينسحب النفي على الموصوف وصفته : أي لا شفيع فيطاع ، وهذا هو المقصود في الآية أن الشفيع عند الله إنما يكون من أوليائه تعالى ، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضاه الله وأيضا فيكون في زيادة التفضل والثواب ولا يمكن شيء من هذا في حق الكافر. وعن الحسن : والله لا يكون لهم شفيع البتة ، (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) ، كقوله :

وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

أي الناس الكرام ، وجوزوا أن تكون خائنة مصدرا ، كالعافية والعاقبة ، أي يعلم خيانة الأعين. ولما كانت الأفعال التي يقصد بها التكتم بدنية ، فأخفاها خائنة الأعين من كسر جفن وغمز ونظر يفهم معنى ويريد صاحب معنى آخر وقلب ، وهو ما تحتوي عليه الضمائر ، قسم ما ينكتم به إلى هذين القسمين ، وذكر أن علمه متعلق بهما التعلق التام. وقال الزمخشري : ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين ، لأن قوله : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) لا يساعد عليه. انتهى ، يعني أنه لا يناسب أن يكون مقابل المعنى إلا المعنى ، وتقدم أن الظاهر أن يكون التقدير الأعين الخائنة ، والظاهر أن قوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) الآية متصل بما قبله ، لما أمر بإنكاره يوم الآزفة ، وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم ، وأن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ، ولا من يشفع له.

ذكر اطلاعه تعالى على جميع ما يصدر من العبد ، وأنه مجازى بما عمل ، ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله مطلع على أعماله. وقال ابن عطية : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) متصل بقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) ، لأن سرعة حسابه للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ، ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون. وقالت فرقة : يعلم متصل بقوله : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) ، وهذا قول حسن ، يقويه تناسب المعنيين ، ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل. انتهى. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ)؟ قلت : هو خبر من أخبار هو في قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) (١) ، مثل : (يُلْقِي الرُّوحَ) ، ولكن من يلقي الروح قد علل بقوله : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) ، ثم أسقط

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٢.


وتذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله : (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) ، فبعد لذلك عن إخوانه. انتهى. وفي بعض الكتب المنزلة ، أنا مرصاد الهمم ، أنا العالم بحال الفكر وكسر العيون. وقال مجاهد : خائنة الأعين : مسارقة النظر إلى ما لا يجوز ؛ ومثل المفسرون خائنة الأعين بالنظر الثاني إلى حرمة غير الناظر ، وما تخفي الصدور بالنظر الأول الذي لا يمكن رفعه.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) : هذا يوجب عظيم الخوف ، لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال لا يقضي إلا بالحق في ما دق وجل خافه الخلق غاية. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) : هذا قدح في أصنامهم وتهكم بهم ، لأن ما لا يوصف بالقدرة ، لا يقال فيه يقضي ولا يقضى. وقرأ الجمهور : (يَدْعُونَ) بياء الغيبة لتناسب الضمائر الغائبة قبل. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع : بخلاف عنه ؛ وهشام : تدعون بتاء الخطاب ، أي قل لهم يا محمد. (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : تقرير لقوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) ، وعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون وتعريض بأصنامهم أنها لا تسمع ولا تبصر. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) : أحال قريشا على الاعتبار بالسير ، وجاز أن يكون فينظروا مجزوما عطفا على يسيروا وأن يكون منصوبا على جواب النفي ، كما قال :

ألم تسأل فتخبرك الرسوم

وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، وحمل الزمخشري هم على أن يكون فصلا ولا يتعين ، إذ يجوز أن يكون هم توكيدا لضمير كانوا. وقرأ الجمهور : منهم بضمير الغيبة ؛ وابن عامر : منكم بضمير الخطاب على سبيل الالتفات. (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) : معطوف على قوة ، أي مبانيهم وحصونهم وعددهم كانت في غاية الشدة. (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) (١). وقال الزمخشري : أو أرادوا أكثر آثارا لقوله :

متقلدا سيفا ورمحا

انتهى. أي : ومعتقلا رمحا ، ولا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة المعنى بدونه. (مِنْ واقٍ) : أي وما كان لهم من عذاب الله من ساتر بمنعهم منه. (ذلِكَ) : أي الأخذ ، وتقدم تفسير نظير ذلك.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ، إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٤٩.


كَذَّابٌ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ، وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ، وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ، وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ).

ابتدأ تعالى قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ، ووعيدا لقريش أن يحل بهم ما حل بفرعون وقومه من نقمات الله ، ووعد للمؤمنين بالظفر والنصر وحسن العاقبة. وآيات موسى عليه‌السلام كثيرة ، والذي تحدى به من المعجز العصا واليد. وقرأ عيسى : وسلطان بضم اللام ، والسلطان المبين : الحجة والبرهان الواضح. والظاهر أن قارون هو الذي ذكره تعالى في قوله : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) (١) ، وهو من بني إسرائيل. وقيل : هو غيره ، ونص على هامان وقارون لمكانتهما في الكفر ، ولأنهما أشهر أتباع فرعون. (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) : أي هذا ساحر ، لما ظهر على يديه من قلب العصا حية ، وظهور النور الساطع على يده ، كذاب لكونه ادعى أنه رسول من رب العالمين. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) : أي بالمعجزات والنبوة والدعاء إلى الإيمان بالله ، (قالُوا) ، أي أولئك الثلاثة ، (اقْتُلُوا). قال ابن عباس : أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا. انتهى. يريد أن هذا غير القتل الأول ، وإنما أمروا بقتل أبناء المؤمنين لئلا يتقوى بهم موسى عليه‌السلام ، وباستحياء النساء للاستخدام والاسترقاق ، ولم يقع ما أمروا به ولا تم لهم ، ولا أعانهم الله عليه. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) : أي في حيرة وتخبط ، لم يقع منه شيء ، ولا أنجح سعيهم ، وكانوا باشروا القتل أولا ، فنفذ قضاء الله في إظهار من خافوا هلاكهم على يديه. وقيل : كان فرعون قد كف عن قتل الأبناء ، فلما بعث موسى ، وأحس أنه قد وقع ما كان يحذره ، أعاد القتل عليهم غيظا وحنقا وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى ، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين معا.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) ، قال الزمخشري : وبعضه من كلام

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٦.


الحسن ، كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه ، هو أقل من ذلك وأضعف ، وما هو إلا بعض السحرة ، ومثله لا يقاومه إلا ساحر مثله ، ويقولون : إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس ، واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة. والظاهر أن فرعون ، لعنه الله ، كان قد استيقن أنه نبي ، وأن ما جاء به آيات وما هو سحر ، ولكن الرجل كان فيه خبث وجبروت ، وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحسن منه بأنه هو الذي يثل عرشه ، ويهدم ملكه؟ ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك. وقوله : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) : شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه ، كان قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه ، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع. وقال ابن عطية : الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى انهدّ ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره ، وذلك بين من غير ما موضع في قصتهما ، وفي ذلك على هذا دليلان : أحدهما : قوله (ذَرُونِي) ، فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم. والدليل الثاني : في مقالة المؤمن وما صدع به ، وأن مكاشفته لفرعون خير من مساترته ، وحكمه بنبوة موسى أظهر من تقريبه في أمره. وأما فرعون ، فإنه نحا إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي ، ومن ذلك قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) : أي إني لا أبالي من رب موسى ، ثم رجع إلى قومه يريهم النصحة والخيانة لهم ، فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) ، والدين : السلطان ، ومنه قول زهير :

لئن حللت بجوّ في بني أسد

في دين عمرو وحالت بيننا فدك

انتهى. وتبديل دينهم هو تغييره ، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام ، كما قال : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (١). أو أن يظهر الأرض الفساد ، وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب ، ويهلك الناس قتلا وضياعا ، فأخاف فساد دينكم ودنياكم معا. وبدأ فرعون بخوفه تغيير دينهم على تغيير دنياهم ، لأن حبهم لأديانهم فوق حبهم لأموالهم. وقيل : (ذَرُونِي) يدل على أنهم كانوا يمنعونه من قتله ، إما لكون بعضهم كان مصدقا له فيتحيل في منع قتله ، وإما لما روي عن الحسن مما ذكر الزمخشري ، وإما الشغل قلب فرعون بموسى حتى لا يتفرغ لهم ، ويأمنوا من شره ؛ كما يفعلون مع الملك ، إذا خرج عليه خارجي شغلوه به حتى يأمنوا من شره. وقرأ الكوفيون : أو أن ، بترديد الخوف بين تبديل

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٢٧.


الدين أو ظهور الفساد. وقرأ باقي السبعة : وأن بانتصاب الخوف عليهما معا. وقرأ أنس بن مالك ، وابن المسيب ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والحسن ، والجحدري ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص : (يُظْهِرَ) من أظهر مبنيا للفاعل ، (الْفَسادَ) : نصبا. وقرأ باقي السبعة ، والأعرج ، والأعمش ، وابن وثاب ، وعيسى : يظهر من ظهر مبنيا للفاعل ، الفساد : رفعا. وقرأ مجاهد : يظهر بشد الظاء والهاء ، الفساد : رفعا. وقرأ زيد بن عليّ : يظهر : بضم الياء وفتح الهاء مبنيا للمفعول ، الفساد : رفعا.

ولما سمع موسى بمقالة فرعون ، استعاذ بالله من شر كل متكبر منكر للمعاد. وقال : (وَرَبِّكُمْ) : بعثا على الاقتداء به ، فيعوذون بالله ويعتصمون به ومن كل متكبر يشمل فرعون وغيره من الجبابرة ؛ وكان ذلك على طريق التعريض ، وكان أبلغ. والتكبر : تعاظم الإنسان في نفسه مع حقارته ، لأنه يفعل ولا يؤمن بيوم الحساب ، أي بالجزاء ، وكان ذلك آكد في جراءته ، إذ حصل له التعاظم في نفسه ، وعدم المبالاة بما ارتكب. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : عدت بالإدغام ؛ وباقي السبعة : بالإظهار. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، قيل : كان قبطيا ابن عم فرعون ، وكان يجري مجرى ولي العهد ، ومجرى صاحب الشرطة. وقيل : كان قبطيا ليس من قرابته. وقيل : قيل فيه من آل فرعون ، لأنه كان في الظاهر على دينه ودين أتباعه. وقيل : كان إسرائيليا وليس من آل فرعون ، وجعل آل فرعون متعلقا بقوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) ، لا في موضع الصفة لرجل ، كما يدل عليه الظاهر ، وهذا فيه بعد ، إذ لم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتجاسر عند فرعون بمثل ما تكلم به هذا الرجل. وقد رد قول من علق من آل فرعون بيكتم ، فإنه لا يقال : كتمت من فلان كذا ، إنما يقال : كتمت فلانا كذا ، قال تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (١) ، وقال الشاعر :

كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا

وهمين هما مستكنا وظاهرا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها

وورد هموم لن يجدن مصادرا

أي : كتمتك أحاديث نفس وهمين. قيل : واسمه سمعان. وقيل : حبيب. وقيل : حزقيل. وقرأ الجمهور : (رَجُلٌ) بضم الجيم. وقرأ عيسى ، وعبد الوارث ، وعبيد بن عقيل ، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو : بسكون ، وهي لغة تميم ونجد. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٢.


أَنْ يَقُولَ) : أي لأن يقول (رَبِّيَ اللهُ) ، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت لهم ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها ، وهي قوله : (رَبِّيَ اللهُ) ، مع أنه (قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي من عند من نسب إليه الربوبية ، وهو ربكم لا ربه وحده؟ وهذا استدراج إلى الاعتراف. وقال الزمخشري : ولك أن تقدر مضافا محذوفا ، أي وقت أن يقول ، والمعنى : أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره؟ انتهى. وهذا الذي أجازه من تقدير المضاف المحذوف الذي هو وقت لا يجوز ، تقول : جئت صياح الديك ، أي وقت صياح الديك ، ولا أجيء أن يصيح الديك ، نص على ذلك النحاة ، فشرط ذلك أن يكون المصدر مصرحا به لا مقدرا ، وأن يقول ليس مصدرا مصرحا به. (بِالْبَيِّناتِ) : بالدلائل على التوحيد ، وهي التي ذكرها في طه والشعراء حالة محاورته له في سؤاله عن ربه تعالى.

ولما صرح بالإنكار عليهم ، غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق ، وأدّى ذلك في صورة احتمال ونصيحة ، وبدأ في التقسيم بقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ، مداراة منه وسالكا طريق الإنصاف في القول ، وخوفا إذا أنكر عليهم قتله أنه ممن يعاضده ويناصره ، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره ، ويكون ذلك أدنى لتسليمهم. ومعنى (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) : أي لا يتخطاه ضرره. (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، وهو يعتقد أنه نبي صادق قطعا ، لكنه أتى بلفظ بعض لإلزام الحجة بأسرها في الأمر ، وليس فيه نفي أن يصيبهم كل ما يعدهم. وقالت فرقة : يصبكم بعض العذاب الذي يذكر ، وذلك كان في هلاكهم ، ويكون المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به ، وذلك هو بعض مما يعد ، لأنه عليه‌السلام وعدهم إن آمنوا بالنعمة ، وإن كفروا بالنقمة. وقالت فرقة : بعض الذي يعدكم عذاب الدنيا ، لأنه بعض عذاب الآخرة ، ويصيرون بعد ذلك إلى النار. وقال أبو عبيدة وغيره : بعض بمعنى كل ، وأنشدوا قول عمرو بن شسيم القطامي :

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقال الزمخشري : وذلك أنه حين فرض صادقا ، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد ، ولكنه أردفه (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه وافيا فضلا أن يتعصب له. فإن قلت : وعن أبي عبيدة أنه قسم البعض بالكل ، وأنشد بيت لبيد وهو :


تراك أمكنة إذا لم أرضها

ويريك من بعض النفوس حمامها

قلت : إن صحت الرواية عنه فقد حق في قول المازني في مسألة العافي كان أحفى من أن يفقه ما أقول له. انتهى ، ويعني أن أبا عبيدة خطأه الناس في اعتقاده أن بعضا يكون بمعنى كل ، وأنشدوا أيضا في كون بعض بمعنى كل قول الشاعر :

إن الأمور إذا الأحداث دبرها

دون الشيوخ في بعضها خللا

أي : إذا رأى الأحداث ، ولذلك قال دبرها ولم يقل دبروها ، راعى المضاف المحذوف. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) فيه : إشارة إلى علو شأن موسى ، عليه‌السلام ، وأن من اصطفاه الله للنبوة لا يمكن أن يقع منه إسراف ولا كذب ، وفيه تعريض بفرعون ، إذ هو غاية الإسراف على نفسه بقتل أبناء المؤمنين ، وفي غاية الكذب ، إذ ادّعى الإلهية والربوبية ، ومن هذا شأنه لا يهديه الله. وفي الحديث : «الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل يس ، ومؤمن آل فرعون ، وعليّ بن أبي طالب». وفي الحديث : «أنه عليه‌السلام ، طاف بالبيت ، فحين فرغ أخذ بمجامع ردائه ، فقالوا له : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال : أنا ذاك ، فقام أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، فالتزمه من ورائه وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم» ، رافعا صوته بذلك وعيناه تسفحان بالدموع حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق : أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرّا ، وأبو بكر قاله ظاهرا. وقال السدي : مسرف بالقتل. وقال قتادة : مسرف بالكفر. وقال صاحب التحرير والتحبير : هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب ، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى ، والقوم على تكذيبه ، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له ، وأنه من أتباعه ، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ، ولم يذكر اسمه ، بل قال رجلا يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له ، (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ، ولم يقل رجلا مؤمنا بالله ، أو هو نبي الله ، إذ لو قال شيئا من ذلك لعلموا أنه متعصب. ولم يقبلوا قوله ، ثم اتبعه بما بعد ذلك ، فقدم قوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً) ، موافقة لرأيهم فيه. ثم تلاه بقوله : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) ، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم ، لعلموا أنه متعصب ، وأنه يزعم أنه نبي ، وأنه يصدقه ، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه ، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق ، وهو قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). انتهى.

ثم قال : (يا قَوْمِ) نداء متلطف في موعظتهم. (لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) : أي


عالمين ، (فِي الْأَرْضِ) : في أرض مصر ، قد غلبتم بني إسرائيل فيها ، وقهرتموهم واستعبدتموهم ، وناداهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجهلها ، وهو من جهة شهواتهم ، وانتصب ظاهرين على الحال ، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور ، وذو الحال هو ضمير لكم. ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأس الله لم يجدوا ناصرا لهم ولا دافعا ، وأدرج نفسه في قوله : (يَنْصُرُنا) ، و (جاءَنا) لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه. وأقوال هذا المؤمن تدل على زوال هيبة فرعون من قبله ، ولذلك استكان فرعون وقال : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) : أي ما أشير عليكم إلا بقتله ، ولا أستصوب إلا ذلك ، وهذا قول من لا تحكم له ، وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد.

(وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) ، لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب ، بل كان خائفا وجلا ، وقد علم أن ما جاء به موسى عليه‌السلام حق ، ولكنه كان يتجلد ، ويرى ظاهره خلاف ما أبطن. وأورد الزمخشري وابن عطية وأبو القاسم الهذلي هنا أن معاذ بن جبل قرأ الرشاد بشد الشين. قال أبو الفتح : وهو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي رشد ، فهو كعباد من عبد. وقال الزمخشري : أو من رشد ، كعلام من علم. وقال النحاس : هو لحن ، وتوهمه من الفعل الرباعي ، ورد عليه أنه لا يتعين أن يكون من الرباعي ، بل هو من الثلاثي ، على أن بعضهم قد ذهب إلى أنه من الرباعي ، فبنى فعال من أفعل ، كدراك من أدرك ، وسآر من أسأر ، وجبار من أجبر ، وقصار من أقصر ، ولكنه ليس بقياس ، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة ، وفعال من الثلاثي مقيس فحمل عليه. وقال أبو حاتم : كان معاذ بن جبل يفسرها بسبيل الله. قال ابن عطية : ويبعد عندي على معاذ رضي‌الله‌عنه. وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله؟ وتعلق بناء اللفظ على هذا التأويل. انتهى. وإيراد الخلاف في هذا الحرف الذي هو من قول فرعون خطأ ، وتركيب قول معاذ عليه خطأ ، والصواب أن الخلاف فيه هو قول المؤمن : (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ). قال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له من شواذ القراءات ما نصه : معاذ بن جبل سبيل الرشاد ، الحرف الثاني بالتشديد ، وكذلك الحسن ، وهو سبيل الله تعالى الذي أوضح الشرائع ، كذلك فسره معاذ بن جبل ، وهو منقول من مرشد ، كدراك من مدرك ، وجبار من مجبر ، وفصار من مقصر عن الأمر ، ولها نظائر معدودة ، فأما قصار فهو من قصر من الثوب قصارة. وقال ابن خالويه ، بعد أن ذكر الخلاف في التناد وفي صد عن السبيل ما نصه : سبيل الرشاد بتشديد الشين ، معاذ بن جبل. قال ابن خالويه : يعني بالرشاد الله تعالى.


انتهى. فهذا لم يذكر الخلاف إلا في قول المؤمن : (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) ، فذكر الخلاف فيه في قول فرعون خطأ ، ولم يفسر معاذ بن جبل الرشاد أنه الله تعالى إلا في قول المؤمن ، لا في قول فرعون. قال ابن عطية : ذلك التأويل من قول فرعون وهم.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ، وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ، الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ، وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ ، وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ). الجمهور : على أن هذا المؤمن هو الرجل القائل : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) ، قص الله أقاويله إلى آخر الآيات. لما رأى ما لحق فرعون من الخور والخوف ، أتى بنوع آخر من التهديد ، وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من استئصال الهلاك حين كذبوا رسلهم ، وقويت نفسه حتى سرد عليه ما سرد ، ولم يهب فرعون. وقالت فرقة : بل كلام ذلك المؤمن قد تم ، وإنما أراد تعالى بالذي آمن بموسى ، عليه‌السلام ، واحتجوا بقوة كلامه ، وأنه جنح معهم بالإيمان ، وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك ، ولم يكن كلام الأول الاعلانية لهم ، وأفرد اليوم ، إما لأن المعنى مثل أيام الأحزاب ، أو أراد به الجمع ، أي مثل أيام الأحزاب لأنه معلوم أن كل حزب كان له يوم. و (الْأَحْزابِ) : الذين تحزبوا على أنبياء الله. و (مِثْلَ دَأْبِ) ، قال ابن عطية : بدل. وقال الزمخشري : عطف بيان. وقال الزجاج : مثل يوم حزب ودأب عادتهم وديدنهم في الكفر والمعاصي. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ، أي إن إهلاكه إياهم كان عدلا منه ، وفيه مبالغة في نفي الظلم ، حيث علقه بالإرادة. فإذا نفاه عن الإرادة ، كان نفيه عن الوقوع أولى وأحرى. ولما خوفهم أن يحل بهم في الدنيا ما حل بالأحزاب ، خوفهم أمر الآخرة فقال ، تعطفا لهم بندائهم : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) ، وهو


يوم الحشر. والتنادي مصدر تنادى القوم : أي نادى بعضهم بعضا. قال الشاعر :

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا

فقلت أعند الله ذلكم الردى

وسمي يوم التنادي ، إما لنداء بعضهم لبعض بالويل والثبور ، وإما لتنادي أهل الجنة وأهل النار على ما ذكر في سورة الأعراف ، وإما لأن الخلق ينادون إلى المحشر ، وإما لنداء المؤمن : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١) ، والكافر : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (٢). وقرأت فرقة : التناد ، بسكون الدال في الوصل أجراه مجرى الوقف وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وأبو صالح ، والكلبي ، والزعفراني ، وابن مقسم : التناد ، بتشديد الدال : من ندّ البعير إذا هرب ، كما قال : (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (٣) الآية. وقال ابن عباس وغيره في التناد ، خفيفة الدال : هو التنادي ، أي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا ، وأنهم يفرون على وجوههم للفزع التي نالهم ، وينادي بعضهم بعضا. وروي هذا التأويل عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التذكر بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة. انتهى. قال أمية بن أبي الصلت :

وبث الخلق فيها إذ دحاها

فهم سكانها حتى التنادي

وفي الحديث : «إن للناس جولة يوم القيامة يندّون» ، يظنون أنهم يجدون مهربا ؛ ثم تلا : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) ، قال مجاهد : معناه فارين. وقال السدّي : (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) في فراركم حتى تعذبوا في النار. وقال قتادة : ما لكم في الانطلاق إليها من عاصم ، أي مانع ، يمنعكم منها ، أو ناصر. ولما يئس المؤمن من قبولها قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ). ثم أخذ يوبخهم على تكذيب الرسل ، بأن يوسف قد جاءهم بالبينات. والظاهر أنه يوسف بن يعقوب ، وفرعون هو فرعون موسى ، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقيل : بل الجائي إليهم هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب ، وأن فرعون هو فرعون ، غير فرعون موسى. و (بِالْبَيِّناتِ) : بالمعجزات. فلم يزالوا شاكين في رسالته كافرين ، حتى إذا توفي ، (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً). وليس هذا تصديقا لرسالته ، وكيف وما زالوا في شك منه ، وإنما المعنى : لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق ، ففيه نفي الرسول ، ونفي بعثته. وقرىء : ألن يبعث ، بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي ، كأن بعضهم يقرر بعضا

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٩.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢٥.

(٣) سورة عبس : ٨٠ / ٣٤.


على نفي البعثة. (كَذلِكَ) : أي مثل إضلال الله إياكم ، أي حين لم تقبلوا من يوسف ، (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) : يعنيهم ، إذ هم المسرفون المرتابون في رسالات الأنبياء.

وجوزوا في (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أن تكون صفة لمن ، وبدلا منه : أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف ، أي جدال الذين يجادلون ، حتى يكون الضمير في (كَبُرَ) عائدا على ذلك أولا ، أو على حذف مضاف ، والفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من قوله : (يُجادِلُونَ) ، أو ضمير يعود على من على لفظها ، على أن يكون الذين صفة ، أو بدلا أعيد أولا على لفظ من في قوله : (هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). ثم جمع الذين على معنى من ، ثم أفرد في قوله : (كَبُرَ) على لفظ من. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) مبتدأ وبغير (سُلْطانٍ أَتاهُمْ) خبرا ، وفاعل (كَبُرَ) قوله : (كَذلِكَ) ، أي (كَبُرَ مَقْتاً) مثل ذلك الجدال ، و (يَطْبَعُ اللهُ) كلام مستأنف ، ومن قال (كَبُرَ مَقْتاً ، عِنْدَ اللهِ) جدالهم ، فقد حذف الفاعل ، والفاعل لا يصح حذفه. انتهى ، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح ، فكيف في كلام الله؟ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه. أما تفكيك الكلام ، فالظاهر أن بغير سلطان متعلق بيجادلون ، ولا يتعقل جعله خيرا للذين ، لأنه جار ومجرور ، فيصير التقدير : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) : كائنونن ، أو مستقرون ، (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) ، أي في غير سلطان ، لأن الباء إذ ذاك ظرفية خبر عن الجثة ، وكذلك في قوله (يَطْبَعُ) أنه مستأنف فيه تفكيك الكلام ، لأن ما جاء في القرآن من (كَذلِكَ يَطْبَعُ) ، أو نطبع ، إنما جاء مربوطا بعضه ببعض ، فكذلك هنا. وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه ، فجعل الكاف اسما فاعلا بكبر ، وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش ، ولم يثبت في كلام العرب ، أعني نثرها : جاءني كزيد ، تريد : مثل زيد ، فلم تثبت اسميتها ، فتكون فاعلة.

وأما قوله : ومن قال إلى آخره ، فإنّ قائل ذلك وهو الحوفي ، والظن به أنه فسر المعنى ولم يرد الإعراب. وأما تفسير الإعراب أن الفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون ، كما قالوا : من كذب كان شرا له ، أي كان هو ، أي الكذب المفهوم من كذب. والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر ، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون ، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه ، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب ، لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم ، وإبراز ذلك


في صورة تذكيرهم ، ولا يفجأهم بالخطاب. وفي قوله : (كَبُرَ مَقْتاً) ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم والشهادة على خروجه عن حدّ إشكاله من الكبائر. (كَذلِكَ) : أي مثل ذلك الطبع على قلوب المجادلين ، (يَطْبَعُ اللهُ) : أي يحتم بالضلالة ويحجب عن الهدى. وقرأ أبو عمرو بن ذكوان ، والأعرج ، بخلاف عنه : قلب بالتنوين ، وصف القلب بالتكبر والجبروت ، لكونه مركزهما ومنبعهما ، كما يقولون : رأت العين ، وكما قال : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (١) ، والإثم : الجملة ، وأجاز الزمخشري أن يكون على حذف المضاف ، أي على كل ذي قلب متكبر ، بجعل الصفة لصاحب القلب. انتهى ، ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف. وقرأ باقي السبعة : قلب متكبر بالإضافة ، والمضاف فيه العام عام ، فلزم عموم متكبر جبار. وقال مقاتل : المتكبر : المعاند في تعظيم أمر الله ، والجبار المسلط على خلق الله.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) ، أقوال فرعون : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) ، (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) ، (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) ، حيدة عن محاجة موسى ، ورجوع إلى أشياء لا تصح ، وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة ، والتعرف أن هلاكه وهلاك قومه على يد موسى ، وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى ، هذا على كثرة سفكه الدماء. وتقدم الكلام في الصرح في سورة القصص فأغنى عن إعادته. قال السدي : الأسباب : الطرق. وقال قتادة : الأبواب ؛ وقيل : عنى لعله يجد ، مع قربه من السماء ، سببا يتعلق به ، وما أدراك إلى شيء فهو سبب ، وأبهم أولا الأسباب ، ثم أبدل منها ما أوضحها. والإيضاح بعد الإبهام يفيد تفخيم الشيء ، إذ في الإبهام تشوق للمراد ، وتعجب من المقصود ، ثم بالتوضيح يحصل المقصود ويتعين. وقرأ الجمهور : فأطلع رفعا ، عطفا على أبلغ ، فكلاهما مترجي. وقرأ الأعرج ، وأبو حيوة ، وزيد بن علي ، والزعفراني ، وابن مقسم ، وحفص : فأطلع ، بنصب العين. وقال أبو القاسم بن جبارة ، وابن عطية : على جواب التمني. وقال الزمخشري : على جواب الترجي ، تشبيها للترجي بالتمني. انتهى. وقد فرق النحاة بين التمني والترجي ، فذكروا أن التمني يكون في الممكن والممتنع ، والترجي يكون في الممكن. وبلوغ أسباب السموات غير ممكن ، لكن فرعون أبرز ما لا يمكن في صورة الممكن تمويها على سامعيه. وأما النصب بعد الفاء في جواب الترجي فشيء أجازه الكوفيون ومنعه البصريون ، واحتج الكوفيون بهذه القراءة وبقراءة عاصم ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٣.


فتنفعه الذكرى في سورة عبس ، إذ هو جواب الترجي في قوله : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) (١). وقد تأولنا ذلك على أن يكون عطفا على التوهم ، لأن خبر لعل كثيرا جاء مقرونا بأن في النظم كثيرا ، وفي النثر قليلا. فمن نصب ، توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبرا كان منصوبا بأن ، والعطف على التوهم كثير ، وإن كان لا ينقاس ، لكن إن وقع شيء وأمكن تخريجه عليه خرج ، وأما هنا ، فأطلع ، فقد جعله بعضهم جوابا للأمر ، وهو قوله : (ابْنِ لِي صَرْحاً) ، كما قال الشاعر :

يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا

ولما قال : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) ، كان ذلك إقرارا بإله موسى ، فاستدرك هذا الإقرار بقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) : أي في ادعاء الإلهية ، كما قال في القصص : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢). (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك التزيين في إيهام فرعون أنه يطلع إلى إله موسى. (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ). وقرأ الجمهور : (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) مبنيا للمفعول ؛ وقرىء : زين مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور : (وَصُدَّ) مبنيا للفاعل : أي وصد فرعون ؛ والكوفيون : بضم الصاد مناسبا لزين مبنيا للمفعول ؛ وابن وثاب : بكسر الصاد ، أصله صدد ، نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها ؛ وابن أبي إسحاق ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة ، بفتح الصاد وضم الطاء ، منونة عطفا على (سُوءُ عَمَلِهِ). والتباب : الخسران ، خسر ملكه في الدنيا فيها بالغرق ، وفي الآخرة بخلود النار ، وتكرر وعظ المؤمن إثر كلام فرعون بندائه قومه مرتين ، متبعا كل نداء بما فيه زجر واتعاظ لو وجد من يقبل ، وأمر هنا باتباعه لأن يهديهم سبيل الرشاد. وقرأ معاذ بن جبل : بشد الشين ، وتقدم الكلام على ذلك. والرد على من جعل هذه القراءة في كلام فرعون ، وأجمل أولا في قوله : (سَبِيلَ الرَّشادِ) ، وهو سبيل الإيمان بالله واتباع شرعه. ثم فسر ، فافتتح بذم الدنيا وبصغر شأنها ، وأنها متاع زائل ، هي ومن تمتع بها ، وأن الآخرة هي دار القرار التي لا انفكاك منها ، إما إلى جنة ، وإما إلى نار. وكذلك قال : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها). وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، والأعمش ، والإخوان ، والصاحبان ، وحفص : (يَدْخُلُونَ) مبنيا للفاعل ، وباقي السبعة ، والأعرج ، والحسن ، وأبو جعفر ، وعيسى : مبنيا للمفعول.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ

__________________

(١) سورة عبس : ٨٠ / ٤.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٣٨.


بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ، لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ، فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ، فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ، وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ ، وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ ، قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

بدأ المؤمن بذكر المتسبب عن دعوتهم ، وأبدى التفاضل بينهما. ولما ذكر المسببين ، ذكر سببهما ، وهو دعاؤهم إلى الكفر والشرك ، ودعاؤه إياهم إلى الإيمان والتوحيد. وأتى بصيغة العزيز ، وهو الذي لا نظير له ، والغالب الذي العالم كلهم في قبضته يتصرف فيهم كما يشاء ، الغفار لذنوب من رجع إليه وآمن به ، وأوصل سبب دعائهم بمسببه ، وهو الكفر والنار ، وأخر سبب مسببه ليكون افتتاح كلامه واختتامه بما يدعو إلى الخير. وبدأ أولا بجملة اسمية ، وهو استفهام المتضمن التعجب من حالتهم ، وختم أيضا بجملة اسمية ليكون أبلغ في توكيد الأخبار. وجاء في حقهم (وَتَدْعُونَنِي) بالجملة الفعلية التي لا تقتضي توكيدا ، إذ دعوتهم باطلة لا ثبوت لها ، فتؤكد ، و (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) هي الأوثان ، أي لم يتعلق به علمي ، إذ ليس لها مدخل في الألوهية ولا لفرعون. قال الزمخشري : فإن قلت : لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت : لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له ، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو ، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. انتهى. وتقدم الكلام على لا جرم.

وقال الزمخشري هنا ، وروي عن العرب : لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء ، يريد لا بد ، وفعل وفعل أخوان ، كرشد ورشد ، وعدم وعدم. (أَنَّما) : أي أن الذي تدعونني إليه ، أي إلى عبادته ، (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) ، أي قدر وحق يجب أن يدعى إليه ، أو ليس له دعوة إلى نفسه ، لأن الجماد لا يدعو ، والمعبود بالحق يدعو العباد إلى طاعته ، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم. وقال الزجاج : المعنى ليس له استجابة دعوة توجب


الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة ، أو دعوة مستجابة جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة ، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة ، كما سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قوله : كما تدين تدان. وقال الكلبي : ليست له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة ، وكان فرعون أولا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام ، ثم دعاهم إلى عبادة البقر ، وكانت تعبد ما دامت شابة ، فإذا هزلت أمر بذبحها ودعا بأخرى لتعبد. فلما طال عليه الزمان قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١). ولما ذكر انتفاء دعوة ما عبد من دون الله وذكر أن مرد الجميع إلى الله ، أي إلى جزائه ، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) : وهم المشركون في قول قتادة ، والسفاكون للدماء بغير حلها في قول ابن مسعود ومجاهد. وقيل : من غلب شره خيره هو المسرف. وقال عكرمة : هم الجبارون المتكبرون. وختم المؤمن كلامه بخاتمة لطيفة توجب التخويف والتهديد وهي قوله : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) : أي إذا حل بكم عقاب الله. (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي) إلى قضاء الله وقدره ، لا إليكم ولا إلى أصنامكم ، وكانوا قد توعدوه. ثم ذكر ما يوجب التفويض ، وهو كونه تعالى بصيرا بأحوال العباد وبمقادير حاجاتهم.

قال مقاتل : لما قال هذه الكلمات ، قصدوا قتله ؛ فهرب هذا المؤمن إلى الجبل ، فلم يقدروا عليه. وقيل : لما أظهر إيمانه ، بعث فرعون في طلبه ألف رجل ؛ فمنهم من أدركه ، فذب السباع عنه وأكلتهم السباع ، ومنهم من مات في الجبال عطشا ، ومنهم من رجع إلى فرعون خائبا ، فاتهمه وقتله وصلبه. وقيل : نجا مع موسى في البحر ، وفر في جملة من فر معه. (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) : أي شدائد مكرهم التي تسوؤه ، وما هموا به من أنواع العذاب لمن خالفهم. (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) ، قال ابن عباس : هو ما حاق بالألف الذين بعثهم فرعون في طلب المؤمن ، من أكل السباع ، والموت بالعطش ، والقتل والصلب ، كما تقدم. وقيل : (سُوءُ الْعَذابِ) : هو الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. (النَّارُ) بدل من (سُوءُ الْعَذابِ) ، أو خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : ما سوء العذاب : قيل : النار ، أو مبتدأ خبره (يُعْرَضُونَ) ، ويقوي هذا الوجه قراءة من نصب ، أي تدخلون النار يعرضون عليها. وقال الزمخشري : ويجوز أن ينصب على الاختصاص.

والظاهر أن عرضهم على النار مخصوص بهذين الوقتين ، ويجوز أن يراد بذكر الطرفين الدوام في الدنيا ، والظاهر أن العرض خلاف الإحراق. وقال الزمخشري : عرضهم عليها : إحراقهم بها ، يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به. انتهى ،

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ٢٤.


والظاهر أن العرض هو في الدنيا. وروي ذلك عن الهذيل بن شرحبيل ، وعن ابن مسعود والسدي : أن أرواحهم في جوف طيور سود ، تروح بهم وتغدو إلى النار. وقال رجل للأوزاعي : رأيت طيورا بيضا تغدو من البحر ، ثم تروح بالعشي سودا مثلها ، فقال الأوزاعي : تلك التي في حواصلها أرواح آل فرعون ، يحرق رياشها وتسود بالعرض على النار. وقال محمد بن كعب وغيره : أراد أنهم يعرضون في الآخرة على تقدير ما بين الغدوّ والعشي ، إذ لا غدوّ ولا عشي في الآخرة ، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا. وعن ابن مسعود : تعرض أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار على النار بالغداة والعشي ، يقال : هذه داركم.

وفي صحيح البخاري ، ومسلم ، من حديث ابن عمر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة».

واستدل مجاهد ومحمد بن كعب وعكرمة ومقاتل بقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) : أي عند موتهم على عذاب القبر في الدنيا. والظاهر تمام الجملة عند قوله : (وَعَشِيًّا) ، وأن يوم القيامة معمول لمحذوف على إضمار القول ، أي ويوم القيامة يقال لهم : ادخلوا. وقيل : ويوم معطوف على وعشيا ، فالعامل فيه يعرضون ، وأدخلوا على إضمار الفعل. وقيل : العامل في يوم أدخلوا. وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعمش ، وابن وثاب ، وطلحة ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : أدخلوا ، أمرا للخزنة من أدخل. وعليّ ، والحسن ، وقتادة ، وابن كثير ، والعربيان ، وأبو بكر : أمرا من دخل آل فرعون أشد العذاب. قيل : وهو الهاوية. قال الأوزاعي : بلغنا أنهم ألفا ألف وستمائة ألف.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) : الظاهر أن الضمير عائد على فرعون. وقال ابن عطية : والضمير في قوله : (يَتَحاجُّونَ) لجميع كفار الأمم ، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون ، والعامل في إذ فعل مضمر تقديره واذكروا. وقال الطبري : وإذ هذه عطف على قوله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) ، وهذا بعيد. انتهى ، والمحاجة : التحاور بالحجة والخصومة. والضعفاء : أي في القدر والمنزلة في الدنيا. والذين استكبروا : أي عن الإيمان واتباع الرسل. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) : أي ذوي تبع ، فتبع مصدر أو اسم جمع لتابع ، كآيم وأيم ، وخادم وخدم ، وغائب وغيب. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) : أي حاملون عنا؟


فأجابوهم : (إِنَّا كُلٌّ فِيها) ، وأن حكم الله قد نفذ فينا وفيكم ، إنا مستمرون في النار. وقرأ ابن السميفع ، وعيسى بن عمران : كلا بنصب كل. وقال الزمخشري ، وابن عطية : على التوكيد لاسم إن ، وهو معرفة ، والتنوين عوض من المضاف إليه ، يريد : إنا كلنا فيها. انتهى. وخبر إن هو فيها ، ومن رفع كلا فعلى الابتداء ، وخبره فيها ، والجملة خبر إن. وقال ابن مالك في تصنيفه (تسهيل الفوائد) : وقد تكلم على كل ، ولا يستغنى بنية إضافته ، خلافا للفرّاء والزمخشري. انتهى ، وهذا المذهب منقول عن الكوفيين ، وقد رد ابن مالك على هذا المذهب بما قرره في شرحه (التسهيل). وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن يكون كلا حالا قد عمل فيها فيها؟ قلت : لا ، لأن الظرف لا يعمل ، والحال متقدمة ، كما يعمل في الظرف متقدما ، تقول : كل يوم لك ثوب ، ولا تقول : قائما في الدار زيد. انتهى. وهذا الذي منعه أجازه الأخفش إذا توسطت الحال ، نحو : زيد قائما في الدار ، وزيد قائما عندك ، والتمثيل الذي ذكره ليس مطابقا في الآية ، لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم ، وهو اسم إن ، وتوسطت الحال إذا قلنا إنها حال ، وتأخر العامل فيها ، وأما تمثيله بقوله : ولا تقول قائما في الدار زيد ، تأخر فيه المسند والمسند إليه ، وقد ذكر بعضهم أن المنع في ذلك إجماع من النحاة. وقال ابن مالك : والقول المرضي عندي أن كلا في القراءة المذكورة منصوب على أن الضمير المرفوع المنوي في فيها ، وفيها هو العامل ، وقد تقدمت الحال عليه مع عدم تصرفه ، كما قدمت في قراءة من قرأ : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (١). وفي قول النابغة الذبياني :

رهط ابن كوز محقبي أدراعهم

فيهم ورهط ربيعة بن حذار

وقال بعض الطائيين :

دعا فأجبنا وهو باديّ ذلة

لديكم فكان النصر غير قريب

انتهى. وهذا التخريج هو على مذهب الأخفش ، كما ذكرناه ، والذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن كلا بدل من اسم إن ، لأن كلا يتصرف فيهما بالابتداء ونواسخه وغير ذلك ، فكأنه قال : إن كلا بدل من اسم إن ، لأن كلا فيها : وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعا ويوما أجمعا على البدل ، مع أنهما لا يليان العوامل ، فإن يدعى في كل البدل أولى ، وأيضا فتنكير كل ونصبه حالا في غاية الشذوذ ، والمشهور أن كلا معرفة إذا قطعت عن الإضافة.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٧.


حكى : مررت بكل قائما ، وببعض جالسا في الفصيح الكثير في كلامهم ، وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم : مررت بهم كلا ، أي جميعا. فإن قلت : كيف يجعله بدلا ، وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين؟ قلت : مذهب الأخفش والكوفيين جوازه ، وهو الصحيح ، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف ، بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة ، جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب ، لا نعلم خلافا في ذلك ، كقوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) (١) ، وكقولك : مررت بكم صغيركم وكبيركم ، معناه : مررت بكم كلكم ، وتكون لنا عيدا كلنا. فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة ، فجوازه فيما دل على الإحاطة ، وهو كل أولى ، ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه ، لأنه بدل من ضمير المتكلم ، لأنه لم يتحقق مناط الخلاف.

ولما أجاب الضعفاء المستكبرون قالوا جميعا : (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) ، وأبرز ما أضيف إليه الخزنة ، ولم يأت ضميرا ، فكان يكون التركيب لخزنتها ، لما في ذكر جهنم من التهويل ، وفيها أطغى الكفار وأعتاهم. ولعل الكفار توهموا أن ملائكة جهنم الموكلين بعذاب تلك الطغاة هم أقرب منزلة عند الله من غيرهم من الملائكة الموكلين ببقية دركات النار ، فرجوا أن يجيبوهم ويدعوا لهم بالتخفيف ، فراجعتهم الخزنة على سبيل التوبيخ لهم والتقرير : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، فأجابوا بأنهم أتتهم ، (قالُوا) : أي الخزنة ، (فَادْعُوا) أنتم على معنى الهزء بهم ، أو فادعوا أنتم ، فإنا لا نجترئ على ذلك. والظاهر أن قوله : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) من كلام الخزنة : أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي. وقيل : هو من كلام الله تعالى إخبارا منه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وجاءت هذه الأخبار معبرا عنها بلفظ الماضي الواقع لتيقن وقوعها.

ثم ذكر تعالى أنه ينصر رسله ويظفرهم بأعدائهم ، كما فعل بموسى عليه‌السلام ، حيث أهلك عدوّه فرعون وقومه ، وفيه تبشير للرسول عليه‌السلام بنصره على قومه ، (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، العاقبة الحسنة لهم ، (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) : وهو يوم القيامة. قال ابن عباس : ينصرهم بالغلبة ، وفي الآخرة بالعذاب. وقال السدّي : بالانتقام من أعدائهم. وقال أبو العالية : بإفلاح حجتهم. وقال السدّي أيضا : ما قتل قوم قط نبيّا أو قوما من دعاة الحق إلا بعث الله من ينتقم لهم ، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا. انتهى. ألا ترى إلى قتلة

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٤.


الحسين ، رضي‌الله‌عنه ، كيف سلط الله عليهم المختار بن عبيد يتبعهم واحدا واحدا حتى قتلهم؟ ويختنصر تتبع اليهود حين قتلوا يحيى بن زكريا ، عليهما‌السلام؟ وقيل : والنصر خاص بمن أظهره الله تعالى على أمّته ، كنوح وموسى ومحمد عليهم‌السلام ، لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه ، كيحيى ، ومن لم ينصر عليهم. وقال السدي : الخبر عام ، وذلك أن نصرة الرسل والأنبياء واقعة ولا بد ، إما في حياة الرسول المنصور ، كنوح وموسى عليهما‌السلام ، وإما بعد موته. ألا ترى إلى ما صنع الله تعالى ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيى عليه‌السلام من تسليط بختنصر حتى انتصر ليحيى عليه‌السلام؟ وقرأ الجمهور : يقوم بالياء ؛ وابن هرمز ، وإسماعيل ، والمنقري عن أبي عمرو : بتاء التأنيث. الجماعة والأشهاد ، جمع شهيد ، كشريف وأشراف ، أو جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، كما قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (١). وقال : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢) ، والظاهر أنه من الشهادة. وقيل : من المشاهدة ، بمعنى الحضور. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) : بدل من يوم (يَقُومُ). وقرىء : تنفع بالتاء وبالياء ، وتقدم ذكر الخلاف في ذلك في آخر الروم ، ويحتمل أنهم يعتذرون ولا تقبل معذرتهم ، أو أنهم لا معذرة لهم فتقبل. (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) والإبعاد من الله. (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) : سوء عاقبة الدار.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ، هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ ، إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ ، إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ، وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ، اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ، ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ، كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ، اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.


فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ، هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ولما ذكر ما حل بآل فرعون ، واستطرد من ذلك إلى ذكر شيء من أحوال الكفار في الآخرة ، عاد إلى ذكر ما منح رسوله موسى عليه‌السلام فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) تأنيسا لمحمد عليه‌السلام ، وتذكيرا لما كانت العرب تعرفه من قصة موسى عليه‌السلام. والهدى ، يجوز أن يكون الدلائل التي أوردها على فرعون وقومه ، وأن يكون النبوة ، وأن يكون التوراة. (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) : الظاهر أنه التوراة ، توارثوها خلف عن سلف ، ويجوز أن يكون الكتاب أريد به : ما أنزل على بني إسرائيل من كتب أنبيائهم ، كالتوراة والزبور والإنجيل ، (هُدىً) ودلالة على الشيء المطلوب ، (وَذِكْرى) لما كان منسيا فذكر به تعالى في كتبه. وانتصب (هُدىً وَذِكْرى) على أنهما مفعولان له ، أو على أنهما مصدران في موضع الحال.

ثم أمر تعالى نبيه بالصبر فقال : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، من قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) ، فلا بد من نصرك على أعدائك. وقال الكلبي : نسخ هذا بآية السيف. (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ، قال ابن عطية : يحتمل أن يكون قبل إعلام الله تعالى إياه أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، لأن آية هذه السورة مكية ، وآية سورة الفتح مدينة متأخرة ، ويحتمل أن يكون الخطاب له في هذه الآية ، والمراد أنه إذا أمر هو بهذا فغيره أحرى بامتثاله. وقال أبو عبد الله الرازي : محمول على التوبة من ترك الأفضل والأولى. وقيل : المقصود منه محض تعبد ، كما في قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (١) ، فإن إيتاء ذلك الشيء واجب ، ثم إنه أمرنا بطلبه. وقيل : (لِذَنْبِكَ) : لذنب أمتك في حقك. قيل : فأضاف المصدر للمفعول ، ثم أمره بتنزيهه تعالى في هذين الوقتين اللذين الناس مشتغلون فيهما بمصالحهم المهمة. ويجوز أن يكون المراد سائر الأوقات ، وعبر بالظرفين عن ذلك. وقال ابن عباس : أراد بذلك الصلوات الخمس. وقال قتادة : صلاة الغداة ، وصلاة العصر. وقال الحسن : ركعتان قبل أن تفرض الصلاة. وعنه أيضا : صلاة العصر ، وصلاة الصبح. والظاهر أن المجادلين في آيات الله ، وهي دلائله التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة ، وما أظهر على يد أنبيائه من الخوارق ، هم كفار قريش والعرب. (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) : أي حجة وبرهان. (فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) : أي تكبر وتعاظم ، وهو إرادة التقدم والرياسة ، وذلك هو الحامل

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٤.


على جدالهم بالباطل ، ودفعهم ما يجب لك من تقدمك عليهم ، لما منحك من النبوة وكلفك من أعباء الرسالة. (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) : أي ببالغي موجب الكبر ومقتضيه من رياستهم وتقدمهم ، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لا يرأسون ، ولا يحصل لهم ما يؤملونه. وقال الزجاج : المعنى على تكذيب إلا ما في صدورهم من الكبر عليك ، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ، لأن الله أذلهم. وقال ابن عطية : تقديره مبالغي إرادتهم فيه. وقال مقاتل : هي في اليهود.

قال مقاتل : عظمت اليهود الدجال وقالوا : إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان ، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) ، لأن الدجال من آياته ، (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) : أي حجة ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من فتنة الدجال. والمراد بخلق الناس الدجال ، وإلى هذا ذهب أبو العالية ، وهذا القول أصح. وقال الزمخشري : وقيل المجادلون هم اليهود ، وكانوا يقولون : يخرج صاحبنا المسيح بن داود ، يريدون الدجال ، ويبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله ، فيرجع إلينا الملك ، فسمى الله تمنيتهم ذلك كبرا ، ونفى أن يبلغوا متمناهم. انتهى. وكان رئيس اليهود في زمانه في مصر موسى بن ميمون الأندلسي القرطبي قد كتب رسالته إلى يهود اليمن أن صاحبهم يظهر في سنة كذا وخمسمائة ، وكذب عدوّ الله. جاءت تلك السنة وسنون بعدها كثيرة ، ولم يظهر شيء مما قاله ، لعنه الله. وكان هذا اليهودي قد أظهر الإسلام ، حتى استسلم اليهود بعض ملوك المغرب ، ورجل من الأندلس. فيذكر أنه صلى بالناس التراويح وهم على ظهر السفينة في رمضان ، إذ كان يحفظ القرآن. فلما قدم مصر ، وكان ذلك في دولة العبيديين ، وهم لا يتقيدون بشريعة ، رجع إلى اليهودية وأخبر أنه كان مكرها على الإسلام ، فقبل منه ذلك ، وصنف لهم تصانيف ، ومنها : (كتاب دلالة الحائرين) ، وإنما استفاد ما استفاد من مخالطة علماء الأندلس وتودده لهم ، والرياسة إلى الآن بمصر لليهود في كل من كان من ذريته. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) : أي التجئ إليه من كيد من يحسدك. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقول ويقولون ، (الْبَصِيرُ) بما تعمل ويعملون ، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.

ثم نبه تعالى أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ، ولا يتكبر الإنسان بقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) : أي أن مخلوقاته أكبر وأجل من خلق البشر ، فما لأحد يجادل ويتكبر على خالقه. وقال الزمخشري : مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث ، وهو أصل المجادلة ومدارها ، فجحدوا بخلق السموات والأرض ، لأنهم


كانوا مقرين بأن الله خالقها ، وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره ، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين ، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر ، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله. انتهى. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث والإعادة ، فأعلم تعالى أن الذي خلق السموات والأرض قوي قادر على خلق الناس تارة أخرى ، فالخلق مصدر أضيف إلى المفعول ، وقال النقاش : المعنى مما يخلق الناس ، إذ هم في الحقيقة لا يملكون شيئا ، فالخلق مضاف للفاعل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : أي لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم ، ونفي العلم عن الأكثر وتخصيصه به يدل على أن القليل يعلم ، ولذلك ضرب مثلا للجاهل بالأعمى ، وللعالم بالبصير ، وانتفاء الاستواء بينهما هو من الجهة الدالة على العمى وعلى البصر ، وإلا فهما مستويان في غير ما شيء.

ولما بعد ، قسم الذين آمنوا بطول صلة الموصول ، كرر لا توكيدا ، وقدم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لمجاورة قوله : (وَالْبَصِيرُ) ، وهما طريقان ، أحدهما : أن يجاور المناسب هكذا ، والآخر : أن يتقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر ، كقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (١) ، وقد يتأخر المتماثلان ، كقوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) (٢) ، وكل ذلك تفنن في البلاغة وأساليب الكلام. ولما كان قد تقدم : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، فكان ذلك صفة ذم ناسب أن يبدأ في ذكر التساوي بصفة الذم ، فبدأ بالأعمى. وقرأ قتادة ، وطلحة ، وأبو عبد الرحمن ، وعيسى ، والكوفيون : تتذكرون بتاء الخطاب ؛ والجمهور ، والأعرج ، والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة : بالياء على الغيبة. ثم أخبر بما يدل على البعث من إتيان الساعة ، وأنه لا ريب في وقوعها ، وهو يوم القيامة ، حيث الحساب وافتراق الجمع إلى الجنة طائعهم ، وإلى النار كافرهم ومن أراد الله تعذيبه من العصاة بغير الكفر. والظاهر حمل الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، إلا أن الاستجابة مقيدة بمشيئة الله.

قال السدي : اسألوني أعطكم ؛ وقال الضحاك : أطيعوني آتكم ؛ وقالت فرقة منهم مجاهد : ادعوني ، اعبدوني وأستجب لكم ، آتيكم على العبادة. وكثيرا جاء الدعاء في القرآن بمعنى العبادة ، ويقوي هذا التأويل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي). وما روى النعمان بن بشير ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدعاء هو العبادة» ، وقرأ هذه الآية. وقال

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٠.

(٢) سورة هود : ١١ / ٢٤.


ابن عباس : وحدوني أغفر لكم ؛ وقيل للثوري : ادع الله تعالى ، فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء. وقال الحسن ، وقد سئل عن هذه الآية : اعملوا وأبشروا ، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ويزيدهم من فضله. وقال أنس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله». (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) : أي عن دعائي. وقرأ جمهور السبعة ، والحسن ، وشيبة : سيدخلون مبنيا للفاعل ؛ وزيد بن علي ، وابن كثير ، وأبو جعفر : مبنيا للمفعول ؛ واختلف عن عاصم وأبي عمرو. داخرين : ذليلين.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في سورة يونس. و (لَذُو فَضْلٍ) : أبلغ من : لمفضل أو لمتفضل ، كما قال : (لَذُو عِلْمٍ) لما علمناه (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (١) ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢) ، لما يؤدي إليه من كونه صاحبه ومتمكنا منه ، بخلاف أن يؤتي بالصفة ، فإنه قد يدل على غير الله بالاتصاف به في وقت ما ، لا دائما ، وذكر عموم فضله وسوغه على الناس ، ثم قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) ، فأتى به ظاهرا ، ولم يأت التركيب : ولكن أكثرهم. قال الزمخشري : في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم ، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ*) (٣) ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٤) ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٥). انتهى. (ذلِكُمُ) : أي المخصوص بتلك الصفات التميز بها من استجابته لدعائكم ، ومن جعل الليل والنهار كما ذكر ، ومن تفضله عليكم. (اللهُ رَبُّكُمْ) : الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية ، وإنشاء الأشياء والوحدانية. فكيف تصرفون عن عبادة من هذه أوصافه إلى عبادة الأوثان؟ وقرأ زيد بن علي : خالق بنصب القاف ، وطلحة في رواية : يؤفكون بياء الغيبة والجمهور : بضم القاف وتاء الخطاب. قال الزمخشري : خالق نصبا على الاختصاص كذلك ، أي مثل ذلك الصرف صرف الله قلوب الجاحدين بآيات الله من الأمم على طريق الهدى.

ولما ذكر تعالى ما امتن به من الليل والنهار ، ذكر أيضا ما امتن به من جعل الأرض مستقرا والسماء بناء ، أي قبة ، ومنه أبنية العرب لمضاربهم ، لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض. وقرأ الجمهور : صوركم بضم الصاد ، والأعمش ، وأبو

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٠٥.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٦٦.

(٤) سورة العاديات : ١٠٠ / ٦.

(٥) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٤.


رزين : بكسرها فرارا من الضمة قبل الواو استثقالا ، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ ، وقالوا قوة وقوى بكسر القاف على الشذوذ أيضا قيل : لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان. وقيل : لم يخلقهم منكوسين كالبهائم ، كقوله : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١). وقرأت فرقة : صوركم بضم الصاد وإسكان الواو ، على نحو بسرة وبسر ، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : امتن عليهم بما يقوم بأود صورهم والطيبات المستلذات طعما ولباسا ومكاسب. وقال ابن عباس : من قال : لا إله إلا الله ، فليقل على أثرها : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وقال نحوه سعيد بن جبير ، ثم قرأ الآية.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ ، ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ، ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

أمر الله تعالى نبيه ، عليه‌السلام ، أن يخبرهم بأنه نهى أن يعبد أصنامهم ، لما جاءته البينات من ربه ، فهذا نهي بالسمع ، وإن كان منهيا بدلائل العقل ، فتظافرت أدلة السمع وأدلة العقل على النهي عن عبادة الأوثان. فمن أدلة السمع قوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢) إلى غير ذلك ، وذكره أنه نهي بالسمع لا يدل على أنه كان منهيا بأدلة العقل. ولما نهى عن عبادة الأوثان ، أخبر أنه أمر بالاستسلام لله تعالى ، ثم بين أمر الوحدانية والألوهية التي أصنامهم عارية عن شيء منهما ، بالاعتبار في تدريج ابن آدم بأن ذكر مبدأه الأول ، وهو من تراب. ثم أشار إلى التناسل بخلقه من نطفة ، والطفل اسم جنس ، أو يكون المعنى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ) ، أي كل واحد منكم طفلا ، وتقدم الكلام على بلوغ الأشد. و (مِنْ قَبْلُ) ، قال مجاهد : من قبل أن يكون شيخا ، قيل : ويجوز أن يكون من قبل هذه الأحوال ، إذا خرج سقطا ، وقيل : عبارة بتردده في التدريج

__________________

(١) سورة التين : ٩٥ / ٤.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ٩٥ ـ ٩٦.


المذكور ، ولا يختص بما قبل الشيخ ، بل منهم من يموت قبل أن يخرج طفلا ، وآخر قبل الأشد ، وآخر قبل الشيخ. (وَلِتَبْلُغُوا) : متعلق بمحذوف ، أي يبقيكم لتبلغوا ، أي ليبلغ كل واحد منكم أجلا مسمى لا يتعداه. قال مجاهد : يعني موت الجميع ، وقيل : هو يوم القيامة. و (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما في ذلك من العبرة والحجج ، إذا نظرتم في ذلك وتدبرتم.

ولما ذكر ، رتب الإيجاد ، ذكر أنه المتصف بالإحياء والإماتة ، وأنه متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أوجده من غير تأخر ، وتقدم الكلام على مثل هذه الجمل. ثم قال بعد ظهور هذه الآيات : ألا تعجب إلى المجادل في آيات الله كيف يصرف عن الجدال فيها ويصير إلى الإيمان بها؟ والظاهر أنها في الكفار المجادلين في رسالة الرسول عليه‌السلام والكتاب الذي جاء به بدليل قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) ، ثم هددهم بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن سيرين وغيره : هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة ، ورووا في نحو هذا حديثا وقالوا : هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم ، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعل قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا) كلاما مستأنفا في الكفار ، ويكون (الَّذِينَ كَذَّبُوا) مبتدأ ، وخبره : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). وأما على الظاهر ، فالذين بدل من الذين ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوبا على الذم ، وإذ ظرف لما مضى ، فلا يعمل فيه المستقبل ، كما لا يقول : سأقوم أمس ، فقيل : إذا يقع موقع إذ ، وأن موقعها على سبيل المجاز ، فيكون إذ هنا بمعنى إذا ، وحسن ذلك تقين وقوع الأمر ، وأخرج في صيغة الماضي ، وإن كان المعنى على الاستقبال. قال النخعي : لو أن غلّا من أغلال جهنم وضع على جبل ، لأرحضه حتى يبلغ إلى الماء الأسود. وقرأ : والسلاسل عطفا على الأغلال ، يسحبون مبنيا للمفعول. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وزيد بن علي ، وابن وثاب ، والمسيء في اختياره : والسلاسل بالنصب على المفعول ، يسحبون مبنيا للفاعل ، وهو عطف جملة فعلية على جملة اسمية. وقرأت فرقة منهم ابن عباس : والسلاسل ، بجر اللام. قال ابن عطية : على تقدير ، إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ، إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفي مصحف أبيّ : وفي السلاسل يسحبون. وقال الزمخشري : ووجهه أنه لو قيل : إذ أعناقهم في الأغلال ، مكان قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) ، لكان صحيحا مستقيما. فلما كانتا عبارتين معتقبتين ، حمل قوله : (وَالسَّلاسِلُ) على العبارة الأخرى ، ونظيره قول الشاعر :


مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلا ببين غرابها

كأنه قيل : بمصلحين. وقرىء : وبالسلاسل ، انتهى ، وهذا يسمى العطف على التوهم ، ولكن توهم إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها ، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها ، ونظير ذلك قول الشاعر :

أحدك لن ترى بثعيلبات

ولا بيداء ناجية زمولا

ولا متدارك والليل طفل

ببعض نواشع الوادي حمولا

التقدير : لست براء ولا متدارك. وهذا الذي قاله ابن عطية والزمخشري سبقهما إليه الفراء ، قال : من جر السلاسل حمله على المعنى ، لأن المعنى : أعناقهم في الأغلال والسلاسل. وقال الزجاج : من قرأ بخفض والسلاسل ، فالمعنى عنده : وفي السلاسل يسحبون. وقال ابن الأنباري : والخفض على هذا المعنى غير جائز ، لو قلت : زيد في الدار ، لم يحسن أن تضمر في فتقول : زيد الدار ، ثم ذكر تأويل الفراء ، وخرج القراءة ثم قال : كما تقول : خاصم عبد الله زيدا العاقلين ، بنصب العاقلين ورفعه ، لأن أحدهما إذا خاصمه صاحبه فقد خاصمه الآخر. انتهى ، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين ، وهي منقول جوازها عن محمد بن سعفان الكوفي ، قال : لأن كل واحد منهما فاعل مفعول ، وقرىء : وبالسلاسل يسحبون ، ولعل هذه القراءة حملت الزجاج على أن تأويل الخفض على إضمار حرف الجر ، وهو تأويل شذوذ. وقال ابن عباس : في قراءة من نصب والسلاسل ، وفتح ياء يسحبون إذا كانوا يجرونها ، فهو أشد عليهم ، يكلفون ذلك وهم لا يطيقون. وقال مجاهد : (يُسْجَرُونَ) : يطرحون فيها ، فيكونون وقودا لها. وقال السدي : يسجرون : يحرقون.

ثم أخبر تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة من جهة التوبيخ والتقريع ، فيقال لهم : أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا؟ فيقولون : (ضَلُّوا عَنَّا) : أي تلفوا منا وغابوا واضمحلوا ، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون : بل لم نكن نعبد شيئا ، وهذا من أشد الاختلاط في الذهن والنظر.

ولما تبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا ، وما كانوا يعبدون بعبادتهم شيئا ، كما تقول : حسبت أن فلانا شيء ، فإذا هو ليس بشيء إذا اختبرته ، فلم تر عنده جزاء ، وقولهم :


(ضَلُّوا عَنَّا) ، مع قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) ، يحتمل أن يكون ذلك عند تقريعهم ، فلم يكونوا معهم إذ ذاك ، أو لما لم ينفعوهم قالوا : (ضَلُّوا عَنَّا) ، وإن كانوا معهم. (كَذلِكَ) : أي مثل هذه الصفة وبهذا الترتيب ، (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) ، وقال الزمخشري : أي مثل ضلال آلهتهم عنهم ، يضلهم عن آلهتهم ، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا. ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح ، (بِغَيْرِ الْحَقِ) : وهو الشهادة عبادة الأوثان. وقال ابن عطية : ذلك العذاب الذي أنتم فيه مما كنتم تفرحون في الأرض بالمعاصي والكفر. انتهى. و (تَمْرَحُونَ) ، قال ابن عباس : الفخر والخيلاء ؛ وقال مجاهد : الأشر والبطر. انتهى ، فقال لهم ذلك توبيخا أي إيمانا لكم هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعاصي وكثرة المال والأتباع والصحة. وقال الضحاك : الفرح والسرور ، والمرح : العدوان ، وفي الحديث : «إن الله يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين». وتفرحون وتمرحون من باب تجنيس التحريف المذكور في علم البديع ، وهو أن يكون الحرف فرقا بين الكلمتين.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) : الظاهر أنه قيل لهم : ادخلوا بعد المحاورة السابقة ، وهم قد كانوا في النار ، ولكن هذا أمر يقيد بالخلود ، وهو الثواء الذي لا ينقطع ، فليس أمرا بمطلق الدخول ، أو بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا سبعة أبواب التي لكل باب منها جزء مقسوم من الكفار ، فكان ذلك أمرا بالدخول يفيد التجزئة لكل باب. وقال ابن عطية : وقوله تعالى : (ادْخُلُوا) معناه : يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا ، لأن هذه المخاطبة إنما هي بعد دخولهم ، وفي الوقت الذي فيه الأغلال في أعناقهم. وأبواب جهنم : هي السبعة المؤدّية إلى طبقاتها وأدراكها السبعة. انتهى. وخالدين : حال مقدرة ، ودلت على الثواء الدائم ، فجاء التركيب : (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) : فبئس مدخل المتكبرين ، لأن نفس الدخول لا يدوم ، فلم يبالغ في ذمّه ، بخلاف الثواء الدائم.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ، اللهُ

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٨.


الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ، وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

أمر تعالى نبيه بالصبر تأنيسا له ، وإلا فهو ، عليه‌السلام ، في غاية الصبر ، وأخبر بأن ما وعده من النصر والظفر وإعلاء كلمته وإظهار دينه حق. قيل : وجواب (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) محذوف لدلالة المعنى عليه ، أي فيقر عينك ، ولا يصح أن يكون (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) جوابا للمعطوف عليه والمعطوف ، لأن تركيب (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) بعض الموعود في حياتك ، (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ليس بظاهر ، وهو يصح أن يكون جواب ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) : أي (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ، فننتقم منهم ونعذبهم لكونهم لم يتبعوك. ونظير هذه الآية قوله : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (١) ، إلا أنه هنا صرح بجواب الشرطين. وقال الزمخشري : (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) متعلق بقوله : (نَتَوَفَّيَنَّكَ) ، وجزاء (نُرِيَنَّكَ) محذوف تقديره : فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب ، وهو القتل يوم بدر فذاك ، أو أن نتوفينك قبل يوم بدر ، فإلينا يرجعون يوم القيامة ، فننتقم منهم أشد الانتقام. وقد تقدم للزمخشري نحو هذا البحث في سورة يونس في قوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) (٢) ، ورددنا عليه ، فيطالع هناك. وقال الزمخشري أيضا : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) أصله فإن نرك ، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك ألحقت النون بالفعل. ألا تراك لا تقول : إن تكرمني أكرمك ، ولكن أما تكرمني أكرمك؟ انتهى. وما ذهب إليه من تلازم ما لمزيده ، ونون التوكيد بعد أن الشرطية هو مذهب المبرد والزجاج. وذهب سيبويه إلى أنك إن شئت أتيت بما دون النون ، وإن شئت أتيت بالنون دون ما. قال سيبويه في هذه المسألة : وإن شئت لم تقحم النون ؛ كما أنك إذا جئت لم تجىء بما ، يعني لم تقحم النون مع مجيئك بما ، ولم تجىء بما مع مجيئك بالنون. وقرأ الجمهور :

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٤١ ـ ٤٢.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٤٦.


يرجعون بياء الغيبة مبنيا للمفعول ؛ وأبو عبد الرحمن ، ويعقوب : بفتح الياء ؛ وطلحة بن مطرف ، ويعقوب في رواية الوليد بن حسان : بفتح تاء الخطاب.

ثم رد تعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل ، وفي عدد الرسل اختلاف. روي أنه ثمانية آلاف من بني إسراءيل ، وأربعة آلاف من غيرهم. وروي : بعث الله أربعة آلاف نبي ، (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) : أي من أخبرناك به ، أما في القرآن فثمانية عشر. (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) ، وعن علي ، وابن عباس : أن الله بعث نبيا أسود في الحبش ، فهو ممن لم يقصص عليه. (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي ليس ذلك راجعا إليهم ، لما اقترحوا على الرسل قال : ليس ذلك إلى لا تأتي آية إلا إن شاء الله ، (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) : رد ووعيد بإثر اقتراحهم الآيات ، وأمر الله : القيامة. والمبطلون : المعاندون مقترحون الآيات ، وقد أتتهم الآيات ، فأنكروها وسموها سحرا ، أو (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) : أي أراد إرسال رسول وبعثة نبي ، قضي ذلك وأنفذه (بِالْحَقِ) ، وخسر كل مبطل ، وحصل على فساد آخرته ، أو (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) : وهو القتل ببدر.

ثم ذكر تعالى آيات اعتبار وتعداد نعم فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) ، وهي ثمانية الأزواج ، ويضعف قول من أدرج فيها الخيل والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم ، وقول من خصها بالإبل وهو الزجاج. (لِتَرْكَبُوا مِنْها) : وهي الإبل ، إذ لم يعهد ركوب غيرها. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) : عام في ثمانية الأزواج ، ومن الأولى للتبعيض. وقال ابن عطية : ومن الثانية لبيان الجنس ، لأن الجمل منها يؤكل. انتهى ، ولا يظهر كونها لبيان الجنس ، ويجوز أن تكون فيه للتبعيض ولابتداء الغاية. ولما كان الركوب منها هو أعظم منفعة ، إذ فيه منفعة الأكل والركوب. وذكر أيضا أن في الجميع منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك ، أكد منفعة الركوب بقوله : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) من بلوغ الأسفار الطويلة ، وحمل الأثقال إلى البلاد الشاسعة ، وقضاء فريضة الحج ، والغزو ، وما أشبه ذلك من المنافع الدينية والدنيوية. ولما كان الركوب وبلوغ الحاجة المترتبة عليه قد يتوصل به إلى الانتقال لأمر واجب ، أو مندوب كالحج وطلب العلم ، دخل حرف التعليل على الركوب وعلى المترتب عليه من بلوغ الحاجات ، فجعل ذلك علة لجعل الأنعام لنا. ولما كان الأكل وإصابة المنافع من جنس المباحات ، لم يجعل ذلك علة في الجعل ، بل ذكر أن منها نأكل ، ولنا فيها منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك ، كما


أدخل لام التعليل في لتركبوها ، ولم يدخلها على الزينة في قوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) (١).

ولما ذكر تعالى ما امتن به من منة الركوب للإبل في البر ، ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر فقال : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ). ولما كان الفلك يصح أن يقال فيه : حمل في الفلك ، كقوله : (احْمِلْ فِيها) (٢) ، ويصح أن يقال فيه حمل على الفلك ، اعتبر لفظ على لمناسبة قوله : (وَعَلَيْها) ، وإن كان معنى في صحيحا (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) : أي حججه وأدلته على وحدانيته. (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) : أي إنها كثيرة ، فأيها ينكر؟ أي لا يمكن إنكار شيء منها في العقول ، (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) منصوب بتنكرون. قال الزمخشري : (فَأَيَّ آياتِ) جاءت على اللغة المستفيضة ، وقولك : فأية آيات الله قليل ، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو : حمار وحمارة غريب ، وهي في أي أغرب لإبهامه. انتهى ، ومن قلة تأنيث : أي قوله :

بأي كتاب أم بأية سنة

ترى حبهم عارا عليّ وتحسب

وقوله : وهي في أي أغرب ، إن عنى أيا على الإطلاق فليس بصحيح ، لأن المستفيض في النداء أن يؤنث نداء المؤنث لقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٣) ، ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول : يا أيها المرأة ، إلا صاحب كتاب البديع في النحو. وإن عنى غير المناداة ، فكلامه صحيح ، فقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة ، وما في قوله : (فَما أَغْنى) نافية شرطية واستفهامية في معنى النفي ، وما فيما كانوا مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وهي في موضع رفع ، والضمير في (جاءَتْهُمْ) عائد على (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وجاء قوله : (مِنَ الْعِلْمِ) على جهة التهكم بهم ، أي في الحقيقة لا علم لهم ، وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل ، وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٤) ، أو اعتقدوا أن عندهم علما يستغنون به عن علم الأنبياء ، كما تزعم الفلاسفة. والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله ، دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. ولما سمع سقراط ، لعنه الله ، بموسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ، قيل له : لو هاجرت إليه ، فقال : نحن قوم مهذبون ، فلا حاجة بنا إلى من

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٠.

(٣) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٧.

(٤) سورة الكهف : ١٨ / ٣٦.


يهذبنا. وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد. وقيل : الضمير في (فَرِحُوا) ، وفي (بِما عِنْدَهُمْ) عائد على الرسل ، أي فرحت الرسل بما أوتوا من العلم ، وشكروا الله عليه ، لما رأوا جهل من أرسلوا إليهم واستهزاءهم بالحق ، وعلموا سوء عاقبتهم. وقيل : الضمير في (فَرِحُوا) عائد على الأمم ، وفي (بِما عِنْدَهُمْ) عائد على الرسل ، أي فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. وقال الزمخشري : ومنها ، أي من الوجوه التي في الآية في قوله : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والسرور في تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم. انتهى. ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام ، نحو قولهم : شر أهر ذا ناب ، على خلاف فيه ، ولما آل أمره إلى الإيتاء المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل ، لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة ، فلا يوثق بشيء منها.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (١) ذلك مبلغهم من العلم ، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات ، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات ، لم يلتفتوا إليها ، وصغروها واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به. انتهى ، وهو توجيه حسن ، لكن فيه إكثار وشقشقة. (بَأْسَنا) : أي عذابنا الشديد ، حكى حال من آمن بعد تلبيس العذاب به ، وأن ذلك لم يك نافعا ، وفي ذلك حض على المبادرة إلى الإيمان ، وتخويف من التأني. فأما قوم يونس ، فإنهم رأوا العذاب لم يلتبس بهم ، وتقدمت قصتهم. وإيمانهم مرفوع بيك اسما لها ، أو فاعل ينفعهم. وفي يك ضمير الشأن على الخلاف الذي في : كان يقوم زيد ، ودخل حرف النفي على الكون ، لا على النفي ، لأنه يؤدي إلى نفي الصحة ، أي لم يصح ولم يستقم لقوله : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) (٢). وترادف هذه الفاءات ، أما في (فَما أَغْنى) ، فلأنه كان نتيجة قوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) ، و (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) ، جار مجرى البيان والتفسير لقوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ). و (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) تابع لقوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) ، كأنه قال : فكفروا به فلما رأوا

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٧.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٣٥.


بأسنا آمنوا ولم يك ينفعهم إيمانهم تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله ، وانتصب سنة على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، أي أن ما فعل بهم هي سنة الله التي قد مضت وسبقت في عباده من إرسال الرسل والإعزاز بهم ، وتعذيب من كذبهم واستهانتهم واستئصالهم بالهلاك ، وعدم الانتفاع بالإيمان حالة تلبس العذاب بهم. وهنالك ظرف مكان استعير للزمان ، أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون. وقيل : سنة منصوب على التحذير ، أي احذروا سنة الله يا أهل مكة في إعداد الرسل.


سورة فصلت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي


خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً


مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ


شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)

الصرصر : الريح الباردة المحرقة ، كما تحرق النار ، قاله الفراء والزجاج ، ويأتي أقوال المفسرين فيه. النحس المشئوم : نقيض السعد ، قال الشاعر :

سواء عليه أيّ حين أتيته

أساعة نحس تتقي أم بأسعد

وأنشد الفراء :

أبلغ جذاما ولخما أن إخوتهم

طيا وبهراء قوم نصرهم نحس

التقييض : تهيئة الشيء وتيسيره ، وهذان ثوبان قيضان ، إذا كانا متكافئين في الثمن ، وقايضني بهذا الثوب : أي خذه وأعطني به بدله ، والمقايضة : المعاوضة. الأكمام ، واحدها كمّ ، قال الزمخشري : بكسر الكاف ، وقال المبرد : هو ما يغطي الثمرة لجف الطلعة ، ومن قال في الجمع أكمه ، فالواحد كمام. الآفاق : النواحي ، واحدها أفق ، قال الشاعر :

لو نال حي من الدنيا بمنزلة

أفق السماء لنالت كفه الأفقا

(حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ، وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ


أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ، قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

هذه السورة مكية بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها ، أنه قال في آخر ما قبلها : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (١) إلى آخرها ، فضمن وعيدا وتهديدا وتقريعا لقريش ، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر ، فذكر أنه نزل كتابا مفصلا آياته ، بشيرا لمن اتبعه ، ونذيرا لمن أعرض عنه ، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه. ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي. ثم قال : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) ، فكان هذا كله مناسبا لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب ، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي ، واستئصال أعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حل بعاد وثمود من استئصالهم.

روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه ، وليقبح عليه فيما بينه وبينه ، وليبعد ما جاء به. فلما تكلم عتبة ، قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (حم) ، ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) ، فأرعد الشيخ ووقف شعره ، فأمسك على فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، وناشده بالرحم أن يمسك ، وقال حين فارقه : والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي. (تَنْزِيلٌ) ، رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا تنزيل عند الفراء ، أو مبتدأ خبره (كِتابٌ فُصِّلَتْ) ، عند الزجاج والحوفي ، وخبر (حم) إذا كانت اسما للسورة ، وكتاب على قول الزجاج بدل من تنزيل. قيل : أو خبر بعد خبر. (فُصِّلَتْ آياتُهُ) ، قال السدي : بينت آياته ، أي فسرت معانيه ، ففصل بين حرامه وحلاله ، وزجره وأمره ، ووعده ووعيده. وقيل : فصلت في التنزيل : أي

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٨٢.


لم تنزل جملة واحدة. قال الحسن : بالوعد والوعيد. وقال سفيان : بالثواب والعقاب. وقال ابن زيد : بين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن خالفه. وقيل : فصلت بالمواقف وأنواع ، أواخر الآي ، ولم يكن يرجع إلى قافية ولا نحوها ، كالشعر والسجع.

وقال أبو عبد الله الرازي : ميزت آياته ، وجعل تفاصيل معان مختلفة ، فبعضها في وصف ذات الله تعالى ، وشرح صفات التنزيه والتقديس ، وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ، وعجائب أحوال خلقه السموات والكواكب ، وتعاقب الليل والنهار ، وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان ؛ وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلب ونحو الجوارح ، وبعضها في الوعد والوعيد ، والثواب والعقاب ، ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار ؛ وبعضها في المواعظ والنصائح ؛ وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس ؛ وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين. وبالجملة ، فمن أنصف ، علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن. انتهى.

وقرىء : فصلت ، بفتح الفاء والصاد مخففة ، أي فرقت بين الحق والباطل ؛ أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها ، من قوله : (فَصَلَتِ الْعِيرُ) (١) : أي انفصلت ، وفصل من البلد : أي انفصل منه ، وانتصب (قُرْآناً) على أنه حال بنفسه ، وهي مؤكدة ، لأنها لا تنتقل ، أو توطئة للحال بعده ، وهي (عَرَبِيًّا) ، أو على المصدر ، أي يقرؤه قرآنا عربيا ، أو على الاختصاص والمدح. ومن جعله حالا فقيل : ذو الحال آياته ، وقيل : كتاب ، لأنه وصف بقوله : (فُصِّلَتْ آياتُهُ) ، أو على إضمار فعل تقديره : فصلناه قرآنا ، أو مفعول ثان لفصلت ، أقوال ستة آخرها للأخفش. و (لِقَوْمٍ) متعلق بفصلت ، أي يعلمون الأشياء ، ويعقلون الدلائل ، فكأنه فصل لهؤلاء ، إذ هم ينتفعون به فخصوا بالذكر تشريفا ، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له ويبعد أن يتعلق بتنزيل لكونه وصف في أحد متعلقيه ، إن كان من الرحمن في موضع الصفة ، أو أبدل منه كتاب ، أو كان خبر التنزيل ، فيكون في ذلك البدل من الموصول ، والإخبار عنه قبل أخذه متعلقه ، وهو لا يجوز ، وقيل : لقوم في موضع الصفة لقوله : (عَرَبِيًّا) ، أي كائنا لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنه لم يخرج عن نمط كلامهم ، وكأنه رد على من زعم أن في القرآن ما ليس من كلام العرب. وانتصب (بَشِيراً وَنَذِيراً) على النعت لقرآنا عربيا ، وقيل : حال من آياته. وقرأ زيد بن علي : بشير

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٩٤.


ونذير برفعهما على الصفة لكتاب ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، وبشارته بالجنة لمن آمن ، ونذارته بالنار لمن كفر. (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) : أي أكثر أولئك القوم ، أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام ، بل أعرضوا ، (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لإعراضهم عن ما احتوى عليه من الحجج والبراهين ، أو لما لم ينتفع به ولم يقبله جعل كأنه لم يسمعه.

ثم أخبر تعالى عنهم بالمقالة الدالة على امتناع قلوبهم ، والناس من رجوعهم إليه ومن سماعهم لما يتلوه ، وهو قوله تعالى ، حكاية عنهم : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) ، تقدم الكلام على شبه ذلك في الأنعام. وقرأ طلحة : وقر بكسر الواو ، وهذه تمثيلات لامتناع قبول الحق ، كأن قلوبهم في غلاف ، كما قالوا : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) (١) ، وكأن أسماعهم عند ذكر كلام الله بها صمم. والحجاب : الستر المانع من الإجابة ، وهو خلاف في الدين ، لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام ، قال معناه الفراء وغيره. ويروى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال : يا محمد ، بيننا وبينك حجاب ، استهزاء منه. وقيل : تمثيل بعدم الإجابة. وقيل : عبارة عن العداوة. ومن في (مِمَّا تَدْعُونا) إليه لابتداء الغاية ، وكذا في (وَمِنْ بَيْنِنا). فالمعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها ، ولو لم يأت بمن لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين ، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط ، فلذلك جيء بمن. وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة ، كما قيل : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) ، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت : هو على نمط واحد ، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) ، والدليل عليه قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) (٢). ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة ، لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني ، وتقول : إن في أبلغ في هذا الموضع من على ، لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول ، لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف ، فلا يمكن أن يصل إليها شيء. كما تقول : المال في الكيس ، بخلاف قولك : على المال كيس ، فإنه لا يدل على الحصر ، وعدم الحصول دلالة الوعاء. وأما في قوله : (إِنَّا جَعَلْنا) ، فهو من أخبار الله تعالى ، لا يحتاج إلى مبالغة ، بخلاف قولهم. وقول الزمخشري : وترى المطابيع ، يعني من العرب وشعرائهم ، ولذلك تكلم الناس في شعر حبيب ، ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه ؛ قالوا : وأحسنه ما جاء

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٨.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٥٧.


من غير تكلف. (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ، قال الكلبي : في هلاكنا إنا عاملون في هلاكك. وقال مقاتل : اعمل لإلهك الذي أرسلك ، فإننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها. وقال الفراء : اعمل على مقتضى دينك ، ونحن نعمل على مقتضى ديننا ، وذكر الماوردي : اعمل لآخرتك ، فإنا نعمل لدنيانا. ولما كان القلب محل المعرفة ، والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ، ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول شيء. واحتمل قولهم : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ، أي تكون متاركة محضة ، وأن يكون استخفافا. (قُلْ إِنَّما) ، (يُوحى إِلَيَ) ، وقرأ الجمهور : قل على الأمر ، وابن وثاب والأعمش : قال فعلا ماضي ، وهذا صدع بالتوحيد والرسالة. وقرأ النخعي والأعمش : يوحي بكسر الحاء ؛ والجمهور : بفتحها ، وأخبر أنه بشر مثلهم لا ملك ، لكنه أوحى إليه دونهم. وقال الحسن : علمه تعالى التواضع ، وأنه ما أوحى إليه توحيد الله ورفض آلهتكم. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) : أي له بالتوحيد الذي هو رأس الدين والعمل ، (وَاسْتَغْفِرُوهُ) : واسألوه المغفرة ، إذا هي رأس العمل الذي بحصوله تزول التبعات. وضمن استقيموا معنى التوجه ، فلذلك تعدى بإلى ، أي وجهوا استقامتكم إليه ، ولما كان العقل ناطقا بأن السعادة مربوطة بأمرين : التعظيم لله والشفقة على خلقه ، ذكر أن الويل والثبور والحزن للمشركين الذين لم يعظموا الله في توحيده ، ونفى الشريك ، ولم يشفقوا على خلقه بإيصال الخير إليهم ، وأضافوا إلى ذلك إنكار البعث. والظاهر أن الزكاة على ظاهرها من زكاة الأموال ، قاله ابن السائب ، قال : كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون. وقال الحسن وقتادة : وقيل : كانت قريش تطعم الحاج وتحرم من آمن منهم. وقال الحسن وقتادة أيضا : المعنى لا يؤمنون بالزكاة ، ولا يقرون بها. وقال مجاهد والربيع : لا يزكون أعمالهم. وقال ابن عباس والجمهور : الزكاة هنا لا إله إلا الله التوحيد ، كما قال موسى عليه‌السلام لفرعون : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (١) ، ويرجع هذا التأويل أن الآية من أول المكي ، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة ، قاله ابن عطية ، قال : وإنما هذه زكاة القلب والبدن ، أي تطهير من الشرك والمعاصي ، وقاله مجاهد والربيع. وقال الضحاك ومقاتل : الزكاة هنا النفقة في الطاعة. انتهى. وإذا كانت الزكاة المراد بها إخراج المال ، فإنما قرن بالكفر ، لكونها شاقة بإخراج المال الذي هو محبوب الطباع وشقيق الأرواح حثا عليها. قال بعض الأدباء :

وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ

به فأجبت المال خير من الروح

_________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ١٨.


أرى حفظه يفضي بتحسين حالتي

وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، قال السدي : نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن إكمال الطاعات ، كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون. والممنون : المنقوص ، قاله ابن عباس ، رضي‌الله‌عنه. قال ذو الأصبغ العدواني :

إني لعمرك ما بابي بذي غلق

على الصديق ولا خيري بممنون

وقال مجاهد : غير محسوب ، وقيل : غير مقطوع ، قال الشاعر :

فضل الجواد على الخيل البطاء فلا

يعطى بذلك ممنونا ولا نزقا

وقيل : لا يمن به لأن أعطيات الله تشريف ، والمن إنما يدخل أعطيات البشر. وقيل : لا بمن به لأنه إنما بمن التفضيل ، فأما الآخر فحق أداؤه ، نقله الزمخشري ، وفيه دسيسة الاعتزال. (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) : استفهام توبيخ وتشنيع عليهم ، يكفر من أوجد العالم سفليه وعلويه ، ووصف صورة خلق ذلك ومدته ، والحكمة في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتبا ، وتقدم الكلام في أول ما ابتدئ فيه الخلق ، وما خلق مرتبا. ومعنى (فِي يَوْمَيْنِ) : في مقدار يومين. (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) : أي أشباها وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام يعبدونها دونه. وقال السدي : أكفاء من الرجال يطيعونهم ، وتجعلون معطوف على لتكفرون ، فهو داخل في حيز الاستفهام المقتضي الإنكار والتوبيخ ، (ذلِكَ) أي موجد الأرض ومخترعها ، (رَبُّ الْعالَمِينَ) من الأنداد التي جعلتم له وغيرهم.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) : إخبار مستأنف ، وليس من الصلة في شيء ، بل هو معطوف على قوله : (لَتَكْفُرُونَ). (وَبارَكَ فِيها) : أكثر فيها خيرها. (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) : أي أرزاق ساكنيها ومعايشهم ، وأضافهما إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها برزت ، قاله السدي. وقال قتادة : أقواتها من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن ، والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها. وقال مجاهد : أقواتها من المطر والمياه. وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضا : خصائصها التي قسمها في البلاد مما خص به كل إقليم ، فيحتاج بعضها إلى بعض في التفوّت من الملابس والمطاعم والنبات. (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) : أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين. وقال الزمخشري (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) ، فذلكة لمدة خلق


الله وما فيها ، كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. وقال الزجاج : في تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين. انتهى ، وهذا كما تقول : بنيت جدار بيتي في يوم ، وأكملت جميعه في يومين ، أي بالأول.

وقال أبو عبد الله الرازي : ويفقه من كلام الزمخشري في أربعة أيام فائدة زائدة على قوله في يومين ، لأن قوله في يومين لا يقتضي الاستغراق لذلك العمل. أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قال في أربعة أيام سواء ، دل على أن هذه الأيام مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ونقصان. انتهى. ولا فرق بين يومين وأربعة أيام بالنسبة إلى الاستغراق ، فإن كانت أربعة تقتضي الاستغراق ، وكذلك اليومين يقتضيانه ، ومتى كان الظرف معدودا ، كان العمل في جميعه ، إما على سبيل التعميم ، نحو : سرت يومين ، وقد يكون في بعض كل يوم منها ، نحو : تهجدت ليلتين ، فاحتمل الاستغراق ، واحتمل في بعض كل واحد من الليلتين ؛ وإذا كان كذلك ، احتمل أن يكون وقع الخلق للأرض في بعض كل واحد من اليومين ، واحتمل أن يكون اليومين مستغرقين لخلقها ، فكذلك في أربعة أيام يحتمل الاستغراق ، وأن يكون خلق الأرض والجبال والبركة وتقدير الأقوات وقع في بعض كل يوم من الأربعة ، فما قاله أبو عبد الله الرازي لم تظهر به فائدة زائدة.

وقرأ الجمهور : سواء بالنصب على الحال ؛ وأبو جعفر بالرفع : أي هو سواء ، وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب : بالخفض نعتا لأربعة أيام. قال قتادة والسدي : معناه سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة منه ، فإنه يجده كما قال تعالى. وقال ابن زيد وجماعة : معناه مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبر بالسائلين عن الطالبين لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به ، إذ هم بحال حاجة. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق قوله : (لِلسَّائِلِينَ)؟ قلت : بمحذوف ، كأنه قيل هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها ، أو يقدر ، أو قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين. انتهى ، وهو راجع لقول المفسرين المتقدمين.

ولما شرح تخليق الأرض وما فيها ، أتبعه بتخليق السماء فقال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها ، والمعنى : إلى خلق السماء. والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخانا. وفي أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة إن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ، فأحدث الله في


ذلك سخونة ، فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء ، فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض ؛ وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق الله منه السموات. وفيه أيضا أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة. انتهى. وروي أنها كانت جسما رخوا كالدخان أو البخار. قال ابن عطية : هنا لفظ متروك يدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها ، وحينئذ (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا). انتهى ، فجعل ابن عطية هذه المحاورة بين الباري تعالى والأرض والسماء بعد خلق الأرض والسماء ، ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقا حقيقيا ، وجعل الله لهما حياة وإدراكا يقتضي نطقهما ، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز ، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول ، قال : والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه ، وأن العبرة فيه أتم ، والقدرة فيه أظهر. انتهى.

وقال الزمخشري : ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما ، فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع ، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه. على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : (ائْتِيا) ، شئتما ذلك أو أبيتما ، فقالتا : آتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير ، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب ، ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني؟ قال الوتد : سل من يدقني ، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي. فإن قلت : لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (١) ، فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ؛ ائت يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك ، وائت يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما يقول : أتى عمله مرضيا مقبولا. ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة ، والتدبير من كون الأرض قرارا للسماء ، وكون السماء سقفا للأرض ، وينصره قراءة من قرأ : أتيا وأتينا من المواتاة ، وهي الموافقة ، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها ، قالتا : وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا. فإن قلت : ما معنى طوعا أو كرها؟ قلت : هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال ، كما يقول الجبار لمن يحب

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ٣٠.


بلوه : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعا أو كرها. وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت : هلا قيل طائعتين على اللفظ أو طائعتان على المعنى لأنهما سموات وأرضون؟ قلت : لما جعلت مخاطبات ومجيبات ، ووصفت بالطوع والكره ، قيل : طائعين في موضع طائعات نحو قوله : ساجدين. انتهى. وقرأ الجمهور : ائتيا من الإتيان ، أي ائتيا أمري وإرادتي. وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : أتيا على وزن فعلا ، قالتا : أتينا على وزن فعلنا ، من آتى يؤتى ، كذا قال ابن عطية ، قال : وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرها وما قدره الله من أعمالها. انتهى. وتقدم في كلام الزمخشري أنه جعل هذه القراءة من المواتاة ، وهي الموافقة ، فيكون وزن آتيا : فاعلا ، وآتينا : فاعلنا ، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي قال : آتينا بالمد على فاعلنا من المواتاة ، ومعناه : سارعنا على حذف المفعول منه ، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله. انتهى. وقرأ الأعمش : أو كرها بضم الكاف ، والأصح أنه لغة في الإكراه على الشيء الموقوع التخيير بينه وبين الطواعية ، والأكثر أن الكره بالضم معناه المشقة. قال ابن عطية : وقوله قالتا ، أراد الفرقتين المذكورتين : جعل السموات سماء ، والأرضين أرضا ، وهذا نحو قول الشاعر :

ألم يحزنك أن حبال قومي

وقومك قد تباينتا انقطاعا

وعبر عنها بتباينتا. انتهى. هذا وليس كما ذكر ، لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفرد لحسن التعبير عنهما بالتثنية ، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية ، كأنه قال : ألم يحزنك أن حبلى قومي وقومك؟ ولذلك ثنى في قوله : تباينتا ، وأنث على معنى الحبل ، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة ، إنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قومهما.

والظاهر من هذه الآية أنه خلق الأرض وجعل فيها الرواسي وبارك فيها ، ثم أوجد السماء من الدخان فسواها سبع سموات ، فيكون خلق الأرض متقدما على خلق السماء ، ودحو الأرض غير خلقها ، وقد تأخر عن خلق السماء ، وقد أورد على هذا أن جعل الرواسي فيها والبركة. وتقدير الأقوات لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض موجودة. وقوله : (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها ، ولا يمكن ذلك إلا بعد صيرورتها منبسطة. ثم قال بعد : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، فاقتضى خلق السماء بعد خلق الأرض ودحوها. وأورد أيضا أن قوله تعالى للسماء


وللأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) ، كناية عن إيجادهما ، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد ، وهو محال ، وقد انتهى هذا الإيراد.

ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض ، وتأول قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) قبل أن يخلق الأرض ، فأضمر فيه كان ، كما قال تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (١) معناه : إن يكن سرق. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي : فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين ، لأن ثم تقتضي التأخر ، وكان تقتضي التقدم ، فالجمع بينهما يفيد التناقض ، ونظيره : ضربت زيدا اليوم ، ثم ضربت عمرا أمس. فكما أن هذا باطل ، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى ، قال : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين ، والإيجاد يدل عليه قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) ، وهذا محال ، لا يقال للشيء الذي وجد كن ، بل الخلق عبارة عن التقدير ، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد ، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين ، وقضاؤه بأن سيحدث كذا ، أي مدة كذا ، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال ، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء. انتهى.

والذي نقوله : أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني ، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان ، والمهلة كأنه قال : فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء ، فلا تعرض في الآية لترتيب ، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له. ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض ، ألف الأخبار فيه بثم ، فصار كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣) بعد قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (٤). ومن ترتيب الأخبار (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) (٥) بعد قوله : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) (٦). ويكون قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ) ، بعد إخباره بما أخبر به ، تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى ، كقولك : أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له. فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت ، فحد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته. ويدل

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٧٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٥٩.

(٣) سورة البلد : ٩٠ / ١٧.

(٤) سورة البلد : ٩٠ / ١١.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٤.

(٦) سورة الأنعام : ٦ / ١٥١.


على أنه المقصود الإخبار بوقوع هذه الأشياء من غير ترتيب زماني قوله في الرعد : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١) الآية ، ثم قال بعد : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) (٢) الآية. وظاهر الآية التي نحن فيها جعل الرواسي ، وتقدير الأقوات قبل الاستواء إلى السماء وخلقها ، ولكن المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني ، وما جاء من ذلك مقصورا على يومين أو أربعة أو ستة إنما المعنى في مقدار ذلك عندكم ، لا أنه كان وقت إيجاد ذلك زمان. (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) : أي صنعهن وأوجدهن ، كقول ابن أبي ذؤيب :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبع

وعلى هذا انتصب سبع على الحال. وقال الحوفي : مفعول ثان ، كأنه ضمن قضاهن معنى صيرهن فعداه إلى مفعولين ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا سبع سموات على التمييز. ويعني بقوله مبهما ، ليس عائدا على السماء ، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى ، بخلاف الحال أو المفعول الثاني ، فإنه عائد على السماء على المعنى. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) ، قال مجاهد وقتادة : وأوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي هي قوامها وصلاحها ، وقال السدي وقتادة : ومن الأمور التي هي بغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوها ، وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها. وقال الزمخشري : أمرها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. (وَحِفْظاً) : أي وحفظناها حفظا من المسترقة بالثواقب ، ويجوز أن يكون مفعولا له على المعنى ، كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا انتهى. ولا حاجة إلى هذا التقدير الثاني ، وتكلفه مع ظهور الأول وسهولته ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر ، أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ، فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٢.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣.


لا يُنْصَرُونَ ، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) : التفات خرج من ضمير الخطاب في قوله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) إلى ضمير الغيبة إعراضا عن خطابهم ، إذ كانوا قد ذكروا بما يقتضي إقبالهم وإيمانهم من الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة ، (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) : أي أعلمتكم ، (صاعِقَةً) أي حلول صاعقة. قال قتادة : عذابا مثل عذاب عاد وثمود. وقال الزمخشري : عذابا شديد الوقع ، كأنه صاعقة. وقرأ الجمهور : (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ) ، وابن الزبير ، والسلمي ، والنخعي ، وابن محيصن : بغير ألف فيهما وسكون العين ، وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة. والصعقة : المرة ، يقال : صعقته الصاعقة فصعق ، وهو من باب فعلت بفتح العين ، ففعل بكسرها نحو : خدعته فخدع ، وإذ معمولة لصاعقة لأن معناها العذاب.

(مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ، قال ابن عباس : أي قبلهم وبعدهم ، أي قبل هود وصالح وبعدهما. وقيل : من أرسل إلى آبائهم ومن أرسل إليهم ؛ فيكون (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) معناه : من قبلهم ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) معناه : الرسل الذين بحضرتهم. فالضمير في من خلفهم عائد على الرسل ، قاله الضحاك ، وتبعه الفراء ، وسيأتي عن الطبري نحو من هذا القول. وقال ابن عطية : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) : أي تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود ، وبهذا الاتصال قامت الحجة. (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) : أي جاءهم رسول بعد تقدم وجودهم في الزمن ، وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبر ومباشرة. انتهى ، وهو شرح كلام ابن عباس. وقال الزمخشري : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) : أي آتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض. كما حكى الله عن الشيطان : (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) (١) : أي لآتينهم من كل جهة ، ولأعملن فيهم كل حيلة. وعن الحسن : أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم. انتهى. وقال الطبري : الضمير في قوله : (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) عائد على الرسل ، وفي : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) عائد على الأمم ، وفيه

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧.


خروج عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى ، إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل ، أي من خلف أنفسهم ، وهذا معنى لا يتعقل إلا إن كان الضمير يعود في خلفهم على الرسل لفظا ، وهو يعود على رسل أخرى معنى ، فكأنه قال : جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين ، فيكون كقولهم : عندي درهم ونصفه ، أي ونصف درهم آخر ، وهذا فيه بعد. وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ، ولوقوعهم على بلادهم في اليمن وفي الحجر ، وقال الأفوه الأودي :

أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته

إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد

أو بعده كقدار حين تابعه

على الغواية أقوام فقد بادوا

(أن لَا تَعْبُدُوا) : يصح أن تكون أن تفسيرية ، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول ، أي جاءتهم مخاطبة ؛ وأن تكون مخففة من الثقيلة ، أي بأنه لا تعبدوا ، والناصبة للمضارع ، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا ، وفي نحو : (أَنْ طَهِّرا) (١) ، وكتبت إليه بأن قم ، ولا في هذه الأوجه للنهي. ويجوز على بعد أن تكون لا نافية ، وأن ناصبة للفعل ، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره. ومفعول شاء محذوف ، وقدره الزمخشري : لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة. انتهى. وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفا إلا من جنس الجواب ، نحو قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (٢) : أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه ، وكذلك : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) (٣) ، (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) (٤) ، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ) (٥) ، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) (٦) ، (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) (٧). قال الشاعر :

فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد

ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد

وقال الراجز :

واللذ لو شاء لكنت صخرا

أو جبلا أشم مشمخرا

فعلى هذا الذي تقرر ، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري ، وإنما التقدير :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٢٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣٥.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٦٥.

(٤) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٠.

(٥) سورة يونس : ١٠ / ٩٩.

(٦) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

(٧) سورة النحل : ١٦ / ٣٥.


لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم ، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر ، إذ علقوا ذلك بأقوال الملائكة ، وهو لم يشأ ذلك ، فكيف يشاء ذلك في البشر؟ (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) : خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان ، وغلب الخطاب على الغيبة ، نحو قولك : أنت وزيد تقومان. وما مصدرية ، أي بإرسالكم ، وبه توكيد لذلك. ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي ، والضمير في به عائد عليه ، وإذا كفروا بما تضمنه الإرسال ، كان كفرا بالإرسال. وليس قوله : (بِما أُرْسِلْتُمْ) إقرارا بالإرسال ، بل هو على سبيل التهكم ، أي بما أرسلتم على زعمكم ، كما قال فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (١).

ولما بين تعالى كفر عاد وثمود على الإجمال ، فصل بعد ذلك ، فذكر خاصية كل واحدة من الطائفتين. فقال : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا) : أي تعاظموا عن امتثال أمر الله وعن ما جاءتهم به الرسل ، (بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي بغير ما يستحقون. ولما ذكر لهم هذا الذنب العظيم ، وهو الاستكبار ، وكان فعلا قلبيا ، ذكر ما ظهر عليهم من الفعل اللساني المعبر عن ما في القلب ، (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) : أي لا أحد أشد منا ، وذلك لما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش. فرد الله تعالى عليهم بأن الذي أعطاهم ذلك هو أشد منهم قوة ، ومع علمهم بآيات الله ، كانوا يجحدونها ولا يعترفون بها ، كما يجحد المودع الوديعة من طالبها مع معرفته بها. ولفظه كان في كثير من الاستعمال تشعر بالمداومة ، وعبر بالقوة عن القدرة ، فكما يقال : الله أقدر منهم ، يقال : الله أقوى منهم. فالقدرتان بينهما قدر مشترك ، وإن تباينت القدرتان بما لكل منهما من الخاصة. كما يوصف الله تعالى بالعلم ، ويوصف الإنسان بالعلم.

ثم ذكر تعالى ما أصاب به عادا فقال : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) في الحديث : «أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ، ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا». وروي أنها كانت تحمل العير بأوقادها ، فترميهم في البحر. والصرصر ، قال مجاهد : شديدة السموم. وقال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : من الصر ، أي باردة. وقال السدي أيضا ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والطبري ، وجماعة : من صرصر إذا صوت. وقال ابن السكيت : صرصر ، يجوز أن يكون من الصرة ، وهي الصيحة ، ومنه : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) (٢). وصرصر : نهر بالعراق. وقرأ الحرميان ،

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٧.

(٢) سورة الذاريات : ٥١ / ٢٩.


وأبو عمرو ، والنخعي ، وعيسى ، والأعرج نحسات ، بسكون الحاء ، فاحتمل أن يكون مصدرا وصف به وتارة يضاف إليه ، واحتمل أن يكون مخففا من فعل. وقال الطبري : نحس ونحس : مقت. وقال الزمخشري : مخفف نحس ، أو صفة على فعل ، أو وصف بمصدر. انتهى. وتتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلا بسكون العين ، قالوا : يأتي على فعل كفرح وهو فرح ، وعلى أفعل حور فهو أحور ، وعلى فعلان شبع فهو شبعان ، وقد يجيء على فاعل سلم فهو سالم ، وبلى فهو بال. وقرأ قتادة ، وأبو رجاء ، والجحدري ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وباقي السبعة : بكسر الحاء وهو القياس ، وفعله نحس على فعل بكسر العين ، ونحسات صفة لأيام جمع بألف وتاء ، لأنه جمع صفة لما لا يعقل. قال مجاهد ، وقتادة ، والسدّي : مشائيم من النحس المعروف. وقال الضحاك : شديدة البرد ، وحتى كان البرد عذابا لهم. وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد :

كأن سلافة عرضت بنحس

يخيل شقيقها الماء الزلالا

وقيل : سميت بذلك لأنها ذات غبار ، ومنه قول الراجز :

قد اغتدي قبل طلوع الشمس

للصيد في يوم قليل النحس

يريد : قليل الغبار. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : متتابعات كانت آخر شوال من أربعاء إلى أربعاء. وقال السّدي : أولها غداة يوم الأحد. وقال الربيع بن أنس : يوم الجمعة. وقال يحيى بن سلام : يوم الأحد. (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : وهو الهلاك. وقرىء : لتذيقهم بالتاء. وقال الزمخشري : على الإذاقة للريح ، أو للأيام النحسات. وأضاف العذاب إلى الخزي إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظة أخرى التي تقتضي المشاركة والتفصيل خبرا عن قوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) ، وهو إسناد مجازي ، أو وصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به. ألا ترى تفاوت ما بين قولك : هو شاعر ، وقوله : له شعر شاعر؟ وقابل استكبارهم بعذاب الخزي ، وهو الذل والهوان. وبدأ بقصة عاد ، لأنها أقدم زمانا ، ثم ذكر ثمود فقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ). وقرأ الجمهور : بالرفع ممنوع من الصرف ؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وبكر بن حبيب : مصروفا ، وهي قراءة ابن وثاب ، والأعمش في ثمود بالتنوين في جميع القرآن إلا قوله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) (١) ، لأنه في

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٨ / ٥٩.


المصحف بغير ألف. وقرىء : ثمود بالنصب ممنوعا من الصرف ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعمش : ثمودا منونة منصوبة. وروى المفضل عن عاصم الوجهين. انتهى. (فَهَدَيْناهُمْ) ، قال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : بينا لهم. قال ابن عطية : وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد. وقال الفراء ، وتبعه الزمخشري : فهديناهم : فذللناهم على طريق الضلالة والرشد ، كقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١).

(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) : فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. فإن قلت : أليس معنى هديته : حصلت فيه الهدى ، الدليل عليه قولك : هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها؟ كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت : للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر ولا علة ، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. وقال سفيان : دعوناهم. وقال ابن زيد : أعلمناهم الهدى من الضلال. وقال ابن عطية : فاستحبوا عبارة عن تكسبهم في العمى ، وإلا فهو بالاختراع لله ، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). انتهى. والهون : الهوان ، وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه. وقرأ ابن مقسم : عذاب الهوان ، بفتح الهاء وألف بعد الواو. وقال الزمخشري : ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفى به شاهدا إلا هذه ، لكفى بها حجة. انتهى ، على عادته في سب أهل السنة. ثم ذكر قريشا بنجاة من آمن واتقى. قيل : وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب هود وصالح مائة وعشرة أنفس.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ، وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ، فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً

__________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٠.


شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ، ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ).

لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا ، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم. وانتصب يوم باذكر. وقرأ الجمهور : (يُحْشَرُ) مبنيا للمفعول ، و (أَعْداءُ) رفعا ، وزيد بن عليّ ، ونافع ، والأعرج ، وأهل المدينة : بالنون أعداء نصبا ، وكسر الشين الأعرج ؛ وتقدم معنى (يُوزَعُونَ) في النمل ، و (حَتَّى) : غاية ليحشروا ، (أَعْداءُ اللهِ) : هم الكفار من الأولين والآخرين ، وما بعد إذا زائدة للتأكيد. وقال الزمخشري : ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) (١) : أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. انتهى. ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها ، ولو كان التركيب بغير ما ، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر ، لأن أداة الشرط ظرف ، فالشهادة واقعة فيه لا محالة ، وفي الكلام حذف ، التقدير : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) ، أي النار ، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا ، (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) بما اكتسبوا من الجرائم ، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم. ففي الحديث : «أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ، ثم تنطق الجوارح فيقول : تبا لك ، وعنك كنت أدافع».

ولما كانت الحواس خمسة : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وكان الذوق مندرجا في اللمس ، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق ، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، وهو ضعيف ، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس ، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف ، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه ، فهذه والله أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة. والظاهر أن الجلود هي المعروفة. وقيل : هي الجوارح كنى بها عنها. وقيل : كنى بها عن الفروج. قيل : وعليه أكثر المفسرين ، منهم ابن عباس ، كما كنى عن النكاح بالسر. (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الجرائم. ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم ، فلم تذكر سببا غير أن الله تعالى أنطقها.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٥١.


ولما صدر منها ما صدر من العقلاء ، وهي الشهادة ، خاطبوها بقولهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ)؟ مخاطبة العقلاء. وقرأ زيد بن علي : لم شهدتن؟ بضمير المؤنثات. و (كُلَّ شَيْءٍ) : لا يراد به العموم ، بل المعنى : كل ناطق بما ذلك له عادة ، أو كان ذلك فيه خرق عادة. وقال الزمخشري : أراد بكل شيء : كل شيء من الحيوان ، كما أراد به في قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) ، من المقدورات. والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، وإنما قالوا لهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم. وقال الزمخشري أيضا : فإن قلت : كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق؟ قلت : الله عزوجل ينطقها ، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما. انتهى ، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي ، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل. وإنما أشار بقوله : كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما إلى أن الله تعالى لم يكلم موسى حقيقة ، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق الله فيها كلاما خاطبته به عن الله تعالى. والظاهر أن قوله : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) من كلام الجوارح ، قيل : ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى توبيخا لهم ، أو من كلام ملك يأمره تعاليه. و (أَنْ يَشْهَدَ) : يحتمل أن يكون معناه : خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد ، (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ) ، فانهمكتم وجاهدتم ، وإلى هذا نحا مجاهد ، والستر يأتي في هذا المعنى ، كما قال الشاعر :

والستر دون الفاحشات وما

يلقاك دون الخير من ستر

ويحتمل أن يكون معناه : عن أن يشهد ، أي وما كنتم تمتنعون ، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم ، وإلى هذا نحا السدي ، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم ، لأن الجوارح لزيمة لكم. وعبر قتادة عن تستترون بتظنون ، أي وما كنتم تظنون أن يشهد ، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ ، (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً) ، وهو الخفيات من أعمالكم ، وهذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله. (وَذلِكُمْ) : إشارة إلى ظنهم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالهم ، وهو مبتدأ خبره (أَرْداكُمْ) ، و (ظَنُّكُمُ) بدل من (ذلِكُمْ) أي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٤.


وظنكم بربكم ذلكم أهلككم. وقال الزمخشري : وظنكم وأرداكم خبران. وقال ابن عطية : أرداكم يصلح أن يكون خبرا بعد خبر. انتهى. ولا يصح أن يكون ظنكم بربكم خبرا ، لأن قوله : (وَذلِكُمْ) إشارة إلى ظنهم السابق ، فيصير التقدير : وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم ، فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ ، وهو لا يجوز ؛ وصار نظير ما منعه النحاة من قولك : سيد الجارية مالكها. وقال ابن عطية : وجوز الكوفيون أن يكون معنى أرداكم في موضع الحال ، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالا إلا إذا اقترن بقد ، وقد يجوز تقديرها عندهم إن لم يظهر. انتهى. وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالا بغير تقدير قد وهو الصحيح ، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس ، ويبعد فيها التأويل ، وقد ذكرنا كثرة الشواهد على ذلك في كتابنا المسمى (بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل).

(فَإِنْ يَصْبِرُوا) : خطاب للنبي عليه‌السلام ، قيل : وفي الكلام حذف تقديره : أولا يصبروا ، كقوله : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) ، (١) وذلك في يوم القيامة. وقيل : التقدير : فإن يصبروا على ترك دينك واتباع أهوائهم ، (فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) : أي مكان إقامة. وقرأ الجمهور : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) مبنيا للفاعل ، (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) : اسم مفعول. قال الضحاك : إن يعتذروا فما هم من المعذورين ؛ وقيل : وإن طلبوا العتبى ، وهي الرضا ، فما هم ممن يعطاها ويستوجبها. وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد ، وموسى الأسواري : وإن يستعتبوا : مبنيا للمفعول ، فما هم من المعتبين : اسم فاعل ، أي طلب منهم أن يرضوا ربهم ، فما هم فاعلون ، ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس بعد الموت مستعتب». وقال أبو ذؤيب :

أمن المنون وريبة تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.

ولما ذكر تعالى الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة ، أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) : أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا. وقيل : سلطنا ووكلنا عليهم. وقيل : قدرنا لهم. وقرناء : جمع قرين ، أي قرناء سوء من غواة الجن والإنس ؛ (فَزَيَّنُوا لَهُمْ) : أي حسنوا وقدروا في أنفسهم ؛

__________________

(١) سورة الطور : ٥٢ / ١٦.


(ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ، قال ابن عباس : من أمر الآخرة ، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث. (وَما خَلْفَهُمْ) ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا ، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا. وقال الكلبي : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : أعمالهم التي يشاهدونها ، (وَما خَلْفَهُمْ) : ما هم عاملوه في المستقبل. وقال ابن عطية : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء ، (وَما خَلْفَهُمْ) : ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد. انتهى ، ملخصا ، وهو شرح قول الحسن ، قال : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الدنيا ، (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين ، والدليل عليه : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) (١). انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي كلمة العذاب ، وهو القضاء المحتم ، بأنهم معذبون. (فِي أُمَمٍ) : أي في جملة أمم ، وعلى هذا قول الشاعر :

إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو

كا ففي آخرين قد أفكوا

أي : فأنت في جملة آخرين ، أو فأنت في عدد آخرين ، لست في ذلك بأوحد. وقيل : في بمعنى مع ، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في. وموضع في (أُمَمٍ) نصب على الحال ، أي كائنين في جملة أمم ، وذو الحال الضمير في عليهم. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) : الضمير لهم وللأمم ، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا) : أي لا تصغوا ، (لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) : إذا تلاه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أبو العالية : وقعوا فيه وعيبوه. وقال غيره : كان الرسول عليه‌السلام إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر ، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك فقالوا : متى قرأ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأرجاز حتى يخفى صوته ، وهذا الفعل هو اللغو. وقرأ الجمهور والفراء : بفتح الغين مضارع لغى بكسرها ؛ وبكر بن حبيب السهمي كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب اللوامح. وأما في كتاب ابن خالويه ، فعبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى : بخلاف عنهما ، بضم الغين مضارع لغى بفتحها ، وهما لغتان ، أي ادخلوا فيه

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٦.


اللغو ، وهو اختلاف القول بما لا فائدة فيه. وقال الأخفش : يقال لغا يلغى بفتح الغين وقياسه الضم ، لكنه فتح لأجل حرف الحلق ، فالقراءة الأولى من يلغى. والثانية من يلغو. وقال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغى به إذا رمى به ، فيكون فيه بمعنى به ، أي ارموا به وانبذوه. (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) : أي تطمسون أمره وتميتون ذكره.

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : وعيد شديد لقريش ، والعذاب الشديد في الدنيا كوقعة بدر وغيرها ، والأسوأ يوم القيامة. أقسم تعالى على الجملتين ، وشمل الذين كفروا القائلين والمخاطبين في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا). (ذلِكَ) : أي جزاؤهم في الآخرة ، فالنار بدل أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر ذلك ، وجزاء مبتدأ والنار خبره. (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) : أي فكيف قيل فيها؟ والمعنى أنها دار الخلد ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (١) ، والرسول نفسه هو الأسوة ، وقال الشاعر :

وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل

والمعنى أن الله هو الحكم العدل ، ومجاز ذلك أنه قد يجعل الشيء ظرفا لنفسه ، باعتبار متعلقه على سبيل المبالغة ، كأن ذلك المتعلق صار الشيء مستقرا له ، وهو أبلغ من نسبة ذلك المتعلق إليه على سبيل الإخبارية عنه : (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ، قال الزمخشري : إن جزاءهم بما كانوا يلغون فيها ، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو. ولما رأى الكفار عظم ما حل بهم من عذاب النار ، سألوا من الله تعالى أن يريهم من كان سبب إغوائهم وإضلالهم. والظاهر أن (الَّذِينَ) يراد بهما الجنس ، أي كل مغو من هذين النوعين ، وعن علي وقتادة : أنهما إبليس وقابيل ، إبليس سن الكفر ، وقابيل سن القتل بغير حق. قيل : وهل يصح هذا القول؟ عن علي : وقابيل مؤمن عاص ، وإنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود ، وقد أصلح هذا القول بأن قال : طلب قابيل كل عاص من أهل الكبائر ، وطلب إبليس كل كافر ، ولفظ الآية ينبو عن هذا القول وعن إصلاحه ، وتقدم الخلاف في قراءة (أَرِنَا) في قوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) (٢). وقال الزمخشري : حكوا عن الخليل أنك إذا قلت : أرني ثوبك بالكسر ، فالمعنى : بصرنيه ، وإذا قلته بالسكون ، فهو استعطاء معناه : أعطني ثوبك ؛ ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء ، وأصله الإحضار.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٨.


انتهى. (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) : يريدون في أسفل طبقة من النار ، وهي أشد عذابا ، وهي درك المنافقين. وتشديد النون في اللذين واللتين وهذين وهاتين حالة كونهما بالياء لا تجيزه البصريون ، والقراءة بذلك في السبعة حجة عليهم.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قال ابن عباس : نزلت في الصديق ، قال المشركون : ربنا الله ، والملائكة بناته ، وهؤلاء شفعاؤنا عنده. واليهود : ربنا الله ، والعزير ابنه ، ومحمد ليس بنبي ، فلم يستقيما ، والصديق قال : ربنا الله وحده لا شريك له ، ومحمد عبده ورسوله ، فاستقام. ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار ، أردفه بوعيد المؤمنين ؛ وليس المراد التلفظ بالقول فقط ، بل لا بد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني. وبدأ أولا بالذي هو أمكن في الإسلام ، وهو العلم بربوبية الله ، ثم أتبعه بالعمل الصالح ، وهو الاستقامة. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي ، قلت للنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرني بأمر أعتصم به ، قال : «قل ربي الله ثم استقم» قلت : ما أخوف ما تخاف علي ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان نفسه وقال : «هذا» وعن الصديق : ثم استقاموا على التوحيد ، لم يضطرب إيمانهم. وعن عمر : استقاموا لله بطاعته لم يروغوا روغان الثعالب. وعن عثمان : أخلصوا العمل. وعن علي : أدوا الفرائض. وقال أبو العالية ، والسدي : استقاموا على الإخلاص والعمل إلى الموت. وقال الثوري : عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الفضل : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقال الربيع : أعرضوا عن ما سوى الله تعالى. وقيل : استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. وعن الحسن وقتادة وجماعة : استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي. قال الزمخشري : وثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في


المرتبة وفضلها عليه ، لأن الاستقامة لها الشأن كله ، ونحوه قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) (١) ، والمعنى : ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن الصديق رضي‌الله‌عنه أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا ، قال : حملتم الأمر على أشده ، قالوا : فما تقول؟ قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. انتهى.

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) ، قال مجاهد والسدي : عند الموت. وقال مقاتل : عند البعث. وقيل : عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث. وأن ناصبة للمضارع ، أي بانتفاء خوفكم وحزنكم ، قال معناه الحوفي وأبو البقاء. وقال الزمخشري : بمعنى أي أو المخففة من الثقيلة ، وأصله بأنه لا تخافوا ، والهاء ضمير الشأن. انتهى. وعلى هذين التقديرين يكون الفعل مجزوما بلا الناهية ، وهذه آية عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض ، ولذلك قال مجاهد : لا تخافوا ما تقدرون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم. وقال عطاء بن أبي رباح : (أَلَّا تَخافُوا) رد ثوابكم ، فإنه مقبول ؛ (وَلا تَحْزَنُوا) على ذنوبكم ، فإني أغفرها لكم. وفي قراءة عبد الله : لا تخافوا ، بإسقاط أن ، أي تتنزل عليهم الملائكة قائلين : لا تخافوا ولا تحزنوا. ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قدمه ، ثم لما وقع الأمن لهم ، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة ، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما سيفعلون من الخير.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) : الظاهر أنه من كلام الملائكة ، أي يقولون لهم. وفي قراءة عبد الله : يكون من جملة المقول قبل ، أي نحن كنا أولياءكم في الدنيا ، ونحن أولياؤكم في الآخرة. لما كان أولياء الكفار قرناؤهم من الشياطين ، كان أولياء المؤمنين الملائكة. وقال السدي : نحن حفظتكم في الدنيا ، وأولياؤكم في الآخرة. وقيل : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) من كلام الله تعالى ، أولياؤكم بالكفاية والهداية ، (وَلَكُمْ فِيها) : الضمير عائد على الآخرة ، قاله ابن عطية. وقال الحوفي : على الجنة ، (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من الملاذ ، (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ). قال مقاتل : ما تتمنون. وقيل : ما تريدون. وقال ابن عيسى : ما تدعي أنه لك ، فهو لك بحكم ربك. قال ابن عطية : ما تطلبون. (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) النزل : الرزق المقدم للنزيل وهو الضيف ، قال معناه ابن عطاء ، فيكون نزلا حالا ، أي تعطون ذلك في حال كونه نزولا لا نزلا ، وجعله بعضهم مصدرا لأنزل. وقيل نزل جمع نازل ، كشارف

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٥.


وشرف ، فينتصب على الحال ، أي نازلين ، وذو الحال الضمير المرفوع في يدعون. وقال الحسن : معنى نزلا منا ، وقيل : ثوابا. وقرأ أبو حيوة : نزلا بإسكان الزاي.

ولما تقدم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) ، ذكر من دعا إلى ذلك فقال : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) : أي لا أحد أحسن قولا ممن يدعو إلى توحيد الله ، ويعمل العمل الصالح ، ويصرح أنه من المستسلمين لأمر الله المنقادين له ، والظاهر العموم في كل داع إلى الله ، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة. وقيل بالخصوص ، فقال ابن عباس : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا إلى الإسلام ، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه ، وجعل الإسلام نحلة. وعنه أيضا : هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقالت عائشة ، وقيس بن أبي حازم ، وعكرمة ، ومجاهد : نزلت في المؤذنين ، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية ، وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف. ولم يكن الأذان بمكة ، إنما شرع بالمدينة ، والدعاء إلى الله يكون بالدعاء إلى الإسلام وبجهاد الكفار وكف الظلمة. وقال زيد بن علي : دعا إلى الله بالسيف ، وهذا ، والله أعلم ، هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية. وكان زيد هذا عالما بكتاب الله ، وقد وقفت على جملة من تفسيره كتاب الله وإلقائه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك ، وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر ، يقال : إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم ، رحمهما‌الله ورضي عنهما. وقال أبو العالية : (وَعَمِلَ صالِحاً) : صلى بين الأذان والإقامة. وقال عكرمة : صلى وصام. وقال الكلبي : أدّى الفرائض. وقال مجاهد : هي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاثة أن يكون موحدا معتقدا لدين الإسلام ، عاملا بالخير داعيا إليه ، ومآلهم إلى طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة إلى دين الإسلام. انتهى ، ويعني بذلك المعتزلة ، يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد ، ويوجد ذلك في أشعارهم ، كما قال ابن أبي الحديد المعتزلي ، صاحب كتاب (الفلك الدائر في الرد على كتاب المثل السائر) ، قال من كلامه : أنشدنا عنه الإمام الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه‌الله تعالى :

لولا ثلاث لم أخف صرعتي

ليست كما قال فتى العبد

أن أنصر التوحيد والعدل في

كل مقام باذلا جهدي

وأن أناجي الله مستمتعا

بخلوة أحلى من الشهد


وأن أصول الدهر كبرا على

كل لئيم أصعر

الخد لذاك أهوى لا فتاة ولا

خمر ولا ذي ميعة نهد

(وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : ليس المعنى أنه تكلم بهذا ، بل جعل الإسلام معتقده. كما تقول : هذا قول الشافعي ، أي مذهبه. وقرأ ابن أبي عبلة ، وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال : وقال إني ، بنون مشددة واحدة ؛ والجمهور : إنني بها وبنون الوقاية. وقال أبو بكر بن العربي : لم يشترط إلا إن شاء الله ، ففيه رد على من يقول : أنا مسلم إن شاء الله. ولما ذكر تعالى أنه لا أحد أحسن ممن دعا إلى الله ، ذكر ما يترتب على ذلك من حسن الأخلاق ، وأن الداعي إلى الله قد يجافيه المدعو ، فينبغي أن يرفق به ويتلطف في إيصال الخير فيه. قيل : ونزلت في أبي سفيان بن حرب ، وكان عدوّا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصار وليا مصافيا. وقال ابن عباس : الحسنة لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك. وقال الكلبي : الدعوتان إليهما. وقال الضحاك : الحلم والفحش. وعن علي : حب الرسول وآله وبغضهم. وقيل : الصبر والنفور. وقيل : المداراة والغلظة. وقيل : العفو والاقتصاد ، وهذه أمثلة للحسنة والسيئة ، لا على طريق الحصر.

ولما تفاوتت الحسنة والسيئة ، أمر أن يدفع السيئة بالأحسن ، وذلك مبالغة ، ولم يقل : ادفع بالحسنة السيئة ، لأن من هان عليه الدفع بالأحسن هان عليه الدفع بالحسن ، أي وإذا فعلت ذلك ، (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) صار لك كالولي : الصديق الخالص الصداقة ، ولا في قوله : (وَلَا السَّيِّئَةُ) زائدة للتوكيد ، كهي في قوله : (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (١) ، لأن استوى لا يكتفي بمفرد ، فإن إحدى الحسنة والسيئة جنس لم تكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا ، إذ يصير المعنى : ولا تستوي الحسنات ، إذ هي متفاوتات في أنفسها ، ولا السيئات لتفاوتها أيضا. قال ابن عطية : دخلت كأن للتشبيه ، لأن الذي عنده عداوة لا يعود وليا حميما ، وإنما يحسن ظاهره ، فيشبه بذلك الولي الحميم ، وعن ابن عباس : (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة. وقال مجاهد ، وعطاء : السلام عند اللقاء. انتهى ، أي هو مبدأ الدفع بالأحسن ، لأنه محصور فيه. وعن مجاهد أيضا : أعرض عن أذاهم. وقال أبو فراس الحمداني :

يجني عليّ وأجنو صافحا أبدا

لا شيء أحسن من جان على جان

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢١.


(وَما يُلَقَّاها) : الضمير عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن. وقرأ طلحة بن مصرف ، وابن كثير في رواية : وما يلاقاها : من الملاقاة. وقرأ الجمهور : من التلقي ، وكأن هذه الخصلة الشريفة غائبة ، فما يصادفها ويلقيها الله إلا لمن كان صابرا على الطاعات ، صارفا عن الشهوات ، ذا حظ عظيم من خصال الخير ، قاله ابن عباس ، فيكون مدحا ؛ أو (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من ثواب الآخرة ، قاله قتادة ، فيكون وعدا. وقيل : إلا ذو عقل. وقيل : ذو خلق حسن ، وكرر (وَما يُلَقَّاها) تأكيدا لهذه الفعلة الجميلة الجليلة. وقيل : الضمير في يلقاها عائد على الجنة. وحكى مكي : (وَما يُلَقَّاها) : أي شهادة أن لا إله إلا الله ، وفيه بعد.

ولما أمر تعالى بدفع السيئة بالأحسن ، كان قد يعرض للمسلم في بعض الأوقات مقابلة من أساء بالسيئة ، فأمره ، إن عرض له ذلك ، أن يستعيذ بالله ، فإن ذلك من نزغ الشيطان ، وتقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر الأعراف.

ولما بين تعالى أن أحسن الأعمال والأقوال هو نظير هذه الآية الدعوة إلى الله ، أردفه بذكر الدلائل العلوية والسفلية ، وعلى قدرته الباهرة وحكمته البالغة وحجته القاطعة ، فبدأ بذكر الفلكيات بالليل والنهار ، وقدم ذكر الليل ، قيل تنبيها على أن الظلمة عدم والنور وجود ، وناسب ذكر الشمس بعد النهار ، لأنها سبب لتنويره ويظهر العالم فيه ، ولأنها أبلغ في التنوير من القمر ، ولأن القمر فيما يقولون مستفاد نوره من نور الشمس. ثم نهى تعالى عن السجود لهما ، وأمر بالسجود للخالق تعالى. وكان ناس يعبدون الشمس ، كما جاء في قصة بلقيس وقومها. والضمير في (خَلَقَهُنَ) عائد على الليل والنهار والشمس والقمر. قال الزمخشري : لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى ، أي الإناث ، يقال : الأقلام بريتها وبريتهن. انتهى ، يريد ما لا يعقل من الذكر ، وكان ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك ، فإن الأفصح أن يكون كضمير الواحدة ، تقول : الأجذاع انكسرت على الأفصح ، والجذوع انكسرن على الأفصح.

والذي تقدّم في الآية ليس بجمع قلة ، أعني بلفظ واحد ، ولكنه ذكر أربعة متعاطفة ، فتنزلت منزلة الجمع المعبر عنها بلفظ واحد. وقال الزمخشري : ولما قال : (وَمِنْ آياتِهِ) ، كن في معنى الآيات ، فقيل : (خَلَقَهُنَ). انتهى ، يعني أن التقدير والليل والنهار والشمس والقمر آيات من آياته ، فعاد الضمير على آيات الجمع المقدر في المجرور. وقيل : يعود على الآيات المتقدم ذكرها. وقيل : على الشمس والقمر ، والاثنان جمع ، وجمع ما


لا يعقل يؤنث ، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ، ساغ أن يعود الضمير مجموعا. (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) : أي إن كنتم موحدين غير مشركين ، والسجدة عند الشافعي عند قوله : (تَعْبُدُونَ) ، وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها ، وعند أبي حنيفة عند قوله : (لا يَسْأَمُونَ) ، لأنها تمام المعنى ، وفي التحرير : كان علي وابن مسعود يسجدان عند (تَعْبُدُونَ). وقال ابن وهب والشافعي : عند (يَسْأَمُونَ) ، وبه قال أبو حنيفة ، وسجد عندها ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله ، وكذلك روي عن مسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن سيرين. انتهى ملخصا.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) : أي تعاظموا على اجتناب ما نهيت من السجود لهذين المحدثين المربوبين ، وامتثال ما أمرت به من السجود للخالق لهن ؛ فإن الملائكة الذين هم عند الله بالمكانة والرتبة الشريفة ينزهونه عن ما لا يليق بكبريائه ، (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) : أي لا يملون ذلك ، وهم خير منكم ، مع أنه تعالى غني عن عبادتكم وعبادتهم. ولما ذكر شيئا من الدلائل العلوية ، ذكر شيئا من الدلائل السفلية فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) : أي غبراء دارسة ، كما قال :

ونؤى كجذم الحوض أبلم خاشع

استعير الخشوع لها ، وهو التذلل لما ظهر بها من القحط وعدم النبات وسوء العيش عنها ، بخلاف أن تكون معشبة وأشجارا مزهرة ومثمرة ، فذلك هو حياتها. وقال السدّي : خاشعة ميتة يابسة ، وتقدّم الكلام على قوله : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ ، اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) تفسيرا وقراءة في أوائل سورة الحج. (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) : يرد الأرواح إلى الأجساد ، (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : لا يعجزه شيء تعلقت به إرادته.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ ، وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ، مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).


لما بين تعالى أن الدعاء إلى دين الله أعظم القربات ، وأنه يحصل ذلك بذكر دلائل التوحيد والعدل والبعث ، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ويجادل ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) ، وتقدم الكلام على الإلحاد في قوله : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) (١) ، وذكر تعالى أنهم لا يخفون عليه ، وفي ذلك تهديد لهم. وقال قتادة : هنا الإلحاد : التكذيب ، ومجاهد : المكاء والصفير واللغو. وقال ابن عباس : وضع الكلام غير موضعه. وقال أبو مالك : يميلون عن آياتنا. وقال السدي : يعاندون رسلنا فيما جاءوا فيه من البينات والآيات. ثم استفهم تقريرا : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) ، بإلحاده في آياتنا ، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً) ، ولا اشتراك بين الإلقاء في النار والإتيان آمنا ، لكنه ، كما قلنا ، استفهام تقرير ، كما يقرر المناظر خصمه على وجهين ، أحدهما فاسد يرجو أن يقع في الفاسد فيتضح جهله ، ونبه بقوله : (يُلْقى فِي النَّارِ) على مستقر الأمر ، وهو الجنة ، وبقوله : (آمِناً) على خوف الكافر وطول وجله ، وهذه الآية ، قال ابن بحر : عامة في كل كافر ومؤمن. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان. وقيل : فيه وفي عمار بن ياسر. وقيل : فيه وفي عمر. وقيل : في أبي جهل وحمزة بن عبد المطلب. وقال الكلبي : وأبو جهل والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما تقدم ذكر الإلحاد ، ناسب أن يتصل به من التقرير من اتصف به. ولم يكن التركيب : أم من يأتي آمنا يوم القيامة كمن يلقى في النار ، كما قدم ما يشبهه في قوله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) (٢) ، وكما جاء في سورة القتال : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (٣). (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) : وعيد وتهديد بصيغة الأمر ، ولذا جاء (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بأعمالكم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) : هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم ، والذكر : القرآن هو بإجماع ، وخبر إن اختلفوا فيه أمذكور هو أو محذوف؟ فقيل : مذكور ، وهو قوله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة. سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال : لم أجد لها نفاذا ، فقال له أبو عمرو : إنه منك لقريب (أُولئِكَ يُنادَوْنَ). وقال الحوفي : ويرد على هذا القول كثرة الفصل ، وأنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٠.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ١٩.

(٣) سورة محمد : ٤٧ / ١٤.


وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ). وقيل : محذوف ، وخبر إن يحذف لفهم المعنى. وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو : معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به ، وإنه لكتاب ، فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان. وقال قوم : تقديره معاندون أو هالكون. وقال الكسائي : قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل إن ، وهو قوله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ). انتهى ، كأنه يريد : دل عليه ما قبله ، فيمكن أن يقدر يخلدون في النار. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ)؟ قلت : هو بدل من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا). انتهى. ولم يتعرض بصريح الكلام في خبر إن أمذكور هو أو محذوف ، لكن قد ينتزع من كلامه هذا أنه تكلم فيه بطريق الإشارة إليه ، لأنه ادّعى أن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) بدل من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) ، فالمحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل ، فيكون التقدير : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) ، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) ، لا يخفون علينا. وقال ابن عطية : والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر بعد (حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، وهو أشد إظهارا ، لأن قوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) داخل في صفة الذكر المكذب به ، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه. انتهى ، وهو كلام حسن.

والذي أذهب إليه أن الخبر مذكور ، لكنه حذف منه عائد يعود على اسم إن ، وذلك في قوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) : أي الباطل منهم ، أي الكافرون به ، وحالة هذه لا يأتيه باطلهم ، أي متى راموا فيه أن يكون ليس حقا ثابتا من عند الله وإبطالا له لم يصلوا إليه ، أو تكون أل عوضا من الضمير على قول الكوفيين ، أي لا يأتيه باطلهم ، أو يكون الخبر قوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ، أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك. ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل ، وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك ، وفي الآخرة بالعذاب الدائم. وغاية ما في هذين التوجيهين حذف الضمير العائد على اسم إن ، وهو موجود ، نحو قوله : السمن منوان بدرهم : أي منوان منه والبر كرّ بدرهم : أي كر منه. وعن بعض نحاة الكوفة : الخبر في قوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) ، وهذا لا يتعقل. (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) : جملة حالية ، كما تقول : جاء زيد وأن يده على رأسه ، أي كفروا به ، وهذه حاله وعزته كونه عديم النظير لما احتوى عليه من الإعجاز الذي لا يوجد في غيره من الكتب ، أو غالب ناسخ لسائر الكتب والشرائع. وقال ابن عباس : عزيز كريم على الله تعالى. وقال مقاتل : ممتنع من الشيطان. وقال السدي : غير مخلوق.


وقيل : وصف بالعزة لأنه لصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه ، وهو محفوظ من الله ، (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) من جعل خبر إن محذوفا ، أو قوله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) ، كانت هذه الجملة في موضع الصفة على ما اخترناه من أحد الوجهين تكون الجملة في موضع خبر إن ، والمعنى أن الباطل لا يتطرق إليه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ، تمثيل : أي لا يجد الطعن سبيلا إليه من جهة من الجهات ، فيتعلق به.

وأما ما ظهر من بعض الحمقى من الطعن على زعمهم ، ومن تأويل بعضهم له ، كالباطنية ، فقد رد عليهم ذلك علماء الإسلام وأظهروا حماقاتهم. وقال قتادة : الباطل الشيطان ، واللفظ لا يخص الشيطان. وقال ابن جبير والضحاك : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : أي كتاب من قبله فيبطله ، ولا من بعده فيكون على هذا الباطل في معنى المبطل نحو : أورس النبات فهو وارس ، أي مورس ، أو يكون الباطل بمعنى المبطل مصدرا ، فيكون كالعافية. وقيل : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : أي قبل أن يتم نزوله ، (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) : من بعد نزوله. وقيل عكس هذا. وقيل : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : قبل أن ينزل ، لأن الأنبياء بشرت به ، فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك ، (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) : بعد أن أنزل. وقال الطبري : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : لا يقدر ذو باطل أن يكيده بتغيير ولا تبديل ، (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) : لا يستطيع ذو باطل أن يلحد فيه. (تَنْزِيلٌ) : أي هو تنزيل ، (مِنْ حَكِيمٍ) : أي حاكم أو محكم لمعانيه ، (حَمِيدٍ) : محمود على ما أسدى لعباده من تنزيل هذا الكتاب وغيره من النعم.

(ما يُقالُ لَكَ) : يقال مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل الله تعالى ، كما تقدم تأويلها فيه ، أي ما يوحي إليك الله إلا مثل ما أوحى إلى الرسل في شأن الكفار ، كما تأولناه على أحد الوجهين أو في الشرائع. وجوزوا على أن القائل هو الله أن يكون. (إِنَّ رَبَّكَ) : تفسير لقوله : (ما قَدْ قِيلَ) ، فالمقول (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) للطائعين ، (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) للعاصين ، وهذا التأويل فيه بعد ، لأنه حصر ما أوحى الله إليه وإلى الرسل في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) ، وهو تعالى قد أوحى إليه وإليهم أشياء كثيرة. فإذا أخذناه على الشرائع أو على عاقبة المكذبين كان الحصر صحيحا ، وكان قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ) استئناف إخبار عنه تعالى لا تفسير لما قد قيل. ويحتمل أن يكون القائل الكفار ، أي ما يقول لك كفار قومك إلا ما قد قال كفار الرسل لهم من الكلام المؤذي والطعن فيما أنزل الله عليهم من الكتب. ثم أخبر تعالى أنه ذو مغفرة وذو عقاب أليم ، وفيه الترجئة بالغفران ، والزجر بالعقاب ، وهو وعظ وتهديد. وقال قتادة : عزى الله نبيه وسلاه بقوله : (ما يُقالُ لَكَ


إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ، ومثله كذلك : (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (١).

ولما ذكر تعالى الملحدين في آياته ، وأنهم لا يخفون عليه ، والكافرين بالقرآن ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذيبهم ، وقولهم : هل أنزل بلغة العجم؟ فقال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) : أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب ، لم يتركوا الاعتراض ، و (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) : أي بينت لنا ، وأوضحت حتى نفهمها. وقرأ الجمهور : أعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي ، وقياسها في التخفيف التسهيل بين بين. وقرأ الإخوان ، والأعمش ، وحفص : بهمزتين ، أي وقالوا منكرين : أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربي؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله : (أَعْجَمِيٌ) ، ونحن عرب ما لنا وللعجمة. وقال ابن عطية : لأنهم ينكرون ذلك فيقولون : لو لا بين أعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن. انتهى. ولا يصح هذا التقسيم لأنه بالنسبة للقرآن ، وهم إنما قالوا ما دل عليه قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) ، من اقتراحهم أن يكون أعجميا ، ولم يقترحوا أن يكون القرآن أعجميا وعربيا. وقرأ الحسن ، وأبو الأسود ، والجحدري ، وسلام ، والضحاك ، وابن عباس ، وابن عامر بخلاف عنهما : أعجمي وعربي دون استفهام وسكون العين ، فقيل معناه : أنهم قالوا : أعجمة وأعراب ، إن هذا لشاذ. وقال ابن جبير معناه : لو لا فصل فصلين ، فكان بعضه أعجميا يفهمه العجم ، وبعضه عربيا يفهمه العرب. وقال صاحب اللوامح : لأنهم لما قالوا : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) ، أعادوا القول ثانيا فقالوا : (أَعْجَمِيٌ) ، وأضمر المبتدأ ، أي هو أعجمي ، والقرآن ، أو الكلام ، أو نحوها ، والذي أتى به ، أو الرسول عربي ، كأنهم كانوا ينكرون ذلك. وقرأ عمرو بن ميمون : أعجمي بهمزة استفهام وفتح العين أن القرآن لو جاء على طريقة كائنة كانوا تعنتوا ، لأنهم لا يطلبون الحق. وقال صاحب اللوامح : والعجمي المنسوب إلى العجم ، والياء للنسب على الحقيقة ؛ وأما إذا سكنت العين فهو الذي لا يفصح ، والياء فيه بلفظ النسب دون معناه ، فهو بمنزلة ياء كرسي وبختي ، والله أعلم. انتهى ، وليست كياء كرسي بنيت الكلمة عليها ، وياء أعجمي لم تبن الكلمة عليها. تقول العرب : رجل أعجم ورجل أعجمي ، فالياء للنسبة الدالة على المبالغة في الصفة ، نحو : أحمري ودواري مبالغة في أحمر ودوار. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح أن يراد

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٢.


بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا عجميا كتب إلى قوم من العرب يقول : أكتاب عجمي والمكتوب إليه عربي؟ وذلك لأن نسخ الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه ، لا على أن المكتوب إليه واحد وجماعة ؛ فوجب أن يجرد لما سيق له من الغرض ، ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر. ألا تراك تقول : وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيره ، اللباس طويل واللابس قصير؟ ولو قلت : واللابسة قصيرة ، جئت بما هو لكنة وفضول قول ، لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته ، إنما وقع في غرض وراءهما. انتهى ، وهو حسن ، إلا أن فيه تكثيرا على عادته في حب الشقشقة والتفهيق.

(قُلْ هُوَ) : أي القرآن ، (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) ، هدى : أي إرشاد إلى الحق ، وشفاء : أي لما في الصدور من الظن والشك. والظاهر أن (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) مبتدأ ، و (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) هو موضع الخبر. وقال الزمخشري : هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ لما أخبر أنه هدى وشفاء للمؤمنين ، أخبر أنه وقر وصمم في آذانهم ، أي الكافرين ، ولا يضطر إلى إضمار هو ، فالكلام تام دونه أخبر أن في آذانهم صمما عن سماعهم. ثم أخبر أنه عليهم عمى ، يمنعهم من إبصار حكمته والنظر في معانيه والتقرير لآياته ، وجاء بلفظ عليهم الدالة على استيلاء العمى عليهم ، وجاء في حق المؤمنين باللام الدالة على الاختصاص ، وكون والذين في موضع جر عطفا على قوله : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، والتقدير : وللذين لا يؤمنون وقر في آذانهم إعراب متكلف ، وهو من العطف على عاملين ، وفيه مذاهب كثيرة في النحو ، والمشهور منع ذلك. وقرأ الجمهور : عمى بفتح الميم منونا : مصدر عمى. وقرأ ابن عمرو ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وابن هرمز : بكسر الميم وتنوينه. وقال يعقوب القارئ ، وأبو حاتم : لا ندري نونوا أم فتحوا الياء ، على أنه فعل ماض وبغير تنوين ، رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس. والظاهر أن الضمير في (وَهُوَ عَلَيْهِمْ) عائد على القرآن ، وقيل : يعود على الوقر. (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين لا يؤمنون ، ومن جعله خبرا ، لأن الذين كفروا كانت الإشارة إليهم. (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، قيل : هو حقيقة. قال الضحاك : ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب. وقال علي ومجاهد : استعارة لقلة فهمهم ، شبههم بالرجل ينادي من بعد ، فيسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه. وحكى أهل


اللغة أنه يقال للذي لا يفهم : أنت تنادي من بعيد ، أي كأنه ينادي من موضع بعيد ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه. وحكى النقاش : كأنما ينادون من السماء.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) تسلية للرسول في كون قومه اضطربوا فيما جاء به من الذكر ، فذكر أن موسى عليه‌السلام أوتي الكتاب ، وهو التوراة ؛ فاختلف فيه. وتقدم شرح هذه الآية في أواخر سورة هود عليه‌السلام ، والكلام على نظير (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) في قوله في سورة الحج : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١).

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ، لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ، وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ).

لما ذكر تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) الآية ، كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة ، وكأن سائلا قال : ومتى ذلك؟ فقيل : لا يعلمها إلا الله ، ومن سئل عنها فليس عنده علم بتعين وقتها ، وإنما يرد ذلك إلى الله. ثم ذكر سعة علمه وتعلقه بما لا يعلمه إلا هو تعالى. وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، والحسن بخلاف عنه ؛ ونافع ، وابن عامر ، في غير رواية : أي جلية ؛ والمفضل ، وحفص ، وابن مقسم : (مِنْ ثَمَراتٍ) على الجمع. وقرأ باقي السبعة ، والحسن في رواية طلحة والأعمش : بالإفراد. ولما كان ما يخرج من أكمام الشجرة وما تحمل الإناث وتضعه هو إيجاد أشياء بعد العدم ، ناسب أن يذكر مع علم الساعة ، إذ في ذلك دليل على البعث ، إذ هو إعادة بعد إعدام ، وناسب ذكر أحوال المشركين في ذلك اليوم ، وسؤالهم سؤال التوبيخ فقال : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) : أي الذين نسبتموهم إليّ وزعمتم أنهم شركاء لي ، وفي ذلك تهكم بهم

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ١٠.


وتقريع. والضمير في يناديهم عام في كل من عبد غير الله ، فيندرج فيه عباد الأوثان. (قالُوا آذَنَّاكَ) : أي أعلمناك ، قال الشاعر :

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاو يملّ منه الثواء

وقال ابن عباس : أسمعناك ، كأنه استبعد الإعلام لله ، لأن أهل القيامة يعلمون أن الله يعلم الأشياء علما واجبا ، فالإعلام في حقه محال. والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على المنادين ، لأنهم المحدث معهم. (ما مِنَّا) أحد اليوم ، وقد أبصرنا وسمعنا. يشهد أن لك شريكا ، بل نحن موحدون لك ، وما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم ، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ. وقيل : الضمير في قالوا عائد على الشركاء ، أي قالت الشركاء : (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) بما أضافوا إلينا من الشرك ، وآذناك معلق لأنه بمعنى الإعلام. والجملة من قوله : (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) في موضع المفعول. وفي تعليق باب أعلم رأينا خلافه ، والصحيح أنه مسموع من كلام العرب. والظاهر أن قولهم : (آذَنَّاكَ) إنشاء ، كقولك : أقسمت لأضربن زيدا ، وإن كان إخبارا سابقا ، فتكون إعادة السؤال توبيخا لهم. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) : أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة ، أو (وَضَلَّ عَنْهُمْ) : أي تلفت أصنامهم وتلاشت ، فلم يجدوا منها نصرا ولا شفاعة ، (وَظَنُّوا) : أي أيقنوا. قال السدي : (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) : أي من حيدة ورواغ من العذاب. والظاهر أن ظنوا معلقة ، والجملة المنفية في موضع مفعولي ظنوا. وقيل : تم الكلام عند قوله : (وَظَنُّوا) ، أي وترجح عندهم أن قولهم : (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) منجاة لهم ، أو أمر يموهون به. والجملة بعد ذلك مستأنفة ، أي يكون لهم منجا ، أو موضع روغان.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) : هذه الآيات نزلت في كفار ، قيل : في الوليد بن المغيرة ؛ وقيل : في عتبة بن ربيعة ، وكثير من المسلمين يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير ، أي من طلب السعة والنعمة ودعاء مصدر مضاف للمفعول. وقرأ عبد الله : من دعاء بالخير ، بباء داخلة على الخير ، وفاعل المصدر محذوف تقديره : من دعاء للخير ، وهو وإن مسه الشر ، أي الفقر والضيق ، (فَيَؤُسٌ) : أي فهو يؤوس قنوط ، وأتى بهما صيغتي مبالغة. واليأس من صفة القلب ، وهو أن يقطع رجاءه من الخير ؛ والقنوط : أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر. وبدأ بصيغة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الانكسار. (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) : سمى النعمة رحمة ، إذ هي من آثار رحمة الله.


(مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) : أي بسعيي واجتهادي ، ولا يراها أنها من الله ، أو هذا لي لا يزول عني. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) : أي ظننا أننا لا نبعث ، وأن ما جاءت به الرسل من ذلك ليس بواقع ، كما قال تعالى حكاية عنهم : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (١).

(وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) : ولئن كان كما أخبرت الرسل ، (إِنَّ لِي عِنْدَهُ) : أي عند الله ، (لَلْحُسْنى) : أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة ، كما أنعم عليّ في الدنيا ، وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم لي عنده على اسم إن ، وتدخل لام التأكيد عليه أيضا ، وبصيغة الحسنى يؤنث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل. ولم يقولوا للحسنة ، أي الحالة الحسنة. وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنهم : للكافر أمنيتان ، أما في الدنيا فهذه (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) ، وأما في الآخرة ف (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) من الأفعال السيئة ، وذلك كناية عن جزائهم بأعمالهم السيئة. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) في مقابلة (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى). وكنى بغليظ : العذاب عن شدته. (وَإِذا أَنْعَمْنا) : تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في (سُبْحانَ*) (٢) ، إلا أن في أواخر تلك كان يؤوسا ، وآخر هذه (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) : أي فهو ذو دعاء بإزالة الشر عنه وكشف ضره. والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة. يقال : أطال فلان في الظلم ، وأعرض في الدعاء إذا كثر ، أي فذو تضرع واستغاثة. وذكر تعالى في هذه الآية نوعا من طغيان الإنسان ، إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة ، وإذا مسه الشر ابتهل إلى الله وتضرع.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) : أي القرآن ، (مِنْ عِنْدِ اللهِ) : أبرزه في صورة الاحتمال ، وهو من عند الله بلا شك ، ولكنه تنزل معهم في الخطاب. والضمير في (أَرَأَيْتُمْ) لكفار قريش. وتقدم أن معنى أرأيتم : أخبروني عن حالكم إن كان هذا القرآن من عند الله ، وكفرتم به وشاققتم في اتباعه. من أضل منكم ، إذ أنتم المشاقون فيه والمعرضون عنه والمستهزءون بآيات الله. وتقدم أن أرأيتم هذه تتعدى إلى مفعول مذكور ، أو محذوف ، وإلى ثان الغالب فيه أن يكون جملة استفهامية. فالمفعول الأول محذوف تقديره : أرأيتم أنفسكم ، والثاني هو جملة الاستفهام ، إذ معناه : من أضل منكم أيها الكفار ، إذ مآلكم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) سورة الجاثية : ٤٥ / ٣٢.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٨٠.


ثم توعدهم بما هو كائن لا محالة فقال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ). قال أبو المنهال ، والسدي ، وجماعة : هو وعيد للكفار بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة ، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر. (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : أراد به فتح مكة ، وتضمن ذلك الإخبار بالغيب ، ووقع كما أخبر. وقال الضحاك ، وقتادة : (فِي الْآفاقِ) : ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما ، (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : يوم بدر. وقال عطاء ، وابن زيد : في آفاق السماء ، وأراد الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك ، وفي أنفسهم عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك. ونبهوا بهذين القولين عن لفظ سنريهم ، لأن هلاك الأمم المكذبة قديما ، وآيات الشمس والقمر وغير ذلك ، قد كان ذلك كله مريبا لهم ، فالقول الأول أرجح.

وأخذ الزمخشري هذا القول وذيله فقال : يعني ما يسر الله عزوجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وللخلفاء من بعده ، وأنصار دينه في آفاق الدنيا ، وبلاد المشرق والمغرب عموما ، وفي ناحية العرب خصوصا من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلق الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة ، وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة عن المعهود خارقة للعادة ، ونشر دعوة الإسلام في الأقطار المعمورة ، وبسط دولته في أقاصيها ، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله ، وأيامهم على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علما من أعلام الله وآية من آياته تقوى معها النفس ويزداد بها الإيمان ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر خبيث مغالط نفسه. انتهى ما كتبناه مقتصرا عليه. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ) : أي القرآن ، وما تضمنه من الشرع هو الحق ، إذ وقع وفق ما أخبر به من الغيب ، و (بِرَبِّكَ) : الباء زائدة ، التقدير : أولم يكفك أو يكفهم ربك ، و (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل من ربك. أما حالة كونه مجرورا بالباء ، فيكون بدلا على اللفظ. وأما حالة مراعاة الموضع ، فيكون بدلا على الموضع ، وقيل : إنه على إضمار الحرف أي أولم يكف ربك بشهادته ، فحذف الحرف ، وموضع أن على الخلاف ، أهو في موضع نصب أو في موضع جر؟ ويبعد قول من جعل بربك في موضع نصب ، وفاعل كفى إن وما بعدها ، والتقدير عنده : أولم يكف ربك شهادته؟ وقرىء : إن بكسر الهمزة على إضمار القول ، وألا استفتاح تنبه السامع على ما يقال. وقرأ السلمي والحسن : في مرية بضم الميم ، وإحاطته تعالى بالأشياء علمه بها جملة وتفصيلا ، فهو يجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم.


سورة الشّورى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى


أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى


قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ


طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)

ركد الشيء ، ثبت في مكانه ، وقد قال الشاعر :

وقد ركدت وسط السماء نجومها

ركودا يواري الربرب المتفرّق

(حم عسق ، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ


مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ، فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس : مكية إلا أربع آيات من قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) إلى آخر الأربع آيات ، فإنها نزلت بالمدينة. وقال مقاتل : فيها مدني قوله : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) الى (الصُّدُورِ). ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها أنه قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) الآية ، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال. لما كفروا به قال هنا : (كَذلِكَ) ، أي مثل الإيحاء السابق في القرآن الذي كفر به هؤلاء ، (يُوحِي إِلَيْكَ) : أي إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع ، يتعهدك وقتا بعد وقت. وذكر المفسرون في (حم عسق) أقوالا مضطربة لا يصح منها شيء كعادتهم في هذه الفواتح ، ضربنا عن ذكرها صفحا. وقرأ الجمهور : يوحي مبنيا للفاعل ؛ وأبو حيوة ، والأعشى عن أبي بكر ، وأبان : نوحي بنون العظمة ؛ ومجاهد ، وابن وكثير ، وعباس ، ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو : يوحي مبنيا للمفعول ؛ والله مرفوع بمضمر تقديره أوحى ، أو بالابتداء ، التقدير : الله العزيز الحكيم الموحي ؛ وعلى قراءة نوحي بالنون ، يكون (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مبتدأ وخبرا. ويوحي ، إما في معنى أوجب حتى ينتظم قوله : (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ، أو يقرأ على موضوعه ، ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين تقديره : وأوحى إلى الذين من قبلك.

وتقدم الكلام على (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) في سورة مريم قراءة وتفسيرا. وقال الزمخشري : وروى يونس عن أبي عمرو قراءة عربية : تتفطرن بتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشممن. انتهى. والظاهر أن هذا وهم من الزمخشري في النقل ، لأن ابن خالويه ذكر في شواذ القراءات له ما نصه : تفطرن بالتاء والنون ، يونس عن أبي عمرو. وقال ابن خالويه : هذا حرف نادر ، لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث. لا يقال : النساء تقمن ، ولكن يقمن ، والوالدات يرضعن. قد كان أبو عمر الزاهد روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشممن ، فأنكرناه ، فقد قواه ، لأن هذا كلام ابن

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٥٢.


خالويه. فإن كانت نسخ الزمخشري متفقة على قوله بتاءين مع النون فهو وهم ، وإن كان في بعضها بتاء مع النون ، كان موافقا لقول ابن خالويه ، وكان بتاءين تحريفا من النساخ. وكذلك كتبهم تتفطرن وتتشممن بتاءين. والظاهر عود الضمير في (فَوْقِهِنَ) على (السَّماواتُ). قال ابن عطية : من أعلاهن. وقال الزمخشري : ينفطرن من علو شأن الله تعالى وعظمته ، ويدل عليه مجيئه بعد (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). وقيل : من دعائهم له ولدا ، كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (١). فإن قلت : لم قال (مِنْ فَوْقِهِنَ)؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السموات ، وهي العرش والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) : أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية. وقال جماعة ، منهم الحوفي ، قال : (مِنْ فَوْقِهِنَ) ، والهاء والنون كناية عن الأرضين. انتهى. (مِنْ فَوْقِهِنَ) متعلق بيتفطرن ، ويدل على هذا القول ذكر الأرض قبل. وقال علي بن سليمان الأخفش : الضمير للكفار ، والمعنى : من فوق الفرق والجماعات الملحدة ، أي من أجل أقوالها. انتهى.

فهذه الآية كالذي في سورة مريم ، واستبعد مكي هذا القول ، قال : لا يجوز في الذكور من بني آدم ، يعني ضمير المؤنث والاستشعار ما ذكره مكي. قال علي بن سليمان : من فوق الفرق والجماعات ، وظاهر الملائكة العموم. وقال مقاتل : حملة العرش والتسبيح ، قيل : قولهم سبحان الله ، وقيل : يهللون ؛ والظاهر في يستغفرون طلب الغفران ، ولأهل الأرض عام مخصوص بقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٢) ، قاله السدي. وقيل : عام. ومعنى الاستغفار : طلب الهداية المؤدية إلى المغفرة ، كأنهم يقولون : اللهم اهد أهل الأرض ، فاغفر لهم. ويدل عليه وصفه بالغفران والرحمة والاستفتاح. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار لهم : طلب الحلم والغفران في قوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) ، إلى أن قال : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٣) ، وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٤) ، والمراد : الحلم عنهم ، وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما. انتهى. وتكلم أبو عبد الله الرازي في قوله : (تَكادُ السَّماواتُ) كلاما خارجا

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٩٠.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٧.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٤١.

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ٦.


عن مناحي مفهومات العرب ، منتزعا من كلام الفلاسفة ومن جرى مجراهم ، يوقف على ذلك فى كتابه.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) : أي أصناما وأوثانا ، (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) : أي على أعمالهم ومجازيهم عليها ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) : أي بمفوض إليك أمرهم ولا قائم. وما في هذا من الموادعة منسوخ بآية السيف. (وَكَذلِكَ) : أي ومثل هذا الإيحاء والقضاء ، إنك لست بوكيل عليهم ، (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا). والظاهر أن (قُرْآناً) مفعول (أَوْحَيْنا). وقال الزمخشري : الكاف مفعول به ، أي أوحيناه إليك ، وهو قرآن عربي لا لبس فيه عليك ، إذ نزل بلسانك. انتهى. فاستعمل الكاف اسما في الكلام ، وهو مذهب الأخفش. (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) : مكة ، أي أهل أم القرى ، وكذلك المفعول الأول محذوف ، والثاني هو : (يَوْمَ الْجَمْعِ) : أي اجتماع الخلائق ، والمنذر به هو ما يقع في يوم الجمع من الجزاء وانقسام الجمع إلى الفريقين ، أو اجتماع الأرواح بالأجساد ، أو أهل الأرض بأهل السماء ، أو الناس بأعمالهم ، أقوال أربعة. لينذر بياء الغيبة ، أي لينذر القرآن. (لا رَيْبَ فِيهِ) : أي لا شك في وقوعه. وقال الزمخشري : (لا رَيْبَ فِيهِ) : اعتراض لا محالة. انتهى. ولا يظهر أنه اعتراض ، أعني صناعيا ، لأنه لم يقع بين طالب ومطلوب. وقرأ الجمهور : (فَرِيقٌ) بالرفع فيهما ، أي هم فريق أو منهم فريق. وقرأ زيد بن عليّ بنصبهما ، أي افترقوا ، فريقا في كذا ، وفريقا في كذا ؛ ويدل على الافتراق : الاجتماع المفهوم من يوم الجمع.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : يعني من إيمان أو كفر ، قال معناه الضحاك ، وهو قول أهل السنة ، وذلك تسلية للرسول. كما كان يقاسيه من كفر قومه ، وتوقيف على أن ذلك راجع إلى مشيئته ، ولكن من سبقت له السعادة أدخله في رحمته. وقال الزمخشري : (لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه ، كقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (١) ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٢). والدليل على أن المعنى هو الإيحاء إلى الإيمان قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣) ، وذكر ما ظنه استدلالا على ذلك ، وهو على طريق الاعتزال. وقال أنس بن مالك : (فِي رَحْمَتِهِ) : في دين الإسلام. (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ، أم بمعنى بل ،

__________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ١٣.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٩٩.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٩٩.


للانتقال من كلام إلى كلام ، والهمزة للإنكار عليهم اتخاذ أولياء من دون الله. وقيل : أم بمعنى الهمزة فقط ، وتقدّم الكلام على مثل هذا ، حيث جاءت أم المنقطعة ، والمعنى : اتخذوا أولياء دون الله ، وليسوا بأولياء حقيقة ، فالله هو الولي ، والذي يجب أن يتولى وحده ، لا ما لا يضر ولا ينفع من أوليائهم. ولما أخبر أنه هو الولي ، عطف عليه هذا الفعل الغريب الذي لا يقدر عليه غيره ، وهو إحياء الموتى. ولما ذكر هذا الوصف ، ذكر قدرته على كل شيء تتعلق إرادته به. وقال الزمخشري : في قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) ، والفاء في قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) جواب شرط مقدر ، كأنه قيل : بعد إنكار كل ولي سواه ، وإن أرادوا وليا بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا ولي سواه. انتهى. ولا حاجة إلى تقدير شرط محذوف ، والكلام يتم بدونه.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) : هذا حكاية لقول الرسول ، أي ما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب أو تصديق وإيمان وكفر وغير ذلك ، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليس ذلك إلا إلى الله ، لا إليّ ، ولفظة من شيء تدل على العموم. وقيل : من شيء من الخصومات ، فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره ، كقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١). وقيل : (مِنْ شَيْءٍ) : من تأويل آية واشتبه عليكم ، فارجعوا في بيانه إلى آي المحكم من كتاب الله ، والظاهر من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : ما وقع منكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم ، كمعرفة الروح. وقال الزمخشري : أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمور الدين ، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله ، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاتبة المبطلين. (ذلِكُمُ) : الحاكم بينكم هو (رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في رد كيد أعداء الدين ، وإليه أرجع في كفاية شرهم. انتهى. وقرأ الجمهور : (فاطِرُ) بالرفع ، أي هو فاطر ، أو خبر بعد خبر كقوله : (ذلِكُمُ). وقرأ زيد بن عليّ : فاطر بالجر ، صفة لقوله : (إِلَى اللهِ) ، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف.

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : أي من جنس أنفسكم ، أي آدميات ، (أَزْواجاً) : إناثا ، أو جعل الخلق لأبينا آدم من ضلعه حواء زوجا له خلقا لنا ، (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.


أي أنواعا كثيرة ، ذكورا وإناثا ، أو أزواجا إناثا. (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) ، قال ابن عباس : أي يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها. وقال ابن زيد : يرزقكم فيه ، وهو قريب من القول قبله. وقال مجاهد : يخلقكم في بطون الإناث. وقال ابن زيد أيضا : يذرأكم فيما خلق من السموات والأرض. وقال الزجاج : يكثركم به ، أي فيه ، أي يكثركم في خلقكم أزواجا. وقال عليّ بن سليمان : ينقلكم من حال إلى حال. وقال ابن عطية : الضمير في فيه للجعل ، أي يخلقكم ويكثركم في الجعل ، كما تقول : كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه ، قال : ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان.

وقال الزمخشري : (يَذْرَؤُكُمْ) : يكثركم ، يقال ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم ، والذرء والذروء والذرواء أخوات في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغير مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين. انتهى. وقوله : وهي من الأحكام ذات العلتين ، اصطلاح غريب ، ويعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا فتقول : أنت وزيد تقومان ؛ والعاقل يغلب على غير العاقل إذا اجتمعا ، فتقول : الحيوان وغيرهم يسبحون خالقهم. قال الزمخشري ؛ فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل : يذرؤكم به؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير؟ كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١) انتهى. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، تقول العرب : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون به المخاطب ، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفيا عن الشخص ، وهو من باب المبالغة ، ومثل الآية قول أوس بن حجر :

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر :

وقتلى كمثل جذوع النخيل تغشاهم مسبل منهمر

وقال آخر :

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم

ما إن كمثلهم في الناس من أحد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٩.


فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء. وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلا زائدة للتوكيد كالكاف في قوله :

فأصبحت مثل كعصف مأكول

وقوله :

وصاليات ككما يؤثفين

ليس بجيد ، لأن مثلا اسم ، والأسماء لا تزاد ، بخلاف الكاف ، فإنها حرف ، فتصلح للزيادة. ونظير نسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلان يده مبسوطة ، يريد أنه جواد ، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له ، كقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (١). فكما جعلت ذلك كناية عن الجود فيمن لا يد له ، فكذلك جعلت المثل كناية عن الذات في من لا مثل له. ويحتمل أيضا أن يراد بالمثل الصفة ، وذلك سائغ ، يطلق المثل بمعنى المثل وهو الصفة ، فيكون المعنى : ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره ، وهذا محمل سهل ، والوجه الأول أغوص. قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثال مقام النفس ، فيقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي أنا لا يقال لي هذا. انتهى. فقد صار ذلك كناية عن الذات ، فلا فرق بين قولك : ليس كالله شيء ، أو ليس كمثل الله شيء. وقد أجمع المفسرون على أن الكاف والمثل يراد بهما موضوعهما الحقيقي من أن كلا منهما يراد به التشبيه ، وذلك محال ، لأن فيه إثبات مثل لله تعالى ، وهو محال. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال الخلق ، (الْبَصِيرُ) لأعمالهم. وتقدم تفسير : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة الزمر ؛ وقرىء : (وَيَقْدِرُ) : أي يضيق. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : أي يوسع لمن يشاء ، ويضيق على من يشاء. وقال الزمخشري : فإذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه لا أفقره. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ، وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ، فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.


بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ، يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ، اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).

لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة ، أتبعه بذكر نعمه العامة ، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها ، من توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر ، والجزاء فيه. ولما كان أول الرسل نوح عليه‌السلام ، وآخرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم ، إذ كان أبا العرب ، ففي ذلك هزلهم وبعث على اتباع طريقته ، وموسى وعيسى صلوات الله عليهم ، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد ، وفي كثير من الأحكام ، كتحريم الزنا والقتل بغير حق. والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام ؛ ويقال : إن نوحا أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم. وقال ابن عباس : اختار ، ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، لأن قبلها ما هو بمعنى القول ، فلا موضع لها من الأعراب. وأن تكون أن المصدرية ، فتكون في موضع نصب على البدل من ما ؛ وما عطف عليها ، أو في موضع رفع ، أي ذلك ، أو هو إقامة الدين ، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده. ثم نهى عن التفرقة فيه ، لأن التفرق سبب للهلاك ، والاجتماع والألفة سبب للنجاة. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) : أي عظم وشق ، ما توعدهم إليه من توحيد الله وترك عباده الأصنام وإقامة الدين. (اللهُ يَجْتَبِي) : يجتلب ويجمع ، (إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) هدايته ، وهذا تسلية للرسول. وقيل : يجتبي ، فيجعله رسولا إلى عباده ، (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) : يرجع إلى طاعته عن كفره. وقال الزمخشري : (مَنْ يَشاءُ) : من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفه. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.

وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لم يكن مع آدم عليه‌السلام إلا بنوه ، ولم تفرض ، له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان منبها على بعض الأمور ، مقتصرا على ضرورات المعاش. واستمر الهدى إلى نوح ، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات ، ووظف


عليه الواجبات ، وأوضح له الأدب في الديانات. ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل ، فكان المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقرب بصالح الأعمال ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات ؛ فهذا كله مشروع دينا واحدا ، أو ملة متحدة ، لم يختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعدادهم ، وذلك قوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) : أي اجعلوه قائما ، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب. انتهى. وقال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته ، فهو إقامة الدين. وقال أبو العالية : إقامة الدين : الإخلاص لله وعبادته ، (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، قال أبو العالية : لا تتعادوا فيه. وقال مقاتل : معناه لا تختلفوا ، فإن كل نبي مصدق. وقيل : لا تتفرقوا فيه ، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض.

(وَما تَفَرَّقُوا) ، قال ابن عباس : يعني قرشيا ، والعلم : محمد عليه الصلاة والسلام ، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ، كما قال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) (١) ، يريدون نبيا. وقيل : الضمير يعود على أمم الأنبياء ، جاءهم العلم ، فطال عليهم الأمد ، فآمن قوم وكفر قوم. وقال ابن عباس أيضا : عائد على أهل الكتاب ، والمشركين دليله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٢) ، قال المشركون : لم خص بالنبوة ، واليهود والنصارى حسدوه. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) : أي عدة التأخر إلى يوم القيامة ، فحينئذ يقع الجزاء ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : لجوزوا بأعمالهم في الدنيا ؛ لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة. وقال الزجاج : الكلمة قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) (٣). (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) : هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد أسلافهم ، أو هم المشركون ، أورثوا الكتاب من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرأ زيد بن علي : ورثوا مبنيا للمفعول مشدد الراء ، (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) : أي من كتابهم ، أو من القرآن ، أو مما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من الدين الذي

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٤٢.

(٢) سورة البينة : ٩٨ / ٤.

(٣) سورة القمر : ٥٤ / ٤٦.


وصى به نوحا. ولما تقدم شيئان : الأمر بإقامة الدين ، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك ، احتمل قوله. (فَلِذلِكَ) ، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين ، أي فادع لدين الله وإقامته ، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل ، لأن دعا يتعدى باللام ، قال الشاعر :

دعوت لما نابني مسورا

فلبى فلبى يدي مسورا

واحتمل أن تكون اللام للعلة ، أي فلأجل ذلك التفرق. ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا ، (فَادْعُ) إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ، (وَاسْتَقِمْ) : أي دم على الاستقامة ، وتقدم الكلام على (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (١) ، وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة ، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله الله ، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض. (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) ، قيل : إن المعنى : وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في إيصال ما أمرت به إليكم ، لا أخص شخصا بشيء دون شخص ، فالشريعة واحدة ، والأحكام مشترك فيها. وقيل : لا عدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم. (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) : أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون ، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك. (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) وبينكم ، أي يوم القيامة ، فيفصل بيننا. وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) : أي يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم ، بل قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ؛ فديننا أفضل ، فنزلت الآية في ذلك. وقيل : نزلت في قريش ، كانوا يجادلون في هذا المعنى ، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية. واستجيب مبني للمفعول ، فقيل : المعنى من بعد ما استجاب الناس لله ، أي لدينه ودخلوا فيه. وقيل : من بعد ما استجاب الله له ، أي لرسوله ودينه ، بأن نصره يوم بدر وظهر دينه. (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي باطلة لا ثبوت لها. ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام ، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب ، والكتاب جنس يراد به الكتب الإلهية. (وَالْمِيزانَ) ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم : هو العدل ؛ وعن ابن مجاهد : هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس ، وهذا مندرج في العدل.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١١٢.


(وَما يُدْرِيكَ) أيها المخاطب ، (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف : أي لعل مجيء الساعة ؛ ولعل الساعة في موضع معمول ، وما يدريك ، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) (١).

وتواقفت هذه الجملة مع قوله : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ). الساعة : يوم الحساب ، ووضع الموازين : القسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم. (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بها بطلب وقوعها عاجلة ، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها ، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم ، أي هي مما لا يقع عندهم. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ) ويلحون في أمر الساعة ، (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق ، لأن البعث غير مستبعد من قدرة الله ، ودل عليه الكتاب المعجز ، فوجب الإيمان به. (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : أي بر بعباده المؤمنين ، ومن سبق له الخلود في الدنيا ، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف ، إنما هو إملاء ، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام. وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا. وقال الزمخشري : يوصل بره إلى جميعهم ، (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) : أي من يشاء يرزقه شيئا خاصا ، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص ، وكل منهم مرزوق ، وإن اختلف الرزق ، (وَهُوَ الْقَوِيُ) : أي البالغ القوة ، وهي القدرة (الْعَزِيزُ) : الغالب الذي لا يغلب.

ولما ذكر تعالى الرزق ، ذكر حديث الكسب. ولما كان الحرث في الأرض أصلا من أصول المكاسب ، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة ، أي من كان يريد عمل الآخرة ، وسعى لها سعيها ، (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) : أي جزاء حرثه من تضعيف الحسنات ، (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) : أي العمل لها لا لآخرته ، (نُؤْتِهِ مِنْها) : أي نعطه شيئا منها ، (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ، لأنه لم يعمل شيئا للآخرة. والجملة الأولى وعد منجز ، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى ، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه ، وكل ما يريده هو. واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة ، كأنه غير معتبر ، فلا يناسب ذكره مع ما أعد الله له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء. وجعل فعل الشرط ماضيا ، والجواب مجزوم لقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) (٢) ، ولا نعلم خلافا في جواز الجزم ، فإنه فصيح مختار ، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب ، وهو

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١١١.

(٢) سورة هود : ١١ / ١٥.


أبو الحكم بن عذرة ، عن بعض النحويين ، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع كان لأنها أصل الأفعال ، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال. ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها ، وأنشد سيبويه للفرزدق :

دست رسولا بأن القوم إن قدروا

عليك يشفوا صدورا ذات توغير

وقال آخر :

تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وقرأ الجمهور : نزد ونؤته بالنون فيهما : وابن مقسم ، والزعفراني ، ومحبوب ، والمنقري ، كلاهما عن أبي عمرو : بالياء فيهما. وقرأ سلام : نؤته منها يرفع الهاء ، وهي لغة الحجاز.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ، وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ ، وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) : استفهام تقرير وتوبيخ. لما ذكر تعالى أنه شرع للناس (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية ، أخذ ينكر ما شرع غيره تعالى. والشركاء هنا يحتمل أن يراد به شركاؤهم في الكفر ، كالشياطين والمغوين من الناس. والضمير في شرعوا عائد على الشركاء ، والضمير في لهم عائد على الكفار المعاصرين للرسول ؛ ويحتمل أن يراد به الأصنام والأوثان


وكل من جعلوه شريكا لله. وأضيف الشركاء إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله ، فتارة تضاف إليهم بهذه الملابسة ، وتارة إلى الله. والضمير في شرعوا يحتمل أن يعود على الشركاء ، ولهم عائد على الكفار ، لما كانت سببا لضلالهم وافتتانهم جعلت شارعة لدين الكفر ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (١). واحتمل أن يعود على الكفار ، ولهم عائد على الشركاء ، أي شرع الكفار لأصنامهم ومعبوداتهم ، أي رسموا لهم غواية وأحكاما في المعتقدات ، كقولهم : إنهم آلهة ، وإن عبادتهم تقربهم إلى الله ؛ ومن الأحكام البحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك. (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) : أي العدة بأن الفصل في الآخرة ، أو لو لا القضاء بذلك لقضي بين المؤمن والكافر ، أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ الجمهور : و (إِنَّ الظَّالِمِينَ) ، بكسر الهمزة على الاستئناف والإخبار ، بما ينالهم في الدنيا من القتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة النار. وقرأ الأعرج ، ومسلم بن جندب : وأن بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل ، فهو في موضع رفع ، أي ولو لا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب في الآخرة ، لقضي بينهم في الدنيا وفصل بين المتعاطفين بجواب لو لا ، كما فصل في قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (٢).

(تَرَى الظَّالِمِينَ) : أي تبصر الكافرين لمقابلته بالمؤمنين ، (مُشْفِقِينَ) : خائفين الخوف الشديد ، (مِمَّا كَسَبُوا) من السيئات ، (وَهُوَ) : أي العذاب ، أو يعود على ما كسبوا على حذف مضاف : أي وبال كسبوا من السيئات ، أو جزاؤه حال بهم ، (وَهُوَ واقِعٌ) : فإشفاقهم هو في هذه الحال ، فليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة. ولما كانت الروضات أحسن ما في الجنات وأنزهها وفي أعلاها ، ذكر أن المؤمنين فيها. واللغة الكثيرة تسكين الواو في روضات ، ولغة هذيل بن مدركة فتح الواو إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ، ولم يقرأ أحد ممن علمناه بلغتهم. وعند ظرف ، قال الحوفي : معمول ليشاءون. وقال الزمخشري : منصوب بالظرف لا يشاءون. انتهى ، وهو الصواب. ويعني بالظرف : الجار والمجرور ، وهو لهم في الحقيقة غير معمول للعامل في لهم ، والمعنى : ما يشاءون من النعيم والثواب ، مستقر لهم. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) : والعندية عندية المكانة والتشريف ، لا عندية المكان.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٦.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٩.


وقرأ الجمهور : (يُبَشِّرُ) بتشديد الشين ، من بشر ؛ وعبد الله بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري ، والأعمش ، وطلحة في رواية ، والكسائي ، وحمزة : يبشر ثلاثيا ؛ ومجاهد ، وحميد بن قيس : بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر ، وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين. وأما بشر بفتحها فمتعد ، وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية ، لأن المتعدي إلى واحد ، وهو مخفف ، لا يعدى بالتضعيف إليه ؛ فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية. (ذلِكَ) : إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة ، وهو مبتدأ خبره الموصول والعائد عليه محذوف ، أي يبشر الله به عباده. وقال الزمخشري : أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. انتهى. ولا يظهر هذا الوجه ، إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ، ولا ما يدل عليها من تبشير أو شبهه. ومن النحويين من جعل الذي مصدرية ، حكاه ابن مالك عن يونس ، وتأويل عليه هذه الآية ، أي ذلك تبشير الله عباده ، وليس بشيء ، لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل. وقد ثبتت اسمية الذي ، فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون محمدا يسأل أجرا على ما يتعاطاه؟ فنزلت. وروي أن الأنصار أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله ، هدانا الله بك ، وأنت ابن أختنا ، وتعروك حقوق وما لك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينو بك ، فنزلت الآية ، فردّه. وقيل : الخطاب متوجه إلى قريش حين جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه عليهم على أن يمسك عن سب آلهتهم ، فلم يفعل ، ونزلت. فالمعنى : «لا أسألكم مالا ولا رياسة ، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي وتصدقوني فيما جئتكم به ، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني» ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم.

قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية ، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها ، فكتب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أوسط الناس في قريش ، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، فقال الله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودّوني في قرابتي منكم. فارعوا ما بيني وبينكم وصدقوني. وقال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها. وقال الحسن : المعنى إلا أن تتودّدوا إلى الله بالتقرّب إليه. وقال عبد الله بن القاسم : إلا أن يتودّد بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم.

روي أن شبابا من الأنصار فاخروا المهاجرين وصالوا بالقول ، فنزلت على معنى : أن


لا تؤذوني في قرابتي وتحفظوني فيهم. وقال بهذا المعنى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيرا ، وهو قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب ، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس : قيل يا رسول الله : من قرابتك الذين أمرنا بمودّتهم؟ فقال : «عليّ وفاطمة وابناهما». وقيل : هم ولد عبد المطلب. والظاهر أن قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ) استثناء منقطع ، لأن المودّة ليست أجرا. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء متصلا ، أي لا أسألكم عليه أجرا إلا هذا أن تودّوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة ، لأن قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. وقال : فإن قلت : هلا قيل إلا مودّة القربى ، أو إلا المودّة للقربى؟ قلت : جعلوا مكانا للمودة ومقرّا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله. وليست في صلة للمودّة كاللام ، إذا قلت إلا المودّة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. انتهى ، وهو حسن وفيه تكثير. وقرأ زيد بن عليّ : إلا مودّة ؛ والجمهور : إلا المودّة.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) : أي يكتسب ، والظاهر عموم الحسنة عموم البدل ، فيندرج فيها المودّة في القربى وغيرها. وعن ابن عباس والسدي ، أنها المودّة في آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الجمهور : (نَزِدْ) بالنون ؛ وزيد بن عليّ ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وأحمد بن جبير عن الكسائي : يزيد بالياء ، أي يزد الله. والجمهور : (حُسْناً) بالتنوين ؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : حسنى بغير تنوين ، على وزن رجعى ، وزيادة حسنها : مضاعفة أجرها. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) : ساتر عيوب عباده ، (شَكُورٌ) : مجاز على الدقيقة ، لا يضيع عنده عمل العامل. وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه‌السلام ، شكور لحسناتهم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال ، واستفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة ، أي مثله لا ينسب إليه الكذب على الله ، مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة. (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) ، قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ، حتى لا يشق عليك قولهم : إنك مفتر. وقال قتادة وجماعة : (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) : ينسيك القرآن ، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها ، وذلك كأنه يقول : وكيف يصح أن تكون مفتريات وأنت من الله بمرأى ومسمع وهو قادر : ولو شاء


أن يختم على قبلك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك؟ فمقصد اللفظ هذا المعنى ، وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصارا واقتصارا. انتهى. هكذا أورد هذا التأويل عن قتادة ابن عطية ، وفي الفاظة فظاظة لا تليق أن تنسب للأنبياء. وقال الزمخشري : عن قتادة : ينسيك القرآن وينقطع عنك الوحي ، يعني لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك. انتهى. وقال الزمخشري أيضا : فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب ، فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم ، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله ، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا أن يخون بعض الأمناء فيقول : لعل الله خذلني ، لعل الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب ، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.

ثم قال : ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه أو بقضائه لقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) (١) ، يعني : لو كان مفتريا ، كما يزعمون ، لكشف الله افتراءه ومحقه ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه. انتهى. وقيل : المعنى لو افتريت على الله ، لطبع على قلبك حتى لا تقدر على حفظ القرآن. وقيل : لختم على قلبك بالصدق واليقين ، وقد فعل ذلك. وذكر القشيري أن المعنى : يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب. انتهى ، فيكون التفاتا من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الجمع إلى الإفراد ، أي يختم على قلبك أيها القائل أنه افترى على الله كذبا. (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) : استئناف إخبار ، أي يمحوه. إما في الدنيا وإما في الآخرة حيث نازله. وكتب ويمح بغير واو ، كما كتبوا سندع بغير واو ، اعتبارا بعدم ظهورها ، لأنه لا يوقف عليها وقف اختيار. ولما سقطت من اللفظ سقطت من الخط. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون عدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك. انتهى. قيل : ويحق الإسلام بكلماته ، أي بما أنزل من القرآن.

وتقدم الكلام في شرائط التوبة ، يقال : قبلت منه الشيء بمعنى : أخذته منه ، لقوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) (٢) ، أي تؤخذ ، أي جعلته مبدأ قبولي ومنشأه ، وقبلته

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٨.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٥٤.


عنه : عزلته عنه وأبنته ، فمعنى (عَنْ عِبادِهِ) : أي يزيل الرجوع عن المعاصي. (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) ، قال الزمخشري : عن السيئات إذا تيب عنها ، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. إن الاعتزال. إن الكبائر لا يعفى عنها إلا بالتوبة ، (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) ، فيثيب ويعاقب. وقرأ الجمهور : ما يفعلون بياء الغيبة ؛ وعبد الله ، وعلقمة ، والإخوان ، وحفص : بتاء الخطاب. والظاهر أن الذين فاعل ، (وَيَسْتَجِيبُ) : أي ويجيب ، (الَّذِينَ آمَنُوا) لربهم ، كما قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (١) ، فيكون يستجيب بمعنى يجيب ، أو يبقى على بابه من الطلب ، أي يستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة. وقال سعيد بن جبير : هذا في فعلهم إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل : ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (٢).

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، قال الزجاج : الذين مفعول ، واستجاب وأجاب بمعنى واحد ، فالمعنى : ويجيب الله الذين آمنوا ، أي للذين ، كما قال :

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي : لم يجبه. وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل وابن عباس. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : أي على الثواب تفضلا. وفي الحديث : «قبول الشفاعات في المؤمنين والرضوان». وقال خباب بن الأرت : نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها ، فنزلت : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ). وقال عمرو بن حريث : طلب قوم من أهل الصفة من الرسول عليه‌السلام أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق ، فنزلت. أعلم أن الرزق لو جاء على اقتراح البشر ، لكان سبب بغيهم وإفسادهم ، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة. فرب إنسان لا يصلح ولا يكتفي شره إلا بالفقر ، وآخر بالغنى. وفي هذا المعنى والتقسيم حديث رواه أنس وقال : «اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني». ولبغوا ، إما من البذخ والكبر ، أي لتكبروا في الأرض ، ففعلوا ما يتبع الكبر مع الغنى. ألا ترى إلى حال قارون؟ وفي الحديث : «أخوف ما يخاف على أمتي زهرة الدنيا» ، وقال الشاعر :

وقد جعلوا الوسمي ينبت بيننا

وبين بني رومان نبعا وشوحطا

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٤.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٢٥.


يعني : أنهم أحبوا ، فجذبوا أنفسهم بالبغي والفتن. (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) ، يقال : قدر بالسكون وبالفتح ، أي : يقدر لهم ما هو أصلح لهم. وقرأ الجمهور : (قَنَطُوا) ، بفتح النون ؛ والأعمش ، وابن وثاب : بكسرها ، (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) : يظهرها من آثار الغيث من المنافع والخصب ، والظاهر أن رحمته نشرها أعم مما في الغيث. وقال السدي : رحمته : الغيث ، وعدد النعمة بعينها بلفظين. وقيل : الرحمة هنا ظهور الشمس ، لأن إذا دام المطر سئم ، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ، ذكره المهدوي. (وَهُوَ الْوَلِيُ) : الذي يتولى عباده ، (الْحَمِيدُ) : المحمود على ما أسدى من نعمائه وما بث. الظاهر أنه مجرور عطفا على السموات والأرض. ويجوز أن يكون مرفوعا ، عطفا على خلق ، على حذف مضاف ، أي وخلق ما بث. وفيهما يجوز أن يكون مما نسب فيه دابة إلى المجموع المذكور ، وإن كان ملتبسا ببعضه. كما يقال : بنو فلان صنعوا كذا ، وإنما صنعه واحد منهم ، ومنه يخرج منهما ، وإنما يخرج من الملح ، أو يكون من الملائكة. بعض يمشي مع الطيران ، فيوصف بالدبيب كما يوصف به الأناسي ، أو يكون قد خلق في السموات حيوانا يمشي مع مشي الأناسي على الأرض ، أو يريد الحيوان الذي يكون في السحاب. وقد يقع أحيانا ، كالضفادع والسحاب داخل في اسم السماء.

وقال مجاهد : (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) : هم الناس والملائكة. وقال أبو علي : هو على حذف مضاف ، أي وما بث في أحدهما. وقرأ الجمهور : فيهما بالفاء ، وكذا هي في معظم المصاحف. واحتمل ما أن تكون شرطية ، وهو الأظهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء تدخل في خبر الموصول إذا أجري مجرى الشرط بشرائط ذكرت في النحو ، وهي موجودة. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر في رواية ، وشيبة : بما بغير فاء ، فما موصولة ، ولا يجوز أن تكون شرطية ؛ وحذفت الفاء لأن ذلك مما يخصه سيبويه بالشعر ، وأجاز ذلك الأخفش وبعض نحاة بغداد وذلك على إرادة الفاء. وترتب ما أصاب من المصائب على كسب الأيدي موجود مع الفاء ودونها هنا ، والمصيبة : الرزايا والمصائب في الدنيا ، وهي مجازاة على ذنوب المرء وتمحيص لخطاياه ، وأنه تعالى يعفو عن كثير ، ولا يجازي عليه بمصيبة. وفي الحديث : «لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر». وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال : إن أحبه إليّ أحبه إلى الله ، وهذا مما كسبت يداي. ورؤي على كف شريح قرحة ، فقيل : بم هذا؟ فقال : بما كسبت يداي.

وقال الزمخشري : الآية مخصوصة بالمجرمين ، ولا يمتنع أن يستوفي الله عقاب


المجرم ويعفو عن بعض. فأما من لا جرم له ، كالأنبياء والأطفال والمجانين ، فهو كما إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره ، فللعوض الموفى والمصلحة وعن علي : هذه أرجى آية للمؤمنين. وقال الحسن : (مِنْ مُصِيبَةٍ) : أي حد من حدود الله ، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه ، فإنما هي بكسب أيديكم. (وَيَعْفُوا) الله (عَنْ كَثِيرٍ) ، فيستره على العباد حتى لا يحد عليه. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) : أنتم في قبضة القدرة. وقيل : ليست المصائب من الأسقام والقحط والغرق وغير ذلك بعقوبات على الذنوب لقوله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١) ، ولاشتراك الصالح والطالح فيهما ، بل أكثر ما يبتلي به الصالحون المتقون. وفي الحديث : «خص بالبلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل». ولأن الدنيا دار التكليف ، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار الجزاء ، وليس الأمر كذلك. وهذا القول يؤخره نصوص القرآن ، كقوله تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) (٢) الآية.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ، فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ، وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ، وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ).

لما ذكر تعالى من دلائل وحدانيته أنواعا ، ذكر بعدها العالم الأكبر ، وهو السموات والأرض ؛ ثم العالم الأصغر ، وهو الحيوان. ثم أتبعه بذكر المعاد ، أتبعه بذكر السفن الجارية في البحر ، لما فيها من عظيم دلائل القدرة ، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف يغوص فيه الثقيل ، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة ، ومع ذلك جعل تعالى للماء

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ١٧.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٠.


قوة يحملها بها ويمنع من الغوص. ثم جعل الرياح سببا لسيرها. فإذا أراد أن ترسو ، أسكن الريح ، فلا تبرح عن مكانها. والجواري : جمع جارية ، وأصله السفن الجواري ، حذف الموصوف وقامت صفته مقامه ، وحسن ذلك قوله : (فِي الْبَحْرِ) ، فدل ذلك على أنها صفة للسفن ، وإلا فهي صفة غير مختصة ، فكان القياس أن لا يحذف الموصوف ويقوم مقامه. ويمكن أن يقال : إنها صفة غالبة ، كالأبطح ، فجاز أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف. وقرىء : الجواري بالياء ودونها ، وسمع من العرب الأعراب في الراء ، وفي البحر متعلق بالجواري ، وكالأعلام في موضع الحال ، والأعلام : الجبال ، ومنه قول الخنساء أخت صخر ومعاوية :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

ومنه :

إذا قطعن علما بدا علم

وقرأ جمهور السبعة : (الرِّيحَ) إفرادا ، ونافع : جمعا ، وقرأ الجمهور : (فَيَظْلَلْنَ) بفتح اللام ، وقرأ قتادة : بكسرها ، والقياس الفتح ، لأن الماضي بكسر العين ، فالكسر في المضارع شاذ : وقال الزمخشري : من ظل يظل ويظل ، نحو ضل يضل ويضل. انتهى. وليس كما ذكر ، لأن يضل بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي ، ويضل بكسرها من ضللت بفتحها في الماضي ، وكلاهما مقيس. (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على بلائه ، (شَكُورٌ) لنعمائه. (أَوْ يُوبِقْهُنَ) : يهلكهن ، أي الجواري ، وهو عطف على يسكن ، والضمير في (كَسَبُوا) عائد على ركاب السفن ، أي بذنوبهم. وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو ، وعن أهل المدينة : بنصب الواو ، والجمهور : ويعف مجزوما عطفا على يوبقهن. فأما قراءة الأعمش ، فإنه أخبر تعالى أنه يعفو عن كثير ، أي لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان. وأما النصب ، فبإضمار أن بعد الواو ، وكالنصب بعد الفاء في قراءة من قرأ : يحاسبكم به الله فيغفر ، وبعد الواو في قول الشاعر :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجب الظهر ليس له سنام

روي بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه. وفي هذه القراءة يكون العطف على مصدر متوهم ، أي يقع إيباق وعفو عن كثير. وأما الجزم فإنه داخل في حكم جواب الشرط ، إذ هو


معطوف عليه ، وهو راجع في المعنى إلى قراءة النصب ، لكن هذا عطف فعل على فعل ، وفي النصب عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم. وقال القشيري : وقرىء : (وَيَعْفُ) بالجزم ، وفيها إشكال ، لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح ، فتبقى تلك السفن رواكد ، أو يهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف ويعف على هذه ، لأن المعنى : يصيران شيئا يعف ، وليس المعنى ذلك ، بل المعنى : الإخبار عن الغيوب عن شرط المشيئة ، فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ ، لا من حيث المعنى. وقد قرأ قوم : ويعفو بالرفع ، وهي جيدة في المعنى. انتهى ، وما قاله ليس بجيد ، إذ لم يفهم مدلول التركيب. والمعنى : أنه تعالى إن يشأ أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم. وقال الزمخشري : فإن قلت : على م عطف يوبقهن؟ قلت : على يسكن ، لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها. انتهى. ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن ، لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح ، بل قد يهلكها تعالى بسبب غير الريح ، كنزول سطحها بكثرة الثقل ، أو انكسار اللوح يكون سببا لإهلاكها ، أو يعرض عدو يهلك أهلها. وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن عامر ، وزيد بن علي : (وَيَعْلَمَ) بالرفع على القطع. وقرأ الجمهور : ويعلم بالنصب ؛ قال أبو علي وحسن : النصب إذا كان قبله شرط وجزاء ، وكل واحد منهما غير واجب. وقال الزجاج : على إضمار أن ، لأن قبلها جزاء. تقول : ما تصنع أصنع مثله ، وأكرمك ، وإن أشئت ، وأكرمك علي ، وأنا أكرمك ، وإن شئت ، وأكرمك جزما. قال الزمخشري : فيه نظر ، لما أورده سيبويه في كتابه قال : واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف ، وهو نحو من قوله :

وألحق بالحجاز فاستريحا

فهذا لا يجوز ، وليس بحد الكلام ولا وجهه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا ، لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل. فلما ضارع الذي لا يوجبه ، كالاستفهام ونحوه ، أجازوا فيه هذا على ضعفه. قال الزمخشري : ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب ، لما أخلى سيبويه منها كتابه ، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة. انتهى. وخرج الزمخشري النصب على أنه معطوف على تعليل محذوف ، قال تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ، يكره في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ، ومنه قوله


تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) (١) ، وقوله : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ*) (٢) ، (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٣). انتهى. ويبعد تقديره لينتقم منها ، لأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ، فلا يحسن لينتقم منهم. وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف ، أي (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) ، (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ). فعلنا ذلك ، وكثيرا ما يقدر هذا الفعل محذوفا قبل لام العلة ، إذا لم يكن فعل ظاهر يتعلق به.

وذكر الزمخشري أن قوله تعالى : (وَيَعْلَمَ) قرىء بالجزم ، فإن قلت : فكيف يصح المعنى على جزم ويعلم؟ قلت : كأنه قال : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ، ونجاة قوم ، وتحذير آخرين ، لأن قوله : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) يتضمن تحذيرهم من عقاب الله ، و (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) في موضع نصب ، لأن يعلم معلقة ، كقولك : علمت ما زيد قائم. وقال ابن عطية في قراءة النصب ، وهذه الواو ونحوها التي تسميها الكوفيون واو الصرف ، لأن حقيقة واو الصرف التي يريدونها عطف فعل على اسم مقدر ، فيقدر أن ليكون مع الفعل بتأويل المصدر ، فيحسن عطفه على الاسم. انتهى. وليس قوله تعليلا لقولهم واو الصرف ، إنما هو تقرير لمذهب البصريين. وأما الكوفيون فإن واو الصرف ناصبة بنفسها ، لا بإضمار أن بعدها. وقال أبو عبيد على الصرف كالذي في آل عمران : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٤) ، ومعنى الصرف أنه كان على جهة ، فصرف إلى غيرها ، فتغير الإعراب لأجل الصرف. والعطف لا يعين الاقتران في الوجود ، كالعطف في الاسم ، نحو : جاء زيد وعمرو. ولو نصب وعمرو اقتضى الاقتران ؛ وكذلك واو الصرف ، ليفيد معنى الاقتران ويعين معنى الاجتماع ، ولذلك أجمع على النصب في قوله : (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ، أي ويعلم المجاهدين والصابرين معا.

عن عليّ ، رضي‌الله‌عنه ، اجتمع لأبي بكر رضي‌الله‌عنه مال ، فتصدق به كله في سبيل الله والخير ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون ، فنزلت : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ، والظاهر أنه خطاب للناس. وقيل : للمشركين ، وما شرطية مفعول ثان لأوتيتم ، ومن شيء بيان لما ، والمعنى : من شيء من رياش الدنيا ومالها والسعة فيها ، والفاء جواب الشرط ، أي فهو متاع ، أي يستمتع في الحياة. (وَما عِنْدَ اللهِ) : أي من ثوابه وما أعد لأوليائه ،

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٢١.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٤.

(٣) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٢.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٢.


(خَيْرٌ وَأَبْقى) مما أوتيتم ، لأنه لا انقطاع له. وتقدم الكلام في الكبائر في قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (١) ، في النساء. وقرأ الجمهور : (كَبائِرَ) جمعا هنا ، وفي النجم ، وحمزة ، والكسائي : بالإفراد.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) : عطف على (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، وكذلك ما بعده. ووقع لأبي البقاء وهم في التلاوة ، اعتقد أنها الذين يجتنبون بغير واو ، فبنى عليه الإعراب فقال : الذين يجتنبون في موضع جر بدلا من الذين آمنوا ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار ، أعني : وفي موضع رفع على تقديرهم. انتهى. والعامل في إذا يغفرون ، وهي جملة من مبتدأ وخبر معطوف على يجتنبون ، ويجوز أن يكون هم توكيدا للفاعل في غضبوا. وقال أبو البقاء : هم مبتدأ ، ويغفرون الخبر ، والجملة جواب إذا. انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن الجملة لو كانت جواب إذا لكانت بالفاء ، تقول : إذا جاء زيد فعمرو منطلق ، ولا يجوز حذف الفاء إلا إن ورد في شعر. وقيل : هم مرفوع بفعل محذوف يفسره يغفرون ، ولما حذف ، انفصل الضمير ، وهذا القول فيه نظر ، وهو أن جواب إذا يفسر كما يفسر فعل الشرط بعدها ، نحو : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (٢) ، ولا يبعد جواز ذلك على مذهب سيبويه ، إذ جاء ذلك في أداة الشرط الجازمة ، نحو : إن ينطلق زيد ينطلق ، فزيد عنده فاعل بفعل محذوف يفسره الجواب ، أي ينطلق زيد ، منع ذلك الكسائي والفراء. وقال الزمخشري : هم يغفرون ، أي هم الأخصاء بالغفران ، في حال الغضب لا يغول الغضب أحلامهم ، كما يغول حلوم الناس. والمجيء لهم وإيقاعه مبتدأ ، وإسناد يغفرون إليه لهذه الفائدة. انتهى ، وفيه حض على كسر الغضب. وفي الحديث : «أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب».

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) ، قيل : نزلت في الأنصار ، دعاهم الله للإيمان به وطاعته فاستجابوا له. وكانوا قبل الإسلام ، وقبل أن يقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، إذا نابهم أمر تشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، لا ينفردون بأمر حتى يجتمعوا عليه. وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. انتهى. وفي الشورى اجتماع الكلمة والتحاب والتعاضد على الخير. وقد شاور الرسول عليه‌السلام فيما يتعلق بمصالح الحروب والصحابة بعده في ذلك ، كمشاورة عمر للهرمز. وفي الأحكام ، كقتال أهل الردّة ، وميراث الحربي ، وعدد

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣١.

(٢) سورة الانشقاق : ١٨ / ١.


مدمني الخمر ، وغير ذلك. والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ، على حذف مضاف ، أي وأمرهم ذو شورى بينهم. و (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) : صلة للذين ، وإذا معمولة لينتصرون ، ولا يجوز أن يكون (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) جوابا لإذا ، والجملة الشرطية وجوابها صلة لما ذكرناه من لزوم الفاء ، ويجوز هنا أن يكون هم فاعلا بفعل محذوف على ذلك القول الذي قيل في (هُمْ يَغْفِرُونَ). وقال الحوفي : وإن شئت جعلت هم توكيدا للهاء والميم ، يعني في أصابهم ، وهو ضمير رفع ، وفي هذا نظر ، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل ، وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع ، والانتصار : أن يقتصر على ما حده الله له ولا يعتدي. وقال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فتجترىء عليهم الفساق ، ومن انتصر غير متعد فهو مطيع محمود. وقال مقاتل ، وهشام عن عروة : الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص. وقال ابن عباس : تعدى المشركون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه ، وأخرجوهم من مكة ، فأذن الله لهم بالخروج في الأرض ، ونصرهم على من بغى عليهم. وقال الكيا الطبري : ظاهره أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله ولرسوله وإقامة الصلاة؟ فهذا على ما ذكره النخعي ، وهذا فيمن تعدى وأصر ، والمأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا. وقد قال عقيب هذه الآية (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) الآية ، فيقتضي إباحة الانتصار. وقد عقبه بقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) ، وهذا محمول على القرآن عند غير المصر. فأما المصر على البغي ، فالأفضل الانتصار منه بدليل الآية قبلها. وقال ابن بحر : المعنى تناصروا عليه فأزالوه عنهم. وقال أبو بكر بن العربي نحوا من قول الكيا. قال الجمهور : إذا بغى مؤمن على مؤمن ، فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه ، بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه. وقالت فرقة : له ذلك.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) : هذا بيان للانتصار ، أي لا يتعدى فيما يجازي به من بغى عليه. قال ابن أبي نجيح ، والسدي : إذا شتم ، فله أن يرد مثل ما شتم به دون أن يتعدى ، وسمى القصاص سيئة على سبيل المقابلة ، أو لأنها تسوء من اقتص منه ، كما ساءت الحيض. وظاهر قوله : مثلها المماثلة مطلقا في كل الأحوال ، لا فيما خصه الدليل. والفقهاء أدخلوا التخصيص في صور كثيرة بناء على القياس. قال مجاهد ، والسدي : إذا قال له أخزاك الله فليقل أخزاك الله ، وإذا قذفه قذفا يوجب الحد ، بل الحد الذي أمره الله به. (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) : أي بينه وبين خصمه بالعفو ، (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) : عدة مبهمة لا يقاس عظمها ، إذ هي على الله. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) : أي الخائنين ، وإذا كان


لا يحبه وقد ندب إلى العفو عنه ، فالعفو الذي يحبه الله أولى أن يعفي عنه ، أو لا يحب الظالمين من تجاوز واعتدى من المجنى عليهم ، إذا انتصروا خصوصا في حالة الحرب والتهاب الحمية ، فربما يظلم وهو لا يشعر. وفي الحديث : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم ، قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ فيقولون : نحن عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله». واللام في (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) لام توكيد. قال الحوفي : وفيها معنى القسم. وقال ابن عطية : لام التقاء القسم يعنيان أنها اللام التي يتلقى بها القسم ، فالقسم قبلها محذوف ، ومن شرطية ، وحمل (انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) على لفظ من ، وفأولئك على معنى من ، والفاء جواب الشرط ، وظلمه مصدر مضاف إلى المفعول. قال الزمخشري : ويفسره قراءة من قرأ : بعد ما ظلم ما عليهم من سبيل ، قيل : أي من طريق إلى الحرج ؛ وقيل : من سبيل للمعاقب ، ولا المعاتب والعاتب ، وهذه مبالغة في إباحة الانتصار. (إِنَّمَا السَّبِيلُ) : أي سبيل الإثم والحرج ، (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ) : أي يبتذلون بالظلم ، (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) : أي يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون. وقيل : ويظلمون الناس : أي يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد واللسان. والبغي بغير الحق ، فهو نوع من أنواع الظلم ، خصه بالذكر تنبيها على شدته وسوء حال صاحبه. انتهى. (وَلَمَنْ صَبَرَ) : أي على الظلم والأذى ، (وَغَفَرَ) ، ولم ينتصر. واللام في ولمن يجوز أن تكون اللام الموطئة القسم المحذوف ، ومن شرطية ، وجواب القسم قوله : (إِنَّ ذلِكَ) ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء ، ومن موصولة مبتدأ ، والجملة المؤكدة بأن في موضع الخبر. وقال الحوفي : من رفع بالابتداء وأضمر الخبر ، وجواب الشرط إن وما تعلقت به على حذف الفاء ، كما قال الشاعر :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

أي : فالله يشكرها. انتهى ، وهذا ليس بجيد ، لأن حذف الفاء مخصوص بالشعر عند سيبويه. والإشارة بذلك إلى ما يفهم من مصدر صبر وغفر والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف ، أي إن ذلك منه لدلالة المعنى عليه : (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، إن كان ذلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) ، لم يكن في عزم الأمور حذف ، وإن كان ذلك إشارة إلى المبتدأ ، كان هو الرابط ، ولا يحتاج إلى تقدير منه ، وكان في (عَزْمِ الْأُمُورِ) ، أي أنه لمن ذوي عزم الأمور. وسب رجل آخر في مجلس الحسن ،


فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق ، ثم قام فتلا الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمها ، لم هذه ضيعها الجاهلون. والجملة من قوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ) اعتراض بين قوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) ، وقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ).

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) : أي من ناصر يتولاه من بعده ، أي من بعد إضلاله ، وهذا تحقير لأمر الكفرة. (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) : الخطاب للرسول ، والمعنى : وترى حالهم وما هم فيه من الحيرة ، (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) ، يقولون : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) : هل سبيل إلى الردّ للدنيا؟ وذلك من فظيع ما اطلعوا عليه ، وسوء ما يحل بهم. (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) : أي على النار ، دل عليها ذكر العذاب ، (خاشِعِينَ) متضائلين صاغرين مما يلحقهم. (مِنَ الذُّلِ). وقرأ طلحة : من الذل ، بكسر الذال ؛ والجمهور بالضم ، والخشوع : الاستكانة ، وهو محمود. وإنما أخرجه إلى الذم اقترانه بالعذاب. وقيل : (مِنَ الذُّلِ) متعلق ب (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ). قال ابن عباس : ذليل. انتهى. قيل : ووصف بالخفاء لأن نظرهم ضعيف ولحظهم نهاية ، قال الشاعر :

فغض الطرف إنك من نمير

وقيل : يحشرون عميا. ولما كان نظرهم بعيون قلوبهم ، جعله طرفا خفيا ، أي لا يبدو نظرهم ، وهذا التأويل فيه تكلف. وقال السدي ، وقتادة : المعنى يسارقون النظر لما كانوا فيه من الهمّ وسوء الحال ، لا يستطيعون النظر بجميع العين ، وإنما ينظرون من بعضها ، فيجوز على هذا التأويل أن يكون الطرف مصدرا ، أي من نظر خفي. وقال الزمخشري : (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ، أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة ، كما ترى المصور ينظر إلى السيف ، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره ، ولا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينه منها ، كما يفعل في نظره إلى المتحاب.

(وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ، اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ ، لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، أَوْ


يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ، وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

الظاهر أن (وَقالَ) ماض لفظا ومعنى ، أي (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) في الحياة الدنيا ، ويكون يوم القيامة معمولا لخسروا ، ويحتمل أن يكون معنى (وَقالَ) : ويقول ، ويوم القيامة معمول لو يقولوا ، أي ويقولوا في ذلك اليوم لما عاينوا ما حل بالكفار وأهليهم. الظاهر أنهم الذين كانوا أهليهم في الدنيا ، فإن كانوا معهم في النار فقد خسروهم ، أي لا ينتفعون بهم ؛ وإن كانوا في الجنة لكونهم كانوا في الجنة لكونهم كانوا مؤمنين ، كآسية امرأة فرعون ، فهم لا ينتفعون بهم أيضا. وقيل : أهلوهم ما كان أعد لهم من الحور لو كانوا آمنوا ، والظاهر أن قوله : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) من كلام المؤمنين ؛ وقيل : استئناف إخبار من الله تعالى.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) ، قيل : هو يوم ورود الموت ، والظاهر أنه يوم القيامة. و (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف يدل عليه ما مر ، أي لا يرد ذلك اليوم من ما حكم الله به فيه. وقال الزمخشري : (مِنَ اللهِ) : من صلة للامرد. انتهى ، وليس الجيد ، إذ لو كان من صلته لكان معمولا له ، فكان يكون معربا منونا. وقيل : (مِنَ اللهِ) يتعلق بقوله : (يَأْتِيَ) ، من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده. (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) تلجأون إليه ، فتتخلصون من العذاب ، وما لكم من إنكار شيء من أعمالكم التي توردكم النار ، والنكير مصدر أنكر على غير قياس. قيل : ويحتمل أن يكون اسم فاعل للمبالغة ، وفيه بعد ، لأن نكر معناه لم يميز. (فَإِنْ أَعْرَضُوا) الآية : تسلية للرسول وتأنيس له ، وإزالة لهمه بهم. والإنسان : يراد به الجنس ، ولذلك جاء : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ). وجاء جواب الشرط (فَإِنَّ الْإِنْسانَ) ولم يأت فإنه ، ولا فإنهم ، ليدل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم ، كما قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١) ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٢).

ولما ذكر أنه يكفر النعم ، أتبع ذلك بأن له ملك العالم العلوي والسفلي ، وأنه يفعل

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٤.

(٢) سورة العاديات : ١٠٠ / ٦.


ما يريد ، ونبه على عظيم قدرته ، وأن الكائنات ناشئة عن إرادته ، فذكر أنه يهب لبعض إناثا ، ولبعض ذكورا ، ولبعض الصنفين ، ويعقم بعضا فلا يولد له. وقال إسحاق بن بشر : نزلت هذه الآية في الأنبياء ، ثم عمت. فلوط أبو بنات لم يولد له ذكور ، وإبراهيم ضده ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهما ولد له الصنفان ، ويحيى عقيم. انتهى. وذكر أيضا مع لوط شعيب ، ومع يحيى عيسى ، وقدم تعالى هبة البنات تأنيسا لهن وتشريفا لهن ، ليهتم بصونهن والإحسان إليهن. وفي الحديث : «من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار». وقال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ، لأن الله تعالى بدأ بالإناث. وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم الإناث على الذكور مع تقدمهم عليهن ، ثم رجع فقدمهم؟ ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟ قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى. وكفران الإنسان : نسيانه الرحمة السابقة عنده.

ثم ذكره بذكر ملكه ومشيئته ، وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث ، لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه ، لا ما يشاء الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللائي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم أوجب التقديم. والبلاء : الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ، ذكر البلاء وآخر الذكور. فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيره ، وهم أحق بالتقديم بتعريفهم ، لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفريقين ، الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم. ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير ، وعرفان تقديمهن لم يكن لتقدمهن ، ولكن لمقتضى آخر فقال : (ذُكْراناً وَإِناثاً) ، كما قال : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) (١) ، (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٢). انتهى. وقيل : بدأ بالأنثى ثم ثنى بالذكر ، لتنقله من الغم إلى الفرح. وقيل : ليعلم أنه لا اعتراض على الله فيرضى. فإذا وهب له الذكر ، علم أنه زيادة وفضل من الله وإحسان إليه. وقيل : قدمها تنبيها على أنه إذا كان العجز والحاجة لهم ، كانت عناية الله أكثر. وقال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاما ، ثم تلد جارية. وقال محمد بن الحنفية : أن تلد توأما ، غلاما وجارية. وقال أبو بكر بن العربي : أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. قال علماؤنا : يعني آدم ، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ، ذكرا وأنثى ؛ تزوج ذكر هذا البطن أنثى البطن الآخر. انتهى.

ولما ذكر الهبة في الإناث ، والهبة في الذكور ، اكتفى عن ذكرها في قوله :

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣.

(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ٣٩.


(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً). ولما كان العقم ليس بمحمود قال : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) ، وهو قسيم لمن يولد له. ولما كانت الخنثى مما يحزن بوجوده ، لم يذكره تعالى. قالوا : وكانت الخلقة مستمرة ، ذكرا وأنثى ، إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى ، فسئل فارض العرب ومعمرها عامر بن الظرب عن ميراثه ، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم. فلما جن عليه الليل ، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار ، وأنكرت خادمه حاله فسألته ، فقال : بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه ، فقالت له : ما هو؟ فقال : شخص له ذكر وفرج ، كيف يكون حاله في الميراث؟ قالت له الأمة : ورثه من حيث يبول ، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم ، فرضوا بها. وجاء الإسلام على ذلك ، وقضى بذلك علي ، كرم الله وجهه ، إنه عليم بمصالح العباد ، قدير على تكوين ما يشاء.

كان من الكفار خوض في معنى تكليم الله موسى ، فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم ، فنزلت. وقيل : كانت قريش تقول : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا ، كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم الرسول عليه‌السلام : «لم ينظر موسى إلى الله» ، فنزلت : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) ، بيانا لصورة تكليم الله عباده أي ما ينبغي ولا يمكن البشر إلا يوحى إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام. قال مجاهد : أو النفث في القلب. وقال النقاش : أو وحي في المنام. وقال النخعي : كان في الأنبياء من يخط له في الأرض ، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا ، كموسى عليه‌السلام ، وهذا معنى (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) : أي من خفاء عن المتكلم ، لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه ، وليس كالحجاب في المشاهد ، أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله تعالى ، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : وما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه : إما على طريق الوحي ، وهو الإلهام والقذف في القلب والمنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه‌السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد : أوحى الله الزبور إلى داود عليه‌السلام في صدره ، قال عبيد بن الأبرص :

وأوحى إلى الله أن قد تأمروا

بابن أبي أوفى فقمت على رجل

أي : ألهمنى وقذف في قلبي.

وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، لأنه في ذاته غير مرئي. (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) مثل ، أي : كما يكلم الملك


المحتجب بعض خواصه ، وهو من وراء حجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم الله موسى ويكلم الملائكة.

وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحي الملك إليه ، كما كلم الأنبياء غير موسى. انتهى ، وهو على طريق المعتزلة في استحالة رؤية الله تعالى ونفي الكلام الحقيقي عن الله.

وكل هذه الأقسام الثلاثة يصدق عليها أنها وحي ، وخص الأول باسم الوحي هنا ، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام يقع دفعة واحدة ، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى. وقيل : (وَحْياً) كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة ، أو (يُرْسِلَ رَسُولاً) : أي نبيا ، كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم ، حكاه الزمخشري ، وترك تفسير (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ، ومعناه في هذا القول : كما كلم محمدا وموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الجمهور : (حِجابٍ) ، مفردا ؛ وابن أبي عبلة : حجب جمعا. وقرأ الجمهور : بنصب الفعلين عطف ، أو يرسل على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب تقديره : أو يكلمه من وراء حجاب ، وهذا المضمر معطوف على وحيا ، والمعنى : إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب ، أو إرسال رسول فيوحي ذلك الرسول إلى النبي الذي أرسل عنه بإذن الله ما يشاء ، ولا يجوز أن يطف (أَوْ يُرْسِلَ) على (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) لفساد المعنى. وقال الزمخشري : ووحيا ، وأن يرسل ، مصدران واقعان موقع الحال ، لأن أن يرسل في معنى إرسالا ، ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضا ، كقوله : (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) (١) ، والتقدير : وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب ، أو مرسلا. انتهى. أما وقوع المصدر موقع الحال ، فلا ينقاس ، وإنما قالته العرب. وكذلك لا يجوز : جاء زيد بكاء ، تريد باكيا ، وقاس منه المبرد ما كان منه نوعا للفعل ، نحو : جاء زيد مشيا أو سرعة ، ومنع سيبويه أن يقع أن والفعل المقدر بالمصدر موقع الحال ، فلا يجوز ، نحو : جاء زيد أن يضحك في معنى ضحك الواقع موقع ضاحكا ، فجعله وحيا مصدرا في موضع الحال مما لا ينقاس ، وأن يرسل في معنى إرسالا الواقع موقع مرسلا ممنوع بنص سيبويه. وقرأ نافع وأهل المدينة : أو يرسل رسولا فيوحي بالرفع فيهما ، فخرج على إضمار هو يرسل ، أو على ما يتعلق به من وراء ، إذ تقديره : أو يسمع من وراء حجاب ، ووحيا مصدر في موضع

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩١.


الحال ، عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه ، أو يرسل والتقدير : إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب ، أو مرسلا ، وإسناد التكلم إلى الله بكونه أرسل رسولا مجاز ، كما تقول : نادى الملك في الناس بكذا ، وإنما نادى الريح الدائر في الأسواق ، نزل ما كان بواسطة منزلة ما كان بغير واسطة. قال ابن عطية : وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكلم ، وأن الحالف الرسل ، كانت إذا حلف أن لا يكلم إنسانا فأرسل إليه ، وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه. انتهى. (إِنَّهُ عَلِيٌ) : أي عليّ عن صفات المخلوقين ، (حَكِيمٌ) : تجري أفعاله على ما تقتضيه الحكمة ، يكلم بواسطة وبغير واسطة.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) : أي مثل ذلك الإيحاء الفصل أوحينا إليك ، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث : النفث في الروع ، والمنام ، وتكليم الله له حقيقة ليلة الإسراء ، وإرسال رسول إليه ، وهو جبريل. وقيل : كما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ، (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا). قال ابن عباس : النبوة. وقال السدي : الوحي ؛ وقال قتادة : رحمة ؛ وقال الكلبي : كتابا ؛ وقال الربيع : جبريل ؛ وقيل : القرآن ؛ وسمى ما أوحى إليه روحا ، لأن به الحياة من الجهل. وقال مالك بن دينار : يا أهل القرآن ، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب ، كما أن العشب ربيع الأرض. (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) : توقيف على عظم المنة ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم الناس بها ، وعطف ولا الإيمان على ما الكتاب ، وإنما معناه : الإيمان الذي يدركه السمع ، لأن لنا أشياء من الإيمان لا تعلم إلا بالوحي. أما توحيد الله وبراءته عن النقائص ، ومعرفة صفاته العلا ، فجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عالمون ذلك ، معصومون أن يقع منهم زلل في شيء من ذلك ، سابق لهم علم ذلك قبل أن يوحى إليهم. وقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (١) ، إذ هي بعض ما يتناوله الإيمان.

ومن طالع سير الأنبياء من نشأتهم إلى مبعثهم ، تحقق عنده أنهم معصومون من كل نقيصة ، موحدون لله منذ نشأوا. قال الله تعالى في حق يحيى عليه‌السلام : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٢). قال معمر : كان ابن سنتين أو ثلاث. وعن أبي العالية : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان. وقال القاضي : (وَلَا الْإِيمانُ) : الفرائض والأحكام. قال : وكان قبل مؤمنا بتوحيد الله ، ثم نزلت الفرائض التي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ١٢.


لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيمانا. وقال القشيري : يجوز إطلاق الإيمان على تفاصيل الشرع. وقال الحسين بن الفضل : هو على حذف مضاف ، أي ولا أهل الإيمان من الذي يؤمن أبو طالب أو العباس أو غيرهما. وقال علي بن عيسى : إذ كنت في المهد. وقيل : ما الكتاب لو لا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لو لا هدايتنا لك. وقيل : أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الإيمان ولا الكتاب ، فتكون أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم. ما الكتاب : جملة استفهامية مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب بتدري ، وهي معلقة.

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) : يحتمل أن يعود إلى قوله : (رُوحاً) ، وإلى (الْكِتابُ) ، وإلى (الْإِيمانُ) ، وهو أقرب مذكور. وقال ابن عطية : عائد على الكتاب. انتهى. وقيل : يعود إلى الكتاب والإيمان معا لأن مقصدهما واحد ، فهو نظير : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١). وقرأ الجمهور : (لَتَهْدِي) ، مضارع هدى مبنيا للفاعل ؛ وحوشب : مبنيا للمفعول ، إجابة سؤاله عليه الصلاة والسلام : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢). وقرأ ابن السميفع : لتهدي بضم التاء وكسر الدال ؛ وعن الجحدري مثلها ومثل قراءة حوشب. (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، قال علي : هو القرآن ؛ وقيل : الإسلام. (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) : أخبر بالمضارع ، والمراد به الديمومة ، كقوله : زيد يعطي ويمنع ، أي من شأنه ذلك ، ولا يراد به حقيقة المستقبل ، أي ترد جميع أمور الخلق إليه تعالى يوم القيامة فيقضي بينهم بالعدل ، وخص ذلك بيوم القيامة ، لأنه لا يمكن لأحد أن يدعي فيه لنفسه شيئا ، قاله الفراء.

تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله سورة الزخرف

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٦٢.

(٢) سورة الفاتحة : ١ / ٦.


سورة الزّخرف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)


وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ


أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ


مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)

يعشو : يعرض ، ويعشى : يعمى. وقال ابن قتيبة : لم نر أحدا حكى : عشوت عن الشيء : أعرضت عنه ، وإنما يقال : تعاشيت عن كذا وتعاميت ، إذا تغافلت عنه. وتقول :


عشوت إلى النار ، إذا استدللت عليها ببصر ضعيف. وقيل : عشى يعشى ، إذا حصلت الآفة في بصره. وعشا يعشو : نظر المغشي ولا آفة به ، كما قالوا : عرج لمن به الآفة ، وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج. قال الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

أي : تنظر إليها نظر المغشي ، لما يضعف بصر من عظيم الوقود به ، ومنه قول حاتم :

أعشو إذا ما جارتي برزت

حتى يواري جارتي الخدر

الصحفة ، قال الجوهري : هي القصعة ، وقال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ، ثم القصعة تليها تسع العشرة ، ثم الصحفة تسع الخمسة ، ثم المكيلة تسع الرجلين والثلاثة. والصحيفة : الكتاب ، والجمع : صحف وصحائف. الكوب ، قال قطرب : الإبريق لا عروة له. وقال الأخفش : الإبريق لا خرطوم له ، وقيل : كالإبريق ، إلا أنه لا أذن له ولا مقبض. قال أبو منصور الجواليقي : إنما كان بغير عروة ليشرب الشارب من أين شاء ، لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات. انتهى. وقال عدي :

متكئا تصفق أبوابه

يسعى عليه العبد بالكوب

أبرم ، قال الفراء : أبرم الأمر : بالغ في إحكامه ، وأبرم القاتل ، إذا أدهم ، وهو القتل الثاني ؛ والأول يقال له سجيل ، كما قال زهير :

من سجيل وبرم

انتهى. والإبرام : أن يجمع خيطين ، ثم يفتلهما فتلا متقنا ؛ والبريم : خيط فيه لونان.

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ. وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ. وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ


بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ).

هذه السورة مكية ، وقال مقاتل : إلا قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) (١). وقال ابن عطية : بإجماع أهل العلم. (إِنَّا جَعَلْناهُ) ، أي صيرناه ، أو سميناه ؛ وهو جواب القسم ، وهو من الأقسام الحسنة لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد ، ونظيره قول أبي تمام :

وثناياك أنها إغريض

وقيل : والكتاب أريد به الكتب المنزلة ، والضمير في جعلناه يعود على القرآن ، وإن لم يتقدم له صريح الذكر لدلالة المعنى عليه. وقال الزمخشري : جعلناه ، بمعنى صيرناه ، معدى إلى مفعولين ، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد ، كقوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٢). و (قُرْآناً عَرَبِيًّا) : حال. ولعل : مستعارة لمعنى الإرادة ، لتلاحظ معناها ومعنى الترجي ، أي خلقناه عربيا غير عجمي. أراد أن تعقله العرب ، ولئلا يقولوا : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) (٣). انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في كون القرآن مخلوقا. (أُمِّ الْكِتابِ) : اللوح المحفوظ ، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب ، وهذا فيه تشريف للقرآن ، وترفيع بكونه. لديه عليا : على جميع الكتب ، وعاليا عن وجوه الفساد. حكيما : أي حاكما على سائر الكتب ، أو محكما بكونه في غاية البلاغة والفصاحة وصحة المعاني. قال قتادة وعكرمة والسدي : اللوح المحفوظ : القرآن فيه بأجمعه منسوخ ، ومنه كان جبريل ينزل. وقيل : أم الكتاب : الآيات المحكمات ، لقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (٤) ، ومعناه : أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم. وقرأ الجمهور : في أم ، بضم الهمزة ، والإخوان بكسرها ، وعزاها ابن عطية يوسف بن عمرو إلى العراق ، ولم يعزها للإخوان عقلة منه. يقال : ضرب عن كذا ، وأضرب عنه ، إذا أعرض عنه. والذكر ، قال الضحاك وأبو صالح : القرآن ، أي افترائي عنكم القرآن. وقولهم : ضرب الغرائب عن الحوض ، إذا أدارها ونحاها ، وقال الشاعر :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسيف قونس الفرس

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٤٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٤٤.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٧.


وقيل : الذكر : الدعاء إلى الله والتخويف من عقابه. قال الزمخشري : والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكارا؟ لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب وخلقه قرآنا عربيا لتعقلوه وتعملوا بموجبه. انتهى. وتقدم الكلام معه في تقديره فعلا بين الهمزة والفاء في نحو : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا*) (١)؟ (أَفَلا تَعْقِلُونَ*) (٢)؟ وبينها وبين الواو في نحو : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا*) (٣)؟ كما وأن المذهب الصحيح قول سيبويه والنحويين : أن الفاء والواو منوي بهما التقديم لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، وأن الهمزة تقدمت لكون الاستفهام له صدر الكلام ، ولا خلاف بين الهمزة والحرف ، وقد رددنا عليه قوله : وقال ابن عباس ومجاهد : المعنى : أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم عفوا عن إجرامكم؟ أن كنتم أو من أجل أن كنتم قوما مسرفين؟ أي هذا لا يصلح. ونحا قتادة إلى أن المعنى صفحا ، أي معفوا عنه ، أي نتركه. ثم لا تؤاخذون بقوله ولا بتدبره ، ولا تنبهون عليه. وهذا المعنى نظير قول الشاعر :

ثم الصبا صفحا بساكن ذي الفضا

وبصدع قلبي أن يهب هبوبها

وقول كثير :

صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة

فمن مل منها ذلك الوصل ملت

وقال ابن عباس : المعنى : أفحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به؟ وقال الكلبي : أن نترككم هملا بلا أمر ولا نهي؟ وقال مجاهد أيضا : أن لا نعاقبكم بالتكذيب؟ وقيل : أن نترك الإنزال للقرآن من أجل تكذيبكم؟ وقرأ حسان بن عبد الرحمن الضبغي ، والسميط بن عمير ، وشميل بن عذرة : بضم الصاد ، والجمهور : بفتحها ، وهما لغتان ، كالسد والسد. وانتصاب صفحا على أنه مصدر من معنى أفنضرب ، لأن معناه : أفنصفح؟ أو مصدر في موضع الحال ، أي صافحين ، قالهما الحوفي ، وتبعه أبو البقاء. وقال الزمخشري : وصفحا على وجهين : إما مصدر من صفح عنه ، إذا أعرض منتصبا على أنه مفعول له على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه. وصفح وجهه على معنى : أفننحيه عنكم جانبا؟ فينصب على الظرف ، كما تقول : ضعه جانبا ، وامش جانبا. وتعضده قراءة من قرأ صفحا بالضم. وفي هذه القراءة وجه آخر ، وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح ،

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ / ٨٢.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٣٨.

(٣) سورة الروم : ٣٠ / ٩.


وينتصب على الحال ، أي صافحين معرضين. وقال ابن عطية : صفحا ، انتصابه كانتصاب صنع الله. انتهى. يعني أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، فيكون العامل فيه محذوفا ، ولا يظهر هذا الذي قاله ، فليس انتصابه انتصاب صنع الله. وقرأ نافع والإخوان : بكسر الهمزة ، وإسرافهم كان متحققا. فكيف دخلت عليه إن الشرطية التي لا تدخل إلا على غير المتحقق ، أو على المتحقق الذي أنبهم زمانه؟ قال الزمخشري : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي ، وهو عالم بذلك ، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق ، مع وضوحه ، استجهالا له. وقرأ الجمهور : أن بفتح الهمزة ، أي من أجل أن كنتم. قال الشاعر :

أتجزع أن بان الخيط المودع

وقرأ زيد بن علي : إذ كنتم ، بذال مكان النون ، لما ذكر خطابا لقريش ، (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ)؟ وكان هذا الإنكار دليلا على تكذيبهم للرسول ، وإنكارا لما جاء به. آنسه تعالى بأن عادتهم عادة الأمم السابقة من استهزائهم بالرسل ، وأنه تعالى أهلك من كان أشد بطشا من قريش ، أي أكثر عددا وعددا وجلدا. (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) : أي فليحذر قريش أن يحل بهم مثل ما حل بالأولين مكذبي الرسل من العقوبة. قال معناه قتادة : وهي العقوبة التي سارت سير المثل ، وقيل : مثل الأولين في الكفر والتكذيب ، وقريش سلكت مسلكها ، وكان مقبلا عليهم بالخطاب في قوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ)؟ فأعرض عنهم إلى إخبار الغائب في قوله : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً).

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : احتجاج على قريش بما يوجب التناقض ، وهو إقرارهم بأن موجد العالم العلوي والسفلي هو الله ، ثم هم يتخذون أصناما آلهة من دون الله يعبدونهم ويعظمونهم. قال ابن عطية : ومقتضى الجواب أن يقولوا خلقهن الله ، فلما ذكر تعالى المعنى ، جاءت العبارة عن الله تعالى بالعزيز العليم ، ليكون ذلك توطئة لما عدد من أوصافه الذي ابتدأ الإخبار بها ، وقطعها من الكلام الذي حكي معناه عن قريش. انتهى. وقال الزمخشري : لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه ، وليسندنه إليه. انتهى. والظاهر أن : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) نفس المحكي من كلامهم ، ولا يدل كونهم ذكروا في مكان خلقهن الله ، أن لا يقولوا في سؤال آخر. (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).


و (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) : من كلام الله ، خطابا لهم بتذكير نعمه السابقة. وكرر الفعل في الجواب في قوله : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ، مبالغة في التوكيد. وفي غير ما سؤال ، اقتصروا على ذكر اسم الله ، إذ هو العلم الجامع للصفات العلا ، وجاء الجواب مطابقا للسؤال من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ، لأن من مبتدأ. فلو طابق في اللفظ ، كان بالاسم مبتدأ ، ولم يكن بالفعل. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : أي إلى مقاصدكم في السفر ، أو تهتدون بالنظر والاعتبار. بقدر : أي بقضاء وحتم في الأزل ، أو بكفاية ، لا كثيرا فيفسد ، ولا قليلا فلا يجدي. (فَأَنْشَرْنا) : أحيينا به. (بَلْدَةً مَيْتاً) : ذكر على معنى القطر ، وبلدة اسم جنس. وقرأ أبو جعفر وعيسى : ميتا بالتشديد. وقرأ الجمهور : تخرجون : مبنيا للمفعول ؛ وابن وثاب ، وعبد الله بن جبير المصبح ، وعيسى ، وابن عامر ، والإخوان : مبنيا للفاعل. و (الْأَزْواجَ) : الأنواع من كل شيء. قيل : وكل ما سوى الله فهو زوج ، كفوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وقدام ، وخلف ، وماض ، ومستقبل ، وذوات ، وصفات ، وصيف ، وشتاء ، وربيع ، وخريف ؛ وكونها أزواجا تدل على أنها ممكنة الوجود ، ويدل على أن محدثها فرد ، وهو الله المنزه عن الضد والمقابل والمعارض. انتهى.

(وَالْأَنْعامِ) : المعهود أنه لا يركب من الأنعام إلا الإبل. ما : موصولة والعائد محذوف ، أي ما يركبونه. وركب بالنسبة للعلل ، ويتعدى بنفسه على المتعدي بوساطة في ، إذ التقدير ما يركبونه. واللام في لتستووا : الظاهر أنها لام كي. وقال الحوفي : ومن أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا. وقال ابن عطية : لام الأمر ، وفيه بعد من حيث استعمال أمر المخاطب بتاء الخطاب ، وهو من القلة بحيث ينبغي أن لا يقاس عليه. فالفصيح المستعمل : اضرب ، وقيل : لتضرب ، بل نص النحويون على أنها لغة رديئة قليلة ، إذ لا تكاد تحفظ إلا قراءة شاذة ؛ فبذلك فلتفرحوا بالتاء للخطاب. وما آثر المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام : لتأخذوا مصافاكم ، مع احتمال أن الراوي روى بالمعنى ، وقول الشاعر :

لتقم أنت يا ابن خير قريش

فتقضي حوائج المسلمينا

وزعم الزجاج أنها لغة جيدة ، وذلك خلاف ما زعم النحويون. والضمير في ظهوره عائد على ما ، كأنه قال : على ظهور ما تركبون ، قاله أبو عبيدة ؛ فلذلك حسن الجمع ، لأن مآلها لفظ ومعنى. فمن جمع ، فباعتبار المعنى ؛ ومن أفرد فباعتبار اللفظ ، ويعني : (مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ). وقال الفراء نحوا منه ، قال : أضاف الظهور ، (ثُمَّ تَذْكُرُوا) ، أي في


قلوبكم ، (نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) ، معترفين بها مستعظمين لها. لا يريد الذكر باللسان بل بالقلب ، ولذلك قابله بقوله : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) ، أي تنزهوا الله بصريح القول. وجاء في الحديث : «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا ، إلى قوله لمنقلبون ، وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا ، وقالوا : إذا ركب في السفينة قال : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (١) إلى رحيم ، ويقال عند النزول منها : اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين».

والقرن : الغالب الضابط المطيق للشيء ، يقال : أقرن الشيء ، إذا أطاقه. قال ابن هرمة :

وأقرنت ما حملتني ولقلما

يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر

وحقيقة أقرنه : وجده ، قرينته وما يقرن به : لأن الصعب لا يكون قرينة للضعف. قال الشاعر :

وابن اللبون إذا ما لذ في قرن

لم يستطع صولة البذل القناعيس

والقرن : الحبل الذي يقرن به. وقال أبو عبيد : فلان مقرن لفلان ، أي ضابط له ، والمعنى : أنه ليس لنا من القوة ما نضبط به الدابة والفلك ، وإنما الله الذي سخرها. وأنشد قطرب لعمرو بن معد يكرب :

لقد علم القبائل ما عقيل

لنا في النائبات بمقرنينا

وقرىء : لمقترنين ، اسم فاعل من اقترن. (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) : أي راجعون ، وهو إقرار بالرجوع إلى الله ، وبالبعث ، لأن الراكب في مظنة الهلاك بالغرق إذا ركب الفلك ، وبعثور الدابة ، إذ ركوبها أمر فيه خطر ، ولا تؤمن السلامة فيه. فقوله هذا تذكير بأنه مستشعر الصيرورة إلى الله ، ومستعد للقائه ، فهو لا يترك ذلك من قلبه ولا لسانه. (وَجَعَلُوا لَهُ) : أي وجعل كفار قريش والعرب له ، أي لله. من عباده : أي ممن هم عبيد الله. جزءا ، قال مجاهد : نصيبا وحظا ، وهو قول العرب : الملائكة بنات الله. وقال قتادة جزءا ، أي ندا ، وذلك هو الأصنام وفرعون ومن عبد من دون الله. وقيل : الجزء : الجزء : الإناث. قال بعض اللغويين : يقال أجزأت المرأة ، إذا ولدت أنثى. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٤١.


إن أجزأت حرة يوما فلا عجب

قد تجزىء الحرة المذكار أحيانا

قيل : هذا البيت مصنوع ، وكذا قوله :

زوجها من بنات الأوس مجزئة

ولما تقدم أنهم معترفون بأنه تعالى هو خالق العالم ، أنكر عليهم جعلهم لله جزءا ، وقد اعترفوا بأنه هو الخالق ، فكيف وصفوه بصفة المخلوق؟ (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) نعمة خالقه. (مُبِينٌ) : مظهر لجحوده. والمراد بالإنسان : من جعل لله جزءا ، وغيرهم من الكفرة. قال ابن عطية : ومبين في هذا الموضع غير متعد. انتهى. وليس يتعين ما ذكر ، بل يجوز أن يكون معناه ظاهرا لكفران النعم ومظهرا لجحوده ، كما قلنا. (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ)؟ استفهام إنكار وتوبيخ لقلة عقولهم؟ كيف زعموا أنه تعالى اتخذ لنفسه ما أنتم تكرهونه حين أنتم تسود وجوهكم عند التبشير بهن وتئدونهن؟ (وَأَصْفاكُمْ) : جعل لكم صفوة ما هو محبوب ، وذلك البنون. وقوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) ، تنبيه على استحالة الولد ، ذكرا كان أو أنثى ، وإن فرض اتخاذ الولد ، فكيف يختار له الأدنى ويخصكم بالأعلى؟ وقدم البنات ، لأنه المنكر عليهم لنسبتهن إلى الله ، وعرف البنين دون البنات تشريفا لهم على البنات. (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ) : تقدم تفسير نظيرها في سورة النحل. (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) : أي ينتقل في عمره حالا فحالا في الحلية ، وهو الحلي الذي لا يليق إلا بالإناث دون الفحول ، لتزينهن بذلك لأزواجهن ، وهو إن خاصم ، لا يبين لضعف العقل ونقص التدبر والتأمل ، أظهر بهذا لحقوقهن وشفوف البنين عليهن. وكان في ذلك إشارة إلى أن الرجل لا يناسب له التزين كالمرأة ، وأن يكون مخشوشنا. والفحل من الرجال أبى أن يكون متصفا بصفات النساء ، والظاهر أنه أراد بمن ينشؤا في الحلية : النساء. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : ويدل عليه قوله : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) : أي لا يظهر حجة ، ولا يقيم دليلا ، ولا يكشف عما في نفسه كشفا واضحا. ويقال : قلما تجد امرأة لا تفسد الكلام ، وتخلط المعاني ، حتى ذكر عن بعض الناس أنه قال : إذا دخلنا على فلانة ، لا تخرج حتى نعلم أن عقلها عقل امرأة. وقال ابن زيد : المراد بمن ينشؤا في الحلية : الأصنام ، وكانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة ، ويجعلون الحلي على كثيرة منها ، ويبعد هذا القول قوله : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) ، إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإنه كقوله :


على لا حب لا يهتدى بمناره

أي : لا منار له فيهتدى به. ومن : في موضع نصب ، أي وجعلوا من ينشأ. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء ، أي من ينشأ جعلوه لله. وقرأ الجمهور : ينشأ مبنيا للفاعل ، والجحدري في قول : مبنيا للمفعول مخففا ، وابن عباس وزيد بن علي والحسن ومجاهد والجحدري : في رواية ، والإخوان وحفص والمفضل وإبان وابن مقسم وهارون ، عن أبي عمرو : مبنيا للمفعول مشددا ، والحسن : في رواية يناشؤ على وزن يفاعل مبنيا للمفعول ، والمناشأة بمعنى الإنشاء ، كالمعالاة بمعنى الإعلاء. و (فِي الْخِصامِ) : متعلق بمحذوف تفسيره غير مبين ، أي وهو يبين في الخصام. ومن أجاز أما زيدا ، غير ضارب بأعمال المضاف إليه في غير أجاز أن يتعلق بمبين ، أجري غير مجرى لا. وبتقديم معمول أما بعد لا مختلف فيه ، وقد ذكر ذلك في النحو.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ، وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ، أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ، وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ، وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ، وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ ، وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

لم يكفهم أن جعلوا لله ولدا ، وجعلوه إناثا ، وجعلوهم من الملائكة ، وهذا من جهلهم بالله وصفاته ، واستخفافهم بالملائكة ، حيث نسبوا إليهم الأنوثة. وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، والابنان ، ونافع : عند الرحمن ، ظرفا ، وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ


رَبِّكَ) (١). وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعلقمة ، وباقي السبعة : عباد الرحمن ، جمع عبد لقوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢). وقرأ الأعمش : عباد الرحمن ، جمعا. وبالنصب ، حكاها ابن خالويه ، قال : وهي في مصحف ابن مسعود كذلك ، والنصب على إضمار فعل ، أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن ، وأنشئوا عباد الرحمن إناثا. وقرأ أبيّ عبد الرحمن : مفردا ، ومعناه الجمع ، لأنه اسم جنس. وقرأ الجمهور : وأشهدوا ، بهمزة الاستفهام داخلة على شهدوا ، ماضيا مبنيا للفاعل ، أي أحضروا خلقهم ، وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدي. وقيل : سألهم الرسول عليه‌السلام : «ما يدريكم أنهم إناث؟» فقالوا : سمعنا ذلك من آبائنا ، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا ، فقال الله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) عنها ، أي في الآخرة. وقرأ نافع : بهمزة داخلة على أشهدوا ، رباعيا مبنيا للمفعول بلا مد بين الهمزتين. والمسبى عنه : بمدة بينهما ؛ وعليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وفي رواية أبي عمرو ، ونافع : بتسهيل الثانية بلا مد ؛ وجماعة : كذلك بمد بينهما. وعن عليّ والمفضل ، عن عاصم : تحقيقهما بلا مد ؛ والزهري وناس : أشهدوا بغير استفهام ، مبنيا للمفعول رباعيا ، فقيل : المعنى على الاستفهام ، حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليها. وقيل : الجملة صفة للإناث ، أي إناثا مشهدا منهم خلقهم ، وهم لم يدعوا أنهم شهدوا خلقهم ، لكن لما ادّعوا لجراءتهم أنهم إناث ، صاروا كأنهم ادعوا ذلك وإشهادهم خلقهم. وقرأ الجمهور : إناثا ، وزيد بن عليّ : أنثا ، جمع جمع الجمع. قيل : ومعنى وجعلوا : سموا ، وقالوا : والأحسن أن يكون المعنى : وصيروا اعتقادهم الملائكة إناثا ، وهذا الاستفهام فيه تهكم بهم ، والمعنى : إظهار فساد عقولهم ، وأن دعاويهم مجردة من الحجة ، وهذا نظير الآية الطاعنة على أهل التنجيم والطبائع : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (٣). وقرأ الجمهور : ستكتب ، بالتاء من فوق مبنيا للمفعول. شهادتهم : بالرفع مفردا ؛ والزبيري كذلك ، إلا أنه بالياء ؛ والحسن كذلك ، إلا أنه بالتاء ، وجمع شهادتهم ؛ وابن عباس ، وزيد بن عليّ ، وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، والجحدري ، والأعرج : بالنون مبنيا للفاعل ، شهادتهم على الإفراد. وقرأ فرقة : سيكتب بالياء مبنيا للفاعل ، أي الله ؛ شهادتهم : بفتح التاء. والمعنى : أنه ستكتب شهادتهم على الملائكة بأنوثتهم. ويسألون : وهذا وعيد.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠٦.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ٥١.


(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) : الضمير للملائكة. قال قتادة ومقاتل : في آخرين. وقال مجاهد : الأوثان علقوا انتفاء العبادة على المشيئة ، لكن العبادة وجدت لما انتفت المشيئة ، فالمعنى : أنه شاء العبادة ، ووقع ما شاء ، وقد جعلوا إمهال الله لهم وإحسانه إليهم ، وهم يعبدون غيره ، دليلا على أنه يرضى ذلك دينا. وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في أواخر الأنعام ، وفي الكلام حذف ، أي فنحن لا نؤاخذ بذلك ، إذ هو وفق مشيئة الله ، ولهذا قال : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) ، أي بما ترتب على عبادتهم من العقاب ، (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) : أي يكذبون. وقيل : الإشارة بذلك إلى ادعائهم أن الملائكة إناث. وقال الزمخشري : هما كفرتان مضمومتان إلى الكفرات الثلاث ، وهم : عبادتهم الملائكة من دون الله ، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئته ، كما يقول إخوانهم المجبرة. انتهى. جعل أهل السنة أخوات للكفرة عباد الملائكة ، ثم أورد سؤالا وجوابا جاريا على ما اختاره من مذهب الاعتزال ، يوقف على ذلك في كتابه ، ولما نفى عنهم ، علم ترك عقابهم على عبادة غير الله ، أي ليس يدل على ذلك عقل. نفى أيضا أن يدل على ذلك سمع ، فقال : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) من قبل نزول القرآن ، أو من قبل إنذار الرسل ، يدل على تجويز عبادتهم غير الله ، وأنه لا يترتب على ذلك. ثم أخبر تعالى أنهم في ذلك مقلدون لآبائهم ، ولا دليل لهم من عقل ولا نقل. ومعنى : (عَلى أُمَّةٍ) : أي طريقة ودين وعادة ، فقد سلكنا مسلكهم ، ونحن مهتدون في اتباع آثارهم ؛ ومنه قول قيس بن الحطيم :

كنا على أمّة آبائنا

ويقتدي بالأول الآخر

وقرأ الجمهور : أمّة ، بضم الهمزة. وقال مجاهد ، وقطرب : على ملة. وقال الجوهري : والأمّة : الطريقة ، والذي يقال : فلان لا أمّة له : أي لا دين ولا نحلة. قال الشاعر :

وهل يستوي ذو أمّة وكفور

وتقدّم الكلام في أمّة في قوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (١). وقرأ عمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، وقتادة ، والجحدري : بكسر الهمزة ، وهي الطريقة الحسنة لغة في الأمّة بالضم ، قاله الجوهري. وقرأ ابن عباس : أمّة ، بفتح الهمزة ، أي على قصد وحال ، والخلاف في الحرف الثاني كهو في الأول. وحكى مقاتل : إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأبي

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤٥.


سفيان ، وأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة بن أبي ربيعة من قريش ، أي كما قال من قبلهم أيضا ، يسلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك. والمترف : المنعم ، أبطرتهم النعمة ، فآثروا الشهوات ، وكرهوا مشاق التكاليف. وقرأ الجمهور : قل على الأمر ؛ وابن عامر وحفص : قال على الخبر. وقرأ الجمهور : جئتكم ، بتاء المتكلم ؛ وأبي جعفر ، وشيبة ، وابن مقسم ، والزعفراني ، وأبو شيخ الهنائي ، وخالد : جئناكم ، بنون المتكلمين. والظاهر أن الضمير في قال ، أو في قل ، للرسول ، أي : قل يا محمد لقومك : أتتبعون آباءكم ، ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم؟ وهذا تجهيل لهم ، حيث يقلدون ولا ينظرون في الدلائل. (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ) ، أنت والرسل قبلك. غلب الخطاب على الغيبة. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالقحط والقتل والسبي والجلاء. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) من كذبك. وقال ابن عطية في قال : ضمير يعود على النذير ، وباقي الآية يدل على أن قل في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما هي حكاية لما أمر به النذير. ولو : في هذا الموضع ، كأنها شرطية بمعنى : إن ، كان معنى الآية : أو إن جئتكم بأبين وأوضح مما كان عليه آباؤكم ، يصحبكم لجاجكم وتقليدكم ، فأجاب الكفار حينئذ من الأمم المكذبة بأنبيائها ، كما كذبت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يتعين ما قاله ، بل الظاهر هو ما قدمناه.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) : وذكر العرب بحال جدّهم الأعلى ، ونهيه عن عبادة غير الله ، وإفراده بالتوحيد والعبادة هزؤا لهم ، ليكون لهم رجوع إلى دين جدهم ، إذ كان أشرف آبائهم والمجمع على محبته ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقلد أباه في عبادة الأصنام ، فينبغي أن تقتدوا به في ترك تقليد آبائكم الأقربين ، وترجعوا إلى النظر واتباع الحق. وقرأ الجمهور : برآء ، مصدر يستوي فيه المفرد والمذكر ومقابلهما ، يقال : نحن البراء منك ، وهي لغة العالية. وقرأ الزعفراني والقورصي ، عن أبي جعفر وابن المناذري ، عن نافع : بضم الباء ؛ والأعمش : برىء ، وهي لغة نجد وشيخيه ، ويجمع ويؤنث ، وهذا نحو : طويل وطوال ، وكريم وكرام. وقرأ الأعمش : إني ، بنون مشددة دون نون الوقاية ؛ والجمهور : إنني ، بنونين ، الأولى مشددة. والظاهر أن قوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) استثناء منقطع ، إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم. وقيل : كانوا يشركون أصنامهم معه تعالى في العبادة ، فيكون استثناء متصلا. وعلى الوجهين ، فالذي في موضع نصب ، وإذا كان استثناء متصلا ، كانت ما شاملة من يعلم ومن لا يعلم. وأجاز الزمخشري أن يكون الذي مجرورا بدلا من المجرور بمن ، كأنه قال : إنني براء مما تعبدون ، إلا من الذي. وأن تكون إلا صفة


بمعنى : غير ، على أن ما في ما تعبدون نكرة موصوفة تقديره : إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ، فهو نظير قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١). انتهى. ووجه البدل لا يجوز ، لأنه إنما يكون في غير الموجب من النفي والنهي والاستفهام. ألا ترى أنه يصلح ما بعد إلا لتفريغ العامل له؟ وإنني بريء ، جملة موجبة ، فلا يصلح أن يفرغ العامل فيها للذي هو بريء لما بعد إلا. وعن الزمخشري : كون بريء ، فيه معنى الانتفاء ، ومع ذلك فهو موجب لا يجوز أن يفرغ لما بعد إلا. وأما تقديره ما نكرة موصوفة ، فلم يبقها موصولة ، لاعتقاده أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة. وهذه المسألة فيها خلاف. من النحويين من قال : توصف بها النكرة والمعرفة ، فعلى هذا تبقى ما موصولة ، ويكون إلا في موضع الصفة للمعرفة ، وجعله فطرني في صلة الذي. تنبيه على أنه لا يعبد ولا يستحق العبادة إلا الخالق للعباد.

(فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) : أي يديم هدايتي ، وفي مكان آخر : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٢) ، فهو هاديه في المستقبل. والحال والضمير في جعلها المرفوع عائد على إبراهيم ، وقيل على الله. والضمير المنصوب عائد على كلمة التوحيد التي تكلم بها ، وهي قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي). وقال قتادة ومجاهد والسدي : لا إله إلا الله ، وإن لم يجر لها ذكر ، لأن اللفظ يتضمنها. وقال ابن زيد : كلمة الإسلام لقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٣) ، (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ) (٤) ، (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (٥). وقرأ حميد بن قيس : كلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام. وقرىء : في عقبه ، بسكون القاف ، أي في ذريته. وقرىء : في عاقبه ، أي من عقبه ، أي خلفه. فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده. لعلهم : أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم. وقرأ الجمهور : بل متعت ، بتاء المتكلم ، والإشارة بهؤلاء لقريش ومن كان من عقب إبراهيم عليه‌السلام من العرب. لما قال : (فِي عَقِبِهِ) ، قال تعالى : لكن متعت هؤلاء وأنعمت عليهم في كفرهم ، فليسوا ممن تعقب كلمة التوحيد فيهم. وقرأ قتادة والأعمش : بل متعت ، بتاء الخطاب ، ورواها يعقوب عن نافع. قال صاحب اللوامح : وهي من مناجاة إبراهيم عليه‌السلام ربه تعالى. والظاهر أنه من مناجاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي :

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٢.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٧٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٨.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٣١.

(٥) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.


قال يا رب بل متعت. وقرأ الأعمش : متعنا ، بنون العظمة ، وهي تعضد قراءة الجمهور.

(حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) ، وهو القرآن ؛ (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ، هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه من قرأ : بل متعت ، بفتح التاء؟ قلت : كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق ، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم ، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم ، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا ، فمثاله : أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك ، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله. فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع ، ثم أردفه قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) ، فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت : المراد بالتمتيع : ما هو سبب له ، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته. فقال عز وعلا : بل اشتغلوا عن التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه.

ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) ، جاءوا بما هو شرّ من غفلتهم التي كانوا عليها ، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ، ومكابرة الرسول ومعاداته ، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه ، والإصرار على أفعال الكفرة ، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل زمانه بقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. انتهى ، وهو حسن لكن فيه إسهاب. والضمير في : وقالوا ، لقريش ، كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله من البشر رسولا ، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى ، وغيرهم من الرسل صلى الله عليهم. فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع ، ناقضوا فيما يخص محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : لم كان محمدا ، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال. وقرىء : على رجل ، بسكون الجيم. من القريتين : أي من إحدى القريتين. وقيل : من رجل القريتين ، وهما مكة والطائف. قال ابن عباس : والذي من مكة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، ومن الطائف : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة ، وكنانة بن عبد ياليل. وقال قتادة : الوليد بن المغيرة ، وعروة بن


مسعود الثقفي. قال قتادة : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه ، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش ، وكان يقول : لو كان ما يقول محمد حقا لنزل عليّ أو على ابن مسعود ، يعني عروة بن مسعود ، وكان يكنى أبا مسعود.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)؟ فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم ، كأنه قيل : على اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها. ثم في إضافته في قوله : (رَحْمَةِ رَبِّكَ) ، تشريف له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك والمربيك. ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم ، فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه تعالى. وإذا كان هو الذي تولى ذلك ، وفاوت بينهم ، وذلك في الأمر الفاني ، فكيف لا يتولى الأمر الخطير ، وهو إرسال من يشاء ، فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك ، بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم. وقرأ الجمهور : معيشتهم ، على الإفراد ؛ وعبد الله ، والأعمش ، وابن عباس ، وسفيان : معائشهم ، على الجمع. والجمهور : سخريا ، بضم السين ؛ وعمرو بن ميمون ، وابن محيصن ؛ وابن أبي ليلى ، وأبو رجاء ، والوليد بن مسلم ، وابن عامر : بكسرها ، وهو من التسخير ، بمعنى : الاستعباد والاستخدام ، ليرتفق بعضهم ببعض ويصلوا إلى منافعهم. ولو تولى كل واحد جميع أشغاله بنفسه ، ما أطاق ذلك وضاع وهلك. ويبعد أن يكون سخريا هنا من الهزء ، وقد قال بعضهم : أي يهزأ الغني بالفقير. وفي قوله : (نَحْنُ قَسَمْنا) ، تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا ، وهون على التوكل على الله. وقال مقاتل : فاضلنا بينهم ، فمن رئيس ومرؤوس. وقال قتادة : تلقى ضعيف القوة ، قليل الحيلة ، غني اللسان ، وهو مبسوط له ؛ وتلقى شديد الحيلة ، بسيط اللسان ، وهو مقتر عليه. وقال الشافعي ، رحمه‌الله :

ومن الدليل على القضاء وكونه

بؤس الفقير وطيب عيش الأحمق

ورحمة ربك : قيل النبوة ، وقيل : الهداية والإيمان. وقال قتادة والسدي : الجنة خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا ، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا وما جمع فيها من متاعها.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ، وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ


يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ ، وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ).

بين تعالى أن منافع الدنيا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله ، أي ولو لا أن يرغب الناس في الكفر ، إذ رأوا الكافر في سعة ، ويصيروا أمة واحدة في الكفر. قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : لأعطيناهم من زينة الدنيا كذا وكذا ، ولكن تعالى اقتضت حكمته أن يغني ويفقر الكافر والمؤمن. قال ابن عطية : واللام في : لمن يكفر ، لام الملك ، وفي : لبيوتهم ، لام تخصيص. كما تقول : هذا الكساء لزيد لدابته ، أي هو لدابته حلس ولزيد ملك ، انتهى. ولا يصح ما قاله ، لأن لبيوتهم بدل اشتمال أعيد معه العامل ، فلا يمكن من حيث هو بدل أن تكون اللام الثانية إلا بمعنى اللام الأولى. أما أن يختلف المدلول ، فلا واللام في كليهما للتخصيص. وقال الزمخشري : لبيوتهم بدل اشتمال من قوله : (لِمَنْ يَكْفُرُ) ، ويجوز أن تكونا بمنزلة اللامين في قولك : وهبت له ثوبا لقميصه. انتهى ، ولا أدري ما أراد بقوله : ويجوز إلى آخره. وقرأ الجمهور : سقفا ، بضمتين ؛ وأبو رجاء : بضم وسكون ، وهما جمع سقف ، لغة تميم ، كرهن ورهن ؛ وابن كثير وأبو عمرو : بفتح السين والسكون على الإفراد. وقال الفراء : جمع سقيفة ، وقرىء بفتحتين ، كأنه لغة في سقف ؛ وقرىء : سقوفا ، جمعا على فعول نحو : كعب وكعوب. وقرأ الجمهور : ومعارج جمع معرج ، وطلحة : ومعاريج جمع معراج ، وهي المصاعد إلى العلالي عليها ، أي يعلون السطوح ، كما قال : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) (١). وقرأ الجمهور : وسررا ، بضم السين ؛ وقرىء بفتحها ، وهي لغة لبعض تميم وبعض كلب ، وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسما باتفاق وصفة نحو : ثوب جديد ، وثياب جدد ، باختلاف بين النحاة. وهذه الأسماء معاطيف على قوله : (سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) ، فلا يتعين أن توصف المعاطيف بكونها من فضة. وقال الزمخشري : سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا ، كلها من فضة. انتهى ، كأنه يرى اشتراك المعاطيف في وصف ما عطفت عليه وزخرفا. قال الزمخشري : وجعلنا لهم زخرفا ، ويجوز أن يكون الأصل : سقفا من فضة وزخرف ، يعني : بعضها من فضة

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٩٧.


وبعضها من ذهب ، فنصب عطفا على محل من فضة. انتهى. والزخرف : الذهب هنا ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي. وفي الحديث : «إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان».

قال ابن عطية : الحسن أحمر ، والشهوات تتبعه. انتهى. قال بعض شعرائنا :

وصبغت درعك من دماء كماتهم

لما رأيت الحسن يلبس أحمرا

وقال ابن زيد : الزخرف : أثاث البيت ، وما يتخذ له من السرر والنمارق. وقال الحسن : النقوش ، وقيل : التزاويق ، كالنقش. وقرأ الجمهور : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم : هي مخففة من الثقيلة ، واللام الفارقة بين الإيجاب والنفي ، وما : زائدة ، ومتاع : خبر كل. وقرأ الحسن ، وطلحة ، والأعمش ، وعيسى ، وعاصم ، وحمزة : لما ، بتشديد الميم ، وإن : نافية ، ولما : بمعنى إلا. وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة : لما ، بكسر اللام ، وخرّجوه على أن ما موصولة. والعائد محذوف تقديره : للذي هو متاع كقوله : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (١). وإن في هذا التخريج هي المخففة من الثقيلة ، وكل : مبتدأ وخبره في المجرور ، أي : وإن كل ذلك لكائن ، أو لمستقر الذي هو متاع ، ومن حيث هي المخففة من الثقيلة ، كان الإتيان باللام هو الوجه ، فكان يكون التركيب لكما متاع ، لكنه قد تحذف هذه اللام إذا دل المعنى على أن إن هي المخففة من الثقيلة ، فلا يجر إلى ذكر اللام الفارقة ، ومن ذلك قول الشاعر :

ونحن أباة الضيم من آل مالك

وإن مالك كانت كرام المعادن

يريد : لكانت ، ولكنه حذف لأنه لا يتوهم في إن أن تكون نافية ، لأن صدر البيت يدل على المدح ، وتعين إن لكونها المخففة من الثقيلة. (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) : أي ونعيم الآخرة ، وفيه تحريض على التقوى. وقرأ : ومن يعش ، بضم الشين ، أي يتعام ويتجاهل عن ذكره ، وهو يعرف الحق. وقيل : يقل نظره في شرع الله ، ويغمض جفونه عن النظر في : (ذِكْرِ الرَّحْمنِ). والذكر هنا ، يجوز أن يراد به القرآن ، واحتمل أن يكون مصدرا أضيف إلى المفعول ، أي يعش عن أن يذكر الرحمن. وقال ابن عطية : أي فيما ذكر عباده ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل. انتهى ، كأنه يريد بالذكر : التذكير. وقرأ يحيى بن سلام البصري : ومن يعش ، بفتح الشين ، أي يعم عن ذكر الرحمن ، وهو القرآن ، كقوله :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٤.


(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (١). وقرأ زيد بن علي : يعشو بالواو. وقال الزمخشري : على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وحق هذا القارئ أن يرفع نقيض. انتهى. ولا يتعين ما قاله ، إذ تتخرج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن تكون من شرطية ، ويعشو مجزوم بحذف الحركة تقديرا. وقد ذكر الأخفش أن ذلك لغة بعض العرب ، ويحذفون حروف العلة للجازم. والمشهور عند النحاة أن ذلك يكون في الشعر ، لا في الكلام. والوجه الثاني : أن تكون من موصولة والجزم بسببها للموصول باسم الشرط ، وإذا كان ذلك مسموعا في الذي ، وهو لم يكن اسم شرط قط ، فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولا وشرطا. قال الشاعر :

ولا تحفرن بئرا تريد أخا بها

فإنك فيها أنت من دونه تقع

كذاك الذي يبغي على الناس ظالما

تصبه على رغم عواقب ما صنع

أنشدهما ابن الأعرابي ، وهو مذهب الكوفيين ، وله وجه من القياس ، وهو : أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره ، فكذلك يشبه به فينجزم الخبر ، إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببا عن الصلة بشروطه المذكورة في علم النحو ، وهذا لا ينفيه البصريون. وقرأ الجمهور : نقيض ، بالنون ؛ وعلي ، والسلمي ، والأعمش ، ويعقوب ، وأبو عمرو : بخلاف عنه ؛ وحماد عن عاصم ، وعصمة عن الأعمش ، وعن عاصم ، والعليمي عن أبي بكر : بالياء ، أي يقيض الرحمن ؛ وابن عباس : يقيض مبنيا للمفعول. له شيطان : بالرفع ، أي ييسر له شيطان ويعدله ، وهذا عقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح. كما يقال : إن الله يعاقب على المعصية بالتزايد من السيئات. وقال الزمخشري : يخذله ، ويحل بينه وبين الشياطين ، كقوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) (٢) (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) (٣). انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. والظاهر أن ضمير النصب في (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ) عائد على من ، على المعنى أعاد أولا على اللفظ في إفراد الضمير ، ثم أعاد على المعنى. والضمير في يصدونهم عائد على شيطان وإن كان مفردا ، لأنه مبهم في جنسه ، ولكل عاش شيطان قرين ، فجاز أن يعود الضمير مجموعا. وقال ابن عطية : والضمير في قوله : وإنهم ، عائد على الشيطان ، وفي : ليصدونهم ، عائد على الكفار. انتهى. والأولى ما ذكرناه لتناسق الضمائر في وإنهم ، وفي ليصدونهم ، وفي ويحسبون ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨ ـ ١٧١.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٢٥.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٨٣.


لمدلول واحد ، كأن الكلام : وأن العشاة ليصدونهم الشياطين عن السبيل ، أي سبيل الهدى والفوز ، ويحسبون : أي الكفار.

وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وقتادة ، والزهري ، والجحدري ، وأبو بكر ، والحرميان : حتى إذا جاآنا ، على التثنية ، أي العاشي والقرين إعادة على لفظ من والشيطان القرين ، وإن كان من حيث المعنى صالحا للجمع. وقرأ الأعمش ، والأعرج ، وعيسى ، وابن محيصن ، والإخوان : جاءنا على الإفراد ، والضمير عائد على لفظ من أعاد أولا على اللفظ ، ثم جمع على المعنى ، ثم أفرد على اللفظ ؛ ونظير ذلك : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١) : أفرد أولا ثم جمع في قوله : (خالِدِينَ) ، ثم أفرد في قوله : (لَهُ رِزْقاً). روى أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة ، فلا يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار قال ، أي الكافر للشيطان : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ). تمنى لو كان ذلك في الدنيا حتى لا يصدّه عن سبيل الله ، أو تمنى ذلك في الآخرة ، وهو الظاهر ، لأنه جواب إذا التي للاستقبال ، أي مشرقي الشمس : مشرقها في أقصر يوم من السنة ، ومشرقها في أطول يوم من السنة ، قاله ابن السائب ، أو بعد المشرق ، أو المغرب غلب المشرق فثناهما ، كما قالوا : العمران في أبي بكر وعمر ، والقمران في الشمس والقمر ، والموصلان في الجزيرة والموصل ، والزهدمان في زهدم وكردم ، والعجاجان في رؤبة والعجاج ، والأبوان في الأب والأم ، وهذا اختيار الفراء والزجاج ، ولم يذكره الزمخشري. قال : فإن قلت : فما بعد المشرقين؟ قلت : تباعدهما ، والأصل بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق ، فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية ؛ أضاف البعد إليهما. انتهى. وقيل : بعد المشرقين من المغربين ، واكتفى بذكر المشرقين. وكأنه في هذا القول يريد مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما. (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) : مبالغة منه في ذم قرينه ، إذا كان سبب إيراده النار. والمخصوص بالذم محذوف ، أي فبئس القرين أنت. (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) : حكاية حال يقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي ، لأنه وقفهم بها على أنه لا ينفعهم التأسي لعظم المصيبة وطول العذاب واستمراره مدته ، إذ التأسي راحة كل مصاب في الدنيا في الأغلب. ألا ترى إلى قول الخنساء :

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ١١.


ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزي النفس عنه بالتأسي

فهذا التأسي قد كفاها مؤنة قتل النفس ، فنفي الله عنهم الانتفاع بالتأسي ؛ وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير ؛ وهذا لا يكون إلا على تقدير أن يكون الفاعل ينفعكم أنكم ومعمولاها ، أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب إن لن يخفف عنكم اشتراككم في العذاب. وإذا كان الفاعل غير أن ، وهو ضمير ، يعود على ما يفهم من الكلام قبله ، أي يتمنى مباعدة القرين والتبرؤ منه ، ويكون أنكم تعليلا ، أي لاشتراككم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه ، وهو الكفر. وقال مقاتل المعنى : ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم ، لأنكم وقرناءكم مشتركون في العذاب ، كما اشتركتم في الكفران في الدنيا. وعلى كون الفاعل غير أن ، وهي قراءة الجمهور ، لا يتضمن الكلام نفي التأسي. وقرىء : إنكم بالكسر ، فدل على إضمار الفاعل ، ويقويه حمل أنكم بالفتح على التعليل. واليوم وإذ ظرفان ، فاليوم ظرف حال ، وإذ ظرف ماض. أما ظرف الحال فقد يعمل فيه المستقبل لقربه منه ، أو لتجوز في المستقبل ، كقوله : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) (١) ، وقول الشاعر :

سأشقى الآن إذ بلغت مناها

وأما إذ فماض لا يعمل فيه المستقبل ، فقال الزمخشري : وإذ بدل من اليوم. انتهى. وحمل إذ ظلمتم على معنى إذ تبين ووضح ظلمكم ، ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، ونظيره :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

أي تبين أني ولد كريمة. انتهى. ولا يجوز فيه البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان. فإن جعلت لمطلق الوقت جاز ، وتخريجها على البدل ، أخذه الزمخشري من ابن جني. قال في مساءلته أبا علي : راجعته فيها مرارا ، وآخر ما حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وهما سواء في حكم الله وعلمه ، فيكون إذ بدلا من اليوم ، حتى كأنها مستقبلة ، أو كأن اليوم ماض. وقيل : التقدير بعد إذ ظلمتم ، فحذف المضاف للعلم به. وقيل : إذ للتعليل حرفا بمعنى إن. وقال الحوفي : اليوم ظرف متعلق بينفعكم ، ولا يجوز تعلق إذ به ، لأنهما ظرفا زمان ، يعني متغايرين في المعنى تغايرا

__________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ٩.


لا يمكن أن يجتمعا ، قال : فلا يصح أن يكون بدلا من الأخير ، يعني لذلك التغاير من كون هذا ظرف حال وهذا ظرف مضى. قال : ولكن تكون إذ متعلقة بما دل عليه المعنى ، كأنه قال : ولن ينفعكم اجتماعكم ، ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك. وقيل : الفاعل محذوف تقديره ظلمكم ، أو جحدكم ، وهو العامل في إذ ، لا ضمير الفاعل لما ذكر تعالى حال الكفار وما يقال لهم. وكانت قريش تسمع ذلك ، فلا تزداد إلا عتوا واعتراضا ، وكان هو ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يجتهد في تحصيل الإيمان لهم. خاطبه تعالى تسلية له باستفهام تعجيب ، أي أن هؤلاء صم ، فلا يمكنك إسماعهم ، عمي حيارى ، فلا يمكنك أن تهديهم ، وإنما ذلك راجع إليه تعالى. ولما كانت حواسهم لن ينتفعوا بها الانتفاع الذي يجري خلاصهم من عذاب الله ، جعلوا صما عميا حيارى ، ويريد بهم قريشا ، فهم جامعو الأوصاف الثلاثة ، ولذلك عاد الضمير عليهم في قوله : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) ، ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) الآية. والمعنى : أن قبضناك قبل نصرك عليهم ، فإنا منهم منتقمون في الآخرة كقوله : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (١) ، (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من العذاب النازل بهم كيوم بدر ، (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) : أي هم في قبضتنا ، لا يفوتوننا ، وهذا قول الجمهور. وقال الحسن وقتادة : المتوعد هم الأمة ، أكرم الله تعالى نبيه عن أن ينتقم منهم في حياته ، كما انتقم من أمم الأنبياء في حياتهم ، فوقعت النقمة منهم بعد موته عليه‌السلام في العين الحادثة في صدر الإسلام ، مع الخوارج وغيرهم. وقرىء : نرينك بالنون الخفيفة. ولما ردد تعالى بين حياته وموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمره بأن يستمسك بما أوحاه إليه. وقرأ الجمهور : أوحى مبنيا للمفعول ، وبعض قراء الشام : بإسكان الياء ، والضحاك : مبنيا للفاعل ، وأنه ، أي وإن ما أوحينا إليك ، (لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) : أي شرف ، حيث نزل عليهم وبلسانهم ، جعل تبعا لهم. والقوم على هذا قريش ثم العرب ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد. كان عليه‌السلام يعرض نفسه على القبائل ، فإذا قالوا له : لمن يكون الأمر بعدك؟ سكت ، حتى نزلت هذه الآية. فكان إذا سئل عن ذلك قال : «لقريش» ، فكانت العرب لا تقبل حتى قبلته الأنصار. وقال الحسن : القوم هنا أمّته ، والمعنى : وإنه لتذكرة وموعظة. قيل : وهذه الآية تدل على أن الإنسان يرغب في الثناء الحسن الجميل ، ولو لم يكن ذلك مرغوبا فيه ، ما امتن به تعالى على رسوله فقال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). وقال إبراهيم عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٧٧.


لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (١). والذكر الجميل قائم مقام الحياة ، بل هو أفضل من الحياة ، لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في الحي ، وأثر الذكر الجميل يحصل في كل مكان ، وفي كل زمان. انتهى. وقال ابن دريد :

وإنما المراد حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعا

وقال الآخر :

إنما الدنيا محاسنها

طيب ما يبقى من الخبر

وذكر أن هلاون ، ملك التتر ، سأل أصحابه : من الملك؟ فقالوا : أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعت لك الملوك. فقال : لا الملك هذا ، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن ، هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة ، قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم خمس مرات؟ يريد محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) ، قال الحسن عن شكر هذه النعمة. وقال مقاتل : المراد من كذب به يسأل سؤال توبيخ. (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) ، قيل : هو على ظاهره ، وأن جبريل عليه‌السلام قال له ليلة الإسراء ، حين أم بالأنبياء : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) ، فلم يسألهم ، إذ كان أثبت يقينا ، ولم يكن في شك. وروي ذلك عن ابن عباس ، وابن جبير ، والزهري ، وابن زيد ، وفي الأثر أن ميكال قال لجبريل : هل سأل محمد عن ذلك؟ فقال : هو أعظم يقينا وأوثق إيمانا من أن يسأله ذلك. وقال ابن عباس أيضا ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وعطاء : أراد واسأل أتباع من أرسلنا وحملة شرائعهم ، إذ يستحيل سؤال الرسل أنفسهم ، وليسوا مجتمعين في الدنيا. قال الفراء : هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم ، فكأنه سأل الرسل ، والسؤال الواقع مجاز عن النظر ، حيث لا يصلح لحقيقته ، كثير منه مساءلة الشعراء الديار والأطلال ، ومنه : سيد الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، فإنها إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا. فالسؤال هنا مجاز عن النظر في أديانهم : هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ والذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات ، فقيل له : اسأل أيها الناظر أتباع الرسل ، أجاءت رسلهم بعبادة غير الله؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ، ولا يمكن أن يأتوا به. وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : واسألني ، واسألنا عن من أرسلنا ، وعلق واسأل ، فارتفع من ، وهو اسم استفهام على

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٤.


الابتداء ، وأرسلنا خبره في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض ، كان سؤاله : من أرسلت يا رب قبلي من رسلك؟ أجعلت في رسالته آلهة تعبد؟ ثم ساق السؤال فحكى المعنى ، فرد الخطاب إلى محمد في قوله : (مِنْ قَبْلِكَ). (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ ، وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ).

مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين : أحدهما : أنه لما تقدم طعن قريش على الرسول ، واختيارهم أن ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم ، أي في الجاه والمال ؛ وذكر أن مثل ذلك سبقهم إليه فرعون في قوله : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)؟ إلى آخر الآية ، أتبعه بالملك والمال ، ففرعون قدوتهم في ذلك ، ومع ذلك ، فصار فرعون مقهورا مع موسى منتقما منه ، فكذلك قريش. والوجه الثاني : أنه لما قال : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) الآية ، ذكر وقته موسى وعيسى ، وهما أكبر اتباعا ممن سبقهم من الأنبياء ، وكل جاء بالدعاء إلى الله وإفراده بالعبادة ، فلم يكن فيما جاء أبدا إباحة اتخاذ آلهة من دون الله ، كما اتخذت قريش ، فناسب ذكر قصتهما للآية التي قبلها. وآيات موسى هي المعجزات التي أتى بها. وخص الملائكة بالذكر ، وهم الأشراف لأن غيرهم من الناس تبع لهم.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا) ، قبله كلام محذوف تقديره : فطالبوه بما يدل على صحة دعواه الرسالة من الله. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا) ، وهي انقلاب العصا ثعبانا وعودها عصا ، وإخراج اليد البيضاء نيرة ، وعودها إلى لونها الأول ، (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) ، أي فاجأهم الضحك بحيث لم يفكروا ولم يتأملوا ، بل بنفس ما رأوا ذلك ضحكوا سخرية واستهزاء ، كما كانت قريش تضحك. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت : لأن فعل المفاجأة معها مقدر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجؤا وقت ضحكهم. انتهى. ولا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل ، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ ، بل المذاهب فيها


ثلاثة : مذهب أنها حرف ، فلا تحتاج إلى عامل ، ومذهب أنها ظرف مكان ، فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو : خرجت فإذا زيد قائم ، فقائم ناصب لإذا ، كأن التقدير : خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم ؛ ومذهب أنها ظرف زمان ، والعامل فيه الخبر أيضا ، كأنه قال : ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم ، وإن لم يذكر بعد الاسم خبر ، أو ذكر اسم منصوب على الحال ، كانت إذا خبرا للمبتدأ. فإن كان المبتدأ جثة ، وقلنا إذا ظرف مكان ، كان الأمر واضحا ؛ وإن قلنا ظرف زمان ، كان الكلام على حذف ، أي ففي الزمان حضور زيد. وما ادعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة ، لم ينطق به ولا في موضع واحد. ثم المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق ، بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا. تقول : خرجت فإذا الأسد ، والمعنى : ففاجأني الأسد ، وليس المعنى : ففاجأت الأسد.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) ، قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع ، فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت : أختها التي هي آية مثلها ، وهذه صفة كل واحدة منهما ، فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات. قلت : أختها التي هي آية مثلها على سبيل التفضيل والاستقراء ، واحدة بعد واحدة ، كما تقول : هو أفضل رجل رأيته ، تريد تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قدرتهم رجلا. فإن قلت : فهو كلام متناقض ، لأن معناه : ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها ، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة ، قلت : الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ، لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتقارب منازلهم فيه التقارب اليسير ، إن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى هذا بنى الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا ، وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة :

من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري

وقد فاضلت الأنمارية بين الكلمة من بنيها ثم قالت : لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة ، لا يدري أين طرفاها. انتهى ، وهو كلام طويل ، ملخصه : أن الوصف بالأكبرية مجاز ، وأن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها. وقال ابن عطية : عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها


وحدوثه ، وذلك أن آية عرضها موسى ، هي العصا واليد ، وكانت أكبر آياته ، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندها مجيئها وتكبر ، لأنهم كانوا نسوا التي قبلها ، فهذا كما قال الشاعر :

على أنها تعفو الكلوم وإنما

يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي

وذهب الطبري إلى أن الآيات هنا الحجج والبينات. انتهى. وقيل : كانت من كبار الآيات ، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ؛ فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة ، أي من أختها السابقة عليها ، ولا يبقى في الكلام تعارض ، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى ، لأنه لم يسبقها شيء ، فتكون أكبر منه. وقيل : الأولى تقتضي علما ، والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى ، فيزداد الرجوح. وكنى بأختها : مناسبتها ، تقول : هذه الذرة أخت هذه ، أي مناسبتها. (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) : (بِالسِّنِينَ ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) (١) و (الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ) (٢) ، وذلك عقاب لهم ، وآيات لموسى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم. قال الزمخشري : لعلهم يرجعون ، أراد أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان. فإن قلت : لو أراد رجوعهم لكان. قلت : إرادته فعل غيره ، ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده ، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد ، وإلا دار بين أن يوجد وبين أن لا يوجد على اختيار المكلف ، وإنما لم يكن الرجوع ، لأن الإرادة لم تكن قسرا ولم يختاروه. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال. وقال ابن عطية : لعلهم ، ترجّ بحسب معتقد البشر وظنهم.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) : أي في كشف العذاب. قال الجمهور : هو خطاب تعظيم ، لأن السحر كان علم زمانهم ، أو لأنهم استصحبوا له ما كانوا يدعون به أولا ، ويكون قولهم : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) : إخبار مطابق مقصود ، وقيل : بل خطاب استهزاء وانتقاص ويكون قولهم : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ، أي على زعمك ، وقوله : و (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) : إخبار مطابق على شرط دعائه ، وكشف العذاب وعهد معزوم على نكثه. ألا ترى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)؟ وعلى القول الأول يكون قوله : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جاريا على أكثر عادة الناس ، إذا مسه الضر تضرع ودعا ، وإذا كشف عنه رجع إلى عادته الأولى ، كقوله : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٣.


إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (١) ، ثم إذا كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. وقوله : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ، محتمل أن يكون من أن دعوتك مستجابة ، وفي الكلام حذف ، أي فدعا موسى ، فكشف (فَلَمَّا كَشَفْنا). وقرأ أبو حيوة : ينكثون ، بكسر الكاف.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) : جعل القوم محلا للنداء ، والظاهر أنه نادى عظماء القبط في محله الذي هو وهم يجتمعون فيه ، فرفع صوته فيما بينهم لتنتشر مقالته في جميع القبط. ويجوز أن يكون أمر بالنداء ، فأسند إليه. وسبب ندائه ذلك ، أنه لما رأى إجابة الله دعوة موسى ورفع العذاب ، خاف ميل القوم إليه ، فنادى : (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) ، أراد أن يبين فضله على موسى بملك مصر ، وهي من إسكندرية إلى أسوان. (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) : أي الخلجان التي تجري من النيل ، وأعظمها : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس. والواو في (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) واو الحال ، وتجري خبر. وهذه الأنهار صفة ، أو عطف بيان. وجوز أن تكون الواو عاطفة على ملك مصر ، وتجري حال. من تحتي : أي من تحت قهري وملكي. وقال قتادة : كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره. وقيل : كان له سرير عظيم ، وقطع من نيل مصر قطعة قسمها أنهارا تجري من تحت ذلك السرير. وأبعد الضحاك في تفسيره الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة ، يسيرون تحت لوائه. ومن فسرها بالأموال ، يعرفها من تحت يده. ومن فسرها بالخيل فقيل : كما سمى الفرس بحرا يسمي نهرا. وهذه الأقوال الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية.

(أَفَلا تُبْصِرُونَ) عظمتي وقدرتي وعجز موسى؟ وقرأ مهدي بن الصفير : يبصرون ، بياء الغيبة ؛ ذكره في الكامل للهذلي ، والسباعي ، عن يعقوب ، ذكره ابن خالويه. قال الزمخشري : وليت شعري! كيف ارتقت إلى دعوى الربوبية همة من تعاظم بملك مصر؟ وعجب الناس من مدى عظمته ، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها ، لئلا تخفى تلك الأبهة والجلالة على صغير ولا كبير حتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته. وكسر نون (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، عيسى. وعن الرشيد ، أنه لما قرأها قال : لأولينها أحسن عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها ، فلما شارفها ووقع عليها قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)؟ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها ، فثنى عنانه. (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) : الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة ، أي بل أنا خير. وهو إذا

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٦٥.


استفهم أهو خير ممن هو ضعيف؟ لا يكاد يفصح عن مقصوده إذا تكلم ، وهو الملك المتحكم فيهم ، قالوا له : بلا شك أنت خير. وقال السدي وأبو عبيدة : أم بمعنى بل ، فيكون انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير ممن ذكر ، كقول الشاعر :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أم أنت في العين أملح

وقال سيبويه : أم هذه المعادلة : أي أم يبصرون الأمر الذي هو حقيقي أن يبصر عنده ، وهو أنه خير من موسى. وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : أم هذه متصلة ، لأن المعنى : أفلا تبصرون؟ أم تبصرون؟ إلا أنه وضع قوله : (أَنَا خَيْرٌ) موضع (تُبْصِرُونَ) ، لأنهم إذا قالوا : أنت خير ، فهم عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب. انتهى. وهذا القول متكلف جدا ، إذ المعادل إنما يكون مقابلا للسابق ، وإن كان السابق جملة فعلية ، كان المعادل جملة فعلية ، أو جملة اسمية ، يتقدر منها فعلية كقوله (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١)؟ لأن معناه : أم صمتم؟ وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية ، لأن قوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ)؟ ليس مقابلا لقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟ وإن كان السابق اسما ، كان المعادل اسما ، أو جملة فعلية يتقدر منها اسم ، نحو قوله :

أمخدج اليدين أم أتمت

فأتمت معادل للاسم ، فالتقدير : أم متما؟ وقيل : حذف المعادل بعد أم لدلالة المعنى عليه ، إذ التقدير : تبصرون ، فحذف تبصرون ، وهذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا ، نحو : أيقوم زيد أم لا؟ تقديره : أم لا يقوم؟ وأزيد عندك أم لا ، أي أم لا هو عندك. فأما حذفه دون لا ، فليس من كلامهم. وقد جاء حذف أم والمعادل ، وهو قليل. قال الشاعر :

دعاني إليها القلب إني لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها

يريد أم غيّ. وحكى الفراء أنه قرأ : أما أنا خير ، دخلت الهمزة على ما النافية فأفادت التقدير. (وَلا يَكادُ يُبِينُ) : الجمهور ، أنه كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة. ومن ذهب إلى أن الله كان أجابه في سؤاله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) (٢) ، فلم يبق لها أثر جعل انتفاء الإبانة بأنه لا يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي ، لأنه لا قدرة له على إيضاح المعنى لأجل كلامه. وقيل : عابه بما كان عليه موسى من الخسة أيام كان عند فرعون ، فنسب إلى ما عهده مبالغة في التعبير. وقول فرعون : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) ، كذب

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٣.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٢٧.


بحت. ألا ترى إلى مناظرته له وردّه عليه وإفحامه بالحجة؟ والأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، كلهم بلغاء. وقرأ الباقر : يبين ، بفتح الياء ، من بان إذا ظهر.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) ، قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا ، سوروه سوارين وطوقوه بطوق من ذهب ، علامة لسودده. قال فرعون : هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا؟ وكان ذلك دليلا على إلقاء مقاليد الملك إليه ، لما وصف نفسه بالعزة والملك ، ووازن بينه وبين موسى عليه‌السلام ، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد. فاعترض فقال : إن كان صادقا ، فهلا ملكه ربه وسوره وجعل الملائكة أنصاره؟ وقرأ الضحاك : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ) مبنيا للفاعل ، أي الله ؛ أساورة نصبا ؛ والجمهور : أساورة رفعا ، وأبي وعبد الله : أساوير ، والمفرد إسوار بمعنى سوار ، والهاء عوض من الياء ، كهي في زنادقة ، هي عوض من ياء زناديق المقابلة لياء زنديق ، وهذه مقابلة لألف أسوار. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والأعرج ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وحفص : أسورة ، جمع سوار ، نحو : خمار وأخمرة. وقرأ الأعمش : أساور. ورويت عن أبي ، وعن أبي عمرو ، (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) : أي يحمونه ويقيمون حجته. قال ابن عباس : يعينونه على من خالفه. وقال السدي : يقارن بعضهم بعضا. وقال مجاهد : يمشون معه. وقال قتادة : متتابعين.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) : أي استجهلهم لخفة أحلامهم ، قاله ابن الاعرابي. وقال غيره : حملهم على أن يخفوا لما يريد منهم ، فأجابوه لفسقهم. (فَلَمَّا آسَفُونا) : منقول بالهمزة من أسف ، إذا غضب ؛ والمعنى : فلما عملوا الأعمال الخبيثة الموجبة لأن لا يحلم عنهم. وعن ابن عباس : أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل. وعنه أيضا : أغضبونا. وعن علي : أسخطونا. وقيل : خالفوا. وقال القشيري وغيره : الغضب من الله ، إما إرادة العقوبة ، فهو من صفات الذات ؛ أو العقوبة ، فيكون من صفات الفعل. وقرأ الجمهور : سلفا. قال ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وقتادة : أي متقدمين إلى النار ، وهو مصدر سلف يسلف سلفا ، وسلف الرجل آباؤه المتقدمون ، والجمع أسلاف وسلاف. وقيل هو جمع سالف ، كحارس وحرس ، وحقيقته أنه اسم جمع ، لأن فعلا ليس من أبنية الجموع المكسرة. وقال طفيل يرثي قومه :

مضوا سلفا قصد السبيل عليهم

صروف المنايا والرجال تقلب

قال الفراء والزجاج : سلفا ليتعظ بهم الكفار المعاصرون للرسول. وقرأ أبو عبد الله


وأصحابه ، وسعيد بن عياض ، والأعمش ، وطلحة ، والأعرج ، وحمزة ، والكسائي : وسلفا بضم السين واللام ، جمع سليف ، وهو الفريق. سمع القاسم بن معن العرب تقول : مضى سليف من الناس. وقرأ علي ، ومجاهد ، والأعرج أيضا : وسلفا ، بضم السين واللام ، جمع سلفة ، وهي الأمة والقطيعة. والسلف في غير هذا : ولد القبح ، والجمع سلفان. (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) : أي حديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل ، يحدث به الآخرون من الكفار ، يقال لهم : مثلكم مثل قوم فرعون.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ، وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ، إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ، يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ ، يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ، وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ).

لما ذكر تعالى طرفا من قصة موسى عليه‌السلام ، ذكر طرفا من قصة عيسى عليه‌السلام. وعن ابن عباس وغيره : لما نزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) (١) ، ونزل كيف خلق من غير فحل ، قالت قريش : ما أراد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده ، كما عبدت النصارى عيسى ، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا. وقيل : ضرب المثل بعيسى ، هو ما جرى بين الزبعري وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في القصة المحكية في قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) (٢). وقد ذكرت في سورة الأنبياء في آخرها أن ابن الزبعري قال : فإذا كان هؤلاء أي عيسى وأمه وعزير في النار ، فقد وصفنا أن نكون نحن وآلهتنا معهم. وقيل :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٩.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٨.


المثل هو أن الكفار لما سمعوا أن النصارى تعبد عيسى قالوا : آلهتنا خير من عيسى ، قال ذلك منهم من كان يعبد الملائكة. وضرب مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل ابن الزبعري ، إن صحت قصته ، وأن يكون الكفار. وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، والنخعي ، وأبو رجاء ، وابن وثاب ، وعامر ، ونافع ، والكسائي : يصدون ، بضم الصاد ، أي يعرضون عن الحق من أجل ضرب المثل. وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعكرمة ، وباقي السبعة : بكسرها ، أي يصيحون ويرتفع لهم حمية بضرب المثل. وروي : ضم الصاد ، عن علي ، وأنكرها ابن عباس ، ولا يكون إنكاره إلا قبل بلوغه تواترها. وقرأ الكسائي ، والفراء : هما لغتان بمعنى : مثل يعرشون ويعرشون.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) : خفف الكوفيون الهمزتين ، وسهل باقي السبعة الثانية بين بين. وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر : بهمزة واحدة على مثال الخبر ، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفة لدلالة أم عليها ، واحتمل أن يكون خبرا محضا. حكوا أن آلهتهم خير ، ثم عنّ لهم أن يستفهموا ، على سبيل التنزل من الخبر إلى الاستفهام المقصود به الإفحام ، وهذا الاستفهام يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى. (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) : أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا لأجل الجدل والغلبة والمغالطة ، لا لتمييز الحق واتباعه. وانتصب جدلا على أنه مفعول من أجله ، وقيل : مصدر في موضع الحال. وقرأ ابن مقسم : إلا جدالا ؛ بكسر الجيم. وألف خصمون : شديد والخصومة واللجاج ؛ وفعل من أبنية المبالغة نحو : هدى. والظاهر أن الضمير في أم هو لعيسى ، لتتناسق الضمائر في قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ). وقال قتادة : يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالنبوة وشرفناه بالرسالة. (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً) أي خبرة عجيبة ، كالمثل (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ، إذ خلق من غير أب ، وجعل له من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأسقام كلها ، ما لم يجعل لغيره في زمانه. وقيل : المنعم عليه هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ) ، قال بعض النحويين : من تكون للبدل ، أي لجعلنا بدلكم ملائكة ، وجعل من ذلكم قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) (١) ، أي بدل الآخرة ، وقول الشاعر :

أخذوا المخاض من الفصيل غلية

ظلما ويكتب للأمير أفالا

أي بدل الفصيل ، وأصحابنا لا يثبتون لمن معنى البدلية ، ويتأولون ما ورد ما يوهم

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٣٨.


ذلك. قال ابن عطية : لجعلنا بدلا منكم. وقال الزمخشري : ولو نشاء ، لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر ، لجعلنا منكم : لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض ، كما يخلفكم أولادكم ؛ كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام ، وذات القديم متعالية عن ذلك. انتهى ، وهو تخريج حسن. ونحو من هذا التخريج قول من قال : لجعلنا من الأنس ملائكة ، وإن لم تجر العادة بذلك. والجواهر جنس واحد ، والاختلاف بالأوصاف. (يَخْلُفُونَ) ، قال السدي : يكونون خلفاءكم. وقال قتادة : يخلف بعضهم بعضا. وقال مجاهد : في عمارة الأرض. وقيل : في الرسالة بدلا من رسلكم. والظاهر أن الضمير في : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) يعود على عيسى ، إذ الظاهر في الضمائر السابقة أنها عائدة عليه. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد : أي وإن خروجه لعلم للساعة يدل على قرب قيامها ، إذ خروجه شرط من أشراطها ، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان. وقال الحسن ، وقتادة أيضا ، وابن جبير : يعود على القرآن على معنى أنه يدل إنزاله على قرب الساعة ، أو أنه به تعلم الساعة وأهوالها. وقالت فرقة : يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ هو آخر الأنبياء ، تميزت الساعة به نوعا وقدرا من التمييز ، ونفى التحديد التام الذي انفرد الله تعالى بعلمه. وقرأ الجمهور : لعلم ، مصدر علم. قال الزمخشري : أي شرط من أشراطها تعلم به ، فسمى العلم شرطا لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأبو مالك الغفاري ، وزيد بن علي ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، ومالك بن دينار ، والأعمش ، والكلبي. قال ابن عطية ، وأبو نصرة : لعلم ، بفتح العين واللام ، أي لعلامة. وقرأ عكرمة به. قال ابن خالويه ، وأبو نصرة : للعلم ، معرفا بفتحتين.

(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) : أي لا تشكون فيها ، (وَاتَّبِعُونِ هذا) : أي هداي أو شرعي. وقيل : أي قل لهم يا محمد : واتبعوني هذا ، أي الذي أدعوكم له ، أو هذا القرآن ؛ كان الضمير في قال للقرآن ، ثم حذرهم من إغواء الشيطان ، ونبه على عداوته (بِالْبَيِّناتِ) : أي المعجزات ، أو بآيات الإنجيل الواضحات. (بِالْحِكْمَةِ) : أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع. قال السدي : بالحكمة : النبوة. وقال أيضا : قضايا يحكم بها العقل. وذكر القشيري والماوردي : الإنجيل. وقال الضحاك : الموعظة. (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) : وهو أمر الديانات ، لأن اختلافهم يكون فيها ، وفي غيرها من الأمور التي لا تتعلق بالديانات. فأمور الديانات بعض ما يختلفون فيه ، وبين لهم في غيره ما احتاجوا


إليه. وقيل : بعض ما يختلفون فيه من أحكام التوراة. وقال أبو عبيدة : بعض بمعنى كل ، ورده الناس عليه. وقال مقاتل : هو كقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (١) ، أي في الإنجيل : لحم الإبل ، والشحم من كل حيوان ، وصيد السمك يوم السبت. وقال مجاهد : بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة. وقيل : مما سألتم من أحكام التوراة. وقال قتادة : ولأبين لكم اختلاف القرون الذين تحزبوا في أمر عيسى في قوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) ، وهم قومه المبعوث إليهم ، أي من تلقائهم ومن أنفسهم ، بان شرهم ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم. وتقدم الخلاف في اختلافهم في سورة مريم في قوله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ*) (٢).

(هَلْ يَنْظُرُونَ) : الضمير لقريش ، و (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) : بدل من الساعة ، أي إتيانها إياهم. (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ) : قيل نزلت في أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط. والتنوين في يومئذ عوض عن الجملة المحذوفة ، أي يوم إذ تأتيهم الساعة ، ويومئذ منصوب بعد ، والمعنى : أنه ينقطع كل خلة وتنقلب الأخلة المتقين ، فإنها لا تزداد إلا قوّة. وقيل : (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) : إلا المجتنبين أخلاء السوء ، وذلك أن أخلاء السوء كل منهم يرى أن الضرر دخل عليه من خليله ، كما أن المتقين يرى كل منهم النفع دخل عليه من خليله. وقرىء : يا عبادي ، بالياء ، وهو الأصل ، ويا عباد بحذفها ، وهو الأكثر ، وكلاهما في السبعة. وعن المعتمر بن سليمان : سمع أن الناس حين يبعثون ، ليس منهم أحد إلا يفزغ فينادي مناد (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ) الآية ، فيرجوها الناس كلهم ، فيتبعها (الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، قال : فييأس منها الكفار. وقرأ الجمهور : لا خوف ، مرفوع منون ؛ وابن محيصن : بالرفع من غير تنوين ؛ والحسن ، والزهري ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وابن يعمر : بفتحها من غير تنوين ، و (الَّذِينَ آمَنُوا) صفة ليا عبادي.

(تُحْبَرُونَ) : تسرون سرورا يظهر حباره ، أي أثره على وجوهكم ، لقوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٣). وقال الزجاج : يكرمون إكراما يبالغ فيه ، والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل وأمال أبو الحرث عن الكسائي. (بِصِحافٍ) : ذكره ابن خالويه. والضمير في : و (فِيها) ، عائد على الجنة. (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) : هذا حصر لأنواع النعم ، لأنها إما مشتهاة في القلوب ، أو مستلذة في العيون. وقرأ أبو

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٠.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٣٧.

(٣) سورة المطففين : ٨٣ / ٢٤.


جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن عباس ، وحفص : ما تشتهيه بالضمير العائد على ما ، والجمهور وباقي السبعة : بحذف الهاء. وفي مصحف عبد الله : ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ، بالهاء فيهما. و (تِلْكَ الْجَنَّةُ) : مبتدأ وخبر. و (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) : صفة ، أو (الْجَنَّةُ) صفة ، و (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) ، و (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الخبر ، وما قبله صفتان. فإذا كان بما الخبر تعلق بمحذوف ، وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها ، وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. ولما ذكر ما يتضمن الأكل والشرب ، ذكر الفاكهة. (مِنْها تَأْكُلُونَ) : من للتبعيض ، أي لا تأكلون إلا بعضها ، وما يخلف المأكول باق في الشجر ، كما جاء في الحديث.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ، وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ، أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ، قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ، سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ، وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ، وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ، وما يقال لهم من لذائذ البشارة ، أعقب ذلك بذكر حال الكفرة ، وما يجاوبون به عند سؤالهم. وقرأ عبد الله : وهم فيها ، أي في جهنم ؛ والجمهور : وهم فيه أي في العذاب. وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت من نار ، ثم يردم عليه ، فيبقى فيه خالدا لا يرى ولا يرى. (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) : أي لا يخفف ولا ينقص ، من قولهم : فترت عنه الحمى ، إذا سكنت قليلا ونقص حرها. والمبلس : الساكت اليائس من الخير. (وَما ظَلَمْناهُمْ) : أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه. (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) : أي الواضعين الكفر موضع الإيمان ، فظلموا بذلك أنفسهم. وقرأ الجمهور : والظالمين ، على أن هم فصل. وقرأ عبد الله ، وأبو زيد النحويان : الظالمون بالرفع ، على أنهم خبرهم ، وهم مبتدأ. وذكر أبو عمرو الجرمي : أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند


غيرهم مبتدأ ، ويرفعون ما بعده على الخبر. وقال أبو زيد : سمعتهم يقرأون : تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا (١) يعني : برفع خير وأعظم. وقال قيس بن دريج :

نحن إلى ليلى وأنت تركنها

وكنت عليها بالملا أنت أقدر

قال سيبويه : إن رؤبة كان يقول : أظن زيدا هو خير منك ، يعني بالرفع. (وَنادَوْا يا مالِكُ) : تقدم أنهم مبلسون ، أي ساكتون ، وهذه أحوال لهم في أزمان متطاولة ، فلا تعارض بين سكوتهم وندائهم. وقرأ الجمهور : يا مالك. وقرأ عبد الله ، وعليّ ، وابن وثاب ، والأعمش : يا مال ، بالترخيم ، على لغة من ينتظر الحرف. وقرأ أبو السرار الغنوي : يا مال ، بالبناء على الضم ، جعل اسما على حياله. واللام في : (لِيَقْضِ) لام الطلب والرغبة. والمعنى : يمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا ، كقوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) (٢) ، أي أماته. (قالَ) : أي ما لك ، (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) : أي مقيمون في النار لا تبرحون. وقال ابن عباس : يجيبهم بعد مضي ألف سنة ، وقال نوف : بعد مائة ، وقيل : ثمانين ، وقال عبد الله بن عمرو : أربعين. (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) : يظهر أنه من كلام الله تعالى. وقيل : من كلام بعض الملائكة ، كما يقول أحد خدم الرئيس : أعلمناكم وفعلنا بكم. قيل : ويحتمل أن يكون (لَقَدْ جِئْناكُمْ) من قول الله لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف بمعنى : انظروا كيف يكون حالكم. (أَمْ أَبْرَمُوا) : والضمير لقريش ، أي بل أحكموا أمرا من كيدهم للرسول ومكرهم ، (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كيدنا ، كما أبرموا كيدهم ، كقوله : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٣) ، وكانوا يتناجون ويتسارعون في أمر الرسول ، فقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) ، وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. (وَنَجْواهُمْ) : وهي ما تكلموا به فيما بينهم. (بَلى) : أي نسمعها ، (رُسُلُنا) ، وهم الحفظة.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) ، كما تقولون ، (فَأَنَا أَوَّلُ) من يعبده على ذلك ، ولكن ليس له شيء من ذلك. وأخذ الزمخشري هذا القول وحسنه بفصاحته فقال : إن كان للرحمن ولد ، وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح يوردونه ، وحجة واضحة يبذلونها ، فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ٢٠ ، والصحيح : «تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا».

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٥.

(٣) سورة الطور : ٥٢ / ٤٢.


أبيه. وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها. فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها. ثم قال الزمخشري : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر. ثم ذكر كلاما يستحق عليه التأديب ، بل السيف ، نزهت كتابي عن ذكره. ثم قال : وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمن ولد ، في زعمكم ، فأنا أول العابدين ، الموحدين لله ، المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه. وقيل : إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد ، إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم : عبدين ، وقيل : هي إن النافية ، أي ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد.

وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : أن الملائكة بنات الله ، فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني؟ فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ، ولكن قال : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. انتهى. أما القول : إن كان لله ولد في زعمكم ، فهو قول مجاهد ، وأما القول : فأنا أول الآنفين ، فهو قول جماعة ، حكاه عنهم أبو حاتم ولم يسم أحدا منهم ، ويدل عليه قراءة السلمي واليماني : العبدين ، وقراءة ذكرها الخليل بن أحمد في كتابه العين : العبدين ، بإسكان الباء ، تخفيف العبدين بكسرها. وذكر صاحب اللوامح أنه جاء عن ابن عباس في معنى العابدين : أنه الآنفين. انتهى. وقال ابن عرفة : يقال : عبد يعبد فهو عبد ، وقلما يقال : عابد. والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ ، ثم قال : كقول مجاهد. وقال الفرزدق :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

واعبد أن أهجو كليبا بدارمي

أي : آنف وأستنكف. وقال آخر :

متى ما يشا ذو الود يصرم خليله

ويعبد عليه لا محالة ظالما

وأما القول بأن إن نافية ، فمروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، وقتادة ، وابن زيد ، وزهير بن محمد ، وقال مكي : لا يجوز أن تكون إن بمعنى ما النافية ، لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت ، وهذا محال. انتهى. ولا يلزم منه


محال ، لأن كان قد تستعمل فيما يدوم ولا يزول ، كقولك : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً*) (١) ، أي لم يزل ، فالمعنى : ما كان وما يكون. وقال أبو حاتم : العبد ، بكسر الباء : الشديد الغضب. وقال أبو عبيدة : معناه أول الجاحدين. والعرب تقول : عبدني حقي ، أي جحدني. وقرأ ولد بفتحتين. عبد الله ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : بضم الواو وسكون اللام.

ثم قال : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) : أي من نسبة الولد إليه ، والمعنى : إزالة العلم يجب أن يكون واجب الوجود ، وما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزي. والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه ، فيتولد منه شخص مثله ، ولا يكون إلا فيما هو قابل ذاته للتجزي ، وهذا محال في حقه تعالى ، فامتنع إثبات الولد. ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) ، أي في باطلهم ، (وَيَلْعَبُوا) ، أي في دنياهم. وظاهر هذين الأمرين مهادنة وترك ، وذلك مما نسخ بآية السيف. وقرأ الجمهور : (حَتَّى يُلاقُوا) ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، وعبيد بن عقيل ، عن أبي عمرو : يلقوا ، مضارع لقي. (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) : يوم القيامة. وقال عكرمة وغيره : يوم بدر ، وأضاف اليوم إليهم ، لأنه الذي فيه هلاكهم وعذابهم. وقرأ الجمهور : إله فيهما. وقرأ عمر ، وعبد الله ، وأبي ، وعلي ، والحكم بن أبي العالي ، وبلال بن أبي بردة ، وابن يعمر ، وجابر ، وابن زيد ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو الشيخ الهنائي ، وحميد ، وابن مقسم ، وابن السميفع : الله فيهما. ومعنى إله : معبود به ، يتعلق الجار والمجرور ، والمعنى : أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض ، والعائد على الموصول محذوف تقديره : هو إله ، كما حذف في قولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، وحسنه طوله بالعطف عليه ، كما حسن في قائل لك شيئا طوله بالمعول. ومن قرأ : الله ، ضمنه أيضا معنى المعبود ، كما ضمن العلم في نحو قولهم : هو حاتم في طيىء ، أي جواد في طيىء. ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور. والمعنى : أنه فيهما بالإلهية والربوبية ، إذ يستحيل حمله على الاستقرار. وفي قوله : (وَفِي الْأَرْضِ) ، نفي لآلهتهم التي كانت تعبد في الأرض.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : أي علم تعيين وقت قيامها ، وهو الذي استأثر به تعالى. وقرأ الجمهور : يرجعون ، بياء الغيبة ؛ ونافع ، وعاصم ، والعدنيان : بتاء الخطاب ، وهو في كلتا

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٦.


القراءتين مبني للمفعول. وقرىء : بفتح تاء الخطاب مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور : بياء الغيبة وشد الدال ، وعنه بتاء الخطاب وشد الدال ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم التي يدعون الشفاعة عند الله. قال قتادة : استثنى ممن عبد من دون الله عيسى وعزيرا والملائكة ، فإنهم يملكون شفاعة بأن يملكها الله إياهم ، إذ هم ممن شهد بالحق ، وهم يعلمونه في أحوالهم ، فالاستثناء على هذا متصل. وقال مجاهد وغيره : من المشفوع فيهم؟ كأنه قال : لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق ، وهو يعلمه ، أي بالتوحيد ، قالوا : فالاستثناء على هذا منفصل ، كأنه قال : لكن من شهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء. وهذا التقدير الذي قدروه يجوز أن يكون فيه الاستثناء متصلا ، لأنه يكون المستثنى منه محذوفا ، كأنه قال : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد ، إلا فيمن شهد بالحق ، فهو استثناء من المفعول المحذوف ، كما قال الشاعر :

نجا سالم والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزار

أي : ولم ينج إلا جفن سيف ، فهو استثناء من المشفوع فيهم الجائز فيه الحذف ، وهو متصل. فإن جعلته مستثنى من (الَّذِينَ يَدْعُونَ) ، فيكون منفصلا ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم ، ويعني بهم الأصنام والأوثان ، الشفاعة. كما زغموا أنهم شفعاؤهم عند الله. ولكن (مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) ، وهو توحيد الله ، وهو يعلم ما شهد به ، هو الذي يملك الشفاعة ، وإن أدرجت الملائكة في (الَّذِينَ يَدْعُونَ) ، كان استثناء متصلا. وقرأ الجمهور : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، بياء الغيبة ، مناسبا لقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) ، أي كيف يصرفون عن عبادة من أقروا أنه موجد العالم. وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب. وقرأ الجمهور : وقيله ، بالنصب. فعن الأخفش : أنه معطوف على سرهم ونجواهم ، وعنه أيضا : على وقال قيله ، وعن الزجاج ، على محل الساعة في قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ). وقيل : معطوف على مفعول يكتبون المحذوف ، أي يكتبون أقولهم وأفعالهم. وقيل : معطوف على مفعول يعلمون ، أي يعلمون الحق. (وَقِيلِهِ يا رَبِ) : وهو قول لا يكاد يعقل ، وقيل : منصوب على إضمار فعل ، أي ويعلم قيله. وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وعاصم ، والأعمش ، وحمزة ، وقيله ، بالخفض ، وخرج على أنه عطف على الساعة ، أو على أنها واو القسم ، والجواب محذوف ، أي : لينصرن ، أو لأفعلن بهم ما أشاء. وقرأ الأعرج ، وأبو قلابة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، ومسلم بن جندب : وقيله بالرفع ، وخرج على أنه معطوف على علم الساعة ، على حذف مضاف ، أي وعلم قيله حذف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.


وروي هذا عن الكسائي ، وعلى الابتداء ، وخبره : يا رب إلى لا يؤمنون ، أو على أن الخبر محذوف تقديره مسموع ، أو متقبل ، فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بو قيله. وقرأ أبو قلابة : يا رب ، بفتح الباء ؛ أراد : يا ربا ، كما تقول : يا غلام. ويتخرج على جواز الأخفش : يا قوم ، بالفتح وحذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها. وقال الزمخشري : والذي قالوه يعني من العطف ليس بقوي في المعنى ، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ، ومع تنافر النظم ، وأقوى من ذلك. والوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، والرفع على قولهم : أيمن الله ، وأمانة الله ، ويمين الله ، ولعمرك ، ويكون قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) ، جواب القسم ، كأنه قال : وأقسم بقيله ، أو وقيله يا رب قسمي. (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) ، وإقسام الله بقيله ، رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه. انتهى ، وهو مخالف لظاهر الكلام ، إذ يظهر أن قوله : يا رب إلى لا يؤمنون ، متعلق بقيله ، ومن كلامه عليه‌السلام : وإذا كان أن هؤلاء جواب القسم ، كان من إخبار الله عنهم وكلامه ، والضمير في وقيله للرسول ، وهو المخاطب بقوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) ، أي أعرض عنهم وتاركهم ، (وَقُلْ سَلامٌ) ، أي الأمر سلام ، فسوف يعلمون وعيد لهم وتهديد وموادعة ، وهي منسوخة بآية السيف. وقرأ الجمهور : يعلمون ، بياء الغيبة ، كما في : فاصفح عنهم. وقرأ أبو جعفر ، والحسن ، والأعرج ، ونافع ، وهشام : بتاء الخطاب. وقال السدي : وقل سلام ، أي خيرا بدلا من شرهم. وقال مقاتل : أورد عليهم معروفا. وحكى الماوردي : قل ما تسلم به من شرهم.


سورة الدّخان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ


الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)

الدخان : معروف ، وقال أبو عبيدة : والدخان : الجدب. قال القتبي : سمي دخانا ليبس الأرض منه ، حتى يرتفع منها كالدخان ، وقياس جمعه في القلة : أدخنة ، وفي الكثرة : دخنان ، نحو : غراب وأغربة وغربان. وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا : دواخن ، كأنه جمع داخنة تقديرا ، كما شذوا في عثان قالوا : عواثن. رها البحر ، يرهو رهوا : سكن. يقال جاءت الخيل رهوا : أي ساكنة. قال الشاعر :


والخيل تمزع رهوا في أعنتها

كالطير ينجو من الشرنوب ذي البرد

ويقال : افعل ذلك رهوا : أي ساكنا على هينتك. وقال ابن الأعرابي : رها في السير. قال القطامي في نعت الركاب :

يمشين رهوا فلا الإعجاز خاذلة

ولا الصدور على الإعجاز تتكل

وقال الليث : عيش راه : وارع خافض. وقال غيره : الرهو والرهوة : المكان المرتفع والمنخفض يجتمع فيه الماء ، وهو من الأضداد ؛ والجمع : رها. والرهو : المرأة الواسعة الهن ، حكاه النضر بن شميل. والرهو : ضرب من الطير ، يقال هو الكركي. وقال أبو عبيدة : رها الرجل يرهو رهوا : فتح بين رجليه. المهل : دردي الزيت وعكره. عتله : ساقه بعنف ودفع وإهانة ، والمعتل : الجافي الغليظ.

(حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ، فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ، رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ، أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ، فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ، فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ، كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ، فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).

هذه السورة مكية ، قيل : إلا قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ). ومناسبة هذه السورة أنه ذكر في أواخر ما قبلها : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (١) ، فذكر يوما غير معين ، ولا موصوفا. فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم ، بوصف وصفه فقال : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) ، وأن العذاب يأتيهم

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٣.


من قبلك ، ويحل بهم من الجدب والقحط ، ويكون العذاب في الدنيا ، وإن كان العذاب في الآخرة ، فيكون يومهم الذي يوعدون يوم القيامة. والظاهر أن الكتاب المبين هو القرآن ، أقسم به تعالى. ويكون الضمير في أنزلناه عائدا عليه. قيل : ويجوز أن يراد به الكتب الإلهية المنزلة ، وأن يراد به اللوح المحفوظ ، وجواب القسم. وقال الزمخشري وغيره : قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، على أن الكتاب هو القرآن ، ويكون قد عظمه تعالى بالإقسام به. وقال ابن عطية : لا يحسن وقوع القسم عليه ، أي على (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، وهو اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ، ويكون الذي وقع عليه القسم (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ). انتهى. قال قتادة ، وابن زيد ، والحسن : الليلة المباركة : ليلة القدر. وقالوا : كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان ؛ التوراة في أوله ، والإنجيل في وسطه ، والزبور في نحو ذلك ، والقرآن في آخره ، في ليلة القدر ؛ ويعني ابتداء نزوله كان في ليلة القدر. وقيل : أنزل جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور ، ومن هناك كان جبريل يتلقاه. وقال عكرمة وغيره : هي ليلة النصف من شعبان ، وقد أوردوا فيها أحاديث. وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا يصح فيها شيء ، ولا في نسخ الآجال فيها.

إنا كنا منذرين : أي مخوفين. قال الزمخشري : فإن قلت : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ، ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ، كأنه قيل : أنزلناه ، لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب. وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا ، لأن إنزال القرآن من الأمور المحكمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم ، والمباركة : الكثيرة الخير ، لما ينتج الله فيها من الأمور التي تتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده ، لكفى به بركة. انتهى. وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : يفرق ، بفتح الياء وضم الراء ، كل : بالنصب ، أي يفرق الله. وقرأ زيد بن علي ، فيما ذكر الزمخشري : نفرق بالنون ، كل بالنصب ؛ وفيما ذكر أبو على الأهوازي : عينه بفتح الياء وكسر الراء ، ونصب كل ، ورفع حكيم ، على أنه الفاعل بيفرق. وقرأ الحسن : وزائدة عن الأعمش بالتشديد مبنيا للمفعول ، أو معنى يفرق : يفصل من غيره ويلخص. ووصف أمر بحكيم ، أي أمر ذي حكمة ؛ وقد أبهم تعالى هذا الأمر.

وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد : في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاق والآجال وغير ذلك ، ويكتب ذلك إلى مثلها من العام المقبل.


وقال هلال بن أساف : كان يقال : انتظروا القضاء في رمضان. وقال عكرمة : لفضل الملائكة في ليلة النصف من شعبان. وجوزوا في أمرا أن يكون مفعولا به بمنذرين لقوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) (١). أو على الاختصاص ، جعل كل أمر حكيم جزلا فخما ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وفخامة نفسه بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، كذا قال الزمخشري. وقال : وفي قراءة زيد بن علي : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ، على هو أمرا ، وهي نصب على الاختصاص ومقبولا له ، والعامل أنزلنا ، أو منذرين ، أو يفرق ، ومصدرا من معنى يفرق ، أي فرقا من عندنا ، أو من أمرنا محذوفا وحالا ، قيل : من كل ، والذي تلقيناه من أشياخنا أنه حال من أمر ، لأنه وصف بحكيم ، فحسنت الحال منه ، إلا أن فيه الحال من المضاف إليه ، وهو ليس في موضع رفع ولا نصب ، ولا يجوز. وقيل : من ضمير الفاعل في أنزلناه ، أي أمرني. وقيل : من ضمير المفعول في أنزلناه ، أي في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل. والظاهر أن من عندنا صفة لأمرا ، وقيل : يتعلق بيفرق.

(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) : لما ذكر إنزال القرآن ، ذكر المرسل ، أي مرسلين الأنبياء بالكتب للعباد. فالجملة المؤكدة مستأنفة. وقيل : يجوز أن يكون بدلا من (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ). وجوزوا في رحمة أن يكون مصدرا ، أي رحمنا رحمة ، وأن يكون مفعولا له بأنزلناه ، أو ليفرق ، أو لأمرا من عندنا. وأن يكون مفعولا بمرسلين ؛ والرحمة توصف بالإرسال ، كما وصفت به في قوله : (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (٢). والمعنى على هذا : أنا نفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا. وقرأ زيد بن علي ، والحسن : رحمة ، بالرفع : أي تلك رحمة من ربك ، التفاتا من مضمر إلى ظاهر ، إذ لو روعي ما قبله ، لكان رحمة منا ، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر ، إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين. وقرأ ابن محيصن ، والأعمش ، وأبو حيوة ، والكوفيون : (رَبِّ السَّماواتِ) ، بالخفض بدلا من ربك ؛ وباقي السبعة ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وأبو جعفر ، وشيبة : بالرفع على القطع ، أي هو رب. وقرأ الجمهور : (رَبُّكُمْ وَرَبُ) ، برفعهما ؛ وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، والحسن ، وأبو موسى عيسى بن سليمان ، وصالح الناقط ، كلاهما عن الكسائي : بالجر ؛ وأحمد بن جبير الأنطاكي : ربكم ورب ، بالنصب على المدح ، وهم يخالفون بين

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٢.


الإعراب ، الرفع والنصب ، إذا طالت النعوت. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، تحريك لهم بأنكم تقرون بأنه تعالى خالق العالم ، وأنه أنزل الكتب ، وأرسل الرسل رحمة منه ، وأن ذلك منكم من غير علم وإيقان. ولذلك جاء : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ، أي في شك لا يزالون فيه يلعبون. فإقرارهم ليس عن حد ولا تيقن.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ). قال علي بن أبي طالب : وابن عمر ، وابن عباس ، وسعيد الخدري ، وزيد بن علي ، والحسن : هو دخان يجيء يوم القيامة ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين ، حتى تكون مصلقة حنيذة. وقال ابن مسعود ، وأبو العالية ، والنخعي : هو الدخان الذي رأته قريش. قيل لعبد الله : إن قاصا عند أبواب كندة يقول إنه دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ أنفاس الناس ، فقال : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم. ألا وسأحدثكم أن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا عليهم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف ، والعلهز. والعلهز : الصوف يقع فيه القراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل. وفيه أيضا : حتى أكلوا العظام. وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المحدث من الدخان. فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه ، وناشده الله والرحم ، وواعدوه ، إن دعا لهم وكشف عنهم ، أن يؤمنوا. فلما كشف عنهم ، رجعوا إلى شركهم. وفيه : فرحمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث إليهم بصدقة ومال. وفيه : فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عزوجل : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١) ، قال : يعني يوم بدر. وقال عبد الرحمن : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم. وقال عبد الرحمن الأعرج : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) ، هو يوم فتح مكة ، لما حجبت السماء الغبرة. وفي حديث حذيفة : أول الآيات خروج الدجال ، والدخان ، ونزول عيسى بن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن ؛ وفيه قلت : يا نبي الله ، وما الدخان على هذه الآية : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ)؟ وذكر بقية الحديث ، واختصرناه بدخان مبين ، أي ظاهر. لا شك أنه دخان (يَغْشَى النَّاسَ) : يشملهم. فإن كان هو الذي رأته قريش ، فالناس خاص بالكفار من أهل مكة ، وقد مضى كما قال ابن مسعود ؛ وإن كان من أشراط الساعة ، أو يوم القيامة ، فالناس عام فيمن أدركه وقت الاشراط ، وعام بالناس يوم القيامة. (هذا عَذابٌ)

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ١٦.


إلى (مُؤْمِنُونَ) في موضع نصب بفعل القول محذوفا ، وهو في موضع الحال ، أي يقولون. ويجوز أن يكون إخبارا من الله ، كأنه تعجب منه ، كما قال في قصة الذبيح : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١).

(إِنَّا مُؤْمِنُونَ) : وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب ، والإيمان واجب ، كشف العذاب أو لم يكشف. (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) : أي كيف يذكرون ويتعظون ويقولون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، وقد جاءهم ما هو أعظم؟ وأدخل في باب الادكار من كشف الدخان؟ وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات والبينات ، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلم يذكروا ، وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون. وقرأ زر بن حبيش : معلم ، بكسر اللام. (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) : إخبار عن إقامة الحجة عليهم ، ومبالغة في الإملاء لهم. ثم أخبر أنهم عائدون إلى الكفر. وقال قتادة : هو توعد بمعاد الآخرة : وإن كان الخطاب لقريش حين حل بهم الجدب ، كان ظاهرا ؛ وإن كان الدخان قبل يوم القيامة ، فإذا أتت السماء بالعذاب ، تضرع منافقوهم وكافروهم وقالوا : ربنا اكشف عنا العذاب ، إنا مؤمنون. فيكشف عنهم ، قيل : بعد أربعين يوما ؛ فحين يكشفه عنهم يرتدون. ويوم البطشة الكبرى على هذا : هو يوم القيامة ، كقوله : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (٢). وكونه يوم القيامة ، هو قول ابن عباس والحسن وقتادة. وكونه يوم بدر ، هو قول عبد الله وأبي وابن عباس ومجاهد. وانتصب يوم نبطش ، قيل : بذكراهم ، وقيل : بننتقم الدال عليه منتقمون ، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل ، وقيل : بمنتقمون. ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. وقرأ الجمهور : نبطش ، بفتح النون وكسر الطاء ؛ والحسن ، وأبو جعفر : بضمها ؛ والحسن أيضا ، وأبو رجاء ، وطلحة : بضم النون وكسر الطاء ، بمعنى : نسلط عليهم من يبطش بهم. والبطشة على هذه القراءة ليس منصوبا بنبطش ، بل بمقدر ، أي نبطش ذلك المسلط البطشة ، أو يكون البطشة في معنى الإبطاشة ، فينتصب بنبطش.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) : هذا كالمثال لقريش ، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه‌السلام ، فكذبوه ، فأهلكهم الله. وقرىء : فتنا ، بتشديد التاء ، للمبالغة في الفعل ، أو التكثير ، متعلقة (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) : أي كريم عند الله وعند المؤمنين ، قاله الفراء ؛ أو كريم في نفسه ، لأن الأنبياء إنما يبعثون من سروات الناس ، قاله أبو

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠٦.

(٢) سورة النازعات : ٧٩ / ٣٤.


سليمان ؛ أو كريم حسن الخلق ، قاله مقاتل. (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، لأنه تقدم ما يدل على معنى القول ، وهو رسول كريم ، وأن تكون أن مخففة من الثقيلة أو الناصبة للمضارع ، فإنها توصل بالأمر. قال ابن عباس : أن أدوا إليّ الطاعة يا عباد الله : أي اتبعوني على ما أدعوكم إليه من الإيمان. وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل ، كم قال : فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. فعلى قول ابن عباس : عباد الله : منادى ، ومفعول أدوا محذوف ؛ وعلى قول مجاهد ومن ذكر معه : عباد الله : مفعول أدوا. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) : أي غير متهم ، قد ائتمنني الله على وحيه ورسالته.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) : أي لا تستكبروا على عبادة الله ، قاله يحيى بن سلام. قال ابن جريح : لا تعظموا على الله. قيل : والفرق بينهما أن التعظيم تطاول المقتدر ، والاستكبار ترفع المحتقر ، ذكره الماوردي ، وأن هنا كان السابق في أوجهها الثلاثة. (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : أي بحجة واضحة في نفسها ، وموضحة صدق دعواي. وقرأ الجمهور : إني ، بكسر الهمزة ، على سبيل الإخبار ؛ وقرأت فرقة : بفتح الهمزة. والمعنى : لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم ، فهذا توبيخ لهم ، كما تقول : أتغضب إن قال لك الحق؟ (وَإِنِّي عُذْتُ) : أي استجرت (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) : كانوا قد توعدوه بالقتل ، فاستعاذ من ذلك. وقرىء : عدت ، بالإدغام. قال قتادة وغيره : الرجم هنا بالحجارة. وقال ابن عباس ، وأبو صالح : بالشتم ؛ وقول قتادة أظهر ، لأنه قد وقع منهم في حقه ألفاظ لا تناسب ؛ وهذه المعاذة كانت قبل أن يخبره تعالى بقوله : (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) (١).

وإن لم تؤمنوا إلي : أي تصدقوا ، فاعتزلون : أي كونوا بمعزل ، وهذه مشاركة حسنة.

(فَدَعا رَبَّهُ) : أني مغلوب فانتصر ، (أَنَّ هؤُلاءِ) : لفظ تحقير لهم. وقرأ الجمهور : أن هؤلاء ، بفتح الهمزة ، أي بأن هؤلاء. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والحسن في رواية ، وزيد بن علي : بكسرها. (فَأَسْرِ بِعِبادِي) : في الكلام حذف ، أي فانتقم منهم ، فقال له الله : أسر بعبادي ، وهم بنوا إسرائيل ومن آمن به من القبط. وقال الزمخشري : فيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء ، فقال : أسر بعبادي ، وأن يكون جوابا بالشرط محذوف ؛ كأنه قيل : قال إن كان الأمر كما تقول ، فأسر بعبادي. انتهى. وكثيرا ما يجيز هذا الرجل

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٣٥.


حذف الشرط وإبقاء جوابه ، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح ؛ كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه مما ذكر في النحو ، على خلاف في ذلك. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) : أي يتبعكم فرعون وجنوده ، فتنجون ويغرق المتبعون. (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) : قال ابن عباس : ساكنا كما أجراه. وقال مجاهد وعكرمة : يبسا من قوله : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) (١). وقال الضحاك : دمثا لينا. وقال عكرمة : جددا. وقال ابن زيد : سهلا. وقال مجاهد أيضا : منفردا. قال قتادة : أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ، لما قطعه ، حتى يلتئم ؛ وخاف أن يتبعه فرعون ، فقيل : لمه هذا؟ (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) : أي فيه ، لأنهم إذا رأوه ساكنا على حالته حين دخل فيه موسى وبنوا إسرائيل ، أو مفتوحا طريقا يبسا ، دخلوا فيه ، فيطبقه الله عليهم.

(كَمْ تَرَكُوا) : أي كثيرا تركوا. (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) : تقدم تفسيرهما في الشعراء. وقرأ الجمهور : (وَمَقامٍ) ، بفتح الميم. قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : أراد المقام. وقرأ ابن هرمز ، وقتادة ، وابن السميفع ، ونافع : في رواية خارجة بضمها. قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها. (وَنَعْمَةٍ) ، بفتح النون : نضارة العيش ولذاذة الحياة. وقرأ أبو رجاء : (وَنَعْمَةٍ) ، بالنصب ، عطفا على كم (كانُوا فِيها فاكِهِينَ). قرأ الجمهور : بألف ، أي طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ، كلابن ، وتامر ، وأبو رجاء ، والحسن : بغير ألف. والفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ ، فكأنهم كانوا مستخفين بشكل النعمة التي كانوا فيها. وقال الجوهري : فكه الرجل ، بالكسر ، فهو فكه إذا كان مزاحا ، والفكه أيضا الأشر. وقال القشيري : فاكهين : لاهين كذلك. وقال الزجاج : والمعنى : الأمر كذلك ، فيوقف على كذلك ؛ والكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ؛ وقيل : الكاف في موضع نصب ، أي يفعل فعلا كذلك ، لمن يريد إهلاكه. وقال الكلبي : كذلك أفعل بمن عصاني. وقال الحوفي : أهلكنا إهلاكا ، وانتقمنا انتقاما كذلك. وقال الزمخشري : الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها ، (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم ، وهم بنوا إسرائيل. كانوا مستعبدين في يد القبط ، فأهلك الله تعالى القبط على أيديهم وأورثهم ملكهم. وقال قتادة ، وقال الحسن : إن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون ، وضعف قول قتادة بأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ، ولا ملكوها قط ؛ إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشام. انتهى. ولا اعتبار بالتواريخ ، فالكذب فيها

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٧٧.


كثير ، وكلام الله صدق. قال تعالى في سورة الشعراء : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (١) وقيل : قوما آخرين ممن ملك مصر بعد القبط من غير بني إسرائيل. (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) : استعارة لتحقير أمرهم ، وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء. ويقال في التعظيم : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس. وقال زيد بن مفرغ :

الريح تبكي شجوه

والبرق يلمع في غمامه

وقال جرير :

فالشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وقال النابغة :

بكى حادث الجولان من فقد ربه

وحوران منه خاشع متضائل

وقال جرير :

لما أتى الزهو تواضعت

سور المدينة والجبال الخشع

ويقول في التحقير : مات فلان ، فما خشعت الجبال. ونسبة هذه الأشياء لما لا يعقل ولا يصير ذلك منه حقيقة ، عبارة عن تأثر الناس له ، أو عن عدمه. وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الملائكة وأهل الأرض ، وهم المؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. روي ذلك عن الحسن. وما روي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : إن المؤمن إذا مات ، بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحا ، وبكى عليه السماء موضع صعود عمله. قالوا : فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله تمثيل. (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) : أي مؤخرين عن العذاب لما حان وقت هلاكهم ، بل عجل الله لهم ذلك في الدنيا.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ، مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ، وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ ، إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ، فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ، وَما خَلَقْنَا

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٥٩.


السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ، يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ، طَعامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ ، كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ، يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ).

لما ذكر تعالى إهلاك فرعون وقومه ، ذكر إحسانه لبني إسرائيل ؛ فبدأ بدفع الضرر عنهم ، وهو نجاتهم مما كانوا فيه من العذاب. ثم ذكر اتصال النفع لهم ، من اختيارهم على العالمين ، وإيتائهم الآيات والعذاب المهين : قتل أبنائهم ، واستخدامهم في الأعمال الشاقة. وقرأ عبد الله : (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) : وهو من إضافة الموصوف إلى صفته ، كبقلة الحمقاء. و (مِنْ فِرْعَوْنَ) : بدل (مِنَ الْعَذابِ) ، على حذف مضاف ، أي من عذاب فرعون. أولا حذف جعل فرعون نفسه هو العذاب مبالغة. وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي كائنا وصادرا من فرعون. وقرأ ابن عباس : (مِنْ فِرْعَوْنَ) ، من : استفهام مبتدأ ، وفرعون خبره. لما وصف فرعون بالشدة والفظاعة قال : من فرعون؟ على معنى : هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته؟ ثم عرف حاله في ذلك بقوله : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) : أي مرتفعا على العالم ، أو متكبرا مسرفا من المسرفين.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) : أي اصطفيناهم وشرفناهم. (عَلى عِلْمٍ) علم مصدر لم يذكر فاعله ، فقيل : على علم منهم ، وفضل فيهم ، فاخترناهم للنبوات والرسالات. وقيل : على علم منا ، أي عالمين بمكان الخيرة ، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا. وقيل : على علم منا بما يصدر من العدل والإحسان والعلم والإيمان ، بأنهم يزيفون ، وتفرط منهم الهنات في بعض الأموال. وقيل : اخترناهم بهذا الانجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم ، وخصصناهم بذلك دون العالم. (عَلَى الْعالَمِينَ) : أي عالمي زمانهم ، لأن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفضلة عليهم. وقيل : على العالمين عام لكثرة الأنبياء فيهم ، وهذا خاص بهم ليس لغيرهم. وكان الاختيار من هذه الجهة ، لأن أمة محمد أفضل. وعلى ، في قوله : (عَلى عِلْمٍ) ، ليس


معناها معنى على في قوله : (عَلَى الْعالَمِينَ) ، ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول ، كقوله :

ويوما على ظهر الكتيب تعذرت

عليّ وآلت حلفة لم يحلل

فعلى علم : حال ، إما من الفاعل ، أو من المفعول. وعلى ظهر : حال من الفاعل في تعذرت ، والعامل في ذي الحال. (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) : أي المعجزات الظاهرة في قوم فرعون ، وما ابتلوا به ؛ وفي بني إسرائيل مما أنعم به عليهم من تظليل الغمام والمنّ والسلوى ، وغير ذلك مما لم يظهرها لغيرهم. (ما فِيهِ بَلؤُا) : أي اختبار بالنعم ظاهر ، أو الابتلاء بالنعم كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) (١). (إِنَّ هؤُلاءِ) : يعني قريشا ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم. (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) : أي ما الموتة إلا محصورة في موتتنا الأولى. وكان قد قال تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٢) ، فذكر موتتين ، أولى وثانية ، فأنكروا هم أن يكون لهم موتة ثانية. والمعنى : ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا. فيتضمن قولهم هذا إنكار البعث ، ثم صرحوا بما تضمنه قولهم ، فقالوا : (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) : أي بمبعوثين بحياة دائمة يقع فيها حساب وثواب وعقاب ؛ وكان قولهم ذلك في معنى قولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٣).

(فَأْتُوا بِآبائِنا) : خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وللمؤمنين الذين كانوا يعدونهم بالبعث ، أي إن صدقتم فيما تقولون ، فأحيوا لنا من مات من أبنائنا ، بسؤالكم ربكم ، حتى يكون ذلك دليلا على البعث في الآخرة. قيل : طلبوا من الرسول أن يدعوا الله فيحيي لهم قصي بن كلاب ، ليشاوروه في صحة النبوة والبعث ، إذ كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل. (أَهُمْ) : أي قريش ، (خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ)؟ الظاهر أن تبعا هو شخص معروف ، وقع التفاضل بين قومه وقوم الرسول عليه الصلاة والسلام. وإن كان لفظ تبع يطلق على كل من ملك العرب ، كما يطلق كسرى على من ملك الفرس ، وقيصر على من ملك الروم ؛ قيل : واسمه أسعد الحميري ، وكني أبا كرب ؛ وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة. وروي أنه لما آمن بالمدينة ، كتب كتابا ونظم شعرا. أما الشعر فهو :

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٨.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٢٩.


شهدت على أحمد أنه

رسول من الله باري النسم

فلو مد عمري إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عم

وأما الكتاب ، فروى ابن إسحاق وغيره أنه كان فيه : أما بعد ، فإني آمنت بك ، وبكتابك الذي أنزل عليك ، وأنا على دينك وسنتك ، وآمنت بربك ورب كل شيء ، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام ، فإن أدركتك فيها ونعمت ، وإن لم أدركك ، فاشفع لي ، ولا تنسني يوم القيامة ، فإني من أمتك الأولين ، وتابعتك قبل مجيئك ، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه‌السلام. ثم ختم الكتاب ونقش عليه : لله الأمر من قبل ومن بعد. وكتب عنوانه : إلى محمد بن عبد الله ، نبي الله ورسوله ، خاتم النبيين ، ورسول رب العالمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من تبع الأول. ويقال : كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب ، خالد بن زيد ، فلم يزل عنده حتى بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر ، حتى أدّوه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن ابن عباس : كان تبع نبيا ، وعنه لما أقبل تبع من الشرق ، بعد أن حير الحيرة وسمرقند ، قصد المدينة ، وكان قد خلف بها حين سافر ابنا ، فقتل غيلة ، فأجمع على خرابها واستئصال أهلها. فجمعوا له الأنصار ، وخرجوا لقتاله ، وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل. فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام ، إذ جاءه كعب وأسد ، ابنا عم من قريظة جيران ، وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد ، فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد ، ومولده بمكة ، فثناه قولهما عما كان يريد. ثم دعواه إلى دينهما ، فاتبعهما وأكرمهما. وانصرفوا عن المدينة ، ومعهم نفر من اليهود ، فقال له في الطريق نفر من هذيل : يدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة بمكة ، وأرادت هذيل هلاكه ، لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك. فذكر ذلك للحبرين ، فقالوا : ما نعلم لله بيتا في الأرض غير هذا ، فاتخذه مسجدا ، وانسك عنده ، واحلق رأسك ، وما أراد القوم إلا هلاكك. فأكرمه وكساه ، وهو أول من كسا البيت ؛ وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم ، وسمر أعينهم وصلبهم.

وقال قوم : ليس المراد بتبع رجلا واحدا ، إنما المراد ملوك اليمن ، وكانوا يسمون التتابعة. والذي يظهر أنه أراد واحدا من هؤلاء ، تعرفه العرب بهذا الاسم أكثر من معرفة غيره به. وفي الحديث : «لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا» ، فهذا يدل على أنه واحد بعينه. قال الجوهري : التتابعة ملوك اليمن ، والتبع : الظل ، والتبع : ضرب من الطير. وقال أبو القاسم السهيلي : تبع لكل ملك اليمن ، والشحر حضرموت ، وملك اليمن وحده لا يسمى تبعا ،


قاله المسعودي. والخيرية الواقعة فيها التفاضل ، وكلا الصنفين لا خير فيهم ، هي بالنسبة للقوة والمنعة ، كما قال : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) (١)؟ بعد ذكر آل فرعون في تفسير ابن عباس : أهم أشد أم قوم تبع؟ وإضافة قوم إلى تبع دليل على أنه لم يكن مذهبهم. (أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) : إخبار عما فعل تعالى بهم ، وتنبيه على أن علة الإهلاك هي الإجرام ، وفي ذلك وعيد لقريش ، وتهديد أن يفعل بهم ما فعل بقوم تبع ومن قبلهم من مكذبي الرسل لإجرامهم ، ثم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث ، وهو خلق العالم بالحق. وقرأ الجمهور : (وَما بَيْنَهُما) من الجنسين ، وعبيد بن عميس : وما بينهن لا عبين. قال مقاتل : عابثين.

(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) : أي بالعدل ، يجازي المحسن والمسيء بما أراد تعالى من ثواب وعقاب. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه تعالى خلق ذلك ، فهم لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا. وقرىء : ميقاتهم ، بالنصب ، على أنه اسم إن ، والخبر يوم الفصل ، أي : إن يوم الفصل ميعادهم وجزاؤهم ، (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) يعم جميع الموالي من القرابة والعتاقة والصلة شيئا من إغناء ، أي قليلا منه : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : جمع ، لأن عن مولى في سياق النفي فيعم ، فعاد على المعنى ، لا على اللفظ. (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) ، قال الكسائي : من رحم : منصوب على الاستثناء المنقطع ، أي لكن من رحمه‌الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه من لعنهم من المخلوقين. قيل : ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا ، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين ، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. وقال الحوفي : ويجوز أن يكون بدلا من مولى المرفوع ، ويكون يغني بمعنى ينفع. وقال الزمخشري : (مَنْ رَحِمَ اللهُ) ، في محل الرفع على البدل من الواو في (يُنْصَرُونَ) ، أي لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله ؛ وقاله الحوفي قبله. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) : لا ينصر من عصاه ، الرحيم لمن أطاعه ومن عفا عنه.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) : قرىء بكسر الشين ، وتقدم الكلام فيها في سورة الصافات. (طَعامُ الْأَثِيمِ) : صفة مبالغة ، وهو الكثير الآثام ، ويقال له : أثوم ، صفة مبالغة أيضا ، وفسر بالمشرك. وقال يحيى بن سلام : المكتسب للإثم. وعن ابن زيدان : الأثيم هنا هو أبو جهل ، وقيل : الوليد. (كَالْمُهْلِ) : هو دردي الزيت ، أو مذاب الفضة ، أو مذاب

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٤٣.


النحاس ، أو عكر القطران ، أو الصديد ؛ أولها لابن عمرو ابن عباس ، وآخرها لابن عباس. وقال الحسن : كالمهل ، بفتح الميم : لغة فيه. وعن ابن مسعود ، وابن عباس أيضا : المهل : ما أذيب من ذهب ، أو فضة ، أو حديد ، أو رصاص. وقرأ مجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والابنان ، وحفص : يغلي ، بالياء ، أي الطعام. وعمرو بن ميمون ، وأبو رزين ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، وطلحة ، والحسن : في رواية ، وباقي السبعة : تغلي بالتاء ، أي الشجرة. (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) : وهو الماء المسخن الذي يتطاير من غليانه. (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) ، يقال للزبانية : خذوه فاعتلوه ، أي سوقوه بعنف وجذب. وقال الأعمش : معنى اعتلوه : اقصفوه كما يقصف الحطب إلى سواء الجحيم. قال ابن عباس : وسطها. وقال الحسن : معظمها. وقرأ الجمهور : فاعتلوه ، بكسر التاء ، وزيد بن علي ، والابنان ، ونافع : بضمها ؛ والخلاف عن الحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبي عمرو.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) : وفي الحج يصيب من فوق رؤوسهم الحميم ، والمصبوب في الحقيقة هو الحميم ، فتارة اعتبرت الحقيقة ، وتارة اعتبرت الاستعارة ، لأنه أذم من الحميم ، فقد صب ما تولد عنه من الآلام والعذاب ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن العذاب هو المسبب عن الحميم ، ولفظة العذاب أهول وأهيب. (ذُقْ) : أي العذاب ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ، وهذا على سبيل التهكم والهزء لمن كان يتعزز ويتكرم على قومه. وعن قتادة ، أنه لما نزلت : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) ، قال أبو جهل : أتهددني يا محمد؟ وإن ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم ، فنزلت هذه الآية ، وفي آخرها : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ، أي على قولك ، وهذا كما قال جرير :

ألم تكن في رسوم قد رسمت بها

من كان موعظة يا زهرة اليمن

يقولها لشاعر سمى نفسه به في قوله :

أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها

إني الأعز وإني زهرة اليمن

فجاء به جرير على جهة الهزء. وقرىء : إنك ، بكسر الهمزة. وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب على المنبر ، والكسائي بفتحها. (إِنَّ هذا) : أي الأمر ، أو العذاب ، (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) : أي تشكون. ولما ذكر حال الكفار أعقبه بحال المؤمنين فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ). وقرأ عبد الله بن عمر ، وزيد بن علي ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، والحسن ، وقتادة ، ونافع ، وابن عامر : في مقام ، بضم الميم ؛ وأبو رجاء ،


وعيسى ، ويحيى ، والأعمش ، وباقي السبعة : بفتحها ؛ ووصف المقام بالأمين ، أي يؤمن فيه من الغير ، فكأنه فعيل بمعنى مفعول ، أي مأمون فيه ، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : الأمين ، من قولك : أمن الرجل أمانة ، فهو أمين ، وهو ضد الخائن ؛ فوصف به المكان استعارة ، لأن المكان المخيف كان يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره. وتقدم شرح السندس والإستبرق. وقرأ ابن محيصن : (وَإِسْتَبْرَقٍ) ، جعله فعلا ماضيا. (مُتَقابِلِينَ) : وصف لمجالس أهل الجنة ، لا يستدبر بعضهم بعضا في المجالس. (كَذلِكَ) : أي الأمر كذلك. وقرأ الجمهور : (بِحُورٍ) منونا ، وعكرمة : بغير تنوين ، لأن العين تقسمن إلى حور وغير حور ، فهؤلاء من حور العين ، لا من شهلن مثلا. (يَدْعُونَ فِيها) : أي الخدم والمتصرفين عليهم ، (بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أرادوا إحضارها لديهم ، (آمِنِينَ) من الأمراض والتخم.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ). وقرأ عبيد بن عمير : لا يذاقون ، مبنيا للمفعول. (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) : هذا استثناء منقطع ، أي لكن الموتة الأولى ذاقوها في الدنيا ، وذلك تنبيه على ما أنعم به عليهم من الخلود السرمدي ، وتذكير لهم بمفارقة الدنيا الفانية إلى هذه الدار الباقية. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي؟ قلت : أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) موضع ذلك ، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل ، فإنهم يذوقونها. وقال ابن عطية : قدر قوم إلّا بسوى ، وضعف ذلك الطبري وقدرها ببعد ، وليس تضعيفه بصحيح ، بل يصح المعنى بسوى ويتسق. وأما معنى الآية ، فتبين أنه نفى عنهم ذوق الموت ، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا. وقرأ أبو حيوة : (وَوَقاهُمْ) ، مشددا بالقاف ، والضمير في (يَسَّرْناهُ) عائد على القرآن ؛ و (بِلِسانِكَ) : بلغتك ، وهي لغة لعرب.


سورة الجاثية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ


الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ


الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)

(حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ ، وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ، يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ، وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ، اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ، وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ، وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بلا خلاف ، وذكر الماوردي : إلا (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) الآية ، فمدنية نزلت في عمر بن الخطاب. قال ابن عباس ، وقتادة ، وقال النحاس ، والمهدوي ، عن ابن عباس : نزلت في عمر : شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة ، فأراد أن يبطش به ، فنزلت. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح. قال : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) (١) ، وقال : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ، وتقدم الكلام على (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢) ، أول الزمر. وقال أبو عبد الله الرازي : وقوله : (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ، يجوز جعله صفة لله ، فيكون ذلك حقيقة ؛ وإن جعلناه صفة للكتاب ، كان ذلك مجازا ؛ والحقيقة أولى من المجاز ، مع أن زيادة القرب توجب الرجحان. انتهى. وهذا الذي ردّد في قوله : وإن جعلناه صفة للكتاب لا يجوز. لو كان صفة للكتاب لوليه ، فكان يكون

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ٥٨.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ١.


التركيب : تنزيل الكتاب العزيز الحكيم من الله ، لأن من الله ، إما أن يكون متعلقا بتنزيل ، وتنزيل خبر لحم ، أو لمبتدأ محذوف ، فلا يجوز الفصل به بين الصفة والموصوف ، لا يجوز أعجبني ضرب زيد سوط الفاضل ؛ أو في موضع الخبر ، وتنزيل مبتدأ ، فلا يجوز الفصل بين الصفة والموصوف أيضا ، لا يجوز ضرب زيد شديد الفاضل ، والتركيب الصحيح في نحو هذا أن يلي الصفة موصوفها.

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، احتمل أن يريد : في خلق السموات ، كقوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ) ، والظاهر أنه لا يراد التخصيص بالخلق ، بل في السموات والأرض على الإطلاق والعموم ، أي في أي شيء نظرت منهما من خلق وغيره ، من تسخير وتنوير وغيرهما ، (لَآياتٍ) : لم يأت بالآيات مفصلة ، بل أتى بها مجملة ، إحالة على غوامض يثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع. وجعلها (لِلْمُؤْمِنِينَ) ، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق. (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) ، أي في غير جنسكم ، وهو معطوف على : (وَفِي خَلْقِكُمْ). ومن أجاز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، أجاز في (وَما يَبُثُ) أن يكون معطوفا على الضمير (وَفِي خَلْقِكُمْ) ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، والأخفش ؛ وهو الصحيح ، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين. وقال الزمخشري : يقبح العطف عليه ، وهذا تفريع على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، قال : وكذلك أن أكدوه كرهوا أن يقولوا : مررت بك أنت وزيد. انتهى. وهذا يجيزه الجرمي والزيباري في الكلام ، وقال : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) : وهم الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : تقدم الكلام على نظيره في سورة البقرة. وقرأ الجمهور : آيات ، جمعا بالرفع فيهما ؛ والأعمش ، والجحدري ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب : بالنصب فيهما ؛ وزيد بن علي ؛ برفعهما على التوحيد. وقرأ أبي ، وعبد الله : لآيات فيهما ، كالأولى. فأما : (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) رفعا ونصبا ، فاستدل به وشبهه مما جاء في كلام الأخفش ، ومن أخذ بمذهبه على عطف معمولي عاملين بالواو ، وهي مسألة فيها أربعة مذاهب ، ذكرناها في (كتاب التذييل والتكميل لشرح التسهيل). فأما ما يخص هذه الآية ، فمن نصب آيات بالواو عطفت ، واختلاف على المجرور بفي قبله وهو : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُ) ، وعطف آيات على آيات ، ومن رفع فكذلك ، والعاملان أولاهما إن وفي ، وثانيهما الابتداء وفي. وقال الزمخشري : أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر ، واختلاف الليل والنهار والنصب في آيات ، وإذا رفعت والعاملان الابتداء ، وفي عملت


الرفع للواو ليس بصحيح ، لأن الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل ؛ ومن منع العطف على مذهب الأخفش ، أضمر حرف الجر فقدر. وفي اختلاف ، فالعمل للحرف مضمرا ، ونابت الواو مناب عامل واحد ؛ ويدل على أن في مقدرة قراءة عبد الله : وفي اختلاف ، مصرحا وحسن حذف في تقدمها في قوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ) ؛ وخرج أيضا النصب في آيات على التوكيد لآيات المتقدمة ، ولإضمار حرف في وقرىء واختلاف بالرفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي آيات ولإضمار حرف أيضا. وقرأ : واختلاف الليل والنهار آية بالرفع في اختلاف ، وفي آية موحدة ؛ وكذلك (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ). وقرأ زيد بن علي ، وطلحة ، وعيسى : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ).

وقال الزمخشري : والمعنى أن المنصفين من العباد ، إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح ، علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بد لها من صانع ، فآمنوا بالله وأقروا. فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة ، وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ، ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس. فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت ، كاختلاف الليل والنهار ، ونزول الأمطار ، وحياة الأرض بها بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا ، عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم. وقال أبو عبد الله الرازي : ذكر في البقرة ثمانية دلائل ، وهنا ستة ؛ لم يذكر الفلك والسحاب ، والسبب في ذلك أن مدار الحركة للفلك والسحاب على الرياح المختلفة ، فذكر الرياح ؛ وهناك جعل مقطع الثمانية واحدا ، وهنا رتبها على مقاطع ثلاثة : يؤمنون ، يوقنون ، يعقلون. قال : وأظن سبب هذا الترتيب : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ*) (١) ، فافهموا هذه الدلائل ؛ فإن لم تكونوا مؤمنين ولا موقنين ، فلا أقل أن تكونوا من العاقلين ، فاجتهدوا. وقال هناك : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) (٢) ، وهنا : (فِي السَّماواتِ) ، فدل على أن الخلق غير المخلوق ، وهو الصحيح عند أصحابنا ، ولا تفارق بين أن يقال : في السموات ، وفي خلق السموات. انتهى ، وفيه تلخيص وتقديم وتأخير.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) : أي تلك الآيات ، وهي الدلائل المذكورة ؛ (نَتْلُوها) : أي نسردها عليك ملتبسة بالحق ، ونتلوها في موضع الحال ، أي متلوة. قال الزمخشري : والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه ، وهذا بعلي شيخا. انتهى ، وليس نحوه ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩١ ، وفي وغيرها من الآيات.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٦٤ ، وفي غيرها من الآيات.


لأن في وهذا حرف تنبيه. وقيل : العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه ، أي تنبه. وأما تلك ، فليس فيها حرف تنبيه عاملا بما فيه من معنى التنبيه ، لأن الحرف قد يعمل في الحال : تنبه لزيد في حال شيخه وفي حال قيامه : وقيل : العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى ، أي انظر إليه في حال شيخه ، فلا يكون اسم الإشارة عاملا ولا حرف التنبيه ، إن كان هناك. وقال ابن عطية : نتلوها ، فيه حذف مضاف ، أي نتلو شأنها وشرح العبرة بها. ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذه المعاني ، فلا يكون في نتلوها حذف مضاف. انتهى. ونتلوها معناه : يأمر الملك أن نتلوها. وقرىء : يتلوها ، بياء الغيبة ، عائدا على الله ؛ وبالحق : بالصدق ، لأن صحتها معلومة بالدلائل العقلية.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) الآية ، فيه تقريع وتوبيخ وتهديد ؛ (بَعْدَ اللهِ) : أي بعد حديث الله ، وهو كتابه وكلامه ، كقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) (١) ؛ وقال : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٢) ؛ أي بعد حديث الله وكلامه. وقال الضحاك : بعد توحيد الله. وقال الزمخشري : بعد الله وآياته ، أي بعد آيات الله ، كقولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون : أعجبني كرم زيد. انتهى. وهذا ليس بشيء ، لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة ؛ والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل ، لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في : أعجبني زيد وكرمه ، بغير واو على البدل ؛ وهذا قلب لحقائق النحو. وإنما المعنى في : أعجبني زيد وكرمه ، أن ذات زيد أعجبته ، وأعجبه كرمه ؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد ، وقد رددنا عليه مثل قوله هذا فيما تقدم. وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، والحرميان ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية : يؤمنون ، بالياء من تحت ؛ والأعمش ، وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ وطلحة : توقنون بالتاء من فوق ، والقاف من الإيقان.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ، قيل : نزلت في أبي جهل ؛ وقيل : في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة فيمن كان مضارا لدين الله ؛ وأفاك أثيم ، صفتا مبالغة ؛ وألفاظ هذه الآية تقدم الكلام عليها. وقرأ الجمهور : علم ؛ وقتادة ومطر الوراق : بضم العين وشد اللام ؛ مبنيا للمفعول ، أي

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٣.

(٢) سورة المرسلات : ٧٧ / ٥٠.


عرف. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : ثم ، في قوله : (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً)؟ قلت : كمعناه في قول القائل :

يرى غمرات الموت ثم يزورها

وذلك بأن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار منها ، وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها ، فأمر مستبعد. فمعنى ثم : الإيذان بأن فعل المقدم عليها ، بعد ما رآها وعاينها ، شيء يستبعد في العادة والطباع ، وكذلك آيات الله الواضحة القاطعة بالحق ، من تليت عليه وسمعها ، كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها. (اتَّخَذَها هُزُواً) ، ولم يقل : اتخذه ، إشعارا بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. وقال الزمخشري : ويحتمل (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) ، يمكن أن يتشبث به المعاند ويجعله محملا يتسلق به على الطعن والغميزة ، افترصه واتخذ آيات الله هزوا ، وذلك نحو افتراص ابن الزبعري قوله عزوجل : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) ، ومغالطته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : خصمتك ؛ ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء ، لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية :

نفسي بشيء من الدنيا معلقة

الله والقائم المهدي يكفيها

حيث أراد عتبة. انتهى. وعتبة جارية كان أبو العتاهية يهواها وينتسب بها. والإشارة بأولئك إلى كل أفاك ، لشموله الأفاكين. حمل أولا على لفظ كل ، وأفرد على المعنى فجمع ، كقوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ*) (٢). (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) : أي من قدامهم ، والوراء : ما توارى من خلف وأمام. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) من الأموال في متاجرهم ، (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) من الأوثان. (هذا) ، أي القرّاء ، (هُدىً) ، أي بالغ في الهداية ، كقولك : هذا رجل ، أي كامل في الرجولية. وقرأ طلحة ، وابن محيصن ، وأهل مكة ، وابن كثير ، وحفص : (أَلِيمٌ) ، بالرفع نعتا لعذاب ؛ والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالجر نعتا لرجز.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ) الآية : آية اعتبار في تسخير هذا المخلوق العظيم ، والسفن الجارية فيه بهذا المخلوق الحقير ، وهو الإنسان. (بِأَمْرِهِ) : أي بقدرته. أناب الأمر مناب

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٨.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٥٣.


القدرة ، كأنه يأمر السفن أن تجري. (مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة وبالغوص على اللؤلؤ والمرجان ، واستخراج اللحم الطري. (ما فِي السَّماواتِ) من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء ، والأملاك الموكلة بهذا كله. (وَما فِي الْأَرْضِ) من البهائم والمياه والجبال والنبات. وقرأ الجمهور : (مِنْهُ) ، وابن عباس : بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على المصدر. قال أبو حاتم : نسبة هذه القراءة إلى ابن عباس ظلم. وحكاها أبو الفتح ، عن ابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، والجحدري ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وحكاها أيضا عن هؤلاء الأربعة صاحب اللوامح ، وحكاها ابن خالويه ، عن ابن عباس ، وعبيد بن عمير. وقرأ سلمة بن محارب كذلك ، إلا أنه ضم التاء ، أي هو منة ، وعنه أيضا فتح الميم وشد النون ، وهاء الكناية عائد على الله ، وهو فاعل سخر على الإسناد المجازي ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك ، أو هو منه. والمعنى ، على قراءة الجمهور : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة عنده ، إذ هو موجدها بقدرته وحكمته ، ثم سخرها لخلقه. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون يعني منه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي جميعا منه ، وأن يكون : وما في الأرض ، مبتدأ ، ومنه خبره. انتهى. ولا يجوز هذان الوجهان إلا على قول الأخفش ، لأن جميعا إذ ذاك حال ، والعامل فيها معنوي ، وهو الجار والمجرور ؛ فهو نظير : زيد قائما في الدار ، ولا يجوز على مذهب الجمهور.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) : نزلت في صدر الإسلام. أمر المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار ، وأن لا يعاقبوهم بذنب ، بل يصبرون لهم ، قاله السدّي ومحمد بن كعب ، قيل : وهي محكمة ، والأكثر على أنها منسوخة بآية السيف. يغفروا ، في جزمه أوجه للنحاة ، تقدّمت في : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) في سورة إبراهيم. (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) : أي وقائعه بأعدائه ونقمته منهم. وقال مجاهد : وقيل أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك. وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز. قيل : نزلت قبل آية القتال ثم نسخ حكمها. وتقدم قول ابن عباس أنها نزلت في عمر بن الخطاب ؛ قيل : سبه رجل من الكفار ، فهم أن يبطش به ، وقرأ الجمهور : ليجزي الله ، وزيد بن عليّ ، وأبو عبد الرحمن ، والأعمش ، وأبو علية ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بالنون ؛ وشيبة ، وأبو جعفر : بخلاف عنه بالياء مبنيا للمفعول. وقد روي ذلك عن عاصم ، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول ، على أن يقام المجرور ، وهو بما ،

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣١.


وينصب المفعول به الصريح ، وهو قوما ؛ ونظيره : ضرب بسوط زيدا ؛ ولا يجيز ذلك الجمهور. وخرجت هذه القراءة على أن يكون بنى الفعل للمصدر ، أي وليجزي الجزاء قوما. وهذا أيضا لا يجوز عند الجمهور ، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف تقديره يجزي قوما ، فيكون جملتان ، إحداهما : ليجزي الجزاء قوما ، والأخرى : يجزيه قوما ؛ وقوما هنا يعني به الغافرين ، ونكره على معنى التعظيم لشأنهم ، كأنه قيل : قوما ، أي قوم من شأنهم التجاوز عن السيئات والصفح عن المؤذيات وتحمل الوحشة. وقيل : هم الذين لا يرجون أيام الله ، أي بما كانوا يكسبون من الإثم ، كأنه قيل : لم تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً) كهؤلاء الغافرين ، (وَمَنْ أَساءَ) كهؤلاء الكفار ، وأتى باللام في فلنفسه ، لأن المحاب والحظوظ تستعمل فيها على الدالة على العلو والقهر ، كما تقول : الأمور لزيد متأنية وعلى عمرو مستصعبة. والكتاب : التوراة ، والحكم : الفضاء ، وفصل الأمور لأن الملك كان فيهم. قيل : والحكم : الفقه. ويقال : لم يتسع فقه الأحكام على نبي ، كما اتسع على لسان موسى من الطيبات المستلذات الحلال ، وبذلك تتم النعمة ، وذلك المن والسلوى وطيبات الشام ، إذ هي الأرض المباركة. بينات : أي دلائل واضحة من الأمر ، أي من الوحي الذي فصلت به الأمور. وعن ابن عباس : من الأمر ، أي من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب. وقيل معجزات موسى. (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) : تقدم تفسيره في الشورى.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ، هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ، وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).


لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك ، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما منّ به عليه من اصطفائه فقال : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ). قال قتادة : الشريعة : الأمر ، والنهي ، والحدود ، والفرائض. وقال مقاتل : البينة ، لأنها طريق إلى الحق. وقال الكلبي : السنة ، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء. وقال ابن زيد : الدّين ، لأنه طريق إلى النجاة. والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ، ومنه قول الشاعر :

وفي الشرائع من جيلان مقتنص

رب الثياب خفي الشخص منسرب

فشريعة الدّين من ذلك ، من حيث يرد الناس أمر الله ورحمته والقرب منه ، من الأمور التي من دين الله الذي بعثه في عباده في الزمان السالف ؛ أو يكون مصدر أمر ، أي من الأمر والنهي ، وسمي النهي أمرا. (أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، قيل : جهال قريظة والنضير. وقيل : رؤساء قريش ، حين قالوا : أرجع إلى دين آبائك. (هذا بَصائِرُ) : أي هذا القرآن ؛ جعل ما نافية من معالم الدين ، بصائر للقلوب ، كما جعل روحا وحياة. وقرىء : هذى ، أي هذه الآيات. (أَمْ حَسِبَ) : أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة ، وهو استفهام إنكار. وقال الكلبي : نزلت في عليّ ، وحمزة ، وعبيدة بن الحرث ، وفي عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة. قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولئن كان ما تقولون حقا ، لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة ؛ كما هو أفضل في الدنيا. واجترحوا : اكتسبوا ، والسيئات : هنا سيئات الكفر ؛ ونجعلهم : نصيرهم ، والمفعول الثاني هو كالذين ، وبه تمام المعنى. وقرأ الجمهور : سواء بالرفع ، ومماتهم بالرفع أيضا ؛ وأعربوا سواء : مبتدأ ، وخبره ما بعده ، ولا مسوغ لجواز الابتداء به ، بل هو خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ. والجملة خبر مستأنف ؛ واحتمل الضمير في (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أن يعود على (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) ، أخبر أن حالهم في الزمانين سواء ، وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في إهانتهم عند الله وعدم كرامتهم عليه ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى ، وذهن السامع يفرقه ، إذ قد تقدم إبعاد الله أن يجعل هؤلاء كهؤلاء. قال أبو الدرداء : يبعث الناس على ما ماتوا عليه. وقال مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ٧ والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا.

وقال ابن عطية : مقتضى هذا الكلام أنه لفظ الآية ؛ ويظهر لي أن قوله : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) داخل في المحسنة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن ، والأول أيضا


أجود. انتهى. ولم يبين كيفية تشبث الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسنة. وقال الزمخشري : والجملة التي هي : سواء محياهم ومماتهم ، بدل من الكاف ، لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا ؛ فكانت في حكم المفرد. ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديدا؟ كما تقول : ظننت زيد أبوه منطلق. انتهى. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري ، من إبدال الجملة من المفرد ، قد أجازه أبو الفتح ، واختاره ابن مالك ، وأورد على ذلك شواهد على زعمه ، ولا يتعين فيها البدل. وقال بعض أصحابنا ، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ الإشبيلي ، ويعرف بابن العلج ، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها ، قال في كتابه (البسيط في النحو) : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل ، كما كان في النعت ، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد ، فيكون بدلا ، فيجتمع فيه تجوز أن ، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول ، فيصح أن يكون فاعلا ، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ ، لأنها لا تضمر ، فإن كانت غير معمولة ، فهل تكون جملة؟ لا يبعد عندي جوازها ، كما يتبع في العطف الجملة للجملة ، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي. انتهى.

وتبين من كلام هذا الإمام ، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلا من المفرد ، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، فيظهر لي أنه لا يجوز ؛ لأنها بمعنى التصيير. لا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ، ولا صيرت زيدا غلامه منطلق ، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها. وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولا ثانيا ، ليس فيها انتقال مما ذكرنا ، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها ، أن تكون الجملة في موضع الحال ، والتقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم؟ ليسوا كذلك ، بل هم مفترقون ، أي افتراق في الحالتين ، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف ، التي هي في موضع المفعول الثاني. وقرأ زيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : سواء بالنصب ، وما بعده مرفوع على الفاعلية ، أجرى سواء مجرى مستويا ، كما قالوا : مررت برجل سواء هو والعدم. وجوز في انتصاب سواء وجهين : أحدهما : أن يكون منصوبا على الحال ، وكالذين المفعول الثاني ، والعكس. وقرأ الأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب أيضا ، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان ، والعامل ، إما أن نجعلهم ، وإما سواء ، وانتصب على البدل من


مفعول نجعلهم ، والمفعول الثاني سواء ، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء. وقال الزمخشري : ومن قرأ ومماتهم بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا ، وأن يستووا مماتا ، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله : وخفوق النجم ليس بجيد ، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل ، فهو في الحقيقة على حذف مضاف ، أي وقت خفوق النجم ، بخلاف محيا وممات ومقدم ، فإنها تستعمل بالوضع مصدرا واسم زمان واسم مكان ، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان ، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه ، لأنها موضوعة للزمان وللمكان ، كما وضعت للمصدر ؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة ، بخلاف خفوق النجم ، فإنه وضع للمصدر فقط.

وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن ، وله بعض عذر. فإنه لم يكن معربا ، فقال : وقرأ طلحة بن مصرف ، وعيسى بخلاف عنه : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالرفع ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، والأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب ؛ ووجه كلا من القرائتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب ، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير ، وهو معذور ، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب ؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا. ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع ، وإن كانت في الكفار ، وتسمى مبكاة العابدين. وعن تميم الداري ، رضي‌الله‌عنه ، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ). وعن الربيع بن خيثم ، أنه كان يردّدها ليلة أجمع ، وكذلك الفضيل بن عياض ، كان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وقال ابن عطية : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر ، بدليل معادلته بالإيمان ؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا بكى الخائفون.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) : هو كقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا) (١) ، وتقدم إعرابه في البقرة. وقال ابن عطية : هنا ما مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم. (بِالْحَقِ) : بأن خلقها حق ، واجب لما فيه من فيض الخيرات ، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع. (وَلِتُجْزى) : هي لام كي معطوفة على بالحق ، لأن كلّا من التاء واللام يكونان للتعليل ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٠.


فكان الخلق معللا بالجزاء. وقال الزمخشري : أو على معلل محذوف تقديره : ليدل بها على قدرته ، (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ). وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون ، لأن يجازى كل واحد بعمله ، وبما اكتسب من خير أو شر. انتهى. (أَفَرَأَيْتَ) الآية ، قال مقاتل : نزلت في الحرث بن قيس السهمي ، وأ فرأيت : هو بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو : (مَنِ اتَّخَذَ) ، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى ، يدل عليه قوله بعد : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) ، أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه. (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : أي هو مطواع لهوى نفسه ، يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده ، كما يعبد الرجل إلهة. قال ابن جبير ، إشارة إلى الأصنام : إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة. وقال قتادة : لا يهوى شيئا إلا ركبه ، لا يخاف الله ، فلهذا يقال : الهوى إله معبود. وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر : آلهة ، بتاء التأنيث ، بدل من هاء الضمير. وعن الأعرج أنه قرأ : آلهة على الجمع. قال ابن خالويه : ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده ، ثم يرى غيره فيهواه ، فيلقي الأول ، فكذلك قوله : (إِلهَهُ هَواهُ) الآية. وإن نزلت في هوى الكفر ، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة. قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلّا ذمه. وقال وهب : إذا شككت في خبر أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك. وفي الحديث : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني». ومن حكمة الشعر قول عنترة ، وهو جاهلي :

إني امرؤ وسمح الخليقة ماجد

لا أتبع النفس اللجوج هواها

وقال أبو عمران موسى بن عمران الإشبيلي الزاهد ، رحمه‌الله تعالى :

فخالف هواها واعصها إن من يطع

هوى نفسه ينزع به شر منزع

ومن يطع النفس اللجوج ترده

وترم به في مصرع أي مصرع

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) : أي من الله تعالى سابق ، أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين ، ويعرض عنه عنادا ، فيكون كقوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١). وقال الزمخشري : صرفه عن الهداية واللطف ، وخذله عن علم ، عالما بأن ذلك لا يجدي عليه ، وأنه ممن لا لطف به ، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٤.


الألطاف المحصلة والمقربة. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. وقرأ الجمهور : (غِشاوَةً) : بكسر الغين ؛ وعبد الله ، والأعمش : بفتحها ، وهي لغة ربيعة. والحسن ، وعكرمة ، وعبد الله أيضا : بضمها ، وهي لغة عكلية. والأعمش ، وطلحة ، وأبو حنيفة ، ومسعود بن صالح ، وحمزة ، والكسائي ، غشوة ، بفتح الغين وسكون الشين. وابن مصرف ، والأعمش أيضا : كذلك ، إلا أنهما كسرا العين ، وتقدم تفسير الجملتين في أول البقرة. وقرأ الجمهور : (تَذَكَّرُونَ) ، بشد الذال ؛ والجحدري يخففها ، والأعمش : بتاءين.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) (١) : هي مقالة بعض قريش إنكارا للبعث. والظاهر أن قولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا) حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير ، أي تموت طائفة وتحيا طائفة. وأن المراد بالموت مفارقة الروح للجسد. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي نحيا ونموت. وقيل : نموت عبارة عن كونهم لم يوجدوا ، ونحيا : أي في وقت وجودنا ، وهذا قريب من الأول قبله ، ولا ذكر للموت الذي هو مفارقة الروح في هذين القولين. وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء. وقرأ زيد بن علي : ونحيا ، بضم النون. (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) : أي طول الزمان ، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها هذا إن كان قائلو هذا معترفين بالله ، فنسبوا الآفات إلى الدهر بجهلهم أنها مقدرة من عند الله ، وإن كانوا لا يعرفون الله ولا يقرون به ، وهم الدهرية ، فنسبوا ذلك إلى الدهر. وقرأ عبد الله : إلا دهر ، وتأويله : إلا دهر يمر. كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر ، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر ، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين. قال ابن دريد في مقصورته :

يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد

فإن اروادك والعتبي سواء

و (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) ، ليست حجة حقيقة ، أي حجتهم عندهم ، أو لأنهم أدلوا بها ، كما يدلي المحتج بحجته ، وساقوها مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم ؛ أو لأنه في نحو قولهم :

تحية بينهم ضرب وجيع

أي : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة ، والمراد نفي أن يكون لهم حجة البتة. وقرأ الجمهور : حجتهم بالنصب ؛ والحسن ، وعمرو بن عبيد ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وابن عامر ، فيما روى عنه عبد الحميد ، وعاصم ، فيما روى هارون وحسين ، عن أبي بكر

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٢٩.


عنه : حجتهم ، أي ما تكون حجتهم ، لأن إذا للاستقبال ، وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيا بما ، لم تدخل الفاء ، بخلاف أدوات الشرط ، فلا بد من الفاء. تقول : إن تزرنا فما جفوتنا ، أي فما تجفونا. وفي كون الجواب منفيا بما ، دليل على ما اخترناه من أن جواب إذا لا يعمل فيها ، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها.

(ائْتُوا) : يظهر أنه خطاب للرسول والمؤمنين ، إذ هم قائلون بمقالته ، أو هو خطاب له ولمن جاء بالبعث ، وهم الأنبياء ، وغلب الخطاب على الغيبة. وقال ابن عطية : ائتوا ، من حيث المخاطبة له ؛ والمراد : هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكره هو لهم ؛ فجاء من ذلك جملة قيل لها ائتوا وإن كنتم. انتهى. ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر ، وأنهم استدلوا على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم ، ردّ الله تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيي ، وهو المميت لا الدهر ، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث ، وهذا واجب الاعتراف به إن أنصفوا ، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان بآبائهم.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ، وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ، وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

العامل في (وَيَوْمَ تَقُومُ) : يخسر ، و (يَوْمَئِذٍ) : بدل من يوم ، قاله الزمخشري ، وحكاه ابن عطية عن فرقة. والتنوين في يومئذ تنوين العوض عن جملة ، ولم تتقدم جملة إلا قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ، فيصير التقدير : ويوم تقوم يوم إذ تقوم الساعة يخسر ؛ ولا مزيد فائدة في قوله : يوم إذ تقوم الساعة ، لأن ذلك مستفاد من ويوم تقوم الساعة. فإن كان بدلا توكيديا ، وهو قليل ، جاز ذلك ، وإلا فلا يجوز أن يكون بدلا. وقالت فرقة العامل : في ويوم تقوم ما يدل عليه الملك ، قالوا : وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست


بالسماء ولا بالأرض ، لأن ذلك يتبدل ، فكأنه قال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، والملك يوم القيامة ، فحذفه لدلالة ما قبله عليه ؛ ويومئذ منصوب بيخسر ، وهي جملة فيها استئناف ، وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض. و (الْمُبْطِلُونَ) : الداخلون في الباطل. (جاثِيَةً) : باركة على الركب مستوفزة ، وهي هيئة المذنب الخائف. وقرىء : جاذية ، بالذال ؛ والجذو أشد استيفازا من الجثو ، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه. وعن ابن عباس : جاثية : مجتمعة. وعن قتادة : جماعات ، من الجثوة : وهي الجماعة ، يجمع على جثى ، قال الشاعر :

ترى جثو بين من تراب عليهما

صفائح صم من صفيح منضد

وعن مورج السدوسي : جاثية : خاضعة ، بلغة قريش. وعن عكرمة : جاثية : متميزة. وقرأ يعقوب : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى) ، بنصب كل أمة على البدل ، بدل النكرة الموصوفة من النكرة ؛ والظاهر عموم كل أمة من مؤمن وكافر. قال الضحاك : وذلك عند الحساب. وقال يحيى بن سلام : ذلك خاص بالكفار ، تدعى إلى كتابها المنزل عليها ، فتحاكم إليه ، هل وافقته أو خالفته؟ أو الذي كتبته الحفظة ، وهو صحائف أعمالها ، أو اللوح المحفوظ ، أو المعنى إلى ما يسبق لها فيه ، أي إلى حسابها ، أقوال. وأفرد كتابها اكتفاء باسم الجنس لقوله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) (١) ، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) ، (هذا كِتابُنا) ، هو الذي دعيت إليه كل أمة ، وصحت إضافته إليه تعالى لأنه مالكه والآمر بكتبه وإليهم ، لأن أعمالهم مثبتة فيه. والإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فلذلك صحت إضافته إليهم وإليه تعالى.

(يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ) : يشهد بالحق من غير زيادة ولا نقصان. (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) : أي الملائكة ، أي نجعلها تنسخ ، أي تكتب. وحقيقة النسخ نقل خط من أصل ينظم فيه ، فأعمال العباد كأنها الأصل. وقال الحسن : هو كتب الحفظة على بني آدم. وعن ابن عباس : يجعل الله الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ، ثم يمسكونه عندهم ، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك ، فبعيد أيضا ، فذلك هو الاستنساخ. وكان يقول ابن عباس : ألستم عربا؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟ ثم بين حال المؤمن بأنه يدخله في رحمته ، وهو الثواب الذي أعد له ، وأن ذلك هو الظفر بالبغية ؛ وبين الكافر بأنه يوبخ ويقال له : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن اتباعها والإيمان بها وكنتم

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٤٩ ، وسورة الزمر : ٣٩ / ٦٩.


أصحاب جرائم؟ والفاء في : أفلم ينوي بها التقديم ؛ وإنما قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدر الكلام ، والتقدير : فيقال له ألم. وقال الزمخشري : والمعنى ألم يأتكم رسلي؟ فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه. انتهى. وقد تقدم الكلام معه في زعمه أن بين الفاء والواو ، إذا تقدمها همزة الاستفهام معطوفا عليه محذوفا ، ورددنا عليه ذلك.

وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد : (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) ، بفتح الهمزة ، وذلك على لغة سليم ؛ والجمهور : إن بكسرها. وقرأ الجمهور : (وَالسَّاعَةُ) بالرفع على الابتداء ، ومن زعم أن لاسم إن موضعا جوز العطف عليه هنا ، أو زعم أن لأن واسمها موضعا جوز العطف عليه ، وبالعطف على الموضع لأن واسمها هنا. قال أبو علي : ذكره في الحجة ، وتبعه الزمخشري فقال : وبالرفع عطفا على محل إن واسمها ، والصحيح المنع ؛ وحمزة : بالنصب عطفا على وعد الله ، وهي مروية عن الأعمش ، وأبي عمرو ، وعيسى ، وأبي حيوة ، والعبسي ، والمفضل. (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) ، تقول : ضربت ضربا ، فإن نفيت ، لم تدخل إلا ، إذ لا يفرغ بالمصدر المؤكد ، فلا تقول : ما ضربت إلا ضربا ، ولا ما قمت إلا قياما. فأما الآية ، فتأول على حذف وصف المصدر حتى يصير مختصا لا مؤكدا ، وتقديره : إلا ظنا ضعيفا ، أو على تضمين نظن معنى نعتقد ، ويكون ظنا مفعولا به. وقد تأول ذلك بعضهم على وضع إلا في غير موضعها ، وقال : التقديران نحن إلا نظن ظنا. وحكى هذا عن المبرد ، ونظيره ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب :

ليس الطيب إلا المسك

قال المبرد : ليس إلا الطيب المسك. انتهى. واحتاج إلى هذا التقدير كون المسك مرفوعا بعد إلا. وأنت إذا قلت : ما كان زيد إلا فاضلا نصبت ، فلما وقع بعد إلا ما يظهر أنه خبر ليس ، احتاج أن يزحزح إلا عن موضعها ، ويجعل في ليس ضمير الشأن ، ويرفع إلا الطيب المسك على الابتداء والخبر ، فيصير كالملفوظ به ، في نحو : ما كان إلا زيد قائم. ولم يعرف المبرد أن ليس في مثل هذا التركيب عاملتها بنو تميم معاملة ما ، فلم يعملوها إلا باقية مكانها ، وليس غير عاملة. وليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب في نحو ليس الطيب إلا المسك ، ولا تميمي إلا وهو يرفع. في ذلك حكاية جرت بين عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء ، ذكرناها فيما كتبناه من علم النحو. ونظير (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) قول الأعشى :

وجدّ به الشيب أثقاله

وما اغتره الشيب إلا اغترارا


أي اغترارا بينا. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)؟ قلت ؛ أصله نظن ظنا ، ومعناه إثبات الظن مع نفي ما سواه ، وزيد نفى ما سوى الظن توكيدا بقوله : (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ). انتهى. وهذا الكلام ممن لا شعور له بالقاعدة النحوية ، من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل ومفعول وغيره ، إلا المصدر المؤكد فإنه لا يكون فيه. وقدّره بعضهم : إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا ، قال : وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنه لا يجوز في الكلام : ما ضربت إلا ضربا ، فاهتدى إلى هذه القاعدة النحوية ، وأخطأ في التخريج ، وهو محكي عن المبرد ، ولعله لا يصح. وقولهم : إن نظن ، دليل على أن الكفار قد أخبروا بأنهم ظنوا البعث واقعا ، ودل قولهم قبل قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) (١) ، على أنهم منكرون البعث ، فهم ، والله أعلم ، فرقتان ، أو اضطربوا ، فتارة أنكروا ، وتارة ظنوا ، وقالوا : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) على سبيل الهزء.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) : أي قبائح أعمالهم ، أو عقوبات أعمالهم السيئات ؛ وأطلق على العقوبة سيئة ، كما قال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢). (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط ، ولا يستعمل حاق إلا في المكروه. (نَنْساكُمْ) : نترككم في العذاب ، أو نجعلكم كالشيء المنسي الملقى غير المبالى بهم. (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ) : أي لقاء جزاء الله على أعمالكم ، ولم تخطروه على بال بعد ما ذكرتم به وتقدم إليكم بوقوعه. وأضاف اللقاء لليوم توسعا كقوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٣). وقرأ الجمهور : (لا يُخْرَجُونَ) ، مبنيا للمفعول ؛ والحسن ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي : مبنيا للفاعل. (مِنْها) : أي من النار. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي بطلب مراجعة إلى عمل صالح. وتقدم الكلام في الاستعتاب. وقرأ الجمهور : (رَبِ) ، بالجر في الثلاثة على الصفة ، وابن محيصن : بالرفع فيهما على إضمار هو.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٣٧.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٠.

(٣) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٣.


سورة الأحقاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً


عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ


وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)

الحقف : رمل مستطيل مرتفع فيه اعوجاج وانحناء ، ومنه احقوقف الشيء : اعوج.

قال امرؤ القيس :

فلما أجرنا ساحة الحي وانتحى

بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل

عنى بالأمر : إذا لم تعرف جهته ، ويجوز فيه الإدغام فتقول : عي ، كما قلت في حيي : حي. قال الشاعر :

عيوا بأمرهم كما

عيت ببيضتها الحمامه


(حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ، وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

هذه السورة مكية. وعن ابن عباس وقتادة ، أن : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ). و (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ) ، الآيتين مدنيتان. ومناسبة أولها لما قبلها ، أن في آخر ما قبلها : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) (١) ، وقلتم : إنه عليه الصلاة والسلام اختلقها ، فقال تعالى : (حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). وهاتان الصفتان هما آخر تلك ، وهما أول هذه. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) : أي موعد لفساد هذه البنية. قال ابن عباس : هو القيامة ؛ وقال غيره : أي أجل كل ملخوق. (عَمَّا أُنْذِرُوا) : يحتمل أن تكون ما مصدرية ، وأن تكون بمعنى الذي. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ) : معناه أخبروني عن الذين تدعون من دون الله ، وهي الأصنام. (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) : استفهام توبيخ ، ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون. وماذا خلقوا : جملة استفهامية يطلبها أرأيتم ، لأن مفعولها الثاني يكون استفهاما ، ويطلبها أروني على سبيل التعليق ، فهذا من باب الإعمال ، أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتم الثاني. ويمكن أن يكون أروني توكيدا لأرأيتم ، بمعنى أخبروني ، وأروني : أخبروني ، كأنهما بمعنى واحد.

وقال ابن عطية : يحتمل أرأيتم وجهين : أحدهما : أن تكون متعدية ، وما مفعولة بها ؛ ويحتمل أن تكون أرأيتم منبهة لا تتعدى ، وتكون ما استفهاما على معنى التوبيخ ، وتدعون معناه : تعبدون. انتهى. وكون أرأيتم لا تتعدى ، وأنها منبهة ، فيه شيء ؛ قاله الأخفش في

__________________

(١) سورة الجاثية : ٤٥ / ٣٥.


قوله : (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) (١). والذي يظهر أن ما تدعون مفعول أرأيتم ، كما هو في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ) (٢) في سورة فاطر ؛ وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة فيها. وقد أمضى الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام ، فيطالع هناك : و (مِنَ الْأَرْضِ) ، تفسير للمبهم في : (ما ذا خَلَقُوا). والظاهر أنه يريد من أجزاء الأرض ، أي خلق ذلك إنما هو لله ، أو يكون على حذف مضاف ، أي من العالي على الأرض ، أي على وجهها من حيوان أو غيره. ثم وقفهم على عبارتهم فقال : (أَمْ لَهُمْ) : أي : بل.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) : أي من قبل هذا الكتاب ، وهو القرآن ، يعني أن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وبإبطال الشرك ، وكل كتب الله المنزلة ناطقة بذلك ؛ فطلب منهم أن يأتوا بكتاب واحد يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله. (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) ، أي بقية من علم ، أي من علوم الأولين ، من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أو على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. والأثارة تستعمل في بقية الشرف ؛ يقال : لبني فلان أثارة من شرف ، إذا كانت عندهم شواهد قديمة ، وفي غير ذلك قال الراعي :

وذات أثارة أكلت علينا

نباتا في أكمته قفارا

أي : بقية من شحم. وقرأ الجمهور : أو أثارة ، وهو مصدر ، كالشجاعة والسماحة ، وهي البقية من الشيء ، كأنها أثرة. وقال الحسن : المعنى : من علم استخرجتموه فتثيرونه. وقال مجاهد : المعنى : هل من أحد يأثر علما في ذلك؟ وقال القرطبي : هو الإسناد ، ومنه قول الأعشى :

إن الذي فيه تماريتما

بين للسامع والأثر

أي : وللمستدعين غيره ؛ ومنه قول عمر رضي‌الله‌عنه : فما خلفت به ذاكرا ولا آثرا. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقتادة : المعنى : أو خاصة من علم ، فاشتقاقها من الأثرة ، فكأنها قد آثر الله بها من هي عنده. وقال ابن عباس : المراد بالأثارة : الخط في التراب ، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر تفسيره. الأثارة بالخط يقتضي تقوية أمر الخط في التراب ، وأنه شيء ليس له وجه إذاية وقف أحد إليه. وقيل : إن صح تفسير ابن عباس الأثارة بالخط في التراب ، كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم. وقرأ

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٦٣.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٤٠.


علي ، وابن عباس : بخلاف عنهما ، وزيد بن علي ، وعكرمة ، وقتادة ، والحسن ، والسلمي ، والأعمش ، وعمرو بن ميمون : أو أثرة بغير ألف ، وهي واحدة ، جمعها أثر ؛ كقترة وقتر ؛ وعلي ، والسلمي ، وقتادة أيضا : بإسكان الثاء ، وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر ، أي قد قنعت لكم بخبر واحد وأثر واحد يشهد بصحة قولكم. وعن الكسائي : ضم الهمزة وإسكان الثاء. وقال ابن خالويه ، وقال الكسائي على لغة أخرى : إثرة وأثرة يعني بكسر الهمزة وضمها.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ) يعبد الأصنام ، وهي جماد لا قدرة لها على استجابة دعائهم ما دامت الدنيا ، أي لا يستجيبون لهم أبدا ، ولذلك غيا انتفاء استجابتهم بقوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، ومع ذلك لا شعور لهم بعبادتهم إياهم ، وهم في الآخرة أعداء لهم ، فليس لهم في الدنيا بهم نفع ، وهم عليهم في الآخرة ضرر ، كما قال تعالى : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (١). وجاء (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ) ، لأنهم يسندون إليهم ما يسند لأولي العلم من الاستجابة والغفلة ؛ أو كأن (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ) ، يراد به من عبد من دون الله من إنس وجن وغيرهما ، وغلب من يعقل ، وحمل أولا على لفظ من لا يستجيب ، ثم على المعنى في : وهم من ما بعده. والظاهر عود الضمير أولا على لفظ (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ) ، ثم على المعنى في : وهم على معنى من في : (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ) ، كما فسرناه. وقيل : يعود على معنى من في : (وَمَنْ أَضَلُ) ، أي والكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب. (غافِلُونَ) : لا يتأملون ما عليهم في دعائهم من هذه صفته.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) : جمع بينة ، وهي الحجة الواضحة. واللام في (لِلْحَقِ) ، لام العلة ، أي لأجل الحق. وأتى بالظاهرين بدل المضمرين في (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) ، ولم يأت التركيب : قالوا لها ، تنبيها على الوصفين : وصف المتلو عليهم بالكفر ، ووصف المتلو عليهم بالحق ، ولو جاء بهما الوصفين ، لم يكن في ذلك دليل على الوصفين من حيث اللفظ ، وإن كان من سمى الآيات سحرا هو كافر ، والآيات في نفسها حق ، ففي ذكرهما ظاهرين ، يستحيل على القائلين بالكفر ، وعلى المتلو بالحق. وفي قوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) تنبيه على أنهم لم يتأملوا ما يتلى عليهم ، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عنادا وظلما ، ووصفوه بمبين ، أي ظاهر ، إنه سحر لا شبهة فيه.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٨٢.


(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي بل يقولون افتراه ، أي بل أيقولون اختلقه؟ انتقلوا من قولهم : (هذا سِحْرٌ) إلى هذه المقالة الأخرى. والضمير في افتراه عائد إلى الحق ، والمراد به الآيات. (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) ، على سبيل الفرض ، فالله حسبي في ذلك ، وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه ، ولا يمهلني ؛ (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) رد عقوبة الله بي شيئا. فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟ يقال : فلان لا يملك إذا غضب ، ولا يملك عنانه إذا صم ؛ ومثله : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (١)؟ (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٢). ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «لا أملك لكم من الله شيئا». ثم استسلم إلى الله واستنصر به فقال : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) : أي تندفعون فيه من الباطل ، ومراده الحق ، وتسميته تارة سحرا وتارة فرية. والضمير في فيه يحتمل أن يعود على ما ، أو على القرآن ، وبه في موضع الفاعل يكفي على أصح الأقوال. (شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) : شهيد إليّ بالتبليغ والدعاء إليه ، وشهيد عليكم بالتكذيب. (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : عدة لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر ، وإشعار بحلمه تعالى عليهم ، إذ لم يعاجلهم بالعقاب ، إذ كان ما تقدم تهديدا لهم في أن يعاجلهم على كفرهم. (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) : أي جاء قبلي غيري ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والبدع والبديع : من الأشياء ما لم ير مثله ، ومنه قول عدي بن زيد ، أنشده قطرب :

فما أنا بدع من حوادث تعتري

رجالا عرت من بعد بؤسي فأسعد

والبدع والبديع : كالخف والخفيف ، والبدعة : ما اخترع مما لم يكن موجودا ، وأبدع الشاعر : جاء بالبديع ، وشيء بدع ، بالكسر : أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر : أي بديع ، وقوم إبداع ، عن الأخفش. وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بفتح الدال ، جمع بدعة ، وهو على حذف مضاف ، أي ذا بدع. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة على فعل ، كقولهم : دين قيم ولحم زيم. انتهى. وهذا الذي أجازه ، إن لم ينقل استعماله عن العرب ، لم نجزه ، لأن فعل في الصفات لم يحفظ منه سيبويه إلا عدى. قال سيبويه : ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع ، وهو قوم عدى ، وقد استدرك ، واستدراكه صحيح. وأما قيم ، فأصله قيام وقيم ، مقصور منه ، ولذلك اعتلت الواو فيه ، إذ لو لم يكن مقصورا لصحت ، كما صحت في حول وعوض. وأما قول العرب : مكان

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١٧.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤١.


سوى ، وماء روى ، ورجل رضى ، وماء صرى ، وسبى طيبه ، فمتأولة عند البصريين لا يثبتون بها فعلا في الصفات. وعن مجاهد ، وأبي حيوة : بدعا ، بفتح الباء وكسر الدال ، كحذر.

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : أي فيما يستقبل من الزمان ، أي لا أعلم ما لي بالغيب ، فأفعاله تعالى ، وما يقدره لي ولكم من قضاياه ، لا أعلمها. وعن الحسن وجماعة : وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، ومن الغالب منا والمغلوب؟ وعن الكلبي ، قال له أصحابه ، وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا؟ فقال : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم! أأنزل بمكة؟ أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت ورأيتها ، يعني فى منامه ، ذات نخل وشجر؟ وقال ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة : معناه في الآخرة ، وكان هذا في صدر الإسلام ، ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة ، وبأن الكافرين في نار جهنم ؛ وهذا القول ليس بظاهر ، بل قد أعلم سبحانه من أول الرسالة حال الكافر وحال المؤمن. وقيل : (ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) من الأوامر والنواهي ، وما يلزم الشريعة. وقيل : نزلت في أمر كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) : استسلام وتبرؤ من علم المغيبات ، ووقوف مع النذارة إلا من عذاب الله. وقرأ الجمهور : ما يفعل بضم الياء مبنيا للمفعول ؛ وزيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة : بفتحها. والظاهر أن ما استفهامية ، وأدري معلقة ؛ فجملة الاستفهام موصولة منصوبة. انتهى. والفصيح المشهور أن درى يتعدى بالباء ، ولذلك حين عدى بهمزة النقل يتعدى بالباء ، نحو قوله : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) (١) ، فجعل ما استفهامية هو الأولى والأجود ، وكثيرا ما علقت في القرآن نحو : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ) ، ويفعل مثبت غير منفي ، لكنه قد انسحب عليه النفي ، لاشتماله على ما ويفعل ؛ فلذلك قال : (وَلا بِكُمْ). ولو لا اعتبار النفي ، لكان التركيب (ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ). ألا ترى زيادة من في قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ) (٢)؟ لا نسحاب قوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٣) على يود وعلى متعلق يود ، وهو أن ينزل ، فاذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل. وقرأ ابن عمير : ما يوحي ، بكسر الحاء ، أي الله عزوجل.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : مفعولا أرأيتم محذوفان لدلالة المعنى عليهما ، والتقدير : أرأيتم

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٠٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٠٥.


حالكم إن كان كذا؟ ألستم ظالمين؟ فالأول حالكم ، والثاني ألستم ظالمين ، وجواب الشرط محذوف ؛ أي فقد ظلمتم ، ولذلك جاء فعل الشرط ماضيا. وقال الزمخشري : جواب الشرط محذوف تقديره : إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به ، ألستم ظالمين؟ ويدل على هذا المحذوف قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). انتهى. وجملة الاستفهام لا تكون جوابا للشرط إلا بالفاء. فإن كانت الأداة الهمزة ، تقدمت الفاء نحو : إن تزرنا ، أفما نحسن إليك؟ أو غيرها تقدمت الفاء نحو : إن تزرنا ، فهل ترى إلا خيرا؟ فقول الزمخشري : ألستم ظالمين؟ بغير فاء ، لا يجوز أن يكون جواب الشرط. وقال ابن عطية : وأرأيتم يحتمل أن تكون منبهة ، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولا. ويحتمل أن تكون الجملة : كان وما عملت فيه ، تسد مسد مفعوليها. انتهى. وهذا خلاف ما قرره محققو النحاة في أرأيتم. وقيل : جواب الشرط.

(فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) : أي فقد آمن محمد به ، أو الشاهد ، واستكبرتم أنتم عن الإيمان. وقال الحسن : تقديره فمن أضل منكم. وقيل : فمن المحق منا ومنكم ، ومن المبطل؟ وقيل : إنما تهلكون ، والضمير في به عائد على ما عاد عليه اسم كان ، وهو القرآن. وقال الشعبي : يعود على الرسول ، والشاهد عبد لله بن سلام ، قاله الجمهور ، وابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن سيرين ؛ والآية مدنية. وعن عبد الله بن سلام : نزلت في آيات من كتاب الله ، نزلت في (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ). وقال مسروق : الشاهد موسى عليه‌السلام ، لا ابن سلام ، لأنه أسلم بالمدينة ، والسورة مكية ، والخطاب في (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) لقريش. وقال الشعبي : الشاهد من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة ، لأن ابن سلام أسلم قبل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعامين ، والسورة مكية. وقال سعد بن أبي وقاص ، ومجاهد ، وفرقة : الآية مكية ، والشاهد عبد الله بن سلام ، وهي من الآيات التي تضمنت غيبا أبرزه الوجود ، وعبد الله بن سلام مذكور في الصحيح ، وفيه بهت لليهود لعنهم الله.

ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ، ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي‌الله‌عنها ، اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه ، فعلموا أنه صاحب دولة ، وعموا ، فأصحبوه عبد الله بن سلام ، فقرأ علوم التوراة وفقهها مدة ، زعموا وأفرطوا في كذبهم ، إلى أن نسبوا الفصاحة المعجزة التي في القرآن


إلى تأليف عبد الله بن سلام ، وعبد الله هذا لم تعلم له إقامة بمكة ولا تردد إليها. فما أكذب اليهود وأبهتهم! لعنهم الله. وناهيك من طائفة ، ما ذم في القرآن طائفة مثلها.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ، وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

قال قتادة : هي مقالة كفار قريش للذين آمنوا : أي لأجل الذين آمنوا ؛ واللام للتبليغ. ثم انتقلوا إلى الغيبة في قولهم : (ما سَبَقُونا) ، ولو لم ينتقلوا لكان الكلام ما سبقتم إليه. ولما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة من المؤمنين ، أي قالوا : (لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) : أولئك الذين بلغنا إيمانهم يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الكلبي والزجاج : هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة. قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة ، أي لو كان هذا الدين خيرا ، ما سبقنا إليه الرعاة. وقال الثعلبي : هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم. وقال أبو المتوكل : أسلم أبو ذر ، ثم أسلمت غفار ، فقالت قريش ذلك. وقيل : أسلمت أمة لعمر ، فكان يضربها ، حتى يفتر ويقول : لو لا أني فترت لزدتك ضربا فقال كفار قريش : لو كان ما يدعو إليه محمد حقا ، ما سبقتنا إليه فلانة. والظاهر أن اسم كان هو القرآن ، وعليه يعود به ويؤيده ، ومن قبله كتاب موسى. وقيل : به عائد على الرسول ، والعامل في إذ محذوف ، أي (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) ، ظهر عنادهم. وقوله : (فَسَيَقُولُونَ) ، مسبب عن ذلك الجواب المحذوف ، لأن هذا القول هو ناشىء عن العناد ، ويمتنع أن يعمل


في : إذ فسيقولون ، لحيلولة الفاء ، وليعاند زمان إذ وزمان سيقولون. (إِفْكٌ قَدِيمٌ) ، كما قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، وقدمه بمرور الأعصار عليه.

ولما طعنوا في صحة القرآن ، قيل لهم : إنه أنزل الله من قبله التوراة على موسى ، وأنتم لا تنازعون في ذلك ، فلا ينازع في إنزال القرآن. (إِماماً) أي يهتدى به ، إن فيه البشارة بمبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرساله ، فليزم اتباعه والإيمان به ؛ وانتصب إماما على الحال ، والعامل فيه العامل في : (وَمِنْ قَبْلِهِ) ، أي وكتاب موسى كان من قبل القرآن في حال كونه إماما. وقرأ الكلبي : كتاب موسى ، نصب وفتح ميم من على أنها موصولة ، تقديره : وآتينا الذي قبله كتاب موسى ، وقيل : انتصب إماما بمحذوف ، أي أنزلناه إماما ، أي قدوة يؤتم به ، (وَرَحْمَةً) لمن عمل به ؛ وهذا إشارة إلى القرآن. (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) له ، أي لكتاب موسى ، وهي التوراة التي تضمنت خبره وخبر من جاء به ، وهو الرسول. فجاء هو مصدقا لتلك الأخبار ، أو مصدقا للكتب الإلهية. ولسانا : حال من الضمير في مصدق ، والعامل فيه مصدق ، أو من كتاب ، إذ قد وصف العامل فيه اسم الإشارة. أو لسانا : حال موطئة ، والحال في الحقيقة هو عربيا ، أو على حذف ، أي ذا الشأن عربي ، فيكون مفعولا بمصدق ؛ أي هذا القرآن مصدق من جاء به وهو الرسول ، وذلك بإعجازه وأحواله البارعة.

وقيل : انتصب على إسقاط الخافص ، أي بلسان عربي. وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وابن عامر ، ونافع ، وابن كثير : لتنذر ، بتاء الخطاب للرسول ؛ والأعمش ، وابن كثير أيضا ، وباقي السبعة : بياء الغيبة ، أي لينذرنا القرآن والذين ظلموا الكفار عباد الأصنام ، حيث وضعوا العبادة في غير من يستحقه.

(وَبُشْرى) ، قيل : معطوف على مصدق ، فهو في موضع رفع ، أو على إضمار هو. وقيل : منصوب بفعل محذوف معطوف على لينذر ، أي ويبشر بشرى. وقيل : منصوب على إسقاط الخافض ، أي ولبشرى. وقال الزمخشري ، وتبعه أبو البقاء : وبشرى في محل النصب ، معطوف على محل لينذر ، لأنه مفعول له. انتهى. وهذا لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين ، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون المحل بحق الأصالة ، وأن يكون للموضع محرز. والمحل هنا ليس بحق الأصالة ، لأن الأصل هو الجر في المفعول له ، وإنما النصب ناشىء عن إسقاط الخافض ، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة في النحو ، وصل إليه الفعل فنصبه. ولما عبر عن الكفار بالذين ظلموا ، عبر عن المؤمنين بالمحسنين ، ليقابل بلفظ الإحسان لفظ الظلم.


(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) : تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة فصلت. ولما ذكر : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، قال : (وَوَصَّيْنَا) ، إذ كان بر الوالدين ثانيا أفضل الأعمال ، إذ في الصحيح : أي الأعمال أفضل؟ فقال الصلاة على ميقاتها قال : ثم أي؟ قال : ثم بر الوالدين ، وإن كان عقوقهما ثاني أكبر الكبائر ، إذ قال عليه الصلاة والسلام : «ألا أنبئكم؟ بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين» ، والوارد في برهما كثير. وقرأ الجمهور : حسنا ، بضم الحاء وإسكان السين ؛ وعلي ، والسلمي ، وعيسى : بفتحهما ؛ وعن عيسى : بضمهما ؛ والكوفيون : إحسانا ، فقيل : ضمن ووصينا معنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فانتصب حسنا وإحسانا على المفعول الثاني لوصينا. وقيل : التقدير : إيصاء ذا حسن ، أو ذا إحسان. ويجوز أن يكون حسنا بمعنى إحسان ، فيكون مفعولا له ، أي ووصيناه بهما لإحساننا إليهما ، فيكون الإحسان من الله تعالى. وقيل : النصب على المصدر على تضمين وصينا معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا. وقال ابن عطية : ونصب هذا يعني إحسانا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ؛ والباء متعلقة بوصينا ، أو بقوله : إحسانا. انتهى. ولا يصح أن يتعلق بإحسانا ، لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل ، فلا يتقدم معموله عليه ، ولأن أحسن لا يتعدى بالباء ، إنما يتعدى باللام ؛ تقول : أحسنت لزيد ، ولا تقول : أحسنت بزيد ، على معنى أن الإحسان يصل إليه. وتقدم الكلام على (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) (١) في سورة العنكبوت ، وانجر هنا بالكلام على ذلك مزيدا للفائدة.

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) : لبس الكره في أول علوقها ، بل في ثاني استمرار الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه. انتهى. ولا يلحقها كره إذ ذاك ، فهذا احتمال بعيد. وقال مجاهد ، والحسن ، وقتادة : المعنى : حملته مشقة ، ووضعته مشقة. وقرأ الجمهور : بضم الكاف ؛ وشيبة ، وأبو جعفر ، والأعرج ، والحرميان ، وأبو عمرو : بالفتح ؛ وبهما معا : أبو رجاء ، ومجاهد ، وعيسى ؛ والضم والفتح لغتان بمعنى واحد ، كالعقر والعقر. وقالت فرقة : بالضم المشقة ، وبالفتح الغلبة والقهر ، وضعفوا قراءة الفتح. وقال بعضهم : لو كان بالفتح ، لرمت به عن نفسها إذ معناه : القهر والغلبة. انتهى. وهذا ليس بشيء ، إذ قراءة الفتح في السبعة المتواترة. وقال أبو حاتم : القراءة بفتح الكاف لا تحسن ، لأن الكره بالفتح ، النصب والغلبة. انتهى. وكان أبو حاتم يطعن في بعض القرآن بما لا علم له به

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٨.


جسارة منه ، عفا الله عنه. وانتصابهما على الحال من ضمير الفاعل ، أي حملته ذات كره ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي حملا ذاكره.

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) : أي ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصا ؛ إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما أن تلد لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام. فإن زادت مدة الحمل ، نقصت مدة الرضاع. فمدة الرضاع عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة. وقد كشفت التجربة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، كنص القرآن. وقال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل ، فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة. وزعم ابن سينا أنه شاهد ذلك ؛ وأما أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه. قال ابن سينا في الشفاء : بلغني من جهة من أثق به كل الثقة ، أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ، ولدت ولدا نبتت أسنانه. وحكي عن أرسطاطاليس أنه قال : إن مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان ، فربما وضعت لسبعة أشهر ، ولثمانية ، وقل ما يعيش الولد في الثامن ، إلا في بلاد معينة مثل مصر. انتهى. وعبر عن الرضاع بالفصال ، لما كان الرضاع يلي الفصال ويلابسه ، لأنه ينتهي به ويتم ، سمي به. وقرأ الجمهور : وفصاله ، وهو مصدر فاصل ، كأنه من اثنين : فاصل أمه وفاصلته. وقرأ أبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والجحدري : وفصله ، قيل : والفصل والفصال مصدران ، كالفطم والفطام. وهنا لطيفة : ذكر تعالى الأم في ثلاثة مراتب في قوله : بوالديه وحمله وإرضاعه المعبر عنه بالفصال ، وذكر الوالد في واحدة في قوله : بوالديه ؛ فناسب ما قال الرسول من جعل ثلاثة أرباع البر للأم والربع للأب في قول الرجل : «يا رسول الله ، من أبر؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أباك».

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) في الكلام حذف تكون حتى غاية له ، تقديره : فعاش بعد ذلك ، أو استمرت حياته ؛ وتقدم الكلام في (بَلَغَ أَشُدَّهُ*) (١) في سورة يوسف. والظاهر ضعف قول من قال : بلوغ الأشد أربعون ، لعطف (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً). والعطف يقتضي التغاير ، إلا إن ادعى أن ذلك توكيد لبلوغ الأشد فيمكن ؛ والتأسيس أولى من التأكيد ؛ وبلوغ الأربعين اكتمال العقل لظهور الفلاح. قيل : ولم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. وفي الحديث : أن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول : بأبي وجه

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٢.


لا يفلح. (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) : وتقدم الكلام على هذا في سورة النمل. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) : سأل أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنة له ، كأنه قال : هب لي الصلاح في ذريتي ، فأوقعه فيهم ، أو ضمن : وأصلح لي معنى : وألطف بي في ذريتي ، لأن أصلح يقتدي بنفسه لقوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) (١) ، فلذلك احتج قوله : (فِي ذُرِّيَّتِي) إلى التأويل. قيل : نزلت في أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وتتناول من بعده ، وهو مشكل ، لأنها نزلت بمكة ، وأبوه أسلم عام الفتح. ولقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) : فلم يقصد بذلك أبو بكر ولا غيره. والمراد بالإنسان الجنس ، ولذلك أشار يقوله : (أُولئِكَ) جمعا. وقرأ الجمهور : يتقبل مبنيا للمفعول ، أحسن رفعا ، وكذا ويتجاوز ؛ وزيد بن علي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وأبو جعفر ، والأعمش : بخلاف عنه. وحمزة ، والكسائي ، وحفص : نتقبل أحسن نصبا ، ونتجاوز بالنون فيهما ؛ والحسن ، والأعمش ، وعيسى : بالياء فيهما مفتوحة ونصب أحسن.

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) ، قيل : في بمعنى مع ؛ وقيل : هو نحو قولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه ، يريد في جملة من أكرم منهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة. وانتصب (وَعْدَ الصِّدْقِ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، لأن قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ) ، وعد منه تعالى بالتقبل والتجاوز ، لما ذكر الإنسان البار بوالديه وما آل إليه من الخير ، ذكر العاق بوالديه وما آل إليه من الشر. والمراد بالذي : الجنس ، ولذلك جاء الخبر مجموعا في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ). وقال الحسن : هو الكافر العاق بوالديه المنكر البعث. وقول مروان بن الحكم ، واتبعه قتادة : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قول خطأ ناشىء عن جور ، حين دعا مروان ، وهو أمير المدينة ، إلى مبايعة يزيد ، فقال عبد الرحمن : جعلتموها هرقلية؟ كلما مات هرقل ولى ابنه ، وكلما مات قيصر ولى ابنه؟ فقال مروان : خذوه ، فدخل بيت أخته عائشة رضي‌الله‌عنها ، وقد أنكرت ذلك عائشة فقالت ، وهي المصدوقة : لم ينزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي ؛ وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته. وصدت مروان وقالت : ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله. ويدل على فساد هذا القول أنه قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) ، وهذه

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٠.


صفات الكفار أهل النار ، وكان عبد الرحمن من أفاضل الصحابة وسراتهم وأبطالهم ، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره.

(أُفٍّ لَكُما) : تقدم الكلام على أف مدلولا ولغات وقراءة في سورة الإسراء ، واللام في لكما للبيان ، أي لكما ، أعني : التأفيف. وقرأ الجمهور : (أَتَعِدانِنِي) ، بنونين ، الأولى مكسورة ؛ والحسن ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وفي رواية ؛ وهشام : بإدغام نون الرفع في نون الوقاية. وقرأ نافع في رواية ، وجماعة : بنون واحدة. وقرأ الحسن ، وشيبة ، وأبو جعفر : بخلاف عنه ؛ وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، وهارون بن موسى ، عن الجحدري ، وسام ، عن هشام : بفتح النون الأولى ، كأنهم فروا من الكسرتين ، والياء إلى الفتح طلبا للتخفيف ففتحوا ، كما فر من أدغم ومن حذف. وقال أبو حاتم : فتح النون باطل غلط. (أَنْ أُخْرَجَ) : أي أخرج من قبري للبعث والحساب. وقرأ الجمهور : أن أخرج ، مبنيا للمفعول ؛ والحسن ، وابن يعمر ، والأعمش ، وابن مصرف ، والضحاك : مبنيا للفاعل.

(وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) : أي مضت ، ولم يخرج منهم أحد ولا بعث. وقال أبو سليمان الدمشقي : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) مكذبة بالبعث. (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) ، يقال : استغثت الله واستغثت بالله ، والاستعمالان في لسان العرب. وقد رددنا على ابن مالك إنكار تعديته بالباء ، وذكرنا شواهد على ذلك في الأنفال ، أي يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله : (وَيْلَكَ) ، دعاء عليه بالثبور ؛ والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك. وقيل : ويلك لمن يحقر ويحرك لأمر يستعجل إليه. وقرأ الأعرج ، وعمرو بن فائدة : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) ، بفتح الهمزة ، أي : آمن بأن وعد الله حق ، والجمهور بكسرها ، (فَيَقُولُ ما هذا) : أي ما هذا الذي يقول؟ أي من الوعد بالبعث من القبور ، إلا شيء سطره الأولون في كتبهم ، ولا حقيقة له. قال ابن عطية : وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له ، فنفى الله أقواله تحذيرا من الوقوع في مثلها.

وقوله : (أُولئِكَ) ، ظاهره أنه إشارة إلى جنس يتضمنه قوله : (وَالَّذِي قالَ) ، ويحتمل أن تكون الآية في مشار إليه ، ويكون قوله في أولئك بمعنى صنف هذا المذكور وجنسه هم : (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي قول الله أنه يعذبهم (فِي أُمَمٍ) ، أي جملة : (أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ، يقتضي أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. وقال الحسن في بعض مجالسه : الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت.


وقرأ العباس ، عن أبي عمرو : أنهم كانوا ، بفتح الهمزة ، والجمهور بالكسر. (وَلِكُلٍ) : أي من المحسن والمسيء ، (دَرَجاتٌ) غلب درجات ، إذ الجنة درجات والنار دركات ، والمعنى : منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ومن أجل ما عملوا منها. قال ابن زيد : درجات المحسنين تذهب علوا ، ودرجات المسيئين تذهب سفلا. انتهى. والمعلل محذوف تقديره : وليوفيهم أعمالهم قدر جزائهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات. وقرأ الجمهور : وليوفيهم بالياء ، أي الله تعالى ؛ والأعمش ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والإخوان ، وابن ذكوان ، ونافع : بخلاف عنه بالنون ؛ والسلمي : بالتاء من فوق ، أي ولنوفيهم الدرجات ، أسند التوفية إليها مجازا.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ، وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ) : أي يعذب بالنار ، كما يقال : عرض على السيف ، إذا قتل به. والعرض : المباشرة ، كما تقول : عرضت العود على النار : أي باشرت به النار. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون عرض الحوض عليها ، فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها. انتهى. ولا ينبغي حمل القرآن على القلب ، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر. وإذا كان المعنى صحيحا واضحا مع عدم القلب ، فأي ضرورة ندعو إليه؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب ، لأن عرض الناقة على الحوض ، وعرض الحوض على الناقة ، كل منهما صحيح ؛ إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وقرأ الجمهور :


أذهبتم على الخبر ، أي فيقال لهم : أذهبتم ، ولذلك حسنت الفاء في قوله : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ). وقرأ قتادة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر ، بهمزتين حققهما ابن ذكوان ، ولين الثانية هشام ، وابن كثير في رواية. وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف ، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، فلذلك حسنت الفاء ، ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء. والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطئ ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية.

وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا ، وترك التنعم فيها ، والأخذ بالتقشف ، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به. وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ ، وعزة نفسه الفاضلة عنها. أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش؟ ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصلائق ، ولكن استبقي حسناتي ؛ فإن الله عزوجل وصف أقواما فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ). والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الخبز الرقاق العريض. قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد ، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش ؛ والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم ، لكنكم لم تؤمنوا ، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ، ولذلك نزلت عليه : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) ؛ ولو أريد الظاهر ، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا ، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب. وقرىء : الهوان ، وهو والهون بمعنى واحدة. ثم بين تلك الكناية بقوله : (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) : أي تترفعون عن الإيمان ؛ (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) : أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب ، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح ؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب. ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا ، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول ، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى ، وهم قوم عاد ، وكانوا أكثر أموالا رأشد قوة وأعظم جاها فيهم ، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم ، وضرب الأمثال. وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه ، فقال لرسوله : واذكر لقومك ، أهل مكة ، هودا عليه‌السلام ، (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) عادا عذبهم الله (بِالْأَحْقافِ). قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة. وقال ابن إسحاق : من عمان إلى حضرموت. وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن. وقيل : بين مهرة وعدن. وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني.


وقال ابن عباس : هي جبل بالشام. قال ابن عطية : والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) (١) ، وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول ، إذ كذبه قومه ، كما كذبت عاد هودا عليه‌السلام. والجملة من قوله : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) : وهو جمع نذير ، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ، يحتمل أن تكون حالا من الفاعل في : (النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) ، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه ، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه ، ويكون على هذا معنى (وَمِنْ خَلْفِهِ) : أي من بعد إنذاره ؛ ويحتمل أن يكون اعتراضا بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا. والمعنى : وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم.

(قالُوا أَجِئْتَنا) : استفهام تقرير ، وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة. (لِتَأْفِكَنا) : لتصرفنا ، قاله الضحاك ؛ أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك ، وهو الكذب ، أي عن عبادة آلهتنا ، (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) : استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب. ألا ترى إلى قوله : بل هو ما استعجلتم به؟ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : أي علم وقت حلوله ، وليس تعيين وقته إليّ ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم. ولما تحقق عنده وعد الله ، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب ، قال : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) : أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها ، وذلك واقع لا محالة. وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياما ، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فاستبشروا. والضمير في (رَأَوْهُ) الظاهر أنه عائد على ما في قوله : (بِما تَعِدُنا) ، وهو العذاب ، وانتصب عارضا على الحال من المفعول. وقال ابن عطية ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم ، الذي فسره قوله : (عارِضاً).

وقال الزمخشري : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) ، في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهما ، قد وضح أمره بقوله : (عارِضاً) ، إما تمييز وإما حال ، وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جاريا على ما ذكره النحاة ، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب ، نحو : رب رجلا لقيته ، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين ، نحو : نعم رجلا زيد ، وبئس غلاما عمرو. وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره ، فلا نعلم أحدا ذهب إليه ، وقد حصر النحاة المضمر الذي

__________________

(١) سورة الفجر : ٨٩ / ٧.


يفسره ما بعده ، فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه. والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الشاعر :

يا من رأى عارضا أرقت له

بين ذراعي وجبهة الأسد

وقال الأعشى :

يا من رأى عارضا قد بث أرمقه

كأنها البرق في حافاتها الشعل

(مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) : هو جمع واد ، وأفعلة في جمع فاعل. الاسم شاذ نحو : ناد وأندية ، وجائز وأجوزة. والجائز : الخشبة الممتدة في أعلى السقف ، وإضافة مستقبل وممطر إضافة لا تعرف ، فلذلك نعت بهما النكرة. (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ) : أي قال لهم هو ذلك ، أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به ، أضرب عن قولهم : (عارِضٌ مُمْطِرُنا) ، وأخبر بأن العذاب فاجأهم ، ثم قال : (رِيحٌ) : أي هي ريح بدل من هو. وقرأ : ما استعجلتم ، بضم التاء وكسر الجيم ، وتقدمت قصص في الريح ، فأغنى عن ذكرها هنا. (تُدَمِّرُ) : أي تهلك ، والدمار : الهلاك ، وتقدم ذكره. وقرأ زيد بن عليّ : تدمر ، بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم. وقرىء كذلك إلا أنه بالياء ورفع كل ، أي يهلك كل شيء ، وكل شيء عام مخصوص ، أي من نفوسهم وأموالهم ، أو من أمرت بتدميره. وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهد بباهر قدرته تعالى ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى. وقرأ الجمهور : لا ترى بتاء الخطاب ، إلا مساكنهم ، بالنصب ؛ وعبد الله ، ومجاهد ، وزيد بن علي ، وقتادة ، وأبو حيوة ، وطلحة ، وعيسى ، والحسن ، وعمرو بن ميمون : بخلاف عنهما ؛ وعاصم ، وحمزة : لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع. وأبو رجاء ، ومالك بن دينار : بخلاف عنهما. والجحدري ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، والسلمي : بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع ، وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر ، وبعضهم يجيزه في الكلام. وقال ذو الرمة :

كأنه جمل همّ وما بقيت

إلا النخيرة والألواح والعصب

وقال آخر :

فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقرأ عيسى الهمداني : لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد. وروي هذا عن


الأعمش ، ونصر بن عاصم. وقرىء : لا ترى ، بتاء مفتوحة للخطاب ، إلا مسكنهم بالتوحيد مفردا منصوبا ، واجتزئ بالمفرد عن الجمع تصغيرا لشأنهم ، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد ، فكأنهم كانوا في مسكن واحد. ولما أخبر بهلاك قوم عاد ، خاطب قريشا على سبيل الموعظة فقال : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) ، وإن نافية ، أي في الذي ما مكانهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال ؛ ولم يكن النفي بلفظ ما ، كراهة لتكرير اللفظ ، وإن اختلف المعنى. وقيل : إن شرطية محذوفة الجواب ، والتقدير : إن مكناكم فيه طغيتم. وقيل : إن زائدة بعد ما الموصولة تشبيها بما النافية وما التوقيتية ، فهي في الآية كهي في قوله :

يرجى المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم ، فيه ، وكونها نافية هو الوجه ، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً) (١) ، وقوله : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (٢) ، وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار. ثم عدد نعمه عليهم ، وأنها لم تغن عنهم شيئا ، حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل. وقيل : ما استفهام بمعنى التقرير ، وهو بعيد كقوله : (مِنْ شَيْءٍ) ، إذ يصير التقدير : أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء ، فتكون من زيدت في الموجب ، وهو لا يجوز على الصحيح ، والعامل في إذ أغنى. ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت : أكرمت زيدا لإحسانه إليّ ، أو إذ أحسن إليّ. استويا في الوقت ، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل ، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك ، إنما كان لوجود إحسانه لك فيه.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ ، وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٨٢.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٧٤.


كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ، فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) : خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم ، والذي حولهم من القرى : مأرب ، وحجر ، ثمود ، وسدوم. ويريد من أهل القرى : (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) ، أي الحجج والدلائل والعظات لأهل تلك القرى ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن ما هم فيه من الكفر إلى الإيمان ، فلم يرجعوا. (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ) : أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك؟ (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) : أي اتخذوهم ، (مِنْ دُونِ اللهِ ، قُرْباناً) : أي في حال التقرب وجعلهم شفعاء. (آلِهَةً) : وهو المفعول الثاني لا تخذوا ، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول. وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قربانا مفعولا ثانيا لاتخذوا آلهة بدل منه. وقال الزمخشري : وقربانا حال ، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا وآلهة بدل منه ، لفساد المعنى. انتهى. ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى ، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. وأجاز الحوفي أيضا أن يكون قربانا مفعولا من أجله.

(بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) : أي غابوا عن نصرتهم. وقرأ الجمهور : إفكهم ، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وضم الكاف ؛ وابن عباس في رواية : بفتح الهمزة. والإفك مصدر إن. وقرأ ابن عباس أيضا ، وابن الزبير ، والصباح بن العلاء الأنصاري ، وأبو عياض ، وعكرمة ، وحنظلة بن النعمان بن مرة ، ومجاهد : إفكهم ، بثلاث فتحات : أي صرفهم ؛ وأبو عياض ، وعكرمة أيضا : كذلك ، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير ؛ وابن الزبير أيضا ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه : آفكهم بالمد ، فاحتمل أن يكون فاعل. فالهمزة أصلية ، وأن يكون أفعل ، فالهمزة للتعدية ، أي جعلهم يأفكون ، ويكون أفعل بمعنى المجرد. وعن الفراء أنه قرىء : أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف ، وهي لغة في الإفك ؛ وابن عباس ، فيما روى قطرب ، وأبو الفضل الرازي : آفكهم اسم فاعل من آفك ، أي صارفهم ، والإشارة بذلك على من قرأ : إفكهم مصدرا إلى اتخاذ الأصنام آلهة ، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم. وقال الزمخشري : وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي وذلك إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. انتهى. وعلى قراءة من جعله فعلا معناه : وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق ،


وكذلك قراءة اسم الفاعل ، أي صارفهم عن الحق. ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي وافتراؤهم ، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف ، أي يفترونه.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) : ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر ، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر ؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه ، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة. والجن توصف أيضا بذلك ، كما قال تعالى : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (١). وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح ، وهو من العالم الذي لا يشاهد ، وإنما يحس بهبوبه. والجن أيضا من العالم الذي لا يشاهد. وإن هودا عليه‌السلام كان من العرب ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب ، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها. وفيها أيضا توبيخ لقريش وكفار العرب ، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز ، فكفروا به ، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن ، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم. وهؤلاء جن ، فليسوا من جنسه ، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه ، وعلموا أنه من عند الله ، بخلاف قريش وأمثالها ، فهم مصرون على الكفر به.

(وَإِذْ صَرَفْنا) : وجّهنا إليك. وقرأ : صرفنا ، بتشديد الراء ، لأنهم كانوا جماعة ، فالتكثير بحسب الحال. (نَفَراً مِنَ الْجِنِ) ، والنفر دون العشرة ، ويجمع على أنفار. قال ابن عباس : كانوا سبعة ، منهم زوبعة. والذي يجمع اختلاف الروايات ، أن قصة الجن كانت مرتين.

إحداهما : حين انصرف من الطائف ، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير. فروى أن الجن كانت تسترق السمع ؛ فلما بعث الرسول ، حرست السماء ، ورمي الجن بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا أمر حدث. وطافوا الأرض ، فوافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي نخلة ، وهو قائم يصلي ؛ فاستمعوا لقراءته ، وهو لا يشعر ؛ فأنبأه الله باستماعهم.

والمرة الأخرى : أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال : «إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني» ، قالها ثلاثا ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود ، قال : لم يحضره أحد ليلة الجن غيري. فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون ، خط لي خطا وقال :

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٣٩.


«لا تخرج منه حتى أعود إليك» ، ثم افتتح القرآن. وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم تقطعوا تقطع السحاب ، فقال لي : «هل رأيت شيئا»؟ قلت : نعم ، رجالا سودا مستثفري ثياب بيض ، فقال : «أولئك جن نصيبين». وكانوا اثني عشر ألفا ، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك. وفي آخر هذا الحديث قلت : يا رسول الله ، سمعت لهم لغطا ، فقال : «إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق». وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن ، والله أعلم بصحة ذلك.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ) : أي القرآن ، أي كانوا بمسمع منه ، وقيل : حضروا الرسول ، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب. (قالُوا أَنْصِتُوا) : أي اسكتوا للاستماع ، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم. وقرأ الجمهور : (فَلَمَّا قُضِيَ) : مبنيا للمفعول ؛ وأبو مجلز ، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى ، مبنيا للفاعل ، أي قضى محمد ما قرأ ، أي أتمه وفرغ منه. وقال ابن عمر ، وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة الرحمن ، فكان إذا قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن. قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم. انتهى. وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب ، وخنافر وأمثالها ، حين جاءهما رياهما من الجن ، وكان سبب إسلامهما.

(مِنْ بَعْدِ مُوسى) : أي من بعد كتاب موسى. قال عطاء : كانوا على ملة اليهود ، وعن ابن عباس : لم تسمع الجن بأمر عيسى ، وهذا لا يصح عن ابن عباس. كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به. ويجوز أن يكونوا قالوا : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) تنبيها لقومهم على اتباع الرسول ، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى ، فقالوا : ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة ، (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد ، والأمر بتطهير الأخلاق. (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق ، يعلم ذلك بصريح العقل. و (إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) : غاير بين اللفظين ، والمعنى متقارب ، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه ، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار. (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) : هو الرسول ، والواسطة المبلغة عنه ، (وَآمِنُوا بِهِ) : يعود على الله.


(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) : من للتبعيض ، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم ، قال معناه الزمخشري. وقيل : من زائدة ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، فلا يبقى معه تبعة. (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) : وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب ، وكذا قال ابن عباس : لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها. وقيل : لا ثواب لها إلا النجاة من النار ، وإليه كان يذهب أبو حنيفة. (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) : أي بفائت من عقابه ، إذ لا منجا منه ، ولا مهرب ، كقوله : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (١). وروي عن ابن عامر : وليس لهم بزيادة ميم. وقرأ الجمهور : (وَلَمْ يَعْيَ) ، مضارع عيي ، على وزن فعل ، بكسر العين ؛ والحسن : ولم يعي ، بكسر العين وسكون الياء ، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة ، كما قالوا في بقي : بقا ، وهي لغة لطيئ. ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين ، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين ، فجاء يعني. فلما دخل الجازم ، حذف الياء ، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين ، فسكنت الياء وبقي يعي. وقرأ الجمهور : (بِقادِرٍ) : اسم فاعل ، والباء زائدة في خبر أن ، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي. وقد أجاز الزجاج : ما ظننت أن أحدا بقائم ، قياسا على هذا ، والصحيح قصر ذلك على السماع ، فكأنه في الآية قال : أليس الله بقادر؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقررا لإحياء الموتى لا لرؤيتهم؟ وقرأ الجحدري ، وزيد بن علي ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى ، والأعرج : بخلاف عنه ؛ ويعقوب : يقدر مضارعا.

(أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) : أي يقال لهم ، والإشارة بهذا إلى العذاب. أي كنتم تكذبون بأنكم تعذبون ، والمعنى : توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ*) (٢). (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) ، تصديق حيث لا ينفع. وقال الحسن : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم ، يعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) : الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط : أي هذه حالهم مع الله. فلا تستعجل أنت واصبر ، ولا تخف إلا الله. وأولو العزم : أي أولو الجد من الرسل ، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. فتكون من للتبعيض ، وقيل : يجوز أن تكون للبيان ، أي الذين هم الرسل ، ويكون الرسل كلهم أولي

__________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ١٢.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٣٨ ، وسورة سبأ : ٣٤ / ٣٥ ، وسورة الصافات : ٣٧ / ٥٩.


العزم ؛ وأولوا العزم على التبعيض يقتضي أنهم رسل وغير رسل ؛ وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل ، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي ، وللبيان قول ابن زيد. وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام ، لأنه قال عقب ذكرهم : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١). وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلا ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر نفسه على الذبح ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال فصبر جميل ، ويوسف صبر على السجن والبئر ، وأيوب على البلاء. وزاد غيره : وموسى قال قومه : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٢) ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبر ، فاعبروها ولا تعمروها.

(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) : أي لكفار قريش بالعذاب ، أي لا تدع لهم بتعجيله ، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم مستقصرن حينئذ مدة لبثهم في الدنيا ، كأنهم (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً). وقرأ أبيّ : من النهار ؛ وقرأ الجمهور : من نهار. وقرأ الجمهور : بلاغ ، بالرفع ، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوا فيها ، كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم ، كما قال تعالى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ*) (٣) ، فبلاغ خبر مبتدأ محذوف. قيل : ويحتمل أن يكون بلاغ يعني به القرآن والشرع ، أي هذا بلاغ ، أي تبليغ وإنذار. وقال أبو مجلز : بلاغ مبتدأ وخبره لهم ؛ ويقف على فلا تستعجل ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، إذ ظاهر قوله : لهم ، أنه متعلق بقوله : فلا تستعجل لهم ، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ. وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى : بلاغا بالنصب ، فاحتمل أن يراد : بلاغا في القرآن ، أي بلغوا بلاغا ، أو بلغنا بلاغا. وقرأ الحسن أيضا : بلاغ بالجر ، نعتا لنهار. وقرأ أبو مجلز ، وأبو سراح الهذلي : بلغ علي الأمر ، للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا يؤيد حمل بلاغ رفعا ونصبا على أنه يعني به تبليغ القرآن والشرع. وعن أبي مجلز أيضا : بلغ فعلا ماضيا. وقرأ الجمهور : يهلك ، بضم الياء وفتح اللام ، وابن محيصن ، فيما حكى عنه ابن خالويه : بفتح الياء وكسر اللام ؛ وعنه أيضا : بفتح الياء واللام ، وماضيه هلك بكسر اللام ، وهي لغة. وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت : يهلك ، بضم الياء وكسر اللام. (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) : بالنصب ، وفي هذه الآية وعيد وإنذار.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٠.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦١ ـ ٦٢.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١١٧.


سورة محمّد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ


الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ


وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)

البال : الفكر ، تقول : خطر في بالي كذا ، ولا يثنى ولا يجمع ، وشذ قولهم : بآلات في جمعه. تعس الرجل ، بفتح العين ، تعسا : ضد تنعش ، وأتعسه الله. قال مجمع بن هلال :

تقول وقد أفردتها من حليلها

تعست كما أتعستني يا مجمع

وقال قوم ، منهم عمرو بن شميل ، وأبو الهيثم : تعس ، بكسر العين. وعن أبي عبيدة : تعسه الله وأتعسه : في باب فعلت وأفعلت. وقال ابن السكيت : التعس : أن يجز على الوجه ، والنكس : أن يجر على الرأس. وقال هو أيضا ، وثعلب : التعس : الهلاك. وقال الأعشى :

بذات لوث عفريات إذا عثرت

فالتعس أولى لها من أن أقول لعا

آسن : الماء تغير ريحه ، يأسن ويأسن ؛ ذكره ثعلب في الفصيح ، والمصدر : أسون وأسن ؛ بكسر السين. يأسن ، بفتحها ، لغة أسنا ، قاله اليزيدي. وأسن الرجل ، بالكسر لا غير : إذا دخل البئر ، فأصابته ريح من ريح البئر ، فغشي عليه ، أو دار رأسه. قال الشاعر :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

يميد في الريح ميدا لمائح الأسن


الأشراط : العلامات ، واحدها شرط ، بسكون الراء وبفتحها. قال أبو الأسود :

فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوله تبدو

وأشرط الرجل نفسه : ألزمها أمورا. قال أوس بن حجر :

فأشرط فيها نفسه وهو معصم

فألقى بأسباب له وتوكلا

العسل : معروف ، وعسل بن ذكوان رجل نحوي قديم. المعي : مقصور ، وألفه منقلبة عن ياء ، يدل عليه تثنيته معيان ، بقلب الألف ياء. والمعي : ما في البطن من الحوايا. القفل : معروف ، وأصله اليبس والصلابة. والقفل والقفيل : ما يبس من الشجر. والقفيل أيضا : نبت ، والقفيل : السوط ؛ وأقفله الصوم : أيبسه ، قاله الجوهري. آئفا وآنفا : هما اسما فاعل ، ولم يستعمل فعلهما ، والذي استعمل ائتنف ، وهما بمعنى مبتديا ، وتفسيرهما بالساعة تفسير معنى. وقال الزجاج : هو من استأنفت الشيء ، إذا ابتدأته. فأولى لهم ، قال صاحب الصحاح : قول العرب أولى لك : تهديد وتوعيد ، ومنه قول الشاعر :

فأولى ثم أولى ثم أولى

وهل للدار يحلب من مرد

انتهى. واختلفوا ، أهو اسم أو فعل؟ فذهب الأصمعي إلى أنه بمعنى قاربه ما يهلكه ، أي نزل به ، وأنشد :

تعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثلاث

أي : قارب أن يزيد. قال ثعلب : لم يقل أحد في أولى أحسن مما قال الأصمعي. وقال المبرد : يقال لمن هم بالعطب ، كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فينفلت منه فيقول : أولى لك رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه ، وقال :

فلو كان أولى يطعم القوم صيدهم

ولكن أولى يترك القوم جوّعا

والأكثرون على أنه اسم ، فقيل : هو مشتق من الولي ، وهو القرب ، كما قال الشاعر :

تكلفني ليلى وقد شط وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب

وقال الجرجاني : هو ما حول من الويل ، فهو أفعل منه ، لكن فيه قلب. الضغن والضغينة : الحقد. قال عمرو بن كلثوم :

فإن الضغن بعد الضغن يعسو

عليك ويخرج الداء الدفينا


وقد ضغن بالكسر ، وتضاغن القوم وأضغنوا : بطنوا الأحقاد. وقد ضغن عليه ، وأضغنت الصبي : أخذته تحت حضنك ، وأنشد الأحمر :

كأنه مضغن صبيا

وقال ابن مقبل : ما اضطغنت سلاحي عند معركها وفرس ضاغن : لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. وأصل الكلمة من الضغن ، وهو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء. وقال بشر : كذات الضغن تمشي في الزقاق وأنشد الليث :

إن فتاتي من صليات القنا

ما زادها التثقيف إلا ضغنا

والحقد في القلب يشبه به. وقال قطرب :

والليث أضغن العداوة

قال الشاعر :

قل لابن هند ما أردت بمنطق

نشأ الصديق وشيد الأضغانا

لحنت له : بفتح الحاء ، ألحن لحنا : قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى عن غيره ؛ ولحنه هو بالكسر : فهمه ؛ وألحنه : فهمه ؛ وألحنته أنا إياه ولا حنت الناس : فاطنتهم. وقال الشاعر :

منطق صائب ويلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

وقال القتال الكلابي :

ولقد وميت لكم لكيما تفهموا

ولحنت لحنا ليس بالمرتاب

وقيل : لحن القول : الذهاب عن الصواب ، مأخوذ من اللحن في الإعراب. وتره : نقصه ، مأخوذ من الدخل. وقيل من الوتر ، وهو الفرد.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ


بالَهُمْ ، ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ، فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ، ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ).

هذه السورة مدنية عند الأكثر. وقال الضحاك ، وابن جبير ، والسدي : مكية. وقال ابن عطية : مدنية بإجماع ، وليس كما قال ، وعن ابن عباس ، وقتادة : أنها مدنية ، إلا آية منها نزلت بعد حجه ، حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت ، وهي : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة جدا.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام ، أو صدوا غيرهم عنه ، وهم أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس : وهم المطعمون يوم بدر. وقال مقاتل : كانوا اثني عشر رجلا من أهل الشرك ، يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر ، وقيل : هم أهل الكتاب ، صدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام. وقال الضحاك : (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : عن بيت الله ، يمنع قاصديه ، وهو عام في كل من كفر وصد. (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : أي أتلفها ، حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع ، بل ضرر محض. وقيل : نزلت هذه الآية ببدر ، وأن الإشارة بقوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) إلى الاتفاق الذي اتفقوه في سفرهم إلى بدر. وقيل : المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية ، من صلة رحم وفك عان ونحو ذلك ؛ واللفظ يعم جميع ذلك.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : هم الأنصار. وقال مقاتل : ناس من قريش. وقيل : مؤمنو أهل الكتاب. وقيل : هو عام ؛ وعلى تقدير خصوص السبب في القبيلتين ، فاللفظ عام يتناول كل كافر وكل مؤمن. (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) : تخصيصه من بين ما يجب الإيمان به ، تعظيم لشأن الرسول ، وإعلام بأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به. وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). وقيل : (وَهُوَ الْحَقُ) : ناسخ لغيره ولا يرد عليه النسخ. وقرأ الجمهور : نزل مبنيا للمفعول ؛ وزيد بن علي ، وابن


مقسم : نزل مبنيا للفاعل ؛ والأعمش : أنزل معدى بالهمزة مبنيا للمفعول. وقرىء : نزل ثلاثيا. (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) : أي حالهم ، قاله قتادة ؛ وشأنهم ، قاله مجاهد ؛ وأمرهم ، قاله ابن عباس. وحقيقة لفظ البال أنها بمعنى الفكر ، والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب. فإذا صلح ذلك ، فقد صلحت حاله ، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم ، وغير ذلك من الحال تابع.

(ذلِكَ) : إشارة إلى ما فعل بالكفار من إضلال أعمالهم ، وبالمؤمنين من تكفير سيئاتهم وإصلاح حالهم. وذلك مبتدأ وما بعده الخبر ، أي كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك ، أي كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوبا. انتهى. ولا حاجة إلى الإضمار مع صحة الوجه وعدم الإضمار. والباطل : ما لا ينتفع به. وقال مجاهد : الشيطان وكل ما يأمر به ؛ والحق : هو الرسول والشرع ، وهذا الكلام تسميه علماء البيان : التفسير. (كَذلِكَ يَضْرِبُ) : قال ابن عطية : الإشارة إلى اتباع المذكورين من الفريقين ، أي كما اتبعوا هذين السبيلين ، كذلك يبين أمر كل فرقة ، ويجعل لها ضربها من القول وصفها ؛ وضرب المثل من الضرب الذي هو بمعنى النوع. وقال الزمخشري : كذلك ، أي مثل ذلك الضرب. (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) لأجل الناس ليعتبروا بهم. فإن قلت : أين ضرب الأمثال؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ؛ أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي في أي زمان ليقتموهم ، فاقتلوهم. وفي قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) ، أي في أي مكان ، فعم في الزمان وفي المكان. وقال الزمخشري : لقيتم ، من اللقاء ، وهو الحرب. انتهى. (فَضَرْبَ الرِّقابِ) : هذا من المصدر النائب مناب فعل الأمر ، وهم مطرد فيه ، وهو منصوب بفعل محذوف فيه ، واختلف فيه إذا انتصب ما بعده فقيل : هو منصوب بالفعل الناصب للمصدر ؛ وقيل : هو منصوب بنفس المصدر لنيابته عن العامل فيه ، ومثاله : ضربا زيدا ، كما قال الشاعر :

على حين ألهى الناس جل أمورهم

فندلا زريق المال ندل الثعالب

وهذا هو الصحيح ، ويدل على ذلك قوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) ، وهو إضافة المصدر

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٥.


للمفعول ، ولو لم يكن معمولا له ، ما جازت إضافته إليه. وضرب الرقاب عبارة عن القتل ؛ ولما كان القتل للإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، عبر بذلك عن القتل ، ولا يراد خصوصية الرقاب ، فإنه لا يكاد تتأتى حالة الحرب أن تضرب الرقاب ، وإنما يتأتى القتال في أي موضع كان من الأعضاء. ويقال : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته وما فيه عيناه ، إذا قتله ، كما عبر بقوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (١) عن سائر الأفعال ، لما كان أكثر الكسب منسوبا إلى الأيدي. قال الزمخشري : وفي هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. وقد زاد في هذه في قوله : (فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (٢). انتهى. ولما في ذلك من تشجيع المؤمنين ، وأنهم من الكفار بحيث هم متمكنون منهم إذا أمروا بضرب رقابهم. (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) : أي أكثرتم القتل فيهم ، وهذه غاية للضرب ، فإذا وقع الإثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الأسرى ، (فَإِمَّا مَنًّا) بالإطلاق ، (وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) : أي أثقالها وآلاتها. ومنه قول عمرو بن معدي كرب :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

أنشده ابن عطية لعمرو هذا ، وأنشده الزمخشري للأعشى. وقيل : الأوزار هنا : الآثام ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين ، وهذه الغاية. قال مجاهد : حتى ينزل عيسى بن مريم. وقال قتادة : حتى يسلم الجميع ؛ وقيل : حتى تقتلوهم. وقال ابن عطية : وظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا يضيع أوزارها ، فجاء هذه ، كما تقول : أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد أنك تفعله دائما. وقال الزمخشري : وسميت ، يعني آلات الحرب من السلاح والكراع ، أوزارها ، لأنه لما لم يكن لها بد من جرها ، فكأنها تحملها وتستقل بها ؛ فإذا انقضت ، فكأنها وضعتها. وقيل : أوزارها : آثامها ، يعني حتى يترك أهل الحرب ، وهم المشركون ، شركهم ومعاصيهم ، بأن يسلموا. والظاهر أن ضرب الرقاب ، وهو القتل مغيا بشد الوثاق وقت حصول الإثخان ، وأن قوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) ، أي بعد الشد ، (وَإِمَّا فِداءً) ، حالتان للمأسور ، إما أن يمن عليه بالإطلاق ، كما منّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإطلاق

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٠.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ١٢.


ثمامة بن أثال الحنفي ، وأما أن يفدى ، كما روي عنه عليه‌السلام أنه فودي منه رجلان من الكفار برجل مسلم.

وهذه الآية معارض ظاهرها لقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١). فذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي ، والضحاك ، ومجاهد ، إلى أنها منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الآية ، وأن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فإن وقع أسير قتل ولا بد إلا أن يسلم. وروي نحوه عن أبي بكر الصديق ، وذهب ابن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، والحسن ، إلى أن هذه مخصصة لعموم تلك ، والمنّ والفداء ثابت. وقال الحسن : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو. وذهب أكثر العلماء إلى أن أهل الكتاب فيهم المنّ والفداء وعباد الأوثان ، ليس فيهم إلا القتل ، فخصصوا من المشركين أهل الكتاب ، وخصص من الكفار عبدة الأوثان. وأما مذهب الأئمة اليوم : فمذهب أبي حنيفة أن الإمام يخير في القتل والاسترقاق ؛ ومذهب الشافعي أنه مخير في القتل والاسترقاق والفداء والمن ؛ ومذهب مالك أنه مخير في واحد من هذه الأربعة ، وفي ضرب الجزية. والظاهر أن قوله : (وَإِمَّا فِداءً) ، يجوز فداؤه بالمال وبمن أسر من المسلمين. وقال الحسن : لا يفدى بالمال. وقرأ السلمي : فشدوا ، بكسر الشين ، والجمهور : بالضم. والوثاق : بفتح الواو ، وفيه لغة الوثاق ، وهو اسم لما يوثق به ، وانتصب منا وفداء بإضمار فعل يقدر من لفظهما ، أي فإما تمنون منا ، وإما تفدون فداء ، وهو فعل يجب إضماره ، لأن المصدر جاء تفصيل عاقبة ، فعامله مما يجب إضماره ، ونحوه قول الشاعر :

لأجهدنّ فإما درء واقعة

تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل

أي : فإما أدرأ درأ واقعة ، وإما أبلغ بلوغ السؤل. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكونا مفعولين ، أي أدوهم منا واقبلوا ، وليس إعراب نحوي. وقرأ ابن كثير في رواية شبل : وإما فدى بالقصر. قال أبو حاتم : لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته ، وهذا ليس بشيء ، فقد حكى الفراء فيه أربع لغات : فداء لك بالمد والإغراء ، وفدى لك بالكسر بياء والتنوين ، وفدى لك بالقصر ، وفداء لك. والظاهر من قوله : (فَإِمَّا مَنًّا) : المن بالإطلاق ، كما منّ الرسول عليه الصلاة والسلام على ثمامة ، وعلى أبي عروة الحجبي. وفي كتاب الزمخشري : كما منّ

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٥.


على أبي عروة الحجبي ، وأثال الحنفي ، فغير الكنية والاسم ، ولعل ذلك من الناسخ ، لا في أصل التصنيف. وقيل : يجوز أن يراد بالمنّ : أي يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا ، أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وكونهم من أهل الذمة.

والظاهر أن قوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) غاية لقوله : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) ، لأنه قد غيا فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان. فلا يمكن أن يغيا بغاية أخرى لتدافع الغايتين ، إلا إن كانت الثانية مبينة للأولى ومؤكدة ، فيجوز ، لأن شد الوثاق للأسرى لا يكون إلا حتى تضع الحرب أوزارها. إذا فسرنا ذلك بانتفاء شوكة الكفار الملقيين إذ ذاك ، ويكون الحرب المراد بها التي تكون وقت لقاء المؤمنين للكفار ، ويجوز أن يكون المغيا محذوفا يدل عليه المعنى ، التقدير : الحكم ذلك حتى تضع الحرب أوزارها ، أي لا يبقى شوكة لهم. أو كما قال ابن عطية : إنها استعارة بمعنى إلى يوم القيامة ، أي اصنعوا ذلك دائما. وقال الزمخشري : فإن قلت : حتى بم تعلقت؟ قلت : لا يخلو من أن تتعلق إما بالضرب والشد ، أو بالمنّ والفداء. فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه‌الله : أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن يكون حرب مع المشركين ، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وقيل : إذا نزل عيسى بن مريم ؛ وعند أبي حنيفة رحمه‌الله : إذا علق بالضرب والشد. فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حتى لا يبقى شوكة للمشركين. وإذا علق بالمن والفداء ، فالمعنى : أنهم يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها ، إلى أن تناول المن والفداء ، يعني : بتناول المن بأن يتركوا عن القتل ويسترقوا ، أي بالتخلية بضرب الجزية بكونهم من أهل الذمة ، وبالعذاب أن يفادى بأسارى المشركين أسارى المسلمين. وقد رواه الطحاوي مذهبا لأبي حنيفة ؛ والمشهور أنه لا يرى فداءهم بمال ولا غيره ، خيفة أن يعودوا حدبا للمسلمين. (ذلِكَ) : أي الأمر ذلك إذا فعلوا.

(ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) : أي لا أنتقم منهم ببعض أسباب الهلاك ، من خسف ، أو رجفة ، أو حاصب ، أو غرق ، أو موت جارف. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا) : أي ولكن : أمركم بالقتال ليبلو بعضكم ، وهم المؤمنون ، أي يختبرهم ببعض ، وهم الكافرون ، بأن يجاهدوا ويصبروا ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقرأ الجمهور : قاتلوا ، بفتح القاف والتاء ، بغير ألف ؛ وقتادة ، والأعرج ، والأعمش ، وأبو عمرو ، وحفص : قتلوا مبنيا للمفعول ، والتاء خفيفة ، وزيد بن ثابت ،


والحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى ، والجحدري أيضا : كذلك. وقرأ علي : (فَلَنْ يُضِلَ) مبنيا للمفعول ؛ (أَعْمالَهُمْ) : رفع. وقرىء : يضل ، بفتح الياء ، من ضل أعمالهم : رفع. (سَيَهْدِيهِمْ) : أي إلى طريق الجنة. وقال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطؤون ، لأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا ، لا يستبدلوا عليها. وروى عياض عن أبي عمرو : (وَيُدْخِلُهُمُ) ، و (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) (١) ، و (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ) (٢) ، بسكون لام الكلمة. (عَرَّفَها لَهُمْ) ، عن مقاتل : أن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله. وقال أبو سعيد الخدري ، ومجاهد ، وقتادة : معناه بينها لهم ، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها. وفي الحديث لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزلة في الدنيا. وقيل : سماها لهم ورسمها كل منزل بصاحبه ، وهذا نحو من التعريف.

يقال : عرف الدار وأرفها : أي حددها ، فجنة كل أحد مفرزة عن غيرها. والعرف والأرف : الحدود. وقيل : شرفها لهم ورفعها وعلاها ، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها. وقال مؤرج وغيره : طيبها ، مأخوذ من العرف ، ومنه : طعام معرف : أي مطيب ، أي وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل.

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) : أي دينه ، (يَنْصُرْكُمْ) : أي على أعدائكم ، بخلق القوة فيكم ، وغير ذلك من المعارف. (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) : أي في مواطن الحرب ، أو على محجة الإسلام. وقرأ الجمهور : (وَيُثَبِّتْ) : مشددا ، والمفضل عن عاصم : مخففا. (فَتَعْساً لَهُمْ) : قال ابن عباس : بعد الهم ؛ وابن جريج ، والسدي : حزنا لهم ؛ والحسن : شتما ؛ وابن زيد : شقاء ؛ والضحاك : رغما ؛ وحكى النقاش : قبحا. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) : مبتدأ ، والفاء داخلة في خبر المبتدأ وتقديره : فتعسهم الله تعسا. فتعسا : منصوب بفعل مضمر ، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله : (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ). ويجوز أن يكون الذين منصوبا على إضمار فعل يفسره قوله : (فَتَعْساً لَهُمْ) ، كما تقول : زيدا جدعا له. وقال الزمخشري : فإن قلت : على م عطف قوله : وأضل أعمالهم؟ قلت : على الفعل الذي نصب تعسا ، لأن المعنى : فقال تعسا لهم ، أو فقضى تعسا لهم ؛ وتعسا لهم نقيض لعى له. انتهى. وإضمار ما هو من لفظ المصدر أولى ، لأن فيه دلالة على ما حذف. وقال ابن عباس : يريد في الدنيا القتل ، وفي الآخرة التردي في النار. انتهى. وفي قوله : (فَتَعْساً

__________________

(١) سورة التغابن : ٦٤ / ٩.

(٢) سورة الإنسان : ٧٦ / ٩.


لَهُمْ) : أي هلاكا بأداة تقوية لقلوب المؤمنين ، إذ جعل لهم التثبيت ، وللكفار الهلاك والعثرة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) : يشمل ما أنزل من القرآن في بيان التوحيد ، وذكر البعث والفرائض والحدود ، وغير ذلك مما تضمنه القرآن. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) : أي جعلها من الأعمال التي لا تزكوا ولا يعتد بها. (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) : أي أفسد عليهم ما اختصوا به من أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، وكل ما كان لهم وللكافرين أمثالها. تلك العاقبة والتدميرة التي يدل عليها دمّر والهلكة ، لأن التدمير يدل عليها ، أو السنة ، لقوله عزوجل : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا*) (١). والوجه الأول هو الراجح ، لأن العاقبة منطوق بها ، فعاد الضمير على الملفوظ به ، وما بعده مقول القول. (ذلِكَ بِأَنَ) : ابتداء وخبر ، والإشارة بذلك إلى النصر في اختيار جماعة ، وإلى الهلاك ، كما قال : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) ، قال ذلك الهلاك الذي جعل للكفار بأيدي المؤمنين بسبب أن (اللهِ مَوْلاهُمُ*) : أي ناصرهم ومؤيدهم ، وأن الكافرين لا ناصر لهم ، إذ اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر ، وتركوا عبادة من ينفع ويضر ، وهو الله تعالى.

قال قتادة : نزلت هذه الآية يوم أحد ، ومنها انتزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رده على أبي سفيان حين قال : «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» ، حين قال المشركون : إن لنا عزى ، ولا عزى لكم.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ ، أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ، مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٨ ـ ٦٢.


جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ).

(يَتَمَتَّعُونَ) : أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياما قلائل ، (وَيَأْكُلُونَ) ، غافلين غير مفكرين في العاقبة ، (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) في مسارحها ومعالفها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح. والكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير المصدر ، كما يقول سيبويه ، أي يأكلونه ، أي الأكل مشبها أكل الأنعام. والمعنى : أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر ، كما يقال للجاهل : يعيش كما تعيش البهيمة ، لا يريد التشبيه في مطلق العيش ، ولكن في لازمه. (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) : أي موضع إقامة. ثم ضرب تعالى مثلا لمكة والقرى المهلكة على عظمها ، كقرية عاد وغيرهم ، والمراد أهلها ، وأسند الإخراج إليها مجازا. والمعنى : كانوا سبب خروجك ، وذلك وقت هجرته عليه‌السلام إلى المدينة. وكما جاء في حديث ورقة بن نوفل : يا ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك ، قال : أو مخرجي هم؟ وقال ابن عطية : ونسب الإخراج إلى القرية حملا على اللفظ ، وقال : (أَهْلَكْناهُمْ) ، حملا على المعنى. انتهى. وظاهر هذا الكلام لا يصح ، لأن الضمير في أهلكناهم ليس عائدا على المضاف إلى القرية التي أسند إليها الإخراج ، بل إلى أهل القرية في قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) ، وهو صحيح ، لكن ظاهر قوله حملا على اللفظ وحملا على المعنى : أي أن يكون في مدلول واحد ، وكان يبقى كأين مفلتا غير محدث عنه بشيء ، إلا أن وقت إهلاكهم كأنه قال : فهم لا ينصرون إذ ذاك. وقال ابن عباس : لما أخرج من مكة إلى الغار ، التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحب بلاد الله إليّ ، فلو أن المشركين لم يخرجوني ، لم أخرج منك ، فأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه ، أو قتل غير قاتله. وقيل : بدخول الجاهلية قال : فأنزل الله تعالى ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية ؛ وقد تقدّم أول السورة عن ابن عباس خلاف هذا القول.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : استفهام توقيف وتقرير على كل شيء متفق عليه ، وهي معادلة بين هذين الفريقين. قال قتادة : والإشارة إلى الرسول وإلى كفار قريش. انتهى. واللفظ عام لأهل الصنفين. ومعنى على بينة : واضحة ، وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات. (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) : وهو الشرك والكفر بالله وعبادة غيره. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) : أي شهوات أنفسهم ممن لا يكون له بينة ، فعبدوا غير خالقهم. والضمير في واتبعوا عائد على معنى من ، وقرىء أمن كان بغير فاء. (مَثَلُ الْجَنَّةِ) : أي صفة الجنة ،


وهو مرفوع بالابتداء. قال الزمخشري : قال النضر بن شميل : كأنه قال : صفة الجنة ، وهو ما تسمعون. انتهى. فما تسمعون الخبر ، وفيها أنها تفسير لتلك الصفة ، فهو استئناف إخبار عن تلك الصفة. وقال سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، وقدر الخبر المحذوف متقدما ، ثم فسر ذلك الذي يتلى. وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، كأنه قيل : مثل الجنة ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف. وكان ابن عطية قد قال قبل هذا : ويظهر أن القصد بالتمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه. فههنا كذا ، فكأنه يتصور عند ذلك اتباعا على هذه الصورة ، وذلك هو مثل الجنة. قال : وعلى هذه التأويلات ، يعني قول النضر وقول سيبويه ، وما قاله هو يكون قبل قوله : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) حذف تقديره : أساكن؟ أو أهؤلاء؟ إشارة إلى المتقين. قيل : ويحتمل عندي أن يكون الحذف في صدر هذه الآية ، كأنه قال : مثل أهل الجنة ، وهي بهذه الأوصاف ، (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). ويجيء قوله : (فِيها أَنْهارٌ) في موضع الحال على هذا التأويل. انتهى. ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه. قال : ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبر من هو خالد في النار. وقوله : (فِيها أَنْهارٌ) ، في حكم الصلة ، كالتكرير لها. ألا ترى إلى سر قوله : التي فيها أنهار؟ ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف هي : فيها أنهار ، كأن قائلا قال : وما مثلها؟ فقيل : فيها أنهار.

وقال الزمخشري أيضا : فإن قلت : ما معنى قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ)؟ قال : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). قلت : هو كلام في صورة الإثبات ، ومعناه النفي والإنكار ، لانطوائهم تحت كلام مصدر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في مسلكه ، وهو قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) ، فكأنه قيل : مثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار. فإن قلت : لم عري من حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من سوى بين المستمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم ، ونظيره قول القائل :

أفرح إن أرزأ الكرام وإن

أورث ذودا شصائصا نبلا

هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود ، مع تعريته من حرف الإنكار ، لانطوائه تحت حكم من قال : أتفرح بموت أخيك ، وبوارثة إبله؟ والذي طرح لأجله حرف


الإنكار إرادة أن يصور قبح ما أذن به ، فكأنه قال : نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام ، وبأن يستبدل منهم ذودا يقل طائله ، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار. انتهى. وتلخص من هذا الاتفاق على إعراب : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ ، واختلفوا في الخبر ، فقيل : هو مذكور ، وهو : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). وقيل : محذوف ، فقيل : مقدر قبله ، وهو قول سيبويه. وقيل : بعده ، وهو قول النضر وابن عطية على اختلاف التقدير. ولما بين الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال ، بين الفرق بينهما فيما يؤولان إليه. وكما قدم من على بينة ، على من اتبع هواه ، قدّم حاله على حاله.

وقرأ ابن كثير وأهل مكة : آسن ، على وزن فاعل ، من أسن ، بفتح السين ؛ وقرىء : غير ياسن بالياء. قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمز. (لَمْ يَتَغَيَّرْ) ، وغيره. و (لَذَّةٍ) : تأنيث لذ ، وهو اللذيذ ، ومصدر نعت به ، فالجمهور بالجر على أنه صفة لخمر ، وقرىء بالرفع صفة لأنهار ، وبالنصب : أي لأجل لذة ، فهو مفعول له. (مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) قال ابن عباس : لم يخرج من بطون النحل. قيل : فيخالطه الشمع وغيره ، ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير ، وهو مما يذكر ويؤنث. وعن كعب : أن النيل ودجلة والفرات وجيحان ، تكون هذه الأنهار في الجنة. واختلف في تعيين كل ، فهو منها لما ذا يكون ينزل ، وبدىء من هذه الأنهار بالماء ، وهو الذي لا يستغنى عنه في المشروبات ، ثم باللبن ، إذ كان يجري مجرى الطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم ، ثم بالخمر ، لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس إلى ما تلتذ به ، ثم بالعسل ، لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم ، فهو متأخر في الهيئة.

(وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، وقيل : المبتدأ محذوف ، أي أنواع من كل الثمرات ، وقدره بعضهم بقوله : زوجان. (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) : لأن المغفرة قبل دخول الجنة ، أو على حذف ، أي بنعيم مغفرة ، إذ المغفرة سبب التنعيم. (وَسُقُوا) : عائد على معنى من ، وهو خالد على اللفظ ؛ وكذا : (خَرَجُوا) : على معنى من يستمع. كان المنافقون يحضرون عند الرسول ويستمعون كلامه وتلاوته ، فإذا خرجوا ، (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، وهم السامعون كلام الرسول حقيقة الواعون له : (ما ذا قالَ آنِفاً)؟ أي الساعة ، وذلك على سبيل الهزء والاستخفاف ، أي لم نفهم ما يقول ، ولم ندر ما نفع ذلك. وممن سألوه : ابن مسعود. وآنفا : حال ؛ أي مبتدأ ، أي : ما القول الذي ائتنفه قبل انفصاله عنه؟ وقرأ الجمهور : آنفا ، على وزن فاعل ؛ وابن كثير : على وزن فعل. وقال


الزمخشري : وآنفا نصب على الظرف. انتهى. وقال ذلك لأنه فسره بالساعة. وقال ابن عطية ، والمفسرون يقولون : آنفا ، معناه : الساعة الماضية القريبة منا ، وهذا تفسير بالمعنى. انتهى. والصحيح أنه ليس بظرف ، ولا نعلم أحدا من النحاة عده في الظروف. والضمير في (زادَهُمْ) عائد على الله ، كما أظهره قوله : (طَبَعَ اللهُ) ، إذ هو مقابلهم ، وكما هو في : (وَآتاهُمْ) ؛ والزيادة في هذا المعنى تكون بزيادة التفهيم والأدلة ، أو بورود الشرع بالأمر والنهي والإخبار ، فيزيد المهدي لزيادة علم ذلك والإيمان به. قيل : ويحتمل أن يعود على قول المنافقين واضطرابهم ، لأن ذلك مما يعجب به المؤمن ويحمد الله على إيمانه ويزيد نصرة في دينه. وقيل : يعود على قول الرسول (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) : أي أعطاهم ، أي جعلهم متقين له ؛ فتقواهم مصدر مضاف للفاعل.

(أَنْ تَأْتِيَهُمْ) : بدل اشتمال من الساعة ، والضمير للمنافقين ؛ أي الأمر الواقع في نفسه انتظار الساعة ، وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك ؛ لأن ما في أنفسهم غير مراعى ، لأنه باطل. وقرأ أبو جعفر الرواسي عن أهل مكة : أن تأتهم على الشرط ، وجوابه : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) ، وهذا غير مشكوك فيه ، لأنها آتية لا محالة. لكن خوطبوا بما كانوا عليه من الشك ، ومعناه : إن شككتم في إثباتها فقد جاء أعلامها ؛ فالشك راجع إلى المخاطبين الشاكين. وقال الزمخشري : فإن قلت : فما جزاء الشرط؟ قلت : قولهم : (فَأَنَّى لَهُمْ) ، ومعناه : أن تأتيهم الساعة ، فكيف لهم ذكراهم ، أي تذكرهم واتعاظهم؟ إذا جاءتهم الساعة يعني لا تنفعهم الذكرى حينئذ لقوله : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) و (أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) (١). فإن قلت : بم يتصل قوله ، وقد جاء أشراطها على القراءتين؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك : إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه. وقرأ الجعفي ، وهارون ، عن أبي عمرو : (بَغْتَةً) ، بفتح العين وشد التاء. قال صاحب اللوامح : وهي صفة ، وانتصابها على الحال لا نظير لها في المصادر ولا في الصفات ، بل في الأسماء نحو : الحرية ، وهو اسم جماعة ، والسرية اسم مكان. انتهى. وكذا قال أبو العباس بن الحاج ، من أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين ، في (كتاب المصادر) على أبي عمرو : أن يكون الصواب بغتة ، بفتح الغين من غير تشديد ، كقراءة الحسن فيما تقدم. انتهى. وهذا على عادته في تغليظ الرواية.

__________________

(١) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٣.


(فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) : أي علاماتها ، فينبغي الاستعداد لها. ومن أشراط الساعة مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ هو خاتم الأنبياء. وروي عنه أنه قال : «أنا من أشراط الساعة». وقال : «بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان». وقيل : منها الدخان وانشقاق القمر. وعن الكلبي : كثرة المال ، والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام. (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) : الظاهر أن المعنى : فكيف لهم الذكرى والعمل بها إذا جاءتهم الساعة؟ أي قد فاتها ذلك. قيل : ويحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا ، أي : فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما كانوا يخبرون به فيكذبون به بتواصله بالعذاب؟ ثم أضرب عن ذكر المنافقين وقال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، والمعنى : دم على عملك بتوحيد. واحتج بهذا على قول من قال : أول الواجبات العلم والنظر قبل القول والإقرار. وفي الآية ما يدل على التواضع وهضم النفس ، إذ أمره بالاستغفار ، ومع غيره بالاستغفار لهم.

(مُتَقَلَّبَكُمْ) : متصرفكم في حياتكم الدنيا. (وَمَثْواكُمْ) : إقامتكم في قبوركم وفي آخرتكم. وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، ومثواكم : إقامتكم في الأرض. وقال الطبري وغيره. متقلبكم : تصرفكم في يقظتكم ، ومثواكم : منامكم. وقيل : متقلبكم في معائشكم ومتاجركم ، ومثواكم حيث تستفزون من منازلكم. وقيل : متقلبكم بالتاء ، وابن عباس بالنون.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ ، طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ، إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ، فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

كان المؤمنون حريصين على ظهور الإسلام وعلو كلمته وتمني قتل العدو ، وكانوا يستأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ. والله تعالى قد جعل ذلك بابا ومضروبة لا يتعدى. فمدح تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة ، والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة


العدو ، وفضح أمر المنافقين. والظاهر أن ظاني ذلك هم خلص في إيمانهم ، ولذلك قال بعد (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). وقال الزمخشري : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ، ويتمنونه بألسنتهم ، ويقولون : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) في معنى الجهاد. (فَإِذا أُنْزِلَتْ) ، وأمروا فيها بما ثمنوا وحرصوا عليه ، كاعوا وشق عليهم وسقطوا في أيديهم ، كقوله : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) (١). انتهى ؛ وفيه تخويف لما يدل عليه لفظ القرآن و (لَوْ لا) : بمعنى هلا ؛ وعن أبي مالك : لا زائدة ، والتقدير : لو نزلت ، وهذا ليس بشيء. وقرىء : فإذا نزلت. وقرأ زيد بن علي : سورة محكمة ، بنصبهما ، ومرفوع نزلت بضم ، وسورة نصب على الحال. وقرأ هو وابن عمر : (وَذُكِرَ) مبنيا للفاعل ، أي الله. (فِيهَا الْقِتالُ) ونصب. الجمهور : برفع سورة محكمة على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وبناء وذكر للمفعول ، والقتال رفع به ، وإحكامها كونها لا تنسخ. قال قتادة : كل سورة فيها القتال ، فهي محكمة من القرآن ، لا بخصوصية هذه الآية ، وذلك أن القتال نسخ ما كان من المهادنة والصلح ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. وقيل : محكمة بالحلال والحرام. وقيل : محكمة أريدت مدلولات ألفاظها على الحقيقة دون المتشابه الذي أريد به المجاز ، نحو قوله : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) ، (فِي جَنْبِ اللهِ) (٣) ، (فَضَرْبَ الرِّقابِ).

(رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) : أي تشخص أبصارهم جبنا وهلعا. (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ) : أي نظرا كما ينظر من أصابته الغشية من أجل حلول الموت. وقيل : يفعلون ذلك ، وهو شخوص البصر إلى الرسول من شدة العداوة. وقيل : من خشية الفضيحة ، فإنهم إن يخالفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم. وأولى لهم : تقدم شرحه في المفردات. وقال قتادة : كأنه قال : العقاب أولى لهم. وقيل : وهم المكروه ، وأولى وزنها أفعل أو أفلع على الاختلاف ، لأن الاستفعال الذي ذكرناه في المفردات. فعلى قول الجمهور : إنه اسم يكون مبتدأ ، والخبر لهم. وقيل : أولى مبتدأ ، ولهم من صلته وطاعة خبر ؛ وكأن اللام بمعنى الباء ، كأنه قيل : فأولى بهم طاعة. ولم يتعرض الزمخشري لإعرابه ، وإنما قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليه المكروه. وعلى قول الأصمعي : أنه فعل يكون فاعله مضمرا يدل عليه المعنى. وأضمر لكثرة الاستعمال كأنه قال : قارب لهم هو ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٧٧.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٥.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٥٦.


أي الهلاك. قال ابن عطية : والمشهور من استعمال العرب أولى لك فقط على جهة الحذف والاختصار ، لما معها من القوة ، فيقول ، على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان. وهذه الآية من هذا الباب. ومنه قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى *) (١). وقول الصديق للحسن رضي‌الله‌عنهما : أولى لك انتهى.

والأكثرون على أن : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين ، إما الخبر وتقديره : أمثل ، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل ؛ وإما المبتدأ وتقديره : الأمر أو أمرنا طاعة ، أي الأمر المرضي لله طاعة. وقيل : هي حكاية قولهم ، أي قالوا طاعة ، ويشهد له قراءة أبيّ يقولون : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ، وقولهم هذا على سبيل الهزء والخديعة. وقال قتادة : الواقف على : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ) ابتداء وخبر ، والمعنى : أن ذلك منهم على جهة الخديعة. وقيل : طاعة صفة لسورة ، أي فهي طاعة ، أي مطاعة. وهذا القول ليس بشيء لحيلولة الفصل لكثير بين الصفة والموصوف. (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) : أي جد ، والعزم : الجد ، وهو لأصحاب الأمر. واستعير للأمر ، كما قال تعالى : (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٢). وقال الشاعر :

قد جدت بهم الحرب فجدوا

والظاهر أن جواب إذا قوله : (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) ، كما تقول : إذا كان الشتاء ، فلو جئتني لكسوتك. وقيل : الجواب محذوف تقديره : فإذا عزم الأمر هو أو نحوه ، قاله قتادة. ومن حمل (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ، على أنهم يقولون ذلك خديعة قدّرناه (عَزَمَ الْأَمْرُ) ، فاقفوا وتقاضوا ، وقدره أبو البقاء فأصدّق ، (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) فيما زعموا من حرصهم على الجهاد ، أو في إيمانهم ، وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم ، أو في قلوبهم (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ). (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) : التفات للذين في قلوبهم مرض ، أقبل بالخطاب عليهم على سبيل التوبيخ وتوقيفهم على سوء مرتكبهم ، وعسى تقدّم الخلاف في لغتها. وفي القراءة فيها ، إذا اتصل بها ضمير الخطاب في سورة البقرة ، واتصال الضمير بها لغة الحجاز ، وبنو تميم لا يلحقون بها الضمير. وقال أبو عبد الله الرازي : وقد ذكروا أن عسى يتصل بها ضمير الرفع وضمير النصب ، وأنها لا يتصل بها ضمير قال : وأما قول من قال : عسى أنت تقوم ، وعسى أن أقوم ، فدون ما ذكرنا لك تطويل الذي فيه. انتهى. ولا أعلم أحدا من نقله العرب ذكر انفصال الضمير بعد عسى ، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط ، وهو أن توليتم.

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٣٤.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٣.


وقرأ الجمهور : (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ، ومعناه إن أعرضتم عن الإسلام. وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله؟ ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرحمن؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول. وقال كعب ، ومحمد بن كعب ، وأبو العالية ، والكلبي : إن توليتم ، أي أمور الناس من الولاية ؛ ويشهد لها قراءة وليتم مبنيا للمفعول. وعلى هذا قيل : نزلت في بني هاشم وبني أمية. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن توليتم» ؛ بضم التاء والواو وكسر اللام ، وبها قرأ علي وأويس ، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل. وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات ، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم. وقيل معناه : إن تولاكم الناس : وكلكم الله إليهم ؛ والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال ، وهو الذي سبقت الآيات فيه ، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال.

و (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بعدم معونة أهل الإسلام ، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم. ويدل على ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ). فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوبا إليه تعالى ، لأنه عالم بما كان وما يكون ، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين ، كأنه يقول لهم : لنا علم من حيث ضياعهم. هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا؟ وقرأ الجمهور : (تُقَطِّعُوا) ، بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو ، في رواية ، وسلام ، ويعقوب ، وأبان ، وعصمة : بالتخفيف ، مضارع قطع ؛ والحسن : وتقطعوا ، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر ، أي أرحامكم ، لأن تقطع لازم. (أُولئِكَ) إشارة إلى المرضى القلوب ، (فَأَصَمَّهُمْ) عن سماع الموعظة ، (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) عن طريق الهدى. وقال الزمخشري : لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم إلطافه ، وخذلهم حتى عموا. انتهى. وهو على طريق الاعتزال. وجاء التركيب : فأصمهم ، ولم يأت فأصم آذانهم ؛ وجاء : وأعمى أبصارهم ، ولم يأت وأعماهم. قيل : لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الأبصار ، فالعين لها مدخل في الرؤية ، والأذن لها مدخل في السمع. انتهى. ولهذا جاء : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) (١) ، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ*) (٢) ، ولم يأت : وعلى آذانهم ، ولا يأتي : وجعل لكم الآذان. وحين ذكر الأذن ، نسبت إليه الوقر ، وهو دون الصمم ، كما قال : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٧٨.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٥.


(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) : أي يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، وهو استفهام توبيخي وتوقيفي على محاربهم. (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) : استعارة للذين منهم الإيمان ، وأم منقطعة بمعنى بل ، والهمزة للتقرير ، ولا يستحيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يصل إليها ذكر ، ولم يحتج إلى تعريف القلوب ، لأنه معلوم أنها قلوب من ذكر. ولا حاجة إلى تقدير صفة محذوف ، أي أم على قلوب أقفالها قاسية. وأضاف الأقفال إليها ، أي الأقفال المختصة ، أو هي أقفال الكفر التي استغلقت ، فلا تفتح. وقرىء : إقفالها ، بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، وأقفلها بالجمع على أفعل. (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) قال قتادة : نزلت في قوم من اليهود ، وكانوا عرفوا أمر الرسول من التوراة. وتبين لهم بهذا الوجه ؛ فلما باشروا أمره حسدوه ، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى. وقال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ، ثم ماتت قلوبهم. والآية تتناول كل من دخل في ضمن لفظها.

وتقدم الكلام على (سَوَّلَ) في سورة يوسف. وقال الزمخشري : سول لهم ركوب العظائم ، من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا. انتهى. وقال أبو علي الفارسي : بمعنى ولا هم من السول ، وهو الاسترخاء والتدلي. وقال غيره : سولهم : زجاهم. وقال ابن بحر : أعطاهم سؤلهم. وقول الزمخشري ، وقد اشتقه إلى آخره ، ليس بجيد ، لأنه توهم أن السول أصله الهمزة. واختلف المادتان ، أو عين سول واو ، وعين السؤل همزة ؛ والسول له مادتان : إحداهما الهمز ، من سأل يسئل ؛ والثانية الواو ، من سال يسال. فإذا كان هكذا ، فسول يجوز أن يكون من ذوات الهمز. وقال صاحب اللوامح : والتسويل أصله من الإرخاء ، ومنه : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) (١). والسول : استرخاء البطن. وقرأ زيد بن علي : (سَوَّلَ لَهُمْ) : أي كيده على تقدير حذف مضاف. وقرأ الجمهور : (وَأَمْلى لَهُمْ) مبنيا للفاعل ، والظاهر أنه يعود على الشيطان ، وقاله الحسن ، وجعل وعده الكاذب بالبقاء ، كالإبقاء. والإبقاء هو البقاء ملاوة من الدهر يمد لهم في الآمال والأماني. قيل : ويحتمل أن يكون فاعل أملى ضميرا يعود على الله ، وهو الأرجح ، لأن حقيقة الإملاء إنما هو من الله. وقرأ ابن سيرين ، والجحدري ، وشيبة ، وأبو عمرو ، وعيسى : وأملى مبنيا للمفعول ، أي أمهلوا ومدوا في عمرهم. وقرأ مجاهد ، وابن هرمز ، والأعمش ، وسلام ، ويعقوب : وأملي بهمزة المتكلم

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٢.


مضارع أملى ، أي وأنا أنظرهم ، كقوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ*) (١) ، ويجوز أن يكون ماضيا سكنت منه الياء ، كما تقول في يعي بسكون الياء.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ). وروي أن قوما من قريظة والنضير كانوا يعينون المنافقين في أمر الرسول ، والخلاف عليه بنصره ومؤازرته ، وذلك قوله : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ). وقيل : الضمير في قالوا للمنافقين ؛ والذين كرهوا ما نزل الله : هم قريظة والنضير ؛ وبعض الأمر : قول المنافقين لهم : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) (٢) ، قاله ابن عباس. وقيل : بعض الأمر : التكذيب بالرسول ، أو بلا إله إلا الله ، أو ترك القتال معه. وقيل : هو قول الفريقين ، اليهود والمنافقين ، للمشركين : سنطيعكم في التكافؤ على عداوة الرسول والقعود عن الجهاد معه ، وتعين في بعض الأمر في بعض ما يأسرون به ، أو في بعض الأمر الذي يهمكم. وقرأ الجمهور : أسرارهم ، بفتح الهمزة ، وكانت أسرارهم كثيرة. وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : بكسرها : وهو مصدر ؛ قالوا ذلك سرا فيما بينهم ، وأفشاه الله عليهم. وقال أبو عبد الله الرازي : الأظهر أن يقال : والله يعلم أسرارهم ، ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه‌السلام ، فإنهم كانوا معاندين مكابرين ، وكانوا يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما يعرفون أبناءهم. انتهى.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) : تقدم شرح : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، ومبلغهم لأجل القتال. وتقدم قول المرتدين ، وما يلحقهم في ذلك من جزائهم على طواعية الكاذبين ما أنزل الله. وتقدم : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) ؛ فجاء هذا الاستفهام الذي معناه التوقيت عقب هذه الأشياء. فقال الطبري : فكيف علمه بها ، أي بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة؟ وقيل : فكيف يكون حالهم مع الله فيما ارتكبوه من ذلك القول؟ وقرأ الأعمش : توفاهم ، بألف بدل التاء ، فاحتمل أن يكون ماضيا ومضارعا حذفت منه التاء ، والظاهر أن وقت التوفي هو عند الموت. وقال ابن عباس : لا يتوفى أحد على معصيته إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره. والملائكة : ملك الموت والمصرفون معه. وقيل : هو وقت القتال نصرة للرسول ؛ يضرب وجوههم أن يثبتوا ؛ وأدبارهم : انهزموا. والملائكة ملائكة النصر. والظاهر أن يضربون حال من الملائكة ؛ وقيل : حال من الضمير في توفاهم ، وهو ضعيف. (ذلِكَ) : أي ذلك الضرب للوجوه والأدبار ؛ (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) : وهو الكفر ، أو

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٨.

(٢) سورة الحشر : ٥٩ / ١١.


كتمان بعث الرسول ، أو تسويل الشيطان ، أقوال. والمتبع الشيء هو مقبل بوجهه عليه ، فناسب ضرب الملائكة وجهه. (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) : وهو الإيمان بالله واتباع دينه. والكافر للشيء متول عنه ، فناسب ضرب الملائكة دبره ؛ ففي ذلك مقابلة أمرين بأمرين.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ ، وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ، فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ، إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ، إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ، ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).

إخراج أضغانهم ، وهو حقودها : إبرازها للرسول والمؤمنين ؛ والظاهر أنها من رؤية البصر لعطف العرفان عليه ، وهو معرفة القلب. واتصل الضمير في أريناكهم ، وهو الأفصح ، وإن كان يجوز الانفصال. وفي هاتين الجملتين تقريب لشهرتهم ، لكنه لم يعينهم بأسمائهم ، إبقاء عليهم وعلى قراباتهم ، واكتفاء منهم بما يتظاهرون به من اتباع الشرع ، وإن أبطنوا خلافه. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) : كانوا يصطلحون فيما بينهم من ألفاظ يخاطبون بها الرسول ، مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح ، وكانوا أيضا يصدر منهم الكلام يشعر بالاتباع ، وهم بخلاف ذلك ، كقولهم عند النصر : (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) (١) ، وغير ذلك ، كقولهم : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) (٢) ، وقوله : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) (٣). والظاهر الإراءة والمعرفة بالسيماء ، وجود المعرفة في المستقبل بلحن القول. واللام في : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) ، لام جواب القسم المحذوف. (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) : خطاب عام يشمل المؤمن والكافر ؛ وقيل : خطاب للمؤمنين فقط.

وقرأ الجمهور : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) ، ونبلوا : بالنون والواو ؛

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ١٠.

(٢) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٣.


وأبو بكر : بالياء فيهن وأويس ، ونبلوا : بإسكان الواو وبالنون ؛ والأعمش : بإسكانها وبالياء ، وذلك على القطع ، إعلاما بأن ابتلاءه دائم. ومعنى : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ) : أي نعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود ، وبأن مسكهم الذي يتعلق به ثوابهم. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : ناس من بني إسرائيل ، وتبين هداهم : معرفتهم بالرسول من التوراة ، أو منافقون كأن الإيمان قد داخل قلوبهم ثم نافقوا ؛ والمطعمون : سفرة بدر ؛ وتبين الهدى : وجوده عند الداعي إليه ، أو مشاعة في كل كافر ؛ وتبين الهدى من حيث كان في نفسه ، أقوال. (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) : أي التي كانوا يرجون بها انتفاعا ، وأعمالهم التي كانوا يكيدون بها الرسول ودين الإسلام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : قيل نزلت في بني إسرائيل ، أسلموا وقالوا لرسول الله : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا ، كأنهم منوا بذلك ، فنزلت فيهم هذه الآية. وقوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) (١) ، فعلى هذا يكون : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بالمن بالإسلام. وعن ابن عباس : بالرياء والسمعة ، وعنه : بالشرك والنفاق ؛ وعن حذيفة : بالكبائر ، وقيل : بالعجب ، فإنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب. وعن مقاتل : بعصيانكم للرسول. وقيل : أعمالكم : صدقاتكم بالمن والأذى. (ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) : عام في الموجب لانتفاء الغفران ، وهو وفاتهم على الكفر. وقيل : هم أهل القليب. وقيل : نزلت بسبب عدي بن حاتم ، رضي‌الله‌عنه ، سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبيه قال : وكانت له أفعال بر ، فما حاله؟ فقال : «في النار» ، فبكى عدي وولى ، فدعاه فقال له : «أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار» ، فنزلت.

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) : وهو الصلح. وقرأ الجمهور : وتدعوا ، مضارع دعا ؛ والسلمي : بتشديد الدال ، أي تفتروا ؛ والجمهور : إلى السلم ، بفتح السين ؛ والحسن ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وعيسى ، وطلحة ، وحمزة ، وأبو بكر : بكسرها. وتقدم الكلام على السلام في البقرة في قوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (٢) وقال الزمخشري : وقرىء : ولا تدعوا من ادعى القوم ، وتداعوا إذا ادعوا ، نحو قولك : ارتموا الصيد وتراموا. انتهى. والتلاوة بغير لا ، وكان يجب أن يأتي بلفظ التلاوة فيقول : وقرىء : وتدعوا معطوف على تهنوا ، فهو مجزوم ، ويجوز أن يكون مجزوما بإضمار إن. (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : أي الأعليون ، وهذه الجملة حالية ؛ وكذا : (وَاللهُ مَعَكُمْ). ويجوز أن يكونا جملتي استئناف ،

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٨.


أخبر أولا بقوله : (أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ، فهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود ، ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها ، وهي كون الله تعالى معهم. (وَلَنْ يَتِرَكُمْ) ، قال ابن عباس : ولن يظلمكم ؛ وقيل : لن يعريكم من ثواب أعمالكم ؛ وقيل : ولين ينقصكم. وقال الزمخشري ، وقال أبو عبيد : (وَلَنْ يَتِرَكُمْ) : من وترت الرجل ، إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو قريب ؛ قال : أو ذهبت بماله ؛ قال : أو حربته ، وحقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد. فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» ، أي أفرد عنهما قتلا ونهبا.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : وهو تحقير لأثر الدنيا ، أي فلا تهنوا في الجهاد. وأخبر عنها بذلك ، باعتبار ما يختص بها من ذلك ؛ وأما ما فيها من الطاعة وأمر الآخرة فليس بذلك. (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) : أي ثواب أعمالكم من الإيمان والتقوى ، (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ). قال سفيان بن عيينة : أي كثيرا من أموالكم ، إنما يسألكم ربع العشر ، فطيبوا أنفسكم. وقيل : لا حاجة إليها ، بل يرجع ثواب إنفاقكم إليكم. وقيل : إنما يسألكم أمواله ، لأنه هو المالك لها حقيقة ، وهو المنعم بإعطائها. وقيل : الضمير في يسألكم للرسول ، أي لا يسألكم أجرا على تبليغ الرسالة ، كما قال : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١).

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) جميعا (فَيُحْفِكُمْ) : أي يبالغ في الإلحاح. (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) : أي تطعنون على الرسول وتضيق صدوركم كذلك ، وتخفون دينا يذهب بأموالكم. وقرأ الجمهور : ويخرج أضغانكم جزما على جواب الشرط ، والفعل مسند إلى الله ، أو إلى الرسول ، أو إلى البخل. وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو : ويخرج ، بالرفع على الاستئناف بمعنى : وهو يخرج. وحكاها أبو حاتم ، عن عيسى ؛ وفي اللوامح عن عبد الوارث ، عن أبي عمرو : وتخرج ، بالتاء وفتحها وضم الراء والجيم ؛ أضغانكم : بالرفع ، بمعنى : وهو يخرج أو سيخرج أضغانكم ، رفع بفعله. وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن محيصن ، وأيوب بن المتوكل ، واليماني : وتخرج ، بتاء التأنيث مفتوحة ؛ أضغانكم : رفع به ؛ ويعقوب : ونخرج ، بالنون ؛ أضغانكم : رفعا ، وهي مروية

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٨٦.


عن عيسى ، إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن ، فالواو عاطفة على مصدر متوهم ، أي يكف بخلكم وإخراج أضغانكم. وهذا الذي خيف أن يعتري المؤمنين ، هو الذي تقرب به محمد بن سلمة إلى كعب بن الأشرف ، وتوصل به إلى قتله حين قاله له : إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) : كرر هاء التنبيه توكيدا ، وتقدم الكلام على هذا التركيب في سورة آل عمران. وقال الزمخشري : هؤلاء موصول بمعنى الذين صلته تدعون ، أي أنتم الذين تدعون ، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ؛ ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا : وما وصفنا فقيل : تدعون لتنفقوا في سبيل الله. انتهى. وكون هؤلاء موصولا إذا تقدمها ما الاستفهامية باتفاق ، أو من الاستفهامية باختلاف. (فِي سَبِيلِ اللهِ) ، قيل : للغزو ، وقيل : الزكاة ، واللفظ أعم. (وَمَنْ يَبْخَلْ) : أي بالصدقة وما أوجب الله عليه ؛ (فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) : أي لا يتعدى ضرره لغيره. وبخل يتعدى بعلى وبعن. يقال : بخلت عليه وعنه ، وصليت عليه وعنه ؛ وكأنهما إذا عديا بعن ضمنا معنى الإمساك ، كأنه قيل : أمسكت عنه بالبخل.

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) : أي الغني مطلقا ، إذ يستحيل عليه الحاجات. وأنتم الفقراء مطلقا ، لافتقاركم إلى ما تحتاجون إليه في الدنيا ، وإلى الثواب في الآخرة. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) : عطف على : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) ، أي وإن تتولوا ، أي عن الإيمان والتقوى. (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) : أي يخلق قوما غيركم راغبين في الإيمان والتقوى ، غير متولين عنهما ، كما قال : (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١). وتعيين أولئك القوم ، وأنهم الأنصار ، أو التابعون ، أو أهل اليمن ، أو كندة والنخع ، أو العجم ، أو فارس والروم ، أو الملائكة ، أقوال. والخطاب لقريش ، أو لأهل المدينة ، قولان. وروى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن هذا ، وكان سلمان إلى جنبه ، فوضع يده على فخذه وقال : «قوم هذا والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس». وإن صح هذا الحديث ، وجب المصير في تعيين ما انبهم من قوله : (قَوْماً غَيْرَكُمْ) إلى تعيين الرسول. (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) : أي في الخلاف والتولي والبخل.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٩.


سورة الفتح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ


خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ


وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)

ظفر بالشيء : غلب عليه ، وأظفره : غلبه. المعرة : المكروه والمشقة اللاصقة ، مأخوذ من العر والعرة ، وهو الجرب الصعب اللازم. قال الشاعر :

كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع

الشطء : الفراخ ، أشطأ الزرع : أفرخ ، والشجرة : أخرجت غصونها. آزر : ساوى طولا. قال الشاعر :

بمخيبة قد آزر الضال نبتها

بجر جيوش غانمين وخيب

أي ساوى نبتها الضال طولا ، وهو شجر ، ووزنه أفعل لقولهم في المضارع : يوزر.

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ


الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ، لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

هذه السورة مدنية ، وعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، ولعل بعضا منها نزل ، والصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية ، سنة ست من الهجرة ، فهي تعد في المدني. ومناسبتها لما قبلها أنه تقدم : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) (١) الآية ، وهي خطاب لكفار قريش ، أخبر رسوله بالفتح العظيم ، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال ، وآمن كل من كان بها ، وصارت مكة دار إيمان. ولما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلح الحديبية ، تكلم المنافقون وقالوا : لو كان محمد نبيا ودينه حق ، ما صد عن البيت ، ولكان فتح مكة. فأكذبهم الله تعالى ، وأضاف عزوجل الفتح إلى نفسه ، إشعارا بأنه من عند الله ، لا بكثرة عدد ولا عدد ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بأنه مبين ، مظهر لما تضمنه من النصر والتأييد. والظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة. وقال الكلبي ، وجماعة : وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه لما قال : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ) (٢) الآية ، بين أنه فتح لهم مكة ، وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ؛ ولو بخلوا ، لضاع عليهم ذلك ، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم. وأيضا لما قال : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ) (٣) ، بين برهانه بفتح مكة ، فإنهم كانوا هم الأعلين. وأيضا لما قال : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) (٤) ، كان فتح مكة حيث لم يلحقهم وهن ، ولا دعوا إلى صلح ، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين. وكانت هذه البشرى بلفظ الماضي ، وإن كان لم يقع ، لأن إخباره تعالى بذلك لا بد من وقوعه ، وكون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري. وقال الجمهور : هو فتح الحديبية ؛ وقاله : السدي ، والشعبي ، والزهري. قال ابن عطية : وهو الصحيح. انتهى. ولم يكن فيه قتال

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٣٨.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ٣٨.

(٣) سورة محمد : ٤٧ / ٣٥.

(٤) سورة محمد : ٤٧ / ٣٥.


شديد ، ولكن ترام من القوم بحجارة وسهام. وعن ابن عباس : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم. وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوه الصلح. قال الشعبي : بلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس ، وأطعموا كل خيبر.

وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية ، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم ، وتمكن الإسلام من قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام. قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال موسى بن عقبة : قال رجل منصرفهم من الحديبية : ما هذا الفتح؟ لقد صدونا عن البيت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح ، ويسألونكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، ورأوا منكم ما كرهوا». وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ، ولم ينفد ماؤها بعد.

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون فتحا ، وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحا مبنيا. انتهى. وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان ، وهو الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب ، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيرا ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية. وقال مجاهد : هو فتح خيبر. وفي حديث مجمع بن جارية : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا ، إذ الناس يهزون الأباعر ، فقيل : ما بال الناس؟ قالوا : أوحى الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فخرجنا نرجف ، فوجدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس ، قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً). قال عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه : أو فتح هو يا رسول الله؟ قال : «نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح». فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية. وقال الضحاك : الفتح : حصول المقصود بغير قتال ، وكان الصلح من الفتح ، وفتح مكة بغير قتال ، فتناول الفتحين : الحديبية ومكة. وقيل : فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. وقيل : قضينا لك قضاء بينا على أهل مكة أن


تدخلها أنت وأصحابك من قابل ، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة ، وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة.

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ؛ كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث أنه جهاد للعدوّ ، وسبب للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحا ، بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق ما لم يظفر ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. انتهى. وقال ابن عطية : المراد هنا : أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك ، فكأنها لام صيرورة ، ولهذا قال عليه‌السلام : «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا». انتهى. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها ، ولو جاز هذا بحال لجاز : ليقوم زيد ، في معنى : ليقومّن زيد. انتهى. أما الكسر ، فقد علل بأنه شبهت تشبيها بلام كي ، وأما النصب فله أن يقول : ليس هذا نصبا ، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون ، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف ، وبعد هذا ، فهذا القول ليس بشيء ، إذ لا يحفظ من لسانهم : والله ليقوم ، ولا بالله ليخرج زيد ، بكسر اللام وحذف النون ، وبقاء الفعل مفتوحا. (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) ، بإظهارك على عدوّك ورضاه عنك ، وبفتح مكة والطائف وخيبر (نَصْراً عَزِيزاً) ، أي بالظفر والتمكن من الأعداء بالغنيمة والأسر والقتل نصرا فيه عز ومنعة. وأسندت العزة إليه مجازا ، والعزيز حقيقة هو المنصور صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأعيد لفظ الله في : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً) ، لما بعد عن ما عطف عليه ، إذ في الجملتين قبله ضمير يعود على الله ، وليكون المبدأ مسندا إلى الاسم الظاهر والمنتهى كذلك. ولما كان الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصر يشترك في إطلاقها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره بقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ*) (١) ، وقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (٢) ؛ وكان الفتح لم يبق لأحد إلا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أسنده تعالى إلى نون العظمة تفخيما لشأنه ، وأسند تلك الأشياء الأربعة إلى الاسم الظاهر ، واشتركت الخمسة في الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تأنيسا له وتعظيما لشأنه. ولم يأت بالاسم الظاهر ، لأن في الإقبال على المخاطب ما لا يكون في الاسم الظاهر.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) : وهي الطمأنينة والسكون ؛ قيل : بسبب الصلح والأمن ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٨.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٧٢.


فيعرفون فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والهدنة بعد القتال ، فيزدادوا يقينا إلى يقينهم. وقيل : السكينة إشارة إلى ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشرائع ، ليزدادوا إيمانا بها إلى إيمانهم ، وهو التوحيد ؛ روي معناه عن ابن عباس. وقيل : الوقار والعظمة لله ولرسوله. وقيل : الرحمة ليتراحموا ، وقاله ابن عباس. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : إشارة إلى تسليم الأشياء إليه تعالى ، ينصر من شاء ، وعلى أي وجه شاء ، ومن جنده السكينة ثبتت قلوب المؤمنين. (لِيُدْخِلَ) : هذه اللام تتعلق ، قيل : بإنا فتحنا لك. وقيل : بقوله : (لِيَزْدادُوا). فإن قيل : (وَيُعَذِّبَ) عطف عليه ، والازدياد لا يكون سببا لتعذيب الكفار ، أجيب عن هذا بأنه ذكر لكونه مقصودا للمؤمن ، كأنه قيل : بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا. وقيل : بقوله : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ) : أي بالمؤمنين. وهذه الأقوال فيها بعد. وقال الزمخشري : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، يسلط بعضها على بعض ، كما يقتضيه علمه وحكمته. ومن قضيته أن صلح قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ، وإن وعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكرون ، فيستحقوا الثواب ، فيثيبهم ، ويعذب الكافرين والمنافقين ، لما غاظهم من ذلك وكرهوه. انتهى. ولا يظهر من كلامه هذا ما تتعلق به اللام ؛ والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام ، وذلك أنه قال : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). كان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي بتلك الجنود من شاء ، فيقبل الخير من قضى له بالخير ، والشر من قضى له بالشر. (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) جنات ، ويعذب الكفار. فاللام تتعلق بيبتلي هذه ، وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر. (وَيُكَفِّرَ) : معطوف على ليدخل ، وهو ترتيب في الذكر لا ترتيب في الوقوع. وكان التبشير بدخول الجنة أهم ، فبدىء به. ولما كان المنافقون أكثر ضررا على المسلمين من المشركين ، بدىء بذكرهم في التعذيب.

(الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) : الظاهر أنه مصدر أضيف إلى ما يسوء المؤمنين ، وهو أن المشركين يستأصلونهم ولا ينصرون ، ويدل عليه : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) ، و (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) (١). وقيل : (ظَنَّ السَّوْءِ) : ما يسوء المشركين من إيصال الهموم إليهم ، بسبب علو كلمة الله ، وتسليط رسوله قتلا وأسرا ونهبا. ثم أخبر أنهم يستعلي عليهم السوء ويحيط بهم ، فاحتمل أن يكون خبرا حقيقة ، واحتمل أن يكون هو وما بعده دعاء عليهم. وتقدم الكلام على هذه الجملة في سورة براءة. وقيل :

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ١٢.


(ظَنَّ السَّوْءِ) يشمل ظنونهم الفاسدة من الشرك ، كما قال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ*) (١) ، ومن انتفاء رؤية الله تعالى الأشياء وعلمه بها كما قال : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً) (٢) بطلان خلق العالم ، كما قال : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٣). وقيل : السوء هنا كما تقول : هذا فعل سوء. وقرأ الحسن : السوء فيهما بضم السين.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) : لما تقدم تعذيب الكفار والانتقام منهم ، ناسب ذكر العزة. ولما وعد تعالى بمغيبات ، ناسب ذكر العلم ، وقرن باللفظتين ذكر جنود السموات والأرض ؛ فمنها السكينة التي للمؤمنين والنقمة للمنافقين والمشركين ، ومن جنود الله الملائكة في السماء ، والغزاة في سبيل الله في الأرض. وقرأ الجمهور : (لِتُؤْمِنُوا) ، وما عطف عليه بتاء الخطاب ؛ وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ؛ والجحدري : بفتح التاء وضم الزاي خفيف ؛ وهو أيضا ، وجعفر بن محمد كذلك ، إلا أنهم كسروا الزاي ؛ وابن عباس ، واليماني : بزاءين من العزة ؛ وتقدم الكلام في وعزّروه في الأعراف. والظاهر أن الضمائر عائدة على الله تعالى ، وتفريق الضمائر يجعلها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعضها لله تعالى ، حيث يليق قول الضحاك. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، قال ابن عباس : صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) : هي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة ، حين أخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأهبة لقتال قريش ، حين أرجف بقتل عثمان بن عفان ، فقد بعثه إلى قريش يعلمهم أنه جاء معتمرا لا محاربا ، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية ، بايعهم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ، ولذلك قال سلمة بن الأكوع وغيره : بايعنا على الموت. وقال ابن عمر ، وجابر : على أن لا نفر. والمبايعة : مفاعلة من البيع ، لأن (اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٤) ، وبقي اسم البيعة بعد على معاهدة الخلفاء والملوك. (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أي صفقتهم ، إنما يمضيها ويمنح الثمن الله عزوجل. وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب : إنما يبايعون لله ، أي لأجل الله ولوجهه ؛ والمفعول محذوف ، أي إنما يبايعونك لله.

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). قال الجمهور : اليد هنا النعمة ، أي نعمة الله في هذه المبايعة ، لما يستقبل من محاسنها ، فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك. وقيل : قوة الله فوق

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٦٦.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٢٢.

(٣) سورة ص : ٣٨ / ٢٧.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ١١١.


قواهم في نصرك ونصرهم. وقال الزمخشري : لما قال : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، أكد تأكيدا على طريقة التخييل فقال : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، يريد أن يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي تعلو يدي المبايعين ، هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام. وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) ، و (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) ، فلا يعود ضرر نكثه إلا على نفسه. انتهى. وقرأ زيد بن علي : ينكث ، بكسر الكاف. وقال جابر بن عبد الله : ما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، وكان منافقا ، اختبأ تحت إبط بعيره ، ولم يسر مع القوم فحرم. وقرأ الجمهور : (عَلَيْهُ اللهَ) : بنصب الهاء. وقرىء : بما عهد ثلاثيا. وقرأ الحميدي : (فَسَيُؤْتِيهِ) ؛ بالياء ؛ والحرميان ، وابن عامر ، وزيد بن علي : بالنون. (أَجْراً عَظِيماً) : وهي الجنة ، وأو في لغة تهامه ، قوله عزوجل : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ، بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ، سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً ، قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ، لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً).

قال مجاهد وغيره : ودخل كلام بعضهم في بعض. (الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) : هم جهينة ، ومزينة ، وغفار ، وأشجع ، والديل ، وأسلم. استنفرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا ، ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ؛ وأحرم هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا ، ورأى

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٨٠.


أولئك الأعراب أنه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل والمجاورين بمكة ، وهو الأحابيش ؛ ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم ، فقعدوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتخلفوا وقالوا : لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله عزوجل في هذه الآية ، وأعلم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك.

(شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) : وهذا اعتلال منهم عن تخلفهم ؛ أي لم يكن لهم من يقوم بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم ، وبدأوا بذكر الأموال ، لأن بها قوام العيش ؛ وعطفوا الأهل ، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال. وقرىء : شغلتنا ، بتشديد الغين ، حكاه الكسائي ، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان ، عن قتيبة. ولما علموا أن ذلك التخلف عن الرسول كان معصية ، سألوا أن يستغفر لهم. (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) : الظاهر أنه راجع إلى الجملتين المقولتين من الشغل وطلب الاستغفار ، لأن قولهم : شغلتنا ، كذب ؛ وطلب الاستغفار : خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون. وقال الطبري : هو راجع إلى قولهم : فاستغفر لنا ، يريد أنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ) : أي من يمنعكم من قضاء الله؟ (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) : من قتل أو هزيمة ، (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) ، من ظفر وغنيمة؟ أي هو تعالى المتصرف فيكم ، وليس حفظكم أموالكم وأهليكم بمانع من ضياعها إذا أراده الله تعالى. وقرأ الجمهور : ضرا ، بفتح الضاد ؛ والإخوان : بضمها ، وهما لغتان. ثم بين تعالى لهم العلة في تخلفهم ، وهي ظنهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يرجعون إلى أهليهم. وتقدم الكلام على أهل ، وكيف جمع بالواو والنون في قوله : (ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (١). وقرأ عبد الله : إلى أهلهم ، بغير ياء ؛ وزين ، قراءة الجمهور مبنيا للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى. وقيل غيره ممن نسب إليه التزيين مجازا. وقرىء : وزين مبنيا للفاعل. (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) : احتمل أن يكون هو الظن السابق ، وهو ظنهم أن لا ينقلبوا ، ويكون قد ساءهم ذلك الظن وأحزنهم حيث أخلف ظنهم. ويحتمل أن يكون غيره لأجل العطف ، أي ظننتم أنه تعالى يخلف وعده في نصر دينه وإعزاز رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (بُوراً) : هلكى ، والظاهر أنه مصدر كالهلك ، ولذلك وصف به المفرد المذكر ، كقول ابن الزبعري :

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٨٩.


يا رسول المليك إن لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور

والمؤنث ، حكى أبو عبيدة : امرأة بور ، والمثنى والمجموع. وقيل : يجوز أن يكون جمع بائر ، كحائل ، وحول هذا في المعتل ، وباذل وبذل في الصحيح ، وفسر بورا : بفاسدين هلكى. وقال ابن بحر : أشرار. واحتمل وكنتم ، أي يكون المعنى : وصرتم بذلك الظن ، وأن يكون وكنتم على بابها ، أي وكنتم في الأصل قوما فاسدين ، أي الهلاك سابق لكم على ذلك الظن. ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور ، ذكر ما يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، فهو كافر جزاؤه السعير. ولما كانوا ليسوا مجاهدين بالكفر ، ولذلك اعتذروا وطلبوا الاستغفار ، مزج وعيدهم وتوبيخهم ببعض الإمهال والترجئة. وقال الزمخشري : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، يدبره تدبير قادر حكيم ، فيغفر ويعذب بمشيئته ، ومشيئته تابعة لحكمته ، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، رحمته سابقة لرحمته ، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر بالتوبة. انتهى. وهو على مذهب الاعتزال.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) : روي أن الله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغزو خيبر ، ووعده بفتحها ، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسيره إلى خيبر ، وهم عدو مستضعف ، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا من الغنيمة ، وكان كذلك. (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) : معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر ، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر ، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئا ، قاله مجاهد وقتادة ، وعليه عامة أهل التأويل. وقال ابن زيد : (كَلامَ اللهِ) : قوله تعالى : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (١) ، وهذا لا يصح ، لأن هذه الآية نزلت مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك في آخر عمره. وهذه السورة نزلت عام الحديبية ، وأيضا فقد غزت مزينة وجهينة بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام ، وفضلهم بعد على تميم وغطفان وغيرهم من العرب. وقرأ الجمهور : كلام الله ، بألف ؛ والإخوان : كلم الله ، جمع كلمة ، وأمره تعالى أن يقول لهم : (لَنْ تَتَّبِعُونا) ، وأتى بصيغة لن ، وهي للمبالغة في النفي ، أي لا يتم لكم ذلك ، إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط. (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) : يريد وعده قبل اختصاصهم بها. (بَلْ تَحْسُدُونَنا) : أي يعز عليكم أن نصيب مغنما معكم ، وذلك على سبيل الحسد أن نقاسمكم فيما تغنمون. وقرأ أبو حيوة : بكسر السين ، ثم رد عليهم تعالى

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٨٣.


كلامهم هذا فقال : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) من أمور الدنيا ، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها ، كقوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (١). والإضراب الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد. والثاني ، إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) : أمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم ذلك ، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لم يكونوا أهلا لذلك الأمر. وأبهم تعالى في قوله : (إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). فقال عكرمة ، وابن جبير ، وقتادة : هم هوازن ومن حارب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حنين. وقال كعب : الروم الذين خرج إليهم عام تبوك ، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة. وقال الزهري ، والكلبي : أهل الردة ، وبنو حنيفة باليمامة. وعن رافع بن خديج : إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه ، إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم أريدوا بها. وقال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وعطاء الخراساني ، وابن أبي ليلى : هم الفرس. وقال الحسن : فارس والروم. وقال أبو هريرة : قوم لم يأتوا بعد. وظاهر الآية يرد هذا القول. والذي أقوله : إن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها ، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا ، بل أخبر بذلك مبهما دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته ، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف ، وقاتلوا أهل الردة زمان أبي بكر ، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيام غيره من الخلفاء.

والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية ، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام. ومذهب أبي حنيفة ، رحمه‌الله تعالى ورضي عنه : أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب ، ولا من المرتدين ، وليس إلا الإسلام أو القتل ؛ وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس. ومذهب الشافعي ، رحمه‌الله تعالى : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس ، دون مشركي العجم والعرب. وقال الزمخشري : وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق ، رضي الله تعالى عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن بعد وفاته. انتهى. وهذا ليس بصحيح ، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في مؤتة ، وحضروا حرب هوازن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحضروا معه في سفرة تبوك. ولا يتم قول الزمخشري إلا على قول من عين أنهم أهل الردة. وقرأ الجمهور : أو

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٧.


يسلمون ، مرفوعا ؛ وأبي ، وزيد بن علي : بحذف النون منصوبا بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير الجرمي ، وبها في قول الجرمي والكسائي ، وبالخلاف في قول الفراء وبعض الكوفيين. فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم ، أي يكون قتال أو إسلام ، أي أحد هذين ، ومثله في النصب قول امرئ القيس :

فقلت له لا تبك عينا إنما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

والرفع على العطف على تقاتلونهم ، أو على القطع ، أي أو هم يسلمون دون قتال. (فَإِنْ تُطِيعُوا) : أي فيما تدعون إليه. (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) : أي في زمان الخروج مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في زمان الحديبية. (يُعَذِّبْكُمْ) : يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة. (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) : نفي الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو ، ومع ارتفاع الحرج ، فجائز لهم الغزو ، وأجرهم فيه مضاعف ، والأعرج أحرى بالصبر وأن لا يفر. وقد غزا ابن أم مكتوم ، وكان أعمى ، في بعض حروب القادسية ، وكان رضي‌الله‌عنه يمسك الراية ، فلو حضر المسلمون ، فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو. وقرأ الجمهور : يدخله ويعذبه ، بالياء ؛ والحسن ، وقتادة ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وابن عامر ، ونافع : بالنون ، قوله عزوجل :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ، وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر حال المؤمنين


الخلص الذين سافروا معه. والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم ، ولذا سميت : بيعة الرضوان ؛ وكانوا فيما روي ألفا وخمسمائة وعشرين. وقال ابن أبي أوفى : وثلاثمائة.

وأصل هذه البيعة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزل الحديبية ، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة ، وحمله على جمل له يقال له : الثعلب ، يعلمهم أنه جاء معتمرا ، لا يريد قتالا. فلما أتاهم وكلمهم ، عقروا جمله وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأراد بعث عمر. فقال : قد علمت فظاظتي ، وهم يبغضوني ، وليس هناك من بني عدي من يحميني ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم ، عثمان بن عفان. فبعثه ، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته. وكان أبان بن سعيد بن العاصي حين لقيه ، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره ، فقالت له قريش : إن شئت فطف بالبيت ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه. فقال : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من العسكر : قتل عثمان ، فحمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون وقالو : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم. فنادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : البيعة البيعة ، فنزل روح القدس ، فبايعوا كلهم إلا الجد بن قيس المنافق. وقال الشعبي : أول من بايع أبو سنان بن وهب الأسدي ، والعامل في إذ رضي. والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم ، فهو صفة فعل ، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت ، يحتمل أن يكون معمولا ليبايعونك ، أو حالا من المفعول ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان تحتها جالسا في أصلها. قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائما على رأسه ، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره. بايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم : «أنتم اليوم خير أهل الأرض». وكانت الشجرة سمرة. قال بكير بن الأشجع : يوم فتح مكة. قال نافع : كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها ، فبلغ عمر ، فأمر بقطعها. وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة. وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان».

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) ، قال قتادة ، وابن جريج : من الرضا بالبيعة أن لا يفروا. وقال الفراء : من الصدق والوفاء. وقال الطبري ، ومنذر بن سعيد : من الإيمان وصحته ، والحب في الدين والحرص عليه. وقيل : من الهم والانصراف عن المشركين ، والأنفة من ذلك ، على نحو ما خاطب به عمر وغيره ؛ وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض


بالفتح القريب. والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى ، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول ، لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم. وقال مقاتل : فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) حتى بايعوا. قال ابن عطية : وهذا فيه مذمة للصحابة ، رضي الله تعالى عنهم. انتهى.

(وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) قال قتادة ، وابن أبي ليلى : فتح خيبر ، وكان عقب انصرافهم من مكة. وقال الحسن : فتح هجر ، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمنا طويلا. وقيل : فتح مكة والقرب أمر نسبي ، لكن فتح خيبر كان أقرب. وقرأ الحسن ، ونوح القارئ : وآتاهم ، أي أعطاهم ؛ والجمهور : وأثابهم من الثواب. (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً) : أي مغانم خيبر ، وكانت أرضا ذات عقار وأموال ، فقسمها عليهم. وقيل : مغانم هجر. وقيل : مغانم فارس والروم. وقرأ الجمهور : يأخذونها بالياء على الغيبة في وأثابهم ، وما قبله من ضمير الغيبة. وقرأ الأعمش ، وطلحة ، ورويس عن يعقوب ، ودلبة عن يونس عن ورش ، وأبو دحية ، وسقلاب عن نافع ، والأنطاكي عن أبي جعفر : بالتاء على الخطاب. كما جاء بعد (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) بالخطاب. وهذه المغانم الموعود بها هي المغانم التي كانت بعد هذه ، وتكون إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين.

ولقد اتسع نطاق الإسلام ، وفتح المسلمون فتوحا لا تحصى ، وغنموا مغانم لا تعد ، وذلك في شرق البلاد وغربها ، حتى في بلاد الهند ، وفي بلاد السودان في عصرنا هذا. وقدم علينا حاجا أحد ملوك غانة من بلاد التكرور ، وذكر عنه أنه استفتح أزيد من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان ، وأسلموا ، وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه. وقيل : الخطاب لأهل البيعة ، وأنهم سيغنمون مغانم كثيرة. وقال زيد بن أسلم وابنه : المغانم الكثيرة مغانم خيبر ؛ (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) : الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح ، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم وابنه. وقال مجاهد : مغانم خيبر.

(وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) : أي أهل مكة بالصلح. وقال ابن عباس عيينة بن حصن الفزاري ، وعوف بن مالك النضري ، ومن كان معهم : إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر ، والرسول عليه الصلاة والسلام محاصر لهم ، فجعل الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين. وقال ابن عباس أيضا : أسد وغطفان حلفاء خيبر. وقال الطبري : كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبية وإلى خيبر. (وَلِتَكُونَ) : أي هذه الكفة


آية للمؤمنين ، وعلامة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم. وقيل : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء حق ، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنوانا لفتح مكة ، فيكون الضمير في ولتكون عائدا على هذه ، وهي مغانم خيبر ، والواو في ولتكون زائدة عند الكوفيين وعاطفة على محذوف عند غيرهم ، أي ليشكروه ولتكون ، أو وعد فعجل وكف لينفعكم بها ولتكون ، أو يتأخر ، أو يقدر ما يتعلق به متأخرا ، أي فعل ذلك. (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : أي طريق التوكل وتفويض الأمور إليه. وقيل : بصيرة واتقانا.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) ، قال ابن عباس ، والحسن ، ومقاتل : بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون. وقال الضحاك ، وابن زيد ، وابن إسحاق : خيبر. وقال قتادة ، والحسن : مكة ، وهذا القول يتسق معه المعنى ويتأيد. وفي قوله : (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) دلالة على تقدم محاولة لها ، وفوات درك المطلوب في الحال ، كما كان في مكة. وقال الزمخشري : هي مغانم هوازن في غزوة حنين. وقال : (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) ، لما كان فيها من الجولة ، وجوز الزمخشري في : (وَأُخْرى) ، أن تكون مجرورة بإضمار رب ، وهذا فيه غرابة ، لأن رب لم تأت في القرآن جارة ، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب ، فكيف يؤتى بها مضمرة؟ وإنما يظهر أن (وَأُخْرى) مرفوع بالابتداء ، فقد وصفت بالجملة بعدها ، وقد أحاط هو الخبر. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) : أي وقضى الله أخرى. وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين ومعنى (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) بالقدرة والقهر لأهلها ، أي قد سبق في علمه ذلك ، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) ، أهم مشركو مكة ، أو ناصرو أهل خيبر ، أو اليهود؟ (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) : أي لغلبوا وانهزموا. (سُنَّةَ اللهِ) : في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله ، أي سن الله عليه أنبياءه سنة ، وهو قوله : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١). (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) : أي قضى بينكم المكافة والمحاجزة ، بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة. وروي في سببها أن قريشا جمعت جماعة من فتيانها ، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل ، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما أحس بهم المسلمون ، بعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد ، وسماه حينئذ سيف الله ، في جملة من الناس ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت

__________________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢١.


مكة ، وأسروا منهم جملة ، وسيقوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمنّ عليهم وأطلقهم. وقال قتادة : كان ذلك بالحديبية عند معكسره ، وهو ببطن مكة. وعن أنس : هبط ثمانون رجلا من أهل مكة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته ، فأخذناهم فاستحياهم. وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم ، فأخذ الله أبصارهم ، فقال لهم : «هل جئتم في عهد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا»؟ قالوا : اللهم لا ، فخلى سبيلهم. وقال الزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح ، وبه استشهد أبو حنيفة ، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحا. وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية ، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة. وعن ابن عباس : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. انتهى. وقرأ الجمهور : بما تعملون ، على الخطاب ؛ وأبو عمرو : بالياء ، وهو تهديد للكفار.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : يعني أهل مكة. قال ابن خالويه : يقال الهدي والهدى والهداء ، ثلاث لغات. انتهى. وقرأ الجمهور : الهدي ، بسكون الدال ، وهي لغة قريش ؛ وابن هرمز ، والحسن ، وعصمة عن عاصم ، واللؤلؤي ، وخارجة عن أبي عمرو : والهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم ؛ ومعكوفا : حال ، أي محبوسا. عكفت الرجل عن حاجته : حبسته عنها ، وأنكر أبو عليّ تعدية عكف ، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما. وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم ، أو من جهة المسلمين لتردّدهم ونظرهم في أمرهم. وقرأ الجعفي ، عن أبي عمرو : والهدي ، بالجر معطوفا على المسجد الحرام : أي وعن نحر الهدي. وقرأ : بالرفع على إضمار وصد الهدي ، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة ، قاله مقاتل. وقيل : بسبعين ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت البدنة عن عشرة ، قاله المسور بن مخرمة وأبيّ بن الحكم.

(أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) ، قال الشافعي : الحرم ، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم ، لا حيث أحصر. وقال الفراء : حيث يحل نحره ، و (أَنْ يَبْلُغَ) : يحتمل أن يتعلق بالصد ، أي وصدوا الهدي ، وذلك على أن يكون بدل اشتمال ، أي وصدوا بلوغ الهدي محله ، أو على أنه مفعول من أجله ، أي كراهة أن يبلغ محله. ويحتمل أن يتعلق بمعكوفا ، أي محبوسا لأجل أن يبلغ محله ، فيكون مفعولا من أجله ، ويكون الحبس من المسلمين. أو محبوسا عن أن يبلغ محله ، فيكون الحبس من المشركين ، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين ، غير متميزين عنهم ، ولا معروفي الأماكن ؛ فقال


تعالى : ولو لا كراهة أن يهلكوا أناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة ، ما كف أيديكم عنهم ؛ وحذف جواب لو لا لدلالة الكلام عليه. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون : (لَوْ تَزَيَّلُوا) ، كالتكرير للولا رجال مؤمنون ، لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون : (لَعَذَّبْنَا) ، هو الجواب. انتهى. وقوله : لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح ، لأن ما تعلق به لو لا الأولى غير ما تعلق به الثانية : فالمعنى في الأولى : ولو لا وطء قوم مؤمنين ، والمعنى في الثانية : لو تميزوا من الكفار ؛ وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة. و (أَنْ تَطَؤُهُمْ) : بدل اشتمال من رجال وما بعده. وقيل : بدل من الضمير في (تَعْلَمُوهُمْ) ، أي لم تعلموا وطأتهم ، أي أنه وطء مؤمنين. وهذا فيه بعد. والوطء : الدوس ، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره. قال الشاعر :

ووطئتنا وطأ على حنق

وطء المقيد ثابت الهرم

وفي الحديث : «اللهم اشدد وطأتك على مضر». و (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) : صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر ؛ والمعنى : لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون. وقال ابن زيد : المعرة : المأثم. وقال ابن إسحاق : الدية. وقال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب. وقال الطبري : هي الكفارة. وقال القاضي منذر بن سعيد : المعرة : أن يعنفهم الكفار ، ويقولون قتلوا أهل دينهم. وقيل : الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن. ولفق الزمخشري من هذه الأقوال سؤالا وجوابا على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال : فإن قلت : أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون؟ قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. انتهى.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أخبار عن الصحابة وعن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدي حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحدا لكان من غير قصد ، كقول النملة عن جند سليمان : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ*) (١). وبغير علم متعلق بأن تطؤهم. وقيل : متعلق بقوله : (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) من الذين بعدكم ممن يعتب عليكم. وقرأ الجمهور : لو تزيلوا ؛ وابن أبي عبلة ، وابن مقسم ، وأبو حيوة ، وابن عون : لو تزايلوا ، على وزن تفاعلوا ،

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٨.


وليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى ، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة ، وانتفاء العذاب. (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) : وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو ، ومعنى تزيلوا : لو ذهبوا عن مكة ، أي لو تزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم ، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار ، أي لو افترق بعضهم من بعض. (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) : إذ معمول لعذبنا ، أو لو صدوكم ، أو لا ذكر مضمرة. والحمية : الأنفة ، يقال : حميت عن كذا حمية ، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله ، قال المتلمس :

إلا أنني منهم وعرضي عرضهم

كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما

وقال الزهري : حميتهم : أنفتهم عن الإقرار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو. وقال ابن بحر : حميتهم : عصبيتهم لآلهتهم ، والأنفة : أن يعبدوا غيرها. وقيل : قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا ، واللات والعزى لا يدخلها أبدا ؛ وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها ، وإنما ذلك محض تعصب لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما جاء معظما للبيت لا يريد حربا ، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية :

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غوين وإن ترشد غزية أرشد

وحمية : بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان ، فتوقروا وحلموا ؛ و (كَلِمَةَ التَّقْوى) : لا إله إلا الله. روي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمرو بن ميمون ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وسلمة بن كهيل ، وعبيد بن عمير ، وطلحة بن مصرف ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. وقال علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما : لا إله إلا الله ، والله أكبر. وقال أبو هريرة ، وعطاء الخراساني : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها. وقيل : هو على حذف مضاف ، أي كلمة أهل التقوى. وقال المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم : كلمة التقوى هنا هي بسم الله الرحمن الرحيم ، وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها. وقيل : قولهم سمعا وطاعة. والظاهر أن الضمير في : (وَكانُوا) عائد على المؤمنين ، والمفضل عليهم محذوف ، أي (أَحَقَّ بِها) من كفار مكة ، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


وقيل : من اليهود والنصارى ، وهذه الأحقية هي في الدنيا. وقيل : أحق بها في علم الله تعالى. وقيل : (وَأَهْلَها) في الآخرة بالثواب. وقيل : الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهم أهل حرم الله ، ومنهم رسوله لو لا ما سلبوا من التوفيق.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم ، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية ، إذ كان سببا لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم ، وعلو كلمة الإسلام ؛ وكانوا عام الحديبية ألفا وأربعمائة ، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف.

وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه الآية لطائف معنوية ، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن. باين بين الفاعلين ، إذ فاعل جعل هو الكفار ، وفاعل أنزل هو الله تعالى ؛ وبين المفعولين ، إذ تلك حمية ، وهذه سكينة ؛ وبين الإضافتين ، أضاف الحمية إلى الجاهلية ، وأضاف السكينة إلى الله تعالى. وبين الفعل جعل وأنزل ؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى ، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها. والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحا بالإضافة إلى الجاهلية ، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسنا بإضافتها إلى الله تعالى. والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة ، تقول : أكرمني فأكرمته ، فدلت على المجازاة للمقابلة ، ولذلك جعل فأنزل. ولما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أجاب أولا إلى الصلح ، وكان المؤمنون عازمين على القتال ، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر ، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وباسم الله ، قال تعالى : (عَلى رَسُولِهِ). ولما سكن هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلح ، سكن المؤمنون ، فقال : (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ). ولما كان المؤمنون عند الله تعالى ، ألزموا تلك الكلمة ، قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١) ، وفيه تلخيص ، وهو كلام حسن. قوله عزوجل :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣.


اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خروجه إلي الحديبية. وقال مجاهد : كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصروا. فقص الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق. فلما تأخر ذلك ، قال عبد الله بن أبيّ ، وعبد الله بن نفيل ، ورفاعة بن الحارث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام. فنزلت. وروي أن رؤياه كانت : أن ملكا جاءه فقال له : (لَتَدْخُلُنَ). الآية. ومعنى (صَدَقَ اللهُ) : لم يكذبه ، والله تعالى منزه عن الكذب وعن كل قبيح. وصدق يتعدى إلى اثنين ، الثاني بنفسه وبحرف الجر. تقول : صدقت زيدا الحديث ، وصدقته في الحديث ؛ وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر. وقال الزمخشري : فحذف الجار وأوصل الفعل لقوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (١). انتهى. فدل كلامه على أن أصله حرف الجر. وبالحق متعلق بمحذوف ، أي صدقا ملتبسا بالحق. (لَتَدْخُلُنَ) : اللام جواب قسم محذوف ، ويبعد قول من جعله جواب بالحق ؛ وبالحق قسم لا تعلق له بصدق ، وتعليقه على المسيئة ، قيل : لأنه حكاية قول الملك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن كيسان. وقيل : هذا التعليق تأدب بآداب الله تعالى ، وإن كان الموعود به متحقق الوقوع ، حيث قال تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢). وقال ثعلب : استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. وقال الحسن بن الفضل : كأن الله علم أن بعض الذين كانوا بالحديبية يموت ، فوقع الاستثناء لهذا المعنى. وقال أبو عبيدة وقوم : إن بمعنى إذ ، كما قيل في قوله : «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». وقيل : هو تعليق في قوله : (آمِنِينَ) ، لا لأجل إعلامه بالدخول ، فالتعليق مقدم على موضعه. وهذا القول لا يخرج التعليق عن كونه معلقا على واجب ، لأن الدخول والأمن أخبر بهما تعالى ، ووقعت الثقة بالأمرين وهما الدخول والأمن الذي هو قيد في الدخول. و (آمِنِينَ) : حال مقارنة للدخول. ومحلقين ومقصرين : حال مقدرة ؛ ولا تخافون : بيان لكمال الأمن بعد تمام الحج.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٢.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٢٣.


ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف ، واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) : أي ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ، ودخول الناس فيه ، وما كان أيضا بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم ، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : فعلم ما لم تعلموا من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل. انتهى. ولم يكن فتح مكة في العام القابل ، إنما كان بعد ذلك بأكثر من عام ، لأن الفتح إنما كان سنة ثمان من الهجرة. (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) : أي من قبل ذلك ، أي من زمان دون ذلك الزمان الذي وعدوا فيه بالدخول. فتحا قريبا ، قال كثير من الصحابة : هذا الفتح القريب هو بيعة الرضوان. وقال مجاهد وابن إسحاق : هو فتح الحديبية. وقال ابن زيد : خيبر ، وضعف قول من قال إنه فتح مكة ، لأن فتح مكة لم يكن دون دخول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) : فيه تأكيد لصدق رؤياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، وتقدم الكلام على معظم هذه الآية. (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أن ما وعده كائن. وعن الحسن : شهيدا على نفسه أنه سيظهر دينك. والظاهر أن قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) مبتدأ وخبر. وقيل : رسول الله صفة. وقال الزمخشري : عطف بيان ، (وَالَّذِينَ) معطوف ، والخبر عنه وعنهم أشداء. وأجاز الزمخشري أن يكون محمد خبر مبتدأ محذوف ، أي هو محمد ، لتقدم قوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ). وقرأ ابن عامر في رواية : رسوله الله بالنصب على المدح ، والذين معه هم من شهد الحديبية ، قاله ابن عباس. وقال الجمهور : جميع أصحابه أشداء ، جمع شديد ، كقوله : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (١). (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، كقوله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، وكقوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (٣) ، وقوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤). وقرأ الحسن : أشداء رحماء بنصبهما. قيل : على المدح ، وقيل : على الحال ، والعامل فيهما العامل في معه ، ويكون الخبر عن المبتدأ المتقدم : تراهم. وقرأ يحيى بن يعمر : أشدا ، بالقصر ، وهي شاذة ، لأن قصر الممدود إنما يكون في الشعر ، نحو قوله :

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٧٣.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.


لا بد من صنعا وإن طال السفر

وفي قوله : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) دليل على كثرة ذلك منهم. وقرأ عمرو بن عبيد : ورضوانا ، بضم الراء. وقرىء : سيمياهم ، بزيادة ياء والمد ، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر ، قال الشاعر :

غلام رماه الله بالحسن يافعا

له سيمياء لا تشق على البصر

وهذه السيما ، قال مالك بن أنس : كانت جباههم منيرة من كثرة السجود في التراب. وقال ابن عباس ، وخالد الحنفي ، وعطية : وعد لهم بأن يجعل لهم نورا يوم القيامة من أثر السجود. وقال ابن عباس أيضا : السمت : الحسن وخشوع يبدو على الوجه. وقال الحسن ، ومعمر بن عطية : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجه من السهر. وقال عطاء ، والربيع بن أنس : حسن يعترى وجوه المصلين. وقال منصور : سألت مجاهدا : هذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل؟ قال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهي أقسى قلبا من الحجارة. وقال ابن جبير : ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود. وقال الزمخشري : المراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود. وقوله : (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يفسرها : أي من التأثير الذي يؤثره السجود. وكان كل من العليين ، علي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن العباس أبي الملوك ، يقال له ذو الثفنات ، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير. انتهى. وقرأ ابن هرمز : إثر ، بكسر الهمزة وسكون الثاء ، والجمهور بفتحهما. وقرأ قتادة : من آثار السجود ، بالجمع.

(ذلِكَ) : أي ذلك الوصف من كونهم أشداء رحماء مبتغين سيماهم في وجوههم صفتهم في التوراة. قال مجاهد والفراء : هو مثل واحد ، أي ذلك صفتهم في التوراة والإنجيل ، فيوقف على الإنجيل. وقال ابن عباس : هما مثلان ، فيوقف على ذلك في التوراة ؛ وكزرع : خبر مبتدأ محذوف ، أي مثلهم كزرع ، أو هم كزرع. وقال الضحاك : المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة وتم الكلام ، ثم ابتدأ ومثلهم في الإنجيل كزرع ، فعلى هذا يكون كزرع خبر ومثلهم. وقال قتادة : مثل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوم ينبتون نباتا كالزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله : (كَزَرْعٍ


أَخْرَجَ شَطْأَهُ) ، كقوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) (١). وقال ابن عطية : وقوله : كزرع ، هو على كلا الأقوال ، وفي أي كتاب أنزل ، فرض مثل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء ، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل. انتهى. وقال ابن زيد : شطأه : فراخه وأولاده. وقال الزجاج : نباته. وقال قطرب : شتول السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قاله الفراء. وقال الكسائي والأخفش : طرفه ، قال الشاعر :

أخرج الشطء على وجه الثرى

ومن الأشجار أفنان الثمر

وقرأ الجمهور : شطأه ، بإسكان الطاء والهمزة ؛ وابن كثير ، وابن ذكوان : بفتحهما ؛ وكذلك : وبالمدّ ، أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي ؛ وبألف بدل الهمزة ، زيد بن علي ؛ فاحتمل أن يكون مقصورا ، وأن يكون أصله الهمز ، فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفا. كما قالوا في المرأة والكمأة : المراة والكماة ، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين ، وهو عند البصريين شاذ لا يقاس عليه. وقرأ أبو جعفر : شطه ، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء. ورويت عن شيبة ، ونافع ، والجحدري ، وعن الجحدري أيضا : شطوه بإسكان الطاء وواو بعدها. وقال أبو الفتح : هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشط إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات. وقال صاحب اللوامح : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فراخه ، وهو في الحنطة والشعير وغيرهما. وقرأ ابن ذكوان : فأزره ثلاثيا ؛ وباقي السبعة : فآزره ، على وزن أفعله. وقرىء : فازّره ، بتشديد الزاي. وقول مجاهد وغيره : آزره فاعله خطأ ، لأنه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر ، على وزن يكرم ؛ والضمير المنصوب في آزره عائد على الزرع ، لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل ، فإذا خرجت فراخه غلظ أصله وتقوى ، وكذلك أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا أقلة ضعفاء ، فلما كثروا وتقووا قاتلوا المشركين. وقال الحسن : آزره : قواه وشدّ أزره. وقال السدي : صار مثل الأصل في الطول. (فَاسْتَغْلَظَ) : صار من الرقة إلى الغلظ. (فَاسْتَوى) : أي تم نباته. (عَلى سُوقِهِ) : جمع ساق ، كناية عن أصوله. وقرأ ابن كثير : على سؤقه بالهمز. قيل : وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو الذي قبلها ضمة ، ومنه قول الشاعر :

أحب المؤقدين إليّ مؤسي

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٦٦.


(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) : جملة في موضع الحال ؛ وإذا أعجب الزراع ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع ، ولو كان معيبا لم يعجبهم ، وهنا تم المثل. و (لِيَغِيظَ) : متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). وقال الزمخشري : فإن قلت : ليغيظ بهم الكفار تعليل لما ذا؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) : لأن الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك. ومعنى : (مِنْهُمْ) : للبيان ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١). وقال ابن عطية : وقوله منهم ، لبيان الجنس وليست للتبعيض ، لأنه وعد مدح الجميع. وقال ابن جرير : منهم يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، فأعاد الضمير على معنى الشطء لا على لفظه. والأجر العظيم : الجنة. وذكر عند مالك بن أنس رجل ينتقص الصحابة ، فقرأ مالك هذه الآية وقال : من أصبح بين الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أصابته هذه الآية ، والله الموفق.

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٣٠.


سورة الحجرات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا


الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)

التنابز بالألقاب : التداعي بها ، تفاعل من نبزه ، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ، ويقال : النبز والنزب لقب السوء. اللقب : هو ما يدعى به الشخص من لفظ غير اسمه وغير كنيته ، وهو قسمان : قبيح ، وهو ما يكرهه الشخص لكونه تقصيرا به وذما ؛ وحسن ، وهو بخلاف ذلك ، كالصديق لأبي بكر ، والفاروق لعمر ، وأسد الله لحمزة ، رضي الله تعالى عنهم. تجسس الأمر : تطلبه وبحث عن خفيه ، تفعل من الجس ، ومنه الجاسوس : وهو الباحث عن العورات ليعلم بها ؛ ويقال لمشاعر الإنسان : الحواس ، بالحاء والجيم. الشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل ؛ والقبيلة تجمع العمائر ؛ والعمارة تجمع البطون ؛ والبطن يجمع الأفخاذ ؛ والفخذ يجمع الفصائل. خزيمة شعب ؛


وكنانة قبيلة ؛ وقريش عمارة ؛ وقصي بطن ؛ وهاشم فخذ ؛ والعباس فصيلة. وسميت الشعوب ، لأن القبائل تشعبت منها. وروي عن ابن عباس : الشعوب : البطون ، هذا غير ما تمالأ عليه أهل اللغة ، ويأتي خلاف في ذلك عند قوله : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً). القبيلة دون الشعب ، شبهت بقبائل الرأس لأنها قطع تقابلت. ألت يألت : بضم اللام وكسرها ألتا ، ولات يليت وألات يليت ، رباعيا ، ثلاث لغات حكاها أبو عبيدة ، والمعنى نقص. وقال رؤبة :

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت

أي : لم يمنعني ولم يحبسني. وقال الحطيئة :

أبلغ سراة بني سعد مغلظة

جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

هذه السورة مدنية. ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ثم قال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١) ، فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

وكانت عادة العرب ، وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء ، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك. قال قتادة : فربما قال قوم : ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا. وقال الحسن : ذبح قوم ضحايا قبل

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٩.


النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفعل قوم في بعض غزواته شيئا بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك. فقال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا ، وقدمت إذ قلت فيه.

وقرأ الجمهور : لا تقدموا ، فاحتمل أن يكون متعديا ، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم ، فلم يقصد لشيء معين ، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين ، كقولهم : فلان يعطي ويمنع. واحتمل أن يكون لازما بمعنى تقدم ، كما تقول : وجه بمعنى توجه ، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف ، أي لا تتقدّموا في شيء ما من الأشياء ، أو بما يحبون. ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم. لا تقدموا ، بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم ، وحذفت التاء تخفيفا ، إذ أصله لا تتقدموا. وقرأ بعض المكيين : تقدموا بشد التاء ، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها ، كقراءة البزي. وقرىء : لا تقدموا ، مضارع قدم ، بكسر الدال ، من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليها ، والمكان المسامت وجه الرجل قريبا منه. قيل : فيه بين يدي المجلوس إليه توسعا ، لما جاور الجهتين من اليمين واليسار ، وهي في قوله : (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ) ، مجاز من مجاز التمثيل. وفائدة تصوير الهجنة والشناعة فيها ؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة ؛ والمعنى : لا تقطعوا أمرا إلا بعد ما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل ، أو مقتدين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا ، وعلى هذا مدار تفسير ابن عباس. وقال مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئا حتى يقصه الله على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم. ولما نهى أمر بالتقوى ، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم ، (عَلِيمٌ) بنياتكم وأفعالكم.

ثم ناداهم ثانيا ، تحريكا لما يلقيه إليهم ، واستبعادا لما يتجدد من الأحكام ، وتطرية للإنصات. ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت. (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) : أي إذا نطق ونطقتم ، (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) إذا كلمتموه ، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل ، ولا يكون الكلام مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالكلام مع غيره. ولما نزلت ، قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : لا أكلمك يا رسول الله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله. وعن عمر رضي‌الله‌عنه ، أنه كان يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأخي السرار ، لا يسمعه حتى يستفهمه. وكان أبو بكر ، إذا قدم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قوم ، أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ، ويأمرهم


بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم ، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء ، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفرا ، والمخاطبون مؤمنون. (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) : أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام ، فلم ينهوا إلا عن جهر مخصوص. وكره العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبحضرة العالم ، وفي المساجد.

وعن ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جهير الصوت ، وحديثه في انقطاعه في بيته أياما بسبب ذلك مشهور ، وأنه قال : يا رسول الله ، لما أنزلت ، خفت أن يحبط عملي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك من أهل الجنة». وقال له مرة : «أما ترضى أن تعيش حميدا وتموت شهيدا»؟ فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة ، رضي الله تعالى عنه يوم مسيلمة. (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) : إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافا ، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة ؛ وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على عادته ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغض الصوت عنده ، أن لو فعل ذلك ، كأنه قال : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها. وأن تحبط مفعول له ، والعامل فيه ولا تجهروا ، على مذهب البصريين في الاختيار ، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار ، ومع ذلك ، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر. وقرأ عبد الله وزيد بن علي : فتحبط بالفاء ، وهو مسبب عن ما قبله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) ، قيل : نزلت في أبي بكر وعمر ، رضي الله تعالى عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. (امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) : أي جربت ودربت للتقوى ، فهي مضطلعة بها ، أو وضع الامتحان موضع المعرفة ، لأن تحقيق الشيء باختباره ، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى في موضع الحال ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها. وقيل : أخلصها للتقوى من قولهم : امتحن الذهب وفتنه إذا أذابه ، فخلص إبريزه من خبثه. وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة ، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده ، جائيا بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم. وكل هذا دليل على أن الارتضاء بما فعلوا من توقير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بغض أصواتهم ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجبه هؤلاء.


(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) : نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم وغيرهم. وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم راقد ، فجعلوا ينادونه بجملتهم : يا محمد ، اخرج إلينا. فاستيقظ فخرج ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك! ذلك الله تعالى». فاجتمع الناس في المسجد فقالوا : نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا ، نشاعرك ونفاخرك ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا». فقال الزبرقان لشاب منهم : فخر واذكر فضل قومك ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه ، وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عددا ومالا وسلاحا ، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعل هو أحسن من فعلنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيبه : «قم فأجبه» ، فقال : «الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها وأعظمهم أحلاما فأجابوه ، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزا لدينه ، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، فمن قالها منع نفسه وماله ، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هينا ، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات». وقال الزبرقان لشاب : قم فقل أبياتا تذكر فيها فضل قومك ، فقال :

نحن الكرام فلا حي يعادلنا

فينا الرءوس وفينا يقسم الربع

ونطعم النفس عند القحط كلهم

من السديف إذا لم يؤنس الفزع

إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد

إنا كذلك عند الفخر نرتفع

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا حسان بن ثابت ، فقال له : «أعدلي قولك فأسمعه» ، فأجابه :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد شرعوا سنة للناس تتبع

يوصي بها كل من كانت سريرته

تقوى الإله فكل الخير يطلع

ثم قال حسان في أبيات :

نصرنا رسول الله والدين عنوة

على رغم غاب من معد وحاضر

بضرب كأنواع المخاض مشاشة

وطعن كأفواه اللقاح المصادر

وسل أحدا يوم استقلت جموعهم

بضرب لنا مثل الليوث الخوادر


ألسنا نخوض الموت في حومة الوغا

إذا طاب ورد الموت بين العساكر

فنضرب هاما بالذراعين ننتمي

إلى حسب من جذع غسان زاهر

فلو لا حياء الله قلنا تكرما

على الناس بالحقين هل من منافر

فأحياؤنا من خير من وطئ الحصا

وأمواتنا من خير أهل المقابر

قال : فقام الأقرع بن حابس فقال : إني والله لقد جئت لأمر ، وقد قلت شعرا فاسمعه ، وقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وإنا رءوس الناس في كل غارة

تكون بنجد أو بأرض التهائم

وأن لنا المرباع في كل معشر

وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان : «قم فأجبه» ، فقام وقال :

بني دارم لا تفخروا إن فخركم

يصير وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم

لنا خول من بين ظئر وخادم

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد كنت غنيا يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه». فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان ، ثم رجع حسان إلى شعره فقال :

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم

وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا

ولا تفخروا عند النبي بدارم

وإلا ورب البيت قد مالت القنا

على هامكم بالمرهفات الصوارم

فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ، ثم دنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يضرك ما كان قبل هذا» ، ثم أعطاهم وكساهم.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب ، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه. والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام ، ومن لابتداء الغاية ، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان. وقال الزمخشري : فإن قلت : أفرق بين الكلامين ، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه.


قلت : الفرق بينهما : أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني لا يجوز ، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية ، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد. والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار ، لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها ، كان مطلقا بغير تعين ولا اختصاص. انتهى. وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد ، وأن الشيء الواحد يكون محلا لهما. وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم : أخذت الدرهم من زيد ، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معا. قالوا : فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معا. وهذه المناداة التي أنكرت ، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج ، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير ، كما ينادي بعضهم بعضا.

والحجرات : منازل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت تسعة. والحجرة : الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى حجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة. وقرأ الجمهور : الحجرات ، بضم الجيم اتباعا للضمة قبلها ؛ وأبو جعفر ، وشيبة : بفتحها ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغى ثلاث ، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو. والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة. وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، فإن صح ذلك ، كان الإسناد إلى الجماعة ، لأنهم راضون بذلك ؛ وإذا كانوا جماعة ، احتمل أن يكونوا تفرقوا ، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة ، وبعض من وراء هذه ، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة ، أو كانت الحجرة واحدة ، وهي التي كان فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجمعت إجلالا له ؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلا. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصدا إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم. انتهى. وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقا به ، فيحتمل النفي ، وإنما هو مفهوم من قوله : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل ، لا من المفهوم ، فلا يحمل قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ*) (١) النفي المحض للشكر ، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل. وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٣.


وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها ، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر ، فكان الأول بساطا للثاني ، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك ، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى. ثم جيء على عقبه بما هو أفظع ، وهو الصياح برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار ، كما يصاح بأهون الناس ، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش. ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب. كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) ، قال الزمخشري : (أَنَّهُمْ صَبَرُوا) في موضع الرفع على الفاعلية ، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم. انتهى ، وهذا ليس مذهب سيبويه ، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ ، لا في موضع فاعل. ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف ، كما زعم الزمخشري. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا ، أي لكان هو ، أي صبرهم خيرا لهم. وقال الزمخشري : في كان ، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو. انتهى ، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر ، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل ، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيرا لهم في الثواب عند الله ، وفي انبساط نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقضائه لحوائجهم. وقد قيل : إنهم جاءوا في أسارى ، فأعتق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النصف وفادى على النصف ، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء. وقيل : لكان صبرهم أحسن لأدبهم. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) الآية ، حدث الحارث بن ضرار قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فأسلمت ، وإلى الزكاة فأقررت بها ، فقلت : أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن أجابني جمعت زكاته ، فترسل من يأتيك بما جمعت. فلما جمع ممن استجاب له ، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليه ، واحتبس عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لسروات قومه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت لي وقتا إلى من يقبض الزكاة ، وليس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلف ، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه. فانطلقوا بها إليه ، وكان عليه‌السلام البعث بعث الوليد بن الحارث ، ففرق ، فرجع فقال : منعني الحارث الزكاة وأراد قتلي ، فضرب


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحارث ، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة ، فقالوا : هذا الحارث ، إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك قال : ولم؟ فقالوا : بعث إليك الوليد ، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيت رسولك ، ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله ، قال : فنزلت هذه الآية.

وفاسق وبنبإ مطلقان ، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل ، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء ، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق ، ولا يبنى عليه حكم. وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن ، لا بالحرف المقتضي للتحقيق ، وهو إذا ، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب ، إنما كان على سبيل الندرة. وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم ، ونبا ما يترتب على كلامه. فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت ، كف عن مجيئهم بما يريد. (أَنْ تُصِيبُوا) : مفعول له ، أي كراهة أن يصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ، (بِجَهالَةٍ) حال ، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق ، (فَتُصْبِحُوا) : فتصيروا ، (عَلى ما فَعَلْتُمْ) : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق ، (نادِمِينَ) : مقيمين على فرط منكم ، متمنين أنه لم يقع. ومفهوم (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) : قبول كلام غير الفاسق ، وأنه لا يتثبت عنده ، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل. وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التثبت من الله والعجلة من الشيطان». وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد علي من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول. انتهى. وليس كما ذكر ، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق ، لا مجيء المسلم ، بل بشرط الفسق. والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقا ، فالاحتياط لازم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) : هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام ، ووعيد بالنصيحة. ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة ، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمد على خبر الفاسق ، بل بين له ذلك. والظاهر أن قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) كلام تام ، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا تخبروه بما لا يصح ، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك.

ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه (لَعَنِتُّمْ) : أي لشق عليكم. وقال مقاتل : لأثمتم. وقال الزمخشري :


والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور ، وكلاهما مذهب سديد ، والمعنى : أن فيكم رسول الله ، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها ، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره ، والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته ، ولو فعل ذلك (لَعَنِتُّمْ) : أي لوقعتم في الجهد والهلاك.

وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيقاع ببني المصطلق ، وتصديق قول الوليد ، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصونون ، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) : أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. انتهى ، وفيه تكثير. ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالا ، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب. وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لآرائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. وقيل : يطيعكم دون أطاعكم ، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم على ما يستصوبونه ، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولا عليه بدليل قوله في كثير من الأمر ، وشريطة لكن مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك. انتهى ، وهو ملتقط من كلام الزمخشري.

وقال الزمخشري أيضا : ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق وسبيله الكناية ، كما سبق وكل ذي لب ، وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبا عليه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره. وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. انتهى ، وهي على طريق الاعتزال. وعن الحسن : حبب الإيمان بما وصف من الثناء عليه ، وكره الثلاثة بما وصف من العقاب. انتهى. (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) : التفات من الخطاب إلى الغيبة. (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) ، قال ابن عطية : مصدر مؤكد لنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، إذا التحبيب


والتزيين هو نفس الفضل. وقال الحوفي : فضلا نصب على الحال. انتهى ، ولا يظهر هذا الذي قاله. وقال أبو البقاء : مفعول له ، أو مصدر في معنى ما تقدم. وقال الزمخشري : فضلا مفعول له ، أو مصدر من غير فعله. فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولا له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه ، تقدست أسماؤه ، وصار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه ولا ينتصب عن الراشدون ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى.

والجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) اعتراض ، أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلا من الله. وأما كونه مصدرا من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشدا ، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الأفضال والأنعام. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ، (حَكِيمٌ) حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم. انتهى. أما توجيهه كون فضلا مفعولا من أجله ، فهو على طريق الاعتزال. وأما تقديره أو كان ذلك فضلا ، فليس من مواضع إضمار كان ، ولذلك شرط مذكور في النحو.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).

سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبيّ بن سلول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في موضعه ، وتعصب بعضهم لعبد الله ، ورد عبد الله بن رواحة على ابن أبي ، فتجالد الحيان ، قيل : بالحديد ، وقيل : بالجريد والنعال والأيدي ، فنزلت ، فقرأها عليهم ، فاصطلحوا. وقال السدّي : وكانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ، وكان لها زوج من غيرهم ، فوقع بينهم شيء


أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه ، فوقع قتال ، فنزلت الآية بسببه. وقرأ الجمهور : (اقْتَتَلُوا) جمعا ، حملا على المعنى ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وقرأ ابن أبي عبلة : اقتتلتا ، على لفظ التثنية ؛ وزيد بن عليّ ، وعبيد بن عمير : اقتتلتا على التثنية ، مراعى بالطائفتين. الفريقان اقتتلوا ، وكل واحد من الطائفتين باغ ؛ فالواجب السعي بينهما بالصلح ، فإن لم تصطلحا وأقامتا على البغي قوتلتا ، أو لشبهة دخلت عليهما ، وكل منهما يعتقد أنه على الحق ؛ فالواجب إزالة الشبه بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، فإن لجا ، فكالباغيتين ؛ (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) ، فالواجب أن تقاتل حتى تكف عن البغي. ولم تتعرض الآية من أحكام التي تبغي لشيء إلا لقتالها ، وإلى الإصلاح إن فاءت. والبغي هنا : طلب العلو بغير الحق ، والأمر في فأصلحوا وقاتلوا هو لمن له الأمر من الملوك وولاتهم. وقرأ الجمهور : (حَتَّى تَفِيءَ) ، مضارع فاء بفتح الهمزة ؛ والزهري : حتى تفي ، بغير همزة وفتح الياء ، وهذا شاذ ، كما قالوا في مضارع جاء يجي بغير همز ، فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى يفي مضارع وفي شذوذا.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) : أي إخوة في الدين. وفي الحديث : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله». وقرأ الجمهور : (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) مثنى ، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان ، فإذا كان الإصلاح لازما بين اثنين ، فهو ألزم بين أكثر من اثنين. وقيل : المراد بالأخوين : الأوس والخزرج. وقرأ زيد بن ثابت ، وابن مسعود ، والحسن : بخلاف عنه ؛ والجحدري ، وثابت البناني ، وحماد بن سلمة ، وابن سيرين : بين إخوانكم جمعا ، بالألف والنون ، والحسن أيضا ، وابن عامر في رواية ، وزيد بن عليّ ، ويعقوب : بين إخوتكم جمعا ، على وزن غلمة. وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث ، ويغلب الأخوان في الصداقة ، والإخوة في النسب ، وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر ، ومنه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، وقوله : (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) : هذه الآية والتي بعدها تأديب للأمّة ، لما كان فيه أهل الجاهلية من هذه الأوصاف الذميمة التي وقع النهي عنها. وقيل : نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل ، كان يمشي بالنميمة ، وقد أسلم ، فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة ، فعز ذلك عليه وشكاهم ، فنزلت. وقوم مرادف رجال ، كما قال تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (٢) ، ولذلك قابله هنا بقوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) ، وفي قول زهير :

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٦١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٣٤.


وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وقال الزمخشري : وهو في الأصل جمع قائم ، كصوم وزور في جمع صائم وزائر. انتهى وليس فعل من أبنية الجموع إلا على مذهب أبي الحسن في قوله : إن ركبا جمع راكب. وقال أيضا الزمخشري : وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث ، لأنهن توابع لرجالهن. انتهى. وغيره يجعله من باب التغليب والنهي ، ليس مختصا بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى ، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك ، بل المعنى : لا يسخر أحد من أحد ، وإنما ذكر الجمع ، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل. فكأنه إذا سخر الواحد ، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله ، أو بلغت سخريته ناسا فضحكوا ، فينقلب الحال إلى جماعة. (عَسى أَنْ يَكُونُوا) : أي المسخور منهم ، (خَيْراً مِنْهُمْ) : أي من الساخرين بهم. وهذه الجملة مستأنفة ، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيرا من الساخر ، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى. وعن ابن مسعود : لو سخرت من كلب ، خشيت أن أحول كلبا.

(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) : روي أن عائشة وحفصة ، رضي الله تعالى عنهما ، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها ، فقالت عائشة لحفصة : انظري إلى ما يجر خلفها ، كأنه لسان كلب. وعن عائشة ، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت قصيرة. وعن أنس : كان نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيرن أم سلمة بالقصر. وقالت صفية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها : هلا قلت إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد؟ وقرأ عبد الله وأبي : عسوا أن يكونوا ، وعسين أن يكن ، فعسى ناقصة ، والجمهور : عسى فيهما تامّة ، وهي لغتان : الإضمار لغة تميم ، وتركه لغة الحجاز.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) : ضم الميم في تلمزوا ، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو. وقال أبو عمرو : هي عربية ؛ والجمهور ؛ بالكسر ، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، والمعنى : لا يعب بعضكم بعضا ، كما قال : فاقتلوا أنفسكم ، كأن المؤمنين نفس واحدة ، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى. ومفهوم أنفسكم أن له أن


يعيب غيره ، مما لا يدين بدينه. ففي الحديث : «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس». وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق اللمز ، فقد لمز نفسه.

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) : اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به ، كان منهيا ، وأما إذا كان حسنا ، فلا ينهى عنه. وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فنزلت الآية بسبب ذلك. وفي الحديث : «كنوا أولادكم». قال عطاء : مخافة الألقاب. وعن عمر : «أشيعوا الكنى فإنها سنة». انتهى ، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة ، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره ، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق ، وتتهادى أخباره الرفاق ، كما جرى في كنيتي بأبي حيان ، واسمي محمد. فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر ، مما يقع فيه الاشتراك ، لم أشتهر تلك الشهرة ، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيرا ما يلقبون الألقاب ، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي :

يا أهل أندلس ما عندكم أدب

بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب

يدعى الشباب شيوخا في مجالسهم

والشيخ عندكم يدعى بتلقيب

فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ ، وكل هذا يحرم تعاطيه. قيل : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى. قالوا : وقد قال ابن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور. وقال ابن زيد : أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه ، ولا يا فاسق بعد توبته ، ونحو ذلك. وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك ، فقال له مالك : يا أعرابي ، يريد أن يبعده من الهجرة ، فقال له الآخر : يا يهودي ، يريد المخاطبة لليهود في يثرب.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) : أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب ، فتكونون فساقا بالمعصية بعد إيمانكم ، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه. وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان. انتهى. وقال الزمخشري : نحو قول الرماني ، قال : استقباح الجمع بعد الإيمان ، والفسق الذي يأباه الإيمان ، وهذه نزغة اعتزالية. وقال الزمخشري : الاسم هاهنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره


وارتفع بين الناس ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) : أي عن هذه الأشياء (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) : تشديد وحكم بظلم من لم يتب.

(اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) : أي لا تعملوا على حسبه ، وأمر تعالى باجتنابه ، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله. والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم ، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث ، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر ، وصحبة نساء المغاني ، وإدمان النظر إلى المرد. فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح ، ولا إثم فيه ، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر ، ولا يزني ، ولا يعبث بالشبان ، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء. فهذا هو المنهي عنه ، ويجب أن يزيله. والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو ، كأنه يثم الأعمال ، أي يكسرها بإحباطه ، وهذا ليس بشيء ، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز. تقول : أثم يأثم فهو آثم ، والإثم والآثام ، فالهمزة أصل وليست بدلا عن واو. وأما يثم فأصله يوثم ، وهو من مادة أخرى. وقيل : الإثم متعلق بتكلم الظان. أما إذا لم يتكلم ، فهو في فسحة ، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحزم سوء الظن». وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان ، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمرا؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. وفي الحديث : «أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» ، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة ، وكان دخل عليه هجما ، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس ، انصرف عمر.

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ؛ والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال ، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه. وفي الحديث : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ، فقال : يا رسول الله وإن كان حقا؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قلت باطلا فذلك البهتان» ، وفي الصحيحين فقد بهته. وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس. وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل


منها ، إلا أنها قصيرة. فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اغتبتيها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه». وحكى الزهراوي عن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب الله عليه ، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل ، وعرض المسلم مثل دمه في التحريم». وفي الحديث المستفيض : «فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم». ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه ، من تجريح الشهود والرواة ، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ومنه :

وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) ، قال الزمخشري : تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا. انتهى. وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع ، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب ، لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل. انتهى. وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذه العرض بأكل اللحم ، لأن اللحم ستر على العظم ، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر.

وقال تعالى : (مَيْتاً) ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت. انتهى. وروي في الحديث : «ما صام من أكل لحوم الناس». وقال أبو قلابة الرياشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحدا منذ عرفت ما في الغيبة. وقيل : لعمر بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا. وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ، قال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. وانتصب ميتا على الحال من لحم ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ ، وهو ضعيف ، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرجا ، وقيام زيد مسرعا. فالفرس في موضع نصب ، وزيد في موضع رفع. وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء ، جاز انتصاب الحال من الثاني ، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو.


(فَكَرِهْتُمُوهُ) ، قال الفراء : أي فقد كرهتموه ، فلا تفعلون. وقيل : لما وقفهم على التوبيخ بقوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) ، فأجاب عن هذا : لأنهم في حكم من يقولها ، فخوطبوا على أنهم قالوا لا ، فقيل لهم : فكرهتموه ، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك. وعلى هذا التقدير يعطف قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، قاله أبو علي الفارسي ، وفيه عجرفة العجم.

وقال الزمخشري : ولما قررهم عزوجل بأن أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) ، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين. انتهى ، وفيه أيضا عجرفة العجم. والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفا ، وأجرى على قواعد العربية. وقيل : لفظه خبر ، ومعناه الأمر ، تقديره : فاكرهوه ، ولذلك عطف عليه (وَاتَّقُوا اللهَ) ، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير ، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ، أي ليتق الله ، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر.

وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية. جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم ، وهو الظن ؛ ثم نهى ثانيا عن طلب تحقق ذلك الظن ، فيصير علما بقوله : (وَلا تَجَسَّسُوا) ؛ ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم ، فهذه أمور ثلاثة مترتبة ، ظنّ فعلم بالتجسس فاغتياب. وضمير النصب في كرهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل. وقيل : على الميت. وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل. وقيل : على الميت. وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، بضم الكاف وتشديد الراء ؛ ورواها الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجمهور : بفتح الكاف وتخفيف الراء ، وكره يتعدى إلى واحد ، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين ، كقراءة الخدري ومن معه ، أي جعلتم فكرهتموه. فأما قوله : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) فعلى التضمين بمعنى بغض ، وهو يتعدى لواحد ، وبإلى إلى آخر ، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد. والظاهر عطف (وَاتَّقُوا اللهَ) على ما قبله من الأمر والنهي. قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً


إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

قيل : غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة ، فنزلت. وعن ابن عباس ، سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن فلانة ؛ فوبخه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : «إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى».

ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضا. (مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) : أي من آدم وحواء ، أو كل أحد منكم من أب وأم ، فكل واحد منكم مساو للآخر في ذلك الوجه ، فلا وجه للتفاخر. (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) : وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفردات. وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل. وقيل : الشعوب : عرب اليمن من قحطان ، والقبائل : ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك : الشعب : النسب الأبعد ، والقبيلة : الأقرب ، قال الشاعر :

قبائل من شعوب ليس فيهم

كريم قد يعدّ ولا نجيب

وقيل : الشعوب : الموالي ، والقبائل : العرب. وقال أبو روق : الشعوب : الذين ينسبون إلى المدائن والقرى ، والقبائل : الذين ينسبون إلى آبائهم. انتهى. وواحد الشعوب شعب ، بفتح الشين. وشعب : بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين ، والنسب إلى الشعوب شعوبية ، بفتح الشين ، وهم الأمم التي ليست بعرب. وقيل : هم الذين يفضلون العجم على العرب ، وكان أبو عبيدة خارجيا شعوبيا ، وله كتاب في مناقب العرب ، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة. وقرأ الجمهور : (لِتَعارَفُوا) ، مضارع تعارف ، محذوف التاء ؛ والأعمش : بتاءين ؛ ومجاهد ، وابن كثير في رواية ، وابن محيصن : بإدغام التاء في التاء ؛ وابن عباس ، وأبان عن عاصم : لتعرفوا ، مضارع عرف ؛ والمعنى : أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر ، كي يعرف بعضكم بعضا في النسب ، فلا ينتمي إلى غير آبائه ، لا التفاخر بالآباء والأجداد ، ودعوى التفاضل ، وهي التقوى. وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة : «إنما الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين


على الله» ، ثم قرأ الآية. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله». وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام ، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع ، وأكثره بالأنساب :

وأعجب شيء إلى عاقل

فروع عن المجد مسأخره

إذا سئلوا ما لهم من علا

أشاروا إلى أعظم ناخره

ومن ذلك : افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم ، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم ، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح. وقرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة ؛ وابن عباس : بفتحها ، وكان قرأ : لتعرفوا ، مضارع عرف ، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا ، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر ، وهو أجود من حيث المعنى. وأما إن كانت لام كي ، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوبا وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى. فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفا ، أي لتعرفوا الحق ، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) ، قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة ، قبيلة تجاور المدينة ، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا. وقيل : مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) ، أكذبهم الله في دعوى الإيمان ، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه ، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم ، وهذا في أعراب مخصوصين. فقد قال الله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١) الآية.

(وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) ، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم ، وهو الاستسلام والانقياد ظاهرا ، ولم يواطىء أقوالكم ما في قلوبكم ، فلذلك قال : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) : وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار ، وتبين أن قوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي ، بل متصلا بزمان الإخبار أيضا ، لأنك إذا نفيت بلم ، جاز أن يكون النفي قد انقطع ، ولذلك يجوز أن تقول : لم يقم زيد وقد قام ، وجاز أن يكون النفي متصلا بزمن الإخبار. فإذا كان متصلا بزمن الإخبار ، لم يجز أن تقول : وقد قام ، لتكاذب الخبرين. وأما لما ، فإنها تدل على نفي الشيء متصلا بزمان

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٩٩.


الإخبار ، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب. والظاهر أن قوله : (لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب. وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة ؛ قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) هو تكذيب دعواهم ، وقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله : (قُولُوا). انتهى.

والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا : (قُولُوا أَسْلَمْنا) غير مقيد بحال ، وأن (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) إخبار غير قيد في قولهم. وقال الزمخشري : وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد. انتهى ، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما ، إنما تنفي ما كان متصلا بزمان الإخبار ، ولا تدل على ما ذكر ، وهي جواب لقد فعل ، وهب أن قد تدل على توقع الفعل. فإذا نفى ما دل على التوقع ، فكيف يتوهم أنه يقع بعد : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالإيمان والأعمال؟ وهذا فتح لباب التوبة. وقرأ الجمهور : (لا يَلِتْكُمْ) ، من لات يليت ، وهي لغة الحجاز. والحسن والأعرج وأبو عمرو : ولا يألتكم ، من ألت ، وهي لغة غطفان وأسد. (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) ، ثم تقتضي التراخي ، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان ، فقيل : من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان ، أي ثم أقول لم يرتابوا. وقيل : قد يخلص الإيمان ، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه ، فنفى ذلك ، فحصل التراخي ، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة ، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) : أي في قولهم آمنا ، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم ، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال. وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية ، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا ، وهم كاذبون في ذلك.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) ، هي منقولة من : علمت به ، أي شعرت به ، ولذلك تعدّت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف ، وفي ذلك تجهيل لهم ، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى. ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض. ويقال : منّ عليهم بيد أسداها إليه ، أي أنعم عليه. المنة : النعمة التي لا يطلب لها ثواب ، ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاما ، أي يعتدون عليك أن


أسلموا ، فإن أسلموا في موضع المفعول ، ولذلك تعدى إليه في قوله : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ). ويجوز أن يكون أسلموا مفعولا من أجله ، أي يتفضلون عليك بإسلامهم. (أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) بزعمكم ، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين ، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا). وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ ، إذ هداكم ، جعلا إذ مكان إن ، وكلاهما تعليل ، وجواب الشرط محذوف. أي (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، فهو المانّ عليكم. وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم : يعلمون ، بياء الغيبة ، والجمهور : بتاء الخطاب.


سورة ق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ


غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)

بسقت النخلة بسوقا : طالت ، قال الشاعر :

لنا خمر وليست خمر كرم

ولكن من نتاج الباسقات

كرام في السماء ذهبن طولا

وفات ثمارها أيدي الجناة

وبسق فلان على أصحابه : أي علاهم ، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة :

يا ابن الذين بمجدهم

بسقت على قيس فزاره

ويقال : بسقت الشاة : ولدت ، وأبسقت الناقة : وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج فهي مبسق ، ونوق مباسق. حاد عن الشيء : مال عنه ، حيودا وحيدة وحيدودة. الوريد : عرق


كبير في العنق ، يقال : إنهما وريدان عن يمين وشمال. وقال الفراء : هو ما بين الحلقوم والعلباوين. وقال الأثرم : هو نهر الجسد ، هو في القلب : الوتين ، وفي الظهر : الأبهر ، وفي الذراع والفخذ : الأكحل والنسا ، وفي الخنصر : الأسلم. وقال الزمخشري : والوريدان عرقان مكتنفان بصحفتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين ، يردان من الرأس إليه ، سمي وريدا لأن الروح ترده. قال :

كان وريديه رشا صلب

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ ، وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ، وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ ، رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ).

هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين. وقال صاحب التحرير : قال ابن عباس ، وقتادة : مكية إلا آية ، وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية. ومناسبتها لآخر ما قبلها ، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا ، لم يكن إيمانهم حقا ، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ). وعدم الإيمان أيضا يدل على إنكار البعث ، فلذلك أعقبه به. وق حرف هجاء ، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولا متعارضة ، لا دليل على صحة شيء منها ، فأطرحت نقلها في كتابي هذا.

(وَالْقُرْآنِ) مقسم به و (الْمَجِيدِ) صفته ، وهو الشريف على غيره من الكتب ، والجواب محذوف يدل عليه ما بعده ، وتقديره : أنك جئتهم منذرا بالبعث ، فلم يقبلوا. (بَلْ عَجِبُوا) ، وقيل : ما ردوا أمرك بحجة. وقال الأخفش ، والمبرد ، والزجاج : تقديره لتبعثن. وقيل : الجواب مذكور ، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ؛ وعن ابن كيسان ، والأخفش : ما يلفظ من قول ؛ وعن نحاة الكوفة : بل عجبوا ، والمعنى : لقد عجبوا. وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وهو اختيار محمد بن علي الترمذي. وقيل : ما يبدل


القول لديّ ، وهذه كلها أقوال ضعيفة. وقرأ الجمهور : قاف بسكون الفاء ، ويفتحها عيسى ، ويكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال ؛ وبالضم : هارون وابن السميفع والحسن أيضا ؛ فيما نقل ابن خالويه. والأصل في حروف المعجم ، إذا لم تركب مع عامل ، أن تكون موقوفة. فمن فتح قاف ، عدل إلى الحركات ؛ ومن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين ؛ ومن ضم ، فكما ضم قط ومنذ وحيث.

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) : إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه ، فكان المناسب أن لا يعجبوا ، وهذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالى ، فأي بعد في أن يبعث من يخوف وينذر بما يكون في المآكل من البعث والجزاء. والضمير في (بَلْ عَجِبُوا) عائد على الكفار ، ويكون قوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ) تنبيها على القلة الموجبة للعجب ، وهو أنهم قد جبلوا على الكفر ، فلذلك عجبوا. وقيل : الضمير عائد على الناس ، قيل : لأن كل مفطور يعجب من بعثة بشر رسولا من الله ، لكن من وفق نظر فاهتدى وآمن ، ومن خذل ضل وكفر ؛ وحاج بذلك العجب والإشارة بقولهم : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ، الظاهر أنها إلى مجيء منذر من البشر. وقيل : إلى ما تضمنه الإنذار ، وهو الإخبار بالبعث. وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى المرجع. انتهى ، وفيه بعد.

وقرأ الجمهور : (أَإِذا) بالاستفهام ، وهم على أصولهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما. وقرأ الأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن وثاب ، والأعمش ، وابن عتبة عن ابن عامر : إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر ، فجاز أن يكون استفهاما حذفت منه الهمزة ، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا ، أي إذا متنا وكنا ترابا رجعنا. وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء ، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملة اسمية ، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة. وأما في قراءة الاستفهام ، فالظرف منصوب بمضمر ، أي : أنبعث إذا متنا؟ وإليه الإشارة بقوله ذلك ، أي البعث.

(رَجْعٌ بَعِيدٌ) ، أي مستبعد في الأوهام والفكر. وقال الزمخشري : وإذا منصوب بمضمر معناه : أحين نموت ونبلى نرجع؟ انتهى. وأخذه من قول ابن جني ، قال ابن جني : ويحتمل أن يكون المعنى : أئذا متنا بعد رجعنا ، فدل رجع بعيد على هذا الفعل ، ويحل محل الجواب لقولهم أئذا. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع ،


وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن. فإن قلت : فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت : ما دل عليه المنذر من المنذر به ، وهو البعث. انتهى. وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع ، وأنه من كلام الله تعالى ، لا من كلامهم ، على ما شرحه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب.

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) : أي من لحومهم وعظامهم وآثارهم ، قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور ، وهذا فيه رد لاستبعادهم الرجع ، لأن من كان عالما بذلك ، كان قادرا على رجعهم. وقال السدي : أي ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم ، وهذا يتضمن الوعيد. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) : أي حافظ لما فيه جامع ، لا يفوت منه شيء ، أو محفوظ من البلى والتغير. وقيل : هو عبارة عن العلم والإحصاء. وفي الخبر الثابت أن الأرض تأكل ابن آدم إلا عجب الذنب ، وهو عظم كالخردلة منه يركب ابن آدم.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) : وقدروا قبل هذا الإضراب جملة يكون مضروبا عنها ، أي ما أجادوا النظر ، بل كذبوا. وقيل : لم يكذبوا المنذر ، بل كذبوا ، والغالب أن الإضراب يكون بعد جملة منفية. وقال الزمخشري : بل كذبوا : إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات. انتهى. وكان هذا الإضراب الثاني بدلا من الأول ، وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جوابا للقسم ، فلا يكون قبل لثانية ما قدروه من قولهم : ما أجادوا النظر ، (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) ، والحق : القرآن ، أو البعث ، أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الإسلام ، أقوال. وقرأ الجمهور : (لَمَّا جاءَهُمْ) : أي لم يفكروا فيه ، بل بأول ما جاءهم كذبوا ؛ والجحدري : لما جاءهم ، بكسر اللام وتخفيف الميم ، وما مصدرية ، واللام لام الجر ، كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه. (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ، قال الضحاك ، وابن زيد : مختلط : مرة ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة كاهن. قال قتادة : مختلف. وقال الحسن : ملتبس. وقال أبو هريرة : فاسد. ومرجت أمانات الناس : فسدت ، ومرج الدين : اختلط. قال أبو واقد :

ومرج الدين فأعددت له

مسرف الحارك محبول الكند

وقال ابن عباس : المريج : الأمر المنكر ، وعنه أيضا مختلط ، وقال الشاعر :


فجالت والتمست لها حشاها

فخر كأنه خوط مريج

والأصل فيه الاضطراب والقلق. مرج الخاتم في أصبعي ، إذا قلق من الهزال. ويجوز أن يكون الأمر المريج ، باعتبار انتقال أفكارهم فيما جاء به المنذر قائلا عدم قبولهم أول إنذاره إياهم ، ثم العجب منهم ، ثم استبعاد البعث الذي أنذر به ، ثم التكذيب لما جاء به. (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) حين كفروا بالبعث وبما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي ، (كَيْفَ بَنَيْناها) مرتفعة من غير عمد ، (وَزَيَّنَّاها) بالنيرين وبالنجوم ، (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) : أي من فتوق وسقوف ، بل هي سليمة من كل خلل.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) : بسطناها ، (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) ، أي جبالا ثوابت تمنعها من التكفؤ ، (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) : أي نوع ، (بَهِيجٍ) : أي حسن المنظر بهيج ، أي يسر من نظر إليه. وقرأ الجمهور : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) بالنصب ، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما ، أي بصر وذكر. وقيل : مفعول من أجله. وقرأ زيد بن علي : تبصرة بالرفع ، وذكر معطوف عليه ، أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة ، والمعنى : يتبصر بذلك ويتذكر ، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) : أي راجع إلى ربه مفكر في بدائع صنعه. (ماءً مُبارَكاً) : أي كثير المنفعة ، (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) : أي الحب الحصيد ، فهو من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، كما يقوله البصريون ، والحصيد : كل ما يحصد مما له حب ، كالبر والشعير. (باسِقاتٍ) : أي طوالا في العلو ، وهو منصوب على الحال ، وهي حال مقدرة ، لأنها حالة الإنبات ، لم تكن طوالا. وباسقات جمع. (وَالنَّخْلَ) اسم جنس ، فيجوز أن يذكر ، نحو قوله : (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (١) ، وأن يؤنث نحو قوله تعالى : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٢) ، وأن يجمع باعتبار إفراده ، ومنه باسقات ، وقوله : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (٣). والجمهور : باسقات بالسين. وروى قطبة بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قرأ : باصقات بالصاد ، وهي لغة لبني العنبر ، يبدلون من السين صادا إذا وليتها ، أو فصل بحرف أو حرفين ، خاء أو عين أو قاف أو طاء. (لَها طَلْعٌ) : تقدم شرحه عند (مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) (٤).

(نَضِيدٌ) : أي منضود بعضه فوق بعض ، يريد كثرة الطلع وتراكمه ، أي كثرة ما فيه من الثمر. وأول ظهور الثمر في الكفرى هو أبيض ينضد كحب الرمان ، فما دام ملتصقا

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٢٠.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ٧.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ١٢.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٩٩.


بعضه ببعض فهو نضيد ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد. و (رِزْقاً) نصب على المصدر ، لأن معنى : وأنبتنا رزقنا ، أو على أنه مفعول له. وقرأ الجمهور : (مَيْتاً) بالتخفيف ؛ وأبو جعفر ، وخالد : بالتثقيل ، والإشارة في ذلك إلى الإحياء ، أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم ، مثل ذلك الحياة للبلدة الميت ، وهذه كلها أمثلة وأدلة على البعث.

وذكر تعالى في السماء ثلاثة : البناء والتزين ونفي الفروج ، وفي الأرض ثلاثة : المد وإلقاء الرواسي والإنبات. قابل المد بالبناء ، لأن المد وضع والبناء رفع. وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب ، لارتكاز كل واحد منهما. والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج ، فلا شق فيها. ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله ، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة ، وعلى ما اختلط من جنسين ، فبعض الثمار فاكهة لا قوت ، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت.

ولما ذكر تعالى قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ، ذكر من كذب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية وقصص من ذكر فيها. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وطلحة ، ونافع : الأيكة بلام التعريف ؛ والجمهور : ليكة. (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) : أي كلهم ، أي جميعهم كذب ؛ وحمل على لفظ كل ، فأفرد الضمير في كذب. وقال الزمخشري : يجوز أن يراد به كل واحد منهم. انتهى. والتنوين في كل تنوين عوض من المضاف إليه المحذوف. وأجاز محمد بن الوليد ، وهو من قدماء نحاة مصر ، أن يحذف التنوين من كل جعله غاية ، ويبنى على الضم ، كما يبنى قبل وبعد ، فأجاز كل منطلق بضم اللام دون تنوين ، ورد ذلك عليه الأخفش الصغير ، وهو علي بن سليمان. (فَحَقَّ وَعِيدِ) : أي وجب تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم ، وفي ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديد لقريش ومن كذب الرسول.

قوله عزوجل : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ، وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ).

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) : وهو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج ، وتقدم تفسير


عيي في قوله تعالى : (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) (١). وقرأ الجمهور : افعيينا ، بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة ، ماضي عيي ، كرضي. وقرأ ابن أبي عبلة ، والوليد بن مسلم ، والقورصي عن أبي جعفر ، والسمسار عن شيبة ، وأبو بحر عن نافع : بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية ، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل. وقال ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات له : أفعينا بتشديد الياء. ابن أبي عبلة ، وفكرت في توجيه هذه القراءة ، إذ لم يذكر أحد توجيهها ، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي ، فقال : عي في عيي ، وحي في حيي. فلما أدغم ، ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ، ولم يفك الإدغام فقال : عينا ، وهي لغة لبعض بكر بن وائل ، يقولون في رددت ورددنا : ردت وردنا ، فلا يفكون ، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشدّدة مفتوحة. فلو كان نا ضمير نصب ، لاجتمعت العرب على الإدغام ، نحو : ردّنا زيد. وقال الحسن : الخلق الأول آدم عليه‌السلام ، والمعنى : أعجزنا عن الخلق الأول ، فنعجز عن الخلق الثاني ، وهذا توقيف للكفار ، وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم. (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) : أي خلط وشبهة وحيرة ، ومنه قول علي : يا جار أنه لملبوس عليك ، اعرف الحق تعرف أهله. (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي من البعث من القبور.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) : هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث ، والإنسان اسم جنس. وقيل : آدم. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ) : قرب علم به وبأحواله ، لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأن ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، أي بعلمه ، وهو منزه عن الأمكنة. و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) : مثل في فرط القرب ، كقول العرب : هو مني مقعد القابلة ، ومقعد الإزار. قال ذو الرمة :

والموت أدنى لي من الوريد

والحبل : العرق الذي شبه بواحد الحبال ، وإضافته إلى الوريد للبيان ، كقولهم : بعير سانية. أو يراد حبل العاتق ، فيضاف إلى الوريد ، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد ، والعامل في إذ أقرب. وقيل : اذكر ، قيل : ويحسن تقدير اذكر ، لأنه أخبر خبرا مجردا بالخلق والعلم بخطرات الأنفس ، والقرب بالقدرة والملك. فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر ، وتعين وروده عند السامع. فمنها : (إِذْ يَتَلَقَّى

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٣.


الْمُتَلَقِّيانِ) ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها : النفخ في الصور ، ومنها : مجيء كل نفس معها سائق وشهيد. والمتلقيان : الملكان الموكلان بكل إنسان ؛ ملك اليمين يكتب الحسنات ، وملك الشمال يكتب السيئات. وقال الحسن : الحفظة أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل. وقعيدة : مفرد ، فاحتمل أن يكون معناه : مقاعد ، كما تقول : جليس وخليط : أي مجالس ومخالط ، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، كعليم. قال الكوفيون : مفرد أقيم مقام اثنين ، والأجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، أي عن اليمين قعيد ، كما قال الشاعر :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطوى رماني

على أحسن الوجهين فيه ، أي كنت منه بريا ، ووالدي بريا. ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد ، وعن الشمال ، فأخر قعيد عن موضعه. ومذهب الفراء أن لفظ قعيد يدل على الاثنين والجمع ، فلا يحتاج إلى تقدير. وقرأ الجمهور : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) ، وظاهر ما يلفظ العموم. قال مجاهد ، وأبو الحواراء : يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقال الحسن ، وقتادة : يكتبان جميع الكلام ، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات ، ويمحو غير ذلك. وقيل : هو مخصوص ، أي من قول خير أو شر. وقال : معناه عكرمة ، وما خرج عن هذا لا يكتب. واختلفوا في تعيين قعود الملكين ، ولا يصح فيه شيء. (رَقِيبٌ) : ملك يرقب. (عَتِيدٌ) : حاضر ، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد ، فأحرى على العمل. وقال الحسن : فإذا مات ، طويت صحيفته. وقيل : له يوم القيامة اقرأ كتابك.

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) : هو معطوف على (إِذْ يَتَلَقَّى) ، وسكرة الموت : ما يعتري الإنسان عند نزاعه ، والباء في (بِالْحَقِ) للتعدية ، أي جاءت سكرة الموت الحق ، وهو الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله ، من سعادة الميت أو شقاوته ، أو للحال ، أي ملتبسة بالحق. وقرأ ابن مسعود : سكران جمعا. (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) : أي تميل. تقول : أعيش كذا وأعيش كذا ، فمتى فكر في قرب الموت ، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن. ومن الحيد : الحذر من الموت ، وظاهر تحبد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت. وقال الزمخشري : الخطاب للفاجر. تحيد : تنفر وتهرب. (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) ، هو على حذف : أي وقت ذلك يوم الوعيد. والإشارة إلى


مصدر نفخ ، وأضاف اليوم إلى الوعيد ، وإن كان يوم الوعد والوعيد معا على سبيل التخويف.

وقرأ الجمهور : معها ؛ وطلحة : بالحاء مثقلة ، أدغم العين في الهاء ، فانقلبتا حاء ؛ كما قالوا : ذهب محم ، يريد معهم ، (سائِقٌ) : جاث على السير ، (وَشَهِيدٌ) : يشهد عليه. قال عثمان بن عفان ، ومجاهد وغيره : ملكان موكلان بكل إنسان ، أحدهما يسوقه ، والآخر من حفظه يشهد عليه. وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد النبي. وقيل : الشهيد : الكتاب الذي يلقاه منشورا ، والظاهر أن قوله : (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) اسما جنس ، فالسائق : ملائكة موكلون بذلك ، والشهيد : الحفظة وكل من يشهد. وقال ابن عباس ، والضحاك : السائق ملك ، والشهيد : جوارح الإنسان. قال ابن عطية : وهذا يبعد عن ابن عباس ، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي ، وقوله : كل نفس يعم الصالحين ، فإنما معناه : وشهيد بخيره وشره. ويقوى في شهيد اسم الجنس ، فشهد بالخير الملائكة والبقاع ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة». وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد العمل. وقال أبو مسلم : السائق شيطان ، وهو قول ضعيف. وقال الزمخشري : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله ؛ أو ملك واحد جامع بنى الأمرين ، كأنه قيل : ملك يسوقه ويشهد عليه ويحل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة ، هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو ، لأنه لو نعت كل نفس ، لما نعت إلا بالنكرة ، فهو نكرة على كل حال ، فلا يمكن أن يتعرف كل ، وهو مضاف إلى نكرة.

قوله عزوجل : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ، وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ، أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ، قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ، قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ، ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ، ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).

قرأ الجمهور : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ) ، بفتح التاء ، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك ؛ والجحدري : بكسرها على مخاطبة النفس. وقرأ الجمهور : (عَنْكَ غِطاءَكَ


فَبَصَرُكَ) ، بفتح التاء والكاف ، حملا على لفظ كل من التذكير ؛ والجحدري ، وطلحة بن مصرّف : عنك غطاءك فبصرك ، بالكسر مراعاة للنفس أيضا ، ولم ينقل الكسر في الكاف صاحب اللوامح إلا عن طلحة وحده. قال صاحب اللوامح : ولم أجد عنه في (لَقَدْ كُنْتَ). الكسر. فإن كسر ، فإن الجميع شرع واحد ؛ وإن فتح (لَقَدْ كُنْتَ) ، فحمل على كل أنه مذكر. ويجوز تأنيث كل في هذا الباب لإضافته إلى نفس ، وهو مؤنث ، وإن كان كذلك ، فإنه حمل بعضه على اللفظ وبعضه على المعنى ، مثل قوله : (فَلَهُ أَجْرُهُ). ثم قال : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ*) (١). انتهى.

قال ابن عباس ، وصالح بن كيسان ، والضحاك : يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد ، إذا حصل بين يدي الرحمن ، وعاين الحقائق التي لا يصدق بها في الدنيا ، ويتغافل عن النظر فيها : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) : أي من عاقبة الكفر. فلما كشف الغطاء عنك ، احتدّ بصرك : أي بصيرتك ؛ وهذا كما تقول : فلان حديد الذهن. وقال مجاهد : هو بصر العين ، أي احتدّ التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة. وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله ، وهو في كتاب ابن عطية. وكنى بالغطاء عن الغفلة ، كأنها غطت جميعه أو عينيه ، فهو لا يبصر. فإذا كان في القيامة ، زالت عنه الغفلة ، فأبصر ما كان لم يبصره من الحق.

(وَقالَ قَرِينُهُ) : أي من زبانية جهنم ، (هذا) : العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر ، (عَتِيدٌ) : حاضر ، ويحسن هذا القول إطلاق ما على ما لا يعقل. وقال قتادة : قرينه : الملك الموكل بسوقه ، أي هذا الكافر الذي أسوقه لديّ حاضر. وقال الزهراوي : وقيل قرينه : شيطانه ، وهذا ضعيف ، وإنما وقع فيه أن القرين في قوله : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف. ولفظ القرين اسم جنس ، فسائقه قرين ، وصاحبه من الزبانية قرين ، ومماشي الإنسان في طريقة قرين. وقيل : قرينه هنا : عمله قلبا وجوارحا. وقال الزمخشري : وقال قرينه : هو الشيطان الذي قبض له في قوله (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٢) ، يشهد له قوله تعالى : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) ، (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) ، هذا شيء لدي ، وفي ملكتي عتيد لجهنم. والمعنى : أن ملكا يسوقه ، وآخر يشهد عليه ، وشيطانا مقرونا به يقول : قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغواي وإضلالي. انتهى ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١٢.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٦.


وهذا قول مجاهد. وقال الحسن ، وقتادة أيضا : الملك الشهيد عليه. وقال الحسن أيضا : هو كاتب سيئاته ، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد وموصولة ، والظرف صلتها. وعتيد ، قال الزمخشري : بدل أو خير بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف. انتهى. وقرأ الجمهور : عتيد بالرفع ؛ وعبد الله : بالنصب على الحال ، والأولى إذ ذاك أن تكون ما موصولة.

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) : الخطاب من الله للملكين : السائق والشهيد. وقيل : للملكين من ملائكة العذاب ، فعلى هذا الألف ضمير الاثنين. وقال مجاهد وجماعة : هو قول إما للسائق ، وإما للذي هو من الزبانية ، وعلى أنه خطاب للواحد. وقال المبرد معناه : ألق ألق ، فثنى. وقال الفراء : هو من خطاب الواحد بخطاب الاثنين. وقيل : الألف بدل من النون الخفيفة ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذه أقوال مرغوب عنها ، ولا ضرورة تدعو إلى الخروج عن ظاهر اللفظ لقول مجاهد. وقرأ الحسن : ألقين بنون التوكيد الخفيفة ، وهي شاذة مخالفة لنقل التواتر بالألف. (كُلَّ كَفَّارٍ) : أي يكفر النعمة والمنعم ؛ (عَنِيدٍ) ، قال قتادة : منحرف عن الطاعة. وقال الحسن : جاحد متمرد. وقال السدي : المساق من العند ، وهو عظم يعرض في الحلق. وقال ابن بحر : المعجب بما فيه.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) ، قال قتادة ومجاهد وعكرمة : يعني الزكاة. وقيل : بخيل. وقيل : مانع بني أخيه من الإيمان ، كالوليد بن المغيرة ، كان يقول لهم : من دخل منكم فيه لم أنفعه بشيء ما عشت ، والأحسن عموم الخير في المال وغيره. (مُرِيبٍ) ، قال الحسن : شاك في الله أو في البعث. وقيل : متهم الذي جوزوا فيه أن يكون منصوبا بدلا من كل كفار ، وأن يكون مجرورا بدلا من كفار ، وأن يكون مرفوعا بالابتداء مضمنا معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره ، وهو فألقياه. والظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل ، ويكون فألقياه توكيدا. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون صفة من حيث يختص كفار بالأوصاف المذكورة ، فجاز وصفه بهذه المعرفة. انتهى. وهذا ليس بشيء لو وصفت النكرة بأوصاف كثيرة لم يجز أن توصف بالمعرفة.

(قالَ قَرِينُهُ) : لم تأت هذه الجملة بالواو ، بخلاف (وَقالَ قَرِينُهُ) قبله ، لأن هذه استؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون ، فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه ، فكأن الكافر قال ربي هو أطغاني ، (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ). وأما (وَقالَ قَرِينُهُ) فقطف للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين. وقول قرينه : ما قال له ، ومعنى ما أطغيته : تنزيه لنفسه من أنه


أثر فيه ، (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) : أي من نفسه لا مني ، فهو الذي استحب العمى على الهدى ، كقوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (١) ، وكذب القرين ، قد أطغاه بوسوسته وتزيينه. (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) : استئناف أيضا مثل قال قرينه ، كأن قائلا قال : ما قال الله تعالى؟ فقيل : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي في دار الجزاء وموقف الحساب. (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) لمن عصاني ، فلم أترك لكم حجة.

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) : أي عندي ، فما أمضيته لا يمكن تبديله. وقال الفراء : ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور. وقدمت : يجوز أن يكون بمعنى تقدمت ، أي قد تقدم قولي لكم ملتبسا بالوعيد ، أو يكون قدم المتعدية ، وبالوعيد هو المفعول ، والباء زائدة ، والتقديم كان في الدنيا ، ونهيهم عن الاختصام في الآخرة ، فاختلف الزمانان. فلا تكون الجملة من قوله : (وَقَدْ قَدَّمْتُ) حالا إلا على تأويل ، أي وقد صح عندكم أني قدمت ، وصحة ذلك في الآخرة ، فاتفق زمان النهي عن الاختصام ، وصحة التقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) : تقدم شرح مثله في أواخر آل عمران ، والمعنى : لا أعذب من لا يستحق العذاب.

وقرأ يوم يقول ، بياء الغيبة الأعرج ، وشيبة ، ونافع ، وأبو بكر ، والحسن ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالنون ؛ وعبد الله ، والحسن ، والأعمش أيضا : يقال مبنيا للمفعول وانتصاب يوم بظلام ، أو بأذكر ، أو بأنذر كذلك. قال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول ، وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم يقول. انتهى ، وهذا بعيد جدا ، قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة ، فلا يناسب هذا القول فصاحة القرآن وبلاغته. و (هَلِ امْتَلَأْتِ) : تقرير وتوقيف ، لا سؤال استفهام حقيقة ، لأنه تعالى عالم بأحوال جهنم. قيل : وهذا السؤال والجواب منها حقيقة. وقيل : هو على حذف مضاف ، أي نقول لخزنة جهنم ، قاله الرماني : وقيل : السؤال والجواب من باب التصوير الذي يثبت المعنى ، أي حالها حال من لو نطق بالجواب لسائله لقال كذا ، وهذا القول يظهر أنها إذ ذاك لم تكن ملأى. فقولها : (مِنْ مَزِيدٍ) ، سؤال ورغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين فيها. وقال الحسن ، وعمرو ، وواصل :

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٢.


كانت ملأى وقت السؤال ، فلا تزداد على امتلائها ، كما جاء في الحديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما تركه ومزيد يحتمل أن يكون مصدر أو اسم مفعول. (غَيْرَ بَعِيدٍ) : مكانا غير بعيد ، وهو تأكيد لأزلفت ، رفع مجاز القرب بالوعد والإخبار. فانتصاب غير على الظرف صفة قامت مقام مكان ، فأعربت بإعرابه. وأجاز الزمخشري أن ينتصب غير بعيد على الحال من الجنة. قال : وتذكيره يعني بعيد ، لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث. وقال الزمخشري أيضا : أو على حذف الموصوف ، أي شيئا غير بعيد. انتهى. وكأنه يعني إزلافا غير بعيد ، هذا إشارة للثواب.

وقرأ الجمهور : (ما تُوعَدُونَ) ؛ خطاب للمؤمنين ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، أي هذا القول هو الذي وقع الوعد به ، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل. و (لِكُلِّ أَوَّابٍ) : هو البدل من المتقين. (مَنْ خَشِيَ) : بدل بعد بدل تابع (لِكُلِ) ، قاله الزمخشري. وإنما جعله تابعا (لِكُلِ) ، لا بدلا من (لِلْمُتَّقِينَ) ، لأنه لا يتكرر الإبدال من مبدل منه واحد. قال : ويجوز أن يكون بدلا من موصوف أواب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ ، لأن من لا يوصف به ، ولا يوصف من بين سائر الموصولات إلا بالذي. انتهى. يعني بقوله : في حكم أوأب : أن يجعل من صفته ، وهذا حكم صحيح. وأما قوله : ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي ، فالحصر ليس بصحيح ، قد وصفت العرب بما فيه أل ، وهو موصول ، نحو القائم والمضروب ، ووصفت بذو الطائية ، وذات في المؤنث. ومن كلامهم : بالفضل ذو فضلكم الله به ، والكرامة ذات أكرمكم الله به ، يريد بالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم ، ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي ، بل فروعه من المؤنث والمثنى والمجموع على اختلاف لغات ذلك. وجوز أن تكون من موصولة مبتدأ خبره القول المحذوف ، تقديره : يقال لهم ادخلوها ، لأن من في معنى الجمع ، وأن تكون شرطية ، والجواب الفعل المحذوف ، أي فيقال : وأن يكون منادى ، كقولهم : من لا يزال محسنا أحسن إليّ ، وحذف حرف النداء للتقريب. وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون من نعتا. انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن من لا ينعت بها ، وبالغيب حال من المفعول ، أي وهو غائب عنه ، وإنما أدركه بالعلم الضروري ، إذ كل مصنوع لا بد له من صانع. ويجوز أن تكون صفة لمصدر خشي ، أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو خشيه بسبب الغيب الذي


أوعده به من عذابه. وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد ، فيكون حالا من الفاعل. وقرن بالخشية الرحمن بناء على الخاشي ، حيث علم أنه واسع الرحمة ، وهو مع ذلك يخشاه.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ) : أي سالمين من العذاب ، أو مسلما عليكم من الله وملائكته. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) : كقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (١) : أي مقدرين الخلود ، وهو معادل لقوله في الكفار : (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ). (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) : أي ما تعلقت به مشيئاتهم من أنواع الملاذ والكرامات ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) (٢). (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) : زيادة ، أو شيء مزيد على ما تشاءون ، ونحوه : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٣) ، وكما جاء في الحديث : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما اطلعتهم عليه» ، ومزيد مبهم ، فقيل : مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها. وقيل : أزواج من حور الجنة. وقيل : تجلى الله تعالى لهم حتى يرونه.

قوله عزوجل : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ ، وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ، يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

أي كثيرا. (أَهْلَكْنا) : أي قبل قريش. (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) ، لكثرة قوتهم وأموالهم. وقرأ الجمهور : (فَنَقَّبُوا) ، بفتح القاف مشددة ، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم ، أي دخلوا البلاد من أنقابها. والمعنى : طافوا في البلاد. وقيل : نقروا وبحثوا ، والتنقيب : التنقير والبحث. قال امرؤ القيس في معنى التطواف :

وقد نقبت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

وروي : وقد طوفت. وقال الحارث بن خلدة :

نقبوا في البلاد من حذر المو

ت وجالوا في الأرض كل مجال

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٧٣.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٣١.

(٣) سورة السجدة : ٣٢ / ١٧.


وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم ، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه. ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش ، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون ، فهل رأوا محيصا حتى يؤملوه لأنفسهم؟ ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس ، وابن يعمر ، وأبي العالية ، ونصر بن يسار ، وأبي حيوة ، والأصمعي عن أبي عمرو : بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة ، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا. وقرىء : بكسر القاف خفيفة ، أي نقبت أقدامهم وأخفاف إبلهم ، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد ، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى. ويحتمل أن يكون (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) على إضمار القول ، أي يقولون هل من محيص من الهلاك؟ واحتمل أن لا يكون ثم قول ، أي لا محيص من الموت ، فيكون توفيقا وتقريرا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي في إهلاك تلك القرون ، (لَذِكْرى) : لتذكرة واتعاظا ، (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) : أي واع ، والمعنى : لمن له عقل وعبر عنه بمحله ، ومن له قلب لا يعي ، كمن لا قلب له. وقرأ الجمهور : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) ، مبنيا للفاعل ، والسمع نصب به ، أي أو أصغى سمعه مفكرا فيه ، و (شَهِيدٌ) : من الشهادة ، وهو الحضور. وقال قتادة : لمن كان له ، قيل : من أهل الكتاب ، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة ، فشهيد من الشهادة. وقرأ السلمي ، وطلحة ، والسدي ، وأبو البرهسم : أو ألقى مبنيا ، للمفعول ، السمع : رفع به ، أي السمع منه ، أي من الذي له قلب. وقيل : المعنى : أو لمن ألقى غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضر ذهنه ، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن. وذكر لعاصم أنها قراءة السدي ، فمقته وقال : أليس يقول يلقون السمع؟

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : نزلت في اليهود تكذيبا لهم في قولهم : إنه تعالى استراح من خلق السموات والأرض ، (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : يوم السبت ، واستلقى على العرش ، وقيل : التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود. (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) : احتمل أن تكون جملة حالية ، واحتمل أن تكون استئنافا ؛ واللغوب : الإعياء. وقرأ الجمهور : بضم اللام ، وعلي ، والسلمي ، وطلحة ، ويعقوب ، بفتحها ، وهما مصدران ، الأول مقيس وهو الضم ، وأما الفتح فغير مقيس ، كالقبول والولوع ، وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه ، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة. (فَاصْبِرْ) ، قيل : منسوخ بآية السيف ، (عَلى ما يَقُولُونَ) : أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، أي فصلّ ، (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) ، هي


صلاة الصبح ، (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) : هي صلاة العصر ، قاله قتادة وابن زيد والجمهور. وقال ابن عباس : قبل الغروب : الظهر والعصر. (وَمِنَ اللَّيْلِ) : صلاة العشاءين ، (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) : ركعتان قبل المغرب. وفي صحيح مسلم ، عن أنس ما معناه : أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب. وقال قتادة : ما أدركت أحدا يصليها إلا أنسا وأبا برزة الأسلمي. وقال بعض التابعين : كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة. وقال ابن زيد : هي العشاء فقط. وقال مجاهد : هي صلاة الليل. (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ، قال أبو الأحوص : هو التسبيح في أدبار الصلوات. وقال عمر ، وعليّ ، وأبو هريرة ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والأوزاعي : هما ركعتان بعد المغرب. وقال ابن عباس : هو الوتر بعد العشاء. وقال ابن عباس ، ومجاهد أيضا ، وابن زيد : النوافل بعد الفرائض. وقال مقاتل : ركعتان بعد العشاء ، يقرأ في الأولى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) ، وفي الثانية : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢). وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وطلحة ، وشبل ، وحمزة ، والحرميان : وإدبار بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، تقول : أدبرت الصلاة ، انقضت ونمت. وقال الزمخشري وغيره : معناه ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك خفوق النجم. وقرأ الحسن والأعرج وباقي السبعة : بفتحها ، جمع دبر ، كطنب وأطناب ، أي وفي أدبار السجود : أي أعقابه. قال أوس بن حجر :

على دبر الشهر الحرام فأرضنا

وما حولها جدب سنون تلمح

(وَاسْتَمِعْ) : أمر بالاستماع ، والظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع ، والمستمع له محذوف تقديره : واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة ، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ : «يا معاذ اسمع ما أقول لك» ، ثم حدثه بعد ذلك. وانتصب (يَوْمَ) بما دل عليه ذلك. (يَوْمُ الْخُرُوجِ) : أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. وقيل : مفعول استمع محذوف تقديره : نداء المنادي. وقيل : تقديره : نداء الكافر بالويل والثبور. وقيل : لا يحتاج إلى مفعول ، إذ حذف اقتصارا ، والمعنى : كن مستمعا ، ولا تكن غافلا معرضا. وقيل معنى واستمع : وانتظر ، والخطاب لكل سامع. وقيل : للرسول ، أي ارتقبه ، فإن فيه تبين صحة ما قلته ، كما تقول لمن تعده بورود فتح : استمع كذا وكذا ، أي كن منتظرا له مستمعا ، فيوم منتصب على أنه مفعول به. وقرأ ابن كثير : المنادى بالياء وصلا ووقفا ، ونافع ، وأبو عمرو ؛ بحذف الياء وقفا ، وعيسى ،

__________________

(١) سورة الكافرون : ١٠٩ / ١.

(٢) سورة الإخلاص : ١١٢ / ١.


وطلحة ، والأعمش ، وباقي السبعة : بحذفها وصلا ووقفا اتباعا لخط المصحف ، ومن أثبتها فعلى الأصل ، ومن حذفها وقفا فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفا نصبا ، والتاء هاء ، ويشدّد المخفف ، ويحذف الحرف في القوافي. والمنادي في الحديث : «أن ملكا ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى». (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) : وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق. قيل : والمنادي إسرافيل ، ينفخ في الصور وينادي. وقيل : المنادي جبريل. وقال كعب ، وقتادة وغيرهما : المكان صخرة بيت المقدس ، قال كعب : قربها من السماء بثمانية عشر ميلا ، كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب الزمخشري : باثني عشر ميلا ، وهي وسط الأرض. انتهى ، ولا يصح ذلك إلا بوحي.

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ) : بدل من (يَوْمَ يُنادِ) ، و (الصَّيْحَةَ) : صيحة المنادي. قيل : يسمعون من تحت أقدامهم. وقيل : من تحت شعورهم ، وهي النفخة الثانية ، و (بِالْحَقِ) متعلق بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر. (ذلِكَ) : أي يوم النداء والسماع ، (يَوْمُ الْخُرُوجِ) من القبور ، وقيل : الإشارة بذلك إلى النداء ، واتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر ، أو يكون على حذف ، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج ، أو وقت النداء يوم الخروج. وقرأ نافع ، وابن عامر : تشقق بشدّ الشين ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها. وقرىء : تشقق بضم التاء ، مضارع شققت على البناء للمفعول ، وتنشق مضارع انشقت. وقرأ زيد بن علي : تشقق بفك الإدغام ، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّ من تأليفه ، ويوم بدل من يوم الثاني. وقيل : منصوب بالمصدر ، وهو الخروج. وقيل : المصير ، وانتصب (سِراعاً) على الحال من الضمير في عنهم ، والعامل تشقق. وقيل : محذوف تقديره يخرجون ، فهو حال من الواو في يخرجون ، قاله الحوفي. ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملا في (يَوْمَ تَشَقَّقُ). (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) : فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة ، وهو علينا ، أي يسير علينا ، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة. وقال الزمخشري : (عَلَيْنا يَسِيرٌ) ، تقديم الظرف يدل على الاختصاص ، يعني لا يتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (١). انتهى ، وهو على طريقه في أن تقديم المفعول

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ٢٨.


وما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص ، وقد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (١).

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) : هذا وعيد محض للكفار وتهديد لهم ، وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) : بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان ، قاله الطبري. وقيل : التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم. (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) : لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر ، إذ لا تنفع فيه الذكرى ، كما قال : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، وختمت بقوله : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ) ، كما افتتحت ب (ق وَالْقُرْآنِ).

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

(٢) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٥.


سورة الذّاريات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)


مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)

الحبك : الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء القائم إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره قال الشاعر :

مكلل بأصول النجم ينسجه

ريح خريق لضاحي مائة حبك

والدرع محبوكة لأن حلقها مطرق طرائق ، وواحدها حبيكة ، كطريقة وطرق ، أو حباك ، كمثال ومثل ، قال الراجز :

كأنما حللها الحوّاك

طنفسة في وشيها حباك


ويقال : حباك للظفيرة التي يشد بها خطار القصب بكرة ، وهي مستطيلة تصنع في ترحيب الغراسات المصطفة. وقال ابن الأعرابي : حبكت الشيء : أحكمته وأحسنت عمله. قال الفراء : الحبك : تكسر كل شيء. وقال غيره : المحبوك : الشديد الخلق من فرس وغيره. قال امرؤ القيس :

قد غدا يحملني في أنفه

لاحق الأيطل محبوك ممر

الهجوم : النوم. السمن : معروف ، وهو امتلاء الجسد بالشحم واللحم. يقال : سمن سمنا فهو سمين ، شذوا في المصدر واسم الفاعل ، والقياس سمن وسمن. وقالوا : سامن ، إذا حدث له السمن. الذنوب : الدلو العظيمة ، قال الراجز :

إنا إذا نازلنا غريب

له ذنوب ولنا ذنوب

وإن أبيتم فلنا القليب وأنشده الزمخشري :

لنا ذنوب ولكم ذنوب

ويطلق ، ويراد به الحظ والنصيب ، قال علقمة بن عبدة :

وفي كل حي قد خبطت بنعمة

فحق لشاس من نداك ذنوب

ونسبه الزمخشري لعمرو بن شاس ، وهو وهم في ديوان علقمة. وكان الحارث بن أبي شمر الغساني أسر شاسا أخا علقمة ، فدخل إليه علقمة ، فمدحه بالقصيدة التي فيها هذا البيت ، فلما وصل إلى هذا البيت في الإنشاد قال الحارث : نعم وأذنبه ، وقال حسان :

لا يبعدن ربيعة بن مكرم

وسقى الغوادي قبره بذنوب

وقال آخر :

لعمرك والمنايا طارقات

لكل بني أب منها ذنوب

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ، إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ، وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ، قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ ، يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ، ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ، كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما


يَهْجَعُونَ ، وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ، وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).

هذه السورة مكية. ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (١). وقال أول هذه بعد القسم : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ).

(وَالذَّارِياتِ) : الرياح : (فَالْحامِلاتِ) السحاب. (فَالْجارِياتِ) : الفلك. (فَالْمُقَسِّماتِ) : الملائكة ، هذا تفسير عليّ كرم الله وجهه على المنبر ، وقد سأله ابن الكواء ، قاله ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا : (فَالْحامِلاتِ) هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم. وقيل : الحوامل من جميع الحيوان. وقيل : الجاريات : السحاب بالرياح. وقيل : الجواري من الكواكب ، وأدغم أبو عمرو وحمزة (وَالذَّارِياتِ) في ذال (ذَرْواً) ، وذروها : تفريقها للمطر أو للتراب. وقرىء : بفتح الواو وتسمية للمحمول بالمصدر. ومعنى (يُسْراً) : جريا ذا يسر ، أي سهولة. فيسرا مصدر وصف به على تقدير محذوف ، فهو على رأي سيبويه في موضع الحال. (أَمْراً) تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، فأمرا مفعول به. وقيل : مصدر منصوب على الحال ، أي مأموره ، ومفعول المقسمات محذوف.

وقال مجاهد : يتولى أمر العباد جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ. وجاء في الملائكة : فالمقسمات على معنى الجماعات. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح لا غير ، لأنها تنشئ السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجو جريا سهلا ، وتقسم الأمطار بتصريف الرياح. انتهى. فإذا كان المدلول متغايرا ، فتكون أقساما متعاقبة. وإذا كان غير متغاير ، فهو قسم واحد ، وهو من عطف الصفات ، أي ذرت أول هبوبها التراب والحصباء ، فأقلت السحاب ، فجرت في الجو باسطة للسحاب ، فقسمت المطر. فهذا كقوله :

يا لهف زيابة للحارث الص

ابح فالغانم فالآيب

أي : الذي صبح العدو فغنم منهم ، فآب إلى قومه سالما غانما. والجملة المقسم عليها ، وهي جواب القسم ، هي (إِنَّما تُوعَدُونَ) ، وما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي توعدونه. ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي أنه وعدكم أو وعيدكم ، إذ يحتمل توعدون

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٤٤.


الأمرين أن يكون مضارع وعد ومضارع أوعد ، ويناسب أن يكون مضارع أوعد لقوله : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) ، ولأن المقصود التخويف والتهويل. ومعنى صدقه : تحقق وقوعه ، والمتصف بالصدق حقيقة هو المخبر. وقال تعالى : (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (١) : أي مصدوق فيه. وقيل : (لَصادِقٌ) ، ووضع اسم الفاعل موضع المصدر ، ولا حاجة إلى هذا التقدير. وقال مجاهد : الأظهر أن الآية في الكفار ، وأنه وعيد محض. (وَإِنَّ الدِّينَ) : أي الجزاء ، (لَواقِعٌ) : أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن. والظاهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هي السماء السابعة. وقيل : السحاب الذي يظل الأرض.

(ذاتِ الْحُبُكِ) : أي ذات الخلق المستوي الجيد ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع. وقال الحسن ، وسعيد بن جبير : (ذاتِ الْحُبُكِ) : أي الزينة بالنجوم. وقال الضحاك : ذات الطرائق ، يعني من المجرة التي في السماء. وقال ابن زيد : ذات الشدة ، لقوله : (سَبْعاً شِداداً) (٢). وقيل : ذات الصفاقة. وقرأ الجمهور : الحبك بضمتين ؛ وابن عباس ، والحسن : بخلاف عنه ، وأبو مالك الغفاري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو السمال ، ونعيم عن أبي عمرو : بإسكان الباء ؛ وعكرمة : بفتحها ، جمع حبكة ، مثل : طرفة وطرف. وأبو مالك الغفاري ، والحسن : بخلاف عنه ، بكسر الحاء والباء ؛ وأبو مالك الغفاري ، والحسن أيضا ، وأبو حيوة : بكسر الحاء وإسكان الباء ، وهو تخفيف فعل المكسور هما وهو اسم مفرد لا جمع ، لأن فعلا ليس من أبنية الجموع ، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين ؛ وابن عباس أيضا ، وأبو مالك : بفتحهما. قال أبو الفضل الرازي : فهو جمع حبكة ، مثل عقبة وعقب. انتهى. والحسن أيضا : الحبك بكسر الحاء وفتح الباء ، وقرأ أيضا كالجمهور ، فصارت قراءته خمسا : الحبك الحبك الحبك الحبك الحبك. وقرأ أبو مالك أيضا : الحبك بكسر الحاء وضم الباء ، وذكرها ابن عطية عن الحسن ، فتصير له ست قراءات. وقال صاحب اللوامح ، وهو عديم النظير في العربية : في أبنيتها وأوزانها ، ولا أدري ما رواه. انتهى. وقال ابن عطية : هي قراءة شاذة غير متوجهة ، وكأنه أراد كسرها ، ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء ، وهذا على تداخل اللغات ، وليس في كلام العرب هذا البناء. انتهى.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٦٥.

(٢) سورة النبأ : ٧٨ / ١٢.


وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات ، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة ، ولم يعتد باللام الساكنة ، لأن الساكن حاجز غير حصين.

وجواب القسم : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) ، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر ، كما أن جواب القسم السابق يشملهما ، واختلافهم كونهم مؤمنا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه وكافرا. وقال ابن زيد : خطاب للكفرة ، فيقولون : ساحر شاعر كاهن مجنون ، وقال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستويا ، إنما يكون متناقضا مختلفا. وقيل : اختلافهم في الحشر ، منهم من ينفيه ، ومنهم من يشك فيه. وقيل : اختلافهم : إقرارهم بأن الله تعالى أوجدهم وعبادتهم غيره والأقوال التي يقولونها في آلهتهم.

(يُؤْفَكُ) : أي يصرف عنه ، أي عن القرآن والرسول ، قاله الحسن وقتادة. (مَنْ أُفِكَ) : أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم لقوله : لا يهلك على الله إلا هالك. وقيل : من صرف في سابق علم الله تعالى أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون ، أو للذي أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاك ومنهم جاحد. ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك. وقيل : المأفوك عنه محذوف ، وعن هنا للسبب ، والضمير عائد على (قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) ، أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحر هو كهانة ، حكاه الزهراوي والزمخشري ، وأورده على عادته في إبداء ما هو محكي عن غيره أنه مخترعه. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على (قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) ، والمعنى : يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته ، وهذا على أن يكون في قول مختلف للكفار ، إلا أن عرف الاستعمال في إفكه الصرف من خير إلى شر ، فلذلك لا تجده إلا في المذمومين. انتهى ، وفيه بعض تلخيص. وقرأ ابن جبير وقتادة : من أفك مبنيا للفاعل ، أي من أفك الناس عنه ، وهم قريش. وقرأ زيد بن علي : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضا : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب. وقرىء : يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما ، أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا نهكه حلبا.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) : أي قتل الله الخراصين ، وهم المقدرون ما لا يصح. (فِي غَمْرَةٍ) : في جهل يغمرهم ، (ساهُونَ) : غافلون عن ما أمروا به. (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) : أي متى وقت الجزاء؟ سؤال تكذيب واستهزاء ، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله : (أَيَّانَ


مُرْساها) (١) ، و (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) ، فيكون الظرف محلا للمصدر ، وانتصب يومهم بمضمر تقديره : هو كائن ، أي الجزاء ، قاله الزجاج ، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو يومهم ، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن ، وهي الجملة الاسمية. ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني. (يَوْمَ هُمْ) بالرفع ، وإذا كان ظرفا جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء ، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الاسمية في غافر في قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) (٢). وقال بعض النحاة : يومهم بدل من (يَوْمُ الدِّينِ) ، فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى ، ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء. ولو حكى لفظ قولهم ، لكان التركيب : يوم نحن على النار يفتنون. (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) : أي يقال لهم ذوقوا. (هذَا الَّذِي) : مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم ، أي ذوقوا هذا العذاب. انتهى ، وفيه بعد ، والاستقلال خير من البدل. ومعنى تفتنون : تعذبون في النار.

ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، وانتصب آخذين على الحال ، أي قابليه راضين به ، وذلك في الجنة. وقال ابن عباس : (آخِذِينَ) : أي في دنياهم ، (ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من أوامره ونواهيه وشرعه ، فالحال محكية لتقدمها في الزمان على كونهم في الجنة. والظاهر أن (قَلِيلاً) ظرف ، وهو في الأصل صفة ، أي كانوا في قليل من الليل. وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا ، وما زائدة في كلا الإعرابين. وفسر أنس بن مالك ذلك فقال : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء ، ولا يدل لفظ الآية على الاقتصار على هذا التفسير. وقال الربيع بن خيثم : كانوا يصيبون من الليل حظا. وقال مطرف ، ومجاهد ، وابن أبي نجيح : قل ليلة أتت عليهم هجوعا كلها. وقال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا. وقال الضحاك : (كانُوا قَلِيلاً) ، أي في عددهم ، وثم خبر كان ، ثم ابتدأ (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ، فما نافية ، وقليلا وقف حسن ، وهذا القول فيه تفكيك للكلام ، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله ، وذلك لا يجوز عند البصريين ، ولو كان ظرفا أو مجرورا. وقد أجاز ذلك بعضهم ، وجاء في الشعر قوله :

إذا هي قامت حاسرا مشمعلة

يحسب الفؤاد رأسها ما تقنع

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٧ ، وسورة النازعات : ٧٩ / ٤٢.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ١٦.


فقدم رأسها على ما تقنع ، وهو منفي بما ، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلا ، أي كانوا قليلا هجوعهم ، وهو إعراب سهل حسن ، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ) من الوقت الذي يهجعون فيه ، وفيه تكلف. ومن الليل يدل على أنهم مشغولون بالعبادة في أوقات الراحات ، وسكون الأنفس من مشاق النهار. (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار ، فيأخذون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير وكأنهم أجرموا في تلك الليالي ، والأسحار مظنة الاستغفار. وقال ابن عمرو الضحاك : يستغفرون : يصلون. وقال الحسن : يدعون في طلب المغفرة ، والظاهر أن قيام الليل وهذا الحق في المال هو من المندوبات ، وأكثر ما تقع زيادة الثواب بفعل المندوب. وقال القاضي منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وضعف بأن السورة مكية ، وفرض الزكاة بالمدينة. وقيل : كان فرضا ، ثم نسخ وضعف بأنه تعالى لم يشرع شيئا بمكة قبل الهجرة من أخذ الأموال. والسائل : الذي يستعطي ، والمحروم : لغة الممنوع من الشيء ، قال علقمة :

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة

أنى توجه والمحروم محروم

وأما في الآية ، فالذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه. وقيل : الذي تبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان. وقال ابن عباس : المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم مال. وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته. وقيل : الذي ماتت ماشيته. وقال عمر بن عبد العزيز : هو الكلب. وقيل : الذي لا ينمي له مال. وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب. وقيل غير ذلك ، وكل هذه الأقوال على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويجمعها أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها ، وفيها الفجاج للسلاك ، وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر ، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسيخة ، وتلقح بأنواع النبات ، وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال. وقرأ قتادة : آية على الإفراد ، (لِلْمُوقِنِينَ) : وهم الذين نظروا النظر الصحيح ، وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت به الرسل ، فأيقنوا لم يدخلهم ريب. (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال ، وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس ، وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغريب الصنائع ، وغير ذلك مما لا ينحصر.


(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) ، قال الضحاك ومجاهد وابن جبير : المطر والثلج ، لأنه سبب الأقوات ، وكل عين دائمة من الثلج. وقال مجاهد أيضا وواصل الأحدب : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف شاء ، (وَما تُوعَدُونَ) : الجنة ، أو هي النار ، أو أمر الساعة ، أو من خير وشر ، أو من ثواب وعقاب ، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين. وقرأ ابن محيصن : أرزاقكم على الجمع ، والضمير في إنه عائد على القرآن ، أو إلى الدين الذي في قوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) ، أو إلى اليوم المذكور في قوله : (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) ، أو إلى الرزق ، أو إلى الله ، أو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أقوال منقولة. والذي يظهر أنه عائد على الإخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء ، وكونهم في (قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) ، و (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) ، وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف ، وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك ، ولذلك شبه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعمش : بخلاف عن ثلاثتهم. مثل بالرفع : صفة لقوله : (لَحَقٌ) ؛ وباقي السبعة ، والجمهور : بالنصب ، وقيل : هي فتحة بناء ، وهو نعت كحاله في قراءة من رفع. ولما أضيف إلى غير متمكن بنى ، وما على هذا الإعراب زائدة للتوكيد ، والإضافة هي إلى أنكم تنطقون. وقال المازني : بنى مثل ، لأنه ركب مع ما ، فصار شيئا واحدا ، ومثله : ويحما وهيما وابنما ، قال حميد بن ثور :

ألا هيما مما لقيت وهيما

وويحا لمن لم يلق منهن ويحما

قال : فلو لا البناء لكان منونا ، وقال الشاعر :

فأكرم بنا أو أما وأكرم بنا ابنما

انتهى هذا التخريج. وابنما ليس ابنا بنى مع ما ، بل هذا من باب زيادة الميم فيه ، واتباع ما في الآخر ، إذ جعل في الميم الإعراب. تقول : هذا ابنم ، ورأيت ابنما ، ومررت بابنم ، وليست ما في الثلاث في ابنما مركبة مع ما ، كما قال : بل الفتحة في ابنما حركة إعراب ، وهو منصوب على التمييز ، وأنشد النحويون في بناء الاسم مع الحرف قول الراجز :

أثور ما أصيدكم أو ثورين

أم تيكم الجماء ذات القرنين

وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : إنه لحق حقا مثل ما أنكم ، فحركته حركة إعراب. وقيل : انتصب على أنه حال من الضمير المستكن في (لَحَقٌ). وقيل : حال من


لحق ، وإن كان نكرة ، فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه. والنطق هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني. ويقول الناس : هذا حق ، كما أنك هاهنا وهذا حق ، كما أنك ترى وتسمع ، وهذا كما في الآية. وما زائدة بنص الخليل ، ولا يحفظ حذفها ، فتقول : ذا حق كأنك هاهنا ، والكوفيون يجعلون مثلا محلى ، فينصبونه على الظرف ، ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، فعلى مذهبهم يجوز أن تكون مثل فيها منصوبا على الظرف ، واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو. ومن كلام بعض الأعراب : من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين.

قوله عزوجل (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ، فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ ، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ، قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ، قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ، قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ، فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ، وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ، وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ، وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ، فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).

(هَلْ أَتاكَ) : تقرير لتجتمع نفس المخاطب ، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب ، فتقرره هل سمع ذلك أم لا ، فكأنك تقتضي أن يقول لا. ويستطعمك الحديث ، وفيه تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما عرفه بالوحي ، وضيف الواحد والجماعة فيه سواء. وبدأ بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، هزما للعرب ، إذ كان أباهم الأعلى ، ولكون الرسل الذين وفدوا عليه جاءوا بإهلاك قوم لوط ، إذ كذبوه ، ففيه وعيد للعرب وتهديد واتعاظ وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يجري عليه من قومه. ووصفهم بالمكرمين لكرامتهم عند الله تعالى ، كقوله تعالى


في الملائكة : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (١) ، قاله الحسن ، فهي صفة سابقة فيهم ، أو لإكرام إبراهيم إياهم ، إذ خدمهم بنفسه وزوجته سارة وعجل لهم القرا. وقيل : لكونه رفع مجالسهم في صفة حادثة. وقرأ عكرمة : المكرمين بالتشديد ، وأطلق عليهم ضيف ، لكونهم في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم ، أو لحسبانه لذلك. وتقدم ذكر عددهم في سورة هود. وإذ معمولة للمكرمين إذا كانت صفة حادثة بفعل إبراهيم ، وإلا فبما في ضيف من معنى لفعل ، أو بإضمار اذكر ، وهذه أقوال منقولة. وقرأ الجمهور : قالوا سلاما ، بالنصب على المصدر الساد مسد فعله المستغنى به.

(قالَ سَلامٌ) بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : عليكم سلام. قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذا بأدب الله تعالى ، إذ سلاما دعاء. وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمري سلام ، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع. وقال ابن عطية : ويتجه أن يعمل في سلاما قالوا ، على أن يجعل سلاما في معنى قولا ، ويكون المعنى حينئذ : أنهم قالوا تحية ؛ وقولا معناه سلاما ، وهذا قول مجاهد. وقرأ ابن وثاب ، والنخعي ، وابن جبير ، وطلحة : قال سلم ، بكسر السين وإسكان اللام ، والمعنى : نحن سلم ، أو أنتم سلم ، وقرئا مرفوعين. وقرىء : سلاما قالوا سلما ، بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، قال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان. وقيل : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم. وقيل : كان هذا سؤالهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرّفوني من أنتم. وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم ، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك ، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى ، بل يظهر أنه يكون التقدير : هؤلاء قوم منكرون. وقال ذلك مع نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) : أي مضى أثناء حديثه ، مخفيا مضيه مستعجلا ؛ (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف ، حذرا من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة. وكونه عطف ، فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرى ، وأنه كان معدا عنده لمن يرد عليه. وقال في سورة هود : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٢) ، وهذا يدل أيضا على أنه كان العجل سابقا شيه قبل مجيئهم. وقال قتادة : كان غالب ماله البقر ، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل. وكان عليه الصلاة

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦.

(٢) سورة هود : ١١ / ٦٩.


والسلام مضيافا ، وحسبك وقف للضيافة أوقافا تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها.

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) : فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل ، وفيه العرض على الأكل ؛ فإن في ذلك تأنيسا للآكل ، بخلاف من قدم طعاما ولم يحث على أكله ، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل ، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل ، وهذا موجود في طباع بعض الناس. حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل ، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله ، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله. وقيل : الهمزة في ألا للإنكار ، وكأنه ثم محذوف تقديره : فامتنعوا من الأكل ، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال : (أَلا تَأْكُلُونَ). وفي الحديث : «إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه ، فقال لهم : وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن ، قالوا : وما هو؟ قال : أن تسموا الله عزوجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل ، فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلا».

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) : أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل ، أوجس منهم خيفة ، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه ، وللطعام حرمة وذمام ، والامتناع منه وحشة. فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامهم إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا لا تخف ، وعرفوه أنهم ملائكة. وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف ، إنما يكون باطلاع الله ملائكته على ما في نفسه ، أو بظهور أمارته في الوجه ، فاستدلوا بذلك على الباطن. وعن يحيى بن شداد : مسح جبريل عليه‌السلام بجناحه العجل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه. (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) : أي سيكون عليما ، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء. وعن الحسن : عليم نبي ؛ والجمهور : على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة. وقال مجاهد : هو إسماعيل. وقيل : علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب ، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس ، وكانت البشارة بذكر ، لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) : أي إلى بيتها ، وكانت في زاوية تنظر إليهم وتسمع كلامهم. وقيل : (فَأَقْبَلَتِ) ، أي شرعت في الصياح. قيل : وجدت حرارة الدم ، فلطمت وجهها من الحياء. والصرة ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان : الصيحة. قال الشاعر :


فألحقنا بالهاديات ودونه

حواجرها في صرة لم تزيل

وقال قتادة وعكرمة : الرنة. قيل : قالت أوّه بصياح وتعجب. وقال ابن بحر : الجماعة ، أي من النسوة تبادروا نظرا إلى الملائكة. وقال الجوهري : الصرة : الصيحة والجماعة والشدة. (فَصَكَّتْ وَجْهَها) : أي لطمته ، قاله ابن عباس ، وكذلك كما يفعله من يرد عليه أمر يستهوله ويتعجب منه ، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء. وقال السدي وسفيان : ضربت بكفها جبهتها ، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن. (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) : أي إنا قد اجتمع فيها أنها عجوز ، وذلك مانع من الولادة ، وأنها عقيم ، وهي التي لم تلد قط ، فكيف ألد؟ تعجبت من ذلك. (قالُوا كَذلِكَ) : أي مثل القول الذي أخبرناك به ، (قالَ رَبُّكِ) : وهو القادر على إيجاد ما يستبعد. وروي أن جبريل عليه‌السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت ، فإذا جذوعه مورقة مثمرة. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ) : أي ذو الحكمة. (الْعَلِيمُ) بالمصالح.

ولما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله تعالى رسلا ، قال (فَما خَطْبُكُمْ) إلى : (قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) : أي ذوي جرائم ، وهي كبار المعاصي من كفر وغيره. (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ) : أي لنهلكهم بها ، (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) : وهو السجيل ، طين يطبخ كما طبخ الآجر حتى يصير في صلابة كالحجارة. (مُسَوَّمَةً) : معلمة ، على كل واحد منها اسم صاحبه. وقيل : معلمة أنها من حجارة العذاب. وقيل : معلمة أنها ليست من حجارة الدنيا ، (لِلْمُسْرِفِينَ) : وهم المجاوزون الحد في الكفر. (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) : في القرية التي حل العذاب بأهلها. (غَيْرَ بَيْتٍ) : هو بيت لوط عليه‌السلام ، وهو لوط وابنتاه فقط ، وقيل : ثلاثة عشر نفسا. وقال الرماني : الآية تدل على أن الإيمان هو الإسلام ، وكذا قال الزمخشري ، وهما معتزليان.

(وَتَرَكْنا فِيها) : أي في القرية ، (آيَةً) : علامة. قال ابن جريج : حجرا كبيرا جدّا منضودا. وقيل : ماء أسود منتن. ويجوز أن يكون فيها عائدا على الإهلاكة التي أهلكوها ، فإنها من أعاجيب الإهلاك ، بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة. والظاهر أن قوله : (وَفِي مُوسى) معطوف على (وَتَرَكْنا فِيها) : أي في قصة موسى. وقال الزمخشري وابن عطية : (وَفِي مُوسى) يكون عطفا على (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (١). (وَفِي

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٢٠.


مُوسى) ، وهذا بعيد جدّا ، ينزه القرآن عن مثله. وقال الزمخشري أيضا : أو على قوله ، (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) (١) ، على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله :

علفتها تبنا وماء باردا

انتهى ، ولا حاجة إلى إضمار (وَتَرَكْنا) ، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور (وَتَرَكْنا).

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) : أي ازور وأعرض ، كما قال : (وَنَأى بِجانِبِهِ*) (٢). وقيل : بقوته وسلطانه. وقال ابن زيد : بركنه : بمجموعه. وقال قتادة : بقومه. (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) : ظن أحدهما ، أو تعمد الكذب ، وقد علم أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا. وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، ويدل على ذلك أنه قد قالهما ، قال : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (٣) ، و (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٤) ، واستشهد أبو عبيدة بقول جرير :

أثعلبة الفوارس أو رباحا

عدلت بهم طهية والحشايا

ولا ضرورة تدعو إلى جعل أو بمعنى الواو ، إذ يكون قالهما ، وأبهم على السامع ، فأو للإبهام. (هُوَ مُلِيمٌ) : أي أتى من المعاصي ما يلام عليه. (الْعَقِيمَ) التي لا خير فيها ، من الشتاء مطر ، أو لقاح شجر. وفي الصحيح : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور. فقول من ذهب إلى أنها الصبا ، أو الجنوب ، أو النكباء ، وهي ريح بين ريحين ، نكبت عن سمت القبلة ، فسميت نكباء ، ليس بصحيح ، لمعارضته للنص الثابت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها الدبور.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) : وهو عام مخصوص ، كقوله : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) (٥) : أي مما أراد الله تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو نبات ، لأنها لم يرد الله بها إهلاك الجبال والآكام والصخور ، ولا العالم الذي لم يكن من قوم عاد. (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) : جملة حالية ، والرميم تقدّم تفسيره في يس ، وهنا قال السدّي : التراب ، وقتادة : الهشيم ، ومجاهد : البالي ، وقطرب : الرماد ، وابن عيسى : المنسحق الذي لا يرم ، جعل الهمزة في أرم للسلب. روي أن الريح كانت تمر بالناس ، فيهم الرجل من قوم عاد ، فتنزعه

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٣٧.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٣ ، وسورة فصلت : ٤١ / ٥١.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٣٤.

(٤) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٧.

(٥) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٥.


من بينهم وتهلكه. (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) ، قال الحسن : هذا كان حين بعث إليهم صالح ، أمروا بالإيمان بما جاء به ، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ، ثم إنهم عتوا بعد ذلك ، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به ، فهو مطابق لفظا ووجود. وقال الفراء : هذا الأمر بالتمتع كان بعد عقر الناقة ، والحين ثلاثة أيام التي أوعدوا في تمامها بالعذاب. فالعتو كان قد تقدم قبل أن يقال لهم تمتعوا ، ولا ضرورة تدعو إلى قول الفراء ، إذ هو غير مرتب في الوجود. وقرأ الجمهور : الصاعقة ؛ وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما ، والكسائي : الصعقة ، وهي الصيحة هنا. وقرأ الحسن : الصاعقة ؛ وزيد بن علي كقراءة الكسائي. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) : أي فجأة ، وهم ينظرون بعيونهم ، قاله الطبري : وكانت نهارا. وقال مجاهد : (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموه فيها ، ورأوا علاماته في قلوبهم ، وانتظار العذاب أشد من العذاب.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) ، لقوله : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ*) (١) ، ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة. (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) ، أبلغ من نفي الانتصار : أي فما قدروا على الهرب ، ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به. وقيل : (مِنْ قِيامٍ) ، هو من قولهم : ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ، فليس المعنى انتصاب القامة ، قاله قتادة. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : (وَقَوْمَ) بالجر عطفا على ما تقدم ، أي وفي قوم نوح ، وهي قراءة عبد الله. وقرأ باقي السبعة ، وأبو عمرو في رواية : بالنصب. قيل : عطفا على الضمير في (فَأَخَذَتْهُمُ) ؛ وقيل : عطفا على (فَنَبَذْناهُمْ) ، لأن معنى كل منهما : فأهلكناهم. وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : وأهلكنا قوم نوح ، لدلالة معنى الكلام عليه. وقيل : باذكر مضمرة. وروى عبد الوارث ، ومحبوب ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وأبو السمال ، وابن مقسم : وقوم نوح بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي أهلكناهم.

قوله عزوجل : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ، وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، ما أُرِيدُ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٧٨ ـ ٩١ ، وسورة هود : ١١ / ٦٧ ـ ٩٤ ، وسورة العنكبوت : ٢٩ / ٣٧.


مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ، فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

أي : وبنينا السماء ، فهو من باب الاشتغال ، وكذا وفرشنا الأرض. وقرأ أبو السمال ، ومجاهد ، وابن مقسم : برفع السماء ورفع الأرض على الابتداء. (بِأَيْدٍ) : أي بقوة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وهو كقوله : (داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) (١). (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) : أي بناءها ، فالجملة حالية ، أي بنيناها موسعوها ، كقوله : جاء زيد وإنه لمسرع ، أي مسرعا ، فهي بحيث أن الأرض وما يحيط من الماء والهواء كالنقطة وسط الدائرة. وقال ابن زيد قريبا من هذا وهو : أن الوسع راجع إلى السماء. وقيل : لموسعون قوة وقدرة ، أي لقادرون من الوسع ، وهو الطاقة. وقال الحسن : أوسع الرزق بالمطر والماء.

(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) ، و (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ، قال مجاهد : إشارة إلى المتضادات والمتقابلات ، كالليل والنهار ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلال ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض ، والصحة والمرض ، والكفر والإيمان ، ونحو ذلك ، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه ، كالتسخين والتبريد. ومثل الحسن بأشياء مما تقدم وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثل له. وقال ابن زيد وغيره : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : أي من الحيوان ، (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) : ذكرا وأنثى. وقيل : المراد بالشيء الجنس ، وما يكون تحت الجنس نوعان : فمن كل جنس خلق نوعين من الجواهر ، مثل النامي والجامد. ومن النامي المدرك والنبات ، ومن المدرك الناطق والصامت ، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) : أي بأني باني السماء وفارش الأرض وخالق الزوجين ، تعالى أن يكون له زوج. أو تذكرون أنه لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح. وقرأ أبي : يتذكرون ، بتاءين وتخفيف الذال. وقيل : إرادة أن تتذكروا ، فتعرفوا الخالق وتعبدوه.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) : أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله ، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار ، لينبه على أن وراء الناس عقاب وعذاب. وأمر حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة ففروا بين التحذير والاستدعاء. وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك» ، قاله ابن عطية ، وهو تفسير حسن. وقال الزمخشري : إلى طاعته وثوابه من معصيته

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ١٧.


وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به شيئا. وكرر (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما. ألا ترى إلى قوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)؟ (١) والمعنى : قل يا محمد ففروا إلى الله. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال. وقد رددنا عليه في تفسير (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) في موضع هذه الآية.

(كَذلِكَ) : أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم ، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم ، وهو التكذيب. (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) : أو للتفصيل ، أي قال بعض ساحر ، وقال بعض مجنون ، وقال بعض كلاهما ، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر ، بل قالوا به جنة ، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل؟ (أَتَواصَوْا بِهِ) : أي بذلك القول ، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء ، مع افتراق أزمانهم ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) : أي لم يتواصوا به ، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد ، بل جمعتهم علة واحدة ، وهي كونهم طغاة ، فهم مستعلون في الأرض ، مفسدون فيها عاتون.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) : أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة ، فلم يجيبوا. (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) : إذ قد بلغت ونصحت. (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) : تؤثر فيهم وفيمن قدر الله أن يؤمن ، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف. وعن عليّ ، كرم الله وجهه : لما نزل (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) ، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع ، وأن الوحي قد انقطع ، نزلت (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) ، فسروا بذلك. (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) : أي (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) الطائعين ، قاله زيد بن أسلم وسفيان ، ويؤيده رواية ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين». وقال علي وابن عباس : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) : إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبادة. فعبر بقوله : (لِيَعْبُدُونِ) ، إذ العبادة هي مضمن الأمر ، فعلى هذا الجن والإنس عام. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمه ، أي خلقت لهم حواس وعقولا وأجساما منقادة ، نحو : العبادة ، كما تقول : هذا مخلوق لكذا ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٨.


وإن لم يصدر منه الذي خلق له ، كما تقول : القلم مبري لأن يكتب به ، وهو قد يكتب به وقد لا يكتب به ، وقال الزمخشري : إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها. فإن قلت : لو كان مريدا للعبادة منهم ، لكانوا كلهم عبادا. قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. وقال مجاهد : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) : ليعرفون. وقال ابن زيد : لأحملهم في العبادة على الشقاوة والسعادة. وقال الربيع بن أنس : إلا للعبادة ، قال : وهو ظاهر اللفظ. وقيل : إلا ليذلوا لقضائي. وقال الكلبي : إلا ليوحدون ، فالمؤمن يوحده في الشدة والرخاء ، والكافر في الشدة. وقال عكرمة : ليطيعون ، فأثيب العابد ، وأعاقب الجاحد. وقال مجاهد أيضا : إلا للأمر والنهي.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) : أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم. (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) : أي أن يطعموا خلقي ، فهو على حذف مضاف ، فالإضافة إلى الضمير تجوز ، قاله ابن عباس. وقيل : (أَنْ يُطْعِمُونِ) : أن ينفعون ، فذكر جزءا من المنافع وجعله دالا على الجميع. وقال الزمخشري : يريد إن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا في تحصيل معايشهم وأرزاقهم بهم ؛ فإما مجهز في تجارة يبغي ربحا ، أو مرتب في فلاحة ليقتل أرضا ، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته ، أو محتطب ، أو محتش ، أو مستق ، أو طابخ ، أو خابز ، أو ما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق. فأما مالك ملاك العبيد فقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أنا وحدي. انتهى ، وهو تكثير وخطابة. وقرأ ابن محيصن : (الرَّزَّاقُ) ، كما قرأ : وفي السماء رازقكم : اسم فاعل ، وهي قراءة حميد. وقرأ الأعمش ، وابن وثاب : (الْمَتِينُ) بالجر ، صفة للقوة على معنى الاقتدار ، قاله الزمخشري ، أو كأنه قال : ذو الأيد ، وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو وخفض على الجوار ، كقولهم : هذا جحر ضب خرب.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : هم أهل مكة وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذنوبا : أي حظا ونصيبا ، (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) : من الأمم السابقة التي كذبت الرسل


في الإهلاك والعذاب. وعن قتادة : سجلا من عذاب الله مثل سجل أصحابهم. وقال الجوهري : الذنوب : الدلو الملأى ماء ، ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وجمعها العدد ، وفي الكثير ذنائب. والذنوب : الفرس الطويل الذنب ، والذنوب : النصيب ، والذنوب : لحم أسفل المتن. وقال ابن الأعرابي : يقال يوم ذنوب : أي طويل الشر لا ينقضي. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ) ، قيل : يوم بدر. وقيل : يوم القيامة (الَّذِي يُوعَدُونَ) : أي به ، أو يوعدونه.


سورة الطّور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ


رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)

الرق ، بالفتح والكسر : جلد رقيق يكتب فيه ، وجمعه رقوق. والرق بالكسر : المملوك. مار الشيء : ذهب وجاء. وقال الأخفش : وأبو عبيدة : تكفأ ، وأنشد الأعشى :

كأن مشيتها من بين جارتها

مر السحابة لا ريث ولا عجل

ويروى : مرو السحابة. الدع : الدفع في الضيق بشدّة وإهانة. السموم : الريح الحارة التي تدخل المسام ، ويقال : سم يومنا فهو مسموم ، والجمع سمائم. وقال ثعلب : شدّة الحر ، أو شدّة البرد في النهار. وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار ، وقد يكون بالليل ؛ والحرور بالليل ، وقد يكون بالنهار. وقد يستعمل السموم في لفح البرد ، وهو في لفح الحر والشمس أكثر. المنون : الدهر ، وريبه : حوادثه. وقيل : اسم للموت. المسيطر : المتسلط. وحكى أبو عبيدة : سطرت عليّ ، إذا اتخذتني خولا ، ولم يأت في كلام العرب


اسم على مفيعل إلا خمسة : مهيمن ومحيمر ومبيطر ومسيطر ومبيقر. فالمحيمر اسم جبل ، والبواقي أسماء فاعلين ، والله تعالى أعلم.

(وَالطُّورِ ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ، إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ، يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ، فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ، يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ، هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ، وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ، يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ، قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).

هذه السورة مكية. ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، إذ في آخر تلك : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) (١) ، وقال هنا : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ).

الطور : الجبل ، والظاهر أنه اسم جنس ، لا جبل معين ، وفي الشام جبل يسمى الطور ، وهو طور سيناء. فقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال. قيل : وهو الذي كلم الله عليه موسى ، عليه الصلاة والسلام. والكتاب المسطور : القرآن ، أو المنتسخ من اللوح المحفوظ ، أو التوراة ، أو هي الإنجيل والزبور ، أو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق ، أو الصحف التي تعطى يوم القيامة بالإيمان والشمائل ، أقوال آخرها للفراء ، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعيين ، إنما تورد على الاحتمال. وقرأ أبو السمال : في رق ، بكسر الراء ، (مَنْشُورٍ) : أي مبسوط. وقيل : مفتوح لا ختم عليه. وقيل : منشور لائح. وعن ابن عباس : منشور ما بين المشرق والمغرب.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) ، قال علي وابن عباس وعكرمة : هو بيت في السماء مسامت

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٩.


الكعبة يقال له الضراح ، والضريح أيضا ، وهو الذي ذكر في حديث الإسراء ، قال جبريل : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كل أرض كذلك. وسأل ابن الكواء عليا ، رضي الله تعالى عنه فقال : بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وقال الحسن : البيت المعمور : الكعبة ، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز من الناس أتمه الله بالملائكة. (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) : السماء ، قال ابن عباس : هو العرش ، وهو سقف الجنة.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش : هو البحر الموقد نارا. وروي أن البحر هو جهنم. وقال قتادة : البحر المسجور : المملوء ، وهذا معروف من اللغة ، ورجحه الطبري بوجود ماء البحر كذلك ، ولا ينافي ما قاله مجاهد ، لأن سجرت التنور معناه : ملأته بما يحترق. وقال ابن عباس : المسجور : الذي ذهب ماؤه. وروى ذو الرمة الشاعر ، عن ابن عباس قال : خرجت أمة لتستقي ، فقالت : إن الحوض مسجور : أي فارغ ، وليس لذي الرمة حديث إلا هذا ، فيكون من الأضداد. ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة. وقال ابن عباس أيضا : المسجور : المحبوس ، ومنه ساجور الكلب : وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه ، ولو لا أن البحر يمسك ، لفاض على الأرض. وقال الربيع : المسجور : المختلط العذب بالملح. وقيل :المفجور ، ويدل عليه : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) (١). والجمهور : على أن البحر المقسم به هو بحر الدنيا ، ويؤيده : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٢). وعن علي وابن عمر : أنه في السماء تحت العرش فيه ماء غليظ يقال له بحر الحياة ، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا ، فينبتون في قبورهم. وقال قتيبة بن سعيد : هو جهنم ، وسماها بحرا لسعتها وتموجها. كما جاء في الفرس : وإن وجدناه لبحرا. قيل : ويحتمل أن تكون الجملة في القسم بالطور والبحر والبيت ، لكونها أماكن خلوة مع الله تعالى ، خاطب منها ربهم رسله.

فالطور ، قال فيه موسى : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٣) ، والبيت المعمور لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبحر المسجور ليونس ، قال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) (٤) ، فشرفت هذه الأماكن بهذه الأسباب. والقسم بكتاب مسطور ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم مع الله في

__________________

(١) سورة الانفطار : ٨٢ / ٣.

(٢) سورة التكوير : ٨١ / ٦.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.


هذه الأماكن كلام. واقترانه بالطور دل على ذلك. والقسم بالسقف المرفوع لبيان رفعة البيت المعمور. انتهى. ونكر وكتاب ، لأنه شامل لكل كتاب أنزله الله شمول البدل ، ويحتمل أن يكون شمول العموم ، كقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١). وكونه في رق ، يدل على ثبوته ، وأنه لا يتخطى الرؤوس. ووصفه بمنشور يدل على وضوحه ، فليس كالكتاب المطوي الذي لا يعلم ما انطوى عليه ، والمنشور يعلم ما فيه ، ولا يمنع من مطالعة ما تضمنه ؛ والواو الأولى واو القسم ، وما بعدها للعطف. والجملة المقسم عليها هي قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ). وفي إضافة العذاب لقوله : (رَبِّكَ) لطيفة ، إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد. فبالإضافة إلى الرب ، وإضافته لكاف الخطاب أمان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وإن العذاب لواقع هو بمن كذابه ، ولواقع على الشدة ، وهو أدل عليها من لكائن. ألا ترى إلى قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (٢) ، وقوله : (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) (٣) ، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حل به؟ وعن جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى بدر ، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب : (وَالطُّورِ) إلى (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) ، فكأنما صدع قلبي ، فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقرأ زيد بن علي : واقع بغير لام. قال قتادة : يريد عذاب الآخرة للكفار ، أي لواقع بالكفار.

ومن غريب ما يحكى أن شخصا رأى في النوم في كفه مكتوبا خمس واوات ، فعبر له بخير ، فسأل ابن سيرين ، فقال : تهيأ لما لا يسر ، فقال له : من أين أخذت هذا؟ فقال : من قوله تعالى : (وَالطُّورِ) إلى (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) ، فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص. وانتصب يوم بدافع ، قاله الحوفي ، وقال مكي : لا يعمل فيه واقع ، ولم يذكر دليل المنع. وقيل : هو منصوب بقوله : (لَواقِعٌ) ، وينبغي أن يكون (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول. قال ابن عباس : (تَمُورُ) : تضطرب. وقال أيضا : تشقق. وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض. وقال مجاهد : تدور. (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ، هذا في أول الأمر ، ثم تنسف حتى تصير آخرا (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٤). (فَوَيْلٌ) : عطف على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده ، والخوض : التخبط في الباطل ، وغلب استعماله في الاندفاع في الباطل.

__________________

(١) سورة التكوير : ٨١ / ١٤.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ١.

(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٢.

(٤) سورة القارعة : ١٠١ / ٥.


(يَوْمَ يُدَعُّونَ) ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزجا في أقفيتهم. وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيد بن علي : يدعون ، بسكون الدال وفتح العين : من الدعاء ، أي يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوها (دَعًّا) : مدعوعين ، يقال لهم : (هذِهِ النَّارُ). لما قيل لهم ذلك ، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار ، وهي : إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي ، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال ، فأمرهم بصليها على جهة التقريع. ثم قيل لهم على قطع رجائهم : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) : عذابكم حتم ، فسواء صبركم وجزعكم لا بد من جزاء أعمالكم ، قاله ابن عطية.

وقال الزمخشري : (أَفَسِحْرٌ هذا) ، يعني كنتم تقولون للوحي : هذا سحر. (أَفَسِحْرٌ هذا) ، يريد : أهذا المصداق أيضا سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى. (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه ، كما كنتم عميا عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم. فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة ، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع. انتهى. وسحر : خبر مقدم ، وهذا : مبتدأ ، وسواء : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي الصبر والجزع. وقال أبو البقاء : خبر مبتدأ محذوف ، أي صبركم وتركه سواء.

ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، ليقع الترهيب والترغيب ، وهو إخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين ، أخبروا بذلك. ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار ، إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم ، والأول أظهر. وقرأ الجمهور : فكهين ، نصبا على الحال ، والخبر في (جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ). وقرأ خالد : بالرفع على أنه خبر إن ، وفي جنات متعلق به. ومن أجاز تعداد الخبر ، أجاز أن يكونا خبرين. (وَوَقاهُمْ) معطوف على (فِي جَنَّاتٍ) ، إذ المعنى : استقروا في جنات ، أو على (آتاهُمْ) ، وما مصدرية ، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم. وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال ، ومن شرط قد في الماضي ، قال : هي هنا مضمرة ، أي وقد وقاهم. وقرأ أبو حيوة : ووقاهم ، بتشديد القاف. (كُلُوا وَاشْرَبُوا) على إضمار القول : أي يقال لهم : (هَنِيئاً).


قال الزمخشري : أكلا وشربا هنيئا ، أو طعاما وشرابا هنيئا ، وهو الذي لا تنغيص فيه. ويجوز أن يكون مثله في قوله :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعا به ما استحلت ، كما يرتفع بالفعل ، كأنه قيل : هنا عزة المستحل من أعراضنا. وكذلك معنى هنيئا هاهنا : هنأكم الأكل والشرب ، أو هنأكم ما كنتم تعملون ، أي جزاء ما كنتم تعملون ، والباء مزيدة كما في : (كَفى بِاللهِ) ، والباء متعلقة بكلوا واشربوا ، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. انتهى. وتقدم لنا الكلام مشبعا على (هَنِيئاً) في سورة النساء. وأما تجويزه زيادة الباء ، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل ، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها ؛ فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ. وأما قوله : إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا ، فلا يصح إلا على الأعمال ، فهي تتعلق بأحدهما. وانتصب (مُتَّكِئِينَ) على الحال. قال أبو البقاء : من الضمير في (كُلُوا) ، أو من الضمير في (وَوَقاهُمْ) ، أو من الضمير في (آتاهُمْ) ، أو من الضمير في (فاكِهِينَ) ، أو من الضمير في الظرف. انتهى. والظاهر أنه حال من الظرف ، وهو قوله : (فِي جَنَّاتٍ). وقرأ أبو السمال : على سرر ، بفتح الراء ، وهي لغة لكلب في المضعف ، فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف. وقرأ عكرمة : (بِحُورٍ عِينٍ) على الإضافة.

والظاهر أن قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، وخبره (أَلْحَقْنا). وأجاز أبو البقاء أن يكون (وَالَّذِينَ) في موضع نصب على تقدير : وأكرمنا الذين آمنوا. ومعنى الآية ، قال الجمهور وابن عباس وابن جبير وغيرهما : أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم ، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم. فبإيمان متعلق بقوله : (وَأَتْبَعْناهُمْ) (١). وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه» ثم قرأ الآية. وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين. انتهى. فيكون بإيمان متعلقا بألحقنا ، أي ألحقنا بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم ، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف ، فهم في الجنة مع آبائهم ، وإذا كان أبناء الكفار ، الذين لم يبلغوا حدّ التكليف في الجنة ، كما ثبت

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٤٢.


في صحيح البخاري ، فأحرى أولاد المؤمنين. وقال الحسن : الآية في الكبار من الذرية. وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار. وعن ابن عباس أيضا : الذين آمنوا : المهاجرون والأنصار ، والذرية : التابعون. وعنه أيضا : إن كان الآباء أرفع درجة ، رفع الله الأبناء إليهم ، فالآباء داخلون في اسم الذرية. وقال النخعي : المعنى : أعطيناهم أجورهم من غير نقص ، وجعلنا ذريتهم كذلك.

وقال الزمخشري : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ، معطوف على حور عين. أي قرناهم بالحور العين ؛ وبالذين آمنوا : أي بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١) ، فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وأتبعناهم ذرياتهم. ثم ذكر حديث ابن عباس ، ثم قال : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم بهم ونسلهم. ثم قال : بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم : أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ، ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم ، وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلا عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم. فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم. انتهى.

ولا يتخيل أحد أن (وَالَّذِينَ) معطوف على (بِحُورٍ عِينٍ) غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجميّ مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره. والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس ، ويعضده الحديث الذي رواه ، لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة. وذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء. ولفظة (أَلْحَقْنا) تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال. وقرأ أبو عمرو : وأتبعناهم ؛ وباقي السبعة : واتبعتهم ؛ وأبو عمرو : وذرياتهم جمعا نصبا ؛ وابن عامر : جمعا رفعا ؛ وباقي السبعة : مفردا ؛ وابن جبير : وأتبعناهم ذريتهم ، بالمدّ والهمز.

وقرأ الجمهور : (أَلَتْناهُمْ) ، بفتح اللام ، من ألات ؛ والحسن وابن كثير : بكسرها ؛ وابن هرمز : آلتناهم ، بالمد من آلت ، على وزن أفعل ؛ وابن مسعود وأبي : لتناهم من لات ، وهي قراءة طلحة والأعمش ؛ ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٤٧.


أيضا : لتناهم بفتح اللام. قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، وأنكر أيضا آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية ، وليس كما ذكر ، بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد ، كما قرأ ابن هرمز. وقرىء : وما ولتناهم ، ذكره ابن هارون. قال ابن خالويه : فيكون هنا الحرف من لات يليت ، وولت يلت ، وألت يألت ، وألات يليت ، ويؤلت ، وكلها بمعنى نقص. ويقال : ألت بمعنى غلظ. وقام رجل إلى عمر رضي‌الله‌عنه فوعظه ، فقال رجل : لا تألت أمير المؤمنين ، أي لا تغلظ عليه. والظاهر أن الضمير في ألتناهم عائد على المؤمنين. والمعنى : أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجره شيئا ، وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور. وقال أبي زيد : الضمير عائد على الأبناء. (مِنْ عَمَلِهِمْ) : أي الحسن والقبيح ، ويحسن هذا الاحتمال قوله : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) : أي مرتهن وفيه ، (وَأَمْدَدْناهُمْ) : أي يسرنا لهم شيئا فشيئا حتى يكر ولا ينقطع. (يَتَنازَعُونَ فِيها) أي يتعاطون ، قال الأخطل :

نازعته طيب الراح الشمول وقد

صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

أو يتنازعون : يتجاذبون تجاذب ملاعبة ، إذ أهل الدنيا لهم في ذلك لذة ، وكذلك في الجنة. وقرأ الجمهور : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) ، برفعهما ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتحهما ، واللغو : السقط من الكلام ، كما يجري بين شراب الخمر في الدنيا. والتأثيم : الإثم الذي يلحق شارب الخمر في الدنيا. (غِلْمانٌ لَهُمْ) : أي مماليك. (مَكْنُونٌ) : أي في الصدف ، لم تنله الأيدي ، قاله ابن جبير ، وهو إذ ذاك رطب ، فهو أحسن وأصفى. ويجوز أن يراد بمكنون : مخزون ، لأنه لا يخزن إلا الغالي الثمن. والظاهر أن التساؤل هو في الجنة ، إذ هذه كلها معاطيف بعضها على بعض ، أي يتساءلون عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم ؛ ويدل عليه (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) : أي بهذا النعيم الذي نحن فيه. وقال ابن عباس : تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية ، حكاه الطبري عنه. (مُشْفِقِينَ) : رقيقي القلوب ، خاشعين لله. وقرأ أبو حيوة : ووقانا بتشديد القاف ، والسموم هنا النار ؛ وقال الحسن : اسم من أسماء جهنم. (مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل لقاء الله والمصير إليه. (نَدْعُوهُ) نعبده ونسأله الوقاية من عذابه ، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) : المحسن ، (الرَّحِيمُ) : الكثير الرحمة ، إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب. أو (نَدْعُوهُ) من الدعاء. وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي : أنه بفتح الهمزة ، أي لأنه ، وباقي السبعة : إنه بكسر الهمزة ، وهي قراءة الأعرج وجماعة ، وفيها معنى التعليل.


قوله عزوجل : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ، أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ، أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ، أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ، أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ ، فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ، يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ).

لما تقدم أقسام الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين ، أمره بالتذكير ، إنذارا للكافر ، وتبشيرا للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون ، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات ، وكان للجن بهما ملابسة للإنس. وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة ، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط. وقال الزمخشري : (فَذَكِّرْ) فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون ، ولا تبال به ، فإنه قول باطل متناقض. فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله ؛ وما أنت ، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل ، أحد هذين. انتهى. وقال الحوفي : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) متعلق بما دل عليه الكلام ، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها ، والتقدير : ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن. قال أبو البقاء : الباء في موضع الحال ، والعامل في بكاهن أو مجنون ، والتقدير : ما أنت كاهنا ولا مجنونا ملتبسا بنعمة ربك. انتهى. وتكون حالا لازمة لا منتقلة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسا بنعمة ربه. وقيل : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) مقسم بها ، كأنه قيل : ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون ، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر ، كما تقول : ما زيد والله بقائم. ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه ، ذكر نوعا آخر مما كانوا يقولونه.


روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى قال قائل منهم ، وهم بنو عبد الدار ، قاله الضحاك : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك ، كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت الآية في ذلك. وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر ، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار ، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك ، إذ كان فيهم شعراء ، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم : هو شاعر ، حجدا لآيات الله بعد استيقانها. وقرأ زيد بن علي : يتربص بالياء مبنيا للمفعول به ، (رَيْبَ) : مرفوع ، وريب المنون : حوادث الدهر ، فإنه لا يدوم على حال ، قال الشاعر :

تربص بها ريب المنون لعلها

تطلق يوما أو يموت حليلها

وقال الهندي :

أمن المنون وريبها تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

(قُلْ تَرَبَّصُوا) : هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم ، كما تتربصون هلاكي. (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) : عقولهم بهذا ، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون ، وهو قول متناقض ، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهى. وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟ فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصبحها التوفيق. (أَمْ تَأْمُرُهُمْ) ، قيل : أم بمعنى الهمزة ، أي أتأمرهم؟ وقدرها مجاهد ببل ، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة.

(أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) : أي مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق. وقرأ مجاهد : بل هم ، مكان : (أَمْ هُمْ) ، وكون الأحلام آمرة مجازا لما أدت إلى ذلك ، جعلت آمرة كقوله : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) (١). وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف. تقوله : اختلقه من قبل نفسه ، كما قال : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) (٢). وقال ابن عطية : تقوله معناه : قال عن الغير أنه قاله ، فهو عبارة عن كذب مخصوص. انتهى. (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) : أي لكفرهم وعنادهم ، ثم عجزهم بقوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) : أي مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة ، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات ،

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٨٧.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ٤٤.


والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله ، فليقولوا هم مثله ، إذ هو واحد منهم ، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقوّل. فقرأ الجحدري وأبو السمّال : (بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) ، على الإضافة : أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحدا منهم ، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة ، فليأت بمثل ما أتى به ، ولن يقدر على ذلك أبدا.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) : أي من غير شيء حي كالجماد ، فهم لا يؤمرون ولا ينهون ، كما هي الجمادات عليه ، قاله الطبري. وقيل : (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) : أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب ، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون ، وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة : أي لغير علة ، فمن للسبب ، وفي القول الأول لابتداء الغاية. وقال الزمخشري : (أَمْ خُلِقُوا) : أم أحدثوا؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ؛ (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) : من غير مقدر ، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق؟ (بَلْ لا يُوقِنُونَ) : أي إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون. أم خلقوا من غير رب ولا خالق؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم؟ (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لأنفسهم ، فلا يعبدون الله ، ولا يأتمرون بأوامره ، ولا ينتهون عن مناهيه. والقسمان باطلان ، وهم يعترفون بذلك ، فدل على بطلانهم. وقال ابن عطية : ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم ، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون؟ ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) ، قال الزمخشري : خزائن الرزق ، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) : الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم. وقال ابن عطية : أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى. وقال الزهراوي : وقيل يريد بالخزائن : العلم ، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط. وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته. انتهى. والمسيطر ، قال ابن عباس : المسلط القاهر. وقرأ الجمهور : المصيطرون بالصاد ؛ وهشام وقنبل وحفص : بخلاف عنه بالسين ، وهو الأصل ؛ ومن أبدلها صادا ، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلف عن حمزة ، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي.


(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) منصوب إلى السماء ، (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) : أي عليه أو منه ، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض ، وقدره الزمخشري : صاعدين فيه ، ومفعول يستمعون محذوف تقديره : الخبر بصحة ما يدعونه ، وقدره الزمخشري : ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون. (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم ، (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه ، (فَهُمْ) من ذلك المغرم الثقيل اللام (مُثْقَلُونَ) ، فاقتضى زهدهم في اتباعك.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) : أي اللوح المحفوظ ، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) : أي يثبتون ذلك للناس شرعا ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم. وقيل : المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يتربصون به ، ويكتبون بمعنى : يحكمون. وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون. (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) : أي بك وبشرعك ، وهو كيدهم به في دار الندوة ، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) : أي فهم ، وأبرز الظاهر تنبيها على العلة ، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه ، (هُمُ الْمَكِيدُونَ) : أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم ، ويحيق بهم مكرهم ، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، وسمى غلبتهم كيدا ، إذ كانت عقوبة الكيد. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم ، ثم نزه تعالى نفسه ، (عَمَّا يُشْرِكُونَ) به من الأصنام والأوثان.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ) : كانت قريش قد اقترحت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما اقترحت من قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عيانا ، حسب اقتراحهم ، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ، وقالوا : هو سحاب مركوم ، تراكم بعضه على بعض ممطرنا ، وليس بكسف ساقط للعذاب. (فَذَرْهُمْ) : أمر موادعة منسوخ بآية السيف. وقرأ الجمهور : (حَتَّى يُلاقُوا) ؛ وأبو حيوة : حتى يلقوا ، مضارع لقي ، (يَوْمَهُمُ) : أي يوم موتهم واحدا واحدا ، والصعق : العذاب ، أو يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم القيامة ، أقوال ، ثالثها قول الجمهور ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق. وقرأ الجمهور : يصعقون ، بفتح الياء. وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن عليّ وأهل مكة : في قول شبل بن عبادة ، وفتحها أهل مكة ، كالجمهور في قول إسماعيل. وقرأ السلمي : بضم الياء وكسر العين ، من أصعق رباعيا.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي لهؤلاء الظلمة ، (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) : أي دون يوم القيامة


وقبله ، وهو يوم بدر والفتح ، قاله ابن عباس وغيره. وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضا : هو عذاب القبر. وقال الحسن وابن زيد : مصائبهم في الدنيا. وقال مجاهد : هو الجوع والقحط ، سبع سنين. (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) : عبارة عن الحفظ والكلاءة ، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة ، وحين كان الضمير مفردا ، أفرد العين ، قال تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (١). وقرأ أبو السمال : بأعيننا ، بنون واحدة مشدّدة. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، قال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، وهو قول سبحان الله عند كل قيام. وقال عطاء : حين تقوم من كل مجلس ، وهو قول ابن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس : حين تقوم من منامك. وقيل : هو صلاة التطوع. وقيل : الفريضة. وقال الضحاك : حين تقوم إلى الصلاة تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك. وقال زيد بن أسلم : حين تقوم من القائلة والتسبيح ، إذ ذاك هو صلاة الظهر. وقال ابن السائب : اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) : قبل صلاة المغرب والعشاء. (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) : صلاة الصبح. وعن عمرو وعليّ وأبي هريرة والحسن : إنها النوافل ، (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) : ركعتا الفجر. وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب : وأدبار ، بفتح الهمزة ، بمعنى : وأعقاب النجوم.

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٣٩.



فهرس الجزء التاسع

الموضوع

الصفحة

الموضوع

الصفحة

أول سورة فاطر

٥

سورة الصافات

٨٦

الكلام على قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ) الآيات

٨

الكلام على قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ) الآيات

٨٩

الكلام على قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) الآيات

١٦

الكلام على قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) الآيات

٩٣

الكلام على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) الآيات

٢٣

الكلام على قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الآيات

١٠٦

الكلام على قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) الآيات

٢٨

الكلام على قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) الآيات

١٠٩

الكلام على قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) الآيات

٣٥

الكلام على قوله تعالى : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) الآيات

١١٥

الكلام على قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) الآيات

٤٠

الكلام على قوله : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الآيات

١٢٣

أول سورة يس

٤٤

أول سورة ص

١٣٣

الكلام على قوله تعالى : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) الآيات

٤٧

الكلام على قوله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) الآيات

١٣٤

الكلام على قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) الآيات

٥٢

الكلام على قوله تعالى : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) الآيات وتخريج ما يتعلق بقصة سيدنا داود أحسن تخريج

١٤٤

الكلام على قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) الآيات

٥٩

الكلام على قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) الآيات

١٥١

الكلام على قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا) الآيات

٧١

الكلام على قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) الآيات

١٦٠

الكلام على قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) الآيات

٨٢


الكلام على قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) الآيات

١٦٥

الكلام على قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) الآيات

٢٦٥

أول سورة الزمر

١٧٨

الكلام على قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) الآيات

٢٧٠

الكلام على قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الآيات

١٨٠

أول سورة فصلت

٢٧٩

الكلام على قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ) الآيات

١٨٧

الكلام على قوله عزوجل : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الآيات ومناسبة أولها لآخر ما قبلها

٢٨٢

الكلام على قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآيات

١٩٤

الكلام على قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) الآيات

٢٩٢

الكلام على قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) الآيات

٢٠٢

الكلام على قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) الآيات

٢٩٧

الكلام على قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) الآيات

٢٠٦

الكلام على قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) الآيات

٣٠٣

الكلام على قوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) الآيات

٢١٢

الكلام على قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) الآيات

٣٠٨

الكلام على قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي) الآيات

٢١٧

الكلام على قوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآيات

٣١٤

الكلام على قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخر السورة

٢٢٣

سورة الشورى

٣٢١

أول سورة غافر

٢٢٦

الكلام على قوله عزوجل : (حم عسق) الآيات ومناسبة أولها لآخر ما قبلها

٣٢١

الكلام على قوله : (حم) الآيات

٢٣١

الكلام على قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآيات

٣٢٧

الكلام على قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) الآيات

٢٣٧

الكلام على قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) الآيات

٣٣٢

الكلام على قوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) الآيات

٢٤٣

الكلام على قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الآيات

٣٣٩

الكلام على قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ) الآيات

٢٤٨

الكلام على قوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الآيات

٣٤٦

الكلام على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) الآيات

٢٥٥

أول سورة الزخرف

٣٥٣

الكلام على قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) الآيات

٢٥٩


الكلام على قوله تعالى : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الآيات

٣٥٧

ذكر قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجن وأي سورة قرأوكم مرة حصل ذلك منه

٤٥١

ما كان يقوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إرادته ركوب الدابة وبعد استوائه عليها

٣٦٢

أول سورة القتال

٤٥٣

الكلام على قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الآيات

٣٦٤

الكلام على قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآيات

٤٥٧

الكلام على قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الآيات

٣٧٠

الكلام على قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) الآيات

٤٦٤

الكلام على قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) الآيات

٣٧٨

ذكر بعض علامات الساعة

٤٦٨

الكلام على قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) الآيات

٣٨٤

الكلام على قوله عزوجل : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) الآيات

٤٦٩

الكلام على قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) إلى آخر السورة

٣٨٨

الكلام على قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الآيات

٤٧٥

أول سورة الدخان

٣٩٤

أول سورة الفتح

٤٧٩

الكلام على قوله تعالى : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الآيات

٣٩٦

الكلام على قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الآيات

٤٨١

الكلام على قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى آخر السورة

٤٠٣

الكلام على قوله تعالى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) الآيات

٤٨٧

أول سورة الجاثية

٤١٠

الكلام على قوله عزوجل (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الآيات

٤٩١

الكلام على قوله : (حم) الآيات

٤١٢

الكلام على قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) إلى آخر السورة

٤٩٨

الكلام على قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) الآيات

٤١٨

أول سورة الحجرات

٥٠٤

الكلام على قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر السورة

٤٢٤

الكلام على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) الآيات

٥٠٦

أول سورة الأحقاف

٤٢٨

مفاخرة وفد بني تميم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلبته لهم وإسلامهم بعد ذلك

٥٠٩

الكلام على قوله تعالى : (حم) الآيات

٤٣١

حديث الحارث بن ضرار الذي كان سببا في نزول قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)

٥١٢

الكلام على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآيات

٤٣٧

الكلام على قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الآيات

٥١٥

الكلام على قوله عزوجل ؛ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) الآيات

٤٤٣

الكلام على قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) إلى آخر السورة

٤٤٧


الكلام على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) إلى آخر السورة

٥٢١

الكلام على قوله تبارك وتعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) الآيات

٥٤٧

أول سورة ق

٥٢٦

الكلام على قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) الآيات

٥٥٤

الكلام على قوله : (ق وَالْقُرْآنِ) الآيات

٥٢٨

الكلام على قوله تبارك وتعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) الآيات

٥٥٩

الكلام على قوله عزوجل ؛ (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الآيات

٥٣٢

أول سورة الطور

٥٦٤

الكلام على قوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) الآيات

٥٣٥

الكلام على قوله تعالى : (وَالطُّورِ) الآيات

٥٦٦

الكلام على قوله عزوجل : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) الآيات

٥٤٠

الكلام على قوله تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) الآيات

٥٧٣

أول سورة الذاريات

٥٤٥

البحر المحيط في التّفسير - ٩

المؤلف:
الصفحات: 582