


المقام الثّاني
في الاستصحاب
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله ربّ
العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على
أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
المقام الثاني
في الاستصحاب
وهو لغة : أخذ الشيء
مصاحبا ، ومنه : استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.
وعند الاصوليّين
عرّف بتعاريف ، أسدّها وأخصرها : «إبقاء ما كان» ، والمراد بالإبقاء الحكم بالبقاء ، ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعلّيته
للحكم ، فعلّة الإبقاء هو أنّه كان ، فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علّته أو دليله.
وإلى ما ذكرنا
يرجع تعريفه في الزبدة بأنّه : «إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في
الزمان الأوّل» ، بل نسبه شارح
__________________
الدروس إلى القوم
، فقال : إنّ القوم ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق
عليه .
تعريف صاحب القوانين والمناقشة فيه
|
وأزيف التعاريف
تعريفه بأنّه : «كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في
الآن اللاحق» ؛ إذ لا يخفى أنّ كون حكم أو وصف كذلك ، هو محقّق مورد
الاستصحاب ومحلّه ، لا نفسه. ولذا صرّح في المعالم ـ كما عن غاية المأمول ـ : بأنّ استصحاب الحال ، محلّه أن يثبت حكم في وقت ، ثمّ يجيء وقت آخر ، ولا
يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، فهل يحكم ببقائه على ما كان ، وهو الاستصحاب؟ انتهى.
ويمكن توجيه
التعريف المذكور : بأنّ المحدود هو الاستصحاب المعدود من الأدلّة ، وليس الدليل
إلاّ ما أفاد العلم أو الظنّ بالحكم ، والمفيد للظنّ بوجود الحكم في الآن اللاحق
ليس إلاّ كونه يقينيّ الحصول في الآن السابق ، مشكوك البقاء في الآن اللاحق ؛ فلا
مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلاّ بما ذكره قدسسره.
عدم تمامية التوجيه المذكور
|
لكن فيه : أنّ
الاستصحاب ـ كما صرّح به هو قدسسره في أوّل كتابه ـ
__________________
إن اخذ من العقل
كان داخلا في دليل العقل ، وإن اخذ من الأخبار فيدخل في السنّة ، وعلى كلّ تقدير ،
فلا يستقيم تعريفه بما ذكره ؛ لأنّ دليل العقل هو حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم
شرعيّ ، وليس هنا إلاّ حكم العقل ببقاء ما كان على ما كان ، والمأخوذ من السنّة ليس إلاّ وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، فكون
الشيء معلوما سابقا مشكوكا فيه لاحقا لا ينطبق على
الاستصحاب بأحد الوجهين.
نعم ذكر شارح
المختصر : «أنّ معنى استصحاب الحال أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ
ما كان كذلك فهو مظنون البقاء» .
فإن كان الحدّ هو
خصوص الصغرى انطبق على التعريف المذكور ، وإن جعل خصوص الكبرى انطبق على تعاريف المشهور.
وكأنّ صاحب
الوافية استظهر منه كون التعريف مجموع المقدّمتين ، فوافقه في ذلك ، فقال : الاستصحاب
هو التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير
تلك الحال ، فيقال :
__________________
إنّ الأمر الفلاني
قد كان ولم يعلم عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق ، انتهى. ولا ثمرة مهمّة في ذلك.
__________________
بقي الكلام في
امور :
الأوّل
هل الاستصحاب أصل عمليّ أو أمارة ظنّية؟
|
أنّ عدّ الاستصحاب
من الأحكام الظاهريّة الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ـ نظير أصل البراءة
وقاعدة الاشتغال ـ مبنيّ على استفادته من الأخبار ، وأمّا بناء على كونه من أحكام
العقل فهو دليل ظنّيّ اجتهاديّ ، نظير القياس والاستقراء ، على القول بهما.
المختار كونه من الاصول العمليّة
|
وحيث إنّ المختار
عندنا هو الأوّل ، ذكرناه في الاصول العمليّة المقرّرة للموضوعات بوصف كونها
مشكوكة الحكم ، لكن ظاهر كلمات الأكثر ـ كالشيخ والسيّدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم ـ
__________________
كونه حكما عقليّا
؛ ولذا لم يتمسّك أحد هؤلاء فيه بخبر من الأخبار.
نعم ، ذكر في العدّة
ـ انتصارا للقائل بحجّيته ـ ما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من : «أنّ الشيطان ينفخ بين أليتي المصلّي فلا ينصرفنّ أحدكم إلاّ بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا» .
ومن العجب أنّه
انتصر بهذا الخبر الضعيف المختصّ بمورد خاصّ ، ولم يتمسّك بالأخبار الصحيحة
العامّة المعدودة ـ في حديث الأربعمائة ـ من أبواب العلوم .
وأوّل من تمسّك
بهذه الأخبار ـ فيما وجدته ـ والد الشيخ البهائي قدسسره ، فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي ، وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس ، وشاع بين من
تأخّر عنهم .
__________________
نعم ، ربما يظهر
من الحلّي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار ؛ حيث عبّر عن استصحاب نجاسة
الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه ، ب : «عدم نقض اليقين إلاّ باليقين» . وهذه العبارة ، الظاهر أنّها مأخوذة من الأخبار.
__________________
الثاني
الوجه في عدّ الاستصحاب من الأدلّة العقليّة
|
أنّ عدّ الاستصحاب
ـ على تقدير اعتباره من باب إفادة الظنّ ـ من الأدلّة العقليّة ، كما فعله غير
واحد منهم ؛ باعتبار أنّه حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعيّ بواسطة خطاب الشارع ،
فنقول : إنّ الحكم الشرعي الفلاني ثبت سابقا ولم يعلم ارتفاعه ، وكلّ ما كان كذلك
فهو باق ، فالصغرى شرعيّة ، والكبرى عقليّة ظنّية ، فهو والقياس والاستحسان
والاستقراء ـ نظير المفاهيم والاستلزامات ـ من العقليّات الغير
المستقلّة.
__________________
الثالث
هل الاستصحاب مسألة اصوليّة أو فقهيّة؟
|
أنّ مسألة
الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقليّة مسألة اصوليّة يبحث فيها عن كون
الشيء دليلا على الحكم الشرعيّ ، نظير حجّية القياس والاستقراء.
بناء على كونه حكما
عقليا فهو مسألة اصوليّة
|
نعم ، يشكل ذلك
بما ذكره المحقّق القمّي قدسسره في القوانين وحاشيته : من أنّ مسائل الاصول ما يبحث فيها
عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلا ، لا عن دليليّة الدليل .
وعلى ما ذكره قدسسره ، فيكون مسألة
الاستصحاب ـ كمسائل حجّية الأدلّة الظنّية ، كظاهر الكتاب وخبر الواحد ونحوهما ـ من
المبادئ التصديقيّة للمسائل الاصوليّة ، وحيث لم تتبيّن في علم آخر احتيج إلى
بيانها في نفس العلم ، كأكثر المبادئ التصوّريّة.
نعم ذكر بعضهم : أنّ موضوع الاصول ذوات الأدلّة من حيث
__________________
يبحث عن دليليّتها
أو عمّا يعرض لها بعد الدليليّة.
ولعلّه موافق
لتعريف الاصول بأنّه : «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة من
أدلّتها» .
بناء على كونه من الاصول العمليّة ففي كونه من المسائل الاصوليّة غموض
|
و ( أمّا على القول بكونه من الاصول العمليّة ، ففي كونه من المسائل الاصوليّة
غموض ؛ من حيث إنّ الاستصحاب حينئذ قاعدة مستفادة من السنّة ، وليس التكلّم
فيه تكلّما في أحوال السنّة ، بل هو نظير سائر القواعد المستفادة من الكتاب
والسنّة ، والمسألة الاصوليّة هي التي بمعونتها يستنبط هذه القاعدة من قولهم : : «لا تنقض
اليقين بالشكّ» ، وهي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر وعن أحوال الألفاظ
الواقعة فيه ، فهذه القاعدة ـ كقاعدة «البراءة» و «الاشتغال» ـ نظير قاعدة «نفي
الضرر والحرج» ، من القواعد الفرعيّة المتعلّقة بعمل المكلّف. نعم ، تندرج تحت هذه
القاعدة مسألة اصوليّة يجري فيها الاستصحاب ، كما تندرج المسألة الاصوليّة أحيانا
تحت أدلّة نفي الحرج ، كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتّى يقطع بعدمه بنفي
الحرج.
الإشكال في كون الاستصحاب من المسائل الفرعية
|
نعم ، يشكل كون
الاستصحاب من المسائل الفرعيّة : بأنّ إجراءها في موردها ـ أعني : صورة الشكّ في بقاء الحكم الشرعي السابق ، كنجاسة الماء المتغيّر
بعد زوال تغيّره ـ مختصّ بالمجتهد وليس وظيفة
__________________
للمقلّد ، فهي ممّا يحتاج إليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلّد ، وهذا من خواصّ المسألة
الاصوليّة ؛ فإنّ المسائل الاصوليّة لمّا مهّدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من
الأدلّة اختصّ التكلّم فيها بالمستنبط ، ولا حظّ لغيره فيها.
فإن قلت : إنّ
اختصاص هذه المسألة بالمجتهد ؛ لأجل أنّ موضوعها ـ وهو الشكّ في الحكم الشرعيّ
وعدم قيام الدليل الاجتهادي عليه ـ لا يتشخّص إلاّ للمجتهد ، وإلاّ فمضمونه وهو :
العمل على طبق الحالة السابقة وترتيب آثارها ، مشترك بين المجتهد والمقلّد.
قلت : جميع
المسائل الاصوليّة كذلك ؛ لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس
مختصّا بالمجتهد. نعم ، تشخيص مجرى خبر الواحد وتعيين مدلوله وتحصيل شروط العمل به
مختصّ بالمجتهد ؛ لتمكّنه من ذلك وعجز المقلّد عنه ، فكأنّ المجتهد نائب عن
المقلّد في تحصيل مقدّمات العمل بالأدلّة الاجتهاديّة وتشخيص مجاري
الاصول العمليّة ، وإلاّ فحكم الله الشرعيّ في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد
والمقلّد.
كلام السيد بحر العلوم فيما يرتبط بالمقام
|
هذا ، وقد جعل بعض
السادة الفحول الاستصحاب دليلا على الحكم في مورده ، وجعل قولهم : : «لا تنقض
اليقين بالشكّ» دليلا على الدليل ـ نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الواحد ـ حيث
قال :
__________________
إنّ استصحاب الحكم
المخالف للأصل في شيء ، دليل شرعيّ رافع لحكم الأصل ، ومخصّص لعمومات الحلّ ـ إلى
أن قال في آخر كلام له سيأتي نقله ـ : وليس عموم
قولهم : : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئيّاته ، إلاّ
كعموم آية النبأ بالقياس إلى آحاد الأخبار المعتبرة ، انتهى.
المناقشة فيما أفاده بحر العلوم
|
أقول : معنى
الاستصحاب الجزئيّ في المورد الخاصّ ـ كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ـ ليس إلاّ
الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا ، وهل هذا إلاّ نفس الحكم الشرعي؟!
وهل الدليل عليه إلاّ قولهم : : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ؟! وبالجملة : فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات.
هذا كلّه في
الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكميّة المثبت للحكم الظاهري الكلّي.
الاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعيّة
|
وأمّا الجاري في
الشبهة الموضوعيّة ـ كعدالة زيد ونجاسة ثوبه وفسق عمرو وطهارة بدنه ـ فلا إشكال في
كونه حكما فرعيّا ، سواء كان التكلّم فيه من باب الظنّ ، أم كان من باب كونها
قاعدة تعبّديّة مستفادة من الأخبار ؛ لأنّ التكلّم فيه على الأوّل ، نظير التكلّم
في اعتبار سائر الأمارات ، ك «يد المسلمين» و «سوقهم» و «البيّنة» و «الغلبة» ونحوها
في الشبهات الخارجيّة. وعلى الثاني ، من باب أصالة الطهارة وعدم الاعتناء بالشكّ
بعد الفراغ ، ونحو ذلك.
__________________
الرابع
مناط الاستصحاب بناء على كونه من باب التعبّد
|
أنّ المناط في
اعتبار الاستصحاب على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري ، هو مجرّد عدم العلم بزوال الحالة السابقة.
ليس المناط الظنّ الشخصي بناء على كونه من باب الظنّ
|
وأمّا على القول
بكونه من باب الظنّ ، فالمعهود من طريقة الفقهاء عدم اعتبار إفادة الظنّ في خصوص
المقام ؛ كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كلّية مع عدم اعتبارهم أن يكون
العامل بها ظانّا ببقاء الحالة السابقة ، ويظهر ذلك
بأدنى تتبّع في أحكام العبادات والمعاملات والمرافعات والسياسات.
كلام الشيخ البهائي في أن المناط الظن الشخصي
|
نعم ، ذكر شيخنا
البهائي قدسسره في الحبل المتين ـ في باب الشكّ في الحدث بعد الطهارة ـ ما
يظهر منه اعتبار الظنّ الشخصيّ ، حيث قال :
لا يخفى أنّ الظنّ
الحاصل بالاستصحاب في من تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث ، لا يبقى على نهج واحد ، بل
يضعف بطول المدّة شيئا
__________________
فشيئا ، بل قد
يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربما يصير الراجح مرجوحا ، كما إذا توضّأ عند
الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثمّ شكّ عند المغرب في صدور الحدث منه ، ولم يكن من عادته
البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت. والحاصل : أنّ المدار على الظنّ ، فما دام
باقيا فالعمل عليه وإن ضعف . انتهى كلامه ، رفع في الخلد مقامه.
ظاهر شارح الدروس ارتضاؤه ذلك
|
ويظهر من شارح
الدروس ارتضاؤه ؛ حيث قال بعد حكاية هذا الكلام :
ولا يخفى أنّ هذا
إنّما يصحّ لو بنى المسألة على أنّ ما تيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظنّ طروّ
ما يزيله ، يحصل الظنّ ببقائه ، والشكّ في نقيضه لا يعارضه ؛ إذ الضعيف لا يعارض
القويّ.
لكن ، هذا البناء
ضعيف جدّا ، بل بناؤها على الروايات مؤيّدة بأصالة البراءة في بعض الموارد ، وهي
تشمل الشكّ والظنّ معا ، فإخراج الظنّ منها ممّا لا وجه له
أصلا ، انتهى كلامه.
استظهار ذلك من كلام الشهيد قدسسره في الذكرى
|
ويمكن استظهار ذلك
من الشهيد قدسسره في الذكرى حيث ذكر أنّ :
قولنا : «اليقين
لا ينقضه الشكّ» ، لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ ، بل المراد أنّ اليقين الذي
كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ؛ لأصالة بقاء ما
كان ، فيؤول إلى اجتماع الظنّ
__________________
والشكّ في الزمان
الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات ، انتهى كلامه.
ومراده من الشكّ
مجرّد الاحتمال ، بل ظاهر كلامه أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب من باب أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ ، هو الظنّ أيضا ، فتأمّل.
__________________
الخامس
تقوّم الاستصحاب بأمرين : اليقين بالحدوث ، والشكّ في البقاء
|
أنّ المستفاد من
تعريفنا السابق ـ الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرّد الوجود السابق
ـ أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين :
أحدهما : وجود
الشيء في زمان ، سواء علم به في زمان وجوده أم لا. نعم ، لا بدّ من إحراز ذلك حين
إرادة الحكم بالبقاء بالعلم أو الظنّ المعتبر ، وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في
زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر ، فلا يتحقّق معه الاستصحاب الاصطلاحي وإن
توهّم بعضهم : جريان عموم «لا تنقض» فيه ،
كما سننبّه عليه .
والثاني : الشكّ
في وجوده في زمان لاحق عليه ؛ فلو شكّ في زمان سابق عليه فلا استصحاب ، وقد يطلق
عليه الاستصحاب القهقرى مجازا.
__________________
ثمّ المعتبر هو
الشكّ الفعليّ الموجود حال الالتفات إليه ، أمّا لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض الشكّ فيه على فرض الالتفات.
فالمتيقّن للحدث
إذا التفت إلى حاله في اللاحق فشكّ ، جرى الاستصحاب في حقّه ، فلو غفل عن ذلك وصلّى
بطلت صلاته ؛ لسبق الأمر بالطهارة ، ولا يجري في
حقّه حكم الشكّ في الصحّة بعد الفراغ عن العمل ؛ لأنّ مجراه الشكّ الحادث بعد
الفراغ ، لا الموجود من قبل .
نعم ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث وصلّى ، ثمّ التفت وشكّ في كونه محدثا
حال الصلاة أو متطهّرا ، جرى في حقّه قاعدة الشكّ بعد الفراغ ؛ لحدوث الشكّ بعد
العمل وعدم وجوده قبله حتّى يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول فيه بدونها.
نعم ، هذا الشكّ
اللاحق يوجب الإعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة ، لو لا حكومة قاعدة الشكّ بعد
الفراغ عليه ، فافهم .
__________________
السادس
تقسيم الاستصحاب من وجوه :
|
في تقسيم
الاستصحاب إلى أقسام ؛ ليعرف أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب في كلّها أو في بعضها
، فنقول :
إنّ له تقسيما
باعتبار المستصحب.
وآخر باعتبار
الدليل الدالّ عليه.
وثالثا باعتبار
الشكّ المأخوذ فيه.
[١ ـ تقسيم الاستصحاب
باعتبار المستصحب]
أمّا بالاعتبار
الأوّل فمن وجوه :
الوجه الأوّل
المستصحب إمّا وجوديّ وإمّا عدميّ
|
من حيث إنّ
المستصحب قد يكون أمرا وجوديّا ـ كوجوب شيء
__________________
أو طهارة شيء أو
رطوبة ثوب أو نحو ذلك ـ وقد يكون عدميّا. وهو على قسمين :
أحدهما : عدم
اشتغال الذمّة بتكليف شرعيّ ، ويسمّى عند بعضهم ب : «البراءة الأصليّة» و «أصالة النفي».
والثاني : غيره ،
كعدم نقل اللفظ عن معناه ، وعدم القرينة ، وعدم موت زيد ورطوبة الثوب وحدوث موجب
الوضوء أو الغسل ، ونحو ذلك.
ولا خلاف في كون
الوجوديّ محلّ النزاع.
كلام شريف العلماء في خروج العدميّات عن محلّ النزاع
|
وأمّا العدمي ،
فقد مال الاستاذ قدسسره إلى عدم الخلاف فيه ، تبعا لما حكاه عن استاذه السيّد صاحب
الرياض ; : من دعوى الإجماع على اعتباره في العدميّات. واستشهد على ذلك ـ بعد نقل
الإجماع المذكور ـ باستقرار سيرة العلماء على التمسّك بالاصول العدميّة ، مثل : أصالة
عدم القرينة والنقل والاشتراك وغير ذلك ، وببنائهم هذه المسألة على كفاية العلّة
المحدثة للإبقاء.
__________________
المناقشة فيما أفاده شريف العلماء
|
أقول : ما استظهره
قدسسره لا يخلو عن تأمّل :
أمّا دعوى الإجماع
، فلا مسرح لها في المقام مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثير بخلافها ، وإن كان يشهد لها ظاهر التفتازاني في شرح الشرح ؛ حيث قال :
«إنّ خلاف
الحنفيّة المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الإثبات دون النفي الأصليّ» .
قيام السيرة على التمسّك بالاصول الوجوديّة والعدميّة في باب الألفاظ
|
وأمّا سيرة
العلماء ، فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسّك بالاصول الوجوديّة والعدميّة
كلتيهما.
قال الوحيد
البهبهاني في رسالته الاستصحابيّة ـ بعد نقل القول بإنكار اعتبار الاستصحاب مطلقا
عن بعض ، وإثباته عن بعض ، والتفصيل عن بعض آخر ـ ما هذا لفظه :
كلام الوحيد البهبهاني في ذلك
|
لكنّ الذي نجد من
الجميع ـ حتّى من المنكر مطلقا ـ أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ، فيقولون :
الأمر حقيقة في الوجوب عرفا ، فكذا لغة ؛ لأصالة عدم النقل ، ويستدلّون بأصالة
بقاء المعنى اللغويّ ، فينكرون الحقيقة الشرعيّة ، إلى غير ذلك ، كما لا يخفى على
المتتبّع ، انتهى.
__________________
وحينئذ ، فلا
شهادة في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميّات.
ما يظهر منه الاختصاص بالوجوديّات ومناقشته
|
وأمّا استدلالهم
على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثّر الظاهر الاختصاص بالوجوديّ ـ فمع
أنّه معارض باختصاص بعض أدلّتهم الآتي بالعدمي ، وبأنّه يقتضي
أن يكون النزاع مختصّا بالشكّ من حيث المقتضي لا من حيث الرافع ـ يمكن توجيهه : بأنّ الغرض الأصليّ هنا لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة
الأحكام الشرعيّة ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجوديّ. مع أنّه يمكن أن يكون
الغرض تتميم المطلب في العدميّ بالإجماع المركّب ، بل الأولويّة ؛ لأنّ الموجود
إذا لم يحتج في بقائه إلى المؤثّر فالمعدوم كذلك بالطريق الأولى.
نعم ، ظاهر
عنوانهم للمسألة ب «استصحاب الحال» ، وتعريفهم له ، ظاهر الاختصاص بالوجوديّ ، إلاّ أنّ الوجه فيه : بيان الاستصحاب الذي هو من
الأدلّة الشرعيّة للأحكام ؛ ولذا عنونه بعضهم ـ بل الأكثر ـ ب «استصحاب حال الشرع».
وممّا ذكرنا يظهر
عدم جواز الاستشهاد على اختصاص محلّ النزاع بظهور قولهم في عنوان المسألة : «استصحاب الحال» ، في
__________________
الوجوديّ ؛ وإلاّ
لدلّ تقييد كثير منهم العنوان ب «استصحاب حال الشرع» ، على اختصاص النزاع بغير
الامور الخارجيّة.
وممّن يظهر منه
دخول العدميّات في محلّ الخلاف الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه ، بل لعلّه صريح في ذلك بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب .
وأصرح من ذلك في
عموم محلّ النزاع ، استدلال النافين في كتب الخاصّة والعامّة : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيح بيّنة النافي ؛
لاعتضاده بالاستصحاب ، واستدلال المثبتين ـ كما في المنية ـ : بأنّه
لو لم يعتبر الاستصحاب لا نسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلّة ؛ لتطرّق احتمالات
فيها لا تندفع إلاّ بالاستصحاب .
وممّن أنكر
الاستصحاب في العدميّات صاحب المدارك ؛ حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي
تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد المطروح .
التتبّع يشهد بعدم خروج العدميّات عن محلّ النزاع
|
وبالجملة :
فالظاهر أنّ التتبّع يشهد بأنّ العدميّات ليست خارجة
__________________
عن محلّ النزاع ،
بل سيجيء ـ عند بيان أدلّة الأقوال ـ أنّ القول بالتفصيل بين العدميّ والوجوديّ ـ بناء
على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ـ وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ، فضلا
عن اتّفاق النافين عليه ؛ إذ ما من استصحاب وجوديّ إلاّ ويمكن معه فرض استصحاب
عدميّ يلزم من الظنّ به الظنّ بذلك المستصحب الوجوديّ ، فيسقط فائدة نفي اعتبار
الاستصحابات الوجوديّة. وانتظر لتمام الكلام .
وممّا يشهد بعدم
الاتّفاق في العدميّات : اختلافهم في أنّ النافي يحتاج إلى دليل أم لا؟ فلاحظ ذلك
العنوان تجده شاهد صدق على ما ادّعيناه.
ظاهر جماعة خروج بعض العدميّات عن محلّ النزاع
|
نعم ، ربما يظهر
من بعضهم خروج بعض الأقسام من العدميّات من محلّ النزاع ، كاستصحاب النفي المسمّى
ب «البراءة الأصليّة» ؛ فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ـ كالمحقّق والعلاّمة والفاضل الجواد ـ : الإطباق على
العمل عليه. وكاستصحاب عدم النسخ ؛ فإنّ المصرّح به في كلام غير واحد ـ كالمحدّث
الأسترابادي والمحدّث البحراني ـ : عدم الخلاف فيه ، بل مال الأوّل إلى كونه من
ضروريات الدين ، وألحق
__________________
الثاني بذلك
استصحاب عدم المخصّص والمقيّد .
والتحقيق : أنّ
اعتبار الاستصحاب ـ بمعنى التعويل في تحقّق شيء في الزمان الثاني على تحقّقه في
الزمان السابق عليه ـ مختلف فيه ، من غير فرق بين الوجوديّ والعدميّ. نعم ، قد
يتحقّق في بعض الموارد قاعدة اخرى توجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ، ك «قاعدة
قبح التكليف من غير بيان» ، أو «عدم الدليل دليل العدم» ، أو «ظهور الدليل الدالّ
على الحكم في استمراره أو عمومه أو إطلاقه» ، أو غير ذلك ، وهذا لا ربط له باعتبار
الاستصحاب.
ثمّ إنّا لم نجد
في أصحابنا من فرّق بين الوجوديّ والعدميّ. نعم ، حكى شارح الشرح هذا التفصيل عن الحنفيّة.
الوجه الثاني :
المستصحب إمّا حكم شرعيّ وإمّا من الامور الخارجيّة
|
أنّ المستصحب قد
يكون حكما شرعيّا ، كالطهارة المستصحبة بعد خروج المذي ، والنجاسة المستصحبة بعد
زوال تغيّر المتغيّر بنفسه ، وقد يكون غيره ، كاستصحاب الكرّية ، والرطوبة ،
والوضع الأوّل عند الشكّ في حدوث النقل أو في تأريخه.
والظاهر بل صريح
جماعة وقوع الخلاف في كلا القسمين.
نعم ، نسب إلى بعض
التفصيل بينهما بإنكار الأوّل والاعتراف
__________________
بالثاني ، ونسب
إلى آخر العكس ، حكاهما الفاضل القمّي في القوانين .
للحكم الشرعي إطلاقان : ١ ـ الحكم الكلّي ٢ ـ ما يعمّ الحكم الجزئي
|
وفيه نظر ، يظهر
بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره ، فنقول : الحكم الشرعيّ يراد به تارة الحكم
الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، كطهارة من خرج منه المذي أو نجاسة ما زال
تغيّره بنفسه ، واخرى يراد به ما يعمّ الحكم الجزئي الخاصّ في الموضوع الخاصّ ،
كطهارة هذا الثوب ونجاسته ؛ فإنّ الحكم بهما ـ من جهة عدم ملاقاته للنجس أو
ملاقاته ـ ليس وظيفة للشارع. نعم ، وظيفته إثبات الطهارة كلّية لكلّ شيء شكّ في ملاقاته للنجس وعدمها.
إنكار الأخباريين جريان الاستصحاب في الحكم بالإطلاق الأوّل
|
وعلى الإطلاق
الأوّل جرى الأخباريّون ؛ حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام الله تعالى ،
وجعله الأسترابادي من أغلاط من تأخّر عن المفيد ، مع اعترافه باعتبار الاستصحاب في
مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما ممّا شكّ فيه من الأحكام الجزئيّة لأجل الاشتباه
في الامور الخارجيّة .
وصرّح المحدّث
الحرّ العاملي : بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره في نفس الحكم الشرعيّ ،
وإنّما تدلّ على اعتباره في موضوعاته ومتعلّقاته .
__________________
والأصل في ذلك
عندهم : أنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلاّ الاحتياط دون البراءة أو
الاستصحاب ؛ فإنّهما عندهم مختصّان بالشبهة في الموضوع.
وعلى الإطلاق
الثاني جرى بعض آخر.
قال المحقّق
الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار :
تقسيم المحقّق الخوانساري الاستحصاب في الحكم بالإطلاق الثاني
|
وينقسم الاستصحاب
إلى قسمين ، باعتبار [انقسام] الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره. ومثّل للأوّل بنجاسة
الثوب أو البدن ، وللثاني برطوبته ، ثمّ قال : ذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ،
وبعضهم إلى حجّية القسم الأوّل فقط ، انتهى.
إذا عرفت ما
ذكرناه ، ظهر أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعيّة والامور
الخارجيّة قولين متعاكسين ليس على ما ينبغي ؛ لأنّ المراد بالحكم الشرعيّ :
إن كان هو الحكم
الكلّي الذي أنكره الأخباريّون فليس هنا من يقول باعتبار الاستصحاب فيه ونفيه في
غيره ؛ فإنّ ما حكاه المحقّق الخوانساري واستظهره السبزواري
هو اعتباره في الحكم الشرعي بالإطلاق الثاني الذي هو أعمّ
من الأوّل.
__________________
وإن اريد بالحكم
الشرعيّ الإطلاق الثاني الأعمّ ، فلم يقل أحد باعتباره في غير الحكم الشرعيّ وعدمه
في الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ الأخباريّين لا ينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئيّة.
الأقوى في حجّية الاستصحاب من حيث هذا التقسيم
|
ثمّ إنّ المحصّل
من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ثلاثة :
الأوّل : اعتبار
الاستصحاب في الحكم الشرعيّ مطلقا ـ جزئيّا كان كنجاسة الثوب ، أو كلّيا كنجاسة
الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ـ وهو الظاهر ممّا حكاه المحقّق الخوانساري .
الثاني : اعتباره
في ما عدا الحكم الشرعيّ الكلّي وإن كان حكما جزئيا ، وهو الذي حكاه في الرسالة
الاستصحابيّة عن الأخباريّين .
الثالث : اعتباره
في الحكم الجزئيّ دون الكلّي ودون الامور الخارجيّة ، وهو الذي ربما يستظهر ممّا
حكاه السيّد شارح الوافية عن المحقّق الخوانساري في حاشية له على قول الشهيد قدسسره في تحريم استعمال
الماء النجس والمشتبه .
الوجه الثالث :
المستصحب إمّا حكم تكليفي وإمّا حكم وضعي
|
من حيث إنّ
المستصحب قد يكون حكما تكليفيّا ، وقد يكون
__________________
وضعيّا شرعيّا كالأسباب والشروط والموانع.
القول بالتفصيل بين التكليفي وغيره
|
وقد وقع الخلاف من
هذه الجهة ، ففصّل صاحب الوافية بين التكليفيّ وغيره ، بالإنكار في الأوّل دون
الثاني .
وإنّما لم ندرج
هذا التقسيم في التقسيم الثاني مع أنّه تقسيم لأحد قسميه ؛ لأنّ ظاهر كلام المفصّل
المذكور وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفيّ والوضعيّ ، إلاّ أنّ آخر كلامه
ظاهر في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة
والشرطيّة والمانعيّة ، وسيتّضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرّض لأدلّة الأقوال .
__________________
[تقسيم الاستصحاب باعتبار دليل المستصحب]
وأمّا بالاعتبار
الثاني ، فمن وجوه أيضا :
أحدها :
دليل المستصحب إمّا الإجماع وإمّا غيره
|
من حيث إنّ الدليل
المثبت للمستصحب إمّا أن يكون هو الإجماع ، وإمّا أن يكون غيره. وقد فصّل بين هذين
القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل . وربما يظهر من
صاحب الحدائق ـ فيما حكي عنه في الدرر النجفيّة ـ أنّ محلّ النزاع في الاستصحاب
منحصر في استصحاب حال الإجماع . وسيأتي تفصيل ذلك عند نقل أدلّة الأقوال إن شاء الله.
الثاني :
المستصحب إمّا يثبت بالدليل العقلي وإمّا بالدليل الشرعي
|
من حيث إنّه قد
يثبت بالدليل الشرعيّ ، وقد يثبت بالدليل العقليّ. ولم أجد من فصّل بينهما ، إلاّ
أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقليّ ـ وهو الحكم العقليّ
المتوصّل به إلى حكم شرعي ـ تأمّلا ؛ نظرا إلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة
مفصّلة من حيث مناط الحكم ، والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن
__________________
الإشكال في الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي
|
يرجع إلى الشكّ في
موضوع الحكم ؛ لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقليّ بالحسن والقبح كلّها راجعة إلى
قيود فعل المكلّف ، الذي هو الموضوع. فالشكّ في حكم العقل حتّى لأجل وجود الرافع
لا يكون إلاّ للشكّ في موضوعه ، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزا معلوم البقاء في
الاستصحاب ، كما سيجيء .
ولا فرق فيما
ذكرنا ، بين أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في وجود الرافع ، وبين أن يكون لأجل الشكّ
في استعداد الحكم ؛ لأنّ ارتفاع الحكم العقليّ لا يكون إلاّ بارتفاع موضوعه ،
فيرجع الأمر بالأخرة إلى تبدّل العنوان ؛ ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق
الضارّ ، فحكمه يرجع إلى أنّ الضارّ من حيث إنّه ضارّ حرام ، ومعلوم أنّ هذه
القضيّة غير قابلة للاستصحاب عند الشكّ في الضرر مع العلم بتحقّقه سابقا ؛ لأنّ
قولنا : «المضرّ قبيح» حكم دائميّ لا يحتمل ارتفاعه أبدا ، ولا ينفع في إثبات
القبح عند الشكّ في بقاء الضرر.
ولا يجوز أن يقال
: إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه ؛ لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح
ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضرّ ، والحكم له مقطوع البقاء ، وهذا بخلاف الأحكام
الشرعيّة ؛ فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ، ولا يعلم أنّ المناط
الحقيقيّ فيه باق في زمان الشكّ أو مرتفع ـ إمّا من جهة جهل المناط
أو من جهة الجهل ببقائه مع معرفته ـ فيستصحب الحكم
الشرعيّ.
__________________
فإن قلت : على
القول بكون الأحكام الشرعيّة تابعة للأحكام العقليّة ، فما هو مناط الحكم وموضوعه
في الحكم العقليّ بقبح هذا الصدق فهو المناط والموضوع في حكم الشرع بحرمته ؛ إذ
المفروض بقاعدة التطابق ، أنّ موضوع الحرمة ومناطها هو بعينه موضوع القبح ومناطه.
قلت : هذا مسلّم ،
لكنّه مانع عن الفرق بين الحكم الشرعيّ والعقليّ من حيث الظنّ بالبقاء في الآن
اللاحق ، لا من حيث جريان أخبار الاستصحاب وعدمه ؛ فإنّه تابع لتحقّق موضوع
المستصحب ومعروضه بحكم العرف ، فإذا حكم الشارع بحرمة شيء في زمان ، وشكّ في
الزمان الثاني ، ولم يعلم أنّ المناط الحقيقي واقعا ـ الذي هو المناط والموضوع في حكم العقل ـ باق هنا أم لا ، فيصدق هنا أنّ الحكم الشرعيّ الثابت لما هو
الموضوع له في الأدلّة الشرعيّة كان موجودا سابقا وشكّ في بقائه ، ويجري فيه أخبار
الاستصحاب. نعم ، لو علم مناط هذا الحكم وموضوعه المعلّق عليه في حكم العقل لم يجر الاستصحاب ؛ لما ذكرنا من عدم إحراز
الموضوع.
عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة
إليها
|
وممّا ذكرنا يظهر
: أنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقليّة ، ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة
إليها ، سواء كانت وجوديّة أم عدميّة ، إذا كان العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة
، كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها ، فإنّه لا يجوز استصحابه بعد الالتفات ،
كما صدر
__________________
من بعض من مال إلى الحكم بالإجزاء في هذه الصورة وأمثالها من موارد الأعذار العقليّة
الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه.
وأمّا إذا لم يكن
العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة ، بل كان لعدم المقتضي وإن كان القضيّة
العقليّة موجودة أيضا ، فلا بأس باستصحاب العدم المطلق بعد ارتفاع القضيّة
العقليّة.
استصحاب حال العقل لا يستند إلى القضيّة العقليّة
|
ومن هذا الباب
استصحاب حال العقل ، المراد به في اصطلاحهم استصحاب البراءة والنفي ، فالمراد
استصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها ـ وهو عدم التكليف ـ لا الحال المستندة
إلى العقل ، حتّى يقال : إنّ مقتضى ما تقدّم هو عدم جواز استصحاب عدم التكليف عند
ارتفاع القضيّة العقليّة ، وهي قبح تكليف غير المميّز أو المعدوم.
وممّا ذكرنا ظهر
أنّه لا وجه للاعتراض على القوم ـ في تخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب النفي
والبراءة ـ بأنّ الثابت بالعقل قد يكون عدميّا وقد يكون
وجوديّا ، فلا وجه للتخصيص ؛ وذلك لما عرفت : من أنّ الحال المستند إلى العقل
المنوط بالقضيّة العقليّة لا يجري فيه الاستصحاب
وجوديّا كان أو عدميّا ، وما ذكره من الأمثلة يظهر الحال فيها ممّا تقدّم.
__________________
الثالث :
دليل المستصحب قد يدلّ على الاستمرار وقد لا يدلّ
|
أنّ دليل المستصحب
: إمّا أن يدلّ على استمرار الحكم إلى حصول رافع أو غاية ، وإمّا أن لا يدلّ. وقد
فصّل بين هذين القسمين المحقّق في المعارج ، والمحقّق الخوانساري في شرح الدروس ،
فأنكرا الحجّية في الثاني واعترفا بها في الأوّل ، مطلقا كما يظهر من المعارج ، أو بشرط كون الشكّ في وجود الغاية كما يأتي من شارح الدروس .
وتخيّل بعضهم ـ تبعا لصاحب المعالم ـ : أنّ قول المحقّق قدسسره موافق للمنكرين ؛ لأنّ محلّ النزاع ما لم يكن الدليل
مقتضيا للحكم في الآن اللاحق لو لا الشكّ في الرافع. وهو غير بعيد بالنظر إلى كلام
السيّد والشيخ وابن زهرة وغيرهم ؛ حيث إنّ
المفروض في كلامهم هو كون دليل الحكم في الزمان الأوّل قضيّة مهملة ساكتة عن حكم
الزمان الثاني ولو مع فرض عدم الرافع.
__________________
إلاّ أنّ الذي
يقتضيه التدبّر في بعض كلماتهم ـ مثل : إنكار السيّد لاستصحاب البلد المبنيّ على ساحل البحر مع كون الشكّ فيه نظير الشكّ في وجود
الرافع للحكم الشرعيّ ، وغير ذلك ممّا يظهر للمتأمّل ، ويقتضيه الجمع بين كلماتهم
وبين ما يظهر من بعض استدلال المثبتين والنافين ـ : هو عموم النزاع لما ذكره
المحقّق ، فما ذكره في المعارج أخيرا ليس رجوعا عمّا ذكره أوّلا ، بل لعلّه بيان لمورد
تلك الأدلّة التي ذكرها لاعتبار الاستصحاب ، وأنّها لا تقتضي اعتبارا أزيد من مورد
يكون الدليل فيه مقتضيا للحكم مطلقا ويشكّ في رافعه.
__________________
[تقسيم الاستصحاب
باعتبار الشكّ المأخوذ فيه]
وأمّا باعتبار
الشكّ في البقاء ، فمن وجوه أيضا :
أحدها :
منشأ الشكّ إمّا اشتباه الأمر الخارجي وإمّا اشتباه الحكم الشرعي
|
من جهة أنّ الشكّ
قد ينشأ من اشتباه الأمر الخارجيّ ـ مثل : الشكّ في حدوث البول ، أو كون الحادث
بولا أو وذيا ـ ويسمّى بالشبهة في الموضوع ، سواء كان المستصحب حكما شرعيّا جزئيّا
كالطهارة في المثالين ، أم موضوعا كالرطوبة والكرّيّة ونقل اللفظ عن معناه الأصلي
، وشبه ذلك.
وقد ينشأ من
اشتباه الحكم الشرعيّ الصادر من الشارع ، كالشكّ في بقاء نجاسة المتغيّر بعد زوال
تغيّره ، وطهارة المكلّف بعد حدوث المذي منه ، ونحو ذلك.
دخول القسمين في محلّ النزاع
|
والظاهر دخول
القسمين في محلّ النزاع ، كما يظهر من كلام المنكرين ؛ حيث ينكرون استصحاب حياة
زيد بعد غيبته عن النظر ، والبلد المبنيّ على ساحل البحر ، ومن كلام المثبتين حيث
يستدلّون يتوقّف نظام معاش الناس ومعادهم على الاستصحاب.
المحكي عن الأخباريين اختصاص النزاع بالشبهة الحكميّة
|
ويحكى عن
الأخباريّين اختصاص الخلاف بالثاني ، وهو الذي صرّح به المحدّث البحراني ، ويظهر من كلام المحدّث الأسترابادي ،
__________________
حيث قال في فوائده
:
كلام المحدّث الأسترابادي في الفوائد المدنية
|
اعلم أنّ
للاستصحاب صورتين معتبرتين باتّفاق الامّة ، بل أقول :
اعتبارهما من
ضروريّات الدين.
إحداهما : أنّ
الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أن يجيء ناسخه.
الثانية : أنّا
نستصحب كلّ أمر من الامور الشرعيّة ـ مثل : كون الرجل مالك أرض ، وكونه زوج امرأة
، وكونه عبد رجل ، وكونه على وضوء ، وكون الثوب طاهرا أو نجسا ، وكون الليل أو
النهار باقيا ، وكون ذمّة الإنسان مشغولة بصلاة أو طواف ـ إلى أن يقطع بوجود شيء
جعله الشارع سببا لنقض تلك الامور . ثمّ ذلك الشيء
قد يكون شهادة العدلين ، وقد يكون قول الحجّام المسلم أو من في حكمه ، وقد يكون
قول القصّار أو من في حكمه ، وقد يكون بيع ما يحتاج إلى الذبح والغسل في سوق
المسلمين ، وأشباه ذلك من الامور الحسّية ، انتهى.
ولو لا تمثيله
باستصحاب الليل والنهار لاحتمل أن يكون معقد إجماعه الشكّ من حيث المانع وجودا أو
منعا ، إلاّ أنّ الجامع بين جميع أمثلة الصورة الثانية ليس إلاّ الشبهة الموضوعيّة
، فكأنّه استثنى من محلّ الخلاف صورة واحدة من الشبهة الحكميّة ـ أعني الشكّ في
النسخ ـ
__________________
وجميع صور الشبهة
الموضوعيّة.
وأصرح من العبارة
المذكورة في اختصاص محلّ الخلاف بالشبهة الحكميّة ، ما حكي عنه في الفوائد أنّه قال ـ في جملة كلام له ـ : إنّ صور الاستصحاب المختلف فيه راجعة إلى
أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعيّ في موضوع في حال من حالاته نجريه في ذلك الموضوع عند
زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه. ومن المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع
المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في
الحقيقة إلى إسراء حكم لموضوع إلى موضوع آخر متّحد معه بالذات مختلف بالقيد
والصفات ، انتهى.
الثاني :
الشكّ في البقاء قد يكون مع تساوي الطرفين وقد يكون مع رجحان البقاء أو
الارتفاع
|
من حيث إنّ الشكّ
بالمعنى الأعمّ الذي هو المأخوذ في تعريف الاستصحاب :
قد يكون مع تساوي
الطرفين ، وقد يكون مع رجحان البقاء ، أو الارتفاع.
ولا إشكال في دخول
الأوّلين في محلّ النزاع ، وأمّا الثالث فقد يتراءى من بعض كلماتهم عدم وقوع
الخلاف فيه.
قال شارح المختصر
: معنى استصحاب الحال أنّ الحكم الفلاني قد
__________________
كان ولم يظنّ عدمه
، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء ، وقد اختلف في صحّة الاستدلال به لإفادته
الظنّ ، وعدمها لعدم إفادته ، انتهى.
والتحقيق : أنّ
محلّ الخلاف إن كان في اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد والطريق الظاهريّ ، عمّ
صورة الظنّ الغير المعتبر بالخلاف. وإن كان من باب إفادة الظنّ ـ كما صرّح به شارح
المختصر ـ فإن كان من باب الظنّ الشخصيّ ، كما يظهر من كلمات بعضهم ـ كشيخنا
البهائيّ في الحبل المتين وبعض من تأخّر عنه ـ كان محلّ
الخلاف في غير صورة الظنّ بالخلاف ؛ إذ مع وجوده لا يعقل ظنّ البقاء ، وإن كان من
باب إفادة نوعه الظنّ لو خلّي وطبعه ـ وإن عرض لبعض أفراده ما يسقطه عن إفادة
الظنّ ـ عمّ الخلاف صورة الظنّ بالخلاف أيضا.
ويمكن أن يحمل
كلام العضديّ على إرادة أنّ الاستصحاب من شأنه بالنوع أن يفيد الظنّ عند فرض عدم
الظنّ بالخلاف ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء الله.
الثالث :
الشكّ إمّا في المقتضي وإمّا في الرافع
|
من حيث إنّ الشكّ
في بقاء المستصحب :
قد يكون من جهة
المقتضي ، والمراد به : الشكّ من حيث استعداده
__________________
وقابليّته في ذاته
للبقاء ، كالشكّ في بقاء الليل والنهار وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل.
أقسام الشكّ من جهة الرافع
|
وقد يكون من جهة
طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء ، وهذا على أقسام : لأنّ الشكّ إمّا في
وجود الرافع ، كالشكّ في حدوث البول ، وإمّا أن يكون في رافعيّة الموجود ؛ إمّا
لعدم تعيّن المستصحب وتردّده بين ما يكون الموجود رافعا وبين ما لا يكون ، كفعل الظهر المشكوك كونه رافعا لشغل الذمّة بالصلاة
المكلّف بها قبل العصر يوم الجمعة من جهة تردّده بين الظهر والجمعة ، وإمّا للجهل
بصفة الموجود من كونه رافعا كالمذي ، أو مصداقا لرافع معلوم المفهوم كالرطوبة
المردّدة بين البول والودي ، أو مجهول المفهوم.
محل الخلاف من هذه الأقسام
|
ولا إشكال في كون
ما عدا الشكّ في وجود الرافع محلا للخلاف ، وإن كان ظاهر استدلال بعض المثبتين :
بأنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ... إلى آخره ،
يوهم الخلاف.
وأمّا هو فالظاهر
أيضا وقوع الخلاف فيه ؛ كما يظهر من إنكار السيّد قدسسره للاستصحاب في البلد المبنيّ على ساحل البحر ، وزيد الغائب
عن النظر ، وأنّ الاستصحاب لو كان حجّة لكان بيّنة النافي أولى ؛
لاعتضادها بالاستصحاب.
وكيف كان ، فقد
يفصّل بين كون الشكّ من جهة المقتضي وبين
__________________
كونه من جهة
الرافع ، فينكر الاستصحاب في الأوّل.
وقد يفصّل في
الرافع بين الشكّ في وجوده والشكّ في رافعيّته ، فينكر الثاني مطلقا ، أو إذا لم
يكن الشكّ في المصداق الخارجي.
هذه جملة ما حضرني
من كلمات الأصحاب.
والمتحصّل منها في
بادئ النظر أحد عشر قولا :
[الأقوال في حجّية الاستصحاب]
الأوّل : القول
بالحجّية مطلقا.
الثاني : عدمها
مطلقا.
الثالث : التفصيل
بين العدميّ والوجوديّ.
الرابع : التفصيل
بين الامور الخارجيّة وبين الحكم الشرعيّ مطلقا ، فلا يعتبر في الأوّل.
الخامس : التفصيل
بين الحكم الشرعيّ الكلّي وغيره ، فلا يعتبر في الأوّل إلاّ في عدم النسخ.
السادس : التفصيل
بين الحكم الجزئي وغيره ، فلا يعتبر في غير الأوّل ، وهذا هو الذي تقدّم أنّه ربما
يستظهر من كلام المحقّق الخوانساري في حاشية شرح الدروس ، على ما حكاه السيّد في
__________________
شرح الوافية .
السابع : التفصيل
بين الأحكام الوضعيّة ـ يعني نفس الأسباب والشروط والموانع ـ والأحكام التكليفيّة
التابعة لها ، وبين غيرها من الأحكام الشرعيّة ، فيجري في الأوّل دون الثاني .
الثامن : التفصيل
بين ما ثبت بالإجماع وغيره، فلا يعتبر في الأوّل.
التاسع : التفصيل
بين كون المستصحب ممّا ثبت بدليله أو من الخارج استمراره فشكّ في الغاية الرافعة
له ، وبين غيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني ، كما هو ظاهر المعارج .
العاشر : هذا
التفصيل مع اختصاص الشكّ بوجود الغاية ، كما هو الظاهر من المحقّق السبزواري فيما
سيجيء من كلامه .
الحادي عشر :
زيادة الشكّ في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المصداقيّ دون المفهوميّ ، كما هو
ظاهر ما سيجيء من المحقّق الخوانساري .
ثمّ إنّه لو بني على
ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة
__________________
في الاصول والفروع
، لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير ، بل يحصل لعالم
واحد قولان أو أزيد في المسألة ، إلاّ أنّ صرف الوقت في هذا ممّا لا ينبغي.
[أقوى الأقوال في الاستصحاب]
مختار المصنّف والمحقّق حجّية الاستصحاب عند الشكّ في الرافع دون المقتضي
|
والأقوى : هو
القول التاسع ، وهو الذي اختاره المحقّق ، فإنّ المحكيّ عنه في المعارج أنّه قال :
إذا ثبت حكم في
وقت ، ثمّ جاء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، هل يحكم ببقائه ما لم
يقم دلالة على نفيه؟ أم يفتقر الحكم في الوقت الثاني إلى دلالة؟
حكي عن المفيد قدسسره : أنّه يحكم
ببقائه ، وهو المختار. وقال المرتضى قدسسره : لا يحكم .
__________________
ثمّ مثّل
بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة ، ثمّ احتجّ للحجّية بوجوه ، منها : أنّ
المقتضي للحكم الأوّل موجود ، ثمّ ذكر أدلّة المانعين وأجاب عنها.
ثمّ قال : والذي
نختاره : أن ننظر في دليل ذلك الحكم ، فإن كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار
الحكم ، ك : «عقد النكاح» ، فإنّه يوجب حلّ الوطء مطلقا ، فإذا وقع الخلاف في
الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : «حلّ
الوطء ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ ، فكذا بعده» كان صحيحا ؛ لأنّ المقتضي للتحليل
ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء
، فيثبت الحكم عملا بالمقتضي.
لا يقال : إنّ
المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنّه باق.
لأنّا نقول : وقوع
العقد اقتضى حلّ الوطء لا مقيّدا بوقت ، فيلزم دوام الحلّ ؛ نظرا إلى وقوع المقتضي
، لا إلى دوامه ، فيجب أن يثبت الحلّ حتّى يثبت الرافع.
ثمّ قال : فإن كان
الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه فليس هذا عملا بغير دليل ، وإن كان يعني أمرا
آخر وراء هذا فنحن مضربون عنه ، انتهى.
ويظهر من صاحب
المعالم اختياره ؛ حيث جعل هذا القول من المحقّق نفيا لحجّية الاستصحاب ، فيظهر أنّ الاستصحاب المختلف فيه غيره.
__________________
[الاستدلال على القول المختار]
الاستدلال على المختار بوجوه
|
لنا على ذلك وجوه
:
١ ـ ظهور كلمات جماعة في الاتّفاق عليه.
|
الأوّل : ظهور كلام جماعة في الاتّفاق عليه.
فمنها : ما عن المبادئ
، حيث قال : الاستصحاب حجّة ؛ لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ، ثمّ وقع
الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلا ، ولو لا
القول بأنّ الاستصحاب حجّة ، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح ، انتهى.
ومراده وإن كان الاستدلال
به على حجّية مطلق الاستصحاب ، بناء على ما ادّعاه : من أنّ الوجه في الإجماع على
الاستصحاب مع الشكّ في طروّ المزيل ، هو اعتبار الحالة السابقة مطلقا ، لكنّه
ممنوع ؛ لعدم الملازمة ، كما سيجيء .
ونظير هذا ما عن
النهاية : من أنّ الفقهاء بأسرهم ـ على كثرة اختلافهم ـ اتّفقوا على أنّا متى
تيقّنا حصول شيء وشككنا في حدوث المزيل له أخذنا بالمتيقّن ، وهو عين الاستصحاب ؛
لأنّهم رجّحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث .
__________________
ومنها : تصريح
صاحب المعالم والفاضل الجواد : بأنّ ما ذكره
المحقّق أخيرا في المعارج راجع إلى قول السيّد المرتضى المنكر للاستصحاب ؛ فإنّ هذه شهادة منهما على خروج ما ذكره المحقّق عن مورد النزاع وكونه موضع
وفاق. إلاّ أنّ في صحّة هذه الشهادة نظرا ؛ لأنّ ما مثّل في المعارج من الشكّ في
الرافعيّة من مثال النكاح هو بعينه ما
أنكره الغزالي ومثّل له بالخارج من غير السبيلين ؛ فإنّ الطهارة كالنكاح في أنّ سببها مقتض لتحقّقه دائما إلى أن يثبت الرافع.
الثاني : أنّا
تتبّعنا موارد الشكّ في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من
أوّل الفقه إلى آخره موردا إلاّ وحكم الشارع فيه بالبقاء ، إلاّ مع أمارة توجب
الظنّ بالخلاف ، كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء ؛ فإنّ الحكم بها ليس لعدم
اعتبار الحالة السابقة ـ وإلاّ لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة ـ بل لغلبة
بقاء جزء من البول
__________________
أو المنيّ في
المخرج ، فرجّح هذا الظاهر على الأصل ، كما في غسالة الحمّام عند بعض ، والبناء
على الصحّة المستندة إلى ظهور فعل المسلم.
والإنصاف : أنّ
هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع ، وهو أولى من الاستقراء الذي ذكر غير واحد ـ كالمحقّق
البهبهاني وصاحب الرياض ـ : أنّه المستند
في حجّية شهادة العدلين على الإطلاق.
الثالث : الأخبار
المستفيضة
٢
ـ السنّة
١
ـ صحيحة زرارة الاولى :
|
منها : صحيحة
زرارة ـ ولا يضرّها الإضمار ـ «قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب
الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟
قال : يا زرارة ،
قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء.
قلت : فإن حرّك
إلى جنبه شيء ، وهو لا يعلم؟
قال : لا ، حتّى
يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه
، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر» .
__________________
وتقرير الاستدلال
: أنّ جواب الشرط في قوله عليهالسلام : «وإلاّ فإنّه على يقين» محذوف ، قامت العلّة مقامه
لدلالتها عليه ، وجعلها نفس الجزاء يحتاج إلى تكلّف ، وإقامة العلّة مقام الجزاء
لا تحصى كثرة في القرآن وغيره ، مثل قوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) ، و (إِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) ، و (مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ
كَرِيمٌ) ، و (مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ) ، و (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ، و (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ، و (إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ) ، إلى غير ذلك.
فمعنى الرواية :
إن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء ؛ لأنّه على يقين من وضوئه في
السابق ، وبعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء وجعل العلّة نفس اليقين ، يكون قوله عليهالسلام : «ولا ينقض اليقين» بمنزلة كبرى كلّية للصغرى المزبورة.
كون اللام في «اليقين» للجنس
|
هذا ، ولكنّ مبنى
الاستدلال على كون اللام في «اليقين» للجنس ؛ إذ لو كانت للعهد لكانت الكبرى ـ المنضمّة
إلى الصغرى ـ «ولا ينقض
__________________
اليقين بالوضوء
بالشكّ» ، فيفيد قاعدة كليّة في باب الوضوء ، وأنّه لا ينقض إلاّ باليقين بالحدث ،
و «اللام» وإن كان ظاهرا في الجنس ، إلاّ أنّ سبق يقين الوضوء ربما يوهن الظهور
المذكور ، بحيث لو فرض إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيدا عن اللفظ. مع احتمال
أن لا يكون قوله عليهالسلام : «فإنّه على يقين» علّة قائمة مقام الجزاء ، بل يكون
الجزاء مستفادا من قوله عليهالسلام : «ولا ينقض» ، وقوله عليهالسلام : «فإنّه على يقين» توطئة له ، والمعنى : أنّه إن لم
يستيقن النوم فهو مستيقن لوضوئه السابق ، ويثبت على مقتضى يقينه ولا ينقضه ؛ فيخرج
قوله : «لا ينقض» عن كونه بمنزلة الكبرى ، فيصير عموم اليقين وإرادة الجنس منه
أوهن.
لكنّ الإنصاف :
أنّ الكلام مع ذلك لا يخلو عن ظهور ، خصوصا بضميمة الأخبار الأخر الآتية المتضمّنة
لعدم نقض اليقين بالشكّ.
وربما يورد على
إرادة العموم من اليقين : أنّ النفي الوارد على العموم لا يدلّ على السلب الكلّي .
وفيه : أنّ العموم
مستفاد من الجنس في حيّز النفي ؛ فالعموم بملاحظة النفي كما في «لا رجل في الدار»
، لا في حيّزه كما في «لم آخذ كلّ الدراهم» ، ولو كان اللام لاستغراق الأفراد كان الظاهر ـ بقرينة
__________________
المقام والتعليل
وقوله : «أبدا» ـ هو إرادة عموم النفي ، لا نفي العموم.
وقد أورد على
الاستدلال بالصحيحة بما لا يخفى جوابه على الفطن .
والمهمّ في هذا
الاستدلال إثبات إرادة الجنس من اليقين.
ومنها : صحيحة
اخرى لزرارة ـ مضمرة أيضا ـ : «قال : قلت له : أصاب ثوبي دم
رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء ، فأصبت ، فحضرت
الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟
قال عليهالسلام : تعيد الصلاة وتغسله.
قلت : فإن لم أكن
رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته ولم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟
قال عليهالسلام : تغسله وتعيد.
قلت : فإن ظننت
أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا فصلّيت ، فرأيت فيه؟
قال : تغسله ولا
تعيد الصلاة.
قلت : لم ذلك؟
قال : لأنّك كنت
على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.
__________________
قلت : فإنّي قد
علمت أنّه قد أصابه ، ولم أدر أين هو فأغسله؟
قال : تغسل من
ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها ، حتّى تكون على يقين من طهارتك.
قلت : فهل عليّ إن
شككت في أنّه أصابه شيء ، أن انظر فيه؟
قال : لا ، ولكنّك
إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك.
قلت : إن رأيته في
ثوبي وأنا في الصلاة؟
قال : تنقض الصلاة
وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة
وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري ، لعلّه شيء اوقع عليك ؛ فليس ينبغي
لك أن تنقض اليقين بالشكّ ... الحديث» .
والتقريب : كما
تقدّم في الصحيحة الاولى ، وإرادة الجنس من اليقين لعلّه أظهر هنا.
فقه الحديث ومورد الاستدلال :
|
وأمّا فقه الحديث
، فبيانه : أنّ مورد الاستدلال يحتمل وجهين :
__________________
أحدهما : أن يكون
مورد السؤال فيه أن رأى بعد الصلاة نجاسة يعلم أنّها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة
، وحينئذ فالمراد : اليقين بالطهارة قبل ظنّ الإصابة ، والشكّ حين إرادة الدخول في
الصلاة.
لكن ، عدم نقض ذلك
اليقين بذلك الشكّ إنّما يصلح علّة لمشروعيّة الدخول في العبادة المشروطة بالطهارة
مع الشكّ فيها ، وأنّ الامتناع عن الدخول فيها نقض لآثار تلك الطهارة المتيقّنة ،
لا لعدم وجوب الإعادة على من تيقّن أنّه صلّى في النجاسة ـ كما صرّح به السيّد الشارح للوافية ـ إذ الإعادة ليست نقضا لأثر الطهارة المتيقّنة بالشكّ ،
بل هو نقض باليقين ؛ بناء على أنّ من آثار حصول اليقين بنجاسة الثوب حين الصلاة
ولو بعدها وجوب إعادتها.
وربما يتخيّل : حسن التعليل لعدم الإعادة ؛ بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر
الظاهري للإجزاء ، فيكون الصحيحة من حيث تعليلها دليلا على تلك القاعدة وكاشفة
عنها.
وفيه : أنّ ظاهر
قوله : «فليس ينبغي» ، يعني ليس ينبغي لك الإعادة لكونه نقضا ، كما أنّ ظاهر قوله عليهالسلام في الصحيحة الاولى :
__________________
«لا ينقض اليقين
بالشكّ أبدا» ، عدم إيجاب إعادة الوضوء ، فافهم ؛ فإنّه لا يخلو عن دقّة.
ودعوى : أنّ من
آثار الطهارة السابقة إجزاء الصلاة معها وعدم وجوب
الإعادة لها ، فوجوب الإعادة نقض لآثار الطهارة السابقة .
مدفوعة : بأنّ
الصحّة الواقعيّة وعدم الإعادة للصلاة مع الطهارة المتحقّقة سابقا ، من الآثار
العقليّة الغير المجعولة للطهارة المتحقّقة ؛ لعدم معقوليّة عدم الإجزاء فيها ، مع
أنّه يوجب الفرق بين وقوع تمام الصلاة مع النجاسة فلا يعيد وبين وقوع بعضها معها
فيعيد ، كما هو ظاهر قوله عليهالسلام بعد ذلك : «وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته». إلاّ
أن يحمل هذه الفقرة ـ كما استظهره شارح الوافية ـ على ما لو علم الإصابة وشكّ في موضعها ولم يغسلها نسيانا ، وهو مخالف لظاهر
الكلام وظاهر قوله عليهالسلام بعد ذلك : «وإن لم تشكّ ثمّ رأيته ... الخ».
والثاني : أن يكون
مورد السؤال رؤية النجاسة بعد الصلاة مع احتمال وقوعها بعدها ، فالمراد : أنّه ليس
ينبغي أن تنقض يقين الطهارة بمجرّد احتمال وجود النجاسة حال الصلاة.
وهذا الوجه سالم
عمّا يرد على الأوّل ، إلاّ أنّه خلاف ظاهر السؤال. نعم ، مورد قوله عليهالسلام أخيرا : «فليس ينبغي لك ... الخ» هو
__________________
الشكّ في وقوعه
أوّل الصلاة أو حين الرؤية ، ويكون المراد من قطع الصلاة الاشتغال عنها بغسل الثوب
مع عدم تخلّل المنافي ، لا إبطالها ثمّ البناء عليها الذي هو خلاف الإجماع ، لكن
تفريع عدم نقض اليقين على احتمال تأخّر الوقوع يأبى عن حمل اللام على الجنس ،
فافهم.
ومنها : صحيحة
ثالثة لزرارة : «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف
إليها اخرى ، ولا شيء عليه. ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ،
ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين ، فيبني
عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» .
وقد تمسّك بها في
الوافية ، وقرّره الشارح ، وتبعه جماعة
ممّن تأخّر عنه .
التأمّل في الاستدلال بهذه الصحيحة
|
وفيه تأمّل :
لأنّه إن كان المراد بقوله عليهالسلام : «قام فأضاف إليها اخرى» ، القيام للركعة الرابعة من دون
تسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة ، حتّى يكون حاصل الجواب هو : البناء على الأقلّ ،
__________________
فهو مخالف للمذهب
، وموافق لقول العامّة ، ومخالف لظاهر الفقرة الاولى من قوله : «يركع ركعتين بفاتحة الكتاب» ؛ فإنّ ظاهرها ـ بقرينة تعيين الفاتحة ـ إرادة ركعتين
منفصلتين ، أعني : صلاة الاحتياط ، فتعيّن أن يكون المراد به القيام ـ بعد التسليم
في الركعة المردّدة ـ إلى ركعة مستقلّة ، كما هو مذهب الإماميّة.
المراد من «اليقين» في هذه الصحيحة
|
فالمراد ب «اليقين»
ـ كما في «اليقين» الوارد في الموثّقة الآتية ، على ما صرّح به
السيّد المرتضى ; ، واستفيد من قوله عليهالسلام في أخبار الاحتياط : إن كنت قد نقصت فكذا ، وإن كنت قد
أتممت فكذا ـ : هو اليقين بالبراءة ، فيكون المراد وجوب الاحتياط
وتحصيل اليقين بالبراءة ، بالبناء على الأكثر وفعل صلاة مستقلّة قابلة لتدارك ما
يحتمل نقصه.
وقد اريد من «اليقين»
و «الاحتياط» في غير واحد من الأخبار هذا النحو من العمل ، منها : قوله عليهالسلام في الموثّقة الآتية : «إذا شككت فابن على اليقين» .
المراد من «البناء على اليقين» في الأخبار
|
فهذه الأخبار
الآمرة بالبناء على اليقين وعدم نقضه ، يراد منها : البناء على ما هو المتيقّن من
العدد ، والتسليم عليه ، مع جبره بصلاة
__________________
الاحتياط ؛ ولهذا
ذكر في غير واحد من الأخبار ما يدلّ على أنّ هذا العمل محرز للواقع ، مثل قوله عليهالسلام : «ألا اعلّمك شيئا إذا صنعته ، ثمّ ذكرت أنّك نقصت أو أتممت ، لم يكن عليك شيء؟» .
وقد تصدّى جماعة ـ تبعا للسيّد المرتضى ـ لبيان أنّ هذا العمل هو الأخذ باليقين والاحتياط ،
دون ما يقوله العامّة : من البناء على الأقلّ. ومبالغة الإمام عليهالسلام في هذه الصحيحة بتكرار عدم الاعتناء بالشكّ ، وتسمية ذلك في غيرها بالبناء على اليقين والاحتياط ، يشعر بكونه في مقابل العامّة الزاعمين بكون
مقتضى البناء على اليقين هو البناء على الأقلّ وضمّ الركعة المشكوكة.
ثمّ لو سلّم ظهور
الصحيحة في البناء على الأقلّ المطابق للاستصحاب ، كان هناك صوارف عن هذا الظاهر ،
مثل :
__________________
تعيّن حملها حينئذ
على التقيّة ، وهو مخالف للأصل.
ثمّ ارتكاب الحمل
على التقيّة في مورد الرواية ، وحمل القاعدة المستشهد بها لهذا الحكم المخالف
للواقع على بيان الواقع ـ ليكون التقيّة في إجراء القاعدة في المورد لا في نفسها ـ
مخالفة اخرى للظاهر وإن كان ممكنا في نفسه.
مع أنّ هذا المعنى
مخالف لظاهر صدر الرواية الآبي عن الحمل على التقيّة.
مع أنّ العلماء لم
يفهموا منها إلاّ البناء على الأكثر.
إلى غير ذلك ممّا
يوهن إرادة البناء على الأقلّ.
وأمّا احتمال كون المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ عدم جواز البناء على وقوع المشكوك بمجرّد
الشكّ ـ كما هو مقتضى الاستصحاب ـ فيكون مفاده : عدم جواز الاقتصار على الركعة
المردّدة بين الثالثة والرابعة ، وقوله : «لا يدخل الشكّ في اليقين» يراد به : أنّ
الركعة المشكوك فيها المبنيّ على عدم وقوعها لا يضمّها إلى اليقين ـ أعني القدر المتيقّن من الصلاة ـ بل يأتي بها مستقلّة على ما هو مذهب الخاصّة.
ففيه : من
المخالفة لظاهر الفقرات الستّ أو السبع ما لا يخفى على المتأمّل ؛ فإنّ
مقتضى التدبّر في الخبر أحد معنيين :
__________________
إمّا الحمل على
التقيّة ، وقد عرفت مخالفته للاصول والظواهر.
وإمّا حمله على
وجوب تحصيل اليقين بعدد الركعات على الوجه الأحوط ، وهذا الوجه وإن كان بعيدا في
نفسه ، لكنّه منحصر بعد عدم إمكان الحمل على ما يطابق الاستصحاب ، ولا أقلّ من
مساواته لما ذكره هذا القائل ، فيسقط الاستدلال بالصحيحة ، خصوصا على مثل هذه
القاعدة.
وأضعف من هذا دعوى
: أنّ حملها على وجوب تحصيل اليقين في الصلاة بالعمل على
الأكثر ، والعمل على الاحتياط بعد الصلاة ـ على ما هو فتوى الخاصّة وصريح أخبارهم
الآخر ـ لا ينافي إرادة العموم من القاعدة لهذا وللعمل على اليقين السابق في
الموارد الأخر.
وسيظهر اندفاعها
بما سيجيء في الأخبار الآتية : من عدم إمكان الجمع بين هذين المعنيين في المراد من
العمل على اليقين وعدم نقضه.
٤
ـ الاستدلال بموثّقة إسحاق بن عمّار والإشكال فيه
|
وممّا ذكرنا ظهر
عدم صحّة الاستدلال بموثّقة عمّار عن أبي الحسن عليهالسلام : «قال : إذا شككت فابن على اليقين. قلت : هذا أصل؟.
__________________
قال : نعم» .
فإنّ جعل البناء
على الأقلّ أصلا ينافي ما جعله الشارع أصلا في غير واحد من الأخبار ، مثل : قوله عليهالسلام : «أجمع لك السهو كلّه في كلمتين : متى ما شككت فابن على الأكثر» ، وقوله عليهالسلام فيما تقدّم :
«ألا اعلّمك شيئا
... إلى آخر ما تقدّم» .
فالوجه فيه : إمّا
الحمل على التقيّة ، وإمّا ما ذكره بعض الأصحاب في معنى الرواية : بإرادة البناء على الأكثر ، ثمّ الاحتياط بفعل ما ينفع لأجل الصلاة على تقدير الحاجة ، ولا يضرّ بها على تقدير الاستغناء.
نعم ، يمكن أن
يقال بعدم الدليل على اختصاص الموثّقة بشكوك الصلاة ، فضلا عن الشكّ في ركعاتها ،
فهو أصل كلّي خرج منه الشكّ في عدد الركعات ، وهو غير قادح.
لكن يرد عليه :
عدم الدلالة على إرادة اليقين السابق على الشكّ ،
__________________
ولا المتيقّن
السابق على المشكوك اللاحق ، فهي أضعف دلالة من الرواية الآتية الصريحة في اليقين
السابق ؛ لاحتمالها لإرادة إيجاب العمل بالاحتياط ، فافهم .
٥
ـ الاستدلال برواية الخصال ورواية اخرى
|
ومنها : ما عن
الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : من
كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ؛ فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» .
وفي رواية اخرى
عنه عليهالسلام : «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ؛ فإنّ
اليقين لا يدفع بالشكّ» . وعدّها المجلسي ـ في البحار ـ في سلك الأخبار التي يستفاد
منها القواعد الكلّية .
المناقشة في الاستدلال بهاتين الروايتين
|
أقول : لا يخفى
أنّ الشكّ واليقين لا يجتمعان حتّى ينقض أحدهما الآخر ، بل لا بدّ من اختلافهما :
إمّا في زمان نفس
الوصفين ، كأن يقطع يوم الجمعة بعدالة زيد في زمان ، ثمّ يشكّ يوم السبت في عدالته
في ذلك الزمان.
وإمّا في زمان
متعلّقهما وإن اتّحد زمانهما ، كأن يقطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة ، ويشكّ
ـ في زمان هذا القطع ـ بعدالته في يوم
__________________
السبت ، وهذا هو
الاستصحاب ، وليس منوطا بتعدّد زمان الشكّ واليقين ـ كما عرفت في المثال ـ فضلا عن
تأخّر الأوّل عن الثاني.
وحيث إنّ صريح
الرواية اختلاف زمان الوصفين ، وظاهرها اتّحاد زمان متعلّقهما ؛ تعيّن حملها على
القاعدة الاولى ، وحاصلها : عدم العبرة بطروّ الشكّ في شيء بعد اليقين بذلك الشيء.
ويؤيّده : أنّ
النقض حينئذ محمول على حقيقته ؛ لأنّه رفع اليد عن نفس الآثار التي رتّبها سابقا
على المتيقّن ، بخلاف الاستصحاب ؛ فإنّ المراد بنقض اليقين فيه رفع اليد عن ترتيب
الآثار في غير زمان اليقين ، وهذا ليس نقضا لليقين السابق ، إلاّ إذا اخذ متعلّقه
مجرّدا عن التقييد بالزمان الأوّل.
وبالجملة : فمن
تأمّل في الرواية ، وأغمض عن ذكر بعض لها في أدلّة
الاستصحاب ، جزم بما ذكرناه في معنى الرواية.
ثمّ لو سلّم أنّ
هذه القاعدة بإطلاقها مخالفة للإجماع ، أمكن تقييدها بعدم نقض اليقين السابق
بالنسبة إلى الأعمال التي رتّبها حال اليقين به ـ كالاقتداء بذلك الشخص في مثال العدالة
، أو العمل بفتواه أو شهادته ـ أو تقييد الحكم بصورة عدم التذكّر لمستند القطع
السابق ، وإخراج صورة تذكّره والتفطّن لفساده وعدم قابليّته لإفادة القطع .
__________________
إمكان دفع المناقشة المذكورة
|
اللهم إلاّ أن
يقال ـ بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين ـ : إنّ الظاهر تجريد
متعلّق اليقين عن التقييد بالزمان ؛ فإنّ قول القائل : «كنت متيقّنا أمس بعدالة
زيد» ظاهر في إرادة أصل العدالة ، لا العدالة المقيّدة بالزمان الماضي ، وإن كان ظرفه في الواقع ظرف
اليقين ، لكن لم يلاحظه على وجه التقييد ، فيكون الشكّ فيما بعد هذا الزمان ،
متعلّقا بنفس ذلك المتيقّن مجرّدا عن ذلك التقييد ، ظاهرا في تحقّق أصل العدالة في
زمان الشكّ ، فينطبق على الاستصحاب ، فافهم .
فالإنصاف : أنّ الرواية ـ سيّما بملاحظة قوله عليهالسلام : «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» ، و ( بملاحظة ما سبق في الصحاح من قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» حيث إنّ ظاهره
مساوقته لها ـ ظاهرة في الاستصحاب ، ويبعد حملها
على المعنى الذي ذكرنا.
__________________
هذا ، لكن سند الرواية ضعيف ب «القاسم بن يحيى» ؛ لتضعيف العلاّمة له في الخلاصة ، وإن ضعّف ذلك بعض باستناده إلى تضعيف ابن الغضائري ـ المعروف عدم قدحه ـ فتأمّل.
٦
ـ مكاتبة علي بن محمّد القاساني
|
ومنها : مكاتبة
علي بن محمد القاساني : «قال : كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتب عليهالسلام : اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وافطر للرؤية» .
فإنّ تفريع تحديد
كلّ من الصوم والإفطار ـ برؤية هلالي رمضان وشوّال ـ على قوله عليهالسلام : «اليقين لا يدخله الشكّ» لا يستقيم إلاّ بإرادة عدم جعل اليقين السابق
مدخولا بالشكّ ، أي مزاحما به.
والإنصاف : أنّ
هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب ، إلاّ أنّ سندها غير سليم.
هذه جملة ما وقفت
عليه من الأخبار المستدلّ بها للاستصحاب ، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها ، وعدم صحّة الظاهر منها ؛ فلعلّ الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد.
__________________
تأييد المختار بالأخبار الخاصّة
|
وربما يؤيّد ذلك
بالأخبار الواردة في الموارد الخاصّة :
١
ـ رواية عبد الله بن سنان
|
مثل : رواية عبد
الله بن سنان ـ الواردة فيمن يعير ثوبه الذمّيّ ، وهو يعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل
لحم الخنزير ـ : «قال : فهل عليّ أن أغسله؟ فقال عليهالسلام : لا ؛ لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه
نجّسه» .
وفيها دلالة واضحة
على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله ، هو سبق طهارته وعدم العلم
بارتفاعها ، ولو كان المستند قاعدة الطهارة لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة
؛ إذ الحكم في القاعدة مستند إلى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة.
نعم ، الرواية
مختصّة باستصحاب الطهارة دون غيرها ، ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها
ممّا يشكّ في ارتفاعها بالرافع.
ومثل : قوله عليهالسلام في موثّقة عمّار : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» .
بناء على أنّه
مسوق لبيان استمرار طهارة كلّ شيء إلى أن يعلم حدوث قذارته ، لا ثبوتها له ظاهرا
واستمرار هذا الثبوت إلى أن يعلم عدمها.
فالغاية ـ وهي
العلم بالقذارة ـ على الأوّل ، غاية للطهارة رافعة لاستمرارها ، فكلّ شيء محكوم
ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول
__________________
العلم بالقذارة ،
فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة.
وعلى الثاني ،
غاية للحكم بثبوتها ، والغاية ـ وهي العلم بعدم الطهارة ـ رافعة للحكم ، فكلّ شيء
يستمرّ الحكم بطهارته إلى كذا ، فإذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته ، لا نفسها.
والأصل في ذلك :
أنّ القضيّة المغيّاة ـ سواء كانت إخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول ،
كما في قولنا : الثوب طاهر إلى أن يلاقي نجسا ، أم كانت ظاهريّة مغيّاة بالعلم
بعدم المحمول ، كما في ما نحن فيه ـ قد يقصد المتكلّم مجرّد ثبوت المحمول للموضوع
ظاهرا أو واقعا ، من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ، وقد يقصد المتكلّم به
مجرّد الاستمرار ، لا أصل الثبوت ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه. والأوّل أعمّ
من الثاني من حيث المورد.
معنى الموثّقة إمّا الاستصحاب أو قاعدة الطهارة
|
إذا عرفت هذا
فنقول : إنّ معنى الرواية :
إمّا أن يكون خصوص
المعنى الثاني ، وهو القصد إلى بيان الاستمرار بعد الفراغ عن ثبوت أصل الطهارة ،
فيكون دليلا على استصحاب الطهارة. لكنّه خلاف الظاهر.
وإمّا خصوص المعنى
الأوّل الأعمّ منه ، وحينئذ لم يكن فيه دلالة على استصحاب الطهارة وإن شمل مورده ؛
لأنّ الحكم فيما علم طهارته ولم يعلم طروّ القذارة له ليس من
حيث سبق طهارته ، بل باعتبار مجرّد كونه مشكوك الطهارة ، فالرواية تفيد قاعدة
الطهارة حتّى في مسبوق الطهارة ، لا استصحابها ، بل تجري في مسبوق النجاسة على أقوى
__________________
الوجهين الآتيين
في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة.
ثمّ لا فرق في
مفاد الرواية ، بين الموضوع الخارجي الذي يشكّ في طهارته من حيث الشبهة في حكم
نوعه ، وبين الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي.
فعلم ممّا ذكرنا :
أنّه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين : من امتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية
ـ أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة ، وفي الشبهة
الموضوعيّة ، واستصحاب الطهارة ـ ؛ إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأوّلين ،
أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة.
عدم إمكان إرادة القاعدة والاستصحاب معا من الموثّقة
|
نعم ، إرادة
القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في معنيين ؛ لما عرفت أنّ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب خصوص
إبقائها في معلوم الطهارة سابقا ، والجامع بينهما غير موجود ، فيلزم ما ذكرنا.
والفرق بينهما ظاهر ، نظير الفرق بين قاعدة البراءة واستصحابها ، ولا جامع بينهما .
وقد خفي ذلك على
بعض المعاصرين ، فزعم جواز إرادة القاعدة والاستصحاب معا ، وأنكر ذلك على
صاحب القوانين فقال :
__________________
كلام صاحب الفصول في جواز إرادة كليهما منها
|
إنّ الرواية تدلّ
على أصلين :
أحدهما : أنّ
الحكم الأوّلي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلّق له
بمسألة الاستصحاب.
الثاني : أنّ هذا
الحكم مستمرّ إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئيّاته ، انتهى.
المناقشة فيما أفاده صاحب الفصول
|
أقول : ليت شعري
ما المشار إليه بقوله : «هذا الحكم مستمرّ إلى زمن العلم بالنجاسة»؟
فإن كان هو الحكم
المستفاد من الأصل الأوّلي ، فليس استمراره ظاهرا ولا واقعا مغيّا بزمان العلم
بالنجاسة ، بل هو مستمرّ إلى زمن نسخ هذا الحكم في الشريعة ، مع أنّ قوله : «حتّى
تعلم» إذا جعل من توابع الحكم الأوّل الذي هو الموضوع للحكم الثاني ، فمن أين يصير
الثاني مغيّا به؟! إذ لا يعقل كون شيء في استعمال واحد غاية لحكم ولحكم آخر يكون
الحكم الأوّل المغيّا موضوعا له.
وإن كان هو الحكم
الواقعيّ المعلوم ـ يعني أنّ الطهارة إذا ثبتت واقعا في زمان ، فهو مستمرّ في
الظاهر إلى زمن العلم بالنجاسة ـ فيكون الكلام مسوقا لبيان الاستمرار الظاهريّ
فيما علم ثبوت الطهارة له واقعا في زمان ، فأين هذا من بيان قاعدة الطهارة من حيث
هي للشيء المشكوك من حيث هو مشكوك؟!
ومنشأ الاشتباه في
هذا المقام : ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب ، فيتخيّل أنّ الرواية تدلّ على
الاستصحاب ، وقد عرفت :
__________________
أنّ دلالة الرواية
على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار استصحاب الطهارة ، وإلاّ فقد
أشرنا إلى أنّ القاعدة تشمل مستصحب النجاسة أيضا ، كما سيجيء.
ونظير ذلك ما صنعه
صاحب الوافية ؛ حيث ذكر روايات «أصالة الحلّ» الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع
في هذا المقام .
ثمّ على هذا ، كان
ينبغي ذكر أدلّة أصالة البراءة ؛ لأنّها أيضا متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد.
فالتحقيق : أنّ
الاستصحاب ـ من حيث هو ـ مخالف للقواعد الثلاث : البراءة ، والحلّ ، والطهارة ،
وإن تصادقت مواردها.
فثبت من جميع ما
ذكرنا : أنّ المتعيّن حمل الرواية المذكورة على أحد المعنيين ، والظاهر إرادة
القاعدة ـ نظير قوله عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال» ـ ؛ لأنّ حمله
على الاستصحاب وحمل الكلام على إرادة خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا خلاف
الظاهر ؛ إذ ظاهر الجملة الخبريّة إثبات أصل المحمول للموضوع ، لا إثبات استمراره
في مورد الفراغ عن ثبوت أصله.
نعم ، قوله : «حتّى
تعلم» يدلّ على استمرار المغيّا ، لكن المغيّا به الحكم بالطهارة ، يعني : هذا
الحكم الظاهري مستمرّ له إلى كذا ، لا أنّ الطهارة الواقعيّة المفروغ عنها مستمرّة
ظاهرا إلى زمن العلم.
__________________
ومنها : قوله عليهالسلام : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس» . وهو وإن كان
متّحدا مع الخبر السابق من حيث الحكم والغاية إلاّ أنّ
الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء غير متحقّق غالبا ، فالأولى
حملها على إرادة الاستصحاب ، والمعنى : أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة
طاهر حتّى تعلم ... ، أي : تستمرّ طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له
، سواء كان الاشتباه وعدم العلم من جهة الاشتباه في الحكم ، كالقليل الملاقي للنجس
والبئر ، أم كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجيّ ، كالشكّ في ملاقاته للنجاسة
أو نجاسة ملاقيه.
ومنها : قوله عليهالسلام : «إذا استيقنت أنّك توضّأت فإيّاك أن تحدث وضوءا ، حتّى تستيقن أنّك أحدثت» .
ودلالته على
استصحاب الطهارة ظاهرة.
__________________
[اختصاص الأخبار بالشكّ في الرافع]
ثمّ إنّ اختصاص ما
عدا الأخبار العامّة بالقول المختار واضح.
وأمّا الأخبار
العامّة ، فالمعروف بين المتأخّرين الاستدلال بها على حجّية الاستصحاب في جميع
الموارد .
تأمّل المحقّق الخوانساري في الاستدلال بالأخبار على الحجّية مطلقا
|
وفيه تأمّل ، قد
فتح بابه المحقّق الخوانساري في شرح الدروس .
توضيحه : أنّ
حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة ، كما في نقض الحبل.
والأقرب إليه ـ على
تقدير مجازيّته ـ هو رفع الأمر الثابت .
وقد يطلق على مطلق
رفع اليد عن الشيء ـ ولو لعدم المقتضي له ـ بعد أن كان آخذا به ، فالمراد من «النقض»
عدم الاستمرار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده .
__________________
إذا عرفت هذا ،
فنقول : إنّ الأمر يدور :
بين أن يراد ب «النقض»
مطلق ترك العمل وترتيب الأثر ـ وهو المعنى الثالث ـ ويبقى المنقوض عامّا لكلّ يقين.
وبين أن يراد من
النقض ظاهره ـ وهو المعنى الثاني ـ فيختصّ متعلّقه
بما من شأنه الاستمرار والاتّصال ، المختصّ
بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى.
ولا يخفى رجحان هذا على الأوّل ؛ لأنّ الفعل الخاصّ يصير مخصّصا لمتعلّقه العامّ ، كما
في قول القائل : لا تضرب أحدا ؛ فإنّ الضرب قرينة على اختصاص العامّ بالأحياء ،
ولا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب عليه كسائر الجمادات.
ثمّ لا يتوهّم
الاحتياج حينئذ إلى تصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن منه ؛ لأنّ التصرّف لازم على
كلّ حال ؛ فإنّ النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين
على كلّ تقدير ، بل المراد : نقض ما كان على يقين منه ـ وهو الطهارة السابقة ـ أو
أحكام اليقين.
والمراد ب «أحكام
اليقين» ليس أحكام نفس وصف اليقين ؛ إذ لو فرضنا حكما شرعيّا محمولا على نفس صفة
اليقين ارتفع بالشكّ قطعا ،
__________________
كمن نذر فعلا في
مدّة اليقين بحياة زيد.
بل المراد : أحكام
المتيقّن المثبتة له من جهة اليقين ، وهذه الأحكام كنفس المتيقّن أيضا لها استمرار
شأنيّ لا يرتفع إلاّ بالرافع ؛ فإنّ جواز الدخول في الصلاة بالطهارة أمر مستمرّ
إلى أن يحدث ناقضها.
وكيف كان ،
فالمراد : إمّا نقض المتيقّن ، والمراد به رفع اليد عن مقتضاه ، وإمّا نقض أحكام
اليقين ـ أي الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين به ـ والمراد حينئذ رفع اليد عنها.
ويمكن أن يستفاد
من بعض الأمارات إرادة المعنى الثالث ، مثل :
قوله عليهالسلام : «بل ينقض الشكّ باليقين» .
وقوله عليهالسلام : «ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» .
وقوله عليهالسلام : «اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية» ، فإنّ مورده استصحاب بقاء رمضان ، والشكّ فيه ليس شكّا في الرافع ، كما لا
يخفى.
وقوله عليهالسلام في رواية الأربعمائة : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين
لا يدفع بالشكّ» .
وقوله : «إذا شككت
فابن على اليقين» .
__________________
فإنّ المستفاد من
هذه وأمثالها : أنّ المراد بعدم النقض عدم الاعتناء بالاحتمال المخالف لليقين
السابق ، نظير قوله عليهالسلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» .
هذا ، ولكنّ
الإنصاف : أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لصرف لفظ «النقض» عن ظاهره.
لأنّ قوله : «بل
ينقض الشكّ باليقين» معناه رفع الشكّ ؛ لأنّ الشكّ ممّا إذا حصل لا يرتفع إلاّ
برافع.
وأمّا قوله عليهالسلام : «من كان على يقين فشكّ» ، فقد عرفت أنّه كقوله : «إذا
شككت فابن على اليقين» غير ظاهر في الاستصحاب ، مع إمكان أن
يجعل قوله عليهالسلام : «فإنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، أو لا يدفع به» قرينة على
اختصاص صدر الرواية بموارد النقض ، مع أنّ الظاهر من المضيّ : الجري على مقتضى
الداعي السابق وعدم التوقّف إلاّ لصارف ، نظير قوله عليهالسلام : «إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك» ونحوه ، فهو أيضا مختصّ بما ذكرنا.
__________________
وأمّا قوله عليهالسلام : «اليقين لا يدخله الشكّ» فتفرّع الإفطار للرؤية عليه من جهة استصحاب
الاشتغال بصوم رمضان إلى أن يحصل الرافع.
وبالجملة :
فالمتأمّل المنصف يجد أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على أزيد من اعتبار اليقين السابق
عند الشكّ في الارتفاع برافع.
[حجة القول الأوّل] :
الاستدلال على الحجية مطلقا بوجوه :
|
احتجّ
للقول الأوّل بوجوه :
الوجه الأوّل
والمناقشة فيه
|
منها : أنّه لو لم
يكن الاستصحاب حجّة لم يستقم استفادة الأحكام من الأدلّة اللفظيّة ؛ لتوقّفها على
أصالة عدم القرينة والمعارض والمخصّص والمقيّد والناسخ وغير ذلك.
وفيه : أنّ تلك
الاصول قواعد لفظيّة مجمع عليها بين العلماء وجميع أهل اللسان في باب الاستفادة ،
مع أنّها اصول عدميّة لا يستلزم القول بها القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، إمّا
لكونها مجمعا عليها بالخصوص ، وإمّا لرجوعها إلى الشكّ في الرافع.
ومنها : ما ذكره
المحقّق في المعارج ، وهو : أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت ، والعارض لا يصلح
رافعا ، فيجب الحكم بثبوته في الآن الثاني. أمّا أنّ المقتضي ثابت ، فلأنّا نتكلّم
على هذا التقدير. وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا ؛ فلأنّ العارض احتمال تجدّد ما
يوجب زوال الحكم ، لكنّ احتمال ذلك معارض باحتمال عدمه ، فيكون كلّ منهما مدفوعا
بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن الرافع ، انتهى.
وفيه : أنّ المراد
بالمقتضي ؛ إمّا العلّة التامّة للحكم أو للعلم به
__________________
ـ أعني الدليل ـ ،
أو المقتضي بالمعنى الأخصّ.
وعلى التقدير
الأوّل ، فلا بدّ من أن يراد من ثبوته ثبوته في الزمان الأوّل ،
ومن المعلوم عدم اقتضاء ذلك لثبوت المعلول أو المدلول في الزمان الثاني أصلا.
وعلى الثاني ، فلا بدّ من أن يراد ثبوته في الزمان الثاني مقتضيا للحكم.
وفيه ـ مع أنّه
أخصّ من المدّعى ـ : أنّ مجرّد احتمال عدم الرافع لا يثبت العلم ولا الظنّ بثبوت
المقتضى ، بالفتح.
والمراد من معارضة
احتمال الرافع باحتمال عدمه الموجبة للتساقط : إن كان سقوط الاحتمالين فلا معنى له
، وإن كان سقوط المحتملين عن الاعتبار حتّى لا يحكم بالرافع ولا بعدمه ، فمعنى ذلك
التوقّف عن الحكم بثبوت المقتضى ـ بالفتح ـ لا ثبوته.
وربما يحكى إبدال
قوله : «فيجب الحكم بثبوته» ، بقوله : «فيظنّ ثبوته» ، ويتخيّل أنّ هذا أبعد عن الإيراد ، ومرجعه إلى دليل آخر ذكره العضدي وغيره ، وهو : أنّ ما ثبت في وقت ولم يظنّ عدمه
__________________
فهو مظنون البقاء.
وسيجيء ما فيه .
ثمّ إنّ ظاهر هذا
الدليل دعوى القطع ببقاء الحالة السابقة واقعا ، ولم يعرف هذه
الدعوى من أحد ، واعترف بعدمه في المعارج في أجوبة النافين ، وصرّح بدعوى رجحان
البقاء .
ويمكن أن يريد به
: إثبات البناء على الحالة السابقة ولو مع عدم رجحانه ، وهو في غاية البعد
عن عمل العقلاء بالاستصحاب في امورهم.
والظاهر أنّ مرجع
هذا الدليل إلى أنّه إذا احرز المقتضي وشكّ في المانع ـ بعد تحقّق المقتضي وعدم
المانع في السابق ـ بني على عدمه ووجود المقتضي.
ويمكن أن يستفاد
من كلامه السابق في قوله : «والذي نختاره» ، أنّ مراده بالمقتضي للحكم
دليله ، وأنّ المراد بالعارض احتمال طروّ المخصّص لذلك الدليل ، فمرجعه إلى أنّ
الشكّ في تخصيص العامّ أو تقييد المطلق لا عبرة به ، كما يظهر من تمثيله بالنكاح
والشكّ في حصول الطلاق ببعض الألفاظ ، فإنّه إذا دلّ الدليل على أنّ عقد النكاح
يحدث علاقة الزوجيّة ، وعلم من الدليل دوامها ، ووجد في الشرع ما ثبت
__________________
كونه رافعا لها ،
وشكّ في شيء آخر أنّه رافع مستقلّ أو فرد من ذلك الرافع أم لا ، وجب العمل بدوام
الزوجيّة ؛ عملا بالعموم إلى أن يثبت المخصّص. وهذا حقّ ، وعليه عمل العلماء
كافّة.
نعم ، لو شكّ في
صدق الرافع على موجود خارجيّ لشبهة ـ كظلمة أو عدم الخبرة ـ ففي العمل بالعموم
حينئذ وعدمه ـ كما إذا قيل : «أكرم العلماء إلاّ زيدا» فشكّ في إنسان أنّه زيد أو
عمرو ـ قولان في باب العامّ المخصّص ، أصحّهما عدم الاعتبار بذلك العامّ. لكن ،
كلام المحقّق قدسسره في الشبهة الحكميّة ، بل مفروض كلام القوم أيضا اعتبار
الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام فيها ، دون مطلق الشبهة الشاملة للشبهة
الخارجيّة.
هذا غاية ما
أمكننا من توجيه الدليل المذكور.
لكنّ الذي يظهر
بالتأمّل : عدم استقامته في نفسه ، وعدم انطباقه على قوله المتقدّم : «والذي
نختاره» ، كما نبّه عليه في المعالم وتبعه غيره ، فتأمّل.
ومنها : أنّ
الثابت في الزمان الأوّل ممكن الثبوت في الآن الثاني ـ وإلاّ لم يحتمل البقاء ـ فيثبت
بقاؤه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم ؛ لاستحالة خروج الممكن عمّا عليه بلا مؤثّر ،
فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثّر فالراجح بقاؤه ، فيجب العمل عليه.
__________________
وفيه : منع
استلزام عدم العلم بالمؤثّر رجحان عدمه المستلزم لرجحان البقاء ، مع أنّ مرجع هذا
الوجه إلى ما ذكره العضديّ وغيره : من أنّ ما
تحقّق وجوده ولم يظنّ عدمه أو لم يعلم عدمه ، فهو مظنون البقاء.
دعوى أنّ وجود الشيء سابقا يقتضي الظنّ ببقائه والجواب عنها
|
ومحصّل الجواب ـ عن
هذا وأمثاله من أدلّتهم الراجعة إلى دعوى حصول ظنّ البقاء ـ : منع كون مجرّد وجود
الشيء سابقا مقتضيا لظنّ بقائه ؛ كما يشهد له تتّبع موارد الاستصحاب.
مع أنّه إن اريد
اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعيّ ـ يعني لمجرّد كونه لو خلّي وطبعه يفيد الظنّ بالبقاء وإن لم يفده فعلا لمانع ـ ففيه : أنّه
لا دليل على اعتباره أصلا.
وإن اريد اعتباره
عند حصول الظنّ فعلا منه ، فهو وإن استقام على ما يظهر من بعض من قارب عصرنا : من أصالة حجّية الظنّ ، إلاّ أنّ القول باعتبار الاستصحاب بشرط حصول الظنّ
الشخصيّ منه ـ حتّى أنّه في الموارد الواحد يختلف الحكم باختلاف الأشخاص والأزمان
وغيرها ـ لم يقل به أحد فيما أعلم ، عدا ما يظهر من شيخنا البهائي قدسسره في عبارته
المتقدّمة ، وما ذكره قدسسره مخالف للإجماع ظاهرا ؛ لأنّ بناء
__________________
العلماء في العمل
بالاستصحاب في الأحكام الجزئيّة والكلّية والموضوعات ـ خصوصا العدميّات ـ على عدم
مراعاة الظنّ الفعليّ.
ثمّ إنّ ظاهر كلام
العضدي ـ حيث أخذ في إفادته الظنّ بالبقاء عدم الظنّ بالارتفاع ـ أنّ
الاستصحاب أمارة حيث لا أمارة ، وليس في الأمارات ما يكون كذلك. نعم ، لا يبعد أن
يكون الغلبة كذلك.
وكيف كان ، فقد
عرفت منع إفادة مجرّد اليقين بوجود الشيء للظنّ ببقائه.
وقد استظهر بعض تبعا لبعض ـ بعد الاعتراف بذلك ـ أنّ المنشأ في حصول الظنّ غلبة البقاء في
الامور القارّة.
كلام السيد الصدر في المقام
|
قال السيّد الشارح
للوافية ـ بعد دعوى رجحان البقاء ـ :
إنّ الرجحان لا
بدّ له من موجب ؛ لأنّ وجود كلّ معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالا ، وليست هي اليقين
المتقدّم بنفسه ؛ لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، ويشبه أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ أن يستمرّ وجوده بعد التحقّق ، فيكون
رجحان وجود هذا الممكن الخاصّ للإلحاق بالأعمّ الأغلب. هذا إذا لم يكن رجحان
الدوام مؤيّدا بعادة أو أمارة ، وإلاّ فيقوى بهما. وقس
__________________
على الوجود حال
العدم إذا كان يقينيّا . انتهى كلامه ، رفع مقامه.
المناقشة فيما أفاده السيد الصدر
|
وفيه : أنّ المراد
بغلبة البقاء ليس غلبة البقاء أبد الآباد ، بل المراد البقاء على مقدار خاصّ من
الزمان ، ولا ريب أنّ ذلك المقدار الخاصّ ليس أمرا مضبوطا في الممكنات ولا في
المستصحبات ، والقدر المشترك بين الكلّ أو الأغلب منه معلوم التحقّق في موارد
الاستصحاب ، وإنّما الشكّ في الزائد.
وإن اريد بقاء
الأغلب إلى زمان الشكّ :
فإن اريد أغلب
الموجودات السابقة بقول مطلق ، ففيه :
أوّلا : أنّا لا
نعلم بقاء الأغلب في زمان الشكّ.
وثانيا : لا ينفع
بقاء الأغلب في إلحاق المشكوك ؛ للعلم بعدم الرابط بينها ، وعدم استناد البقاء فيها إلى جامع ـ كما لا يخفى ـ بل البقاء في كلّ واحد
منها مستند إلى ما هو مفقود في غيره. نعم ، بعضها مشترك في مناط البقاء.
وبالجملة : فمن
الواضح أنّ بقاء الموجودات المشاركة مع نجاسة الماء المتغيّر في الوجود ـ من
الجواهر والأعراض ـ في زمان الشكّ في النجاسة ؛ لذهاب التغيّر المشكوك مدخليّته في
بقاء النجاسة ، لا يوجب الظنّ ببقائها وعدم مدخليّة التغيّر فيها. وهكذا الكلام في
كلّ ما شكّ في
__________________
بقائه لأجل الشكّ
في استعداده للبقاء.
كلام صاحب القوانين في المقام
|
وإن اريد به ما وجّه به كلام السيّد المتقدّم صاحب القوانين ـ بعد
ما تبعه في الاعتراف بأنّ هذا الظنّ ليس منشؤه محض الحصول في الآن السابق ؛ لأنّ
ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ـ قال :
بل لأنّا لمّا
فتّشنا الامور الخارجيّة من الأعدام والموجودات وجدناها مستمرّة بوجودها الأوّل
على حسب استعداداتها وتفاوتها في مراتبها ، فنحكم فيما لم نعلم حاله بما وجدناه في
الغالب ؛ إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.
ثمّ إنّ كلّ نوع
من أنواع الممكنات يلاحظ زمان الحكم ببقائه بحسب ما غلب في أفراد ذلك النوع ؛
فالاستعداد الحاصل للجدران القويمة يقتضي مقدارا من البقاء بحسب العادة ،
والاستعداد الحاصل للإنسان يقتضي مقدارا منه ، وللفرس مقدارا آخر ، وللحشرات
مقدارا آخر ، ولدود القزّ والبقّ والذباب مقدارا آخر ، وكذلك الرطوبة في الصيف
والشتاء.
فهنا مرحلتان :
الاولى : إثبات
الاستمرار في الجملة.
والثانية : إثبات
مقدار الاستمرار.
ففيما جهل حاله من
الممكنات القارّة ، يثبت ظنّ الاستمرار في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات مع
قطع النظر عن تفاوت أنواعها ،
__________________
وظنّ مقدار خاصّ
من الاستمرار بملاحظة حال النوع الذي هو من جملتها.
فالحكم الشرعيّ ـ مثلا
ـ نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة ملاحظة مطلق الممكن ، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة
مطلق الأحكام الصادرة من الموالي إلى العبيد ، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة سائر
الأحكام الشرعيّة. فإذا أردنا التكلّم في إثبات الحكم الشرعيّ فنأخذ الظنّ الذي
ادّعيناه من ملاحظة أغلب الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّه الأنسب به والأقرب إليه ، وإن
أمكن ذلك بملاحظة أحكام سائر الموالي وعزائم سائر العباد.
ثمّ إنّ الظنّ
الحاصل من جهة الغلبة في الأحكام الشرعيّة ، محصّله : أنّا نرى أغلب الأحكام
الشرعيّة مستمرّة بسبب دليله الأوّل ، بمعنى أنّها ليست أحكاما آنيّة مختصّة بآن
الصدور ، بل يفهم من حاله من جهة أمر خارجيّ عن الدليل أنّه يريد استمرار ذلك
الحكم الأوّل من دون دلالة الحكم الأوّل على الاستمرار ، فإذا رأينا منه في مواضع
عديدة أنّه اكتفى ـ حين إبداء الحكم ـ بالأمر المطلق القابل للاستمرار وعدمه ، ثمّ
علمنا أنّ مراده من الأمر الأوّل الاستمرار ، نحكم فيما لم يظهر مراده ،
بالاستمرار ؛ إلحاقا بالأغلب ، فقد حصل الظنّ بالدليل ـ وهو قول الشارع ـ بالاستمرار.
وكذلك الكلام في موضوعات الأحكام من الامور الخارجيّة ؛ فإنّ غلبة البقاء يورث
الظنّ القويّ ببقاء ما هو مجهول الحال ، انتهى.
__________________
فيظهر وجه ضعف هذا
التوجيه أيضا ممّا أشرنا إليه .
المناقشة فيما أفاده صاحب القوانين
|
توضيحه : أنّ الشكّ
في الحكم الشرعي ، قد يكون من جهة الشكّ في مقدار استعداده ، وقد يكون من جهة
الشكّ في تحقّق الرافع.
أمّا الأوّل ،
فليس فيه نوع ولا صنف مضبوط من حيث مقدار الاستعداد ، مثلا : إذا شككنا في مدخليّة
التغيّر في النجاسة حدوثا وارتفاعا وعدمها ، فهل ينفع في حصول الظنّ بعدم
المدخليّة تتبّع الأحكام الشرعيّة الأخر ، مثل : أحكام الطهارات والنجاسات ، فضلا
عن أحكام المعاملات والسياسات ، فضلا عن أحكام الموالي إلى العبيد؟
وبالجملة : فكلّ
حكم شرعيّ أو غيره تابع لخصوص ما في نفس الحاكم من الأغراض والمصالح ، ومتعلّق بما
هو موضوع له وله دخل في تحقّقه ، ولا دخل لغيره من الحكم المغاير له ، ولو اتّفق
موافقته له كان بمجرّد الاتّفاق من دون ربط.
ومن هنا لو شكّ
واحد من العبيد في مدخليّة شيء في حكم مولاه حدوثا وارتفاعا ، فتتبّع ـ لأجل الظنّ
بعدم المدخليّة وبقاء الحكم بعد ارتفاع ذلك الشيء ـ أحكام سائر الموالي ، بل أحكام
هذا المولى المغايرة للحكم المشكوك موضوعا ومحمولا ، عدّ من أسفه السفهاء.
وأمّا الثاني ـ وهو
الشكّ في الرافع ـ فإن كان الشكّ في رافعيّة الشيء للحكم ، فهو أيضا لا دخل له
بسائر الأحكام ؛ ألا ترى أنّ الشكّ في رافعيّة المذي للطهارة لا ينفع فيه تتبّع
موارد الشكّ في
__________________
الرافعيّة ، مثل :
ارتفاع النجاسة بالغسل مرّة ، أو نجاسة الماء بالإتمام كرّا ، أو ارتفاع طهارة
الثوب والبدن بعصير العنب أو الزبيب أو التمر.
وأمّا الشكّ في
وجود الرافع وعدمه ، فالكلام فيه هو الكلام في الامور الخارجيّة.
ومحصّله : أنّه إن
اريد أنّه يحصل الظنّ بالبقاء إذا فرض له صنف أو نوع يكون الغالب في أفراده البقاء
، فلا ننكره ؛ ولذا يظنّ عدم النسخ عند الشكّ فيه. لكنّه يحتاج إلى ملاحظة الصنف
أو النوع حتّى لا يحصل التغاير ؛ فإنّ المتطهّر في الصبح إذا شكّ في
وقت الضحى في بقاء طهارته وأراد إثبات ذلك بالغلبة ، فلا ينفعه تتبّع الموجودات
الخارجيّة ، مثل : بياض ثوبه وطهارته وحياة زيد وقعوده وعدم ولادة الحمل الفلاني ،
ونحو ذلك. نعم ، لو لوحظ صنف هذا المتطهّر في وقت الصبح المتّحد أو المتقارب فيما
له مدخل في بقاء الطهارة ، ووجد الأغلب متطهّرا في هذا الزمان ، حصل الظنّ ببقاء
طهارته.
وبالجملة : فما
ذكره من ملاحظة أغلب الصنف فحصول الظنّ به حقّ ، إلاّ أنّ البناء على هذا في
الاستصحاب يسقطه عن الاعتبار في أكثر موارده.
وإن بني على
ملاحظة الأنواع البعيدة أو الجنس البعيد أو الأبعد ـ وهو الممكن القارّ ـ كما هو
ظاهر كلام السيّد المتقدّم ، ففيه : ما تقدّم من القطع بعدم جامع بين مورد الشكّ وموارد الاستقراء ، يصلح
__________________
لاستناد البقاء
إليه ، وفي مثله لا يحصل الظنّ بالإلحاق ؛ لأنّه لا بدّ في الظنّ بلحوق المشكوك
بالأغلب من الظنّ أوّلا بثبوت الحكم أو الوصف للجامع ، ليحصل الظنّ بثبوته في الفرد المشكوك.
وممّا يشهد بعدم
حصول الظنّ بالبقاء اعتبار الاستصحاب في موردين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع ؛ فإنّ
المتطهّر بمائع شكّ في كونه بولا أو ماء ، يحكم باستصحاب طهارة بدنه وبقاء حدثه ،
مع أنّ الظنّ بهما محال. وكذا الحوض الواحد إذا صبّ فيه الماء تدريجا فبلغ إلى
موضع شكّ في بلوغ مائه كرّا ، فإنّه يحكم حينئذ ببقاء قلّته ، فإذا امتلأ واخذ منه
الماء تدريجا إلى ذلك الموضع ، فيشكّ حينئذ في نقصه عن الكرّ ، فيحكم ببقاء كرّيته
، مع أنّ الظنّ بالقلّة في الأوّل وبالكرّية في الثاني محال.
ثمّ إنّ إثبات
حجّية الظنّ المذكور ـ على تقدير تسليمه ـ دونه خرط القتاد ، خصوصا في الشبهة
الخارجيّة التي لا تعتبر فيها الغلبة اتّفاقا ؛ فإنّ اعتبار استصحاب طهارة الماء
من جهة الظنّ الحاصل من الغلبة ، وعدم اعتبار الظنّ بنجاسته من غلبة اخرى ـ كطين
الطريق مثلا ـ ممّا لا يجتمعان. وكذا اعتبار قول المنكر من باب الاستصحاب مع الظنّ
بصدق المدّعي لأجل الغلبة.
الوجه الرابع : بناء العقلاء
|
ومنها : بناء
العقلاء على ذلك في جميع امورهم ، كما ادّعاه العلاّمة ; في النهاية وأكثر من تأخّر عنه.
__________________
وزاد بعضهم : أنّه لو لا ذلك لاختلّ نظام العالم وأساس عيش بني آدم.
وزاد آخر : أنّ العمل على الحالة السابقة أمر مركوز في النفوس حتّى الحيوانات ؛ ألا
ترى أنّ الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي عهدت فيها الماء والكلأ ، والطيور
تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها ، ولو لا البناء على «إبقاء ما كان على ما
كان» لم يكن وجه لذلك.
والجواب : أنّ
بناء العقلاء إنّما يسلّم في موضع يحصل لهم الظنّ بالبقاء لأجل الغلبة ، فإنّهم في
امورهم عاملون بالغلبة ، سواء وافقت الحالة السابقة أو خالفتها ؛ ألا ترى أنّهم لا
يكاتبون من عهدوه في حال لا يغلب فيه السلامة ، فضلا عن المهالك ـ إلاّ على سبيل
الاحتياط لاحتمال الحياة ـ ولا يرسلون إليه البضائع للتجارة ، ولا يجعلونه وصيّا
في الأموال أو قيّما على الأطفال ، ولا يقلّدونه في هذا الحال إذا كان من أهل
الاستدلال ، وتراهم لو شكّوا في نسخ الحكم الشرعيّ يبنون على عدمه ، ولو شكّوا في
رافعيّة المذي شرعا للطهارة فلا يبنون على عدمها.
وبالجملة : فالذي
أظنّ أنّهم غير بانين في الشكّ في الحكم
__________________
الشرعيّ من غير
جهة النسخ على الاستصحاب.
نعم ، الإنصاف :
أنّهم لو شكّوا في بقاء حكم شرعيّ فليس عندهم كالشكّ في حدوثه في البناء على العدم
، ولعلّ هذا من جهة عدم وجدان الدليل بعد الفحص ؛ فإنّها أمارة على العدم ؛ لما
علم من بناء الشارع على التبليغ ، فظنّ عدم الورود يستلزم الظنّ بعدم الوجود.
والكلام في اعتبار
هذا الظنّ بمجرّده ـ من غير ضمّ حكم العقل بقبح التعبّد بما لا يعلم ـ في باب أصل
البراءة .
كلام الشيخ الطوسي في العدة
|
قال في العدّة ـ بعد
ما اختار عدم اعتبار الاستصحاب في مثل المتيمّم الداخل في الصلاة ـ : والذي يمكن
أن ينتصر به طريقة استصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال : لو كانت الحالة
الثانية مغيّرة للحكم الأوّل لكان عليه دليل ، وإذا تتبّعنا جميع الأدلّة فلم نجد
فيها ما يدلّ على أنّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الاولى ، دلّ على أنّ حكم
الحالة الاولى باق على ما كان.
فإن قيل : هذا
رجوع إلى الاستدلال بطريق آخر ، وذلك خارج عن استصحاب الحال.
قيل : إنّ الذي
نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرناه ، وأمّا غير ذلك فلا يكاد يحصل غرض القائل به
، انتهى.
__________________
[حجة القول الثاني]
الاستدلال على عدم الحجية مطلقا بوجوه :
|
احتجّ النافون
بوجوه :
منها : ما عن
الذريعة وفي الغنية ، من أنّ المتعلّق بالاستصحاب يثبت الحكم عند التحقيق من غير
دليل.
١
ـ دعوى أنّ الاستصحاب إثبات للحكم من غير دليل
|
توضيح ذلك : أنّهم
يقولون : قد ثبت بالإجماع على من شرع في الصلاة بالتيمّم وجوب المضيّ فيها قبل
مشاهدة الماء ، فيجب أن يكون على هذا الحال بعد المشاهدة. وهذا منهم جمع بين
الحالتين في حكم من غير دليل اقتضى الجمع بينهما ؛ لأنّ اختلاف الحالتين لا شبهة
فيه ؛ لأنّ المصلّي غير واجد للماء في إحداهما وواجد له في الاخرى ، فلا يجوز
التسوية بينهما من غير دلالة ، فإذا كان الدليل لا يتناول إلاّ الحالة الاولى ،
وكانت الحالة الاخرى عارية منه ، لم يجز أن يثبت فيها مثل الحكم ، انتهى.
أقول : إن كان
محلّ الكلام فيما كان الشكّ لتخلّف وصف وجوديّ أو عدميّ متحقّق سابقا يشكّ في
مدخليّته في أصل الحكم أو بقائه ، فالاستدلال المذكور متين جدّا ؛ لأنّ الفرض عدم دلالة دليل الحكم الأوّل ، وفقد دليل عامّ يدلّ على انسحاب كلّ حكم ثبت
في الحالة
__________________
الاولى في الحالة
الثانية ؛ لأنّ عمدة ما ذكروه من الدليل هي الأخبار المذكورة ، وقد عرفت اختصاصها
بمورد يتحقّق معنى النقض ، وهو الشكّ من جهة الرافع.
نعم قد يتخيّل :
كون مثال التيمّم من قبيل الشكّ من جهة الرافع ؛ لأنّ الشكّ في انتقاض التيمّم
بوجدان الماء في الصلاة كانتقاضه بوجدانه قبلها ، سواء قلنا بأنّ التيمّم رافع
للحدث ، أم قلنا : إنّه مبيح ؛ لأنّ الإباحة أيضا مستمرّة إلى أن ينتقض بالحدث أو
يوجد الماء.
ولكنّه فاسد : من
حيث إنّ وجدان الماء ليس من الروافع والنواقض ، بل الفقدان الذي هو وصف المكلّف
لمّا كان مأخوذا في صحّة التيمّم حدوثا وبقاء في الجملة ، كان الوجدان رافعا لوصف
الموضوع الذي هو المكلّف ، فهو نظير التغيّر الذي يشكّ في زوال النجاسة بزواله ،
فوجدان الماء ليس كالحدث وإن قرن به في قوله عليهالسلام ـ حين سئل عن جواز الصلوات المتعدّدة بتيمّم واحد ـ : «نعم
، ما لم يحدث أو يجد ماء» ؛ لأنّ المراد من ذلك تحديد الحكم بزوال المقتضي أو طروّ
الرافع.
وكيف كان ، فإن
كان محلّ الكلام في الاستصحاب ما كان من قبيل هذا المثال فالحقّ مع المنكرين ؛ لما
ذكروه.
وإن شمل ما كان من
قبيل تمثيلهم الآخر ـ وهو الشكّ في ناقضيّة الخارج من غير السبيلين ـ قلنا : إنّ
إثبات الحكم بعد خروج الخارج
__________________
ليس من غير دليل ،
بل الدليل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ، مضافا إلى إمكان التمسّك بما ذكرنا في
توجيه كلام المحقّق ; في المعارج ، لكن عرفت ما فيه من التأمّل .
ثمّ إنّه أجاب في
المعارج عن الدليل المذكور : بأنّ قوله : «عمل بغير دليل» غير مسلّم ؛ لأنّ الدليل
دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ، فإذا كان التقدير تقدير عدمه كان بقاء
الثابت راجحا في نظر المجتهد ، والعمل بالراجح لازم ، انتهى.
وكأنّ مراده
بتقدير عدم الرافع عدم العلم به ، وقد عرفت ما في دعوى حصول الظنّ بالبقاء بمجرّد
ذلك ، إلاّ أن يرجع إلى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظنّ بالعدم.
٢
ـ لزوم القطع بالبقاء بناء على حجّية الاستصحاب
|
ومنها : أنّه لو
كان الاستصحاب حجّة لوجب فيمن علم زيدا في الدار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع
ببقائه فيها ، وكذا كان يلزم إذا علم بأنّه حيّ ثمّ انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته
أن يقطع ببقائه ، وهو باطل.
وقال في محكيّ
الذريعة : قد ثبت في العقول أنّ من شاهد زيدا في الدار ثمّ غاب عنه لم يحسن اعتقاد
استمرار كونه في الدار إلاّ بدليل متجدّد ، ولا يجوز استصحاب الحال الاولى وقد صار كونه في الدار في الزمان الثاني وقد زالت الرؤية ، بمنزلة كون عمرو
فيها مع فقد الرؤية .
__________________
وأجاب في المعارج
عن ذلك : بأنّا لا ندّعي القطع ، لكن ندّعي رجحان الاعتقاد ببقائه ، وهذا يكفي في
العمل به .
أقول : قد عرفت
ممّا سبق منع حصول الظنّ كلّية ، ومنع حجّيته .
٣
ـ لزوم التناقض بناء على الحجّية والمناقشة فيه
|
ومنها : أنّه لو
كان حجّة لزم التناقض ؛ إذ كما يقال : كان للمصلّي قبل وجدان الماء المضيّ في
صلاته فكذا بعد الوجدان ، كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان
ناقضا للتيمّم فكذا بعد الدخول ، أو يقال : الاشتغال بصلاة متيقّنة ثابت قبل فعل
هذه الصلاة فيستصحب.
قال في المعتبر :
استصحاب الحال ليس حجّة ؛ لأنّ شرعيّة الصلاة بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعيّة
معه ، ثمّ إنّ مثل هذا لا يسلم عن المعارض ؛ لأنّك تقول : الذمّة مشغولة بالصلاة
قبل الإتمام فكذا بعده ، انتهى.
وأجاب عن ذلك في
المعارج : بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ، ووجود المعارض في الأدلّة المظنونة لا
يوجب سقوطها حيث تسلم عن المعارض .
أقول : لو بني على
معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال لم يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد عن المعارض ؛ إذ قلّما ينفكّ مستصحب عن أثر حادث يراد ترتّبه على بقائه ،
فيقال : الأصل عدم ذلك الأثر.
والأولى في الجواب
: أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لإفادته
__________________
الظنّ بالبقاء ،
فإذا ثبت ظنّ البقاء في شيء لزمه عقلا ظنّ ارتفاع كلّ أمر فرض كون بقاء المستصحب
رافعا له أو جزءا أخيرا له ، فلا يعقل الظنّ ببقائه ؛ فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماء غسل
به ثوب نجس أو توضّأ به محدث ، مستلزم عقلا للظنّ بطهارة ثوبه وبدنه وبراءة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة. وكذا الظنّ بوجوب المضيّ
في الصلاة يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد إتمام تلك الصلاة.
وتوهّم إمكان
العكس ، مدفوع بما سيجيء توضيحه من عدم إمكانه .
وكذا إذا قلنا
باعتباره من باب التعبّد بالنسبة إلى الآثار الشرعيّة المترتّبة على وجود المستصحب
أو عدمه ؛ لما ستعرف : من عدم إمكان شمول الروايات إلاّ للشكّ السببي ، ومنه يظهر حال معارضة استصحاب وجوب المضيّ باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان
الماء.
٤
ـ استلزام القول بالحجّية ترجيح بيّنة النافي
|
ومنها : أنّه لو
كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الإثبات ؛ لاعتضادها
باستصحاب النفي.
والجواب عنه :
أوّلا : باشتراك
هذا الإيراد ؛ بناء على ما صرّح به جماعة : من كون استصحاب
النفي المسمّى ب : «البراءة الأصليّة» معتبرا إجماعا ،
__________________
اللهم إلاّ أن
يقال : إنّ اعتبارها ليس لأجل الظنّ ، أو يقال : إنّ الإجماع إنّما هو على البراءة
الأصليّة في الأحكام الكلّية ـ فلو كان أحد الدليلين معتضدا بالاستصحاب اخذ به ـ لا
في باب الشكّ في اشتغال ذمّة الناس ؛ فإنّه من محلّ الخلاف في باب الاستصحاب.
وثانيا : بما ذكره
جماعة ، من أنّ تقديم بيّنة الإثبات لقوّتها على بيّنة النفي وإن
اعتضد بالاستصحاب ؛ إذ ربّ دليل أقوى من دليلين. نعم ، لو تكافأ
دليلان رجّح موافق الأصل به ، لكن بيّنة النفي لا تكافئ بيّنة الإثبات ، إلاّ أن
يرجع أيضا إلى نوع من الإثبات ، فيتكافئان. وحينئذ فالوجه تقديم بيّنة النفي لو
كان الترجيح في البيّنات ـ كالترجيح في الأدلّة ـ منوطا بقوّة الظنّ مطلقا ، أو في
غير الموارد المنصوصة على الخلاف ، كتقديم بيّنة الخارج.
وربما تمسّكوا
بوجوه أخر ، يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا في ما ذكرنا من أدلّتهم.
هذا ملخّص الكلام
في أدلّة المثبتين والنافين مطلقا.
__________________
[حجّة القول الثالث]
القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي
|
بقي الكلام في حجج
المفصّلين.
فنقول : أمّا
التفصيل بين العدميّ والوجوديّ بالاعتبار في الأوّل وعدمه في الثاني ، فهو الذي
ربما يستظهر من كلام التفتازاني ، حيث استظهر من عبارة العضدي في نقل الخلاف : أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الإثبات دون النفي .
وما استظهره
التفتازاني لا يخلو ظهوره عن تأمّل.
مع أنّ هنا إشكالا
آخر ـ قد أشرنا إليه في تقسيم الاستصحاب في تحرير محلّ
الخلاف ـ وهو : أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن
التكلّم في اعتباره في الوجوديّات ؛ إذ ما من مستصحب وجوديّ إلاّ وفي مورده
استصحاب عدميّ يلزم من الظنّ ببقائه الظنّ ببقاء المستصحب الوجودي ، وأقلّ ما يكون
عدم ضدّه ؛ فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت
، والوجوب أو غيره من الأحكام لا ينفكّ عن عدم ما عداه
__________________
من أضداده ،
والظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات ، فلا بدّ من
القول باعتباره ، خصوصا بناء على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره ، من : «أنّ إنكار الاستصحاب لعدم إفادته الظنّ بالبقاء» ، وإن كان ظاهر بعض
النافين ـ كالسيّد قدسسره وغيره ـ استنادهم إلى عدم إفادته للعلم ؛ بناء على أنّ عدم
اعتبار الظنّ عندهم مفروغ عنه في أخبار الآحاد ، فضلا عن الظنّ الاستصحابي.
عدم استقامة هذا القول بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ
|
وبالجملة : فإنكار
الاستصحاب في الوجوديّات والاعتراف به في العدميّات لا يستقيم بناء على اعتبار
الاستصحاب من باب الظنّ.
نعم ، لو قلنا
باعتباره من باب التعبّد ـ من جهة الأخبار ـ صحّ أن يقال : إنّ ثبوت العدم
بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات ، فاستصحاب عدم أضداد الوجوب لا
يثبت الوجوب في الزمان اللاحق ، كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الإنسان في الدار
لا يثبت باستصحابه ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى .
لكنّ المتكلّم في
الاستصحاب من باب التعبّد والأخبار ـ بين
__________________
العلماء ـ في غاية
القلّة إلى زمان متأخّري المتأخّرين ، مع أنّ بعض
هؤلاء وجدناهم لا يفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ،
ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفكّ عن المستصحب ، على خلاف التحقيق الآتي في
التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى .
ودعوى : أنّ
اعتبار الاستصحابات العدميّة لعلّه ليس لأجل الظنّ حتّى يسري إلى الوجوديّات
المقارنة معها ، بل لبناء العقلاء عليها في امورهم بمقتضى جبلّتهم.
مدفوعة : بأنّ عمل
العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضيّ في امورهم ـ بمحض الشكّ
والتردّد ـ في غاية البعد ، بل خلاف ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء.
وأضعف من ذلك أن
يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي هو الحاصل بالشيء من تحقّقه
السابق ، لا الظنّ الساري من هذا الظنّ إلى شيء آخر ، وحينئذ فنقول : العدم
المحقّق سابقا يظنّ بتحقّقه لاحقا ـ ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود ـ بخلاف
الوجود المحقّق سابقا فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحقّقه السابق ، والظنّ
الحاصل ببقائه من الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدميّ المقارن له غير
__________________
معتبر ، إمّا
مطلقا ، أو إذا لم يكن ذلك الوجوديّ من آثار العدميّ المترتّبة عليه من جهة الاستصحاب .
ولعلّه المراد بما
حكاه التفتازاني عن الحنفيّة ، من : «أنّ حياة الغائب بالاستصحاب إنّما يصلح عندهم
ـ من جهة الاستصحاب ـ لعدم انتقال إرثه إلى وارثه ، لا انتقال إرث مورّثه إليه» فإنّ معنى ذلك أنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب
إلى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه إليه وإن كان أحد الظنّين لا ينفكّ عن الآخر .
معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي
|
ثمّ إنّ معنى عدم
اعتبار الاستصحاب في الوجوديّ :
إمّا عدم الحكم
ببقاء المستصحب الوجوديّ وإن كان لترتّب أمر عدميّ عليه ، كترتّب عدم جواز تزويج المرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته.
وإمّا عدم ثبوت
الأمر الوجوديّ لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميّا ، فلا يترتّب انتقال مال
قريب الغائب إليه وإن كان
__________________
مترتّبا على
استصحاب عدم موته. ولعلّ هذا هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ
الاستصحاب حجّة في النفي دون الإثبات .
وبالجملة : فلم
يظهر لي ما يدفع هذا الإشكال عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الإثبات واعتباره
في النفي من باب الظنّ.
نعم ، قد أشرنا
فيما مضى إلى أنّه لو قيل باعتباره
في النفي من باب التعبّد ، لم يغن ذلك عن التكلّم في الاستصحاب الوجوديّ ؛ بناء
على ما سنحقّقه : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلاّ آثار المستصحب المترتّبة
عليه شرعا.
لكن يرد على هذا : أنّ هذا التفصيل مساو للتفصيل المختار المتقدّم ، ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر ؛ إذ الشكّ في
بقاء الأعدام السابقة من جهة الشكّ في تحقّق الرافع لها ـ وهي علّة الوجود ـ والشكّ
في بقاء الأمر الوجودي من جهة الشك في الرافع ، لا ينفكّ عن
__________________
الشكّ في تحقّق
الرافع ، فيستصحب عدمه ، ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجوديّ.
وتخيّل : أنّ
الأمر الوجوديّ قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع ، فلا يغني العدميّ عن
الوجوديّ.
مدفوع : بأنّ
الشكّ إذا فرض من جهة الرافع فيكون الأحكام الشرعيّة المترتّبة على ذلك الأمر
الوجوديّ مستمرّة إلى تحقّق ذلك الرافع ، فإذا حكم بعدمه عند الشكّ ، يترتّب عليه شرعا جميع تلك الأحكام ، فيغني ذلك عن الاستصحاب الوجوديّ.
ما يمكن أن يحتجّ به لهذا القول
|
وحينئذ ، فيمكن أن
يحتجّ لهذا القول :
أمّا على عدم
الحجّية في الوجوديّات ، فيما تقدّم في أدلّة النافين .
وأمّا على الحجّية
في العدميّات ، فيما تقدّم في أدلّة المختار : من الإجماع ،
والاستقراء ، والأخبار ؛ بناء على أنّ الشيء المشكوك في
بقائه من جهة الرافع إنّما يحكم ببقائه لترتّبه على استصحاب عدم وجود الرافع ، لا
لاستصحابه في نفسه ؛ فإنّ الشاكّ في بقاء الطهارة من جهة الشكّ في وجود الرافع
يحكم بعدم الرافع ، فيحكم من أجله ببقاء الطهارة.
وحينئذ ، فقوله عليهالسلام : «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض
__________________
اليقين بالشكّ» ، وقوله : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين»
، وغيرهما ممّا دلّ على أنّ اليقين لا ينقض أو لا يدفع
بالشكّ ، يراد منه أنّ احتمال طروّ الرافع لا يعتنى به ، ولا يترتّب عليه أثر
النقض ، فيكون وجوده كالعدم ، فالحكم ببقاء الطهارة السابقة من جهة استصحاب العدم
، لا من جهة استصحابها .
والأصل في ذلك :
أنّ الشكّ في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشكّ في شيء آخر ، فلا يجتمع معه في
الدخول تحت عموم «لا تنقض» ـ سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا ـ بل
الداخل هو الشكّ السببيّ ، ومعنى عدم الاعتناء به زوال الشكّ المسبّب به ، وسيجيء
توضيح ذلك .
المناقشة في الاحتجاج المذكور
|
هذا ، ولكن يرد
عليه : أنّه قد يكون الأمر الوجوديّ أمرا خارجيّا كالرطوبة يترتّب عليها آثار شرعيّة ، فإذا شكّ في وجود الرافع لها لم يجز أن يثبت به
الرطوبة حتّى يترتّب عليها أحكامها ؛ لما سيجيء : من أنّ المستصحب لا يترتّب عليه إلاّ آثاره الشرعيّة
__________________
المترتّبة عليه
بلا واسطة أمر عقليّ أو عاديّ ، فيتعيّن حينئذ استصحاب نفس الرطوبة.
وأصالة عدم الرافع
: إن اريد بها أصالة عدم ذات الرافع ـ كالريح المجفّف للرطوبة مثلا ـ لم ينفع في
الأحكام المترتّبة شرعا على نفس الرطوبة ؛ بناء على عدم اعتبار الأصل المثبت ، كما
سيجيء .
وإن اريد بها
أصالة عدمه من حيث وصف الرافعيّة ـ ومرجعها إلى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة ـ فهي
وإن لم يكن يترتّب عليها إلاّ الأحكام الشرعيّة للرطوبة ، لكنّها عبارة اخرى عن
استصحاب نفس الرطوبة.
فالإنصاف : افتراق
القولين في هذا القسم
__________________
[حجّة القول الرابع]
حجة القول بالتفصيل بين الأمور الخارجية والحكم الشرعي مطلقا
|
حجّة من أنكر
الاستصحاب في الامور الخارجيّة ما ذكره المحقّق
الخوانساري في شرح الدروس ، وحكاه في حاشية له عند
كلام الشهيد : «ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه» ـ على ما حكاه شارح الوافية ـ واستظهره المحقّق القمّي قدسسره من السبزواري ، من :
أنّ الأخبار لا
يظهر شمولها للامور الخارجيّة ـ مثل رطوبة الثوب ونحوها ـ إذ يبعد أن يكون مرادهم
بيان الحكم في مثل هذه الامور الذي ليس حكما شرعيّا وإن كان يمكن أن يصير منشأ
لحكم شرعيّ ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الامور الخارجيّة لا عبرة به ، انتهى.
المناقشة في الحجُة المذكورة
|
وفيه :
أمّا أوّلا :
فبالنقض بالأحكام الجزئيّة ، مثل طهارة الثوب من حيث عدم ملاقاته للنجاسة ،
ونجاسته من حيث ملاقاته لها ؛ فإنّ بيانها
__________________
أيضا ليس من وظيفة
الإمام عليهالسلام ، كما أنّه ليس وظيفة المجتهد ، ولا يجوز التقليد فيها ،
وإنّما وظيفته ـ من حيث كونه مبيّنا للشرع ـ بيان الأحكام الكلّية المشتبهة على
الرعيّة .
وأمّا ثانيا :
فبالحلّ ، توضيحه : أنّ بيان الحكم الجزئيّ في المشتبهات الخارجيّة ليس وظيفة للشارع ولا لأحد من قبله. نعم ، حكم المشتبه حكمه
الجزئيّ ـ كمشكوك النجاسة أو الحرمة ـ حكم شرعيّ كليّ ليس بيانه وظيفة إلاّ
للشارع. وكذلك الموضوع الخارجيّ كرطوبة الثوب ، فإنّ بيان ثبوتها وانتفائها في
الواقع ليس وظيفة للشارع. نعم ، حكم الموضوع المشتبه في الخارج ـ كالمائع المردّد
بين الخلّ والخمر ـ حكم كليّ ليس بيانه وظيفة إلاّ للشارع ، وقد قال الصادق عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ... إلى
آخره» ، وقوله في خبر آخر : «ساخبرك عن الجبن وغيره» .
ولعلّ التوهّم نشأ
من تخيّل : أنّ ظاهر «لا تنقض» إبقاء نفس المتيقّن السابق ، وليس إبقاء الرطوبة
ممّا يقبل حكم الشارع بوجوبه.
ويدفعه ـ بعد
النقض بالطهارة المتيقّنة سابقا ؛ فإنّ إبقاءها ليس من الأفعال الاختياريّة
القابلة للإيجاب ـ : أنّ المراد من الإبقاء وعدم النقض ، هو ترتيب الآثار الشرعيّة
المترتّبة على المتيقّن ، فمعنى
__________________
استصحاب الرطوبة
ترتيب آثارها الشرعيّة في زمان الشكّ ، نظير استصحاب الطهارة ، فطهارة الثوب
ورطوبته سيّان في عدم قابليّة الحكم بإبقائهما عند الشكّ ، وفي قابليّة الحكم
بترتيب آثارهما الشرعيّة في زمان الشكّ ، فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة
الثوب وكونه من قبيل طهارته ـ لعدم شمول أدلّة «لا تنقض» للأوّل ـ في غاية الضعف.
نعم ، يبقى في
المقام : أنّ استصحاب الامور الخارجيّة ـ إذا كان معناه ترتيب آثارها الشرعيّة ـ لا
يظهر له فائدة ؛ لأنّ تلك الآثار المترتّبة عليه كانت مشاركة معه في اليقين السابق ، فاستصحابها يغني عن استصحاب نفس الموضوع
، فإنّ استصحاب حرمة مال زيد الغائب وزوجته يغني عن استصحاب حياته إذا فرض أنّ
معنى إبقاء الحياة ترتيب آثارها الشرعيّة. نعم ، قد يحتاج إجراء الاستصحاب في
آثاره إلى أدنى تدبّر ، كما في الآثار الغير المشاركة معه في اليقين السابق ، مثل
: توريث الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشكّ في حياة الغائب ، فإنّ التوريث
غير متحقّق حال اليقين بحياة الغائب ؛ لعدم موت قريبه بعد. لكن مقتضى التدبّر
إجراء الاستصحاب على وجه التعليق ، بأن يقال : لو مات قريبه قبل الشكّ في حياته
لورث منه ، وبعبارة اخرى : موت قريبه قبل ذلك كان ملازما لإرثه منه ولم يعلم
انتفاء الملازمة فيستصحب.
وبالجملة : الآثار
المترتّبة على الموضوع الخارجيّ ، منها ما يجتمع
__________________
معه في زمان
اليقين به ، ومنها ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان ، لكن عدم الترتّب فعلا في ذلك
الزمان ـ مع فرض كونه من آثاره شرعا ـ ليس إلاّ لمانع في ذلك الزمان أو لعدم شرط ،
فيصدق في ذلك الزمان أنّه لو لا ذلك المانع أو عدم الشرط لترتّب الآثار ، فإذا فقد
المانع الموجود أو وجد الشرط المفقود ، وشكّ في الترتّب من جهة الشكّ في بقاء ذلك
الأمر الخارجيّ ، حكم باستصحاب ذلك الترتّب الشأنيّ. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في
بعض التنبيهات الآتية .
هذا ، ولكنّ
التحقيق : أنّ في موضع جريان الاستصحاب في الأمر الخارجيّ لا يجري استصحاب الأثر
المترتّب عليه ، فإذا شكّ في بقاء حياة زيد فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلاّ
بحكم الشارع بعدم جواز نقض حياته ، بمعنى وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة
على الشخص الحيّ ، ولا يغني عن ذلك إجراء الاستصحاب في نفس الآثار ، بأن يقال :
إنّ حرمة ماله وزوجته كانت متيقّنة ، فيحرم نقض اليقين بالشكّ ؛ لأنّ حرمة المال
والزوجة إنّما تترتّبان في السابق على الشخص الحيّ بوصف أنّه حيّ ، فالحياة داخل
في موضوع المستصحب ـ ولا أقلّ من الشكّ في ذلك ـ فالموضوع مشكوك
في الزمن اللاحق ، وسيجيء اشتراط القطع ببقاء الموضوع في
الاستصحاب . واستصحاب الحياة
__________________
لإحراز الموضوع في
استصحاب الآثار غلط ؛ لأنّ معنى استصحاب الموضوع ترتيب آثاره الشرعيّة.
فتحقّق : أنّ
استصحاب الآثار نفسها غير صحيح ؛ لعدم إحراز الموضوع ، واستصحاب الموضوع كاف في
إثبات الآثار. وقد مرّ في مستند التفصيل السابق ، وسيجيء في اشتراط بقاء الموضوع ، وفي تعارض
الاستصحابين : أنّ الشكّ المسبّب عن شكّ آخر لا يجامع معه في الدخول
تحت عموم «لا تنقض» ، بل الداخل هو الشكّ السببيّ ، ومعنى عدم الاعتناء به وعدم
جعله ناقضا لليقين ، زوال الشكّ المسبّب به ، فافهم.
__________________
[حجّة القول الخامس]
القول بالتفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وغيره
|
وأمّا القول
الخامس ـ وهو التفصيل بين الحكم الشرعيّ الكلّي وبين غيره ، فلا يعتبر في الأوّل ـ
فهو المصرّح به في كلام المحدّث الأسترابادي ، لكنّه صرّح باستثناء استصحاب عدم
النسخ مدّعيا الإجماع بل الضرورة على اعتباره. قال في محكيّ
فوائده المكّية ـ بعد ذكر أخبار الاستصحاب ـ ما لفظه :
كلام المحدّث الأسترابادي في الاستدلال على هذا القول
|
لا يقال : هذه
القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام الله تعالى ـ كما ذهب إليه المفيد
والعلاّمة من أصحابنا ، والشافعيّة قاطبة ـ وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا
والحنفيّة بعدم جواز العمل به.
لأنّا نقول : هذه
شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاصوليّين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد
المدنيّة :
تارة ، بما ملخّصه
: أنّ صور الاستصحاب المختلف فيها ـ عند النظر الدقيق والتحقيق ـ راجعة إلى أنّه
إذا ثبت حكم بخطاب شرعيّ في موضوع في حال من حالاته ، نجريه في ذلك الموضوع عند
زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه. ومن المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع
المسألة
__________________
بنقيض ذلك القيد
اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم
موضوع إلى موضوع آخر متّحد معه في الذات مختلف معه في الصفات ، ومن المعلوم عند
الحكيم أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة
له.
وتارة : بأنّ
استصحاب الحكم الشرعيّ ، وكذا الأصل ـ أي الحالة التي إذا خلّي الشيء ونفسه كان
عليها ـ إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر في محلّ النزاع ؛ لتواتر
الأخبار : بأنّ كلّ ما يحتاج إليه الأمّة ورد فيه خطاب وحكم حتّى أرش الخدش ، وكثير ممّا ورد مخزون عند أهل الذكر : ، فعلم أنّه ورد في محلّ النزاع أحكام لا نعلمها بعينها ،
وتواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رشده ، وبيّن غيّه ـ أي مقطوع فيه ذلك
، لا ريب فيه ـ ، وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث ، انتهى.
المناقشة فيما أفاده المحدّث الأسترابادي
|
أقول : لا يخفى
أنّ ما ذكره أوّلا قد استدلّ به كلّ من نفى الاستصحاب من أصحابنا ، وأوضحوا ذلك
غاية الإيضاح ، كما يظهر لمن راجع الذريعة والعدّة والغنية وغيرها ، إلاّ أنّهم منعوا من إثبات
__________________
الحكم الثابت
لموضوع في زمان ، له بعينه في زمان آخر ، من دون تغيّر واختلاف في صفة الموضوع
سابقا ولاحقا ـ كما يشهد له تمثيلهم بعدم الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على
ساحل البحر بعد الغيبة عنهما ـ وأهملوا قاعدة «البناء
على اليقين السابق» ؛ لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل ، بناء على عدم التفاتهم
إلى الأخبار المذكورة ؛ لقصور دلالتها عندهم ببعض ما أشرنا إليه سابقا ، أو لغفلتهم عنها ، على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو
دونهم في الفضل.
وهذا المحدّث قد
سلّم دلالة الأخبار على وجوب البناء على اليقين السابق وحرمة نقضه مع اتّحاد
الموضوع ، إلاّ أنّه ادّعى تغاير موضوع المسألة المتيقّنة والمسألة
المشكوكة ، فالحكم فيها بالحكم السابق ليس بناء على اليقين السابق ، وعدم الحكم به
ليس نقضا له.
فيرد عليه :
أوّلا : النقض
بالموارد التي ادّعى الإجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها ـ كما حكيناها
عنه سابقا ـ فإنّ منها : استصحاب الليل والنهار ؛ فإنّ كون الزمان
المشكوك ليلا أو نهارا أشدّ تغايرا واختلافا مع كون الزمان السابق كذلك ، من ثبوت
خيار الغبن أو
__________________
الشفعة في الزمان
المشكوك وثبوتهما في الزمان السابق.
ولو اريد من الليل
والنهار طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس الزمان ، كان الأمر كذلك ـ وإن كان دون
الأوّل في الظهور ـ لأنّ مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا.
ولو اريد استصحاب
أحكامهما ، مثل : جواز الأكل والشرب وحرمتهما ، ففيه : أنّ ثبوتهما في السابق كان منوطا ومتعلّقا في الأدلّة الشرعيّة بزماني الليل والنهار ،
فإجراؤهما مع الشكّ في تحقّق الموضوع بمنزلة ما أنكره على القائلين بالاستصحاب ،
من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.
وبما ذكرنا يظهر :
ورود النقض المذكور عليه في سائر الأمثلة ، فأيّ فرق بين الشكّ في تحقّق الحدث أو
الخبث بعد الطهارة ـ الذي جعل الاستصحاب فيه من ضروريّات الدين ـ ، وبين الشكّ في
كون المذي محكوما شرعا برافعيّة الطهارة؟! فإنّ الطهارة السابقة في كلّ منهما كان
منوطا بعدم تحقّق الرافع ، وهذا المناط في زمان الشكّ غير متحقّق ، فكيف يسري حكم
حالة وجود المناط إليه؟!
وثانيا : بالحلّ ،
بأنّ اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ـ الذي يتوقّف صدق البناء على اليقين و ( نقضه بالشكّ عليه ـ أمر راجع إلى العرف ؛ لأنّه المحكّم في باب الألفاظ ، ومن
المعلوم أنّ الخيار أو الشفعة إذا ثبت
__________________
في الزمان الأوّل
وشكّ في ثبوتهما في الزمان الثاني ، يصدق عرفا أنّ القضيّة المتيقّنة في الزمان
الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني.
نعم ، قد يتحقّق
في بعض الموارد الشكّ في إحراز الموضوع للشكّ في مدخليّة الحالة المتبدّلة فيه.
فلا بدّ من التأمّل التامّ ، فإنّه من أعظم المزال في هذا المقام.
وأمّا ما ذكره
ثانيا : من معارضة قاعدة اليقين والأصل بما دلّ على التوقّف.
ففيه ـ مضافا إلى
ما حقّقناه في أصل البراءة ، من ضعف دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط ، وإنّما تدلّ على وجوب التحرّز عن موارد الهلكة الدنيويّة أو الاخرويّة ،
والأخيرة مختصّة بموارد حكم العقل بوجوب الاحتياط من جهة القطع بثبوت العقاب
إجمالا وتردّده بين المحتملات ـ : أنّ أخبار الاستصحاب حاكمة على أدلّة الاحتياط ـ
على تقدير دلالة الأخبار عليه أيضا ـ كما سيجيء في مسألة تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول إن شاء الله تعالى.
ثمّ إنّ ما ذكره :
من أنّه شبهة عجز عن جوابها الفحول ، ممّا لا يخفى ما فيه ؛ إذ أيّ اصوليّ أو فقيه
تعرّض لهذه الأخبار وورود هذه الشبهة فعجز عن جوابها؟! مع أنّه لم يذكر في الجواب
الأوّل عنها إلاّ ما اشتهر بين النافين للاستصحاب ، ولا في الجواب الثاني إلاّ ما
اشتهر بين الأخباريّين : من وجوب التوقّف والاحتياط في الشبهة الحكميّة.
__________________
[حجّة القول السادس]
التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره والجواب عنه :
|
حجّة القول السادس
ـ على تقدير وجود القائل به ، على ما سبق التأمّل فيه ـ تظهر مع جوابها ممّا تقدّم في القولين السابقين .
[حجّة القول السابع]
التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي :
|
حجّة القول السابع
ـ الذي نسبه الفاضل التوني قدسسره إلى نفسه ، وإن لم يلزم ممّا حقّقه في كلامه ـ : ما ذكره في كلام طويل له ، فإنّه بعد الإشارة إلى الخلاف في المسألة ، قال :
ولتحقيق المقام لا
بدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقة الحال ،
__________________
كلام
الفاضل التوني قدسسره
|
فنقول : الأحكام
الشرعيّة تنقسم إلى ستّة أقسام :
الأوّل والثاني :
الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الفعل ، وهي الواجب والمندوب.
والثالث والرابع :
الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الترك ، وهي الحرام والمكروه.
والخامس : الأحكام
التخييريّة الدالّة على الإباحة.
والسادس : الأحكام
الوضعيّة ، كالحكم على الشيء بأنّه سبب لأمر أو شرط له أو مانع له. والمضايقة بمنع
أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعيّ ، ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده.
إذا عرفت هذا ،
فإذا ورد أمر بطلب شيء ، فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا أم لا.
وعلى الأوّل ،
يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ،
فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بالثبوت في الزمان
الأوّل حتّى يكون استصحابا ، وهو ظاهر.
وعلى الثاني ،
أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار ، وإلاّ فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي
به في أيّ زمان كان. ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء
منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا.
والتوهّم : بأنّ
الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباه غير خفيّ على
المتأمّل.
فهذا أيضا ليس من
الاستصحاب في شيء.
ولا يمكن أن يقال
: إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب ؛ فإنّ هذا لم يقل به
أحد ، ولا يجوز إجماعا.
وكذا الكلام في
النهي ، بل هو الأولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه ؛ لأنّ مطلقه يفيد التكرار.
والتخييري أيضا
كذلك.
فالأحكام
التكليفيّة الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة لا يتصوّر فيها الاستدلال
بالاستصحاب.
وأمّا الأحكام
الوضعيّة ، فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة ـ كالدلوك لوجوب
الظهر ، والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والإيجاب والقبول لإباحة
التصرّفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، وفيه لتحريم أمّ الزوجة ، والحيض
والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك ـ فينبغي أن ينظر إلى كيفيّة سببيّة
السبب : هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب والقبول ؛ فإنّ سببيّته على نحو خاصّ ،
وهو الدوام إلى أن يتحقّق المزيل ، وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن؟ كالدلوك ونحوه
ممّا لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم ،
فإنّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر ؛ فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة.
وجميع ذلك ليس من
الاستصحاب في شيء ؛ فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ،
ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة
واحدة. وكذا الكلام في الشرط والمانع.
فظهر ممّا ذكرناه
: أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في
الأحكام الوضعيّة
ـ أعني ، الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة من حيث إنّها كذلك ـ ووقوعه في
الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة
إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، بأنّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ؛ لوجوبه قبل زوال
تغيّره ، فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذلك تكون
بعده.
ويقال في المتيمّم
إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان ، فكذا بعده ـ أي
: كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله ، فكذا بعده ـ فإنّ مرجعه إلى أنّه كان
متطهّرا قبل وجدان الماء ، فكذا بعده. والطهارة من الشروط.
فالحقّ ـ مع قطع
النظر عن الروايات ـ : عدم حجّية الاستصحاب ؛ لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع
في وقت لا يقتضي العلم بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى. فكيف
يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟!
فالذي يقتضيه
النظر ـ بدون ملاحظة الروايات ـ : أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة تعلّق
الحكم بالمكلّف ، وإذا زال ذلك العلم بطروّ الشكّ ـ بل الظنّ أيضا ـ يتوقّف عن
الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أوّلا ، إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم
وجود شيء ، فإنّه يحكم به حتّى يعلم زواله . انتهى كلامه ،
رفع مقامه.
المناقشة في ما أفاده الفاضل التوني
|
وفي كلامه أنظار
يتوقّف بيانها على ذكر كلّ فقرة هي مورد للنظر ، ثمّ توضيح النظر فيه بما يخطر في
الذهن القاصر ، فنقول :
__________________
قوله أوّلا : «والمضايقة
بمنع أنّ الخطاب الوضعيّ داخل في الحكم الشرعيّ ، لا يضرّ فيما نحن بصدده».
فيه : أنّ المنع
المذكور لا يضرّ فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره ـ وهو اعتبار الاستصحاب في موضوعات
الأحكام الوضعيّة ، أعني نفس السبب والشرط والمانع ـ وإنّما يضرّ في التفصيل بين الأحكام الوضعيّة ـ أعني سببيّة السبب وشرطيّة الشرط ـ والأحكام
التكليفيّة. وكيف لا يضرّ في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعيّ حكما مستقلا ،
وتسليم أنّه أمر اعتباري منتزع من التكليف ، تابع له حدوثا وبقاء؟! وهل يعقل
التفصيل مع هذا المنع؟!
[الكلام في الأحكام الوضعيّة]
هل الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول ، أو لا؟
|
ثمّ إنّه لا بأس
بصرف الكلام إلى بيان أنّ الحكم الوضعيّ حكم مستقلّ مجعول ـ كما اشتهر في ألسنة
جماعة ـ أو لا ، وإنّما مرجعه إلى الحكم التكليفي؟ فنقول :
__________________
المشهور ـ كما في شرح الزبدة ـ بل الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين ـ كما في شرح الوافية
للسيّد صدر الدين ـ : أنّ الخطاب الوضعيّ مرجعه إلى الخطاب الشرعيّ ، وأنّ
كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء ، فمعنى قولنا
: «إتلاف الصبيّ سبب لضمانه» ، أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه
شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها ، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل
الموسر بقوله : «اغرم ما أتلفته في حال صغرك» ، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر
عنه بسببيّة الإتلاف للضمان ، ويقال : إنّه ضامن ، بمعنى أنّه يجب عليه الغرامة
عند اجتماع شرائط التكليف.
ولم يدّع أحد
إرجاع الحكم الوضعيّ إلى التكليف الفعليّ المنجّز
حال استناد الحكم الوضعيّ إلى الشخص ، حتّى يدفع ذلك بما ذكره بعض من غفل عن مراد
النافين : من أنّه قد يتحقّق الحكم الوضعيّ في مورد غير قابل للحكم
التكليفي ، كالصبيّ والنائم وشبههما.
__________________
وكذا الكلام في
غير السبب ؛ فإنّ شرطيّة الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب
الصلاة الواقعة حال الطهارة ، وكذا مانعيّة النجاسة ليست إلاّ منتزعة من المنع عن
الصلاة في النجس ، وكذا الجزئيّة منتزعة من الأمر بالمركّب.
والعجب ممّن ادّعى
بداهة بطلان ما ذكرنا ، مع ما عرفت من أنّه المشهور والذي
استقرّ عليه رأي المحقّقين. فقال قدسسره في شرحه على الوافية ـ تعريضا على السيّد الصدر ـ :
كلام
السيد الكاظمي قدسسره
|
وأمّا من زعم أنّ
الحكم الوضعيّ عين الحكم التكليفي ـ على ما هو ظاهر قولهم : «إنّ كون الشيء سببا
لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء» ـ فبطلانه غنيّ عن البيان ؛
إذ الفرق بين الوضع والتكليف ممّا لا يخفى على من له أدنى مسكة ، والتكاليف
المبنيّة على الوضع غير الوضع ، والكلام إنّما هو في نفس الوضع والجعل والتقرير.
وبالجملة : فقول
الشارع : «دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة» و «الحيض مانع منها» ، خطاب وضعيّ وإن
استتبع تكليفا وهو إيجاب الصلاة عند الزوال وتحريمها عند الحيض ، كما أنّ قوله
تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ، وقوله : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» ، خطاب تكليفيّ وإن استتبع وضعا ، وهو كون الدلوك سببا والإقراء مانعا.
__________________
والحاصل : أنّ
هناك أمرين متباينين ، كلّ منهما فرد للحكم ، فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن
مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام. انتهى كلامه ، رفع مقامه .
مناقشة كلام السيد الكاظمي
|
أقول : لو فرض
نفسه حاكما بحكم تكليفيّ ووضعيّ بالنسبة إلى عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا ؛
فإنّه إذا قال لعبده : «أكرم زيدا إن جاءك» ، فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ
إنشاءين وجعل أمرين : أحدهما : وجوب إكرام زيد عند مجيئه ، والآخر : كون مجيئه
سببا لوجوب إكرامه؟ أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل لا يحتاج إلى جعل مغاير
لجعله ولا إلى بيان مخالف لبيانه ؛ ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء
«سببيّة الدلوك» و «مانعيّة الحيض» ، ولم يرد من الشارع إلاّ إنشاء طلب الصلاة عند
الأوّل ، وطلب تركها عند الثاني؟
فإن أراد تباينهما
مفهوما فهو أظهر من أن يخفى ، كيف! وهما محمولان مختلفا الموضوع.
وإن أراد كونهما
مجعولين بجعلين ، فالحوالة على الوجدان لا البرهان.
وكذا لو أراد
كونهما مجعولين بجعل واحد ؛ فإنّ الوجدان شاهد على أنّ السببيّة والمانعيّة في
المثالين اعتباران منتزعان ، كالمسببيّة والمشروطيّة والممنوعيّة ، مع أنّ قول
الشارع : «دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة» ليس جعلا للإيجاب استتباعا ـ كما ذكره ـ بل
هو
__________________
إخبار عن تحقّق
الوجوب عند الدلوك.
هذا كلّه ، مضافا
إلى أنّه لا معنى لكون السببيّة مجعولة فيما نحن فيه حتّى يتكلّم أنّه بجعل مستقلّ
أو لا ؛ فإنّا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب ـ خصوصا عند من لا يرى (كالأشاعرة)
الأحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال ـ إلاّ إنشاء الوجوب عند
الدلوك ، وإلاّ فالسببيّة القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته ، بأن يكون فيه معنى يقتضي إيجاب الشارع فعلا عند حصوله ، ولو كانت لم تكن مجعولة
من الشارع ، ولا نعقلها أيضا صفة أوجدها الشارع فيه باعتبار الفصول المنوّعة ولا الخصوصيّات المصنّفة والمشخّصة.
هذا كلّه في السبب
والشرط والمانع والجزء.
وأمّا الصحّة
والفساد ، فهما في العبادات : موافقة الفعل المأتيّ به للفعل المأمور به ومخالفته
له ، ومن المعلوم أنّ هاتين ـ الموافقة والمخالفة ـ ليستا بجعل جاعل.
وأمّا في
المعاملات ، فهما : ترتّب الأثر عليها وعدمه ، فمرجع ذلك إلى سببيّة هذه المعاملة
لأثرها وعدم سببيّة تلك .
فإن لوحظت
المعاملة سببا لحكم تكليفيّ ـ كالبيع لإباحة التصرّفات ، والنكاح لإباحة
الاستمتاعات ـ فالكلام فيها يعرف ممّا سبق في السببيّة وأخواتها.
__________________
وإن لوحظت سببا
لأمر آخر ـ كسببيّة البيع للملكيّة ، والنكاح للزوجيّة ، والعتق للحريّة ، وسببيّة
الغسل للطهارة ـ فهذه الامور بنفسها ليست أحكاما شرعيّة. نعم ، الحكم بثبوتها
شرعيّ. وحقائقها إمّا امور اعتباريّة منتزعة من الأحكام التكليفيّة ـ كما يقال :
الملكيّة كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز
استعماله في الأكل والشرب والصلاة ، نقيض النجاسة ـ وإمّا امور واقعيّة كشف عنها
الشارع.
فأسبابها على
الأوّل ـ في الحقيقة ـ أسباب للتكاليف ، فتصير سببيّة تلك الأسباب كمسبّباتها امورا انتزاعيّة.
وعلى الثاني ،
يكون أسبابها كنفس المسبّبات امورا واقعيّة مكشوفا عنها ببيان الشارع.
وعلى التقديرين
فلا جعل في سببيّة هذه الأسباب.
وممّا ذكرنا تعرف
الحال في غير المعاملات من أسباب هذه الامور ، كسببيّة الغليان في العصير للنجاسة
، وكالملاقاة لها ، والسبي للرقّية ، والتنكيل للحريّة ، والرضاع لانفساخ الزوجيّة
، وغير ذلك. فافهم وتأمّل في المقام ؛ فإنّه من مزالّ الأقدام.
* * *
رجوع إلى كلام الفاضل التوني
|
قوله : «وعلى الأوّل يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت
ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك في ثبوت الحكم
__________________
في الزمان الثاني
بالنصّ ، لا بثبوته في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا».
أقول : فيه : أنّ
الموقّت قد يتردّد وقته بين زمان وما بعده فيجري الاستصحاب.
واورد عليه تارة :
بأنّ الشكّ قد يكون في النسخ .
واخرى : بأنّ
الشكّ قد يحصل في التكليف كمن شكّ في وجوب إتمام الصوم لحصول مرض يشكّ في كونه
مبيحا للإفطار .
وثالثة : بأنّه قد
يكون أوّل الوقت وآخره معلوما ولكنّه يشكّ في حدوث الآخر والغاية ، فيحتاج المجتهد
في الحكم بالوجوب أو الندب أو الحكم بعدمهما عند عروض ذلك الشكّ إلى دليل عقليّ أو
نقليّ غير ذلك الأمر .
عدم ورود شيء ممّا اورد عليه
|
هذا ، ولكنّ
الإنصاف : عدم ورود شيء من ذلك عليه.
أمّا الشكّ في
النسخ ، فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ كلامه في الموقّت من حيث الشكّ في بعض أجزاء
الوقت ، كما إذا شكّ في جزء ممّا بين الظهر والعصر في الحكم المستفاد من قوله : «اجلس
في المسجد من الظهر إلى العصر» ، وهو الذي ادّعى أنّ وجوبه في الجزء المشكوك ثابت
بنفس الدليل.
وأمّا الشكّ في
ثبوت هذا الحكم الموقّت لكلّ يوم أو نسخه في
__________________
هذا اليوم ، فهو
شكّ لا من حيث توقيت الحكم ، بل من حيث نسخ الموقّت.
فإن وقع الشكّ في
النسخ الاصطلاحي لم يكن استصحاب عدمه من الاستصحاب المختلف فيه ؛ لأنّ إثبات الحكم
في الزمان الثاني ؛ لعموم الأمر الأوّل للأزمان ولو كان فهم هذا العموم من استمرار
طريقة الشارع ، بل كلّ شارع على إرادة دوام الحكم ما دامت تلك الشريعة ، لا من عموم لفظيّ زمانيّ.
وكيف كان ،
فاستصحاب عدم النسخ لدفع احتمال حصول التخصيص في الأزمان ،
كاستصحاب عدم التخصيص لدفع احتمال المخصّص في الأفراد ، واستصحاب عدم التقييد لدفع
إرادة المقيّد من المطلق.
والظاهر : أنّ مثل
هذا لا مجال لإنكاره ، وليس إثباتا للحكم في الزمان الثاني لوجوده في الزمان
الأوّل ، بل لعموم دليله الأوّل ، كما لا يخفى.
وبالجملة : فقد
صرّح هذا المفصّل بأنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري في التكليفيّات ، ومثل هذا
الاستصحاب ممّا انعقد على اعتباره الإجماع بل الضرورة ، كما تقدّم في كلام المحدّث
الأسترابادي .
__________________
ولو فرض الشكّ في
النسخ في حكم لم يثبت له من دليله ولا من الخارج عموم زماني ، فهو خارج عن النسخ الاصطلاحي ، داخل فيما ذكره : من أنّ الأمر إذا لم يكن
للتكرار يكفي فيه المرّة ، ولا وجه للنقض به في مسألة الموقّت ، فتأمّل .
وأمّا الشكّ في
تحقّق المانع ـ كالمرض المبيح للإفطار ، والسفر الموجب له وللقصر ، والضرر المبيح
لتناول المحرّمات ـ فهو الذي ذكره المفصّل في آخر كلامه بجريان الاستصحاب في الحكم
التكليفي تبعا للحكم الوضعي ؛ فإنّ السلامة من المرض الذي يضرّ به الصوم شرط في
وجوبه ، وكذا الحضر ، وكذا الأمن من الضرر في ترك المحرّم ، فإذا شكّ في وجود شيء
من ذلك استصحب الحالة السابقة له وجودا أو عدما ، ويتبعه بقاء الحكم التكليفيّ
السابق ، بل قد عرفت فيما مرّ عدم جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي إلاّ مع قطع النظر عن استصحاب موضوعه ،
وهو الحكم الوضعيّ في المقام.
__________________
مثلا : إذا أوجب
الشارع الصوم إلى الليل على المكلّف بشرط سلامته من المرض الذي يتضرّر بالصوم ،
فإذا شكّ في بقائها وحدوث المرض المذكور وأحرز الشرط أو عدم المانع بالاستصحاب أغنى عن استصحاب المشروط ، بل لم يبق مجرى له ؛ لأنّ معنى استصحاب
الشرط وعدم المانع ترتيب آثار وجوده ، وهو ثبوت المشروط مع فرض وجود باقي
العلل الناقصة ، وحينئذ فلا يبقى الشكّ في بقاء المشروط .
وبعبارة اخرى :
الشكّ في بقاء المشروط مسبّب عن الشكّ في بقاء الشرط ، والاستصحاب في الشرط وجودا
أو عدما مبيّن لبقاء المشروط أو ارتفاعه ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لا معارضا
لاستصحاب الشرط ؛ لأنّه مزيل له ، ولا معاضدا ، كما فيما نحن فيه.
وسيتّضح ذلك في
مسألة الاستصحاب في الامور الخارجيّة ، وفي بيان
اشتراط الاستصحاب ببقاء الموضوع إن شاء الله تعالى .
وممّا ذكرنا يظهر
الجواب عن النقض الثالث عليه ـ بما إذا كان الشكّ في بقاء الوقت المضروب للحكم
التكليفي ـ فإنّه إن جرى معه استصحاب الوقت أغنى عن استصحاب الحكم التكليفي ـ كما
عرفت في الشرط ـ فإنّ الوقت شرط أو سبب ، وإلاّ لم يجر استصحاب الحكم
__________________
التكليفي ؛ لأنّه كان متحقّقا بقيد ذلك الوقت .
فالصوم المقيّد وجوبه بكونه في النهار لا ينفع استصحاب وجوبه في الزمان المشكوك
كونه من النهار ، وأصالة بقاء الحكم المقيّد بالنهار في هذا الزمان لا يثبت كون
هذا الزمان نهارا ، كما سيجيء توضيحه في نفي الاصول المثبتة إن شاء الله .
اللهمّ إلاّ أن
يقال : إنّه يكفي في الاستصحاب تنجّز التكليف سابقا وإن كان لتعليقه على أمر حاصل
، فيقال عرفا إذا ارتفع الاستطاعة المعلّق عليها وجوب الحجّ : إنّ الوجوب ارتفع.
فإذا شكّ في ارتفاعها يكون شكّا في ارتفاع الحكم المتنجّز وبقائه وإن كان الحكم
المعلّق لا يرتفع بارتفاع المعلّق عليه ؛ لأنّ ارتفاع الشرط لا يوجب ارتفاع
الشرطيّة ، إلاّ أنّ استصحاب وجود ذلك الأمر المعلّق عليه كاف في عدم جريان
الاستصحاب المذكور ، فإنّه حاكم عليه ، كما ستعرف.
نعم لو فرض في
مقام عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في الوقت ، كما لو كان الوقت
مردّدا بين أمرين ـ كذهاب الحمرة واستتار
__________________
القرص ـ انحصر
الأمر حينئذ في إجراء استصحاب التكليف ، فتأمّل.
والحاصل : أنّ
النقض عليه بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ المشكوك بقاؤه من جهة الشكّ في سببه أو شرطه أو مانعة غير متّجه ؛ لأنّ مجرى الاستصحاب في
هذه الموارد أوّلا وبالذات هو نفس السبب والشرط والمانع ، ويتبعه بقاء الحكم التكليفي ، ولا يجوز إجراء الاستصحاب في الحكم التكليفي ابتداء ، إلاّ
إذا فرض انتفاء استصحاب الأمر الوضعيّ.
رجوع إلى كلام الفاضل التوني والتعليق عليه
|
قوله : «وعلى
الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار ... الخ».
ربّما يورد عليه :
أنّه قد يكون التكرار مردّدا بين وجهين ، كما إذا علمنا بأنّه
ليس للتكرار الدائمي ، لكنّ العدد المتكرّر كان مردّدا بين الزائد والناقص.
وهذا الإيراد لا
يندفع بما ذكره قدسسره : من أنّ الحكم في التكرار كالأمر الموقّت ، كما لا يخفى.
فالصواب أن يقال :
إذا ثبت وجوب التكرار ، فالشكّ في بقاء ذلك الحكم من هذه الجهة مرجعه إلى الشكّ في
مقدار التكرار ؛ لتردّده بين الزائد والناقص ، ولا يجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّ كلّ
واحد من المكرّر : إن كان تكليفا مستقلا فالشكّ في الزائد شكّ في التكليف المستقلّ
، وحكمه النفي بأصالة البراءة ، لا الإثبات بالاستصحاب ، كما لا يخفى.
__________________
وإن كان الزائد
على تقدير وجوبه جزءا من المأمور به ـ بأن يكون الأمر بمجموع العدد المتكرّر من
حيث إنّه مركّب واحد ـ فمرجعه إلى الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به وعدمها ، ولا
يجري فيه أيضا الاستصحاب ؛ لأنّ ثبوت الوجوب لباقي الأجزاء لا يثبت وجوب هذا الشيء
المشكوك في جزئيّته ، بل لا بدّ من الرجوع إلى البراءة أو قاعدة الاحتياط.
قوله : «وإلاّ
فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان».
قد يورد عليه
النقض بما عرفت حاله في العبارة الاولى .
ثمّ إنّه لو شكّ
في كون الأمر للتكرار أو المرّة كان الحكم كما ذكرنا في تردّد التكرار بين الزائد
والناقص.
وكذا لو أمر
المولى بفعل له استمرار في الجملة ـ كالجلوس في المسجد ـ ولم يعلم مقدار استمراره
، فإنّ الشكّ بين الزائد والناقص يرجع ـ مع فرض كون الزائد المشكوك واجبا مستقلا
على تقدير وجوبه ـ إلى أصالة البراءة ، ومع فرض كونه جزءا ، يرجع إلى مسألة الشكّ
في الجزئيّة وعدمها ، فإنّ فيها البراءة أو وجوب الاحتياط .
__________________
قوله : «وتوهّم :
أنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباه غير خفيّ على
المتأمّل».
الظاهر أنّه دفع
اعتراض على تسويته في ثبوت الوجوب في كلّ جزء من الوقت بنفس الأمر بين كونه للفور
وعدمه ، ولا دخل له بمطلبه وهو عدم جريان الاستصحاب في الأمر الفوري ؛ لأنّ كونه
من قبيل الموقّت المضيّق لا يوجب جريان الاستصحاب فيه ؛ لأنّ الفور المنزّل ـ عند
المتوهّم ـ منزلة الموقّت المضيّق :
إمّا أن يراد به
المسارعة في أوّل أزمنة الإمكان ، وإن لم يسارع ففي ثانيها وهكذا.
وإمّا أن يراد به
خصوص الزمان الأوّل فإذا فات لم يثبت بالأمر وجوب الفعل في الآن الثاني لا فورا
ولا متراخيا.
وإمّا أن يراد به
ثبوته في الآن الثاني متراخيا.
وعلى الأوّل ، فهو
في كلّ جزء من الوقت من قبيل الموقّت المضيّق.
وعلى الثاني ، فلا
معنى للاستصحاب ، بناء على ما سيذكره ؛ من أنّ الاستصحاب لم يقل به أحد فيما بعد
الوقت.
وعلى الثالث ،
يكون في الوقت الأوّل كالمضيّق وفيما بعده كالأمر المطلق.
وقد ذكر بعض شرّاح
الوافية : أنّ دفع هذا التوهّم لأجل
__________________
استلزامه الاحتياج
إلى الاستصحاب لإثبات الوجوب في ما بعد الوقت الأوّل.
ولم أعرف له وجها.
قوله : «وكذا
النهي».
لا يخفى أنّه قدسسره لم يستوف أقسام
الأمر ؛ لأنّ منها ما يتردّد الأمر بين الموقّت بوقت فيرتفع الأمر بفواته ، وبين
المطلق الذي يجوز امتثاله بعد ذلك الوقت ، كما إذا شككنا في أنّ الأمر بالغسل في
يوم الجمعة مطلق ـ فيجوز الإتيان به في كلّ جزء من النهار ـ أو موقّت إلى الزوال؟
وكذا وجوب الفطرة بالنسبة إلى يوم العيد ، فإنّ الظاهر أنّه لا مانع من استصحاب
الحكم التكليفيّ هنا ابتداء.
قوله : «بل هو
أولى لأنّ مطلقه ... الخ».
كأنّه قدسسره لم يلاحظ إلاّ
الأوامر والنواهي اللفظيّة البيّنة المدلول ، وإلاّ فإذا قام الإجماع أو دليل
لفظيّ مجمل على حرمة شيء في زمان ولم يعلم بقاؤها بعده ـ كحرمة الوطء للحائض
المردّدة بين اختصاصها بأيّام رؤية الدم فيرتفع بعد النقاء ، وشمولها لزمان بقاء
حدث الحيض فلا يرتفع إلاّ بالاغتسال ، وكحرمة العصير العنبيّ بعد ذهاب ثلثيه بغير
النار ، وحلّية عصير الزبيب والتمر بعد غليانهما ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ـ فلا
مانع في ذلك كلّه من الاستصحاب.
قوله : «فينبغي أن
ينظر إلى كيفيّة سببيّة السبب هل هي على الإطلاق ... الخ».
الظاهر أنّ مراده
من سببيّة السبب تأثيره ، لا كونه سببا في الشرع وهو الحكم الوضعي ؛ لأنّ هذا لا
ينقسم إلى ما ذكره من
الأقسام ، لكونه
دائميّا في جميع الأسباب إلى أن ينسخ.
فإن أراد من النظر
في كيفيّة سببيّة السبب تحصيل مورد يشكّ في كيفيّة السببيّة ليكون موردا للاستصحاب
في المسبّب ، فهو مناف لما ذكره : من عدم جريان الاستصحاب في التكليفيّات إلاّ
تبعا للوضعيّات.
وإن أراد من ذلك
نفي مورد يشكّ في كيفيّة سببيّة السبب ليجري الاستصحاب في المسبّب ، فأنت خبير بأنّ موارد الشكّ كثيرة ؛ فإنّ السببيّة قد تتردّد بين الدائم والموقّت ـ كالخيار المسبّب عن الغبن المتردّد بين كونه
دائما لو لا المسقط وبين كونه فوريّا ، وكالشفعة المردّدة بين كونه مستمرّا إلى
الصبح لو علم به ليلا أم لا ، وهكذا ـ والموقّت قد يتردّد بين وقتين ، كالكسوف
الذي هو سبب لوجوب الصلاة المردّد وقتها بين الأخذ في الانجلاء وتمامه.
قوله : «وكذا
الكلام في الشرط والمانع ... الخ».
لم أعرف المراد من
إلحاق الشرط والمانع بالسبب ؛ فإنّ شيئا من الأقسام المذكورة للسبب لا يجري في المانع وإن جرى كلّها أو بعضها في المانع إن لوحظ كونه سببا للعدم ؛ لكنّ
المانع بهذا الاعتبار يدخل في السبب ، وكذا عدم الشرط إذا لوحظ كونه سببا لعدم
الحكم.
وكذا ما ذكره في
وجه عدم جريان الاستصحاب بقوله : «فإنّ
__________________
ثبوت الحكم ...
الخ» .
فإنّ الحاصل من النظر في كيفيّة شرطيّة الشرط أنّه :
قد يكون نفس الشيء
شرطا لشيء على الإطلاق ، كالطهارة من الحدث الأصغر للمسّ ، ومن الأكبر للمكث في
المساجد ، ومن الحيض للوطء ووجوب العبادة.
وقد يكون شرطا في
حال دون حال ، كاشتراط الطهارة من الخبث في الصلاة مع التمكّن ، لا مع عدمه.
وقد يكون حدوثه في
زمان ما شرطا للشيء فيبقى المشروط ولو بعد ارتفاع الشرط ، كالاستطاعة للحجّ.
وقد يكون تأثير
الشرط بالنسبة إلى فعل دون آخر ، كالوضوء العذريّ المؤثّر فيما يؤتى به حال العذر.
فإذا شككنا في
مسألة الحجّ في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة ، فلا مانع من استصحابه.
وكذا لو شككنا في
اختصاص الاشتراط بحال التمكّن من الشرط ـ كما إذا ارتفع التمكّن من إزالة النجاسة
في أثناء الوقت ـ فإنّه لا مانع من استصحاب الوجوب.
وكذا لو شككنا في
أنّ الشرط في إباحة الوطء الطهارة بمعنى النقاء من الحيض أو ارتفاع حدث الحيض.
وكذا لو شككنا في
بقاء إباحة الصلاة أو المسّ بعد الوضوء
__________________
العذريّ إذا كان
الفعل المشروط به بعد زوال العذر .
وبالجملة : فلا
أجد كيفيّة شرطية الشرط مانعة عن جريان الاستصحاب في المشروط ، بل قد يوجب إجراءه
فيه.
قوله : «فظهر ممّا
ذكرنا أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري إلاّ في الأحكام الوضعيّة ، أعني :
الأسباب والشروط والموانع».
لا يخفى ما في هذا
التفريع ؛ فإنّه لم يظهر من كلامه جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة بمعنى نفس
الأسباب والشروط والموانع ، ولا عدمه فيها بالمعنى المعروف. نعم ، علم من كلامه
عدم الجريان في المسبّبات أيضا ؛ لزعمه انحصارها في المؤبّد والموقّت بوقت محدود
معلوم.
فبقي أمران :
أحدهما : نفس الحكم الوضعيّ ، وهو جعل الشيء سببا لشيء أو شرطا. واللازم عدم جريان
الاستصحاب فيها ؛ لعين ما ذكره في الأحكام التكليفيّة.
والثاني : نفس
الأسباب والشروط.
ويرد عليه : أنّ
نفس السبب والشرط والمانع إن كان أمرا غير شرعيّ ، فظاهر كلامه ـ حيث جعل محلّ
الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الامور الشرعيّة ـ خروج مثل هذا عنه ، كحياة
زيد ورطوبة ثوبه. وإن كان أمرا شرعيّا ـ كالطهارة والنجاسة ـ فلا يخفى أنّ هذه
الامور الشرعيّة مسبّبة عن أسباب ، فإنّ النجاسة التي مثّل بها في الماء
__________________
المتغيّر مسبّبة
عن التغيّر ، والطهارة التي مثّل بها في مسألة المتيمّم مسبّبة عن التيمّم ؛
فالشكّ في بقائهما لا يكون إلاّ للشكّ في كيفيّة سببيّة السبب الموجب لإجراء
الاستصحاب في المسبّب ـ أعني النجاسة والطهارة ـ ، وقد سبق منه المنع عن جريان
الاستصحاب في المسبّب.
ودعوى : أنّ
الممنوع في كلامه جريان الاستصحاب في الحكم التكليفيّ المسبّب عن الأسباب إلاّ
تبعا لجريانه في نفس الأسباب.
مدفوعة : بأنّ
النجاسة ـ كما حكاه المفصّل عن الشهيد ـ ليست إلاّ
عبارة عن وجوب الاجتناب ، والطهر الحاصل من التيمّم ليس إلاّ إباحة الدخول في
الصلاة المستلزمة لوجوب المضيّ فيها بعد الدخول ، فهما اعتباران منتزعان من الحكم التكليفيّ.
قوله : «ووقوعه في
الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ... الخ».
قد عرفت وستعرف أيضا : أنّه لا خفاء في أنّ استصحاب النجاسة لا يعقل له معنى إلاّ ترتيب
أثرها ـ أعني وجوب الاجتناب في الصلاة والأكل والشرب ـ ، فليس هنا استصحاب للحكم
التكليفيّ ، لا ابتداء ولا تبعا ، وهذا كاستصحاب حياة زيد ؛ فإنّ حقيقة ذلك هو
الحكم بتحريم عقد زوجته والتصرّف في ماله ، وليس هذا استصحابا لهذا التحريم.
__________________
بل التحقيق ـ كما سيجيء ـ : عدم جواز إجراء الاستصحاب في الأحكام التي تستصحب
موضوعاتها ؛ لأنّ استصحاب وجوب الاجتناب ـ مثلا ـ إن كان بملاحظة استصحاب النجاسة
فقد عرفت أنّه لا يبقى بهذه الملاحظة شكّ في وجوب الاجتناب ؛ لما عرفت : من أنّ حقيقة حكم الشارع باستصحاب النجاسة هو حكمه بوجوب الاجتناب حتّى
يحصل اليقين بالطهارة. وإن كان مع قطع النظر عن استصحابها فلا يجوز الاستصحاب ؛
فإنّ وجوب الاجتناب سابقا عن الماء المذكور إنّما كان من حيث كونه نجسا ؛ لأنّ
النجس هو الموضوع لوجوب الاجتناب ، فما لم يحرز الموضوع في حال الشكّ لم يجر
الاستصحاب ، كما سيجيء في مسألة اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب .
* * *
__________________
شبهة اخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة
|
ثمّ اعلم : أنّه
بقي هنا شبهة اخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة مطلقا ، وهي :
أنّ الموضوع للحكم التكليفيّ ليس إلاّ فعل المكلّف ، ولا ريب أنّ الشارع ـ بل كلّ
حاكم ـ إنّما يلاحظ الموضوع بجميع مشخّصاته التي لها دخل في ذلك الحكم ثمّ يحكم
عليه.
وحينئذ ، فإذا أمر
الشارع بفعل ـ كالجلوس في المسجد مثلا ـ فإن كان الموضوع فيه هو مطلق الجلوس فيه
الغير المقيّد بشيء أصلا ، فلا إشكال في عدم ارتفاع وجوبه إلاّ بالإتيان به ؛ إذ
لو ارتفع الوجوب بغيره كان ذلك الرافع من قيود الفعل ، وكان الفعل المطلوب مقيّدا
بعدم هذا القيد من أوّل الأمر ، والمفروض خلافه.
وإن كان الموضوع
فيه هو الجلوس المقيّد بقيد ، كان عدم ذلك القيد موجبا لانعدام الموضوع ، فعدم
مطلوبيّته ليس بارتفاع الطلب عنه ، بل لم يكن مطلوبا من أوّل الأمر.
وحينئذ فإذا شكّ
في الزمان المتأخّر في وجوب الجلوس ، يرجع الشكّ إلى الشكّ في كون الموضوع للوجوب
هو الفعل المقيّد ، أو الفعل المعرّى عن هذا القيد.
ومن المعلوم عدم
جريان الاستصحاب هنا ؛ لأنّ معناه إثبات حكم كان متيقّنا لموضوع معيّن عند الشكّ
في ارتفاعه عن ذلك الموضوع ، وهذا غير متحقّق فيما نحن فيه.
وكذا الكلام في
غير الوجوب من الأحكام الأربعة الأخر ؛ لاشتراك الجميع في كون الموضوع لها هو فعل المكلّف
الملحوظ للحاكم بجميع مشخّصاته ، خصوصا إذا كان حكيما ، وخصوصا عند القائل
بالتحسين والتقبيح ؛ لمدخليّة المشخّصات في الحسن والقبح حتّى الزمان.
وبه يندفع ما يقال
: إنّه كما يمكن أن يجعل الزمان ظرفا للفعل ، بأن يقال : إنّ التبريد في زمان
الصيف مطلوب ، فلا يجري الاستصحاب إذا شكّ في مطلوبيّته في زمان آخر ، أمكن أن
يقال : إنّ التبريد مطلوب في الصيف ، على أن يكون الموضوع نفس التبريد والزمان
قيدا للطلب ، وحينئذ فيجوز استصحاب الطلب إذا شكّ في بقائه بعد الصيف ؛ إذا
الموضوع باق على حاله .
توضيح الاندفاع :
أنّ القيد في الحقيقة راجع إلى الموضوع ، وتقييد الطلب به أحيانا في الكلام مسامحة في التعبير ـ كما لا يخفى ـ فافهم.
وبالجملة : فينحصر
مجرى الاستصحاب في الامور القابلة للاستمرار في موضوع ، وللارتفاع عن ذلك الموضوع
بعينه ، كالطهارة والحدث والنجاسة والملكيّة والزوجيّة والرطوبة واليبوسة ونحو
ذلك.
ومن ذلك يظهر عدم
جريان الاستصحاب في الحكم الوضعيّ أيضا إذا تعلّق
بفعل الشخص.
هذا ، والجواب عن
ذلك : أنّ مبنى الاستصحاب ـ خصوصا إذا استند فيه إلى الأخبار ـ على القضايا
العرفيّة المتحقّقة في الزمان السابق التي ينتزعها العرف من الأدلّة الشرعيّة ،
فإنّهم لا يرتابون في أنّه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ثمّ شكّ في بقائه بعده ، أنّ
الشكّ في هذه
__________________
المسألة في
استمرار الحرمة لهذا الفعل وارتفاعها ، وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة كون
الزمان قيدا للفعل. وكذلك الإباحة والكراهة والاستحباب.
نعم قد يتحقّق في
بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشكّ في الاستمرار ، مثلا : إذا ثبت في يوم
وجوب فعل عند الزوال ، ثمّ شككنا في الغد أنّه واجب اليوم عند الزوال ، فلا يحكمون
باستصحاب ذلك ، ولا يبنون على كونه ممّا شكّ في استمراره وارتفاعه ، بل يحكمون في
الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال. أمّا لو ثبت ذلك مرارا ، ثمّ شكّ فيه بعد
أيّام ، فالظاهر حكمهم بأنّ هذا الحكم كان مستمرّا وشكّ في ارتفاعه ، فيستصحب.
ومن هنا ترى
الأصحاب يتمسّكون باستصحاب وجوب التمام عند الشكّ في حدوث التكليف بالقصر ،
وباستصحاب وجوب العبادة عند شكّ المرأة في حدوث الحيض ، لا من جهة أصالة عدم السفر
الموجب للقصر ، وعدم الحيض المقتضي لوجوب العبادة ـ حتّى يحكم بوجوب التمام ؛
لأنّه من آثار عدم السفر الشرعيّ الموجب للقصر ، وبوجوب العبادة ؛ لأنّه من آثار
عدم الحيض ـ بل من جهة كون التكليف بالتمام وبالعبادة عند زوال كلّ يوم أمرا
مستمرّا عندهم وإن كان التكليف يتجدّد يوما فيوما ، فهو في كلّ يوم مسبوق بالعدم ،
فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه ، لا إلى استصحاب وجوده.
والحاصل : أنّ
المعيار حكم العرف بأنّ الشيء الفلانيّ كان مستمرّا فارتفع وانقطع ، وأنّه مشكوك
الانقطاع. ولو لا ملاحظة هذا التخيّل العرفيّ لم يصدق على النسخ أنّه رفع للحكم
الثابت أو لمثله ؛ فإنّ عدم التكليف في وقت الصلاة بالصلاة إلى القبلة المنسوخة
دفع في الحقيقة
للتكليف ، لا رفع.
ونظير ذلك ـ في
غير الأحكام الشرعيّة ـ ما سيجيء : من إجراء الاستصحاب في مثل الكرّية وعدمها ، وفي الامور التدريجيّة المتجدّدة شيئا فشيئا ، وفي مثل وجوب الناقص بعد تعذّر بعض الأجزاء فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلاّ بالمسامحة العرفيّة ، كما سيجيء إن شاء
الله تعالى.
__________________
[حجّة القول الثامن]
التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره ونسبته الى الغزالي
|
حجّة القول الثامن
وجوابها يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه. فنقول :
قد نسب جماعة إلى الغزاليّ القول بحجّيّة الاستصحاب وإنكارها في استصحاب حال الإجماع ،
وظاهر ذلك كونه مفصّلا في المسألة.
وقد ذكر في
النهاية مسألة الاستصحاب ، ونسب إلى جماعة منهم الغزاليّ حجّيته ،
ثمّ أطال الكلام في أدلّة النافين والمثبتين ، ثمّ ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال
الإجماع ، ومثّل له بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ، وبالخارج من غير
السبيلين من المتطهّر ، ونسب إلى الأكثر ومنهم الغزاليّ عدم حجّيّته.
ظاهر كلام الغزالي إنكار الاستصحاب مطلقا
|
إلاّ أنّ الذي
يظهر بالتدبّر في كلامه المحكيّ في النهاية : هو إنكار الاستصحاب المتنازع فيه
رأسا وإن ثبت المستصحب بغير الإجماع من الأدلّة المختصّة دلالتها بالحال الأوّل
المعلوم انتفاؤها في الحال الثاني ؛ فإنّه قد يعبّر عن جميع ذلك باستصحاب حال
الإجماع ، كما ستعرف
__________________
منشأ نسبة هذا التفصيل إلى الغزالي
|
في كلام الشهيد ; ، وإنّما المسلّم عنده استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه الخارج عن محلّ النزاع ،
بل عن حقيقة الاستصحاب حقيقة. فمنشأ نسبة التفصيل إطلاق الغزاليّ الاستصحاب على
استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه ، وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال الإجماع ، وإن
صرّح في أثناء كلامه بإلحاق غيره ـ ممّا يشبه في اختصاص مدلوله بالحالة الاولى ـ به
في منع جريان الاستصحاب فيما ثبت به .
قال في الذكرى ـ بعد
تقسيم حكم العقل الغير المتوقّف على الخطاب إلى خمسة أقسام : ما يستقلّ به العقل
كحسن العدل ، والتمسّك بأصل البراءة ، وعدم الدليل دليل العدم ، والأخذ بالأقلّ
عند فقد دليل على الأكثر ـ :
الخامس : أصالة
بقاء ما كان ، ويسمّى استصحاب حال الشرع وحال الإجماع في محلّ الخلاف ، مثاله :
المتيمّم ... الخ ، واختلف الأصحاب في حجّيته ، وهو مقرّر في الاصول . انتهى.
ونحوه ما حكي عن
الشهيد الثاني في مسألة أنّ الخارج من غير السبيلين ناقض أم لا؟ وفي مسألة
المتيمّم ... الخ ، وصاحب الحدائق في
__________________
الدرر النجفيّة ، بل استظهر هذا من كلّ من مثّل لمحلّ النزاع بمسألة المتيمّم ، كالمعتبر والمعالم وغيرهما .
ولا بدّ من نقل
عبارة الغزاليّ ـ المحكيّة في النهاية ـ حتّى يتّضح حقيقة الحال. قال الغزاليّ ـ على
ما حكاه في النهاية ـ :
المستصحب إن أقرّ
بأنّه لم يقم دليلا في المسألة ، بل قال : أنا ناف ولا دليل على النافي ، فسيأتي
بيان وجوب الدليل على النافي ، وإن ظنّ إقامة الدليل فقد أخطأ ؛ فإنّا نقول :
إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ، وهو إن كان لفظ الشارع فلا بدّ من
بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامها عند عدم الخروج من غير السبيلين لا عند وجوده . وإن دلّ بعمومه على دوامها عند العدم والوجود معا كان ذلك
تمسّكا بالعموم ، فيجب إظهار دليل التخصيص. وإن كان بالإجماع فالإجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود ، ولو كان
الإجماع شاملا حال الوجود كان المخالف له خارقا للإجماع ، كما أنّ المخالف في
انقطاع الصلاة
__________________
عند هبوب الرياح
وطلوع الشمس خارق للإجماع ؛ لأنّ الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد
مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ، فيجب أن يقاس حال الوجود على
حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة ، فأمّا أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع
فهو محال. وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصليّة بشرط عدم دليل السمع ، فلا
يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، فكذا هنا انعقد الإجماع بشرط العدم ، فانتفى
الإجماع عند الوجود.
وهذه دقيقة : وهو
أنّ كلّ دليل يضادّ نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف ، والإجماع يضادّه
نفس الخلاف ؛ إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل ، فإنّ
الخلاف لا يضادّه ؛ فإنّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته شامل لمحلّ الخلاف ؛
فإنّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : «لا صيام لمن لا يبيت الصّيام من اللّيل» شامل بصيغته صوم رمضان ، مع خلاف الخصم فيه ، فيقول : «اسلّم شمول الصيغة ،
لكنّي أخصّصه بدليل» فعليه الدليل. وهنا ، المخالف لا يسلّم شمول
الإجماع لمحلّ الخلاف ؛ لاستحالة الإجماع مع الخلاف ، ولا يستحيل شمول الصيغة مع
الدليل. فهذه دقيقة يجب التنبّه لها.
ثمّ قال : فإن قيل
: الإجماع يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف؟
__________________
وأجاب : بأنّ هذا
الخلاف غير محرّم بالإجماع ، ولم يكن المخالف خارقا للإجماع ؛ لأنّ الإجماع إنّما
انعقد على حالة العدم ، لا على حالة الوجود ، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه
الدليل.
لا يقال : دليل
صحّة الشروع دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع.
لأنّا نقول : ذلك
الدليل ليس هو الإجماع ؛ لأنّه مشروط بالعدم ، فلا يكون دليلا عند الوجود ، وإن كان نصّا فبيّنه حتّى ننظر هل يتناول حال الوجود أم لا؟
لا يقال : لم
ينكروا على من يقول : الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع ؛ فلا
يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت هو المحتاج ، كما إذا ثبت موت زيد أو
بناء دار كان دوامه بنفسه لا بسبب.
لأنّا نقول : هذا
وهم باطل ؛ لأنّ كلّ ما ثبت جاز دوامه وعدمه ، فلا بدّ لدوامه من سبب ودليل سوى
دليل الثبوت. ولو لا دليل العادة على أنّ الميّت لا يحيى والدار لا ينهدم إلاّ
بهادم أو طول الزمان ، لما عرفنا دوامه بمجرّد ثبوته ، كما لو اخبر عن قعود الأمير
وأكله ودخوله الدار ، ولم يدلّ العادة على دوام هذه الأحوال ، فإنّا لا نقضي
بدوامها. وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع
وجوده ، فيفتقر في دوامها إلى دليل آخر ، انتهى.
__________________
ولا يخفى أنّ
كثيرا من كلماته ـ خصوصا قوله أخيرا : «خبر الشارع عن دوامها» ـ صريح في أنّ هذا
الحكم غير مختصّ بالإجماع ، بل يشمل كلّ دليل يدلّ على قضيّة مهملة من حيث الزمان
بحيث يقطع بانحصار مدلوله الفعليّ في الزمان الأوّل.
نسبة شارح المختصر القول بحجّية الاستصحاب مطلقا إلى الغزالي
|
والعجب من شارح
المختصر ؛ حيث إنّه نسب القول بحجّية الاستصحاب إلى جماعة منهم الغزاليّ ، ثمّ قال
:
ولا فرق عند من
يرى صحّة الاستدلال به بين أن يكون الثابت به نفيا أصليّا ، كما يقال فيما اختلف
كونه نصابا : لم تكن الزكاة واجبة عليه والأصل بقاؤه ، أو حكما شرعيّا ، مثل قول
الشافعيّة في الخارج من غير السبيلين : إنّه كان قبل خروج الخارج متطهّرا ، والأصل
البقاء حتّى يثبت معارض ، والأصل عدمه ، انتهى.
ولا يخفى : أنّ
المثال الثاني ، ممّا نسب إلى الغزاليّ إنكار الاستصحاب فيه ، كما عرفت من النهاية ومن عبارته المحكيّة فيها.
كلام السيّد الصدر في الجمع بين قولي الغزالي
|
ثمّ إنّ السيّد
صدر الدين جمع في شرح الوافية بين قولي الغزاليّ :
تارة : بأنّ قوله
بحجّيّة الاستصحاب ليس مبنيّا على ما جعله القوم دليلا من حصول الظنّ ، بل هو
مبنيّ على دلالة الروايات عليها ، والروايات لا تدلّ على حجّيّة استصحاب حال
الإجماع.
__________________
واخرى : بأنّ غرضه
من دلالة الدليل على الدوام ، كونه بحيث لو علم أو ظنّ وجود المدلول في الزمان
الثاني أو الحالة الثانية لأجل موجب لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا ، والإجماع
ليس كذلك ؛ لأنّه يضادّ الخلاف ، فكيف يدلّ على كون المختلف فيه مجمعا عليه؟ كما
يرشد إليه قوله : «والإجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف
النصّ والعموم ودليل العقل ، فإنّ الخلاف لا يضادّه». ويكون غرضه من قوله : «فلا
بدّ له من سبب» الردّ على من ادّعى أنّ علّة الدوام هو مجرّد تحقّق الشيء في
الواقع ، وأنّ الإذعان به يحصل من مجرّد العلم بالتحقّق ، فردّ عليه : بأنّه ليس
الأمر كذلك ، وأنّ الإذعان والظنّ بالبقاء لا بدّ له من أمر أيضا ، كعادة أو أمارة
أو غيرهما ، انتهى.
المناقشة في ما أفاده السيّد الصدر
|
أقول : أمّا الوجه
الأوّل ، فهو كما ترى ؛ فإنّ التمسّك بالروايات ليس له أثر في كلام الخاصّة الّذين
هم الأصل في تدوينها في كتبهم ، فضلا عن العامّة.
وأمّا الوجه
الثاني ، ففيه : أنّ منشأ العجب من تناقض قوليه ؛ حيث إنّ ما ذكره في استصحاب حال
الإجماع ـ من اختصاص دليل الحكم بالحالة الاولى ـ بعينه موجود في بعض صور استصحاب
حال غير الإجماع ، فإنّه إذا ورد النصّ على وجه يكون ساكتا بالنسبة إلى ما بعد
الحالة الاولى ، كما إذا ورد أنّ الماء ينجس بالتغيّر ، مع فرض عدم إشعار فيه بحكم
ما بعد زوال التغيّر ، فإنّ وجود هذا الدليل ـ بوصف
__________________
كونه دليلا ـ مقطوع
العدم في الحالة الثانية ، كما في الإجماع.
وأمّا قوله : «وغرضه
من دلالة الدليل على الدوام كونه بحيث لو علم أو ظنّ بوجود المدلول في الآن الثاني
... إلى آخر ما ذكره».
ففيه : أنّه إذا علم لدليل أو ظنّ لأمارة ، بوجود مضمون هذا الدليل الساكت ـ أعني
النجاسة في المثال المذكور ـ فإمكان حمل هذا الدليل على الدوام :
إن اريد به إمكان
كونه دليلا على الدوام ، فهو ممنوع ؛ لامتناع دلالته على ذلك ، لأنّ دلالة اللفظ
لا بدّ له من سبب واقتضاء ، والمفروض عدمه.
وإن اريد إمكان
كونه مرادا في الواقع من الدليل وإن لم يكن الدليل مفيدا له ، ففيه ـ مع اختصاصه بالإجماع عند العامّة ، الذي هو نفس مستند الحكم ، لا كاشف عن مستنده الراجع
إلى النصّ ، وجريان مثله في المستصحب الثابت بالفعل أو التقرير ؛ فإنّه لو ثبت
دوام الحكم لم يمكن حمل الدليل على الدوام ـ : أنّ هذا المقدار من الفرق لا يؤثّر
فيما ذكره الغزاليّ في نفي استصحاب حال الإجماع ؛ لأنّ مناط نفيه لذلك ـ كما عرفت
من تمثيله بموت زيد وبناء دار ـ احتياج الحكم في الزمان الثاني إلى دليل أو أمارة.
هذا ، وعلى كلّ
حال ، فلو فرض كون الغزاليّ مفصّلا في المسألة بين ثبوت المستصحب بالإجماع وثبوته
بغيره ، فيظهر ردّه ممّا ظهر من
__________________
تضاعيف ما تقدّم :
من أنّ أدلّة الإثبات لا يفرّق فيها بين الإجماع وغيره ، خصوصا ما كان نظير
الإجماع في السكوت عن حكم الحالة الثانية ، خصوصا إذا علم عدم إرادة الدوام منه في
الواقع كالفعل والتقرير ، وأدلّة النفي كذلك لا يفرّق فيها بينهما أيضا.
و ( قد يفرّق بينهما : بأنّ الموضوع في النصّ مبيّن يمكن العلم بتحقّقه
وعدم تحقّقه في الآن اللاحق ، كما إذا قال : «الماء إذا تغيّر نجس» ، فإنّ الماء
موضوع والتغيّر قيد للنجاسة ، فإذا زال التغيّر أمكن استصحاب النجاسة للماء.
وإذا قال : «الماء
المتغيّر نجس» ، فظاهره ثبوت النجاسة للماء المتلبّس بالتغيّر ، فإذا زال التغيّر
لم يمكن الاستصحاب ؛ لأنّ الموضوع هو المتلبّس بالتغيّر وهو غير موجود ، كما إذا
قال : «الكلب نجس» ، فإنّه لا يمكن استصحاب النجاسة بعد استحالته ملحا.
فإذا فرضنا انعقاد
الإجماع على نجاسة الماء المتّصف بالتغيّر ، فالإجماع أمر لبّيّ ليس فيه تعرّض
لبيان كون الماء موضوعا والتغيّر قيدا للنجاسة ، أو أنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف
التغيّر.
وكذلك إذا انعقد
الإجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته ثمّ مات ، فإنّه لا يتعيّن الموضوع
حتّى يحرز عند إرادة الاستصحاب. لكن هذا الكلام جار في جميع الأدلّة الغير
اللفظيّة.
__________________
نعم ، ما سيجيء وتقدّم ـ من أنّ تعيين الموضوع في الاستصحاب بالعرف لا بالمداقّة
ولا بمراجعة الأدلّة الشرعيّة ـ يكفي في دفع الفرق المذكور ، فتراهم يجرون
الاستصحاب فيما لا يساعد دليل المستصحب على بقاء الموضوع فيه في الزمان اللاحق ،
كما سيجيء في مسألة اشتراط بقاء الموضوع إن شاء الله .
__________________
حجّة القول التاسع
التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع
|
وهو التفصيل بين
ما ثبت استمرار المستصحب واحتياجه في الارتفاع إلى الرافع ، وبين غيره : ما يظهر
من آخر كلام المحقّق في المعارج ـ كما تقدّم في نقل الأقوال ـ حيث قال :
ما استدلّ به في المعارج على هذا القول
|
والذي نختاره أن
ننظر في دليل ذلك الحكم ، فإن كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم ، كعقد
النكاح فإنّه يوجب حلّ الوطء مطلقا ، فإذا وجد الخلاف في الألفاظ التي يقع بها
الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : «حلّ الوطء ثابت قبل النطق
بها فكذا بعده» كان صحيحا ؛ فإنّ المقتضي للتحليل ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا ،
ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملا بالمقتضي.
لا يقال : إنّ
المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنّه باق ، فلم يثبت الحكم.
لأنّا نقول : وقوع
العقد اقتضى حلّ الوطء لا مقيّدا ، فيلزم دوام الحلّ ؛ نظرا إلى وقوع المقتضي ، لا
إلى دوامه ، فيجب أن يثبت الحلّ حتّى يثبت الرافع. فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب
ما أشرنا إليه فليس ذلك عملا بغير دليل ، وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا فنحن
مضربون عنه ، انتهى.
__________________
وحاصل هذا
الاستدلال يرجع إلى كفاية وجود المقتضي وعدم العلم بالرافع لوجود المقتضى .
المناقشة في الدليل المذكور
|
وفيه : أنّ الحكم
بوجود الشيء لا يكون إلاّ مع العلم بوجود علّته التامّة التي من أجزائها عدم
الرافع ، فعدم العلم به يوجب عدم العلم بتحقّق العلّة التامّة ، إلاّ أن يثبت
التعبّد من الشارع بالحكم بالعدم عند عدم العلم به ، وهو عين الكلام في اعتبار
الاستصحاب.
الأول في الاستدلال على هذا القول
|
والأولى :
الاستدلال له بما استظهرناه من الروايات السابقة ـ بعد نقلها ـ : من أنّ النقض رفع
الأمر المستمرّ في نفسه وقطع الشيء المتّصل كذلك ، فلا بدّ أن يكون متعلّقة ما
يكون له استمرار واتّصال ، وليس ذلك نفس اليقين ؛ لانتقاضه بغير اختيار المكلّف ،
فلا يقع في حيّز التحريم ، ولا أحكام اليقين من حيث هو وصف من الأوصاف ؛ لارتفاعها
بارتفاعه قطعا ، بل المراد به ـ بدلالة الاقتضاء ـ الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة
اليقين ؛ لأنّ نقض اليقين بعد ارتفاعه لا يعقل له معنى سوى هذا ، فحينئذ لا بدّ أن
يكون أحكام المتيقّن كنفسه ممّا يكون مستمرّا لو لا الناقض.
هذا ، ولكن لا بدّ
من التأمّل في أنّ هذا المعنى جار في المستصحب العدميّ أم لا؟ ولا يبعد تحقّقه ،
فتأمّل.
__________________
مبنى نسبة هذا القول إلى المحقّق
|
ثمّ إنّ نسبة
القول المذكور إلى المحقّق قدسسره مبنيّ على أنّ مراده من دليل الحكم في
كلامه ـ بقرينة تمثيله بعقد النكاح في المثال المذكور ـ هو المقتضي ، وعلى أن يكون
حكم الشكّ في وجود الرافع حكم الشكّ في رافعيّة الشيء ؛ إمّا لدلالة دليله المذكور
على ذلك ، وإمّا لعدم القول بالإثبات في الشكّ في الرافعيّة والإنكار في الشكّ في
وجود الرافع ، وإن كان العكس موجودا ، كما سيجيء من المحقّق السبزواري .
لكن في كلا
الوجهين نظر :
المناقشة في المبنى المذكور
|
أمّا الأوّل ،
فالإمكان الفرق في الدليل الذي ذكره ؛ لأنّ مرجع ما ذكره في الاستدلال إلى جعل
المقتضي والرافع من قبيل العامّ والمخصّص ، فإذا ثبت عموم المقتضي ـ وهو عقد
النكاح ـ لحلّ الوطء في جميع الأوقات ، فلا يجوز رفع اليد عنه بالألفاظ التي وقع
الشكّ في كونها مزيلة لقيد النكاح ؛ إذ من المعلوم أنّ العموم لا يرفع اليد عنه
بمجرّد الشكّ في التخصيص.
أمّا لو ثبت تخصيص
العامّ ـ وهو المقتضي لحلّ الوطء ، أعني عقد النكاح ـ بمخصّص ، وهو اللفظ الذي
اتّفق على كونه مزيلا لقيد النكاح ، فإذا شكّ في تحقّقه وعدمه فيمكن منع التمسّك
بالعموم حينئذ ؛ إذ الشكّ ليس في طروّ التخصيص على العامّ ، بل في وجود ما خصّص
العامّ به يقينا ، فيحتاج إثبات عدمه المتمّم للتمسّك بالعامّ إلى إجراء
__________________
الاستصحاب ، بخلاف
ما لو شكّ في أصل التخصيص ، فإنّ العامّ يكفى لإثبات حكمه في مورد الشكّ .
وبالجملة : فالفرق
بينهما ، أنّ الشكّ في الرافعيّة ـ في ما نحن فيه ـ من قبيل الشكّ في تخصيص العامّ زائدا على ما علم تخصيصه ، نظير ما إذا ثبت
تخصيص العلماء في «أكرم العلماء» بمرتكبي الكبائر ، وشكّ في تخصيصه بمرتكب الصغائر
، فإنّه يجب التمسّك بالعموم.
والشكّ في وجود
الرافع ـ فيما نحن فيه ـ شكّ في وجود ما خصّص العامّ به يقينا ، نظير ما إذا علم
تخصيصه بمرتكبي الكبائر وشكّ في تحقّق الارتكاب وعدمه في عالم ، فإنّه لو لا إحراز
عدم الارتكاب بأصالة العدم التي مرجعها إلى الاستصحاب المختلف فيه لم ينفع العامّ
في إيجاب إكرام ذلك المشكوك.
توجيه نسبة هذا القول إلى المحقّق
|
هذا ، ولكن يمكن
أن يقال : إنّ مبنى كلام المحقّق قدسسره لمّا كان على وجود المقتضي حال الشكّ وكفاية ذلك في الحكم
بالمقتضى ، فلا فرق في كون الشكّ في وجود الرافع أو رافعيّة الموجود.
والفرق بين الشكّ
في الخروج والشكّ في تحقّق الخارج في مثال العموم والخصوص ، من جهة إحراز المقتضي
للحكم بالعموم ظاهرا في المثال الأوّل ـ من جهة أصالة الحقيقة ـ وعدم إحرازه في المثال الثاني
__________________
لعدم جريان ذلك
الأصل ، لا لإحراز المقتضي لنفس الحكم ـ وهو وجوب الإكرام ـ في الأوّل دون الثاني
، فظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين المثالين .
وأمّا دعوى عدم
الفصل بين الشكّين على الوجه المذكور فهو ممّا لم يثبت.
نعم ، يمكن أن
يقال : إنّ المحقّق قدسسره لم يتعرّض لحكم الشكّ في وجود الرافع ؛ لأنّ ما كان من
الشبهة الحكميّة من هذا القبيل ليس إلاّ النسخ ، وإجراء الاستصحاب فيه إجماعيّ بل
ضروريّ ، كما تقدّم .
وأمّا الشبهة
الموضوعيّة ، فقد تقدّم خروجها في كلام القدماء عن مسألة الاستصحاب المعدود في أدلّة الأحكام ، فالتكلّم فيها إنّما يقع تبعا
للشبهة الحكميّة ، ومن باب تمثيل جريان الاستصحاب في الأحكام وعدم جريانه
بالاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة ، فترى المنكرين يمثّلون بما إذا غبنا عن بلد في ساحل البحر لم يجر العادة
__________________
ببقائه فإنّه لا
يحكم ببقائه بمجرّد احتماله ، والمثبتين بما إذا غاب زيد
عن أهله وماله فإنّه يحرم التصرّف فيهما بمجرّد احتمال الموت.
ثمّ إنّ ظاهر
عبارة المحقّق وإن أوهم اختصاص مورد كلامه بصورة دلالة المقتضي على تأييد الحكم ،
فلا يشمل ما لو كان الحكم موقّتا ـ حتّى جعل بعض هذا من وجوه الفرق بين قول المحقّق والمختار ، بعد ما ذكر وجوها أخر ضعيفة
غير فارقة ـ لكن مقتضى دليله شموله لذلك إذا كان الشكّ في رافعيّة شيء للحكم قبل مجيء
الوقت.
__________________
حجّة القول العاشر
التفصيل بين الشك في وجود الغاية وعدمه
|
ما حكي عن المحقّق
السبزواري في الذخيرة ، فإنّه استدلّ على نجاسة الماء الكثير المطلق الذي سلب
عنه الإطلاق ـ بممازجته مع المضاف النجس ـ بالاستصحاب. ثمّ ردّه : بأنّ استمرار
الحكم تابع لدلالة الدليل ، والإجماع إنّما دلّ على النجاسة قبل الممازجة. ثمّ قال
:
ما استدلّ به المحقّق السبزواري على هذا القول
|
لا يقال : قول أبي
جعفر عليهالسلام في صحيحة زرارة : «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ
أبدا ، ولكن تنقضه بيقين آخر» يدلّ على استمرار أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع.
لأنّا نقول :
التحقيق أنّ الحكم الشرعيّ الذي تعلّق به اليقين : إمّا أن يكون مستمرّا ـ بمعنى
أنّ له دليلا دالا على الاستمرار بظاهره ـ أم لا ، وعلى الأوّل فالشكّ في رفعه يكون
على أقسام.
ثمّ ذكر الشكّ في
وجود الرافع ، والشكّ في رافعيّة الشيء من جهة إجمال معنى ذلك الشيء ، والشكّ في
كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ، والشكّ في كون الشيء رافعا مستقلا. ثمّ
قال :
إنّ الخبر المذكور
إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من
تلك الأقسام الأربعة دون غيره ؛ لأنّ في غيره لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شكّ
في كونه رافعا لم يكن النقض بالشكّ ، بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما شكّ في
__________________
كونه رافعا أو
باليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه ، لا بالشكّ ؛ فإنّ الشكّ في تلك
الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنّما حصل النقض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ؛ لأنّ الشيء
إنّما يستند إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض
اليقين بالشكّ ، وإنّما يكون ذلك في صورة خاصّة دون غيرها . انتهى كلامه ، رفع مقامه.
أقول : ظاهره
تسليم صدق النقض في صورة الشكّ في استمرار الحكم فيما عدا القسم الأوّل أيضا ، وإنّما المانع عدم صدق النقض بالشكّ فيها.
المناقشة فيما أفاده المحقّق السبزواري
|
ويرد عليه :
أوّلا : أنّ الشكّ
واليقين قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيّدة بكونها قبل حدوث ما يشكّ في كونه
رافعا ، ومقيّدة بكونها بعده ، فيتعلّق اليقين بالاولى والشكّ بالثانية ، واليقين
والشكّ بهذه الملاحظة يجتمعان في زمان واحد ـ سواء كان قبل حدوث ذلك الشيء أو بعده
ـ فهذا الشكّ كان حاصلا من قبل ، كما أنّ اليقين باق من بعد.
وقد يلاحظان
بالنسبة إلى الطهارة المطلقة ، وهما بهذا الاعتبار لا يجتمعان في زمان واحد ، بل
الشكّ متأخّر عن اليقين.
__________________
ولا ريب أنّ
المراد باليقين والشكّ في قوله عليهالسلام في صدر الصحيحة المذكورة : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك
فشككت» وغيرها من أخبار الاستصحاب ، هو اليقين والشكّ المتعلّقان بشيء واحد ـ أعني
الطهارة المطلقة ـ وحينئذ فالنقض المنهيّ عنه هو نقض اليقين بالطهارة بهذا الشكّ
المتأخّر المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين.
وأمّا وجود الشيء
المشكوك الرافعيّة ، فهو بوصف الشكّ في كونه رافعا الحاصل من قبل سبب لهذا الشكّ ؛
فإنّ كلّ شكّ لا بدّ له من سبب متيقّن الوجود حتّى الشكّ في وجود الرافع
، فوجود الشيء المشكوك في رافعيّته جزء أخير للعلّة التامّة
للشكّ المتأخّر الناقض ، لا للنقض.
وثانيا : أنّ رفع
اليد عن أحكام اليقين عند الشكّ في بقائه وارتفاعه لا يعقل إلاّ أن يكون مسبّبا عن
نفس الشكّ ؛ لأنّ التوقّف في الزمان اللاحق عن الحكم السابق أو العمل بالاصول
المخالفة له لا يكون إلاّ لأجل الشكّ ، غاية الأمر كون الشيء المشكوك كونه رافعا
منشأ للشكّ. والفرق بين الوجهين : أنّ الأوّل ناظر إلى عدم الوقوع ، والثاني إلى
عدم الإمكان.
وثالثا : سلّمنا
أنّ النقض في هذه الصور ليس بالشكّ ، لكنّه ليس نقضا باليقين بالخلاف ، ولا يخفى
أنّ ظاهر ما ذكره في ذيل الصحيحة : «ولكن تنقضه بيقين آخر» حصر الناقض لليقين
السابق في اليقين
__________________
بخلافه ، وحرمة
النقض بغيره ـ شكّا كان أم يقينا بوجود ما شكّ في كونه رافعا ـ ألا ترى أنّه لو
قيل في صورة الشكّ في وجود الرافع : أنّ النقض بما هو متيقّن من سبب الشكّ لا
بنفسه ، لا يسمع.
وبالجملة : فهذا
القول ضعيف في الغاية ، بل يمكن دعوى الإجماع المركّب بل البسيط على خلافه.
وقد يتوهّم : أنّ مورد صحيحة زرارة الاولى ممّا أنكر
المحقّق المذكور الاستصحاب فيه ؛ لأنّ السؤال فيها عن الخفقة والخفقتين من نقضهما
للوضوء.
وفيه : ما لا يخفى
؛ فإنّ حكم الخفقة والخفقتين قد علم من قوله عليهالسلام : «قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن» ، وإنّما سئل
فيها بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارة على النوم ، مثل : تحريك شيء إلى جنبه وهو
لا يعلم ، فأجاب بعدم اعتبار ما عدا اليقين بقوله عليهالسلام : «لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر
بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين ... الخ».
نعم ، يمكن أن
يلزم المحقّق المذكور ـ كما ذكرنا سابقا ـ بأنّ الشكّ في
أصل النوم في مورد الرواية مسبّب عن وجود ما يوجب الشكّ في تحقّق النوم ، فالنقض
به ، لا بالشكّ ، فتأمّل.
__________________
حجّة القول الحادي عشر
التفصيل المتقدم مع زيادة الشك في مصداق الغاية
|
ما ذكره المحقّق
الخوانساري قدسسره في شرح الدروس ـ عند قول الشهيد قدسسره : «ويجزي ذو
الجهات الثلاث» ـ ما لفظه :
استدلال المحقّق
الخوانساري على هذا القول
|
حجّة القول بعدم
الإجزاء : الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ـ والحجر الواحد لا يسمّى بذلك ـ ،
واستصحاب حكم النجاسة حتّى يعلم لها مطهّر شرعيّ ، وبدون الثلاثة لا يعلم المطهّر
الشرعيّ.
وحسنة ابن المغيرة
وموثّقة ابن يعقوب لا يخرجان عن
الأصل ؛ لعدم صحّة سندهما ، خصوصا مع معارضتهما بالروايات الواردة بالمسح بثلاثة
أحجار.
وأصل البراءة ـ بعد
ثبوت النجاسة ووجوب إزالتها ـ لا يبقى بحاله.
إلى أن قال ـ بعد
منع حجّيّة الاستصحاب ـ :
اعلم أنّ القوم
ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم إلى
قسمين ، باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه إلى شرعيّ وغيره.
فالأوّل ، مثل :
ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان ، فيقولون : إنّ بعد ذلك الزمان يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلم برفعها.
__________________
والثاني ، مثل :
ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، ففي ما بعد ذلك الزمان يجب الحكم برطوبته ما لم
يعلم الجفاف.
فذهب بعضهم إلى
حجّيّته بقسميه ، وذهب بعضهم إلى حجّيّة القسم الأوّل . واستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها ، كلّها قاصرة عن إفادة
المرام ، كما يظهر بالتأمّل فيها. ولم نتعرّض لذكرها هنا ، بل نشير إلى ما هو
الظاهر عندنا في هذا الباب ، فنقول :
إنّ الاستصحاب
بهذا المعنى لا حجّيّة فيه أصلا بكلا قسميه ؛ إذ لا دليل عليه تامّا ، لا عقلا ولا
نقلا. نعم ، الظاهر حجّيّة الاستصحاب بمعنى آخر : وهو أن يكون دليل شرعيّ على أنّ
الحكم الفلانيّ بعد تحقّقه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا أو وقت كذا ـ مثلا ـ معيّن
في الواقع ، بلا اشتراطه بشيء أصلا ، فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم الحكم
باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له ، ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في
وجوده.
والدليل على
حجّيّته أمران :
الأوّل : أنّ هذا
الحكم إمّا وضعيّ ، أو اقتضائيّ ، أو تخييريّ ، ولمّا كان الأوّل عند التحقيق يرجع
إليهما فينحصر في الأخيرين.
وعلى التقديرين
فيثبت ما رمناه :
أمّا على الأوّل ،
فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معيّنة ـ مثلا ـ فعند الشكّ في حدوث تلك
الغاية ، لو لم يمتثل التكليف المذكور
__________________
لم يحصل الظنّ بالامتثال
والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال ، فلا بدّ من بقاء ذلك
التكليف حال الشكّ أيضا ، وهو المطلوب.
وأمّا على الثاني
، فالأمر أظهر ، كما لا يخفى.
والثاني : ما ورد
في الروايات : من أنّ «اليقين لا ينقض بالشكّ».
فإن قلت : هذا كما
يدلّ على المعنى الذي ذكرته ، كذلك يدلّ على المعنى الذي ذكره القوم ؛ لأنّه إذا حصل اليقين في زمان فلا ينبغي أن ينقض في
زمان آخر بالشكّ ، نظرا إلى الروايات ، وهو بعينه ما ذكروه.
قلت : الظاهر أنّ
المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض به ، والمراد بالتعارض
أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ. وفيما ذكروه ليس كذلك ؛ لأنّ اليقين بحكم في
زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ ، وهو ظاهر.
فإن قلت : هل
الشكّ في كون الشيء مزيلا للحكم مع العلم بوجوده كالشكّ في وجود المزيل أو لا؟
قلت : فيه تفصيل ؛
لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمرّ إلى غاية معيّنة في الواقع ، ثمّ علمنا
صدق تلك الغاية على شيء ، وشككنا في صدقها على شيء آخر ، فحينئذ لا ينقض اليقين
بالشكّ.
__________________
وأمّا إذا لم يثبت
ذلك ، بل ثبت أنّ ذلك الحكم مستمرّ في الجملة ، ومزيله الشيء الفلانيّ ، وشككنا في
أنّ الشيء الآخر أيضا يزيله أم لا؟ فحينئذ لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت
استمراره ؛ إذ الدليل الأوّل غير جاز فيه ؛ لعدم ثبوت حكم العقل في مثل هذه الصورة
، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم. والدليل
الثاني ، الحقّ أنّه لا يخلو من إجمال ، وغاية ما يسلّم منها ثبوت الحكم في
الصورتين اللتين ذكرناهما ، وإن كان فيه أيضا بعض المناقشات ، لكنّه لا يخلو عن
تأييد للدليل الأوّل ، فتأمّل.
فإن قلت :
الاستصحاب الذي يدّعونه فيما نحن فيه وأنت منعته ، الظاهر أنّه من قبيل ما اعترفت
به ؛ لأنّ حكم النجاسة ثابت ما لم يحصل مطهّر شرعيّ إجماعا ، وهنا لم يحصل الظنّ
المعتبر شرعا بوجود المطهّر ؛ لأنّ حسنة ابن المغيرة وموثّقة ابن يعقوب ليستا حجّة شرعيّة ، خصوصا مع معارضتهما بالروايات المتقدّمة ، فغاية الأمر
حصول الشكّ بوجود المطهّر ، وهو لا ينقض اليقين .
قلت : كونه من
قبيل الثاني ممنوع ؛ إذ لا دليل على أنّ النجاسة باقية ما لم يحصل مطهّر شرعيّ ،
وما ذكر من الإجماع غير معلوم ؛ لأنّ غاية ما أجمعوا عليه أنّ التغوّط إذا حصل لا
يصحّ الصلاة بدون الماء والتمسّح رأسا ـ لا بالثلاثة ولا بشعب الحجر
الواحد ـ فهذا الإجماع
__________________
لا يستلزم الإجماع
على ثبوت حكم النجاسة حتّى يحدث شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع
مطهّرا ، فلا يكون من قبيل ما ذكرنا.
فإن قلت : هب أنّه
ليس داخلا تحت الاستصحاب المذكور ، لكن نقول : قد ثبت بالإجماع وجوب شيء على
المتغوّط في الواقع ، وهو مردّد بين أن يكون المسح بثلاثة أحجار أو الأعمّ منه ومن
المسح بجهات حجر واحد ، فما لم يأت بالأوّل لم يحصل اليقين بالامتثال والخروج عن
العهدة ، فيكون الإتيان به واجبا.
قلت : نمنع
الإجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مبهم في نظر المكلّف ، بحيث لو لم يأت بذلك
الشيء المعيّن لاستحقّ العقاب ، بل الإجماع على أنّ ترك الأمرين معا سبب لاستحقاق
العقاب ، فيجب أن لا يتركهما.
والحاصل : أنّه
إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن ـ مثلا ـ معلوم عندنا ، أو ثبوت حكم إلى
غاية معيّنة عندنا ، فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك
الشيء المعلوم ، حتّى يتحقّق الامتثال ، ولا يكفي الشكّ في وجوده. وكذا يلزم الحكم
ببقاء ذلك الحكم إلى أن يحصل العلم أو الظنّ بوجود تلك الغاية المعلومة ، ولا يكفي
الشكّ في وجودها في ارتفاع ذلك الحكم.
وكذا إذا ورد نصّ
أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين امور ، ويعلم أنّ ذلك
التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء مثلا ، أو على ثبوت حكم إلى غاية
معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم مثلا ،
يجب الحكم بوجوب
تلك الأشياء المردّدة في نظرنا ، وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الأشياء أيضا ،
ولا يكفي الإتيان بشيء واحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شيء واحد في ارتفاع
الحكم. وسواء في ذلك كون الواجب شيئا معيّنا في الواقع مجهولا عندنا أو أشياء كذلك
، أو غاية معيّنة في الواقع مجهولة عندنا أو غايات كذلك ، وسواء أيضا تحقّق قدر
مشترك بين تلك الأشياء والغايات أو تباينها بالكلّيّة.
وأمّا إذا لم يكن
الأمر كذلك ، بل ورد نصّ ـ مثلا ـ على أنّ الواجب الشيء الفلانيّ ونصّ آخر على أنّ
ذلك الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض الأمّة إلى وجوب شيء وبعض آخر إلى وجوب شيء آخر ،
وظهر ـ بالنصّ و ( الإجماع في الصورتين ـ أنّ ترك ذينك الشيئين معا سبب
لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما معا حتّى يتحقّق الامتثال ،
بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر أم تباينا كلّيّة. وكذلك
الحكم في ثبوت الحكم الكلّي إلى الغاية.
هذا مجمل القول في
هذا المقام. وعليك بالتأمّل في خصوصيّات الموارد ، واستنباط أحكامها عن هذا الأصل
، ورعاية جميع ما يجب رعايته عند تعارض المعارضات. والله الهادي إلى سواء الطريق . انتهى كلامه ، رفع مقامه.
__________________
وحكى السيّد الصدر
في شرح الوافية عنه قدسسره حاشية اخرى له ـ عند قول الشهيد
; : «ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه ... الخ» ـ ما لفظه :
كلام آخر للمحقّق الخوانساري
|
وتوضيحه : أنّ
الاستصحاب لا دليل على حجّيّته عقلا ، وما تمسّكوا به ضعيف. وغاية ما تمسّكوا فيها ما ورد في بعض الروايات الصحيحة : «إنّ اليقين لا ينقض بالشكّ» ، وعلى
تقدير تسليم صحّة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الأصل وعدم منعها ـ بناء على أنّ هذا الحكم الظاهر أنّه من الاصول ، ويشكل التمسّك
بخبر الواحد في الاصول ، إن سلّم التمسّك به في الفروع ـ نقول :
أوّلا : أنّه لا
يظهر شموله للامور الخارجيّة ، مثل رطوبة الثوب ونحوها ؛ إذ يبعد أن يكون مرادهم
بيان الحكم في مثل هذه الامور التي ليست أحكاما شرعيّة ، وإن أمكن أن يصير منشأ
لحكم شرعيّ ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الامور الخارجيّة لا عبرة به.
ثمّ بعد تخصيصه
بالأحكام الشرعيّة ، فنقول : الأمر على وجهين :
أحدهما : أن يثبت
حكم شرعيّ في مورد خاصّ باعتبار حال يعلم من الخارج أنّ زوال تلك الحال لا يستلزم
زوال ذلك الحكم.
والآخر : أن يثبت
باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك.
__________________
مثال الأوّل : إذا
ثبت نجاسة ثوب خاصّ باعتبار ملاقاته للبول ، بأن يستدلّ عليها : بأنّ هذا شيء
لاقاه البول ، وكلّ ما لاقاه البول نجس ، فهذا نجس. والحكم الشرعي النجاسة ،
وثبوته باعتبار حال هو ملاقاة البول ، وقد علم من خارج ـ ضرورة أو إجماعا أو غير
ذلك ـ بأنّه لا يزول النجاسة بزوال الملاقاة فقط.
ومثال الثاني : ما
نحن بصدده ، فإنّه ثبت وجوب الاجتناب عن الإناء المخصوص باعتبار أنّه شيء يعلم
وقوع النجاسة فيه بعينه ، وكلّ شيء كذلك يجب الاجتناب عنه ، ولم يعلم بدليل من
الخارج أنّ زوال ذلك الوصف الذي يحصل باعتبار زوال المعلوميّة بعينه لا دخل له في
زوال ذلك الحكم.
وعلى هذا نقول :
شمول الخبر للقسم الأوّل ظاهر ، فيمكن التمسّك بالاستصحاب فيه. وأمّا القسم الثاني
فالتمسّك فيه مشكل.
فإن قلت : بعد ما
علم في القسم الأوّل أنّه لا يزول الحكم بزوال الوصف ، فأيّ حاجة إلى التمسّك
بالاستصحاب؟ وأيّ فائدة فيما ورد في الأخبار ، من : أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ؟
قلت : القسم
الأوّل على وجهين :
أحدهما : أن يثبت
أنّ الحكم ـ مثل النجاسة بعد الملاقاة ـ حاصل ما لم يرد عليه الماء على الوجه المعتبر في الشرع ، وحينئذ فائدته أنّ عند حصول الشكّ في
ورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة.
والآخر : أن يعلم
ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف ، لكن
__________________
لم يعلم أنّه ثابت
دائما ، أو في بعض الأوقات إلى غاية معيّنة محدودة ، أم لا؟ وفائدته أنّه إذا ثبت الحكم في الجملة فيستصحب إلى أن يعلم المزيل.
ثمّ لا يخفى : أنّ
الفرق الذي ذكرنا ـ من أنّ إثبات مثل هذا بمجرّد الخبر مشكل ، مع انضمام أنّ
الظهور في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل ، وأنّ
اليقين لا ينقض بالشكّ ـ قد يقال : إنّ ظاهره أن يكون اليقين حاصلا ـ لو لا الشكّ
ـ باعتبار دليل دالّ على الحكم في غير صورة ما شكّ فيه ؛ إذ لو فرض عدم دليل لكان
نقض اليقين ـ حقيقة ـ باعتبار عدم الدليل الذي هو دليل العدم ، لا الشكّ ، كأنّه
يصير قريبا. ومع ذلك ينبغي رعاية الاحتياط في كلّ من القسمين ، بل في الامور
الخارجيّة أيضا . انتهى كلامه ، رفع مقامه.
المناقشة فيما أفاده المحقّق الخوانساري
|
أقول : لقد أجاد
فيما أفاد ، وجاء بما فوق المراد ، إلاّ أنّ في كلامه مواقع للتأمّل ، فلنذكر
مواقعه ونشير إلى وجهه ، فنقول :
قوله : «وذهب
بعضهم إلى حجّيّته في القسم الأوّل».
ظاهره ـ كصريح ما
تقدّم منه في حاشيته الاخرى ـ وجود القائل بحجّيّة الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة
الجزئيّة كطهارة هذا الثوب ، والكلّيّة كنجاسة المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وعدم
الحجّيّة في الامور الخارجيّة ، كرطوبة الثوب وحياة زيد.
__________________
وفيه نظر ، يعرف بالتتبّع في كلمات القائلين بحجّيّة الاستصحاب وعدمها ، والنظر في أدلّتهم ،
مع أنّ ما ذكره في الحاشية الأخيرة ـ دليلا لعدم الجريان في الموضوع ـ جار في
الحكم الجزئيّ أيضا ؛ فإنّ بيان وصول النجاسة إلى هذا الثوب الخاصّ واقعا وعدم
وصولها ، وبيان نجاسته المسبّبة عن هذا الوصول وعدمها لعدم الوصول ، كلاهما خارج
عن شأن الشارع ، كما أنّ بيان طهارة الثوب المذكور ظاهرا وبيان عدم وصول النجاسة
إليه ظاهرا ـ الراجع في الحقيقة إلى الحكم بالطهارة ظاهرا ـ ليس إلاّ شأن الشارع ،
كما نبّهنا عليه فيما تقدّم .
قوله : «الظاهر
حجّيّة الاستصحاب بمعنى آخر ... الخ».
وجه مغايرة ما
ذكره لما ذكره المشهور ، هو : أنّ الاعتماد في البقاء عند المشهور على الوجود
السابق ـ كما هو ظاهر قوله : «لوجوده في زمان سابق عليه» ، وصريح قول شيخنا
البهائيّ : «إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأوّل» ـ وليس الأمر كذلك على طريقة شارح الدروس.
قوله قدسسره : «إنّ الحكم
الفلانيّ بعد تحقّقه ثابت إلى حدوث حال
__________________
كذا أو وقت كذا ...
الخ».
أقول : بقاء الحكم
إلى زمان كذا يتصوّر على وجهين :
الأوّل : أن يلاحظ
الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلّق به الحكم الواحد ، كأن يلاحظ الجلوس في
المسجد إلى وقت الزوال فعلا واحدا تعلّق به أحد الأحكام الخمسة ، ومن أمثلته :
الإمساك المستمرّ إلى الليل ؛ حيث إنّه ملحوظ فعلا واحدا تعلّق به الوجوب أو الندب
أو غيرهما من أحكام الصوم.
الثاني : أن يلاحظ
الفعل في كلّ جزء يسعه من الزمان المغيّا موضوعا مستقلا
تعلّق به حكم ، فيحدث في المقام أحكام متعدّدة لموضوعات متعدّدة ، ومن أمثلته :
وجوب الصوم عند رؤية هلال رمضان إلى أن يرى هلال شوّال ؛ فإنّ صوم كلّ يوم إلى
انقضاء الشهر فعل مستقلّ تعلّق به حكم مستقلّ.
أمّا الأوّل ،
فالحكم التكليفيّ : إمّا أمر ، وإمّا نهي ، وإمّا تخيير :
فإن كان أمرا ،
كان اللازم عند الشكّ في وجود الغاية ما ذكره :
من وجوب الإتيان
بالفعل تحصيلا لليقين بالبراءة من التكليف المعلوم ، لكن يجب تقييده بما إذا لم
يعارضه تكليف آخر محدود بما بعد الغاية ، كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال
، ووجب الخروج منه من الزوال إلى الغروب ؛ فإنّ وجوب الاحتياط للتكليف بالجلوس عند
الشكّ في الزوال معارض بوجوب الاحتياط للتكليف بالخروج بعد الزوال ، فلا بدّ من
الرجوع في وجوب الجلوس عند الشكّ في الزوال
__________________
إلى أصل آخر غير
الاحتياط ، مثل : أصالة عدم الزوال ، أو عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس ، أو
عدم حدوث التكليف بالخروج ، أو غير ذلك.
وإن كان نهيا ،
كما إذا حرم الإمساك المحدود بالغاية المذكورة أو الجلوس المذكور ، فإن قلنا
بتحريم الاشتغال ـ كما هو الظاهر ـ كان المتيقّن التحريم قبل الشكّ في وجود الغاية
، وأمّا التحريم بعده فلا يثبت بما ذكر في الأمر ، بل يحتاج إلى الاستصحاب المشهور
، وإلاّ فالأصل الإباحة في صورة الشكّ. وإن قلنا : إنّه لا يتحقّق الحرام ولا
استحقاق العقاب إلاّ بعد تمام الإمساك والجلوس المذكورين ، فيرجع إلى مقتضى أصالة عدم
استحقاق العقاب وعدم تحقّق المعصية ، ولا دخل له بما ذكره في الأمر.
وإن كان تخييرا ،
فالأصل فيه وإن اقتضى عدم حدوث حكم ما بعد الغاية للفعل عند الشكّ فيها ، إلاّ
أنّه قد يكون حكم ما بعد الغاية تكليفا منجّزا يجب فيه الاحتياط ، كما إذا أباح
الأكل إلى طلوع الفجر مع تنجّز وجوب الإمساك من طلوع الفجر إلى الغروب عليه ؛ فإنّ
الظاهر لزوم الكفّ من الأكل عند الشكّ. هذا كلّه إذا لوحظ الفعل المحكوم عليه
بالحكم الاقتضائيّ أو التخييريّ أمرا واحدا مستمرّا.
وأمّا الثاني ،
وهو ما لوحظ فيه الفعل امورا متعدّدة كلّ واحد منها متّصف بذلك الحكم غير مربوط
بالآخر ، فإن كان أمرا أو نهيا فأصالة الإباحة والبراءة قاضية بعدم الوجوب والحرمة
في زمان الشكّ ،
__________________
وكذلك أصالة
الإباحة في الحكم التخييريّ ، إلاّ إذا كان الحكم فيما بعد الغاية تكليفا منجّزا
يجب فيه الاحتياط.
فعلم ممّا ذكرنا :
أنّ ما ذكره من الوجه الأوّل الراجع إلى وجوب تحصيل الامتثال لا يجري إلاّ في قليل
من الصور المتصوّرة في المسألة ، ومع ذلك فلا يخفى أنّ إثبات الحكم في زمان الشكّ
بقاعدة الاحتياط كما في الاقتضائيّ ، أو قاعدة الإباحة والبراءة كما في الحكم
التخييريّ ، ليس قولا بالاستصحاب المختلف فيه أصلا ؛ لأنّ مرجعه إلى أنّ إثبات
الحكم في الزمان الثاني يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ولو كان أصالة الاحتياط أو
البراءة ، وهذا عين إنكار الاستصحاب ؛ لأنّ المنكر يرجع إلى اصول أخر ، فلا حاجة إلى تطويل الكلام وتغيير اسلوب كلام المنكرين
في هذا المقام.
* * *
توجيه ما ذكره المحقق الخوانساري في الحكم التخييري
|
بقي الكلام في
توجيه ما ذكره : من أنّ الأمر في الحكم التخييريّ أظهر ، ولعلّ الوجه فيه : أنّ
الحكم بالتخيير في زمان الشكّ في وجود الغاية مطابق لأصالة الإباحة الثابتة بالعقل
والنقل ، كما أنّ الحكم بالبقاء في الحكم الاقتضائيّ كان مطابقا لأصالة الاحتياط
الثابتة في المقام بالعقل والنقل.
وقد وجّه المحقّق
القمّي قدسسره إلحاق الحكم التخييريّ بالاقتضائيّ : بأنّ مقتضى التخيير
إلى غاية وجوب الاعتقاد بثبوته في كلّ جزء ممّا
__________________
قبل الغاية ، ولا
يحصل اليقين بالبراءة من التكليف باعتقاد التخيير عند الشكّ في حدوث الغاية ، إلاّ
بالحكم بالإباحة واعتقادها في هذا الزمان أيضا .
المناقشة في توجيه المحقّق القمّي
|
وفيه : أنّه إن
اريد وجوب الاعتقاد بكون الحكم المذكور ثابتا إلى الغاية المعيّنة ، فهذا الاعتقاد
موجود ولو بعد القطع بتحقّق الغاية فضلا عن صورة الشكّ فيه ؛ فإنّ هذا اعتقاد
بالحكم الشرعيّ الكلّي ، ووجوبه غير مغيّا بغاية ؛ فإنّ الغاية غاية للمعتقد لا
لوجوب الاعتقاد.
وإن اريد وجوب
الاعتقاد بذلك الحكم التخييريّ في كلّ جزء من الزمان الذي يكون في الواقع ممّا قبل
الغاية وإن لم يكن معلوما عندنا ، ففيه : أنّ وجوب الاعتقاد في هذا الجزء المشكوك
بكون الحكم فيه هو الحكم الأوّليّ أو غيره ممنوع جدّا ، بل الكلام في جوازه ؛
لأنّه معارض بوجوب الاعتقاد بالحكم الآخر الذي ثبت فيما بعد الغاية واقعا وإن لم
يكن معلوما ، بل لا يعقل وجوب الاعتقاد مع الشكّ في الموضوع ، كما لا يخفى.
ولعلّ هذا الموجّه
قدسسره قد وجد عبارة شرح الدروس في نسخته ـ كما وجدته في بعض نسخ شرح الوافية ـ هكذا : «وأمّا على
الثاني فالأمر كذلك» كما لا يخفى ، لكنّي راجعت بعض نسخ شرح الدروس
__________________
فوجدت لفظ «أظهر»
بدل «كذلك» ، وحينئذ فظاهره مقابلة وجه الحكم بالبقاء في التخيير بوجه
الحكم بالبقاء في الاقتضاء ، فلا وجه لإرجاع أحدهما إلى الآخر.
والعجب من بعض
المعاصرين : حيث أخذ التوجيه المذكور عن القوانين ، ونسبه إلى
المحقّق الخوانساريّ ، فقال :
حجّة المحقّق
الخوانساريّ أمران : الأخبار ، وأصالة الاشتغال. ثمّ أخذ في إجراء أصالة الاشتغال
في الحكم التخييريّ بما وجّهه في القوانين ، ثمّ أخذ في الطعن عليه.
وأنت خبير : بأنّ
الطعن في التوجيه ، لا في حجّة المحقّق ، بل لا طعن في التوجيه أيضا ؛ لأنّ غلط
النسخة ألجأه إليه.
ما أورده السيد الصدر على المحقق الخوانساري
|
هذا ، وقد أورد
عليه السيّد الشارح : بجريان ما ذكره من قاعدة وجوب تحصيل الامتثال في استصحاب
القوم ، قال :
بيانه : أنّا كما
نجزم ـ في الصورة التي فرضها ـ بتحقّق الحكم في قطعة من الزمان ، ونشكّ أيضا ـ حين
القطع ـ في تحقّقه في زمان يكون حدوث الغاية فيه وعدمه متساويين عندنا ، فكذلك
نجزم بتحقّق الحكم في زمان لا يمكن تحقّقه إلاّ فيه ، ونشكّ ـ حين القطع ـ في
تحقّقه في زمان متّصل بذلك الزمان ؛ لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علّة الوجود
، وكما أنّ في الصورة الاولى يكون الدليل محتملا لأن يراد منه
__________________
وجود الحكم في
زمان الشكّ وأن يراد عدم وجوده ، فكذلك الدليل في الصورة التي فرضناها ، وحينئذ
فنقول : لو لم يمتثل المكلّف لم يحصل الظنّ بالامتثال ... إلى آخر ما ذكره ، انتهى.
أقول : وهذا
الإيراد ساقط عن المحقّق ؛ لعدم جريان قاعدة الاشتغال في غير الصورة التي فرضها
المحقّق ، مثلا : إذا ثبت وجوب الصوم في الجملة ، وشككنا في أنّ غايته سقوط القرص
أو ميل الحمرة المشرقيّة ، فاللازم حينئذ ـ على ما صرّح به المحقّق المذكور في
عدّة مواضع من كلماته ـ الرجوع في نفي الزائد ، وهو وجوب الإمساك بعد سقوط القرص ،
إلى أصالة البراءة ؛ لعدم ثبوت التكليف بإمساك أزيد من المقدار المعلوم ، فيرجع
إلى مسألة الشكّ في الجزئيّة ، فلا يمكن أن يقال : إنّه لو لم يمتثل التكليف لم
يحصل الظنّ بالامتثال ؛ لأنّه إن اريد امتثال التكليف المعلوم فقد حصل قطعا ، وإن
اريد امتثال التكليف المحتمل فتحصيله غير لازم.
وهذا بخلاف فرض
المحقّق ؛ فإنّ التكليف بالإمساك ـ إلى السقوط على القول به أو ميل الحمرة على
القول الآخر ـ معلوم مبيّن ، وإنّما الشكّ في الإتيان به عند الشكّ في حدوث
الغاية. فالفرق بين مورد استصحابه ومورد استصحاب القوم ، كالفرق بين الشكّ في
إتيان الجزء المعلوم الجزئيّة والشكّ في جزئيّة شيء ، وقد تقرّر في محلّه جريان
أصالة الاحتياط في الأوّل دون الثاني .
__________________
وقس على ذلك سائر
موارد استصحاب القوم ، كما لو ثبت أنّ للحكم غاية وشككنا في كون شيء آخر أيضا غاية
له ، فإنّ المرجع في الشكّ في ثبوت الحكم بعد تحقّق ما شكّ في كونه غاية عند
المحقّق الخوانساريّ قدسسره هي أصالة البراءة دون الاحتياط.
رجوع إلى كلام المحقق الخوانساري
|
قوله : «الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض ،
ومعنى التعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ».
أقول : ظاهر هذا
الكلام جعل تعارض اليقين والشكّ باعتبار تعارض المقتضي لليقين ونفس الشكّ ، على أن
يكون الشكّ مانعا عن اليقين ، فيكون من قبيل تعارض المقتضي للشيء والمانع عنه.
والظاهر أنّ المراد بالموجب في كلامه دليل اليقين السابق ، وهو الدالّ على استمرار
حكم إلى غاية معيّنة.
وحينئذ فيرد عليه
ـ مضافا إلى أنّ التعارض الذي استظهره من لفظ «النقض» لا بدّ أن يلاحظ بالنسبة إلى
الناقض ونفس المنقوض ، لا مقتضيه الموجب له لو لا الناقض ـ : أنّ نقض اليقين
بالشكّ ـ بعد صرفه عن ظاهره ، وهو نقض صفة اليقين أو أحكامه الثابتة له من حيث هي
صفة من الصفات ؛ لارتفاع اليقين وأحكامه الثابتة له من حيث هو حين الشكّ قطعا ـ ظاهر
في نقض أحكام اليقين ، يعني : الأحكام الثابتة باعتباره للمتيقّن أعني المستصحب ،
فيلاحظ التعارض حينئذ بين
__________________
المنقوض والناقض ،
واللازم من ذلك اختصاص الأخبار بما يكون المتيقّن وأحكامه ممّا يقتضي بنفسه
الاستمرار لو لا الرافع ، فلا ينقض تلك الأحكام بمجرّد الشكّ في الرافع ، سواء كان
الشكّ في وجود الرافع أو في رافعيّة الموجود. وبين هذا وما ذكره المحقّق تباين جزئيّ.
ثمّ إنّ تعارض
المقتضي لليقين ونفس الشكّ لم يكد يتصوّر فيما نحن فيه ؛ لأنّ اليقين بالمستصحب ـ كوجوب
الإمساك في الزمان السابق ـ كان حاصلا من اليقين بمقدّمتين : صغرى وجدانيّة ، وهي «أنّ
هذا الآن لم يدخل الليل» ، وكبرى مستفادة من دليل استمرار الحكم إلى غاية معيّنة ،
وهي «وجوب الإمساك قبل أن يدخل الليل» و المراد بالشكّ زوال اليقين بالصغرى ، وهو ليس من قبيل المانع عن اليقين ،
والكبرى من قبيل المقتضي له ، حتّى يكونا من قبيل المتعارضين ، بل نسبة اليقين إلى
المقدّمتين على نهج سواء ، كلّ منهما من قبيل جزء المقتضي له.
والحاصل : أنّ
ملاحظة النقض بالنسبة إلى الشكّ وأحكام المتيقّن الثابتة لأجل اليقين أولى من
ملاحظته بالنسبة إلى الشكّ ودليل اليقين.
وأمّا توجيه كلام
المحقّق : بأن يراد من موجب اليقين دليل
__________________
المستصحب وهو عموم
الحكم المغيّا ، ومن الشكّ احتمال الغاية التي من مخصّصات العامّ ، فالمراد عدم نقض عموم دليل المستصحب بمجرّد الشكّ في
المخصّص.
فمدفوع : بأنّ نقض
العامّ باحتمال التخصيص إنّما يتصوّر في الشكّ في أصل التخصيص ، ومعه يتمسّك بعموم
الدليل لا بالاستصحاب ، وأمّا مع اليقين بالتخصيص والشكّ في تحقّق المخصّص
المتيقّن ـ كما في ما نحن فيه ـ فلا مقتضي للحكم العامّ حتّى يتصوّر نقضه ؛ لأنّ
العامّ المخصّص لا اقتضاء فيه لثبوت الحكم في مورد الشكّ في تحقّق المخصّص ، خصوصا
في مثل التخصيص بالغاية.
والحاصل : أنّ
المقتضي والمانع في باب العامّ والخاصّ هو لفظ العامّ والمخصّص ، فإذا احرز
المقتضي وشكّ في وجود المخصّص يحكم بعدمه عملا بظاهر العامّ ، وإذا علم بالتخصيص
وخروج اللفظ عن ظاهر العموم ثمّ شكّ في صدق المخصّص على شيء ، فنسبة دليلي العموم
والتخصيص إليه على السواء من حيث الاقتضاء.
هذا كلّه ، مع أنّ
ما ذكره في معنى «النقض» لا يستقيم في قوله عليهالسلام في ذيل الصحيحة : «ولكن ينقضه
بيقين آخر» ، وقوله عليهالسلام في الصحيحة المتقدّمة الواردة في الشكّ
بين الثلاث والأربع : «ولكن
__________________
ينقض الشكّ
باليقين» ، بل ولا في صدرها المصرّح بعدم نقض اليقين بالشكّ ؛ فإنّ المستصحب في
موردها : إمّا عدم فعل الزائد ، وإمّا عدم براءة الذمّة من الصلاة ـ كما تقدّم ـ ، ومن المعلوم أنّه ليس في شيء منهما دليل يوجب اليقين لو لا الشكّ.
قوله ـ في جواب السؤال ـ : «قلت : فيه تفصيل ... إلى آخر الجواب».
أقول : إنّ
النجاسة فيما ذكره من الفرض ـ أعني موضع الغائط ـ مستمرّة ، وثبت أنّ التمسّح
بثلاثة أحجار مزيل لها ، وشكّ أنّ التمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات مزيل أيضا أم
لا؟ فإذا ثبت وجوب إزالة النجاسة ، والمفروض الشكّ في تحقّق الإزالة بالتمسّح
بالحجر الواحد ذي الجهات ، فمقتضى دليله هو وجوب تحصيل اليقين أو الظنّ المعتبر
بالزوال ، وفي مثل هذا المقام لا يجري أصالة البراءة ولا أدلّتها ؛ لعدم وجود
القدر المتيقّن في المأمور به وهي الإزالة وإن كان ما يتحقّق به مردّدا بين الأقلّ
والأكثر ، لكن هذا الترديد ليس في نفس المأمور به ، كما لا يخفى. نعم ، لو فرض
أنّه لم يثبت الأمر بنفس الإزالة ، وإنّما ثبت بالتمسّح بثلاثة أحجار أو بالأعمّ
منه ومن التمسّح بذي الجهات ، أمكن بل لم يبعد إجراء أصالة البراءة عمّا عدا
الأعمّ.
والحاصل : أنّه
فرق بين الأمر بإزالة النجاسة من الثوب ، المردّدة بين غسله مرّة أو مرّتين ، وبين
الأمر بنفس الغسل المردّد بين المرّة
__________________
والمرّتين. والذي
يعيّن كون مسألة التمسّح من قبيل الأوّل دون الثاني هو ما استفيد من أدلّة وجوب
إزالة النجاسة عن الثوب والبدن للصلاة ، مثل قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) ، وقوله عليهالسلام في صحيحة زرارة : «لا صلاة إلاّ بطهور» بناء على شمول الطهور ـ ولو بقرينة ذيله الدالّ على كفاية الأحجار من
الاستنجاء ـ للطهارة الخبثيّة ، ومثل الإجماعات المنقولة على وجوب إزالة النجاسة
عن الثوب والبدن للصلاة.
وهذا المعنى وإن
لم يدلّ عليه دليل صحيح السند والدلالة على وجه يرتضيه المحقّق المذكور ، بل ظاهر أكثر الأخبار الأمر بنفس الغسل ، إلاّ أنّ الإنصاف وجود الدليل على
وجوب نفس الإزالة ، وأنّ الأمر بالغسل في الأخبار ليس لاعتباره بنفسه في الصلاة ،
وإنّما هو أمر مقدّميّ لإزالة النجاسة ، مع أنّ كلام المحقّق المذكور لا يختصّ
بالمثال الذي ذكره حتّى يناقش فيه.
وبما ذكرنا يظهر
ما في قوله في جواب الاعتراض الثاني ـ بأنّ مسألة
الاستنجاء من قبيل ما نحن فيه ـ ما لفظه : «غاية ما أجمعوا
__________________
عليه : أنّ
التغوّط متى حصل لا يصحّ الصلاة بدون الماء والتمسّح رأسا ـ لا بالثلاث ولا بشعب
الحجر الواحد ـ وهذا لا يستلزم الإجماع على ثبوت النجاسة حتّى يحصل شيء معيّن في
الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهّرا ... الخ» .
ويظهر ما في قوله
جوابا عن الاعتراض الأخير : «إنّه لم يثبت الإجماع على وجوب شيء معيّن بحيث لو لم
يأت بذلك الشيء لاستحقّ العقاب ... الخ» .
وما في كلامه
المحكيّ في حاشية شرحه على قول الشهيد قدسسره : «ويحرم استعمال
الماء النجس والمشتبه ...».
أقوى الأقوال القول التاسع ، وبعده المشهور
|
وأنت إذا أحطت
خبرا بما ذكرنا في أدلّة الأقوال ، علمت أنّ الأقوى منها القول التاسع ، وبعده
القول المشهور ، والله العالم بحقائق الامور.
__________________
وينبغي التنبيه
على امور :
وهي بين ما يتعلّق
بالمتيقّن السابق ، وما يتعلّق بدليله الدالّ عليه ، وما يتعلّق بالشكّ اللاحق في
بقائه.
الأوّل :
أنّ المتيقّن
السابق إذا كان كلّيّا في ضمن فرد وشكّ في بقائه :
فإمّا أن يكون
الشكّ من جهة الشكّ في بقاء ذلك الفرد.
وإمّا أن يكون من
جهة الشكّ في تعيين ذلك الفرد وتردّده بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع كذلك.
وإمّا أن يكون من
جهة الشكّ في وجود فرد آخر مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد.
جواز استصحاب الكلّي والفرد في القسم الأوّل
|
أمّا الأوّل ، فلا
إشكال في جواز استصحاب الكلّيّ ونفس الفرد وترتيب أحكام كلّ منهما عليه.
جواز استصحاب
الكلّي في القسم الثاني دون الفرد
|
وأمّا الثاني ،
فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلّيّ مطلقا على المشهور . نعم ، لا يتعيّن بذلك أحكام الفرد الباقي .
__________________
سواء كان الشكّ من
جهة الرافع ، كما إذا علم بحدوث البول أو المنيّ ولم يعلم الحالة السابقة وجب الجمع بين الطهارتين ، فإذا فعل إحداهما وشكّ في رفع الحدث فالأصل بقاؤه ،
وإن كان الأصل عدم تحقّق الجنابة ، فيجوز له ما يحرم على الجنب.
أم كان الشكّ من
جهة المقتضي ، كما لو تردّد من في الدار بين كونه حيوانا لا يعيش إلاّ سنة وكونه
حيوانا يعيش مائة سنة ، فيجوز بعد السنة الاولى استصحاب الكلّيّ المشترك بين
الحيوانين ، ويترتّب عليه آثاره الشرعيّة الثابتة دون آثار شيء من الخصوصيّتين ،
بل يحكم بعدم كلّ منهما لو لم يكن مانع عن إجراء الأصلين ، كما في الشبهة
المحصورة.
توهّم عدم جريان استصحاب الكلّي في هذا القسم ودفعه
|
وتوهّم : عدم
جريان الأصل في القدر المشترك ؛ من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء ، وما هو
مشكوك الحدوث ، وهو محكوم بالانتفاء بحكم الأصل .
مدفوع : بأنّه لا
يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشكّ في بقائه وارتفاعه ، إمّا لعدم استعداده وإمّا
لوجود الرافع .
كاندفاع توهّم : كون الشكّ في بقائه مسبّبا عن الشكّ في
__________________
حدوث ذلك المشكوك
الحدوث ، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه ارتفاع القدر
المشترك ؛ لأنّه من آثاره ؛ فإنّ ارتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث ذلك
الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر. نعم ، اللازم من عدم
حدوثه هو عدم وجود ما في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا ارتفاع
القدر المشترك بين الأمرين ، وبينهما فرق واضح ؛ ولذا ذكرنا أنّه تترتّب عليه
أحكام عدم وجود الجنابة في المثال المتقدّم.
ظاهر المحقّق القمّي عدم الجريان
|
ويظهر من المحقّق
القمّي ; في القوانين ـ مع قوله بحجّيّة الاستصحاب على الإطلاق ـ عدم جواز إجراء
الاستصحاب في هذا القسم ، ولم أتحقّق وجهه. قال :
إنّ الاستصحاب
يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابليّة الامتداد وملاحظة الغلبة فيه ، فلا بدّ من
التأمّل في أنّه كلّيّ أو جزئيّ ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أوّلا مفهوما
كلّيّا مردّدا بين امور ، وقد يكون جزئيّا حقيقيّا معيّنا ، وبذلك يتفاوت الحال ؛
إذ قد يختلف أفراد الكلّيّ في قابلية الامتداد ومقداره ، فالاستصحاب حينئذ ينصرف
إلى أقلّها استعدادا للامتداد.
ثمّ ذكر حكاية
تمسّك بعض أهل الكتاب لإثبات نبوّة نبيّه بالاستصحاب ، وردّ بعض معاصريه له بما لم يرتضه الكتابيّ ، ثمّ ردّه
__________________
بما ادّعى ابتناءه
على ما ذكره من ملاحظة مقدار القابليّة.
ثمّ أوضح ذلك
بمثال ، وهو : أنّا إذا علمنا أنّ في الدار حيوانا ، لكن لا نعلم أنّه أيّ نوع هو
، من الطيور أو البهائم أو الحشار أو الديدان؟ ثمّ غبنا عن ذلك مدّة ، فلا يمكن
لنا الحكم ببقائه في مدّة يعيش فيها أطول الحيوان عمرا ، فإذا احتمل كون الحيوان
الخاصّ في البيت عصفورا أو فأرة أو دود قزّ ، فكيف يحكم ـ بسبب العلم بالقدر
المشترك ـ باستصحابها إلى حصول زمان ظنّ بقاء أطول الحيوانات عمرا؟! قال : وبذلك
بطل تمسّك الكتابيّ ، انتهى.
المناقشة فيما أفاده المحقق القمي
|
أقول : إنّ ملاحظة
استعداد المستصحب واعتباره في الاستصحاب ـ مع أنّه مستلزم لاختصاص اعتبار
الاستصحاب بالشكّ في الرافع ـ موجب لعدم انضباط الاستصحاب ؛ لعدم استقامة إرادة استعداده
من حيث شخصه ، ولا أبعد الأجناس ، ولا أقرب الأصناف ، ولا ضابط لتعيين
المتوسّط ، والإحالة على الظنّ الشخصيّ قد عرفت ما فيه سابقا ، مع أنّ اعتبار الاستصحاب عند هذا المحقّق لا يختصّ دليله بالظنّ ، كما
اعترف به سابقا ، فلا مانع من استصحاب وجود الحيوان في الدار إذا ترتّب
اثر شرعيّ على وجود مطلق الحيوان فيها.
__________________
ثمّ إنّ ما ذكره :
من ابتناء جواب الكتابيّ على ما ذكره ، سيجيء ما فيه مفصّلا إن شاء الله تعالى.
القسم الثالث من استصحاب الكلّي وفيه قسمان
|
وأمّا الثالث ـ وهو
ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّيّ مستندا إلى احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم
حدوثه وارتفاعه ـ فهو على قسمين ؛ لأنّ الفرد الآخر : إمّا أن يحتمل وجوده مع ذلك
الفرد المعلوم حاله.
وإمّا أن يحتمل حدوثه بعده ، إمّا بتبدّله إليه وإمّا بمجرّد حدوثه مقارنا لارتفاع ذلك
الفرد.
هل يجرى الاستصحاب في القسمين أو لا يجري في كليهما أو فيه تفصيل؟
|
وفي جريان استصحاب
الكلّيّ في كلا القسمين ؛ نظرا إلى تيقّنه سابقا وعدم العلم بارتفاعه ، وإن علم
بارتفاع بعض وجوداته وشكّ في حدوث ما عداه ؛ لأنّ ذلك مانع من إجراء الاستصحاب في
الأفراد دون الكلّيّ ، كما تقدّم نظيره في القسم الثاني.
أو عدم جريانه
فيهما ؛ لأنّ بقاء الكلّيّ في الخارج عبارة عن استمرار وجوده الخارجيّ المتيقّن سابقا ، وهو معلوم العدم ، وهذا هو الفارق بين ما نحن فيه والقسم
الثاني ؛ حيث إنّ الباقي في الآن اللاحق بالاستصحاب هو عين الوجود المتيقّن سابقا.
__________________
أو التفصيل بين
القسمين ، فيجري في الأوّل ؛ لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود
سابقا ، فيتردّد الكلّيّ المعلوم سابقا بين أن يكون وجوده الخارجيّ على نحو لا
يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه ، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع
ذلك الفرد ، فالشكّ حقيقة إنّما هو في مقدار استعداد ذلك الكلّيّ ، واستصحاب عدم
حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلّيّ.
وجوه ، أقواها
الأخير.
استثناء مورد
واحد من القسم الثاني
|
ويستثنى من عدم
الجريان في القسم الثاني ، ما يتسامح فيه العرف فيعدّون
الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، مثل : ما لو علم السواد الشديد
في محلّ وشكّ في تبدّله بالبياض أو بسواد أضعف من الأوّل ، فإنّه يستصحب السواد.
وكذا لو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشكّ ، ثمّ شكّ ـ من جهة اشتباه المفهوم أو
المصداق ـ في زوالها أو تبدّلها إلى مرتبة دونها. أو علم إضافة المائع ، ثمّ شكّ
في زوالها أو تبدّلها إلى فرد آخر من المضاف.
العبرة في جريان الاستصحاب
|
وبالجملة :
فالعبرة في جريان الاستصحاب عدّ الموجود السابق مستمرّا إلى اللاحق ، ولو كان
الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق ؛ ولذا لا إشكال في
استصحاب الأعراض ، حتّى على القول فيها بتجدّد الأمثال . وسيأتي ما يوضح عدم ابتناء
__________________
الاستصحاب على
المداقّة العقليّة .
ثمّ إنّ للفاضل
التونيّ كلاما يناسب المقام ـ مؤيّدا لبعض ما ذكرناه ـ وإن لم يخل بعضه عن النظر
بل المنع. قال في ردّ تمسّك المشهور في نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية
:
كلام الفاضل التوني تأييدا لبعض ما ذكرنا
|
إنّ عدم
المذبوحيّة لازم لأمرين : الحياة ، والموت حتف الأنف. والموجب للنجاسة ليس هذا
اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني ، أعني : الموت حتف الأنف ، فعدم المذبوحيّة
لازم أعمّ لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحيّة العارض للموت حتف أنفه. والمعلوم ثبوته في
الزمان السابق هو الأوّل لا الثاني ، وظاهر أنّه غير باق في الزمان الثاني ، ففي
الحقيقة يخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ؛ إذ شرطه بقاء الموضوع ، وعدمه هنا
معلوم. قال :
وليس مثل المتمسّك
بهذا الاستصحاب إلاّ مثل من تمسّك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل. وفساده
غنيّ عن البيان ، انتهى.
بعض المناقشات فيما أفاد الفاضل التوني
|
أقول : ولقد أجاد
فيما أفاد ، من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ونظيره ، إلاّ أنّ نظر
المشهور ـ في تمسّكهم على النجاسة ـ إلى أنّ
__________________
النجاسة إنّما
رتّبت في الشرع على مجرّد عدم التذكية ، كما يرشد إليه قوله تعالى : (إِلاَّ
ما ذَكَّيْتُمْ) ، الظاهر في أنّ المحرّم إنّما هو لحم الحيوان الذي لم يقع عليه التذكية
واقعا أو بطريق شرعيّ ولو كان أصلا ، وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، وقوله عليهالسلام في ذيل موثّقة ابن بكير : «إذا كان ذكيّا ذكّاه الذابح» ، وبعض الأخبار المعلّلة لحرمة الصيد الذي ارسل إليه كلاب ولم يعلم أنّه مات
بأخذ المعلّم ، بالشكّ في استناد موته إلى المعلّم ، إلى غير ذلك ممّا اشترط فيه العلم باستناد القتل إلى الرمي ، والنهي عن
الأكل مع الشكّ.
ولا ينافي ذلك ما
دلّ على كون حكم النجاسة مرتّبا على موضوع «الميتة» بمقتضى أدلّة نجاسة الميتة ؛ لأنّ «الميتة» عبارة عن
__________________
كلّ ما لم يذكّ ؛
لأنّ التذكية أمر شرعيّ توقيفيّ ، فما عدا المذكّى ميتة .
والحاصل : أنّ
التذكية سبب للحلّ والطهارة ، فكلّما شكّ فيه أو في مدخليّة شيء فيه ، فأصالة عدم
تحقّق السبب الشرعيّ حاكمة على أصالة الحلّ والطهارة.
ثمّ إنّ الموضوع
للحلّ والطهارة ومقابليهما هو اللحم أو المأكول ، فمجرّد تحقّق عدم التذكية في
اللحم يكفي في الحرمة والنجاسة.
لكنّ الإنصاف :
أنّه لو علّق حكم النجاسة على ما مات حتف الأنف ـ لكون الميتة عبارة عن هذا المعنى
، كما يراه بعض ـ أشكل إثبات الموضوع بمجرّد
أصالة عدم التذكية الثابتة حال الحياة ؛ لأنّ عدم التذكية السابق حال الحياة ،
المستصحب إلى زمان خروج الروح لا يثبت كون الخروج حتف الأنف ، فيبقى
أصالة عدم حدوث سبب نجاسة اللحم ـ وهو الموت حتف الأنف ـ سليمة عن المعارض ، وإن
لم يثبت به التذكية ، كما زعمه السيّد الشارح للوافية ، فذكر : أنّ أصالة عدم
التذكية تثبت الموت حتف الأنف ، وأصالة عدم الموت حتف الأنف تثبت التذكية .
__________________
فيكون وجه الحاجة
إلى إحراز التذكية ـ مع أنّ الإباحة والطهارة لا تتوقّفان عليه ، بل يكفي
استصحابهما ـ أنّ استصحاب عدم التذكية حاكم على استصحابهما ، فلو لا ثبوت التذكية
بأصالة عدم الموت حتف الأنف لم يكن مستند للإباحة والطهارة.
وكأنّ السيّد قدسسره ذكر هذا ؛ لزعمه
أنّ مبنى تمسّك المشهور على إثبات الموت حتف الأنف بأصالة عدم التذكية ، فيستقيم
حينئذ معارضتهم بما ذكره السيّد قدسسره ، فيرجع بعد التعارض إلى قاعدتي «الحلّ» و «الطهارة»
واستصحابهما.
لكن هذا كلّه
مبنيّ على ما فرضناه : من تعلّق الحكم على الميتة ، والقول بأنّها ما زهق روحه
بحتف الأنف.
أمّا إذا قلنا
بتعلّق الحكم على لحم لم يذكّ حيوانه أو لم يذكر اسم
الله عليه ، أو تعلّق الحلّ على ذبيحة المسلم و ( ما ذكر اسم الله عليه المستلزم لانتفائه بانتفاء أحد الأمرين ولو بحكم الأصل
ـ ولا ينافي ذلك تعلّق الحكم في بعض الأدلّة الأخر بالميتة ، ولا ما علّق فيه
الحلّ على ما لم يكن ميتة ، كما في آية : (قُلْ لا أَجِدُ ...) الآية ـ ، أو قلنا : إنّ الميتة هي ما زهق روحه مطلقا ، خرج منه ما ذكّي ، فإذا شكّ
في عنوان المخرج فالأصل عدمه ، فلا محيص عن قول المشهور.
ثمّ إنّ ما ذكره
الفاضل التونيّ ـ من عدم جواز إثبات عمرو
__________________
باستصحاب الضاحك
المحقّق في ضمن زيد ـ صحيح ، وقد عرفت أنّ عدم جواز استصحاب نفس الكلّي ـ وإن لم
يثبت به خصوصيّة ـ لا يخلو عن وجه ، وإن كان الحقّ فيه التفصيل ، كما عرفت .
المناقشة في ما مثل به الفاضل التوني لما نحن فيه
|
إلاّ أنّ كون عدم
المذبوحيّة من قبيل الضاحك محلّ نظر ؛ من حيث إنّ العدم الأزليّ مستمرّ مع حياة
الحيوان وموته حتف الأنف ، فلا مانع من استصحابه وترتيب أحكامه عليه عند الشكّ ،
وإن قطع بتبادل الوجودات المقارنة له ، بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في
القسمين الأوّلين من الكلّيّ كان الاستصحاب في الأمر العدميّ المقارن للوجودات
خاليا عن الإشكال إذا لم يرد به إثبات الموجود المتأخّر المقارن له ـ نظير إثبات
الموت حتف الأنف بعدم التذكية ـ أو ارتباط الموجود المقارن له به ، كما إذا فرض
الدليل على أنّ كلّ ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن حيضا فهو استحاضة ، فإنّ
استصحاب عدم الحيض في زمان خروج الدم المشكوك لا يوجب انطباق هذا السلب على ذلك
الدم وصدقه عليه ، حتّى يصدق «ليس بحيض» على هذا الدم ، فيحكم عليه بالاستحاضة ؛
إذ فرق بين الدم المقارن لعدم الحيض وبين الدم المنفيّ عنه الحيضيّة.
وسيجيء نظير هذا الاستصحاب الوجوديّ والعدميّ في الفرق
__________________
بين الماء المقارن
لوجود الكرّ وبين الماء المتّصف بالكرّيّة.
والمعيار : عدم
الخلط بين المتّصف بوصف عنواني وبين قيام ذلك الوصف بمحلّ ؛ فإنّ استصحاب وجود
المتّصف أو عدمه لا يثبت كون المحلّ موردا لذلك الوصف العنوانيّ ، فافهم.
__________________
الأمر الثاني
هل يجري الاستصحاب في الزمان والزمانيّات؟
|
أنّه قد علم من
تعريف الاستصحاب وأدلّته أنّ مورده الشكّ في البقاء ، وهو وجود ما كان موجودا في
الزمان السابق. ويترتّب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ، ولا في الزمانيّ
الذي لا استقرار لوجوده بل يتجدّد شيئا فشيئا على التدريج ، وكذا في المستقرّ الذي
يؤخذ قيدا له. إلاّ أنّه يظهر من كلمات جماعة جريان الاستصحاب
في الزمان ، فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى ، بل تقدّم من بعض الأخباريين :
أنّ استصحاب الليل والنهار من الضروريّات .
الأقسام ثلاثة : ١
ـ استصحاب نفس الزمان
|
والتحقيق : أنّ
هنا أقساما ثلاثة :
أمّا نفس الزمان ،
فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء
الليل أو النهار ؛ لأنّ نفس الجزء لم يتحقّق في السابق ، فضلا عن وصف كونه نهارا
أو ليلا.
__________________
نعم لو اخذ
المستصحب مجموع الليل أو النهار ، ولوحظ كونه أمرا خارجيّا واحدا ، وجعل بقاؤه
وارتفاعه عبارة عن عدم تحقّق جزئه الأخير وتحقّقه أو عن عدم تجدّد جزء مقابله وتجدّده ، أمكن القول بالاستصحاب بهذا المعنى فيه
أيضا ؛ لأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما يتصوّره العرف له من الوجود ، فيصدق أنّ الشخص كان على يقين من وجود الليل
فشكّ فيه ، فالعبرة بالشكّ في وجوده والعلم بتحقّقه قبل زمان الشكّ وإن كان تحقّقه
بنفس تحقّق زمان الشكّ. وإنّما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة
هذا المعنى في الزمانيّات ، حيث جعلوا الكلام في استصحاب الحال ، أو لتعميم البقاء لمثل هذا مسامحة.
إلاّ أنّ هذا
المعنى ـ على تقدير صحّته والإغماض عمّا فيه ـ لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء
المشكوك فيه متّصفا بكونه من النهار أو من الليل ، حتّى يصدق على الفعل الواقع فيه
أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّ على القول بالأصل المثبت مطلقا أو على بعض
الوجوه الآتية ، ولو بنينا على ذلك أغنانا عمّا ذكر من التوجيه استصحابات
__________________
آخر في امور متلازمة مع الزمان ، كطلوع الفجر ، وغروب الشمس ، وذهاب الحمرة ، وعدم
وصول القمر إلى درجة يمكن رؤيته فيها.
فالأولى : التمسّك
في هذا المقام باستصحاب الحكم المترتّب على الزمان لو كان جاريا فيه ، كعدم تحقّق حكم الصوم والإفطار عند الشكّ في هلال رمضان
أو شوّال ، ولعلّه المراد بقوله عليهالسلام في المكاتبة المتقدّمة في أدلّة
الاستصحاب : «اليقين لا يدخله الشّكّ ، صم للرّؤية وأفطر للرّؤية» ، إلاّ أنّ جواز
الإفطار للرؤية لا يتفرّع على الاستصحاب الحكميّ ، إلاّ بناء على
جريان استصحاب الاشتغال والتكليف بصوم رمضان ، مع أنّ الحقّ في مثله التمسّك
بالبراءة ؛ لكون صوم كلّ يوم واجبا مستقلا.
٢
ـ استصحاب الامور التدريجيّة غير القارّة
|
وأمّا القسم
الثاني ، أعني : الامور التدريجيّة الغير القارّة ـ كالتكلّم
والكتابة والمشي ونبع الماء من العين وسيلان دم الحيض من الرحم ـ فالظاهر جواز
إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها أمرا واحدا
مستمرّا ، نظير ما ذكرناه في نفس الزمان ، فيفرض التكلّم ـ مثلا ـ مجموع أجزائه
أمرا واحدا ، والشكّ في بقائه لأجل الشكّ في قلّة أجزاء
__________________
ذلك الفرد الموجود
منه في الخارج وكثرتها ، فيستصحب القدر المشترك المردّد بين قليل الأجزاء وكثيرها.
ودعوى : أنّ الشكّ
في بقاء القدر المشترك ناش عن حدوث جزء آخر من الكلام ، والأصل عدمه المستلزم
لارتفاع القدر المشترك ، فهو من قبيل القسم الثالث من
الأقسام المذكورة في الأمر السابق.
مدفوعة : بأنّ
الظاهر كونه من قبيل الأوّل من تلك الأقسام الثلاثة ؛ لأنّ المفروض في توجيه
الاستصحاب جعل كلّ فرد من التكلّم مجموع ما يقع في الخارج من الأجزاء التي يجمعها
رابطة توجب عدّها شيئا واحدا وفردا من الطبيعة ، لا جعل كلّ قطعة من الكلام الواحد
فردا واحدا حتّى يكون بقاء الطبيعة بتبادل أفراده ، غاية الأمر كون المراد بالبقاء
هنا وجود المجموع في الزمان الأوّل بوجود جزء منه ووجوده في الزمان الثاني بوجود
جزء آخر منه. والحاصل : أنّ المفروض كون كلّ قطعة جزء من الكلّ ، لا جزئيّا من
الكلّيّ.
هذا ، مع ما عرفت
ـ في الأمر السابق ـ من جريان الاستصحاب فيما كان من القسم الثالث فيما إذا
لم يعدّ الفرد اللاحق على تقدير وجوده موجودا آخر مغايرا للموجود الأوّل ، كما في
السواد الضعيف الباقي بعد ارتفاع القويّ. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فافهم.
ثمّ إنّ الرابطة
الموجبة لعدّ المجموع أمرا واحدا موكولة إلى
__________________
العرف ، فإنّ
المشتغل بقراءة القرآن لداع ، يعدّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمرا
واحدا ، فإذا شكّ في بقاء اشتغاله بها في زمان لأجل الشكّ في حدوث الصارف أو لأجل
الشكّ في مقدار اقتضاء الداعي ، فالأصل بقاؤه. أمّا لو تكلّم لداع أو لدواع ثمّ
شكّ في بقائه على صفة التكلّم لداع آخر ، فالأصل عدم حدوث الزائد على المتيقّن.
وكذا لو شكّ بعد
انقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضيّة أم لا ، فيمكن إجراء
الاستصحاب ؛ نظرا إلى أنّ الشكّ في اقتضاء طبيعتها لقذف الرحم الدم في أيّ مقدار من الزمان ، فالأصل عدم انقطاعه.
وكذا لو شكّ في
اليأس ، فرأت الدم ، فإنّه قد يقال باستصحاب الحيض ؛ نظرا إلى كون الشكّ في انقضاء
ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كلّ شهر.
وحاصل وجه
الاستصحاب : ملاحظة كون الشكّ في استمرار الأمر الواحد الذي اقتضاه السبب الواحد ،
وإذا لوحظ كلّ واحد من أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلا ، فالأصل عدم الزائد على
المتيقّن وعدم حدوث سببه.
ومنشأ اختلاف بعض
العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه
__________________
الموارد اختلاف
أنظارهم في ملاحظة ذلك المستمرّ حادثا واحدا أو حوادث متعدّدة.
والإنصاف : وضوح
الوحدة في بعض الموارد ، وعدمها في بعض ، والتباس الأمر في ثالث. والله الهادي إلى
سواء السبيل ، فتدبّر.
٣
ـ استصحاب الامور المقيّدة بالزمان
|
وأمّا القسم
الثالث ـ وهو ما كان مقيّدا بالزمان ـ فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه.
ووجهه : أنّ الشيء المقيّد بزمان خاصّ لا يعقل فيه البقاء ؛ لأنّ البقاء : وجود
الموجود الأوّل في الآن الثاني ، وقد تقدّم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة ؛ لكون متعلّقاتها هي الأفعال
المتشخّصة بالمشخّصات التي لها دخل وجودا وعدما في تعلّق الحكم ، ومن جملتها
الزمان.
ما ذكره الفاضل النراقي : من معارضة استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن
سابقا مع استصحاب وجوده
|
وممّا ذكرنا يظهر
فساد ما وقع لبعض المعاصرين : من تخيّل جريان استصحاب عدم الأمر الوجوديّ المتيقّن
سابقا ، ومعارضته مع استصحاب وجوده ؛ بزعم أنّ المتيقّن وجود ذلك الأمر في القطعة
الاولى من الزمان ، والأصل بقاؤه ـ عند الشكّ ـ على العدم الأزليّ الذي لم يعلم
انقلابه إلى الوجود إلاّ في القطعة السابقة من الزمان. قال في تقريب ما ذكره من
تعارض الاستصحابين :
إنّه إذا علم أنّ
الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم أنّه واجب إلى الزوال ، ولم يعلم وجوبه فيما
بعده ، فنقول : كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى الزوال ، وبعده
معلوما قبل
__________________
ورود أمر الشارع ،
وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة ، وعلم ارتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل
الزوال ، وصار بعده موضع الشكّ ، فهنا شكّ ويقينان ، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين
أولى من إبقاء حكم الآخر.
فإن قلت : يحكم
ببقاء اليقين المتّصل بالشكّ ، وهو اليقين بالجلوس.
قلنا : إنّ الشكّ
في تكليف ما بعد الزوال حاصل قبل مجيء يوم الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع ، فشكّ في
يوم الخميس ـ مثلا ، حال ورود الأمر ـ في أنّ الجلوس غدا هل هو المكلّف به بعد
الزوال أيضا أم لا؟ واليقين المتّصل به هو عدم التكليف ، فيستصحب ويستمرّ ذلك إلى
وقت الزوال ، انتهى.
ثمّ أجرى ما ذكره
ـ من تعارض استصحابي الوجود والعدم ـ في مثل : وجوب الصوم إذا عرض مرض يشكّ في
بقاء وجوب الصوم معه ، وفي الطهارة إذا حصل الشكّ فيها لأجل المذي ، وفي طهارة
الثوب النجس إذا غسل مرّة.
فحكم في الأوّل
بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم ،
وفي الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا
للطهارة بعد المذي ، وفي الثالث بتعارض استصحاب
__________________
النجاسة قبل الغسل
واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة ، فيتساقط الاستصحابان
في هذه الصور ، إلاّ أن يرجع إلى استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم ، وهو عدم الرافع وعدم جعل
الشارع مشكوك الرافعيّة رافعا.
قال : ولو لم يعلم
أنّ الطهارة ممّا لا يرتفع إلاّ برافع ، لم نقل فيه باستصحاب الوجود.
ثمّ قال : هذا في
الامور الشرعيّة ، وأمّا الامور الخارجيّة ـ كاليوم والليل والحياة والرطوبة
والجفاف ونحوها ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ـ فاستصحاب الوجود فيها حجّة بلا معارض ؛ لعدم تحقّق استصحاب حال عقل معارض باستصحاب
وجودها ، انتهى.
مناقشات في ما أفاده الفاضل النراقي
|
أقول : الظاهر
التباس الأمر عليه.
مناقشة أولى : الزمان قد يؤخذ قيدا وقد يؤخذ ظرفا
|
أمّا أوّلا :
فلأنّ الأمر الوجوديّ المجعول ، إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلّقه ـ بأن لوحظ
وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر
متعلّقا للوجوب ـ فلا مجال لاستصحاب الوجوب ؛ للقطع بارتفاع ما علم وجوده والشكّ
في حدوث ما عداه ؛ ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : «صم يوم الخميس» إذا شكّ في
وجوب صوم يوم الجمعة.
__________________
وإن لوحظ الزمان
ظرفا لوجوب الجلوس فلا مجال لاستصحاب العدم ؛ لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود
المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان وكونه أزيد ، والمفروض تسليم حكم الشارع
بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه ، فلا وجه لاعتبار العدم السابق.
وما ذكره قدسسره : من أنّ الشكّ
في وجوب الجلوس بعد الزوال كان ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس ، مدفوع : بأنّ
ذلك أيضا ـ حيث كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال
ـ مهمل بحكم الشارع بإبقاء كلّ حادث لا يعلم مدّة بقائه ، كما لو شكّ قبل حدوث
حادث في مدّة بقائه.
والحاصل : أنّ
الموجود في الزمان الأوّل ، إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود
الثاني ، فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل ، فلا مجال لاستصحاب
الموجود ؛ إذ لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزمان
الأوّل من مقوّماته.
وإن لوحظ متّحدا
مع الثاني لا مغايرا له إلاّ من حيث ظرفه الزمانيّ ، فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك
الموجود ؛ لأنّه انقلب إلى الوجود.
وكأنّ المتوهّم
ينظر في دعوى جريان استصحاب الوجود إلى كون الموجود أمرا واحدا قابلا للاستمرار
بعد زمان الشكّ ، وفي دعوى جريان استصحاب العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود وجعل
كلّ
__________________
واحد منها بملاحظة
تحقّقه في زمان مغايرا للآخر ، فيؤخذ بالمتيقّن منها ويحكم على المشكوك منها بالعدم.
وملخّص الكلام في
دفعه : أنّ الزمان إن اخذ ظرفا للشيء فلا يجري إلاّ استصحاب وجوده ؛ لأنّ العدم
انتقض بالوجود المطلق ، وقد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلّة الاستصحاب. وإن اخذ
قيدا له فلا يجري إلاّ استصحاب العدم ؛ لأنّ انتقاض عدم الوجود المقيّد لا يستلزم
انتقاض المطلق ، والأصل عدم الانتقاض ، كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة
ولم يثبت غيره.
مناقشة ثانية فيما أفاده النراقي
|
وأمّا ثانيا :
فلأنّ ما ذكره ، من استصحاب عدم الجعل والسببيّة في صورة الشكّ في الرافع ، غير
مستقيم ؛ لأنّا إذا علمنا أنّ الشارع جعل الوضوء علّة تامّة لوجود الطهارة ،
وشككنا في أنّ المذي رافع لهذه الطهارة الموجودة المستمرّة بمقتضى استعدادها ،
فليس الشكّ متعلّقا بمقدار سببيّة السبب. وكذا الكلام في سببيّة ملاقاة البول
للنجاسة عند الشكّ في ارتفاعها بالغسل مرّة.
فإن قلت : إنّا
نعلم أنّ الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع لم تكن مجعولة أصلا ، وعلمنا بحدوث هذا
الأمر الشرعيّ قبل المذي ، وشككنا في الحكم بوجودها بعده ، والأصل عدم ثبوتها
بالشرع.
قلت : لا بدّ من
أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشكّ في ثبوت
__________________
الطهارة بعد المذي
، الشكّ في مقدار تأثير المؤثّر ـ وهو الوضوء ـ وأنّ المتيقّن تأثيره مع عدم المذي
لا مع وجوده ، أو أنّا نعلم قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمرّ لو لا ما جعله
الشارع رافعا. فعلى الأوّل ، لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ؛ لأنّ
المتيقّن تأثير السبب مع عدم ذلك الشيء ، والأصل عدم التأثير مع وجوده ، إلاّ أن
يتمسّك باستصحاب وجود المسبّب ، فهو نظير ما لو شكّ في بقاء تأثير الوضوء المبيح ـ
كوضوء التقيّة بعد زوالها ـ لا من قبيل الشكّ في ناقضيّة المذي. وعلى الثاني ، لا
معنى لاستصحاب العدم ؛ إذ لا شكّ في مقدار تأثير المؤثّر حتّى يؤخذ بالمتيقّن.
مناقشة
ثالثة فيما أفاده النراقي قدسسره
|
وأمّا ثالثا : فلو
سلّم جريان استصحاب العدم حينئذ ، لكن ليس استصحاب عدم جعل الشيء رافعا حاكما على
هذا الاستصحاب ؛ لأنّ الشكّ في أحدهما ليس مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، بل مرجع
الشكّ فيهما إلى شيء واحد ، وهو : أنّ المجعول في حقّ المكلّف في هذه الحالة هو
الحدث أو الطهارة. نعم ، يستقيم ذلك فيما إذا كان الشكّ في الموضوع الخارجيّ ـ أعني
وجود المزيل وعدمه ـ لأنّ الشكّ في كون المكلّف حال الشكّ مجعولا في حقّه الطهارة
أو الحدث مسبّب عن الشكّ في تحقّق الرافع ، إلاّ أنّ الاستصحاب مع هذا العلم
الإجماليّ بجعل أحد الأمرين في حقّ المكلّف غير جار .
__________________
الأمر الثالث
عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة
|
أنّ المتيقّن
السابق إذا كان ممّا يستقلّ به العقل ـ كحرمة الظلم وقبح التكليف بما لا يطاق
ونحوهما من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ـ فلا يجوز استصحابه ؛ لأنّ الاستصحاب
إبقاء ما كان ، والحكم العقليّ موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به ، فإن أدرك
العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيّا كما حكم أوّلا ، وإن أدرك
ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم ، ولو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا حادثا في
موضوع جديد.
وأمّا الشكّ في
بقاء الموضوع ، فإن كان لاشتباه خارجيّ ـ كالشكّ في بقاء الإضرار في السمّ الذي
حكم العقل بقبح شربه ـ فذلك خارج عمّا نحن فيه ، وسيأتي الكلام فيه .
وإن كان لعدم
تعيين الموضوع تفصيلا واحتمال مدخليّة موجود مرتفع أو معدوم حادث في موضوعيّة
الموضوع ، فهذا غير متصوّر في المستقلاّت العقليّة ؛ لأنّ العقل لا يستقلّ بالحكم
إلاّ بعد إحراز الموضوع
__________________
ومعرفته تفصيلا ؛
لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضروريّة لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر
الموضوع بجميع ما له دخل في موضوعيّته من قيوده ، وإمّا نظريّة تنتهي إلى ضروريّة
كذلك ، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل ، مع أنّك ستعرف في مسألة اشتراط بقاء
الموضوع ، أنّ الشكّ في الموضوع ـ خصوصا لأجل مدخليّة شيء ـ مانع
عن إجراء الاستصحاب.
فإن قلت : فكيف
يستصحب الحكم الشرعيّ مع أنّه كاشف عن حكم عقليّ مستقلّ؟ فإنّه إذا ثبت حكم العقل
بردّ الوديعة ، وحكم الشارع طبقه بوجوب الردّ ، ثمّ عرض ما يوجب الشكّ ـ مثل
الاضطرار والخوف ـ فيستصحب الحكم مع أنّه كان
تابعا للحكم العقليّ.
عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي أيضا
|
قلت : أمّا الحكم
الشرعيّ المستند إلى الحكم العقليّ ، فحاله حال الحكم العقليّ في عدم جريان
الاستصحاب. نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعيّ من غير جهة العقل ، وحصل
التغيّر في حال من أحوال موضوعه ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم ، جرى
الاستصحاب وحكم بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل ؛ ومن هنا يجري استصحاب عدم
التكليف في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ، لكنّ العدم الأزليّ ليس مستندا إلى القبح وإن كان موردا للقبح.
هذا حال نفس الحكم
العقلي.
__________________
هل يجري الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي؟
|
وأمّا موضوعه ـ كالضرر
المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ـ فالذي ينبغي أن يقال فيه :
إنّ الاستصحاب إن
اعتبر من باب الظنّ عمل به هنا ؛ لأنّه يظنّ الضرر بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم
العقليّ إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ ، كما في مثال الضرر .
وإن اعتبر من باب
التعبّد ـ لأجل الأخبار ـ فلا يجوز العمل به ؛ للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشكّ
في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع .
مثلا : إذا ثبت
بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ، فمعنى ذلك ترتيب الآثار
الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشكّ ، وأمّا الحكم العقلي بالقبح والحرمة فلا يثبت إلاّ مع إحراز الضرر . نعم ، يثبت الحرمة الشرعيّة بمعنى نهي الشارع ظاهرا ، ولا منافاة بين انتفاء
__________________
الحكم العقليّ
وثبوت الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ عدم حكم العقل مع الشكّ إنّما
هو لاشتباه الموضوع عنده ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعيّ الواقعيّ أيضا ، إلاّ
أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعيّ بحكم ظاهريّ هي الحرمة.
وممّا ذكرنا ـ من
عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقليّ ـ يظهر :
ما في تمسّك بعضهم
لإجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها ،
باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان.
وما في اعتراض بعض
المعاصرين على من خصّ ـ من القدماء والمتأخّرين ـ استصحاب حال العقل
باستصحاب العدم ، بأنّه لا وجه للتخصيص ؛ فإنّ حكم العقل المستصحب قد يكون وجوديّا
تكليفيّا كاستصحاب تحريم التصرّف في مال الغير ووجوب ردّ الأمانة إذا عرض هناك ما
يحتمل معه زوالهما ـ كالاضطرار والخوف ـ أو وضعيّا كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض
ما يوجب الشكّ في بقائها. ويظهر حال المثالين الأوّلين ممّا ذكرنا سابقا . وأمّا المثال الثالث ، فلم يتصوّر فيه الشكّ في بقاء شرطيّة العلم للتكليف
في زمان. نعم ، ربما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل ثمّ
اشتبه وصار معلوما
__________________
بالإجمال ، لكنّه
خارج عمّا نحن فيه ، مع عدم جريان الاستصحاب فيه ، كما سننبّه عليه .
ويظهر أيضا فساد
التمسّك باستصحاب البراءة والاشتغال الثابتين بقاعدتي البراءة والاشتغال .
مثال الأوّل : ما
إذا قطع بالبراءة عن وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور
عليه ، فإنّ مجرّد الشكّ في حصول الاشتغال كاف في حكم العقل بالبراءة ، ولا حاجة
إلى إبقاء البراءة السابقة والحكم بعدم ارتفاعها ظاهرا ، فلا فرق بين الحالة
السابقة واللاحقة في استقلال العقل بقبح التكليف فيهما ؛ لكون المناط في القبح عدم
العلم. نعم ، لو اريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه ، لكنّ المقصود
من استصحابه ليس إلاّ ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس إلاّ عدم الاشتغال الذي يحكم به
العقل في زمان الشكّ ، فهو من آثار الشكّ لا المشكوك.
ومثال الثاني : ما
إذا حكم العقل ـ عند اشتباه المكلّف به ـ بوجوب السورة في الصلاة ، ووجوب الصلاة
إلى أربع جهات ، ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ، ففعل ما
يحتمل معه بقاء التكليف الواقعيّ وسقوطه ـ كأن صلّى بلا سورة أو إلى بعض الجهات أو
اجتنب أحدهما ـ فربما يتمسّك حينئذ باستصحاب الاشتغال المتيقّن سابقا.
__________________
وفيه : أنّ الحكم
السابق لم يكن إلاّ بحكم العقل الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف
المعلوم في زمان ، وهو بعينه موجود في هذا الزمان. نعم ، الفرق بين هذا الزمان
والزمان السابق : حصول العلم بوجود التكليف فعلا بالواقع في السابق وعدم العلم به
في هذا الزمان ، وهذا لا يؤثّر في حكم العقل المذكور ؛ إذ يكفي فيه العلم بالتكليف
الواقعي آناً ما. نعم ، يجري استصحاب عدم فعل الواجب الواقعيّ وعدم سقوطه عنه ،
لكنّه لا يقضي بوجوب الإتيان بالصلاة مع السورة والصلاة إلى الجهة الباقية واجتناب
المشتبه الباقي ، بل يقضي بوجوب تحصيل البراءة من الواقع. لكن مجرّد ذلك لا يثبت
وجوب الإتيان بما يقتضي اليقين بالبراءة ، إلاّ على القول بالأصل المثبت ، أو
بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ، والأوّل لا نقول به ، والثاني بعينه موجود
في محلّ الشكّ من دون الاستصحاب.
الأمر الرابع
هل يجري الاستصحاب التعليقي؟
|
قد يطلق على بعض
الاستصحابات : الاستصحاب التقديريّ تارة ، والتعليقيّ اخرى ؛ باعتبار كون القضيّة
المستصحبة قضيّة تعليقيّة حكم فيها بوجود حكم على تقدير وجود آخر ، فربما يتوهّم ـ لأجل ذلك ـ الإشكال في اعتباره ، بل منعه والرجوع فيه إلى استصحاب مخالف
له.
توضيح ذلك : أنّ
المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ـ كما إذا وجب الصلاة فعلا أو حرم
العصير العنبيّ بالفعل في زمان ، ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه ـ وهذا لا إشكال في
جريان الاستصحاب فيه.
وقد يكون أمرا
موجودا على تقدير وجود أمر ، فالمستصحب هو وجوده التعليقيّ ، مثل : أنّ العنب كان
حرمة مائه معلّقة على غليانه ، فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان ، فإذا جفّ وصار زبيبا فهل يبقى بالاستصحاب حرمة مائه المعلّقة على الغليان ،
فيحرم عند تحقّق الغليان
__________________
أم لا ، بل يستصحب
الإباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان؟
ظاهر سيّد مشايخنا
في المناهل ـ وفاقا لما حكاه عن والده قدسسره في الدرس ـ : عدم اعتبار الاستصحاب الأوّل ، والرجوع إلى
الاستصحاب الثاني.
كلام صاحب المناهل في عدم جريان الاستصحاب التعليقي
|
قال في المناهل ـ في
ردّ تمسّك السيّد العلاّمة الطباطبائيّ على حرمة العصير
من الزبيب إذا غلا بالاستصحاب ، ودعوى تقديمه على استصحاب الإباحة ـ :
إنّه يشترط في
حجّيّة الاستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعيّ أو تكليفيّ في زمان من
الأزمنة قطعا ، ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديريّ
باطل ، وقد صرّح بذلك الوالد العلاّمة قدسسره في أثناء الدرس ، فلا وجه للتمسّك باستصحاب التحريم في
المسألة . انتهى كلامه ، رفع مقامه.
المناقشة في ما أفاده صاحب المناهل
|
أقول : لا إشكال
في أنّه يعتبر في الاستصحاب تحقّق المستصحب
__________________
سابقا ، والشكّ في
ارتفاع ذلك المحقّق ، ولا إشكال أيضا في عدم اعتبار أزيد من ذلك. ومن المعلوم أنّ
تحقّق كلّ شيء بحسبه ، فإذا قلنا : العنب يحرم ماؤه إذا غلا أو بسبب الغليان ،
فهناك لازم ، وملزوم ، وملازمة.
أمّا الملازمة ـ وبعبارة
اخرى : سببيّة الغليان لتحريم ماء العصير ـ فهي متحقّقه بالفعل من دون تعليق.
وأمّا اللازم ـ وهي
الحرمة ـ فله وجود مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديريّ أمر
متحقّق في نفسه في مقابل عدمه ، وحينئذ فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في
تأثير الغليان في حرمة مائه ، فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته
زبيبا ، فأيّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شكّ في بقائها بعد
صيرورته زبيبا؟
بعض المناقشات في الاستصحاب التعليقي ودفعها
|
نعم ربما يناقش في
الاستصحاب المذكور : تارة بانتفاء الموضوع وهو العنب ، واخرى بمعارضته باستصحاب
الإباحة قبل الغليان ، بل ترجيحه عليه بمثل الشهرة والعمومات .
لكنّ الأوّل لا
دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر ،
والثاني فاسد ؛ لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الإباحة قبل
الغليان.
فالتحقيق : أنّه
لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ولا في اعتباره ـ من حيث الأخبار أو من حيث العقل
ـ بين أنحاء تحقّق المستصحب ، فكلّ نحو من التحقّق ثبت للمستصحب وشكّ في ارتفاعه ،
__________________
فالأصل بقاؤه ، مع
أنّك عرفت : أنّ الملازمة وسببيّة الملزوم للاّزم موجود بالفعل ، وجد الملزوم أم
لم يوجد ؛ لأنّ صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط ، وهذا الاستصحاب غير متوقّف
على وجود الملزوم. نعم ، لو اريد إثبات وجود الحكم فعلا في الزمان الثاني اعتبر
إحراز الملزوم فيه ؛ ليترتّب عليه بحكم الاستصحاب لازمه ، وقد يقع الشكّ في وجود
الملزوم في الآن اللاحق ؛ لعدم تعيّنه واحتمال مدخليّة شيء في تأثير ما يتراءى
أنّه ملزوم.
الأمر الخامس
استصحاب أحكام الشرائع السابقة
|
أنّه لا فرق في
المستصحب بين أن يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة
؛ إذ المقتضي موجود ـ وهو جريان دليل الاستصحاب ـ وعدم ما يصلح مانعا ، عدا امور :
ما ذكره صاحب الفصول في وجه المنع عن هذا الاستصحاب
|
منها : ما ذكره
بعض المعاصرين ، من أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن استصحابه في
حقّ آخرين ؛ لتغاير الموضوع ؛ فإنّ ما ثبت في حقّهم مثله لا نفسه ، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين ،
بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة ، لا بالاستصحاب.
المناقشة في ما أفاده صاحب الفصول
|
وفيه : أوّلا :
أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ، فإذا حرم في حقّه شيء سابقا ، وشكّ في
بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلا ؛ فإنّ الشريعة
اللاحقة لا تحدث عند
__________________
انقراض أهل
الشريعة الاولى .
وثانيا : أنّ
اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلاّ لم يجر استصحاب عدم النسخ.
وحلّه : أنّ
المستصحب هو الحكم الكلّيّ الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ؛ إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكم قطعا ، غاية الأمر احتمال
مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم ، ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في
أكثر الاستصحابات ، بل في جميع موارد الشكّ من غير جهة الرافع.
وأمّا التمسّك في
تسرية الحكم من الحاضرين إلى الغائبين ، فليس مجرى للاستصحاب حتّى يتمسّك به ؛
لأنّ تغاير الحاضرين المشافهين والغائبين ليس بالزمان ، ولعلّه سهو من قلمه قدسسره.
وأمّا التسرية من
الموجودين إلى المعدومين ، فيمكن التمسّك فيها بالاستصحاب بالتقريب المتقدّم ، أو بإجرائه في من بقي من الموجودين
__________________
إلى زمان وجود
المعدومين ، ويتمّ الحكم في المعدومين بقيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد
في الشريعة الواحدة.
ومنها : ما اشتهر
من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم بالبقاء .
وفيه : أنّه إن
اريد نسخ كلّ حكم إلهيّ من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع.
وإن اريد نسخ
البعض فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم
الاستصحاب.
فإن قلت : إنّا
نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلا منها قليل في الغاية ،
فيعلم بوجود المنسوخ في غيره.
قلت : لو سلّم ذلك
، لم يقدح في إجراء أصالة عدم النسخ في المشكوكات ؛ لأنّ الأحكام المعلومة في
شرعنا بالأدلّة واجبة العمل ـ سواء كانت من موارد النسخ أم لا ـ فأصالة عدم النسخ
فيها غير محتاج إليها ، فيبقى أصالة عدم النسخ في محلّ الحاجة سليمة عن المعارض ؛ لما تقرّر في الشبهة المحصورة : من أنّ الأصل
في بعض
__________________
أطراف الشبهة إذا
لم يكن جاريا أو لم يحتج إليه ، فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر ، ولأجل ما
ذكرنا استمرّ بناء المسلمين في أوّل البعثة على الاستمرار على ما كانوا عليه حتّى
يطّلعوا على الخلاف.
إلاّ ان يقال :
إنّ ذلك كان قبل إكمال شريعتنا ، وأمّا بعده فقد جاء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بجميع ما يحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة ، سواء خالف
الشريعة السابقة أم وافقها ، فنحن مكلّفون بتحصيل ذلك الحكم موافقا أم مخالفا ؛
لأنّه مقتضى التديّن بهذا الدين.
ولكن يدفعه : أنّ
المفروض حصول الظنّ المعتبر من الاستصحاب ببقاء حكم الله السابق في هذه الشريعة ،
فيظنّ بكونه ممّا جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم. ولو بنينا على الاستصحاب تعبّدا فالأمر أوضح ؛ لكونه حكما
كلّيّا في شريعتنا بإبقاء ما ثبت في السابق.
ما ذكره المحقّق القمّي في وجه المنع
|
ومنها : ما ذكره
في القوانين ، من أنّ جريان الاستصحاب مبنيّ على القول بكون حسن الأشياء ذاتيّا ،
وهو ممنوع ، بل التحقيق : أنّه بالوجوه والاعتبارات .
الجواب عمّا ذكره المحقّق القمّي
|
وفيه : أنّه إن
اريد ب «الذاتيّ» المعنى الذي ينافيه النسخ ـ وهو الذي أبطلوه بوقوع النسخ ـ فهذا
المعنى ليس مبنى الاستصحاب ، بل هو مانع عنه ؛ للقطع بعدم النسخ حينئذ ، فلا يحتمل
الارتفاع.
وإن اريد غيره فلا
فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات ؛ فإنّ القول بالوجوه لو كان مانعا
عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب في هذه الشريعة.
__________________
الثمرات المذكورة لهذه المسألة ومناقشتها
|
ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد الشكّ ـ تبعا
لتمهيد القواعد ـ ثمرات.
منها : إثبات وجوب
نيّة الإخلاص في العبادة بقوله تعالى حكاية عن تكليف أهل الكتاب ـ : (وَما
أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
ويرد عليه ـ بعد
الإغماض عن عدم دلالة الآية على وجوب الإخلاص بمعنى القربة في كلّ واجب ، وإنّما
تدلّ على وجوب عبادة الله خالصة عن الشرك ، وبعبارة اخرى : وجوب التوحيد ، كما
أوضحنا ذلك في باب النيّة من الفقه ـ : أنّ الآية
إنّما تدلّ على اعتبار الإخلاص في واجباتهم ، لا على وجوب الإخلاص عليهم في كلّ واجب ، وفرق بين وجوب كلّ شيء عليهم لغاية الإخلاص ،
وبين وجوب قصد الإخلاص عليهم في كلّ واجب.
وظاهر الآية هو
الأوّل ، ومقتضاه : أنّ تشريع الواجبات لأجل تحقّق العبادة على وجه الإخلاص ،
ومرجع ذلك إلى كونها لطفا. ولا ينافي
__________________
ذلك كون بعضها بل
كلّها توصّليّا لا يعتبر في سقوطه قصد القربة.
ومقتضى الثاني :
كون الإخلاص واجبا شرطيّا في كلّ واجب ، وهو المطلوب .
هذا كلّه ، مع
أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ ،) بناء على تفسيرها بالثابتة التي لا تنسخ.
ومنها : قوله
تعالى ـ حكاية عن مؤذّن يوسف عليهالسلام ـ : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ).
فدلّ على جواز
الجهالة في مال الجعالة ، وعلى جواز ضمان ما لم يجب.
وفيه : أنّ حمل
البعير لعلّه كان معلوم المقدار عندهم ، مع احتمال كونه مجرّد وعد لا جعالة ، مع
أنّه لا يثبت الشرع بمجرّد فعل المؤذّن ؛ لأنّه غير حجّة ، ولم يثبت إذن يوسف ـ على
نبيّنا وآله وعليهالسلام ـ في ذلك ولا تقريره.
ومنه يظهر عدم
ثبوت شرعيّة الضمان المذكور ، خصوصا مع كون كلّ من الجعالة والضمان صوريّا قصد
بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف عليهالسلام ، ولا بأس بذكر معاملة فاسدة يحصل به الغرض ، مع احتمال
إرادة أنّ الحمل في ماله وأنّه الملتزم به ؛ فإنّ الزعيم هو الكفيل والضامن ، وهما
لغة : مطلق الالتزام ، ولم يثبت كونهما في ذلك الزمان
__________________
حقيقة في الالتزام
عن الغير ، فيكون الفقرة الثانية تأكيدا لظاهر الاولى ، ودفعا لتوهّم كونه من
الملك فيصعب تحصيله.
ومنها : قوله
تعالى ـ حكاية عن أحوال يحيى عليهالسلام ـ : (وَسَيِّداً
وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).
فإنّ ظاهره يدّل
على مدح يحيى عليهالسلام بكونه حصورا ممتنعا عن مباشرة النسوان ، فيمكن أن يرجّح في
شريعتنا التعفّف على التزويج.
وفيه ؛ أنّ الآية
لا تدلّ إلاّ على حسن هذه الصفة لما فيها من المصالح والتخلّص عمّا يترتّب عليه ،
ولا دليل فيها على رجحان هذه الصفة على صفة اخرى ، أعني : المباشرة لبعض المصالح
الاخرويّة ؛ فإنّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّدا لا يدلّ على رجحان هاتين
الصفتين على الإفطار في النهار وترك التهجّد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منهما.
ومنها : قوله
تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ
...) الآية .
دلّ على جواز برّ
اليمين على ضرب المستحقّ مائة بالضرب بالضّغث.
وفيه : ما لا
يخفى.
ومنها : قوله تعالى
: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ... إلى آخر الآية) .
استدلّ بها في حكم
من قلع عين ذي العين الواحدة .
__________________
ومنها : قوله
تعالى ـ حكاية عن شعيب عليهالسلام ـ : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ
فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ).
وفيه : أنّ حكم
المسألة قد علم من العمومات والخصوصات الواردة فيها ،
فلا ثمرة في الاستصحاب. نعم في بعض تلك الأخبار إشعار بجواز العمل بالحكم الثابت
في الشرع السابق ، لو لا المنع عنه ، فراجع وتأمّل.
__________________
الأمر السادس
عدم ترتّب الآثار غير الشرعيّة على الاستصحاب والدليل عليه
|
قد عرفت أنّ معنى
عدم نقض اليقين والمضيّ عليه ، هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته
للمتيقّن ، ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلاّ في الآثار
الشرعيّة المجعولة من الشارع لذلك الشيء ؛ لأنّها القابلة للجعل دون غيرها من
الآثار العقليّة والعاديّة. فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار
الحياة في زمان الشكّ ، هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله ، لا حكمه
بنموّه ونبات لحيته ؛ لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع. نعم ، لو وقع نفس النموّ
ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعيّة أفاد ذلك جعل آثارهما
الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب.
والحاصل : أنّ
تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن ـ كسائر التنزيلات ـ إنّما يفيد ترتيب
الأحكام والآثار الشرعيّة المحمولة على المتيقّن السابق ، فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة
__________________
والعاديّة ؛ لعدم
قابليّتها للجعل ، ولا على جعل الآثار الشرعيّة المترتّبة على تلك الآثار ؛ لأنّها
ليست آثارا لنفس المتيقّن ، ولم يقع ذوها موردا لتنزيل الشارع حتّى تترتّب هي
عليه.
إذا عرفت هذا
فنقول : إنّ المستصحب إمّا أن يكون حكما من الأحكام
الشرعيّة المجعولة ـ كالوجوب والتحريم والإباحة وغيرها ـ وإمّا أن يكون من غير
المجعولات ، كالموضوعات الخارجيّة واللغويّة.
فإن كان من
الأحكام الشرعيّة فالمجعول في زمان الشكّ حكم ظاهريّ مساو للمتيقّن السابق في جميع
ما يترتّب عليه ؛ لأنّه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقّن السابق ووجوب المضيّ عليه
والعمل به.
وإن كان من غيرها
فالمجعول في زمان الشكّ هي لوازمه الشرعيّة ، دون العقليّة والعاديّة ، ودون
ملزومه شرعيّا كان أو غيره ، ودون ما هو ملازم معه لملزوم ثالث.
المراد من نفي الاصول المثبتة
|
ولعلّ هذا هو
المراد بما اشتهر على ألسنة أهل العصر : من نفي الاصول
المثبتة ، فيريدون به : أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج حتّى يترتّب عليه حكمه
الشرعيّ ، بل مؤدّاه أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا.
فإن قلت : الظاهر
من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقّن ، بأن يفرض نفسه متيقّنا ويعمل كلّ
عمل ينشأ من تيقّنه بذلك
__________________
المشكوك ، سواء
كان ترتّبه عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر عاديّ أو عقليّ مترتّب على ذلك المتيقّن.
قلت : الواجب على
الشاكّ عمل المتيقّن بالمستصحب من حيث تيقّنه به ، وأمّا ما يجب عليه من حيث
تيقّنه بأمر يلازم ذلك المتيقّن عقلا أو عادة ، فلا يجب عليه ؛ لأنّ وجوبه عليه
يتوقّف على وجود واقعيّ لذلك الأمر العقليّ أو العاديّ ، أو وجود جعليّ بأن يقع
موردا لجعل الشارع حتّى يرجع جعله الغير المعقول إلى جعل أحكامه الشرعيّة ، وحيث
فرض عدم الوجود الواقعيّ والجعليّ لذلك الأمر ، كان الأصل عدم وجوده وعدم ترتّب
آثاره.
وهذه المسألة نظير
ما هو المشهور في باب الرضاع : من أنّه إذا ثبت بالرضاع
عنوان ملازم لعنوان محرّم من المحرّمات لم يوجب التحريم ؛ لأنّ الحكم تابع لذلك العنوان
الحاصل بالنسب أو بالرضاع ، فلا يترتّب على غيره المتّحد معه وجودا.
عدم ترتّب الآثار واللوازم غير الشرعيّة مطلقا
|
ومن هنا يعلم :
أنّه لا فرق في الأمر العاديّ بين كونه متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران
إلاّ مفهوما ـ كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض عند الشكّ في كريّة الماء الباقي فيه
ـ وبين تغايرهما في الوجود ، كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لو لا المانع
لحدث ، وشكّ في وجود المانع.
وكذا لا فرق بين
أن يكون اللزوم بينها وبين المستصحب كلّيّا
__________________
لعلاقة ، وبين أن
يكون اتفاقيّا في قضيّة جزئيّة ، كما إذا علم ـ لأجل العلم الإجماليّ الحاصل بموت
زيد أو عمرو ـ أنّ بقاء حياة زيد ملازم لموت عمرو ، وكذا بقاء حياة عمرو ، ففي الحقيقة
عدم الانفكاك اتفاقيّ من دون ملازمة.
وكذا لا فرق بين
أن يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأمر العاديّ كالمثالين ، أو قيد له عدميّ أو وجوديّ
، كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت به القتل الذي هو
إزهاق الحياة ، وكاستصحاب عدم الاستحاضة المثبت لكون الدم الموجود حيضا ـ بناء على
أنّ كلّ دم ليس باستحاضة حيض شرعا ـ وكاستصحاب عدم الفصل الطويل المثبت لاتّصاف
الأجزاء المتفاصلة ـ بما لا يعلم معه فوات الموالاة ـ بالتوالي .
ما استدلّ به صاحب الفصول على عدم حجّية الأصل المثبت
|
وقد استدلّ بعض ـ تبعا لكاشف الغطاء ـ على نفي الأصل المثبت ، بتعارض الأصل في جانب الثابت
والمثبت ، فكما أنّ الأصل بقاء الأوّل ، كذلك الأصل عدم الثاني. قال :
__________________
وليس في أخبار
الباب ما يدلّ على حجّيّته بالنسبة إلى ذلك ؛ لأنّها مسوقة لتفريع الأحكام
الشرعيّة ، دون العاديّة وإن استتبعت أحكاما شرعيّة ، انتهى.
المناقشة في ما أفاده صاحب الفصول
|
أقول : لا ريب في
أنّه لو بني على أنّ الأصل في الملزوم قابل لإثبات اللازم العاديّ لم يكن وجه
لإجراء أصالة عدم اللازم ؛ لأنّه حاكم عليها ، فلا معنى للتعارض على ما هو الحقّ
واعترف به هذا المستدلّ ـ من حكومة الأصل في الملزوم على الأصل في اللازم ـ فلا
تعارض أصالة الطهارة لأصالة عدم التذكية ، فلو بني على المعارضة
لم يكن فرق بين اللوازم الشرعيّة والعاديّة ؛ لأنّ الكلّ أحكام للمستصحب مسبوقة
بالعدم.
وأمّا قوله : «ليس
في أخبار الباب ... الخ».
إن أراد بذلك عدم
دلالة الأخبار على ترتّب اللوازم الغير الشرعيّة ، فهو مناف لما ذكره من التعارض ؛
إذ يبقى حينئذ أصالة عدم اللازم الغير الشرعيّ سليما عن المعارض.
وإن أراد تتميم
الدليل الأوّل ، بأن يقال : إنّ دليل الاستصحاب إن كان غير الأخبار فالأصل يتعارض
من الجانبين ، وإن كانت الأخبار
__________________
فلا دلالة فيها ،
ففيه : أنّ الأصل إذا كان مدركه غير الأخبار ـ وهو الظنّ النوعيّ الحاصل ببقاء ما
كان على ما كان ـ لم يكن إشكال في أنّ الظنّ بالملزوم يوجب الظنّ باللازم ولو كان
عاديّا ، ولا يمكن حصول الظنّ بعدم اللازم بعد حصول الظنّ بوجود ملزومه ، كيف! ولو
حصل الظنّ بعدم اللازم اقتضى الظنّ بعدم الملزوم ، فلا يؤثّر في ترتّب اللوازم
الشرعيّة أيضا.
وجوب الالتزام بالاصول المثبتة بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ
|
ومن هنا يعلم :
أنّه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ لم يكن مناص عن الالتزام بالاصول
المثبتة ؛ لعدم انفكاك الظنّ بالملزوم عن الظنّ باللازم ، شرعيّا كان أو غيره.
إلاّ أن يقال :
إنّ الظنّ الحاصل من الحالة السابقة حجّة في لوازمه الشرعيّة دون غيرها.
لكنّه إنّما يتمّ
إذا كان دليل اعتبار الظنّ مقتصرا فيه على ترتّب بعض اللوازم دون آخر ـ كما إذا
دلّ الدليل على أنّه يجب الصوم عند الشكّ في هلال رمضان بشهادة عدل ، فلا يلزم منه
جواز الإفطار بعد مضيّ ثلاثين من ذلك اليوم ـ أو كان بعض الآثار ممّا لا يعتبر فيه
مجرّد الظنّ ، إمّا مطلقا ـ كما إذا حصل من الخبر الوارد في المسألة الفرعيّة ظنّ
بمسألة اصوليّة ، فإنّه لا يعمل فيه بذلك الظنّ ؛ بناء على عدم العمل بالظنّ في
الاصول ـ ، وإمّا في خصوص المقام ، كما إذا ظنّ بالقبلة مع تعذّر العلم بها ، فلزم
منه الظنّ بدخول الوقت مع عدم العذر المسوّغ للعمل بالظنّ في الوقت.
فروع تمسّكوا فيها بالاصول المثبتة
|
ولعلّ ما ذكرنا هو
الوجه في عمل جماعة من القدماء والمتأخّرين بالاصول المثبتة في كثير من الموارد :
منها : ما ذكره
جماعة ـ منهم المحقّق في الشرائع وجماعة ممّن
تقدّم عليه وتأخّر عنه ـ : من أنّه لو
اتّفق الوارثان على إسلام أحدهما المعيّن في أوّل شعبان والآخر في غرّة رمضان ،
واختلفا : فادّعى أحدهما موت المورّث في شعبان والآخر موته في أثناء رمضان ، كان
المال بينهما نصفين ؛ لأصالة بقاء حياة المورّث.
ولا يخفى : أنّ
الإرث مترتّب على موت المورّث عن وارث مسلم ، وبقاء حياة المورّث إلى غرّة رمضان
لا يستلزم بنفسه موت المورّث في حال إسلام الوارث. نعم ، لمّا علم بإسلام الوارث
في غرّة رمضان لم ينفكّ بقاء حياته حال الإسلام عن موته بعد الإسلام الذي هو سبب
الإرث.
إلاّ أن يوجّه
بأنّ المقصود في المقام إحراز إسلام الوارث في حياة أبيه ـ كما يعلم من الفرع الذي
ذكره قبل هذا الفرع في الشرائع ـ ويكفي ثبوت الإسلام حال الحياة المستصحبة ، في تحقّق سبب
الإرث وحدوث علاقة الوارثيّة بين الولد ووالده في حال الحياة.
ومنها : ما ذكره
جماعة ـ تبعا للمحقّق ـ في كرّ وجد فيه
__________________
نجاسة لا يعلم
سبقها على الكرّيّة وتأخّرها ، فإنّهم حكموا بأنّ استصحاب عدم الكريّة قبل
الملاقاة الراجع إلى استصحاب عدم المانع عن الانفعال حين وجود المقتضي له ، معارض
باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكريّة.
ولا يخفى : أنّ
الملاقاة معلومة ، فإن كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة
ـ وإلاّ فالأصل عدم التأثير ـ لم يكن وجه لمعارضة الاستصحاب الثاني بالاستصحاب
الأوّل ؛ لأنّ أصالة عدم الكرّيّة قبل الملاقاة لا يثبت كون الملاقاة قبل الكرّيّة وفي زمان القلّة ، حتّى يثبت النجاسة ،
إلاّ من باب عدم انفكاك عدم الكرّيّة حين الملاقاة عن وقوع الملاقاة حين القلّة ،
نظير عدم انفكاك عدم الموت حين الإسلام لوقوع الموت بعد الإسلام ، فافهم.
ومنها : ما في
الشرائع والتحرير ـ تبعا للمحكيّ عن المبسوط ـ : من أنّه لو ادّعى الجاني أنّ
المجنيّ عليه شرب سمّا فمات بالسمّ ، وادّعى الوليّ أنّه مات بالسراية ،
فالاحتمالان فيه سواء.
وكذا الملفوف في
الكساء إذا قدّة بنصفين ، فادّعى الوليّ أنّه كان حيّا ، والجاني أنّه كان ميتا ،
فالاحتمالان متساويان.
ثمّ حكي عن
المبسوط التردّد .
وفي الشرائع :
رجّح قول الجاني ؛ لأنّ الأصل عدم الضمان ، وفيه احتمال آخر ضعيف .
__________________
وفي التحرير : أنّ
الأصل عدم الضمان من جانبه واستمرار الحياة من جانب الملفوف ، فيرجّح قول الجاني.
وفيه نظر .
والظاهر أنّ مراده
النظر في عدم الضمان ؛ من حيث إنّ بقاء الحياة بالاستصحاب إلى زمان القدّ سبب في
الضمان ، فلا يجرى أصالة عدمه ، وهو الذي ضعّفه المحقّق ، لكن قوّاه بعض محشّيه .
والمستفاد من
الكلّ نهوض استصحاب الحياة لإثبات القتل الذي هو سبب الضمان ، لكنّه مقدّم على ما
عداه عند العلاّمة وبعض من تأخّر عنه ، ومكافئ لأصالة
عدم الضمان من غير ترجيح عند الشيخ في المبسوط ، ويرجّح عليه أصالة عدم الضمان عند
المحقّق والشهيد في المسالك .
ومنها : ما في
التحرير ـ بعد هذا الفرع ـ : ولو ادّعى الجاني نقصان يد المجنيّ عليه بإصبع ،
احتمل تقديم قوله عملا بأصالة عدم القصاص ، وتقديم قول المجنيّ عليه إذ الأصل
السلامة ، هذا إن ادّعى
__________________
الجاني نفي
السلامة أصلا. وأمّا لو ادّعى زوالها طارئا ، فالأقرب أنّ القول قول المجنيّ عليه ، انتهى.
ولا يخفى صراحته
في العمل بأصالة عدم زوال الإصبع في إثبات الجناية على اليد التامّة.
والظاهر أنّ مقابل
الأقرب ما يظهر من الشيخ ; في الخلاف في نظير المسألة
، وهو ما إذا اختلف الجاني والمجنيّ عليه في صحّة العضو المقطوع وعيبه ، فإنّه
قوّى عدم ضمان الصحيح.
ومنها : ما ذكره
جماعة ـ تبعا للمبسوط والشرائع ـ في اختلاف الجاني والوليّ في موت المجنيّ عليه بعد الاندمال أو قبله.
إلى غير ذلك ممّا
يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه ، خصوصا كتب الشيخ والفاضلين والشهيدين.
عدم عمل الأصحاب بكلّ أصل مثبت
|
لكنّ المعلوم منهم
ومن غيرهم من الأصحاب عدم العمل بكلّ أصل مثبت.
فإذا تسالم
الخصمان في بعض الفروع المتقدّمة على ضرب اللّفاف
__________________
بالسيف على وجه لو
كان زيد الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف لقتله ، إلاّ أنّهما اختلفا في بقائه
ملفوفا أو خروجه عن اللفّ ، فهل تجد من نفسك رمي أحد من الأصحاب بالحكم بأنّ الأصل
بقاء لفّه ، فيثبت القتل إلاّ أن يثبت الآخر خروجه؟! أو تجد فرقا بين بقاء زيد على
اللفّ وبقائه على الحياة ؛ لتوقّف تحقّق عنوان القتل عليهما؟!
وكذا لو وقع الثوب
النجس في حوض كان فيه الماء سابقا ، ثمّ شكّ في بقائه فيه ، فهل يحكم أحد بطهارة
الثوب بثبوت انغساله بأصالة بقاء الماء؟!
وكذا لو رمى صيدا
أو شخصا على وجه لو لم يطرأ حائل لأصابه ، فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة
عدم الحائل؟!
إلى غير ذلك ممّا
لا يحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لإثبات الموضوعات الخارجيّة التي
يترتّب عليها الأحكام الشرعيّة.
وكيف كان ،
فالمتّبع هو الدليل.
وقد عرفت أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعيّ ـ كما هو ظاهر أكثر القدماء ـ
فهو كإحدى الأمارات الاجتهاديّة يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب في جواز
العمل فيه بالظنّ الاستصحابيّ.
وأمّا على المختار
: من اعتباره من باب الأخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعيّة المترتّبة على
نفس المستصحب.
__________________
حجّية الأصل المثبت مع خفاء الواسطة
|
نعم هنا شيء :
وهو أنّ بعض
الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعيّ ، من الوسائط
الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاما لنفس
المستصحب ، وهذا المعنى يختلف وضوحا وخفاء باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار
العرف.
منها : ما إذا
استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ، فإنّه لا يبعد الحكم بنجاسته ،
مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة
إليه وتأثّره بها ، بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة ، ومن المعلوم أنّ استصحاب
رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير لا يثبت تأثّر الثوب وتنجّسه
بها ، فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض ، المثبت لانغسال الثوب به.
وحكى في الذكرى عن
المحقّق تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة
إليه ، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، وارتضاه. فيحتمل أن يكون لعدم إثبات
الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا ، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب
طهارة الثوب إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض كما يظهر من المحقّق ؛ حيث عارض استصحاب طهارة الشاكّ في الحدث باستصحاب اشتغال ذمّته .
__________________
ومنها : أصالة عدم
دخول هلال شوّال في يوم الشكّ ، المثبت لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه أحكام
العيد ، من الصلاة والغسل وغيرهما. فإنّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريّته ، ولا أوّليّة غده للشهر اللاحق ، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار
عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال ، إلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر
وأوّليّة غده لشهر آخر ، فالأوّل عندهم ما لم يسبق بمثله والآخر ما اتّصل بزمان
حكم بكونه أوّل الشهر الآخر.
وكيف كان ،
فالمعيار خفاء توسّط الأمر العاديّ والعقليّ بحيث يعدّ آثاره آثارا لنفس المستصحب.
وربما يتمسّك في بعض موارد الاصول المثبتة ، بجريان السيرة أو الإجماع على اعتباره هناك ،
مثل : إجراء أصالة عدم الحاجب عند الشكّ في وجوده على محلّ الغسل أو المسح ،
لإثبات غسل البشرة ومسحها المأمور بهما في الوضوء والغسل.
وفيه نظر.
__________________
الأمر السابع
هل تجري أصالة تأخّر الحادث؟
|
لا فرق في
المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق رأسا ، وبين أن يكون مشكوك
الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء.
فإذا شكّ في بقاء
حياة زيد في جزء من الزمان اللاحق ، فلا يقدح في جريان استصحاب حياته علمنا بموته
بعد ذلك الجزء من الزمان وعدمه.
وهذا هو الذي
يعبّر عنه بأصالة تأخّر الحادث ، يريدون به : أنّه إذا علم بوجود حادث في زمان
وشكّ في وجوده قبل ذلك الزمان ، فيحكم باستصحاب عدمه قبل ذلك ، ويلزمه عقلا تأخّر
حدوث ذلك الحادث. فإذا شكّ في مبدأ موت زيد مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا ،
فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب مستلزمة عقلا لكون مبدأ موته يوم الجمعة.
وحيث تقدّم في
الأمر السابق أنّه لا يثبت بالاستصحاب ـ بناء
__________________
على العمل به من
باب الأخبار ـ لوازمه العقليّة ، فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة ـ لا
على مجرّد حياته قبل الجمعة ـ حكم شرعيّ لم يترتّب على ذلك.
نعم ، لو قلنا
باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، أو كان اللازم العقليّ من اللوازم الخفيّة ، جرى
فيه ما تقدّم ذكره .
وتحقيق المقام
وتوضيحه :
١
ـ إذا لوحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان
|
أنّ تأخّر الحادث
قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان ـ كالمثال المتقدّم ـ فيقال : الأصل
عدم موت زيد قبل الجمعة ، فيترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم ، لا أحكام حدوثه يوم
الجمعة ؛ إذ المتيقّن بالوجدان تحقّق الموت يوم الجمعة لا حدوثه.
إلاّ أن يقال :
إنّ الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، وإذا ثبت بالأصل عدم الشيء سابقا ، وعلم
بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللاحق إذا انضمّ إلى عدمه قبل ذلك
الثابت بالأصل ، تحقّق مفهوم الحدوث ، وقد عرفت حال الموضوع الخارجيّ الثابت أحد جزئي مفهومه بالأصل.
وممّا ذكرنا يعلم
: أنّه لو كان الحادث ممّا نعلم بارتفاعه بعد حدوثه فلا يترتّب عليه أحكام الوجود
في الزمان المتأخّر أيضا ؛ لأنّ وجوده مساو لحدوثه. نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده
المطلق في زمان من الزمانين ، كما إذا علمنا أنّ الماء لم يكن كرّا قبل
الخميس ،
__________________
فعلم أنّه صار
كرّا بعده وارتفع كرّيّته بعد ذلك ، فنقول : الأصل عدم كرّيّته في يوم الخميس ،
ولا يثبت بذلك كرّيّته يوم الجمعة ، فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد
اليومين ؛ لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل حاكم عليه. نعم ، لو وقع فيه في كلّ من
اليومين حكم بطهارته من باب انغسال الثوب بماءين مشتبهين.
٢
ـ إذا لوحظ بالقياس إلى حادث آخر وجهل تأريخهما
|
وقد يلاحظ تأخّر
الحادث بالقياس إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشكّ في تقدّم أحدهما على
الآخر ، فإمّا أن يجهل تأريخهما أو يعلم تأريخ أحدهما :
فإن جهل تأريخهما
فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ؛ لأنّ التأخّر في نفسه ليس مجرى
الاستصحاب ؛ لعدم مسبوقيّته باليقين. وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر
فهي معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط مع ترتّب الأثر على كلّ واحد من الأصلين ،
وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى. وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصوّر
التقارن ؛ لأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر؟ وجهان :
من كون التقارن
أمرا وجوديّا لازما لعدم كلّ منهما قبل الآخر.
ومن كونه من
اللوازم الخفيّة حتّى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر في
الوجود.
لو كان أحدهما معلوم التأريخ
|
وإن كان أحدهما
معلوم التأريخ فلا يحكم على مجهول التأريخ إلاّ بأصالة عدم وجوده في تأريخ ذلك ،
لا تأخّر وجوده عنه بمعنى حدوثه بعده. نعم ، يثبت ذلك على القول بالأصل المثبت.
فإذا علم تأريخ
__________________
ملاقاة الثوب
للحوض وجهل تأريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته وعدم كرّيّته في زمان
الملاقاة. وإذا علم تأريخ الكريّة حكم أيضا بأصالة عدم تقدّم الملاقاة في زمان الكرّيّة ، وهكذا.
وربما يتوهّم : جريان الأصل في طرف المعلوم أيضا ، بأن يقال :
الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعيّ للآخر.
قولان آخران في
هذه الصورة
|
ويندفع : بأنّ نفس
وجوده غير مشكوك في زمان ، وأمّا وجوده في زمان الآخر فليس مسبوقا بالعدم.
ثمّ إنّه يظهر من
الأصحاب هنا قولان آخران :
أحدهما : جريان
هذا الأصل في طرف مجهول التأريخ ، وإثبات تأخّره عن معلوم التأريخ بذلك. وهو ظاهر
المشهور ، وقد صرّح بالعمل به الشيخ وابن حمزة والمحقّق والعلاّمة والشهيدان وغيرهم في
__________________
بعض الموارد ،
منها : مسألة اتّفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان واختلافهما في موت
المورّث قبل الغرّة أو بعدها ، فإنّهم حكموا بأنّ القول قول مدّعي تأخّر الموت.
نعم ، ربما يظهر
من إطلاقهم التوقّف في بعض المقامات ـ من غير تفصيل بين العلم بتأريخ أحد الحادثين
وبين الجهل بهما ـ عدم العمل بالأصل في المجهول مع علم تأريخ الآخر ، كمسألة
اشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ، ومسألة اشتباه الجمعتين ، واشتباه موت المتوارثين
، ومسألة اشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع على وقوع البيع أو تأخّره
عنه ، وغير ذلك.
لكنّ الإنصاف :
عدم الوثوق بهذا الإطلاق ، بل هو إمّا محمول على صورة الجهل بتأريخهما ـ وأحالوا
صورة العلم بتأريخ أحدهما على ما صرّحوا به في مقام آخر ـ أو على محامل أخر.
وكيف كان ، فحكمهم
في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الإسلام وتأخّره مع إطلاقهم في تلك الموارد
، من قبيل النصّ والظاهر. مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الإطلاق في موارد
، كالشهيدين في الدروس والمسالك في مسألة
الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الإذن في بيع الرهن على بيعه وتأخّره ، والعلاّمة
الطباطبائيّ في مسألة
__________________
اشتباه السابق من
الحدث والطهارة.
هذا ، مع أنّه لا
يخفى ـ على متتبّع موارد هذه المسائل وشبهها ممّا يرجع في حكمها إلى الاصول ـ أنّ
غفلة بعضهم بل أكثرهم عن مجاري الاصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة.
الثاني : عدم
العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تأريخ أحدهما بصورة جهل تأريخهما. وقد صرّح به بعض
المعاصرين ـ تبعا لبعض الأساطين ـ مستشهدا على
ذلك بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين والطهارة والحدث وموت المتوارثين ،
مستدلا على ذلك بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل.
وظاهر استدلاله
إرادة ما ذكرنا : من عدم ترتيب أحكام صفة التأخّر وكون المجهول متحقّقا بعد المعلوم.
لكن ظاهر استشهاده
بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتأريخ
أحدهما أصلا. فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة ، وشككنا في حياة ولده في
ذلك الزمان ، فالأصل بقاء حياة ولده ، فيحكم له بإرث أبيه ، وظاهر هذا القائل عدم
الحكم بذلك ، وكون حكمه حكم الجهل بتأريخ موت زيد أيضا في عدم التوارث بينهما.
وكيف كان ، فإن
أراد هذا القائل ترتيب آثار تأخّر ذلك الحادث
__________________
ـ كما هو ظاهر
المشهور ـ فإنكاره في محلّه.
وإن أراد عدم جواز
التمسّك باستصحاب عدم ذلك الحادث ووجود ضدّه وترتيب جميع آثاره الشرعيّة في زمان
الشكّ ، فلا وجه لإنكاره ؛ إذ لا يعقل الفرق بين مستصحب
علم بارتفاعه في زمان وما لم يعلم.
وأمّا ما ذكره :
من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها ، فقد عرفت ما فيه .
فالحاصل : أنّ
المعتبر في مورد الشكّ في تأخّر حادث عن آخر استصحاب عدم الحادث في زمان حدوث
الآخر.
فإن كان زمان
حدوثه معلوما فيجري أحكام بقاء المستصحب في زمان الحادث المعلوم لا غيرها ، فإذا
علم بتطهّره في الساعة الاولى من النهار ، وشكّ في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو
بعدها ، فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة ، لكن لا يلزم من
ذلك ارتفاع الطهارة المتحقّقة في الساعة الاولى ، كما تخيّله بعض الفحول .
وإن كان مجهولا
كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالا ، وسيجيء توضيحه .
__________________
صحّة الاستصحاب القهقرى بناء على الأصل المثبت
|
واعلم : أنّه قد
يوجد شيء في زمان ويشكّ في مبدئه ، ويحكم بتقدّمه ؛ لأنّ تأخّره لازم لحدوث حادث
آخر قبله والأصل عدمه ، وقد يسمّى ذلك بالاستصحاب القهقرى.
مثاله : أنّه إذا
ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشكّ في كونها كذلك قبل ذلك حتّى
تحمل خطابات الشارع على ذلك ، فيقال : مقتضى الأصل كون الصيغة حقيقة فيه في ذلك
الزمان ، بل قبله ؛ إذ لو كان في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل وتعدّد الوضع ،
والأصل عدمه.
الاتفاق على هذا الاستصحاب في الاصول اللفظيّة
|
وهذا إنّما يصحّ
بناء على الأصل المثبت ، وقد استظهرنا سابقا أنّه متّفق عليه
في الاصول اللفظيّة ، ومورده : صورة الشكّ في وحدة المعنى وتعدّده. أمّا إذا علم
التعدّد وشكّ في مبدأ حدوث الوضع المعلوم في زماننا ، فمقتضى الأصل عدم ثبوته قبل
الزمان المعلوم ؛ ولذا اتّفقوا في مسألة الحقيقة الشرعيّة على أنّ الأصل فيها عدم
الثبوت.
__________________
الأمر الثامن
هل يجري استصحاب صحّة العبادة عند الشكّ في طروء مفسد؟
|
قد يستصحب صحّة
العبادة عند الشكّ في طروّ مفسد ، كفقد ما يشكّ في اعتبار وجوده في العبادة ، أو
وجود ما يشكّ في اعتبار عدمه. وقد اشتهر التمسّك بها بين الأصحاب ، كالشيخ والحلّي والمحقّق والعلاّمة وغيرهم .
وتحقيقه وتوضيح
مورد جريانه : أنّه لا شكّ ولا ريب في أنّ المراد بالصحّة المستصحبة ليس صحّة
مجموع العمل ؛ لأنّ الفرض التمسّك به عند الشكّ في الأثناء.
وأمّا صحّة
الأجزاء السابقة فالمراد بها : إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، وإمّا ترتّب
الأثر عليها :
__________________
أمّا موافقتها
للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ، سواء فسد العمل أم لا ؛ لأنّ فساد العمل
لا يوجب خروج الأجزاء المأتيّ بها على طبق الأمر المتعلّق بها عن كونها كذلك ؛
ضرورة عدم انقلاب الشيء عمّا وجد عليه.
وأمّا ترتّب الأثر
، فليس الثابت منه للجزء ـ من حيث إنّه جزء ـ إلاّ كونه بحيث لو ضمّ إليه الأجزاء
الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ ، في مقابل الجزء الفاسد ، وهو الذي لا
يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه وجود الكلّ.
ومن المعلوم أنّ
هذا الأثر موجود في الجزء دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية ، أم قطع بعدمه ،
أم شكّ في ذلك. فإذا شكّ في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء ، فالقطع ببقاء
صحّة تلك الأجزاء لا ينفع في تحقّق الكلّ مع وصف هذا الشكّ ، فضلا عن استصحاب
الصحّة. مع ما عرفت : من أنّه ليس الشكّ في بقاء صحّة تلك الأجزاء ، بأيّ معنى
اعتبر من معاني الصحّة.
ومن هنا ، ردّ هذا
الاستصحاب جماعة من المعاصرين ممّن يرى حجّيّة الاستصحاب مطلقا.
لكنّ التحقيق :
التفصيل بين موارد التمسّك.
بيانه : أنّه قد
يكون الشكّ في الفساد من جهة احتمال فقد أمر معتبر أو وجود أمر مانع ، وهذا هو
الذي لا يعتنى في نفيه باستصحاب
__________________
الصحّة ؛ لما عرفت
: من أنّ فقد بعض ما يعتبر من الامور اللاحقة لا يقدح في
صحّة الأجزاء السابقة.
وقد يكون من جهة
عروض ما ينقطع معه الهيئة الاتّصاليّة المعتبرة في الصلاة ، فإنّا استكشفنا ـ من
تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع ـ أنّ للصلاة هيئة اتصاليّة
ينافيها توسّط بعض الأشياء في خلال أجزائها ، الموجب لخروج الأجزاء اللاحقة عن
قابليّة الانضمام والأجزاء السابقة عن قابليّة الانضمام إليها ، فإذا شكّ في شيء
من ذلك وجودا أو صفة جرى استصحاب صحّة الأجزاء ـ بمعنى بقائها على القابليّة
المذكورة ـ فيتفرّع على ذلك عدم وجوب استئنافها ، أو استصحاب الاتصال الملحوظ بين
الأجزاء السابقة وما يلحقها من الأجزاء الباقية ، فيتفرّع عليه بقاء الأمر
بالإتمام.
وهذا الكلام وإن
كان قابلا للنقض والإبرام ، إلاّ أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفيّة في كثير من
الاستصحابات جريان الاستصحاب في المقام.
التمسّك في مطلق الشكّ في الفساد باستصحاب حرمة القطع وغير ذلك ومناقشتها
|
وربما يتمسّك في مطلق الشكّ في الفساد ، باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ.
وفيه : أنّ
الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة ، والمفروض الشكّ في الصحّة.
وربما يتمسّك في
إثبات الصحّة في محلّ الشكّ ، بقوله تعالى :
__________________
(وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ).
وقد بيّنا عدم
دلالة الآية على هذا المطلب في أصالة البراءة عند الكلام في مسألة الشكّ في
الشرطيّة ، وكذلك التمسّك بما عداها من العمومات المقتضية للصحّة.
__________________
الأمر التاسع
لا فرق في
المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة أو الأحكام الشرعيّة
العمليّة ، اصوليّة كانت أو فرعيّة.
عدم جريان الاستصحاب في الامور الاعتقاديّة
|
وأمّا الشرعيّة
الاعتقاديّة ، فلا يعتبر الاستصحاب فيها ؛ لأنّه :
إن كان من باب
الأخبار فليس مؤدّاها إلاّ الحكم على ما كان معمولا به على
تقدير اليقين ، والمفروض أنّ وجوب الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به لا
يمكن الحكم به عند الشكّ ؛ لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف.
وإن كان من باب
الظنّ فهو مبنيّ على اعتبار الظنّ في اصول الدين ، بل الظنّ غير حاصل فيما كان
المستصحب من العقائد الثابتة بالعقل أو النقل القطعيّ ؛ لأنّ الشكّ إنّما ينشأ من
تغيّر بعض ما يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في المستصحب. نعم ، لو شكّ في نسخة
أمكن دعوى الظنّ ، لو لم يكن احتمال النسخ ناشئا عن احتمال نسخ أصل
__________________
الشريعة ، لا نسخ
الحكم في تلك الشريعة.
أمّا الاحتمال
الناشئ عن احتمال نسخ الشريعة فلا يحصل الظنّ بعدمه ؛ لأنّ نسخ الشرائع شائع ،
بخلاف نسخ الحكم في شريعة واحدة ؛ فإنّ الغالب بقاء الأحكام.
لو شكّ في نسخ أصل الشريعة؟
|
وممّا ذكرنا يظهر
أنّه لو شكّ في نسخ أصل الشريعة لم يجز التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقائها ، مع
أنّه لو سلّمنا حصول الظنّ فلا دليل على حجّيّته حينئذ ؛ لعدم مساعدة العقل عليه
وإن انسدّ باب العلم ؛ لإمكان الاحتياط إلاّ فيما لا يمكن. والدليل النقليّ الدالّ
عليه لا يجدي ؛ لعدم ثبوت الشريعة السابقة ولا اللاحقة.
تمسّك بعض أهل الكتاب باستصحاب شرعه
|
فعلم ممّا ذكرنا
أنّ ما يحكى : من تمسّك بعض أهل الكتاب ـ في مناظرة بعض الفضلاء السادة ـ باستصحاب شرعه ، ممّا لا وجه له ، إلاّ أن يريد جعل البيّنة على المسلمين
في دعوى الشريعة الناسخة ، إمّا لدفع كلفة الاستدلال عن نفسه ، وإمّا لإبطال دعوى
المدّعي ؛ بناء على أنّ مدّعي الدين الجديد كمدّعي النبوّة يحتاج إلى برهان قاطع ،
فعدم الدليل القاطع للعذر على الدين الجديد ـ كالنبيّ الجديد ـ دليل قطعيّ
__________________
على عدمه بحكم
العادة ، بل العقل ، فغرض الكتابيّ إثبات حقّية دينه بأسهل الوجهين.
بعض الأجوبة عن استصحاب الكتابي ومناقشتها
|
ثمّ إنّه قد اجيب
عن استصحاب الكتابيّ المذكور بأجوبة :
منها : ما حكي عن بعض الفضلاء المناظرين له :
وهو أنّا نؤمن
ونعترف بنبوّة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكافر بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك. وهذا مضمون ما ذكره مولانا
الرضا عليهالسلام في جواب الجاثليق .
وهذا الجواب
بظاهره مخدوش بما عن الكتابيّ : من أنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد
وجزئيّ حقيقيّ اعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، فعلى المسلمين نسخها.
وأمّا ما ذكره
الإمام عليهالسلام ، فلعلّه أراد به غير ظاهره ، بقرينة ظاهرة بينه وبين
الجاثليق. وسيأتي ما يمكن أن يؤوّل به.
٢
ـ ما ذكره الفاضل النراقي
|
ومنها : ما ذكره
بعض المعاصرين : من أنّ استصحاب النبوّة معارض باستصحاب عدمها الثابت قبل
حدوث أصل النبوّة ؛ بناء على أصل فاسد تقدّم حكايته عنه ، وهو : أنّ الحكم الشرعيّ
الموجود يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وبعده يتعارض استصحاب وجوده
__________________
واستصحاب عدمه.
وقد أوضحنا فساده
بما لا مزيد عليه .
٣
ـ ما ذكره المحقّق القمّي
|
ومنها : ما ذكره
في القوانين ـ بانيا له على ما تقدّم منه في الأمر الأوّل : من أنّ الاستصحاب
مشروط بمعرفة استعداد المستصحب ، فلا يجوز استصحاب حياة الحيوان المردّد بين
حيوانين مختلفين في الاستعداد بعد انقضاء مدّة استعداد أقلّهما استعدادا ـ قال :
إنّ موضوع
الاستصحاب لا بدّ أن يكون متعيّنا حتّى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلاّ
النبوّة في الجملة ، وهي كلّيّ من حيث إنّها قابلة للنبوّة إلى آخر الأبد ، بأن
يقول الله جلّ ذكره لموسى عليهالسلام : «أنت نبيّي وصاحب ديني إلى آخر الأبد». ولأن يكون إلى
زمان محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بأن يقول له : «أنت نبيّي ودينك باق إلى زمان محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم». ولأن يكون غير مغيّا بغاية ، بأن يقول : «أنت نبيّي»
بدون أحد القيدين. فعلى الخصم أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد ،
أو الإطلاق. ولا سبيل إلى الأوّل ، مع أنّه يخرج عن الاستصحاب. ولا إلى الثاني ؛
لأنّ الإطلاق في معنى القيد ، فلا بدّ من إثباته. ومن المعلوم أنّ مطلق النبوّة
غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو الثاني دون الأوّل ؛ إذ الكلّي لا
يمكن استصحابه إلاّ بما يمكن من بقاء أقلّ أفراده ، انتهى موضع الحاجة.
وفيه :
__________________
أوّلا : ما تقدّم ، من عدم توقّف جريان الاستصحاب على إحراز استعداد المستصحب.
وثانيا : أنّ ما
ذكره ـ من أنّ الإطلاق غير ثابت ، لأنّه في معنى القيد ـ غير صحيح ؛ لأنّ عدم
التقييد مطابق للأصل. نعم ، المخالف للأصل الإطلاق بمعنى العموم الراجع إلى
الدوام.
والحاصل : أنّ هنا
في الواقع ونفس الأمر نبوّة مستدامة إلى آخر الأبد ، ونبوّة مغيّاة إلى وقت خاصّ ،
ولا ثالث لهما في الواقع ، فالنبوّة المطلقة ـ بمعنى غير المقيّدة ـ ومطلق النبوّة
سيّان في التردّد بين الاستمرار والتوقيت ، فلا وجه لإجراء الاستصحاب على أحدهما
دون الآخر. إلاّ أن يريد ـ بقرينة ما ذكره بعد ذلك ، من أنّ المراد من مطلقات كلّ
شريعة بحكم الاستقراء الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع ـ أنّ المطلق في حكم
الاستمرار ، فالشكّ فيه شكّ في الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة ؛ فإنّ استعداده غير
محرز عند الشكّ ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد.
وثالثا : أنّ ما
ذكره منقوض بالاستصحاب في الأحكام الشرعيّة ؛ لجريان ما ذكره في كثير منها ، بل في
أكثرها.
وقد تفطّن لورود
هذا عليه ، ودفعه بما لا يندفع به ، فقال :
إنّ التتبّع
والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة ـ في غير ما ثبت في الشرع له حدّ ـ ليست
بآنيّة ، ولا محدودة إلى حدّ معيّن ، وأنّ الشارع اكتفى فيها فيما ورد عنه مطلقا
في استمراره ، ويظهر
__________________
من الخارج أنّه
أراد منه الاستمرار ؛ فإنّ من تتبّع أكثر الموارد واستقرأها يحصّل الظنّ القويّ بأنّ مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار إلى أن يثبت
الرافع من دليل عقليّ أو نقليّ ، انتهى.
ولا يخفى ما فيه :
المناقشة في هذا الكلام أيضاً
|
أمّا أوّلا :
فلأنّ مورد النقض لا يختصّ بما شكّ في رفع الحكم الشرعيّ الكلّيّ ، بل قد يكون
الشكّ لتبدّل ما يحتمل مدخليّته في بقاء الحكم ، كتغيّر الماء للنجاسة.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ الشكّ في رفع الحكم الشرعيّ إنّما هو بحسب ظاهر دليله الظاهر في الاستمرار ـ
بنفسه أو بمعونة القرائن ، مثل الاستقراء الذي ذكره في المطلقات ـ لكنّ الحكم
الشرعيّ الكلّي في الحقيقة إنّما يرتفع بتمام استعداده ، حتّى في النسخ ، فضلا عن
نحو الخيار المردّد بين كونه على الفور أو التراخي ، والنسخ أيضا رفع صوريّ ،
وحقيقته انتهاء استعداد الحكم ، فالشكّ في بقاء الحكم الشرعيّ لا يكون إلاّ من جهة
الشكّ في مقدار استعداده ، نظير الحيوان المجهول استعداده.
وأمّا ثالثا :
فلأنّ ما ذكره ـ من حصول الظنّ بإرادة الاستمرار من الإطلاق ـ لو تمّ ، يكون دليلا
اجتهاديّا مغنيا عن التمسّك بالاستصحاب ؛ فإنّ التحقيق : أنّ الشكّ في نسخ الحكم
المدلول عليه بدليل ظاهر ـ في
__________________
نفسه أو بمعونة
دليل خارجيّ ـ في الاستمرار ، ليس موردا للاستصحاب ؛ لوجود الدليل الاجتهاديّ في
مورد الشكّ ، وهو ظنّ الاستمرار. نعم ، هو من قبيل استصحاب حكم العامّ إلى أن يرد
المخصّص ، وهو ليس استصحابا في حكم شرعيّ ، كما لا يخفى.
ما أورده المحقّق القمّي على نفسه وأجاب عنه
|
ثمّ إنّه قدسسره أورد على ما ذكره
ـ من قضاء التتبّع بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الإطلاق ـ : بأنّ النبوّة
أيضا من تلك الأحكام.
ثمّ أجاب : بأنّ
غالب النبوّات محدودة ، والذي ثبت علينا استمراره نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ولا يخفى ما في
هذا الجواب :
المناقشة في جوابه قدسسره
|
أمّا أوّلا :
فلأنّ نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها ، فللخصم أن يدّعي ظهور أدلّتها ـ في
أنفسها أو بمعونة الاستقراء ـ في الاستمرار ، فانكشف نسخ ما نسخ وبقي ما لم يثبت
نسخه.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ غلبة التحديد في النبوّات غير مجدية ؛ للقطع بكون إحداها مستمرّة ، فليس ما وقع الكلام في استمراره أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه
بالغالب وإلحاقه بالنادر ، بل يشكّ في أنّه الفرد النادر أو النادر غيره ، فيكون
هذا ملحقا بالغالب.
والحاصل : أنّ هنا
أفرادا غالبة وفردا نادرا ، وليس هنا مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور
بين كون هذا الفرد هو الأخير
__________________
النادر ، أو ما
قبله الغالب ، بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه كون هذا هو
الأخير المغاير للباقي.
ما أورده على نفسه ثانياً وأجابعنه
|
ثمّ أورد قدسسره على نفسه : بجواز
استصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة.
وأجاب : بأنّ
إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة مجيء نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم لا ينفعهم .
الإيراد على جوابه قدسسره
|
وربما يورد عليه :
أنّ الكتابيّ لا يسلّم البشارة المذكورة حتّى يضرّه في التمسّك بالاستصحاب أو لا
ينفعه.
ويمكن توجيه كلامه
: بأنّ المراد أنّه إذا لم ينفع الإطلاق مع اقترانها بالبشارة ، فإذا فرض قضيّة
نبوّته مهملة غير دالّة إلاّ على مطلق النبوّة ، فلا ينفع الإطلاق بعد العلم
بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوّة ؛ فإنّها تصير أيضا حينئذ مهملة.
الجواب عن استصحاب الكتابي بوجوه أخر
|
ثمّ إنّه يمكن
الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه :
الوجه الأوّل :
أنّ المقصود من التمسّك به :
إن كان الاقتناع
به في العمل عند الشكّ ، فهو ـ مع مخالفته للمحكيّ عنه من قوله : «فعليكم كذا وكذا»
؛ فإنّه ظاهر في أنّ غرضه الإسكات والإلزام ـ فاسد جدّا ؛ لأنّ العمل به على تقدير
تسليم جوازه غير جائز إلاّ بعد الفحص والبحث ، وحينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين
__________________
بناء على ما ثبت :
من انفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ، كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب
الكفّار ، والإجماع المدّعى على عدم معذوريّة
الجاهل ، خصوصا في هذه المسألة ، خصوصا من مثل هذا الشخص الناشئ
في بلاد الإسلام. وكيف كان ، فلا يبقى مجال للتمسّك بالاستصحاب.
وإن أراد به
الإسكات والإلزام ، ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلا إسكاتيّا ؛ لأنّه فرع الشكّ ،
وهو أمر وجدانيّ ـ كالقطع ـ لا يلزم به أحد.
وإن أراد بيان أنّ
مدّعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ، فهو غلط ؛ لأنّ مدّعي
البقاء في مثل المسألة ـ أيضا ـ يحتاج إلى الاستدلال عليه.
الوجه الثاني :
أنّ اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار ، فلا ينفع الكتابيّ التمسّك به ؛ لأنّ
ثبوته في شرعنا مانع عن استصحاب النبوّة ، وثبوته في شرعهم غير معلوم. نعم ، لو
ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسّك به ؛ لصيرورته حكما إلهيّا غير منسوخ يجب تعبّد
__________________
الفريقين به.
وإن كان من باب
الظنّ ، فقد عرفت ـ في صدر المبحث ـ أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعيّ الكلّيّ
ممنوع جدّا ، وعلى تقديره فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوع. وإرجاع الظنّ
بها إلى الظنّ بالأحكام الكلّيّة الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي ؛ لمنع
الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد الغير الجاري في المقام مع التمكّن
من التوقّف والاحتياط في العمل. ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ،
خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث.
ودعوى : قيام
الدليل الخاصّ على اعتبار هذا الظنّ ؛ بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين : من أنّ شرائع الأنبياء السلف وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها
في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبيّ اللاحق ، ولا ريب أنّها
تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ، ولو لا ذلك لاختلّ على الامم السابقة نظام
شرائعهم ؛ من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبيّ ولو في الأماكن البعيدة ، فلا
يستقرّ لهم البناء على أحكامهم.
مدفوعة : بأنّ
استقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا ؛ وإلاّ لزم كونهم شاكّين في حقّيّة
شريعتهم ونبوّة نبيّهم في أكثر الأوقات لما تقدّم : من أنّ الاستصحاب بناء على كونه من باب الظنّ لا يفيد
__________________
الظنّ الشخصيّ في
كلّ مورد. وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب ، هي ترتيب الأعمال
المترتّبة على الدين السابق دون حقّيّة دينهم ونبوّة نبيّهم التي هي من اصول
الدين.
فالأظهر أن يقال :
إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم ؛ من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبيّ
السابق. نعم ، بعد ظهور النبيّ الجديد ، الظاهر كونهم شاكّين في دينهم مع بقائهم
على الأعمال ، وحينئذ فللمسلمين أيضا أن يطالبوا اليهود بإثبات حقيّة دينهم ؛ لعدم
الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء على الأعمال في الظاهر .
الثالث : أنّا لم نجزم بالمستصحب ـ وهي
نبوّة موسى أو عيسى عليهماالسلام ـ إلاّ بإخبار نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ونصّ القرآن ؛ وحينئذ فلا معنى للاستصحاب.
ودعوى : أنّ
النبوّة موقوفة على صدق نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم لا على نبوّته ، مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلاّ من حيث
نبوّته.
والحاصل : أنّ
الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه
الشريعة. وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى عليهالسلام ؛ لإمكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود .
الرابع : أنّ مرجع
النبوّة المستصحبة ليس إلاّ إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبيّ ، وإلاّ
فأصل صفة النبوّة أمر قائم بنفس النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا معنى لاستصحابه ؛ لعدم قابليّته للارتفاع أبدا. ولا
ريب
__________________
أنّا قاطعون بأنّ
من أعظم ما جاء به النبيّ السابق الإخبار بنبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى ـ حكاية عن
عيسى ـ : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) فكلّ ما جاء به من الأحكام فهو في الحقيقة مغيّا بمجيء نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فدين عيسى عليهالسلام المختصّ به عبارة عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالا بمجيء
نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن المعلوم أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضرّ
المسلمين فضلا عن استصحابه.
فإن أراد الكتابيّ
دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالا بالبشارة المذكورة ، فنحن منكرون له ، وإن
أراد هذه الجملة ، فهو عين مذهب المسلمين ، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغيّاة لا
رفع حقيقة ، ومعنى النسخ انتهاء مدّة الحكم المعلومة إجمالا.
فإن قلت : لعلّ
مناظرة الكتابيّ ، في تحقّق الغاية المعلومة ، وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم
لا ، فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب.
قلت : المسلّم هو
الدين المغيّا بمجيء هذا الشخص الخاصّ ، لا بمجيء موصوف كلّيّ حتّى يتكلّم في
انطباقه على هذا الشخص ، ويتمسّك بالاستصحاب.
الخامس : أن يقال
: إنّا ـ معاشر المسلمين ـ لمّا علمنا أنّ النبيّ السالف أخبر بمجيء نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الإقرار به والإيمان به
متوقّف على تبليغ ذلك إلى رعيّته ، صحّ لنا أن
__________________
نقول : إنّ
المسلّم نبوّة النبيّ السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والنبوّة التقديريّة لا يضرّنا ولا ينفعهم في بقاء
شريعتهم.
كلام الإمام الرضا عليهالسلام في جواب
الجاثليق
|
ولعلّ هذا الجواب
يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات الله عليه في جواب الجاثليق ، حيث
قال له عليهالسلام :
ما تقول في نبوّة
عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟
قال عليهالسلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمّته وأقرّت به الحواريّون ،
وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وكتابه ولم يبشّر به أمّته.
ثمّ قال الجاثليق
: أليس تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟
قال عليهالسلام : بلى.
قال الجاثليق :
فأقم شاهدين عدلين ـ من غير أهل ملّتك ـ على نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّن لا تنكره النصرانيّة ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل
ملّتنا.
قال عليهالسلام : الآن جئت بالنّصفة يا نصرانيّ.
ثمّ ذكر عليهالسلام إخبار خواصّ عيسى عليهالسلام بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ولا يخفى : أنّ
الإقرار بنبوّة عيسى عليهالسلام وكتابه وما بشّر به أمّته لا يكون حاسما لكلام الجاثليق ،
إلاّ إذا اريد المجموع من حيث المجموع ، بجعل الإقرار بعيسى عليهالسلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة.
ويشهد له قوله عليهالسلام بعد ذلك : «كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم
__________________
يبشّر» ؛ فإنّ هذا
في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق.
وأمّا التزامه عليهالسلام بالبيّنة على دعواه ، فلا يدلّ على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد
ذلك ، بل لأنّه عليهالسلام من أوّل المناظرة ملتزم بالإثبات ، وإلاّ فالظاهر المؤيّد
بقول الجاثليق : «وسلنا مثل ذلك» كون كلّ منهما مدّعيا ، إلاّ أن يريد الجاثليق
ببيّنته نفس الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى عليهالسلام ؛ إذ لا بيّنة له ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ، فافهم.
الأمر العاشر
دوران الأمر بين التمسّك بالعامّ أو استصحاب حكم المخصّص
|
أنّ الدليل الدالّ
على الحكم في الزمان السابق :
إمّا أن يكون
مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كقوله : «أكرم العلماء في كلّ زمان» ،
وكقوله : «لا تهن فقيرا» ؛ حيث إنّ النهي للدوام.
الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق على ثلاثة أنحاء
|
وإمّا أن يكون
مبيّنا لعدمه ، نحو : «أكرم العلماء إلى أن يفسقوا» ؛ بناء على مفهوم الغاية.
وإمّا أن يكون غير
مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا : إمّا لإجماله ، كما إذا أمر
بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة.
وإمّا لقصور
دلالته ، كما إذا قال : «إذا تغيّر الماء نجس» ؛ فإنّه لا يدلّ على أزيد من حدوث
النجاسة في الماء ، ومثل الإجماع المنعقد على حكم في زمان ؛ فإنّ الإجماع لا يشمل
ما بعد ذلك الزمان.
ولا إشكال في
جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث.
وأمّا القسم
الثاني ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛
__________________
لوجود الدليل على
ارتفاع الحكم في الزمان الثاني.
وكذلك القسم
الأوّل ؛ لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق كاف ومغن عن الاستصحاب ، بل مانع عنه ؛ إذ
المعتبر في الاستصحاب عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة.
هل يجري استصحاب حكم المخصّص مع العموم الأزماني أم لا؟
|
ثمّ إذا فرض خروج
بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ، فشكّ فيما بعد ذلك الزمان المخرج ،
بالنسبة إلى ذلك الفرد ، هل هو ملحق به في الحكم أو ملحق بما قبله؟
الحقّ : هو
التفصيل في المقام ، بأن يقال :
إذا كان العموم الأزماني أفراديّا
|
إن اخذ فيه عموم
الأزمان أفراديّا ، بأن اخذ كلّ زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقلّ ؛ لينحلّ العموم
إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان ، كقوله : «أكرم
العلماء كلّ يوم» فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة. ومثله ما لو
قال : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلا ، فحينئذ يعمل عند الشكّ
بالعموم ، ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الاصول ؛
لعدم قابليّة المورد للاستصحاب.
إذا كان العموم الأزماني استمراريّا
|
وإن اخذ لبيان
الاستمرار ، كقوله : «أكرم العلماء دائما» ، ثمّ خرج فرد في زمان ، وشكّ في حكم
ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب ؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك
الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ؛ لأنّ مورد التخصيص
__________________
الأفراد دون
الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل ، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم ، بل
إلى الاصول الأخر.
ولا فرق بين
استفادة الاستمرار من اللفظ ، كالمثال المتقدّم ، أو من الإطلاق ، كقوله : «تواضع
للناس» ـ بناء على استفادة الاستمرار منه ـ فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض
الأزمنة ، على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا مستقلا
لمتعلّق الحكم ، استصحب حكمه بعد الخروج ، وليس هذا من باب تخصيص العامّ
بالاستصحاب.
المخالفة لما ذكرنا في موضعين
|
وقد صدر خلاف ما
ذكرنا ـ من أنّ مثل هذا من مورد الاستصحاب ، وأنّ هذا ليس من تخصيص العامّ به ـ في موضعين
:
١
ـ ما ذكره المحقّق الثاني في مسألة خيار الغبن وما يرد عليه
|
أحدهما : ما ذكره
المحقّق الثاني ; في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان : من أنّه فوريّ
؛ لأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد ، يستتبع عموم الأزمان .
وحاصله : منع
جريان الاستصحاب ؛ لأجل عموم وجوب الوفاء ، خرج منه أوّل زمان الاطّلاع على الغبن
وبقي الباقي.
وظاهر الشهيد
الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا الخيار. وهو الأقوى ؛ بناء على أنّه لا
يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء إلاّ كون الحكم مستمرّا ، لا أنّ الوفاء في كلّ زمان
موضوع مستقلّ محكوم بوجوب مستقلّ ، حتّى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض
العقد في جزء من الزمان وبقي الباقي.
__________________
نعم لو استظهر من
وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض بجواز نقضه في زمان ، بالإضافة إلى غيره من
الأزمنة ، صحّ ما ادّعاه المحقّق قدسسره.
لكنّه بعيد ؛
ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعة من متأخّري المتأخّرين تبعا للمسالك .
إلاّ أنّ بعضهم قيّده بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو الإجماع ، لا أدلّة نفي الضرر ؛
لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل.
ولا أجد وجها لهذا
التفصيل ؛ لأنّ نفي الضرر إنّما نفى لزوم العقد ، ولم يحدّد زمان الجواز ، فإن كان
عموم أزمنة وجوب الوفاء يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضرر ، ويرجع في الزائد إلى العموم ، فالإجماع أيضا كذلك ، يقتصر فيه على معقده.
٢
ـ ما ذكره السيّد بحر العلوم قدسسره
|
والثاني : ما ذكره
بعض من قارب عصرنا من الفحول : من أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعيّ مخصّص
للعمومات ، ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيّته ، من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز
نقض اليقين بغير اليقين ؛ إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ، وإلاّ
لم
__________________
يتحقّق لنا في
الأدلّة دليل خاصّ ؛ لانتهاء كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ، بل العبرة بنفس الدليل.
ولا ريب أنّ
الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاصّ به ، لا يتعدّاه إلى
غيره ، فيقدّم على العامّ ، كما يقدّم غيره من الأدلّة عليه ؛ ولذا ترى الفقهاء
يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب ، في مقابلة ما دلّ على البراءة
الأصليّة وطهارة الأشياء وحلّيّتها. ومن ذلك : استنادهم إلى استصحاب النجاسة
والتحريم في صورة الشكّ في ذهاب ثلثي العصير ، وفي كون التحديد تحقيقيّا أو
تقريبيّا ، وفي صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا ، إلى غير ذلك . انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين .
المناقشة في ما أفاده بحر العلوم
|
ولا يخفى ما في
ظاهره ؛ لما عرفت : من أنّ مورد جريان العموم لا يجري الاستصحاب حتّى لو لم يكن
عموم ، ومورد جريان الاستصحاب لا يرجع إلى العموم ولو لم يكن استصحاب.
ثمّ ما ذكره من
الأمثلة خارج عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ؛ لأنّ الاصول المذكورة بالنسبة
إلى الاستصحاب ليست من قبيل العامّ بالنسبة إلى الخاصّ ، كما سيجيء في تعارض
الاستصحاب مع
__________________
غيره من الاصول . نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّية إلى عموم «حلّ الطيّبات» و «حلّ
الانتفاع بما في الأرض» ، كان استصحاب حرمة العصير في المثالين الأخيرين مثالا لمطلبه ، دون المثال الأوّل ؛ لأنّه من قبيل الشكّ
في موضوع الحكم الشرعيّ ، لا في نفسه. ففي الأوّل يستصحب عنوان الخاصّ ، وفي
الثاني يستصحب حكمه ، وهو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم دون الأوّل.
ويمكن توجيه كلامه
قدسسره : بأنّ مراده من العمومات ـ بقرينة تخصيصه الكلام
بالاستصحاب المخالف ـ هي عمومات الاصول ، ومراده بالتخصيص للعمومات ما يعمّ الحكومة ـ كما ذكرنا في أوّل أصالة البراءة ـ وغرضه : أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ مستصحب إجراء حكم دليل المستصحب في
صورة الشكّ ، فلمّا كان دليل المستصحب أخصّ من الاصول سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ،
فالاستصحاب في ذلك متمّم لحكم ذلك الدليل ومجريه في الزمان اللاحق. وكذلك
الاستصحاب بالنسبة إلى العمومات الاجتهاديّة ؛ فإنّه إذا خرج المستصحب من العموم
بدليله ـ والمفروض أنّ الاستصحاب مجر لحكم ذلك الدليل في اللاحق ـ فكأنّه أيضا
مخصّص ، يعني موجب للخروج عن حكم العامّ ، فافهم.
__________________
الأمر الحادي عشر
لو تعذّر بعض المأمور به فهل يستصحب وجوب الباقي؟
|
قد أجرى بعضهم الاستصحاب في ما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فيستصحب وجوب الباقي الممكن.
وهو بظاهره ـ كما
صرّح به بعض المحقّقين ـ غير صحيح ؛ لأنّ الثابت سابقا ـ قبل تعذّر بعض الأجزاء ـ
وجوب هذه الأجزاء الباقية ، تبعا لوجوب الكلّ ومن باب المقدّمة ، وهو مرتفع قطعا ،
والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض هو الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ ، وهو معلوم
الانتفاء سابقا.
توجيه الاستصحاب بوجوه ثلاثة
|
ويمكن توجيهه ـ بناء
على ما عرفت ، من جواز إبقاء القدر
__________________
المشترك في بعض
الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقا ـ : بأنّ المستصحب هو مطلق
المطلوبيّة المتحقّقة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ ، إلاّ أنّ
العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه .
ويمكن توجيهه بوجه
آخر ـ يستصحب معه الوجوب النفسيّ ـ بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا ، والمشار
إليه بقولنا : «هذا الفعل كان واجبا» هو الباقي ، إلاّ أنّه يشكّ في مدخليّة الجزء
المفقود في اتصافه بالوجوب النفسيّ مطلقا ، أو اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ،
فيكون محلّ الوجوب النفسيّ هو الباقي ، ووجود ذلك
الجزء المفقود وعدمه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في
مدخليّتها. وهذا نظير استصحاب الكرّيّة في ماء نقص منه مقدار فشكّ في بقائه على
الكرّيّة ، فيقال : «هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كرّيته» مع أنّ هذا الشخص
الموجود الباقي لم يعلم بكرّيّته. وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدار.
وهنا توجيه ثالث ،
وهو : استصحاب الوجوب النفسيّ المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون
المفقود جزءا له مطلقا فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون
الجزء جزءا اختياريّا يبقى التكليف بعد تعذّره ، والأصل بقاؤه ، فيثبت به تعلّقه
__________________
بالمركّب على
الوجه الثاني.
وهذا نظير إجراء
استصحاب وجود الكرّ في هذا الإناء لإثبات كرّيّة الباقي فيه.
ويظهر فائدة
مخالفة التوجيهات :
فيما إذا لم يبق
إلاّ قليل من أجزاء المركّب ، فإنّه يجري التوجيه الأوّل والثالث دون الثاني ؛
لأنّ العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود وبين جامع الكلّ ولو مسامحة
؛ لأنّ هذه المسامحة مختصّة بمعظم الأجزاء الفاقد لما لا يقدح في إثبات الاسم
والحكم له.
وفيما لو كان
المفقود شرطا ، فإنّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل ويجري على الأخيرين.
وحيث إنّ بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد معظم الأجزاء وإجرائه في
فاقد الشرط ، كشف عن فساد التوجيه الأوّل.
وحيث إنّ بناءهم
على استصحاب نفس الكرّيّة دون الذات
__________________
المتّصف بها ، كشف
عن صحّة الأوّل من الأخيرين .
لكنّ الإشكال بعد
في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ استصحاب
الكرّيّة من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب ، والظاهر عدم الفرق.
عدم الفرق بناء على جريان الاستصحاب بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف أو
قبله
|
ثمّ إنّه لا فرق ـ
بناء على جريان الاستصحاب ـ بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف ، كما إذا زالت الشمس
متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ، وبين ما إذا فقده قبل الزوال ؛ لأنّ
المستصحب هو الوجوب النوعيّ المنجّز على تقدير اجتماع شرائطه ، لا الشخصيّ
المتوقّف على تحقّق الشرائط فعلا. نعم ، هنا أوضح.
وكذا لا فرق ـ بناء
على عدم الجريان ـ بين ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهاديّ ، وبين ثبوتها
بقاعدة الاشتغال.
وربما يتخيّل :
أنّه لا إشكال في الاستصحاب في القسم الثاني ؛ لأنّ وجوب الاتيان بذلك الجزء لم
يكن إلاّ لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ، وهذا بعينه مقتض لوجوب الاتيان بالباقي
بعد تعذّر الجزء.
وفيه : ما تقدّم ، من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل إنّما هو بحكم العقل لا
بالاستصحاب ، والاستصحاب لا ينفع إلاّ
__________________
بناء على الأصل
المثبت. ولو قلنا به لم يفرق بين ثبوت الجزء بالدليل أو بالأصل ؛ لما عرفت : من
جريان استصحاب بقاء أصل التكليف ، وإن كان بينهما فرق ؛ من حيث إنّ استصحاب
التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق سابقا في ضمن فرد معيّن بعد
العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن ، وفي استصحاب الاشتغال من قبيل استصحاب الكلّي
المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ، إلاّ في بعض مواردها بمساعدة العرف.
نسبة التمسّك بالاستصحاب في هذه المسألة إلى الفاضلين
|
ثمّ اعلم : أنّه
نسب إلى الفاضلين قدسسرهما التمسّك بالاستصحاب في هذه المسألة ، في مسألة الأقطع.
والمذكور في المعتبر
والمنتهى الاستدلال على وجوب غسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق : بأنّ
غسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجب ، فإذا زال البعض لم يسقط الآخر ، انتهى.
وهذا الاستدلال
يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» ؛ ولذا أبدله في الذكرى
بنفس القاعدة .
__________________
ويحتمل أن يراد
منه الاستصحاب ، بأن يراد منه : أنّ هذا الموجود بتقدير وجود المفقود في زمان سابق
واجب ، فإذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي ، والأصل عدمه ، أو لم يسقط بحكم
الاستصحاب.
ويحتمل أن يراد به
التمسّك بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء من غير مخصّص له بصورة التمكّن من
الجميع ، لكنّه ضعيف احتمالا ومحتملا.
الأمر الثاني عشر
جريان الاستصحاب حتّى مع الظنّ بالخلاف والدليل عليه من
وجوه
|
أنّه لا فرق في
احتمال خلاف الحالة السابقة بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه ، أو راجحا عليه
بأمارة غير معتبرة.
ويدلّ عليه وجوه :
الأوّل : الإجماع
القطعيّ على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.
الثاني : أنّ
المراد بالشكّ في الروايات معناه اللغويّ ، وهو خلاف اليقين ، كما في الصحاح . ولا خلاف فيه ظاهرا .
ودعوى : انصراف
المطلق في الروايات إلى معناه الأخصّ ، وهو الاحتمال المساوي ، لا شاهد لها ، بل
يشهد بخلافها ـ مضافا إلى تعارف إطلاق الشكّ في الأخبار على المعنى الأعمّ ـ موارد من الأخبار :
منها : مقابلة
الشكّ باليقين في جميع الأخبار.
__________________
ومنها : قوله عليهالسلام في صحيحة زرارة الاولى : «فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به» ؛ فإنّ ظاهره
فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم.
ومنها : قوله عليهالسلام : «لا ، حتّى يستيقن» ؛ حيث جعل غاية وجوب الوضوء الاستيقان بالنوم ومجيء أمر
بيّن عنه.
ومنها : قوله عليهالسلام : «ولكن ينقضه بيقين آخر» ؛ فإنّ الظاهر سوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين
في اليقين.
ومنها : قوله عليهالسلام في صحيحة زرارة الثانية : «فلعلّه شيء أوقع عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين
بالشّكّ» ؛ فإنّ كلمة «لعلّ» ظاهرة في مجرّد الاحتمال ، خصوصا مع وروده في مقام
إبداء ذلك كما في المقام ، فيكون الحكم متفرّعا عليه.
ومنها : تفريع
قوله عليهالسلام : «صم للرّؤية وأفطر للرّؤية» على قوله عليهالسلام : «اليقين لا يدخله الشّكّ» .
الثالث : أنّ
الظنّ الغير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند
الشارع ، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده.
وإن كان ممّا شكّ في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعليّ السابق
بسببه ، إلى نقض اليقين بالشكّ ، فتأمّل جدّا .
__________________
هذا كلّه على
تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار.
وأمّا على تقدير
اعتباره من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ، فظاهر كلماتهم أنّه لا
يقدح فيه أيضا وجود الأمارة الغير المعتبرة ، فيكون العبرة فيه عندهم بالظنّ
النوعيّ وإن كان الظنّ الشخصيّ على خلافه ؛ ولذا تمسّكوا به في مقامات غير محصورة
على الوجه الكلّيّ ، من غير التفات إلى وجود الأمارات الغير المعتبرة في خصوصيّات
الموارد.
واعلم : أنّ
الشهيد قدسسره في الذكرى ـ بعد ما ذكر مسألة الشكّ في تقدّم الحدث على
الطهارة ـ قال :
تنبيه : قولنا : «اليقين
لا يرفعه الشكّ» ، لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد ؛ لامتناع ذلك ،
ضرورة أنّ الشكّ في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر ، بل المعنيّ به : أنّ اليقين
الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ؛ لأصالة بقاء
ما كان على ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد ، فيرجّح
الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات ، انتهى.
توجيه كلام الشهيد «قدسسره»
|
ومراده من الشكّ
معناه اللغويّ ، وهو مجرّد الاحتمال المنافي لليقين ، فلا ينافي ثبوت الظنّ الحاصل
من أصالة بقاء ما كان ، فلا يرد ما اورد عليه : من أنّ الظنّ
كاليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ.
__________________
نعم ، يرد على ما
ذكرنا من التوجيه : أنّ الشهيد قدسسره في مقام دفع ما يتوهّم من التناقض المتوهّم في قولهم : «اليقين لا يرفعه الشّكّ» ، ولا ريب أنّ الشكّ الذي حكم بأنّه لا
يرفع اليقين ، ليس المراد منه الاحتمال الموهوم ؛ لأنّه إنّما يصير موهوما بعد
ملاحظة أصالة بقاء ما كان ، نظير المشكوك الذي يراد إلحاقه بالغالب ، فإنّه يصير
مظنونا بعد ملاحظة الغلبة. وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ـ كما
ذكره المدقّق الخوانساري ـ فلا يندفع به توهّم اجتماع الوهم واليقين المستفاد من
عدم رفع الأوّل للثاني. وإرادة اليقين السابق والشكّ اللاحق يغني عن إرادة خصوص
الوهم من الشكّ.
وكيف كان ، فما
ذكره المورد ـ من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ مطلقا ـ في
محلّه.
المراد من قولهم : «اليقين لا يرفعه الشكّ»
|
فالأولى أن يقال :
إنّ قولهم : «اليقين لا يرفعه الشكّ» لا دلالة فيه على اجتماعهما في زمان واحد ،
إلاّ من حيث الحكم في تلك القضيّة بعدم الرفع. ولا ريب أنّ هذا ليس إخبارا عن
الواقع ؛ لأنّه كذب ، وليس حكما شرعيّا بإبقاء نفس اليقين أيضا ؛ لأنّه غير معقول
، وإنّما هو حكم شرعيّ بعدم رفع آثار اليقين السابق بالشكّ اللاحق ، سواء كان احتمالا
مساويا أو مرجوحا.
__________________
خاتمة
ذكر بعضهم للعمل بالاستصحاب شروطا ، كبقاء الموضوع ، وعدم المعارض ، ووجوب الفحص.
والتحقيق : رجوع
الكلّ إلى شروط جريان الاستصحاب.
وتوضيح ذلك : أنّك
قد عرفت أنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما شكّ في بقائه ، وهذا لا يتحقّق إلاّ مع
الشكّ في بقاء القضيّة المحقّقة في السابق بعينها في الزمان اللاحق.
والشكّ على هذا
الوجه لا يتحقّق إلاّ بامور :
الأوّل
بقاء الموضوع في
الزمان اللاحق ، والمراد به معروض المستصحب.
__________________
فإذا اريد استصحاب
قيام زيد ، أو وجوده ، فلا بدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان
معروضا في السابق ، سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا ،
فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجيّ ، وللوجود بوصف تقرّره ذهنا ، لا
وجوده الخارجيّ.
وبهذا اندفع ما
استشكله بعض في كلّيّة اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، بانتقاضها
باستصحاب وجود الموجودات عند الشكّ في بقائها ؛ زعما منه أنّ المراد ببقائه وجوده
الخارجيّ الثانويّ ، وغفلة عن أنّ المراد وجوده الثانويّ على نحو وجوده الأوّليّ
الصالح لأن يحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه ، وإلاّ لم يجز أن يحمل عليه المستصحب في
الزمان السابق. فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو زيد القابل لأن يحكم عليه بالحياة
تارة وبالموت اخرى ، وهذا المعنى لا شكّ في تحقّقه عند الشكّ في بقاء حياته.
ثمّ الدليل على
اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح ؛ لأنّه لو لم يعلم تحقّقه لاحقا ، فإذا
اريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به :
فإمّا أن يبقى في
غير محلّ وموضوع ، وهو محال.
وإمّا أن يبقى في
موضوع غير الموضوع السابق ، ومن المعلوم أنّ هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض ،
وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد ، فيخرج عن الاستصحاب ، بل حدوثه
للموضوع
__________________
الجديد كان مسبوقا
بالعدم ، فهو المستصحب دون وجوده.
وبعبارة اخرى :
بقاء المستصحب لا في موضوع محال ، وكذا في موضوع آخر ؛ إمّا لاستحالة انتقال العرض
، وإمّا لأنّ المتيقّن سابقا وجوده في الموضوع السابق ، والحكم بعدم ثبوته لهذا
الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقّن السابق.
المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع
|
وممّا ذكرنا يعلم
: أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ، ولا يكفي احتمال البقاء ؛ إذ لا بدّ من
العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاء ، والحكم بعدمه نقضا.
هل يجوز إحراز الموضوع في الزمان اللاحق بالاستصحاب؟
|
فإن قلت : إذا كان
الموضوع محتمل البقاء فيجوز إحرازه في الزمان اللاحق بالاستصحاب .
قلت : لا مضايقة
من جواز استصحابه في بعض الصور ، إلاّ أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول
عليه.
بيان ذلك : أنّ
الشكّ في بقاء الحكم الذي يراد استصحابه : إمّا أن يكون مسبّبا عن سبب غير الشكّ
في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء ـ مثل أن يشكّ في عدالة مجتهده مع الشكّ في
حياته ـ وإمّا أن يكون مسبّبا عنه.
فإن كان الأوّل ،
فلا إشكال في استصحاب الموضوع عند الشكّ ، لكن استصحاب الحكم كالعدالة ـ مثلا ـ لا
يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ؛ لأنّ موضوع العدالة : زيد على تقدير الحياة ؛ إذ لا
شكّ فيها إلاّ على فرض الحياة ، فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة.
__________________
وبالجملة : فهنا
مستصحبان ، لكلّ منهما موضوع على حدة : حياة زيد ، وعدالته على تقدير الحياة ، ولا
يعتبر في الثاني إثبات الحياة .
وعلى الثاني ،
فالموضوع : إمّا أن يكون معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع
لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، وللمطهّريّة هو الماء بوصف الكرّيّة
والإطلاق ، ثمّ شكّ في بقاء تغيّر الماء الأوّل وكرّيّة الماء الثاني أو إطلاقه.
وإمّا أن يكون غير
معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما إذا لم يعلم
أنّ الموضوع للنجاسة هو الماء الذي حدث فيه التغيّر آناً ما ، أو الماء المتلبّس
فعلا بالتغيّر. وكما إذا شككنا في أنّ النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنّه كلب ،
أو المشترك بين الكلب وبين ما يستحال إليه من الملح أو غيره.
أمّا الأوّل ، فلا
إشكال في استصحاب الموضوع ، وقد عرفت ـ في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجيّة ـ أنّ استصحاب الموضوع ، حقيقته ترتيب الأحكام
الشرعيّة المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا ، فحقيقة استصحاب التغيّر
والكرّيّة والإطلاق في الماء ، ترتيب أحكامها المحمولة عليها ، كالنجاسة في الأوّل
، والمطهّريّة في الأخيرين.
فمجرّد استصحاب
الموضوع يوجب إجراء الأحكام ، فلا مجال
__________________
لاستصحاب الأحكام
حينئذ ؛ لارتفاع الشكّ ، بل لو اريد استصحابها لم يجر ؛ لأنّ صحّة استصحاب النجاسة مثلا ليس من أحكام التغيّر الواقعيّ ليثبت
باستصحابه ؛ لأنّ أثر التغيّر الواقعيّ هي النجاسة الواقعيّة ، لا استصحابها ؛ إذ
مع فرض التغيّر لا شكّ في النجاسة.
مع أنّ قضيّة ما
ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب ، حكم العقل باشتراط بقائه
فيه ، فالمتغيّر الواقعيّ إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل ، فهذا
الحكم ـ أعني ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع ـ ليس أمرا جعليّا حتّى يترتّب على
وجوده الاستصحابيّ ، فتأمّل.
وعلى الثاني ، فلا
مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم.
أمّا الأوّل ؛
فلأنّ أصالة بقاء الموضوع لا يثبت كون هذا الأمر الباقي متّصفا بالموضوعيّة ، إلاّ
بناء على القول بالأصل المثبت ، كما تقدّم في أصالة بقاء
الكرّ المثبتة لكرّيّة المشكوك بقاؤه على الكرّيّة ، وعلى هذا القول فحكم هذا
القسم حكم القسم الأوّل. وأمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا فهو في معنى
استصحاب الحكم ؛ لأنّ صفة الموضوعيّة للموضوع ملازم لإنشاء الحكم من الشارع
باستصحابه.
وأمّا استصحاب
الحكم ؛ فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه ،
__________________
وبقاؤه قائما بهذا
الموجود الباقي ليس قياما بنفس ما قام به أوّلا ، حتّى يكون إثباته إبقاء
ونفيه نقضا.
الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في القيود المأخوذة في الموضوع
|
إذا عرفت ما ذكرنا
، فاعلم : أنّه كثيرا ما يقع الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في أنّ موضوعه ومحلّه هو
الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيّته ، حتّى يكون الحكم مرتفعا ، أو
هو الأمر الباقي ، والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه ، فلو فرض شكّ في الحكم كان
من جهة اخرى غير الموضوع ، كما يقال : إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر ، موضوعه
نفس الماء ، والتغيّر علّة محدثة للحكم ، فيشكّ في علّيّته للبقاء.
ما يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع أحد امور
|
فلا بدّ من ميزان
يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها ، وهو أحد امور :
الأوّل : العقل ،
فيقال : إنّ مقتضاه كون جميع القيود قيودا للموضوع مأخوذة فيه ، فيكون الحكم ثابتا
لأمر واحد يجمعها ؛ وذلك لأنّ كلّ قضيّة وإن كثرت قيودها المأخوذة فيها راجعة في
الحقيقة إلى موضوع واحد ومحمول واحد ، فإذا شكّ في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض
تلك القيود ، سواء علم كونه قيدا للموضوع أو للمحمول أو لم يعلم أحدهما ، فلا يجوز
الاستصحاب ؛ لأنّه إثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ، ولا يصدق هذا مع
الشكّ في أحدهما. نعم ، لو شكّ بسبب تغيّر الزمان المجعول ظرفا للحكم ـ كالخيار ـ لم
يقدح في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ الاستصحاب مبنيّ على إلغاء خصوصيّة الزمان الأوّل.
__________________
فالاستصحاب في
الحكم الشرعيّ لا يجري إلاّ في الشكّ من جهة الرافع ذاتا أو وصفا ، وفيما كان من جهة مدخليّة الزمان. نعم ، يجري في الموضوعات الخارجيّة بأسرها.
ثمّ لو لم يعلم
مدخليّة القيود في الموضوع كفى في عدم جريان الاستصحاب الشكّ في بقاء الموضوع ،
على ما عرفت مفصّلا .
الثاني : أن يرجع
في معرفة الموضوع للأحكام إلى الأدلّة ، ويفرّق بين قوله : «الماء المتغيّر نجس» ،
وبين قوله : «الماء ينجس إذا تغيّر» ، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس
بالتغيّر ، فيزول الحكم بزواله ، وفي الثاني نفس الماء فيستصحب النجاسة لو شكّ في
مدخليّة التغيّر في بقائها ، وهكذا. وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ
من غير جهة الرافع إذا كان الدليل غير لفظيّ لا يتميّز فيه الموضوع ؛ لاحتمال مدخليّة
القيد الزائل فيه.
الثالث : أن يرجع
في ذلك إلى العرف ، فكلّ مورد يصدق عرفا أنّ هذا كان كذا سابقا جرى فيه الاستصحاب
وإن كان المشار إليه لا يعلم بالتدقيق أو بملاحظة الأدلّة كونه موضوعا ، بل علم
عدمه.
مثلا : قد ثبت
بالأدلّة أنّ الإنسان طاهر والكلب نجس ، فإذا ماتا واطّلع أهل العرف على حكم
الشارع عليهما بعد الموت ، فيحكمون
__________________
بارتفاع طهارة
الأوّل وبقاء نجاسة الثاني ، مع عدم صدق الارتفاع والبقاء فيهما بحسب التدقيق ؛ لأنّ الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين ، وقد ارتفعت الحيوانية بعد صيرورته جمادا.
ونحوه حكم العرف
باستصحاب بقاء الزوجيّة بعد موت أحد الزوجين ، وقد تقدّم حكم العرف ببقاء كرّيّة ما كان كرّا سابقا ، ووجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل
تعذّر بعضها ، واستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معيّنة منه ويشكّ في تبدّله
بالبياض أو بسواد خفيف ، إلى غير ذلك.
كلام الفاضلين تأييدا لكون الميزان نظر العرف
|
وبهذا الوجه يصحّ
للفاضلين قدسسرهما ـ في المعتبر والمنتهى ـ الاستدلال على بقاء نجاسة الأعيان
النجسة بعد الاستحالة : بأنّ النجاسة قائمة بالأعيان النجسة ، لا بأوصاف الأجزاء ، فلا تزول بتغيّر أوصاف محلّها ، وتلك الأجزاء
باقية ، فتكون النجاسة باقية ؛ لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها ، انتهى كلام المعتبر.
واحتجّ فخر الدين
للنجاسة : بأصالة بقائها ، وبأنّ الاسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله ، انتهى.
__________________
وهذه الكلمات وإن
كانت محلّ الإيراد ؛ لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة بجسم الكلب المشترك بين
الحيوان والجماد ، بل ظهور عدمه ؛ لأنّ ظاهر الأدلّة تبعيّة الأحكام للأسماء ، كما
اعترف به في المنتهى في استحالة الأعيان النجسة ، إلاّ أنّها شاهدة على إمكان اعتبار موضوعيّة الذات
المشتركة بين واجد الوصف العنوانيّ وفاقده ، كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت ،
حيث إنّ أهل العرف لا يفهمون نجاسة اخرى حاصلة بالموت ، ويفهمون ارتفاع طهارة
الإنسان ، إلى غير ذلك ممّا يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنوانيّ
والفاقد.
الفرق بين نجس العين والمتنجّس عند الاستحالة
|
ثمّ إنّ بعض
المتأخّرين فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ، فحكم بطهارة
الأوّل لزوال الموضوع ، دون الثاني ؛ لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل ـ
أعني الخشب مثلا ـ وإنّما هو الجسم ولم يزل بالاستحالة.
وهو حسن في بادئ
النظر ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ؛ إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات
محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ، وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات :
أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس ، إلاّ أنّه لا يخفى على المتأمّل
أنّ التعبير بالجسم لبيان عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث
__________________
سببيّة الملاقاة
للتنجّس ، لا لبيان إناطة الحكم بالجسميّة.
وبتقرير آخر : الحكم ثابت لأشخاص الجسم ، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو
صنفه المتقوّم به عند الملاقاة.
فقولهم : «كلّ جسم
لاقى نجسا فهو نجس» لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرّض
للمحلّ الذي يتقوّم به ، كما إذا قال القائل : «إنّ كلّ جسم له خاصّيّة وتأثير» مع
كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع.
وإن أبيت إلاّ عن
ظهور معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ، فنقول : لا شكّ في أنّ مستند هذا العموم هي الأدلّة الخاصّة الواردة في الأشخاص الخاصّة ـ مثل
الثوب والبدن والماء وغير ذلك ـ ، فاستنباط القضيّة الكلّيّة المذكورة منها ليس
إلاّ من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما يتقوّم به ، وإلاّ فاللازم إناطة النجاسة
في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله.
ودعوى : أنّ ثبوت
الحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسما ، ليست بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم
في القضيّة العامّة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوّم
النجاسة بالجسم. نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس : أنّ الموضوع في النجس معلوم
الانتفاء في ظاهر الدليل ، وفي المتنجّس محتمل البقاء.
__________________
عدم الفرق بناء على كون المحكّم نظر العرف
|
لكنّ هذا المقدار
لا يوجب الفرق بعد ما تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب. أرأيت
أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّيّة أو الحرمة أو النجاسة أو الطهارة ، هل
يتأمّل العرف في إجراء تلك الأحكام على الدقيق والزبيب؟! كما لا يتأمّلون في عدم
جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا والماء المتنجّس بولا لمأكول اللحم ،
خصوصا إذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة.
كما أنّ العلماء
أيضا لم يفرّقوا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبّع ، بل جعل بعضهم الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة الجليّة ، حتّى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجّيّة مطلق الظنّ .
وممّا ذكرنا يظهر
وجه النظر فيما ذكره جماعة ـ تبعا للفاضل الهندي قدسسره ـ : من أنّ الحكم في المتنجّسات ليس دائرا مدار الاسم
__________________
حتّى يطهر بالاستحالة ، بل لأنّه جسم لاقى نجسا ، وهذا المعنى لم يزل .
مراتب التغيّر والأحكام مختلفة
|
فالتحقيق : أنّ
مراتب تغيّر الصورة في الأجسام مختلفة ، بل الأحكام أيضا مختلفة ، ففي بعض مراتب
التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة إلى الاستصحاب ، وفي بعض آخر
لا يحكمون بذلك ويثبتون الحكم بالاستصحاب ، وفي ثالث لا يجرون الاستصحاب أيضا ، من
غير فرق ـ في حكم النجاسة ـ بين النجس والمتنجّس.
فمن الأوّل : ما
لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّيّة أو الطهارة أو النجاسة ، فإنّ الظاهر جريان
عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب ، فكأنّهم يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ
ممّا جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا ، مع أنّ الظاهر تغاير الاسمين ؛ ولهذا لو حلف
على ترك أحدهما لم يحنث بأكل الآخر. والظاهر أنّهم لا يحتاجون في إجراء الأحكام
المذكورة إلى الاستصحاب.
ومن الثاني :
إجراء حكم بول غير المأكول إذا صار بولا لمأكول وبالعكس ، وكذا صيرورة الخمر خلاّ
، وصيرورة الكلب أو الإنسان جمادا بالموت ، إلاّ أنّ الشارع حكم في بعض هذه
الموارد بارتفاع الحكم السابق ، إمّا للنصّ ، كما في الخمر المستحيل خلاّ ، وإمّا لعموم ما دلّ على حكم المنتقل إليه ، فإنّ الظاهر أنّ استفادة طهارة
المستحال إليه إذا
__________________
كان بولا لمأكول ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب ، بل هو من الدليل ، نظير
استفادة نجاسة بول المأكول إذا صار بولا لغير مأكول.
ومن الثالث :
استحالة العذرة أو الدّهن المتنجّس دخانا ، والمنيّ حيوانا. ولو نوقش في
بعض الأمثلة المذكورة ، فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل.
معنى قولهم : «الأحكام تدور مدار الأسماء»
|
وممّا ذكرنا يظهر
أنّ معنى قولهم «الأحكام تدور مدار الأسماء» ، أنّها تدور مدار أسماء موضوعاتها
التي هي المعيار في وجودها وعدمها ، فإذا قال الشارع : العنب حلال ، فإن ثبت كون
الموضوع هو مسمّى هذا الاسم ، دار الحكم مداره ، فينتفي عند صيرورته زبيبا ، أمّا
إذا علم من العرف أو غيره أنّ الموضوع هو الكلّيّ الموجود في العنب المشترك بينه
وبين الزبيب ، أو بينهما وبين العصير ، دار الحكم مداره أيضا.
نعم ، يبقى دعوى :
أنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة كون الموضوع هو العنوان ، وتقوّم الحكم به
، المستلزم لانتفائه بانتفائه.
لكنّك عرفت : أنّ
العناوين مختلفة ، والأحكام أيضا مختلفة ، وقد تقدّم
حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم ، واختيار الفاضلين له .
__________________
ودعوى : احتياج
استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ إلى القرينة الخارجيّة ، وإلاّ فظاهر اللفظ كون
القضيّة ما دام الوصف العنوانيّ ، لا تضرّنا فيما نحن بصدده ؛ لأنّ المقصود مراعاة
العرف في تشخيص الموضوع وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقّة
، ولا على ما يقتضيه الدليل اللفظيّ إذا كان العرف بالنسبة إلى القضيّة الخاصّة
على خلافه.
وحينئذ ، فيستقيم
أن يراد من قولهم : «إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء» أنّ مقتضى ظاهر دليل الحكم
تبعيّة ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق عليه الحكم في ظاهر الدليل ، فيراد من
هذه القضيّة تأسيس أصل ، قد يعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره ، فافهم.
[الأمر الثاني]
٢ ـ اشتراط الشكّ في البقاء
|
الأمر الثاني ممّا
يعتبر في تحقّق الاستصحاب : أن يكون في حال الشكّ متيقّنا بوجود المستصحب في
السابق ، حتّى يكون شكّه في البقاء.
فلو كان الشكّ في
تحقّق نفس ما تيقّنه سابقا ـ كأن تيقّن عدالة زيد في زمان ، كيوم الجمعة مثلا ،
ثمّ شكّ في نفس هذا المتيقّن ، وهو عدالته يوم الجمعة ، بأن زال مدرك اعتقاده
السابق ، فشكّ في مطابقته للواقع ، أو كونه جهلا مركّبا ـ لم يكن هذا من مورد
الاستصحاب لغة ، ولا اصطلاحا.
__________________
الدليل على اعتبار هذا الشرط
|
أمّا الأوّل ،
فلأنّ الاستصحاب ـ لغة ـ أخذ الشيء مصاحبا ، فلا بدّ من إحراز ذلك الشيء حتّى يأخذه مصاحبا ، فإذا شكّ في حدوثه من أصله فلا استصحاب.
وأمّا اصطلاحا ،
فلأنّهم اتّفقوا على أخذ الشكّ في البقاء ـ أو ما يؤدّي هذا المعنى ـ في معنى
الاستصحاب.
قاعدة اليقين والشكّ الساري
|
نعم ، لو ثبت أنّ
الشكّ بعد اليقين بهذا المعنى ملغى في نظر الشارع ، فهي قاعدة اخرى مباينة
للاستصحاب ، سنتكلّم فيها بعد دفع توهّم من توهّم أنّ أدلّة الاستصحاب تشملها ، وأنّ
مدلولها لا يختصّ بالشكّ في البقاء ، بل الشكّ بعد اليقين ملغى مطلقا ، سواء تعلّق بنفس ما تيقّنه سابقا ، أم ببقائه.
وأوّل من صرّح
بذلك الفاضل السبزواري ـ في الذخيرة ـ في مسألة من شكّ في بعض أفعال الوضوء ، حيث
قال :
تصريح الفاضل السبزواري بأنّ أدلّة الاستصحاب تشمل قاعدة «اليقين»
|
والتحقيق : أنّه
إن فرغ من الوضوء متيقّنا للإكمال ، ثمّ عرض له الشكّ ، فالظاهر عدم وجوب إعادة
شيء ؛ لصحيحة زرارة : «ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ» ، انتهى.
ولعلّه قدسسره ، تفطّن له من
كلام الحلّيّ في السرائر ، حيث استدلّ على المسألة المذكورة : بأنّه لا يخرج عن
حال الطهارة إلاّ على يقين من
__________________
كمالها ، وليس
ينقض الشكّ اليقين ، انتهى.
لكن هذا التعبير
من الحلّيّ لا يلزم أن يكون استفاده من أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ. ويقرب من هذا
التعبير عبارة جماعة من القدماء .
لكنّ التعبير لا
يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين ، على ما توهّمه غير واحد من المعاصرين ، وإن اختلفوا بين مدّع لانصرافها إلى خصوص الاستصحاب ، وبين منكر له عامل بعمومها .
دفع التوهّم المذكور وتوضيح مناط قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين
|
وتوضيح دفعه : أنّ
المناط في القاعدتين مختلف بحيث لا يجمعهما مناط واحد ؛ فإنّ مناط الاستصحاب هو
اتّحاد متعلّق الشكّ واليقين مع قطع النظر عن الزمان ؛ لتعلّق الشكّ ببقاء ما
تيقّن سابقا ، ولازمه كون القضيّة المتيقّنة ـ أعني عدالة زيد يوم الجمعة ـ متيقّنة
حين الشكّ أيضا من غير جهة الزمان. ومناط هذه القاعدة اتّحاد متعلّقيهما من جهة
الزمان ، ومعناه كونه في الزمان اللاحق شاكّا فيما تيقّنه سابقا بوصف
__________________
وجوده في السابق.
فإلغاء الشكّ في
القاعدة الاولى عبارة عن الحكم ببقاء المتيقّن سابقا ـ حيث إنّه متيقّن ـ من غير
تعرّض لحال حدوثه ، وفي القاعدة الثانية هو الحكم بحدوث ما تيقّن حدوثه من غير
تعرّض لحكم بقائه ، فقد يكون بقاؤه معلوما أو معلوم العدم أو مشكوكا.
عدم إرادة القاعدتين من قوله عليهالسلام : «فليمض على
يقينه»
|
واختلاف مؤدّى
القاعدتين ، وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد ـ بأن يقول الشارع
: إذا حصل بعد اليقين بشيء شكّ له تعلّق بذلك الشيء فلا عبرة به ، سواء تعلّق ببقائه أو بحدوثه ، واحكم بالبقاء في الأوّل ،
وبالحدوث في الثاني ـ إلاّ أنّه مانع عن إرادتهما من قوله عليهالسلام : «فليمض على يقينه» ؛ فإنّ المضيّ
على اليقين السابق ـ المفروض تحقّقه في القاعدتين ـ أعني عدالة زيد يوم الجمعة ،
بمعنى الحكم بعدالته في ذلك اليوم من غير تعرّض لعدالته فيما بعده ـ كما هو مفاد
القاعدة الثانية ـ يغاير المضيّ عليه بمعنى عدالته بعد يوم الجمعة من غير تعرّض
لحال يوم الجمعة ـ كما هو مفاد قاعدة الاستصحاب ـ فلا يصحّ إرادة المعنيين منه.
__________________
فإن قلت : إنّ
معنى المضيّ على اليقين عدم التوقّف من أجل الشكّ العارض وفرض الشكّ كعدمه ، وهذا
يختلف باختلاف متعلّق الشكّ ، فالمضيّ مع الشكّ في الحدوث بمعنى الحكم بالحدوث ،
ومع الشكّ في البقاء بمعنى الحكم به.
قلت : لا ريب في
اتّحاد متعلّقي الشكّ واليقين وكون المراد المضيّ على ذلك اليقين المتعلّق بما
تعلّق به الشكّ ، والمفروض أنّه ليس في السابق إلاّ يقين واحد ، وهو اليقين بعدالة
زيد ، والشكّ فيها ليس له هنا فردان يتعلّق أحدهما بالحدوث والآخر بالبقاء.
وبعبارة اخرى :
عموم أفراد اليقين باعتبار الامور الواقعيّة ، كعدالة زيد وفسق عمرو ، لا باعتبار
تعدّد ملاحظة اليقين بشيء واحد ، حتّى
ينحلّ اليقين بعدالة زيد إلى فردين يتعلّق بكلّ منهما شكّ .
وحينئذ ، فإن
اعتبر المتكلّم في كلامه الشكّ في هذا المتيقّن من دون تقييده بيوم الجمعة ،
فالمضيّ على هذا اليقين عبارة عن الحكم باستمرار هذا المتيقّن ، وإن اعتبر الشكّ
فيه مقيّدا بذلك اليوم ، فالمضيّ
__________________
على ذلك المتيقّن
الذي تعلّق به الشكّ عبارة عن الحكم بحدوثه من غير تعرّض للبقاء ، كأنّه قال : من
كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشكّ فيها ، فليمض على يقينه السابق .
عدم إرادة القاعدتين من سائر الأخبار أيضا
|
وقس على هذا سائر
الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشكّ ، فإنّ الظاهر اتحاد متعلّق الشكّ
واليقين ، فلا بدّ أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك غير مقيّدين بالزمان ، وإلاّ لم يجز
استصحابه ، كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود
والعدم في شيء واحد .
والمفروض في القاعدة
الثانية كون الشكّ متعلّقا بالمتيقّن السابق
__________________
بوصف وجوده في
الزمان السابق. ومن المعلوم عدم جواز إرادة الاعتبارين من اليقين والشكّ في تلك
الأخبار .
ودعوى : أنّ
اليقين بكلّ من الاعتبارين فرد من اليقين ، وكذلك الشكّ المتعلّق فرد من الشكّ ،
فكلّ فرد لا ينقض بشكّه.
مدفوعة : بما
تقدّم ، من أنّ تعدّد اللحاظ
والاعتبار في المتيقّن السابق ، بأخذه تارة مقيّدا بالزمان السابق واخرى بأخذه
مطلقا ، لا يوجب تعدّد أفراد اليقين. وليس اليقين بتحقّق مطلق العدالة في يوم
الجمعة واليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة فردين من اليقين تحت عموم الخبر ، بل
الخبر بمثابة أن يقال : من كان على يقين من عدالة زيد أو فسقه أو غيرهما من حالاته
فشكّ فيه ، فليمض على يقينه بذلك ، فافهم .
اختصاص مدلول الأخبار بقاعدة الاستصحاب
|
ثمّ إذا ثبت عدم
جواز إرادة المعنيين ، فلا بدّ أن يخصّ مدلولها بقاعدة
الاستصحاب ؛ لورودها في موارد تلك القاعدة ، كالشكّ في الطهارة من الحدث والخبث ،
ودخول هلال شهر رمضان أو شوّال.
هذا كلّه ، لو
اريد من القاعدة الثانية إثبات نفس المتيقّن عند
__________________
الشكّ ، وهي عدالة
زيد في يوم الجمعة مثلا.
أمّا لو اريد منها
إثبات عدالته من يوم الجمعة مستمرّة إلى زمان الشكّ وما بعده إلى اليقين
بطروء الفسق ، فيلزم استعمال الكلام في معنيين ، حتّى لو اريد منه القاعدة الثانية
فقط ، كما لا يخفى ؛ لأنّ الشكّ في عدالة زيد يوم الجمعة غير الشكّ في
استمرارها إلى الزمان اللاحق . وقد تقدّم نظير ذلك في قوله عليهالسلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» .
ثمّ لو سلّمنا
دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين ، لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط
له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية ؛ لأنّه إذا شكّ في ما تيقّن سابقا ، أعني
عدالة زيد في يوم الجمعة ، فهذا الشكّ معارض لفردين من اليقين ، أحدهما : اليقين
بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ، الثاني : اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم
الجمعة ، فتدلّ بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة
باحتمال انتفائها في ذلك الزمان ، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب على عدم نقض اليقين
بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في الجمعة ، فكلّ من طرفي الشكّ معارض لفرد
من اليقين.
ودعوى : أنّ
اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة ،
__________________
والقاعدة الثانية
تثبت وجوب اعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق.
مدفوعة : بأنّ
الشكّ الطارئ في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمها ، عين الشكّ في انتقاض ذلك اليقين
السابق. واحتمال انتقاضه وعدمه معارضان لليقين بالعدالة وعدمها ، فلا يجوز لنا
الحكم بالانتقاض ولا بعدمه.
ثمّ إنّ هذا من
باب التنزّل والمماشاة ، وإلاّ فالتحقيق ما ذكرناه : من منع الشمول بالتقريب المتقدّم
، مضافا إلى ما ربما يدّعى : من ظهور الأخبار في الشكّ في
البقاء .
[قاعدة اليقين]
هل يوجد مدرك لقاعدة «اليقين» غير هذه الأخبار؟
|
بقي الكلام في
وجود مدرك للقاعدة الثانية غير عموم هذه الأخبار ، فنقول : إنّ المطلوب من تلك القاعدة :
إمّا أن يكون
إثبات حدوث المشكوك فيه وبقائه مستمرّا إلى اليقين بارتفاعه.
وإمّا أن يكون
مجرّد حدوثه في الزمان السابق بدون إثباته بعده ،
__________________
بأن يراد إثبات
عدالة زيد في يوم الجمعة فقط.
وإمّا أن يراد
مجرّد إمضاء الآثار التي ترتّبت عليها سابقا وصحّة
الأعمال الماضية المتفرّعة عليه ، فإذا تيقّن الطهارة سابقا وصلّى بها ثمّ شكّ في
طهارته في ذلك الزمان ، فصلاته ماضية.
لو اريد من القاعدة إثبات الحدوث والبقاء معا
|
فإن اريد الأوّل ،
فالظاهر عدم دليل يدلّ عليه ؛ إذ قد عرفت أنّه لو سلّم
اختصاص الأخبار المعتبرة لليقين السابق بهذه القاعدة ، لم يمكن أن يراد منها إثبات
حدوث العدالة وبقائها ؛ لأنّ لكلّ من الحدوث والبقاء شكّا مستقلاّ. نعم ، لو فرض
القطع ببقائها على تقدير الحدوث ، أمكن أن يقال : إنّه إذا ثبت حدوث العدالة بهذه
القاعدة ثبت بقاؤها ؛ للعلم ببقائها على تقدير الحدوث. لكنّه لا يتمّ إلاّ على
الأصل المثبت ، فهو تقدير على تقدير.
عدم صحّة الاستدلال بأدلّة عدم الاعتناء بالشكّ بعد تجاوز المحلّ
|
وربما يتوهّم :
الاستدلال لإثبات هذا المطلب بما دلّ على عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد تجاوز
محلّه.
لكنّه فاسد ؛
لأنّه على تقدير الدلالة لا يدلّ على استمرار المشكوك ؛ لأنّ الشكّ في الاستمرار
ليس شكّا بعد تجاوز المحلّ.
ضعف الاستدلال بأصالة الصحّة في الاعتقاد
|
وأضعف منه :
الاستدلال له بما سيجيء ، من دعوى أصالة الصحّة في اعتقاد المسلم ، مع أنّه
كالأوّل في عدم إثباته الاستمرار.
وكيف كان ، فلا
مدرك لهذه القاعدة بهذا المعنى.
__________________
وربما فصّل بعض
الأساطين : بين ما إذا علم مدرك الاعتقاد بعد زواله وأنّه غير قابل
للاستناد إليه ، وبين ما إذا لم يذكره ، كما إذا علم أنّه اعتقد في زمان بطهارة
ثوبه أو نجاسته ، ثمّ غاب المستند وغفل زمانا ، فشكّ في طهارته ونجاسته فيبني على
معتقده هنا ، لا في الصورة الاولى.
لو اريد من القاعدة إثبات مجرّد الحدوث
|
وهو وإن كان أجود
من الإطلاق ، لكن إتمامه بالدليل مشكل.
وإن اريد بها
الثاني ، فلا مدرك له بعد عدم دلالة أخبار الاستصحاب ، إلاّ ما تقدّم : من أخبار
عدم الاعتناء بالشكّ بعد تجاوز المحلّ. لكنّها لو تمّت فإنّما تنفع في الآثار
المترتّبة عليه سابقا ، فلا يثبت بها إلاّ صحّة ما ترتّب عليها ، وأمّا إثبات نفس ما اعتقده سابقا ، حتّى يترتّب عليه بعد ذلك الآثار
المترتّبة على عدالة زيد يوم الجمعة وطهارة ثوبه في الوقت السابق فلا ، فضلا عن
إثبات مقارناته الغير الشرعيّة ، مثل كونها على تقدير الحدوث باقية.
لو اريد منها مجرّد إمضاء الآثار المترتّبة سابقا
|
وإن اريد بها
الثالث ، فله وجه ؛ بناء على تماميّة قاعدة «الشكّ بعد الفراغ وتجاوز المحلّ» ،
فإذا صلّى بالطهارة المعتقدة ، ثمّ شكّ في صحّة اعتقاده وكونه متطهّرا في ذلك
الزمان ، بنى على صحّة الصلاة ، لكنّه ليس من جهة اعتبار الاعتقاد السابق ؛ ولذا
لو فرض في السابق غافلا غير معتقد بشيء من الطهارة والحدث بنى على الصحّة أيضا ؛
من جهة أنّ الشكّ في الصلاة بعد الفراغ منها لا اعتبار به على المشهور بين
__________________
الأصحاب ، خلافا
لجماعة من متأخّري المتأخّرين ، كصاحب المدارك وكاشف اللثام ، حيث منعا البناء على صحّة الطواف إذا شكّ بعد الفراغ في كونه مع الطهارة.
والظاهر ـ كما يظهر من الأخير ـ أنّهم يمنعون القاعدة المذكورة في غير أجزاء
العمل.
ولعلّ بعض الكلام
في ذلك سيجيء في مسألة أصالة الصحّة في الأفعال ، إن شاء الله.
وحاصل الكلام في
هذا المقام ، هو أنّه : إذا اعتقد المكلّف قصورا أو تقصيرا بشيء في زمان ـ موضوعا
كان أو حكما ، اجتهاديّا أو تقليديّا ـ ثمّ زال اعتقاده ، فلا ينفع اعتقاده السابق
في ترتّب آثار المعتقد ، بل يرجع بعد زوال الاعتقاد إلى ما يقتضيه الاصول بالنسبة
إلى نفس المعتقد ، وإلى الآثار المترتبة عليه سابقا أو لاحقا.
[الأمر] الثالث
٢ ـ اشتراط عدم العلم بالبقاء أو الارتفاع
|
أن يكون كلّ من
بقاء ما احرز حدوثه سابقا وارتفاعه غير معلوم ، فلو علم أحدهما فلا استصحاب.
وهذا مع العلم
بالبقاء أو الارتفاع واقعا من دليل قطعيّ واقعيّ واضح ، وإنّما الكلام فيما أقامه
الشارع مقام العلم بالواقع ؛ فإنّ الشكّ
__________________
الواقعيّ في
البقاء والارتفاع لا يزول معه ، ولا ريب في العمل به دون الحالة السابقة.
حكومة الأدلّة الاجتهاديّة على أدلّة الاستصحاب
|
لكنّ الشأن في أنّ
العمل به من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب ، أو من باب التخصّص؟ الظاهر أنّه من باب
حكومة أدلّة تلك الامور على أدلّة الاستصحاب ، وليس تخصيصا بمعنى رفع اليد عن عموم
أدلّة الاستصحاب في بعض موارده ، كما ترفع اليد عنها في مسألة الشكّ بين الثلاث والأربع
ونحوها ، بما دلّ على وجوب البناء على الأكثر ، ولا تخصّصا
بمعنى خروج المورد بمجرّد وجود الدليل عن مورد الاستصحاب ؛ لأنّ هذا مختصّ بالدليل
العلميّ المزيل وجوده للشكّ المأخوذ في مجرى الاستصحاب.
ومعنى الحكومة ـ على
ما سيجيء في باب التعادل والتراجيح ـ : أن يحكم
الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل
الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى.
__________________
ففي ما نحن فيه ، إذا قال الشارع : «اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك» ـ والمفروض أنّ الشكّ
موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب ـ فإنّ الشارع حكم في دليل وجوب العمل
بالبيّنة ، برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبيّنة ، التي منها استصحاب
الطهارة .
احتمال أن يكون العمل بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصّص
|
وربما يجعل العمل
بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصّص ؛ بناء على أنّ
المراد من «الشكّ» عدم الدليل والطريق ، والتحيّر في العمل ، ومع قيام الدليل
الاجتهاديّ لا حيرة. وإن شئت قلت : إنّ المفروض
دليلا قطعيّ الاعتبار ؛ فنقض الحالة السابقة به نقض باليقين.
وفيه : أنّه لا
يرتفع التحيّر ولا يصير الدليل الاجتهاديّ قطعيّ الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب
إلاّ بعد إثبات كون مؤدّاه حاكما على مؤدّى الاستصحاب ، وإلاّ أمكن أن يقال : إنّ
مؤدّى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ،
__________________
سواء كان هناك
الأمارة الفلانيّة أم لا ، ومؤدّى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤدّاه ، خالف الحالة السابقة أم لا.
ولا يندفع مغالطة
هذا الكلام ، إلاّ بما ذكرنا من طريق الحكومة ، كما لا يخفى.
المسامحة فيما جعله الفاضل التوني من شرائط الاستصحاب
|
وكيف كان ، فجعل
بعضهم عدم الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة من شرائط
العمل بالاستصحاب ، لا يخلو عن مسامحة ؛ لأنّ مرجع ذلك بظاهره إلى عدم المعارض
لعموم «لا تنقض» ، كما في مسألة البناء على الأكثر ، لكنّه ليس مراد هذا المشترط
قطعا ، بل مراده عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة.
ما أورده المحقّق القمّي على الفاضل التوني والمناقشة فيه
|
ولعلّ ما أورده عليه المحقّق القمي قدسسره ـ من أنّ الاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فقد يرجّح عليه
الدليل ، وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدهما على الآخر ، قال قدسسره : ولذا ذكر بعضهم
في مال المفقود : أنّه في حكم ماله حتّى يحصل العلم العادي
بموته ؛ استصحابا لحياته ، مع وجود الروايات المعتبرة المعمول بها عند بعضهم ، بل
__________________
عند جمع من
المحقّقين ، الدالّة على وجوب الفحص أربع سنين ـ مبنيّ على ظاهر كلامه : من إرادة العمل بعموم «لا تنقض».
وأمّا على ما
جزمنا به ـ من أنّ مراده عدم ما يدلّ علما أو ظنّا على ارتفاع
الحالة السابقة ـ فلا وجه لورود ذلك ؛ لأنّ الاستصحاب
إن اخذ من باب التعبّد ، فقد عرفت حكومة أدلّة جميع
الأمارات الاجتهاديّة على دليله ، وإن اخذ من باب الظنّ ، فالظاهر أنّه لا تأمّل
لأحد في أنّ المأخوذ في إفادته للظنّ عدم وجود أمارة في مورده على خلافه ؛ ولذا
ذكر العضديّ في دليله : أنّ ما كان سابقا ولم يظنّ عدمه فهو مظنون البقاء .
__________________
ولما ذكرنا لم نر
أحدا من العلماء قدّم الاستصحاب على أمارة مخالفة له مع اعترافه بحجّيّتها لو لا
الاستصحاب ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات.
وأمّا ما استشهد
به قدسسره ـ من عمل بعض الأصحاب بالاستصحاب في مال المفقود ، وطرح ما
دلّ على وجوب الفحص أربع سنين والحكم بموته بعده ـ فلا دخل له بما نحن فيه ؛ لأنّ
تلك الأخبار ليست أدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ، وإنّما المقابل له قيام
دليل معتبر على موته ، وهذه الأخبار على تقدير تماميّتها مخصّصة لعموم
أدلّة الاستصحاب ، دالّة على وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص ، نظير ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر مع الشكّ في عدد الركعات
، فمن عمل بها خصّص بها عمومات الاستصحاب ، ومن طرحها ـ لقصور فيها ـ بقي أدلّة
الاستصحاب عنده على عمومها.
المراد من «الأدلّة الاجتهاديّة» و «الاصول»
|
ثمّ المراد بالدليل
الاجتهاديّ : كلّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث إنّها تحكي عن الواقع وتكشف عنه
بالقوّة ، وتسمّى في نفس الأحكام «أدلّة اجتهاديّة» وفي الموضوعات «أمارات معتبرة»
، فما كان ممّا نصبه الشارع غير ناظر إلى الواقع ، أو كان ناظرا لكن فرض أنّ
الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع ، فليس
اجتهاديّا ، بل هو من الاصول ، وإن كان مقدّما على
__________________
بعض الاصول الأخر.
والظاهر أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل.
ومصاديق الأدلّة
والأمارات في الأحكام والموضوعات واضحة غالبا.
تردّد الشيء بين كونه دليلا أو أصلا
|
وقد يختفي ، فيتردّد الشيء بين كونه دليلا وبين كونه أصلا ؛ لاختفاء كون اعتباره من حيث
كونه ناظرا إلى الواقع ، أو من حيث هو ، كما في اليد المنصوبة دليلا على الملك ،
وكذلك أصالة الصحّة عند الشكّ في عمل نفسه بعد الفراغ ، وأصالة الصحّة في عمل
الغير.
وقد يعلم عدم كونه
ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه وأنّه من القواعد التعبّديّة ، لكن يختفي حكومته مع
ذلك على الاستصحاب ؛ لأنّا قد ذكرنا : أنّه قد يكون الشيء الغير الكاشف منصوبا من
حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلة الواقع ، إلاّ أنّ الاختفاء في تقديم
أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه.
__________________
[تعارض الاستصحاب مع سائر الأمارات والاصول]
ثمّ إنّه لا ريب
في تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة ، أعني : البراءة ، والاحتياط ، والتخيير.
إلاّ أنّه قد يختفي وجهه على المبتدي ، فلا بدّ من
التكلّم هنا في مقامات :
الأوّل : في عدم
معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يتراءى كونها من الاصول ، كاليد ونحوها.
الثاني : في حكم
معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها.
الثالث : في عدم
معارضة سائر الاصول للاستصحاب.
__________________
أمّا الكلام في المقام الأوّل فيقع في مسائل :
الاولى
تقدّم «اليد» على الاستصحاب والاستدلال عليه
|
أنّ اليد ممّا لا
يعارضها الاستصحاب ، بل هي حاكمة عليه.
بيان ذلك : أنّ
اليد ، إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلا على الملكيّة ؛ من حيث كون الغالب
في مواردها كون صاحب اليد مالكا أو نائبا عنه ، وأنّ اليد المستقلّة الغير
المالكيّة قليلة بالنسبة إليها ، وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلا على
العباد ، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب على ما عرفت : من حكومة أدلّة
الأمارات على أدلّة الاستصحاب .
وإن قلنا بأنّها
غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة ، أو أنّها كاشفة لكن اعتبار الشارع لها ليس من هذه
الحيثيّة ، بل جعلها في محلّ الشكّ تعبّدا ؛ لتوقّف استقامة نظام معاملات العباد
على اعتبارها ـ نظير أصالة الطهارة ـ كما يشير إليه قوله عليهالسلام في ذيل رواية حفص بن غياث ، الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما في يد
المسلمين : «ولو لا ذلك لما قام
__________________
للمسلمين سوق» ، فالأظهر أيضا تقديمها على الاستصحاب ؛ إذ لو لا هذا لم يجز التمسّك بها في
أكثر المقامات ، فيلزم المحذور المنصوص ، وهو اختلال السوق وبطلان الحقوق ؛ إذ
الغالب العلم بكون ما في اليد مسبوقا بكونه ملكا للغير ، كما لا يخفى.
الوجه في الرجوع إلى الاستصحاب لو تقارنت «اليد» بالإقرار
|
وأمّا حكم المشهور
بأنّه : «لو اعترف ذو اليد بكونه سابقا ملكا للمدّعي ، انتزع منه العين ، إلاّ أن
يقيم البيّنة على انتقالها إليه» فليس من تقديم الاستصحاب ، بل لأجل أنّ دعواه
الملكيّة في الحال إذا انضمّت إلى إقراره بكونه قبل ذلك للمدّعي ، ترجع إلى دعوى انتقالها إليه ، فينقلب مدّعيا ، والمدّعي
منكرا ؛ ولذا لو لم يكن في مقابله مدّع ، لم تقدح هذه الدعوى منه في الحكم
بملكيّته ، أو كان في مقابله مدّع لكن أسند الملك السابق إلى غيره ، كما لو قال في
جواب زيد المدّعي : اشتريته من عمرو.
بل يظهر ممّا ورد
في محاجّة عليّ عليهالسلام مع أبي بكر في أمر فدك ـ المرويّة في الاحتجاج ـ أنّه لم يقدح في تشبّث فاطمة عليهاالسلام باليد ، دعواها عليهاالسلام تلقّي الملك من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع أنّه قد يقال : إنّها حينئذ صارت مدّعية لا تنفعها
اليد.
__________________
«اليد» على تقدير كونها من الاصول مقدّمة على الاستصحاب وإن جعلناه من
الأمارات
|
وكيف كان ، فاليد
على تقدير كونها من الاصول التعبّديّة أيضا مقدّمة على الاستصحاب وإن جعلناه من
الأمارات الظنّيّة ؛ لأنّ الشارع نصبها في مورد الاستصحاب. وإن شئت قلت : إنّ
دليلها أخصّ من عمومات الاستصحاب .
هذا ، مع أنّ
الظاهر من الفتوى والنصّ الوارد في اليد ـ مثل رواية حفص بن غياث ـ أنّ اعتبار اليد أمر كان مبنى عمل الناس في امورهم وقد أمضاه الشارع ، ولا
يخفى أنّ عمل العرف عليها من باب الأمارة ، لا من باب الأصل التعبّديّ.
تقدّم البيّنة على «اليد» والوجه في ذلك
|
وأمّا تقديم
البيّنة على اليد وعدم ملاحظة التعارض بينهما أصلا ، فلا يكشف عن كونها من الاصول
؛ لأنّ اليد إنّما جعلت أمارة على الملك عند الجهل بسببها ، والبيّنة مبيّنة
لسببها.
والسرّ في ذلك :
أنّ مستند الكشف في اليد هي الغلبة ، والغلبة إنّما توجب إلحاق المشكوك بالأعمّ
الأغلب ، فإذا كان في مورد الشكّ أمارة معتبرة تزيل الشكّ ، فلا يبقى مورد للإلحاق
؛ ولذا كانت جميع الأمارات في أنفسها مقدّمة على الغلبة. وحال اليد مع البيّنة حال أصالة الحقيقة في الاستعمال على مذهب السيّد مع أمارات المجاز ، بل حال مطلق الظاهر والنصّ ، فافهم.
__________________
المسألة الثانية
تقدّم قاعدة «الفراغ والتجاوز» على الاستصحاب والاستدلال عليه
|
في أنّ أصالة
الصحّة في العمل بعد الفراغ عنه لا يعارض بها الاستصحاب :
إمّا لكونها من
الأمارات ؛ كما يشعر به قوله عليهالسلام ـ في بعض روايات ذلك الأصل ـ : «هو
حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» .
وإمّا لأنّها وإن
كانت من الاصول إلاّ أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب يدلّ على تقديمها
عليه ، فهي خاصّة بالنسبة إليه ، يخصّص بأدلّتها أدلّته ، ولا إشكال في شيء من
ذلك.
إنّما الإشكال في
تعيين مورد ذلك الأصل من وجهين :
أحدهما : من جهة
تعيين معنى «الفراغ» و «التجاوز» المعتبر في الحكم بالصحّة ، وأنّه هل يكتفى به ،
أو يعتبر الدخول في غيره؟ وأنّ المراد بالغير ما هو؟
الثاني : من جهة
أنّ الشكّ في وصف الصحّة للشيء ، ملحق
__________________
بالشكّ في أصل
الشيء أم لا؟
وتوضيح الإشكال من
الوجهين موقوف على ذكر الأخبار الواردة في هذه القاعدة ، ليزول ببركة تلك الأخبار
كلّ شبهة حدثت أو تحدث في هذا المضمار ، فنقول مستعينا بالله :
روى زرارة ـ في
الصحيح ـ عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» .
وروى إسماعيل بن
جابر عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في
السّجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» .
وهاتان الروايتان
ظاهرتان في اعتبار الدخول في غير المشكوك.
وفي الموثّقة : «كلّ
ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو» .
وهذه الموثّقة
ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير.
وفي موثّقة ابن
أبي يعفور : «إذا شككت في شيء من الوضوء
__________________
وقد دخلت في غيره
فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشّكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» .
وظاهر صدر هذه
الموثّقة كالاوليين ، وظاهر عجزها كالثالثة.
هذه تمام ما وصل
إلينا من الأخبار العامّة.
وربما يستفاد
العموم من بعض ما ورد في الموارد الخاصّة ، مثل : قوله عليهالسلام في الشكّ في فعل الصلاة بعد خروج الوقت ، من قوله عليهالسلام : «وإن كان بعد ما خرج وقتها فقد دخل حائل فلا إعادة» .
وقوله عليهالسلام : «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّرا فأمضه كما هو» .
وقوله عليهالسلام في من شكّ في الوضوء بعد ما فرغ : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» .
ولعلّ المتتبّع
يعثر على أزيد من ذلك .
__________________
وحيث إنّ مضمونها
لا يختصّ بالطهارة والصلاة ، بل يجري في غيرهما ـ كالحجّ ـ فالمناسب الاهتمام في
تنقيح مضامينها ودفع ما يتراءى من التعارض بينها ـ فنقول مستعينا بالله ، فإنّه
وليّ التوفيق.
إنّ الكلام يقع في
مواضع ـ :
الموضع الأوّل
ما هو المراد من «الشكّ في الشيء»؟
|
أنّ الشكّ في
الشيء ظاهر ـ لغة وعرفا ـ في الشكّ في وجوده ، إلاّ أنّ تقييد ذلك في الروايات
بالخروج عنه ومضيّه والتجاوز عنه ، ربما يصير قرينة على إرادة كون وجود أصل الشيء
مفروغا عنه ، وكون الشكّ فيه باعتبار الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا.
نعم لو اريد
الخروج والتجاوز عن محلّه ، أمكن إرادة المعنى الظاهر من الشكّ في الشيء. وهذا هو
المتعيّن ؛ لأنّ إرادة الأعمّ من الشكّ في وجود الشيء والشكّ الواقع في الشيء
الموجود ، في استعمال واحد ، غير صحيح. وكذا إرادة خصوص الثاني ؛ لأنّ مورد غير واحد
من تلك الأخبار هو الأوّل. لكن يبعد ذلك في ظاهر موثّقة محمّد ابن مسلم ؛ من جهة قوله : «فأمضه كما هو» ، بل لا يصحّ ذلك في موثّقة ابن أبي يعفور ، كما لا يخفى.
لكنّ الإنصاف :
إمكان تطبيق موثّقة محمد بن مسلم على ما في الروايات ، وأمّا هذه الموثّقة فسيأتي
توجيهها على وجه لا تعارض الروايات إن شاء الله تعالى .
__________________
الموضع الثاني
ما هو المراد من «محلّ الشيء المشكوك فيه»؟
|
أنّ المراد بمحلّ
الفعل المشكوك في وجوده هو الموضع الذي لو اتي به فيه لم يلزم منه اختلال في
الترتيب المقرّر.
وبعبارة اخرى :
محلّ الشيء هي مرتبته المقرّرة له بحكم العقل ، أو بوضع الشارع ، أو غيره ولو كان
نفس المكلّف ؛ من جهة اعتياده بإتيان ذلك المشكوك في ذلك المحلّ.
فمحلّ تكبيرة
الإحرام قبل الشروع في الاستعاذة لأجل القراءة بحكم الشارع ، ومحلّ كلمة «أكبر»
قبل تخلّل الفصل الطويل بينه وبين لفظ الجلالة بحكم الطريقة المألوفة في نظم
الكلام ، ومحلّ الراء من «أكبر» قبل أدنى فصل يوجب الابتداء بالساكن بحكم العقل ،
ومحلّ غسل الجانب الأيسر أو بعضه في غسل الجنابة لمن اعتاد الموالاة فيه قبل تخلّل فصل يخلّ بما اعتاده من الموالاة.
هذا كلّه ممّا لا
إشكال فيه ، إلاّ الأخير ؛ فإنّه ربما يتخيّل انصراف إطلاق
الأخبار إلى غيره.
مع أنّ فتح هذا
الباب بالنسبة إلى العادة يوجب مخالفة إطلاقات كثيرة. فمن اعتاد الصلاة في أوّل
وقتها أو مع الجماعة ، فشكّ في فعلها بعد ذلك ، فلا يجب عليه الفعل. وكذا من اعتاد
فعل شيء بعد الفراغ من الصلاة فرأى نفسه فيه وشكّ في فعل الصلاة. وكذا من اعتاد
__________________
الوضوء بعد الحدث
بلا فصل يعتدّ به ، أو قبل دخول الوقت للتهيّؤ ، فشكّ بعد ذلك في الوضوء. إلى غير
ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها.
نعم ذكر جماعة من
الأصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة إذا شكّ في الجزء الأخير ، كالعلاّمة
وولده والشهيدين والمحقّق الثاني وغيرهم قدّس الله أسرارهم.
واستدلّ فخر الدين
على مختاره في المسألة ـ بعد صحيحة زرارة المتقدّمة ـ : بأنّ خرق العادة على خلاف
الأصل . ولكن لا يحضرني كلام منهم في غير هذا المقام ، فلا بدّ من
التتبّع والتأمّل.
والذي يقرب في
نفسي عاجلا هو الالتفات إلى الشكّ ، وإن كان الظاهر من قوله عليهالسلام فيما تقدّم : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» ، أنّ هذه القاعدة من باب تقديم الظاهر على الأصل ، فهو دائر مدار الظهور
النوعيّ ولو كان من العادة. لكنّ العمل بعموم ما يستفاد من الرواية أيضا مشكل ،
فتأمّل. والأحوط ما ذكرنا.
__________________
الموضع الثالث
هل يعتبر في التجاوز والفراغ الدخول في الغير ، أم لا؟
|
الدخول في غير
المشكوك إن كان محقّقا للتجاوز عن المحلّ ، فلا إشكال في اعتباره ، وإلاّ فظاهر
الصحيحتين الاوليتين اعتباره ، وظاهر إطلاق موثّقة ابن مسلم عدم اعتباره.
ويمكن حمل التقييد
في الصحيحين على الغالب خصوصا في أفعال الصلاة ؛ فإنّ الخروج من أفعالها يتحقّق
غالبا بالدخول في الغير ، وحينئذ فيلغو القيد.
ويحتمل ورود
المطلق على الغالب ، فلا يحكم بالإطلاق.
ويؤيّد الأوّل
ظاهر التعليل المستفاد من قوله عليهالسلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» ، وقوله عليهالسلام : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» بناء على ما سيجيء من التقريب ، وقوله عليهالسلام : «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك ... الخبر» .
لكنّ الذي يبعّده
أنّ الظاهر من ال «غير» في صحيحة إسماعيل ابن جابر : «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد
وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض» بملاحظة مقام
التحديد ومقام التوطئة للقاعدة المقرّرة
__________________
بقوله عليهالسلام بعد ذلك : «كلّ شيء شكّ فيه ... الخ» كون السجود والقيام حدّا للغير الذي
يعتبر الدخول فيه ، وأنّه لا غير أقرب من الأوّل بالنسبة إلى الركوع ، ومن الثاني
بالنسبة إلى السجود ؛ إذ لو كان الهويّ للسجود كافيا عند الشكّ في الركوع ،
والنهوض للقيام كافيا عند الشكّ في السجود ، قبح في مقام التوطئة للقاعدة الآتية
التحديد بالسجود والقيام ، ولم يكن وجه لجزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شكّ قبل الاستواء قائما.
وممّا ذكرنا يظهر
: أنّ ما ارتكبه بعض من تأخّر ، من التزام عموم «الغير» وإخراج الشكّ في السجود قبل تمام
القيام بمفهوم الرواية ، ضعيف جدّا ؛ لأنّ الظاهر أنّ القيد وارد في مقام التحديد.
والظاهر أنّ
التحديد بذلك توطئة للقاعدة ، وهي بمنزلة ضابطة
كلّية ، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في فهم الكلام ، فكيف يجعل فردا خارجا
بمفهوم القيد عن عموم القاعدة؟!
عدم كفاية الدخول في مقدّمات الغير
|
فالأولى : أن يجعل
هذا كاشفا عن خروج مقدّمات أفعال الصلاة عن عموم «الغير» فلا يكفي في الصلاة مجرّد
الدخول ولو في فعل غير
__________________
أصلي ، فضلا عن
كفاية مجرّد الفراغ.
الأقوى اعتبار الدخول في الغير وعدم كفاية مجرّد الفراغ
|
والأقوى : اعتبار
الدخول في الغير وعدم كفاية مجرّد الفراغ ، إلاّ أنّه قد يكون الفراغ عن الشيء
ملازما للدخول في غيره ، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء ؛ فإنّ حالة عدم الاشتغال
بهما يعدّ مغايرة لحالهما وإن لم يشتغل بفعل وجوديّ ، فهو دخول في الغير بالنسبة
إليهما.
عدم صحّة التفصيل بين الصلاة والوضوء
|
وأمّا التفصيل بين
الصلاة والوضوء ، بالتزام كفاية مجرّد الفراغ من الوضوء ولو مع الشكّ في الجزء
الأخير منه ، فيردّه اتحاد الدليل في البابين ؛ لأنّ ما ورد ،
من قوله عليهالسلام في من شكّ في الوضوء بعد ما فرغ من الوضوء : «هو حين
يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» عامّ بمقتضى التعليل لغير الوضوء أيضا ؛ ولذا استفيد منه
حكم الغسل و الصلاة أيضا. وكذلك موثّقة ابن أبي يعفور المتقدّمة ، صدرها دالّ على اعتبار الدخول في الغير في الوضوء ، وذيلها يدلّ على عدم
العبرة بالشكّ بمجرّد التجاوز مطلقا من غير تقييد بالوضوء ، بل ظاهرها يأبى عن
التقييد. وكذلك روايتا زرارة وأبي بصير المتقدّمتان آبيتان عن
__________________
التقييد.
وأصرح من جميع ذلك
في الإباء عن التفصيل بين الوضوء والصلاة قوله عليهالسلام في الرواية المتقدّمة : «كلّ ما مضى من
صلاتك وطهورك فذكرته تذكّرا فأمضه».
__________________
الموضع الرابع
عدم جريان القاعدة في أفعال الطهارات الثلاث
|
قد خرج من
الكلّيّة المذكورة أفعال الطهارات الثلاث ؛ فإنّهم أجمعوا على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل إتمام الوضوء يأتي به وإن دخل في
فعل آخر ، وأمّا الغسل والتيمّم فقد صرّح بذلك فيهما بعضهم على وجه يظهر منه كونه من المسلّمات ، وقد نصّ على الحكم في الغسل جمع ممّن
تأخّر عن المحقّق ، كالعلاّمة والشهيدين والمحقّق الثاني ، ونصّ غير واحد من هؤلاء على كون التيمّم كذلك.
وكيف كان ، فمستند
الخروج ـ قبل الإجماع ـ الأخبار الكثيرة المخصّصة للقاعدة المتقدّمة. إلاّ أنّه
يظهر من رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة ـ وهي قوله عليهالسلام : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشكّ
إذا كنت في شيء
__________________
ظاهر رواية ابن أبي يعفور أنّ حكم الوضوء من باب القاعدة
|
لم تجزه» : أنّ حكم
الوضوء من باب القاعدة ، لا خارج عنها ، بناء على عود ضمير «غيره» إلى الوضوء ؛
لئلاّ يخالف الإجماع على وجوب الالتفات إذا دخل في غير المشكوك من أفعال الوضوء ،
وحينئذ فقوله عليهالسلام : «إنّما الشكّ» مسوق لبيان قاعدة الشكّ المتعلّق بجزء من
أجزاء العمل ، وأنّه إنّما يعتبر إذا كان مشتغلا بذلك العمل غير متجاوز عنه.
الإشكال في ظاهر ذيل الرواية
|
هذا ، ولكنّ
الاعتماد على ظاهر ذيل الرواية مشكل ؛ من جهة أنّه يقتضي بظاهر الحصر أنّ
الشكّ الواقع في غسل اليد باعتبار جزء من أجزائه لا يعتنى به إذا جاوز غسل اليد ،
مضافا إلى أنّه معارض للأخبار السابقة فيما إذا شكّ في جزء من الوضوء بعد الدخول
في جزء آخر قبل الفراغ منه ؛ لأنّه باعتبار أنّه شكّ في وجود شيء بعد تجاوز محلّه
يدخل في الأخبار السابقة ، ومن حيث إنّه شكّ في أجزاء عمل قبل الفراغ منه يدخل في
هذا الخبر.
ويمكن أن يقال
لدفع جميع ما في الخبر من الإشكال : إنّ الوضوء بتمامه في نظر الشارع فعل واحد
باعتبار وحدة مسبّبه ـ وهي الطهارة ـ فلا يلاحظ كلّ فعل منه بحياله حتّى يكون
موردا لتعارض هذا الخبر مع الأخبار السابقة ، ولا يلاحظ بعض أجزائه ـ كغسل اليد
مثلا ـ شيئا مستقلا يشكّ في بعض أجزائه قبل تجاوزه أو بعده ليوجب ذلك الإشكال في
الحصر المستفاد من الذيل.
وبالجملة : فإذا
فرض الوضوء فعلا واحدا لم يلاحظ الشارع
__________________
أجزاءه أفعالا
مستقلّة يجري فيها حكم الشكّ بعد تجاوز المحلّ ، لم يتوجّه شيء من الإشكالين في
الاعتماد على الخبر ، ولم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة ؛ إذ الشكّ في أجزاء
الوضوء قبل الفراغ ليس إلاّ شكّا واقعا في الشيء قبل التجاوز عنه. والقرينة على
هذا الاعتبار جعل القاعدة ضابطة لحكم الشكّ في أجزاء الوضوء قبل الفراغ عنه أو
بعده .
عدم غرابة فرض الوضوء فعلا واحدا
|
ثمّ إنّ فرض
الوضوء فعلا واحدا لا يلاحظ حكم الشكّ بالنسبة إلى أجزائه ، ليس أمرا غريبا ؛ فقد
ارتكب المشهور مثله في الأخبار السابقة بالنسبة إلى أفعال الصلاة ؛ حيث لم يجروا
حكم الشكّ بعد التجاوز في كلّ جزء من أجزاء القراءة حتّى الكلمات والحروف ، بل
الأظهر عندهم كون الفاتحة فعلا واحدا ، بل جعل بعضهم القراءة فعلا واحدا ، وقد عرفت النصّ في الروايات على عدم اعتبار الهويّ للسجود والنهوض للقيام .
وممّا يشهد لهذا
التوجيه إلحاق المشهور الغسل والتيمّم بالوضوء في هذا الحكم ؛ إذ لا وجه له ظاهرا إلاّ ملاحظة كون الوضوء أمرا واحدا يطلب منه أمر واحد
غير قابل للتبعيض ، أعني «الطهارة».
__________________
الموضع الخامس
هل تجري القاعدة في الشروط كما تجري في الأجزاء؟
|
ذكر بعض الأساطين : أنّ حكم الشكّ في الشروط بالنسبة إلى الفراغ عن المشروط ـ بل الدخول فيه ،
بل الكون على هيئة الداخل ـ حكم الأجزاء في عدم الالتفات. فلا اعتبار بالشكّ في
الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها والاستقرار ونحوها ، بعد الدخول في
الغاية. ولا فرق بين الوضوء وغيره ، انتهى. وتبعه بعض من تأخّر عنه .
واستقرب ـ في مقام
آخر ـ إلغاء الشكّ في الشرط بالنسبة إلى غير ما دخل فيه من الغايات .
وما أبعد ما بينه
وبين ما ذكره بعض الأصحاب : من اعتبار الشكّ في الشرط حتّى بعد الفراغ عن المشروط ،
فأوجب إعادة المشروط.
والأقوى : التفصيل
بين الفراغ عن المشروط فيلغو الشكّ في الشرط بالنسبة إليه ؛ لعموم لغويّة الشكّ في
الشيء بعد التجاوز عنه ، وأمّا بالنسبة إلى مشروط آخر لم يدخل فيه فلا ينبغي
الإشكال في
__________________
اعتبار الشكّ فيه
؛ لأنّ الشرط المذكور من حيث كونه شرطا لهذا المشروط لم يتجاوز عنه ، بل محلّه باق
، فالشكّ في تحقّق شرط هذا المشروط شكّ في الشيء قبل تجاوز محلّه.
وربما بنى بعضهم ذلك على أنّ معنى عدم العبرة بالشكّ في الشيء بعد تجاوز المحلّ ، هو البناء
على الحصول مطلقا ولو لمشروط آخر ، أو يختصّ
بالمدخول.
معنى عدم العبرة بالشكّ بعد تجاوز المحلّ
|
أقول : لا إشكال
في أنّ معناه البناء على حصول المشكوك فيه ، لكن بعنوانه الذي يتحقّق معه تجاوز
المحلّ ، لا مطلقا. فلو شكّ في أثناء العصر في فعل الظهر بنى على تحقّق الظهر
بعنوان أنّه شرط للعصر ولعدم وجوب العدول إليه ، لا على تحقّقه مطلقا ، حتّى لا
يحتاج إلى إعادتها بعد فعل العصر. فالوضوء المشكوك فيما نحن فيه إنّما فات محلّه
من حيث كونه شرطا للمشروط المتحقّق ، لا من حيث كونه شرطا للمشروط المستقبل.
ومن هنا يظهر أنّ
الدخول في المشروط أيضا لا يكفي في إلغاء الشكّ في الشرط ، بل لا بدّ من الفراغ
عنه ؛ لأنّ نسبة الشرط إلى جميع أجزاء المشروط نسبة واحدة ، وتجاوز محلّه باعتبار
كونه شرطا للأجزاء الماضية ، فلا بدّ من إحرازه للأجزاء المستقبلة.
نعم ، ربما يدّعى
في مثل الوضوء : أنّ محلّ إحرازه لجميع أجزاء الصلاة قبل الصلاة لا عند كلّ جزء.
__________________
التفصيل بين الوضوء ونحوه وبين غيره
|
ومن هنا قد يفصّل
: بين ما كان من قبيل الوضوء ممّا يكون محلّ إحرازه قبل الدخول في العبادة ، وبين
غيره ممّا ليس كذلك ، كالاستقبال والستر ، فإنّ إحرازهما
ممكن في كلّ جزء ، وليس المحلّ الموظّف لإحرازهما قبل الصلاة بالخصوص ، بخلاف
الوضوء. وحينئذ فلو شكّ في أثناء الصلاة في الستر أو الساتر وجب عليه إحرازه في
أثناء الصلاة للأجزاء المستقبلة.
والمسألة لا تخلو
عن إشكال ، إلاّ أنّه ربما يشهد لما ذكرنا ـ من التفصيل بين الشكّ في الوضوء في
أثناء الصلاة ، وفيه بعده ـ صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليهماالسلام ، قال : «سألته عن الرجل يكون على وضوء ثمّ يشكّ ، على وضوء هو أم لا؟ قال :
إذا ذكرها وهو في صلاته انصرف وأعادها ، وإن
ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك» ، بناء على أنّ
مورد السؤال الكون على الوضوء باعتقاده ثمّ شكّ في ذلك.
__________________
الموضع السادس
هَل يلحق الشكّ في الصحّة بالشكّ في الإتيان؟
|
أنّ الشكّ في صحّة
الشيء المأتي به حكمه حكم الشكّ في الإتيان ، بل هو هو ؛ لأنّ مرجعه إلى الشكّ في
وجود الشيء الصحيح. ومحلّ الكلام : ما لا يرجع فيه الشكّ إلى الشكّ في ترك بعض ما
يعتبر في الصحّة ، كما لو شكّ في تحقّق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات
الآية.
لكنّ الإنصاف :
أنّ الإلحاق لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ الظاهر من أخبار الشكّ في الشيء اختصاصها
بغير هذه الصورة ، إلاّ أن يدّعى تنقيح المناط ، أو يستند فيه إلى بعض ما يستفاد
منه العموم ، مثل موثّقة ابن أبي يعفور ، أو يجعل أصالة
الصحّة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلا برأسه ، ومدركه ظهور حال المسلم.
قال فخر الدين في
الإيضاح في مسألة الشكّ في بعض أفعال الطهارة :
إنّ الأصل في فعل
العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح ، وهو يعلم الكيفية والكميّة ،
الصحّة ، انتهى.
ويمكن استفادة
اعتباره من عموم التعليل المتقدّم في قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» ؛ فإنّه بمنزلة صغرى لقوله :
__________________
«فإذا كان أذكر
فلا يترك ما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد به إبراء ذمّته» ؛ لأنّ الترك سهوا خلاف
فرض الذكر ، وعمدا خلاف إرادة الإبراء .
__________________
الموضع السابع
المراد من الشكّ في موضوع هذه القاعدة
|
الظاهر أنّ المراد
بالشكّ في موضوع هذا الأصل ، هو الشكّ الطارئ بسبب الغفلة عن صورة العمل.
فلو علم كيفيّة
غسل اليد ، وأنّه كان بارتماسها في الماء ، لكن شكّ في أنّ ما تحت خاتمه ينغسل
بالارتماس أم لا ، ففي الحكم بعدم الالتفات ، وجهان : من إطلاق بعض الأخبار ، ومن
التعليل بقوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» ، فإنّ التعليل يدلّ على تخصيص الحكم بمورده مع عموم السؤال ، فيدلّ على نفيه
عن غير مورد العلّة.
عدم الفرق بين أن يكون المحتمل الترك نسيانا أو تعمّدا
|
نعم ، لا فرق بين
أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا ، أو تركه تعمّدا ، و ( التعليل المذكور بضميمة الكبرى المتقدّمة يدلّ على نفي
الاحتمالين.
ولو كان الشكّ من
جهة احتمال وجود الحائل على البدن ، ففي شمول الأخبار له ، الوجهان. نعم ، قد يجري
هنا أصالة عدم الحائل ، فيحكم بعدمه حتّى لو لم يفرغ عن الوضوء ، بل لم يشرع في
غسل موضع احتمال الحائل ، لكنّه من الاصول المثبتة. وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك
في بعض الامور المتقدّمة .
__________________
المسألة الثالثة
في أصالة الصحّة في فعل الغير
أصالة الصحّة من الاصول المجمع عليها بين المسلمين
|
وهي في الجملة من
الاصول المجمع عليها فتوى وعملا بين المسلمين ، فلا عبرة في موردها بأصالة الفساد المتّفق
عليها عند الشكّ ، إلاّ أنّ معرفة مواردها ، ومقدار ما يترتّب عليها من
الآثار ، ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول ، يتوقّف على
بيان مدركها من الأدلّة الأربعة.
ولا بدّ من تقديم
ما فيه إشارة إلى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة.
الاستدلال
بالآيات والمناقشة فيه
|
أمّا الكتاب ،
فمنه آيات :
منها : قوله تعالى
: (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ، بناء على تفسيره بما في الكافي ، من قوله عليهالسلام : «لا تقولوا إلاّ خيرا حتّى تعلموا ما هو» ، ولعلّ مبناه على إرادة الظنّ والاعتقاد من القول.
__________________
ومنها : قوله
تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ، فإنّ ظنّ السوء إثم ، وإلاّ لم يكن شيء من الظنّ إثما.
ومنها : قوله
تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، بناء على أنّ الخارج من عمومه ليس إلاّ ما علم فساده ؛
لأنّه المتيقّن. وكذا قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ).
والاستدلال به
يظهر من المحقّق الثاني ، حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن مدّعيا لسبق إذن المرتهن
، وأنكر المرتهن السبق : بأنّ الأصل صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد .
لكن لا يخفى ما
فيه من الضعف.
وأضعف منه : دعوى
دلالة الآيتين الاوليتين.
وأمّا السنّة :
فمنها : ما في
الكافي عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلّبك عنه ، ولا
تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا» .
__________________
ومنها : قول
الصادق عليهالسلام لمحمّد بن الفضل : «يا محمّد ، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ،
فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال ، وقال : لم أقل ، فصدّقه وكذّبهم» .
ومنها : ما ورد
مستفيضا ، من أنّ «المؤمن لا يتّهم أخاه» وأنّه «إذا اتّهم
أخاه انماث الإيمان في قلبه ، كما ينماث الملح في الماء» ، وأنّ «من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما» ، وأنّ «من اتّهم
أخاه فهو ملعون ملعون» ، إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على هذه المضامين ، أو
ما يقرب منها .
المناقشة في دلالة الأخبار
|
هذا ، ولكنّ
الإنصاف : عدم دلالة هذه الأخبار إلاّ على أنّه لا بدّ من أن يحمل ما يصدر من
الفاعل على الوجه الحسن عند الفاعل ، ولا يحمل على الوجه القبيح عنده ، وهذا غير
ما نحن بصدده ؛ فإنّه إذا فرض دوران العقد الصادر منه بين كونه صحيحا أو فاسدا لا
على وجه قبيح ، بل فرضنا الأمرين في حقّه مباحا ، كبيع الراهن بعد رجوع المرتهن عن
الإذن واقعا أو قبله ، فإنّ الحكم بأصالة عدم ترتّب الأثر
__________________
على البيع ـ مثلا
ـ لا يوجب خروجا عن الأخبار المتقدّمة الآمرة بحسن الظنّ بالمؤمن في المقام ،
خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن ، أو فعل المؤمن الذي يعتقد بصحّة ما هو
الفاسد عند الحامل.
ثمّ لو فرضنا أنّه
يلزم من الحسن ترتيب الآثار ، ومن القبيح عدم الترتيب ـ كالمعاملة المردّدة بين
الربويّة وغيرها ـ لم يلزم من الحمل على الحسن بمقتضى تلك الأخبار الحكم بترتّب
الآثار ؛ لأنّ مفادها الحكم بصفة الحسن في فعل المؤمن ، بمعنى عدم الجرح في فعله ،
لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحسن ، ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام
المسموع من مؤمن بعيد سلاما ، أو تحيّة ، أو شتما ، لم يلزم من الحمل على الحسن
وجوب ردّ السلام.
ممّا يؤيّد عدم دلالة الأخبار
|
وممّا يؤيّد ما
ذكرنا ، جمع الإمام عليهالسلام في رواية محمد بن الفضل ، بين تكذيب خمسين قسامة ـ أعني
البيّنة العادلة ـ وتصديق الأخ المؤمن ، فإنّه ممّا لا يمكن إلاّ بحمل تصديق
المؤمن على الحكم بمطابقة الواقع ، المستلزم لتكذيب القسامة ـ بمعنى المخالفة
للواقع ـ مع الحكم بصدقهم في اعتقادهم ؛ لأنّهم أولى بحسن الظنّ بهم من المؤمن
الواحد. فالمراد من تكذيب السمع والبصر تكذيبهما فيما يفهمان من ظواهر بعض الأفعال
من القبح ، كما إذا ترى شخصا ظاهر الصحّة يشرب الخمر في مجلس يظنّ أنّه مجلس
الشرب.
وكيف كان ، فعدم
وفاء الأخبار بما نحن بصدده أوضح من أن يحتاج إلى البيان ، حتّى المرسل الأوّل ،
بقرينة ذكر الأخ ، وقوله عليهالسلام : «ولا تظنّنّ ... الخبر».
ممّا يؤيّد عدم دلالة أيضاً
|
وممّا يؤيّد ما
ذكرنا أيضا ، ما ورد في غير واحد من الروايات :
من عدم جواز
الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق ، مثل :
رواية عبد الله بن
سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا تثقنّ بأخيك كلّ الثقة ؛ فإنّ صرعة الاسترسال لا
تستقال» .
وما في نهج
البلاغة عنه عليهالسلام : «إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ، ثمّ أساء رجل
الظنّ برجل لم يظهر منه خزية ، فقد ظلم ، وإذا
استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل ، فقد غرّر» .
وفي معناه قول أبي
الحسن عليهالسلام في رواية محمّد بن هارون الجلاّب : «إذا كان الجور أغلب من
الحقّ ، لا يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيرا ، حتّى يعرف ذلك منه» .
إلى غير ذلك ممّا
يجده المتتبّع .
فإنّ الجمع بينها
وبين الأخبار المتقدّمة يحصل بأن يراد من الأخبار : ترك ترتيب آثار التهمة ،
والحمل على الوجه الحسن من حيث مجرّد الحسن ، والتوقّف فيه من حيث ترتيب سائر
الآثار.
ويشهد له ما ورد ،
من : «أنّ المؤمن لا يخلو عن ثلاثة : الظنّ والحسد والطيرة ، فإذا حسدت فلا تبغ ،
وإذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا
__________________
تطيّرت فامض» .
الثالث : الإجماع
القوليّ والعمليّ
الاستدلال بالإجماع القولي
|
أمّا القوليّ ،
فهو مستفاد من تتبّع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة ، فإنّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحّة في الجملة مطابق للأصل وإن
اختلفوا في ترجيحه على سائر الاصول ، كما ستعرف .
الاستدلال بالإجماع العملي
|
وأمّا العمليّ ،
فلا يخفى على أحد أنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار ، على حمل الأعمال على الصحيح
، وترتيب آثار الصحّة في عباداتهم ومعاملاتهم ، ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك إلاّ
مكابرة.
الرابع : العقل
المستقلّ
الحاكم بأنّه لو
لم يبن على هذا الأصل لزم اختلال نظام المعاد والمعاش ، بل الاختلال الحاصل من ترك
العمل بهذا الأصل أزيد من الاختلال الحاصل من ترك العمل ب «يد المسلم».
مع أنّ الإمام عليهالسلام قال لحفص بن غياث ـ بعد الحكم بأنّ اليد دليل الملك ، ويجوز الشهادة بالملك
بمجرّد اليد ـ : «إنّه لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» ، فيدلّ بفحواه على اعتبار أصالة الصحّة في أعمال
__________________
المسلمين ، مضافا
إلى دلالته بظاهر اللفظ ؛ حيث إنّ الظاهر أنّ كلّ ما لولاه لزم الاختلال فهو حقّ ؛
لأنّ الاختلال باطل ، والمستلزم للباطل باطل ، فنقيضه حقّ ، وهو اعتبار أصالة
الصحّة عند الشكّ في صحّة ما صدر عن الغير.
ويشير إليه أيضا :
ما ورد من نفي الحرج ، وتوسعة الدين ، وذمّ من ضيّقوا
على أنفسهم بجهالتهم .
__________________
__________________
وينبغي التنبيه
على أمور :
الأوّل
هل يحمل فعل المسلم على الصحّة الواقعيّة أو الصحّة عند الفاعل؟
|
أنّ المحمول عليه
فعل المسلم ، هل الصحّة باعتقاد الفاعل أو الصحّة الواقعيّة؟
__________________
فلو علم أنّ معتقد
الفاعل ـ اعتقادا يعذر فيه ـ صحّة البيع أو النكاح بالفارسية في العقد ، فشكّ فيما صدر عنه ، مع اعتقاد الشاكّ اعتبار العربيّة ، فهل يحمل على كونه واقعا بالعربيّة ، حتّى إذا ادّعي عليه أنّه أوقعه
بالفارسيّة ، وادّعى هو أنّه أوقعه بالعربيّة ، فهل يحكم الحاكم المعتقد بفساد
الفارسيّة ، بوقوعه بالعربيّة أم لا؟ وجهان ، بل قولان :
ظاهر المشهور الحمل على الصحّة الواقعيّة
|
ظاهر المشهور
الحمل على الصحّة الواقعيّة ، فإذا شكّ المأموم في أنّ الإمام المعتقد بعدم وجوب السورة
، قرأها أم لا؟ جاز له الائتمام به ، وإن لم يكن له ذلك إذا علم بتركها.
ظاهر بعض المتأخّرين الحمل على الصحّة باعتقاد الفاعل
|
ويظهر من بعض
المتأخّرين خلافه :
قال في المدارك في
شرح قول المحقّق : «ولو اختلف الزوجان فادّعى أحدهما وقوع العقد في حال الإحرام
وأنكر الآخر ، فالقول قول من يدّعي الإحلال ترجيحا لجانب الصحّة» ، قال :
إنّ الحمل على
الصحّة إنّما يتمّ إذا كان المدّعي لوقوع الفعل في حال الإحرام عالما بفساد ذلك ،
أمّا مع اعترافهما بالجهل ، فلا وجه للحمل على الصحّة ، انتهى.
ويظهر ذلك من بعض
من عاصرناه ـ في اصوله وفروعه ـ حيث
__________________
تمسّك لهذا الأصل
بالغلبة.
بل ويمكن إسناد
هذا القول إلى كلّ من استند في هذا الأصل إلى ظاهر حال المسلم ، كالعلاّمة وجماعة ممّن تأخّر عنه ، فإنّه لا يشمل إلاّ صورة اعتقاد
الصحّة ، خصوصا إذا كان قد أمضاه الشارع لاجتهاد أو تقليد أو قيام بيّنة أو غير
ذلك.
من إطلاق الأصحاب
، ومن عدم مساعدة أدلّتهم ؛ فإنّ العمدة الإجماع ولزوم الاختلال ، والإجماع
الفتوائيّ مع ما عرفت مشكل ، والعمليّ في مورد العلم باعتقاد الفاعل للصحّة أيضا
مشكل ، والاختلال يندفع بالحمل على الصحّة في غير المورد المذكور.
وتفصيل المسألة :
أنّ الشاكّ في الفعل الصادر من غيره :
إمّا أن يكون
عالما بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده ، وإمّا أن يكون عالما بجهله وعدم علمه ،
وإمّا أن يكون جاهلا بحاله.
١
ـ أن يعلم كون الفاعل عالما بالصحّة والفساد
|
فإن علم بعلمه
بالصحيح والفاسد : فإمّا أن يعلم بمطابقة اعتقاده لاعتقاد الشاكّ ، أو يعلم
مخالفته ، أو يجهل الحال.
لا إشكال في الحمل
في الصورة الاولى.
وأمّا الثانية ،
فإن لم يتصادق اعتقادهما بالصحّة في فعل ـ كأن
__________________
اعتقد أحدهما وجوب
الجهر بالقراءة يوم الجمعة ، والآخر وجوب الإخفات ـ فلا إشكال في وجوب الحمل على
الصحيح باعتقاد الفاعل.
وإن تصادق ـ كمثال
العقد بالعربيّة والفارسيّة ـ فإن قلنا : إنّ العقد بالفارسيّة منه سبب لترتّب
الآثار عليه من كلّ أحد حتّى المعتقد بفساده ، فلا ثمرة في الحمل على معتقد الحامل
أو الفاعل ، وإن قلنا بالعدم ـ كما هو الأقوى ـ ففيه الإشكال المتقدّم : من تعميم
الأصحاب في فتاويهم وفي بعض معاقد إجماعاتهم على تقديم قول مدّعي الصحّة ، ومن
اختصاص الأدلّة بغير هذه الصورة.
وإن جهل الحال ،
فالظاهر الحمل لجريان الأدلّة ، بل يمكن جريان الحمل على الصحّة في اعتقاده ،
فيحمل على كونه مطابقا لاعتقاد الحامل ؛ لأنّه الصحيح ، وسيجيء الكلام فيه .
وإن كان عالما
بجهله بالحال وعدم علمه بالصحيح والفاسد ، ففيه أيضا الاشكال المتقدّم ، خصوصا إذا
كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب ، كما إذا علمنا أنّه أقدم على بيع أحد
المشتبهين بالنجس ، إلاّ أنّه يحتمل أن يكون قد اتّفق المبيع غير نجس.
وكذا إن كان جاهلا
بحاله. إلاّ أنّ الإشكال في بعض هذه الصور أهون منه في بعض ، فلا بدّ من التتبّع
والتأمّل.
__________________
الثاني
هل يعتبر في جريان أصالة الصحّة في العقود استكمال أركان العقد؟
|
أنّ الظاهر من
المحقّق الثاني أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري في العقود بعد استكمال العقد للأركان.
قال في جامع
المقاصد ، فيما لو اختلف الضامن والمضمون له ، فقال الضامن : ضمنت وأنا صبيّ ـ بعد
ما رجّح تقديم قول الضامن ـ ما هذا لفظه :
كلام المحقق
الثاني في باب الضمان
|
فإن قلت : للمضمون
له أصالة الصحّة في العقود ، وظاهر حال العاقد الآخر أنّه لا يتصرّف باطلا.
قلنا : إنّ الأصل
في العقود الصحّة بعد استكمال أركانها ليتحقّق وجود العقد ، أمّا قبله فلا وجود له
، فلو اختلفا في كون المعقود عليه هو الحرّ أو العبد ، حلف منكر وقوع العقد على
العبد ، وكذا الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور ، لا مطلقا ، انتهى.
كلامه
قدسسره في باب الاجارة
|
وقال في باب
الإجارة ، ما هذا لفظه :
لا شكّ في أنّه
إذا حصل الاتفاق على حصول جميع الامور
__________________
المعتبرة في العقد
ـ من حصول الإيجاب والقبول من الكاملين ، وجريانهما على العوضين المعتبرين ـ ووقع
الاختلاف في شرط مفسد ، فالقول قول مدّعي الصحّة بيمينه ؛ لأنّه الموافق للأصل ؛
لأنّ الأصل عدم ذلك المفسد ، والأصل في فعل المسلم الصحّة.
أمّا إذا حصل الشك
في الصحّة والفساد في بعض الامور المعتبرة وعدمه ، فإنّ
الأصل لا يثمر هنا ؛ فإنّ الأصل عدم السبب الناقل.
ومن ذلك ما لو
ادّعى أنّي اشتريت العبد فقال بعتك الحرّ ، انتهى.
كلام العلاّمة ; في القواعد
|
ويظهر هذا من بعض
كلمات العلاّمة ; ، قال في القواعد :
لا يصحّ ضمان
الصبيّ ولو أذن له الوليّ ، فإن اختلفا قدّم قول الضامن ؛ لأصالة براءة الذمّة
وعدم البلوغ ، وليس لمدّعي الصحّة أصل يستند إليه ،
ولا ظاهر يرجع إليه. بخلاف ما لو ادّعى شرطا فاسدا ؛ لأنّ الظاهر أنّهما لا يتصرّفان
باطلا ، وكذا البحث في من عرف له حالة جنون ، انتهى.
وقال في التذكرة :
لو ادّعى المضمون
له : أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ ، وقال الضامن : بل ضمنت لك قبله. فإن عيّنا له
وقتا لا يحتمل بلوغه فيه
__________________
قدّم قول الصبيّ ـ
إلى أن قال ـ : وإن لم يعيّنا وقتا ، فالقول قول الضامن بيمينه ، وبه قال الشافعيّ
؛ لأصالة عدم البلوغ. وقال أحمد : القول قول المضمون له ؛ لأنّ الأصل صحّة الفعل وسلامته ، كما لو اختلفا في شرط مبطل. والفرق : أنّ المختلفين في الشرط
المفسد يقدّم فيه قول مدّعي الصحّة ؛ لاتفاقهما على أهليّة التصرّف ؛ إذ من له أهليّة التصرّف لا يتصرّف إلاّ تصرّفا صحيحا ، فكان القول قول مدّعي
الصحّة ؛ لأنّه مدّع للظاهر ، وهنا اختلفا في أهليّة التصرّف ، فليس مع من يدّعي
الأهليّة ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه. وكذا لو ادّعى أنّه ضمن بعد البلوغ
وقبل الرشد ، انتهى موضع الحاجة.
لكن لم يعلم الفرق
بين دعوى الضامن الصغر وبين دعوى البائع إيّاه ، حيث صرّح العلاّمة والمحقّق
الثاني بجريان أصالة الصحّة ، وإن اختلفا بين من عارضها بأصالة عدم البلوغ ، وبين من ضعّف هذه
المعارضة.
وقد حكي عن قطب
الدين : أنّه اعترض على شيخه العلاّمة في
__________________
مسألة الضمان
بأصالة الصحّة ، فعارضها بأصالة عدم البلوغ ، وبقي أصالة البراءة سليمة عن المعارض.
الأقوى التعميم وعدم اعتبار استكمال الأركان
|
أقول : والأقوى
بالنظر إلى الأدلّة السابقة ـ من السيرة ولزوم الاختلال ـ : هو التعميم. ولذا لو
شكّ المكلّف أنّ هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره؟ بنى على الصحّة. ولو قيل
: إنّ ذلك من حيث الشكّ في تمليك البائع البالغ ، وأنّه كان في محلّه أم كان فاسدا
، جرى مثل ذلك في مسألة التداعي أيضا.
المناقشة فيما ذكره المحقق الثاني
|
ثمّ إنّ ما ذكره جامع المقاصد : من أنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانه ، إن
أراد الوجود الشرعيّ فهو عين الصحّة ، وإن أراد الوجود العرفيّ فهو متحقّق مع
الشكّ ، بل مع القطع بالعدم.
وأمّا ما ذكره :
من الاختلاف في كون المعقود عليه هو الحرّ أو العبد ، فهو داخل في المسألة المعنونة في كلام القدماء والمتأخّرين ، وهي
__________________
ما لو قال : بعتك
بعبد ، فقال : بل بحرّ ، فراجع كتب الفاضلين والشهيدين .
وأمّا ما ذكره :
من أنّ الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور لا مطلقا ، فهو إنّما يتمّ إذا كان
الشكّ من جهة بلوغ الفاعل ، ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحّة فعله
صحّة فعل هذا الفاعل ، كما لو شكّ في أنّ الإبراء أو الوصيّة هل صدر منه حال
البلوغ أم قبله؟ أمّا إذا كان الشكّ في ركن آخر من العقد ، كأحد العوضين ، أو في
أهليّة أحد طرفي العقد ، فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الأوّل ، ومن
الطرف الآخر في الثاني ، أنّه لا يتصرّف فاسدا.
نعم ، مسألة
الضمان يمكن أن يكون من الأوّل ، إذا فرض وقوعه بغير إذن من المديون ، ولا قبول من
الغريم ؛ فإنّ الضمان حينئذ فعل واحد شكّ في صدوره من بالغ أو غيره ، وليس له طرف
آخر ، فلا ظهور في عدم كون تصرّفه فاسدا.
لكنّ الظاهر : أنّ
المحقّق لم يرد خصوص ما كان من هذا القبيل ، بل يشمل كلامه الصورتين الأخيرتين ،
فراجع. نعم ، يحتمل ذلك في عبارة التذكرة.
__________________
ثمّ إنّ تقديم قول
منكر الشرط المفسد ليس لتقديم قول مدّعي الصحّة ، بل لأنّ القول قول منكر الشرط ،
صحيحا كان أو فاسدا ؛ لأصالة عدم الاشتراط ، ولا دخل لهذا بحديث أصالة الصحّة وإن
كان مؤدّاه صحّة العقد فيما كان الشرط المدّعى مفسدا. هذا ، ولا بدّ من التأمّل
والتتبّع.
الثالث
صحّة كلّ شيء بحسبه وباعتبار آثار نفسه
|
أنّ هذا الأصل
إنّما يثبت صحّة الفعل إذا وقع الشكّ في بعض الامور المعتبرة شرعا في صحّته ،
بمعنى ترتّب الأثر المقصود منه عليه ، فصحّة كلّ شيء بحسبه.
مثلا : صحّة
الإيجاب عبارة عن كونه بحيث لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد ، في مقابل فاسده
الذي لا يكون كذلك ، كالإيجاب بالفارسيّة بناء على القول باعتبار العربيّة. فلو
تجرّد الإيجاب عن القبول لم يوجب ذلك فساد الإيجاب.
فإذا شكّ في تحقّق
القبول من المشتري بعد العلم بصدور الإيجاب من البائع ، فلا يقضي أصالة الصحّة في الإيجاب بوجود القبول ؛ لأنّ القبول معتبر في العقد لا في
الإيجاب.
وكذا لو شكّ في
تحقّق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقّق الإيجاب والقبول ، لم
يحكم بتحقّقه من حيث أصالة صحّة العقد.
__________________
وكذا لو شكّ في إجازة المالك لبيع الفضوليّ ، لم يصحّ إحرازها بأصالة الصحّة.
وأولى بعدم
الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خلّي وطبعه مبنيّا على الفساد ، بحيث يكون
المصحّح طارئا عليه ، كما لو ادّعى بائع الوقف وجود المصحّح له ، وكذا الراهن أو
المشتري من الفضوليّ إجازة المرتهن والمالك.
وممّا يتفرّع على ما ذكرنا
|
وممّا يتفرّع على
ذلك أيضا : أنّه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع الرهن والراهن البائع له ـ بعد
اتّفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه ـ في تقدّم الرجوع على البيع فيفسد ، أو
تأخّره فيصحّ ، فلا يمكن أن يقال ـ كما قيل ـ : من أنّ أصالة
صحّة الإذن تقضي بوقوع البيع صحيحا ، ولا أنّ أصالة صحّة الرجوع تقضي بكون البيع
فاسدا ؛ لأنّ الإذن والرجوع كليهما قد فرض وقوعهما على الوجه الصحيح ، وهو صدوره
عمّن له أهليّة ذلك والتسلّط عليه. فمعنى ترتّب الأثر عليهما أنّه لو وقع فعل
المأذون عقيب الإذن وقبل الرجوع ترتّب عليه الأثر ، ولو وقع فعله بعد الرجوع كان
فاسدا ، أمّا لو لم يقع عقيب الإذن فعل ، بل وقع في
زمان ارتفاعه ، ففساد هذا الواقع لا يخلّ بصحّة الإذن. وكذا لو فرض عدم وقوع الفعل
عقيب الرجوع فانعقد صحيحا ، فليس هذا من جهة فساد الرجوع ، كما لا يخفى.
__________________
نعم ، أصالة بقاء الإذن إلى أن يقع البيع قد يقضي بصحّته ، وكذا أصالة عدم البيع قبل
الرجوع ربما يقال : إنّها تقضي بفساده ، لكنّهما لو تمّا لم يكونا من أصالة صحّة
الإذن ـ بناء على أنّ عدم وقوع البيع بعده يوجب لغويّته ـ ولا من أصالة صحّة الرجوع التي تمسّك بها بعض المعاصرين .
والحقّ في المسألة
ما هو المشهور : من الحكم بفساد البيع ، وعدم جريان أصالة الصحّة في
المقام ، لا في البيع ـ كما استظهره الكركي ـ ولا في الإذن ،
ولا في الرجوع.
أمّا في البيع ،
فلأنّ الشكّ إنّما وقع في رضا من له الحقّ وهو المرتهن ، وقد تقدّم أنّ صحّة الإيجاب والقبول لا يقضي بتحقّق الرضا ممّن يعتبر رضاه ، سواء كان
مالكا ـ كما في بيع الفضولي ـ أم كان له
__________________
حقّ في المبيع ،
كالمرتهن.
وأمّا في الإذن ،
فلما عرفت : من أنّ صحّته تقضي بصحّة البيع إذا فرض وقوعه عقيبه لا بوقوعه عقيبه ،
كما أنّ صحّة الرجوع تقضي بفساد ما يفرض وقوعه بعده ، لا أنّ البيع وقع بعده.
والمسألة بعد
محتاجة إلى التأمّل بعد التتبّع في كلمات الأصحاب.
الرابع
اعتبار إحراز أصل العمل في أصالة الصحّة
|
أنّ مقتضى الأصل
ترتيب الشاكّ جميع ما هو من آثار الفعل الصحيح عنده. فلو صلّى شخص على ميّت سقط
عنه ، ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير حكم بطهارته وإن شكّ في شروط الغسل ـ من إطلاق
الماء ، ووروده على النجاسة ـ لا إن علم بمجرّد غسله ؛ فإنّ الغسل من حيث هو ليس
فيه صحيح وفاسد ؛ ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة أو طهارة أو نسك حجّ ،
ولم يعلم قصده تحقّق هذه العبادات ، لم يحمل على ذلك. نعم ، لو أخبر بأنّه كان
بعنوان تحقّقه أمكن قبول قوله ، من حيث إنّه مخبر عادل ، أو من حيثيّة اخرى.
الإشكال في الفرق بين صلاة الغير على الميّت وبين الصلاة عن الميت تبرّعا أو
بالإجارة
|
وقد يشكل الفرق
بين ما ذكر من الاكتفاء بصلاة الغير على الميّت بحمله على الصحيح ، وبين الصلاة عن
الميّت تبرّعا أو بالإجارة ، فإنّ المشهور عدم الاكتفاء بها إلاّ أن يكون عادلا.
ولو فرّق بينهما
بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام
__________________
إبراء الذمّة
وإتيان الصلاة على أنّها صلاة ؛ لاحتمال تركه لها بالمرّة ، أو إتيانه بمجرّد
الصورة لا بعنوان أنّها صلاة عنه ، اختصّ الإشكال بما إذا علم من حاله كونه في
مقام الصلاة وإبراء ذمّة الميّت ، إلاّ أنّه يحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة ،
كما يحتمل ذلك في الصلاة على الميّت ، إلاّ أن يلتزم بالحمل على الصحّة في هذه
الصورة.
و ( قد حكم بعضهم باشتراط العدالة فيمن يوضّئ العاجز عن الوضوء إذا لم يعلم
العاجز بصدور الفعل عن الموضّئ صحيحا ؛ ولعلّه لعدم إحراز كونه في مقام إبراء ذمّة
العاجز ، لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في
وضوء نفسه.
ويمكن أن يقال ـ فيما
إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير المكلّف بالعمل أوّلا
وبالذات ، كالعاجز عن الحجّ ـ : إنّ لفعل النائب عنوانين :
أحدهما : من حيث
إنّه فعل من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط المعتبرة في
المباشر ، وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح
منه ، مثل : استحقاق الاجرة ، وجواز استيجاره ثانيا بناء على اشتراط فراغ ذمّة
الأجير في صحّة استيجاره ثانيا.
__________________
والثاني : من حيث
إنّه فعل للمنوب عنه ، حيث إنّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب أو الآلة ، وكان الفعل بعد
قصد النيابة والبدليّة قائما بالمنوب عنه ، وبهذا الاعتبار يراعى فيه القصر
والإتمام في الصلاة ، والتمتّع والقران في الحجّ ، والترتيب في الفوائت.
والصحّة من
الحيثيّة الاولى لا تثبت الصحّة من هذه الحيثيّة الثانية ، بل لا بدّ من إحراز
صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب.
وبعبارة اخرى : إن
كان فعل الغير يسقط التكليف عنه ، من حيث إنّه فعل الغير ، كفت أصالة الصحّة في
السقوط ، كما في الصلاة على الميّت .
وإن كان إنّما
يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلا له ولو على وجه التسبيب ـ كما إذا كلّف
بتحصيل فعل بنفسه أو ببدن غيره ، كما في استنابة العاجز للحجّ ـ لم تنفع أصالة الصحّة في سقوطه ، بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من
الحيثيّتين ، فيحكم باستحقاق النائب الاجرة ، وعدم
براءة ذمّة المنوب عنه من الفعل.
__________________
وكما في استيجار
الوليّ للعمل عن الميّت .
لكن يبقى الإشكال
في استيجار الوليّ للعمل عن الميّت ؛ إذ لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ.
وبراءة ذمّة الميّت من آثار صحّة فعل الغير من حيث هو فعله ، لا من حيث اعتباره
فعلا للوليّ ، فلا بدّ أن يكتفى فيه بإحراز إتيان صورة الفعل بقصد إبراء ذمّة
الميّت ، ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الأخر.
ولا بدّ من
التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبّع التامّ في كلمات الأعلام.
__________________
الخامس
عدم جواز الأخذ باللوازم في أصالة الصحّة
|
أنّ الثابت من
القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتّب عليه الآثار الشرعيّة المترتّبة
على العمل الصحيح ، أمّا ما يلازم الصحّة من الامور الخارجة عن حقيقة الصحيح فلا
دليل على ترتّبها عليه. فلو شكّ في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك ـ كالخمر
والخنزير ـ أو بعين من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم
بصحّة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع لأصالة عدمه.
وهذا نظير ما
ذكرنا سابقا : من أنّه لو شكّ في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا ،
يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر ، لا فعل الظهر من حيث هو حتّى لا
يجب إتيانه ثانيا .
قال العلاّمة في
القواعد ، في آخر كتاب الإجارة :
__________________
لو قال : آجرتك
كلّ شهر بدرهم من غير تعيين ، فقال : بل سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر
، فإن قدّمنا قول المالك فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل. وكذا الإشكال في
تقديم قول المستأجر لو ادّعى اجرة مدّة معلومة أو عوضا معيّنا ، وأنكر المالك
التعيين فيهما. والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى ، انتهى.
__________________
السادس
وجه تقديم أصالة الصحّة على استصحاب الفساد
|
في بيان ورود هذا
الأصل على الاستصحاب ، فنقول :
أمّا تقديمه على
استصحاب الفساد وما في معناه فواضح ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الحالة السابقة على الفعل
المشكوك أو ارتفاعها ، ناش عن الشكّ في سببيّة هذا الفعل وتأثيره ، فإذا حكم
بتأثيره فلا حكم لذلك الشكّ ، خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل من الظواهر المعتبرة ،
فيكون نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولا ، الحاكم على أصالة بقاء
الطهارة .
وأمّا تقديمه على
الاستصحابات الموضوعيّة المترتّب عليها الفساد
__________________
اضطراب كلمات الأصحاب في تقديم أصالة الصحّة على
الاستصحابات الموضوعيّة
|
ـ كأصالة عدم
البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن ـ فقد اضطربت فيه كلمات
الأصحاب ، خصوصا العلاّمة وبعض من تأخّر عنه .
والتحقيق : أنّه
إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر ـ كما هو ظاهر كلمات جماعة بل الأكثر ـ فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات.
وإن جعلناه من
الاصول :
فإن اريد بالصحّة
في قولهم : «إنّ الأصل الصحّة» نفس ترتّب الأثر ، فلا إشكال في تقديم الاستصحاب
الموضوعيّ عليها ؛ لأنّه مزيل بالنسبة إليها.
__________________
وإن اريد بها كون
الفعل بحيث يترتّب عليه الأثر ـ بأن يكون الأصل مشخّصا للموضوع من حيث
ثبوت الصحّة له ، لا مطلقا ـ ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّ نظر :
من أنّ أصالة عدم
بلوغ البائع تثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ ، فيترتّب عليه
الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة.
وأصالة الحمل على
الصحيح تثبت كون الواقع بيعا صادرا عن بالغ ، فيترتّب عليه الصحّة ، فتتعارضان.
لكن التحقيق : أنّ
الحمل على الصحيح يقتضي كون الواقع البيع الصادر عن بالغ ،
وهو سبب شرعي في ارتفاع الحالة السابقة على العقد ، وأصالة عدم البلوغ لا توجب
بقاء الحالة السابقة على العقد من حيث إحراز البيع الصادر عن غير بالغ بحكم
الاستصحاب ؛ لأنّه لا يوجب الرجوع إلى الحالة السابقة على هذا العقد ؛ فإنّه ليس
ممّا يترتّب عليه وإن فرضنا أنّه يترتّب عليه آثار أخر ؛ لأنّ عدم المسبّب من آثار
عدم
__________________
السبب لا من آثار
ضدّه ، فنقول حينئذ : الأصل عدم وجود السبب ما لم يدلّ دليل شرعي على وجوده.
وبالجملة : البقاء
على الحالة السابقة على هذا البيع مستند إلى عدم السبب الشرعي ، فإذا شكّ فيه بني
على البقاء وعدم وجود المسبّب ، ما لم يدلّ دليل على كون الموجود المردّد بين
السبب وغيره هو السبب ، فإذن لا منافاة بين الحكم بترتّب الآثار المترتّبة على
البيع الصادر عن غير بالغ ، وترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر عن بالغ ؛
لأنّ الثاني يقتضي انتقال المال عن البائع ، والأوّل لا يقتضيه ، لا أنّه يقتضي
عدمه .
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
بقي الكلام في
أصالة الصحّة في الأقوال والاعتقادات
أمّا الأقوال ،
فالصحّة فيها تكون من وجهين :
الأوّل : من حيث
كونه حركة من حركات المكلّف ، فيكون الشكّ من حيث كونه مباحا أو محرّما. ولا إشكال
في الحمل على الصحّة من هذه الحيثيّة.
الثاني : من حيث
كونه كاشفا عن مقصود المتكلّم.
والشكّ من هذه
الحيثيّة يكون من وجوده :
أحدها : من جهة
أنّ المتكلّم بذلك القول قصد الكشف بذلك عن معنى ، أم لم يقصد ، بل تكلّم به من
غير قصد لمعنى؟ ولا إشكال في أصالة الصحّة من هذه الحيثيّة بحيث لو ادّعى كون
التكلّم لغوا أو غلطا لم يسمع منه.
الثاني : من جهة
أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ومعتقد بمؤدّى ما يقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم
في اعتقاده؟ ولا إشكال في أصالة الصحّة هنا أيضا. فإذا أخبر بشيء جاز نسبة اعتقاد
مضمون الخبر إليه ، ولا يسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله. وكذا إذا قال : افعل
كذا ، جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة لمصلحة
كالتوطين ، أو لمفسدة . وهذان الأصلان ممّا قامت عليهما السيرة القطعيّة ، مع
إمكان إجراء ما سلف : من أدلّة تنزيه فعل
__________________
المسلم عن القبيح
في المقام. لكنّ المستند فيه ليس تلك الأدلّة.
الثالث : من جهة
كونه صادقا في الواقع أو كاذبا. وهذا معنى حجّيّة خبر المسلم لغيره ، فمعنى حجّيّة
خبره صدقه. والظاهر عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح بهذا المعنى ، والظاهر
عدم الخلاف في ذلك ؛ إذ لم يقل أحد بحجّيّة كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه
عليه ، حتّى نرتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل .
وربما يتوهّم :
وجود الدليل العامّ ، من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه ، وما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم
اتّهامه عموما ، وخصوص قوله عليهالسلام : «إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» ، وغير ذلك ممّا ذكرنا
في بحث حجّيّة خبر الواحد ، وذكرنا عدم دلالتها .
مع أنّه لو فرض
دليل عامّ على حجّيّة خبر كلّ مسلم ، كان الخارج منه أكثر من الداخل ؛ لقيام
الإجماع على عدم اعتباره في الشهادات ولا في الروايات إلاّ مع شروط خاصّة ، ولا في
الحدسيّات والنظريّات إلاّ في موارد خاصّة ، مثل الفتوى وشبهها.
نعم يمكن أن يدّعى
: أنّ الأصل في خبر العدل الحجّيّة ؛ لجملة
__________________
ممّا ذكرناه في أخبار الآحاد ، وذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع .
أصالة الصحّة في الاعتقادات
|
وأمّا الاعتقادات
، فنقول :
إذا كان الشكّ في
أنّ اعتقاده ناش عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير
منه في مقدّماته ، فالظاهر وجوب الحمل على الصحيح ؛ لظاهر بعض ما مرّ : من وجوب
حمل امور المسلمين على الحسن دون القبيح.
وأمّا إذا شكّ في
صحّته بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك ، ولو ثبت ذلك
أوجب حجّيّة كلّ خبر أخبر به المسلم ؛ لما عرفت : من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر.
أمّا لو ثبت
حجّيّة خبره :
فقد يعلم أنّ
العبرة باعتقاده بالمخبر به ، كما في المفتي وغيره ممّن يعتبر نظره في المطلب ،
فيكون خبره كاشفا عن الحجّة لا نفسها.
وقد يعلم من
الدليل حجّيّة خصوص إخباره بالواقع ، حتّى لا يقبل منه قوله : اعتقد بكذا.
وقد يدلّ الدليل
على حجّيّة خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واخرى بالإخبار
بعلمه.
__________________
والمتّبع في كلّ
مورد ما دلّ عليه الدليل ، وقد يشتبه مقدار دلالة الدليل.
ويترتّب على ما
ذكرنا قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم ، وصحّة التعويل في العدالة على
اقتداء العدلين.
المقام الثاني
في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة
تقدم الاستصحاب على القرعة
|
وتفصيل القول فيها
يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ، ومجمل القول فيها :
أنّ ظاهر أخبارها
أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب ؛ فلا بدّ من تخصيصها بها ، فيختصّ القرعة بموارد لا
يجري فيها الاستصحاب .
تعارض القرعة مع سائر الأصول
|
نعم ، القرعة
واردة على أصالة التخيير ، وأصالتي الإباحة والاحتياط إذا كان مدركهما العقل ، وإن
كان مدركهما تعبّد الشارع بهما في مواردهما فدليل القرعة حاكم عليهما ، كما لا
يخفى.
__________________
لكن ذكر في محلّه : أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل
الأصحاب أو جماعة منهم ، والله العالم.
المقام الثالث
في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة
أعني : أصالة البراءة وأصالة الاشتغال وأصالة التخيير
[الأوّل : تعارض البراءة مع الاستصحاب]
تقدّم الاستصحاب وغيره من الأدلّة والاصول على أصالة البراءة
|
أمّا أصالة
البراءة ، فلا تعارض الاستصحاب ولا غيره من الاصول والأدلّة ، سواء كان مدركها
العقل أو النقل.
أمّا العقل ،
فواضح ؛ لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلاّ مع عدم الدليل على التكليف واقعا أو
ظاهرا.
وأمّا النقل ، فما
كان منه مساوقا لحكم العقل فقد اتّضح أمره ، والاستصحاب وارد عليه .
وأمّا مثل قوله عليهالسلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ،
__________________
فقد يقال : إنّ
مورد الاستصحاب خارج منه ؛ لورود النهي في المستصحب ولو بالنسبة إلى الزمان
السابق.
وفيه : أنّ الشيء
المشكوك في بقاء حرمته لم يرد نهي عن ارتكابه في هذا الزمان ، فلا بدّ من أن يكون
مرخّصا فيه. فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه بالهواء لم يرد فيه نهي ، وورود النهي عن
شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع عنه بعده ، كما أنّ وروده في مطلق العصير باعتبار
وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول في ما بعد الغاية ، لدلّ على المنع عن كلّ
كليّ ورد المنع عن بعض أفراده.
والفرق في الأفراد
بين ما كان تغايرها بتبدّل الأحوال والزمان دون غيرها ، شطط من الكلام. ولهذا
لا إشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب.
ويتلوه في الضعف
ما يقال : من أنّ النهي الثابت بالاستصحاب عن نقض اليقين ، نهي وارد في رفع الرخصة.
وجه الضعف : أنّ
الظاهر من الرواية بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاصّ
، لا من حيث إنّه مشكوك الحكم ، وإلاّ فيمكن العكس بأن يقال : إنّ النهي عن النقض
في مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة الإباحة ، فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة
البراءة ، فتأمّل .
__________________
حكومة دليل الاستصحاب على قوله عليهالسلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»
|
فالأولى في الجواب
أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان
اللاحق ، فقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» يدلّ على أنّ النهي الوارد لا بدّ من
إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق وفرض الشيء في الزمان اللاحق ممّا ورد فيه النهي
أيضا. فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : كلّ شيء مطلق
حتّى يرد فيه نهي ، وكلّ نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ،
فيكون الرخصة في الشيء وإطلاقه. مغيّا بورود النهي ، المحكوم عليه بالدوام وعموم
الأزمان ، فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشكّ لو لا
النهي ، وهذا معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض .
ولا فرق فيما
ذكرنا بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، بل الأمر في الشبهة الموضوعيّة أوضح ؛
لأنّ الاستصحاب الجاري فيها جار في الموضوع ، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة.
مثلا : استصحاب
عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشكّ في بقاء حرمته لأجل الشكّ في الذهاب ، يدخله في
العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته بالأدلّة ، فيخرج عن قوله : «كلّ شيء حلال
حتّى تعلم أنّه حرام».
الإشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعيّة
|
نعم ، هنا إشكال
في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعيّة ، وهو قوله عليهالسلام في الموثّقة : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك
، وذلك مثل الثوب عليك ولعلّه
__________________
سرقة ، والمملوك
عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع ، أو امرأة
تحتك وهي اختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره ، أو تقوم
به البيّنة» .
فإنّه قد استدلّ
بها جماعة ، كالعلاّمة ـ في التذكرة ـ وغيره على أصالة الإباحة ، مع أنّ أصالة الإباحة هنا معارضة باستصحاب حرمة التصرّف
في هذه الأشياء المذكورة في الرواية ، كأصالة عدم التملّك في الثوب ، والحريّة في
المملوك ، وعدم تأثير العقد في الامرأة. ولو اريد من الحلّيّة في الرواية ما
يترتّب على أصالة الصحّة في شراء الثوب والمملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة ، كان خروجا عن الإباحة الثابتة بأصالة الإباحة ، كما هو
ظاهر الرواية . وقد ذكرنا
__________________
في مسألة أصالة
البراءة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع ، والله الهادي.
هذا كلّه حال
قاعدة البراءة.
وأمّا استصحابها ،
فهو لا يجامع استصحاب التكليف ؛ لأنّ الحالة السابقة إمّا وجود التكليف أو عدمه ،
إلاّ على ما عرفت سابقا : من ذهاب بعض المعاصرين إلى إمكان تعارض استصحابي الوجود
والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : صم يوم الخميس.
الثاني : تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب
ورود الاستصحاب على قاعدة الاشتغال
|
ولا إشكال ـ بعد
التأمّل ـ في ورود الاستصحاب عليها ؛ لأنّ المأخوذ في موردها بحكم العقل الشكّ في
براءة الذمّة بدون الاحتياط ، فإذا قطع بها بحكم الاستصحاب فلا مورد للقاعدة. كما
لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد التي يقتضي الاحتياط الجمع
فيها بين القصر والتمام ، فإنّ استصحاب وجوب أحدهما وعدم وجوب الآخر مبرئ قطعيّ
لذمّة المكلّف عند الاقتصار على مستصحب الوجوب.
هذا حال القاعدة ،
وأمّا استصحاب الاشتغال في مورد القاعدة
__________________
ـ على تقدير
الإغماض عمّا ذكرنا سابقا ، من أنّه غير مجد في مورد القاعدة لإثبات ما يثبته
القاعدة ـ فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين.
وحاصله : أنّ
الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال حاكم على استصحابه.
الثالث : [تعارض قاعدة] التخيير [مع الاستصحاب]
ورود الاستصحاب على قاعدة التخيير
|
ولا يخفى ورود
الاستصحاب عليه ؛ إذ لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير. فلا يحكم بالتخيير بين
الصوم والإفطار في اليوم المحتمل كونه من شوّال مع استصحاب عدم الهلال ، ولذا فرّع
الإمام عليهالسلام قوله : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» على قوله : «اليقين لا
يدخله الشكّ» .
__________________
[تعارض الاستصحابين]
وأمّا الكلام في
تعارض الاستصحابين ، وهي المسألة المهمّة في باب تعارض الاصول التي اختلف فيها
كلمات العلماء في الاصول والفروع ، كما يظهر
بالتتبّع.
فاعلم : أنّ
الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة من حيث كونهما موضوعيّين أو
حكميّين أو مختلفين ، وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين ، وكونهما في موضوع واحد أو
موضوعين ، وكون تعارضهما بأنفسهما أو بواسطة أمر خارج ، إلى غير ذلك.
أقسام الاستصحابين المتعارضين
|
إلاّ أنّ الظاهر
أنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلاّ من جهة واحدة ، وهي : أنّ
الشكّ في أحد الاستصحابين إمّا أن يكون مسبّبا عن الشكّ في الآخر من غير عكس ،
وإمّا أن يكون الشكّ فيهما مسبّبا عن ثالث. وأمّا كون الشكّ في كلّ منهما مسبّبا
عن الشكّ في الآخر فغير معقول.
__________________
وما توهّم له : من التمثيل بالعامّين من وجه ، وأنّ الشكّ في أصالة العموم في كلّ منهما
مسبّب عن الشكّ في أصالة العموم في الآخر.
مندفع : بأنّ
الشكّ في الأصلين مسبّب عن العلم الإجماليّ بتخصيص أحدهما.
وكيف كان ،
فالاستصحابان المتعارضان على قسمين :
القسم الأوّل :
إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر
|
ما إذا كان الشكّ
في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، واللازم تقديم الشكّ السببيّ وإجراء
الاستصحاب فيه ، ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر.
تقدّم الاستصحاب السببي على المسبّبي والاستدلال عليه
|
مثاله : استصحاب
طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ، فإنّ الشكّ في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها مسبّب
عن الشكّ في بقاء طهارة الماء وارتفاعها ، فيستصحب طهارته ، ويحكم بارتفاع نجاسة
الثوب.
خلافا لجماعة ؛ لوجوه :
الأوّل : الإجماع على
ذلك في موارد لا تحصى ، فإنّه لا يحتمل الخلاف في تقديم الاستصحاب في الملزومات
الشرعيّة ـ كالطهارة من الحدث والخبث ، وكرّيّة الماء وإطلاقه ، وحياة المفقود ،
وبراءة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحجّ ، ونحو ذلك ـ على استصحاب عدم لوازمها
__________________
الشرعيّة ، كما لا
يخفى على الفطن المتتبّع.
نعم ، بعض العلماء
في بعض المقامات يعارض أحدهما بالآخر ، كما سيجيء . ويؤيّده السيرة المستمرّة بين الناس على ذلك بعد الاطّلاع على حجّية
الاستصحاب ، كما هو كذلك في الاستصحابات العرفيّة .
الثاني : أنّ قوله
عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» باعتبار دلالته على جريان
الاستصحاب في الشكّ السببيّ ، مانع عن قابليّة شموله
لجريان الاستصحاب في الشكّ المسبّبي ، يعني : أنّ نقض اليقين به يصير نقضا بالدليل لا بالشكّ ، فلا يشمله النهي في «لا تنقض».
واللازم من شمول «لا
تنقض» للشكّ المسبّبي نقض اليقين في مورد الشكّ السببيّ لا لدليل شرعيّ يدلّ على
ارتفاع الحالة السابقة فيه ، فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشكّ السببيّ طرح عموم «لا
تنقض» من غير مخصّص ، وهو باطل. واللازم من إهماله في الشكّ المسبّبي عدم قابليّة
العموم لشمول المورد ، وهو غير منكر.
__________________
وبيان ذلك : أنّ
مقتضى عدم نقض اليقين رفع اليد عن الامور السابقة المضادّة لآثار
ذلك المتيقّن. فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له إلاّ رفع اليد عن النجاسة السابقة
المعلومة في الثوب ؛ إذ الحكم بنجاسته نقض لليقين بالطهارة المذكورة بلا حكم من
الشارع بطروء النجاسة ، وهو طرح لعموم «لا تنقض» من غير مخصّص ، أمّا الحكم بزوال
النجاسة فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلاّ بحكم الشارع بطروء الطهارة على الثوب.
والحاصل : أنّ
مقتضى عموم «لا تنقض» للشكّ السببيّ نقض الحالة السابقة لمورد الشكّ المسبّبيّ.
ودعوى : أنّ
اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العامّ ، فلا وجه لطرحه وإدخال اليقين بطهارة
الماء.
مدفوعة : أوّلا :
بأنّ معنى عدم نقض يقين النجاسة أيضا رفع اليد عن الامور السابقة المضادّة لآثار
المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه وغيرها ، فيعود المحذور. إلاّ أن
نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة الملاقي ، وسيجيء فساده .
وثانيا : أنّ نقض
يقين النجاسة بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فقد طهر ، وفائدة
استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهرا به ، بخلاف نقض يقين
الطهارة بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة .
__________________
بيان ذلك : أنّه
لو عملنا باستصحاب النجاسة كنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء من غير ورود دليل
شرعيّ على نجاسته ؛ لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة عن الماء ،
بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ؛ فإنّه يوجب زوال نجاسة الثوب بالدليل
الشرعيّ ، وهو ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر ، فطرح اليقين بنجاسة
الثوب لقيام الدليل على طهارته.
هذا ، وقد يشكل : بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوب المغسول به ، كلّ منهما
يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته إليهما على حدّ
سواء ؛ لأنّ نسبة حكم العامّ إلى أفراده على حدّ سواء ، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم
لليقين بالطهارة أوّلا حتّى يجب نقض اليقين بالنجاسة ، لأنّه مدلوله ومقتضاه؟!
والحاصل : أنّ جعل
شمول حكم العامّ لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم أو عن الموضوع ـ كما
في ما نحن فيه ـ فاسد ، بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة مع قطع النظر عن ثبوت
الحكم.
ويدفع : بأنّ
فرديّة أحد الشيئين إذا توقّف على خروج الآخر المفروض الفرديّة عن العموم ، وجب
الحكم بعدم فرديّته ، ولم يجز رفع اليد عن العموم ؛ لأنّ رفع اليد حينئذ عنه
يتوقّف على شمول العامّ لذلك الشيء المفروض توقّف فرديّته على رفع اليد عن العموم
، وهو دور محال.
__________________
وإن شئت قلت : إنّ
حكم العامّ من قبيل لازم الوجود للشكّ السببيّ ، كما هو شأن الحكم الشرعيّ وموضوعه
، فلا يوجد في الخارج إلاّ محكوما ، والمفروض أنّ الشكّ المسبّبيّ أيضا من لوازم
وجود ذلك الشكّ ، فيكون حكم العامّ وهذا الشكّ لازمين لملزوم ثالث في مرتبة واحدة
، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعا للآخر ؛ لتقدّم الموضوع طبعا .
الثالث : أنّه لو
لم يبن على تقديم الاستصحاب في الشكّ السببيّ كان الاستصحاب قليل الفائدة جدّا ؛
لأنّ المقصود من الاستصحاب غالبا ترتيب الآثار الثابتة للمستصحب ، وتلك الآثار إن
كانت موجودة سابقا أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها ، فتنحصر الفائدة في الآثار
التي كانت معدومة ، فإذا فرض معارضة الاستصحاب في الملزوم
__________________
باستصحاب عدم تلك
اللوازم والمعاملة معها على ما يأتي في الاستصحابين المتعارضين ، لغى الاستصحاب في الملزوم وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفيّة
التي يراد بالاستصحاب إبقاء أنفسها في الزمان اللاحق.
ويرد عليه : منع
عدم الحاجة إلى الاستصحاب في الآثار السابقة ؛ بناء على أنّ إجراء الاستصحاب في
نفس تلك الآثار موقوف على إحراز الموضوع لها وهو مشكوك فيه ، فلا بدّ من استصحاب الموضوع ، إمّا ليترتّب عليه تلك الآثار ، فلا يحتاج إلى استصحاب
أنفسها المتوقّفة على بقاء الموضوع يقينا ، كما حقّقنا سابقا في مسألة اشتراط بقاء
الموضوع ، وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار ، كما
توهّمه بعض فيما قدّمناه سابقا : من أنّ بعضهم تخيّل أنّ موضوع المستصحب يحرز بالاستصحاب
فيستصحب.
والحاصل : أنّ
الاستصحاب في الملزومات محتاج إليه على كلّ تقدير.
الرابع : أنّ
المستفاد من الأخبار عدم الاعتبار باليقين السابق في مورد الشكّ المسبّب. بيان ذلك
: أنّ الإمام عليهالسلام علّل وجوب البناء على الوضوء
__________________
السابق في صحيحة
زرارة ، بمجرّد كونه متيقّنا سابقا غير متيقّن الارتفاع في اللاحق. وبعبارة اخرى :
علّل بقاء الطهارة المستلزم لجواز الدخول في الصلاة بمجرّد الاستصحاب. ومن المعلوم
أنّ مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة عدم براءة الذمّة بهذه الصلاة ، حتّى أنّ
بعضهم جعل استصحاب الطهارة وهذا الاستصحاب من الاستصحابين
المتعارضين ، فلو لا عدم جريان هذا الاستصحاب ، وانحصار الاستصحاب في المقام
باستصحاب الطهارة لم يصحّ تعليل المضيّ على الطهارة بنفس الاستصحاب ؛ لأنّ تعليل
تقديم أحد الشيئين على الآخر بأمر مشترك بينهما قبيح ، بل أقبح من الترجيح بلا
مرجّح.
لا تأمل في ترجيح الاستصحاب السببي
|
وبالجملة : فأرى
المسألة غير محتاجة إلى إتعاب النظر ؛ ولذا لا يتأمّل العامّي بعد إفتائه باستصحاب
الطهارة في الماء المشكوك ، في رفع الحدث والخبث به وبيعه وشرائه وترتيب الآثار
المسبوقة بالعدم عليه.
هذا كلّه إذا
عملنا بالاستصحاب من باب الأخبار.
لو عملنا بالاستصحاب من باب الظنّ فالحكم أوضح
|
وأمّا لو عملنا به
من باب الظنّ ، فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا ؛ لأنّ الظنّ بعدم اللازم مع فرض
الظنّ بالملزوم محال عقلا. فإذا فرض حصول الظنّ بطهارة الماء عند الشكّ ، فيلزمه
عقلا الظنّ بزوال النجاسة عن الثوب. والشكّ في طهارة الماء ونجاسة الثوب وإن كانا
في زمان واحد ، إلاّ أنّ الأوّل لمّا كان سببا للثاني ، كان حال الذهن في الثاني
تابعا لحاله بالنسبة إلى الأوّل ، فلا بدّ من حصول الظنّ بعدم النجاسة في
__________________
المثال ، فاختصّ
الاستصحاب المفيد للظنّ بما كان الشكّ فيه غير تابع لشكّ آخر يوجب الظنّ ، فافهم ؛
فإنّه لا يخلو عن دقّة.
ويشهد لما ذكرنا :
أنّ العقلاء البانين على الاستصحاب في امور معاشهم ، بل معادهم لا يلتفتون في تلك
المقامات إلى هذا الاستصحاب أبدا ، ولو نبّههم أحد لم يعتنوا ، فيعزلون حصّة
الغائب من الميراث ، ويصحّحون معاملة وكلائه ، ويؤدّون عنه فطرته إذا كان عيالهم ،
إلى غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة على المستصحب.
ظهور الخلاف في المسألة عن جماعة
|
ثمّ إنّه يظهر
الخلاف في المسألة من جماعة ، منهم : الشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة في بعض أقواله
، وجماعة من متأخّري المتأخّرين .
فقد ذهب الشيخ في
المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يعلم خبره .
واستحسنه المحقّق
في المعتبر ، مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء ، بأنّها
معارضة بأصالة عدم الوجوب ، وعن تنظير وجوب الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفّارة ،
بالمنع عن الأصل تارة ، والفرق بينهما اخرى.
وقد صرّح في اصول
المعتبر بأنّ استصحاب الطهارة عند الشكّ في الحدث معارض باستصحاب
عدم براءة الذمّة بالصلاة بالطهارة
__________________
المستصحبة. وقد
عرفت أنّ المنصوص في صحيحة زرارة العمل باستصحاب الطهارة على
وجه يظهر منه خلوّه عن المعارض ، وعدم جريان استصحاب الاشتغال.
وحكي عن العلاّمة
ـ في بعض كتبه ـ الحكم بطهارة الماء القليل الواقع فيه صيد مرميّ لم يعلم
استناد موته إلى الرمي ، لكنّه اختار في غير واحد من كتبه الحكم بنجاسة الماء ، وتبعه عليه الشهيدان وغيرهما . وهو المختار ؛ بناء على ما عرفت تحقيقه ، وأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة
التي منها انفعال الماء الملاقي له.
نعم ربما قيل : إنّ تحريم الصيد إن كان لعدم العلم بالتذكية فلا يوجب تنجيس الملاقي ، وإن
كان للحكم عليه شرعا بعدمها اتّجه الحكم بالتنجيس.
ومرجع الأوّل إلى
كون حرمة الصيد مع الشكّ في التذكية للتعبّد ؛
__________________
من جهة الأخبار
المعلّلة لحرمة أكل الميتة بعدم العلم بالتذكية . وهو حسن لو لم يترتّب عليه من أحكام الميتة إلاّ حرمة الأكل ، ولا أظنّ أحدا
يلتزمه ، مع أنّ المستفاد من حرمة الأكل كونها ميتة ، لا التحريم تعبّدا ؛ ولذا
استفيد بعض ما يعتبر في التذكية من النهي عن الأكل بدونه .
تصريح بعضهم بالجمع بين الاستصحابين «السببي والمسبّبي»
|
ثمّ إنّ بعض من
يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام صرّح بالجمع
بينهما ، فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة والماء طاهرا.
ويرد عليه : أنّه
لا وجه للجمع في مثل هذين الاستصحابين ؛ فإنّ الحكم بطهارة الماء
إن كان بمعنى ترتيب آثار الطهارة من رفع الحدث والخبث به ، فلا ريب أنّ نسبة
استصحاب بقاء الحدث والخبث إلى استصحاب طهارة الماء ، بعينها نسبة استصحاب طهارة
الماء إلى استصحاب عدم التذكية. وكذا الحكم بموت الصيد ، فإنّه إن كان بمعنى
انفعال الملاقي له بعد ذلك والمنع عن استصحابه في الصلاة ، فلا ريب أنّ استصحاب
طهارة الملاقي واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق
__________________
روحه ، نسبتهما
إليه كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه.
وممّا ذكرنا يظهر
النظر فيما ذكره في الإيضاح ـ تقريبا للجمع بين الأصلين ـ في الصيد الواقع في
الماء القليل ، من أنّ لأصالة الطهارة حكمين : طهارة الماء ، وحلّ الصيد ، ولأصالة
الموت حكمان : لحوق أحكام الميتة للصيد ، ونجاسة الماء ، فيعمل بكلّ من الأصلين في
نفسه لأصالته ، دون الآخر لفرعيّته فيه ، انتهى.
وليت شعري! هل
نجاسة الماء إلاّ من أحكام الميتة؟ فأين الأصالة والفرعيّة؟
وتبعه في ذلك بعض
من عاصرناه ، فحكم في الجلد المطروح بأصالة الطهارة وحرمة الصلاة فيه.
ويظهر ضعف ذلك ممّا تقدّم .
وأضعف من ذلك حكمه
في الثوب الرطب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض ، بطهارة الأرض ؛ إذ لا دليل
على أنّ النجس بالاستصحاب منجّس .
وليت شعري! إذا لم
يكن النجس بالاستصحاب منجّسا ، ولا الطاهر به مطهّرا ، فكان كلّ ما ثبت بالاستصحاب
لا دليل على ترتيب آثار الشيء الواقعيّ عليه ؛ لأنّ الأصل عدم تلك الآثار ، فأيّ
فائدة في الاستصحاب؟!
__________________
قال في الوافية في
شرائط الاستصحاب :
الخامس : أن لا
يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب. مثلا : إذا ثبت في الشرع
أنّ الحكم بكون الحيوان ميتة يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع ذلك الحيوان
فيه ، فلا يجوز الحكم باستصحاب طهارة الماء ولا نجاسة الحيوان ، في مسألة : «من
رمى صيدا فغاب ، ثمّ وجده في ماء قليل ، يمكن استناد موته إلى الرمي وإلى الماء».
وأنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم وحكم بكلا الأصلين : بنجاسة الصيد ،
وطهارة الماء ، انتهى.
دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعيّ على الحكميّ
|
ثمّ اعلم : أنّه قد
حكى بعض مشايخنا المعاصرين عن الشيخ علي في حاشية الروضة : دعوى الإجماع على تقديم
الاستصحاب الموضوعيّ على الحكميّ.
ولعلّها مستنبطة
حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك ، فلا يعارض أحد استصحاب كرّية
الماء باستصحاب بقاء النجاسة فيما يغسل به ، ولا استصحاب القلّة باستصحاب طهارة
الماء الملاقي للنجس ، ولا استصحاب حياة الموكّل باستصحاب فساد تصرّفات وكيله.
لكنّك قد عرفت
فيما تقدّم من الشيخ والمحقّق خلاف ذلك.
هذا ، مع أنّ
الاستصحاب في الشكّ السببيّ دائما من قبيل
__________________
الموضوعيّ بالنسبة
إلى الآخر ؛ لأنّ زوال المستصحب الآخر من أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببيّ ، فهو له
من قبيل الموضوع للحكم ، فإنّ طهارة الماء من أحكام الموضوع الذي حمل عليه زوال
النجاسة عن المغسول به ، وأيّ فرق بين استصحاب طهارة الماء واستصحاب كرّيّته؟
هذا كلّه فيما إذا
كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر.
وأمّا القسم
الثاني :
إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث
|
وهو ما إذا كان
الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث ، فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا
بعينه وشكّ في تعيينه :
فإمّا أن يكون
العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعيّة عمليّة لذلك العلم الإجماليّ ـ كما لو
علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين ـ وإمّا أن لا يكون.
وعلى الثاني :
فإمّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع ـ كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء
طاهر ؛ حيث قام الإجماع على اتّحاد حكم الماءين ـ أو لا.
وعلى الثاني :
إمّا أن يترتّب أثر شرعيّ على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ـ كما في
استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن في من
__________________
توضّأ غافلا بمائع
مردّد بين الماء والبول ، ومثله استصحاب طهارة كلّ من واجدي المنيّ في الثوب المشترك ـ وإمّا أن يترتّب الأثر على أحدهما دون
الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء
الجارية.
١ و ٢ ـ لو كان العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة
قطعيّة عمليّة أو قام الدليل على عدم الجمع بينهما
|
فهناك صور أربع :
أمّا الأوليان ، فيحكم
فيهما بالتساقط ، دون الترجيح والتخيير ،
__________________
فهنا دعويان :
هنا دعويان:
١ – عدم الترجيح
|
الاولى : عدم
الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات خلافا لجماعة . قال في محكيّ تمهيد القواعد :
إذا تعارض أصلان
عمل بالأرجح منهما ؛ لاعتضاده بما يرجّحه ، فإن تساويا خرج في المسألة وجهان
غالبا. ثمّ مثّل له بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء ... إلى آخر ما ذكره.
وصرّح بذلك جماعة
من متأخّري المتأخّرين .
والحقّ على
المختار ـ من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ـ : هو عدم الترجيح بالمرجّحات
الاجتهاديّة ؛ لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهريّ ، فالمرجّح الكاشف عن الحكم
الواقعيّ لا يجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهريّ ؛ لعدم موافقة
المرجّح لمدلوله حتّى يوجب اعتضاده.
وبالجملة :
فالمرجّحات الاجتهاديّة غير موافقة في المضمون للاصول حتّى تعاضدها. وكذا الحال
بالنسبة إلى الأدلّة الاجتهاديّة ، فلا يرجّح بعضها على بعض لموافقة الاصول
التعبّديّة.
نعم ، لو كان
اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعيّ أمكن الترجيح بالمرجّحات الاجتهاديّة ؛
بناء على ما يظهر من عدم الخلاف في
__________________
إعمال التراجيح
بين الأدلّة الاجتهاديّة ، كما ادّعاه صريحا بعضهم .
لكنّك عرفت ـ فيما
مضى ـ عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه حكما ظاهريّا
، فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الأمارات الواقعيّة ومخالفتها.
هذا كلّه مع
الإغماض عمّا سيجيء : من عدم شمول «لا تنقض» للمتعارضين ، وفرض شمولها لهما من حيث الذات ، نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين
وإن لم يجب العمل بهما فعلا ؛ لامتناع ذلك بناء على المختار في إثبات الدعوى
الثانية ، فلا وجه لاعتبار المرجّح أصلا ؛ لأنّه إنّما يكون مع التعارض وقابليّة
المتعارضين في أنفسهما للعمل.
٢ ـ أنّ الحكم هو التساقط دون التخيير والدليل عليه
|
الثانية : أنّه
إذا لم يكن مرجّح فالحقّ التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين : من أنّ الأصل في تعارض الدليلين التساقط ؛ لعدم تناول دليل حجّيّتهما لصورة
التعارض ـ لما تقرّر في باب التعارض ، من أنّ الأصل
في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما
__________________
من باب التعبّد لا
من باب الطريقيّة ـ بل لأنّ العلم الإجماليّ هنا بانتقاض أحد اليقينين يوجب خروجهما عن مدلول «لا تنقض» ؛ لأنّ قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن
تنقضه بيقين مثله» يدلّ على حرمة النقض بالشكّ ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض
اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت
عموم حرمة النقض بالشكّ ؛ لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا إبقاء
أحدهما المعيّن ؛ لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح ، وأمّا أحدهما
المخيّر فليس من أفراد العامّ ؛ إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في
الخارج ، فإذا خرجا لم يبق شيء. وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، وأنّ قوله عليهالسلام : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام» لا يشمل شيئا من
المشتبهين.
وربما يتوهّم :
أنّ عموم دليل الاستصحاب نظير قوله : «أكرم العلماء» ، و «أنقذ كلّ غريق» ، و «اعمل
بكلّ خير» ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعامّ في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما
، بل لا بدّ من العمل بالممكن ـ وهو أحدهما تخييرا ـ وطرح الآخر ؛ لأنّ هذا غاية
المقدور ، ولذا ذكرنا في باب التعارض : أنّ الأصل في
الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح التخيير بالشرط المتقدّم لا التساقط.
والاستصحاب أيضا
__________________
أحد الأدلّة ،
فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الإمكان ، فإذا تعذّر العمل باليقينين من جهة
تنافيهما وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحهما.
ويندفع هذا
التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع
قيام المقتضي للعمل فيهما فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا
مع العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور فلا يجوز تركه.
وفي ما نحن فيه ليس كذلك ؛ إذ بعد العلم الإجماليّ لا يكون المقتضي لحرمة نقض كلا
اليقينين موجودا منع عنها عدم القدرة.
نعم مثال هذا في
الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلا العمل
بكليهما من دون علم إجماليّ بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع
، فإنّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهريّ مؤدّى
أحدهما.
وإنّما لم نذكر
هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين ؛ لعدم العثور على مصداق له ؛ فإنّ
الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ،
وقد عرفت أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل
الاستصحاب سوّغها العجز ؛ لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم «لا تنقض»
عنوان ينطبق
__________________
على الواحد
التخييري.
وأيضا : فليس
المقام من قبيل ما كان الخارج من العامّ فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا
ليكون الفرد الآخر الغير المعيّن باقيا تحت العامّ ، كما إذا قال : أكرم العلماء ،
وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ، فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقليّ في
الأفراد ؛ إذ لا استصحاب في الواقع حتّى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ؛ لأنّ
الواقع بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الاخرى.
نعم ، نظيره في
الاستصحاب ما لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر ،
بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشكّ ووجب نقض الآخر به. ومعلوم أنّ ما نحن فيه ليس
كذلك ؛ لأنّ المعلوم إجمالا في ما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين ـ لا بوصف زائد ـ وارتفاع
الآخر ، لا اعتبار الشارع لأحد الاستصحابين وإلغاء الآخر.
فتبيّن أنّ الخارج
من عموم «لا تنقض» ليس واحدا من المتعارضين ـ لا معيّنا ولا مخيّرا ـ بل لمّا وجب
نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعيّ ، وترتيب آثار
البقاء على الباقي الواقعيّ ، من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ، فيرجع إلى
قواعد أخر غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة. ولذا لا نفرّق في
حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة ،
وبين عدم حالة سابقة معلومة ، فإنّ
__________________
مقتضى القاعدة
الرجوع إلى الاحتياط فيهما ، وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس المتمّم كرّا
الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا.
وممّا ذكرنا يظهر
: أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد ، وبين أن يكون
في أحدهما أزيد من أصل واحد. فالترجيح بكثرة الاصول بناء على اعتبارها من باب
التعبّد لا وجه له ؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجماليّ يوجب خروج جميع مجاري
الاصول عن مدلول «لا تنقض» على ما عرفت . نعم يتّجه
الترجيح بناء على اعتبار الاصول من باب الظنّ النوعيّ.
وأمّا الصورة
الثالثة ، وهي ما يعمل فيه بالاستصحابين.
٣ – لو ترتّب أثرً شرعي على كلا المستصحبين
|
فهو ما كان العلم
الإجماليّ بارتفاع أحد المستصحبين فيه غير مؤثّر شيئا ، فمخالفته لا توجب مخالفة
عمليّة لحكم شرعيّ ، كما لو توضّأ اشتباها بمائع مردّد بين البول والماء ، فإنّه
يحكم ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء استصحابا لهما. وليس العلم الإجماليّ بزوال
أحدهما مانعا من ذلك ؛ إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد لا يترتّب عليه حكم شرعيّ حتّى يكون ترتيبه مانعا عن العمل بالاستصحابين ،
ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الأعضاء مخالفة عمليّة لحكم شرعيّ أيضا.
نعم ، ربما يشكل ذلك في الشبهة الحكميّة. وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في
مقدّمات حجّيّة الظنّ ، عند التكلّم في حجّية العلم .
__________________
٤ ـ لو ترتّب أثرً على أحدهما دون الآخر
|
وأمّا الصورة
الرابعة ، وهي ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين. فهو ما كان أحد المستصحبين المعلوم
ارتفاع أحدهما ممّا يكون موردا لابتلاء المكلّف دون الآخر ، بحيث لا يتوجّه على
المكلّف تكليف منجّز يترتّب أثر شرعيّ عليه. وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض
الاستصحابين ؛ إذ قوله : «لا تنقض اليقين» لا يشمل اليقين الذي لا يترتّب عليه في
حقّ المكلّف أثر شرعيّ بحيث لا تعلّق له به أصلا ، كما إذا علم إجمالا بطروء
الجنابة عليه أو على غيره ، وقد تقدّم أمثلة ذلك .
ونظير هذا كثير ،
مثل : أنّه علم إجمالا بحصول التوكيل من الموكّل ، إلاّ أنّ الوكيل يدّعي وكالته
في شيء ، والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ، فإنّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل
؛ لأصالة عدم توكيله فيما يدّعيه الوكيل ، ولم يعارضه أحد بأنّ الأصل عدم توكيله
فيما يدّعيه الموكّل أيضا.
وكذا لو تداعيا في
كون النكاح دائما أو منقطعا ، فإنّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث إنّه سبب للإرث
ووجوب النفقة والقسم. ويتّضح ذلك بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه.
ولك أن تقول
بتساقط الأصلين في هذه المقامات والرجوع إلى الاصول الأخر الجارية في لوازم
المشتبهين ، إلاّ أنّ ذلك إنّما يتمشّى في استصحاب الامور الخارجيّة ، أمّا مثل
أصالة الطهارة في كلّ من واجدي المنيّ فإنّه لا وجه للتساقط هنا.
__________________
ثمّ لو فرض في هذه
الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ، دخل في القسم الأوّل إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم إجماليّ معتبر في العمل ،
ولا عبرة بغير المعتبر ، كما في الشبهة الغير المحصورة. وفي القسم الثاني إن لم يكن هناك مخالفة عمليّة لعلم إجماليّ معتبر.
فعليك بالتأمّل في
موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الإجماليّ ـ من عقل أو شرع أو غيرهما ـ بارتفاع
أحدهما وبقاء الآخر.
والعلماء وإن كان
ظاهرهم الاتفاق على عدم وجوب الفحص في إجراء الاصول في الشبهات الموضوعيّة ،
ولازمه جواز إجراء المقلّد لها بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلاّ أنّ
تشخيص سلامتها عن الاصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد ، فلا بدّ إمّا من قدرة
المقلّد على تشخيص الحاكم من الاصول على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاصول
السليمة عن الحاكم من المجتهد ، وإلاّ فربما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون
التفات إلى الاستصحاب الحاكم.
وهذا يرجع في
الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعيّ ، نظير تشخيص حجّيّة أصل الاستصحاب وعدمها. عصمنا
الله وإخواننا من الزلل ، في القول والعمل ، بجاه محمّد وآله المعصومين ، صلوات
الله عليهم أجمعين.
__________________
تمّ
الجزء الثالث
ويليه
الجزء الرابع
في
التعادل والتراجيح
العناوين العامّة
الكلام في امور................................................................. ١٣
أخبار الاستصحاب............................................................. ٥٥
الأقوال في حجّية الاستصحاب................................................... ٨٣
تنبيهات الاستصحاب......................................................... ١٩١
شرائط العمل بالاستصحاب.................................................... ٢٨٩
تعارض الاستصحاب مع سائر الأمارات والاصول................................. ٣٢٠
قاعدة الفراغ والتجاوز.......................................................... ٣٢٥
أصالة الصحّة في فعل الغير..................................................... ٣٤٥
تعارض الاستصحابين......................................................... ٣٩٣
فهرس المحتوى
المقام الثاني
في الاستصحاب
الاستصحاب لغة واصطلاحا....................................................... ٩
الكلام في امور :
الأوّل : هل الاستصحاب أصل عمليّ أو أمارة
ظنّية؟............................... ١٣
المختار كونه من الاصول العمليّة.................................................. ١٣
الثاني : الوجه في عدّ الاستصحاب من
الأدلّة العقليّة................................ ١٦
الثالث : هل الاستصحاب مسألة اصوليّة أو
فقهيّة؟................................ ١٧
بناء على كونه حكما عقليا فهو مسألة
اصوليّة..................................... ١٧
بناء على كونه من الاصول العمليّة ففي
كونه من المسائل الاصوليّة غموض............. ١٨
الإشكال في كون الاستصحاب من المسائل
الفرعية.................................. ١٨
الاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعيّة......................................... ٢٠
الرابع : مناط الاستصحاب بناء على كونه من
باب التعبّد............................ ٢١
ليس المناط الظنّ الشخصي بناء على كونه من
باب الظنّ............................ ٢١
الخامس : تقوّم الاستصحاب بأمرين : اليقين
بالحدوث ، والشكّ في البقاء.............. ٢٤
الاستصحاب القهقري.......................................................... ٢٤
المعتبر هو الشكّ الفعلي......................................................... ٢٥
السادس : تقسيم الاستصحاب من وجوه :........................................ ٢٦
١ ـ تقسيمه باعتبار المستصحب.................................................. ٢٦
المستصحب إمّا وجوديّ وإمّا عدميّ............................................... ٢٦
كلام شريف العلماء في خروج العدميّات عن
محلّ النزاع.............................. ٢٧
المناقشة فيما أفاده شريف العلماء................................................. ٢٨
قيام السيرة على التمسّك بالاصول
الوجوديّة والعدميّة في باب الألفاظ................. ٢٨
ما يظهر منه الاختصاص بالوجوديّات ومناقشته..................................... ٢٩
التتبّع يشهد بعدم خروج العدميّات عن محلّ
النزاع................................... ٣٠
ظاهر جماعة خروج بعض العدميّات عن محلّ
النزاع.................................. ٣١
المستصحب إمّا حكم شرعيّ وإمّا من الامور
الخارجيّة............................... ٣٢
وقوع الخلاف في كليهما......................................................... ٣٢
للحكم الشرعي إطلاقان :...................................................... ٣٣
١ ـ الحكم الكلّي............................................................... ٣٣
٢ ـ ما يعمّ الحكم الجزئي......................................................... ٣٣
إنكار الأخباريين جريان الاستصحاب في
الحكم بالإطلاق الأوّل...................... ٣٣
الأقوى في حجّية الاستصحاب من حيث هذا
التقسيم.............................. ٣٥
المستصحب إمّا حكم تكليفي وإمّا حكم وضعي................................... ٣٥
القول بالتفصيل بين التكليفي وغيره............................................... ٣٦
٢ ـ تقسيم الاستصحاب باعتبار دليل المستصحب.................................. ٣٧
دليل المستصحب إمّا الإجماع وإمّا غيره............................................ ٣٧
المستصحب إمّا يثبت بالدليل العقلي وإمّا
بالدليل الشرعي........................... ٣٧
الإشكال في الاستصحاب مع ثبوت الحكم
بالدليل العقلي........................... ٣٨
عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة
ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة إليها..... ٣٩
استصحاب حال العقل لا يستند إلى القضيّة
العقليّة................................. ٤٠
دليل المستصحب قد يدلّ على الاستمرار وقد
لا يدلّ............................... ٤١
٣ ـ تقسيم الاستصحاب باعتبار الشكّ في
البقاء.................................... ٤٣
منشأ الشكّ إمّا اشتباه الأمر الخارجي
وإمّا اشتباه الحكم الشرعي...................... ٤٣
دخول القسمين في محلّ النزاع.................................................... ٤٣
المحكي عن الأخباريين اختصاص النزاع
بالشبهة الحكميّة............................. ٤٣
الشكّ في البقاء قد يكون مع تساوي الطرفين
وقد يكون مع رجحان البقاء أو الارتفاع... ٤٥
محلّ الخلاف في هذه الصور...................................................... ٤٦
الشكّ إمّا في المقتضي وإمّا في الرافع............................................... ٤٦
أقسام الشكّ من جهة الرافع..................................................... ٤٧
محل الخلاف من هذه الأقسام.................................................... ٤٧
الأقوال في حجّية الاستصحاب
أقوى الأقوال................................................................... ٥١
الاستدلال على المختار بوجوه :.................................................. ٥٣
١ ـ ظهور كلام جماعة في الاتّفاق عليه............................................. ٥٣
٢ ـ الاستقراء................................................................... ٥٤
٣ ـ السنّة :.................................................................... ٥٥
١ ـ صحيحة زرارة الاولى......................................................... ٥٥
تقرير الاستدلال................................................................ ٥٦
معنى الرواية.................................................................... ٥٦
كون اللام في «اليقين» للجنس.................................................. ٥٦
٢ ـ صحيحة زرارة الثانية......................................................... ٥٨
فقه الحديث ومورد الاستدلال.................................................... ٥٩
٣ ـ صحيحة زرارة الثالثة......................................................... ٦٢
التأمّل في الاستدلال بهذه الصحيحة.............................................. ٦٢
المراد من «اليقين» في هذه الصحيحة............................................. ٦٣
المراد من «البناء على اليقين» في الأخبار........................................... ٦٣
٤ ـ الاستدلال بموثّقة إسحاق بن عمّار
والإشكال فيه............................... ٦٦
٥ ـ الاستدلال برواية الخصال ورواية اخرى......................................... ٦٨
المناقشة في الاستدلال بهاتين الروايتين.............................................. ٦٨
إمكان دفع المناقشة المذكورة...................................................... ٧٠
٦ ـ مكاتبة علي بن محمّد القاساني................................................ ٧١
تقريب الاستدلال.............................................................. ٧١
تأييد المختار بالأخبار الخاصّة :................................................... ٧٢
١ ـ رواية عبد الله بن سنان....................................................... ٧٢
تقريب الاستدلال.............................................................. ٧٢
٢ ـ موثّقة عمّار................................................................ ٧٢
معنى الموثّقة إمّا الاستصحاب أو قاعدة
الطهارة..................................... ٧٣
عدم إمكان إرادة القاعدة والاستصحاب معا
من الموثّقة.............................. ٧٤
كلام صاحب الفصول في جواز إرادة كليهما
منها................................... ٧٥
المناقشة فيما أفاده صاحب الفصول............................................... ٧٥
الظاهر إرادة القاعدة............................................................ ٧٦
٣ ـ الرواية الثالثة................................................................ ٧٧
٤ ـ الرواية الرابعة............................................................... ٧٧
اختصاص الأخبار بالشكّ في الرافع............................................... ٧٨
تأمّل المحقّق الخوانساري في الاستدلال
بالأخبار على الحجّية مطلقا..................... ٧٨
المراد من «نقض اليقين»........................................................ ٧٩
حجّة القول الأوّل :............................................................ ٨٣
الوجه الأوّل والمناقشة فيه........................................................ ٨٣
الوجه الثاني.................................................................... ٨٣
المناقشة في الوجه الثاني.......................................................... ٨٤
الوجه الثالث................................................................... ٨٦
المناقشة في الوجه الثالث......................................................... ٨٧
دعوى أنّ وجود الشيء سابقا يقتضي الظنّ
ببقائه والجواب عنها...................... ٨٧
الوجه الرابع : بناء العقلاء........................................................ ٩٤
المناقشة في الوجه الرابع.......................................................... ٩٥
حجّة القول الثاني :............................................................. ٩٧
١ ـ دعوى أنّ الاستصحاب إثبات للحكم من
غير دليل............................. ٩٧
المناقشة في ذلك................................................................ ٩٧
٢ ـ لزوم القطع بالبقاء بناء على حجّية
الاستصحاب................................ ٩٩
المناقشة فيه.................................................................. ١٠٠
٣ ـ لزوم التناقض بناء على الحجّية
والمناقشة فيه................................... ١٠٠
٤ ـ استلزام القول بالحجّية ترجيح بيّنة
النافي....................................... ١٠١
المناقشة في ذلك.............................................................. ١٠١
حجّة القول الثالث............................................................ ١٠٣
عدم استقامة هذا القول بناء على اعتبار
الاستصحاب من باب الظنّ................ ١٠٤
معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي...................................... ١٠٦
ما يمكن أن يحتجّ به لهذا القول.................................................. ١٠٨
المناقشة في الاحتجاج المذكور................................................... ١٠٩
حجّة القول الرابع............................................................. ١١١
المناقشة في الحجّة المذكورة...................................................... ١١١
حجّة القول الخامس........................................................... ١١٦
كلام المحدّث الأسترابادي في الاستدلال
على هذا القول........................... ١١٦
المناقشة فيما أفاده المحدّث الأسترابادي........................................... ١١٧
حجّة القول السادس والمناقشة فيها.............................................. ١٢١
حجّة القول السابع............................................................ ١٢١
كلام الفاضل التوني......................................................... ١
١٢٢
المناقشة في ما أفاده الفاضل التوني............................................... ١٢٤
الأحكام الوضعيّة............................................................. ١٢٥
هل الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول ، أو لا؟................................. ١٢٥
الكلام في الصحّة والفساد..................................................... ١٢٩
رجوع إلى كلام الفاضل التوني................................................... ١٣٠
ما أورد عليه.................................................................. ١٣١
عدم ورود شيء ممّا اورد عليه................................................... ١٣١
شبهة اخرى في منع جريان الاستصحاب في
الأحكام التكليفيّة...................... ١٤٥
الجواب عن هذه الشبهة........................................................ ١٤٦
حجّة القول الثامن............................................................ ١٤٩
ظاهر كلام الغزالي إنكار الاستصحاب مطلقا..................................... ١٤٩
منشأ نسبة هذا التفصيل إلى الغزالي............................................. ١٥٠
نسبة شارح المختصر القول بحجّية الاستصحاب
مطلقا إلى الغزالي.................... ١٥٤
كلام السيّد الصدر في الجمع بين قولي
الغزالي..................................... ١٥٤
المناقشة في ما أفاده السيّد الصدر............................................... ١٥٥
حجّة القول التاسع............................................................ ١٥٩
ما استدلّ به في المعارج على هذا القول........................................... ١٥٩
المناقشة في الدليل المذكور...................................................... ١٦٠
الأولى في الاستدلال على هذا القول............................................. ١٦٠
مبنى نسبة هذا القول إلى المحقّق................................................. ١٦١
المناقشة في المبنى المذكور........................................................ ١٦١
توجيه نسبة هذا القول إلى المحقّق................................................ ١٦٢
حجّة القول العاشر............................................................ ١٦٥
ما استدلّ به المحقّق السبزواري على هذا
القول..................................... ١٦٥
المناقشة فيما أفاده المحقّق السبزواري.............................................. ١٦٦
حجّة القول الحادي عشر...................................................... ١٦٩
استدلال المحقّق الخوانساري على هذا القول....................................... ١٦٩
المناقشة فيما أفاده المحقّق الخوانساري............................................. ١٧٧
أقوى الأقوال القول التاسع ، وبعده المشهور....................................... ١٩٠
ينبغي التنبيه على امور :
الأمر الأوّل : أقسام استصحاب الكلّي.......................................... ١٩١
جواز استصحاب الكلّي والفرد في القسم
الأوّل................................... ١٩١
جواز استصحاب الكلّي في القسم الثاني دون
الفرد................................ ١٩١
توهّم عدم جريان استصحاب الكلّي في هذا
القسم ودفعه.......................... ١٩٢
توهّم آخر ودفعه.............................................................. ١٩٢
القسم الثالث من استصحاب الكلّي وفيه قسمان................................. ١٩٥
هل يجرى الاستصحاب في القسمين أو لا يجري
في كليهما أو فيه تفصيل؟........... ١٩٥
مختار المصنّف هو التفصيل..................................................... ١٩٦
استثناء مورد واحد من القسم الثاني.............................................. ١٩٦
العبرة في جريان الاستصحاب................................................... ١٩٦
كلام الفاضل التوني تأييدا لبعض ما ذكرنا........................................ ١٩٧
بعض المناقشات في ما أفاده الفاضل التوني........................................ ١٩٧
الأمر الثاني : هل يجري الاستصحاب في
الزمان والزمانيّات؟........................ ٢٠٣
الأقسام ثلاثة :............................................................... ٢٠٣
١ ـ استصحاب نفس الزمان.................................................... ٢٠٣
٢ ـ استصحاب الامور التدريجيّة غير القارّة........................................ ٢٠٥
٣ ـ استصحاب الامور المقيّدة بالزمان............................................ ٢٠٨
ما ذكره الفاضل النراقي : من معارضة
استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن سابقا مع استصحاب وجوده ٢٠٨
المناقشة في ما أفاده الفاضل النراقي.............................................. ٢١٠
الزمان قد يؤخذ قيدا وقد يؤخذ ظرفا............................................. ٢١٠
الأمر الثالث : عدم جريان الاستصحاب في
الأحكام العقليّة........................ ٢١٥
عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي
المستند إلى الحكم العقلي أيضا........... ٢١٦
هل يجري الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي؟................................ ٢١٧
الأمر الرابع : هل يجري الاستصحاب
التعليقي؟................................... ٢٢١
توضيح هذا الاستصحاب...................................................... ٢٢١
كلام صاحب المناهل في عدم جريان الاستصحاب
التعليقي........................ ٢٢٢
المناقشة في ما أفاده صاحب المناهل.............................................. ٢٢٢
بعض المناقشات في الاستصحاب التعليقي
ودفعها................................. ٢٢٣
مختار المصنّف في المسألة....................................................... ٢٢٣
الأمر الخامس : استصحاب أحكام الشرائع
السابقة............................... ٢٢٥
ما ذكره صاحب الفصول في وجه المنع عن هذا
الاستصحاب....................... ٢٢٥
المناقشة في ما أفاده صاحب الفصول............................................ ٢٢٥
وجه آخر للمنع ودفعه......................................................... ٢٢٧
ما ذكره المحقّق القمّي في وجه المنع............................................... ٢٢٨
الجواب عمّا ذكره المحقّق القمّي.................................................. ٢٢٨
الثمرات المذكورة لهذه المسألة ومناقشتها.......................................... ٢٢٩
الأمر السادس : عدم ترتّب الآثار غير
الشرعيّة على الاستصحاب والدليل عليه....... ٢٣٣
المراد من نفي الاصول المثبتة.................................................... ٢٣٤
عدم ترتّب الآثار واللوازم غير الشرعيّة
مطلقا...................................... ٢٣٥
ما استدلّ به صاحب الفصول على عدم حجّية
الأصل المثبت....................... ٢٣٦
المناقشة في ما أفاده صاحب الفصول............................................ ٢٣٧
وجوب الالتزام بالاصول المثبتة بناء على
اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ........... ٢٣٨
فروع تمسّكوا فيها بالاصول المثبتة................................................ ٢٣٨
عدم عمل الأصحاب بكلّ أصل مثبت.......................................... ٢٤٢
حجّية الأصل المثبت مع خفاء الواسطة........................................... ٢٤٤
نماذج من خفاء الواسطة........................................................ ٢٤٤
الأمر السابع : هل تجري أصالة تأخّر
الحادث؟................................... ٢٤٧
صور تأخّر الحادث :.......................................................... ٢٤٨
١ ـ إذا لوحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى ما
قبله من أجزاء الزمان.................... ٢٤٨
٢ ـ إذا لوحظ بالقياس إلى حادث آخر وجهل
تأريخهما............................. ٢٤٩
لو كان أحدهما معلوم التأريخ................................................... ٢٤٩
قولان آخران في هذه الصورة.................................................... ٢٥٠
صحّة الاستصحاب القهقرى بناء على الأصل
المثبت.............................. ٢٥٤
الاتفاق على هذا الاستصحاب في الاصول
اللفظيّة................................ ٢٥٤
الأمر الثامن : هل يجري استصحاب صحّة
العبادة عند الشكّ في طروء مفسد؟....... ٢٥٥
مختار المصنّف التفصيل........................................................ ٢٥٦
التمسّك في مطلق الشكّ في الفساد باستصحاب
حرمة القطع وغير ذلك ومناقشتها... ٢٥٧
الأمر التاسع : عدم جريان الاستصحاب في
الامور الاعتقاديّة....................... ٢٥٩
لو شكّ في نسخ أصل الشريعة؟................................................ ٢٦٠
تمسّك بعض أهل الكتاب باستصحاب شرعه..................................... ٢٦٠
بعض الأجوبة عن استصحاب الكتابي ومناقشتها
:................................ ٢٦١
١ ـ ما ذكره بعض الفضلاء..................................................... ٢٦١
٢ ـ ما ذكره الفاضل النراقي..................................................... ٢٦١
٣ ـ ما ذكره المحقّق القمّي....................................................... ٢٦٢
المناقشة في ما أفاده المحقّق القمّي................................................ ٢٦٣
الجواب عن استصحاب الكتابي بوجوه أخر....................................... ٢٦٦
كلام الإمام الرضا............................................. عليهالسلام في جواب الجاثليق ٢٧١
الأمر العاشر : دوران الأمر بين التمسّك
بالعامّ أو استصحاب حكم المخصّص....... ٢٧٣
الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق
على ثلاثة أنحاء......................... ٢٧٣
هل يجري استصحاب حكم المخصّص مع العموم
الأزماني أم لا؟.................... ٢٧٤
إذا كان العموم الأزماني أفراديّا.................................................. ٢٧٤
إذا كان العموم الأزماني استمراريّا................................................ ٢٧٤
المخالفة لما ذكرنا في موضعين :................................................. ٢٧٥
١ ـ ما ذكره المحقّق الثاني في مسألة خيار
الغبن وما يرد عليه......................... ٢٧٥
٢ ـ ما ذكره السيّد بحر العلوم................................................ ١
٢٧٦
المناقشة في ما أفاده بحر العلوم.................................................. ٢٧٧
توجيه كلام بحر العلوم......................................................... ٢٧٨
الأمر الحادي عشر : لو تعذّر بعض المأمور
به فهل يستصحب وجوب الباقي؟........ ٢٧٩
الإشكال في هذا الاستصحاب................................................. ٢٧٩
توجيه الاستصحاب بوجوه ثلاثة................................................. ٢٧٩
ثمرة هذه التوجيهات........................................................... ٢٨١
الصحيح من هذه التوجيهات................................................... ٢٨١
عدم الفرق بناء على جريان الاستصحاب بين
تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف أو قبله... ٢٨٢
نسبة التمسّك بالاستصحاب في هذه المسألة
إلى الفاضلين......................... ٢٨٣
المناقشة في هذه النسبة......................................................... ٢٨٣
الأمر الثاني عشر : جريان الاستصحاب حتّى
مع الظنّ بالخلاف والدليل عليه من وجوه. ٢٨٥
المراد من قولهم : «اليقين لا يرفعه الشكّ»........................................ ٢٨٨
شرائط العمل بالاستصحاب :
الأوّل : اشتراط بقاء الموضوع................................................... ٢٨٩
الدليل على هذا الشرط........................................................ ٢٩٠
المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع................................................... ٢٩١
هل يجوز إحراز الموضوع في الزمان اللاحق
بالاستصحاب؟.......................... ٢٩١
الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في القيود
المأخوذة في الموضوع...................... ٢٩٤
ما يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع
أحد امور :.................................. ٢٩٤
١ ـ العقل.................................................................... ٢٩٤
٢ ـ لسان الدليل.............................................................. ٢٩٥
٣ ـ العرف................................................................... ٢٩٥
الفرق بين نجس العين والمتنجّس عند
الاستحالة................................... ٢٩٧
الإشكال في هذا الفرق........................................................ ٢٩٧
عدم الفرق بناء على كون المحكّم نظر العرف...................................... ٢٩٩
مراتب التغيّر والأحكام مختلفة................................................... ٣٠٠
معنى قولهم : «الأحكام تدور مدار الأسماء»...................................... ٣٠١
الثاني : اشتراط الشكّ في البقاء................................................. ٣٠٢
الدليل على اعتبار هذا الشرط.................................................. ٣٠٣
قاعدة اليقين والشكّ الساري................................................... ٣٠٣
تصريح الفاضل السبزواري بأنّ أدلّة
الاستصحاب تشمل قاعدة «اليقين»............ ٣٠٣
دفع التوهّم المذكور وتوضيح مناط قاعدة
الاستصحاب وقاعدة اليقين................ ٣٠٤
عدم إرادة القاعدتين من قولهعليهالسلام : «فليمض على يقينه»......................... ٣٠٥
عدم إرادة القاعدتين من سائر الأخبار أيضا...................................... ٣٠٧
اختصاص مدلول الأخبار بقاعدة الاستصحاب................................... ٣٠٨
هل يوجد مدرك لقاعدة «اليقين» غير هذه
الأخبار؟............................... ٣١٠
لو اريد من القاعدة إثبات الحدوث والبقاء
معا..................................... ٣١١
عدم صحّة الاستدلال بأدلّة عدم الاعتناء
بالشكّ بعد تجاوز المحلّ................... ٣١١
ضعف الاستدلال بأصالة الصحّة في الاعتقاد.................................... ٣١١
تفصيل كاشف الغطاء......................................................... ٣١٢
لو اريد من القاعدة إثبات مجرّد الحدوث.......................................... ٣١٢
لو اريد منها مجرّد إمضاء الآثار
المترتّبة سابقا...................................... ٣١٢
حاصل الكلام في المسألة....................................................... ٣١٣
الثالث : اشتراط عدم العلم بالبقاء أو
الارتفاع.................................... ٣١٣
حكومة الأدلّة الاجتهاديّة على أدلّة
الاستصحاب................................. ٣١٤
معنى الحكومة................................................................. ٣١٤
احتمال أن يكون العمل بالأدلّة في مقابل
الاستصحاب من باب التخصّص.......... ٣١٥
ضعف هذا الاحتمال.......................................................... ٣١٥
المسامحة فيما جعله الفاضل التوني من
شرائط الاستصحاب.......................... ٣١٦
ما أورده المحقّق القمّي على الفاضل
التوني والمناقشة فيه.............................. ٣١٦
المراد من «الأدلّة الاجتهاديّة» و «الاصول»...................................... ٣١٨
تردّد الشيء بين كونه دليلا أو أصلا............................................ ٣١٩
تعارض الاستصحاب مع غيره ، وفيه مقامات :
المقام الأوّل : عدم معارضة الاستصحاب
لبعض الأمارات ، وفيه مسائل :............ ٣٢٠
المسألة الاولى : تقدّم «اليد» على
الاستصحاب والاستدلال عليه................... ٣٢١
الوجه في الرجوع إلى الاستصحاب لو تقارنت «اليد»
بالإقرار....................... ٣٢٢
«اليد» على تقدير كونها من الاصول مقدّمة
على الاستصحاب وإن جعلناه من الأمارات ٣٢٣
تقدّم البيّنة على «اليد» والوجه في ذلك.......................................... ٣٢٣
المسألة الثانية : في قاعدة «الفراغ
والتجاوز»
تقدّم قاعدة «الفراغ والتجاوز» على
الاستصحاب والاستدلال عليه.................. ٣٢٥
أخبار القاعدة :.............................................................. ٣٢٦
١ ـ الأخبار العامّة............................................................. ٣٢٦
٢ ـ الأخبار الخاصّة............................................................ ٣٢٧
تنقيح مضامين الأخبار........................................................ ٣٢٨
ما هو المراد من «الشكّ في الشيء»؟............................................ ٣٢٩
ما هو المراد من «محلّ الشيء المشكوك فيه»؟..................................... ٣٣٠
هل يعتبر في التجاوز والفراغ الدخول في
الغير ، أم لا؟............................. ٣٣٢
ما هو المراد من «الغير»؟...................................................... ٣٣٢
عدم كفاية الدخول في مقدّمات الغير............................................ ٣٣٣
الأقوى اعتبار الدخول في الغير وعدم كفاية
مجرّد الفراغ............................. ٣٣٤
عدم صحّة التفصيل بين الصلاة والوضوء......................................... ٣٣٤
عدم جريان القاعدة في أفعال الطهارات
الثلاث................................... ٣٣٦
مستند الخروج................................................................ ٣٣٦
ظاهر رواية ابن أبي يعفور أنّ حكم الوضوء
من باب القاعدة........................ ٣٣٧
الإشكال في ظاهر ذيل الرواية.................................................. ٣٣٧
دفع الإشكال عن الرواية....................................................... ٣٣٧
عدم غرابة فرض الوضوء فعلا واحدا............................................. ٣٣٨
هل تجري القاعدة في الشروط كما تجري في
الأجزاء؟............................... ٣٣٩
الأقوى التفصيل.............................................................. ٣٣٩
معنى عدم العبرة بالشكّ بعد تجاوز المحلّ.......................................... ٣٤٠
التفصيل بين الوضوء ونحوه وبين غيره............................................ ٣٤١
هل يلحق الشكّ في الصحّة بالشكّ في
الإتيان؟................................... ٣٤٢
المراد من الشكّ في موضوع هذه القاعدة.......................................... ٣٤٤
عدم الفرق بين أن يكون المحتمل الترك
نسيانا أو تعمّدا............................. ٣٤٤
المسألة الثالثة : في أصالة الصحّة في فعل
الغير
أصالة الصحّة من الاصول المجمع عليها بين
المسلمين.............................. ٣٤٥
مدرك أصالة الصحّة........................................................... ٣٤٥
الاستدلال بالآيات والمناقشة فيه................................................ ٣٤٥
الاستدلال بالأخبار........................................................... ٣٤٦
المناقشة في دلالة الأخبار....................................................... ٣٤٧
الاستدلال بالإجماع القولي...................................................... ٣٥٠
الاستدلال بالإجماع العملي..................................................... ٣٥٠
الاستدلال بالعقل............................................................. ٣٥٠
هل يحمل فعل المسلم على الصحّة الواقعيّة
أو الصحّة عند الفاعل؟.................. ٣٥٣
ظاهر المشهور الحمل على الصحّة الواقعيّة........................................ ٣٥٤
ظاهر بعض المتأخّرين الحمل على الصحّة
باعتقاد الفاعل........................... ٣٥٤
المسألة محلّ إشكال........................................................... ٣٥٥
صور المسألة.................................................................. ٣٥٥
١ ـ أن يعلم كون الفاعل عالما بالصحّة
والفساد................................... ٣٥٥
٢ ـ أن يعلم كونه جاهلا....................................................... ٣٥٦
٣ ـ أن يجهل حاله............................................................ ٣٥٦
هل يعتبر في جريان أصالة الصحّة في العقود
استكمال أركان العقد؟................. ٣٥٧
الأقوى التعميم وعدم اعتبار استكمال
الأركان.................................... ٣٦٠
صحّة كلّ شيء بحسبه وباعتبار آثار نفسه....................................... ٣٦٣
ممّا يتفرّع على ما ذكرنا......................................................... ٣٦٤
اعتبار إحراز أصل العمل في أصالة الصحّة....................................... ٣٦٧
الإشكال في الفرق بين صلاة الغير على
الميّت وبين الصلاة عن الميت تبرّعا أو بالإجارة. ٣٦٧
توجيه الفرق.................................................................. ٣٦٨
عدم جواز الأخذ باللوازم في أصالة الصحّة....................................... ٣٧١
وجه تقديم أصالة الصحّة على استصحاب الفساد................................. ٣٧٣
اضطراب كلمات الأصحاب في تقديم أصالة
الصحّة على الاستصحابات الموضوعيّة.... ٣٧٤
التحقيق في المسألة............................................................ ٣٧٤
أصالة الصحّة في الأقوال....................................................... ٣٨١
أصالة الصحّة في الاعتقادات................................................... ٣٨٣
المقام الثاني : تعارض الاستصحاب مع القرعة..................................... ٣٨٥
المقام الثالث : تعارض الاستصحاب مع ما
عداه من الاصول العمليّة................. ٣٨٥
تقدّم الاستصحاب وغيره من الأدلّة والاصول
على أصالة البراءة..................... ٣٨٧
حكومة دليل الاستصحاب على قولهعليهالسلام : «كلّ شيء مطلق ...»................ ٣٨٩
الإشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في
الشبهة الموضوعيّة......................... ٣٨٩
ورود الاستصحاب على قاعدة الاشتغال......................................... ٣٩١
ورود الاستصحاب على قاعدة التخيير........................................... ٣٩٢
تعارض الاستصحابين
أقسام الاستصحابين المتعارضين :............................................... ٣٩٣
القسم الأوّل : إذا كان الشكّ في أحدهما
مسبّبا عن الشكّ في الآخر................ ٣٩٤
تقدّم الاستصحاب السببي على المسبّبي
والاستدلال عليه........................... ٣٩٤
لو عملنا بالاستصحاب من باب الظنّ فالحكم
أوضح.............................. ٤٠٠
ظهور الخلاف في المسألة عن جماعة............................................. ٤٠١
تصريح بعضهم بالجمع بين الاستصحابين «السببي
والمسبّبي»....................... ٤٠٣
عدم صحّة الجمع............................................................. ٤٠٣
دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب
الموضوعي على الحكمي.................... ٤٠٥
المناقشة في دعوى الإجماع...................................................... ٤٠٥
القسم الثاني : إذا كان الشكّ في كليهما
مسبّبا عن أمر ثالث....................... ٤٠٦
صور المسألة :................................................................ ٤٠٦
الاوليان : لو كان العمل بالاستصحابين
مستلزما لمخالفة قطعيّة عمليّة أو قام الدليل على عدم الجمع بينهما ٤٠٧
هنا دعويان :................................................................ ٤٠٨
الاولى : عدم الترجيح.......................................................... ٤٠٨
الدليل على عدم الترجيح...................................................... ٤٠٨
الثانية : أنّ الحكم هو التساقط دون
التخيير والدليل عليه.......................... ٤٠٩
الصورة الثالثة : لو ترتّب أثر شرعي على
كلا المستصحبين.......................... ٤١٣
الصورة الرابعة : لو ترتّب الأثر على
أحدهما دون الآخر............................ ٤١٤
العناوين العامّة................................................................ ٤١٩
فهرس المحتوى................................................................. ٤٢١
|