تتمة أعيان القرن العاشر (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

٨٤٦ ـ أبو بكر بن عبد الكريم الزاهد إمام البلاطية المتوفى سنة ٩٥٨

أبو بكر بن عبد الكريم الخليصي الأصل الحلبي الشافعي ، إمام المدرسة البلاطية خارج باب المقام المشهور بالزاهد ، سبط العالم المفتي الصالح أبي بكر الخليصي ثم الحلبي الشافعي.

وهو شيخ معمر منور ذو زهد وورع وصلاح وفلاح ، لا يراه أهل محلته نهارا إلا في أوقات الصلوات ، وهو في غيرها متردد إلى المقابر ومزارات الأولياء وإلى المكان المشهور بقبور الصالحين ، وكثيرا ما كنا نراه جالسا وحوله من شاء الله من الزوار يسمعون منه ما يقرؤه عليهم من كتاب «رياض الصالحين» أو غيره ، وأما الليل فإنه فيه ذو تهجد وذكر وبكاء.

وقد رافقته يوما في طريق زيارة الصالحين فأخبرني أنه لما حج وزار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنشد لدى الحجرة الشريفة النبوية القصيدة الرائية من القصائد المشهورة «بالوترية في مدح خير البرية» ، ثم لما أنشدنا إياها ونحن نسمع فلم يتمها إلا وقد غلب عليّ البكاء من بركته وصدق نفسه.

واتفق له لما تزهد أنه كان معه شيء من حطام الدنيا مما يحتاج إليه لمعاشه ومعاده ، فدفعه لأخ له بسؤاله إياه فيه لينفق عليه منه شيئا فشيئا ، فلما صار إليه قسا قلبه عليه فكل

__________________

(١) تنبيه : لا تنس ما قدمناه في الجزء الخامس من أن ما نذكره في هذا القرن بدون عزو هو منقول عن «در الحبب» للرضي الحنبلي.


من مطالبته إياه وهو يمنعه ، ثم دفعه أخوه ذات يوم فألقاه على وجهه وصار التراب على صفحات وجهه ، فمرض من تلك فمات سنة ثمان وخمسين رحمه‌الله.

الكلام على زاوية الحاج بلاط :

قال أبو ذر في الكلام على الزوايا : هذه الزاوية خارج باب المقام ، أنشأها الأمير زين الدين الحاج بلاط دوادار الحاج إينال كافل حلب. وسبب عمارته لهذه الزاوية أنه توفي ولد لأستاذه الحاج إينال المذكور ودفن هناك ولم يكن هناك تربة ولا زاوية ، وحضرت دفنه فرأيت قد شق هناك أساس ووضع هناك أحجار لأجل بناء تربة ، ثم شرع بعد ذلك الحاج بلاط في عمارة هذه التربة والزاوية وبينهما حوش كبير. وكان هناك بستان فتوصل إليه بطريق شرعي وعمر فيه هذه الزاوية ، وجعل هناك حوض ماء أحضره من قرية جبرين وأجرى الماء إليه وإلى التربة والزاوية من دولاب كان بالبستان المذكور.

وهي وقف على فقراء الطلبة من الحنفية عدة عشرة أنفار ، ورتب فيها إماما ومؤذنا ومدرسا ، وشرط أن يطبخ للساكنين بها طعام بكرة وعشيا ، ولكل واحد من المقيمين وأصحاب الوظائف رغيفين مع زبدية طعام بكرة وعشيا. ورتب ثلاثة أنفار يقرؤون القرآن على تربة أستاذه الحاج إينال ليلة الإثنين وصبيحة الجمعة.

ووقف على الزاوية والتربة ربع سوق الملح وربع قرية معرة دبسة ونصف باسوقان من جبل سمعان وحصة بالنيرب بقرب حلب ، ومهما فضل عن المستحقين يكون له ثم لذريته من بعده ثم من بعدهم للعتقاء من مماليكه وجواريه. ا ه.

وقال في الدر المنتخب : تربة الحاج إينال نائب حلب تجددت في سنة ثلاث وستين وثمانمائة وبنى إلى جانبها من جهة الشمال دواداره الحاج بلاط مدرسة ، وقد بني الآن لصيق تربتها هذه من الشمال. ا ه.

أقول : مكان هذه الزاوية خارج باب المقام بالقرب من شرقي تربة خاير بك ، وبقي من آثارها إيوان كبير لكنه خرب ، وأمامه ست حجر عن اليمين واليسار ويسكن فيه الغرباء. ولا أثر الآن للتربة ، وجرن الحوض لا زال باقيا.


٨٤٧ ـ عبد الله الحراكي المتوفى سنة ٩٥٨

عبد الله ابن السيد برهان الدين ابن السيد عبد الله الحسيني الحراكي المعري ثم الحلبي الفرزلي *.

شيخ دين خيّر. توفي بحلب سنة ثمان وخمسين وكان جده هذا من أهل الصلاح وله المزار المشهور بفرزل من عمل المعرة ا ه.

وقوله : جده هذا أي الأعلى المتوفى سنة ٥٨٦ وقد قدمنا ترجمته. وظفرت في مجموعة الشيخ محمد العرضي بترجمة والده برهان الدين واسمه إبراهيم ، إلا أنه لم يذكر تاريخ وفاته ، إلا أنها كانت كما سيتبين لك أواخر القرن التاسع أو أوائل العاشر. قال :

٨٤٨ ـ إبراهيم بن أحمد الحراكي والد السيد عبد الله المتقدم

هو إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن حسين بن عمر بن علي بن إبراهيم بن علي زين العابدين بن عبد الله الحراكي بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي القاسم ابن علي بن كمال الشرف محمد بن حسن الأعز بن محمد بن علي الزاهد بن محمد الأقساسي ابن يحيى ذي الدمعة بن الحسين ذي العبرة بن زيد الشهيد بن زين العابدين الحراكي ، جد والدي ، التقوي.

قدم إلى حلب من بلدته معرة النعمان لثائرة فتنة العشير بها سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة واستوطن داخل باب النيرب بالقرب من حمّام الذهب. وجلس في المدرسة الرحبية يذكر الله تعالى على طريقة أجداده القادرية مدة من الزمان إلى أن رأى جده الشيخ الكبير السيد عبد الله الحراكي صاحب المزار المشهور بالفرزل من عمل المعرة في عالم الرؤيا يقول له : ارجع لزاوية أجدادك بالمعرة. فعاد إلى معرة النعمان ومعه ولده الزيني ، وتخلف عنه بحلب كل من جدي التقوي أبي بكر وأخيه الشهابي أحمد وعبد الله ، فاستوطنوا حلب لطيب هوائها ولطف أبنائها.

وأخو جد هذا الشريف هو الذي ذكره الرضي الحنبلي في تاريخه عند ذكر عبد الرزاق

__________________

(*) في الأصل. الغزولي.


ابن محمد بن الحسن الشيخ شرف الدين الحسيني الكيلاني الحموي القادري ، وذلك عند عده مأخذه من الطريق فقال ما صورته : قال الشيخ شرف الدين : وللمرحوم والدي طريقان أحدهما من والده والآخر عن الشيخ شمس الدين محمد بن زين العابدين الحسيني الحراكي الأرسلاني قاضي معرة النعمان جدي لوالدتي. انتهى كلامه.

وهذا القاضي هو محمد بن محمد بن أبي بكر المذكور أعلاه.

توفي السيد برهان الدين ببلدة معرة النعمان سنة (لم يذكر) ودفن بمقبرة آبائه عند جده الأعلى.

ومن غريب ما اتفق أني بعد ظفري بهذه المجموعة بأيام قلائل ظفرت بوقفيات عند الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم اللبابيدي بينهن نسب المترجم وهو في ورقة بالية أخنى عليها الدهر محرر سنة ٨٦٨ ثمانماية وثمانية وستين ومذيل بخط قاضي عصره والشهود الذين شهدوا بصحة نسبه ، وقد ذيل آخره بذكر اسم ولده أحمد ، والذيل محرر سنة ٨٧١ ثمانماية وإحدى وسبعين وعليه خط قاضي عصره أيضا. وأحمد هذا هو والد إبراهيم المتوفى سنة ٩٧٨ كما سيأتي ، فعلى هذا تكون وفاة المترجم في أواخر القرن التاسع أو أوائل القرن العاشر.

٨٤٩ ـ محمد بن محمد التقى المتوفى سنة ٩٥٨

محمد بن محمد بن محمد الأمير ناصر الدين ابن الأمير ناصر الدين ابن الأميري الكبيري الناصري ، البابي الأصل الحلبي المشهور بابن التقى.

توفي في سنة ثمان وخمسين وتسعماية ، وبوفاته انقرضت ذرية بيت التقى بحلب.

وكان شهما حسن الشكل لطيف العشرة رغد المعيشة مغرما بالصيد مولعا بالمآكل الطيبة والأسمطة الفاخرة مكفي المؤنة بأوقاف جده لأبيه على ماله من الذرية ، وكذا بجهات آلت إليه من قبل جده لأمه أمير كبير حلب سودون المؤيدي أحد مماليك المؤيد شيخ ، فكان من يقال (هكذا) * بحلب أمير كبير أحد الصناجق الأربعة التي كانت بها في الدولة

__________________

(*) في در الحبب : وكان من يقال له بحلب ...


الجركسية سوى كافلها ، والثلاثة الباقون حاجب الحجاب وأمير ميسرة وداودار السلطان.

وكان الأمير ناصر الدين قد تزوج بجهة الناصري محمد بن أزدمر كافل حلب في آخر أمره ، فظفر منها بجواهر ثمينة في حياتها وبعد مماتها ، ومع هذا كله لم يقنع بما استولى عليه حتى استولى على أوقاف جده التي أنشأها بمحلة سويقة علي ومحا اسمها وصارت كلاب الصيد تدخلها وتخرج منها ، وطيوره توضع فيها فتنجسها ، وكان بها إمام ومؤذن فأبطلهما.

ثم إنه ارتضى لنفسه أن يكون أمين الجردة بحلب فصار أمينها ، ثم تنقل في الأمانات كأمانة عزاز ونحوها ورضي لنفسه بذل الوقوف بين يدي بعض الدفتر دارية بحلب. وأكثر من الظلم حتى قتل بعض أعوانه فلاحا بمزيد ضربة كأنه أعد لحربه * ، ثم آل أمر الناصري إلى أن صدع وفجع بموت ولد له نشأ شهما محبوبا في قلوب كفال حلب وقلوب غيرهم ، ولم يكن له من الذكور غيره ولا رزق بعده ذكرا ، ثم تلاه بالوفاة.

ورآه بعض الناس في المنام وهو يأكل قطرانا أعاذنا الله والمسلمين كافة من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

٨٥٠ ـ يحيى بن يوسف الحنبلي المتوفى سنة ٩٥٩

يحيى بن يوسف بن عبد الرحمن قاضي القضاة نظام الدين أبو المكارم الربعي الحلبي التاذفي الحنبلي القادري ، عمي شقيق والدي.

ولد بحلب سنة إحدى وسبعين وثمانمائة ، وتفقه على أبيه وعلى بعض المصريين ، وأجاز له المشايخ الآتي ذكرهم في ترجمة والدي.

وقرأ بمصر على المحب أبي الفضل ابن الشحنة والجمال بن شاهين سبط الحافظ ابن حجر سنة سبع وثمانين وثمانمائة وأجازا له ، ثم سمع على الأول بقراءة أبيه ثلاثيات البخاري وتناول منه البخاري مناولة مقرونة بالإجازة ، ثم قرأ على الثاني ثلاثيات الدارمي وتناول جميع مسند الدارمي وأجاز له. وقرأ موافقات الدارمي وثلاثيات ابن ماجة والمجالس

__________________

(*) في الأصل : حربه.


السلماسيات ومسلسل عاشوراء ، وسمع على الأثير أبي اليمن بن الشحنة بقراءة السيد الشريف محمد بن منصور الحلبي جزء أكل الحبوب والدجاج لأبي الفضل العراقي بإجازة الأول وسماع الثاني من الحافظ البرهان الحلبي بحق قراءته على المؤلف.

وكتب لنفسه بخطه شيئا يتضمن مروياته بأسانيدها ، ثم لما عاد والده إلى حلب متوليا قضاء الحنابلة ناب عنه فيه وسنه دون العشرين ، فلما توفي والده في أوائل سنة تسعمائة استقل به بعده ولبس التشريف والطرحة في خامس ذي القعدة من السنة المذكورة ، وسامحه المقام الشريف في الرسم المقرر على الوظيفة المذكورة وبقي بها ما لم يبق غيره في مثلها إلى انخرام الدولة الجركسية فكان آخر قاض حنبلي فيها بحلب.

وكان توقيعه في صدور الوثائق الشرعية : الحمد لله ، كفى بالموت محذرا ، كما كان لوالدي.

واتفق له يوم قراءة توقيعه بالجامع الأعظم بحلب على العادة القديمة في قراءته تواقيع القضاة به ، ويقرأ ههنا مناشيرهم * كما هو الاصطلاح القديم أن شخصا من القراء الذين يقرؤون شيئا من القرآن العظيم في مثل هذا اليوم افتتح تلاوة قوله تعالى (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ)** الآية ، وهو اتفاق عجيب نظير ما وقع لأمير المؤمنين المستكفي بالله العباسي الآذن لجدي الجمال يوسف الحنبلي في العقود الحكمية بحلب وعملها ، فقد أفاد قاضي القضاة مجير الدين عبد الرحمن العمري المقدسي في تاريخه أن أمير المؤمنين هذا هو أبو الربيع سليمان الذي بويع بعد وفاة أخيه المعتضد بالله أبي الفتح داود بن المتوكل على الله محمد ابن المعتضد بالله أبي بكر بن المستكفي بالله سليمان بن الحاكم بأمر الله أحمد سنة خمس وأربعين وثمانمائة ، وشهد له أنه ما ارتكب كبيرة ولا صغيرة في عمره ، وكتب في تقريره (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)***.

ثم لما استقرت الدولة العثمانية ذهب إلى دمشق فمكث بها مدة ، ثم استوطن مصر وولي بها نيابة قضاء الحنابلة بالصالحية النجمية وبغيرها ، وحج منها وجاور ، ثم عاد إلى حكمه

__________________

(*) في «در الحبب» : ويعني بها ها هنا قراءة مناشيرهم.

(**) مريم ١٩.

(***) النمل : ١٦.


ولم يزل المصريون مقبلين عليه في فصل الحكومات وحسم مادة الخصومات لمزيد عرفانه بدربة القضاء والتوريق وتوفيقه لرعاية شروط الوثائق أي توفيق مع طلاقة المحيا ولطف الملتقى لمن أقبل عليه وحياه.

تزوج بمصر بنت المقر المحيوي عبد القادر القصروي ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية في آخر الدولة الجركسية ، فرزق منها ولدا سماه باسم جده لأمه ، فنشأ في كنفه مالكا لمباهج الجمال سالكا في مدارج الكمال ، فلما كان طاعون سنة خمسين وتسعمائة بعثته أمه إلى الطور حذرا مما هو في الكتاب مسطور ، فعادوا به إليها مطعونا ، وحق لها أن تقول :

قد كان ما خفت أن يكونا

إنا إلى الله راجعونا

وبقي والده جزعا لا يرى في الحياة مطمعا ، إلى أن توفي بمصر في رمضان سنة تسع وخمسين.

وكان لطيف المعاشرة جميل المذاكرة حلو العبارة حسن السفارة طري النغمة يكشف بتلاوته الغمة ، ومتى تلا في المحراب أتى فيه بالعجب العجاب ، كما وقع له بقبة خير بك كافل حلب التي أنشأها بجوار مزار سعد الله الأنصاري حتى أمر بقراءة المولد النبوي بها ، فأم به في العشائين وبباقي قضاة القضاة وأعيان حلب حتى فتن السامعين بتلاوته. وكان ينظم الشعر على قلة *.

٨٥١ ـ إبراهيم بن يوسف الحنبلي والد الرضي المتوفى سنة ٩٥٩

إبراهيم بن يوسف بن عبد الرحمن الشيخ برهان الدين أبو المقري ** ابن قاضي القضاة

__________________

(*) أورد له في در الحبب مقطوعتين اعتمادا على إحدى النسخ المخطوطة ، مطلع الأولى :

لا تقطعن نعمة أجريتها زمنا

فلن تنال لدى إجرائها ضررا

والثانية مما مدح بها بعض المصريين ، مطلعها :

قل عن لساني لمولى ما التقيت به

إلا وسيف امتداحي فيه مجذوب

ثم أورد المؤلف مقطوعة كتبها إليه في رثاء ولده المحيوي ، مطلعها :

كم وارد سكب الدموع وصادر

لوفاة محيي الدين عبد القادر

(**) في در الحبب : أبو القرى.


وشيخ الإسلام جمال الدين أبي المحاسن ابن أقضى القضاة زين الدين أبي البشرى الحلبي الحنفي المشهور بابن الحنبلي ، والدي ، سبط قاضي القضاة أثير الدين بن الشحنة.

ولد بحلب سنة سبع وسبعين وثمانمائة ، واشتغل بها في الصرف والنحو والعروض والمنطق على العلاءين الدمشقي المجاور بجامع المهمندار ، والموصلي ، وعلى الفخر عثمان الكردي. وتفقه على البرهان القرصلي والزيني بن فخر النساء ، وجود الخط على الشيخ أحمد أخي الفخر المذكور ، وألم بوضع الأوفاق العددية ، وتعلق بأذيال القواعد الرملية والفوايد الجفرية.

وأجاز له البرهان الرهاوي رواية الحديث المسلسل بالأولية بعد أن سمعه منه بشرطه وجميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه عند أهله ، وأجاز له باستدعاء والده ، وكذا لوالده وشقيقه ولمن أدرك حياتهم خصوصا ولأهل حلب عموما جماعة كثيرون من المصريين منهم المحب أبو الفضل بن الشحنة وولداه الأثير محمد والسري عبد البر الحنفيون والقاضي زكريا الأنصاري والجمال إبراهيم بن علي الشهير بابن القلقشندي والقطب محمد الخضيري والحافظ عثمان الديمي والجمال يوسف بن شاهين الشافعيون في آخرين.

ولما قدم حلب البرهان بن أبي شريف سمع عليه ما اختصره من رسالة القشيري بقراءة الشمس السفيري وأجاز لهما في آخرين أن يرووه وجميع ما يجوز له وعنه روايته.

وقد كان لبس الخرقة القادرية من يد الشيخ عبد الرزاق الكيلاني الحموي بسنده ، ثم لبستها أنا من يده فلله الحمد. واتفق له بعد لبسها أن رأى في منامه عجميا صوفيا له عمامة لطيفة من الصوف ، فسأله والدي : ما التصوف؟ فقال له : ترك هوى النفس.

وأريد أن يكون قاضيا حنفيا بحلب كما كان شقيقاه قاضيين بها حنبليا وشافعيا ، فأبى كل الإباء ، وقضى بأن لا يكون له قضاء.

ولم يزل على وفور عقله ونورانية شكله وسنا شيبته وجلال هيبته إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد حادي عشر ذي القعدة سنة تسع وخمسين ، وكنت أنا الذي صليت عليه إماما في مشهد عظيم رفع فيه سريره فوق المعتاد ، ثم دفن بتربة والده وتأسف عليه الناس داعين له بالرحمة لكثرة ما كان يتودد إلى الأقرباء والغرباء ويجبر قلوب الضعفاء والفقراء ويصبر على الأذى ولا يقابل مناويه بالإيذاء ، حتى دارت دوائر السوء على كثير ممن قصده


بسوء. وطالما حزبه أمر من الأمور فأخذ في أوراد كانت له ففرج عنه.

وكان في آخر أمره قد انقطع للعبادة بالتكية الخسروية إذ كان إماما بها ، بل أول إمام أم بها على ما شرطه واقفها ، وذلك بعد أن زوى الله عنه الدنيا وصرف عنه سعة المال ومنحه التجرد في المآل. وفيها كان إكمال تأليفه الحافل المسمى «بثمرات البستان وزهرة الأغصان». مع ما له من الانتخابات «كالسلسل الرايق المنتخب من الفايق» الذي التقطه الشيخ صدر الدين محمد بن البارزي الجهني من كتاب «مصارع العشاق» وكالذي انتخبه من كتاب «آداب السياسة» وسماه «بمصابيح أرباب الرياسة ومفاتيح أبواب الكياسة» وغير ذلك.

ومما اتفق له بعد الوفاة أنه رؤي في المنام مرات فرؤي تارة وعليه ثوب أبيض ، وتلك علامة خير إن شاء الله تعالى ، وأخرى وهو يسقي الناس ماء ، وتارة أخرى وهو يصلي بمحراب الخسروية يكرر تلاوة سورة الضحى لقوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)* إلى أن خرج بعد تمام الصلاة إلى سدة المؤذنين وأكمل معهم نوبتهم فيها. وكان سر المنام الثاني أنه حفر بئرا في شرقية التكية المذكورة. وكان في سنة ثماني عشرة قد وقف حانوتا بمحلة سويقة علي ليجدد بأرضه خير بك كافل حلب حوضا للسبيل ، فجدده وجعل له شربا من فايض بركة داره التي أنشأها بالمحلة المذكورة ، فانقطع شربه من بعده لاختلاف أمرها ، فجعل له والدي شربا من حق قاعته ووقف على مصالحه ثلثي حانوت وقع بينها وبينه حانوتان هما وقف آخر على غيره.

وكان أيضا قد بذل مالا كثيرا في طلب زيادة ماء العين الكائنة في سفح جبل جوشن بالقرب من مشهد الدكة المعروف الآن بمشهد محسّن رضي‌الله‌عنه حين ازداد ماؤها واتسعت أرجاؤها وأغنت مجاوريه عن نقل الماء من النهر. واتفق لحجار طلبه والدي ليعمل بها فقال : بلغني أنه من عمل بها مات سريعا ، ولكني أعمل بها ولا أبالي ، فعمل بها فمات سريعا إلى رحمة الله تعالى.

__________________

(*) الضحى : ٥.


ومن شعر والدي (ما كتب) * به إلي وهو غايب عن حلب في طاعون سنة ثمان وثلاثين :

سلم بنيّ النفس والولدا

لله لا تشرك به أحدا

والجأ إليه في الأمور عسى

تعطي بذاك الأمن والرشدا

من كان بالرحمن محتسبا

وغدا لركن الله مستندا

لم يخش من همّ ولا نكد

كلا ولا من حاسد حسدا

فكن الرضيّ بما يريد وكن

مستمسكا بجنابه أبدا

وقد أجبته بقولي :

من كان بالرحمن معتقدا

وعليه معتمدا فقد سعدا

ومن التجا في النائبات إلى

من دونه فهو الذي بعدا

فاترك طريق البعد عنه تفز

واسلك طريق القرب مجتهدا

والخير ظنّ ولا تكن جزعا

واسأله من إحسانه المددا

ولدى التظا نار الهموم أنب

لله تلق جحيمها بردا

والنفس والجثمان إن وعكا

فاستعمل الصبر الذي حمدا

واحذر دسائسها إذا جزعت

من حادث الأيام لو وجدا

وأدم دعاك وقل بمسكنة

يا رب هب لي النفس والولدا

وكتبت إليه مرة :

لم يشك حشاي حر ضر وألم

بل جمر غضا به إذا الشوق ألم

والدمع على تشوقي يشهد لي

بالله ألم أكن على العهد ألم

فأجابني :

لم يشك حشاي من سقام وأسى

بل جمر فراق شب فيه ورسا

من أين لي الصبر على البعد وقد

أفنى جسدي وربع صبري درسا

وكتب إليه خاله المقر المحبي عبد الباسط قصيدة مطلعها :

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.


عليك من الصب الذي بات يسهر

سلام كنشر المسك بل هو أعطر

فأجابه :

على من بقلبي غيره ليس يخطر

سلام مشوق من شذا البان أعطر

ومن حكمه فيما مضى فيّ نافذ

ومن حبه في وسط قلبي مقرر

ومن أنا مغمور بإحسانه ومن

فؤادي معمور بذكراه نيّر

ومن كنت في أنس وبسط بقربه

ويومي مبيضّ وعيشي أخضر

إلى أن رماني سوء دهري ببعده

وصيرني من بعده أتحسر

وأصبحت في حال سأذكر بعضه

ومن بعضه والله إني مقصّر

فوجدي صحيح والذي رفع السما

وصفو ودادي قط لا يتكدر

وجسمي معتل وهمي مضاعف

ونومي كحظي ناقص ليس يكثر

وشعري مبيضّ ولوني أصفر

وحظي مسودّ ودمعي أحمر

وإني على عهدي مقيم وإنني

أموت عليه ثم أحيا وأنشر

ووالله ما كان الفراق بخاطري

ولكنّ حكم الله أمر مقدر

رعى الله أياما تقضّت بسيدي

المقر المحبي من به صرت أذكر

أبي الفضل من حاز الفضايل كلها

فلا حدّ يحويها ولا هي تحصر

وحيا ليالينا التي سلفت لنا

فما كان أحلاها به حين نسهر

وصان مكانا كان فيه اجتماعنا

كمثل الثريا حين تزهو وتزهر

وقرب جميع الشمل في خير حالة

لأحظى برؤياه وقلبي يجبر

بجاه رسول الله من جاء بالهدى

نبيا رسولا وهو للدين يظهر

عليه صلاتي مع سلامي كلما

روى عنه راو أو حكى عنه مخبر

٨٥٢ ـ السلطانة كوهر ملكشاه المتوفاة سنة ٩٥٩

كوهر ملكشاه بنت عائشة السلطانة بنت السلطان بايزيد خان بن عثمان.

قدمت حلب وولدها محمد باشا ابن توقه كين أمير الأمراء بها ، فحجت وعادت ، فخرج ولدها لملاقاتها والحلبيون ، فدخلت حلب في أبهة زائدة ومشهد عظيم. ثم توفيت


بها بعد أن كتبت بخطها الحسن وصية حسنة ، فبات بدار العدل ليلة دفنها جماعة من الأكابر والعلماء والقراء ، ثم فرق يوم دفنها عليهم وعلى الفقراء مال عظيم ، واشتري لها بيت بقرب من السفّاحية فدفنت به ، ثم خرب وجعل به مسجد مجاور لدفنها ورتب به ثلاثون قارئا في كل يوم ختمة بثلاثين درهما.

وكانت وفاتها سنة تسع وخمسين وتسعمائة.

أقول : لا زالت هذه الدار باقية ، وهي تجاه جامع السفّاحية والحمّام المعروفة بحمّام ميخان ، لكنها مشرفة على الخراب. وفي الطرف القبلي منها حجرة كبيرة في وسطها قبر كوهر ملكشاه ومكتوب فوق باب الدار وكذا فوق باب الحجرة :

(١) هذه تربة ملكة الملكات تاج العلا والسعادات المرحومة كوهر ملكشاه

(٢) سلطان بنت عائشة سلطان بنت سلطان بايزيد خان من آل عثمان قد حجت إلى بيت الله

(٣) الحرام وعادت إلى حلب ولاية ولدها أمير الأمراء العظام حضرة محمد باشا وانتقلت

(٤) بالوفاة إلى رحمة الله في تاسع شهر ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وتسعماية.

٨٥٣ ـ قاسم ابن شيخ سوق الظاهرية المتوفى سنة ٩٦٠

قاسم بن محمد بن خليل بن أحمد بن سلماس * الخواجا شرف الدين الحلبي.

أحد أعيان التجار بحلب وأحد رؤسائها المشهور بابن شيخ سوق الظاهرية لما أنه كان رباه بعد ما فقد أباه ، وإلا فهو لم يكن ابنه حقيقة وإنما كان ابن عم عمه ، وبالجملة فقد كان صاحبه.

وشيخ سوق الظاهرية هذا هو الشيخ إبراهيم الماضي ذكره الذي لما أيقن بقرب الوفاة في مرضه ولم يكن له وارث سواه وخشي على تركته من ظلم السلطان الغوري وصى صاحبه خير بك وكافل حلب بأن يجري نظره عليه في أمر التركة ، فلما مات طلب الغوري

__________________

(*) في در الحبب : تسلماس.


من تركته أربعة آلاف دينار بمرسوم ورد على يد خاصكي ، فراجع خير بك في ذلك إلى أن أخذ نصفها وبقي في التركة مزيد.

ثم كان خير بك ذا صحبة أكيدة للشرفي ومعاشرة له في المجالس الخاصة واهتمام بشأنه والتفات إليه (كأنه يشتم فيه رائحة صاحبه الأقدم) *.

ثم إن الخواجكي الشرفي اتسع ماله وعظمت ثروته وقويت في السخاء والكرم رغبته ، وعلت في المهمات همته ، وأنشأ بستانا عظيما يضرب به المثل وقصرا شاهقا فيه تفصيل البناية الجاري في وقف المدرسة الشاذبختية بحلب ، حتى أخذ كثير من المتمولين في إنشاء بساتين وقصور فيها على نهج ما أنشأه أو فوقه ، لما رأوه من كمال ما أنشأه ولطافته ، وترك كل ما هو فيه من الدنيا واشتغل بمشارفة بستانه المذكور وعمل العمل فيه على وجه الإحكام لشأنه ، لو رأى به قذاة كاد يتلقاها بعينيه ، وتمتع كل التمتع بنهره وزهره وثمره. وأكثر من ترك مخالطة الناس ، فقد ذهب الناس الذين هم الناس كل الناس ، إلى أن توفي سنة ستين وتسعمائة ودفن بتربة قريبه الشيخ إبراهيم إلى جنبه.

ومن جمله خيراته النافعة له إن شاء الله تعالى في مماته تجديد عمارة المسجد الكائن بمحلته بالقرب من جقر قصطل بمال جزيل بذله في إتقانه وإحكام بنيانه.

٨٥٤ ـ محمد بن خليل بن قنبر المتوفى سنة ٩٦١

محمد بن خليل بن علي بن أحمد بن ناصر الدين بن قنبر علي ، الحلبي مولدا الفارسي محتدا الشافعي المعروف بابن قنبر.

كان واعظا وجيها في مواعظه مهولا محركا في وعظه لنشاط السامعين.

سمع الحديث وقرأه من الشيوخ وعليهم وأجيز له ، وشارك في العربية ، وكلف بجمع الكتب النفيسة وتحسين جلودها بالترميم والتبديل ، وعني بالضن بها إلا على من يأمنه عليها.

ولم يرغب في منصب سوى إمامة جامع الأمير حسين بن الميداني والتولية عليه ، وكان له السعي التام في مصالحه ومصالح أوقافه ، وربما أنفق في ذلك من ماله لأنه كان متمولا

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.


من تجار سوق الجوخ بحلب.

وهو الذي لما رأى منارة الجامع المذكور قد اختل نظامها لبنائها على الحوض الخارج عن الجامع المذكور إنشاء الأمير حسين نقضها دورا فدورا إلى أن انتهى بها ، ثم أمر المعمار ترصف دورا فدورا إلى تمامها داخل الجامع المذكور تجاه باب قبلته. ولم يزل يعظ الناس بهذا الجامع إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة إحدى وستين وتسعمائة ودفن بمقبرة أقاربه عند جب النور بين قبرين طويلين قيل إنهما من مقابر الشهداء وقد جاوز الستين سنة.

وكان لطيف المحاضرة ظريف المعاشرة مزاحا عارفا باللسانين الفارسي والتركي زيادة على العربي ، شديد النكر على شرّاب قهوة البن بالشرط المخالف للشرع ، مطروح التكلف ، يرى تارة بلباس خشن وأخرى بلباس حسن ، حتى إنني وجدته يوما كنت زرته فيه وقد خرج إلى وعليه كينك مقطع نصفه الأسفل ، ولبس الأعلى وهو يتبسم ، وكانت من عادته كثرة التبسم.

وهو الذي نصب راية الإنكار على العلاء الكيزواني في جملة بعض مريديه على تعليق العظام على أعناقهم ووضع مالا يعتادون لبسه عليهم وأمره وإياه بالطواف في الشوارع والأسواق بتلك الهيئة ونحوها مما يقتضي كسر سورة النفس مع صدق الطوية وسعي في تهذيبها ، بعد أن سعى في إبطال ذلك إلى مشايخ الإسلام ، فلم يقدروا على إبطاله إلى أن رجع عن إنكاره.

وسمع أن العلاء معتكف بجامع الصفي خارج حلب فعلق في عنقه أمتعة ودخل عليه متنصلا مما صدر منه في شأنه ا ه.

٨٥٥ ـ محمد بن محمد درّاج المتوفى سنة ٩٦١

محمد بن محمد الشهير بابن درّاج ، البنّشي الشافعي ، قاضي سرمين استقلالا في الدولة الجركسية ونيابة في الدولة العثمانية.

شيخ فقيه فرضي معمر طوال ذو أعضاء عظيمة ، له قوة في النفاق غلب بها المنافقين مع ما كان عنده من العلم. توفي سنة إحدى وستين وتسعمائة عن أكثر من مائة سنة.


٨٥٦ ـ أحمد بن إبراهيم الشماع المشهور بابن الطويل المتوفى سنة ٩٦١

أحمد بن إبراهيم بن أحمد الشيخ شهاب الدين أبو العباس الحلبي الشماع الشافعي الشهير بابن الطويل.

شيخ صالح حسن السمت يميل إلى كلام القوم وكتب الوعظ. وكان في سنة سبع عشرة قد قرأ شيئا من كتب الحديث على المحدث عز الدين عبد العزيز بن فهد المكي الشافعي وسمع عليه غالب البخاري وغالب «مشكاة المصابيح» وجميع «تاريخ مكة» للأزرقي وغير ذلك ، وأجاز له رواية ما كان قرأه وسمعه ، وألبسه خرقة التصوف متسلسلة له.

ومن شأنه أنه ترك أكل توت حلب قدر ست عشرة سنة تزهدا لما بلغه من بيع ثمره قبل بدو صلاحها. وصار إذا أرسل إليه مأكل نفيس آثر به الفقراء وأكل يابس الخبز منقوعا بالماء.

وكان يذكر أنه وقف كتبه على بعض أهل العلم إلى أن وعك فأوصى أنه ليس له من حطام الدنيا سوى ما كان بحانوته ، وأشهد عليه أنه بريء من الدنيا وحطامها.

وتوفي سنة إحدى وستين رحمه‌الله تعالى.

٨٥٧ ـ محمد بن يوسف * القسطنطيني المتوفى سنة ٩٦١

محمد بن يوسف الحلبي ثم القسطنطيني الشافعي ، إمام عمارة محمود باشا بالقسطنطينية.

توفي بها سنة إحدى وستين وتسعمائة بعد أن مرض وتحامل نفسه فصلى بالقوم ، فلم يشعر بنفسه وهو في الصلاة إلا وهو في الصلاة إلا وهو مستقبل الشمال توهما منه أنها القبلة ، فذهب إلى داره وانقطع بها إلى أن مات.

وكان وهو بحلب من تلامذة البدر السيوفي وغيره.

وكان حسن السمت والملبس ، من رآه حكم أنه من أهل العلم. وكان يعظ الناس

__________________

(*) في «در الجبب» : محمد بن سيف.


هناك المواعظ الحسنة حتى حصلت له حظوة تامة عند بعض أركان الدولة. وجمع الكتب النفيسة مما وقف عليه ووهب له ، ونال من المال الجم ، ما كثر وعم ، كل ذلك مع أن أباه كان حمّالا ترّاسا كما قيل :

العلم يرفع بيتا لا عماد له

والجهل يخفض بيت العز والشرف

٨٥٨ ـ نصر الله الخلخالي المتوفى سنة ٩٦٢

نصر الله ابن الشيخ الفقيه محمد العجمي الخلخالي الشافعي ، مدرس العصرونية بحلب بعد بلدته ، شيخ زاده الخلخالي.

ذكي ، فاضل ، صالح ، سني ، متواضع ، ساكن ، مواظب على الصلاة بالجماعة ، حسن التعبير باللسان العربي.

توفي مطعونا سنة اثنتين وستين وتسعمائة ودفن داخل مشهد الحسين رحمه‌الله تعالى.

٨٥٩ ـ محمد بن محمد البيلوني المتوفى سنة ٩٦٢

محمد بن محمد بن الحسن الشيخ المقري الحافظ الخير شمس الدين أبو اليسر ، البابي الأصل الحلبي الشافعي ، إمام الحجازية بالجامع الأموي بحلب ، المشهور كأبيه وأخيه بابن البيلوني.

سمع على الكمال بن الناسخ ما سمعه أخوه وأجاز له ما أجاز له ، ولازم شيخ القراء المحيوي عبد القادر الحموي ، ثم الشيخ شمس الدين الأرمنازي في المحافل العظام.

ولم يزل على صلاح وفلاح وتواضع لابسا ما تيسر له من الأثواب إلى أنصاف ساقيه على نهج والده مقدما على حمل طبق العجين على عاتقه مع جلالته وإمامته إلى أن مات مطعونا سنة اثنتين وستين وتسعمائة ، ورفع سريره في مشهد عظيم ، ودفن بجوار والده.

وكانت له عمامة لا تصنع فيها ومعرفة بالطب جيدة رحمنا الله تعالى وإياه.


٨٦٠ ـ درويش بن يوسف معلم السلطان بحلب المتوفى سنة ٩٦٢

درويش بن يوسف بن علي الحصكفي الأصل ، الحلبي الحجّار معلم السلطان بحلب وابن معلم السلطان بها ، المعروف بابن الشاطر.

خلف والده فيما بين المهندسين ، ودخل في العمائر العظام فأنشأ بالقدس الشريف سورا عظيما ، وعمر بمملكة آدنة قلاعا شتى ، كل ذلك في الدولة العثمانية السليمانية ، إلا أنه انقطع في آخر عمره بمنزله لضعف قواه لزوجة جديدة تزوجها ، فاستولى عليه حب جماعها إلى أن مات في طاعون سنة اثنتين وستين.

وكانت له شيبة منورة وعلى وجهه قبول وله أبهة.

٨٦١ ـ محمد بن محمد الكواكبي المتوفى سنة ٩٦٢

محمد بن محمد بن أحمد بن العالم العامل يحيى بن محمد الكواكبي خرفة ونسبا ، الماضي ذكر جده الأعلى.

لبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ مهنا وأصر على الذكر بزاوية جده بالجلّوم في ليالي الجمع في كثير من الواردين عليه من الصالحين والطالحين.

وشاع أمره بخروجه في جنائز الطاعون سنة اثنتين وستين وتسعمائة كثيرا ومعه شرذمة يذكرون الله.

٨٦٢ ـ محمد بن قاسم الصابوني المتوفى سنة ٩٦٢

محمد بن قاسم الشيخ شمس الدين ابن القاضي شرف الدين ، البيري الأصل الحلبي المولد ، المشهور كأبيه بابن الصابوني ، أمين المصبنة البيرية ومتولي مسجد النحويين بشرط الواقف كما لأبيه وجده أبي أبيه ، فكان من ذرية حياة ابن قيس الحراني رضي‌الله‌عنه من وقف عليه وقفا وجعل مآل التولية عليه إلى جد الشيخ شمس الدين أبي أبيه ثم من يكون من ذريته ، ولنعم المتولي هو عليه ، فإنه قد تمرن على أن يصرف عليه فوق ما يتناوله من وقفه عليه من غير رجوع عليه. كما تمرن على موادة أهل المودات والحمية مرة مع الضعفاء


في المهمات والملمات والديانة والصيانة ومزيد الأمانة ، حتى صار يرغب في طبخ الصابون عنده كثير من وجوه الناس ويردون على مصبنته فيأخذ معهم في ذكر تواريخ من تقدم ومن تأخر ممن أدركه.

توفي سنة اثنتين وستين وتسعمائة.

٨٦٣ ـ أحمد بن أبي بكر أحمد سبط العجمي المتوفى سنة ٩٦٢

أحمد بن أبي بكر أحمد بن أبي محمد أحمد بن أبي الوفا إبراهيم ، الشيخ موفق الدين أبوذر بن الشمس بن الموفق بن الحافظ برهان الدين ، المحدث الحلبي الشافعي شيخ شيوخ حلب.

ولد بحلب سنة ست وثمانين وثمانمائة. وكان يسأل عن مولده فيكثر أن يخفيه ويقول : أقبل على شأنك ، ثم يذكر ما ذكره جده أبو ذر في تاريخه وأنه رواه مسلسلا إلى الإمام البويطي ، قال : سألت الشافعي عن سنة قال : أقبل على شأنك ، قال : سألت مالك ابن أنس عن سنة قال : أقبل على شأنك ، ثم قال : ليس من المروءة أن يخبر الرجل بسنه. قلت : ولم؟ قال : إن كان صغيرا استحقروه وإن كان كبيرا استهرموه. انتهى ما ذكره جده هناك عند ذكر من توفي سنة سبع وثمانمائة.

وقرأ بحلب على البرهان اليشبكي ألفية النحو وشرحها لابن عقيل ، وعلى البدر السيوفي بعض ألفية الحديث ، وسمع عليه الشفا للقاضي عياض ، وسمع على الكمال ابن الناسخ الأطرابلسي المالكي تلميذ جده البرهان صحيح البخاري وأجاز له ، ولازم الجلال النصيبي.

ثم أخذ في صنعة الشهادة بمكتب العدول الكائن تجاه باب جامع حلب الأعظم من جهة الشرق ، وأكب بقوة ذكائه على مطالعة ما عنده من مؤلفات جديه وغيرها ومراجعتها وإيراد بعض نوادرها في المحافل عند اقتضاء المقام ذلك ، لا سيما ما كان من تاريخ جده الحافظ أبي ذر ، فإذا صار بحيث لا يمضي محفل هو فيه إلا وقد قال فيه : قال جدي في التاريخ وربما كرر ذلك تكرارا.


وولي مشيخة الشيوخ بحلب في الدولة الجركسية ولذا اشتهر فيها بشيخ الشيوخ ، ثم حصلت له الحظوة عند أكابر الدولة العثمانية بحلب من قضاتها وكثير من كفالها كقراجا باشا ومن بعده لما له من الشهامة والوجاهة ولطف المحاضرة واستحضار تواريخ الناس سوى محافيظه من تاريخ جده. وعني بتربية الناس عند الحكام ومساعدتهم لدى قصد إجراء الأحكام.

ولما توفي عمي الكمال الشافعي كان يكثر من ذكر أنه كان يقول له : بعدي وبعدك لا يبقى بحلب من يعرف تواريخ أهلها كما نعرفها.

وتولى في الدولة العثمانية فوق تدريس الظاهرية تدريس الصاحبية الشدادية ثم الصلاحية.

وكانت له الوجاهة والحشمة والأبهة والشيبة المنورة والملبس الحسن والرعاية للأنغام الحسنة في مفتتح مواعيده ومختتمها والعمامة العظمى جدا ، يحب النظافة ويميل إلى الجماع جدا مع كبر سنه ، وإلى المآكل الطيبة ويكثر اللهجة بذكرها. ولم يزل مدة عمره صحيح الجسد لم يوعك أصلا إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا إلى أن كان طاعون سنة اثنتين وستين ، فاتفق أن صلى الجمعة ، فكان من عادته أن يصليها بدار القرآن العشائرية المشرف شباكها على الجامع الأموي بحلب ، فسقطت عمامته في الصلاة ، ثم طعن ثاني يوم ، ثم كانت وفاته مطعونا إلى رحمة الله تعالى.

واتفق له أن دفن له حفيدا مطعونا قبل وفاته بقليل فأخبرني ونحن معه بالقرب من قبره أنه كان يتمنى أن لو عاش قليلا ليأذن له في قراءة الحديث على كرسيه بالجامع الكبير ويجلس هو تحت كرسيه ترغيبا للناس فيه بناء على أنه كان حسن الصوت طري النغمة ، فلم يتم له ذلك ، وبكى عليه بكاء شديدا إلى أن أخذ في ذكر القبر وهوله ، وأنه لم يعدّ له شيئا سوى الإسلام.

وبالجملة فقد كان جمال المجالس (وحظوة المجالس) * حتى لم يخل عنه غالب المحافل ، إلى أن كان بدر جماله هو الآفل.

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.


٨٦٤ ـ محمد بن محمد بن نفيس المتوفى سنة ٩٦٣

محمد بن محمد بن ناصر بن خوجه جمال الدين ، العجمي الأصل الحلبي المولد والدار ، سبط القاضي أثير الدين محمد بن الشحنة الحنفي ، ويعرف بابن النفيس.

توفي سنة ثلاث وستين وتسعمائة ودفن بجوار جده داخل الزاوية النفيسية (المستدامية).

وكان رئيسا محتشما ، لين العريكة ، عارفا باللسان الفارسي ، مخصوصا بالدواوين الفارسية النفيسة.

لولا نفاسته ونسبته لمن

يدعى نفيسا لم يفز بنفيس

وكان والده من أرباب الأقاطيع بحلب ، وولي في الدولة العثمانية نظر القدس الشريف ، ثم توفي بطرابلس ، وجده خوجه جمال الدين هو الشيخ جمال الدين محمد بن نفيس بن عبد الصمد الشرواني الصوفي الطيفوري البسطامي الذي قدم حلب وعمر بها الزاوية النفيسية ودفن بها بمدفن له خاصة ، وبقي تاجه وعكازه بها إلى آخر وقت ، وقيل إن عكازه سرق مرة فلم يلبث عند سارقه قليلا إلا وأعاده.

٨٦٥ ـ فتح الله المشهدي المتوفى سنة ٩٦٣

فتح الله بن أحمد المشهور بابن المشهدي ، شاهد وقف المؤيدية الكائنة بحلب.

كان أبوه الشيخ شهاب الدين يرمى بالتشيع ، وكان قد شارك يهوديا شمّاعا يصنع له الشمع وينشره بجنينة كانت مشتركة بينهما ظاهر حلب ، فعمل فيه القاضي شهاب الدين أحمد بن سراج هجوا بناه على قولهم الرافضي حمار اليهودي فقال :

جنة * العبريّ قالت

مسّني الدهر بناره

حين قد أصبحت ملكا

لليهودي وحماره

وهذا النمط عليه من الهجو ما قيل في البهائي بن حمزة الحلبي وكان يتهم بالرفض ، فقيل

__________________

(*) في الأصل : جنينة. وبها يختل الوزن.


في حقه هذه الأبيات :

قيل البهائيّ له فطنة

وما لهذا القول عندي اعتبار

لأنه لو كان من أهلها

ما رفض الحق وقالوا حمار

توفي فتح الله إلى رحمة الله تعالى سنة ثلاث وستين وتسعمائة. وكانت له دراية حسنة في كتابة قوائم الأخشاب وخط حلو ، إلا أنه اعتنى بأكل الحشيشة الخبيثة والتردد من المقصف إلى حجرته التي بالسفّاحية بعد ترك مخالطة الناس الذين هم الناس سامحه الله تعالى.

ومما وجدته بخط ابن السيد منصور من شعر أبيه الشيخ شهاب الدين على سبيل التضمين قوله :

ولما سرى ذا البدر في ليلة غدت

بها مهجتي من ريقه وشجونه

فما راعني فيها سوى ضوء وجهه

كأن الثريا علقت في جبينه

٨٦٦ ـ عبد القادر البكراوي المتوفى سنة ٩٦٣

عبد القادر بن أحمد الشيخ محيي الدين القصيري بلدا البكراويّ شهرة الشافعي الأعرج.

قطن بحلب شيخا بخانقاه أم الملك الصالح الأيوبي ومدرسا بالفردوس ، ودرس بالأموي بحلب أيضا.

وكان راسخ القدم في الفقه وحيله الشرعية ومسائله الفرضية مع مدخل في القواعد الأصولية ، إلا أنه كان يدخل بين الخصوم بحيل الفقه لينال شيئا على خلاف مراد محبيه.

وكان من شيوخه السيد كمال الدين بن حمزة الدمشقي الشافعي وشيخ حلب البرهان العمادي الشافعي في آخرين.

وكان له حظ من نيابة القضاء ببلده.

توفي وهو يذكر الله تعالى ذكرا متواليا سنة ثلاث وستين ودفن بمقابر الصالحين.


٨٦٧ ـ ست المنى بنت محمد بن الزكي المتوفاة سنة ٩٦٣

ست المنى بنت محمد بن الزكي المشهور والدها بخليفة وابن أخيها الشرف قاسم بابن خليفة.

شيخة دينة خيرة معمرة ، جاورت بالخانقاه العادلية بحلب أكثر من نصف قرن إلى أن ماتت بها سنة ثلاث وستين وتسعمائة.

وكان من عادتها أحيانا أن تضع تحت لسانها حصاة لتكون مذكرة لها مانعة من أن تنطق بمالا يسوغ شرعا ، وهذا كما كان الصدّيق رضي‌الله‌عنه يضع في فيه حجرا ليمنع نفسه من الكلام حذرا من الشرة فيه لو تكلم بفيه.

٨٦٨ ـ عبد الرحيم الآمدي الكوّا المتوفى سنة ٩٦٣

عبد الرحيم بن عبد الكريم بن شرف الدين الآمدي الحنفي الصوفي الخلوتي الكوّا المشهور بحرفته *.

توفي بحلب في أوائل سنة ثلاث وستين عن مائة سنة وسبع عشرة سنة وزيادة. وكان أبوه وجده دفتر داري بآمد في دولة شاه إسماعيل صاحب تبريز.

وكان سبب تصوفه أنه حضر مجلس دده عمر الروشني خليفة السيد يحيى الروشني وبين يديه دده أحمد خليفته ، فإذا طائر كاد يطير على رأس الشيخ ، فقال له دده أحمد بالفارسية : أتسيء الأدب وتطير على رأس الشيخ عبد الرحيم ، فرجع الطائر من ساعته ، فقوي اعتقادي في الشيخ وأقلعت عما كنت عليه.

قال : وكان لي كمر حسن مصنوع بالذهب مرصّع بالجواهر ، فسرق من دارنا ، ثم ظهر بيد سارقه في بغداد ، فأحضروه وأرادوا قطع يده ، فسعيت في الكف عنه وأخذت كمري فتصدقت فيه للفقراء وانجذبت إلى الشيخ ، فلما قتل والدي قدمت حلب ، وكان سبب قتله أنه كان بآمد نائب من قبل شاه إسماعيل فعزله فعصى بها ومنع المتولي من الدخول ، فاحتال أبوه وأدخله فأظهر الطاعة ، ثم أضاف كلا من المتولي وأبيه ، فلما خرج المتولي

__________________

(*) في در الحبب : بخرقته.


من محل ضيافته أشغل أباه بالكلام إلى أن وقع التمكن من قتله فقتله ، فخرج ابنه الشيخ عبد الرحيم وأتى حلب وعلى رأسه تاج الصوفية وتعاطى صنعة كيّ الأقمشة على باب الجامع الكبير بحلب من جهة الغرب ، ثم صار له أتباع ومريدون ، وانعقدت له المحافل العظام يوم كل جمعة في شرقية الجامع المذكور باجتماع أتباعه ومريديه بها للذكر والسماع ، فإنه كان يميل إلى السماع والناي وتنويع الذكر على أنحاء مطربة ، وكان يحضر حلقته إذ ذاك بعض أرباب الإنشادات الحسنة ولكن من غير ناي ، وبقي الأمر بعد توفيه على ما كان فيه. وكان من شأنه أن لا ينام على جنبه ولكن محتبيا. وبلغني أنه نظم مثنويا من قوله :

من حديث قند * مصر ميكنم

شرح چاه رند مصر ميكنم

أز فراق يا رمينا لم بسي

أشك چون باران ميبارم يسي

وقد عربناه فقلنا :

أنا ناي عن قند مصر حديثي

وعن البئر بئر صاحب مصر

من فراق الحبيب أبدي أنيني

جاعلا دمع مقلتي الغيث يجري

٨٦٩ ـ محمد بن يحيى الحنبلي التادفي المتوفى سنة ٩٦٣

محمد بن يحيى بن يوسف قاضي القضاة أبو البركات جلال الدين الربعي التادفي الحلبي الحنبلي أولا الحنفي آخرا ، ابن عمي ، سبط القاضي شرف الدين يحيى كاتب خزانة المقر الأشرف قايتباي الحمزاوي.

ولد في عاشر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وثمانماية ، وولي نيابة قضاء الحنابلة بحلب عن أبيه وعمره ست عشرة سنة ، إلى أن انقضت الدولة الجركسية ، وكان توقيعه : (الحمد لله على الله توكلنا). ولم يزل يتولى المناصب السنية فيها وفي الدولة العثمانية ، فكان مما تولاه قديما عمالة الجامع الكبير بحلب ومتوليه إذ ذاك كافلها خير بك وقضاء الباب وأعمالها.

ولما كانت الدولة العثمانية ولي بحماة تولية دار الشفا والجامع النوري والمدرسة المظفرية ، ثم بدمشق نظر الجامع الأموي عن والده ، ثم ضم إليه نظر الحرمين الشريفين بها وبسائر أعمالها ، واستمرا بيده إلى آخر سنة ثلاثين وتسعمائة.

__________________

(*) القند : عصارة قصب السكر.


ثم سافر إلى القاهرة فناب بمحكمة الحنابلة بالصالحية النجمية ، ثم بباب الشعرية ، ثم ولي نظر وقف الأشراف بالقاهرة وهي وظيفة غير وظيفة إمارة الأشراف ، ثم استقل بقضاء رشيد ، ثم تولى قضاء المنزلة مرتين.

وقدم مرة إلى حلب ومعه شرح البخاري للكرماني استنسخه في مجلد واحد لقادري جلبي قاضي العسكر بأناطولي. ثم إنه تولى قضاء حوران من بلاد الشام ، ثم عزل عنه سنة تسع وأربعين وتسعمائة ، فتوجه إلى حماة ونزل بمنزل بني أخيه أولاد الشيخ محيي الدين عبد القادر بن الشيخ شمس الدين محمد الحموي الشافعي أحد من بها من درجة الشيخ الرباني والفرد الصمداني سيدي عبد القادر الكيلاني رضي‌الله‌عنه ، وألف هناك كتابا في مناقبه سماه «قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر» رضي‌الله‌عنه (مطبوع في مصر) وضمنه أخبار رجال أثنوا على الشيخ المشار إليه وشرذمة ممن له انتساب إليه من القاطنين بحماة وغيرهم ، وجمع من «الروض الزاهر» وغيره ما لا يخفى.

وفي سنة خمسين وتسعماية قرأ قطعة من البخاري على الشيخ المعمّر الفاضل الشيخ أحمد بن السراج عمر البارزي الجهني الشافعي وأجاز له وكتب له بالإجازة كتابة حسنة. وكان له قبل ذلك اشتغال على الشمس السفيري والشمس ابن الدهن المقري بحلب والشهاب ابن النجار الحنبلي بالقاهرة ، قرأ بها عليه في كتاب «التنقيح» للمرادي الحنبلي ، وكذا أخذ بها عن الشمس أبي البقا البساتيني الشافعي شيئا من القراءات. ونظم ونثر وطالما بذل للشعر الجوائز الجسيمة ، وتهللت لدى وفودهم عليه طلعته الحسنة الوسيمة ، لما استولى عليه من حب الجود وبذل الموجود.

توفي بحلب في أوائل شعبان سنة ثلاث وستين وتسعماية ودفن بتربة جدنا ولم يعقب ذكرا ا ه.

٨٧٠ ـ إبراهيم بن خضر باني القرمانية المتوفى سنة ٩٦٤

إبراهيم بن خضر ، باني القرمانية اللارندي ، نزيل حلب وأحد أعيان التجار

حرص على جمع الأموال من حرام وحلال ، وطال فغني وأثرى وحظي بوساطتها بالقضاة والأمراء وصار يملك منها ما ينوف على مائة ألف دينار سلطاني بعد أن كان بغّالا


يقتني لمن يكتري بغالا ، وملك عدة من المماليك اختلس واحد منهم شيئا من ماله فسعى في قتله وصلبه مخنوقا تجاه خان خير بك على باب سوق الدهشة لكون الاختلاس كان من مخزنه بهذا الخان الذي كان ديدنه الجلوس للتجارة والمعاملة ، ثم ملك آخر كاتبا حاسبا حسن الصورة فسلم إليه مقاليده وألبسه الملبس الحسن ، ومع هذا كان يستخدمه في سوق الماء إلى بحرة بيته ونقض الكيزان ووضع السرقين بها في أمكنة بعيدة عن بيته بحيث كان ينزع ملبسه الحسن ويبدله بغيره مع غنيته عن خدمته بمن هو أدنى منه في خدمته ، إلى أن اختلس شيئا من ماله ووضعه عند صاحب له ، فتفطن له فسعى في قتله عند باشا حلب ، فأبى وطلب منه أن يبيعه إياه ، فصمم على قتله والعياذ بالله تعالى من حرص يؤدي إلى قتل النفس التي حرمها الله تعالى ، فأمر بأن يربط في ذنب فرس ويجر بشوارع حلب إلى أن يموت ، ففعل به ما أراد حتى عيب عليه ذلك. ثم صمم على حبس صاحبه مدة قيل ليسعى في قتله أيضا ظلما ، فوردت إلى حلب إحدى الخواتين ذوات الجاه من قبل الباب العالي للحج ، فبرز أمرها بإطلاقه فأطلق رغم أنفه ، ثم لم تمض أشهر إلا وتوفي ، وذلك أنه كان قد استولى عليه النقرس ووجع المفاصل مرة فمرة إلى أن أشرف على الموت كرة فكرة. فأنشأ داخل باب الفرج عمارة تشتمل على جامع ومكتب للأيتام ومدفن له ، ثم لم تقم بجامعه هذا الجمعة مرارا معدودة إلا وقيل له بعد إخفاء منه أنه قد ظهر فيه نوع انشقاق ، فلم يعبأ به فما مضت برهة من الأيام إلا واتفق فيه الاتفاق الغريب وذلك أنه انشقت القبلية شرقا وغربا فوقا وتحتا حتى بان نور الشمس ، وانشقت عتبة بابها أسوة ما حاذاها من التبليط المنشق مع إحكام بنائها وعرفان مهندسها وبنّائها ، ومالت إلى بعض الدور المجاورة بها فارتحل من بها وفر الناس عن إقامة الجمعة بها ، فبلغه الخبر فغاظه ، فما مضت ثلاثة أيام إلا وأصابه فالج مات به سريعا عاجلا في رمضان سنة أربع وستين ، وصار أمره أحدوثة بين الناس عفا الله عنا وعنه ا ه.

الكلام على جامعه :

لا زال معروفا بجامع القرمانية ، وقد خربت دائرة الأوقاف قبليته وحجرة بجانبها من جهة الجنوب كانت مكتبا للأيتام واتخذت مكانهما ثلاثة مخازن واسعة مرتفعة السقف أوجر كل واحد منها بأزيد من خمسين ليرة عثمانية ذهبا ، وعمرت القبلية فوق هذه المخازن


يصعد إليها بدرج عريض من صحن الجامع طوها ٥٦ قدما وعرضها ٣٦ ما عدا الجدران ، وجعلت لها أربعة عشر شباكا مستطيلة مقنطرة على الطراز الأندلسي فجاءت غاية في الحسن ، وعملت لها منبرا خشبيا مزخرفا جدا واتخذت سقفها من القضبان الحديدية. ولارتفاع هذا المكان فإن الناظر من شبابيكه الغربية يرى جبل الجوشن وقرية الأنصاري فيقع نظره على منظر حسن ، وقد كان ذلك سنة ١٣٤٢ بهمة مدير الأوقاف السيد يحيى الكيالي وقد نقش اسمه فوق المخازن وفوق باب القبلية.

وفي صحن الجامع عدة قبور معظمها لبني العلبي العائلة المشهورة ، وقد كانت ذات ثروة واسعة سيأتي ذكر البعض منها في القرن الآتي إن شاء الله تعالى ، وبعض هذه القبور درس حين العمارة ، وقد كانت أمام الحجرة التي قدمنا ذكرها غربي القبور الباقية.

وحين تخريب هذه الحجرة وجد تحتها مغارة وجد فيها نقود قديمة رومانية ذهبية وفضية حازتها شركة الإنشاءات الإفرنسية التي التزمت عمارة هذا المكان من دائرة الأوقاف.

وفي الجهة الشرقية حجرتان مشرفتان على الخراب حبذا لو عمرتهما دائرة الأوقاف مكتبا ابتدائيا للأيتام عوضا عن المكتب المتقدم الذكر.

وفي الجهة الشمالية في جدار الجامع منارة قديمة صغيرة لكن ليس فيها من الزخرفة ما يستحق الذكر.

وللجامع ثمانية دكاكين وحمّام وهذه المخازن الثلاثة المتجددة وهي تحت يد دائرة الأوقاف.

٨٧١ ـ الشهاب أحمد بن الحسين البيري المتوفى سنة ٩٦٤

أحمد بن الحسين بن الحسن بن عمر ، الشيخ شهاب الدين ، البيري الأصل الحلبي الشافعي الصوفي أسوة والده.

لقنه الذكر في أذنه وهو صغير سنة ست الشيخ علاء الدين علي الأنطاكي الخلوتي الروشني الخرقة ، وألبسه الخرقة والتاج الأدهميين مرة شيخ صالح يعرف بالشيخ عبد الله الأدهمي كما أخبرني بذلك كله.


ثم لم يزل بالألجيهية متوليا عليها في حجرة له يجلس في بابها على كرسي صغير وهو في القبقاب أكثر من نصف قرن لما استولى عليه من الوسواس في أمر الطهارة ، حتى كان إذا أدخل المفتاح في قفل بابها وفتح غسل يديه ، وربما لم يصل وراء الإمام خشية أن يكون في طهارته شيء ، ويأتي إليه بعض الناس فيحاضرهم وهم على باب حجرته وهو بتلك الحالة.

وكان لا يلبس حسن الملبس وإنما كانت له جوخة بيضاء لا يغيرها وإن تغيرت وخرقة بيضاء يضعها تحت عمامته ويعطفها عليها.

وكان له تردد إلى بعض الأمراء والوزراء ولهم فيه اعتقاد وله منهم تناول.

ولما توفي سنة أربع وستين ظهر في حجرته كيس سمح له بعض الوزراء فكتب عليه اسمه. وخلف قريبا من ثلثمائة مجلد لم يظهر منها لتداول الأيدي عليها إلا بعضها ، وزاحم في تركته إذ لا ولد له قبل ظهور ذي رحم كان له أمين بيت المال ، فأخرجه من حجرته للختم عليها ، واتهم تاجه بأن فيه مالا ففتق ، على ظن أنه أودع شيئا (فيه ثم رتق ، ومزّق كل ممزّق ،) * فلم يبد فيه دينار (فضلا عن محلّق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) * ا ه.

وترجمه الغزي في الكواكب السائرة فقال : هو أحمد بن الحسين بن حسن بن عمر ، الشيخ العلامة شهاب الدين ابن الشيخ العارف بالله تعالى بدر الدين البيري الأصل ، الحلبي الشافعي الصوفي. مولده سنة سبع وتسعين وثمانماية.

وبعد أن ذكر بعض ما تقدم ناقلا له عن الرضي الحنبلي قال : وقد قصر الحنبلي في ترجمته كثيرا ، وكان يقصر من مقامه. وقد ذكر شيخ الإسلام الوالد صاحب الترجمة في فهرست تلامذته وأثنى عليه كثيرا وذكر أنه اجتمع به في رحلته من حلب إلى دمشق وقرأ عليه مدة.

وبعد أن ذكر ما قرأه عليه قال : وكتب له الشيخ الوالد إجازة حافلة بما قرأه وبالإذن بالإفتاء والتدريس. ولما مر شيخ الإسلام بحلب في رحلته إلى الروم سنة ست وثلاثين

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.


أنزله المذكور بزاوية والده وأخلى له أمكنة متعددة وقام في حقه أحسن القيام. وأثنى عليه الشيخ الوالد في الرحلة كثيرا ونظم فيه مقطوعا لطيفا أورده في إجازته فقال :

فهو الشهاب شبيه البدر في شرف

وفي علاه وتكميل وتنوير

والبحر فضلا وإفضالا فيا عجبا

للبحر كيف انتمى حقا إلى البير

٨٧٢ ـ خليل بن أحمد الصيرفي المتوفى سنة ٩٦٤

خليل بن علي بن إبراهيم الصيرفي الأنطاكي ثم الحلبي الحنفي.

قدم حلب كما أخبرني سنة ست ، ثم تعاطى صنعة الصرف واشتهر بها جدا بحسن نقد الدرهم والدينار ، ثم ترك وتفقه على ابن فخر النساء ، وأخذ القراءات عن ابن القيما وأشغل غيره فيها بحسب مقامه ، وتولى خطابة جامع الصروي.

وأكثر المكث بداره على وجه سلم الناس من لسانه ويده إلا في تهاني أحبابه وتعازيهم وعيادة المرضى. ومن هزلياته مع أنه أنطاكي أن جواب المصري على رأس لسانه وجواب الحلبي في بيته وجواب الأنطاكي فيه مهلة إلى ثلاثة أيام.

توفي الشيخ خليل في رمضان سنة أربع وستين ورفع سريره.

٨٧٣ ـ محمد بن يوسف العادلي العباسي المتوفى ٩٦٤

محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الشريف ناصر الدين العباسي الصابوني الحلبي الباحسيتي ، المشهور بالسيد العادلي لصحبته الأمير يونس العادلي (المتقدم ذكره المتوفى سنة ٩٣٦) وقد وقفت على نسب لجده هذا فإذا هو عبد الرحمن بن عيسى بن أحمد ابن محمد بن عبد القادر بن أحمد بن أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور الملقب بالمستنصر بالله العباسي المتوفى سنة ستمائة وأربعين للمستقر بعده في الخلافة ولده المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين ببغداد.

توفي المترجم سنة أربع وستين وتسعمائة.


٨٧٤ ـ هاشم السروجي الطبيب المتوفى سنة ٩٦٤

هاشم بن السيد ناصر الدين السروجي الحلبي الحسيني ، رئيس الطب بالبيمارستان النوري.

توفي سنة أربع وستين وتسعمائة.

وكان حسن المعالجة كثير الرعاية للضعفاء من الفقراء منقادا إلى من يطلبه ، وكان ممتازا بالكحالة.

٨٧٥ ـ يحيى بن يوسف الحمزاوي المتوفى سنة ٩٦٤

يحيى بن يوسف بن قرقماس الجركسي الأصل الحلبي الحنفي ، المشهور بابن الحمزاوي المتقدم ذكر والده.

نشأ في حلب في ديانة وصيانة لا كما يفعله كثير من أبناء الأمراء ، وتفقه على الشمس ابن بلال ، ولم يزل يعينه ببذل الكتب والمال ويسعى له في المناصب بسفارة أخيه الأمير جانم لمزيد اتصاله بخير بك كافل حلب.

وألم بالميقات والتقويم كأبيه وحظي من الكتب بنفائسها.

ولما هدم ركن الدولة الجركسية هاجر إلى مكة المشرفة فحج وجاور بها سنين مكرما فيها للعلماء والفقراء ثم استوطن القسطنطينية بعد قتل أخيه الأمير جانم ووفاة أخيه الأمير إبراهيم بها سنين. ثم استوطن القاهرة إلى أن توفي بها سنة أربع وستين وتسعمائة عن ثلاث وثمانين سنة ، ووقف بها وقفا جليلا ، وشرط في كتاب وقفه أن يكون لمجاوري جامع الأزهر في صبيحة كل يوم مائة وثمانون رغيفا سوى خمسمائة رغيف رتبها أخوه الأمير جانم في عشية كل يوم

ثم لما رأى من نفسه مزيد الضعف في جسده تهيأ لما ينفعه بعد موته وفوته فأعتق عدة جيدة من عبيده البيض والسود ، وكذا من الجواري.

وكان له سكينة ووقار ومأثور آثار ، وناهيك بها من آثار مما يتبعها شكره سوى ما مر ذكره ا ه.


٨٧٦ ـ محمد بن الأميري أغامن المتوفى سنة ٩٦٤

محمد بن الأميري العلائي * علي الحلبي المشهور بأغامن (أو أغامز).

توفي بدمشق سنة أربع وستين وتسعمائة فقيرا بعد أن كان أميرا.

وكانت داره كأبيه بزقاق ابن الحراني بحلب ، ثم آلت إلى الزيني منصور الشهير بابن حطب ، وهي الدار التي اشتملت على القاعة التي اشتهرت بالقصر المطرّف في قديم الزمان ا ه.

الكلام على درب الحرانيين :

قال أبوذر : هو الدرب الآخذ من درب اليهود إلى ناحية سويقة علي ، وبأوله مسجد وبقربه مسجد آخر يعرف بالشيخ محمد الحراني. وقد قرأت فيه الحديث على عبد الواحد الحراني. وفي وسطه حوض ماء وبرأسه في القطيعة حوض آخر ، وفي الدرب الآخذ إلى قصبة باب النصر مسجد قديم له منارة ا ه.

٨٧٧ ـ ناصر الدين المصابني المتوفى ٩٦٤

ناصر الدين بن زين الدين بن محمود الحلبي المصابني ، معلم المصابن ابن معلم المصابن ابن معلم المصابن ، المعروف بابن زين الدين.

كان يداوم على صيام الخميس والإثنين ، ثم صار يصوم الدهر نحو أربعين سنة مع مواظبته على تلاوة القرآن العظيم وسماع بعض المواعيد ، ثم انقطع بداره على طاعته إلى أن توفي سنة أربع وستين وتسعمائة عن سن عالية كأبيه وجده ، فإنه بلغ مائة سنة وسبع سنين كما بلغ أبوه مائة سنة وست عشرة سنة ، وجده مائة سنة ونيّفا وعشرين سنة ، وهو من بديع الاتفاق رحمه‌الله.

__________________

(*) في در الحبب : العلوي.


٨٧٨ ـ عبيد الله بن محمد قاضي حلب المتوفى بعد سنة ٩٦٤

عبيد الله بن محمد بن يعقوب قاضي القضاة جمال الدين الرومي الحنفي ، سبط الوزير أحمد باشا ابن الفناري.

ولي قضاء حلب سنة تسع وعشرين ، وفي سنة إحدى وثلاثين في ذي الحجة منها عقيب صلاة عيد الأضحى بالجامع الكبير أمر أن يتقدم الإمام الحنفي فيصلي بالمحراب الكبير الملاصق للمنبر قبل الشافعي ويصلي الشافعي به من بعده ، فبقي هذا إلى عامنا الذي نحن الآن في آخره عام أربع وستين بعد أن عهدنا المحراب الكبير مختصا بالشافعية والذي عن يمينه وهو الغربي مختصا بالحنفية على وفق ما نقله الزين الشماع في «عيون الأخبار» من تاريخ أبي ذر من أن المحراب الكبير كان مختصا بالأئمة الشافعية والذي عن يمينه بالحنفية ، والمحراب الأصفر الذي عن شماله بالحنابلة ، ومحراب الغربية كان مختصا بالمالكية.

وكان له مدة إقامته بحلب شغف تام بجمع الكتب سمينها وغثها جديدها ورثها ، حتى جمع منه بالجاه ببدل وبدونه ما يناهز تسعة آلاف مجلد ، وجعل فهرستها مجلدا مستقلا يذكر فيه الكتاب ومن ألفه. ولم يعرف مؤلفي عدة من الكتب فكتب أسماءها وفرقها على علماء حلب ليعرفوه بمؤلفيها. وأحضر مجلدي حلب إلى داره لتجديد جلود وترميم أخرى. وفتحت له كنوز الكتب حتى أوعى منها ما أوعى.

وكان مع أصالته فاضلا لا سيما في علم القراءة ، عارفا باللسان العربي والعبراني ، سخيا معطاء ، يسامح في كثير من رسوم المحكمة ، معتقدا في الصوفية ، كثير التردد إلى مجلس الشيخ القدوة علي الكيزواني والتقبيل ليديه من غير حائل * ، لا يتغالى في ملبسه ولكن في ملبس خدمه ، ويميل إلى الرفاهية في مأكله ومشربه ، وإلى العمائر وتحسينها بالنقوش ، حتى أنشأ بمنزله حمّاما لطيفا وسألني في ثمانية أبيات يكتبها على دورها الأعلى ، وكان إنشاؤها سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة فقلت :

السعد وافى لمولى من موالينا

مذ أبدعت هذه الحمّام تكوينا

رغما على أنف قاليه وحاسده

تبّت يداه فقل بالله آمينا

__________________

(*) في الأصل : حامل.


أحسن بها بقعة ماء الحياة بها

وهي النعيم لمن قد حلها حينا

كأنما سفلها قد صيغ من ذهب

والعلو من ورق قد زيد تحسينا

وما بها من مياه فهي طاهرة

كأصل منشئها الزاكي وهل شينا

دام التمتع للمنشي بها أبدا

ما عمر السعد ربعا للمحبينا

فهو الجدير بأن يحيا لذاك وهل

تدري من المنشىء * المذكور تعيينا

قاضي القضاة عبيد الله أنشأها

في عام ألف سوى سبع وستينا

فوقعت هذه الأبيات عنده الموقع الحسن للتورية الحسنة في قولنا تكوينا مع ما في قولنا : كأصل منشئها الزاكي من التلميح إلى ما كان قصه لنا من أن لأبيه أو قال لجد من أجداده نسبة إلى العمرين رضي‌الله‌عنهما أبا وأما ، وأنه كان له مهر فيه فلان العمريني وسماه ، ثم أخرج لنا المهر ومهر به في كاغد حتى ظهر لنا ما كتب فيه.

وكان على سعة مصارفه وكثرة عوارفه مع تعلقه بالكيميا مع الشيخ الكيزواني وغيره ذا دين فاحش ، لكنه لا يبالي بفحشه ولا يعده شيئا بل ولا شيئا مذكورا.

وكان إذا ذم أحدا من المتولين للأوقاف يقول : من تعاطى الأوقاف فقد تحمل أحدا أوقاف.

٨٧٩ ـ إبراهيم بن الناصري محمد المعروف بابن حطط المتوفى سنة ٩٦٥

إبراهيم بن الناصري محمد ، من الأمراء العشرات بحلب الصارمي إبراهيم كافل البلاد البهسناوية ، ابن المقر الأشرف نائب القلعة المنصورة الحلبية ، حطط الدقماقي الحلبي المشهور بابن حطط.

توفي بأنطاكية سنة خمس وستين ، ونقل إلى حلب ودفن بمقابر الصالحين بوصية منه.

وكانت له خيرية ورعاية لأصحابه قولا وفعلا ، وشفقة على مديونيه الفقراء وإبراء كثير منهم عما له في دمتهم ، وعدم تصنع في مشيته ولا تكبر في سكونه وحركته.

وكان جده حطط أولا من الأمراء العشرات بحلب ، ثم نائب القلعة الحلبية ، وكان

__________________

(*) في الأصل : المسوء.


عتيقا للمقر الأشرف الكافلي أبي النصر دقماق بن عبد الله المحمدي كافل المملكة الحلبية المدفون بتربته المشهورة بالدقماقية.

٨٨٠ ـ أحمد بن الأمير يونس بن صاروخان المتوفى سنة ٩٦٥

أحمد بن الأمير يونس ابن الأمير صارم ابن الأمير الكبير علاء الدين علي الحلبي ، المشهور كسلفه بابن صاروخان.

كان حاجبا ثالثا بحلب في آخر الدولة الجركسية كما كان أبوه حاجبا ثالثا من قبله. وكان أميرا هينا لينا سليم الصدر ، خرج عن سمت الإمارة بعد انفصام عقد تلك الدولة ولف على رأسه الميزر وأكب على الخمس في أوقاتها ، والناس سالمون من لسانه ويده ، إلى أن توفاه الله تعالى معمرا سنة خمس وستين.

وكان جده الأعلى أمير حاج بحلب كالأمير جمال الدين يوسف الحمزاوي.

٨٨١ ـ عبد الكريم القلعي المتوفى سنة ٩٦٥

عبد الكريم بن محمد بن محمد بن محمد بن خالد الخالدي المخزومي الحلبي القلعي الحنفي ، إمام الحنفية بالجامع الأموي بحلب.

كان في الدولة الجركسية من سكان القلعة الحلبية أبا عن جد ومن أرباب الأقاطيع بها كذلك ومن أمراء العشروات بها ومن ذوي الثروة والمال مع ما له من الحسب بواسطة ماله من النسب إلى خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه حسبما ذكره هو لي ، قال : ولكني الآن لا أستحضر من بين خالد وخالد رضي‌الله‌عنه من الأجداد.

ولما صارت القلعة بالأمان إلى السلطان سليم بن عثمان أقر أهلها على المكث بها ، ثم آل الأمر إلى أن ساقهم إلا من ندر منهم إلى القسطنطينية ، فكان الشيخ عبد الكريم ممن سيق إليها.

ثم عاد بعد مدة إلى حلب وربّى لرأسه شعرا وجعل عمامته مئزرا وانسلخ عن طور أهل الدنيا وأخذ له حجرة بالجامع الأموي بحلب ، فتوفي الشرف يحيى بن أقجا إمام الحنفية


به سنة ثمان وثلاثين ، فأعطي وظيفته فباشرها مباشرة لم ينقطع فيها أصلا إلا لمانع شرعي ، ولازم حجرته.

ثم تزوج فلازم منزله إلا في وقت الصلاة ، واعتقده كثير من أمراء الطائفة الرومية حتى صارت الفتوحات تنقل إليه.

ثم لما كان طاعون سنة اثنتين وستين مات له عدة بنين فحزن عليهم الحزن الشديد وصار يتشكى من فقدهم المديد ، وكذا من قولنج صار يعتريه وضعف قوة قد ألم به بعد ما كان عنده في زمن شبابه من القوة على لعب الرمح والدبوس وجرّقوس كانت له وزنها ستون رطلا واستعمال الملاعيب الشاقة عن إدمانات سابقة.

وكانت عنده بقية من القوة منذ صار إماما بالجامع المذكور ، فاتفق له أن كان بسطحه عملة أرادوا منذرته ، فطلبوا قوس المنذرة ، فأحضر إلى صحن الجامع المذكور ليرفع إليهم من طريق السطح ، فأخذه بيده وحذفه إليهم فلم يشعروا به إلا وهو عندهم.

ثم كانت وفاته سنة خمس وستين بحلب عن أزيد من ثمانين سنة رحمه‌الله تعالى.

٨٨٢ ـ علي بن يوسف كاتب الحرمين المتوفى سنة ٩٦٥

علي بن يوسف بن مراد الرومي الوديني الحنفي الصوفي الخلوتي ، المعروف بملا علي ، كاتب الحرمين.

ولد كما أخبرني بودين ، بكسر الواو والمهملة ، من بلاد روم إيلي سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ، وكان يعرف فيها بابن مراد لكونه من طائفة بها يعرفون ببني مراد ، وفيها تسلك ولبس الخرقة ودخل الخلوة على أبيه وصار له ذوق لكلام القوم كالمثنوي الذي لمولانا جلال الدين البلخي ثم الرومي وغيره ، وسلسلته في الطريق كما ذكر لي تنتهي إلى خوجه علي أخي خوجه عمر الروشني.

ثم قدم حلب سنة تسع عشرة فحج ودخل القدس والقاهرة ودمشق وتولى بها على البيمارستان النوري. ثم مكث بحلب وصار كاتب الحرمين الشريفين بها من سنة تسع وعشرين وناظرهما البدر النصيبي ومن قبله وبعده. ورسخ في وظيفته هذه دهرا مطولا.


ولما كان المقام الشريف السليماني بحلب سنة إحدى وستين عزم على تركها فأبرم عليها بعض أركان الدولة في أن لا يتركها لرضى أهل الحرمين الشريفين به في مثل هذه المدة المديدة ، فبقيت في يده إلى أن مات في ربيع الأول سنة خمس وستين.

٨٨٣ ـ محمد بن سويدان العبيي المتوفى سنة ٩٦٥

محمد بن محمد بن سويدان الحلبي العبيي لبيعه العبي.

شيخ معمر منور صالح همداني الخرقة ، أدرك السيد عبيد الله التستري الهمداني وتلقن منه الذكر وذكر معه في حلقته كوالده.

قال : وكان الشيخ لا يزال بين يديه ثلاث عصي متساوية في الطول يذكر بهن من أساء الأدب في حلقة الذكر من الذاكرين بالتفات أو كلام. قال : وكانت هيبته فوق هيبة السلاطين. قال : حتى إن والدي حكى للشيخ أن شخصا أضاف الشيخ الكواكبي في بستان له فلو أضفناك في كرم لنا ، فأجابه : إن ذلك ليس من طريقتي ، ولكن أرسل إليك خلفائي ، قال : فأرسلهم فأضافهم والدي في كرمه وحملني شيئا من أحسن العنب ، فجئت به إلى الشيخ فصعدت إلى مكان كان فيه ، فإذا هو في رأس السلم ، فاستولت عليّ هيبته فسقط وعاء العنب من يدي ، فأخذ يسكتني قائلا : يا درويش محمد! يا درويش محمد! يا درويش محمد! هكذا ثلاث مرات.

قال : ومرة دخل تحت عهده رجل يقال له الشيخ إبراهيم بن فستق من أهل حلب ، فخرجنا معه إلى جبل الجوشن بالقرب من العمارة المشهورة بالمعز بن صالح وقد خربت في الدولة العثمانية واستعين بأحجارها في عمارة وقعت بقلعة حلب ، قال : فأفلتت لنا بغلة حرون ، فعجزنا عن إمساكها إلى أن غابت عنا فقال لنا الشيخ إبراهيم وهو حديث عهد بدخوله تحت العهد ليمتحن شيخنا في شأنها ، فأجبناه بالسمع والطاعة ، فقال : خذوا معنا في الذكر ، فذكرنا ساعة وإذا هي واقفة وراءنا غير مضطربة إلى أن قيدناها.

توفي الشيخ محمد بعد أن آخانا سنة خمس وستين وتسعمائة (وسنه نحو قرن) * رحمه‌الله تعالى.

__________________

(*) ما بين قوسين في الأصل : بحوقون ، وفيه نقص وتصحيف.


٨٨٤ ـ محمد بن محمد الدباغ المتوفى سنة ٩٦٦

محمد بن محمد السيد الشريف الحسيني (السني) * ، الصوفي الخرقة الدباغ ، أحد مريدي الشيخ محمد المنيّر بسوق باب النصر.

بلغ من العمر ما يزيد على ماية وعشرين سنة فيما ذكر لي. قال : وممن أدركته السيد علي الهزازي ومعاصره الشيخ شمس الدين الشماع الأيوبي. قال : وأنا الآن أذكر إذ أراق مرة أوعية خمرة كانت لبعض مماليك قانصوه اليحياوي كافل حلب فلم يجسروا على أذاه. قال : وكان أستاذهم يجلس بين يديه زائرا.

ولقد زرت ولله الحمد والمنة صاحب الترجمة فإذا هو مع علو سنه يتعاطى صنعة طمعا منه كما قال في الإنفاق على نفسه من كسب يده مع غنى أولاده ، فسبحان من أعطاه القوة مع علو سنه.

وكانت وفاته سنة ست وستين وتسعمائة.

٨٨٥ ـ محمد بن كلجا الكلزي المتوفى سنة ٩٦٦

محمد بن محمد بن علي بن محمد الحلبي الكلزي الحنفي ، الكواكبي الخرقة ، المشهور بابن كلجا.

شيخ عابد ، ولد بحلب سنة أربع وثمانين وثمانمائة ، ثم استقر والده كيخيا بكلّز فكان معه ، ومات والده فبقي هو بها على نهج حسن إلى أن أنشأ بها زاوية ، ثم اتخذ الزاوية جامعا بإذن السلطان سليمان.

ثم اتهم بأن خرقته أردبيلية لأن شيخه الكواكبي كان أردبيليا ، وهذه خرقة شاه إسماعيل الشيعي صاحب تبريز عدو والد صاحب السلطنة خلد الله ملكه ، فخرج حكم شريف بأن لا يسكن بكلّز خشية أن يكون خارجيا بل بحلب ، فسكنها مدة ، ثم سكت عنه فعاد إلى وطنه من ضيق عطنه ، وبها توفي سنة ست وستين وتسعمائة.

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.


٨٨٦ ـ فاطمة بنت قريمزان المتوفاة سنة ٩٦٦

فاطمة بنت عبد القادر بن محمد بن عثمان ، الشيخة الصالحة العالمة العاملة الحلبية الحنفية الشهيرة ببنت قريمزان ، شيخة الخانقتين العادلية والزجاجية معا.

انتهت إليها رياسة أهل زمانها بحلب لما لها من الخط الجليل والنسخ الكثير لكتب كثيرة ، والعبارة الفصيحة والمثابرة على النصيحة ، والتعفف والتقشف.

ولدت كما رأيت بخط عمها الشهاب أحمد رابع المحرم سنة ثمان وسبعين وثمانمائة ، ثم كانت زوجة الشيخ الفاضل كمال الدين محمد بن جمال الدين بن قل درويش الأردبيلي الشافعي نزيل حلب بالمدرسة الرواحية بحلب الذي قيل إن جده هذا أول من شرح «المفتاح».

قالت : وعن زوجي هذا أخذت العلم ، وهو الذي كان يقول : قد ملكني ربي ستة وثلاثين علما أقرؤها عن ظهر قلبي.

وكانت وفاتها سنة ست وستين وتسعمائة عن تشنج حصل لها منعها من الصلاة إلا بالإيماء ، فلم تزل تصلي به إلى الوفاة ، ودفنت بالعبّارة بعد أن أوصت أن تكون سجادتها معها في القبر موضوعة عليها.

وكان ممن يحترمها مفتي حلب المشهور بإبراهيم دده الآتي ذكره قريبا ، حتى كان هو الساعي لها في مشيخة الخانقاه الزجاجية.

وقد ظفرت ولله الحمد بشهود جنازتها وحملها فيمن حمل ، رحمنا الله تعالى وإياها.

٨٨٧ ـ حمد الله الهروي الخلخالي المتوفى سنة ٩٦٧

حمد الله بن أحمد بن نعمة الله الهروي الأصل الخلخالي الأنصاري الشافعي ، نزيل حلب ، المشهور بشيخ زاده.

ولي بها تدريس العصرونية. ثم لما كان المقام الشريف السليماني السلطاني بحلب سنة ست وخمسين وتولى السيد البدر زين العباد أستاذ حيدر باشا الوزير الرابع تدريسا بالقسطنطينية صار هو أستاذه ، فصحبه إلى الباب العالي وأثرى بسببه ، ونال من مملحة حلب عشرين درهما عثمانيا ، إلى أن عزل من الوزارة ، ففارقه وعاد إلى حلب وبيده كمية


زائدة من الدنيا ، فاستولى عليه من خالطه فحمله على استعمال الكيفية ، فذهبت بهذه الكيفية تلك الكمية فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

وقد بلغني أن أباه كان من مشايخ الإسلام ، وأنه من بيت علم ورياسة.

وأخبرني هو وكتب لي بخطه اللطيف أنه ابن جمال الدين أحمد بن نعمة الله بن جنيد ابن جمال الدين محمد بن أحمد بن مسعود بن عبد الله بن جابر بن منصور بن محمود بن جابر ابن عبد الله الأنصاري المشتهر بشيخ الإسلام الهروي (١) صاحب كتاب «منازل السائرين إلى الحق (المبين) *» وغيره من التأليفات ، وناهيك بجده هذا علما وعملا وسلوكا. ولا عبرة بما وقع من القدح فيه ، فقد ذكر ابن إمام الجوزية في كتابه «مدارج السالكين» أن الشيخ كان شديد الإثبات للأسماء والصفات ، مضادا للجهمية النافين للصفات من كل وجه ، مستوعبا لأحاديث الصفات وآثارها في كتاب له هو كتاب «الفاروق» الذي لم يسبق إلى مثله ، وأن الجهمية سعوا بقتله إلى السلطان مرارا عديدة والله تعالى يعصمه منهم ، وأنهم رموه بالتشبيه والتجسيم على عادة بهت المعتزلة لأهل السنة ، إلى أن قال : ولكن طريقته في السلوك مضادة لطريقته في الأسماء والصفات ، فإنه لا يقدّم على الفناء شيئا ، واستولى عليه ذوق الفناء وشهود الجمع وعظم موقفه عنده ، فتضمن ذلك تعطيلا من العبودية وزان تعطيل الجهمية. قال : ولما اجتمع التعطيلان فيمن اجتمعا له تولد منهما القول بوحدة الوجود المتضمنة لإنكار الصانع وصفاته وعبوديته ، ثم أفاد أن الله عصم الشيخ فأشرف من عقبة الفناء على وادي الاتحاد فلم يسلكه.

وتولى شرح كتاب «منازل السائرين إلى الحق المبين» أشدهم في الاتحاد طريقة وأعظمهم فيه مبالغة وعنادا لأهل الفرق العفيف التلمساني ، ونزّل الجمع الذي يشير إليه الشيخ على جمع الوجود وهو لم يرد به حيث ذكره إلا جمع الشهود. انتهى كلام ابن قيم الجوزية.

توفي صاحب الترجمة بحلب بعد أن تغيرت سحنته ومسخت صورته بما كان يتناوله من المعاجين والكيفيات سنة سبع وستين وتسعمائة ، عفا الله عنا وعنه.

__________________

(١) الذي في كشف الظنون أن منازل السائرين لعبد الله بن محمد بن إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي المتوفى سنة ٤٨١ ، فلم ينطبق على ما ذكر هنا ، ففي انتساب المترجم لشيخ الإسلام الهروي شك والله أعلم.

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.


٨٨٨ ـ عبد الوهاب العرضي المتوفى سنة ٩٦٧

عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن الحسين الشيخ تاج الدين ، العرضي الأصل ، الحلبي الشافعي ، شقيق أقضى القضاة شمس الدين محمد الماضي ذكره.

تفقه على شيخنا البرهان العمادي وغيره. وفي سنة ثمان وعشرين سمع من شيخنا الزين عمر الشماع جميع ثلاثيات البخاري وقرأ عليه جميع جزء أبي الجهم العلاء بن موسى بن عطية الباهلي وأجاز له بسؤاله رواية ما يجوز له روايته بشرطه المعتبر. ثم استجازه الشيخ لينال رواية ما يجوز له روايته بشرطه

المعتبر. ثم استجازه الشيخ لينال رواية الأكابر عن الأصاغر ، فأجابه ، ولكن وقع في المجلس شيء ، وذلك أن شيخنا كان قد ذكر له إذ ذاك أن شيخه العز بن فهد قرأ الجزء المذكور على القاضي جلال الدين عبد الرحمن بن نور الدين على ابن شيخ الإسلام سراج الدين ابن الملقن بسماعه له على البرهان الشامي ، فادعى عند شيخنا أن المراد بالبرهان الشامي البرهان الحلبي ، فقال له الشيخ : لا بل المراد به التنوخي ، فصمم على أن المراد الحلبي ، واستدل على ذلك بأن البرهان الحلبي أخذ عن السراج ابن الملقن ، فيكون حفيده الجلال أخذ عنه ، وبأن أهل مصر يطلقون على من كان من حلب الشامّي مع أن الحق كما قال شيخنا : إن البرهان الشامي هو التنوخي الضرير المتوفى في القرن الثامن.

قال شيخنا في كتابه «عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار» : ولنا تنوخي * آخر اسمه إبراهيم ولقبه برهان الدين ، وهو دمشقي يعرف بابن الغرس ، وهو ممن توفي في القرن التاسع ، وليت المعترض اشتبه عليه البرهان الضرير بهذا المشهور بابن الغرس. انتهى. أي ليته التبس عليه ذاك الذي قيل له الشامي بمن هو دمشقي لا حلبي ، لأنه يقال لمن كان دمشقيا إنه شامي ، فهو أقرب إلى الالتباس به ، لكن التبس عليه بمن هو أبعد عن الالتباس به ، على أن الملازمة التي اعتبرها ممنوعة ، إذ لا يلزم من أحد شخص عن آخر أن يكون الآخر فضلا عن حفيده آخذا عن ذلك الشخص ، على أن من الجائز أن يكون الحفيد ممن أدرك ذلك الشخص ، وأيضا لم يسبق أن تسمية ذلك بالشامي تسمية

__________________

(*) في در الحبب : وإن التنوخي.


صدرت عن المصريين لتكون على مقتضى عرفهم ، فلا وجه لاستدلال الشيخ تاج الدين بكلا شقيه.

ثم إن الشيخ تاج الدين أفتى بحلب ودرس بجامعها الأعظم وأمّ به ، وتزوج ببنت الشرف يحيى ابن الحاضري وأسكنها بالقاعة الملاصقة لدار القرآن العشائرية المشهورة الآن بالحيشية وحظي بالجلوس بها عند شباكها في محل سجادة شيخنا الصوفي التقي أبي بكر الحيشي وبصلاة عند المخاديم عنده في يوم الجمعة ، حتى إن شيخنا المحقق المدقق النظار شهاب الدين أحمد الهندي خرج ذات جمعة من حجرته بالمدرسة الشرفية فصلى بالحيشية ، فسأل شيخنا عن قوله تعالى (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا)* بأنه يلزم من ظاهره أنه لو علم فيهم خيرا لتولوا ، فما وجه الآية؟ فأجابه بما هو منقول من أن لو في صدر الآية على بابها وفي آخرها على أسلوب لو في نحو : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، وأن آخرها مستأنف عما قبله ، فليس المجموع قياسا منتجا ما ذكرت. فقنع بجوابه أو لم يفهمه. ثم بعث للشيخ عبارة البيضاوي التي غلط فيها الشيخ محيي الدين عبد القادر ابن سعيد وقد علمتها في ترجمته لعل شيخنا يغلط فيها أيضا ، فأبى الله إلا أن يكون مجيبا مصيبا. ثم كان ذات يوم بصحن الشرفية والشيخ به ، فزعم في كلام وقع في البين أن الكلام جمع كلمة ، فلم يفرق بين الكلام والكلم الذي هو الكلمة في أحد القولين ، وقال بما لم يقل به أحد ، فكتب شيخنا صورة يستفتي فيها على من يدعي أن الكلام جمع كلمة هل تعد دعواه جهلا أو لا ، ثم كتب بخطه : نعم تعد جهلا ، ثم طفيت ناره عنه.

ووقفت للشيخ تاج الدين على شرح المراح سماه «فتح الفتّاح بقوت الأرواح» وتوّجه بهذه العبارة : قال المفتقر إلى مالك يوم العرض المرتجي فيه سلامة العرض عبد الوهاب ابن إبراهيم العرضي. وهو شرح من نظره يعرفه.

ومما وقع له أنه قدم حلب صاحبنا الشيخ عبد الرحمن البتروني بأن حضر مجالس وعظه ولم يجد له عليه سبيلا ، فلما تحنف تغير عليه وانقطع عنه وصار يحول وجهه عنه. وكانت الخواطر تشكى إليه بشمالية الجامع الأعظم في الطرف الغربي منها ويجري هناك رفع الأصوات بالذكر ، فمنع من الذكر هناك قائلا : إن رفع الصوت يمنع طلبته القارئين عليه

__________________

(*) الأنفال : ٢٣


بالزاوية العشائرية من تفهم العلم ، فما مضت أيام إلا وقد مكن طائفة من المتشبهين بالصوفية من دخول العشائرية ومعهم الدفوف والشبابات ولهم رفع صوت بالذكر في وقت كان الناس فيه رافعي أكفهم بالدعاء وعقب صلاة العصر ، مع أخذ بعض منهم في قضاء ما سبقوا فيه له ، أليس في هذا منع لحضور قلب الداعين والمصلين بها ، فقال : في تجويزه خلاف. ثم عاد إلى حضور مجالسه تحت كرسيه بالجامع الكبير.

ولم يزل الشيخ تاج الدين يفيد فقه الشافعي لطالبيه إلى أن توفي سنة سبع وستين.

٨٨٩ ـ أحمد ابن الشيخ عبدو القصيري المتوفى سنة ٩٦٧

أحمد ابن الشيخ عبدو بن سليمان الكردي القصيري الشافعي الصوفي الخلوتي. جمع بين طريقي أهل الظاهر والباطن ، فتفقه في المنهاج والإرشاد على الرمادي تلميذ الشمس البازلي الحموي ، وأخذ الطريق ولبس الخرقة عن أبيه الماضي ذكره وصار خليفة في حياته بعد أن لم يرض بما كان عليه أبوه ، ثم اهتدى فقدم عليه وقبل يديه نائبا عما فرط منه ، ثم صار بعده يشغل الطلبة في العلوم الظاهرية الشرعية ، ولكن مع عرائه من علوم العربية إلا قليلا ، ويلبس الخرقة والتاج المضرّب دالات من ماله ، ويخلف من اختار فيعطيه عصا من عنده مدهونة بالخضرة ، ويبسط موائده للواردين من قليل وكثير ، ويبرز فوائده للقاصدين من كبير وصغير.

تزوج بأربع نسوة وكبر له أربعة أبناء فزوجهم ، وكثر عنده العيال ، وترادفت عليه الواردون في كل حال ، حتى لم يخل منزله بجبل الأقرع من قريب من خمسين واردا غريبا يأكلون على سماطه ، حتى كان يحتاج في كل يوم إلى قريب من نصف مكوك من الحنطة ، لكنه فاضت عليه الفتوحات وكثرت له الوصايا ممن أشرف على الممات لمزيد اعتقاد أهل القصير فيه بحيث نال منهم فوق ما يكفيه مع أخذه فيهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعاطيه الوعظ فيما بينهم ، حتى اشتهر صلاحه وبعد صيته وكثر خلفاؤه ومريدوه كثرة زائدة.

وكم مضت له قدمات إلى حلب صارت له فيها محافل وعظ وذكر بالجامع الأموي بحلب ، منها قدمته سنة أربع وستين ، فإنه قدمها واجتمع بفرهاد باشا أمير الأمراء بحلب


وطلب منا حكما بمنع ما بأنطاكية من منكر الزنى الفاشي عن الطائفة المشهورة بالقرجية ، فأعطاه وعظمه. وقد صحبناه بحلب مرارا وتبركنا به ، وتوفي سنة ثمان وستين رحمنا الله وإياه.

٨٩٠ ـ أبو بكر بن أحمد العطار الشاعر المتوفى سنة ٩٦٨

أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم بن عبد الله الحلبي الجلّومي الشافعي العطّار.

ولي خطابة الجامع المقابل لحمّام الخواجا.

وكان ناثرا شاعرا حسن الخط ملما بشيء من العروض ، جمع له ديوانا يتضمن شعره وسماه «نسمة الصبا من نظم الصبا» ، ثم زاد عليه أشعارا أخرى وسمى المجموع «شراب الفتوح وغذاء الروح» وجعل في طيه مقاطيع سماها «عطر العروس وأنس النفوس».

ومن شعره ما أنشده في أول ديوانه :

يا ذا الذي أبصر ما

أبرزته من فكرتي

إذا وجدت خللا

بالله فاغفر زلتي

وكن رحيما منصفا

وادع لنا بتوبة

وله مواليا :

يا من لعقد اصطباري في الملا حلّوا

وفي حميم الحشا والقلب قد حلّوا

بالله مرّ الجفا بالملتقى حلّوا

ولا تكونوا كمن قتل الفتى حلّوا

وله دو بيت :

مولاي بحق خدك النعماني

بالخال بما في فيك * من عقيان

باللحظ بقامة كغصن البان

عطفا بمتيم كئيب عاني

وله في جهول كان لا يفهم ما يقول :

إني أعاتب نفسي

في عرض نظمي ونثري

__________________

(*) لعل الصواب : بما بفيك.


على بليد جهول

لا زال يتعب سري

أقول هذا وهذا

يقول لي لست أدري

أقرّض الشعر تبرا

بل بالجواهر يزري

فتلقه فيّ ساه

لم يدر ما صاغ فكري

كأنه تيس أعمى

أو لا فقل دب برّي

وربما راح يهجو

نظمي ويهضم قدري

فيضمحل فؤادي

منه وينحل صبري

فيا سراة المعاني

في كل حي وقطر

لا تركنوا لجهول

لو كان في السحب يسري

ولا حسود غبي

غمر من الخير عرّي

يصيّر التبر تبنا

قصدا ليهمل أمري

فالحق داء عضال

للّحم والعظم يفري

وليس يلفى دواء

من علة الجهل يبري

وله ما رأى في المنام أنه ينشده :

إذا ما العبد أصبح في نعيم

فيحمد ربه في كل حين

ويسأله المعونة كل وقت

ويشكره على مر السنين

وأنشد لنفسه سنة إحدى وثلاثين :

أسرب تمشّين في صحبهنّه

أضاعوا شذاهن من طيبهنّه

تملكن قلبي وأنحلن جسمي

وكلّمن لبي بألحاظهنّه

تراهن يغزنّ قلب المعنى

ويظهرن صدا ويجلبن فتنه

ويخطرن تيها يهيّمن صبا

ويهززن عجبا لأعطافهنّه

ويمشين هونا فيذهبن عقلي

ويسحبن في الترب أذيالهنّه

تجدهن يبرزن كالبدر حسنا

ويعدلن (قلبي) * بأترابهنه

كساهنّ ربى ثياب التعالي

وقد زاد فضلا لأوصافهنّه

إذا ما رآهن حاوي المعاني

ونادى من الحور؟ نادينهنه **

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

(**) ناديت : هنه.


هكذا كان أنشدني بخفض سرب وتشديد نون يغزنّ بعد ضم الزاي ، مع أن الصحيح يغزون بالواو وتخفيف النون ، وإن كان في اللفظ يشاكل جمع الذكور ، وأسربا بالنصب ، لأن العرب تؤثر نصب النكرة المقصودة على ضمها إذا كانت موصوفة كما في الحديث : يا عظيما يرجى لكل عظيم ، ولهذا نصبنا إذ قلنا في مطلع قصيدة :

يا حبيبا مال عمن رابه لحظ الجمالي

كن طبيبا حيث حال الصب أضحى كالمحال

فصار بيتنا هذا بيتا لا يضم فيه الحبيب

توفي بحلب سنة ثمان وستين وتسعمائة.

٨٩١ ـ محمد بن علي الطباخ المتوفى سنة ٩٦٨

محمد بن علي بن أحمد الشيخ شمس الدين الحلبي ، المعروف بابن الطباخ.

ولد سنة اثنتين وتسعين بالتاء قبل السين وثمانمائة ، وأخذ في التجارة سفرا وحضرا بحانوت له بسوق العطّارين. وعني بسماع الحديث ، وأجاز له الشيخ كمال الدين الطويل وغيره. وبقي بخدمة شيخ الشيوخ ابن الشيخ أبي ذر المحدث عشر سنين وزيادة ، وأخذ عنه الشفا والشمائل ومنظومة العراقي في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك. وحضر تحديث شيخنا البرهان العمادي. وخالط ابن السلطان الغوري مدة مكثه بحلب ، وصحب كثيرا من المخاديم ، وحفظ تواريخ من أدركه من المتقدمين والمتأخرين لعلو سنه ، وصار يحضر مع شيخ الشيوخ عند بعض أركان الدولة فيربيه بأنه قرأ عليه كتاب كذا وكتاب كذا ثم وثم ، فيقول الشيخ شمس الدين بعد القيام عن المجلس : يا مولانا الشيخ ، أنت ما ربيتني وإنما ربيت نفسك ، فيتبسم له.

توفي سنة ثمان وستين وتسعمائة ا ه.

أقول : وهو من جملة الشهود في وقفية محمد باشا دوقه كين واقف جامع العادلية.

٨٩٢ ـ القاضي أبو الجود العزازي المتوفى سنة ٩٦٨

محمد بن بدر الدين محمد بن شمس الدين العزازي الشافعي المشهور بالقاضي ، أبو


الجود بن الشكي.

ناب في القضاء بعزاز مرارا وبحلب مرة ، وولي الخطابة بجامع عزاز وصار له بها التكريم والإعزاز.

وكتب بخطه لنفسه ولغيره عدة من الكتب المبسوطة بحيث كاد يخرج من طوق البشر ، فكتب البخاري وشرحه لابن حجر ، وناهيك بطوله ، ونحو خمس نسخ من القاموس والأنوار ، وعدة من شرح البهجة وشرح الروض في كتب أخرى لا تحصى كثرة. وأما القرآن العظيم فقد كتب منه نحو خمسين مصحفا ، كل ذلك مع اشتغاله بنيابة القضاء وغيرها.

ووقف البخاري على طلبة أعزاز قبل وفاته سنة ثمان وستين وتسعمائة.

٨٩٣ ـ علي بن عبد الرحمن الدليواتي المتوفى سنة ٩٦٨

علي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الشيخ علاء الدين الحلبي المقشاتي ، الصوفي الخرقة ، القادري الأردبيلي ، حفيد الشيخ أبي بكر الدليواتي صاحب المزار المشهور بحلب.

أدرك جده هذه ولازم حلقة الذكر مع أتباعه بشرقية الجامع الكبير بحلب كأبيه سنين عديدة ، فلما عمر اعتراه ما يقرب من السلس ، فانقطع عنها وانقطع أتباعه.

ولم يزل على ديانته ونورانيته يتعاطى علم المقشّات بحانوته والناس سالمون من يده ولسانه ، وربما صحبناه تبركا به كما كان جدنا الجمالي الحنبلي يصحب جده. توفي سنة ثمان وستين.

٨٩٤ ـ أبو بكر بن أحمد النقّاش المتوفى سنة ٩٧٠

أبو بكر بن أحمد النقّاش الحلبي الجلّومي.

شيخ مسن خدم أساتذة النقاشين من الأعاجم واستفاد منهم ، ومهر في نقوش البيوت وكتابة الطرازات على طريق القاطع والمقطوع ، وفي نقوش ما كان لكفّال حلب وغيرهم من الرماح والسروج بالذهب واللازورد مع معرفة طريقة حله ، وفي صنعة التركاش وضعا


ونقشا وصنعة اللوح الذي يكتب فيه وصنائع أخرى تتم عشرين صنعة.

وكانت له سلعة * عظمى تناهز بطيخة بالقرب من كتفه ، سببها أنه طلب إلى آمد للنقش في عمارة جددت بها ، فرافقه نقاش مشرقي شيعي ، فشعر باسمه فضربه على ظهره بخشبة ضربا مبرحا أمرضه مدة وأدى إلى أن كانت له هذه السلعة.

ولما أسن هيأ له كفنا وقبرا وسألني في بيتين ينقشهما عليه فقلت :

أبو بكر النقاش أحوج سائل

إلى رحمة تقصيه عن موجب الوزر

فيا أيها المجتاز نحو ضريحه

تمهل قليلا داعيا لأبي بكر

ثم مات سنة سبعين بعد تجرده في بيته لتلاوة القرآن.

٨٩٥ ـ يحيى بن محمد البرهان المتوفى سنة ٩٧٠

يحيى بن محمد بن عبد الرحمن الشيخ شرف الدين الحلبي المعروف بابن البرهان ، صاحبنا.

من بيت كبير قديم بحلب كانوا يعرفون ببيت البرهان. قيل إنه اجتمع منهم أربعون رجلا من الكبراء المتعممين في عصر واحد ، وإنهم لم يسموا ببيت البرهان إلا لغلبتهم بالعلم على غيرهم حتى كأنه برهان لهم على غيرهم ، لا لأن من أجدادهم من كان يسمى بالبرهان.

صحبنا الشيخ شرف الدين في التفقه على الزين بن فخر النسا ، وانفرد هو بالتفقه على الشمس بن بلال وقراءة شيء من المنطق عليه.

ومضى إلى القاهرة تاجرا فاشتغل بها أيضا على الشهاب أحمد بن الصايغ الحنفي في الفقه ، وسمع بقراءة غيره عليه في الطب. قال : وكان أمة في الطب يقرأ عليه فيه المسلمون ثم النصارى ثم اليهود. قال : وإنما تعلقت بالطب لاحتراق فاحش حصل لي ، فعالجت نفسي منه بنفسي ، إلا أنه عرض للشيخ شرف الدين بعد ذلك أن استولت عليه السودا ، فبذل ما كان عنده من المال في علاجها وصار من فقراء المسلمين يحسن إليه بعض أفراد الأجواد وهو مجاور بحجازية الجامع الأموي بحلب. وعاد بعض من لا ديانة له يعبث به

__________________

(*) السلعة : زيادة في البدن كالغدة.


حتى يسيء خلقه فيضحك عليه ولا يخشى الله تعالى فيه. وصار في آخر أمره من ذوي العاهات البدنية إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى سنة ٩٧٠.

٨٩٦ ـ محمد بن علي التروسي المتوفى سنة ٩٧٠

محمد بن علي بن الحسين بن تاج الدين الكيلاني التروسي الشافعي الصوفي ، أحد مريدي الشيخ محمد الخراساني النجمي.

شيخ معمر ، مكث بديار العرب لا سيما بحلب مدة تزيد على نصف قرن ولزم شيخه هذا إلى أن كانت وفاته بحلب ، فخرج في جنازته بمجرد الإزار وهو يضرب صدره بحجرين في يديه لا يعلم ما يفعل.

وصحب سيدي علوان الحموي وأدرك شيخه وصحبه أعني به السيد الشريف علي ابن ميمون. قال : وكان أشد تمكينا من شيخه. وصحب آخرا شيخنا عبد اللطيف الجامي وشيخنا قطب الدين عيسى الصفوي وسافر معه إلى بغداد لزيارة من بها من الرجال ذوي الأحوال.

ولم يزل الشيخ محمد يتعاطى عمل التروس العجيبة الثمينة ويعلم الأطفال أحيانا قراءة القرآن والكتابة ، وهو على سمت الصالحين ، حسن العمامة لطيف الملبس ، يستحضر شيئا من طب الأبدان كما يستحضر من طب القلوب ، إلى أن علت سنة ونحف بدنه ، فترك تعليم الأطفال وغيره.

وكان يذكر أن شيخه الخراساني يقول له : ستموت في شعبان ، قال : أنا لا أموت إلا أن يدخل شعبان آخر فربما مت فيه ، ثم اتفق أن مات في شعبان سنة سبعين وتسعماية ودفن في مقبرة شيخه الخراساني خارج باب الفرج بحلب رحمه‌الله تعالى.

٨٩٧ ـ محمد بن علي ابن الملا المتوفى سنة ٩٧١

محمد (١) بن علي ابن شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد المشهور بمنلا حاج الحصكفي

__________________

(١) محمد هذا هو أبو أحمد بن الملا الآتية ترجمته في أول القرن الآتي إن شاء الله تعالى ، وجده الشهاب أحمد. له ـ ـ ترجمة حافلة في «در الحبب» ، وقد كان من كبار العلماء. توفي وهو قاض بحصن كيفا سنة ٨٩٥. ويظهر أن عليا والد المترجم هو أول من قطن حلب من بني الملا.


الأصل ثم الحلبي الشافعي المشهور بمنلا محمد الحصني وبالملا.

ولد سنة إحدى وتسعين بتقديم التاء على السين وثمانمائة ، واشتغل في الفقه على منلا محمد البدليسي الشافعي تلميذ جده ، وفي النحو على صاحب التصنيف فيه منلا محمد الكردي المعروف بابن القلعي والشمس بن هلال ، وفي المنطق على الشمس بن بلال ، وفي علم البلاغة علينا إذ أهّلنا فتطوّل وذاكرنا في «المطوّل».

وباشر مناصب عديدة كتولية الجامع الأموي بحلب ونظر الأوقاف والحرمين الشريفين بها * مع تولية التكية السليمية بدمشق ونظر مقام السلطان إبراهيم بن أدهم نفعنا الله ببركاته ، وكذا باشر نظر المشهدين بالعراق وهما مشهد أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي‌الله‌عنهما ، ثم عزل عنه سنة أربع وستين وتسعماية.

توفي في جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعين وتسعمائة.

أقول : ذكر وفاته في هذا التاريخ هو من تصرف النساخ أو كتب ذلك بعض الفضلاء على الهامش ثم أدرجه بعض النساخ ، لأن الرضي الحنبلي توفي كما سيأتي في جمادى الأولى من هذه السنة.

٨٩٨ ـ معروف بن أحمد الضعيّف المتوفى سنة ٩٧١

معروف بن أحمد القاضي الفاضل شرف الدين ، الصهيوني المولد الدمشقي الدار ، الشافعي ، المعروف بابن الضعيّف ، بالتصغير.

لازم في تحصيل العلم التقي البلاطنسي وغيره ، وصار فقيها أصوليا محدثا مؤرخا أديبا شاعرا جامعا لفنون شتى حسن المحاضرة لطيف المذاكرة عارفا بصنعة التوريق واقفا فيها على قدم التحقيق منكشف له المروط عن محاسن فن الشروط.

وولي قضاء حارم من توابع المملكة الحلبية ، ثم قضاء صيدا من توابع المملكة الطرابلسية.

__________________

(*) في الأصل : ونظر أوقاف الحرمين الشريفين بها.


وقد قدم حلب سنة تسع وأربعين وتسعمائة متوليا قضاءها.

توفي سنة تسعمائة وإحدى وسبعين رحمنا الله تعالى وإياه.

٨٩٩ ـ عبد الباقي القرصلي قاضي حلب المتوفى سنة ٩٧١

عبد الباقي ابن العلامة المحقق المؤلف الصوفي علاء الدين علي ، القرصلي الأصل ، القسطنطيني المولد ، الحنفي.

صحبناه بحلب وابن أم ولد قاضيها * وآخيناه ، ثم ولي قضاءها سنة إحدى وخمسين ، ثم دخلها في السنة التي تليها في يوم الأحد مستهلها وجلس للحكم بها ثاني يوم منها ، ونفذ حكمه في حلب بتوريث ذوي الأرحام من الشافعية من مورثهم مخالفا للحكم السلطاني الذي أخرجه القاضي علاء الدين المشهور بقرا قاضي الماضي ذكره بمنع توريثهم وضبط ما كان لهم أن لو ورثوا لبيت المال.

ولم يزل يتعاطى الأحكام الشرعية من غير ترجمان ** لقدح وقع في ترجمان المحكمة وتحاشيه لآخر لئلا يقدح فيه أيضا. وصار في منصبه متواضعا مطرحا.

وخرج الناس مرة للاستسقاء فخرج معهم ثلاثة أيام متوالية إلى أمكنة نائية ماشيا بثياب البذلة.

واهتم بترميم مقام الخليل صلوات الله وسلامه عليه خارج باب المقام وتنمية أوقافه واعتاد الخروج إليه كل جمعة في صدر النهار. ولام خطيب الجامع الخسروي إذ وقف بالدرجة العليا من المنبر في أول خطبة وقعت فيه وأمره بالنزول عنها لما أنها محل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل إن خطيب الجامع الخسروي الأعظم بحلب وهو الشهاب أحمد الأنطاكي يفعل ذلك ، فلامه ، فبلغه فأرسل نقلا من شرح منهاج الشافعية للدميري يرجح الوقوف بذلك المكان ، وذلك حيث قال : كان منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح ، ويستحب أن يقف على التي تليها كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن قال : فإن قيل روي أن أبا بكر نزل عن موقف رسول الله

__________________

(*) هو قاضي القضاة عبد العزيز بن زين العابدين المشهور بابن أم ولد.

(**) العبارة في در الحبب : ولم يتعاط الأحكام الشرعية إلا من غير ترجمان.


صلى‌الله‌عليه‌وسلم درجة ، وعمر درجة أخرى ، وعثمان درجة أخرى ، ثم وقف عليّ على موقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : كل منهم له قصد صحيح ، وليس فعل بعضهم حجة على بعض ، والمختار موافقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بلغه هذا النقل قال : إن الخندكار لا يرضى بهذا ، فلم يلتفت الخطباء إلا للنقل.

وصار إذا كتب اسمه كتب : عبد الباقي بن علي العربي ، لأنه كان يعرف بابن ملا عرب لاشتهار أبيه في المملكة الرومية بملا عرب ، وذلك حين دخلها في دولة السلطان محمد بن عثمان وصحبه في فتح القسطنطينية ، واشتهر فيها بالفضائل بعد أن درس بأنطاكية قبل أن يدور عذاره ببعض مدارسها. ووضع تفسيرا على تبارك وما بعدها إلى آخر القرآن على طريق الصوفية لأنه كان صوفيا ، أخذ التصوف كما أخبرني ولده هذا عن الشيخ علاء الدين الروشني أخي الشيخ عمر الروشني عن خوجه يحيى الروشني. قال : وكان والدي تلميذا لملا خسرو الذي اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من قضاء العسكر والإفتاء وغيرهما ، وهو تلميذ ملا حيدر وهو تلميذ سعد الدين التفتازاني.

ثم ولي قضاء مكة ونفذ فيها الحكم السليماني بمنع شرب قهوة البن بمكة والمدينة وسائر البلاد.

ثم ولي قضاء مصر فبلغني أنه تغير طوره وصار يطلب الرشى بفمه حتى جمع فأوعى ، ثم عاد إلى قضاء مكة ، ثم توفي بالقسطنطينية سنة إحدى وسبعين ا ه.

وترجمه في العقد المنظوم فقال بعد أن ذكر تقلباته في منصب القضاء : ثم قلد قضاء مكة ثانيا ، وقد تيسر لي الحج وهو قاض بها وذلك سنة تسع وستين وتسعمائة ، ثم عزل بهذه السنة ، فلما عاد إلى وطنه مات من الطاعون سنة إحدى وسبعين وتسعمائة وله من العمر ست وسبعون سنة ، ولم يعقب ولدا فأوصى بثلث ماله لوجوه الخيرات ، فبنوا به بعض الحجرات يسكنها فقراء الملازمين. وكان رحمه‌الله من أعلام العلماء وأكابر الفضلاء ، صاحب أيد في العلوم (إلى أن قال) :

وكان في غاية الميل للرياسة والجاه ، وقد بذل في تحصيل قضاء العسكر أموالا عظيمة. وقد بنى في زمن قضائه بمدينة بروسة على ماء حار حمّاما عاليا من غرائب الدنيا يحصل منه مال عظيم في كل سنة ووهبه للوزير الكبير رستم باشا. ويذكره الناس بالظلمية ، وحكى


بعض الثقات أني رأيته يوما في باب الوزير المزبور وعليه أثر غم شديد ، فسألته عنه فتأوه ثم قال : قد بذلت لهذا الوزير ثلاثين ألف دينار وقد دخلت عليه اليوم وما نظر إلي نظر القبول والاختيار.

٩٠٠ ـ خليل بن أحمد الشيخ غرس الدين المتوفى سنة ٩٧١

خليل بن أحمد الشيخ غرس الدين ابن الشيخ شهاب الدين ، الحمصي الأصل الحلبي المولد ، ثم القسطنطيني الشافعي الشهير بابن النقيب.

كان والده نقيب الفقراء عند جدي الجمال الحنبلي ثم عند عمي الكمال الشافعي ، إذ كانت مشيخة الشيوخ بيدهما ، ثم كان في خدمة البدر حسن السيوفي ، فلما ولد له الشيخ غرس الدين ونشأ قرأ عليه بطلب أبيه شيئا من مقدمات العربية ، فلم ينجح بل صار إلى وادي اللهو والبطالة مدة ذات إطالة ، إلى أن منّ الله تعالى عليه بالتوفيق ، فاستقبح ما كان عليه مما صار إليه ، فتوجه إلى القاهرة ماشيا من غير زاد ، فاشتغل بها في الحساب والميقات والهيئة والوفق والموسيقى والطب على الشهاب أحمد بن عبد الغفار وعلى الهنيدي المصري وغيرهما.

ثم عاد إلى حلب فقرأ بها في شيء من العلوم على الشمس السفيري ، وفي «شرح الشمسية» للقطب على المحيوي ابن سعيد ، وصار يورد عليه شيئا من الحاشية الشريفية المرة بعد المرة ويقول له : الأمر هكذا ، فلا يقول له الشيخ في الجواب أكثر من نعم ، فقلب الشيخ غرس الدين العبارة وأوردها عليه مقلوبة فقال له : هل الأمر هكذا ، فقال أيضا : نعم ، ثم لاح له أن دس عليه هذا اللفظ المقلوب لما ظهر من بعض الحاضرين من التبسم من جهة جوابه فطرده.

ثم إن الشيخ غرس الدين غرس شجرة الإفادة بشرقية جامع حلب الأعظم فأشغل الطلبة فيها في الحساب والميقات وغيرهما مدة مديدة ، ثم توجه إلى الباب العالي فاحتظى به بعض كتاب الديوان السلطاني فأثرى منه ، فتسرى واستولد واغتنى واقتنى الكتب النفيسة على كثرة فيها ، وكذا الآلات الميقاتية الحسنة ، وأذهب في الكيميا من المال ما شاء الله تعالى.


وسئل مرارا في أن يكون له علوفة بالباب العالي فأبى فقوي فيه الاعتقاد ، وعالج بالطب بعض الأكابر فبرىء فاشتهر به فجعل معيشته منه.

ونظم ونثر وألف وصنف ، فوضع رسالة على الحمد لله ورسالة في الحساب وأخرى في الهيئة ، وشرح قصيدة مفتي الباب العالي شيخ الإسلام أبي السعود التي مطلعها :

أبعد سليمي مطلب ومرام

وغير هواها لوعة وغرام

وجمع في خواص الحروف شيئا ، وادعى حل الزايرجة السبتية التي خفيت أسرارها إلا على بعض الأفراد كما أشرنا إلى ذلك في قولنا :

فقدناك يوم السبت ترتع في الربا

وطالع سعدي غارب مال عن سمتي

وصرت خفيا فيه عن نور ناظري

كأنك من أسرار زايرجة السبتي

وبلغني أنه صار يتمنع عن تعليم بعض الكتب العلمية إلا بفتوح.

ومن نظمه ما مدح به المنظومة المذكورة ورفعه إلى ناظمها ملتزما فيه حرف السين في غالب كلماتها فقال :

سطور لها حسن عن الشمس أسفرت

سباني سنّ باسم وسلام

فعن يوسف سارت وفي الحسن أسندت

سقتني سلافا والكؤوس حسام

فسهل لها سفك النفوس وقد سعى

يساعد فيه سالف وسهام

فسرعان ما سلّت سيوفا نواعسا

فسيرا فسيرا فالسيوف سطام

سليمى فلا أسلو فسفكا أو اسمحي

فأسلو وفيّ * أرسم ووسام

فيا حسرتي ما للسهاد مساعدي

وما سيرتي إلا أسى وسقام

أسير عبوسا والسفيه يسرّ بي

ونفسي في سوق الكساد تسام

أنست بكاسات من السوء أسرعت

ومالي إلا حسرة وسمام

فيا سيدا ساقت إليه سوابق

سوابقه سارت وهنّ سئام

سقاني السخاسحّا وسار لسيبه

سحائب تسنيم سعدت سجام

سخيت بنفسي أن سمحت بسومها

بأنس وتسليم عليك سلام

__________________

(*) في در الحبب وفينا.


توفي رحمه‌الله تعالى بدار السلطنة قسطنطينية المحمية في سنة إحدى وسبعين رحمه‌الله.

وترجمه الغزي في «كواكبه» فقال ما خلاصته : هو خليل بن أحمد بن خليل بن أحمد بن شجاع الحمصي الأصل الحلبي المولد والمنشأ.

ولد عاشر المحرم سنة تسعمائة ، وحفظ ألفية ابن مالك وكافية ابن الحاجب وفرائض الرحبي والياسمينية في الجبر والمقابلة ، واشتغل في الميقات على الشيخ محمد الحبال ثم على البدر السيوفي في العربية ، فقرأ الأجرومية وتصريف العزي ومتن الجغميني في الهيئة ، ثم قرأ على الشيخ علي السرميني في الفرائض والحساب ، ثم فتر عن الطلب قليلا.

ثم تحركت همته للطلب فسافر إلى القاهرة ماشيا من غير زاد في سنة أربع وعشرين وتسعمائة فاشتغل بها في الفرائض والحساب والميقات والهندسة والموسيقى والطب على الشيخ أحمد بن عبد الغفار ، وعلى الشيخ شمس الدين محمد الهنيدي المصري الفلكي في الفلك.

ثم عاد إلى حلب بعد سنتين فقرأ على ابن السفيري الشافية لابن الحاجب ، وعلى ابن سعيد الشمسية في المنطق وشرحها للقطب ، وسمع عليه الطوالع ، وعلى منلا موسى وعلا منلا زاده في الحكمة.

وقدم دمشق سنة ثمان وعشرين فتصدر بالجامع الأموي وانتفع الناس به. ثم سافر إلى الروم ، ودخل دمشق ثانيا سنة أربع وخمسين ، ثم سافر منها إلى مصر ، ثم رجع إلى إسلامبول سنة خمس وستين وتقرب من بعض كتاب الديوان فأثرى منه وعرض عليه أن يكون له علوفة مرارا فأبى ، فقوي فيه الاعتقاد. وكان له يد طولى في الحكمة والهندسة والطب واشتهر به. (ثم قال) : واستمر بإسلامبول موفر الجاه حتى توفي بها سنة تسع وستين أو سنة سبعين وتسعمائة. وقال ابن الحنبلي في سنة إحدى وسبعين (وهو الصواب لما سيأتي).

وترجمه العلامة طاشكبري في «العقد المنظوم» حيث قال : ومنهم العالم البارع الأوحد الشيخ غرس الدين أحمد. نشأ رحمه‌الله في مدينة حلب ورغب في العلوم وتشبث بكل سبب ، وقرأ المختصرات على الشيخ حسن السيوفي ، وحصل طرفا صالحا من فنون الأدب. ثم قصد إلى التحصيل التام فارتحل ماشيا إلى دمشق الشام وأخذ فيها الطب من مقدم الألباء


ورئيس الأطباء العالم الذكي المشتهر بابن المكي.

ثم انتقل من تلك العامرة ماشيا إلى القاهرة واشتغل فيها على العالم الجليل المقدار الشيخ المشتهر بابن عبد الغفار وأخذ منه الحكميات وعلوم الرياضيات وسائر العلوم العقلية قاطبة بالدروس الراتبة. وأخذ الحديث وسائر علوم الدين عن القاضي زكريا شيخ المفسرين فأصبح وهو لناصية العلوم آخذ وحكمه في ممالك الفنون نافذ. وتنقلت به الأحوال وتأخرت عنه الأمثال ، وفاق على الأقران وسار بذكره الركبان.

ولما كانت فضائله ظاهرة عند سلطان القاهرة أحب رؤيته واستدعاه ورفع منزلته وأكرم مثواه ، ثم جعله معلما لابنه ومربيا لغصنه. ولما وقع بين مخدومه وبين سلطان الروم من المنافسة حضر الوقعة المعروفة من جانب الجراكسة ، فلما التقى الجمعان وتراءت الفئتان وتقدم الأبطال وتهمهم الرجال وهجم ليوث الأروام وأسود الآجام على ذئاب الأعادي وثعالب البوادي وكتبوا بأقلام السمر أحاديث الجرح والسقام ، وأوصلوا إليهم أخبار الموت برسل السهام ، وأرسلوا عليهم شواظا من نار ، وأحلوا أكثرهم دار البوار ، وأخذ الصواعق والبروق في اللمعان والشروق ، وأمطر عليهم السماء الحديد والحجارة ، وضيق عليهم هذه الدارة ، وسالت بدمائهم الأباطح ، وشبعت من لحومهم الجوارح ، لم يثبت الجراكسة إلا ساعة من النهار ، ثم بدّلوا الفرار من القرار ، وجعلوا أمام عسكر الروم يتواثبون ، وهم من ورائهم بهذا القول يتخاطبون.

جعلنا ظهور القوم في الحرب أوجها

وقمنا بها ثغرا وعينا وحاجبا

وقتل الغوري في المعركة ولم يعرف له قاتل ، وأسر ابنه والمولى المرحوم. ولما جيء بهما إلى السلطان سليم خان عفا عنهما وقابل جرمهما بالإحسان.

ثم لما عاد إلى ديار الروم بعد فراغه من أمر مصر استصحب ابن الغوري والمولى المرحوم ، فاستوطن قسطنطينية وشرع في إشاعة المعارف وإذاعة النوادر واللطائف ، واشتغل عليه كثير من السادة وفازوا منه بالاستفادة ، وقد تشرفت برؤيته وتبركت بصحبته.

توفي رحمه‌الله سنة إحدى وسبعين وتسعمائة.


وكان المرحوم رأسا في جميع العلوم مستجمعا لشروط الفضائل ، وجامعا لعلوم الأواخر والأوائل ، يرغم في الرياضيات أنوف الرؤوس ، ويحاكي في الطب أبقراط وجالينوس ، وكان صاحب فنون غريبة قادرا على أفاعيل عجيبة ، ماهرا في وضع الآلات النجومية والهندسية ، كالربع والأسطرلاب وسائر الأسباب. وكان رحمه‌الله مظنة علم الكاف وعلم الزايرجة بلا خلاف. وكان مشهورا بالمحل في التعليم والإفادة لأرباب الطلب والاستفادة ، ولم يقبل مدة عمره وظيفة السلطان ، وقطع حبال الأماني من أرباب العزة بقدر الإمكان ، وكان يكتسب بطبابته ويقتات بهدايا تلامذته ، وكان يلبس لباسا خشنا وعمامته صغيرة ، ويقنع من القوت بالنزر القليل والأمور اليسيرة.

وكان رحمه‌الله ينظم الأبيات أعذب من ماء الفرات. وقال في قافية الطاء مادحا لبعض الفضلاء وأظنه المولى صالح بن جلال عند كونه قاضيا بحلب :

دعائي فلا يحصيه عدّ ولا ضبط

وشكري لكم دوم فما كان ينحطّ

وأثني جميلا ثم أهدي تحية

لطيب شذاها يطلب العود والقسط

فباح بها مسك وفاح بعطرها

وفي وجنة للورد منها أتى قسط

إلى حضرة أحيا الأنام بعلمها

وبان بها حكم الشريعة والشرط

فلا مطلب إلا ذراها نعم ولا

رحال لذي عزم إلى غيرها تخطو

لقد جد أقوام وضاهوا بمثلها

فدون أمانيها القتادة والخرط

فكم من كبير قد جبرت لحاله

وفكيت مأسورا أضر به الربط

وكم من أياد قد أناخت لكاهل

وما كادت الأقدام من حملها تخطو

سبقت إلى الفضل السراة فما لهم

من الجهد إلا دون عزمك قد حطّوا

علوت إلى أن جئت بالشهب منطقا

فسارت به الأمثال والعرب والقبط

جمعت لأنواع العلوم فلا نرى

لمثلك فردا في الفنون له ضبط

لعمري من يوم أرى فيه للعدا

كمودا وقد صاروا وقد ساءهم سخط

جواد له جود تراه على الرضى

وإلا تمنى أن فارسه سقط

فتلك أمانيهم وأحلام كاذب

فهل ثم عقبان يروّعها البسط

سلوا علماء الخافقين وفتية

بسمر القنا في الجانبين لهم شرط

فهل كانت الأنعام تأوي لبقعة

أقام بها ليث وفيها له سبط


فيا حبذا يوم وفيه تظلهم

سيوف لكم بيض على روسهم رقط

ترود حياض الموت فيه نفوسهم

ونيران نقع من زفير لها لغط

وتهدي المنايا للنفوس ببأسهم

وأقلام سمر من أسود بها نشط

فديتكم روحي لقد جئت بالخطا

فحلم بدا منكم فحاشاه بي يسطو

فأين صوابي والخطا كان جبلتي

وأقدام ما أبغي عليه لقد حطوا

فسامح لمن أخطا وصنه تكرما

فأبكار فكري للخطائين قد خطّوا

جزاك إله العرش عني عطية

ويأتيك أفراح ويعقبها الغبط

ولما وصلت إليه القصيدة الميمية التي أنشأها المفتي أبو السعود التي أولها :

أبعد سليمى مطلب ومرام

وغير هواها لوعة وغرام

صنع خطبة سنية ونصع عدة أبيات سينية ، وأرسلها إلى المولى المزبور ، ثم ذكر الخطبة والأبيات ثم قال : ذكر تصانيفه : تذكرة الكتاب في علم الحساب ، ومتن وشرح في علم الفرائض ، حاشية على فلكيات شرح المواقف ، حاشية على شرح تفسير البيضاوي حوى جزئين من القرآن الكريم ، كتاب في علم الزايرجة ، وقد شرح القصيدة الميمية للمفتي أبي السعود أتى به إلى المولى المزبور فاستقبله وعانقه وأكرمه غاية الإكرام ، فلما نظر إلى ما كتبه استحسنه وأعطاه بعضا من الأقمشة والعمائم وغيرها روح الله روحه.

٩٠١ ـ رضي الدين محمد بن إبراهيم بن يوسف الحنبلي

(صاحب «در الحبب» المتوفى سنة ٩٧١)

محمد بن إبراهيم بن يوسف بن عبد الرحمن ، الشيخ الإمام العلامة المحقق المدقق الفهامة أبو عبد الله رضي الدين المعروف بابن الحنبلي الحلبي الحنفي.

أخذ عن الخناجري والبرهان وعن أبيه وآخرين ، وقد استوفى مشايخه في تاريخه. وحج سنة أربع وخمسين وتسعمائة. ودخل دمشق.

وكان بارعا مفننا ، انتفع عليه جماعة من الأفاضل كشيخنا شيخ الإسلام محمود البيلوني ، وشيخ الإسلام بدمشق شمس الدين بن المنقار ، والعلامة البارع المحقق سيدي


أحمد بن المنلا ، واجتمع به شيخنا شيخ الإسلام القاضي محب الدين وأخذ عنه ، وأخبرني عنه أنه كان إذا عرض له آية يستشهد بها في تصانيفه جاء إلى تلميذه الشيخ محمد البيلوني ، وقد فضل في حياته ، وكان يحفظ القرآن العظيم ، فيجيء ابن الحنبلي إلى محل درسه بمدرسته بحلب ويسأله عن الآية فيكتبها من حفظه.

وله مؤلفات في عدة فنون منها حاشية على شرح تصريف العزي للتفتازاني ، وشرح على النزهة في الحساب ، والكنز المظهر في حل المضمر ، ومخايل الملاحة في مسائل الفلاحة ، وشرح المقلتين في مسح القبلتين ، وكنز من حاجي وعمّي في الأحاجي والمعمّى ، ودر الحبب في تاريخ حلب. ونظم الشعر ، إلا أن شعره ليس بجيد لا يخفى ما فيه من التكلف على من له أدنى ذوق ، فمنه قوله مضمنا :

بالله إن نشوات شمطاء الهوى

نشأت فكن للناس أعظم ناس

متغزلا في هالك بجماله

بل فاتك بقوامه المياس

واشرب مدامة حب حب وجهه

كاس ودع نشوات خمر الطاس

وإذا جلست إلى المدام وشربها

فاجعل حديثك كله في الكاس

وقال وقد سمع عليه قوم منهم ابن الملا كتاب الشمائل للترمذي :

يا من لمضطرم الأوا

م حديثه المروي ريّ

أروي شمائلك العظا

م لرفقة حضروا لديّ

علّي أنال شفاعة

تسدى لدى العقبى إليّ

وإذا شفعت لذنبه

ولأنت لم تنعت بليّ

حاشا شمائلك اللطي

فة أن ترى عونا عليّ

توفي يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وتسعمائة ، ودفن بمقابر الصالحين بالقرب من قبر الشيخ الزاهد محمد الخاتوني ، بين قبريهما نحو عشرة أذرع. وورد الخبر بموته إلى دمشق في آخر جمادى المذكور ا ه.

هذا ما ترجمه به العلامة الغزي في «الكواكب السائرة» ، ولعمري إنه لم يوفه ما يستحقه من الترجمة بالنظر لما تبين لي من جلالة فضله وغزارة علمه وكثرة مؤلفاته ، لذا تتبعت من تلقى عنها العلم وما قيل فيه ، واستقصيت ماله من المؤلفات ، ومنها تستدل


على عظيم فضله وأنه كان في عصره عالم الشهباء بلا مدافع والمشار إليه فيها.

كانت ولادته سنة ٩٠٨ كما وجدته في فهرست المكتبة السلطانية المصرية ، وقرأ القرآن على الشيخ أحمد بن الحسين الباكزي. قال في ترجمة شيخه عبد الرحمن بن فخر النساء :

تفقهت أنا ولله الحمد على شيخنا صاحب الترجمة قراءة وسمعت عليه سماع دراية جانبا من شرح الشافية للجاربردي ، وجانبا من شرح الكافية للهندي بقراءة البرهان الصيرفي الأريحاوي ، وقطعة من صدر الشريعة بقراءة الشمس محمد بن طاس بصتي.

وقال في ترجمة الشهاب أحمد الهندي الدلّوي نزيل حلب : وكنت أول من أخذ في القراءة عليه ، فقرأت في «المطوّل» وحواشيه للشريف الجرجاني.

وذكر في ترجمة محمد بن شعبان الديروطي أنه قرأ عليه بحلب سنة إحدى وأربعين وتسعمائة «شرح النخبه» (في علم مصطلح الحديث) لمؤلفها الحافظ ابن حجر ، وأذن لي أن أقرئه لمن شئت وأن أروي عنه صحيح البخاري ومسلم وما يجوز لي عنه روايته بشرطه. وقرظ لي على بعض مؤلفاتي. وقرأ النزهة في الحساب على الشيخ محمد الخناجري ، وقرأ البلاغة على الشيخ موسى السرسولي نزيل حلب ، وقرأ متن الجغميني (في علم الهيئة) على ولي الدين بن الحسين الشرواني نزيل حلب أيضا. قال : وهو أول أستاذ لي في هذا الفن.

وقال في ترجمة البرهان إبراهيم العمادي : أخذت عنه عدة فنون إلى أن أجاز لي جميع ما يجوز له وعنه روايته إجازة مفصلة بخطه سنة ٩٤٨.

وقال في ترجمة عبد اللطيف الجامي نزيل حلب : وقد سألته في تلقين الذكر فلقنني إياه بالتكية الخسروية وصافحني وأجاز لي ولله الحمد أن ألقن وأصافح ، وكتب لي دستور العمل ولكن بالفارسية لاشتغاله عن التعريب بأهبة السفر ، فاستأذنته في تعريبه نظما ونثرا بحسب ما فيه من منظوم ومنثور له وغيره ولو باستعانة بالغير في معرفة معانيه الإفرادية دون تبديل مبانيه التركيبية ، فأذن فعربت وعرضت التعريب عليه فاستملحه وصار الناس يكتبون منه نسخا ولله المنة.

وقال الشهاب الخفاجي في الريحانة في حقه : والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق ، وهو في ميدان الفضل وحلبة الشهباء سابق وأي سابق ، وعصره كان مسك ختامها وسحر


لياليها وأصيل أيامها ، نورت حدائقها بغوادي شمائله ، وتحلّى معصم مجدها بسوار فضائله درس فيها وأفتى ، وطمى بحر فضائله فترك الحساد يضربون الماء حتى. وله نظم كما انتظمت دراري الزهر ، ونثر كما نثرت يد الشمال على وجنات الرياض لآلىء القطر. وله تصانيف جمة تزينت بها البلاد ، وأمست تمائمها منوطة بأجياد الأجواد ، فهو نسيج وحده ، وآثاره في حلل الفضل طراز مذهب ، وأسد في مجادلة العلماء لا يذكر عنده ثعلب. وله محاضرات لو ذكرت للراغب لسعى لها راغبا ، أو سحبان ظل لذيل الخجل على وجه البسيطة ساحبا. فمما هبت به صبا أسحاره ، وغردت به على كراسي الربى حمائم أخباره قوله

يلومونني في ترك ضم قوامه

ولا إذن للنساك في الضم واللثم

نعم بيننا جنسية الود والصفا

ولكنني لم ألفها علة الضمّ

وقوله :

يقولون لي والشيب لاح بمفرقي

عناقك عذراء الحمى غير جائز

أعن نار خديها التي هي منيتي

أميل واستغني ببرد العجائز

وله :

قوامك يا بدر النحاة كأنه

قنا أو قوام السرو أو ألف الوصل

وعينك فاقت كل عين بكحلها

فما أنت إلا زيد مسألة الكحل

وقوله :

لكم همم نلتم برمي شباكها

مرامكم لما قطعتم بها البيدا

وعدتم إلى المضنى بما نلتم وقد

توليتم صدا فكان لكم صيدا

وقوله :

كنا سمعنا بأوصاف لكم كملت

فسرّنا ما سمعناه وأحيانا

من قبل رؤيتكم نلنا محبتكم

(والأذن تعشق قبل العين أحيانا)

وهو لبشار وأوله (يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة).

ولصاحب الترجمة أيضا رباعية :


طرفاك كلاهما ضعيف وعليل

مثلي وأنا العليل من أجل عليل

من ضعفي قد صرفت ميلي لهما

والجنس إلى الجنس كما قيل يميل

وقال * في ترجمة صالح جلبي قاضي حلب سنة ٩٥١ : وكان ممن منع شرب القهوة بحلب على الوجه المحرم من الدور المراعى في شرب الخمرة وغيره ، وكنت عنده يوم منع ذلك فسأل : أتشربونها بالدور؟ فقلت له : نعم والدور كما شاع باطل ، وأنشدته من نظمي :

وقهوة البن أضحى

بها الحمى غير عاطل

لكنهم أشربوها

بالدور والدور باطل

ومن شعره وقد ذكره في ترجمة ابن آق شمس الدين قوله :

عودونا بنومة السحر

بعد ما أزمعوا على السفر

علّ طيفا لهم يمر بنا

في محياه دارة القمر

ثم لما حلا المنام لنا

واعتقلنا مرارة السهر

غاب عنا لطيف طيفهم

واعترتنا هواجس الفكر

ثم قالوا ألم يلم بكم

قلت كلا أخانني نظري

كيف أنظاركم وحجتنا

في حلاها كساطع الغرر

أن يكن طيفكم ألم بنا

فاسألوا طيفكم عن الخبر

ومن شعره وقد ذكره في ترجمة شمس الدين الحصني نزيل حلب :

العاشق من نواك قد كل متى

يحظى بجميل

والباصرتان منك قد كلمتا

من عاد قتيل

بالوعد بقتلتي هما قد وفتا

فالخطب جليل

كم تفتن في هواك شيخا وفتى

والصبر قليل

ومنه ما ذكره في ترجمة القاضي الشيخ جابر المتوفى سنة ٩٤٢ في مراتب الشعراء حيث قال :

مراتب نظّام القوافي تتابعت

وكل فصيح منهم فهو مشكور

__________________

(*) أي الرضيّ الحنبلي في كتابه «در الحبب».


فأشعرهم خنذيذهم ثم مفلق

فشاعرهم ثم الشويعر شعرور

وبالجملة فقد ضمن تاريخه الكثير من نظمه ، ومعظمه متوسط وتجد فيه الرديء ، وجيده قليل. والخلاصة أن شعره لم يخرج عن كونه من شعر العلماء وقل فيهم المبرز في هذا الفن البالغ المرتبة العليا في الإجادة.

وكتب الشيخ إبراهيم بن أحمد بن الملا على هامش نسخة من در الحبب التي هي بخطه عند ترجمة الشيخ إبراهيم العمادي شيخ المترجم ما نصه :

أقول : انظر إلى أثر الحب في الله الحقيقي كيف جذب العلامة المؤرخ وساقته القدرة الإلهية إلى أن دفن بجوار شيخه المترجم أعاد الله علينا من بركات علومهما في جوار ولي الله الشيخ محمد الخاتوني.

وذكر الشيخ محمد العرضي في مجموعته في ترجمة الشهاب أحمد بن الملا تلميذ المترجم :

ولما انتقل أستاذه إلى جوار ربه وأجاب داعي نحبه وقامت عليه نواعي الحكم وانثلم حد القلم كتب على قبره من قوله :

قبر شيخ الإسلام مفتي البرايا

الإمام الرضيّ ذي الآداب

حلّ في قبره فقلت عجيبا

بحر علم واراه كف تراب

ذكر مؤلفاته :

(١) «در الحبب في تاريخ حلب» ، وقد تكلمت عليه في المقدمة وقلت ثمة إن فيه (٦٣٣) ترجمة. وقد التقطت منه نيفا وثلاثمائة ترجمة من أعيان الشهباء أدرجت في هذا التاريخ وأهملت نحو ثلاثين ترجمة مما لا طائل فيها ، وما بقي وذلك نحو ثلاثمائة ترجمة هي تراجم من نزلها من الحمويين والحمصيين والطرابلسيين والدمشقيين والحجازيين والروميين والعراقيين ، فهو على هذا تاريخ عام من سنة ٨٦٣ إلى ٩٧١ ، بل ترجم بعض من تأخرت وفاتهم عنه وامتدت حياة بعضهم إلى ما بعد الألف بقليل. وقد انتقد العلامة الغزي صاحب «الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة» هذا التاريخ حيث قال في خطبة كتابه : ثم إني وقفت بعد ذلك على تاريخ العلامة رضي الدين ابن الحنبلي الحلبي المسمى بدر الحبب في تاريخ أعيان حلب ، وهو كتاب في مجلد ضخم ثخين مشتمل على الغث والسمين والتافه


والثمين ، وربما ذكر فيه بعض التراجم بما لا تعلق له بالمرام وليس له بفن التاريخ التئام ، وربما أكمل الأسماء لئلا يخلو الحرف من التراجم بنقّاش أو تاجر أو مغن أو مطنبر أو عاشق أو معمار أو غيرهم من العوام ، فانتخبت منه تراجم بعض أعيان كتابه وضممتها إلى كتابي وأعرضت عما لم يقع عليه اختياري مما أتى به وليس في بابه حسبما قضى به تمييزي وانتخابي ، لأني وضعت هذا الكتاب على أسلوب أهل الحديث والإتقان ، ولم أرسمه كيف اتفق ولا على أي وضع كان ا ه.

أقول : إن التاريخ لم يخل من شيء من ذلك ، لكن لا بالمقدار الذي ذكره الغزي رحمه‌الله ، فإنه قد جاوز الحد وارتكب شطط المبالغة في الأمر ، فإن الكثير من هذه التراجم التي لا يأبه لها هي من الأهمية بمكان ، خصوصا في هذا العصر الذي توجهت فيه الرغبات لمعرفة أرباب الصناعات والمتفننين فيها ، وقد أشرت إلى ذلك في المقدمة في الكلام على هذا التاريخ.

(٢) رسالة مسماة «بفتح العين عن الاسم غير أو عين» ، ذكرها المحبي في خلاصة الأثر في ترجمة الشيخ علي الغزي القاهري. قال ناقلا عن تاريخ العرضي الكبير : قدم حلب تاجرا في سنة تسع وستين وتسعمائة وسأل شيخنا ابن الحنبلي عن مسألة أن الاسم غير المسمى أو عينه فكتب شيخنا في ذلك رسالته المسماة (فتح العين عن الاسم غير أو عين).

ثم إن المترجم استشكل عليه أشياء أبدع فيها فأجاب عنها شيخنا ، وسمعت الرسالة المذكورة على مؤلفها شيخنا بقراءة الشهاب أحمد بن المنلا ا ه.

(٣) «الآثار الرفيعة في مآثر بني ربيعة».

(٤) «أحكام الأشعار».

(٥) «أنموذج العلوم لذوي البصائر والفهوم».

(٦) «تعليقة على تفسير البيضاوي».

(٧) «الزبد والضرب في تاريخ حلب» ، وقد أتينا على ما فيه.

(٨) «تذكرة من نسي بالوسط الهندسي». منه نسخة في مكتبة المجلس البلدي بالإسكندرية.

(٩) «روية الظامي في تبرئة الجامي». رسالة في الرد على روح الله القزويني في تشنيعه


على الجامي.

(١٠) «تلميظ الشهد لأهل الحل والعقد». وهو شرح على إحدى وعشرين بيتا كان نظمها على لسان شيخه عبد اللطيف الجامي.

(١١) «حدائق الأزهار ومصابيح أنوار الأنوار».

(١٢) «الحدائق الأنسية في كشف حقائق الأندلسية» في العروض. وهو موجود بخطه في المكتبة الحلوية بحلب.

(١٣) «شرح حكم ابن عطاء الله الإسكندري».

(١٤) «حور الخيام وعذراء ذوي الهيام في رؤية خير الأنام في اليقظة والمنام».

(١٥) «ديوان» نظمه جمعه تلميذه الشيخ أحمد بن الملا. منه نسخة في السلطانية بمصر ضمن مجموع رقمه ٨٥.

(١٦) «ذخيرة الممات في القول بتلقين من مات».

(١٧) «ظل العريش في منع حل البنج والحشيش».

(١٨) «رفع الحجاب عن قواعد الحساب». منه نسخة عند الشيخ نبيه الهبراوي بحلب ، وهو شرح النزهة في الحساب. ومنه نسخة في الأحمدية وأخرى في بيت سلطان بحلب.

(١٩) «سهل * الألحاظ في وهم الألفاظ».

(٢٠) «الشراب النيلي في ولاية الجيلي».

(٢١) «شرح المقلتين في حكم القلتين».

(٢٢) «عدة الحاسب وعمدة المحاسب».

(٢٣) «عرف الوردي في نصرة الشيخ الهندي».

(٢٤) «مستوجبة التشريف بتوضيح شرح التصريف».

(٢٥) «التعريف على تغليط التطريف». وهي حاشية على حاشية محمد بن العرضي المعروف بابن هلال المسماة بالتطريف.

__________________

(*) هكذا في الأصل : ولعل الصواب : سهم. وفي هدية العارفين : سهام.


(٢٦) «ربط الشوارد في حل الشواهد». وهي شرح شواهد شرح السعد على العزي في الصرف. وهو موجود بخطه في المكتبة الحلوية. ومنه نسخة في اليسوعية «بيروت» وعند الشيخ مصطفى كزيبره بحلب.

(٢٧) «ذبالة السراج على رسالة السراج». وهي حاشية على فرائض السجاوندي.

(٢٨) «الفرع الأثيث في الحديث».

(٢٩) «شرح ميمية المولى أبي السعود العمادي التي مطلعها [أبعد سليمى مطلب ومرام] سماه «المنثور العودي على النظام المسعودي».

(٣٠) «كحل العيون النجل في حل مسألة الكحل». رسالة مفصلة.

(٣١) «الكنز المظهر في استخراج المضمر».

(٣٢) «كنز من حاجى وعمّى في الأحاجي والمعمّى». وشرحها بشرح سماه «غمز العين إلى كنز العين». يوجد في بيت سلطان بحلب وفي المكتبة السلطانية بمصر وعند سعادة مرعي باشا الملاح حاكم حلب وهي بخط المؤلف محررة سنة ٩٦٥ في ثلاث كراريس.

(٣٣) «مرتع الظبا ومربع ذوي الصبا». منه نسخة في المكتبة السلطانية بمصر.

(٣٤) «مصباح الدجا في حرف الرجا».

(٣٥) «مطلوب الخاني في السفر السليماني».

(٣٦) «مغني الحبيب عن مغني اللبيب».

(٣٧) «الفوائد السرية في شرح المقدمة الجزرية» في علم التجويد. وهو شرح مفصل.

(٣٨) «أنوار الملك على شرح المنار لابن ملك» في الأصول. وهو حاشية عليه ، وهي مطبوعة في الآستانة مع حاشيتي الرهاوي وزيرك زاده على الشرح المذكور. يوجد منها نسخة خطية في الأحمدية بحلب والخالدية بالقدس.

(٣٩) «نجوم المريد ورجوم المريد».


(٤٠) «حاشية على وقاية الرواية في مسائل الهداية» في الفقه الحنفي.

(٤١) «حاشية على شرح اللب في علم الأصول».

(٤٢) «تحفة الأفاضل في صناعة الفاضل» في الإنشاء. رسالة بخطه في المكتبة الحلوية.

(٤٣) «حاشية على لباب العقد في فقه الشافعية سماها «شرح اللباب».

(٤٤) «تأهيل من خطب ترتيب الصحابة في الخطب».

(٤٥) «رسالة في عشرين بحثا في عشرين علما». ألفها برسم السلطان سليمان.

(٤٦) «القول القاسم للقاسمي قاسم».

(٤٧) «قفو الأثر في صفو علوم الأثر» رسالة في مصطلح الحديث ، وهي مطبوعة.

(٤٨) «مخايل الملاحة في مسائل الفلاحة».

(٤٩) «الروائح العودية في المدائح المسعودية». في السلطانية بمصر في مجموع رقمه ٨٥.

(٥٠) «رسالة تشتمل على جملة ما يهواه السامع لقصد تشنيف المسامع». له في السلطانية بمصر ضمن المجموع المتقدم.

(٥١) «الجواري المنشآت في الجواري المنشآت». ضمن هذا المجموع.

(٥٢) «روضة الأرواح» على السراجية في الفرائض في المكتبة العمومية في الآستانة.

(٥٣) «شرح إيساغوجي في المنطق». وهو على تصوراته.

(٥٤) «عدة الحاسب وعمدة المحاسب».

(٥٥) «الدرر الساطعة في الأدوية القاطعة». منه نسخة في برلين وفي المتحف البريطاني.

هذا ما وقفت عليه من مؤلفاته في كشف الظنون وفي تاريخه در الحبب وفهرست المكتبة السلطانية بمصر وغيرها.


وقد ذكر أثناء التراجم أسباب تأليفه بعض مؤلفاته ، وصاحب الكشف تعرض لذلك أيضا وفي نقل ذلك طول ، فاكتفيت بهذا المقدار.

هذا ما وقفت عليه من مؤلفات هذا العالم الجليل ، ولعل له في الزوايا خبايا يعثر عليها بتتبع المكاتب ، فقد كان رحمه‌الله كثير التحرير والتحبير كما رأيت وبالله التوفيق.

٩٠٢ ـ إبراهيم بن بخشي دده خليفة المتوفى سنة ٩٧٣

إبراهيم بن بخشي بالموحدة ابن إبراهيم الصونسي الحنفي ، المشهور بدده خليفة.

أول من درس بمدرسة خسرو باشا بحلب ، وأول من أفتى بحلب من الروميين ، صحبناه فإذا هو مفنن ذو حفظ مفرط حتى ترجمه عبد الباقي العربي وهو قاضيها بأنه انفرد في المملكة الرومية بذلك مع غلبة الرطوبة على أهلها واستيلاء النسيان عليهم بواسطتها. وذكر هو عن نفسه أنه كان بحيث لو توجه إلى حفظ التلويح في شهر لحفظه ، إلا أنه واظب على صوم داود عليه الصلاة والسلام ثماني سنين فاختل دماغه فقل حفظه.

ولم يزل بحلب على جد في المطالعة وديانة في الفتوى إلى أن ولي منصب الإفتاء بأزنيق من بلاد الروم. وكان يقول : لو أني أعطيت بقدر هذا البيت ياقوتا ما حلت عن الشرع قدر شبر.

ووقفت له على مؤلفات ، منها رسالة في تحريم اللواط ، وأخرى في بيان أقسام أموال بيت المال وأحكامها ومصارفها ألفها باسم السلطان مصطفى بن سليمان بن عثمان وجمع فيها فأوعى ، وأخرى في تحريم الحشيش والبنج انتخبت منها رسالة لطيفة وشرحتها شرحا سميته «بظل العريش في منع حل البنج والحشيش» ، فاطلع عليه فوقع عنده موقعا عظيما وأخذ به نسخة.

وطالما تتبع الفوائد الجديدة والمؤلفات الغريبة المفيدة لا سيما الفقهية فاقتناها. وطلب مني يوما كتابا من كتب الزاهدي فقلت له : أيفتي منها وهو معتزلي العقيدة؟ قال : نعم لأنه حنفي الفروع ، وكذا كل معتزلي ، وأنا أحسن الظن به وبغيره من العلماء مع أن قنيته مختصرة من كتاب كذا لبعض الحنفية وليس فيها مما قاله هو من نفسه إلا قليل عزاه إلى نفسه.


هذا ومع ديانته كانت تغلب عليه كثرة القهقهة في المجلس الواحد ، وله الخلاعة الزائدة مع جواريه. قيل : وكان في الأصل دباغا فمنّ عليه ذو الفضل بالفضل وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ا ه.

وترجمه في العقد المنظوم بما خلاصته أنه تعانى صنعة الدباغة في بلدة أماسية حتى أناف عن عشرين ، فاتفق أنه جاء إليه مفت من علماء ذلك العصر فأضافه أعيان البلدة في بعض الحدائق ، فلما باشروا أمر الطعام طلبوا من يجمع لهم الحطب والمترجم قائم على زي الدباغين الجهلة ، فقال المفتي مشيرا إليه : ليذهب إليه هذا الجاهل ، ففهم ازدراءه لشأنه وعلم أنه ليس ذلك إلا من شائبة الجهل ، فذهب إلى جمع الحطب وفي نفسه تأثر عظيم من ازدرائه وتحقيره ، فلما بعد عنهم نزل على ماء هنالك وتوضأ وصلى وتضرع إلى الله تعالى بالخلاص من ربقة الجهل واللحوق بمعاشر الفضل ، ثم عاد إلى المجلس فقبل يد المفتي وقال : أريد ترك الصناعة والدخول في طلب العلم ، فقال المفتي : أبعد هذا تطلب العلم وهو لا يحصل إلى بجهد جهيد وعهد مديد ، فتضرع إليه وأبرم عليه في القبول ، فقبله المفتي ، فلما أصبح باع ما في حانوته واشترى مصحفا وذهب إلى باب المفتي وبدأ في القراءة وقام في الخدمة إلى أن حصل مباني العلوم ، وتأهل فصار معيد الدرس في مدرسة السلطان مراد بمدينة بروسة ، ثم مدرسة بايزيد باشا فيها أيضا ، ثم مدرسة آغا الكبير بأماسية ، ثم مدرسة القاضي ، ثم مدرسة السلطان محمد بمرزيغون ، ثم مدرسة أمير الأمراء خسرو بمدينة آمد ، ثم مدرسة خسرو باشا بمدينة حلب ، وهو أول مدرس بها ، وفوض إليه الفتوى بهذه الديار. ثم نقل إلى مدرسة سليمان باشا بقصبة أزنيق ، ثم نصب مفتيا بديار ربيعة ، ثم تقاعد عن المنصب وعين له كل يوم ستون درهما. وتوفي رحمه‌الله سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة.

وكان عالما فاضلا مجتهدا في اقتناء العلوم آية في الحفظ والإحاطة له اليد الطولى في الفقه والتفسير ، وكتب حاشية على شرح التفتازاني في الصرف ا ه.

٩٠٣ ـ عبد الرحمن البتروني المتوفى سنة ٩٧٧

عبد الرحمن ابن الشيخ الفقيه المفتي نجم الدين محمد ابن الشيخ المقري عبد السلام


ابن أحمد الشيخ زين الدين البتروني نسبة إلى البترون ، ثم الطرابلسي الشافعي الصوفي ، المشهور بابن الغرامي.

قرأ على سيدي علوان الحموي غاية الاختصار والأجرومية وأجاز له كلتيهما ، وتردد إليه مرات في بسط أربع سنوات واستفاد منه عدة استفادات ، ثم خلفه ولده سيدي محمد ، وحفظ ألفية ابن مالك وحلها على بعض النحاة ، واشتغل في التجويد والقراءات والأصولين ، وطالع كتب التفسير والحديث والوعظ ، وعني بخدمة كتب القوم. ثم نظم تصريف الزنجاني في أرجوزة وشرح الجزرية في أرجوزة أخرى ، وسمّط تائية ابن حبيب الصفدي تسميطا جعله لها بمثابة الشرح مستمدا فيه من شرحها لسيدي علوان الحموي.

وبلغني أنه أنشد منها قوله من بيت منها : [وخذ للرفع خفضات] فقيل له إن في بعض النسخ : [وخذ للخفض رفعات] فقال : لم أعرف إلا النسخة الأولى ، وسكت عن القدح في هذه النسخة بتقدير وجودها لاحتمالها التأويل إما بأن المراد وخذ لدفع الخفض ما يوجب الرفعات كما تقول خذ للعدو سلاحا أي لدفعه ، أو بأن المراد وخذ لهذا الداء هذا الدواء كما تقول خذ للقبض مسهلا.

وقدم حلب سنة أربع وستين لدين عظيم علاه فتلقاه بعض أهل الخير وأنزله بالكيزوانية بعد أن كان بزاوية الشيخ عبد الكريم ، واجتمع بالشيخ الزين فيها كأنه وافد عليه لأنه من أهل الطريق مثله ، فلم يكرم نزله وإنما وبخه بأنك لم تتهجد الليلة بالصلاة عندنا ، فأجابه بأنه إن لم يكن ذلك فقد ختمت ختمة كاملة من حفظي في تلك الليلة ويومها.

ثم لما نزل بالكيزوانية صمم العزم والنية على عمل مجالس وعظ بالجامع الأعظم بحلب ، ففعل فهرع الناس إليه من أقطار حلب وشاع بها ذكره وبعد صيته وحضر مجالسه الرجال والنساء ، وتفنن في مجالسه وجال في ميدان الكلام كأنه عين فارسه لما له من حافظة كأنها في السعة لافظة ، وأبى الله تعالى إذن أن يناله الشين من الزين ، غير أن ابن مسلم المغربي سمع أنه أفاد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حي في قبره ، فرام تكفيره ، فبلغه أنه استند في ذلك إلى رسالة للجلال السيوطي ، فبلغ من أمره أن اختفى بحجرة من حجرات الجامع الكبير بجوار كرسي الشيخ زين الدين وسمع وعظه ، ثم خرج خفية وسكت عنه خيفة.

ثم كانت وفاة الشيخ عبد الكريم إمام الحنفية بالجامع الكبير ، فعرض إلي بالسعي له في الإمامة فقلت : هي إمامة الحنفية ، فأقدم على أن يقلد الإمام الأعظم ويؤم بهذا الجامع


الأعظم ، فأرسلت إلى القاضي من يخبره بما وقع ، فاجاب بأنه إن تحنّف عندك ثم عندي فالمنصب له ، ففعل وأنا معه عنده ، فعرض له وسر بانتقاله إلى المذهب ، فأخذ بعض علماء الشافعية في الغض منه واسترسل بعض عوامهم في القدح فيه بما هو براء عنه ، فثبت ونبت وكثر الذب عنه وصبر على الأذى ولم ينتصر لنفسه على من آذى ، فهرع إلى مجلسه من هرع بعد أن انقطع عنه من انقطع ، وشكيت له الخواطر ، وانتشق عرف أجوبته العواطر.

واستسقى مرة فخطب الخطبة البليغة البديعة وصلى فسقي الناس وقوي فيه الاعتقاد ، ومع ذلك لم يسلم من الانتقاد ، لما أنه كان قد ذكر لنا في الخطبة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب الاستصحاء بعد طلب الاستسقاء ، فذكر صاحبنا ملا مصلح الدين اللاري أنه أخطأ لأن السين للطلب ولا معنى لطلب الطلب ، فقلنا مجاز على سبيل التجريد بأن استعمل الاستصحاء والاستسقاء مجردين عن معنى الطلب بقرينة امتناع طلب الطلب عقلا ، فقال : ما المحوج إلى ارتكابه؟ فقلنا : اقتضى مقام الخطبة الإطناب وكون طلب الاستصحاء بعد طلب الاستسقاء منطقيا بالقياس إلى طلب الصحو بعد طلب السقي ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للخطيب الذي قال : «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى» بئس خطيب القوم أنت إذ لم تقل (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ)* مع كونه مقام الإطناب بخلاف قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ...) ولم يقل مما سوى الله ورسوله إذ لم يكن في مقام الإطناب إذ ذاك على قول ذكروه في التطبيق بين الحديثين.

وما كان انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه بأعجب من انتقال الإمام الطحاوي إليه ، ولا من انتقال العلامة عز الدين بن عبد السلام الحسيني القيلوي ثم البغدادي ، وهو حنبلي إلى مذهب الشافعي رضي‌الله‌عنه ا ه.

وكتب الشيخ إبراهيم بن الملا على هامش نسخة در الحبب المحررة بخطه أنه توفي سنة سبع وسبعين وتسعمائة.

وأرخ الشيخ عبد الكريم المصري نزيل حلب يومئذ وفاته بقوله :

__________________

(*) النساء : ١٤.


تحيّر الساكت واللافظ

إذ مات شيخ حسن حافظ

فليتعظ بالموت من بعده

فموته تاريخه (واعظ)

أقول : ومن آثاره تخميس المنفرجة المشهورة [اشتدي أزمة تنفرجي] وقد أوردها الشيخ محمد المواهبي الحلبي في مجموعته بتمامها ومطلعها :

تب من دنبك وابتهج

ما باب الله بذي رتج

قل والأزمات إليك تجي

اشتدي أزمة تنفرجي

قد آذن ليلك بالبلج

خبرت الناس وهم درج

فخيارهم قوم درجوا

صبروا شكروا لم ينزعجوا

وظلام الليل له سرج

حتى يغشاه أبو السرج

ما في الدنيا يقضى الوطر

ولذائذها عندي خطر

فاهجر قوما فيهم بطر

وسحاب الخير لها مطر

فإذا جاء الإبّان تجي

وهكذا على هذا المنوال.

٩٠٤ ـ محمد بن مسلّم المغربي المتوفى سنة ٩٧٧

محمد بن مسلّم ، بتشديد اللام وفتحها ، المغربي التونسي الحصيني ، بضم المهملة الأولى وفتح الثانية ، نسبة إلى بني حصين طائفة من عرب المغرب ، المالكي.

قدم حلب فقرأ عليه النحو جماعة منهم البرهان الصيرفي الأريحاوي ، وكان قد أنزله في منزله وأكرم مثواه ، وقرأ هو على البرهان العمادي والعفيف ابن الحلفا ؛ فعلى الأول الفرائض وغيره ، وعلى الثاني في فقه الحنفية بعد ما كان أخذ عن الشيخ محمد الطبلني المغربي ما أخذ قبل وروده حلب.

وذكر أنه يروي البخاري عن جماعة ، منهم قاضي الجماعة بتونس سيدي أحمد السليطي سماعا له من لفظه وغيره من مشايخها ، ومنهم الشيخ المعمر القاضي بطرابلس الشام الحنبلي أبو عمرو عثمان الشهير بابن منصور ، قال : حدثنا أبو العباس أحمد الشاوي الحنفي والشيخ


المعمر زين الدين الشهير بالهرساني ، قالا : حدثنا حافظ الإسلام زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم العراقي قال : حدثنا الشيخ أبو علي عبد الرحيم بن شاهد الحلبي قال : أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن المبارك الزيدي بسنده المشهور.

ثم ولي بقعة الحنابلة بجامع حلب عن العلاء ابن الدغيم الحنبلي. ومما اتفق لي وله أن اجتمعنا ذات يوم في بعض المحافل فوقع هناك كلام اقتضى بحسب المناسبة أن يذكر المثل المشهور «مكره أخاك لا بطل» فذكره كأنه يحركني للكلام في إعرابه ، فأنشدته قول القائل :

إن أباها وأبا أباها

قائلا : إن ذاك مثل هذا ، فقال : نعم ، ولكن أقصد ما فهمت.

ثم اجتمعت به مرة عند مولاي الرشيد ابن سلطان تونس إذ دخل حلب فجرى ذكر بني أميه ، فأوردت أن من المفسرين من ذهب إلى أن الشجرة الملعونة في القرآن هي بني أمية ، فتغير لذلك ، فقلت : سبحان الله. قد قيل ما قبل والعهدة على قائله ، فطلب صاحب المجلس مني النقل فأحضرت من تاريخ أبي الوليد ابن الشحنة.

ومما وقع له أن انتدب إلى صلاة الاستسقاء والخطبة في بعض السنين ، فصلى وخطب يومين فحصر على القراءة فيهما ، إلا أنه استسقى في خطبته بإنشاد أبي طالب قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فما كان آخر النهار إلى وسقي المسلمون بمن الله تعالى.

ولم يزل بحلب وله الكلمة النافذة على المغاربة القاطنين بحلب يفتي ويدرس ويتجر ويتعاطى صنعة الكيميا بجد وجهد فيها إلى أن كان كافلها فرهاد باشا ، وكان يهوى الكيميا ، فصحبه وأتلف عليه مالا جيدا. ولما قدم الشيخ عبد الرحمن البتروني وتحنف وأعطي إمامة الحنفية بالجامع الكبير بعرض قاضيها ندب فرهاد باشا في طلب عرض من القاضي بها ، فأبى القاضي معتذرا بسبق عرضه للشيخ عبد الرحمن ، فأخذ بعد مدة في القدح فيه بأمور منها أنه ادعى حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه لا قدح بذلك ، وأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون ، حتى قيل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كأني أنظر إلى موسى


عليه‌السلام من التيه واضعا أصبعيه في أذنيه مارا بهذا الوادي وله خوار إلى الله تعالى بالتلبية) هو على الحقيقة لما ذكر ، فلا مانع لمن يحاجج * في هذه الحالة كما في صحيح مسلم عن أنس أنه رأى موسى عليه‌السلام قائما في قبره يصلي ، ذكره شيخ شيوخنا القسطلاني في «المواهب اللدنية» ثم نقل في موضع آخر أن الأعمال قد تكون مضاعفة في الموضع الذي ضم أعضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار أنه حي وأن أعماله مضاعفة أكثر من كل واحد. والغريب منه أنه قدح بما قدح ونسي ما أورده من أنه تعالى أجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه ** على العرش ، مع أنه لا سند له في هذا اللفظ فيما نعلم ، وإنما قيل في تفسير المقام المحمود هو إجلاسه إياه عليه الصلاة والسلام على العرش. وروي عن مجاهد أنه قال : يجلسه معه على العرش ، فقال ابن عطية : هو كذلك إذا حمل على ما يليق به تعالى. وبالغ الواحدي في رد هذا القول ، إلا أن الحافظ ابن حجر ذكر أن قول مجاهد هذا ليس مدفوعا نقلا ولا نظرا كما نقله شيخ شيوخنا المشار إليه ا ه.

قال في الكواكب السائرة بعد أن ترجمه بنحو ما هنا : أفادني تلميذه محمد بن محمد الكواكبي مفتي حلب أنه توفي سنة سبع وسبعين وتسعمائة أي بعد ابن الحنبلي بست سنين.

٩٠٥ ـ إبراهيم بن أحمد الحراكي المتوفى سنة ٩٧٨

إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن حسين بن عمر بن علي بن إبراهيم بن علي زين العابدين بن أبي محمد عبد الله الحراكي السيد الشريف الأحمدي السطوحي المتقدم ذكر جده.

ولد بحلب سنة ٩٠٨ ، وأخذ الطريقة الأحمدية عن الشيخ الصالح العابد الزاهد القدوة الشيخ محمد الحبال ، وجلس على السجادة ، ثم عن شيخ الإسلام الجمال يوسف بن حسن ليّه وإجازة كتب له عليها شيخ الإسلام الرضي الحنبلي ... وجلس في المدرسة الرواحية يذكر الله تعالى على قدم الزهد والعبادة وقيام الليل وصوم النهار وتلاوة الأوراد والاشتغال بطلب العلم مع المطالعة الجيدة في كتب السادة الصوفية ، إلى أن توفي بحلب سنة ٩٧٨

__________________

(*) في «در الحبب» : فلا مانع أن يحجو ...

(**) في «در الحبب» : جنبه.


تسعمائة وثمان وسبعين ا ه. (من مجموعة العرضي) وتقدمت ترجمة جده إبراهيم المعروف بالبرهان *.

٩٠٦ ـ إبراهيم بن قاسم المتوفى سنة ٩٧٨

إبراهيم بن قاسم بن محمد الشيخ الفاضل المحقق برهان الدين الحنفي الحلبي المشهور بابن شيخ الظاهرية الماضي ذكر والده.

ولد سنة ثلاث وعشرين ، فقرأ وخط وأحسن طريقة الخط ، وبقي تحت كنف والده في طريق الخير وتالده إلى أن تأهل لطلب العلم.

قال في قاموس الأعلام (١ / ٥٤٩) : رحل الشيخ إبراهيم بن قاسم إلى الأستانة ولازم العلامة أبا السعود ، ثم صار مدرسا في بعض مدارسها وقاضيا في عدة محلات. وتوفي سنة ٩٧٨ وهو قاض في أزمير. وله شرح على قصيدة والده وعدة رسائل ا ه.

٩٠٧ ـ يوسف بن عمر المعروف بابن حسن ليّه المتوفى سنة ٩٧٩

يوسف بن عمر الشيخ جمال الدين الحلبي الشافعي ، المشهور بابن حسن ليّه.

ولد كما أخبرني سنة إحدى وتسعمائة ، ولازم الشيخ أحمد الشهير بأبي رجل في العربية والكلام وغيرهما ، ومنلا موسى بن حسن الكردي اللاني في التفسير والمنطق ، والشمس الداديخي في القراءة. وأخذ البخاري عن المبدوء بذكره وعن الكمال بن الناسخ الطرابلسي وملا خليل اليزدي والعلاء قل درويش الخوارزمي بأسانيدهم ، وأخذه أيضا عن البرهان العمادي والشمس الديروطي إذ كان بحلب سنة أربعين وتسعمائة بحق أخذه إياه عن عدة أشياخ ، وكذا عن الشيخة أمة الخالق بنت العفيفي ** عن عائشة بنت عبد الهادي إجازة عن الحجار بسنده المشهور ، وأخذه أيضا عن الشيخ عثمان الكتبي بحق أخذه إياه عن الشيخ أبي ذر البرهان الحلبي بأسانيده.

__________________

(*) انظر الترجمة ذات الرقم «٨٤٨».

(**) في «در الحبب» وفي «الكواكب السائرة» : بنت العقبي.


ودرس بحلب تبرعا. وتردد إلى بعض أهل الديوان الدفتر داري للاشتغال بالعلم ، ثم ترك وجلس بسوق البسط تاجرا ولم يلم بشبهة أموال الأوقاف ، غير أنه بلغني عنه أنه ربما أمّل من بعض الطلبة شيئا من حطام الدنيا فترك من أجل ذلك الاستفادة منه ، فكأن تأميل الحطام ميل على النظام.

وشرح قصيدة ابن الفارض رضي‌الله‌عنه التي مطلعها (حادي الأظعان يطوي البيد طيّ).

أقول : وترجمه صاحب الكواكب السائرة بنحو ما تقدم ثم قال : كانت وفاته عاشر شهر جمادى الأولى سنة تسع وسبعين.

٩٠٨ ـ محمد بن حسن الأسدي المعروف بابن الأستاذ

المتوفى أواخر هذا القرن

محمد بن حسن بن علي بن أبي بكر بن علي بن الشمس محمد بن النجم محمد بن الجمال ابن محمد بن عبد الرحمن بن القاضي جمال الدين أبي عبد الله محمد مدرس الرواحية بحلب ابن الشيخ الحافظ أبي محمد بن عبد الله بن علوان ، بفتح العين لا بضمها ، الشيخ شمس الدين الأسدي الحلبي الحنفي أحد بني الأستاذ بحلب المشهورين الآن فيها ببنى دريهم ونصف اشتهار ابن الدريهم الموصلي بابن الدريهم ، من بيت علم وقضاء.

ذكر منهم جماعة في تاريخ ابن شداد وغيره كتاريخ الصاحب كمال الدين بن العديم وغيره بما لهم من جميل الصفات ، وفي كتابنا المسمى «بالزبد والضرب في تاريخ حلب» كل نبذة من محاسنهم ، فليقف عليهم من جنح خاطره إليها ، بل قد ترقى ترجمة الشهاب أحمد أخي الشيخ شمس الدين في شأنهم ما يتعين من جهته * على من لم يقف عليه. (هكذا).

ولد الشيخ شمس الدين في المحرم سنة ست وثلاثين وتسعمائة وتخرج بعمه أخي أبيه لأمه الشيخ عبد الله الأطعاني المتقدم ذكره في الخط والقراءة وحفظ القرآن على غيره.

ثم لازمنا من صغره إلى تمام مدة تزيد على عشر سنين في عدة فنون ، منها العربية والمنطق

__________________

(*) في در الحبب : ما يتعين مراجعته.


وآداب البحث والحكمة ، وفيها قرأ شيئا من منلا زاده وحاشية العمادية ، ومنها الكلام والأصول وفيه أشياء من العضد وحاشيته الشريفية غير ما أخذه من «شرح المنار» لابن الملك وما ألقيته عليه من حاشيتي المسماة «بأنوار الحلك» ، ومنها الفرائض ، وفيه قرأ الشرح الشريفي على فرائض السراجي وشرح فرائض المجمع للزين قاسم بن قطلوبغا الجمالي ، ومنها علوم الحديث والتفسير ، وفيه سمع شيئا من البيضاوي إلى غير ذلك من الفنون ، وأجزت له جميع ما يجوز لي وعني روايته من الكتب الستة وغيرها من تأليف لي ، ونظم ونثر بشرطه ، وكتبت له إجازة حافلة بخطي في سنة تسع وستين وتسعمائة.

ثم جاور بمكة سنة فأخذ فيها عن السيد قطب الدين عيسى الصفوي شيئا من المطوّل وعاد إلى حلب فلازم منلا أحمد القزويني السعيدي وهو بها في الكلام والتفسير من غير إكمال كتاب فيهما ، وعني بالقراءة عليه في كليهما.

ثم لما كانت سنة إحدى وسبعين تولى تدريس الشهابية تجاه جامع الناصرية [جامع الحيات] بحلب وهي من مدارس الحنفية ، كما ذكره المحب أبو الفضل بن الشحنة في تاريخه قال : وكان تدريسها لبني البرهان ، ثم نزل لي عنه زين الدين عمر بن البرهان وهو الآن بيد أولادي. انتهى.

ولازم الشيخ شمس الدين مجالس الشيخ الزين مدة جيدة وطالع كتب القوم وتواريخ من غبر ونظم ونثر. ا ه.

وترجمه الغزي في كواكبه بنحو ما تقدم ، قال : ومن شعره قوله مقتبسا :

يا غزالا قد دهاني

لم يكن لي منه علم

لا تظنن ظنّ سوء

إن بعض الظن إثم

ومدح شيخه ابن الحنبلي بقصيدة حين قدم من الحج سنة أربع وخمسين حيث قال :

هنيئا لقلب عاش وهو متيم

بأهل النقا مذ فيه حلوا وخيّموا

هم عرب قد ضاء نور فنائهم

وضاع شذاهم للحجيج فيمموا

إلى أن قال :

فيا عربا سادوا وشادوا وخيموا

بوادي الغضا وهو الفؤاد المتيم


جذبتم فؤادي مذ رفعتم حجابكم

ونومي جفاني مذ هواكم نصبتم

فرقّوا لعبد رقّ في الحب جسمه

وفي الرقّ أضحى مذ دماه أرقتم

فأنتم كرام قد علوتم إلى العلا

كما قد علا ابن الحنبلي المكرّم

إمام رقى فوق الثريا بعلمه

همام بحلم ساد فهو المعظّم

إلى أن قال :

هو العالم الحبر المكمل في الورى

هو العالم البحر الإمام المقدّم

غدا مجمع البحرين في الفقه صدره

فلا عجب أن يلفظ الدر مبسم

٩٠٩ ـ كمال الدين محمد ابن الموقع المتوفى أواخر هذا القرن

محمد بن أبي الوفا الشيخ كمال الدين ، المصري الأصل ، الحلبي المولد ، الشافعي الصوفي المقري المعروف بابن الموقّع ، لأن أباه وكان أسلميا كان موقعا عند خير بك كافل حلب.

ولما انهدمت الدولة الجركسية هاجر الشيخ كمال الدين إلى القاهرة وجد في طلب العلم النقلي والعقلي حتى وجد ، فأخذه رواية ودراية عن جماعة ، منهم من علماء الطريق صاحب الكرامات أبو السعود الجارحي ، وأزهد أهل زمانه سيدي محمد بن عراق الدمشقي ثم المكي ، وصاحب الحال ابن مرزوق اليمني ، ومنهم القاضي زكريا الأنصاري والشرف عبد الحق السنباطي والسيد الشريف كمال الدين محمد (بن حمزة الحسيني الدمشقي ، والشيخ كمال الدين الطويل ، والمسند المقرىء أمين الدين محمد) * بن أحمد إمام وخطيب الجامع الغمري بالقاهرة والإيجي والصاني وأبو الحسن البكري.

وألف كتبا منها «شرح تصحيح المنهاج» لابن قاضي عجلون ، وقد شهد له أبناء عصره في مذهبه بأنه عالي الذروة في التحقيق ، ومنها «الشمعة المضية بنشر قراءة السبعة المرضية» ، و «التلويح بمعاني أسماء الله الحسنى الواردة في الصحيح» ، و «والفتح لمغلق حزب الفتح» وهو شرح وضعه على حزب أستاذه أبي الحسن البكري ، وله رسالة سماها «إلهام الفتاح بحكمة إنزال الأرواح من عالمها العلوي وبثها في الأشباح» ، وله «الحكم اللدنية والمنازلات الصديقية الصدقية» التي أولها : من أدمن الاستسلام والرياضة أتحفه

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.


بعرائس لطيفة المعارف ، وبوأه من فردوس المشاهدة رياضه رافلا في أثواب الحكم واللطائف ، ومنها : من أدمن الجوع والسكوت ، يصير للحكم ينبوعا والمعارف له قوت ، ومنها : أهمل عين قلبك بدفع لفظ الأغيار تشهد حال حبك ، ومنها : صلاة الأسرار طهارة الباطن من شهود الأغيار. وله تائية عدتها نيف وأربعون بيتا ادعى كما وجدته بخطه في بعض الأبيات أنها في الحقيقة عصارة الطريق ، يرشف المتخلق بمعانيها عذب ذلك الريق ، من عطر شفاه عرب ذلك الفريق ، الأحلى من كل رحيق.

قال في الكواكب السائرة بعد أن ترجمه بنحو ما هنا : وله تائية مطلعها :

أأنوار ليل يستضيء لمهجتي

أم الحبب الثغري يبدو لمقلتي

أم البرقع النوري أسفر عن حمى

سعاد سحيرا ضاء في كل بقعة

نعم كل ذا قد كان مذ رمقت لنا

عيون عنايات بأحسن رمقة

ورقّت لنا كاسات خمر إلهنا

بحان صفاء العيش في وقت خلوة

ودقّت لنا كوسات وصل حبائبي

مبهرجة في حلّة بعد حلّة *

تجلت لنا الأخوان في خلع الهنا

تسامرنا والعين في حين غفلة *

ولم يؤرخ ابن الحنبلي وفاته لتأخره عنه. ووقفت له على إجازة في سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة.

٩١٠ ـ أبو بكر بن محمد بن قرموط المتوفى أواخر هذا القرن

أبو بكر بن محمد بن محمد بن أحمد بن شمس الدين محمد ، الرئيس الفاضل تقي الدين ابن الأمير ناصر الدين ، المصري الأصل الحلبي المولد والدار ، الشافعي المعروف بحلب

__________________

(*) رواية «در الحبب» :

تجلت لنا الأكوان في خلع الهنا

وغاية إدخال السرور بمنحتي

وبعده :

فأسلبت عقلي إذ شهدت حبائبي

تسامرني والغير في حين غفلة

وفي مطبوعة «الكواكب السائرة» :

وزفّت لنا كوسات وصل حبائبي

مبهرجة في حلة بعد حلة

تجلت لنا الأكواب في خلع الهنا

تسامرنا والعين في حين غفلة


بابن قرموط ، وإن كان أقرباؤه بمصر يعرفون ببني قريميط بالتصغير.

تفقه على الجلال النصيبي ، واشتغل في العربية على غيره ، وكتب الخط الحسن ، وحج وجاور. ثم دخل الهند وأطراف اليمن كالشحر وعدن وغاب عن حلب فوق ثماني سنين. ثم عاد إليها بشهامة ورياسة وحشمة زائدة ، واستمر بها على مهيع جميل ، تاركا للقال والقيل ، متفكها بمطالعة ما عنده من الكتب العلمية ، منطويا على مودة العلماء الصوفية ، مترفها بدور أبيه الجميلة التي أنشأها بحلب وهو إذ ذاك معلم دار الضرب بها.

ولد كما ذكر لي في صفر سنة ست وتسعين وثمانمائة. وأنشدني لشيخنا العلا الموصلي بيتين كتب بهما إلى أبيه بعد هفوة مقالية صدرت منه إليه فندم عليها :

يا ناصر الدين ظني

فيك الجميل وأكثر

وأنت لا شك بحر

والبحر لا يتكدّر

أقول : كان بنو قرموط تجارا ذوي ثروة واسعة ، منهم عبد القادر بن قرموط. ومن آثاره هذا المسجد المعروف بالقرموطية في محلة باحسيتا ومكتوب على بابه الغربي من جهة السوق على حجرة من الرخام المرمر :

(١) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر

(٢) أنشأ هذا المكان المبارك العبد الفقير

(٣) عبد القادر بن قرموط سنة اثنين وثمانين

(٤) وجدده عبد الرحمن بن قرموط سنة ثمان وسبعين وتسعماية.

وكان في صحن الجامع في طرفه الشرقي عدة قبور درست منذ عشر سنوات ، وهو الآن في تولية عمر القمري من سكان هذه المحلة ، وله من الأوقاف قيسارية في هذه المحلة.

٩١١ ـ الطبيب جمال الدين الأتروني المتوفى أواخر هذا القرن

جمال الدين ابن قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن أحمد الأتروني الأصل الحلبي.

عني بالطب فأخذه عن الرئيس محمد بن القيسوني المصري طبيب السلطان الغوري وعن غيره ، وباشر مصالح المرضى بحلب مباشرة حسنة وصار رئيس الطب بها ، وعادت


بيده مقاليد البيمارستان الأرغوني مدة تولية المقر البدري الحسن النصيبي عليه وانتفع به ضعفاؤه ، وحظي بمصالح أركان الدولة.

ثم حج وجاور ، وأصيب بمكة في ولد له نجيب ، ثم عاد إلى حلب.

٩١٢ ـ أبو بكر بن يحيى بن العديم المتوفى أواخر هذا القرن

٩١٣ ـ وترجمة والده يحيى المتوفى سنة ٩٥٤

أبو بكر بن يحيى بن أبي بكر بن إبراهيم الأصيل العريق متى فاخر فريقا فريق ، أقضى القضاة تقي الدين العقيلي الحلبي الحنفي ، المعروف بابن العديم وبابن أبي جرادة ، ابن خالتي.

ولد بحلب سنة عشر ، وآل أمره إلى أن صار ديوانا على أوقاف السلطان الغوري بحلب بعد اضمحلال دولته. ثم ولي نيابة القضاء بمعرة مصرين ولم يزل مقيما بها سخيا نخيا يداري الناس ، ولما كان من ملاطفتهم غير ناس ، كيف وقد قيل : الناس أجناس ، وأكثرهم أنجاس ، فهم أحقاء بالمداراة ، وحسم مادة المجادلة والمماراة ا ه.

وقد سهونا عن ذكر ترجمة والده يحيى المتوفى سنة ٩٥٤ في محلها فوجدنا من المناسب ذكرها هنا.

وهو يحيى بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد ابن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هرون بن موسى بن عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عامر ، الأصيل العريق النسيب شرف الدين العقيلي الحلبي الحنفي المعروف بابن أبي جرادة وبابن العديم.

من بيت علم ورياسة ، حسن الشكالة نير الشيبة كثير الرفاهية رغد العيش. دخل تحت نظره في الدولة الجركسية المدرستان الشاذبختية والمقدمية وغيرهما.

وكانت ولادته كعمي النظام الحنبلي ، وكان من إخوانه وخلانه ، سنة إحدى وسبعين وثمانماية ، ووفاته سنة أربع وخمسين وتسعماية.

وهو سبط الشريف زين الدين عبد الرحمن بن الشريف برهان الدين إبراهيم الجعفري


الحنفي ، وجده يحيى هو الذي ينسب إليه بنو العديم ، وجده عيسى هو الذي دخل الشام من البصرة واستوطن حلب سنة خمسين ومائة من الهجرة ، وجده عامر هو أبو جرادة حامل لواء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يوم النهروان ا ه.

أقول : هما آخر من وقفت عليه من تراجم بني العديم تلك العائلة العريقة في العلم والمجد ، وقد كان العلم والفضل متسلسلا فيها كما رأيت في تاريخنا منذ القرن الثاني أو الثالث إلى أواخر هذا القرن. ولا أدري بعد ذلك أنقرضت تلك العائلة أو لا زال منها ذرية ، لكن تغيرت ألقابها فضاعت لذلك أنسابها ، وسبحان المتفرد بالبقاء.

٩١٤ ـ حسين بن عبد القادر الكيلاني المتوفى أواخر هذا القرن

حسين بن عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد بن علي بن محمد بن سيف الدين يحيى بن أحمد بن محمد بن نصر بن عبد الرزاق بن قطب الدائرة الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله تعالى عنه ، السيد الشريف الحسيب النسيب ، الشيخ عفيف الدين ابن الشيخ عفيف الدين ابن الشيخ محيي الدين الحلبي ثم الحموي الشافعي ، سبط عمي النظام الحنبلي.

ولد بحلب في رجب سنة ست وعشرين ، ثم توطن بحماة وأخذ في قراءة الفقه ، وسمع الحديث بقراءة خاله ولد عمي على الشيخ المعمر شهاب الدين أحمد البارزي الجهني الشافعي الحموي سنة خمسين وأجاز لهما.

وسافر مرة إلى دمشق وخاله بها فتلقاه المشايخ والفقراء وبعض الأعيان ، وحصل له القبول من أمير الأمراء عيسى باشا ابن إبراهيم باشا ، ولبس بها منه الخرقة القادرية جماعة ، وصار له بجامعها الأموي حلقة ذكر بعد صلاة الجمعة.

ثم عاد إلى حماة فودعوه إلى القابون الفوقاني في يوم مشهود.

ثم سار إلى الباب العالي فطلبه المقام الشريف السلطاني السليماني ، فدخل عليه فأمر بجلوسه وأبرز أمره له بنفقة وبعشرين درهما عثمانيا من زوائد عمارة والده بدمشق ، فأبى ثم قبل بعد التصميم عليه ، ثم أخذ أركان الدولة في إعظامه فأعطوه عطايا كثيرة فقبلها.


ثم عاد فدخل حلب في أثناء سنة اثنتين وخمسين وبين يديه الفقراء الحلبيون يذكرون الله تعالى إلى أن وصل إلى محل نزوله.

٩١٥ ـ أبو السعود النحريري المتوفى أواخر هذا القرن

أبو السعود بن أحمد بن محمد النحريري الأصل الحلبي الشافعي المتقدم ذكر والده.

ولي نيابة الحكم بعزاز ثم بحلب ولم يكن الثناء عليه جميلا ، ثم عزل فتملك قاعة البيبرسية التي كانت ملاصقة للمدرسة الحلاوية ، وشرع في عملها قاسارية يسكن فيها المسلمون ، فحسن في نظره الفاسد أن يجعلها خانا للفرنج وقنصلهم لداع لهم حملهم على ذلك ، هو أن يكونوا في قفا المدرسة الحلوية التي هي من آثار الملك العادل نور الدين الشهيد رحمه‌الله (التي كانت قديما كنيسة للنصارى أنشأتها هيلانة أم قسطنطين) * ، فقووه بمال أضافه إلى ماله لبلوغ قبيح آماله ، وجعلها على أسلوب أرادوه إلى أن سكنوها مع قنصلهم.

وزينت مرة حلب فزينوا باب هذه العمارة وعلقوا على بابها أقمشة فيها صورة الصليب.

وفي هذا الزمان سكن بعض الفرنج في بعض محلات حلب ولم يكونوا ليسكنوا من قبل إلا في بعض الخانات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

٩١٦ ـ عمر بن إبراهيم الأرمنازي المتوفى أواخر هذا القرن

عمر بن إبراهيم بن أبي الوفاء بن أبي بكر الشيخ زين الدين ، الأرمنازي الأصل الحلبي ، الشافعي أولا ، الحنفي آخرا ، أحد أكابر قراء القرآن العظيم بالجماعة بحلب ، بل رئيس قرائه بالجماعة بعد الشيخ محيي الدين عبد القادر الحموي ، ورئيس قراء السبع بالجامع الأعظم بحلب.

انحصرت فيه بحلب كلتا الرياستين ، وحظي به أهلها الحظوة التامة لما له من حسن الأداء تجويدا ونغما بمقتضى الطبع لا عن مدخل في الموسيقى. وتولى خطابة الجامع الأعظم ، وقبلها خطابة الجامع الخسروي ، وقبلها خطابة القرناصية.

__________________

(*) ما بين قوسين إضافة من «در الحبب».


٩١٧ ـ محمد بن عبد الله بن القطان المتوفى أواخر هذا القرن

محمد ابن القاضي علاء الدين (علي) بن عبد الله ، الحلبي المولد العشاري الأصل ، الشافعي ، المشهور كأبيه بابن القطان.

كان في أول أمره عند عمه الحاج محمو الشرايحي يكتب له أسماء من يتناول أسطال الأطعمة من عنده. ثم كان بمحكمة عمي الكمال الشافعي مع أبيه ، وهو يومئذ كاتب المحكمة يكتب له الوثايق فيرقم هو بها شهادته فينتفع بها إذا أريد منه أداؤها أسوة من كان بمحاكم القضاة الأربعة من العدول.

ثم لما زالت الدولة الجركسية وصار أبوه يكتب بعض الوثائق لا في محاكم القضاة الروميين ، بل في داره بإذن منهم ويحكم نيابة بفسوخ الأنكحة في مواضع الخلاف صار هو يقرأ المنهاج على البرهان العمادي مدة ، فلما توفي والده دخل إلى القاضي عبيد الله سبط ابن الفناري قاضي حلب وسعى في النيابة وكتابة الوثائق على ما كان عليه والده ، فولاه ، فحسن له بعض الناس أن يجلس بمحكمة جدي بمسجد النارنجة بجوار المصابغ ويتعاطى الأحكام الشرعية الخلافية والوفاقية ، فاستأذن وجلس وراجع الفروع وكتب الشروط واستفتي عند الاحتياج ، فمهر في صنعة القضاء ، وظهر له مزيد الذكاء ، وجمع أموالا عديدة ، وأنشأ عمائر جديدة ، كالعمارة التي وسع بها مزار ولي الله تعالى الشيخ يونس خارج باب المقام.

وثبت في منصبه مدة طولى ، غير أنه ساء خلقه ونفرت عنه قلوب الخصوم واتسع بطنه وانبسطت كفه. كأن يقول : أنا غير معصوم ، حتى قيل فيه ما قيل بعض قول من قيل :

تلطف مع الأخصام واستغن ذاكرا

نوالا به أثرى أبوك وإحسانا

لجدك وصف لو وصفت بقلبه *

لكنت وحق الله عندي إنسانا

ثم عزل مرات عن عدة شكايات وأخرجت فيه أحكام ، وأبى أن لا يكون من الحكام ، فاحتال وعاد على حسب ما أراد بعد أن اختفى مرارا ، حذرا عن أن يرى إضرارا. وطالما

__________________

(*) في در الحبب : بمثله.


جعل منزله للحجازيين المتوجهين إلى الباب العالي وخدمهم بأنواع القرى ليحسنوا له بالباب ذكرا.

ثم لما عزل في بعض المرات مدة مديدة وضاقت يده لم يقبل عليه أحد منهم ولم يرد إليه خبر عنهم. وقد عزل حينا من الأحيان بأمر من السلطان ، ثم عاد ولم ينتطح في أمره عنزان ، ثم أيد عزله مرة أخرى وشدد على قاض يعيده أو صنجق يساعده أو يريده * ، فرحل إلى القاهرة ثم إلى الباب العالي فأعطي تدريس العصرونية عن ابن شيخنا البرهان العمادي.

٩١٨ ـ إبراهيم بن محمد الماسلوني المتوفى أواخر هذا القرن

إبراهيم بن محمد بن محمد الماسلوني الأصل الصهيوني المولد الحلبي الدار الشافعي ، صاحبنا. والماسلوني نسبة إلى ماسلون بفتح المهملة وضم اللام : قرية من قرى دمشق الشام.

ولد سنة ثمان وتسعين بتقديم التاء على السين وثمانمائة بالتقريب ، ثم انتقل به أبوه إلى حلب فاشتغل بها في العربية والعلوم الدينية على جماعة منهم البرهانان اليشبكي والعمادي والشمس السفيري والشهاب الأنطاكي.

وأكب على الطاعة والمطالعة ، ونسخ كتب العلم لنفسه والتصحيح لها ومذاكرة الطلب بخلوتيه بالعصرونية وجامع ابن أغلبك مع المداومة على الصيام في غالب الأيام والانزواء عن أرباب الدنيا وعدم السعي في المناصب والقناعة بفقاهة أعطيها بالمدرسة المذكورة معلومها في اليوم درهم واحد. وأعطي تدريس البلقاسية ** بالإبرام عليه ، فتركه ، ثم أحسن إليه طائفة من أهل الخير وزوجوه واعتقدوا بركته محقين في ذلك ، بل قد خطب وزوج امرأة أخرى وكفي من معتقديه المؤونة لإمداد الله تعالى إياه بالمعونة. ثم أصيب في ابنين له في الطاعون سنة اثنتين وستين فباشر بيديه غسلهما صابرا محتسبا ، وصار لهما يوم دفنهما مشهد عظيم ، ثم هاجر إلى مكة وجاور بها بعد حجة له أولى ، ثم عاد إلى حلب.

__________________

(*) في الأصل : يؤيده.

(**) لعلها القلقاسية.


٩١٩ ـ محمد بن محمد الأنصاري المتوفى أواخر هذا القرن

محمد بن محمد بن الحسن الشيخ الفقيه شمس الدين الأنصاري السعدي العبادي الحنفي ، المتقدم ذكر والده.

لازمنا في الفقه وغيره ، ثم لما توفي والده أخذ في كتابة الوثائق الشرعية عند جمع من قضاة حلب ونوابهم وصار يراعي فيها الشروط ، ويكسوها من تحبير التعبير المروط ، فوق ما كان يفعل والده ، فانتفع به الناس.

وتداول مطالعة كتب الفقه بحسب تجدد الوقائع بالمحاكم الشرعية ، فمهر في الفقه وارتقى ، ثم تولى تدريس الرواحية مع أنها مشروطة للشافعية ثم تدريسا بالأرغونية مع أنها كما قال الشيخ أبوذر في تاريخه تربة أرغون الدوادار الناصري. قال : وبها دفن وكان متقيا. انتهى.

ثم توجه إلى الباب العالي وصحب معه رسالة ألفها وسماها «حلية الأبصار في فضائل الأنصار» ، فولي تدريس الصلاحية ثم القرناصية مع أنها مشروطة في أمر التدريس للشافعية ، ثم تدريس الجاولية للحنفية.

ولما توجه نصوح جلبي مفتي حلب إلى الباب العالي سنة أربع وستين وتسعمائة استنهضه بعض الناس في الكتابة على بعض صور الفتاوي ، فكتب لبعض الواردين عليه من غير أهل حلب كثيرا ومن أهلها قليلا.

٩٢٠ ـ مسعود بن يوسف الشرواني المتوفى أواخر هذا القرن

مسعود ابن الشيخ الفاضل المفتي جمال الدين يوسف ، الحلبي مولدا الشرواني محتدا ، الحنفي ، أحد سكان محلة جامع البكرجي بحلب.

تلمذ للشمس ابن بلال ، وتولى في الدولة السليمانية تدريس السلطانية.

وإنما كان من سكان هذه المحلة لكونها مسقط رأسه بواسطة أن أباه تزوج بنت بنت الشيخ الصالح أحمد الرهاوي البكرجي الذي ينسب إليه الجامع المذكور لما حكي أنه لما قدم حلب في طريق الحج نزل بأرض فيها محراب مجرد لاعمارة حوله ، فلاح له أن يعمر


في تلك الأرض جامعا ، فحكى الخاطر لبعض من حضر فاهتم الناس بعمارته على أن كلا يجدد شيئا ، فكملوه عمارة ، ولهذا كان شيخنا الشيخ حميد الدين المتقدم ذكره ابن خال أمه.

وأما أبوه الشيخ جمال الدين فإنه كان مفتي الديار البرسوية في الدولة البايزيدية.

٩٢١ ـ جان بلاط بن عربو المتوفى أواخر هذا القرن

جان بلاط بك ابن الأمير قاسم الكردي القصيري المشهور بابن عربو ، أمير لواء أكراد حلب.

كان منصبه هذا أولا بيد الأمير عز الدين ابن الشيخ مند ، ثم بيد واحد من ذرية الملك خليل ، ثم كان بيده ، وذلك أنه لما غدر الأمير عز الدين بأبيه عند قراجا باشا أول من كان باشا حلب في الدولة العثمانية السليمية على ما ذكر في ترجمة الأمير عز الدين رفعه الباشا إلى سجن قلعة حلب ، فاتفق له أن أرسل ولده هذا وكان شابا مع ملا حسن الكردي مدرس الصاحبية بحلب إلى الباب العالي لعرض حاله وحل إشكاله ، فدخل الأمير عز الدين إلى باشا وأغراه عليه ونسب إرسالهما للشكاية على الباشا وأنه جمع بين تسع نسوة في زمان واحد ، فعرض به ، فطلب إلى الباب العالي السليمي فقتل به ، فما وصل ولده من طريق أخرى إلا ورأى أباه مقتولا ، فحنا عليه السلطان سليم وبقي عنده في السراي نحو ثماني سنين ، فلما تسلطن ولده المقام الشريف السليماني شهد معه فتح رودس فجعله من المتفرقة ، ثم جعله من أهل التيمار ، ثم ولاه صنجق المعرة ، ولم يكن حقه ذلك إلا بعد عدة مناصب اعتناء به. ثم لما كان بين أبويهما أول فتح ديار العرب من الود القديم وإن طرأ ما طرأ من العرض في أبي الأمير جان بلاط حتى قتل به فباشر سنجق المعرة ولا مضرة ولا معرة ، وقصر من كان بيده لواء أكراد حلب فسفك دماء جمع جم من الأكراد اليزيدية من قطاع الطريق واللصوص ، وجعل لهؤلاء سجنا هو بئر عميقة وأشبعهم بلاء حتى حسم مادة المفسدين منهم ، وخافه كل ذاعر من غير الأكراد لما بلغهم عنه. وتمكن من منصب الأمير عز الدين عدو أبيه ومن شيعته اليزيدية ودوره التي بناها بكلّز وحلب ومن زوجته


حتى تزوجها وولد له ولد (١) منها في بنين آخرين من غيرها صاروا رجالا ذوي مناصب في حياته.

ثم اشتهر أمره وبعد صيته في النصح للسلطنة فصار بحيث تفوض إليه التفاتيش العظام.

ثم بدا له أن ينشىء له دارا عظيمة بحلب فاشترى دور بني الإصبع داخل باب النصر وبيوتا أخرى وجعل الكل دارا واحدة لها دوار واسع وبها حمّام لطيفة ، وبذل على عمارتها وترخيمها أرضا وجدارا وفي أعمدتها وفصوصها ومنجورها ومنقوشها بالذهب واللازورد ، وفي قاشانيها وما ركبه ببحرتها من الفوّارات الفضية وما غرسه بجنينتها من أشجار السرو وغيره ما ينوف عن خمسة وعشرين ألف دينار كبير سلطاني وهي بعد لم تكمل ، وطلب مني ما يكتب في صدر إيوانها وإيوان قاعتها فكتبت له قولي :

أيها الماكثون بالإيوان

من عظام الإخوان والخلان

أذكروا جنة النعيم وداني

ما بها من قطوف دوح التداني

وارغبوا في الدنو منها بصدق

وخلوص فليس قاص كداني

هذه صورة تشير لمعنى

تجتنيه فهوم أهل المعاني

وطلب مني ما يكتب على باب قبتين فكتبت له :

هذه روضة تناظر أخرى

للتهاني ونزهة المقلتين

من جنى من جنى التهاني بكل

فليكن ذاكرا جنى الجنتين

وفي سنة سبع وستين كان توجهه إلى الباب الشريف بالخزائن الحلبية وفيها عاد مكرما من قبل صاحب السلطنة بالإذن منه في أن لا يعود من طريق قونية التي بها ولد المقام الشريف

__________________

(١) قوله : حتى ولد له ولد ، كتب الشيخ إبراهيم بن أحمد الملا في هامش نسخته ما نصه : أقول : هو والد حسين بك ، ثم إن الأمير جان بلاط غضب على والدته فقتلها ، وقد نشأ بعده ولده حسين بك هذا وحصل كمالات علمية وشارك في عدة فنون سيما علم الهيئة والميقات وحل الزايرجة وألمّ بالأوفاق ونحو ذلك إلى أن ولي سنجق كلّز وتقدم على أخيه الأمير حبيب مع أنه أسن منه وأكبر ، وعظم شأنه وكبر قدره إلى أن صار بكلر بكيا بطرابلس ثم بحلب ، إلى أن وقع له ما وقع مع نصوح باشا بسبب بكلر بكية حلب ، فحاصرها ودخلها رغما عليه وحكم بها شهورا إلى أن قتله سنان باشا ابن جغال السردار يومئذ بعد أن ولاه حلب ، فتولى عنه لما ظهر منه من الشناعات والإفحاشات في محاصرة حلب ، وكان قتله سنة خمس عشرة وألف ا ه.

أقول : قدمنا في الجزء الثالث (في ص ١٨٧) أخبار حسين بك وذكرنا ثمة أن قتله كان سنة ١٠١٤ والله أعلم.


السلطان سليم عن رفع قصته إليه تتضمن ذكر خشيته أن يقتله إذا مر به لما يتوهمه فيه من الميل مع أخيه السلطان بيازيد ، وكانت النار يومئذ بينهم موقدة والمقام الشريف عاضد للسلطان سليم ، وإنما كان هذا من المقام الشريف لمزيد حبه إياه ، حتى كان يقول : هو جان بلاطنا ، فيضيف اسمه إليه ، وهذا الاسم هو الذي اشتهر بين الناس وإن كان المرقوم في مهره جان بولاد.

وبعد عودته هذه أظهر أنه عرض أمر الكنيسة التي أحدثها فرنج اليهود ، فأعطي الفتوى بتخريبها وحكما بموجب ذلك ، فعرض على قاضي حلب فحضر هو ومن معه في ملأ من وجوه الناس إليها ، فإذا اليهود قطعوا حبال قناديلهم وكتموها ووضعوا بالكنسية آلات المنازل والدور لأنها كانت في الأصل دارا ، فأبقي بناؤها على حاله ، ففتش على قناديلها فإذا هم دسوها في مكان ، ومع هذا صاروا مصرين على إنكار كونها كنيسة ، فقامت في وجوههم البينة بأنها كنيسة محدثة ، فحكم القاضي بتخريبها ، فأحضر الأمير الفعالة فخربوها ، فأخذ نساؤهم في الدعاء بالويل والثبور ، وأخذ المسلمون في رفع الأصوات بالتكبير والتهليل ، فتم أمر التخريب بحمد الله تعالى وحمد الناس الأمير على ذلك. ثم ظهر على يده حكم بإلزام اليهود المجاورين للمسجد الكائن بمحلتهم ببيع بيوتهم المجاورين له للمسلمين.

الكلام على هذه الدار :

هذه الدار إحدى الدور العظام القديمة التي في حلب ، وهي في محلة بندرة الإسلام ، وكانت تعرف بدار ابن عبد السلام ، وقد آلت إلى الشيخ حسن أفندي الكواكبي مفتي حلب المتوفى سنة ١٢٢٩ فوقفها على ذريته. ثم توفي عن الشريفة هبة الله فآلت إلى ولدها الحاج حسن بك بن مصطفى بك إبراهيم باشا زاده ومنه إلى أولاده وأولاد أولاده وهي الآن بيدهم يسكنونها.

هذه الدار واسعة الصحن جدا ، وفيها جنينة ، وفي الصحن حوض كبير هو أكبر حوض في دور حلب ، طوله ٦٥ قدما وعرضه ٤٠ ، وتحته صهريج على قدر الحوض. وهناك إيوان عظيم الارتفاع هو بيت القصيد في هذه الدار ، ارتفاعه (١١٠) أقدام وعرضه بما فيه القبتان اللتان تكتنفانه (٧٠) قدما وطوله داخل الإيوان من الشمال إلى الجنوب (٣٣)


قدما ومن الشرق إلى الغرب (٣٤) ، وصدر هذا الإيوان جميعه مبلط بالرخام المعروف بالقاشاني على اختلاف ألوانه وأنواعه على أشكال هندسية وأوضاع بديعة أحكمت فيه الصنعة أيما إحكام ، تذكرك رؤيته إيوان كسرى وعظمته. وقد كتب على رخامة تحت كوة في أعلاه (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ). وهناك رخامتان كتب على إحداهما وهي اليمنى بالخط الكوفي البسملة وقل هو الله أحد إلى آخر السورة ، وعلى الثانية وهي اليسرى (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ).

وأما الأبيات التي ذكرها الرضي الحنبلي فإنها لم تكتب ، والقاعة التي أشار إليها لا وجود لها الآن ، وقد كانت على ما ذكر لي في شمالي الدار وقد تخربت واتخذ موضعها بيوت صغيرة اعتيادية.

وفي الجهة الشمالية من الدار إيوان صغير تصعد إليه بدرج من الطرفين وهو أيضا مبلط في أطرافه الثلاثة بالبلاط القاشاني على شكل يدهش الناظر إليه أيضا. وفي وسط الجدار الشمالي بلاطة كتب فيها (لا شرف أعلا من الإسلام) وقد لحق هذين الإيوانين شيء من التشعث وهما في حاجة إلى الإصلاح حفظا لهذا الأثر العظيم.

٩٢٢ ـ محمد بن نور الدين الإسحاقي المتوفى في هذا العقد

محمد بن نور الدين الحسيني الإسحاقي المشهدي الشافعي ، أمير الأشراف بحلب ، المشهور بالسيد شمس الدين النويرة.

ولد بحلب سنة تسع وتسعين وثمانمائة. وكان أبوه قيما بمشهد الحسين رضي‌الله‌عنه بحلب.

وكان مداقفا * مصارعا انتهت إليه رياسة المصارعين بها. وأما هو فإنه اشتغل قليلا بالعلم ، وكتب على الشهاب أحمد الكردي مجاور المدرسة الشرفية فحسن خطه ، ونال فقاهة بالعصرونية. ثم احتوى على عقل قاسم بن عبد الكريم المغربي وهو يومئذ متولي

__________________

(*) في در الحبب : منافقا.


الجامع الكبير بحلب حتى قاده إليه فأخذ له بمكره تدريسا فيه ، وصار يحضر لديه فيه شيخان كبيران فاهتما بتحصيل العلم إلى حد الكبر وصارا يقرأان عليه شيئا من الفقه في قليل من الوقت وهو كثير من الأوقات متكىء على أحد شقيه لاستيلاء حب الراحة عليه.

٩٢٣ ـ خالد بن أبي بكر الأريحاوي المتوفى في أواخر هذا القرن

خالد بن أبي بكر بن محمد بن محمد بن محمد بن العلم المشهور بالولاية عبس الأريحاوي السرجي (نسبة إلى سرجة بفتح فسكون : قرية من قرى حلب) الصوفي الخرقة نزيل حلب.

كان قد جاور بالقدس الشريف مدة ، ثم ورد على سيدي علوان الحموي فسأله : أين كنت؟ فأخبره ، فأجابه بأنك لو تفقهت في هذه المدة لكان خيرا لك ، فانشرح صدره لملازمة الشيخ فلازمه. وكان الشيخ قد فوض للشيخ علي بن مقرع الحموي أن يتلقى شكاية الخواطر من شكاتها ، فذهب إلى الشيخ خالد وشرع يشكو له خاطره ، فأجابه بأنك في خمس عشرة سنة لم تشك بحماة خاطرا ، فما لك ولشكايته ، فذهب من ساعته إلى الشيخ الكبير وأخبره بما وقع له معه ، فقال له : بل في ثنتي عشرة سنة ، ولكن لا تشك بعد خاطرا إلا لي ، فصار يشكو له حتى انتفع به.

ثم رحل في حياته إلى حلب وبقي بها على طاعة وعبادة واعتقده طائفة من أهله لتعبده ونصحه وإرشاده بحسب حاله وكونه من ذرية سيدي عبس العلم المشهور بالولاية ، وبأنه لما أراد الملك الظاهر فتح عكا وتوجه إليها أرسل إليه رسولا يسأله المدد بالدعاء ، فحضر الرسول فإذا هو بزاويته ، فدخل عليه وسأله في ذلك ، فأدخل رأسه في جيبه وزيّق * ساعة ، ثم رفع رأسه فإذا عينه سائلة ، فقيل له في ذلك فقال : عين بفتح عكا ليست بكثير ، فإذا عكا فتحت. قال لي الشيخ خالد : وقميصه الذي أصابه دم عينه باق إلى الآن في بيتنا والدم الذي أصابه باق فيه ، ونحن نتبرك بالقميص الآن فنضعه على جنائز أمواتنا.

غير أنه بلغني عن الشيخ خالد أنه يورد بعض الأحاديث النبوية ملحونة فنهيته عن ذلك تلويحا لا تصريحا وحذرته من الدخول تحت حديث (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده

__________________

(*) أي شد طرف الجيب على العنق.


من النار).

وكان سيدي علوان يميزه على العلاء الكيزواني مع سعة نطقه في الطريق بخلافه ، فقد أخبرنا صاحبنا الشيخ شمس الدين ابن الصابوني أنه لما غضب سيدي علوان عليه وهو يومئذ بحلب بعث إلى الشيخ خالد يأمره بقبول من يرد عليه من مريدي العلاء وطرد من يخرج عنه من مريديه إليه ، فشعر بذلك العلاء ، ثم اتفق أن تلاقى هو والشيخ خالد في طريق رجوعهما عن دفن الشيخ حسن الوفائي الخياط ، فبادره العلاء بالسلام والمصافحة وهو ينشد قول القائل :

وإذا السعادة لا حظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهن أمان *

ثم تفرقا من غير أن يجري بينها شيء آخر.

٩٢٤ ـ يوسف بن أحمد الحسيني الإسحاقي المتوفى في أواخر القرن ظنا

يوسف بن أحمد بن يوسف ، السيد الشريف جمال الدين أبو المحاسن الحسيني الإسحاقي الحلبي الحنفي ، ولد نقيب السادة الأشراف بحلب المتقدم ذكره ، من بيت كبير بها.

لازمنا في بعض شروح ألفية ابن مالك ومغني اللبيب وشرح الشمسية للقطب وتوضيح الأصول مع مطالعة التلويح عليه ، وكذا قرأ على الشيخ محمد بن مسلم شيئا من النحو وطرفا من علوم الحديث ، وعلى منلا حمد الله الخلخالي شيئا من كجك حاشيه ، وعني بمطالعة كتب الطب عبارة جيدة حتى استحضر منها الكثير. وولي قراءة الحديث بالجامع الأموي بحلب عن الشمس بن بلال فصار يقرؤه تجاه المحراب الكبير ويعظ الناس عقب قراءته الموعظة الحسنة. وكذا ولي تولية المدرسة الصلاحية.

٩٢٥ ـ حسين بن عمر النصيبي المتوفى أواخر هذا القرن

حسين بن عمر بن محمد ، الأصيل العريق الرئيس المدرس الشيخ بدر الدين ابن أقضى القضاة زين الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين الحلبي الشافعي المعروف بابن النصيبي ،

__________________

(*) البيت للقاضي الفاضل.


الماضي ذكر أخيه وأبيه.

ولد بحلب سنة إحدى عشرة ، فمات عنه والده ثم جده ، فربته وأخاه البدري الحسن جدتهما أم أبيهما بنت الشيخ الإمام الشمس محمد ابن الشماع الأيوبي الماضي ذكره ، فصانت لهما كتب جدهما بل آثار جدودهما من الكتب والوثائق الشرعية وغيرها فلم تفرط في شيء. وكانت من الصالحات لا تخرج إلى بيت أحد في تهنئة ولا تعزية أصلا.

فلما تأهل لتحصيل العلم أخذ في بعض المقدمات الصرفية والنحوية على شيخنا البرهان العمادي وشيخنا الشمس الخناجري.

فلما قدم حلب شيخنا الشهاب الهندي نقله إلى المدرسة الشرفية المجاورة لمنزله بعد أن حل بمنزلنا مدة فأكرم مثواه وقرأ عليه في أزمنة متفرقة من حاشية الهندي على الكافية ما دون نصف كراسة ، إلا أنه سمع منه هذا اليسير على نهج التحرير مطنب التقرير في عدة شهور كما هو مشهور إلى أن بدل ذلك بشرحها المشهور بالخبيصي ، فقرأ منه قطعة ثم قطعه ، ومع هذا يسمع ما قرأ به من المطوّل وحاشيته الشريفية عليه متى لاح له ويصرف فهمه الوقاد إليه متى بدا له ، إلى أن توفي الشيخ سنة تسع وثلاثين.

ولما نزل بالشرفية شيخنا ملا موسى بن عوض الكردي وصاحبنا الشمس محمد الغزي الشهير بابن المشرقي بجلهما وأسدى القرى إليهما ، وقرأ أحيانا عليهما.

وارتحل إلى حماة فدخل في مريدي سيدي علوان وحصل له به علو بل علوان ، وأنتج ارتحاله وحسنت يومئذ حاله ، فزوجه الشيخ ابنته فولد له منها تلميذنا الجلالي جلال الدين وغيره.

وكان في سنة سبع وثلاثين قد استجاز هو وصاحبنا سيدي أبو الوفاء ولد الشيخ جماعة في طي استدعاء كتباه ، فأجاز لهما شيخ الإسلام أبو الحسن محمد بن محمد البكري الصديقي الشافعي والشيخ محمد بن علي الذهبي الشافعي وغيرهم. قال : ومولدي سنة خمسين وثمانمائة. والشيخ محمد بن علي بن عمر الخطيب الطائي الشافعي قال : ولي دخل في الإجازة العامة من حافظ العصر ابن حجر رحمه‌الله تعالى ، فإن مولدي تقريبا سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة ، وقاضي الحنابلة بالقاهرة في آخر الدولة الغورية الشهاب أحمد النجار الفتوحي شيخنا. وفي غضون دولة أخيه الجناب البدري حسن استعان به مالا وجاها فقابلته الرياسة


وإنه لمن بيتها شفاها ووجاها.

وولي ما طلب من تداريس عدة بحلب ، واجتذب إليه قلب الصغير والأسن وخالط الناس وهو الحسين بخلق حسن ، وغني بصحبة الناصري محمد ابن السلطان الغوري إذ كان بحلب في مستلذاته ومسرات لياليه وليالي مسراته.

وحج وجاور وبذل في المجاورة كثير المال في قرى الخلان على أوفق الآمال. ثم عاد إلى حلب والوافدون من الحجاز وغيره إلى الباب العالي ، ومن الباب العالي إلى الحجاز وغيره يفدون عليه وينزلون عنده بالشرفية فيتلقاهم بالقرى والموائد الحسنة ويستفيد عند عشرتهم ما يستفيد سنة بعد سنة ، حتى صارت كأنها مكان سبيل لا مدرسة فقيه نبيل ، ثم اعتزل عنها وعن سكنى ما كان يسكنه داخلها ، فاشترى وراءها البيت المنسوب إلى بعض القارئين القاطنين بدمشق وغيره ، واستحكر من علو سوق الطواقية وما يليه الجاري في وقف الجامع الكبير شيئا ، فعمر فوقه قصرا منيفا مشرفة شبابيكه على صحن الجامع المذكور. وكان قد سألني في شيء من شعري يكتب به فقلت مضمنا :

اصعد إلى ربعنا العالي ونل فرحا

وانظر إلى الجامع الأسنى وفز بدعا

وقرّ عينا بكلتا الحالتين وقل

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

ثم تأهل ببنت التقويّ أبي بكر بن قرموط أحد تلامذة جده ففاز معها في بيت أبيها بعيشة العمرين ، فما مضى له معها القليل إلا وأحرقه بوفاتها بالطاعون الغليل ، وكذا بوفاة بنيه إلا الفاضل جلال الدين المكتوب إليّ على يده من شعر أبيه :

يا أيها المولى الذي لم يزل

له بقلبي منزل لا يرام

وماجد طابت أصول له

وعالم قد فاق بين الأنام

وصاحب الفضل الذي فضله

واف جليل مثل سجع الحمام

جلالنا سار لإحسانكم

يروم درسا نافعا يا إمام

سررت لما سار يبغي العلا

وقلت يا بشراي هذا غلام

فوجّه الهمة يا سيدي

نحو جلال الدين نجل الكرام

لعله يبلغ شأو العلا

وشيخه يبلغ منه المرام *

__________________

(*) البيت ملفق من بيتين هما :


هذا لساني طال في مدحكم

والقلب في الحب رهين الزمام

والعهد باق ودعائي لكم

واف وودّي دائم والسلام

ثم لم يبرح الشيخ بدر الدين على الرياسة والشهامة مع جلال الملبس ومزيد كبر العمامة نهابا وهابا يقري القرى ويجيز الشعرا ، مثابرا على التنزهات لا يكترث لهجوم الأزمات ، وينتهز فرص اللذات عن قوي عزمات ، ويخالط القضاة والأمراء والدفتردارية في عدة كبراء ، إلى أن سأل بعض أمراء حلب قاضيا من قضاتها عن درجته في العلم يوما من الأيام فقال : إن له مسبحة يسبّح بها في كل حين ، فاستفسره عما أراد ، فأشار إلى أن له مسائل مخصوصة ما جلس بمجلس إلا أعادها كأنه كان عادّها.

ومن مادحيه من الشعراء الشيخ عبد الرؤوف اليعمري حيث قال في مطلع مديحه :

جاد جود الحيا حياة القلوب

وحبانا بمنزل وحبيب

وجلا من جبينه الصبح شمسا

طلعت في الشروق بعد الغروب

قمر لاح فوق قامه غصن

ينثني بالدلال فوق كثيب

نقش الحسن عارضيه ووشّى

لازورد العذار بالتذهيب

إلى أن قال :

قد حوى ورد خدّه مسك خال

عمّ بالعرف مسكه كلّ طيب

فشممنا مع مسكه ماء ورد

في الإمام الحسين ابن النصيبي

من إذا اختار كل شخص نصيبا

كان هذا النصيب أوفى نصيب

الجليل الجميل أصلا وفرعا

غاية القصد منتهى المطلوب

إلى أن قال :

ولعمري فرع الجمال إذا ما

جاء منه الجلال غير عجيب

وكان حقه أن يعكس فيقول :

ولعمري فرع الجلال إذا ما

جاء منه الجمال غير عجيب

__________________

لعله يبلغ شأو العلا

ويرتقي بالعلم أعلى مقام

ويبلغ الوالد آماله

وشيخه يبلغ منه المرام


لأن الممدوح فرع القاضي جلال الدين وكأنه لم يلاحظ ذلك ، وإنما لاحظ ولده الفاضل جلال الدين ، وجعل اللف والنشر في قوله الجليل الجميل أصلا وفرعا مشوشا لا مرتبا.

ومن شعر البدري سوى ما ذكرناه ما وقع له مع الشهاب أحمد بن الملا إذ تساجلا فقال الشهاب :

ضرب من السحر أم ضرب من الكحل

ما بان من طرفك الأمضى من الأجل

وقدك المائس العسّال منتشيا

غصن من البان أم لدن من الأسل

فقال البدر :

والورد خدّك أم لون العقيق به

أم لون كاسك أم ذا حمرة الخجل

والشهد ريقك أم برد الرضاب له

حلاوة أين منها نكهة العسل

فقال الشهاب :

يا بدر تمّ إذا ما حل دارته

لام العذار كساه أفخر الحلل

أيقظ نواظرك السكرى فقد ظهرت

عقارب الصدغ تبغي دارة الحمل

فقال البدر :

وارحم فؤادا كواه الحب من شغف

ولا تمل نحو من يصغي إلى العذل

وجد بتقبيل ثغر راق مبسمه

يشفي مريض الهوى من شدة العلل

فقال الشهاب :

واستبق روحي وخذها في رضاك وقل

هذا محب عن الأعتاب لم يحل

فقال البدر :

وارفق بدمع من الأجفان منهمل

على خدود علتها صفرة الوجل

فقال الشهاب :

واحفظ عهود الوفا واجف الجفا كرما

واقصد إلى ما عسى يدنو من الأمل


فقال البدر :

فالصبر مرتحل والجسم منتحل

والدمع منهطل والقلب في علل

مهلا فإن يك دمعي سال ممتزجا

دما فمن ذا الذي يخلو من الزلل

٩٢٦ ـ عبد اللطيف الأنطاكي المتوفى أواخر هذا القرن

عبد اللطيف بن عبد الرزاق ، الأنطاكي الأصل ، الحلبي المولد ، الحنفي ، المعروف بأنطاكية بابن الباشا ، سبط الحاج محمد ابن الشيخ المحدث أقضى القضاة برهان الدين إبراهيم الرهاوي الشافعي.

قرأ النحو والكلام على الشيخ المعمر ملا جمال القصيري الحنفي تلميذ الشهاب أحمد ابن كلف الأنطاكي ، وشيئا من الفقه على محمد جلبي بن رمضان خطيب الجامع الكبير بأنطاكية.

ثم رحل إلى حلب فلازمنا في علم البلاغة مدة ظهر فيها فرط ذكائه وشدة شغفه بالعلم واعتنائه.

ثم عاد إلى بلده ، ثم رجع إلى ما كان بصدده ، فشرع في أخذ أصول الفقه عنا.

ثم عاد إلى بلده وتزوج ببنت الشيخ أحمد بن الشيخ عبدو القصيري وأخذ عنه الطريق. ثم صار يعظ الناس بأنطاكية ويدرس بها ويخطب بجامعها ا ه.

٩٢٧ ـ فتح الآمدي المشهور بفتحي جلبي المتوفى أواخر هذا القرن

فتح الله أبو الفتح بن عبد اللطيف جلبي بن حسين جلبي ، الآمدي الروشني الخرفة كأبيه وجده ، المشهور بفتحي جلبي.

مكث بحلب سنين ، وجعل حلقة الذكر بجامع الحدادين خارج بانقوسا ، وبها قرأ على الشيخ أبي الهدى النقشواني ، وصار خليفة أبيه وهو قاطن بها.

ثم مكث بعينتاب وعمر بها مدرسة وجامعا وتكية من ماله ، واعتقده أركان الدولة


بالباب العالي السليماني ونال منهم نوالا كثيرا. وعني بالحج حتى حج إلى سنة أربع وستين وتسعمائة ثلاث عشرة حجة.

الكلام على جامع الحدّداين :

هذا الجامع من آثار علي بن معتوق الدنيسري الذي قدمنا ترجمته في الجزء الرابع (في صحيفة ٥٣٤). وقد ذكره أبوذر قبل الكلام على الجامع الجديد ببانقوسا وسماه الجامع العتيق. ومما يؤيد أنه هو ما ذكرناه ثمة عن ابن الوردي أنه عمر جامعا بطرف بانقوسا ودفن بتربته بجانب الجامع ا ه. وهو كما قال بطرف هذه المحلة ويعرف الآن بجامع الحدادين.

هذا الجامع بابان باب من جهة الشرق وباب من جهة الغرب. وعن يسار الداخل من هذا الباب حجرة في وسطها قبر مكتوب على ستاره أنه قبر الشيخ علي الحدادي بن المغربية نزيل مكة المكرمة ، وهذه الكتابة من تصرفات الخدمة ، والصواب أنه قبر بانيه كما تقدم نقله عن العلامة ابن الوردي.

وعن يمين هذا الباب قبو تنزل إليه بدرج فيه حوض ماء جار من ماء قناة حلب أصلح سنة ١٣٠٤. وكان هذا الحوض في وسط الصحن ينزل إليه بدرج أيضا فنقل هذه السنة إلى هذا المكان. وعرض صحن الجامع ٤٢ قدما وطوله ١٠٥ أقدام ، وفيه بئر لا ينزح ماؤها مطلقا مهما قل الماء في آبار حلب أيام الصيف. وجدد جدار قبليته سنة ١٣١٠ وكتب عليه هذان البيتان :

جهة لها بعد الدثور تجدّد

لا زال فيها ذو المعارج يعبد

حسنت عمارتها فقلت مؤرخا

هذا جدار بالبهاء مشيّد

١٣١٠

وكانت عمارته في زمن متوليه الحاج مصطفى الحلاق ، وعرض قبليته ٣٩ قدما ، وهي مبنية على ٨ سواري وفيها منبر من الرخام الأصفر في أعلاه قبة مركوزة على أربعة عواميد وقد بني سنة ١٣٠٧ ونقش عليه تاريخ بنائه.

وهو الآن تحت يد دائرة الأوقاف وأوقافه وافرة ، وهي أربعة دور ونصف دار وثلث دار وفرن وستة وعشرون دكانا ونصف ومخزن ، وهو عامر بالمصلين أيضا لعناية أهل تلك


المحلة بالمواظبة على الصلاة الجماعة.

وبالقرب من هذا الجامع الجامع المعروف بجامع بانقوسا ، وقد ذكره أبو ذر بعد ذاك فأحببنا ذكره بعده فنقول :

الكلام على الجامع الجديد ببانقوسا :

قال أبوذر : هذا الجامع يقال إن خاص بك الخواجا عمره ولم يكمله ، وإنما أكمله بعد وفاته أهل الخير فعمروا له منارة ورخموا صحنه بالرخام الأصفر ، وفيه بركة ماؤها كثير لأن القناة جارية بقربه. وهو جامع عليه وضاءة ، ووقفه يسير لكن يقيض الله تعالى من يقوم بكفايته ا ه.

أقول : لما عمر هذا الجامع وكان بالقرب من الجامع المتقدم صار يعرف بالجامع الجديد وذاك بالعتيق ، ويقال له الآن جامع بانقوسا أيضا. وله بابان باب من جهة الغرب وباب من جهة الشمال تجاه السوق ، ومنارته بجانب هذا الباب وهي مرتفعة لكنها خالية من الزخرفة.

وطول صحنه مائة قدم وعرضه ٧٢ ، وفي وسطه حوض ينزل إليه بدرج ، وماؤه جار لمرور قناة حلب منه. وفيه رواقان من جهتي الشرق والغرب وبعض رواق من جهة الشمال ، وباقي هذه الجهة اتخذت حجازية. وفي آخر الرواق الغربي من جهة الشمال ضريح ملاصق للجدار كتب عليه :

(١) يا حضرت نبي الله بنقوسا على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام

(٢) قد أخبر بهذا العلامة المحدث الرباني الشيخ مرتضى اليماني شارح الإحيا والقاموس

(٣) قال شيخنا العلامة محمد بن التكمجي نزيل مصر إن الشيخ مرتضى إمام في علم التاريخ ا ه.

ومحرر في الذيل : سنة ١٢٢٤.

أقول : أما وجود نبي في هذا الضريح وأن اسمه بنقوسا بحيث سميت المحلة باسمه وأنه أخبر بذلك الشيخ مرتضى اليماني فهو من الأمور المختلقة. هذا أبوذر الذي عمر الجامع


في زمنه أو قبيل زمنه بقليل لم يذكر ذلك ولم يزد في الكلام عليه على أكثر مما تقدم ومما سيأتي قريبا من الكلام على الزاوية التي بنيت شرقي قبليته ، كذلك لم يذكر ذلك أبو الفضل ابن الشحنة المتوفى سنة ٨٩٠ في تاريخه «نزهة النواظر» ، ولم يذكر ذلك من انتزع من هذا التاريخ تاريخا آخر وسماه «الدر المنتخب» ، مع أن كل واحد من هؤلاء قد اعتنى ببيان المزارات التي في حلب وما حولها أشد الاعتناء. وكذلك المتقدمون من المؤرخين مثل الهروي في كتابه «الإشارات إلى الزيارات» وابن العديم في تاريخه الكبير وغيرهما ، فإنا لم نجد أحدا ذكر أن لنا نبيا اسمه بنقوسا وأنه مدفون في هذا المكان.

والذي وجدته في التواريخ ما يفيد أن هذا المكان كان خاليا من الأبنية ومنتزها ، فقد قال الصنوبري من شعراء القرن الرابع في قصيدته الهائية التي ذكرها صاحب المعجم في كلامه على حلب :

حبذا الباءات باءت

وقويق ورباها

بانقوساها بها با

هى المباهي حين باهى

وقال ياقوت في المعجم : (بانقوسا : جبل في ظاهر مدينة حلب من جهة الشمال ، قال البحتري :

أقام كل ملثّ القطر رجّاس

على ديار بعلو الشام أدراس

فيها لعلوة مصطاف ومرتبع

من بانقوسا وبابلّى وبطياس

وفي آخر البيت الثاني من الدر المنتخب قال ابن الخطيب المتوفى سنة ٨٤٣ : وكانت حلب كثيرة الأشجار ، وكان موضع بانقوسا أشجار كثيرة. (ثم قال) : أخبرني الحاج ياروق بن آشود وكان من المعمّرين أنه أدرك في بيت والده مجلسا مسقوفا بالخشب : وأن والده قال له : يا ياروق ، سقف هذا المجلس من مخشبة بانقوسا ا ه.

وقال في الباب الرابع والعشرين في ذكر ستزهات حلب : ومنها بابلّى ، وهي قرية قريبة متصلة أرضها بأرض بانقوسا بها عدة جواسق وبحرات وجنينات وغير ذلك.

وقال المرتضى الزبيدي في شرحه للقاموس : ومما يستدرك البناقيس ، أهمله الجوهري وصاحب اللسان. وقال ابن عباد : هو ما طلع من مستدير البطيخ ، الواحد بنقوس بالضم ، وبناقيس الطرثوث شيء صغير ينبت معه أول ما يرى. ومما يستدرك عليه بانقوسا :


جبل في ظاهر حلب من جهة الشمال. قال البحتري : (أقام كل ملثّ القطر رجّاس) إلخ الأبيات المتقدمة.

فكل ذلك يفيد أن بانقوسا اسم للجبل الذي هناك (١) ولما حوله من الأراضي التي كانت مغروسة بالأشجار ليس إلا ، وبقيت على ذلك إلى أواخر القرن السابع ، وفيه ابتداء العمران فيها إلى أن صارت محلة واسعة بل بلدة كبيرة واتصلت بباب البلد الذي هناك المسمى قديما بباب القناة.

قال في الدر المنتخب في الكلام على الأبواب : ويلي هذا الباب أي باب النيرب باب القناة التي ساقها الملك الظاهر من حيلان تعبر منه. (قلت) : ويعرف الآن بباب بانقوسا لأنه يخرج منه إليها ، وهي حارة كبيرة ظاهر حلب من جهة الشرق والشمال بها جوامع ومساجد وحمامات وأسواق وخانات ، وهي الآن بندر عظيم. ا ه.

أقول : ويعرف هذا الباب الآن بباب الحديد.

وما أعرق في الوهم ما يقوله بعض العوام أن بانقوسا أصله (بان قوسها) والضمير يعود لامرأة كانت هناك وراء الصخور في بعض الحروب ، ثم رفعت رأسها وكانت متنكبة قوسها فقال الناس : بان قوسها ، ثم داخلها التحريف فصارت بانقوسا ، فهذا لا ريب من مخترعات العوام ، والصواب ما حققناه *.

وطول قبلية الجامع (٤٥) ذراعا وعرضها نحو (٢٠) ذراعا ومحرابه من الحجر الأصفر لكنه خال من الزخرفة ، وعن يسار المحراب حجرة مبنية في الجدار لونها أزرق فيها أثر كف يقولون إنها كف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثرت في هذا الحجر ، ومكتوب على الحجرة كتابة محيطة بالكف هذا البيتان :

لأصابع المختار في هذا الحجر

آثار خيرات يقينا في البصر

فالثم مواضع كفه إن كنت من

أهل المحبة مرتج كلأ الضرر

ويحكون عن سبب وصول الحجرة إلى هنا وبنائها في هذا الجدار حكاية تشبه الحكاية التي قدمناها في الجزء السابق (ص ٢٨٨) في الكلام على القدم التي في جامع الكريمية ،

__________________

(١) أي الذي بنى فوقه إبراهيم باشا المصري الثكنة العسكرية العظيمة ويتصل بها المقبرة التي تعرف بجبل العظام.

(*) انظر «موسوعة حلب المقارنة» للأسدي.


لكن يفترق هذا الأثر عن ذاك أن أثر الكف هنا على ما حدثت طبيعي والحجر لونه أزرق يشبه الحجر الذي في بلاد الحجاز ، وأما الحجرة التي فيها القدم فهي صفراء وآثار الصناعة بادية فيها كما قدمنا والله أعلم.

ومنذ سنة أعني سنة ١٣٤٤ وضع فوق هذه الحجرة دف وسمر منعا للنساء من المجيء قبيل صلاة الجمعة للتبرك بهذه الكف وغسلها بالماء وأخذ هذا الماء لتكثير الحليب.

وفي الجدار الشرقي من القبلية شباك مسدود وقد كتب عليه :

(١) أنشأ هذا الرباط فقير رحمة ربه الكريم أحمد بن موسى السعدي على نفسه مدة حياته

(٢) ثم من بعده على الفقراء الأبايزيدية الغرباء الأفاقية بتاريخ شهور سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ا ه.

وهو شباك لزاوية كانت ملاصقة لهذا المكان. قال أبوذر بعد العبارة التي ذكرناها في أول الكلام على هذا الجامع : وقد أحدث الشيخ أحمد الحنفي القصير ، وله اشتغال وميل إلى التصوف ، وهو لبق حسن السمت ، زاوية شرقي هذا الجامع وفتح منها شباكا إلى الجامع المذكور ، وكان يعتكف في هذه الزاوية وينزل الفقراء عنده ، وجعل لنفسه مدفنا فيها فدفن فيه ، وكان يتردد إلى والدي رحمهما‌الله تعالى. وهذا الرجل كان له جنينة في بابلّى ، وكان بها عمارة ، فدعانا إليها مع الفقهاء الحنفية فمضينا إليه وكان له وظائف بحلب ، فتوفي عن غير ولد فأخذ وظائفه الناس ا ه.

وهذه الزاوية دخلت الآن في الخان الذي هو شرقي الجامع المعروف بخان القطن. وإنك إذا دخلت إلى القبو الداخلي في هذا الخان وهو القبو الثالث تجد قبوا واسعا مربعا مرتفع السقف هو مكان الزاوية ، وتجد الشباك الذي ينفذ إلى قبلية الجامع مسدودا والقنطرة هناك بادية. وقبلي هذا القبو قبو آخر تجد عن يساره بابا صغيرا مسدودا هو باب التربة التي دفن فيها الشيخ أحمد السعدي باني الزاوية ، بل في هذه التربة قبر أو قبران لم أقف على صاحبيهما ، وظهر لي من القناطر التي على طرفي القبوين الأول والثاني أن هذا المكان كان سوقا أو سوقين ، فإن قناطر الدكاكين بادية فيه. وبلغني أن هذين السوقين كانا وقفا لهذا الجامع ولا أعلم الوقت الذي تغلب فيه على هذه الأمكنة ، ثم بيعت واتخذت خانا أصبح ملكا تتداوله الأيدي. وشمالي هذا الجامع مراحيض ينزل إليها بدرج تسمى الباسطية


لها باب من جهة الغرب ومكتوب على هذا الباب :

(١) أنشأ هذا المعروف المقر الأشرف العالي المولوي المالكي المخدومي السيفي

(٢) سودن المظفري الظاهري مولانا ملك الأمراء كافل الممالك الحلبية المحروسة أعز الله

(٣) أنصاره وذلك بتاريخ شهر شعبان المكرم سنة ثمان وثمانين وسبعماية ا ه.

وكان المتولى على هذا الجامع الشيخ أحمد الحجار المتوفى سنة ١٢٧٨ ، وكان خطيبا فيه أيضا ، وبعد وفاته ولي الشيخ يحيى النعسان ثم صالح آغا الملاح ، وفي أثناء توليته فرش أرض الجامع وأرض الرواق الشرقي بالرخام وعمر الباسطية وقد كانت متخربة وترس المنارة ، ثم ولي أحمد آغا الملاح ، وفي أثناء توليته جدد الرواق الغربي وذلك سنة ١٣٠٣ كما هو منقوش على جداره وفرش أرض القبلية بالرخام.

وبعد وفاته ولي وحيد آغا الملاح وهو الآن تحت توليته والناظر عليه سعادة مرعي باشا الملاح حاكم حلب. وله من العقارات نحو ٤٠ عقارا ووقفه عامر ، كما أن الجامع عامر بالمصلين أيضا لما قلناه في الكلام على جامع الحدادين من أن أهل هذه المحلات لهم عناية تامة بالمحافظة على الصلاة بالجماعة في الأوقات كافة.

٩٢٨ ـ نصوح بن يوسف الأرنؤوطي المتوفى سنة ٩٨١

نصوح بن يوسف ، الأرنؤوطي أصلا السلانيكي بلدا ومولدا ، الحنفي ، مفتي حلب ومدرس الخسروية بها بعد الشيخ تاج الدين إبراهيم الصونسي المتقدم ذكره.

رحل من بلدته سلانيك وهي البلدة المشهورة التي افتتحها السلطان مراد بن عثمان إلى القسطنطينية لطلب العلم وهو يومئذ قريب من درجة المعيدين ، فحصل ، ثم صار تذكر جيا عند بعض قضاة العسكر ، ثم مفتيا بلارنده من مملكة قرمان ، ثم مفتيا ومدرسا بآمد ثم بحلب. وبقي بها على سمت التواضع وطرح النفس ، يدرس فيها بمدرسته التلويح فما دونه ، والناس منه راضون ، ومحمد باشا ابن توقكين المتقدم ذكره يعظمه جدا وهو يومئذ باشا حلب لقرابة كانت بين أبويهما ، إلا أن قاضي حلب أحمد بن محمود كان يمزق بعض فتاويه ، ففر من يده إلى الباب العالي ليخلص من فتوى حلب ويترقى أسوة أقرانه


الذين ترقوا عليه بدرجات ، فخاب فرجع إلى حلب وصار لا يفتي فتوى ترفع إلى قاضي حلب. نعم قد قصر إذ كان يفتي بعدم وقوع الطلاق على من قال : عليّ الطلاق لا أفعل ففعل ، لشبهة أن المراد بعليّ الطلاق أن طلاق امرأته واقع عليه ، فهو مثل طلاقك عليّ ، وبه لا يقع الطلاق ، مع أنه درى من بعد أن عرف أهل حلب قد فشا بينهم بأنهم لا يريدون بعليّ الطلاق إلا أن طلاقه لازم له لزوم الدين للمديون إذ قال : لفلان عليّ درهم ، ولا ينوون إلا ذلك ، فيلزم أن يقع الطلاق بذلك كما يقع بالكنايات إذا نوى ، بل أولى لمكان لفظ الطلاق.

على أنا نقول : قد جزم الخاصي * في «الفتاوي الكبرى» بالوقوع في طلاقك عليّ واجب أو ثابت ، لأن الطلاق لا يكون واجبا أو ثابتا بل حكمه حكم لا يجب ولا يثبت إلا بعد الوقوع. قال المحقق ابن الهمام : وهذا يقبل أن ثبوته اقتضى التوقف على نية ** إلا أن يظهر عرف فاش فيصير صريحا فلا يصدق قضاء في صرفه عنه ، وفيما بينه وبين الله إن قصده وقع وإلا لا ، فإنه قد يقال : هذا الأمر عليّ واجب بمعنى ينبغي ، وقد تعورف في عرفنا في الحلف : الطلاق يلزمني لا أفعل كذا ، يريد إن فعلته لزم الطلاق ووقع ، فيجب أن يجري عليه لأنه صار بمنزلة قوله : فإن فعلت فأنت طالق ، كذا تعارف أهل الأرياف الحلف بقوله : عليّ الطلاق لا أفعل. انتهى كلامه ا ه.

توفي الشيخ نصوح مفتي حلب سنة ٩٨١ ، ذكر ذلك الشيخ عمر العرضي في أوراق منقولة عن تاريخه.

٩٢٩ ـ ياسين بن إبراهيم البكفلوني المتوفى سنة ٩٨١

قال العرضي في حوادث هذه السنة : فيها مات صاحبنا الشيخ الفاضل ياسين بن إبراهيم البكفلوني عالم بلاد أريحا بقريته بكفلون ودفن بها بزاوية بناها لنفسه وصلينا عليه بحلب صلاة الغائب ا ه.

__________________

(*) في الأصل : القاضي.

(**) في «در الحبب» : وهذا يفيد أن ثبوته اقتضاء ويتوقف على نية.


٩٣٠ ـ محمد باشا اللالا المتوفى سنة ٩٨٢

قال العرضي في حوادث هذه السنة : وفيها في رمضان مات محمد باشا بن مصطفى باشا اللالا بداء الإسهال بعد أن تقدم له في زمن صحته الإكثار من الخمر وغيره. ثم إنه لما مرض هذا المرض تاب توبة نصوحا وكسر أواني الخمر وآلاته ، ودفن في الخسروية التي بناها عمه خسرو باشا رحمه‌الله ا ه.

٩٣١ ـ إبراهيم بن الخواجا قاسم الحلبي المتوفى سنة ٩٨٣

قال العرضي : فيها تواصلت الأخبار إلى حلب بموت العالم الفاضل إبراهيم بن الخواجا قاسم الحلبي بالقسطنطينية بعد أن عزل من قضاء أزمير وأنه مات في جمادى الأولى.

٩٣٢ ـ عبد الرحمن الأماسي بن قاضي حلب المتوفى سنة ٩٨٣

عبد الرحمن بن علي قاضي القضاة ، محيي الدين الرومي الحنفي ، قاضي حلب.

دخلها قاضيا في أواخر سنة ثلاث وخمسين ، وكان في أحكامه الشرعية سيفا قاطعا وللمدلسين والملبسين قامعا يا له قامعا. وهو الذي أبرم على متولي الجامع الأعظم بحلب في تجديد تبليط شرقيته بعد دثوره وتبرع فيه بشيء من ماله. ولما توفي خطيبه شيخنا الشهاب الأنطاكي في السنة المذكورة اجتمع رأيه ورأي صاحبنا إسكندر بك الدفتر دار يومئذ وأنا بالحجاز على شرف العود مع الركب الحجازي إلى حلب إلى أن يعرض لي في الخطابة إذا عدت ، فلما عدت رام أن يعرض فأبيت ، فصمم عليّ فصممت على الإباء واعتذرت له بما يقال في كلام الناس : خشبتان وقصبتان تصيّران العالم جاهلا ، مبينا له أن المراد بالخشبتين خشبتا المنبر وبالقصبتين قلم القضاء وقلم الفتوى ، فقبل عذري وعني بأمري.

ثم آل أمره إلى أن صار قاضي عسكر روملي ، وقدم حلب مع المقام الشريف السليماني سنة إحدى وستين ، وساعد الحلبيين من أرباب الأوقاف والأملاك في إبطال ما جدد على جهاتهم من خراج لم يكن أو زيادة فيه لم تكن ، فقبل قوله المقام الشريف وسامحهم ، ثم عزل سنة خمس وستين.


وذكره صاحب الكواكب السائرة بنحو ما هنا وقال : إنه توفي في صفر سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة.

وكذا ترجمه في العقد المنظوم بترجمة طويلة ، لكنه لم يحمد سيرته لميله إلى جانب الأمراء ومداهنته مع الأكابر والوزراء ، ثم ذكر وفاته في هذه السنة.

٩٣٣ ـ الشيخ أبو بكر بن أبي الوفا صاحب المزار المشهور

شمالي حلب المتوفى سنة ٩٩١

إذا أرسلت طرفك للشمال الشرقي من مدينة حلب تجد جبلا صغيرا فيه عدة بنايات في وسطها أربع قباب مرتفعة ، وهناك أشجار من السرو ، تحت إحدى هذه القباب ضريح الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا رضي‌الله‌عنه ، وقد اشتهر هذا المكان باسمه ، وقد مر ذكره في تاريخنا غير مرة.

وقد اعتنى أفاضل الشهباء بترجمة الشيخ أبي بكر بحيث أفردت بالتآليف ، وذلك ولا ريب دليل على عظم شأنه وجلالة قدره.

وأول من وضع تأليفا في ترجمته وترجمة بعض أعيان الشهباء من الصوفية الشيخ أحمد الحموي العلواني في كتاب له سماه «أعذب المشارب في السلوك والمناقب» وألف كتابا آخر في مناقبه خاصة. وتلاه العالم الأديب صلاح الدين الكوراني ، فإنه ألف في مناقبه كتاب سماه «منهل الصفا في مناقب ابن أبي الوفا». ثم وضع الشيخ يوسف بن السيد حسين الحسيني مفتي حلب من أعيان القرن الثاني عشر كتابا حافلا في مناقبه وأحواله سماه «مورد الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا». وقد اطلعت على هذه الكتب الأربعة وتصفحتها والأخيرة أوسعها وهو في ٢٦٧ صحيفة ، لذا جعلت اعتمادي عليه ، وقد ذكر فيه ترجمة خليفة الشيخ وهو الشيخ أحمد القاري وخلفاءه ، وترجمة جد الشيخ أبي بكر وهو تاج العارفين الآتي ذكره في عمود النسب.

قال : وبعد فإني أردت أن أسطر في هذه الوريقات ترجمة الشيخ الكامل العارف الواصل الولي الصديق ، الذي شهدت بولايته وكراماته أهل الصدق والتحقيق ، سيدي شيخنا الشيخ أبي بكر الوفائي الشهير بابن أبي الوفا صاحب المزار المشهور في تكيته المشهورة


خارج حلب الشهباء في الجبل الأوسط قدس الله تعالى روحه. وقد وقفت على عدة كتب ألفت في شأن هذا الشيخ الجليل رضي‌الله‌عنه ، منها كتاب «أعذب المشارب في السلوك والمناقب» تأليف الشيخ أحمد الحموي العلواني ، ومنها كتاب آخر باللغة التركية ألفه مؤلفه برأي خليفة الشيخ أحمد القاري ، وكتاب آخر ألفه العالم الأديب صلاح الدين بن محمد الكوراني الحلبي ذكر فيه جملة من المناقب والكرامات ، إلى غير ذلك مما ألف فيه أو سمعه من الثقات في شيء من أحواله وكراماته ومناقبه ونسبه الشريف.

وهنا عقد المؤلف فصلا طويلا في الكرامة وجوازها وما قاله فيها العلماء المحققون من المتكلمين والصوفية الكاملين من أهل السنة والجماعة ، وقال بعد هذا الفصل :

فصل في ذكر نسب الشيخ رضي‌الله‌عنه :

هو السيد أبو بكر بن السيد محمد بن السيد إبراهيم بن السيد علي أبي الوفا بن السيد علي بن السيد أحمد الكريدي الملقب بالكبريت الأحمر ، يعني عديم النظير ، المدفون بزاوية الشرفات ابن السيد بهاء الدين ابن السيد داود ابن السيد عبد الحافظ ابن السيد محمد ابن السيد بدر الملقب بأبي الأنوار ، المدفون بوادي النسور ، ابن السيد يوسف ابن السيد بدران ابن السيد يعقوب ابن السيد مطر ابن السيد سالم ، وهو أخو الشيخ الجليل سيدي أبي الوفاتاج العارفين قدس الله سره ، وهما ابنا السيد محمد ابن السيد محمد ابن السيد زيد ابن السيد زين العابدين علي بن الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

مولده ونشأته وتاريخ وفاته :

أما مولده فهو في مدينة حلب الشهباء في محلة سويقة علي في بيتهم المشهور بقاعة الأفراح قرب المدرسة الشرفية سنة ٩٠٩ تسعمائة وتسعة ، وتوفي سنة تسعمائة وإحدى وتسعين ، ودفن خارج حلب شماليها في المكان المشهور بالجبل الأوسط ، وقبره مشهور يزار ويتبرك بزيارته الأخيار.

ثم بنيت تكيته المشهورة واتخذ حواليها وفي جوانبها البساتين والكروم ، وأجري إليها الماء من قناة حلب ، وعمر فيها المسجد والأماكن المتعددة على يد شيخها خليفة الشيخ الشيخ أحمد القاري.


وفي سنة ٩٢٠ توجه به والده إلى الشام فتوطن فيها ، وكان قد حصل في حلب الفقه والفرائض ، وأخذ هناك في الاشتغال بالطريق على الشيخ أحمد المنباوي ، وتآخى مع الشيخين الجليلين الشيخ محمد الزغبي المدفون في سفح جبل قاسيون والشيخ الحليق ، واختلط بالعلماء العارفين والأولياء الصالحين.

ثم لم يزل رضي‌الله‌عنه في ترق من الأحوال حتى ظهرت عليه آثار الكشف ولاحت لديه لوائح الكرامة وتحقق خساسة الدنيا ورذالة أهلها ، وتيقن نفاسة الآخرة ونزاهة ذويها ، ولزم الخلوة والعزلة ، وكان فيها العزّله ، وهجر الطعام وترك المنام ، وساح في الجبال والأودية والآكام ، وتوالت عليه أنوار آبائه وأجداده وأسلافه أهل بيت النبوة والعرفان ، وصار الناس يترقبون ما يصدر عنه من المكاشفات ، فحينئذ يظهر من فمه المبارك كلمات تنبي عن كل ما أضمره مترقبه مما أسره بإذن الله تعالى.

ثم لما عاد مع والده من الشام اشتهر بين الناس بالولاية والاعتقاد ، وصار الناس يعتقدونه ويهرعون إليه ويتبركون به ويترددون إليه لينالوا بركته ويكاشفهم بما في خواطرهم بالمكاشفات الصريحة.

وكان رضي‌الله‌عنه يتردد غالبا إلى الجبل الأوسط الذي هو مكان تكيته الآن قبل بناء شيء فيه. وسبب تردده إليه أن بعض أجداده وهو السيد عبد الحافظ مدفون ثمة ، وسبب دفنه في هذا الجبل أن السيد المذكور كان وطنه ببيت المقدس في زاوية أجداده بوادي النسور المشهورة بزاوية الشرفات ، فحصل له ولد مبارك سماه السيد بهاء الدين داود ، واشتغل بالعلم والعبادات والطاعات ، وتحلى بالرياضات والمجاهدات ، فحينئذ خلفه والده ، وتوجه إلى زيارة جده الأعلى سيدي أبي الوفا تاج العارفين بجهة العراق ، فمر في طريقه على مدينة حلب الشهباء فمرض بها فسأل عن مكان معتدل الهواء فدلوه على الجبل الأوسط ، فذهب إليه لتعليل مزاجه. ثم إنه بعد أيام انتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى ودفن في الجبل المذكور ، فكان الشيخ أبوبكر يتردد إلى هذا الجبل لزيارة جده السيد عبد الحافظ ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن دفن الشيخ أبو بكر في هذا المكان ، وعمرت عليه هذه القبة العظيمة ثم هذه التكية المباركة العديمة النظير ، وصارت مأوى لفقراء الوفائية ومحط رحال السادة الصوفية.

ثم بعد وفاة الشيخ وظهور خليفته الشيخ أحمد القاري بعده عمرت هذه التكية على


يده وبسعيه شيئا بعد شيء حتى صارت إلى ما تراه ، فإن الشيخ أحمد المذكور بقي في المشيخة بعد وفاة شيخه المومى إليه خمسين سنة. ولم يزل مدة حياته يسعى في تعمير أماكنها وإحداث أماكن فيها وجلب الماء إليها وعمارة المسجد ومحل زيارة الشيخ وإنشاء الحدائق والبساتين والكروم وحواليها وتجديد الأوقاف لها إلى غير ذلك.

ثناء المشايخ عليه :

قال : وقد أثنى على شيخنا جماعة من معاصريه وغيرهم من مشايخ الإسلام وعلماء الأنام ، وترجموه بالولاية والكشف والكرامة ، منهم العلامة الرضي ابن الحنبلي ، يحكى عنه أنه كان يكتب في أثناء تاريخه في حياة الشيخ ، فتردد هل نذكره في التاريخ أم لا ، ثم ذهب إلى زيارة الشيخ فكاشفه الشيخ بذلك وقال له : اكتبيها في تاريخك ، لأي شيء لا تذكريها أو كلاما معناه ذلك ، فإن الشيخ رضي‌الله‌عنه كان يخاطب الجميع بخطاب التأنيث كما هو مشهور عنه.

ترجمة الرضي الحنبلي له في تاريخه :

قال : هو أبو بكر بن وفا ، مجذوب كثيرا ما يرى بين القبور ويكاشف الواردين عليه ، وتراه تارة يخلط في كلامه وأخرى يورد معارف ومواعظ ومذام للدنيا ، وحينا ينقبض وأحيانا ينبسط. وكثيرا ما ترى على رأسه طاقية ثالثة فتوضع فوقها وهو لا يكترث بما وضع ، وكذا يصنع به تارة أخرى وهو لا يقول ماذا صنع.

وكان قبل أن يجذب معاملا لواحد من حكام الروميين حتى أثر من جهته ، واتفق له أن سافر معه إلى دمشق فرأى بها واحدا من الواصلين ، فأخذ يتردد إليه ودعا أن يصرف الله تعالى عنه الدنيا ، فلم يسعه إلا أن بذل ما كان معه من حطامها إذ حصلت له الجذبة الحقيقية ، ثم عاد إلى حلب مجذوبا وصار يأوي إلى محلة مقابر الغرباء وما والاها.

وكان أبوه من صالحي المؤذنين يؤذن بمنارة مسجد سويقة علي بحلب. ا ه.

قال في «أعذب المشارب» : أخبرني رجل من أعيان أصحاب الشيخ أن الشيخ العالم ابن الحنبلي كتب تاريخا وتردد هل يذكر فيه الشيخ أبا بكر أم لا ، ثم إنه زاره بعد ذلك فقال : لأي شيء ما تذكريها؟ أما هي مسلمة من المسلمين؟ فما وسع الشيخ بعد ذلك


إلا أنه ذكره بما وصل إليه فهمه ، وإلا فالشيخ جليل المقدار عظيم الاعتبار في أعين النظار خلقا وخلقا وحالا وكشفا وعرفانا.

ومن جملة من أثنى عليه أيضا من معاصريه شيخ الإسلام مفتي السادة الشافعية بمدينة حلب العلامة الشيخ عمر العرضي ذكره في تاريخ حلب الذي ألفه ، قال : الشيخ أحمد الحموي العلواني نزيل حلب في كتابه «أعذب المشارب في السلوك والمناقب» قال : أخبرني شيخ الإسلام الشيخ عمر بن الشيخ عبد الوهاب العرضي بواسطة رسول أرسلته إليه فأملى عليه عبارته التي عبرها في حق الشيخ فكتبها وأجازني في نقلها عنه وهي : الشيخ أبو بكر ابن وفا العبد المجذوب الذي لا ريب في ولايته ، وهو أحد من انتفعنا بمصاحبته وتلذذنا بمنادمته ومكالمته من أرباب الكشف الذي هو كالشمس الظاهرة والتصرف التام في مراتب القلب ، لم ير في عصرنا من يبارز في خرق العوايد مثله ، مع التعلق التام بمحبة الله وشهود الوحدة في كل أحيانه ، والسكر الذي لم يصح منه إلا قليلا ، وتربية المحبين بحاله وهو الأغلب عليه وقاله ، وخرق العوائد مع الزهد التام في الدنيا وتساوي الأمير والفقير عنده ومكالمة الإنسان جهرة بأمر يخطر في قلبه بحيث إن غالب أهل حلب اطلعوا على مكاشفات أدت إلى أن يقطعوا بولايته ، ابتلي بأمور يقصر الكلام عنها ، وحلف بسره الرجال والشبان والنساء والصبيان بحيث إذا بصق تبادر الناس إلى بصاقه. وشاع ذكره بالولاية حتى إن الشيخ محمد البكري شهد له بها ، ولعمري إني لمن أكبر معتقديه وأعظم محبيه.

مرض أياما ومات في شهر ربيع الثاني سنة ٩٩١ إحدى وتسعين وتسعمائة وصار له. جنازة لم ير مثلها من كثرة الناس ، ولم أر من تباكى عليه الناس كبكائهم على هذا الرجل.

وقال شيخ الإسلام الشيخ وفا ابن الشيخ عمر العرضي في تاريخه ما ملخصه : أبو بكر بن أبي الوفا المجذوب صاحب المزار المشهور بالذروة الوسطى ، خلع العادات وعاداها وتقاصر عن زينة الدنيا مع سعة مداها. خرج من حلب إلى دمشق الشام وصحب الشيخ محمد الزغبي في دمشق ، وبعد مدة مديدة رجع إلى حلب يألف المقابر والأماكن الخربة ، أينما أدركه الليل نام بغير غطاء ولا وطاء ، ولا يلقي جنبه إلى الأرض ، وتوقد بين يديه النيران الهائلة وتألفه الكلاب.


واجتمعت عليه المجاذيب من أقطار الأرض يخاطب الرجال بخطاب النساء ، وجميع أهل حلب والمترددون إليها يبالغون في اعتقاده والتبرك به والأخذ من أنفاسه المباركة. ما اجتمعنا بأحد اجتمع به إلا أخبرنا عن مكاشفاته ومناقبه المرات المتعددة.

وكان والدي يحبه ويعتقده ويلازم زيارته وتقبيل يديه ، حتى قال لي : يا شيخ وفا ، ما رأت عيني في الكشف والإخبار عن الغائبات مثل الشيخ أبي بكر. قال : وأخبرنا الوالد أنه طلب منه علي أفندي بن سنان الاستسقاء بالناس لقلة المطر ، قال : فقلت : تصبر إلى أول الشهر ، ثم سرت إلى الشيخ أبي بكر فجئت لأقبل يديه ، فامتنع وأظهر الغضب الشديد عليّ وكدر من في المجلس ، ثم احمر وجهه وتفجرت عيناه فكان يصفق ويقول : آه آه ، فما مضى ساعة إلا والمطر كأفواه القرب ينصب من السماء ، فأخرجني في الحال ولم يصبر علي وأخذ يصفق ويصفق معه الناس فرحا ، ثم أخرج والدي شدة المطرة.

وأخبرنا الشيخ يوسف الأنصاري أنه سلط عليه علي باشا ابن الوند سبعا كان جوّعه يومين أو أكثر وأطلقه عند باب مسجد الشيخ أبي بكر والشيخ ثابت ، حتى جلس السبع بين يديه والشيخ يضحك عليه ، ثم أعطى بعض دراويشه دراهم ثمن معاليق وحلاوة ، فجيء بهما فأعطى الشيخ الحلاوة للسباع * وأطعم المعاليق بيده للسبع ، حتى كان الشيخ رضي‌الله‌عنه يلقم السبع المعلاق من غير مبالاة.

مناقبه وكراماته :

قال : اعلم أن الشيخ رضي‌الله‌عنه قد أجمع الخاص والعام في حياته وبعد مماته على محبته واعتقاده ، ولم يبق في الشهباء ودائرتها من ينكر عليه ، واتفق الجميع على محبته وإكرامه وتعظيمه خصوصا في حال حياته ، فقد أقبل عليه أهل بلدته قاطبة عالمها وجاهلها وكبيرها وصغيرها وغنيها وفقيرها وحكامها من الوزراء وغيرهم ، فإنهم كانوا جميعا يهرعون ويتبركون بتقبيل يديه ، وظهرت كراماته عندهم ظهور الشمس في رابعة النهار. وكان إذا ذكر في المحافل والمجالس ذكر له كل واحد من الحاضرين كرامة وقعت له معه أو سمعها ممن شاهدها أو سمعها منه. وأجمع الناس على كونه ولي الله بلا نزاع.

وشهد بولايته القطب الكبير سيدي الشيخ محمد البكري الصديقي المصري والشيخ

__________________

(*) لعل الصواب : للأتباع.


عمر العرضي من معاصريه وغيرهم ممن أدرك حياته أو بعد وفاته.

ومن مناقبه ما حكاه الأديب الكامل صلاح الدين الكوراني الحلبي في مصنف له مخصوص بمناقب شيخنا قال : كنت أيام قراءتي يافع السن على شيخ الإسلام ومفتي الشافعية في ديار حلب الشيخ عمر العرضي حاضرا مع طلبة العلم في زاويته المعروفة بالحيشية المطل شباكها على الجامع الكبير بحلب ذات يوم ، وشرع الشيخ المذكور في إقراء شرح الشمسية في علم المنطق في بحث القضايا المختلطة ، وتأمل في أثناء الإقراء طويلا وتفكر مليا في تقريره ، ثم قال لنا : إن صدري ضيق وما طالعت هذه الليلة هذا المحل وهو في غاية الإشكال ، فاتركوا الدرس وقوموا بنا إلى زيارة الشيخ أبي بكر قدس‌سره حتى ينشرح صدرنا ، فلما ذهبنا معه ودخلنا على الشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه قال للشيخ عمر : تعالي اقعدي ، الله أعطاكي ، فجلس الشيخ عمر من ناحية من المكان والطلبة حوله ، وكان مكان الشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه في جامع بمحلة تربة الغرباء بحلب ، فأخذ الشيخ أبو بكر يتكلم بكلام يفهم وكلام لا يفهم. كأنه يخاطب الغير به ، والشيخ عمر ساكت مطرق الرأس ، ثم إن الشيخ عمر نهض على قدميه وقال : الفاتحة ، فقرأناها وقمنا ، فلما صار خارج الجامع قال لنا : هل فهمتم ما قال الشيخ؟ قلنا : الله أعلم ، فقال : إنه قد قرر لي الدرس وبين إشكال القضايا وأفهمني إياها فارجعوا بنا إلى الدرس ، فرجعنا إلى الزاوية المذكورة فقرر لنا الدرس كما ينبغي وقال : هكذا قرره لي الشيخ رضي‌الله‌عنه.

قال الكوراني : وحكى لي شيخ الإسلام الشيخ أبو الجود البتروني أنه كان يسمع بمكاشفات الشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه ومناقبه من الناس ، وأنه كان يشتاق إلى زيارته ، فسمع أن مجلسه غير خال عن الكلاب فتأنف نفسه ويتأخر عن الزيارة. ثم إنه صمم يوما من الأيام على زيارته وذهب إليه ، فلما دخل عليه رأى فرشه نظيفا ومكانه مكنوسا خاليا عن الكلاب ، فلما رجع الشيخ أبو الجود من زيارته جاءه رجل وقال له : أنا كنت عند الشيخ رضي‌الله‌عنه قبل مجيئكم بساعة في هذا اليوم فرأيته قد صاح على الفقراء وقال لهم : اطردوا عنا الكلاب واكنسوا وافرشوا فرشا نظيفا لأجل الذي يزورنا حتى لا يقرف فتعجبت من هذا الأمر من كشف ما خطر بالبال قبل وقوعه.

قال الكوراني : وحكى لي الشيخ زين المؤذن بجامع الخسروية بحلب ، وكان رجلا صالحا ، وكنت إذ ذاك خطيبا به بعد أن قلت له : إني أرى جامع الخسروية مشرقا مضيئا


يشرح الصدر بالنسبة إلى غيره من الجوامع ، فقال لي : أما تعلم سبب ذلك؟ فقلت : الله أعلم ، قال : سبب هذا الإشراق ببركة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا ، قلت : وكيف ذلك؟ فقال : إن الشيخ لما كان في عالم السياحة حين الشروع في عمارة هذا الجامع كان يذهب مع العجلة إلى الجبل ويأتي راكبا على العجلة وعليها الحجارة المقطوعة لأجل بناء الجامع المذكور ، إلى أن يأتي بها إلى الجامع ويحث البنّائين على العمارة ويقول لهم : أسرعوا إلى العمارة حتى يأتوا أصحابنا ويعيطوا فوق السطوح ، قال الشيخ زين المذكور : فلما فرغت العمارة صار المتولي عليها يطلب مؤذنا حسن الصوت صالحا متدينا ، فدلوه علي فأرسل أناسا يطلبونني إليه وكنت إذ ذاك عند الشيخ رضي‌الله‌عنه ولم يظفر بي أحد من رسل المتولي ، فقال لي الشيخ : قومي روحي وعيطي فوق السطوح طلبوكي لا تقعدي ، وأخرجني من عنده ، فلما خرجت رأيت الطلب ورائي وقيل لي : اذهب إلى متولي الجامع فإنه طالبك ، فجئت إليه فجعلني مؤذنا به فعلمت أن الشيخ أشار إلي بذلك.

وقال الكوراني : حكى لي شيخ الإسلام الشيخ عمر العرضي قال : كان في حلب قاض اسمه علي بن سنان ، وكان يسمع بأحوال الشيخ وينكر عليه ، ثم أراد أن يزور الشيخ ليلا مختفيا حتى لا يعلم الناس أنه زاره ، فلما فات وقت العشاء من تلك الليلة وكان مكان الشيخ رضي‌الله‌عنه خارج البلد ، ففتح القاضي باب المدينة وذهب بجماعته متوجها إلى الشيخ ، فجاء إلى مكان الشيخ فرأى بابه مقفلا من الداخل وليس فيه حس ، فطرق الباب مرارا فما أجابه أحد ، فرجع غضبان ، فجاء رجل من الذين كانوا عند الشيخ تلك الليلة وأخبر بأن الشيخ لما فات وقت العشاء تلك الليلة قام على قدميه وصاح بالفقراء : سكروا الباب ولا تفتحوه لأحد ولو كسروا الباب واسكتوا كلكم لا أحد منكم يتكلم وأطفئوا الضوء ما لنا حاجة بزيارة الظالمين ، فبينما نحن على هذا الحال إذ جاء القاضي وطرق الباب مرارا فلم يفتح له ولا أجابه أحد امتثالا لأمر الشيخ رضي‌الله‌عنه ، فرجع القاضي غضبان.

قال الشيخ عمر العرضي : فلما سمعت من ذلك الرجل هذا الخبر أسرعت في الذهاب إلى القاضي وأعلمته أن الشيخ رضي‌الله‌عنه صاحب كشف ولا شك في ولايته ، وإنما فعل ذلك معكم تنبيها لكم على النظر في أحوال الرعايا وإنصاف المظلوم من الظالم. وسليت خاطره ، فاعتقد صحة كلامي وأرسل إلى الشيخ قربانا ، فلما وصل إليه القربان قال الشيخ للرسول الآتي به : قول لها تدعي للذي نصحها وإلا كنت أفرّجها ، فكان الشيخ يشير


إلى الشيخ عمر العرضي أنه هو الناصح للقاضي حتى أزال إنكاره عنه ، وهذه كرامة وكشف صريح من الشيخ رضي‌الله‌عنه.

قال : وسمعت من أناس متعددة أن رجلا أعجميا كان يربي السباع ، وكان معه سبع في زنجير من الحديد يدور به في الأسواق والطرق ويفرّج الناس عليه فيعطونه الدراهم ويرتزق به ويجعل ذلك كالحرفة له ، فمر ذلك السبّاع يوما من الأيام على مكان الشيخ ، فثار السبع وجذب الزنجير من يد السبّاع بقوته وهرب ولا زال هاربا والناس يفرون منه ، حتى دخلوا مكان الشيخ ودخل السبع ، فقال الشيخ : لا تخافوا من هذه القطيطة ، فجاء السبع وجلس بزنجيره قدام الشيخ وصار يلحس يديه ورجليه كالمقبل لها والشيخ يقول : يا مسكينه جو يعينه ، هاتوا رأس غنم ، فجيء به وجعل السبع يأكل ويهمهم ويهدر ، فجاء صاحب السبع فقال له الشيخ رضي‌الله‌عنه : لأي شيء تجوعيها ، خطيّة عليك ، فلما أتم أكل الرأس ضربه الشيخ بالعصا وقال : قومي روحي مع صاحبك ، فأخذه صاحبه وخرج به.

قال : وحكى بعض المترددين إلى الشيخ عند أخ لي كان نائبا في المحكمة الشافعية بحلب ، وكان أخي من المنكرين على الشيخ رضي‌الله‌عنه ، فرغبه ذلك الرجل في زيارة الشيخ فأبى أن يجيبه إلى ذلك ، فألحيت أنا عليه حتى طاوعني ، فذهبنا إلى زيارته ، وكنت إذ ذاك صغير السن ، فلما دخلنا على الشيخ قال لأخي : قفي يا قحبة لا تدخلي لا تقعدي روحي عنا ، فوقف أخي في ناحية المكان ودعاني الشيخ إليه وأدخلني بين رجليه وأخرج لسانه وحركه كأنه يريد بذلك تخويفي على سبيل الممازحة والملاطفة ، وقال لي : لأجل خاطرك ما ننكد عليها ونخليها تروح في شفاعتك ، والتفت إلى أخي وهو واقف على قدميه وقال له : روحي عنا وخليها لنا ، هذه مثلنا. ا ه.

وقال العلواني في «أعذب المشارب» : أخبرني الشيخ الكامل الشيخ عمر العرضي أنه عرضت له مصلحة دنيوية من جهة وظيفة وتعذر أمرها وتعسر ، قال : فذهبت إلى الشيخ أبي بكر أستمد منه ومن بركاته حل تلك القضية ، قال : وما كنت أذهب قبل ذلك إليه في أمر دنيوي ، قال : فلما حضرت عنده كلح في وجهي ، ثم بعد ذلك قال : قضيت المصلحة وانحلت العقدة ، فلما عدت من زيارته وجدت الأمر قد تم وانحلت القضية بعد تعسرها. (ثم قال) :

قال العلواني : وكان الشيخ رجلا جسيما وجيها مستدير الوجه كأن السكّر يقطر


من حلاوة وجهه المبارك ، وكان سنه قد فاق الثمانين ومع ذلك فيه القوة والطراوة وقوة الحال ، وكل إنسان يعبر عما يكشف له من الحال على مقدار حبه وعلى مقدار حسن اعتقاده. ا ه. (ثم قال) :

وقد كان هذا الأستاذ رضي‌الله‌عنه يحيي الليل كله جلوسا متوجها إلى ربه جل وعلا مراقبا لسره مرتقبا ما يرد عليه منه عزوجل ، فإذا حصل له تعب كلي من السهر اتكأ على أمتعة مرفوعة من غير أن يضع جنبه على الأرض ، وكان للفقراء والمساكين والمهمومين كالبحر العذب الفرات يرده كل وارد.

انتهى ما نقلته من «مورد أهل الصفا» للشيخ يوسف الحسيني مفتي حلب ، وقد نقل الكثير من كتاب «منهل الصفا» لصلاح الدين الكوراني كما رأيت ، ومع هذا فإنه لم يستوعب ما فيه ، وها نحن ننقل لك البعض مما لم ينقله ، قال :

حكى لي الشيخ شمس الدين النقشبندي ابن المعمار ، وكان رجلا صالحا وشيخ حلقة ذكر على طريقة النقشبندية ، بأنه كان يثني على الشيخ رضي‌الله‌عنه ويحبه ، وكان له ابن عم من الزعماء والأكابر ، وكان يحب الفرش النظيف ولبس الأثواب الحسنة ورش داره بالماء وكنس بلاطها ، ويحرض غلمانه على ذلك بحيث إنه كان بعد ذلك يمسح البلاط بالسفنج والخرق ، وكان إذا رأى قشاشة واحدة يضرب غلمانه كل واحد مائة عصا ، وكان لا يأكل إلا النفائس في الصحون المفتخرة ، وكانت نفسه تأنف من أدنى شيء ، فقال له ابن عمه الشيخ شمس الدين : يا بن العم ، قم بنا نزور الشيخ رضي‌الله‌عنه ، فقال له : أعوذ بالله من كلابه ونجاسة مكانه ، فأبرم عليه مرارا في أيام عديدة حتى أذعن له أن يذهب معه ، فلما ذهبا ورآه الشيخ صرخ في وجهه مغضبا وقال له : لا تقعدي ، قومي هناك ، والتفت الشيخ رضي‌الله‌عنه يمينا وشمالا فرآى في مكانه رجلا بدويا رث الثياب والهيئة فقال له رضي‌الله‌عنه : طالعي الذي في عبك ، فأخرج البدوي من عبه قطعة من الجبن المعفن المروح فقال : أعطيها لهذا ، وأشار إلى هذا الزعيم ، فناوله البدوي تلك الجبنة ، فلم يأخذها منه ، فقال له الشيخ : ويلكي خذيها وكليها ، لأي شيء ما تأكليها ، طلعي إلى هذه المنافس المقعرة البلاط بالسفنج والخرق ، هذه قشاشة ، هذه شعرة ، اضربوا الملوك مائة عصا ، هاتوا النفايس ، ويلكي أنت ما عرفت أيش يطلع من عقبك يا قحبة. قال الشيخ شمس الدين : فاستلقيت على قفاي ضاحكا عليه ، وعبس


ابن عمه وجهه وخرج من عند الشيخ رضي‌الله‌عنه مغضبا شاتما. ولا شبهة في أن هذه الواقعة من الكشف.

وحكى لي الشيخ زين مؤذن الخسروية فقال : إن الشيخ خالد بن عبس الذي كان ساكنا بمحلة باحسيتا بحلب كان منكرا على الشيخ رضي‌الله‌عنه ، وكان شيخ فقراء يعظ الناس على الطريقة العلوانية بحيث إن تشكى إليه الخواطر في المسجد الكائن بالمحلة المذكورة بالقرب من باب الفرج فيقول له أحد الواردين : إنه قد خطر في نفسي أن أفعل كذا فيأخذ الشيخ خالد ويتكلم بما يناسب قوله من كلام العلماء والآيات والأحاديث النبوية وكلام أهل الله ، وكان رجلا كبير السن بلغ الثمانين محترم القدر وعظيم الهيبة والناس يهرعون إلى زيارته لأجل شكوى الخواطر من كل فج عميق ، وكان معاصر الشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وكان الناس يأتون إلى الشيخ خالد المذكور ويذكرون أحواله وأقواله ، فيقول : هذا خارق الشريعة ولا تذهبوا إليه ، وكان دائما يطعن فيه ويحذر الناس من زيارته ، فاتفق أنه قد تولى إمارة هذه الديار أحد الأمراء ، فسمع بوعظ الشيخ خالد وزهده وصلاحه ، فذهب إلى زيارته واجتمع به وسأله عن حاله وحرفته وسبب رزقه ، فقال له : أنا فقير على باب الله ، والمحبون والمعتقدون علينا يتكلفون برزقي ، ولا أطلب من أحد شيئا ، ومالي علوفة ولا وظيفة ولا صنعة أحترف بها غير كتاب الله وحديث رسوله ونصيحة المسلمين والانقطاع في هذا المسجد ، فقال له سرا في أذنه : أما تسمع مني وتذهب إلى إستنبول ، فإن السلطان إذا سمع بك يعين لك علوفة وافرة ، فقال له الشيخ خالد : إن شاء الله نذهب. ثم إن الشيخ خالدا صمم وعزم في خاطره أنه يذهب إلى إستنبول ، وأراد أن يتعاطى أهبة السفر ، فبينما هو في مسجده ونية السفر في خاطره وإذا بالشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه قد جاء إليه والفقراء معه وبيده العصا ، وكان الشيخ رضي‌الله‌عنه ذات يوم قاعدا في مكانه وكان من عادته لا يذهب إلى أحد أبدا ، فقال لفقرائه : قوموا بنا نزور الشيخ خويلده ، بالتصغير ، فلما جاء إلى الشيخ خالد ووقف على باب المسجد ولم يدخل فخرج إليه متعجبا من مجيئه ومترحبا به ، فقال له الشيخ أبو بكر رضي‌الله‌عنه : أنا جئت إليك حتى أسئلك عن عمرك ، قولي أيش قدر عمرك؟ فقال له الشيخ خالد : عمري ثمانون سنة ، فقال له : يا مجنونة ، أي يوم خلّاك عريانه أو جوعانه ، إلى أين أنت رايحه ، أما تستحي من الله ، فبكى الشيخ خالد حتى بل لحيته من البكاء وقال : لا تؤاخذني فإني


رجعت عن هذا العزم وهذه النية ، وأبرم عليه أن يدخل إلى عنده فأبى ، ورجع الشيخ رضي‌الله‌عنه إلى مكانه ، وصار الشيخ خالد يعتقده ويزوره ويلتمس الدعاء منه.

ونظير هذه الحكاية ما حكاه لي الشيخ عبد القادر بن الحجار أنه كان في هذه الديار رجل عالم كبير شافعي المذهب ومفتي الشافعية يقال له الشيخ إبراهيم العمادي (المتوفى سنة ٩٥٤) ، وكان في جواره رجل من المشايخ يقال له الشيخ محمد الخاتوني ، وكان يقيم حلقة الذكر مع الفقراء بالأصوات العالية ، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وكان الشيخ إبراهيم العمادي دائما يطعن فيه وينكر عليه كإنكار الشيخ خالد على الشيخ أبي بكر ، فاتفق أن وقعت حادثة سؤال علمي في بلاد الشام ، ووقع الاختلاف بين علمائها في الجواب عنها ، ثم اختاروا أن يرسلوا إلى الشيخ إبراهيم العمادي من الشام إلى حلب هذا السؤال في كتاب حتى ينظروا بماذا يجيب ، فلما وصل الرسول إليه بالمسألة أخذها وتأمل فيها مليا ، فخطر في باله أنها مذكورة عنده في أحد كتبه ، وكان عنده كتب كثيرة نحو ألف مجلد ، فجعل يفتش ويقلب الكتب يمينا وشمالا ولم يظفر به مدة أيام والرسول يلح عليه في الجواب ليذهب به إلى الشام ، فبينما هو متحير ذات يوم إذا بالشيخ الخاتوني داخل عليه ولم يكن بينهما اجتماع واقع قط ، فتلقاه الشيخ إبراهيم العمادي متعجبا مترحبا به ، فجلس الشيخ الخاتوني في عتبة المكان ، فقال له الشيخ إبراهيم : يا سيدي ، اطلع إلى فوق المكان ، فأبى إلا الجلوس في العتبة وقال : إني جئت إليك لتفتح لي فالا في أحد الكتب ، فقال له الشيخ إبراهيم : انظر إلى ما تريد من الكتب ، فنظر إلى جانب من جوانب الكتب وقال له : أنزل هذا الكتاب ، فأنزله الشيخ إبراهيم ، فأخذه الشيخ الخاتوني وقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، وفتحه وناوله وقال له : اقرأ ، فنظر الشيخ إبراهيم المسألة وجوابها في هذا المحل الذي فتحه الشيخ الخاتوني ، فتعجب الشيخ إبراهيم من ذلك واعتقد على الشيخ الخاتوني من ذلك الوقت وصار يزوره ويسأله الدعاء. ا ه.

أقول : وفيما نقلناه كفاية إذ ليس هنا موضع استقصاء أحوال المترجم وذكر جميع مناقبه لأنها كما قلنا أفردت بالتآليف.

بقي شيء يجدر أن نذكره هنا وهو أنه قد كثر في زمننا منكرو كرامات الأولياء وما يخبر به هؤلاء المجاذيب من الأمور الغيبية ، إذ لا يرون وراء المحسوس شيئا ، ويعتقدون أن خرق النواميس الطبيعية من الأمور المستحيلة. ولو أنصف هؤلاء لما ذهبوا إلى القول


بذلك ولا اعتقدوا هذا الاعتقاد ، فإن الأمور الخارقة للعادة من حيث هي أثبتها التاريخ ورواها على طريق التواتر بحيث لا يمكن ردها ، ومؤرخو الإسلام في مشارق البلاد ومغاربها قد دونوها في تواريخهم التي لا تحصى من قديم الزمن وحديثه ، وكتبهم طافحة بذلك ، ويستحيل أن يتواطأ هؤلاء جميعهم على الكذب ، فلا ريب أن مجموع ذلك يفيد العلم الضروري بوقوع هذه الكرامات وحصول تلك المكاشفات ، فهل يسعنا بعد ذلك أن نقول : إن هؤلاء كلهم كانوا كاذبين أو نحكم على الجميع أنهم كانوا قوما بسطاء ينخدعون بهذه الأوهام ، تالله لا يقدم على هذا القول ولا يحكم هذا الحكم الجائر من يجعل التروي رائده والإنصاف هو الحكم الفاصل.

إنك إذا تيقنت أن الله على كل شيء قدير واستحضرت في قلبك مقدار عظمة الله جل جلاله واعتقدت أنه لا يعجزه شيء في عالم الغيب والشهادة ، وأن هذا الإنسان قد انطوى فيه العالم الأكبر ، وأن مظاهره لا تتناهى ولا تقف عند حد لما أودع فيه من جوهر العقل ونور الحكمة ، وأن مزايا البشر بعدد البشر ، هان عليك حصول الأمور الخارقة للعادة من المعجزة والكرامة والإخبار بالمغيبات وسلمت بوقوعها تسليم إيقان.

وها نحن نسوق لك في هذا الموضوع ما يأخذ بيدك إلى مهيع الصواب والحق إذا أمعنت النظر وأطلقت للعقل زمام التدبر بعد أن تستخلصه من شائبة هوى النفس والإعجاب بالرأي ، وإذا لم تثب بعد هذه البراهين الواضحة والدلائل الظاهرة إلى سبيل الرشاد ولم تعد إلى الطريق السوي القويم فأنت معاند مكابر ولا كلام لنا مع المعاندين والمكابرين.

قال العلامة ابن خلدون في مقدمته في بحث حقيقة النبوة وغير ذلك من مدارك الغيب : إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس ، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم ولا من غيرها ، إنما تجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها ، وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء ، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها ، وأهل الزجر في الطير والسباع ، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى ، وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحد جحدها ولا إنكارها ، وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها ، وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب ، وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة لهم


مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة.

وبعد أن تكلم على هذه الإدراكات واحدة واحدة قال : ومن الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتا صناعيا بإماتة جميع القوى البدنية ، ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس ، ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها. ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع. ومن المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه واطلعت النفس على ذاتها وعالمها ، فيحاولون ذلك بالاكتساب ليقع لهم قبل الموت ما يقع لهم بعده ، وتطلع النفس على المغيبات. ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم ، وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا خصوصا بلاد الهند ، ويسمون هناك الحوكية ، ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة ، والأخبار عنهم في ذلك غريبة.

وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعريّة عن هذه المقاصد المذمومة ، وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق العرفان والتوحيد ، ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر ، فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة ، لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله ، وإذا عرّيت عن الذكر كانت شيطانية. وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أول الأمر ، لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله ، وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب ، وأخسر بها صفقة ، فإنها في الحقيقة شرك. قال بعضهم : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ، فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا شيء سواه ، وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصود لهم ، وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنما يريد الله لذاته لا لغيره. وحصول ذلك لهم معروف ، ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفا ، وما يقع لهم من التصرف كرامة ، وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم.

(ثم قال) : ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء ، وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصدّيقين ، وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين ، ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه


بالعجائب ، وربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم ، والولاية لا تحصل إلا بالعبادة ، وهو غلط ، فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ، ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها ، وإذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه.

وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين ، وإنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف ، وهي صفة خاصة للنفس ، وهى علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله ، وكانه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده ، وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته ، فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش ، ولا استحالة في ذلك ، ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف. وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء المجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم ، ولك في تمييزهم علامات ، منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة مالا يخلون عنها أصلا من ذكر وعبادة ، ولكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف ، والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلا. ومنها أنهم يخلقون على البله من أول نشأتهم ، والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية ، فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة. ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم ، والمجانين لا تصرف لهم ا ه.

وقال فريد وجدي في كتابه «كنز العلوم واللغة» : من الناس من يزعم أن النواميس الطبيعية لا تتخلف عن إحداث آثارها مطلقا ، وكل ما يروى لهم من الخوارق يكذبون به أو يؤولونه ، وليس لهم على ذلك من حجة ناهضة إلا دعواهم بأن لا موجود غير المادة المحسوسة وما غاب عن حسهم فما هو إلا قواها وحركاتها.

وهذه دعوى لا تليق أن تقال على هذا الأسلوب الكبريائي إلا ممن يكون قد حضر خلقة الكون من أوله إلى آخره (١) وعلم أن لا موجود فيه غير ما تحسه مشاعرنا القاصرة ، ولكن هنالك رجال قام الوجود نفسه بالشهادة لصدقهم ، قالوا : إن لله ملائكة ومخلوقات

__________________

(١) والله تعالى يقول في كتابه المبين : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ).


أخرى غير مرئية لنا كالجن وما لا نعلم غيرهم. ثم تلاهم رجال آخرون من عباد الله الصالحين قالوا مثل مقالاتهم عن رواية ومشاهدة. فإن زعم زاعم بعد هذا كله أن هذه المقالات لم يتوفر فيها الأسلوب العلمي تماما فيصعب عليهم قبولها فهؤلاء علماء المادة في أوروبا قاموا يثبتون أنهم يرون أرواحا تتجسد وخوارق أخرى لا يسع هذا المقام بسطها كإدخال الحيوانات الحية والمنقولات الضخمة من خلال الحائط ، وإحداث تيارات هوائية في المحال المغلقة ، وإيجاد أنوار من غير سبب ظاهر ، وإبطال قانون الثقل والجاذبية الأرضية بدون مؤثر مشاهد ، وغير ذلك كما أثبته الأستاذ كروكس رئيس الجمعية العلمية الإنجليزية سابقا في كتابه الذي طبعت ترجمته الفرنسية اثنتي عشرة مرة. وقد أثبت غيره من العلماء ملايين من حوادث أخرى رأوها بأعينهم وجربوها بأيديهم في أصقاع الأرض كافة. فإن جمد جامد بعد هذا البيان وكذب تلك الملايين من العلماء والأذكياء وادعى أنهم كلهم مجنونون فليعش هو بعقله ، ولكن ليعلم أن قفص هذه المادة المظلمة لو راق له وأنس به فلا يروق لغيره ، فإن لكل فؤاد مطلبا لا يهنأ إلا به. ا ه.

وفي ذلك كفاية للمستبصرين والله الهادي إلى سواء السبيل.

وصف مكان الشيخ أبي بكر :

هو كما ترى رسمه في الصحيفة الآتية مشتمل على إيوان كبير في صدره قبلية صغيرة تقام فيها الجمعة ، وعن يمينه حجرة واسعة لها قبة مرتفعة طولها نحو (١١) ذراعا وعرضها مثل ذلك ، في وسطها ضريح الشيخ قدس‌سره ، وفي صدرها محراب من الرخام الأصفر يتخلله أحجار من الرخام الأسود والأبيض ، وجميع رخامه الأصفر منقوش نقشا بديعا داخل المحراب وخارجه ، ولا تسل عن حسن ذلك ومقدار العناية في هندسته وتنوع الأشكال في تلك النقوش.

وفي صدر هذه الحجرة شباكان مطلان على التربة التي هناك ، وفي مصراعي كل شباك في أعلاه من صنعة النجارة ما يدهش الناظر لدقتها. وفي الجهة اليمنى ثلاث نوافذ وفي الشمال كذلك ، وفي الغرب نافذتان أيضا ، وهناك الباب ، ويعلو كل شباك تاج مرخم ترخيما حسنا. وفي كل جدار كوة واسعة وضع فيها شبابيك من الجبسين مرخمة ترخيما بديعا يدلك على براعة صنعه ، إلا أن الكوة التي فوق المحراب ذهب منها ذلك. وباب الحجرة



فيه من حسن الصنعة في النجارة ما تقدم ، ومكتوب فوق بابها هذا البيت :

باب إذا ما أمّه ذو حاجة

وجد الذي يرجوه في الدارين

والإيوان جميعه من الرخام الأصفر والأبيض ، وهو مقبو بالحجارة ، وفيه ثلاث قناطر مبنية على عمودين من الرخام ، وعن يسار هذا الإيوان حجرة صغيرة في وسطها ضريح خليفة الشيخ وهو الشيخ أحمد القاري المتوفى سنة ١٠٤١.

وفي شرقي الإيوان رواق صغير له ثلاث قبب مبنية على عمودين عظيمين من الرخام الأصفر ، وفي صدر هذا الرواق قاعة كبيرة لها قبة مرتفعة السقف كتب في وسطها بخط بديع (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)* عدة مرات.

وفي وسط هذه القاعة حوض صغير يأتيه الماء من دولاب هناك ، ويظهر أن هذه القاعة هي مكان إقامة الأذكار أو استراحة الدراويش ، وأرضها مرخمة بالرخام الملون ، ولها خمس نوافذ على البرية مطلة على البلد ، وهذه القاعة النفيسة في حاجة إلى الترميم حفظا لها من التداعي.

وعن يمين هذه القاعة حجرة صغيرة للاستراحة ، وهناك مدخل فيه درج يصعد منه إلى بيت وحجرة. وشرقي هذه القاعة قصطل بني سنة ١٠٠٥ يأتيه الماء من الدولاب. ويحكون في سبب بنائه حكاية غريبة ، ووراءه قبو كبير فيه الدولاب الذي ذكرنا عمقه عشرون باعا يستخرج ماؤه بواسطة دابة تدور. وأمام البنايات التي ذكرناها صحن واسع الأطراف ، وهناك حوض كبير ومصطبة معدة للصلاة ، وشمالي هذا الصحن بيوت لسكنى من يلوذ بالتكية ، وقد بني في ذلك الموقع عدة دور تبلغ (١٥) دارا.

وفي التربة الذي قدمنا ذكرها عدة قبور ، أحدها قبر قديم يغلب على الظن أنه قبر القصيري خليفة الشيخ أحمد القاري ، لكن دفن فيه بعد ذلك بعض الدراويش كما هو محرر على ألواحه.

وفي غربي هذه التربة قبة دفن فيها عدة أشخاص من أمراء الأتراك ونسائهم ، وفي وسطها ضريح باني التكية الصدر الأسبق (أو كوز محمد باشا) المتوفى سنة ١٠٠٢ ، ومكتوب على باب هذه القبة بالتركية :

__________________

(*) الإسراء : ٨٤.


حلب واليسي إيكن

ارتحال إيدن إشبو دركاه

شريفك بانيسي صدر أسبق

أو كوز محمد باشا روحيجون

ومن هذه الحجرة تدخل إلى حجرة أخرى فيها قبران أحدهما قبر حاجي أحمد باشا والي حلب المتوفى سنة ١١٦٦ كما قدمناه في الحوادث ، والثاني قبر واليها سليمان باشا الفيضي المتوفى في ١١ رمضان سنة ١٢٠٨ ، وقد فاتنا أن نذكر في الحوادث أن وفاته كانت بحلب إذ لم نعلم ذلك إلا بعد رؤية قبره في هذا المكان ، وعلى هذا يكون بين سليمان باشا هذا وبين عبد الله باشا المتعين لولاية حلب سنة ١٢١٠ وال آخر لم يذكر في السالنامة. وهناك ثلاثة أشجار من السرو عظيمات جدا كما تراه في الرسم يقال إنها غرست من نحو مائتي سنة.

وفي شرقي التكية ساحة واسعة في شرقيها جدار كان متصلا من جوانبه الأربع. وكان هناك قصطل من آثار خورشيد أحمد باشا بناه سنة ١٢٣٣. وفي شرقي التكية على بعد نحو (٤٠) مترا إصطبل كبير بناه إبراهيم المصري حين وجوده في حلب.

وفي الجملة فإن هذا المكان من أنزه الأمكنة في مدينة حلب يؤمه الناس للزيارة والتنزه خصوصا أيام الربيع.

وكان في التكية مكتبة حافلة أسسها الشيخ أحمد القاري الذي قدمنا ذكره وأودع فيها نفائس المخطوطات ، لكن لعبت بها بعد ذلك أيدي العابثين فمزقتها كل ممزق ، شأن المكاتب الكثيرة التي كانت في مدارس الشهباء وجوامعها وتكاياها ، وقد بقي منها بقية قليلة موضوعة في خزانة صغيرة في الحجرة التي فيها ضريح الشيخ. ومن نفائس هذه البقية «أنوار القلوب في جوامع أسرار المحب والمحبوب» للقاضي أبي المعالي عزيزي بن عبد الملك سيد له ، ونسخة من «تفسير البيضاوي» جلدها نفيس جدا ، و «شرح أسماء الله الحسنى» تأليف أبي الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بابن برجان المراكشي (١) محرر سنة ٥٧٦ ، وهو مجلد كبير ضمنه جزءان كتب في طرفه : من كتب الفقير عمر بن عبد الوهاب العرضي الشافعي القادري ، وستأتيك ترجمته في أوائل القرن الآتي إن شاء الله تعالى ، ومجموعة في الأدب لبعض بني الكوراني ، ومما أورده فيها هذان

__________________

(١) ابن برجان هذا تقدم ذكره في الجزء الثاني (في صحيفة ١١٧) وأنه لما قال محيي الدين ابن الزكي (وفتحك القلعة الشهباء في صفر) إلى آخر البيت قيل له : من أين لك هذا فقال : أخذته من تفسير ابن برجان فهو ممن له عناية بهذه العلوم.


البيتان وأظنهما له :

يقول عذولي قهوة البن مرة

وشاربها يوما من الإثم لا يخلو

فقلت له دع عنك لومي فإنني

قد اخترتها فاختر لنفسك ما يحلو

ومما جاء فيها : قال المرحوم أبو الوفا العرضي : سمعت أبياتا للمرحوم يحيى أفندي مفتي دار السلطنة بالتركية فجعلت هذه الأبيات بالعربية وهي :

يقول البلبل المشتاق إني

حكيت لهم غرامي فوق غصن

فما فهموا صباباتي وهمي

ولا علموا إشاراتي وفني

ومنهم رمت كشف الضر عني

وأن يرثوا لحالاتي وحزني

فما شاهدت منهم غير سوء

وطول الأسر في قفص وسجن

ومنذ عهد قريب حررت دائرة الأوقاف هذه البقية من الكتب (بعد خراب البصرة) وفي عزمها أن تنقلها إلى المكتبة التي أسست في المدرسة الخسروية.

والتكية الآن تحت يد دائرة الأوقاف ، وأوقافها الباقية الآن أراض في جوار التكية وفي جوار الشيخ مقصود وكرمان وسهم الزهراوي وداران وثلثا ثلاثة دور في محلة آقيول يبلغ مجموع وارداتها نحو ١٥٠ ليرة عثمانية ذهبا.

٩٣٤ ـ أحمد بن الشهاب الأسدي المتوفى في هذا العقد ظنا

أحمد بن الحسن بن علي بن أبي بكر ، الشيخ شهاب الدين الحلبي الأسدي الحنفي ، أحد بني الأستاذ بحلب ، المشهورين الآن ببني دريهم ونصف ، من بيت قديم بحلب.

ذكره الشيخ أبوذر في تاريخه فقال : بيت الأستاذ وهم أسديون من أسد بن خزيمة. ومنازلهم بباب أربعين ، وفيهم الفضلاء والعلماء والصلحاء. قال : وعرفوا بذلك لأن جدهم يعلم الناس القرآن العظيم وانتفع به خلق. قال : وقال الصفدي : هم بيت معروف في العلم والدين والتقدم والسنة والجماعة. وقد ولي قضاء حلب من بيتهم جماعة. انتهى كلامه.

ولد الشيخ شهاب الدين بحلب في شعبان سنة سبع وثلاثين ، وكان قد تفقه وهو بمكة


على الشيخ الصالح إسماعيل الهندي ، ثم قرأ علي بحلب في العربية في كتب آخرها «الوافية» و «توضيح ابن هشام» وفي شرحي إيساغوجي للكاتبي والفناري في المنطق ، وسمع عروض الأندلسي. واتفق له معنا فيه أن القارىء شرع في قراءة بيت الضرب الثاني من الكامل قائلا : (وكملت لا أحد يفوقك في علا). فقال لي : هذا البيت في شأنكم ، فقلت له : لا تغالط ، فإنما آخره (وطلعت في أفق الكمال شهابا) وأنت الشهاب لا أنا.

وقرأ علي «أشكال التأسيس» في الهندسة وكذا «مخايل الملاحة في مسائل المساحة» من تأليفي ، وقرأ شرح إيساغوجي للكاتبي وسمع شرح الشمسية مع قراءة حاشيته للسيد الجرجاني في المنطق إلا جانبا منها ، وقرأ «شرح السراجية» له «ونزهة الحساب» وقطعة من «منازل السائرين إلى الحق» في التصوف لمزيد رغبته فيه ولطف مشربه لصافيه ، حتى حداه فرط شغفه به إلى ملازمة مجالس الشيخ الزين ورفع خواطره إليه وعرض أحد وثات نفسه عليه وإلى مطالعة كتب القوم لما احتوى عليه من لطف الذوق وصفاء الباطن ، مع ما عنده من الميل إلى السماع ولطف العشرة ونقد الشعر وقرضه وحفظ أحسن ما سمعه منه. سمعت من لفظه لبعضهم :

أربعة مذهبة

لكل هم وحزن

لذيذة يحيا بها

روحي وجسمي والبدن

الماء والخضرة والدينار

والوجه الحسن

وأنشدني لذي الرمة :

خليليّ إني للثريا لحاسد

وإني على ريب الزمان لواجد

تجمّع منها شملها وهي سبعة

ويؤخذ مني مؤنسي وهو واحد

فأنشدته لنفسي :

حسدت الثريا وهي سبعة أنجم

منحن اجتماعا والحبيب مفارق

وقالت أصخ إني وأنت على الهوى

وقد شاب منه رأسنا والمفارق

ألم أهو بدرا أنت تهوى جماله

فطورا ألاقيه وطورا أفارق

وأنشدته مرة لنفسي :

كيف أسلو من لو حباني مرارا

لم أكن؟؟؟ لمغناه مرّه


ثم لولا جلالة الشرع عندي

كنت قبلت ثغره ألف كرّه

فقال : ينبغي أن لا يراد بالكرّة هنا معنى المرّة كما هو مقتضى اللغة ، بل الكرّة المتعارفة عند أرباب الديوان الدفترداري ، فكان ذلك من لطيف ذوقه.

ومن شعره :

خلعت عذاري في هوى شادن له

عذار كمسك سال من فوق خدّه

ولست بسال عن هوى طرفه الذي

أسال دماء المقلتين بحدّه

ومن شعره :

نقش الغرام جمالكم في خاطري

فلذاك شخصك لا يفارق ناظري

قمر له في القلب مني منزل

ما حلّ فيه سوى الغزال النافر

ملكت سيوف لحاظك البيض الحشا

وتطاولت لسواد حظّي القاصر

والقدّ قدّ تصبّري لما بدا

يهتز عجبا خاطرا في خاطري

وهواك أصبح مالكا لظواهري

وضمائري حتى سرى في سائري

قد صحّ مني الشوق لما أن بدا

سقم الجفون بناظريه لناظري

نفثت لنا السحر الحلال لحاظه

فغدت لعقل الصب أعظم ساحر

جمع المحاسن وجهه لما غدا

متبسما عن زهر روض زاهر

الخد ورد واللواحظ نرجس

وبنفسج الصدغين خير مسامر

وعذاره الآسي هو الآس الذي

ألقى محبيه بنار السامري

والقدّ بان بان فيه تهتّكي

فإلى متى هذا الجفا يا هاجري

٩٣٥ ـ سعد الله بن علي الملطي المتوفى سنة ٩٤٦

فاتنا أن نذكر ترجمته في محلها وهو جدير بالترجمة لما له من الآثار الهامة الكثيرة ، فاضطررنا أن نذكرها هنا وهو من رجال «در الحبب».

قال في ترجمته : هو الخواجه سعد الله بن علي بن عثمان الملطي.

كان من عين أعيان التجار بحلب ، وكان معمرا جدا ، حصلت له حظوة تامة عند


الأمراء والوزراء وصيت في المال ، ذو كمال ورفعة. وهو الذي عمر جسر يغرا من ماله بعد موته ، فكان قدر المصروف عليه عشرة آلاف دينار سلطاني أوصى بها له. ومات بالوخم في عمارة الجسر اثنان ممن تولوها من بعده سوى جماعة من معماريته ماتوا بالوخم أيضا إلى أن انتهت عمارته. وعمر قبله جسر دركوش فصرف عليه ما يزيد على نصف ذلك ، وكان قد شرع فيه فوضع الجسر رجلا واحدة ، ثم بدا للمعمار أن يجعل الجسر في غير ذلك المكان فوق أو تحت ، فلم يخالفه ، وجدد على تلك الرجل مسجدا لله تعالى.

وأنشأ في محلة البياضة مسجدا وقسطلا تحتانيا سوى حياض له أخرى في محلات أخر ، ومكتبا فوق القسطل لتعليم الأطفال ، وجعل مكانه الذي كان يجتمع به الناس تكة صغرى يمد فيها بعد موته كل ليلة من وقفه سماط للفقراء من طلبة العلم وفقراء المحلة وغيرهم.

وعمر له مدفنا داخل باب المقام ملاصقا لجامع الطواشي بعد أن وسعه بما لا مزيد له ، وزاد في وقفه فصار جامعا عظيما.

ثم توفي ودفن في مدفنه هذا رحمة الله عليه سنة ست وأربعين وتسعماية ، ولم يخلف ولدا ذكرا ولكن ذكرا حسنا. وكان صديقنا رحمة الله عليه ا ه.

أقول : المسجد الذي ذكره هو في آخر محلة البياضة ، وهو مسجد صغير وله من الأوقاف أربعة دور وأربعة دكاكين ومخزن ، وهو تحت يد دائرة الأوقاف. والقسطل التحتاني هو أمام هذا المسجد ويعرف بقصطل الطويل لأنه ينزل إليه بدرجات كثيرة ، وهو معطل. وفي العام الماضي (أي سنة ١٣٤٣) بني في أول الدرجات جدار ووضع ثمة. حنفية يأتيها الماء من عين التل.

الكلام على جامع الطواشي وزاوية الجيّة :

قال أبوذر : هذا الجامع داخل باب المقام أنشأه جوهر العلائي الطواشي ، وهو مطل على خندق قديم داخل البلد الآن. وهذا الجامع لطيف وله خزانة خلف منبره ، فإذا قضيت صلاة الجمعة أدخل هذا المنبر إلى هذه الخزانة. وذكر لي أن واقفه كان قد أسسه خانا ، فمر به شخص فقال له : ماذا تبني هذا؟ فقال : خانا ، فقال : تبنيه لأولادك ، فاستيقظ الطواشي وبناه جامعا ، وفي قبلته انحراف.


وقال في الكلام على الزوايا : (زاوية الجية) : هذه الزاوية داخل باب المقام ملاصقة لجامع الطواشي المتقدم ذكره في الجوامع أنشأها (بياض قدر أربعة أسطر).

وذكرها في الدر المنتخب في الباب الحادي والعشرين ، لكنه سماها المدرسة الألجانية حيث قال : (المدرسة الألجانية) : لصيق جامع الطواشي صفي الدين جوهر داخل باب المقام عن يسرة السالك بالطريق الأعظم عند نهايته. ا ه.

المكتوب على بابه :

(١) البسملة. أنشأ هذا الجامع العبد الفقير إلى الله صفي الدين بن عبد الله الطواشي ثم جدده الفقير إلى الله

(٢) الحاج سعد الله ابن الحاج علي بن الفخري عثمان الملطي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين بتاريخ عام أربعة وأربعين وتسعمائة ا ه.

وللجامع بابان : باب من جهة الشرق وباب من جهة الغرب ، وله منارة قديمة قصيرة يظهر أنها من جملة ما جدده الحاج سعد الله المذكور. وصحنه واسع في وسطه حوض وراءه مصطبة ، وله أروقة من الجهات الثلاث.

وقبيلته واسعة طولها نحو (٢٧) ذراعا وعرضها نحو (١٥) ما عدا الجدران ، وفيها منبر من الحجر الأصفر ، ويتخلل جوانبه حجارة من الرخام الأسود والأبيض على شكل مثلث ، ومكتوب على الحجرة التي على باب المنبر :

(١) لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى

(٢) ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.

وفي القبلية محرابان : أحدهما عن يمين المنبر والثاني عن يساره ، وهذا مؤلف من أحجار نافرة إلى داخل المحراب مضلعة الشكل ، وهو على شكل محراب الجامع العمري في محلة بحسيتا ، ويظهر أنهما بنيا في عصر واحد ، وهو يشبه طرز البناء الرومي بقنطرته وبقية أوضاعه.

وعن يسار هذا المنبر شعرية قديمة حسنة النجارة جدا تدخل منها إلى حجرة مقبوة


في وسطها قبر مجدد الجامع الخواجه سعد الله الملطي كما تقدم ذلك عن در الحبب. ومن غريب الأمور أن هذا القبر جددت أحجاره منذ سنوات قلائل وكتب عليه أنه قبر الشيخ علي القاشاني المتوفى سنة ٨٦٧ مؤلف «نور الإيضاح» ، ولا وجود لرجل من علماء الشهباء مسمى بهذا الاسم ، و «نور الإيضاح» كتاب صغير في الفقه الحنفي كثير التداول ومؤلفه الشيخ حسن الشرنبلالي وهو مصري ، ولدى التحقيق تبين أن البعض من العوام البله فعل ذلك ، فأخبرت دائرة الأوقاف بالحقيقة ووعدت أن تمحو ما كتبه هذا الجاهل وتكتب موضعها اسم مجدد الجامع رحمه‌الله.

وفي شرقي القبلية إيوان واسع كان الزاوية أو المدرسة المتقدمة الذكر ، ولها باب من صحن الجامع ، وهي الآن داخلة في عموم البناء الذي بناه المجدد الخواجه سعد الله. وهناك سدة وهي مدهونة دهانا جميلا جدا تستدل منه على رقي هذه الصنعة في ذلك العصر ، وكان لها سلم مدهون على شاكلتها كسره العسكر الذين قطنوا في هذا الجامع أثناء الحرب العامة منذ ثمان سنوات.

وكان المتولي على هذا الجامع الشيخ إبراهيم السلقيني تولاه سنة ١٣٢٢ ، وفي أثناء توليته عمر الرواق الغربي ، ثم استلمته منه دائرة الأوقاف سنة ١٣٤١. وفي هذه السنة وهي سنة ١٣٤٤ اهتمت بترميم أروقته وتبليطها وترميم أسطحته ، ولا زال العمل قائما فيه. والباقي له من العقارات أربعة دور وتسعة دكاكين وفرن وأرض.


أعيان القرن الحادي عشر

٩٣٦ ـ الشهاب أحمد بن محمد بن الملا المتوفى سنة ١٠٠٣ (١)

أول من ترجمه ونوه بفضله شيخه الرضي الحنبلي في تاريخه ، وتلاه الغزي في «كواكبه» وفي ذيله المسمى «لطف السمر وقطف الثمر».

قال الرضي : أحمد بن محمد بن علي بن أحمد الشيخ شهاب الدين أبو العباس الحصكفي الأصل الحلبي المولد والدار الشافعي ، السابق ذكر والده وجده ، وجده لأمه الشرف يحيى ابن المحب بن آجا.

ولد سنة سبع وثلاثين ، ونشأ في كنف أبيه فاشتغل بالعلم فلازمنا مدة في «مغني

__________________

(١) اعلم وفقك الله لما فيه السداد أن ما أذكره في هذا القرن بدون عزو هو مأخوذ عن التاريخ الموسوم «بخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» للعلامة الشيخ محمد المحبّي الدمشقي ، وما كان من غيره فإني أعزوه لموضعه. ولا بأس أن نذكر هنا المآخذ التي أخذ عنها العلامة المحبّي حيث قال في خطبة تاريخه المتقدم : وقد وجد عندي مما أحتاج إليه من المعونة والآثار المتعلقة بهذه المؤنة ذيل النجم الغزي ، وطبقات الصوفية للمناوي ، وتاريخ الحسن البوريني ، وذيله لوالدي المرحوم ، وخبايا الزوايا ، والريحانة للخفاجي ، وذكرى حبيب للبديعي ، ومنتزه العيون والألباب لعبد البر الفيومي ، هذا ما عدا المجاميع والتلقيات من الأفواه والمكاتبات. وذيل الجمالي محمد الشبلي المكي الذي ذيّل على النور السافر في أخبار القرن العاشر للشيخ عبد القادر العيدروس ، والمشروع الروي في أخبار آل علوي ، وذيل الريحانة للسيد علي بن معصوم الموسوم بسلافة العصر في شعراء أهل العصر ، وذيل الشقائق النعمانية الذي ألفه ابن نوعي بالتركية وضمنه معظم أهل الدولة العثمانية ا ه.

وفات المحبّي هنا رحمه‌الله أن يذكر القطعة التي ظفر بها من معادن الذهب للشيخ أبي الوفا العرضي ، فقد كانت من جملة مآخذه وقد ذكرها في ترجمة الشيخ أبي الوفا الآتي ذكره في هذا القرن.


اللبيب» فما دونه من كتب النحو ، وفي «شرح المفتاح» للشريف الجرجاني فما تحته من كتب البلاغة ، وفي حاشيته على شرح «الشمسية» وشرح «الغرة» لشيخنا السيد عيسى الصفوي بإشارته أن يقرأ عليّ ، فما دون ذلك في المنطق وفي سماع شيء من البخاري وغيره في الحديث ، وفي سماع قطعة حافلة من «شرح الشاطبية» للجعبري ، وقراءة أخرى من «شرح ألفية العراقي» لمؤلفها. وأخذ عني «شرح النخبة» لمؤلفها و «شرح الورقات» للمحلي.

وقرأ عليّ من مؤلفاتي «كحل العيون النجل في حل مسألة الكحل» و «الكنز المظهر في استخراج المضمر» ، و «كنز من حاجى وعمّى في الأحاجي والمعمّى» وغير ذلك عن دراية لا محض رواية. وأجزت له أن يروي عني جميع ما يجوز لي وعني روايته. وأخذ عني الكثير من شعري.

وصحب سيدي محمد بن سيدي علوان وهو بحلب سنة أربع وخمسين ، وسمع منه قريبا من ثلث البخاري وأجاز له ، وفاز بحضور مواعيد له بها. وسمع من البرهان العمادي المسلسل بالأولية وأجاز له روايته ، وقرأ بها على الشيخ إبراهيم الضرير الدمشقي للكوفيين وابن عامر من أول القرآن العظيم إلى آخر الأعراف ، ثم لأهل سما إلى آخر الأنعام ، ثم للسبعة إلى آخر الكهف ، كل ذلك بما تضمنه الحرز وأصله ، ثم للثلاثة إلى سيقول السفهاء ، ثم للعشرة إلى آخر الحديد ، كل ذلك من طريق التحبير للإمام الجزري ، وأجاز له ذلك بما له من الأسانيد عن شيوخ شاميين ومصريين ، وذلك في سنة ست وخمسين.

ورحل إلى دمشق رحلتين فقرأ بهما شرح ملا زاده على «هداية الحكمة» على الشيخ الصوفي محب الله التبريزي مجاور التكية السليمية مع سماع بعض تفسير البيضاوي عليه ، وقرأ قطعتين صالحتين من «المطوّل» و «الأصفهاني» على الشيخ أبي الفتح الشبستري وقطعا من الصحيحين وأبي داود على ابن رضي الدين الغزي وأجاز له أن يروي ما قرأه وسمعه وما رواه وما أجيز له وما له من تصانيف وشروح ومتون ، بل جميع ما تجوز له وعنه روايته قائلا في محل إجازته : وحضر دروسي بالشامية وغيرها وبحث بها بحوثا حسنة مفيدة أبان فيها عن يد في الفنون طولى ، وكلما انتقل من مسألة إلى غيرها تلا علينا لسان الحال (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى)*. وقرأ على النور السيفي نزيلها قطعة جيدة من

__________________

(*) الضحى : ٤.


البخاري رواية ودراية وأخرى من مسلم رواية ، وحضر عنده دروسا من «المحلّى الفرعي» و «شرح البهجة» للقاضي زكريا وأجاز له ، وكذا أجاز له فقه الشافعي حسب ما أخبره به البرهان بن أبي الشريف عن الزين القباقبي عن ابن الخباز عن الإمام النووي رضي‌الله‌عنه. وقرأ على الموفق الجراعي الحنبلي شيئا من البخاري رواية وأجاز له جميع ما يجوز له وعنه روايته كالشيخ المعمر نجم الدين الكناني الماتاني المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي بعد أن قرأ عليه شيئا من البخاري وجانبا من مسند أحمد رواية أبي علي الحسن بن المذهب عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي عن أبي عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه رضي‌الله‌عنهما ، وكتب عنه ثبتا له حافلا.

ورحل في سنة ثمان وخمسين إلى القسطنطينية فأخذ رسالة الأسطرلاب عن نزيلها الشيخ غرس الدين الحلبي ، واجتمع بشيخ الإسلام الشريف عبد الرحيم العباسي فمدحه بقوله :

لك الشرف العالي على قادة الناس

ولم لا وأنت الصدر من آل عباس

حويت علوما أنت فيها مقدم

وفي نشرها أصبحت ذا قدم راسي

وفقت بني الآداب قدرا ورتبة

وسدتهم بالجود والفضل والباس

فيا بدر أفق الفضل يا زاهر السنا

ويا عالم الدنيا ويا أوحد الناس

إلى بابك العالي أتاك ميمما

كليم بعضب عدت أنت له آسي

فتى عادم الآداب يا ذا الحجى فما

سواك لعار عن سنا الفضل من كاسي

فأقبسه من مشكاة نورك جذوة

وعلله من ورد الفضايل بالكاس

وسامحه في تقصيره ومديحه

فمدحك بحر فيه من كل أجناس

فلا زلت محمود المآثر حاوي ال

مفاخر مخصوصا بأطيب أنفاس

مدى الدهر ما احمرت خدود شقايقي

وما قام غصن الورد في خدمة الآس

ثم استجازه رواية البخاري فأجاز له.

ثم عاد إلى حلب وعرض عليّ رسالة ضمنها عشرين مسألة في عشرين علما على أسلوب رسالتي «أنموذج العلوم لذوي البصاير والفهوم».

ثم أطلعني على رسائل له أدبية منها «طالبة الوصال من مقام ذاك الغزال» المنسوجة على منوال «عبرة الكئيب وعبرة اللبيب» للصفدي و «شكوى الدمع المراق من سهام


قسيّ الفراق» ويا لها من مقامة عظم فيها مقامه وأزيح عمن أبيح له شرابها سقامه.

ووضع كتابا سماه «عقود الجمان في وصف نبذة من الغلمان» على أسلوب كتابي «مرتع الظبا ومربع ذوي الصبا» ، وآخر سماه «الروضة الوردية في الرحلة الرومية» وأودعه من صنعة الإنشاء ما غلا نضاره وعلا شأنه ومقداره من نثر تلالا نثاره وشعر دثاره اللسن وشعاره.

ونظم من المقاطيع والقصائد والموشحات الحسنة شيئا كثيرا كقوله في مليح لابس أسود :

ماس في أسود الثياب حبيبي

ورمى القلب في ضرام بعاده

لم يمس في السواد يوما ولكن

حلّ في الطرف فاكتسى من سواده

وكقوله في مليح منطقي :

ومنطقي وجهه روضة

تزيّنت بالنور والنور

له عذار دار من أجله

نقول صحّ الحكم بالدور

وكقوله في التضمين :

ظبي كساني حلّة وأدار لي

كاس الرحيق على رياض الآس

وغدا يقول عذاره اشرب يا فتى

واجعل حديثك كلّه في الكاس

وهو أصنع من قولي في الاستعانة بالبيت كله :

بالله إن نشوات شمطاء الهوى

نشأت فكن للناس أعظم ناسي

متغزلا في هاتك بجماله

بل فاتك بقوامه الميّاس

واشرب مدامة حبّ حبّ وجهه

كاس ودع نشوات خمر الطاس

وإذا جلست إلى المدام وشربها

فاجعل حديثك كلّه في الكاس

وقوله :

وغدير روض أشرقت في مائه

زهر النجوم وبدرها لم يغرب

فكأنها درر تقطّع سلكها

فيه ووافتها يد المتطلّب


وقوله ملغزا في سكر مما كتبه إليّ :

جنابك مخضر الرياض منوّر

وغصن العلا في روض مجدك مزهر

ومن جود يمناك استهل الحيا ومن

عقود مبانيك اللآلىء تنثر

فما أنت إلا كنز علم وقد بدا

لنا منه ياذا المجد درّ وجوهر

أقمت خباء الفضل بعد انحطاطه

فصار له شأن غدا بك يذكر

فها روضة الآداب أينع زهرها

وأفق المعالي من ضياك منوّر

طويت بنشر الفخر ذكر الألى مضوا

فيا لك من طيّ به المدح ينشر

وأوليت طلاب الندى الجمّ في العطا

عطاء يد الطائيّ عنه تقصّر

فيا منهل الإفضال يا قبلة الندى

ويا من له في العلم حظّ موفّر

إلى فهمك الراقي الرفيع مقامه

أتت منك تبغي العفو والستر أسطر

تروم جوابا عن سؤال أتت به

أسرّته لكن بامتداحك تجهر

فما كلمة من أربع قد تركبت

وتصحيفها منه الثلاثة يظهر

بنية مصر قد جلا ريقها وفي

رضى عاشقيها طال ما تتكسّر

إلى أن قال :

أدرنا بحان العشق أقداح خمرها

فعدنا سكارى وهي بالسكر تذكر

محجبة يسقى المريض شرابها

فيشفى وبالأفراح إياه تغمر

إذا وصلت فالعيش أخضر يانع

وإن هجرت فالربع أقفر أغبر

لها والد عالي القوام مهفهف

مليح التثني دونه السمر تقصر

تحلّى الثياب الخضر أهيف قدّه

فيا حبذا العيش الذي هو أخضر

وأرخى ذؤابات الدلال قوامه

فيا حسنه من مائس يتبختر

وما زال في الروضات يزهى بحسنه

تلاعبه أيدي النسيم فيخطر

إلى أن رماه الدهر بالقطع والأسى

فها دمعه من خدّه يتحدّر

وعذّب بالإحراق أبيض قلبه

وأيقن أن الموت لا شك أحمر

إلى أن قال :

فأنعم بأبيات أرق من الصبا

فنظمك هذا الدر قطر مسكّر


تبيّن ما أخفيت يا مورد الهدى

فأنت بكشف الستر أجدى وأجدر

فنظمنا في جوابه :

نهارك في فن البلاغة نيّر

وليلك في شأن الفصاحة مقمر

وشعرك بحر قد بدت منه أبحر

على أنه قد سيق لي منه جعفر

وهب أن بحرا فيه جمّ جواهر

فمالي ألقى جعفرا فيه جوهر

وها أنا ذا أبدي قريضا مقللا

لدي وإن تقبله فهو مكثّر

خليا عن التحسين معنى وصورة

يطيش إذا مرت على الدوّ صرصر

كتمت به ما إن حللت عويصه

ففي لفظه سر لمثلك يظهر

ألا يا لبيبا بالفضائل يذكر

ويا ألمعيّا بالفراسة يشكر

أبن لي ما من شأنه السحق لا الزنا

على أنه عند الإناث مذكّر

يساحق ليلا مثله فترى له

وليدا كما نور الحباحب يسفر

ويبدو لنا ركس إذا بان قلبه

وقالبه في أحسن السمت يخطر

على أربع تلقاه وهو بلا يد

ومن غير ريب رأسه يتكسّر

يعلّق في الأسواق من غير حرمة

ويستر بالأوراق والغصن مثمر

لوالده قدّ رشيق مهيّأ

لقصف وبسط ثوبه صاح أخضر

تبخّره من بعد تجريد ثوبه

ونرشف منه الريق وهو مبخّر

ولكنما العشاق لا يرغبون أن

يضموا له قدا بدا يتخطّر

إذا قيل شهد ريقه قلت باطل

أفيقوا لعمري إنما هو سكّر

وإن قيل بان قده وقوامه

أقل وقنا لدن وسرو وسمهر

ألا فأمط عما كنزت لثامه

وكن عاذرا لي إنّ مثلك يعذر

طوى كشحه عني القريض معرّجا

وكم قد حلا إذ مر لي فيه أعصر

ونال شعار القدح شعري وقد مضى

له من ثياب المدح برد محرر

فكن عاذري واكتم قصوري فإن يبن

يناد الأعادي إن زيدا مقصّر

وقوله من موشح مبسوط :

ربّ ريم رام قلبي فرمى

فيه سهما جاء من غير قسي


من رأى ظبيا أرانا أسهما

من لحاظ كعيون النرجس

يا نديمي قد صفا وقت الهنا

فاملأ الكاس وعجل بالطلا

وأدرها خمرة تولي المنى

فزمان الأنس بالبشر حلا

والحيا قد ألبس الروض سنا

وعلى الدوح من الزهر حلى

(وحكت بالأنجم الأرض السما

إذ غدت بالزهر منها تكتسي)

(وحبا الأغصان طرزا معلما

حين ما ماست بأبهى ملبس)

ما ترى يا صاح أغصان الصبا

فصبا القلب إليها باكتئاب *

ومن الزهر لها أغلى قبا

ومن الدوح لها أعلى القباب

(نقّطتها السحب درا مثل ما

كست الروض بثوب سندسي)

(وشذا عرف نسيما هيّما

وكذا يفعل زاكي النفس)

ما للاح مذ لحا طاب الهوى

في حبيب وجهه يحكى القمر

لذّ لي في حبه مرّ النوى

وارتكاب الهول يوما إن خطر

ما على من نجمه فيه هوى

حينما صد دلالا ونفر

(أحوري اللحظ معسول اللمى

فاحم الفرع شهي اللعس)

(ثغره أبدى لنا برق الحمى

وأثيث الشعر ثوب الغلس)

يا له بدرا حمى عني الكرى

قده والطرف عضب وأسل

في دجى الشعر له بدر سرى

وبشمس الوجه ليل قد نزل

خنث في جفنه أسد الشرى

وعلى أعطافه لين ودل

(ساحر المقلة معشوق الدمى

قمر الأفق وظبي المكنس)

(ذو لحاظ كم أراقت من دما

وهي تفدى بالجوار الكنّس)

ثم شرع فقرأ علي رسالتي «شرح المقلتين في مسح القلتين) دراية ، ورافق في سماع تأليفي «مخائل الملاحة في مسائل المساحة) ، وشارك في الجبر والمقابلة. وقرأ «المحلّى الأصولي» مع مشارفة حاشيته ، وسمع «شمائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» للترمذي من

__________________

(*) البيت ملفق من بيتين هما :

ما ترى يا صاح أغصان الربى

مائلات القدّ من خمر السحاب

رنحتها سحرة أيدي الصبا

فصبا القلب إليها باكتئاب


لفظي فكان السبب أن قلت (وهنا أنشد أبياتا تقدمت في ترجمة الرضي الحنبلي *).

قال : ثم أخذ عني كتابي «الفرع الأثيث في علوم الحديث» لما حررته بمشارفته ، وقرأ علي أيضا «شرح اللب الأصولي» للقاضي زكريا ، وكان السبب في أن وضعت عليه حاشيتي الموسومة بشرح اللب مع مشاركة في تحريرها وتهذيبها كما ذكرت ذلك في إجازتي له غب إتمامها في نسخة حاشيتي التي بخطه جريا على عادته في كتابة ما يقرؤه عليّ من تأليفاتي مختومة بإجازاتي.

ولما كانت سنة أربع وستين ولي تدريس البلاطية بحلب التي أنشأها الحاج بلاط داودار الحاج إينال كافلها إلى جانب تربة مخدومه على ما ذكر في تاريخ أبي الفضل ابن الشحنة. ومع هذا لم يزل ملازم القراءة علي في شرح «المواقف» و «العضد» مع حاشيتيه للسيد الجرجاني وللسعد التفتازاني. ا ه ما ترجمه به أستاذه العلامة الحنبلي.

وترجمه المحبي في «خلاصة الأثر» ومما قاله : وقد ذكره جماعة من المؤرخين والمنشئين ، وكلهم أثنوا عليه ووصفوه بأوصاف حسنة رائقة ، وبالجملة فإنه كان واحد الدهر في كل فن من فنون الأدب ، جمع بين لطف التحرير وعذوبة البيان ، وكان بالشهباء أحد المشاهير ومن جملة الجماهير ، نشأ في كنف أبيه ، وقرأ على جماعة من العلماء ، وأكثر اشتغاله على الرضي ابن الحنبلي صاحب تاريخ حلب. وهنا ساق مقروءاته ومن أخذ عنه كما تقدم ، ثم قال : وصنف وأفاد وشرح «مغني اللبيب» شرحا جمع فيه بين الدماميني والشمني وأطال فيه ، وهو في بابه لا نظير له. وتعاطى صنعة النظم والنثر فأحسن فيهما إلى الغاية. ومن محاسن شعره قوله :

نازع الخدّ عذار دائر

فوق خال مسكه ثم عبق

قائلا للخد هذا خادمي

ودليلي أنه لوني سرق

فانتضى الطرف لهم سيف القضا

ثم نادى ما الذي أبدى الفرق

أيها النعمان في مذهبكم

حجة الخارج بالملك أحق

وقوله :

__________________

(*) مطلعها :

يا من لمضطرم الأوا

م حديثه المرويّ ريّ


وأسمر من بني الأتراك ذي غنج

يهز قدا كغصن البان في هيف

كأنه حين يعلو سور قلعته

وينثني شرفا منه على شرف

غصن الصبا مزهرا قد رنحته صبا

عليه بدر بدا من دارة الشرف

وقوله :

ادّعوا أن خصره في انتحال

فلذا بان قدّه الممشوق

وأقاموا الدليل ردفا ثقيلا

قلت مهلا دليلكم مطروق

وقوله :

قالوا حبيبك أمسى لا تكلمه

ولا تميل لرؤيا وجهه النضر

فقلت أمر دعاني نحو جفوته

والحب للقلب لا للفظ والنظر

وقوله :

المشهديّ لسانه

قد فلّ كل مهند

إن رام إنشاد القري

ض فقل له يا سيدي

يشير إلى قول بعضهم في قول ابن الشجري العلوي :

يا سيدي والذي يعيذك من

نظم قريض يصدا به الفكر

ما فيك من جدك النبيّ سوى

أنك لا ينبغي لك الشعر

وهذا ألطف في التعبير بمراتب من قول مخلد الموصلي وهو :

يا نبي الله في الشعر ويا عيسى بن مريم

أنت من أشعر خلق الله إن لم تتكلم

وإن كان أصله ما قاله الثعالبي في كتابه المسمى «بالشكاية والتعريف» : إذا كان الرجل متشاعرا غير شاعر قالوا : فلان نبي في الشعر ، يعني أنه لا ينبغي له ذلك. وقال :

إن كنت تفخر يا رقيع بما عزمت من الشرف

فالله يدري ما تقول ولست إلا ذا سرف

إني أجل بني الرسول من أن تكون لهم خلف

وإذا قبلنا ما تقول فإنهم نعم السلف


ومن قول أبي تمام :

لئيم الفعل من قوم كرام

له من بينهم أبدا غواء

ومن لطائف مضامينه البديعة قوله في شخص عابه بانحسار شعر رأسه :

يعيبني أن شعر الرأس منحسر

مني فتى قد عري من حلة الأدب

وليس ذلك إلا من ضرام هوى

سرى إلى الرأس منه ساطع اللهب

أقصر عدمتك ذا داء بمبعره

فالعيب في الرأس دون العيب في الذنب

وكتب مع هدية قوله :

اقبل هدية مخلص

في وده وثنائه

واجبر بذلك كسره

واغنم جميل دعائه

ومما ينخرط في هذا السلك قول سعيد بن أحمد :

هديتي تقصر عن همتي

وهمتي تعلو على مالي

فخالص الود ومحض الولا

أحسن ما يهديه أمثالي

وله :

قد بعثنا إليك أكرمك

الله ببرّ فكن له ذا قبول

لا تقسه إلى ندى كفك الغمر

ولا نيلك الكثير الجزيل

واغتفر قلة الهدية مني

إن جهد المقلّ غير قليل

وقال في رحلته الرومية : لمحت بعريض شيزر غزالا بين الغزلان نافر ، وشادنا طار نحوه قلبي فألقى الذي بين جفنيه كاسر ، ومليحا أسفر عن بدر في تمامه ، وابتسم عن ثنايا كأنها الدر في انتظامه ، يتبعه شرذمة من خرّد النساء الحسان ، وهو يلعب بينهن كأنهن الحور وهو من الولدان.

صادني بالعريض ظبي غرير

بحسام من حدّ جفن غضيض

ثم لما انثنى بأسمر قدّ

أوقع القلب في الطويل العريض

وله من رسالة : يقبّل الأرض معترفا برق العبودية قربا وبعدا ، ومقرا بأن فراق تلك الخضرة الزكية لم يبق له على مقاومة الصبر جهدا ، ارتكب مجاز التصبر ليفوز بحقيقة


الاصطبار ، واستعار لقلبه جناح الشوق فها هو يود لو أنه نحوكم طار ، عجل عليه البين بدنو حينه ، وسبك في بودقة خدّيه خالص إبريز دمعة عينه ، وقطر بتصعيد أنفاسه لجين دموعه ، ونفى بتأوهه وأنينه طير هجوعه.

وله غير ذلك من غرر القول.

وكانت ولادته في سنة سبع وثلاثين وتسعمائة ، وتوفي في سنة ثلاث بعد الألف ، قتله الفلاحون في قرية باريشا من عمل معرة مصرين ظلما وعدوانا ، ودفن بالجبيل بالقرب من تربة جده لأمه الخواجه إسكندر بن آبجق رحمه‌الله تعالى ا ه.

وترجمه الشيخ محمد العرضي في مجموعته فقال : مطلق العنان في ميادين الفضل * ، ذو نظام كأنما هاروت نفث على لسانه سحر بابل ، كم له في ولاية الفضل من منشور ، فهو بحر علم بسفائن الأدب مسجور ، وروض بليل بأزهار الأشعار ممطور ، دأب وجدّ على قطف نور التحصيل ، ولإنسان الدهر فيه رجاء وتأميل ، وعكف على مجلس جدي الأعلى ابن الحنبلي مقتبسا من مشكاته ، متزودا من ثمار حضراته ، وذكره في تاريخ «در الحبب» وسرد مقروءاته ، وذكر له من شعره الكثير الغض النضير ، ثم لم يطب بالشهبا له المقام ، مهاجر الخليل وذات المقام ، فألقى عصا التسيار وحط رحل الرجا ، بقرى من أوقاف أجداده بني أجا ، واتخذها رحلة مرتبعه ومصطافه ، متجرعا غصص خلانه وألّافه ، وهناك صنف كتابه «منتهى أمل الأريب في شرح مغني اللبيب». عبث الهوى بيراعه فتأود ، وسقاه من سلاف الحب فعربد ، على أعيان من مشايخ حلب بل جبال رواسخ ، كالشيخ عبد الرحمن البتروني والخواجا عثمان العلبي ورفيقه في الاشتغال محمد الأسدي والسيد نويرة نقيب الأشراف ، حتى جمع رسالة في هجوه سماه «بالسهم المصيب في كيد النقيب» رتبها على حروف الهجاء ، وهنا ساق المساجلة التي جرت بينه وبين البدر حسين النصيبي وقد قدمناها في ترجمته. (ثم قال) : ولم يزل صاحب الترجمة في مضيعة الضياع ، تاركا ما لا يستطاع من المجد في المدن إلى ما يستطاع ، كما قيل في قول ابن الرومي :

هذا أبو الصقر فردا في محاسنه

من نسل شيبان بين الضال والسلم

إنما خص انفراده بالمحاسن بما بين الضال والسلم وهما شجرتان في البادية لأن فقد العز

__________________

(*) لعل الصواب : الفضائل ، وبذلك يتم السجع.


في الحضر. يقضي الفصول الثلاث الربيع والصيف والخريف بالقرى ما يستعد به لقضاء الوطر في المدن مقرونا بكافات الشتاء ، فيتسهل له بذلك الارتفاق والارتزاق ، وهو مع هذا بين إنجاح وإخفاق ، حتى حان عليه الحين ، ونعب بداره غراب البين ، وحق ما قيل الخلا بلا ، فقتله الفلاحون ظلما وعدوانا ، وجاور بعد أعدائه رضوانا في سنة ثلاث وألف ا ه.

ووقفت على أوراق بخط الشيخ إبراهيم ولد المترجم ، ومما جاء فيها : وللشيخ أحمد الأعزازي الأطرش يمتدح شيخ الإسلام الوالد :

مرأى جمالك في الدجى مصباح

وبطيب نشرك تنعش الأرواح

يا حاوي المجد الرفيع ومن به

لأولي النهي الإرشاد والإيضاح

رب الصبابة إن بدت أشجانه

أعليه في لثم الحبيب جناح

أمسى ومهجته لدى الظبي الذي

ما إن له أبدا لديه سراح

ريم بجفنيه سهام إن بدت

من دونها يعلو الكئيب نواح

والبيض من سود اللواحظ تنتضى

وبكل جارحة لهن جراح

وقوام قدّ دونه السمر التي

يعلو لذي الهيجا بهن صياح

والصب كم رام الخلاص وماله

أبدا إلى نيل النجاح جناح

أضحى بعيد الصون مفتضحا ولا

يخفاكم أن الهوى فضّاح

ثملان من خمر الصبابة إذ غدت

أحداق ساقيه له أقداح

أيحل أن يشفي غليل عليله

من سلسبيل رضابه ويباح

ويضم من عطفيه غصن ملاحة

في صبح وصل كله أفراح

لا غرو أن أوضحت مبهم قصتي

إن الشهاب له السنا الوضاح

الكلام على تأليفه «منتهى أمل الأريب من الكلام على مغني اللبيب» :

شرحه هذا أجل شروح المغنى لابن هشام ، وهو كما قال الغزي في سياق ترجمة المؤلف في تاريخه «لطف السمر وقطف الثمر» : إنه أفاد فيه وأجاد. وكما قال العلامة المحبي : إنه في بابه لا نظير له. وقال الشهاب في ريحانته في الكلام على ولدي المترجم محمد وإبراهيم : ووالدهما همام ألف وأفاد ، وعذبت موارد إفادته للوراد ، له تآليف كثيرة ، منها شرح مغني


اللبيب ، طرز بتحريره حواشيه ، ودخل جنته من أي باب شاء من أبوابه الثمانية.

وهو موجود في مكتبة المدرسة الأحمدية في مدينة حلب في مجلدين ضخمين أوله : حمدا لمن شرح صدورنا لفهم أسرار العربية بأفصح لسان ، وأمتن علينا بمزيد فضله فهو الرحمن علّم القرآن.

ويوجد المجلد الثاني في مكتبة المرحوم عبد القادر أفندي الجابري التي نقلت منذ سنتين إلى مكتبة المدرسة الخسروية في حلب وأوله : (ما) : تأتي على وجهين : اسمية وحرفية. وهو منقول عن نسخة بخط ابن المؤلف. ويوجد نسخة منه في مجلد واحد في المكتبة السليمية في الآستانة ورقمها ٥٥٥ ، وفي مكتبة بشير آغا وهي في مجلدين رقمهما ٦٠٤ و ٦٠٥ ، وفي مكتبة نور عثمانية في مجلدين أيضا ورقمهما ٤٦٠١ و ٤٦٠٢ ، ونسخة أخرى أو مجلد فقط في هذه المكتبة ورقمها ٤٦٠٣ ، ونسخة في مكتبة لا له لي في مجلدين ورقمهما ٣٤٣٦ و ٣٤٣٧ ، ونسخة في مكتبة راغب باشا ورقمها ١٣٦٦. وكل هذه المكاتب في الآستانة.

ووجدت على ظهر نسخة خطية من المغني بيتين بديعين هما لابن الملا المترجم يثني فيهما على كتاب المغني حيث يقول :

ألا إنما المغني عروس تزينت

وزفّت إلى الطلاب ترفل في الحسن

فقل لفقير النحو إن كنت راغبا

فمل نحو مغناه فهذا هو المغني

وأخبرني من عهد قريب الشيخ محمد طيب المغربي التونسي نزيل حلب ومدرس التاريخ في المدرسة السلطانية فيها أن هذا الشرح طبع في بلدته تونس منذ زمن ، وهو متداول هناك ولهم فيه عناية تامة.

ومن العجب أن يطبع هذا الشرح الجليل من أمد بعيد في تونس ويتداول هناك وهنا لا علم لنا بذلك فضلا عن عنايتنا به وإقبالنا عليه. وقد كتبت إلى تونس لابتياع نسخة منه وكنت آمل أن تحضر قبل تقديم هذه الملزمة للطبع فلم يتفق ذلك.

ومما يجدر ذكره هنا ما رأيته في سلك الدرر للمرادي في ترجمة الشيخ عبد الله بن الحسين السويدي البغدادي مولدا ووفاة نزيل حلب المتوفى سنة ١١٧٤ أن له حاشية على المغني جعلها محاكمة بين شارحيه كالدماميني والشمني وابن الملا والماتن.


ومن مؤلفاته شرح العزي في الصرف ، وشرح الشافية فيه أيضا ، وشرح الكافية ، وشرح غنية الإعراب في النحو. وغنية الإعراب هو أرجوزة لعبد العزيز المدني شرحها المترجم وسماه «كشف النقاب عن غنية الإعراب» ذكر فيه أن والده أشار إلى شرحه وأذن له فيه فوضع ثلاثة شروح على مقدمة الإعراب والتصريف والمنطق للشيخ المذكور.

وله كتاب في الفرائض. وله من المؤلفات التاريخية اختصار تاريخ الإمام الذهبي ومعظمه موجود بخطه وخط والده في الأحمدية بحلب ، ومختصر الدر المنتخب رأيت الجزء الأول منه بخطه أيضا وقد أوضحنا ذلك في المقدمة.

٩٣٧ ـ محمد بن قاسم بن المنقار المتوفى سنة ١٠٠٥

ترجمه شيخه الرضي الحنبلي فقال :

محمد بن قاسم ابن الأميري الناصري محمد ابن الأميري الشرفي يونس ، الشيخ الصالح الفالح الذكي الفاضل المفتي شمس الدين الحلبي ثم الدمشقي الصالحي الحنفي ، المشهور بابن المنقار ، الماضي تلقيب أحد أجداده بهذا اللقب في ترجمة الجمال يوسف عم والده المتوفى سنة ٩٤٣.

ولد بحلب سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة ، ونشأ في كنف والده ، فحفظ القرآن العظيم ، ولازمني سنين متعددة في فنون شتى كالصرف والنحو وانتهى فيه إلى «مغني اللبيب» ، وكذا البلاغة والبديع والعروض والمنطق والهندسة والهيئة والميقات والفقه وأصوله والفرائض وعلم الحديث ، وكالتصوف ، والذي أخذه مني فيه شرح حكم ابن عطاء الله الإسكندري للنفزي ، وكذا المعمّى فإنه أخذ عني فيه وفي الأحاجي رسالتي المسماة «بكنز من حاجي وعمّى في الأحاجي والمعمّى» ، وكالحساب ، وقد أخذ عني فيه كتابي «عدة الحاسب وعمدة المحاسب» قراءة ودراية كعدة من تأليفاتي مثل «تذكرة من نسي بالوسط الهندسي» وغيره.

وتخرج في قرض الشعر فشعر ، ونظم الشعر الحسن كما نثر.

ثم ذهب إلى دمشق سنة سبع وخمسين وتسعمائة فتولى بها تدريس الماردانية ، ثم تدريس الجوهرية. وقرأ على العلاء بن عماد الدين الدمشقي صاحبنا شيئا من تفسير البيضاوي ،


وكذا قرأ شيئا منه على منلا محب الله نزيل حلب قديما. ثم انتقل عن قضاء حلب إلى قضاء دمشق القاضي محمد المشهور بعبد الكريم زاده قرأ عليه منه أيضا عشرين درسا فأعجبه شأنه وقوي فيه اعتقاده ، فعرض له في إمامية التكية السليمية بالصالحية بحكم قصور إمامها ، فإذا إمامها قد حضر لديه وتلا بين يديه شيئا من القرآن العظيم ليعرض عن عرضه ، فيصل إلى غرضه ، فصمم على أن لا مجال ، وبذل له خمسة وعشرين دينارا في الحال ، رعاية للجانبين ودفعا لكدر الخاطر من البين. ثم لما صار قاضي العسكر بأناضولي توجه إليه فأعاد إليه تدريس الماردانية ، وكان قد خرج عنه ورقاه في علوم تدريس الجوهرية إلى خمسة عشر درهما عثمانيا ، وعاد من عنده إلى دمشق سنة خمس وستين وتسعمائة.

وترجمه الغزي في ذيل تاريخه «الكواكب السائرة» المسمى «لطف السمر وقطف الثمر» فقال : محمد بن قاسم الشيخ العالم شمس الدين بن المنقار الحلبي المولد والمنشأ ، ثم الدمشقي الحنفي. مولده بحلب سنة إحدى وثلاثين * وتسعمائة. طلب العلم في بلدته حلب ، ولازم ابن الحنبلي وغيره ، ثم وصل إلى دمشق في أواسط المائة العاشرة ورافق الشيخ إسماعيل النابلسي والشيخ عماد الدين المنلا أسد وطبقتهم في الاشتغال على الشيخ العلامة علاء الدين بن عماد الدين الشافعي ، وعلى الشيخ أبي الفتح الشبشيري وغيرهما. وحضر دروس شيخ الإسلام الوالد ، وأخبرني هو أنه حضر معهما للشيخ الوالد في ختان ولد له كان يقال له رضي الدين وأنه مشى في خدمته وقد أركبوه في شوارع دمشق. وكان الشيخ الوالد يصاحبه عمه البرهان ابن المنقار.

وكان الشيخ شمس الدين علامة إلا أن دعواه كانت أكبر من علمه ، وكان يزعم أن من لم يقرأ عليه أو يحضر درسه فليس بعالم. وكان كثير اللهج بذكر شيخه المذكور (يعني ابن الحنبلي) والإطراء في الثناء عليه ، وإنما يقصد بذلك التميز على أقرانه والانفراد عنهم. وكان بينه وبين الشيخ إسماعيل النابلسي رفيقه في الطلب تمام المناظرة حتى يؤدي ذلك بينهما إلى المهاجرة ، ثم يلائمه الشيخ إسماعيل ويأخذ بخاطره لأن الشيخ إسماعيل كان أنبل منه وأوسع جاها وإطلق لسانا ، ثم يعاود إلى منافرته. وسمعت الشيخ إسماعيل مرة يقول لابن عمه أحمد جلبي : كيف حال الشيخ الأكبر؟ يشير إلى تبجحه بنفسه. وكان يقع بينه

__________________

(*) في «لطف السمر وقطف الثمر» ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق ـ ١٩٨١ ـ تحقيق محمد الشيخ :

مولده بحلب سنة أربع وثلاثين وتسعمائة.


وبين المنلا أسد بسبب المباحث العلمية أشياء ، فيحتد من الأسد فينتقل من المناظرة إلى إيذائه بلسانه بسبب أن المنلا أسد خلفه على بنت عمه الشيخ شمس الدين لأنها كانت تحته ، فأدى سوء خلقه إلى أن طلقها ، فتزوجها المنلا أسد وهي أم أولاده ، فكان بسبب ذلك اشتداده عليه وإيصال إيذائه إليه. ووقع بينه وبين الداوودي بسبب عقد الداوودي لمجلس الحديث بالجامع الأموي ، فكان ينكر عليه ذلك ويستكثره ، ووقع بينهما مقاولة عند بعض القضاة فقال للداوودي (أنا صخرة الوادي إذا هي زوحمت) (١) وأنت يا ابن داوود :

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل *

وكان سريع الغضب سريع الرضا ، وإذا غضب لا يقوم لغضبه شيء ، وإذا داراه الرجل يصفو له ، ثم يغلب عليه الحال. وقع بينه وبين ولده الشيخ يحيى ، وكان شديد الحط على ولده ، وتصلح الناس بينهما ثم يعود إلى طرده والحط عليه. وجمع مرة جماعة من أعيان أهل العلم كالقاضي محب الدين والسيد القدسي في آخرين ودخل إلى القاضي يشكو من ولده ، فأحضر بين يديه وعزره فلم يشف خاطره منه ، وتسلط ولده عليه وعلى الجماعة حتى ذهب إلى الروم وجاء بأحكام في أبيه وفي بعض أعيانهم ، وكان يبادر إلى تخطئة الناس ويخطىء في تخطئته كثيرا.

وسمع مرة الشيخ رمضان العجلوني يقرأ في بعض كتب الحديث عن أبي سعيد الخدري بالمهملة ، فقال له : أخطأت يا شيخ ، الخذري بالذال المعجمة ، فقال له الشيخ رمضان : بل إعجام الدال خطأ. وصدق فإن النسبة إلى بني خدرة بالدال المهملة. وكان له من هذا القبيل أشياء. وكان يدرس في البيضاوي ، فإذا تفاوض الطلبة في البحث لا يزيدهم على قراءة عبارة الكشاف من الكتاب. وكان يكتب على الفتاوي ويغلب عليه الصواب. وولي إمامة السليمية فكان يقرأ قراءة العوام ، ويقف الوقوف التي لم يأت بها وجه عن إمام فتركها. وكان مدرسا في بقعة الأموي وغيره. وولي أخيرا تدريس القصاعية الحنفية. ولما كنت أعظ وأقرأ الحديث وأنا يومئذ دون العشرين سنة أنكر ذلك وحمله الحسد على الإنكار بغير وجه حتى شدد النكير في يوم الثلاثاء ثامن عشري رمضان سنة ثمان بعد الألف ، وكانت الشمس قد كسفت كسوفا كليا ، وصلى شيخنا إماما بالناس صلاة الكسوف

__________________

(١) البيت لأبي الطيب وتمامه (وإذا نطقت فإنني الجوزاء).

(*) البيت للأعشى.


بمحراب الأولى من الجامع الأموي ، ثم حضر الشيخ شرف الحكيم الخطيب فصلى وحضر الشيخ شمس الدين بذلك المشهد ، فلما فرغ الناس من الصلاة أخذ في الإنكار على شيخنا في صلاته وعطف في الإنكار عليه أنه علمني وقواني على الإفادة والتدريس والوعظ ، فاجتمع به شيخنا والفقير معه ، فلما تكلمنا ثارت العوام في الجادة حتى خرج من باب البريد من الجامع حافيا وهو بعمامة صغيرة غير عمامته المعتادة وهم يصيحون به وينكرون عليه بتحريك من الله تعالى ، ثم آل الأمر إلى الاجتماع معه في مجلس حافل عند قاضي القضاة مصطفى أفندي بن بسنان ، فقرئت الفاتحة بيننا ، ثم قال شيخنا القاضي محب الدين والشيخ العيثاوي : لانفض هذا المجلس حتى يمتحن الشيخ نجم الدين ، فدعي بتفسير البيضاوي فصار بيننا وبينه مناظرة عظيمة كانت الغلبة فيه والنصرة لنا عليه ، وألف في ذلك شيخنا الشيخ العيثاوي رسالة حافلة فيما وقع بيننا في ذلك المجلس ، وكان ذلك وقد ظهرت نجوم السماء نهارا لقوة الكسوف ، فقال بعض الناس مصراعا تجاذبه أفاضل ذلك الوقت وهو (وعند كسوف الشمس قد ظهر النجم) فسبكتها في أبيات هي :

بعام ثمان بعد تسعين حجة

وتسعمىء * مرت جرى الأمر والحكم

بأن حضر الشمس بن منقار الذي

تحرى جدالا حين زايله الحزم

وناظرنا يوم الكسوف فلم يطق

لنا جدلا بل خانه الفكر والفهم

فقيل وبعض القول لا شك حكمة

وعند كسوف الشمس قد ظهر النجم

ولو لا تلافي الله جل جلاله

أصاب تلافا حين تابعه الرجم

ولما سطع الحق وبان ، وانقطع المشار إليه في ذلك الميدان ، واعترف لنا بالفضل المبين ، وباستحقاق تدريس بأربعين ، وأنا في سن العشرين ، كان بعد ذلك إذا لا يمناه تلايم ، وإذا تركناه تماوج حباب حسده وتلاطم ، وكذلك كان حاله مع أكثر الناس ، وكانوا يتعبون في مداراته وهو على ما فيه سليما من الصبوات ناهضا إذا استنهض في المهمات ، لا يخل بالشفاعات عند الحكام ، وله جرأة عليهم وإقدام ، وكان يفتي الناس في الأحكام ، ويدرس الدروس الخاصة والدرس العام.

وكان له شعر ضعيف ، وبعضه مستحسن لطيف. ومن شعره في مدح شرح الكافية للجامي :

__________________

(*) في الأصل : وتسعمائة ، وبها يختل الوزن ، وفي خلاصة الأثر كما أثبتناه.


ألا قد جلا الجامي ببستان شرحه

لكافية الإعراب كاس مدام

فحافظ عليها تلق سعدا مؤبدا

وخذ جامه واشرب بغير ملام

ولما كان عيد الفطر سنة خمس بعد الألف تمرض الشيخ شمس الدين ، ولم يعهد له مرض بدمشق قبل ذلك ، وكان سبب مرضه أن شيخنا القاضي محب الدين كان يتأدب معه ويعظمه لسنه وجريا على عادته في التأدب مع أهل دمشق وإكرام كل منهم على حسب ما يليق به ، فكان شيخنا إذا اجتمع هو والشيخ شمس الدين يقدمه في المجلس ، فلما انتصر شيخنا القاضي محب الدين لنا بسبب تعنت الشيخ علينا وقع بينهما ، وكان كلما تعرض الشيخ شمس الدين لنا بادر شيخنا إلى الانتصار حتى بلغ شيخنا أذية الشيخ شمس الدين له ، فاجتمعا آخرا عند قاضي القضاة كمال الدين أفندي ابن طاشكبري قاضي دمشق ، فتقدم عليه شيخنا في المجلس ، فغضب ابن المنقار وقال له : أنت كنت سابقا تقدمني ، فلم تقدمت الآن؟ قال : تقدمت إلى مجلسي وكنت سابقا أوثرك بمقامي ، وكان الشيخ محمد بن الشيخ سعد الدين في المجلس ، فأخذ بيد الشيخ شمس الدين وأجلسه بينه وبين القاضي ، ثم بقي الشيخ شمس الدين على غيظه حتى مرض منه وجعل تتزايد به الأمراض حتى توفي عند غروب الشمس من يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شوال وصلي عليه من الغد هو والشيخ ولي الدين بن الكيال بالجامع الأموي بعد صلاة الظهر الأولى ، ودفن بمكان صغير به محراب قديم على الطريق الآخذ إلى السويقة المحروفة غربي تربة باب الصغير رحمه‌الله تعالى.

هذا ما ترجمه به النجم الغزي ، وهنا ترى أنه قد نال منه وحط من قدره ولم يذكره بما يستحقه شأن المتعاصرين إذا حصل بينهما نزاع في أمر ما ، ومما سننقله لك يتبين لك حقيقة ترجمته.

قال الشهاب الخفاجي في ريحانته : هو جواد في حلبة الأدب سابق ، مخلط مزيل (١) فاتق راتق ، وقد كانت تتجاذب الأخبار شمائل فضائله ، وتهتز الأغصان إذا هبت نسمات شمائله ، ومن طاب عرفه طاب من عرفه الشمم ، ومن كان غصنا في رياض المعاني هزه مرور النسم ، إلا أن شعره شعر العلماء ، وأدبه أدب الفقهاء ، وما كل قصر خورنق

__________________

(١) قوله مخلط مزيل يضرب للذي يخالط الأمور ويزايلها ثقة بعلمه واهتدائه إليها ا ه من المحبي.


وسدير ، وما كل واد فيه روضة وغدير. على أنه كانت تتيه به على سائر البقاع بقاع الشام ، ويفتخر به عصره على سائر الأيام ، فلا تزال تصدح ورق الفصاحة في ناديها ، وتسير الركبان بما فيه من المحاسن رائحها وغاديها ، وأقلام الفتوى مثمرة من شمس إفادة له ارتفعت ، فيا لها من قضب أثمرت بعد ما قطعت ، ونور فضله بادي ، وموائده ممدودة لكل حاضر وبادي.

كالشمس في كبد السماء ونورها

يغشى البلاد مشارقا ومغاربا

ولم يزل ثاويا في فلك السعادة ، حتى كسفت شمس حياته فلبس الدجى عليه حداده ، فمن نفحات أسراره ولمعات أنواره قوله للقاضي محب الدين وهو بمصر :

من يوم بينك كل طرف دامي

لم تكتحل أجفانه بمنام

لما رحلت ممتّعا بسلامة

ومصاحبا للسعد والإكرام

خلّفت بعدك كل خلّ هائما

يجري الدموع حليف فرط غرام

سكران من كأس الفراق معذبا

يا صاح بالهجران والآلام

يشدو بذكرك من نواك إذا رأى ال

عشاق في ركب لكل مقام

مولاي إنا قد تفرق شملنا

وضياء نادينا انمحى بظلام

قد كنت واسطة لعقد نظامنا

حتى انفردت فحلّ عقد نظامي

وضياء وجهك في النهار إذا بدا

فالشمس تستر وجهها بغمام

هذا وعبدك ضاع بعدك صبره

فاسلم ودم في السعد والإنعام

وعلى حماك من المحب تحية

لا تنتهي وعليك ألف سلام

وسقى الإله ديار مصر وأهلها

أنواع سحب من يدك عظام

لما حللت بها تضاحك نورها

فرحا وبدّل نقصها بتمام

لا زلت ترفل في ثياب سيادة

وتجر ذيل العز فوق الهام

ما نمق المشتاق طرس رسالة

بحديث أشواق وبث غرام

وقال المحبي في خلاصة الأثر : محمد بن القاسم الملقب شمس الدين بن المنقار الحلبي ثم الدمشقي الحنفي ، العالم البارع المناظر القوي الساعد في الفنون. كان من أعيان العلماء الكبار. ولد بحلب وبها نشأ ، ولازم الرضي بن الحنبلي وغيره ، ثم وصل إلى دمشق في سنة إحدى وستين وتسعمائة وتديرها ، ورافق الشيخ إسماعيل النابلسي والعماد الحنفي


والمنلا أسد وطبقتهم في الاشتغال على العلاء بن العماد والشيخ أبي الفتح الشبشيري وغيرهما ، وحضر دروس شيخ الإسلام الوالد. ورأيت في بعض مجاميع الطاراني أنه درس بعدة مدارس ، ومات عن تدريس القصاعية والوعظ بالعمارتين السليمانية والسليمية والبقعة في الجامع الأموي وغير ذلك من الجهات والجوالي. وأفتى على مذهب الإمام أبي حنيفة ، وكان يدرس في البيضاوي ، وأخذ عنه جمع كثير منهم التاج القطان والحسن البوريني والشمس الميداني والشيخ عبد الرحمن العمادي والشمس محمد الحادي وغيرهم.

وكان عالما متضلعا من علوم شتى ، إلا أن دعواه كانت أكبر من علمه. وكان يزعم أن من لم يقرأ عليه ويحضر درسه فليس بعالم. وكان كثير اللهج بذكر شيخه ابن الحنبلي المذكور والإطراء في الثناء عليه ، وإنما يقصد بذلك التميز على أقرانه والانفراد عنهم به. ثم ذكر في الخلاصة ما جرى بينه وبين الشيخ إسماعيل النابلسي والمنلا أسد وما جرى بينه وبين النجم الغزي وقد تقدم ذلك.

(ثم قال) : والحاصل أنه كان ضيق الخلق ، وأما علمه فمسلّم عند من يعرفه ، وإن طعن فيه طاعن فمن عداوة وحسد. وله أشعار كثيرة وقفت في بعض المجاميع على أبيات له كتبها إلى قاضي القضاة بالشام العلامة المولى علي بن إسرائيل المعروف بابن الحنائي ، وكان وقع له وهو قاض بدمشق أنه أخرج عن رجل بعض الوظائف ، فكتب الرجل محضرا في شأن نفسه واستكتب الأعيان ، فكتب له بعض من كان يظهر الصداقة والمودة للقاضي المذكور ، فبلغه ذلك فقال مضمنا :

لنا في الشام إخوان

بظهر الغيب خوّان

فأبدوا في الجفا شانا

به وجه الصفا شانوا

وظنوا أنهم ذهلوا

وما غدروا وما خانوا

ولما أن رأينا الذهل طبع الناس مذ كانوا

صفحنا عن بني ذهل

وقلنا القوم إخوان

وأبيات الشمس هي هذه :

لسان العدا إن ساء فهو كليل

قصير ولكن يوم ذاك طويل

وأقلام من ناواك ضلت وأخطأت

وليس لهم في ذا السبيل دليل


لقاليك شان شانه سوء فعله

وفعل الذي والى علاك جميل

فلا تحتفل مولاي إن قال قائل

سننشدهم عند اللقا ونقول

(وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول)

إذا طلعت شمس النهار تساقطت

كواكب ليل للأفول تميل

وهل يغلب البحر المعظّم جدول

وهل يدعي قهر العزيز ذليل

وهل لجهول أن يقاوم عالما

(وليس سواء عالم وجهول)

فلا عجب أن خان خلّ وصاحب

لأن وجود الصادقين قليل

على أنني أصبحت للعهد حافظا

وحاشا لدينا أن يضيع جميل

صفونا ولم نكدر وأخلص ودنا

وفاء عهود قد مضت وأصول

وإنا لقوم لا نرى الغدر سنة

إذا ما رآه صاحب وخليل

نعم قد كبا عند الطراد جوادهم

وأنت كريم لا برحت تقيل

ثم ذكر المحبي هنا قصيدة أرسلها المترجم إلى جده يسأله فيها أسئلة فقهية ، وأجابه جد المحبي بقصيدة مثلها ، وفي نقل ذلك يطول الكلام ، ثم قال :

ومن ألطف شعره أيضا قوله من قصيدة كتب بها إلى الأديب محمد بن نجم الدين الهلالي الصالحي ومطلعها :

وقفت على ربع الحبيب أسائله

ودمعي بالمكتوم قد باح سائله

وقلت له مني إليك تحية

أما هذه أوطانه ومنازله

أما ماس في روضاتها بان قدّه

ومالت لدى مر النسيم شمائله

فمالك قد أصبحت قفرا وطوّفت

طوائح دهري فيك ثم زلازله

فقال سرى عني الحبيب وفاتني

سنا برق شمس الدين ثم هواطله

ومن شعره قصيدة وجدتها في أوراق بخط الشيخ إبراهيم بن أحمد بن المنلا يمدح بها دمشق الشام ويتشوق إليها وهو في بلاد الروم ، وهي :

سقى جلّق الفيحاء ذات البها القطر

ولا زال هتّانا بها المطر الغزر

وحيّا الحيا تلك الرياض مباكرا

ولا زال فيها النجم ما طلع البدر

ترحل عنها الحزن لما رتعن في

رباها الظبا والحور ثم جرى النهر


أيوجد همّ في دمشق وقد غدا

بها الأمن والإيمان واليمن واليسر

عروس الأراضي جلّق الشام قد غدا

على قصرها مسبولا الستر والستر

إذا فاح من بين البساتين عرفها

سحيرا زمان الزهر ينتعش الصدر

فكم لعبت أيدي النسيم بروضها

فصفقت الأنهار ثم بدا النشر

وأغصانه مالت إلى الرقص فانثنى

ينقّط أنهار الربى ذلك الزهر

وأطيارها غنت على عودها ضحى

غناء رقيقا دون رقته الشعر

فهل عجب أن قيل جلّق جنة

وفيها جرى الأنهار ثم سرى العطر

رعى الله أياما تقضت بربعها

لقد تم لي فيها المسرة والبشر

فما كان أنماها وأحلى بناتها

حلت في الحشا حتى لقد سلي القطر

وحيّا اللييلات التي سلفت بها

لقد زينتها في الحمى الأنجم الزهر

فلو أنها عادت بروحي شريتها

ولكنها مرت وليس لها سعر

تقضّت ولم أعرف وحقك قدرها

على أن آنا لا يعادله الدهر

فيا أسفي يا حسرتي يا ندامتي

عليها ولكن لا يقام لي العذر

ترحّلت عنها غير قال لحسنها

إلى الروم لكن حين ضرني العسر

ففارقتها لكن بجسمي وقالبي

وقلبي فيها كيف وهي له صدر

متى يجمع الرحمن شملي بقربها

ويبدو لعيني الصالحية والجسر

هناك أنادي فرحة ومسرة

ألا زال عني الهم والغم والضرّ

٩٣٨ ـ محمود بن محمد البيلوني المتوفى سنة ١٠٠٧

محمود بن محمد بن محمد بن الحسن الشيخ بدر الدين أبو الثنا ابن الشيخ شمس الدين أبي البركات ، البابي الأصل الحلبي المولد والدار ، الشافعي ، المشهور بابن البيلوني.

ولد في ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة ، ونشأ فحفظ القرآن العظيم ، ثم لازمنا بإشارة عمه الشمس المتقدم ذكره في تحصيل العلم فأكثر من ملازمتنا.

قرأ علينا الصرف والنحو وانتهى فيه إلى «مغني اللبيب» ، وفن البلاغة وأتم فيه «المختصر» مع سماعه غيره ، وعلم القراءة وأكمل فيه «شرح الشاطبية» للجعبري إلا


النوع الثالث منه في توجيه وجوه القراءات فإنه اقتصر عنه ، وأصول الفقه وأتم فيه شرح «لب الأصول» ، وأخذ عني «شرح السراجية» للسيد الجرجاني و «شرح الشمسية» مع حاشيته و «شرح النخبة» و «شرح ألفية العراقي» لمصنفيهما و «شرح الحكم» للقونوي و «متن الخبيصي». و «أشكال التأسيس» وغيرها.

وأخذ عني من تأليفاتي دراية «شرح المقلتين في مساحة القلتين» على قاعدة مذهبه ، و «رفع الحجاب عن قواعد الحساب» و «الفوائد السرية في شرح الجزرية» و «عدة الحاسب وعمدة المحاسب» و «تذكرة من نسي بالوسط الهندسي» وغيرها. وأجزت له أن يروي عني جميع ما يجوز لي وعني روايته من كتب الحديث التي أخذ عني بعضها رواية ودراية ومن غيرها من تأليفاتي وأشعاري وغيرها.

وقرأ القرآن العظيم بتمامه للعشرة من طريق التحبير على الشيخ برهان الدين الدمشقي القابوني نزيل حلب وأجاز له بأسانيده في محفل كان بجامعها الأعظم.

وكتب في سنة سبع وخمسين وتسعمائة استدعاء بخطه وبعث به إلى القاهرة ودمشق فأجاز له جماعة منهم العلاء بن عماد الدين الدمشقي والكمال محمد بن أبي الوفا المعروف بابن الموقع والشيخ ناصر الدين الطبلاوي القاهريان وغيرهم. وسمع المسلسل بالأولية وشيئا من البخاري من الجمال بن حسن ليه الحلبي وأجاز له جميع ما يجوز له وعنه روايته وأن يفتي ويدرس على قاعدة مذهبه. وترجمه بأنه فاضل وقته والمستغني بحاله عن نعته كما قيل :

وإني لا أستطيع كنه صفاته

ولو أن أعضائي جميعا تكلّم

وكما قيل :

وليس يزيد الشمس نورا وبهجة

إطالة ذي مدح وإكثار مادح

قال : ولكن لا بد للشمس أن تلوح ومن المسك أن يفوح. وكذا سمع المسلسل بالأولية من والدي وأجاز له في آخرين ما يجوز له وعنه روايته ، وقرأ «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الشيخ أحمد الطويل الحلبي وأجاز له ، و «ثلاثيات البخاري» و «الجواهر المكللة في الأخبار المسلسلة» له على عمه السابق ذكره وأجاز له بحق روايته لهما عن والده الشيخ وشيخنا التقي الحيشي بحق روايتهما لهما عن المؤلف ،


وأجاز له إذ دخل دمشق سنة ثلاث وستين وتسعمائة الشيخ المعمر محمد بن بلبان ورد الشيخ أبي بكر بن داود قدس الله روحه وتلاوته بحق روايته عن الشيخ عبد القادر بن أبي الحسن البعلي الحنبلي بحق روايته عن ولد المصنف المسمى كأبيه بالشيخ أبي بكر عن المصنف.

قال : ومولده في تاسع المحرم سنة إحدى وسبعين وثمانمائة.

وقد نظم الشيخ بدر الدين ونثر ، وطالع الكثير وقرر ، وتصدى للإقراء وتصدر. تولى وظيفة تلقين القرآن العظيم بالجامع الكبير بحلب عن شيخه البرهان الدمشقي القابوني بحكم وفاته بعد أن عارضه فيها من عارضه ، وأبى الله إلا أن تكون له وأن يخرج من عهدة خدمتها مع الإفادة في علوم شتى تقرأ عليه. ثم تولى تدريس الصاحبية الشدادية وكذا إمامة الحجازية بحكم وفاة عمه.

وترجمه النجم الغزي في تاريخ لطف السمر وقطف الثمر فقال : محمود بن محمد الشيخ الإمام العلامة أبو الثنا بدر الدين البيلوني الحلبي العدوي الشافعي شيخنا ، من صرف عمره في العلم تعلما وتعليما. قرأ على والده وغيره ، ولازم على ابن الحنبلي فاضل حلب ، وكان شيخه ابن الحنبلي يجله ، وبرع في زمانه وكان يدرس في حياته. وكان يحفظ القرآن العظيم حفظا متينا مع التجويد والإتقان فيه ، مع تبحره في النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والهيئة والتفسير والفقه والأصول ومعارف الصوفية. وكان إذا تكلم في فن من العلم يقول سامعه لا يحسن غيره ، وكان مع ذلك يظهر له كشف في مجلسه وإشراق على قلوب جلسائه.

قدم علينا دمشق قاصدا الحج على طريق مصر في سادس عشري جمادى الآخرة سنة سبع بتقديم السين بعد الألف ، وأخبرنا أنه أخذ العلم أيضا عن ملا مصلح الدين اللاري. وسمع الحديث من الشيخ برهان الدين بن العمادي ، وأجازه الشيخ نجم الدين الغيطي مكاتبة ، وحضر مجلس درسي بالجامع الأموي تجاه سيدي يحيى عليه‌السلامة عشية في أثناء رجب هو وجماعته وشيخنا القاضي محب الدين ، وذهبوا لضيافتي وحضروا عندي ليلة كاملة كانت ليلة مشهودة. وخطر لي في ليلة النصف من رجب أن أستجيزه بالإفتاء والتدريس ، فلما أصبحت ذهبت لزيارته وكان نازلا بالعادلية الصغرى داخل دمشق ، فرأيته قد كتب لي إجازة بالإفتاء والتدريس ودفعها إليّ.


وكان يقابل من يأتي بالسلام عليه بالبشاشة والإقبال ويبادر إلى إسماعه الحديث المسلسل بالأولية. وكان من أفراد الدهر ، عليه جلالة العلم وأبهة الفضل ونورانية العبادة ، متوقد وجهه نورا ، ويشهد له من رآه أنه من العلماء العاملين والأولياء الصالحين.

ومن شعره وهو مما تلقيناه عنه وأجازنا به ، وكان حصل له مرض حين تم له ستون سنة من عمره :

لما وعكت بغاية الستين

جافيت كل دنية في الدين

وبذلت جهدي في العلوم ونشرها

للعاملين بها ليوم الدين

ومنه أيضا :

اقنع بما لا بد منه وكف عن

ما قد بدا مما عليه الناس

وإذا كففت عن الذي فتنوا به

ذهبت همومك والعنا والباس

ومنه أيضا :

ربع قواي من سنين قد عفا

والحب أبدل الوصال بالجفا

والدمع من أجفان عيني وكفا

فحسبي الله تعالى وكفى

ورأيناه أطروشا لا يسمع إلا بإسماع في أذنه ، وقال لنا : من نعم الله علي هذا الطرش ، فإني لا أسمع غيبة ولا غيرها ، إلا أني أسمع قراءة القرآن إذا قرىء عندي.

وبالجملة كان فردا من أفراد العصر وأعجوبة من أعاجيب الدهر رحمه‌الله تعالى.

حدثنا أبو الثناء محمود بن محمد البيلوني لما قدم علينا دمشق ، وكان التحديث يوم الأحد سابع عشري جمادى الآخرة سنة سبع بتقديم السين بعد الألف بالعادلية الصغرى داخل دمشق بالقرب من قلعتها ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا المعمر برهان الدين ابن إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحمن الحلبي المعروف بابن العماد بحلب ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا جماعة منهم شيخنا الحافظ العز عبد العزيز بن نجم الدين المدعو عمر ابن محمد بن فهد المكي الشافعي بداره بزيادة دار الندوة من المسجد الحرام رابع ذي الحجة سنة خمس عشرة وتسعمائة ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا والدي الحافظ نجم الدين ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا الخطيب صدر الدين أبو الفتح محمد


ابن محمد بن إبراهيم الميدومي ، وهو أول حديث سمعته منه (ح) قال ابن العماد ومنهم شيخنا العلامة الرّحلة المسند جمال الدين أبو الفتح إبراهيم ابن العلامة علاء الدين القلقشندي الشاذلي من لفظه بالقاهرة في سادس شوال سنة خمس عشرة وتسعماية : حدثنا جماعة من مشايخ الإسلام يزيد عددهم عن عشرين ومئة أعلاهم المسند المعمر شهاب الدين أحمد ابن أبي بكر الواسطي ، وهو أول حديث سمعته منه ، قدم علينا بالقاهرة سنة ست وثلاثين وثمانمائة : حدثنا مسند الآفاق صدر الدين الميدومي (١) وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا النجيب أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني ، وهو أول حديث سمعته منه قال : أخبرنا به الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا أبو سعيد إسماعيل بن أبي صالح أحمد بن عبد الملك النيسابوري ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا به والدي أبو صالح المؤذن ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزار ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، وهو أول حديث سمعته منه عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى

__________________

(١) أقول : إني بفضل الله تعالى أروي حديث الرحمة المسلسل بالأولية عن الشيخ الصالح كامل الموقت الحلبي ، فمما جاء في إجازته لي قوله : وأجزته أيضا بحديث الرحمة المشهور عند المحدثين بالحديث المسلسل بالأولية ، لأن كل راو من رواته لا بد أن يقول فيه عن شيخه وهو أول حديث سمعته منه أو قرأته عليه ، أو يقول وهو أول حديث أجازني به أو أرويه عنه أو رويته عنه لكن لا يصح تسلسله بالأولية عما فوق سفيان بن عيينة ، كما أجازني به والدي السيد الشيخ أحمد الموقت الحلبي وهو أول حديث سمعته منه وقرأته عليه ، وأجازني به (قال) : حدثنا به والدي السيد الشيخ عبد الرحمن الموقت الحلبي وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به والدي السيد الشيخ عبد الله موفق الدين وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به والدي السيد الشيخ عبد الرحمن الشامي الحنبلي وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به به الشيخ محمد بن أحمد عقيلة المكي وهو أول حديث سمعته منه (قال) رحمه‌الله تعالى : سمعته من الشيخ الناسك أحمد بن محمد الدمياطي المشهور بابن عبد الغني وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به المعمر محمد بن عبد العزيز المنوفي وهو أول حديث سمعته منه وأجازني بجميع مروياته في ربيع الأول سنة اثنين بعد الألف (قال) : حدثنا به شيخ الإسلام الزين زكريا بن محمد الأنصاري قدس‌سره وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به خاتمة الحفاظ الشهاب أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني وهو أول حديث سمعته منه (قال) : أخبرنا به الحافظ زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به الصدر أبو الفتح محمد بن محمد الميدومي وهو أول حديث سمعته منه إلى آخر السند المذكور فوق.


عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

ويتعلق بالحديث فوائده.

منها أنه حديث حسن أخرجه الإمام أحمد والحميدي في مسنديهما عن سفيان بن عيينة والبخاري في بعض تصانيفه عن عبد الرحمن بن بشر ، وأبو داود في سننه عن مسدد ، وأبو بكر بن أبي شيبة والترمذي في جامعه عن محمد بن أبي عمر العدني ثلاثتهم عن ابن عيينة قال الترمذي : إنه حسن صحيح ، وصححه الحاكم. قال القاضي زكريا الأنصاري : وهو كذلك باعتبار ماله من المتابعات والشواهد.

ومنها أن أبا الفرج ابن الجوزي المذكور في السند متهم ، قرأت بخط والدي شيخ الإسلام البدر الغزي ما نصه : قال شيخنا القاضي زكريا : إنه بضم الجيم وليس هو ابن الجوزي الواعظ فليعلم. قال الشيخ الوالد : نظر فيه بعضهم (١).

ومنها لما أملى الحديث علينا شيخنا البيلوني أملاه : يرحمكم من في السماء بالرفع على أنه جملة دعائية ، ثم قال : كذلك أفادنا شيخنا العمادي وقال : إن الرواية بالرفع وليست بالجزم على أنه جواب الأمر.

ثم إن شيخنا البيلوني سافر في أواخر رجب المذكور من دمشق إلى مصر فمات بها في رمضان أو بعده (قال العرضي في شوال) سنة سبع المذكورة بتقديم السين بعد الألف ، وحضر جنازته والصلاة عليه قاضي قضاة مصر إذ ذاك يحيى أفندي محدثا عنه أنه لما ورد حلب مع أبيه زكريا أفندي حاجين ويحيى أفندي يومئذ قاضي الركب الشامى اجتمع بشيخنا صاحب الترجمة وقال له : نراك إن شاء الله تعالى قاضيا بحلب تم بمصر ، قال : فلما وليت حلب كنت أعتقد الشيخ وأتأول قوله ثم تكون قاضيا بمصر ، ولم أتحقق أن المعطوف متعلقا مع المعطوف عليه في حكم واحد بفعل الرواية ، ولما وليت قضاء مصر زاد اعتقادي في الشيخ على التأويل المذكور حتى تحققت ذلك الآن حين رآني الشيخ بمصر قاضيا قبل موته ، وظهر صدق كشف الشيخ رحمه‌الله تعالى.

__________________

(١) يظهر أن النظر عدم تسليم ذلك وأنه ابن الجوزي الواعظ المشهور وهو ثقة ليس بمتهم وهو بفتح الجيم.


قال المحبي في ترجمته : ولما حج في سنة أربع وستين وتسعمائة اجتمع بعالم الحجاز الشهاب أحمد بن حجر الهيتمي وكتب له إجازة طنانة بالإفتاء والتدريس ، ولم يجتمع به إلا أيام الحج فقط ، فإنه لم يجاور ، ثم عاد إلى حلب ، وقد فضل في حياة شيخه ابن الحنبلي فكان يدرس في زمانه وكان ابن الحنبلي يجله.

وأخذ عنه جمع كثير منهم شيخ حلب عمر العرضي وذكره في تاريخه وذكر مقروءاته عليه. قال : ثم اشتغل بخويصة نفسه وجلس في بيته ، وعمر له إبراهيم باشا جامعه الذي بجانب داره وجعل فيه خطبة وبنى له منارة وانقطع فيه ولم يخرج إلا للحمّام حالة الاحتياج إليه. وأقبل الناس عليه يثنون عليه وينسبون إليه الصلاح ويصفونه بالانقطاع. وثقل سمعه وضعف بصره واشتغل بمجرد تلاوة القرآن والاشتغال بمصالح عياله وكف الجوارح. وبالجملة فهو رجل صالح فاضل لا شك في ذلك ا ه.

٩٣٩ ـ محمد بن عبد القادر البيمارستاني المتوفى سنة ١٠١٠

محمد بن عبد القادر بن تاج الدين بن علي ، الشيخ المعمر المشرقي ثم الحلبي الشهير بالسيد المارستاني.

قدم أبوه عبد القادر وأخوه من بلاد الشرق لديار حلب خادما مع بعض التجار بنية العود إلى بلاده ، فرأى من طيب هواء حلب ولطف أبنائها ما دعاه على السكنى بها ، فتشرف بخدمة الزيني عمر الموازيني مدة ، ثم بالكمال ابن الدغيم أحد أعيان حلب أخرى بحيث يرسله إلى الضياع ناطورا لضبط الغلال ، فحسن حاله بذلك. وأسكنه الكمال بالبمارستان النوري وأولاه الخدامة به إذ كان متوليا لضبط أوقافه ، فولد به محمد المذكور وأخوه التاجي ، فنشأ بخدمة الكمال على قدم أبيهما ، إلى أن توفي الكمال ، فتقهقر حالهما بذلك ، إلى أن اتهم عم الشمس بمال سرق للفرنج من خان البرغل ، فعذب أشد عذاب ، ثم صلب فظهر أثر ذلك بعد مدة على الشمس محمد وأخيه التاجي بأن أخذا دارا بالقرب من خان البرغل وأحسنا عمارتها وظهرا ظهورا بهرا به من عرفهما بحيث هرعت إليهما الناس للمعاملات والمساعدات في المهمات.

ثم أخذ التاجي بعض الحاصلات السلطانية وصار أمينا عليها. وصار محمد هذا يدخل


بين الناس في أمورهم ولم يختش غائلة شرورهم حتى عد من أهل الزيغ والضلال وأتباع الباطل والمال ، فوردت فيه الأحكام السلطانية والأوامر الخاقانية برفعه إلى القلعة والتفحص عن حاله ليقبح منقلبه ومآله ، فرفع وجرّم أعظم جريمة ، وولى عما كان عليه هزيمة ، ولزم بيته مدة من الزمان ، وصبر على ما أبرزه الملوان ، إلى أن صفا الوقت من أعيانه وظهرت أمثاله ومن أقرانه ، فتطاول على نقابة الأشراف في آخر عمره بقوة المال ، وساعده على ذلك كثير من الرجال ، وصار نقيبا على السادة الأشراف ، مع أنه عامي ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقفت على أصل شرفهم فإذا هي بسعي الكمال بن الدغيم عند صديقه الشهابي أحمد الإسحاقي نقيب حلب إذ ذاك ، فأذن لهم بوضع العلامة ولم يكن بقصده ومرامه لأنهم لم يثبتوا لهم نسبا ، ولم يكن لهم بذاك نشب.

توفي محمد المذكور ثامن ذي الحجة سنة ١٠١٠ ألف وعشرة ا ه (من مجموعة الجمالي) وسيأتيك قريبا ترجمة ولده حسين المتوفى سنة ١٠١٣.

٩٤٠ ـ محمد بن أحمد الملا المتوفى سنة ١٠١٠

محمد بن أحمد بن محمد المعروف بابن الملا شمس الدين بن شهاب الدين ، شارح «المغني» المتقدم ذكره ، الحصكفي الأصل الحلبي الشافعي.

ذكره العرضي الكبير في تاريخه وقال في ترجمته : ولد في سنة سبع وستين وتسعمائة ، ثم نشأ في حجر أبيه وقرأ عليه شرح «الشذور» لابن هشام. قال : ودخلت يوما إلى زيارة أبيه ، وكان صاحبنا ، فرأيته يقرئه في بحث المبني وهو يتعتع في فهم الكلام وتفهيمه لولده لإكثاره من المطالعة والنظر ، فأغنيته عن تقرير ذلك الدرس ووضحت للولد المبحث ، وركز حبنا في قلب الولد ، فأتى إلينا بإذن أبيه وطلب مني الإقراء ، فأقرأته «شرح الكافية» للجامي من أوله إلى آخره ، فلم يختم الكتاب إلا وقد صار ذا ملكة ، ثم مشى معنا في «مغني اللبيب» ثم في «المطوّل» و «شرح آداب البحث» للمسعودي ، وفي الأصفهاني ومتن الجغميني في الهيئة وشرح ابن المصنف على ألفية أبيه ابن مالك ، وفي إرشاد ابن المقري وشرح المنهج للقاضي زكريا. وسمع من لفظي صحيح البخاري ومسلم ، ورفيقه في معظم ذلك أخوه البرهان.


ثم إن محمدا تصدّر للتأليف فكتب تاريخا لحلب تعرض فيه لمن حكم فيها من حين فتحها الصحابة إلى زمن إبراهيم باشا الملقب بالحاج إبراهيم أجاد فيه وأنبأ عن اطلاع عظيم. وكتب حصة على صحيح مسلم ورسالة حسنة في إسلام أبوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونظم الشعر الحسن وامتدحني بقصائد جمة مع كثرة عبادة وتلاوة للقرآن وصلاة حسنة يصليها عند دخول الوقت مع الجماعة ويكثر فيها من تلاوة القرآن ، وكرم وافر وإحسان للمحبين وإجزال الضيافات والتواضع والتمسك بالسنة مع الفضيلة التامة وبغض الزنادقة.

وذكره الشهاب مع أخيه البرهان وكذا البديعي ووصفاهما بأوصاف حسنة.

وأورد الشهاب من شعر محمد قوله في الترجمة من الفارسية هذا الرباعي :

في الليل وفي النهار حرّى كبدي

مقتول ضنى بجائر ليس يدي

تنثر عيني جواهر الدمع على

لقياه تظن أنه طوع يدي

وأنشد له البديعي قوله :

ما أقل الأصحاب إن حمّ أمر

في عظم وما أقل المساعد

وبلاء لابد للمرء منه

أن يرى راغبا بآخر زاهد

وقوله :

سيلحق من سره موتنا

بنا مثل من سرنا موته

فيه زيادة على قول الآخر :

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

وله :

سامرته في ليلة وصباحها

يتكايدان عليّ كيد المخنق

فالليل يظهر لي بقلب أسود

والصبح ينظرني بطرف أزرق

وله :

ألا ليت شعري هل زارني

حبيبي وليس رقيبي قريب


وهل علم الدهر أني امرؤ

كثير لديّ قليل الحبيب

قال العرضي : وأصابته حمى الربع فطالت به ، فوصف له بعض مبغضيه أن يكتوى في ظهره ، فكواه رجل زنديق من قرية كفر حابس ، ولا يخفى أن أهلها مختلفو العقائد ، في سلسلة ظهره ، وصادفه مجيء الشتاء فحصل له الكراز مرض رديء فمات به في سنة عشر وألف رحمه‌الله تعالى ، ودفن في تربة جده الخواجا إسكندر في محلة الجبيلة بحلب ا ه.

وقال الشهاب الخفاجي في ريحانته فيه وفي أخيه إبراهيم الآتي ذكره : هما من دوحة الكمال غصنان ، بل روضان آنيتهما مرجان ، ولا أقول نهران فهما بحران ، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، كل منهما جواد يفرغ الخزائن بجوده ، فيملأ بالغيظ قلب حسوده ، طويل الباع عذب الموارد إذا ظمئت الأسماع مرهف فكره صقيل الطبع ، وبحر كرم متموج بهبوب نسيم ذلك الطبع ، رقيق حواشي المجد ، أرق من عبرات أسالها الوجد ، وضاح المحيا ، تحمر خجلا منه خدود الحميا. صنفا وألفا ، ولاحا كغصني بانة قد تألفا ، نشأا في حجر الفضل والحسب ، وبسقا في روض النجدة والأدب ، في زمان شمت فيه الجهل بالفضل ، ورقي صهوة عزه كل فدم نذل ، نجمان بأيهما اقتديت في طرق المعالي اهتديت ، فهما في مغرس الكرم صنوان ، وثمراتهما صنوان وغير صنوان ، وروضا محامد ، يسقيان بماء واحد. ا ه.

وقال الأديب محمد العرضي في حقه : النقاب ابن النقاب ، والشمس ابن الشهاب ، والبدر أخو السحاب ، بحر علم غزير ، وروض أديب نضير ، ولقد فاق الأوائل وهو في الزمن الأخير ، شب على العلم خادما وللعلى مخدوما ، وملأ أفواه الآذان من درر كلماته منثورا ومنظوما ، ولقد اجتمعت من أصناف الكمالات ، ما وجدت متفرقة في غيره من الذوات ، فراحة أندى من الماء الرضراض ، وخلق ألطف من النسيم ينم على الرياض ، يصف لطايم دارين ، وينعجن بعنبر الشحر انعجان الماء بالطين ، ونفس حرة ، وصداقة حلوة وعداوة مرة ، ووضاحة نسب وطلاقة محيا ، ونظام ينعصر تحت أقدامه عنقود الثريا ، وذيل لا تخدشه سيوف الغمرات ، يلبس إبليس ثوب الخذلان ويرن منه رنات.

وله آثار مأثورة ، كأنها لطائم مسك منشورة ، منها مجلد في شرح صحيح الإمام مسلم ، ومنها تاريخ ابتدأه بإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وختمه بإبراهيم باشا كافل مملكة حلب ، ورسائل عديدة «كدلالة الأثر في طهارة الشعر» ورسالة في حكم البنح


والحشيش ، ورسالة في اسم محمد وغير ذلك ، وديوان شعر مجلد.

وقد كتبت له ما هو من شرط كتابي هذا قولي في حان قهوة القصيبات :

مشاهد الوصل من ذاك الغزال متى

لاحت لعيني أفاضت فيض عبراتي

فقم بحقك ذا النايات غن لنا

باسم الحبيب وشبب بالقصيبات

وقد نسجت على منوالها :

حانات شهبائنا كالمسك قهوتها

بنيّة ولها بالشرع تحليل

وبالقصيبات إن شببت لا عجب

فذلك الحان بالأفراح موصول

وقوله متغزلا مكتفيا :

سألته عن شفة جاد بما

في ضمنها على معنّاه ومن

لذتها وطعمها العذب الجنى

فقال هذي صبغة الله ومن

وقوله في رثاء أخي الشيخ حسين.

أسعدانى لعلى أبكى حسينا

أين مثل الحسين في الناس أينا

وقوله متغزلا فيمن اسمه عبد الله.

إذا ما البدر كان له نظير

فعبد الله ليس له نظير

ا ه.

ورسالته «دلالة الأثر على طهارة الشعر» هي عندي بخطه محررة سنة ١٠٠٦ وهي في (١٥) ورقة ابتعتها منذ عهد قريب ، وكلامه فيها ينبىء عن علم جم وباع واسع وقدم راسخة في التحقيق. ونحن نسوق لك خطبتها فإنها تدل على مكنونه ومراميه :

قال بعد البسملة والحمدلة : فاعلم وقال الله من الركون إلى الشبه والميل إلى العصبية ، وغش سليم الفطرة بسقيم المألوف من العوائد المنكرة ، واتباع كل ناعق ، واحتقاب دينك لمن يجوز خطؤه ولا يؤمن سهوه ، وغفلة مع وضوح الحق وسطوع البرهان وقيام الحجة بمن أمرنا باتباعه أمرا حتما متكررا متنوعا جما. وقد قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : أجمع الناس أن من استبانت له سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس له أن يدعها لقول


أحد ، وهذا إجماع قطعت به البراهين وأيدته العقول وشهدت به الفطر السليمة. وقد ألف الناس في ذلك ، وأحسن ما رأيته في كتاب «أعلام الموقعين» للفقيه الحافظ المعروف بابن قيم الجوزية ، وما سمعت بعضهم يقوله من عدم إمكان التلقي من فيض الرحمن والإدلاء بحجة الكتاب والسنة في هذا الزمان فواهي الحجة بعيد النجعة عن الحق متقول على الله تعالى محجر على فضله ، إذ كان الله سبحانه لا يزال يغرس في هذه الأمة غرسا يستعملهم في طاعته ، ويظهرهم على الحق ، وينفي بهم عن العلم تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، وكانت هذه الأمة كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره. وكان العلم والإيمان مكانهما من طلبهما وجدهما. وإن العلم للذين يستنبطونه منه لا للمقلدين الذين لم يستضيئوا بنور ولم يهتدوا بهدي. وما عني هذا الدين بمثل التأويل والتقليد ، وما أدري الفرق بين استنباط واحد للحكم من صحيفة أو كتاب يلوك صاحبه لسانه وتغلب عجمته ويكثر عثاره ويمسك خطؤه ويقل علمه ويبعد عن الخير زمنه ويضعف طريقه ، واستنباطه من كلم جوامع ووحي موحى وعصمة من خطأ لا ينزف بحره ولا يكدر دلوه ، مع سلامة الطريق وصحة النقل وقوة الضبط وقلة التحريف والإدخال فيه ما ليس منه ، إلا أن هذا صواب في اصطلاح خطأ ، وعلم في زمن جهل ، ووضع نافع في قانون فاسد. والناس بزمانهم أشبه وإلى ملكات المزاولة أميل والله الموفق ا ه.

٩٤١ ـ أبو الوفا بن محمد السعدي المتوفى سنة ١٠١٠

أبو الوفا بن محمد بن عمر السعدي الحلبي الشافعي المشهور بابن خليفة الزكي.

ذكره أبو الوفا العرضي في تاريخه «المعادن» وقال فيه : من أعيان المشايخ السعدية المنسوبة في الخلافة إلى الشيخ سعد الدين الجباوي ، خلّفه والده الشيخ محمد ، وخلف الشيخ محمد والده الشيخ عمر المدفونان في زاويتهم خارج باب النصر.

أما والده الشيخ محمد فلقد كان فاضلا كاملا صالحا صاحب كرامات. كان رجل يقال له عبد الرحمن بن الصلاح ذا ثروة ومال وعليه هيبة ووقار ، وكان يدخل في حلقة ذكر أبي الوفا بين أقوام عوام غالبهم بساتنة فلاحون وبعض جماعات من ذوي الهيئات ، فقلت له : ما السبب أنكم تدخلون في حلقة الذكر مع هؤلاء القوم؟ فقال : كنت شابا واقفا أنظر إلى فقراء والد الشيخ وفا وهو الشيخ محمد وأنا في ضميري أستهزىء بالذكر


لأنهم يقولون ما لا يفهم معناه ، فقلت في ضميري : ما مرادهم بقولهم : هام هام؟ فخرج الشيخ من الحلقة وفرق الازدحام وجذبني من ثيابي وقال : نقول الله الله ، فوقعت مغشيا عليّ ، ثم لم أزل على اعتقادهم.

وكان في بني درهم ونصف رجل من الفضلاء يقال له المنلا يستهزىء بهم ويحقرهم ، فأشار إليه الشيخ محمد : تأدب تأدب ، فوقع مصروعا ، فوقعوا على الشيخ واستمروا مدة طويلة يترددون إليه حتى صفح وعفا وتواتر على المذكور الشفا ، كل ذلك ببركة الشيخ محمد.

وكان له خط حسن حتى ألف الشيخ محمد كتابا اسمه «المحمدية» ذكر فيه مواعظ وكرامات الأولياء ، واستطرد إلى ذكر الشيخ سعد الدين الجباوي وهو أستاذه. وكذلك صنف «مجالس وعظ» تشتمل على آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومعان مهذبة ومسائل مرتبة. وكذلك والده الشيخ عمر ألف كتابا سماه «العمرية» ذكر فيه مناقب الشيخ سعد الدين. وله حلقة ذكر في الجامع الكبير بحلب يوم الجمعة فيها مائة رجل.

وكان صاحب الترجمة يلبس العمامة الكبيرة الخضراء والثياب المتسعة الأكمام الطويلة الأذيال ، وقد لبسوا الأخضر قبيل الألف بمدة قليلة أثبتوا أنسابهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة الحسين سيد شباب أهل الجنة ، وكان من عادة الأشراف يربون لهم الشعور في رأسهم ، وكتب لهم نسب ومحضر شهد لهم بالنسب غالب الأعيان بحلب. ولما مات والده كان شابا له حدة مزاج ، فكان بعض الأعيان بباب النصر تشاجر معه ، فذهب إلى دمشق وأخبر الشيخ سعد الدين والد الشيخ محمد ، وكان المذكور مجذوبا لا يتمهل في الأمور ، فذكر له أن الشيخ أبا الوفا كان مع بعض نساء أجانب ، فقبض عليه حاكم البلدة وأخذ منه مالا ليلا وأنه لا يليق بالخلافة ، وعندنا رجل صالح عالم يقال له الشيخ عبد الرحيم اجعله خليفة واعزل الشيخ أبا الوفا واكتب للأعيان مكاتيب بعزله ، فكتب للشيخ عبد الرحيم أني جعلتك خليفة وعزلت أبا الوفا ، وكتب للقاضي بذلك وأن يمنع أبا الوفا من الذكر مع الفقراء ، فأحضره القاضي وأظهر له المكتوب ، فقال الشيخ أبو الوفا : أنا لست بخليفة له وإنما أخذت الخلافة عن والدي ووالدي عن والده. ثم ورد مكتوب من الشيخ سعد الدين إلى المريدين والنقباء أن من تبع أبا الوفا فهو مطرود من طريقتي ، ومن تبع الشيخ عبد الرحيم فهو مقبول عند الله وعندي. ومع ذلك استمرت


الفقراء غالبا عنده. ثم بعد مدة توجه أبو الوفا بهدايا إلى الشيخ سعد الدين ومعه الفقراء المريدون ، فسبقه الشيخ مسعود أخو الشيخ إبراهيم وقال للشيخ سعد الدين : إن خلفت أبا الوفا يختل أمرنا ، فقال : لا أخلفه ، فجاء أبو الوفا فأكرمه الشيخ سعد الدين ثم قال له : جئت تطلب الخلافة ، فقال : أنا خليفة والدي عن والده عن جده عن أجدادكم ، ونحن الذين أحيينا في حلب طريقتكم ، ووالدي كتب مؤلفا في مناقبكم ، وجدي كذلك ، والشيخ عبد الرحيم كان من بعض فقرائنا ، وجئت لتأدية حقكم فحسب ، فإن أذنتم فبها وإلا فقد فعلت مالكم من الاحترام ، ولم يبرم. ثم رجع إلى حلب واستمرت حلقة ذكره قائمة ، لكن حلقة الشيخ عبد الرحيم كثرت جدا بسبب السخاء وبذل القرى. وكانت حلقة الشيخ عبد الرحيم بباب المقصورة ملاصقة حلقة الشيخ أبي الوفا بحيث يتلحمون ولا شيء حاجز بينهم ، وكان يقع بينهم من الفتن والإثارات والشتم أشياء كثيرة إلى أن مقت الناس الفريقين ، فلما قدم الشيخ محمد بن الشيخ سعد الدين إلى حلب ألزم الشيخ عبد الرحيم بالتحول إلى المحراب الأصفر حتى انطفت تلك النيران. وقال الشيخ محمد : أخطأ والدي في تفريق الكلمة بينهم.

وكان أبو الوفا تولى مدرسة الفردوس وتولى نقابة طرابلس ، وكان خطيبا بجامع الزكي وإماما له. وولي مدرسة البيرامية. وكانت وفاته في سنة عشر بعد الألف ودفن في نفس زاويتهم وقد قارب الخمسين.

الكلام على الزاوية الوفائية :

هذه الزاوية كما قال في أول الترجمة خارج باب النصر فوق الجامع المعروف بجامع الزكي بالقرب من الحمّام المعروف بحمّام القوّاس ، وتعرف الآن بزاوية البعّاج. وهي عبارة عن قبلية ولها صحن صغير ، وفي شرقي القبلية قبران أحدهما قبر الواقف الشيخ عمر ابن الشيخ أحمد الشهير بخليفة المتوفى سنة ٩٤٦ وقد تقدمت ترجمته في الخامس (ص ٤٨١) ، والثاني قبر ولده الشيخ محمد شمس الدين. وفي الصحن في شرقيه قبران أحدهما قبر أبي الوفا المترجم وقبر أخيه الشيخ أحمد المتوفى سنة ١٠٣٤ وهما ابنا الشيخ محمد المتقدم.

وكانت هذه الزاوية مشرفة على الخراب ، فاهتم بعمارتها متوليها الشيخ محمد هاشم ابن الشيخ عبد الوهاب الوفائي ، فجدد عمارة جدار القبلية سنة ١٣٣٦ ونقش فوق بابها


ما قدمنا ذكره ملخصا ، ولا زال مهتما بعمارة باقيها. والشيخ محمد المذكور رجل صالح حافظ لكتاب الله تعالى ، وهو من ذرية الواقف ، فهو محمد هاشم بن عبد الوهاب بن محمد هاشم بن أسعد بن هاشم بن أسعد بن تاج الدين بن محمد بن أبي الوفا بن محمد ابن عمر (وهو الواقف) ، وقد أطلعني على نسبهم الذي تقدم ذكره في الترجمة وعليه كما قال خطوط غالب أعيان ذلك العصر وبعده مثل الشيخ عمر العرضي وأبي اليمن البتروني وعمر بن محمد المرعشي وإبراهيم بن المنلا وأبي الجود البتروني والشيخ فتح الله البيلوني وأحمد ابن محمد الكواكبي وأبي الوفا العرضي ، وقد كتب هذا عليه : نسب أشرقت في أفلاك المعالي أقماره ، وسطعت في آفاق المحامد أنواره ، قد اكتسى من حلل الصحة ثياب الوقار ، وتحلى بقلائد المجد وعقود الفخار ، فهم السادة الذين بمحبتهم يزداد العبد قربا ، حسبما صرح به قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)* إلخ.

والمذكور في أصل النسب الشيخ محمد (والد المترجم) بن الشيخ عمر بن أحمد بن محمد خليفة بن الشيخ زكي الدين بن محمد بن علي بن حسن بن حسين بن محمد بن عبد العزيز بن زيد بن جعفر بن حمزة بن هارون بن عمران بن عبيد الله بن علي بن نصر الله ابن عبيد الله بن قاسم بن عبيد الله بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي ابن الإمام السبط أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

وبالجملة فإن هذا النسب من نفائس الآثار لما اشتمل عليه من خطوط كبار العلماء والقضاة في الشهباء في ذلك العصر والذي بعده.

وأطلعني المتولي على ديوان جده الأعلى الشيخ محمد بن عمر (والد المترجم) وهو ديوان كبير ، وهو على طريقة أهل التصوف ، لكن النظم ليس بشيء.

ورأيت عنده من مؤلفات الشيخ محمد جزئين من شرح البخاري هما الأول والثاني سماه «بغية السامع والقاري في شرح صحيح البخاري» ، وأخبرني أنه كان تاما في ستة مجلدات ، وهو من جملة ما وقفه جده من الكتب على هذه الزاوية ، وقد تبعثرت كلها ولم يبق منها سوى هذين المجلدين ، وهو شرح وسط.

__________________

(*) الشورى :


وأطلعني على رسالة اسمها «النفحة الربانية في طريقة المشايخ السعدية» الملخصة من الرسالة السعدية في الرد عن السادة السعدية تأليف الشيخ محمد المذكور.

وأطلعني على وقفية الشيخ محمد المذكور على ذريته تاريخها سنة (٩٧٤) وعليها خطوط كثير من مشاهير ذلك العصر ممن قدمنا أسماءهم.

وللزاوية من الأوقاف ثلاثة دكاكين وقفها الشيخ عمر بن حسن الوفائي من ذرية الواقف ، وإحدى هذه الدكاكين جعلت اثنتين. ولابن الشيخ عمر هذا ولد اسمه الشيخ حسن وقف نصف دار له لجامع الزكي وربع هذه الدار لهذه الزاوية. وأما أوقاف الزاوية القديمة فقد تغلب عليها وليس لها من الأوقاف إلا ما ذكرناه.

الكلام على جامع الزكي :

قال أبوذر : هذا الجامع خارج باب النصر ، كان أولا مسجدا عمريا فجدده قبل فتنة تمر محمد الزكي أحد أجناد الحلقة ، ثم في سنة تسع وعشرين وثمانمائة وسعه الأمير ناصر الدين الحجيج الأستادار بحلب ووقف على ما زاده وقفا مختصا بالزيادة ، وكان قد وقف عليه محمد الزكي وقفا غير ذلك ، وهو باق يصرف على مصالح الجامع. توفي الحجيج ثاني عشر رجب سنة ثلاث وثلاثين وثمانماية ا ه.

ومحمد الزكي هو الذي مر ذكره في عمود النسب المتقدم ، ويظهر أن التولية تسلسلت في عقبه إلى أن وصلت إلى المتولي على الجامع الآن وهو الشيخ محمد بن الشيخ عبد الوهاب المتقدم الذكر.

وقد أطلعني المتولي على صورة وقفية الناصري محمد بن الشهاب أحمد بن الناصري محمد المعروف بابن حجيج وتاريخها في جمادى الآخرة سنة سبع أو تسع وعشرين وثمانماية ، وملخصها أنه وقف دارين خارج باب النصر ، وثمانية قراريط من حمّام القوّاس ، وهي في هذه المحلة وقد استبدلت بعد ، وعرصة وخان خارج باب النصر ، ونصف طاحون بأنطاكية تعرف بالصابونية ، وثمانية أفدنة من قرية القادنية من أعمال جبل سمعان ، وأربعة قراريط من قرية دادخين من أعمال الغربيات ، وأربعة بساتين في حارم ، ونصف حانوت بمدينة تيزين ، وجميع البستان الذي يظاهر حلب شمالي عين التل في حلب ويعرف بالخرايز وهذا استبدل أيضا.


والناصري المذكور زاد في الجامع القبلية الشرقية وعين لها إماما وخادما من ريع وقفه المتقدم وجعل باقيه لذريته. والباقي من هذه العقارات دكانان في سوق الباطية في حلب ونصف الطاحون الذي في أنطاكية. وهي الآن تحت يد دائرة الأوقاف تعطي خادم الجامع راتبه لا غير.

وللجامع قبليتان إحداهما جنوبية والأخرى شرقية ، وهما متصلتان ببعضهما البعض ، طول القبلية الجنوبية ٩٧ قدما وعرضها ٢٣ ، وفيها محرابان ومنبر ، وهناك تقام الجمعة ، ولا زخرفة في المحراب. وطول تتمة هذه القبلية ٥٤ قدما وعرضها ٢٥ ، وطول القبلية الشرقية ٨٨ قدما وعرضها ٥٤ قدما.

وفي وسط هذه القبلية حوض يأتيه الماء من القناة عمر في نواحي سنة ١٢٧٠ ، عمره الشيخ أحمد الخوجة وكان إماما بهذا الجامع ، وكان رجلا صالحا من تلامذة الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني.

وللجامع صحن واسع طوله ١٠٦ أقدام وعرضه نحو ٧٤ قدما ، وفي وسطه حوض صغير ، وفي شرقي الصحن في آخره صهريج ، حدثني المتولي أنه حين حفره تبين أن هناك خشخاشة طولها ١١ ذراعا وعرضها ٨ تحتوي على ثلاثة أواوين ، وهناك باب مصراعاه من الحجر مثل باب المقام في الصالحين ، وقد سد هذا الباب وأكملت عمارة الصهريج.

وفي شمالي الجامع حجر للإمام وغيره. وفي الجهة الغربية رواق كتب بين قنطرتين من قناطره :

(١) جدد هدا المكان المبارك

(٢) الفقير إلى الله تعالى الحاج محيي الدين بن الحاج

(٣) عبد القادر بن محب في غرة شهر رجب سنة ١١٢٧ ه‍.

والحاج محيي الدين هذا مدفون في تربة السيد علي وقبره باق إلى الآن.

وداخل هذا الرواق قسطل محرر على بابه : أنشأ هذا السبيل المبارك الحاج محمد بن الحاج شمس الدين الشهاب ... يعرف ... بتاريخ شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.


وللجامع بابان إلى السوق كتب على الباب الشمالي وهو الباب المستعمل الآن :

(١) حسبما رسم المقر العالي المولوي السيفي قنباي

(٢) الحمزاوي المالكي الظاهري كافل المملكة الحلبية المحروسة

(٣) أن لا يؤخذ على نظارة جامع الزكي بعمله لله تعالى بتاريخ سنة ثلث وأربعين وثمانماية (٤) ملعون ابن ملعون من يأخذ منه درهم فرد ا ه.

وعلى عضادتين داخل هذا الباب عن اليمين والشمال كتابة تعسر عليّ قراءة بعض الكلمات فأضربت عنها. والباب الثاني مغلق لا يستعمل إلا نادرا لعدم الحاجة إليه ومكتوب عليه :

(١) البسملة : إنما يعمر مساجد الله إلى قوله من المهتدين وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) من بنى مسجدا ولو مفحص قطاة بني الله قصرا في الجنة. أنشأ هذا المسجد المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى العلائي علي ابن المرحوم النجمي سعيد بن يمن الملطي تقبل الله منه ورحم سلفه في شهور سنة تسع عشرة وتسعماية ا ه.

والعلائي علي رمم هذا الجامع وزاد فيه النصف الشمالي من الصحن ، وآثار الزيادة ظاهرة ، وعمر الحجرات التي في شماليه ، وكانت وفاته سنة ٩٢٢ وقد تقدمت ترجمته في الخامس (ص ٣٦٤) والرضي الحنبلي سها عن ذكر عمله هذا.

وللجامع من العقارات ٢٠ دكانا معظمها حول الجامع ، ومنها في السوق الذي بجانبه المسمى بسوق النصر ، وله نصف دار وقفها الشيخ حسن الوفائي ووقف الربع على الزاوية المتقدمة و ١٠٠ شجرة زيتون في أرمناز.

٩٤٢ ـ حسين البيمارستاني نقيب الأشراف المتوفى سنة ١٠١٣

(السيد حسين) بن محمد البيمارستاني نقيب الأشراف بحلب ، وكان يكتب الحسيني.

تولى نقابة حلب بعد موت والده ، ونازعه الشمس الرامحمداني فإنه كان نقيبا قبل


والد السيد حسين ، فتقرب السيد حسين إلى المولى يحيى أفندي من بستان بالهدايا حتى قررها عليه وعرض له بها ، وكان صاحب أموال جزيلة حصلها من التجارات والمداينات. وأخذ أمرا بالتقاعد عن دفتر دارية حلب. وكان لا يأخذ من الأشراف مالا ولا يصادرهم بل كان يبذل لهم القرى ويقضي مهمات مصالحهم بخلاف غيره من النقباء ، ولما استولى خداوردي أحد جند الشام على حلب ونواحيها وامتدت يده زوّج ابنته لابن خداوردي ، كما زوّج الشيخ أبو الجود ابنته لخداوردي تقربا إلى جاهه. ولما تولى الوزير نصوح كفالة حلب وفهم الشيخ أبو الجود أنه يريد الانتقام من خداوردي وبقية أجناد دمشق المستولين على حلب فرّ قبل وقوع الفتنة إلى دمشق والسيد حسين ثبت ، وكان يداري الباشا وهو في الباطن يبغضه وينوي له السوء ، والأمير درويش بن مطاف أحد متفرقة حلب مقبول عند الباشا كثير البغض للسيد حسين بواسطة أخيه السيد لطفي ، فإنه كان عدوا للسيد حسين مع كونه أخاه ، فكان السيد لطفي يثلب أخاه بحضور الأمير درويش ، والأمير درويش ينقل ذلك للباشا حتى وقع الحرب بين نصوح باشا وحسين بن جانبولاذ كما ذكرناه سابقا ، وانكسر نصوح باشا وعاد إلى حلب مقهورا ، فوشى السيد لطفي أن أخاه فرح يكسر عسكر الباشا وأنه قرأ مولدا في هذه الليلة للفرح ، فذهب الباشا ليلا إلى دار السيد حسين فسمع ضرب الدفوف وأصوات الغواني وأمارات السرور ، وكان سببه أن بنت السيد حسين ولدت ولدا ذكرا في تلك الأيام فاجتمعت النساء للفرح ، ففي اليوم الثاني طلب الباشا السيد حسين فأخذ معه شريفا من بيت صفّاف الجبس ورجلا يقال له منصور بن حلاوة ، فدخل الثلاثة إلى دار السعادة فأمر الباشا بخنقهم خفية ، فخنقوا وألقيت أجسادهم في الخندق بحيث لا يشعر بهم أحد ، وضبط الباشا أموال السيد حسين ، وهرب السيد لطفي لما قيل له إن الباشا يقتلك أيضا ، وليوهم الناس أنني ما سعيت في قتل أخي. وقد كان السيد لطفي يحلف الأيمانات العظيمة أن أخاه يشرب الخمر ويلبس لبوس النصارى ، ويذكر ذلك للباشا. وكان قتله في سنة ثلاث عشرة بعد الألف وعمره نحو سبعين سنة رحمه‌الله.

وخداوردي المتقدم جاء ذكره في الجزء الثالث (حوادث سنة ١٠١١). وترجمه الغزي في الذيل وكذا في الخلاصة فقال في ترجمته : (خداوردي) بن عبد الله الطاغية أحد كبراء أجناد الشام ، وكان متميزا فيهم بالبأس والجرأة والتوسع في الدنيا. ونال حظا عظيما ، واشتهرت صولته ، واستتبع رعايا وجهالا استخفهم فأطاعوه. وولي سردارية


حلب ففتك فيها ونهب وتعدى واستلب ، حتى ضجر منه أهاليها وحكامها حين قامت الحرب بينه وبين نصوح باشا وبينه وبين ابن جانبولاد ، وكان هو وأحفاده قد عاثوا في البلاد وفتنوها ، ومنه كانت نشأة فساد العسكر الشامي وطغيانهم. وما زال بينهم نافذ القول مقبول السمعة إلى أن مات ، وكانت وفاته في بضع عشرة وألف ا ه.

٩٤٣ ـ وليّ المعروف بشاه وليّ المتوفى سنة ١٠١٣

ولي المعروف بين الناس بشاه ولي العيني الحنفي الخلوتي العبد الصالح.

كان في بداية أمره جنديا من أمراء المقام العثماني ، ثم ترك ذلك وصحب رجلا صالحا يقال له الشيخ يعقوب ، فتربى على يديه وسلك السير إلى الله تعالى ، ثم مات الشيخ يعقوب ولم يحصل للشيخ شاه ولي كمال ، فصحب بعده خليفته الشيخ أحمد ، ثم لما مات الشيخ أحمد كان شاه ولي كاملا في درجات النفس ، فاستقل بالمشيخة بعده ، فأرشد ونصح ورتب الأوراد والخلوات وأخذ العهود وربى ودعا إلى الله عزوجل ، فكثر مريدوه وأتباعه ، وهذب نفسه وأدبها مع الصلاح والكرم والعفاف والزهد في الدنيا.

وكان مثابرا على طاعة الله تعالى مقبلا على النصيحة مكفوف اللسان ساكن الجوارح عفيف النفس زكي الأخلاق حسن الحال راغبا في العزلة ملازم الصبر ، يقضي أوقاته بالمرض وعدم صحة المزاج. ولم يزل حتى توفي في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة بعد الألف ، خرج إلى دار عزة لأجل إدخال مريديه إلى الخلوة ، فمرض بها بحصر البول فجيء به إلى حلب فبقي نحو عشرة أيام على تلك الحالة. ثم توفي ودفن بالقرب من مقام إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

أقول قبره ملاصق لجدار مقام إبراهيم الخليل من الجهة الشرقية.

٩٤٤ ـ صادق بن هاشم السروجي المتوفى سنة ١٠١٦

صادق بن هاشم بن ناصر الدين بن عباس ، السيد الشريف الحسيب النسيب الحسيني السروجي ثم الحلبي.


قدم والده حلب في حدود سنة ... ورأس بها ، وبعد صيته واشتهر أمره في حسن المعالجة. ذكره الرضي الحنبلي في تاريخه. قدم هاشم مصر واشتغل على علمائها ، وبرع في المعقولات ، واشتغل بمطالعة كتب الطب حتى حصل على الحظ الأوفر منه بقراءة بحث وتدقيق ، وأجيز في عدة كتب من المشايخ العظام وجل الأطباء الكرام.

ثم قدم حلب فحصل له الحظوة بالأكابر والحكام وهرعت إليه الناس لما يجدون من بركة يده في المعالجات ، وتصون لسائر الأمراض والعلات. ثم تزوج بحلب وأعقب من ولديه ناصر الدين الآتي ذكره وهذا صادق ، فأكثر من التنقلات في البلاد والمخالطة مع العباد والزهاد لتحصيل الفوائد والتقاط الفرائد ، فلا يزال يجني ثمرات المسائل من أربابها ، ويأخذ المجربات الصحيحة عن أصحابها ، إلى أن حصل عن شيء لم يحصل عليه إنسان ، وبرع في الطب بما فاق به الأقران. ثم رأى اقتفاء أثر آبائه في العلاج ، وتقيده لمداواة الأبدان أوضح منهاج ، فجلس في حجرة آبائه بالباب الغربي من أموى حلب يتعاطى صنعة العلاج يبرىء بصحيح علاجه الامراض ، ويزيل عن الاجساد العلل والاعراض ، والناس تهرع إليه ، وتعول في الأمور عليه ، لما يجدون من بركة يديه.

ناب مدة بتوقيت حلب بجامعها الأموي من غير أجرة قاصدا الأجر والثواب من الملك الوهاب ، ثم تنزه وتخلف في الطريقة القادرية من العلامة شيخ الإسلام الزيني عمر العرضي ، ولزم الذكر والعبادة وقراءة القرآن والتلاوة ، إلى أن اخترمته المنية يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الأولى سنة ١٠١٦. وأعقب صادق من ولده الشمس محمد الآتي ذكره في المحمديين. (من مجموعة العرضي)

٩٤٥ ـ أحمد بن عمر الحمامي العلواني المتوفى سنة ١٠١٧

الشيخ أحمد بن عمر الحمامي العلواني الخلوتي الشافعي ، نزيل حلب ، الشيخ البركة.

تأدب على يد أستاذه أبي الوفا العلواني ، قرأ عليه في مقدمات العلوم ، ولازمه في حضور مجالس شكوى الخاطر. ثم سلك على يد ابن أخيه الشيخ محمد فكان بينه وبين الشيخ علوان رجل واحد هو الشيخ أبو الوفاء ابن الشيخ علوان.

ثم خرج من بلدته حماة لحدة مزاجه وضيق أخلاقه وذلك بعد موت مشايخه ، فورد


حلب ونزل بمحلة المشارقة ، وكان حينئذ يكتسب بالحياكة ، ثم مل منها وجلس بمسجد الشيخ شمعون بمحلة سويقة حاتم قرب الجامع الكبير ، فكان يقرىء المبتدئين في الألفية النحوية وشرح القطر ونحو ذلك ، ويقرىء في المنهاج الفرعي.

وكان يقنع بسد الرمق ، ويلبس الثياب الخشنة كالعباءة والقميص من الخام مع قدرته على لبس أحسن من ذلك.

ثم تردد إلى دروس الشيخ أبي الجود ، وكان يتفقده *. ثم أخذ يشكو الخواطر على طريق العلوانية. وكيفية شكوى الخواطر أنه يوم الجمعة صبيحة النهار يقرأ أوراد العلوانية ويستمر يذكر الله تعالى حتى ترتفع الشمس على قدر قامتين ، ويجلس السامعون بعضهم إلى ظهر بعض ، ثم يطرق الشيخ رأسه ويقول : أستغفر الله ، فكل واحد يقول كذلك بمفرده ، ثم يشكو بعض جماعات منهم ما لاح في ضميره ، هذا يقول مثلا : أجد نفسي تميل إلى الأطعمة الطيبة وعجزت عن دفعها ، وهذا يقول : أشغلني عن عبادة الله أمور العيال ، وهذا يقول : ما معنى قول ابن الفارض (روحي فداك عرفت أم لم تعرف) ، وهذا يقول : ما معنى قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)**. وبعد الفراغ من السؤالات يشرح لهم الخواطر واحدا بعد واحد ويستطرد.

قال العرضي الصغير : حضرته مرة فاستطرد إلى أن حكى أنه لما كان في خدمة شيخه أبي الوفا وجده في الليل نائما في الزاوية في الإيوان أيام البرد ، فأيقظه وقال له : يا أحمد ، أوصيك أن لا تتخذ لك بيوتا سوى المساجد لئلا تحاسب عليها في القيامة. وذكر أن شيخه أعطاه مفتاح خزانة الزيت ليعطي منها للمسجد ما يحتاج ، فكان يسمي الله تعالى ويعطي ، واستمر مدة طويلة حتى حمل الحسد رجلا قال للشيخ : إن أحمد لا يقدر على حفظ الزيت ، فسلمه الشيخ المفتاح وعزل الشيخ أحمد ، فما مضى نحو أسبوع وإذا بالرجل قال : قد فرغ الزيت ، فقال الشيخ : سبحان الله! كانت البركة في يد أحمد ، ولو استمر المفتاح عنده كان الزيت يقيم سنوات.

وله مؤلفات مقبولة ، منها «تروية الأرواح» ، و «أعذب المشارب في السلوك

__________________

(*) لعل الصواب : يعتقده.

(**) الفتح : ٤.


والمناقب» ، المتن له منظوم والشرح له منثور ، ومطلع المنظوم قوله :

إليك بك اللهم وجهت وجهتي

وفيك إذا ما همت ألفيت همتي

لقد سدّت الأبواب عني وقصرت

فأسألك التفريج من كل شدة

لك الحمد إذ أظهرت في الكون سادة

تحلّى بهم والله جيد الملاحة

بهم كل جود في الوجود وما لمن

أحبهم غير الهنا والمسرة

لك الحمد أن أشغلت قلبي بذكرهم

وشرفت ما أملي بوصف المحبة

فهم نور عيني والجمال يحفهم

وهم روح جسمي والحياة بجملة

لك الحمد فارحمني إذا ما ذكرتهم

بوصف جميل واصلح الله نيتي

وقد ذكر في الشرح شيخه أبا الوفاء (الشيخ أبا بكر) وأطنب في مناقبه ، وذكر فيه الشيخ عمر العرضي وأطال في مدحه. وكان سأل العرضي المذكور أن المقرر أن النبي أعم من الرسول مع أن الله تعالى علق الإرسال على كل شيء فقال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى)* دلت بصريحها أنه ما من شيء إلا وقد أرسل الله إليه ، أجاب بأن الرسول المعروف إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ذاك بحسب عرف أهل الشرع ، والإرسال المراد في الآية الإرسال اللغوي ، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ)** ونحو ذلك.

ولم يعرف لذة الجماع أصلا. ولما ورد شاه ولي الخلوتي العارف بالله تعالى صاحبه الشيخ أحمد وتلمذ له وأخذ عنه البيعة حتى تعجب الناس من حسن أخلاق الشيخ أحمد.

ولبّس الشيخ أحمد جميع مريديه تاج الخلوتية وشرع يقيم الذكر على أسلوب الخلوتية فكثر أتباعه وقصده الناس من جميع أقطار حلب ، إلا أن المشددين في الزهد ما أعجبتهم هذه الحالة لكون الطريقة العلوانية محض سنة محمدية. واتخذ له كرسيا يجلس عليه يوم شكوى الخواطر ، فكان يقرأ بعض آيات قرآنية ويفسرها للناس ، وأقبلت عليه الدنيا والنذورات وأسرعت الحكام وأرباب الدولة إلى زيارته. ولما أدركت الشاه ولي الوفاة بحلب اجتمعت عليه أهالي باب النيرب وقالو له : يا مولانا ، ترك الشيخ أحمد طريقته وطريقة

__________________

(*) الحج : ٥٢.

(**) الأعراف : ٥٧


آبائه وتلمذ لكم وهو عالم فاضل فلا يليق بالخلافة غيره ، فقال لهم : لا ، الخليفة عليكم بعدي قايا جلبي ، وكرّروا هذا الأمر مرارا وهو يقول لهم كذلك. ثم انحل الشيخ أحمد عن تلك الحالة وأدركه الموت فقال : أشهد الله أني أموت على طريقة الشيخ علوان. وكان ربما اقتصر في اليوم على رغيف.

وكانت وفاته في سنة سبع عشرة بعد الألف ، ودفن بجانب الشيخ شاه ولي ملاصقا لمقام الخليل عليه‌السلام.

٩٤٦ ـ محمد بن علي الرامحمداني نقيب الأشراف المتوفى سنة ١٠١٩

محمد بن علي بن يوسف بن فياض السيد شمس الدين الرام حمداني ثم الحلبي ، المعروف بالقاضي الشافعي ، نقيب السادة الأشراف.

قدم جده الشيخ فياض من بلاد حوران واستوطن قرية رام حمدان وأولد بها الجمالي يوسف ، فنشأ على قدم الصلاح ، وأخذ الطريقة الأحمدية على الشيخ محمد المنيّر ، وبنى له زاوية برام حمدان وجلس على سجادة الإرشاد يهرع إليه كثير من الناس من معاملة تلك البلاد.

وأما المترجم فإنه قدم حلب من قرية رام حمدان من أعمال حلب سنة ... على قدم الفقر والتجريد وعلى لبس عباءة لا يزيد ، وأخذ له حجرة بجامع الطواشي ، واشتغل بتحصيل العلم على الجمالي يوسف بن حسن ليه فقرأ عليه المحلى شرح المنهاج وأجازه فيه ، وعني بمطالعة كتب الفقه فحصل منها المسائل الشرعية ، وتقيد بقضاء مصالح الجمال يوسف الإسحاقي نقيب السادة الأشراف بحلب ففوض إليه جميع أموره وصار يستضيء بنور رأيه. ثم أخذ وكالة خان الخراطين بعد كتابته ، فحسن حاله بذلك ، واشترى له دارا بالقرب من جامع البهرمية فأحسن عمارتها ، واستنيب في فسخ الأنكحة من قبل من تولى حلب من القضاة ، وجلس بالمحكمة الشافعية مع ذلك يتعاطى الأحكام الشرعية ، وحصل له الحظوة عند القضاة والحكام حتى هرع إليه الخاص والعام.

ثم تولى نقابة الأشراف بموت العز الإسحاقي ابن أخي الجمال يوسف نقيب السادة الأشراف بحلب ، ثم تنزه عن الجلوس في المحكمة لما فيه من معاداة الناس والوقوف تحت


مرضاتهم وجري الأمور على وقف مرادهم ، واستنيب في قسمة التركات قبل قاضي العساكر بالقسطنطينية مدة ، ثم تنزه واستمر على قدم الزهد إلى أن استولت أيدي الجلالية على الديار الحلبية ، فحصلت له الإهانة الكلية وأزيل الأخضر من على رأسه بديوان حلب بالتعصب من بعض الأشراف المنكرين شرفه وقرر في النقابة غيره (هو محمد البيمارستاني المتوفى سنة ١٠١٠) وجرم أعظم جريمة ، وولى من حلب هزيمة ، وصار في مرتبة الخمول ، يتضرع إلى الله وهو المأمول ، فلم يحل الحول حتى قدم حضرة الوزير الأعظم مراد باشا وأزال أيدي الطائفة الخوارج عن الديار الحلبية ، وقطع دابر الفرقة الجلالية ، فحصل له عنده عظيم المقام بحيث يقابله في ملأ من الناس بالإعزاز والإكرام ، فارتفع شأنه ورد الله الأمر إلى نصابه ، والحكم لأربابه ، وتولى منصب النقابة. واتفق أن الذي رفع أخضره من على رأسه قطع رأسه في ذلك اليوم من ذلك الشهر الذي أزال فيه.

توفي رحمه‌الله يوم السبت الثاني والعشرين من صفر سنة ألف وتسعة عشر. ا ه. (من مجموعة الشيخ يوسف الجمالي).

٩٤٧ ـ يوسف الأنصاري ابن أبي بكر المتوفى في أوائل هذا القرن

يوسف بن أبي بكر الأنصاري عم والدة العرضي ابن بنت شيخ الإسلام ابن الحنبلي الحنفي.

ترجمه الشيخ محمد العرضي في القسم الأول من كتابه الذي ترجم فيه ١٤ رجلا من أعيان الشهباء ومصر والشام والحجاز وهو في (٤٣) ورقة قال : يوسف بن أبي بكر عم والدتي الأنصاري ابن بنت شيخ الإسلام ابن الحنبلي الحنفي ، فرع ينع في حديقة الأنصار يمت بنسبه إلى أخوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النجار ، هو وإن انتسب إلى حامل راية الرسول يوم بدر سعد بن عبادة ، له صقيل طبع يداني طبع البحتري أبي عبادة. نشأ المزبور متوشحا بالعفاف ، قانعا من ريّق العيش بثمد الكفاف ، أدرك جده المذكور وقرأ عليه بعض مقدمات الصرف ، وله صنف رسالته المسماة «بالمختصر اللطيف في علم التصريف». وسافر في ريعان شبابه واقتبال عمره إلى مصر القاهرة وأدرك بها ثاني النعمان ، ومن كلماته تحكي شقائق النعمان الشيخ علي المقدسي ، واقتبس من مشكاته وحل بناديه القدسي.


وأخبرني أنه أنشد بمجلس بعض مشايخ القاهرة قول جده :

كيف أسلو عنك أو أخلو وقد

صرت جثمانا وفيه أنت روح

لا ترح عني وترضي عاذلي

أنت روحي كيف أرضى أن تروح

فصرخ الشيخ في المجلس صرخة ، ثم حمل إلى بيته فتعلل أياما ومات. ومما كتبت له من كلماته الدرية وعبرات عبراته اللؤلؤية ما هو من شرط كتابي هذا قوله :

يا لنهر لاعبت أمواجه

نسمات الريح في اليوم الأغر

فاكتست من أخضر الديباج ما

كللته الشمس من باهي الدرر

ا ه. ولم يذكر تاريخ وفاته لكنها في أوائل هذا القرن.

٩٤٨ ـ سرور بن الحسين الشاعر المتوفى في حدود العشرين

سرور بن الحسين بن سنين الحلبي الشاعر المشهور.

كان أحد أفراد الزمان في النظم ، وله شعر بديع الصنعة مليح الأسلوب مفرغ في قالب الحسن والجودة. ولما فارق وطنه بحلب وسارع إلى طرابلس الشام لمدح أمرائها بني سيفا ، والأمير محمد بينهم إذ ذاك مقصد كل شاعر وممدوح كل ناطق ، أكرم مثواه وأحسن قراه ، فبغضه شعراء الأمير الموجودون عنده والمقربون إليه ، وذلك لإقبال الأمير عليه وركبوا كل صعب وذلول في سبه ، حتى خاطب الأمير حسين بن الجزري الآتي ذكره بقوله معرضا بسرور :

وحقك ما تركتك عن ملال

وبغض أيها المولى الأمير

ولكن مذ ألفت الحزن قدما

أنفت مواطنا فيها سرور

ولم يزل في تلك الغربة إلى أن قضى ما قضى وطره ، ومدائحه في بني سيفا غاية ، ومن جيدها قصيدته الرائية التي قالها في مدح الأمير محمد ومستهلها :

خلا ربع أنسي بعدكم فهو مقفر

وأعوزني حتى البكا والتصبّر

وقد كنت عما يسهر العين غافلا

فعلمني حبيكم كيف أسهر

ووالله ربي ما تغيرت بعدكم

وإن رابكم جسماني المتغيّر


عدمت اختياري والحوادث جمة

وهل بيد الإنسان ما يتخيّر

تذكرتكم والعين تهمي دموعها

وأي دموع لم يهجها التذكّر

وليست كما ظن الغبي مدامعا

ولكنها نفس تذوب فتقطر

أخذ الأخير من قول بشار :

وليس الذي يجري من العين ماءها

ولكنها روح تذوب فتقطر

وقد أخذه المتنبي فحسنه بقوله :

أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس

تسيل من الآماق والسم أدمع

وقد تداول الشعراء هذا المعنى كثيرا ، ولو جمعت ما قيل فيه لناف على خمسمائة بيت تتمة الرائية :

لعل ليال سامحتني بقربكم

تعاد فتنهى في البعاد وتأمر

هنالك أجزي الدهر عن حسن فعله

وأصفح عن ذنب الزمان وأغفر

بكم روّضت داري وعزت وأشرقت

فأنتم لها بحر وبدر وقسور

بحيث التصابي كان سهلا جنابه

بكم وشبابي أبيض العيش أخضر

ومنها في المديح :

أأكفر إحسان ابن سيفا محمد

فذلك ذنب ليس عنه مكفّر

متى وردت جدوى الأمير بنا المنى

شربنا ببحر صفوه لا يكدّر

كثير سخاء الكف تحسب جنة

تفجر فيها من عطاياه كوثر

ومن نعمة قد أودعت قلب حاسد

تفوح كما يستودع العود مجمر

وإن جدّ أمضى في الأمور عزيمة

يحيض دما منها الحسام المذكّر

يدبّر أمر الجيش منه ابن حرة

بصير بتدبير الأمور مدبّر

حسام له من حلية الفضل جوهر

يروق كما راق الحسام المجوهر

وينتاش شلو المجد من نوب الردى

وقد نشبت فيه نيوب وأظفر

وإن زارت الخيل السوابق خيله

أتى الطير من قبل اللقاء يبشّر

تفدّيه بالشهب الصوافن ضمّر

عليها أسود من بني الحرب ضمّر


خلفت عليا يا ابنه في خلائق

تساوى بها فرع زكي وعنصر

قلت : هذا القدر هو المقصود مما نحن فيه ، وهذا الشعر هو السحر الحلال ، فلله دره ما أسلس قياده وأعذب ألفاظه وأحسن سبكه وألطف مقاصده.

ومن ملحه قوله :

نزلنا بحكم الراح عندك منزلا

نهبنا به الأفراح في ظله نهبا

تدير علينا من حديثك خمرة

وأخرى من الراح المعتقة الصهبا

فرحت فلا والله أعلم ما الذي

تعاطيت راحا كان أم لفظك العذبا

كانا إذا ما شعشعتها أكفنا

نقلّب من كاستها أنجما شهبا

ومن غزلياته قوله :

ولكم بكرت إلى الرياض للذة

في فتية بيض الوجوه صباحها

تهتز في ورق الشباب قدودهم

كغصونها وثغورهم كأقاحها

حتى إذا عادوا لوصلي عاودت

أرواح لذاتي إلى أشباحها

ومن مطرباته التي استوفت أقسام الظرف قوله :

بدا فكأنما قمر

على أطواقه ظهرا

يعز إذا خضعت له

وإن دانيته نفرا

ولم أر قبل مبسمه

ثمين الدر ما صغرا

يظل به على خطر

فؤادي كلما خطرا

ومما يستجاد له قوله :

صب جفا في فراقك الرفقا

جار عليه الهوى وما رفقا

يكفيه من حالتيه أنّ له

فما صموتا وناظرا قلقا

ودمع عين يبدو فأكتمه

منحبسا تارة ومنطلقا

وقفت أستنطق الربوع له

لو أن ربعا لسائل نطقا

عين ترى أن تراك لا سكبت

للبين دمعا ولا اشتكت أرقا

هل فيك من رحمة تعين بها

إنسان عين أحرقته غرقا


وغصن بان مشى فعلمني

لما تثنّى وشاحه القلقا

أحسن منه قول أبي تمام :

وإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما

بحليّها من كثرة الوسواس

(رجع) :

أورق بالحسن نبت عارضه

وأحسن الغصن ما اكتسى الورقا

يمدّ لي من عذاره شركا

يطول فيه عذاب من علقا

ويحمل الصبح تحت ليل دجى

فوق قضيب على كثيب نقا

أخذت بالمذهب الصحيح وقد

تفرّق الناس في الهوى فرقا

مقسّمين الحظوظ بينهم

في الحب قسمي سعادة وشقا

وله من قصيدة يذكر فيها متنزهات حلب :

ألا ليت ما بيني وبينك من بعد

على القرب ما بين القلوب من الودّ

غرامي غرامي والهوى ذلك الهوى

قديما ووجدي في محبتكم وجدي

ووالله (إني) * ما تغيرت بعدكم

لبين فهل أنتم تغيرتم بعدي

تذكرت أيامي وعودي بمائه

وعيشي بكم لو دام في جنة الخلد

وقلت تديموني على القرب دائما

فخالفتموني واتفقتم على البعد

وليلة غاظ البدر فيها اجتماعنا

فكنا نرى في وجهه أثر الحقد

وملتقطات من فؤادي تجتني

أحاديث أحلى مجتنى من جنى الشهد

ألذ من الماء القراح على الظما

وأعذب من طيب الكرى عقب السهد

وبالبقعة الغناء من سفح جوشن

فتلك الربى فالسفح من جوشن الفرد

كأنا إلى شاطي مجر قويقها

وقد أشرف السعدي بكم أنجم السعد

تجدّ بنا أهواؤنا فحلو منا

موفّرة فيها على الهزل والجد

وكم بردت للتل عين قريرة

سرورا بنا والشمل منتظم العقد

لبسنا لها والليل يعثر بالصبا

بقية قطع من دجى الليل مسودّ

__________________

(*) أضفناها ليتم الكلام ، وهي ليست في الأصل ولا في خلاصة الأثر.


منازه قطر لابس القطر نورها

فألبسها مما ينيل وما يسدي

رياض حكى البرد اليمانيّ وشيها

وشاطي غدير مثل حاشية البرد

تحرى بها النوروز فصل اعتدائه

فعدّل فيها قسمة الحر والبرد

ومن ورق للورد يصقله الندى

فيجري يجاري الدمع من حمرة الخد

فيا نعمة أغفلتها فتصرمت

مضت لم أقيدها بشكر ولا حمد

وقد تضمن أكثر شعره مدح الشهباء تبعا للمتقدمين كقول البحتري :

أقام كل ملثّ الودق رجّاس

على ديار بعلو الشام أدراس

إلخ الأبيات التي ذكرناها في آخر الجزء الثالث وساق المحبي من مدحها ما أثبتناه ثمة.

(ثم قال) : وكانت وفاة سرور في حدود العشرين بعد الألف بالتقريب كما يرشد إلى ذلك مدائحه في بني سيفا والله أعلم. ا ه.

وترجمه الشهاب الخفاجي في الريحانة فقال : شاعر سمح السجية ، له أنفاس ندية. كانت نسمات المسامرة تهب بنفحاته ، وأفواه الأسماع تحتسي في نادي الأدب سلافة أبياته ، ونور روضه يتبسم في الأكمام ، فترى منه ما هو ألذ من نظر معشوق في وجه عاشق بابتسام ، فتستعذب في مذاق الأدب ، وتتلقى بضائعها من الركبان القادمة من حلب. ثم رأيته لما ورد الروم ، إلا أنه لم يطل مكثه بها لفقد ما يروم ، وآفة التبر ضعف منتقده ، فرجع قائلا لكل يوم غد ، ولكل سبت أحد ، فلم ترعين أمله سرورا ، ولم يذق كأسا كان مزاجها كافورا ، ولم يلبس برد العمر قشيبا حتى احتضر غصنا رطيفا. فمما أنشدني من شعره قوله من قصيدة :

وليل هدتنا فيه غرّ الفراقد

لحاجات نفس هن أسنى المقاصد

وقد صرفت زهر الدراري دراهما

تمدّ الثريا نحوها كفّ ناقد

وباتت تناجيني ضمائر خاطري

تقرب نيل المطلب المتباعد

لحا الله طرفي ماله الدهر ساهرا

لمكتحل الأجفان بالنوم راقد

حبيب كأن البعد يهوى وصاله

معي فهو لا ينفكّ فيه معاندي

أخذت الهوى من لحظه وابتسامه

بما قاله الضحّاك لي عن مجاهد


وقوله حبيب إلخ كقول أبي الطيب :

كأن الحزن مشغوف بقلبي

فساعة هجرها يجد الوصالا

وقول أبي العلاء المعري :

لئن عشقت صوارمه الهوادي

فلا تعدم بما تهوى اتصالا

وفي معناه ما قلته :

لك الله من دمع كشمل مبدّد

وطرف بنعسان الجفون مسهّد

لئن عشق التسهيد أجفان مقلتي

لهجرك فلينعم بوصل مخلّد

ومن تقريظ له على شعر ابن عمران :

حملت إلينا يا بن عمران روضة

من النظم يسقيها الحجى صوب وكفه

خميلة شعر يزدري البدر نورها

وينأى عن الشعرى العبور بعطفه

كأن غصونا أودعت في سطورها

لها ثمر يلتذ سمعي بقطفه

إذا ما مشى ليل المداد بطرسها

نهارا زهت فيه كواكب وصفه

فكانت كما زارت معطرة اللمى

مبرّدة من حرّ قلبي ولهفه

ووافى إلى الصب الكئيب شويدن

لوجرة أحوى فاحم الشعر وحفه (١)

فأحبب به عبل الروادف خصره

يجوع إذا عض الإزار بردفه

أقول : كانت وفاة الشهاب أحمد الخفاجي سنة ١٠٦٩ ، وكان رحل إلى بلاد الروم تين ، ويغلب على الظن أن رحلته الأولى كانت ما بين الثلاثين والأربعين ، فإن كانت يته للمترجم في الرحلة الأولى فتكون وفاته في هذه السنين والله أعلم.

٩٤٩ ـ محمد بن أحمد المعروف بابن قولاقسز المتوفى سنة ١٠٢١

محمد بن أحمد المعروف بابن إدريس ، المنعوت بشمس الدين ، الحلبي ثم الدمشقي ، معروف بابن قولاقسز.

كان فاضلا بارعا فقيها ، له اطلاع على مسائل فقه الإمام الأعظم أبي حنفية.

__________________

(١) في الأصل : وصفه ، وهو تصحيف.


قرأ بحلب على عالمها الإمام الرضي بن الحنبلي الأصول والفقه والحديث ، وأخذ عن منلا أحمد القزويني المعاني والبيان والتفسير. ثم رحل إلى دمشق وأخذ بها الفقه عن خطيب الشام وفقيها النجم والبهنسي ، والحديث عن شيخ الإسلام البدر الغزي ، وقرأ البخاري على النور النسفي ، وأخذ الفرائض عن الشيخ عبد الوهاب الحنفي ، والقراءات عن الطيبي ، والمنطق عن منلا إبراهيم الكردي القزويني الحلبي وبه تفقه ولده أحمد.

وكان يحب العزلة والانجماع عن الناس ، ولم يكن له وظيفة ولا مدرسة. وبالجملة فقد كان من خيار الأفاضل.

وكانت ولادته سنة ست وثلاثين وتسعمائة. وتوفي رابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وألف ، ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وولده أحمد ولد بدمشق وصار من كبار فقهاء الحنفية ، وله ترجمة في الخلاصة.

٩٥٠ ـ أحمد بن محمد الكواكبي المتوفى سنة ١٠٢٣

الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد المعروف بالكواكبي ، البيري الأصل ثم الحنفي الصوفي ، أحد أعيان علماء حلب وكبرائها.

ذكره أبو الوفا العرضي وقال في ترجمته : لزم الاشتغال على الوالد ، يعني الشيخ عمر العرضي ، برهة من الزمان ، حتى وصل إلى قراءة «المطوّل» وحواشيه قراءة تحقيق. وقرأ على الشيخ محمد بن مسلم المغربي أحد شيوخ الوالد في «المغني» وحاشيته. وقرأ فقه الحنفية على الشيخ محمد المصري الحنفي.

وكان يحضر مجالس ذكر والده ، وكان يخرج بالذكر أمام الجنائز كما هو سنن الصوفية.

وكان حنق على والده فأخذ الطريق على الشيخ عيواد الكلشني وهو أردولي أيضا ، واتخذ له حلقة ذكر في جامع بانقوسا.

ثم رجع إلى طاعة والده وتاب إلى الله تعالى. وتقدم عليه في بعض مجالس الذكر الشيخ عبد الله فضربه صاحب الترجمة وألقى عمامته عن رأسه ، وكان في وقت هوية الذكر ، فلم ينزعج الشيخ عبد الله بل استمر في ذكره ، وهذا خلق حسن عظيم.


ثم ترك زي الصوفية وشرع في أخذ المدارس الحلبية. ثم حركه مبغضو الشيخ أبي الجود على أخذ إفتاء حلب منه فاستعظم ذلك. ثم توجه إلى القسطنطينية وأخذها.

وتولى القسمة العسكرية بحلب مرارا وصار قائما مقام القاضي إذا تولى جديدا حتى جمع في سنة واحدة بين الفتوى والقسمة العسكرية مع النيابة الكبرى عن قاضي حلب والنظر على كتخداي الباشا وكتخداي الدفتردار.

وكان عفيفا في أقضيته له حسن معاملة مع أصحابه ومحبيه ، وأحبه كافل حلب نصوح باشا نكاية في أبي الجود لكون أبي الجود صاهر العسكر الدمشقيين ونصوح باشا كان يبغضهم ، وكان يتردد إليه وتزدحم على بابه الأكابر والأعيان.

وبنى دارا عظيمة بالجلّوم إلى جنب زاوية جده بها مجالس عظيمة ، وبنى مكانا في دهليزها لطيفا له شباك مشرف على زاوية جده من جهة الشرق.

ولما تولى حسين باشا كفالة حلب وعزل نصوح باشا ووقع بينهما تلك الفتن والمحن كان حسين باشا ينظر إلى صاحب الترجمة شزرا ويسمعه هجرا ، واشتد الوهم به حتى تدلى ليلا من السور وانهزم حتى وصل إلى طرابلس سريعا جدا ، فالتجأ إلى كرم بني سيفا فاستقبلوه بالإجلال ، فجلس هناك شهورا قليلة.

ثم توجه إلى مصر وحج ، واستمر بمصر حتى ذهبت دولة جانبولاد ، فعاد إلى حلب ولبس ثياب الصوفية ، وجمع ليالي الجمع المشايخ والفقراء واتخذ له مجلس صلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان يأتي إليه نحو ألف إنسان ما بين ذاكر وناظر. وكان يطيل مجلس الصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يمل المصلي والسامع ، فقال له أخوه الشيخ أبو النصر : طريقتنا قسم تهليل وليس فيه الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وصاحب الترجمة يقول : الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) * بعضهم يرجحها في الفضل على لا إله إلا الله. ثم طال الجدال بينهما حتى أصلح الشيخ أبو النصر مسجدا وكان مهجورا واتخذه للذكر في ليالي الجمع ، فكان الأكثر من الناس يأتون إلى الشيخ أبي النصر لكون ذكره بالنغم والأساليب الحسنة مع العبادة ، ومجلس صاحب الترجمة عبادة محضة. وكان كتب في إمضائه : نقل من السجل المصان ،

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل ، وأثبتناه نقلا عن خلاصة الأثر.


فاعترضه الشيخ أبو الجود *

وقال الشيخ أبو الوفا : وكان سألني وأنا شاب : لم كان اسم الفاعل مع فاعليه ليس بجملة والفعل مع فاعله جملة؟ فأجبت بأنه لما لم يختلف غيبة وتكلما وخطابا عومل معاملة المفردات ، وأما الفعل مع فاعله لما اختلف عومل معاملة الجمل ، فأعجبه.

ومن نظمه حين أحب أخوه شابا يقال له محمود فأنشد :

قد قلت للأخ لما زاد في شغف

ارفق بنفسك إن الرفق مقصود

فقال لا أبتغي عن ذا الهوى بدلا

هواي بين أهيل العشق محمود

وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وتسعمائة ، وتوفي في رمضان سنة ثلاث وعشرين وألف ، ودفن في قبور الصالحين. ا ه.

ومدحه بعض شعراء عصره ، ويغلب على الظن أنه سرور بن الحسين المتقدم ، بقصيدة غراء ، وهي عندي مع عدة قصائد بخطه ، وقد توجها بقوله : وقلت مهنئا للشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن الولي بالله أبي عبد الله محمد الكواكبي حين قدم من مصر لبلده حلب في ربيع الأول سنة ١٠١٧ :

نسيم ورد المنى بالأنس قد وردا

وكوكب السعد في أفق الهناء بدا

وأشرقت أوجه الأفراح باسمة

تبدي لنا من ثنايا البشر صبح هدى

وأينعت غصن الإقبال دانية

قطوفها وغدا عيش الوفا رغدا

وغنّت الورق في روض الرضا طربا

وساجع الجدّ في أفنانها نشدا

وعاد عيد مسرات ببهجته

وأنجز الدهر بالوعد الذي وعدا

وأصبحت حلب الشهباء ضاحكة

وأظلمت أوجه من حسّد وعدى

وهار ليل ظلام الجهل حين بدا

للناظرين شهاب الدين متقدا

مولى سما في سماء الفضل منزلة

منالها عن ذرا الجوزاء قد بعدا

صدر تواضع لما أن علا شرفا

مكانة وحياض العز قد وردا

كأن آراءه بين الورى فلك

يبدي نجوم الهدى من أفقه رصدا

__________________

(*) يقصد أن الصواب : السجل المصون.


قد زاده الله إجلالا ومكرمة

وخصه بعظيم اللطف حيث غدا

قضى له الله بالعلياء من قدم

فكل عز لعالي عزه سجدا

مسدد الرأي بالتوفيق معتصم

فكلما رام أمرا لم يشبه سدى

من الألى أحرزوا سبقا ومكرمة

وساحبي فوق هام النجم ذيل ندى

وشيدوا من مباني المجد عالية

شماء من دونها للطالبين مدى

وقلدوا الدهر عقدا من محامدهم

وخلدوا عند كل العالمين يدا

وقد أقاموا منار المكرمات على

متن العلا كي يراهم كل من قصدا

هدوا إلى الحق من قدم بكل هدى

ومن يضل يرى فيهم له رشدا

آثارهم حمدت في الناس واشتهرت

آيات فضلهم تتلى لهم أبدا

يا واحد العصر لا مثتثنيا أحدا

في الناس غيرك بل لا ذاكرا أحدا

إن المقام الذي استوطنت ذروته

من دونه فلك الأفلاك قد قعدا

قضيت حجا قضاه الله من قدم

يسوقه سائق من ربه قودا

أحييت دارس علم كان مندرسا

فمات غيظا وغبنا كل من حسدا

لازلت ترفل في ثوب العلا أبدا

والحاسدون بجلباب العنا وردى

٩٥١ ـ بهاء الدين بن زهرة المتوفى سنة ١٠٢٤

بهاء الدين بن زهرة بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن حمزة بن عبد الله ابن محمد بن محمد بن عبد المحسن بن الحسن بن زهرة بن الحسن بن عز الدين أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة بن علي بن محمد بن محمد بن أبي إبراهيم محمد الممدوح بن علي ابن أحمد بن محمد أبي الحسين بن إسحق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي ابن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، السيد الشريف الحسيني الإسحاقي ثم الفوعي ثم الحلبي.

ولد سنة ٩٤٦ ، وقدم حلب سنة ٩٦٨. توفي ليلة الجمعة ثالث عشر صفر الخير سنة ١٠٢٤ ودفن على جده أبي المكارم حمزة بالقرب من مشهد الحسين بسفح جبل الجوشن رحمنا الله وإياه ا ه (من مجموعة العرضي).


٩٥٢ ـ شيخ الإسلام عمر بن عبد الوهاب العرضي المتوفى سنة ١٠٢٤

عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين العرضي الحلبي الشافعي القادري ، المحدث الفقيه الكبير ، مفتي حلب وواعظ تلك الدائرة.

كان أوحد وقته في فنون الحديث والفقه والأدب ، وشهرته تغني عن الإطراء في وصفه.

اشتغل بالطلب على والده ، ثم لزم الشيخ الإمام محمود بن محمد بن محمد بن حسن البابي الحلبي المعروف بابن البيلوني ، وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة ، فقرأ عليه الجزرية ومقدمة التصريف العزية وتجويد القرآن وقطعة من تيسير الداني. ثم انحاز إلى المنلا إبراهيم بن محمد البياني الكردي ثم الحلبي الشافعي ، فقرأ عليه كثيرا من الفنون. ثم وصل إلى العالم الكبير محمد رضي الدين بن الحنبلي فقرأ عليه وانتفع به وتخرج عليه ، وأخذ عن العالم العلامة محمد بن المسلم التونسي الحصيني نسبة إلى بني الحصين ، طائفة من الأنصار ، المالكي نزيل حلب ، لازمه سنين وانتفع بعلمه وسمع من لفظه صحيح البخاري تماما مرات عديدة وجانبا كبيرا من صحيح مسلم بقراءة ولده محمد المقتول ومن لفظه حصة كبيرة من الشفاء للقاضي عياض ، وقرأ عليه في المطول من بحث أحوال متعلقات الفعل إلى آخر الكتاب ، وكان قرأ من أوله إلى هذا المحل على شيخه المنلا إبراهيم الكردي المذكور آنفا ، وسمع عليه بقراءة غيره في شرح الألفية للمرادي وفي مغني اللبيب وفي شرح ابن الناظم على ألفية أبيه ، وقرأ عليه شرح العراقي على ألفيته بتمامه وحصة يسيرة من شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ، وشرع عليه في قراءة الأصفهاني شرح طوالع البيضاوي وفي بحث الإلهيات فقرأ عليه درسين ، ثم حم ابن المسلم ومات.

ورواية ابن المسلم البخاري عن البرهان العمادي الحلبي وأسانيده معروفة ، وعن الفخري عثمان بن منصور الطرابلسي وهو يرويه عن أبي العباس أحمد الشاوي الحنفي والزين الهرهامي عن الحافظ العراقي بأسانيده ، ويرويه وسائر كتب السنن عن قاضي الجماعة بتونس سيدي أحمد السليطي سماعا من لفظه لصحيح البخاري وإجازة لباقي كتب السنن. وأجازه البدر الغزي من دمشق بالمكاتبة.


ودرس وأفاد وصرف أوقاته في الإفادة ، ولم يكن في عصره واحد مثله مجدا في الاشتغال وإفادة الطلبة. لازم الزاوية الحيشية المنسوبة إلى بني العشائر مدة أربعين سنة.

وكان أكثر فضلاء زمانه تلامذته وأنبلهم الشمس محمد وأخوه البرهان إبراهيم ابنا الشهاب أحمد بن المنلا وولده أبو الوفا العرضي ونجم الدين الحلفاوي وغيرهم من رؤساء العلم.

وصار مفتي الشافعية بحلب وواعظها بجامعها ، يعظ الناس يوم الجمعة بعد العصر ، واستمر على ذلك مدة حياته.

وألف تآليف كثيرة ، منها شرح الجامي ابتدأ فيه من عند قوله : فالمفرد المنصرف إلى المنصوبات ، ولم تساعده الأيام على إتمامه ، وكان شديد الاعتناء بالجامي حريصا على مطالعته وإقرائه ، وفيه يقول :

لله در إمام طالما سطعت

أنوار أفضاله من علمه السامي

ألفاظه أسكرت أسماعنا طربا

كأنها الخمر تسقى من صفا الجامي

واقتدي في ذلك بشيخه ابن الحنبلي في قوله :

لكافية الإعراب شرح منقّح

ذلول المعاني ذو انتساب إلى الجامي

معانيه تجلى حين تتلى كأنها

هي الخمر يبدو جرمها من صفا الجام

وله شرح على رسالة القشيري ، وشرح العقائد ، وشرح الشفا في حديث المصطفى ، أربعة أسفار ضخمة كل سفر قدره أربعون كراسا في مسطرة إحدى وأربعين سطرا ، سماه «فتح الغفار بما أكرم الله به نبيه المختار» صرف همته مدة اثنتي عشرة سنة في تأليفه ، وأبرز فيه علوما جمة ، وشاع في الآفاق ، واستكتبه علماء الروم والعرب ، وكتب حاشية على تفسير المولى أبي السعود في سورة الأعراف.

وأما رسائله فلا تحصر ، وأجوبته وفتاويه كثيرة متواترة ، ومن رسائله رسالة سماها «الدر الثمين في جواز حبس المتهمين» ورسالة «مناهج أهل الوفا فيما تضمنه من الفوائد اسم المصطفى» ، ورسالة «تفضيل الصلاة على البشير النذير» ، ورسالة في «شرح قصيدة ابن الفارض» الدالية ، ورسالة أخرى في شرح التائية وأخرى في شرح اليائية ،


ورسالة على قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)* وغير ذلك من الرسائل.

ومن تعليقاته جوابه عن مقالة الأستاذ محمد البكري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم جميع علم الله تعالى ، وقد سئل عنها في مجلس درس ، فأجاب بأن مقالة الشيخ هذه صحيحة ولا إنكار عليه فيها ، إذ يجوز أن الله يهبه علمه ويطلعه عليه ، ولا يلزم من ذلك أن يدرك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقام الربوبية ، إذ العلم المذكور ثابت لله تعالى بذاته وللمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعليم الله تعالى إياه ، وإلى مثل ذلك أشار الأبوصيري بقوله :

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

وفي الحديث : قال لي ربي ليلة الإسراء : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت : لا أدري ، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها في ثدييّ فعلمت علم الأولين والآخرين ، ثم قال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : في الوضوء على المكاره ، إلى آخر الحديث.

وأورد في تاريخه في ترجمة شيخه ابن مسلم ناقلا عن تاريخ شيخه ابن الحنبلي أنه قال : اجتمعت به أي بابن مسلم مرة عند مولاي الرشيد ابن سلطان تونس إذ دخل حلب ، فجرى ذكر بني أمية ، فأوردت أن من المفسرين من ذهب إلى أن الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو أمية ، فتغير لذلك ، فقلت : سبحان الله! قيل ما قيل والعهدة على قائله ، فطلب صاحب المجلس مني النقل ، فأظهرته من تاريخ المحب بن الوليد بن الشحنة. قال : وأقول :

إن هذه المقالة لم يقلها عالم معتبر ، وإنما هي من ترهات الشيعة لغلوهم في بغض بني أمية ، وإلا فبنو أمية منهم الجيد والردي ، فماذا يفعل قائل ذلك في عثمان المشهود له بالجنة ، وذي النورين جامع القرآن ، وما يصنع في عمرو بن العاص وولده عبد الله الناسك أحد العبادلة الأربعة ، وفي معاوية بن أبي سفيان وغيرهم من أكابر الصلحاء كعمر بن عبد العزيز ومعاوية الصغير ، وكيف تكون بنو أمية شجرة ملعونة وهم عنصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبنو عمه. وابن الشحنة كان رجلا غايته انه من فضلاء الناس ، وليس قوله بحجة ، وتفسير القرآن لا يحتج فيه بمثل ابن الشحنة ولا بمقالته. انتهى.

وللعرضي شعر قليل ، أنشد له بعض الأدباء قوله وهو معنى حسن :

لم أكتحل في صباح يوم

أريق فيه دم الحسين

__________________

(*) الفرقان : ٤٥.


إلا لأني لفرط حزني

سوّدت فيه بياض عيني

وأصله قول بعضهم :

وقائل * لم كحلت عينا

يوم استباحوا دم الحسين

فقلت كفّوا أحق شيء

يلبس فيه السواد عيني

وكانت ولادته بحلب بقاعة العشائرية الملاصقة لزاويتهم دار القرآن شمالي جامع حلب في صبيحة يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة سنة خمسين وتسعمائة. وجاء تاريخ مولده (شيخ حلب) ، ومات يوم الثلاثاء خامس عشر أو سادس عشر شعبان سنة أربع وعشرين وألف.

وقال الصلاح الكوراني مؤرخا وفاته :

إمام العلوم وزين العلا

سراج الهدى عمر ذو الوفا

تولى فأرخ سراج بها

العلوم هوى فرقا فانطفا

وترجمه الشهاب في الريحانة فقال : هو الحبر علامة زمانه ، شيخ الإسلام ، نسيج وحده ، وفريد فضله ومجده ، بحر لا تكدره الدلاء ، ولا تنزف بعض موارده الملاء ، لم يزل صدرا للإفادة والإفتاء بحلب ، ترعى في ربيع فضله سوائم الطلب ، وتآليفه وتصانيفه تنقلها الركبان ، وتقف دونها سوابق الحسن والاستحسان ، حتى رقي شرف السبعين ، وصعد إليها بدرجات السنين ، رافلا في حلل الغنى ، حتى جر الدهر عليه أذيال الفنا ، وهو آخر من صنف بحلب وأفاد وأجاد. ومن أجل مصنفاته شرح الشفاء في مجلدات ، ولنا عليه اعتراضات بيناها في شرحنا. وله نظم ونثر. وأورد له البيتين المتقدمين لكنه ذكر الشطرة الثانية من البيت الثاني هكذا :

هي الخمر تبدو شمسها من صفا الجام

وترجمه الغزي في «لطف السمر» ومما قال فيه : الشيخ الإمام العلامة الهمام زين الدين مفتي الشافعية بحلب وابن مفتيها. (إلى أن قال) : وألف شرحا على الشفا ، وتاريخا كأنه ذيل به تاريخ ابن الحنبلي. ولما كنت بحلب في صحبة شيخنا في سنة خمس وعشرين وألف

__________________

(*) في الأصل : وقائلة.


تردد إلينا ولده الشيخ العلامة (أبو الوفا) وقد دعانا لضيافته ، وطلب منه أن يوقفنا على تاريخ أبيه ، فاعتذر بعذر ما ولم يوقفنا عليه. ثم ذكر وفاته كما تقدم.

أقول : قد ظفرت ببعض أوراق من هذا التاريخ وفيها حوادث ووفيات من سنة ٩٨١ إلى سنة ٩٨٦ ونقلت عنها بعض ذلك ، وقد تقدمت مع عزوها إليه ، ولا أعلم نسخة منه في مكتبة من المكاتب ، وتفيد هذه الأوراق أن له معجما كبيرا لأنه أحال في هذه الأوراق عليه كثيرا ، وذكر فيها أن له من المؤلفات «الفوائد المهمة في مناقب سراج الأمة» أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه وشرح على ألفية السيوطي في علم أصول الحديث المنتخبة من ألفية العراقي.

وللمترجم بيتان وجدتهما في مجموعة بخط الشيخ محمد المواهبي الحلبي وهما :

من عاشر الأشراف صار مشرّفا

ومعاشر الأرذال غير مشرّف

أو ما ترى الجلد الحقير مقبّلا

بالفم لما صار جلد المصحف

وأقول : إني بحمد الله أروي شرحه على الشفاعن الشيخ الزاهد الشيخ كامل الموقت عن أبيه الشيخ أحمد عن أبيه الشيخ عبد الرحمن عن أبيه الشيخ عبد الله موفق الدين الحنبلي عن أبيه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي الدمشقي ثم الحلبي عن الشيخ علي المشهور بالميقاتي ، وهو يرويه كما هو محرر في ورقة عندي بخطه عن الشيوخ الثلاثة الشهاب أحمد الشراباتي الحلبي والشيخ زين الدين كاتب الفتوى بحلب والشيخ عبد الرحمن العاري عن أبي الوفا العرضي عن والده مؤلف هذا الشرح شيخ الإسلام الشيخ عمر العرضي رحمهم‌الله تعالى.

ويوجد نسخة تامة من هذا الشرح في مكتبة بشير آغا ، وهي في ثلاثة مجلدات ، ونسخة في مكتبة نور عثمانية في ثمانية مجلدات ، وهاتان المكتبتان في الآستانة. ويوجد نسخة تامة في المدرسة العثمانية بحلب ، وهي في ثلاثة مجلدات محررة سنة ١١٤١ ، وهي منقولة عن نسخة المؤلف ، وذكر ثمة أن ختام تأليفه كان سنة ١٠١٩ ، وأول الشرح :

الحمد لله الذي جعل شفاء القلوب في متابعة سيد الأنام وارتياح الأرواح في دفع الشكوك عن القلوب والأوهام ، والسعادة الأبدية في دك الشبه بالوصول إلى اليقين التام ، والصلاة والسلام على نبي أزال عن الملة الحنيفية الغبار والقتام ، وبين دين الله عزوجل بيانا تاما فوصل فهمه إلى أذهان الخاص والعام.


(إلى أن قال) : وسميته «بفتح الغفار بما أكرم الله عزوجل نبيه المختار». على أنني لم أقف على شرح لهذا الكتاب سلك فيه ما يليق به من البيان ، ويظهر خفياته ويوصلها إلى الأذهان ، سوى أن شيخ أشياخنا قطب الدين عيسى الإيجي كتب على قطعة منه وصل إلى أثناء الباب الثاني منه ، وذلك قدر يسير.

(ثم قال) : وقد جاء هذا الشرح مشتملا على أمور ، الأول : ما هو وظيفة الشراح من بيان مقصوده وإظهار مراده. الثاني : إيضاح ما استعمله من اللغات العربية وارتكبه من الأساليب العجيبة. الثالث : رد ما أشكل من تراكيبه إلى قواعد علم العربية. الرابع : ذكر ترجمة من ليس مشهورا من الرجال الذين جرى ذكرهم فيه. الخامس : بيان وجه استشهاده بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. السادس : أن المصنف يورد الأحاديث والآثار ويشير إلى القصص والأخبار غير معزوة إلى مخرّجيها ، وهذا هو الغالب على صنيعه ، ولم أدع ولله الحمد حديثا ذكره غير معزو إلا عزوته إلى مخرّجه ، وبينت كونه صحيحا أو ضعيفا كما ستقف على ذلك كله ، وكذلك أفعل في الآثار والقصص. السابع : أنه لا يذكر من الحديث إلا محل الشاهد ، وقد يكون الحديث طويلا فأنا أذكر الحديث جميعه ، وفي ذلك فائدة عظيمة ، لأنه ربما يكون الاستشهاد به خفيا فيظهر بذكر الحديث كله. الثامن : أنه ربما ذكر مدعى بغير دليل ، فأنا أذكر لمدعياته دلائل متعددة ، وربما ذكر دليلا فيه نظر ، فأنا أذكر لمدعياته دلائل متينة. التاسع : استعصاء ما أورد فيه من المباحث المتعلقة بالاعتقاد والإشكالات الواردة في الأحاديث والآثار التي استشهد بها وذكر ما يتعلق بها من أي فن كان كما سترى ذلك مفصلا في محاله ... إلخ.

والحاصل أنه شرح حافل جليل من مفاخر الحلبيين ، فعسى أن تصح عزيمة بعض أرباب المطابع في إخراجه إلى عالم المطبوعات ليعم به النفع.

ومن مؤلفاته التي لم تذكر في ترجمته «لامية الشرف وسراج الغرف» وهي قصيدة ذكرها في كشف الظنون وقال إنها في تسعة وستين بيتا أولها :

الحمد لله رب العالمين على

ما تم من نعم جلّت من الأزل

وهي في الموعظة والنصيحة ، ثم شرحها في مجلد كبير سماه «نهج السعادة ومواقف الإفادة» أتمه سنة ١٠١٧ ، وقال في تاريخها (أشرقت) ، جمع فيه شيئا كثيرا من كلمات


الصوفية فصار كالفتوحات المكية ، افتتح شرح كل بيت بآية من كتاب الله تعالى.

ومدحه بعض شعراء عصره وأظنه سرور بن الحسين المتقدم كما ذكرته في ترجمة أحمد ابن محمد الكواكبي بقصيدة بديعة ، وإني أذكرها بتمامها على طولها لأنها من غرر القصائد ولندرة وجودها ، وقد توجّها بقوله :

وكتبت بها ممتدحا شيخ الإسلام وبركة الخاص والعام ومجتهد العصر في الأنام وحسنة الدهر والأيام الزيني عمر بن عبد الوهاب العرضي الشافعي في ذي القعدة سنة ١٠١٩ :

سقى عهد هند صيّب العهد يهرع

وحيا حماها الجود يهمي ويهمع

وجاد على أكنافها وابل الحيا

يوشّي حواشيها برودا ويوشع

ولا زال خفّاق الصبا في عراصها

يطوف ويسعى في رباها ويرجع

معاهد أنس كما بأفياء ظلها

مرحت زمانا بالأوانس أرتع

لبست بها من ريّق العيش حلة

مطرّزة خضراء فيها التشعشع

وغصن الصبا ريان بالزهر مزهر

وماء المحيّا بالنضارة أروع

وأيامنا بيض مع البيض تنقضي

وعرف التداني فاح منه التضيع *

وليلاتنا الغر اللواتي كأنها

على جيد صفو الدهر عقد مرصّع

ندير من اللذات راحة غبطة

براحة أنس والخليّون هجّع

بحيث ندامانا البدور وكأسنا

جديد حديث فيه للنفس موقع

رعى الله أيامي بها ورعى الهوى

منازل ذات الخال للخال مجمع

وقفت بها أستنطق الربع سائلا

عن الجيرة الغادين أيّان أقلعوا

وللريح في محو الرسوم تفنن

وللبين في أعراصها الغرّ مصرع

وللعين مدرار كتهتان ديمة

لها من نزيح الدار سحّ ومدمع

وللصبّ في الأحشاء نار ولوعة

وللقلب من داء الغرام مصدّع

وما حال دار غيّرتها يد الردى

وأخرسها من بعد نطق مروّع

ألا أيها الربع الخليّ من المها

وليس به إلا مهاة تربّع

تبدلت من أنس الجليس بوحشة

وعوّضت عنه الوحش يحبو ويرتع

__________________

(*) لعل الصواب : التضوّع.


فهل ترجع الأيام أهليك برهة

لعل وهل في نيل عنقاء مطمع

وسرب من الحور الحسان أوانس

لهن فؤاد الصب مرعى ومرتع

أقامت بأحناء الضلوع وكنّست

بوادي الحشا حيث السرائر تودع

تنظّم منها الثغر درا منضدا

كنثر جمان الدمع يذرى * ويسطع

وتبدي وميض البرق منها ابتسامة

وتحسر عن شمس إذا ميط برقع

ألفت بها حوراء ذلّ لها الهوى

ودللها من أحور الطرف أخضع

تميس كما ماس القضيب وتنثني

كخوط ثنته الريح للعجب يرضع

شبيهة بيضات الخدور كأنما

تصوغ من الكافور جسما يشعشع

تريك هلالّا فوق أملود روضة

له من ظلام الليل فرع مفرّع

وخدا حوى ماء النعيم بجنة

زها وردها أن يجتني منه خيدع

وبدر تمام يعتلي غصن دوحة

على متن دعص للملاحة يجمع

أرت وجنتاه روض حسن لناظر

وفي ثغره كأس من الشهد مترع

وأسبل شعرا كالدجى عند هضبة

وأسفر عن صبح يضيء ويلمع

وأرسل من أجفانه الدعج أسهما

فأصمت فؤادا بالهوى يتقطّع

إذا ما بدا في حلة الحسن رافلا

تطامن آساد العرين وتخضع

وإن هز من لدن القوام مهفهفا

يميد القضيب الهندوانيّ يركع

علقت به والقلب خلو من الهوى

وشرخ الصبا بالزهو واللهو مولع

وألزمت كور اليعملات لعلها

تبلّغني أفقا به البدر يطلع

وأرسلتها وجناء في وجنة الفلا

تباري الصبا إن لاح لحب ومهيع

كأن من الريح القبول تكونت

فتفري خطاها للفيافي وتذرع

سريت بها والليل داج كأنه

تموّج بحر فيه للريح مصدع

وخضت خضمّ الآل ظمآن ذاهلا

تصادمني أمواجه وهي يلمع

وجبت قفار البيد من كل موحش

أراقب فيه الشمس إن ضاء مطلع

يصاحبني في صدرها كل أرقط

ويؤنسني فيها غراب وخندع

إذا ما بها مر النسيم يعله

بعيد أقاصيها ويعييه بلقع

تموت القطا الكدري فيها من الظما

ويهفو صبير الركب صبرا ويزمع

__________________

(*) في الأصل : يدري ، ولعل الصواب ما أثبتناه.


أراقب شهبان الثواقب طلّعا

بأرجائها القصوى إذا جن أدرع

كأن نجوما في الدجنة أزهرت

أزاهر روض بالبديع يضوّع

كأن نجوما في المجرة جردت

مواضي بيضا فهي للصبح تهرع

كأن النجوم الهاويات أسنة

لها في حشا الأعداء وقع وملمع

كأن خفوق البرق والليل دامس

فؤاد صريع بالفراق يروّع

وقالوا أللشهب المنيرات مدلج

فقد ضج نضو في المفازة يسرع

إلام تحث العيس في بطن مهمه

وحتام أسباب السباسب تقطع

فقلت إلى من أنزل البدر رتبة

له في ذرى الشمس المنيرة موضع

(سمّي أبي حفص وللدين زينة

وقطب مدار الكل في الكل مرجع)

إمام علا بين الملا منتهى العلا

له في سماء المجد جد ومهرع

أشم شميم القدر شامخ ذروة

رفيع عماد البيت باذخ أروع

له شيم شم أبت رود غاية *

تجسمها للدهر طرف ومسمع

له قلم ينشي فينسي ** ووشيه

رياض بديع للبلاغة تبدع

إذا صر في القرطاس خلت صريره

مطوّقة في منبر الأيك تسجع

وإن مدفي صبح من الطرس حالكا

أر البيض والسمر العوالي تشرع

يدبر إذا أملى كؤوس مدامة

تخامر ذا لب لبيبا يرعرع

حوى فكره في النظم والنثر بسطة

لها دان في الدنيا أديب ومصقع

نبيّ بيان غادرت معجزاته

فصيح إياد وهو أخرس ألكع

عباراته بالمنطق العذب زجرها

لدى الوعظ يصطاد القلوب ويصدع

وأخلاقه كالماء صفوا وزانه

حياء كثرّ الزهر بالطل يدمع

تلطّف حتى كاد تخفيه رقة

فنم عليه من ثناه التضوع

ومد رواق العلم من بعد قصره

وشد نطاق الدين منه التشرّع

جميع ذوي التحقيق قد سلموا له

مقاليد حل المشكلات وأجمعوا

تصانيفه كالشمس في كل منزل

بها تهتدي أهل العلوم وتقنع

مناقبه جلت وجمت على امرىء

يعد الحصى والرمل منه التتبع

__________________

(*) هكذا في الأصل.

(**) لعل الصواب : فينشي ، من النشوة.


إذا النجم يملي والبحار محابر

وأقلام أشجار البقاع توقّع

فيا طود علم في البسيطة شامخا

وقاموس فضل بالجواهر يترع

ويا جامعا أشتات كل فضيلة

ومغني معان بالبراعة يبرع

ليهنك أن الله أجداك منحة

مقام نبيّ في القيامة تشفع

وجودك روح أودعت قالب الدنا

وشرح على متن الزمان موقع

ودهرك لفظ معجم غير معرب

وذكرك معناه يبين وينصع

فكل بني الغبراء في الفضل أنجم

وأنت كشمس في الفضائل تطلع

وعلم أولي الألباب والرأي قطرة

ببحرك والعلم اللدنّي ينبع

شفيت بشرح للشفا كل معضل

معاياته أعيت بليغا يسجّع

وفضيت للجامي ختاما بمزجه

كما ميط عن وجه الخياليّ برقع

تجاريك فرسان التفاسير والحجى

وكلّ وإن طال المدى يتضرع

سموت إلى أسنى مقام وغاية

عنت لذراها أوجه الأوج تخضع

بك اتضحت سبل الرشاد لمرشد

هدى لصراط الحق من جاء يتبع

لكل زمان واحد يقتدى به

وأنت له بين البرية مرجع

مديحك بين الناس أجللت قدره

فقلت شجاني دار هند وأربع

ولو لا نظام فيك لم يسخ خاطري

ولا رويت زند من الفكر تلمع

ولا نظمت كف الرياض قلائدا

يجود بها منشور درّي ويخلع

إليك فخذها بنت فكر فريدة

كما أنت فرد للفرائد تجمع

إذا طرقت سمع الحسود تخاله

بطارق شيطان يمس ويصرع

وسامح فتى يبغي بلوغ نهاية

لمدحك يا من ذكره الذكر * يودع

٩٥٣ ـ الشيخ إبراهيم بن أحمد بن الملا المتوفى سنة ١٠٣١

الشيخ إبراهيم بن أحمد بن محمد بن علي ** بن أحمد بن يوسف بن حسين بن يوسف ابن موسى ، الحصكفي الأصل الحلبي المولد ، العباسي الشافعي ، المعروف بابن الملا.

__________________

(*) لعل الصواب : الدهر.

(**) في خلاصة الأثر وفي الريحانة : إبراهيم بن أحمد بن علي بن أحمد.


قد أفرد في ظل أبيه عنه العلوم وتخرج عليه في الأدب ، وأخذ عن البدر محمود البيلوني وعن الشيخ عمر العرضي.

وكتب إليه جدي القاضي محب الدين بالإجازة من دمشق في سنة خمس وتسعين وتسعمائة.

وحج بعد الألف ورجع إلى حلب وانعزل عن الناس ولزم المطالعة والكتابة والتلاوة للقرآن كثيرا.

وكان صافي السريرة ، لا تعهد له زلة. ونظم الدرر والغرر في فقه الحنفية من بحر الرجز ، ودل على ملكته الراسخة ، فإن العادة فيما ينظم أن يكون مختصرا.

وبالجملة فإنه كان يغلب على طبعه الأدب. وكان له حسن محاضرة. وله شعر قليل منقح ، منه قوله :

ولما انطوت بالقرب شقّة بيننا

وغابت وشاة دوننا وعيون

بسطت لها والوجد يعبث بالحشا

شجون حديث والحديث شجون

الحديث شجون مثل من أمثال العرب ، وأصله ذو شجون ، أي ذو طرق ، والواحد شجن بسكون الجيم. وقد نظم أبو بكر القهستاني هذا المثل ومثلا آخر في بيت واحد وأحسن ما شاء ، وهو قوله :

تذكر نجدا والحديث شجون

فجنّ اشتياقا والجنون فنون

ولابن المنلا من قصيدة قرظ بها شعرا ليوسف بن عمران الحلبي الشاعر المشهور :

أطرسك هذا أم لجين مذهّب

ونظمك أم خمر لهمّي مذهب

وتلك سطور أم عقود جواهر

وزهر سماء أم هو الروض مخصب

وتلك معان أم غوان تروق لل

عيون وباللحن المسامع تطرب

فيا حبذا هذي القوافي التي بمن

يعارضها ظفر المنية ينشب

لقد أحكمتها فكرة ألمعية

فكدت لها من رقة النظم أشرب

فكم غزل قد هز ذا سلوة إلى ال

تصابي فأضحى بالغزال يشبّب

فيا بحر فضل فائض بلآلىء

لها فكرك الوقّاد ما زال يثقب


ظننت بأني للخطاب مؤهّل

فأرسلته شعرا لنظمي يخطب

فعذرا فإن الفكر مني مشتت

وعقلي بأيدي حادث الدهر ينهب

فقوله : فكدت لها من رقة النظم أشرب حسن ، والأحسن أن ينسب الشرب إلى السمع كما قال الآخر في وصف قصيدة :

تكاد من عذوبة الألفاظ

تشربها مسامع الحفّاظ

وله غير ذلك.

وكانت وفاته بعد الثلاثين وألف بقليل.

والحصكفي ، بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين وفتح الكاف وفي آخرها الفاء ، هذه النسبة إلى حصن كيفا وهي من ديار بكر. قال في المشترك : وحصن كيفا على دجلة بين جزيرة ابن عمر وميّافارقين ، وكان القياس أن ينسبوا إليه الحصنّي وقد نسبوا إليه أيضا كذلك ، لكن إذا نسبوا إلى اسمين أضيف أحدهما إلى الآخر ركبوا من مجموع الاسمين اسما واحدا ونسبوا إليه كما فعلوا هنا ، وكذلك نسبوا إلى رأس عين رسعنّي ، وإلى عبد الله وعبد شمس وعبد الدار عبدلّي وعبشمّي وعبدريّ ، وكذلك كل ما هو نظير هذا. والعباسيّ نسبة إلى العباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد ذكر أن جده كان منسوبا إليه.

واشتهر بيتهم في حلب ببيت المنلا ، لأن جد والد إبراهيم هذا كان يعرف بمنلا حاجي ، وكان قاضي قضاة تبريز ، وله شرح على المحرر في فقه الشافعي للرافعي وحاشية على شرح العقائد للتفتازاني سماها «تحفة الفوائد لشرح العقائد» ، وحشّى شرح الطوالع وشرح الشاطبية وفصوص ابن عربي ، وكتب على الجغميني في الهيئة شيئا ا ه. وقد ذكرت بعض ترجمته في أول هذا الجزء (في حاشية ترجمة محمد بن علي ابن المنلا المتوفى سنة ٩٧١).

أقول : ومن مؤلفات المترجم «شرح الألباب» وهو شرح أرجوزة في الصرف اسمها «تحفة الأحباب» ، و «شرح النظر» وهي همزية في المنطق للشيخ عبد العزيز المكناسي ، و «نصرة الروض المنجلي» لشيخ العصر الرضي محمد ابن الحنبلي ، و «حلية المفاضلة وحلبة المناضلة» جمع فيه مكتوباته ومطارحاته مع أهل عصره ، يوجد هذا في غوطا وبرلين ، و «أبكار المعاني المخدرة وأسرار المعاني المذخرة» ، ويوجد في مكتبة باريس ، و «مستوفي


النصر في فتاوي علماء مصر» ، يوجد بخطه في التكية الإخلاصية بحلب.

وقدمنا في ترجمة أخيه محمد ما قاله الشهاب في الريحانة فيهما.

وقد كان رحمه‌الله كثير النسخ والتحرير ، رأيت له في مكاتب حلب أزيد من عشرين مجلدا ، من ذلك نسخة من «در الحبب في تاريخ حلب» ، وقد أشرت إليها غير مرة ، وفي المكتبة الأحمدية عدة مجلدات بخطه وخط أخيه وخط والدهما الشهاب أحمد ، وعندي عدة أوراق بخطه فيها أبيات رائقة لشعراء الشهباء وغيرهم أثبتها في موضعها وأشرت إليها. ويغلب على الظن أن وفاته كانت أواخر سنة ١٠٣١ أو أوائل سنة ١٠٣٢ ، فإن في هذه الأوراق كلمات بخطه قال : كتبتها أواخر شهر شعبان سنة ١٠٣١. ومدحه الشعراء ، ومن جملتهم شاعر الشهباء في ذلك العصر حسين الجزري الآتي ذكره بعده ، فقد مدحه بعدة قصائد وهي مثبتة في ديوانه.

٩٥٤ ـ الشاعر الأديب حسين بن أحمد الجزري المتوفى سنة ١٠٣٣

الأديب حسين بن أحمد بن حسين المعروف بابن الجزري ، الشاعر المشهور الحلبي ، أحد المجيدين. جمع في شعره بين الصناعة والرقة.

نشأ بحلب وأخذ بها الأدب عن إبراهيم بن أحمد بن الملا والقاضي ناصر الدين محمد الحلفا. وشغف بتعلم الشعر صغيرا. وحفظ قصائد عديدة وفحص عن معانيها ، وأكثر من مطالعة كتب الأدب واللغة حتى صار له رسوخ ، ثم أخذ يمدح الأعيان. وكان إذا تكلم لا يظنه الإنسان يعرف شيئا. وكان له خط نسخي في غاية الحسن.

ولما تنبلّ اعتقد غارب الاغتراب ، فرحل إلى الشام والعراق ودخل الروم في سنة أربع عشرة وألف ، وقرأ فيها على محمد بن قاسم الحلبي حصة من هداية الفقه ، وفي ذلك يقول في قصيدته البائية يمدحه بها وهي :

لقد آن إعراضي عن الغي جانبا

وأن أتصدى للهداية طالبا

وهي مذكورة في ديوانه فلا حاجة بنا إلى ذكرها. ثم عاد إلى حلب واستقر بها. وكان أحيانا يتردد لبني سيفا أمراء طرابلس ، وله فيهم المدائح الكثيرة.


وجمع له ديوانا وهو موجود بأيدي الناس. وكان مغرما بشعر أبي العلاء المعري كثير الأخذ منه ، وأخبر أنه رآه في منامه ، وكان يقرأ عليه اللزوم ، وفهم من تقريره في تلك الرؤيا : الخير كل الخير فيما أكرهت النفس الطبيعية عليه ، والشر كل فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه. وكتب على ديوانه اللزوم قوله :

إن كنت متخذا لجرحك مرهما

فكتاب رب العالمين المرهم

أو كنت مصطحبا حبيبا سالكا

سبل الهدى فلزوم مالا يلزم

ومن شعره في الغزل قوله :

لو لم أطل أمل التلاقي

ما عشت من ألم الفراق

فأظل كالملسوع من

أفعى النوى ورجاي راقي

يا ثالث القمرين إلا في الكسوف وفي المحاق

حتام دمعي فيك لا

يرقى وروحي في التراقي

وإلام يستسقي الفؤاد ظما وأجفاني سواقي

وغريق دمع العين لا

تلقاه إلا في احتراق

والحب ما أورى الضلو

ع جوى وما أروى المآقي

فعساك أن تجزي مح

بيك المحبة بالوفاق

ولقد لقيت هواك أعظم ما لقيت وما ألاقي

وصبرت فيك على العدا

صبر الأسير على الوثاق

وعلمت أن الصبر يا

عذب اللمى مرّ المذاق

فاعرض عن الإعراض إعراضي لديك عن النفاق

وارفق ولو بالإلتفات عليّ ما بين الرفاق

فلقد يكون تلفت ال

أعناق داع للعناق

واستبق مني باللقا

ء بواقيا ليست بواقي

أعضاء صب ماله

إلاك من عينيك واقي

فالبيض سود عيونها

أمضى من البيض الرقاق

وقدودهن رشاقة *

في الطعن كالسمر الرشاق

__________________

(*) في «خلاصة الأثر» : وقدودهن رواشق.


وإذا بليت بحبهن بليت بالدمع المراق

وقوله من قصيدة طويلة يمدح بها العلامة إبراهيم بن أحمد الملا مطلعها :

منهل دمع المحب من دمه

فارفق بمغرى الفؤاد مغرمه

أبكيته والبكاء شاهد ما

يذوب من لحمه وأعظمه

كأنه في الفراش من سقم

معنى رقيق يجول في فمه

يا قمرا فرعه الظلام على

غصن نقا باسما بأنجمه

أي ظلوم سواك ينصره

لم يخف الله من تظلّمه

والصب يبدي أليم صبوته

للحب في الحب من تألّمه

ومن سائر شعره قوله متغزلا.

نتفدّاك ساقيا قد كساك

الحسن من فرقك المضيء لساقك

تشرق الشمس من يديك ومن

فيك الثريا والبدر من أطواقك

أوليس العجيب كونك بدرا

كاملا والمحاق في عشاقك

فتنة أنت اذ تميت وتحيي

بتلاقيك من تشا وفراقك

لست من هذه الخليقة بل

أنت مليك أرسلت من خلّاقك

وقوله :

يا ليلة جمعتنا والسرور معا

لاروّعتها دواعي الأفق بالفلق

لو استطعنا وقد شابت مفارقها

صبغا لها من سواد القلب والحدق

بكيتها وشباب العيش في دعة

منا وغافل طرف الدهر لم يفق

علما بأن الليالي غير باقية

وكل مجتمع يرمى بمفترق

وله وهو معنى غريب :

وبي مضاضة عيش مسنّي لغب

منها وساورني في سورها سغب

حتى تصوّر لي منها على ظمأ

أن المنية في ثغر المنى شنب

وله :

أحجّب من أهواه خوف وشاية

وأقصيه عنى والمزار قريب


ولم أر في الدنيا أشد مضاضة

على القلب من حب عليه رقيب

وقوله وهما من ملحه :

قديم محبة وحديث عهد

مقرهما فؤاد أخ حميم

وإن خلتم سواكم لي خليلا

فإن الحب للخل القديم

وقال وهو بدمشق في غلام رمدت عينه :

وما رمد في عين حبي لعلة

ولكنني أنبيكم بوجوده

أراد يرى ما في محياه من سنى

فأثّر فيه جرم شمس خدوده

وقال يمدح فصل الربيع :

قابلتنا أيدي الربيع بوجه

حسن فيه للمحاسن شاهد

ولنعم الزمان منه منحنا

فضل فصل الربيع لو كان خالد

وقال :

مولاي يا خير من يرجّى *

لزلّة أثبتت بسهو

إني أهل لكل ذنب

وأنت أهل لكل عفو

ومن مفرداته قوله :

عسى شمس هذا الدهر تأتي بوفق ما

نرجّي وسعد الوفق في شرف الشمس

وقوله :

تغافلت عن أشياء منه وربما

يسرك في بعض الأمور التغافل (١)

وله :

__________________

(*) في «خلاصة الأثر» : يا خير من محوه يرجّى.

(١) قبل هذا البيت كما في الريحانة :

ورب غنيّ كنت أحسن وده

وتقبح لي أقواله والفعائل


نأسو برؤياك ما أساء بنا

لا يصلح الجرح غير مرهمه (١)

فإن هذا الزمان محسنه

كفّارة عن ذنوب مجرمه

وقوله وأجاد :

وليل كأن الصبح فيه مآرب

نؤمل أن تقضى وخلّ نصادقه

وسافر في آخر عمره إلى حماة لرجاء عن له بها ، فرأى ليلة سيره كأنه يودع أهله ، فاستيقظ وهو ينشد :

قومي أحسني منك وداعي فما

بعدك حسنى يا ابنة القوم

وزوّدي جفنّي طيف الكرى

فليس بعد اليوم من نوم

فلما دخلها توفي ابن أميرها علي بن الأعوج واسمه روحي فقال :

لا تعجبوا أن سال دمعي دما

واشتعلت نار تباريحي

فلست من يبكي على غيره

وإنما أبكي على روحي

وبعد مدة توفي ، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وألف ، هكذا ذكر البديعي وفاته في السنة المذكورة. ثم رأيت في نسخة من ديوان ابن الجزري بخط بعض الدمشقيين ذكر أنه أخبره الأمير علي بن الأعوج أن الجزري مات بعد إنشاد البيتين المذكورين بثلاثة أيام ، ولم يقل بعدها شعرا ، وأن وفاته كانت في سنة أربع وثلاثين. وناقض أبو الوفا العرضي في وفاته فذكر أنها في سنة اثنتين وثلاثين ، ولست أدري أي المقولات أصح. وزاد العرضي أنه توفي غريبا بحماة كما توفي والده بالبصرة غريبا وعمره نحو الخمس والثلاثين ، ودفن بالتربة المعروفة بالعليليات. والجزري نسبة إلى جزيرة ابن عمر من بلاد الأكراد ، وبها كان أجداده ولهم فيها المكانة والجاه ، كما أشار إلى ذلك في بعض قصائده :

إن الجزيرة لا عدا جوديّها الغيث الهتون

خلقوا بها آباي آساد الشرى وهي العرين

ولهم بها البيت الموثل في قواعده المكين

__________________

(١) قبله كما في الريحانة :

فاسلم بدهر عصمت منه به

وعش بعلياك عمر أعصمه


وبركنه المجد المتين وظله المجد المبين

ولنا بهم نسب على الدنيا له شرف ودين

ا ه

وترجمه العلامة الشيخ محمد العرضي في القسم الأول من كتابه الذي ترجم فيه ١٤ شاعرا من شعراء مصر وحلب والشام والحجاز فقال :

هو ثاني المتنبي أحمد بن الحسين ، وكلامه كما قيل نقش الفص وناظر العين.

قالوا خذ العين من كل فقلت لهم

للعين فضل ولكن ناظر العين

حرفين من ألف طومار مسودة

وربما لم تجد في الألف حرفين

له غرر ملح ودرر كلمات ، إذا فوفها بخطه تعدل أجنحة الطواويس وصدور البزاة. وكان إذا قصد جاوز حد الاقتصاد إلى الإبداع ، وإذا قطع الشعر قطع السعر بالثمن البخس من المبتاع. وله طريق واحدة يأتي فيها بالسحر الحلال ، وهي وصف السير وندب الأطلال. وبالجملة كان النيّر الأعظم من بين سيارة كواكب الشهباء بل الدنيا في العصر الأخير ، ولقد وقف بعده فلك الشعر فما أذن بالمسير. كان ظريف الخلق كريم الخلق ، يغلب عليه الصمت والسكون ، فهو كالبحر إذا لم تهجه الريح ساكن لكن أحشاءه منطوية على الدر المكنون. وله ديوان شعر تتهاداه أكف الرواه ، وتزدحم على رشف سلافه الآذان والشفاه ، ومع هذا لقد احتار في اختيار طريق يوصله إلى المعاش ، فما زال بين قص أجنحة وارتياش ، فتارة سافر إلى الروم ومدح الأستاذ القاسمي ، فأوصله إلى المولى كمال الدنيا والدين المعروف بابن طاش كبري وهو قاضي العسكر ، ولقيه بقصيدة نفث فيها بعقد سحره ونثر عقد درره الفريدة فضمن له نجح المقاصد ، إلا أنه حال بينه وبينها دهره أبو اليقظان وبخته الراقد ، فزحزح مخدومه عن قضاء العسكر سريعا ، فخجل صاحب الترجمة أن يلاقيه بعد ذلك وكر راجعا إلى حلب مرتبع شبابه وملعب أترابه ، وقنع من ظفره بإيابه ، فوجه العزم تلقاء حضرة بني سيفا بطرابلس وعلى بابهم إذ ذاك كل شاعر وكاتب ، فحكوا بذلك أيام الرشيد أو أيام ابن عباد الصاحب ، واختص منهم بالأمير محمد أمير عسكر الشعر بالاتفاق ، وسوقه عنده نافقة قائمة على ساق ، فارتفق بمديحه وارتزق ، حتى قضى الأمير نحبه ولقي ربه غريبا شهيدا بمدينة قونية في طريق الروم ، وأنشد المذكور فيه :

عجبت لسيف كيف يغمد في الثرى

وكيف يوارى البحر في طيّة الكفن


ثم اختص بعده من بين رؤساء حلب يسميّه محمد الشهير بابن العلبي وقد تولى إمارة لواء عزاز ، فتلقاه بإكرام وإعزاز ، وفوض إليه أمر الكتابة ، فتوسد حضرته وافترش أعتابه ، وهي حضرة تردها الناس عفاة ، وتصدر عنها كفاة ، إذ صاحبها من أسرة أيديهم للكرم والسماحة ، ووجوههم للوضاءة والصباحة ، وهم بيت مال للمسلمين ، إلا أنهم جمعوه بكد اليمين وعرق الجبين ، إذ كانوا أهل سفر وتجارة ، يضربون بآباط الإبل إلى أكباد البلاد ، مع أنه مطامح الأعين النظارة. وبالجملة كانت الشهباء تتجمل بهم وتضرب برياستهم الأمثال ، إلا أنه الآن قد أقفر قصرهم وعاد أثاثهم مقصورا على الآثار دون الرجال.

ولنرجع إلى تتمة خبر صاحب الترجمة : فلما عزل مخدومه المزبور عن لواء عزاز قصد صاحب الترجمة الأمير حسين بن الأعوج صاحب حماه ، وفيها دعاه داعي حماة فلباه غريبا في سنة اثنتين وثلاثين وألف. ومن غريب الاتفاقيات ما أخبرنا صاحبنا الأديب الشيخ عبد القادر الشهير بابن الطبّال الحموي رحمه‌الله تعالى : لما انتقل صاحب الترجمة إلى جوار ربه فكرت في نظم تاريخ لوفاته لما كان بيننا من المودة المنسوجة التي هي وراء لحمة الأدب الآكد من لحمة النسب ، فنمت في تلك الليلة ، فرأيته في منامي وهو يقول لي : أنا تاريخ وفاتي كتبته بالأقلام ، فاستيقظت فحسبته فإذا هو كما قال طبق النعل بالنعل. انتهى. ولا أدري هل أدخل هذا الكلام في كفة الميزان أم أبقاه على حاله ، وبالجملة فقد رأى وسنان ما لم يختلج بباله وهو يقظان.

ومما وقع اختياري من عيون ديوانه وآثار بنانه قوله بمدح المولى كمال الدين داش كبري بقوله :

سقاك الحيا ريّا وحيّاك أربعا

نعمنا بنعمان بهن ولعلعا

وجادك جود الدمع يا سفح رامة

بسفح إذا ضن السحاب وأقلعا

فكم مر لي عيش بظلك حاليا

سرى غير مذموم حميدا وأسرعا

بخمصانة غيداء سحر جفونها

يدير علينا البابليّ المشعشعا

بدت ومضاهي البدر تحت قناعها

فلو لا التقى صدقت فيها المقنّعا

وقوله المقنع أراد ابن المقنّع الخراساني الساحر المشهور الذي يظهر قمرا بقوة سحره أيام سرار القمر فيضيء في الأفق مسيرة شهر. وما أحسن ما قال بعضهم :


لعمرك ما بدر المقنّع طالعا

بأسحر * من ألحاظ بدري المعمم

ودهر طلبنا القرب فيه من النوى

ففرق من آمالنا ما تجمعا

أرتنا الليالي حاليات صنيعها

فلما اختبرناهن كنّ تصنّعا

لقد وهبتنا فاستردت هباتها

ولم تهب الأيام إلا لتمنعا

ومن صحب الدنيا ولو عمر ساعة

تحول فيها حاله وتنوّعا

وليل غدا فيّ كأن بفوده

من الزهر تاجا باليواقيت رصّعا

ومنها في المديح :

كريم كأن الجود باسط كفه

فلم يثن من راحاته الدهر إصبعا

وحيد العلا لو رام شفعا لوتره

من الدهر يوما لم يكن ليشفّعا

ثم ساق بعد ذلك الكثير من شعره ، وفي نقل الجميع طول.

وترجمه الشهاب الخفاجي في الريحانة فقال : أديب له أوصاف حسنى ، ومناقب هي الوشي بهجة وحسنا ، إذا أصغت له أذن أديب ، حلت منه بواد خصيب.

سحر من اللفظ لو دارت سلافته

على الزمان تمشّى مشية الثمل

رأيته بالروم وهو شاب ، يجر رداءي شباب وآداب ، وهلاله مشرق في أفق نمائه ، وغرة صبحه تؤذن بوجه ذكاء ذكائه ، وقد سلك للمجد طريقة غير مطروقة ، بهمة غير همة وخليقة غير خليقة ، وللدهر فيه عدات يرجى إنجازها ، وحلل منشورة سيلوح طرازها ، فلم ينبسط بردها حتى انطوى ، ولم يورق قضيبه الرطيب حتى ذوى ، والدهر يقول : والنجم في مطلع العمر هوى. وله ديوان بليغ طالعته فاخترت منه قوله من قصيدة :

أعطى سرائرك النحول اللوّما

والحب ليس بممكن أن يكتما

ووشى ونمّ عليك دمعك عندما

وشى بعندمه الخدود ونمنما

أفرمت تبهم واضحا من سره

والدمع متضح به ما أبهما

أم خلت أن أساك تمحوه الأسى

كلا ورب جراحة لن تحسما

إن المحبة محنة لا منحة

ومن الغرام يرى المحب المغرما

__________________

(*) في الأصل : بأسحار.


وشكيتي شاكي السلاح جفونه

مر العذاب لشقوتي عذب اللمى

ظبي ظبا لحظاته بمضائها

أنا موقن لا شك تردي الضيغما

أخشى الهلاك توهما من بأسه

ولربما هلك المحب توهما

وأظل صادي القلب خيفة صده

ولو انه بنعيم وصل أنعما

وإذا منعت الماء أول مرة

ووردته أخرى تذكرت الظما

بأبي وإن كان الأبيّ وبي رشا

قدّ الغصون رشاقة وتقدما

كالصبح فرقا والغزالة طلعة

والبدر وجها والثريا مبسما

يزداد ورد خدوده وجوانحي

من نارهن تضرجا وتضرما

صافي الأديم ترى ترافة جسمه

ماء ويأبى الماء أن يتجسما

كيف الهداية لي وفاحم فرعه

قد ظل يجهد أن يضل ويفحما

كالأفعوان على قضيب كثيبه

لا يرتجى لسليمه أن يسلما

أنا من أباح يد الغرام زمامه

فمشى به أنى يشاء ويمما

فعسى الحبائب أن تخفف عبأها

فلقد حملت من النوائب أعظما

في كل يوم روعة أو لوعة

والقد تقعده الحوادث توأما

شيئان لست بآمن عقباهما

أن تصحب الدنيا وتدني الأرقما

فلأبلغن نهاية في قدحها

إن لم تبلّغني الأبرّ الأكرما

ومنها :

ولو ان إدراك المنى بيد النهى

وطئت نعامة أخمصيّ الأنجما

ومتى يصحّ سقيم جد أخي الحجى

يوما إذا كان الزمان المسقما

فالحمق أليق والخداع موافق

والمكر أرفق ما ترافق منهما

أبناء دهرك بالنفاق نفاقهم

أفيرتضونك بالهدى متكلما

ما لم تنافق فاتخذ نفقا به

ترجو السلامة منهم أو سلّما

لا يفقهون وشر من صاحبته

أن تصحب الأعمى الأصم الأبكما

ولقد ملئت تحاربا وتجاربا

لم تلقني إلا إناء مفعما

ثم ساق قسما كبيرا من شعره ، وفي ذكره جميعه طول.

وترجمه السيد علي صدر الدين في كتابه الموسوم «بسلافة العصر في محاسن الشعراء


بكل مصر» فقال : هو أحد صاغة القريض ، البديع التصريح فيه والتعريض ، العالم بشعار الأشعار ، والمفتض لأبكار الأفكار ، فتح بقرائحه باب البيان المقفل ، ووسم من غفلة ما سها عنه غيره وأغفل ، راقت بدائع آدابه ورقت ، وملكت روائعه حر الكلام واسترقت ، فهو إذا نظم أهدى السحر للأحداق والرقة للخصور ، وشاد من أبيات أدبه ما تعنو له مشيدات القصور ، فتملك المسامع إبداعا وإعجابا ، وكشف عن وجوه المحاسن نقابا وحجابا ، فمن بديعه المستجاد ، ومطبوعه الذي أبدع فيه وأجاد ، قوله في صدر قصيدة مدح بها ابن سيفا :

ألمّا نحيّيها ربى وربوعا *

وحثّا نسقّيها دما ودموعا

وعوجا على عافي الطلول وعرّجا

معي واندباني والطلول جميعا

ولا ترجيا القود الرواسم واعقلا

على الرسم منها ظالعا وضليعا

خليلي خلي من أصاخ بسمعه

وبثّا لخل لا يكون سميعا

فلا تعصياني في التصابي على الصبا

وأرفق ما كان الرفيق مطيعا

قفا نوضح الأشجان منا بتوضح

وتنتجع الدمع الملثّ نجيعا

ونبكي الليالي الغاديات نعيدها

لو أن الليالي تستطيع رجوعا

معاهد أنس بان عهد أنيسها

بعيشي ريعان الشباب وريعا

وجنة مأوى غاض ماء نعيمها

وجرعت غسلينا بها وضريعا

لقد غال ما بيني وبين ظبائها

على الجذع بين ظلت منه جزوعا

وغيّب عن عينيّ أوجه عينها

وكنّ شموسا لا تغبن طلوعا

عقائل يعقلن الفؤاد عن السوى

ويصرعن ذا العقل الصحيح سريعا

تقد القنا منهن والصبح والدجى

قدودا أقلّت أوجها وفروعا

أحاشيك بي منهن ذات تمنع

وأقتل ما كان المحب منوعا

لها لحظات ما أسنة قومها

بأسرع منها في الكميّ وقوعا

تمنّى يزور الطيف طرفي وإنه

لزور وإن كان المحب قنوعا

وأبخل خلق الله من كان باعثا

خيالا لعين لا تذوق هجوعا

يكلفني فيها الهوى ما يكلف

اللهاء ابن سيفا منذ كان رضيعا

ا ه

__________________

(*) في الأصل وفي سلافة العصر : لما نحييها رثى وربوعا ، وهو تصحيف.


أقول : إني لما وقفت على ما قاله المحبي وصاحب الريحانة في حقه وتأملت ما أورداه له من الشعر العذب الذي يأخذ بمجامع القلب ، ورأيته قد اشتمل على ما فيه من حسن السبك وسلاسة النظم على روائع الحكم وبدائع الأمثال ، وسلك فيه مسلك الأوائل بحيث تخاله شعر أبي تمام أو البحتري أو أبي الطيب أو أبي العلاء ، عزمت على جمع متفرق شعره والبحث عن ديوانه ، وذلك من مدة تزيد عن عشر سنوات ، فأداني البحث إلى الحصول على مجموعة للفاضل الأديب الشيخ محمد العرضي ، فإذا فيها ترجمته المتقدمة وشيء من شعره ، فزادني ذلك حبا فيه وشغفا في شعره ، ووجدت في أول هذا المجموع ثلاثين ورقة من شعره. ثم رأيت ابن معصوم ذكره في سلافته وأورد شيئا من شعره فنقلت ما فيه. ثم إن صديقي الشيخ عبد القادر الهلالي شيخ الزاوية الهلالية في محلة الجلّوم عثر في مكتبته على أربع عشرة ورقة من ديوانه لكنها بالية ممزقة ، فأعطانيها ووعد بالعثور على غيرها فيها أول الديوان. وكنت عثرت على ديوانه في بعض البيوت ، فاجتهدت إلى أن ابتعته ممن هو عنده بأضعاف ثمنه ، وهو محرر بخط عبد القادر بن أحمد الدهان الحلبي سنة ١٣١٥ ، وقال في أوله إنه نسخة عن نسخة عتيقة أوراقها بالية وبعض سطورها ممحوة ، ولم أعرف هذا الناسخ إلى الآن ، وعند مقابلته على ما تجمع لدي من شعره تبين أن بعض نظمه لا وجود له في هذا الديوان.

ثم رأيت في آداب اللغة العربية لجرجي زيدان في الجزء الثالث منه (ص ٢٧٦) ذكر المترجم ، وقال : إن ديوانه في مكتبة برلين وهو مرتب على المواضيع ، فأرسلت لاستنساخه أو أخذه بالمصور الشمسي (الفوتوغراف) ، وقد عزمت بعد حضوره أن أضيف إليه ما ليس فيه وأسعى بطبعه إن شاء الله تعالى ، فإن مثل هذا الشعر العالي لا ينبغي أن يبقى على طرف الهجران وأن يهمل في زوايا النسيان.

٩٥٥ ـ الشيخ أحمد بن محمد السعدي المتوفى سنة ١٠٣٤

الشيخ أحمد بن محمد السعدي الحلبي ، الشهير بابن خليفة الزكي ، أخو الشيخ وفا خليفة بني سعد الدين الجباويين بحلب.

آلت إليه الخلافة بعد موت أخيه المذكور ، فلازم حلقة الذكر بعد صلاة الجمعة في الجامع الكبير بحلب وصبر على مرارة الفاقة وتحمل أحوال المريدين ، ولازم زاويته لا يخرج


إلا للذكر غالبا ويبذل قراه للواردين.

وكان كلما كبر عمره ازداد خيرا وصلاحا ودينا وفلاحا ، ولما كان الشيخ عبد الرحيم يذكر بالقرب منه كان إذا قام الفقراء للذكر أخذ الفقراء وأبعد عن فقراء الشيخ عبد الرحيم الثاني للسعدين هربا من الجدال والعداوة ، وبخلاف أخيه فإنه كان يقرب من الشيخ عبد الرحيم.

حكى بعض الثقات العدول من كراماته أنه أمر نقيبه أن يأخذ على الحمار حمل حنطة ليطحنها ، فطلب النقيب منه عثمانيين لأجل اليسقيّة. قال : والله ما معي صبرهم ، فتوجه النقيب وفم العدل مربوط والحنطة نازلة عند فم العدل وعند عقبه حتى يحصل التعادل ، فلما وصل إلى اليسقّي امتنع من ترك العثمانيين وقطع الحبل المربوط به فم العدل بالخنجر والحنطة متراكمة عند فم العدل ، فلم يسقط منها حبة ، فضج اليسقّي بالبكاء وذهب إلى الشيخ تائبا خاضعا معتقدا.

ووالده شيخ عالم شرح البخاري على أساليب مجالس الوعظ ذكر فيه مسائل حسنة وفوائد نفيسة (قدمنا ذكر ذلك في ترجمة أخيه أبي الوفا المتوفى سنة ١٠١٠). وله تأليف جمع فيه مناقب شيخه سعد الدين ومناقب أولاده من بعده.

وكانت وفاته سنة أربع وثلاثين وألف ، ودفن بزاوية جده رحمه‌الله تعالى.

٩٥٦ ـ المولى إبراهيم بن أحمد الكواكبي المتوفى سنة ١٠٣٩

المولى إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد الكواكبي الحلبي قاضي مكة ، من أجلاء العلماء.

قرأ في مبادي عمره على الشيخ الإمام عمر العرضي وعلى والده في مقدمات العلوم حتى حصل ملكة ، ثم توجه إلى دار الخلافة وسلك طريق الموالي وقرأ على بعض أفاضل الروم حتى صارت له الملكة التامة.

ثم من الله عليه فتزوج بابنة المولى عبد الباقي بن طورسون واستصحبه معه لما ولي قضاء مصر إليها فحصل له مالا جزيلا ، ثم رجع في خدمته إلى قسطنطينية ، فمات ابن طورسون ، ثم ماتت الزوجة وتصرم المال وقصر في النهوض ، فأخذ بعد اللتيا والتي مدرسة أياصوفية.


ثم لم يزل يطلب عزل نفسه عن المدرسة فلا يوافقونه حتى تركها شاغرة من غير أخذ معلوم ولا إلقاء درس أصلا.

وكان أيام الانفصال الكبير ورد حلب ووالداه حيان ، فنزل عند والده ، فشكت أمه إليه من أبيه ما يصنع بها ، فتشاجر هو وأبوه وتقاضيا ورحل عن دار والده وصار كل يسب الآخر ، فاسترضى العرضي المذكور وجماعة من العلماء الابن ، ثم أخذوه إلى والده فقبل يده وتباريا من الطرفين.

وآخر الأمر أعطي قضاء مكة ، فسافر من مصر بحرا ثم أراد أن ينقل ابنه من سفينة صغيرة إلى مركب مخافة عليه وحمله إلى المركب ، فسقط إلى البحر وغرق ، وتناول بعض الخدمة الولد فنجا ، وذلك حين توجهه عند جدة في سنة تسع وثلاثين وألف وكان عمره نحو سبعين سنة.

وبنو الكواكبي بحلب طائفة كبيرة سيأتي منهم في كتابنا هذا جماعة ، وكلهم علماء وصوفية. وأول من اشتهر منهم محمد بن إبراهيم المتوفى سنة سبع وتسعين وثمانمائة ، ذكره ابن الحنبلي في تاريخه قال : ودفن بجوار الجامع المعروف الآن بجامع الكواكبي بمحلة الجلّوم بمدينة حلب ، وعمرت عليه قبة من مال كافل حلب سيباي الجركسي ، وكانت طريقته أردبيلية. وإنما قيل له الكواكبي لأنه كان في مبدأ أمره حدادا يعمل المسامير الكواكبية ، ثم فتح الله عليه وحصلت له الشهرة الزائدة. ا ه.

٩٥٧ ـ الشيخ أبو الجود البتروني المتوفى سنة ١٠٣٩

الشيخ أبو الجود بن عبد الرحمن بن محمد ، سيأتي تمام نسبه في ترجمة ابن أخيه إبراهيم ابن أبي اليمن ، البتروني الحلبي الحنفي ، مفتي حلب وعالم ذلك القطر ومحط أهل دائرته.

وكان علامة محققا ، بارعا في المذهب والتفسير ، فارسا في البحث ، نظارا. هاجر به أبوه وبأخويه أبي اليمن ومحمد إلى حلب بإشارة الشيخ علوان الحموي ، وصار أبوهم واعظا وخطيبا بجامع حلب. وكان هو وولده أبو الجود يتعممان بالعمامة الصوفية. واشتغل أبو الجود على علماء عصره ، وولي بعد أبيه الوعظ والخطابة بالجامع ، وكان يقرأ الدروس في الرواق الشرقي. ثم ولي الإفتاء وتقاعد عن قضاء القدس ثم عن قضاء المدينة ،


ونال من الرتبة ما لم ينله أحد ممن تقدمه.

وكان له سخاء ومروءة وحمية. ومدحه شعراء عصره وخلدوا مدائحه في دواوينهم ، فمنهم حسين الجزري وفتح الله ابن النحاس وحسين بن جاندار البقاعي ، وفيه يقول بعض شعراء حلب :

أبى الجود في الدنيا سواك لأنه

تفرّع من جود وأنت أبو الجود

وأضدادك الوادي لهم سال واستوت

سفينة بحر العلم منك على الجودي

وذكره البديعي في «ذكرى حبيب» وأثنى عليه كثيرا ، وقال في ترجمته :

دخل مرّة على بعض الوزراء العظام ، ومجلسه غاص بالخاص والعام ، بعد غضب يمنع لذة الجهود ، ومن ذا يقر على زئير الأسود ، فخاطبه بجرس جهوري ، ولفظ جوهري ، يزيل الإحن من القلوب ، وتغفر بمثله الذنوب ، بما نصه : نام أعرابي ليلة عن جملة ففقده ، فلما طلع القمر وجده ، فرفع إلى الله يده وقال : أشهد أنك أعليته وجعلت السماء بيته ، ثم نظر إلى القمر وقال : إن الله صوّرك ونوّرك وعلى البروج دوّرك ، فإذا شاء قدّرك وإذا شاء كوّرك ، فلا أعلم مزيدا أسأله لك إلا الدوام ، ولئن أهديت إلى قلبي سروره لقد أهدى الله إليك نوره ، فأنا ذلك الأعرابي ، والوزير ذلك القمر المضي ، لقد أعلى الله قدره وأنفذ أمره ، ونظر إليه وإلى الذين يحسدونه فجعله فوقهم وجعلهم دونه ، فلا أعلم مزيدا أدعو به إلا الدوام ، فالله يديم له ظلال النعمة ومجال القدرة ومساق الدولة.

ووقفت على تقريظ كتبه على مؤلف العلامة الطرابلسي الدمشقي الذي شرح به فرائض «ملتقى الأبحر» وهو : أمعنت النظر في هذا التحرير ، وأجلت الفكر فيما حواه من التصوير والتقرير ، فرأيته البحر المحيط إلا أنه ثجّاج ، والوبل الغزير خلا أنه موّاج ، وجزمت بأنه السحر الحلال ، والكمال الذي لا يحكيه في فنه كمال ، لا زالت شموس فوائد مؤلفه مشرقة ، ولا برحت أغصان فوائده مورقة ، ما زينت أقلام العلماء بوشي سطورها وجنات الطروس ، فأشرقت لذلك صدور الصدور إشراق الشموس.

وكانت وفاته غرة صفر سنة تسع وثلاثين وألف وقد ناهز التسعين ، وهو في نشاط أبناء العشرين. وقيل في تاريخ موته :

إن أبا الجود الذي فاق الورى

وروّج العلم وساد سؤددا


أدركه الموت الذي تاريخه

العلم مات بعده وأرقدا

ورثاه السيد محمد بن عمر العرضي بقصيدة عجيبة ذكرتها برمتها ميلا مني لشعر هذا السيد ، وكذا أفعل في كل آثاره ، وهي :

بفقدك قامت نواعى الحكم

وقد فلّ بعدك حدّ القلم

أقامت مآتمها المشكلات

عليك وسوّد وجه الرقم

فتبا ليومك من طارق

نسخت به لذتي بالألم

ورثت به حالكات الهموم

كما ورث ابنك عزّ النعم

ورعيا لدهر أثرنا به

نقيع المباحث في المزدحم

نجاذب أطرافها ساعيين

إلى حلبة السبق سعي القدم

صراخ الزمان صراخ النكا

ل عليك وحق له بالعدم

وقد كنت سدة ثلماته

وآخر نعمائه للأمم

وعذرا لأبنائه إنهم

ذنوب لهم بل صروف النقم

فقدتك فقدان روق الشباب

وشعب الأماني به ملتئم

ليبكك رأد الضحى والأصيل

ورأد الصباح ورأد الظلم

لبست عليك ثياب الحدا

د وشيبت غضارة دمعي بدم

لقد ثكلت كل من لم تلد

نظيرك في خيمه والشيم

حنانيك عن مهجة رعتها

ولبيك عن كبد تضطرم

أبا الجود قرة عين العلا

وغرة جبهتها في القدم

لقد خاب بعدك من ينتضي

سيوف معاليك في الملتطم

أيصفر في الجوّ بعد العتاة

وشهب البزاة بغاث الرخم

دفنت بدفنك في خاطري

مباحث علم غدت كالرمم

قضيت ولم تقض منك المنى

لباناتها والقضا محتتم

فإن كان قبرك دون الثرى

فقدرك فوق عوالي الهمم

يعز عليّ بأن ينطوي

بساط الدروس ونشر الحكم

فقد شدت مجلس أهل العلوم

ولكن بأيدي المنون انهدم

سقى جدثا أنت ثاو به

رخيّ السيول مفاض الديم


٩٥٨ ـ عبد القادر بن محمد قضيب البان المتوفى في حدود سنة ١٠٤٠

عبد القادر بن محمد أبي الفيض ، السيد الأفضل أبو محمد المعروف بابن قضيب البان.

يتصل نسبه بأبي عبد الله الحسين قضيب البان الموصلي من أولاد موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

والحسين قضيب البان المذكور صاحب الكرامات المشهورة ، ذكره كثير من النسابة والمؤرخين ، وهو الذي كان صحب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس‌سره ، وزوج الشيخ عبد القادر ابنته المسماة بخديجة السمينة لأبي المحاسن علي ولد الشيخ قضيب البان المذكور ، وكانت قبل تحت ولد الشيخ عبد الرحمن الطنشونجي ، فمات عنها جده وتزوجها بعده أبو المحاسن المذكور واستولدها ، ذكر ذلك عبد الله بن سعد اليافعي وشيخ الشرف في كتابيهما ، فيكون نسب السيد عبد القادر صاحب الترجمة متصلا بحضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني من ابنته خديجة السمينة وبحضرة الشيخ قضيب البان من ولده أبي المحاسن علي المذكور.

وهذا السيد هو أكبر أهل وقته وفريد أقرانه ، ولد بحماة ، وهاجر به أبوه إلى حلب وتوطن بها إلى سنة ألف ، وفيها حج إلى بيت الله الحرام وجاور بمكة إلى حدود سنة اثنتي عشرة بعد الألف. ومنها توجه إلى القاهرة بإشارة القطب ، وكان شيخ الإسلام يحيى ابن زكريا قاضيا بها ، فزاره ، وكان معتقدا على المشايخ والأولياء ، فبشره بمشيخة الإسلام وبايعه على الطرق الثلاثة النقشبندية والقادرية والخلوتية ، ثم أقره على طريق النقشبندية وأمره بالاشتغال بالذكر القلبي ، وله معه كرامات ومكاشفات. ولما ولي الإفتاء وجه إليه نقابة حلب وديار بكر وما والاهما مع قضاء حماة بطريق التأبيد برتبة مكة المكرمة ، فلم يقبل القضاء والرتبة واعتذر عن عدم قبوله ، وقبل النقابة لكونها خدمة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واستمر نقيبا بحلب إلى أن مات.

وكان له كرامات شهيرة وأحوال باهرة ، وألف التآليف الحسنة الوضع الدالة على رسوخ قدمه في التصوف والمعارف الإلهية ، من جملتها «الفتوحات المدنية» (١) ألفها على

__________________

(١) كان منه نسخة نفيسة في مكتبة المدرسة القرناصية بحلب سرقت وبيعت ولله الأمر.


وتيرة «الفتوحات المكية والمدنية» للشيخ الأكبر ابن عربي ، ويقول شيخ الإسلام ابن زكريا المذكور مقرظا عليها بقوله :

فتوحات شيخي غادة مدنية

كستها نفيسات العلوم ملابسا

فلا عجب لو تشتهيها نفوسنا

وأبحاثها أبدت إلينا نفائسا

فلله در الشيخ أكبر عصره

بأنفاسه لا زال يحيي المجالسا

وله كتاب «نهج السعادة» في التصوف ، و «ناقوس الطباع في أسرار السماع» ، و «شرح أسماء الله الحسنى» ، و «رسالة في أسرار الحروف» ، وكتاب «مقاصد القصائد» ، و «نفحة البان» ، و «حديقة اللآل في وصف الآل» ، وكتاب «المواقف الإلهية» ، و «عقيدة أرباب الخواص» ، وغير ذلك ما ينوف على أربعين تأليفا. وله ديوان شعر كله في لسان القوم (١) ، وله تائية عارض بها تائية ابن الفارض ، وقد شرحها العلامة إبراهيم بن المنلا المقدم ذكره شرحا لطيفا. ومن لطائف شعره :

أرى للقلب نحوكم انجذابا

لأسمع من جنابكم خطابا

فكم ليل بقربكم تقضىّ

إلى سحر سجودا واقترابا

وكم من نشوة وردت نهارا

فلا خطأ وعيت ولا صوابا

وكم سحّت علينا من نداكم

غيوث لا تفارقنا انسكابا

وكم نفحات أنس أسكرتنا

بها حضر الصفا والقبض غابا

توافقت القلوب على التداني

فلم نشهد به منكم حجابا

لقد حاز الوليّ بكل حال

من الرحمن فيضا مستطابا

تراه بين أهل الأرض أضحى

لداعي الحب أسرعهم جوابا

وغير الله ليس له مراد

وغير حماه لا يرجو انتسابا

ومن رقيقه قوله :

سقاني الحب من خمر العيان

فتهت بسكرتي بين الدنان

وقلت لرفقتي رفقا بقلبي

وخاطبت الحبيب بلا لسان

شربت لحبه خمرا سقاني

كصحبي فانتشى منها جناني

__________________

(١) وجدت ديوانه في مكتبة الشيخ إبراهيم المرعشي من وجوه حلب رحمه‌الله. وذكره في الكشف وسماه «شعائر المشاعر» ، وذكر له من التآليف «الكواكب المضية في الأحاديث النبوية».


شطحت بشربها بين الندامى

ورشدي ضاع مما قد دهاني

فأكرمني وتوّجني بتاج

يقوم بسره قطب الزمان

وأمّرني على الأقطاب حتى

سرى أمري بهم في كل شان

وأطلعني على سر خفيّ

وقال الستر من سر المعاني

فهام أولو النهى من بعد سكري

وغابوا في الشهود عن المكان

مريدي لا تخف واشطح بسرّي

فقد أذن الحبيب بما حباني

وقوله :

نظرت إليك بعين الطلب

ومنك إذن طلبي والسبب

رأيتك في كل شيء بدا

وليس سواك لعيني حجب

فأنت هو الظاهر المرتجى

وأنت هو الباطن المرتقب

وأنت الوجود لأهل الشهود

وأنت الذي كل شيء وهب

وعيني بعينك قد أبصرت

لعينك في كل تلك النسب

ومن مقاطيعه قوله :

ولقد شكوتك في الضمير إلى الهوى

وعتبت من حنق عليك تجننا

منّيت نفسي في هواك فلم أجد

إلا المنية عندما هجم المنا

وقوله :

إذا امتد كف للأنام بحاجة

فقوتها من عادة الهمة السفلى

ومن يك يستغني عن الخلق جملة

فيغنيه رب الخلق من فضله الأعلى

وقوله :

إذا أسأت فأحسن

واستغفر الله تنج

وتب على الفور وارجع

ورحمة الله فارج

وله غير ذلك من لطائف القول.

وكانت ولادته في سنة إحدى وسبعين وتسعمائة ، وتوفي في حدود سنة أربعين وألف بحلب. ا ه.


٩٥٩ ـ الشيخ أحمد القاري سنة ١٠٤١

الشيخ أحمد بن عمر المعروف بالقاري ، نسبة لقارة : بين حسة والنبك المشهورة بالبرد الشديد ، نزيل حلب ، الشيخ الصالح المتجرد المتقلب في أفانين الشطح.

ذكره الشيخ أبو الوفاء العرضي في معادنه وقال بعد أن أثنى عليه : نشأ فقيرا وسلك طريق المشيخة والدروشة ، فطاف البلاد وزار مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني. قال : وأخبرني أنه وجد الشيخ حبيب الله البصري * في بغداد وطلب منه عهد القوم على طريقة القادرية ، فأطرق مليّا ثم قال : أجد عليك سيما غيري وأظنه سيما المجذوب أبي بكر الحلبي. قال : ثم جئت إلى الشيخ أبي بكر فقال لي في الوقت والساعة جذبناك بالحبال والرجال ، فإن الشيخ يؤنث المذكر. ولازم خدمة الشيخ زمنا وما كان عنده أعظم من صاحب الترجمة ، فتولى الخلافة بعده جماعات متعددة ، وأيدي الأقدار تبددهم ، وقد كان الزوار لمرقده الشريف لا يحصى عددهم ، والصدقات تتوارد عليهم وهم لا يعملون ولا يستطيعون أن يشتروا ماعونا يطبخون فيه لغلبة الجذب عليهم ، وكلهم محلقون اللحى ، يلبسون المرقعات ويفترشون جلود الغنم ويأكلون الحشيش والكلس ، وبعض المجاذيب منهم يشرب الخمر والعرق ، ولا يصومون ولا يصلون ، وتتوارد عليهم مجاذيب البلاد على هيئات مختلفة ، وصاحب الترجمة معهم لا يقدر أن يخالفهم في صورة الظاهر في شيء ، حتى ضجروا يوما من الأيام فلاموا أنفسهم على أحوالهم وقالوا : مرادنا شيخ يصلح نظامنا ، فنصّبوا المذكور ، فاشترى لهم بسطا وصحونا وبعض حوائج التكية.

ثم زارهم كافل حلب أحمد باشا ابن مطاف ، فلامهم على ترك الصلاة وهذه الأحوال ، ثم أجرى لهم إسماعيل نائب القلعة الماء من قناة حلب ، ولازموا الصلوات الخمس بالأوراد والعبادات ، حتى أشرقت قلوبهم وأضاءت وجوههم وكثرت الصدقات الدارة عليهم ، فعمر لهم حسن باشا ابن علي باشا ميدان الفقراء بالقبة الكبيرة تحتها العواميد العظيمة ، وعمر حمزة الكردي الدمشقي القاعة ذات البركة من الماء ولم يتمها بل وصلت إلى

__________________

(*) في خلاصة الأثر (في ترجمة المذكور) : المصري ، وهو تصحيف. كان قد تضايق من شتم الصحابة ، فحج ثم قطن مصر بالجامع الأزهري ، ثم لزم الطريقة القادرية ، ومر بحلب ثم ارتحل إلى البصرة ومات فيها سنة ١٠١٤.


السراويل ، فأتمها أحمد باشا أكمكجي زاده الوزير ، والوزير الأعظم محمد باشا * كبّر القبة التي على مرقد الشيخ (١) ، وعلي آغا ضابط العسكر عمّر عمارات.

والحاصل فقد أنشأ فيها صاحب الترجمة بتدبيره وحسن رأيه أشياء عظيمة من حدائق لطيفة ومطابخ للطعام ، وصار هذا المزار لا يوجد له نظير بالنظر إلى مزارات الأولياء.

وكان صاحب الترجمة ذا سكون ومصاحبة لطيفة وسخاء مفرط ، لوجيء له بالألوف لفرح بإنفاقها يوما واحدا ، وعماراته كلها صدرت منه بصدر واسع وكرم زائد وتجمل تام للفعلة والمعلمين. وقد لامه شيخ الإسلام المولى أسعد لما مر على حلب على كونه يحلق لحيته مع كون ذلك بدعة ، قال : هكذا وجدنا أستاذنا ، قال : أستاذكم كان مجذوبا وأنتم عقلاء ، فقال : إن شاء الله نطلق سبيل اللحية. ولما سافر المولى أسعد استمر على حلق اللحية حتى قدم على الله.

وكان له معرفة بكلام القوم ومذاكرة في بعض لطائف من الواضحات. ومن محاسنه أنه سمع من أغلب الناس أن الوزير نصوح باشا يريد قتله وهدم أبنيته ، فلم يبال بذلك حتى خرج الوزير المذكور يوما ومعه الفعلة بالفؤوس والمجارف وأهل حلب يظنون أنه يهدم ذلك الموضع ، فاجتمع الناس عند مرقد الشيخ أبي بكر لأجل الفرجة ، والفقراء الذين عنده هربوا وهو قاعد ثابت ، وفي خلال ذلك ظهر أنه يهدم الأبنية التي على سور المدينة. ثم جاءه الباشا زائرا فقال له صاحب الترجمة : قالوا لي عنك إنك غضبان علينا فقلت للناس : الباشا يقدر علينا في ثلاثة أمور : إما القتل فإنا لنا مدة نتمنى الشهادة ودرجتها ، وإما النفي من حلب فلنا مدة نطلب السياحة ، وإما الحبس فلنا مدة نطلب الرياضة ، أتقدر على أكثر من ذلك؟ قال : لا ، ثم قال له طب نفسا وقر عينا ، مالنا بركة إلا أنت ، اليوم أخرجت الفعلة لهدم الدور التي على سور المدينة وليس لي نية على ضرركم أصلا.

__________________

(*) محمد باشا : كان وزير السلطان سليمان ثم سليم ثم مراد.

(١) نقل هذه الترجمة بعينها الشيخ يوسف بن حسين الحسيني في كتابه «موارد أهل الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر ابن وفا» وهنا كتب على الهامش ما نصه : الوزير الأعظم محمد باشا هو المشهور بأكوز محمد باشا المدفون قبالة مدفن الشيخ من جهة الغرب ، ومدفنه مطل على الحديقة الغربية وله خيرات في هذه التكية «تكية الشيخ أبي بكر». وقد توفي في حياة الشيخ أحمد القاري معزولا عن الوزارة العظمى ، وعمر مزارا لنفسه في حياته بإذن القاري وكبر قبة الشيخ وجددها كما هي الآن. انتهى من المؤلف.


واستمر نحو خمسين سنة في الخلافة لا ينازعه منازع في راحة وافرة وصدقات متواترة تأتيه من الناس ، والكبير والصغير يقبلون يده ، وهو ملازم على الأوراد ويبذل القرى للواردين ، وكل من يرد عليه سقاه القهوة ، ومن يستحق الضيافة أضافه بصدر واسع وخلق كريم. ولكن كانوا في كل يوم وقت الضحوة الصغيرة يديرون الكأس * يأكلونه ويشربون القهوة عليه.

وكان يقول : الدهر مل من طول عمر ثلاثة : أحدهم أنا ، والثاني أبو الجود مفتي حلب ، والثالث شاه عباس. قال بعضهم : والرابع يوسف باشا ابن سيفا. وهذا الكلام محمول على طول عمر هذه الثلاثة وكثرة وقائعهم وأحوالهم بحيث مل الناس من ذكر أمورهم حتى سار الإملال إلى الدهر ، لكن كان أبو الجود فيه نفع لعباد الله تعالى.

ثم اشترى كتبا فيها المقبول الذي له ثمن فوقفها على المكان ، واشترى أراضي ووقفها على الأماكن ، واشترى بستانا ووقفه أيضا على الدراويش وكتب بذلك وقفية وجعل لها متوليا.

ولما مرض أوصى بالخلافة من بعده للدرويش أحمد الكلشني وأعطاه ختمه وأحضر الكشاف عنده وكتب له بذلك حجة. ولما مات أظهر الشيخ مصطفى القصيري ورقة بخط الشيخ أحمد أنه اتخذ الدرويش مصطفى الخليفة من بعده ، واشتد الخصام وبقي هذا يتولى الخلافة مدة ثم يذهب الآخر ويأتي بأمر سلطاني ليكون الخليفة ويعزل الآخر ، وهلم جرا ، واختل أمر ذلك المكان غاية الاختلال.

وكانت وفاته في سنة إحدى وأربعين وألف (١)

وقال أديب الشهباء السيد أحمد النقيب الآتي ذكره يرثيه.

ما الكون سوى صحيفة الأكدار

خطّت لذوي العقول والأفكار

كم موعظة تضمنت أسطرها

إن أنت جهلتها فأين القاري

وفي لفظ القاري إيهام التورية كما لا يخفى ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(*) في الأصل : يديرون الكلس.

(١) دفن في حجرة قريبا من باب مسجد التكية المذكورة قبالة مزار الشيخ أبي بكر. ا ه من كتاب «موارد أهل الصفا» للصلاح الكوراني ، وقدمنا ذلك في الكلام على هذا المكان في ترجمة الشيخ أبي بكر.


٩٦٠ ـ زين الدين الأشعافي المتوفى سنة ١٠٤٢

زين الدين بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي ، الشافعي الحلبي المعروف بالأشعافي ، نزيل دمشق ، الفاضل الأديب العروضي السائر ذكره.

ولد بحلب ونشأ بها ، وأخذ عن جماعة ، ولما دخل البهاء الحارثي العاملي حلب أخذ عنه وبرع في عدة فنون ، وألف وصنف ، ومن جملة تأليفاته شرح على الشفا ، وله رسائل في العروض كثيرة ، منها «بل الغليل في علم الخليل وعمدة النبيل» ، ورسالة بين فيها عروض أبيات من شواهد النحو سها فيها العلامة العيني في مختصر شرح الشواهد سماها «التنبيهات الزينية على الغفلات العينية» قال في ديباجتها : وكنت أولا أنسب ذلك إلى تحريف النساخ ، إلى أن وقفت على نسخة قرئت عليه وكتب خطه في مواضع منها وفي آخرها إجازة بخطه ، فتصفحتها فإذا هي مشتملة على ما في النسخ مما هو خلاف الصواب.

وولي نظر المدرسة الطرنطائية داخل باب الملك بحلب وتعرف الآن بالأويسية لسكن الطائفة الأويسية بها. ثم خرج إلى الروم ومكث بها ، ثم دخل دمشق واستقر بها وانتفع به كثير من أهلها في العروض وغيره.

وذكره البديعي في «ذكرى حبيب» وقال في وصفه : وكان له مذاكرة تأخذ بلب الصاحب ، ومحاضرة ترغّب عن محاضرات الراغب ، ورقة طبع تملك زمام قياده لكل ريم ، وتهيمه لكل وليد يراه هيمانه بنسيم. وله شعر نضير منه قوله :

كتبت وأفكاري وحقك مزقت

كما قد بدت في الحب كل ممزق

ولو حم لي التوفيق كنت تركته

ولكنني أصبحت غير موفق

إذا قيل أشقى الناس من بات ذا هوى

فلا تنكرن هذا المقال وصدق

وهذا كقول الآخر :

سألتها عن فؤادي أين مسكنه

فإنه ضل عني عند مسراها

قالت لدي قلوب جمة جمعت

فأيها أنت تبغي قلت أشقاها

وكتب لبعض أصحابه يعزيه عن نعل له ضاعت :

تعز أخي إن كنت ممن له عقل

ولا تبد أحزانا إذا ذهبت نعل


ولا تعتب الدهر الخؤون فدأبه

لعقد اجتماع الشمل دون الورى حلّ

لحى الله دهرا لا يزال مولّعا

بتكدير صفو العيش ممن له فضل

يفرق حتى شمل رجل ونعلها

أشد فراق لا يرى بعده شمل

فما شئت فاصنع ما اللبيب بجازع

ولا تارك صفوا ولو زلت النعل

بحقك قم نسعى إلى الراح سحرة

نجدد أفراحا لكل صدا تجلو

إلى دار لذات وروض مسرة

لرحب فناها من غصون المنى ظلّ

وقد أورد له هذه الأبيات الخفاجي في ترجمته وذكر معارضات وقعت لها في هذا لخصوص. وقد ترجمه الشهاب ترجمة لطيفة (١). وكان في سنة خمس وثلاثين وألف موجودا في الحياة فإني قرأت بخطه في آخر رسالة التنبيهات أنه فرغ من كتابتها يوم الأحد ثاني عشري صفر سنة خمس وثلاثين وألف ، ثم أخبرني بعض الحلبيين ممن يعرفه أنه توفي في حدود سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين بعد الألف والله أعلم.

٩٦١ ـ فتح الله بن محمود البيلوني المتوفى سنة ١٠٤٢

فتح الله بن محمود بن محمد بن محمد بن الحسن الحلبي العمري الأنصاري المعروف بالبيلوني ، الشافعي الفقيه الأديب المشهور.

كان أوحد أهل عصره في فنون الأدب وعلو المنزلة ، وشهرته تغني عن الإكثار في تعريفه. أخذ عن والده البدر محمود الماضي ذكره ، وسافر عن حلب إلى الروم صحبة الوزير نصوح ، وكان صار معلما له ، فحصل على جاه عريض. ثم انحط عنده فتولى منها مكة والمدينة والقدس ودمشق وطرابلس وبلاد الروم ، وألف تآليف فائقة ، منها «حاشية على تفسير البيضاوي» و «الفتح المسوي شرح عقيدة الشيخ علوان الحموي» ، وله الكتاب الذي سماه «خلاصة ما يعول عليه الساعون في أدوية دفع الوبا

__________________

(١) قال الشهاب في الريحانة : فاضل لين العود ماجد الأعراق ، حلو الشمائل عذب الأخلاق ، له آثار على أكف القبول مرفوعة ، وكلمات كثمرات الجنان لا مقطوعة ولا ممنوعة ، صحبني وهو يقطف نور التحصيل ، وللفضل إلى معاليه انتظار وتأميل ، فتجاذبنا أهداب المذاكرة ، وجررنا ذيول المناشدة والمحاورة ، فمما أنشدنيه من شعره قوله : كتبت وأفكاري إلخ الأبيات.


والطاعون» (١) ، وهو مشهور ، وله مجاميع اشتملت على تعاليق غريبة. وأخذ عنه خلق كثير.

وله شعر كثير ، منه ما قرأته في «الجواهر الثمينة» للسيد محمد بن عبد الله المعروف بكبريت المدني قال : أنشدني إجازة لنفسه بحلب الشيخ فتح الله البيلوني قوله :

السبت والإثنين والأربعا

تجنب المرضى بها أن تزار

بطيبة يعرف هذا فلا

تغفل فإن العرف عالي المنار

(قلت) : هذا عرف مشهور ، لكن ورد في السنة ما يرد السبت منه ، فقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفقد أهل قبا يوم الجمعة فيسأل عن المفقود فيقال له : إنه مريض ، فيذهب يوم السبت لزيارته.

ومن كلام صاحب الترجمة في صدر تأليف له : ولما كانت الهدايا تزرع الحب وتضاعفه ، وتعضد الشكر وتساعفه ، أحببت أن أهدي إليه هدية فائقة ، تكون في سوق فضائله نافقه ، فلم أجد إلا العلم الذي شغفه حبا ، والحكم التي لم يزل بها صبا ، والأدب الذي اتخذه كسبا ، ورأيت فإذا التصانيف في كل فن لا تحصى ، والأمالي من سطور العلماء وطروس الحكماء أوسع دائرة من أن تستقصى ، إلا أن التأنق في التحبير من قبيل إبراز الحقائق في الصور ، ومن هنا قيل : لكل جديد لذة ولا خلاف في ذلك عند أهل النظر.

وذكر السيد محمد كبريت المذكور آنفا في كتابه «نصر من الله وفتح قريب» أنه أخبره أنه قال له عمه أبو الثناء محمد بن محمود البيلوني : لا تباحث من هو أعلى منك مرتبة ، لأنه ربما انجر الكلام إلى مسألة معلومة عندك لم يطلع عليها الشيخ فيحمر وجهه ، ثم لا تكاد تفلح إن رأيت في نفسك شيئا لذلك ، ولا من هو مثلك ، فإنه لا يسلم لك كما أنك لا تسلم له فيفسد عليك عقلك وتفسد عليه عقله ، والمعاصر لا يناصر ، وعليك بمن هو دونك فإنه يستفيد منك بغير إنكار وتستفيد أنت بإفادته ، فقد روي عن أبي حنيفة : من أحب أن يظهر الخطأ في وجه مباحثه فقد أخطأ هو لرضاه بالخطأ ، وإنما يعرف حال أهل العلم من جال في ميدانهم بنور الإنصاف. كان السيد تلميذ السعد يستفيد منه كل يوم أربع مسائل ويفيده ثمانية مسائل ، وكان عمره عشرين سنة وعمر شيخه ثمانين ، فقيل

__________________

(١) منه نسخة في الأحمدية بحلب وفي مكتبة بيت سلطان بحلب وفي السلطانية بمصر.


له في ذلك فقال : أما الأربع فأضمها إلى الثمانية فتكون اثني عشر ، وأما الثمانية التي أفيدها فعدم إفادتها لا يزيد فيما لدي ، وما أحسن قول من قال :

أفد العلم ولا تبخل به

وإلى علمك علما فاستزد

من يفده يجزه الله به

وسيغني الله عمن لم يفد

وقال ابن المعتز :

لا تمنعنّ العلم طالبه

فسواك أيضا عنده خبر

كم من رياض لا أنيس بها

هجرت لأن طريقها وعر

وقد وقفت على أربعة كراريس جمعها ابن أخيه محمد بن فضل الله من نتفه التي لم تصل إلى حد القصيدة ، وغالبها في النصائح والحكم والاستغاثة ، فمن ذلك قوله :

يقولون دار الخصم تظفر بوده

فذلك درياق من الغل في القلب

فما ازداد مذ داريته غير جفوة

لأن قديم الداء مستصعب الطبّ

وقوله :

بباب الله لذ في كل قصد

وغض الطرف عن نفع الصحاب

فماء الأرض لا يروي ثراها

إذا لم ترو من ماء السحاب

وقوله : وينسبان لفتح الله ابن النحاس ، والصواب أنهما لفتح الله هذا :

يقولون وافق أو فنافق مرافقا

على مثل ذا في العصر كلّ لقد درج

فقلت وأمر ثالث وهو قول أو

ففارق وهذا الأمر أدفع للحرج

وقال مضمنا :

لا تجزعنّ لحادث

وبصدق عزمك فانفذ

فالصبر أمنع جنة

والله أعظم منقذ

فالجأ لعز جنابه

ومن الهموم تعوّذ

واصرف تصاريف الأمور

إلى ورائك وانبذ

إن المقدر كائن

ولك الأمان من الذي


ومما قاله عاقدا لما روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما :

وقال ابن عباس ثلاث جزاء من

حباني بها لا يستطاع فيحصر

سماع لتحديثي وقصدي لحاجة

وتوسيعه لي مجلسا حين أحضر

ولقد أجاد في قوله :

المرء ما دام في عز وفي جدة

فكل خل له بالصدق متصف

لا عرّف الله عبدا صدق صاحبه

فإنه بانكشاف الحال ينكشف

وقوله :

هذا مثال جرى فافطن لباطنه

فعارف الوقت من للوقت قد عرفا

إذا ابتليت بسلطان يرى حسنا

عبادة العجل قدّم نحوه العلفا

وقوله :

توق من العداوة للأداني

فكيف بمن إذا ما شاء كادك

تبيت لرفعة تبغي وجوها

ولا تدري بماذا قد أرادك

وأصابه رمد وهو بالقاهرة فكتب لبعض أحبابه :

أيها الشهم قد ملكت فؤادي

بوداد ما شيب قط بمنّك

إن عيني شكت لبعدك عنها

لا أراك الإله سوءا بعينك

ومن مجونه المستملح :

لا أرتضي المرد ولا أبتغي

إلا لقا الحسنا لسرّ بطن

فقل لمن نافق في حبها

إن من الإيمان حبّ الوطن

ومما يستجاد له قوله في العيون ، ويعبر عنها بالنظّارة التي تستعملها الناس لتقوية البصر

رب صديق عاب نظّارة

يقوى بها الناظر من ضعفه

وعن قليل صار في أسرها

يحملها رغما على أنفه

وقال متوسلا قبل دخول مكة في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وألف :


أبقنا منك بالعصيان جهلا

وأنت دعوتنا حلما ومنّا

فقابل بالرضا يا رب واغفر

بمحض الفضل ما قد كان منّا

وهذا ما وقع اختياري عليه من أشعاره وفيها كفاية.

وكانت ولادته في شهر رمضان سنة سبع وسبعين وتسعمائة ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين بحلب ودفن بزاوية آبائه (١).

والبيلوني بفتح الباء الموحدة ، وهو نوع من الطين يستعمل في الحمّام ، وأهل مصر تسميه طفلا. قال الخفاجي : وكلاهما لغة عامية لا أعرف أصلها * ، كذا ذكر. وفي الصحاح : الطفل بالفتح : الناعم ، يقال : جارية طفلة أي ناعمة. ولعله سمي به هذا النوع من الطين لنعومته لأنه كالصابون تغسل به الأبدان سيما في الحمّام. ا ه.

وقال الشهاب الخفاجي في الريحانة في ترجمته : أديب فاضل له طرف وملح ، وشعر سمح طبعه منه مما سنح ، وله مجلس من مجالس القصاص والنصاح ، ينادي به كل طالب حي على الفلاح ، رأيته وقد قدم الروم بصحبة الوزير نصوح ، وشمس فضله من أفق معاليه تلوح ، فانقطع عن الاختلاط ، وربما حرك السكون ردىء الأخلاط. وله شعر وشعور ، هما من خير الأمور ، كقوله :

يقولون نافق أو فوافق مرافقا ... إلخ البيتين المتقدمين.

وقوله في بعض منازل الحج المسمى بأكرة ويقال لها أكرى بالقصر أيضا :

تعففت عن زاد الرفيق ومائه

وسرت لبيت الله أهدي له شكره

ووفرت ما عندي احترازا وإنني

لصوني ماء الوجه لم أر ما أكره

_________________

(١) مكان الزاوية في المحلة المعروفة بجب أسد الله في الزقاق الذي هو وراء الخان الجديد المعروف بخان الميسّر ، وداخلها خراب ولم يبق منها إلا جدرانها وبيت مشرف على الخراب يسكنه الفقراء. ووقف بني البيلوني وقف عامر ذو ريع ومتولوه أو دائرة الأوقاف لا يلتفتون إلى عمارة هذا المكان. وقبر المترجم بجانب باب الزاوية وله شباك صغير على الجادة.

(*) يرى محمد خير الدين الأسدي في «موسوعة حلب المقارنة» أن العربية استمدت البيلون من اليونان Valaniyon بمعنى الحمّام ، والحمّام في اللاتينية : Balnea والعربية سمت الحمّام : البلّان. وجاء في اللسان (ط ف ل) : الطفال : الطين اليابس ، يمانية.


ومن أمثاله المرسلة :

ربّ داء أضرّ منه الدواء *.

ومنه :

إذا ابتليت بسلطان يرى حسنا

عبادة العجل قدّم نحوه العلفا

وله :

أنت كالمنخل الذي صار يلقي

الصفو للناس ممسكا للنخاله

وهذا مما وقع معناه في بعض الكتب الإلهية كما نقله الإمام الرازي ، وقد كنت قلت فيه :

الدهر كالغربال في

خفض ورفع لا محاله

إن حط لب لبابه

رفع الحثالة والنخاله

وترجمه ابن معصوم في «سلافة العصر» فقال : فتى العلم وكهله ، وبيت الفضل وأهله ، الحكيم الحكم ، السائر الأمثال والحكم ، معدن المعارف وكنز الإفادة ، وكعبة الفضائل وقبلة الوفادة ، تصانيفه في سماء الوجود كواكب ، وتآليفه لجمع الفوائد مواكب ، إلى أدب مورده في البراعة معين ، يحسد إثمد مداده كحل عيون العين ، وديوان شعره عزيز المثال ، وأكثر مقاطيعه حكم وأمثال. وكان له مجلس وعظ ونصح ، يزدحم لسماعه البكم والفصح ، فيقرع الأسماع بتذكيره وتحذيره ، ويصدع قلوب أولي المنكر بنكيره ، ويقص من المواعظ أحسن القصص ، ويقسم من أخبار الخوف والرجاء أوفر الحصص. ولم يزل سالكا هذا السبيل ، واردا من صفو عينها السلسبيل ، حتى طوى الدهر منه ما نشر ، والدهر ليس بمأمون على بشر ، فتوفي سنة اثنتين وأربعين وألف بحلب الشهباء ، ودفن بزاوية آبائه النجباء. ومن مقاطيعه المشار إليها :

يقولون إن العتب باب إلى القلى

فقلت وترك العتب باب إلى الحقد

ورب قلى تلقاه بردا على الحشا

ولكن نار الحقد دائمة الوقد

وقوله :

وإذا أردت أن تكون براحة

في صحبة الخلطاء دون جفاء

__________________

(*) هذا عجز بيت أورده له ابن معصوم في السلافة ضمن بيتين كما سيأتي.


فافرض قديمهم حديثا في الولا

واغنم ولاه بلا اشتراط وفاء

وقوله :

وإذا أراحك صاحب من منة

بالمنع فاشكر منعه فهو العطا

وإذا أباحك منحة فاعدد له

شكرا وحاذر في الشهود من الخطا

وقوله :

من يحاول لمن أساء جزاء

فهو فيه ومن أساء سواء

خير ما استعمل اللبيب احتمال

رب داء أضرّ منه الدواء

المصراع الأخير من هذين البيتين أورده صاحب الريحانة قائلا : إنه من أمثاله المرسلة ، ولم يذكر ما قبله فذكرناه لئلا يتوهم أنه مصراع قد. وقوله :

إذا كنت صدر القوم قل ما تريده

وإن كنت دونا فاستمعهم وسلم

وإن كنت فيما بين ذلك رتبة

فكن واعيا للقول ثم تكلم

وقوله :

لا تحقرن من الكرام صغيرهم

فابن الكرام بكل حال يكرم

واعلم فرب صغير قوم في الورى

بكبير قوم آخرين وأعظم

وقوله :

إذا ما احتجت في أمر لشخص

تكن في أسره بمقام ذلك

وإن تستغن عنه تكن أميرا

وما المملوك في أمر كمالك

وهذا من قول بعض السلف : احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره. ا ه.

٩٦٢ ـ محمد بن عبد الرحمن البتروني المتوفى سنة ١٠٤٢

محمد بن عبد الرحمن بن محمد ، وسيأتي تمام نسبه في ترجمة ابن أخيه إبراهيم بن أبي


اليمن البتروني الحلبي ، مفتي الحنفية بحلب ، ويعرف بمفتي العقبة لسكناه في محلة العقبة.

كان قليل البضاعة في العلم ، وتولى الفتوى ولم يكن أهلا لها ، وسبب ذلك أن الشيخ فتح الله البيلوني كان كثير العداوة لأخي محمد الكبير وهو أبو الجود المقدم ذكره ، وكان البيلوني معتقد الوزير الأعظم نصوح باشا وشيخه ، واتفق أن محمدا صاحب الترجمة ذهب إلى الروم لطلب المعاش من قضاء أو غيره ، فأنزله البيلوني عنده وأكرمه وقال له : أقضي مآربك ، ثم بعد أيام قال له : قد شفعت لك عند الوزير الأعظم وأخذت لك منصبا جليلا ، ولا أعطيك الأوراق حتى تقطع البحر وأودعك إلى أسكدار وأسلمها لك ، ففعل ذلك ، فلما ودعه سلمه مكتوب الفتوى ، فامتنع وقال : أنا لست أهلا لذلك ، وهل يمكنني التصرف بها مع وجود أخي الشيخ أبي الجود؟ فقال له : إن لم تقبل أسعى على إهانتك ونفيك ، فلم يسعه إلا القبول. ولما دخل إلى أخيه قبّل أقدامه وعرض عليه هذا الأمر فقال : جعله الله مباركا ، وأنا أعلم أن هذا من مكر فتح الله ، فافعل ولا تخالف ، فإننا نخشى شره. ثم بعد لم يقبلها أبو الجود ، وتصرف بها مدة محمد ، ووجهت بعده لأخيهما أبي اليمن ، وكان أبو اليمن ومحمد بمنزلة الخدام عند أخيهما الكبير أبي الجود المذكور.

وكانت وفاة محمد في سنة اثنتين وأربعين وألف.

٩٦٣ ـ محمد الشهير بغلامك البوسنوي قاضي حلب المتوفى سنة ١٠٤٥

محمد الشهير بغلامك البوسنوي قاضي القضاة بحلب ، العالم المشهور صاحب الحاشية على الجامي ، وله حاشية على الزهراوين وأخرى على شرح القطب للشمسية ومثلها على شرح المفتاح للسيد.

وكان عالما متقشفا وفيه عجب وكبر ، وسافر من حلب وهو مولى وأقام مقامه السيد محمد بن النقيب ، ولما وصل إلى أسكدار تألم منه مصطفى باشا السلاحدار خوفا أن يبلغ خبر ظلم وكلائه في بلاد العرب فيحصل له ضرر ، فوبخه ثم سيّره إلى الحصار وأمره بلزوم الخلوة. ووجهت عنه حلب بعد أيام وشاع أنه أصيب بالنقرس.

(وحكى) أنه جاءه رسول من جانب السلاحدار المذكور ومعه بشارة بتوجيه قضاء قسطنطينية إليه ، فقال للرسول : قل له : (وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل) ، فلم


تمض ثلاثة أيام إلا مات.

وكان وهو بحلب أقرأ حاشيته على الجامي وكتبت عنه واشتهرت بحلب ، وفيها يقول السيد أحمد بن النقيب :

حواشي إمام العصر بكر عطارد

محمد السامي على هام بهرام

صوارم أفكار إذا هز متنها

نبا كل هنديّ وكل حسام

وأبحر تحقيق إذا طم موجها

فهيهات منا عاصم لعصام

وخمرة توفيق زكت فتسارعت

إلى حانها أهل الفضائل بالجامي

وحكى لي شيخنا العلامة أحمد بن محمد المهمنداري مفتي الشام أن صاحب الترجمة قال يوما للنجم محمد الحلفاوي : السيد أحمد بن النقيب يقول وهو غائب : إنه أفضل منك ، فقال : صدق ، وهو أكثر إحاطة مني. وقال لابن النقيب مثل هذه المقالة في غيبة النجم. فقال : لا شك فيما يقول ، فإنه أستاذي ، والأستاذ على كل حال له رتبة الأفضلية.

وكانت وفاة غلامك سنة خمس وأربعين وألف. والكاف في غلامك للتصغير في اللغة الفارسية كما ذكر في مصنفك وأمثاله.

٩٦٤ ـ أبو اليمن بن عبد الرحمن البترونيوفى سنة ١٠٤٦

أبو اليمن بن عبد الرحمن بن محمد ، وهو والد إبراهيم البتروني الحلبي الآتي ذكره ، وقد ذكرنا تتمة نسبه هناك فلا حاجة بنا إلى ذكره هنا.

وكان أبو اليمن هذا مفتي الحنفية بحلب بعد أخيه أبي الجود المار ذكره. كان فاضلا فقيها متواضعا حسن الخلق جوادا ممدوحا ، نشأ في الجد والاجتهاد ، وقرأ وأخذ عن علماء عصره ، ودرس بالمدرسة العادلية ، وأفتى مدة طويلة ، وكان له شأن رفيع ، ولأهل حلب عليه إقبال زائد لسلامة طبعه وتودده وكرم أخلاقه.

ودخل دمشق حاجا في سنة أربع بعد الألف ، فصادف قبولا وافرا ، وأكرم نزله جدي القاضي محب الدين لسابق مودة بينه وبين أخيه أبي الجود.


وذكره البديعي في «ذكرى حبيب» وقال : أدركته وقد خلق عمره وانطوى عيشه. وبلغ ساحل الحياة ووقف على ثنية الوداع ، ولم يبق منه إلا أنفاس معدودة وحركات محدودة ، ومدة فانية وعدة متناهية ، وهو بحر علم وطود حلم ، وواحد الآفاق في مكارم الأخلاق. ومن لطائفه قوله في مكتوب أرسله إلى شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر مفتي التخت السلطاني عند ذكر اسمه : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)* وما كتبه في صدر كتاب إلى المولى فيض الله قاضي العساكر الرومية قوله :

لتهن العلا إذ صرت حقا لها بدرا

وزيّن عقد الفضل منك لها النحرا

فحمد لك اللهم قد سعد الورى

وصار بفيض الله نهر الندى بحرا

ومن شعره قوله في مجريّ اسمه عبد اللطيف :

عبد اللطيف للطفه

سبق الذي جاراه

فكأنه ريح الصبا

يحيي القلوب سراه

وقوله في الغزل مضمنا :

وبي رشأ أحوى إذا ماس في الربى

وهز قواما منه تحتجب القضب

علقت به حتى هلكت صبابة

ومن ذا يرى هذا الجمال ولا يصبو

وله غير ذلك. وكانت وفاته سنة ست وأربعين وألف وبلغ من العمر ثمانين سنة رحمه‌الله.

٩٦٥ ـ أصلان دده المجذوب المتوفى سنة ١٠٤٨ أو ١٠٤٩

أصلان دده المجذوب نزيل حلب.

قال أبو الوفا العرضي المذكور آنفا عندما ذكره : اخترط في مبادي العمر شوك القتاد ، واحتمل المشقات والأنكاد ، من الجوع والعطش والعري والسهر (والقمل وسب الناس له ، وطردهم إياه عن مواطن نومه وهجوعه) **. وكان ينام في المساجد بغير غطاء (ولا

__________________

(*) النمل : ٨٨.

(**) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.


وطاء ، أذل من وتد وأحقر من نقد) * مشغولا بخويصة وجوده في منادماته وشهوده وكان نائبا لبعض قضاة حلب ، فحصل له الجذب الإلهي فيها ، يقال إنه قطع خصيتيه. قال : وسمعته يقرأ أحيانا بعض عبارات «كافية» ابن الحاجب. وكان يسرد أحيانا آيات قرآنية. ولازم بيت القهوة فكان لا يخرج منها ليلا ولا نهارا إلا أحيانا قليلة ولا يتكلم مع الناس إلا القليل من الكلمات ، تارة لها انتظام وأخرى بدونه. ثم خدمه رجل يقال له الشيخ محمد العجمي ، وكان شيخا معلما لبعض الأكابر من أرباب الدول ، وكان له صوت حسن وخط حسن ، فأجل مقامه وأظهر احترامه ، فعكف الأكابر عليه وقدمت الأموال إليه ، وشاهد كثير من الناس تصرفه التام (بإذن العليم العلّام) *. ومن كراماته ما أخبرنا به صهرنا الشيخ أحمد (جلبي) * الشيباني : وكان عبدا صالحا معتقدا في الأولياء من ذرية قوم كرام من ذرية بني الشيباني ومن ذرية بيت الشحنة أنه كان لوالده (مصطفى جاويش) * معتق يقال له سليمان ترقى في الرفعة حتى صار كتخداي جعفر باشا كافل البلاد اليمنية أنه لما رجع من اليمن على أنطاكية استقبله أحمد المذكور فأخرج له ورقة تتضمن أن الشيخ محمد الزجاج من أهل اليمن يسلم على أصلان دده ويقبّل أياديه وقال لي : قبّل أياديه عني ، فأنا الآن مشغول بخدمة الباشا لا أستطيع الذهاب إلى المذكور ، فأنت كن نائبا عني. فلما جاء أحمد المذكور قام له أصلان دده قائلا : مرحبا بالذي جاء لنا بسلام أهل اليمن ، كررها أربع مرات ، ثم قال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وكررها أربع مرات ، ثم قال : رأيت الجمل قل ولا الجمّال ، وكررها أيضا ، كل هذا وأحمد المذكور لم يكلمه بذلك ولا شطر كلمة ، وإنما عرض عليه الأمر في الباطن. وهذه الكلمات قالها بالتركي ، فإن أصلان دده كان لا يعرف العربية ولسانه تركي ، فقال له درويش علي خليفته الجالس في خدمته : يا سيدي ، حضرة الدده يقول لكم السلامة ولكم اليمن والبركة ولكم الجمال لمكة ، فقال له : يا مولانا صدقتم هذا تأويل كلام الشيخ :

سارت مشرّقة وسرت مغرّبا

شتان بين مشرّق ومغرّب

ومن كراماته أن عسكريا اشترى من باياس أرزا وبنا وسكرا وقال في ضميره : أعطي للمذكور منه ستة عشر أبلوجا من السكر. (وحملها إلى حلب : فقال له أخوه : الشيخ يشرب أبلوجا واحدا) والباقي يبيعه خليفته سيدي علي ويحط الثمن على دراهمه الكثيرة ،

__________________

(*) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.

(*) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.

(*) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.

(*) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.


ثم عدل وقال : آخذ له أبلوجين ، ثم حمل السكر من باياس ، فسقط عن الدابة ووقع في الماء حتى وصل إلى التلف ، وقدر الله أن البن والأرز كانا يباعان بأحسن ثمن فانحط ثمنها ، ففي الحال ذهب وأعطى بقية ما نذره في ضميره ، فما مضى ثلاثة أيام حتى باع الجميع بأرفع الأثمان.

ومنها أني الفقير أردت أن آخذ مكانا خربا كان أصله يباع فيه غزل الصوف من مستحق وقفه ، فطلبته منه فامتنع ، ووقع في خاطري ، وكان المذكور كثيرا ما يزورنا في زاويتنا العشائرية ويدخل إلى بيتنا ، ولبيتنا باب آخر إلى الجراكسية وإلى الموضع الذي طلبته ، وما خرج المذكور قط من ذلك الباب ، فزارنا ودخل إلى بيتنا وفتح ذلك الباب وتوجه إلى ذلك المكان وأسند إليه ظهره زمانا طويلا ، ثم عاد إلى بيتنا وخرج إلى زاويتنا. ففي اليوم الثاني جاءني مستحق الوقف يطلب مني ما كنت ذكرته له ، وقضى الله المصلحة.

ومنها أنه يوما من الأيام طلب ديوان حافظ * ، واستمر عنده نحو شهر وهو ينظر إليه ويقبله ، فبعد ذلك تواترت الأخبار أن الحافظ صار وزيرا أعظم وكان حينئذ في آمد.

وكانت الهدايا والنذورات تأتيه على التوالي ، وتعطيه أرباب الدول المئآت من القروش بحيث إذا شفع في أعظم شفاعة تقبل ، مع أنه لا يدرك شيئا بالكلية لغلبة الجذب عليه ، حتى بنى له خليفته سيدي علي دكاكين وبيوتا ، وأخذ له خان الكتان ، واتخذ له قهوة بعض الدكاكين وقف ناصر الدين بن برهان ، وبعضها وقف زاوية بيت الشيخ دامان الشيخ إبراهيم الحبال وكتبها (علي جلبي) لنفسه ، فالخلوات ملك له ، ثم وقفها. وأما الأرضية فإنها للغير ، بعضها لجامع ناصر الدين بيك وبعضها لزاوية بيت الشيخ دامان في سويقة الحجارين ، واتخذ هذا البناء في زمن يسير ، وزاره الحافظ وهو الوزير الأعظم ، فأعطاه ألف دينار.

ومن عجيب أمره أنه قبيل موته حضر لديه إنسان يشبهه من كل وجه بحيث لو رآه الصغير الذي لا يدرك شيئا وقيل له من هذا لقال أخو أصلان دده ، فادعى أنه أخوه وجلس هناك ، وسيدي علي ينكر ذلك ، فأحضر سيدي علي نائب المحكمة الصلاحية وأحضر هذا الرجل فقال : من أنت؟ فقال : أنا فلان بن فلان وأمي فلانة ، فسمى أباه وأمه ،

__________________

(*) يقصد حافظ الشيرازي الشاعر الفارسي المتوفى سنة ٧٩٢.


وسئل صاحب الترجمة وهو لا يدرك شيئا من الأمور فقال : أنا فلان وأبي فلان وأمي فلانة ، فسمى أباه وأمه بغير ما سماه ، وأثبت النائب أنه ليس أخاه. ثم لم يفدهم ذلك شيئا.

واستمر يأخذ من وقف التكية حتى مات.

ومنها ما شاهد الناس منه أنه لما كان السلطان يطلب بغداد كان صاحب الترجمة في تعب باطني عظيم.

وكانت وفاته بعد فتح بغداد بقليل والفتح كان في سنة ثمان وأربعين وألف ، وقد عاش نحو مائة سنة رحمه‌الله تعالى ا ه.

أقول : وهو مدفون بالخانكاه البلاطية التي قدمنا الكلام عليها في الجزء الرابع (ص ٢٠٧) ويعرف هذا المكان الآن باسم المترجم.

٩٦٦ ـ القاضي محمد بن محمد بن بهرام الكوراني المتوفى سنة ٧٠٥

٩٦٧ ـ والقاضي محيي الدين الكوراني المتوفى سنة ٩٨٢

٩٦٨ ـ والقاضي سعد الدين الكوراني المتوفى سنة ٩٨٣

٩٦٩ ـ والقاضي صلاح الدين بن محيي الدين الكوراني المتوفى سنة

١٠٤٩

بنو الكوراني عائلة قديمة في حلب يرجع عهدها إلى ما قبل سبعمائة سنة ، وربما كانت أقدم عائلة لها ذرية باقية إلى الآن.

وأول من سكن منهم حلب على ما أعلم محمد بن محمد بن بهرام قاضي حلب المتوفى سنة ٧٠٥ ، ويغلب على ظني أن بني الكوراني الموجودين الآن هم من ذرية محمد المذكور ، وقد فاتني أن أذكر ترجمته في موضعها ، وهو من رجال «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» للحافظ ابن حجر. قال ثمة :

محمد بن محمد بن بهرام بن حسين الكوراني المدني ثم الدمشقي شمس الدين الشافعي قاضي حلب.


ولد سنة ٦٢٥ ، وأخذ بمصر عن ابن عبد السلام وغيره ، ومات سنة خمس وسبعمائة ، نقلته من كتاب العثماني * قاضي صفد. وبرع في المذهب وأفتى ودرس ، ثم ولي قضاء حلب فأقام بها دهرا طويلا. وكان محمود الأحكام على ضيق خلقه إلى أن عزل بسبب كثرة مخالفته لقراسنقر وبقيت معه الخطابة ، واستمر شيخ الجماعة ومفتي البلد إلى أن مات في جمادى الأولى سنة خمس وسبعمائة ا ه.

والعبارة كما ترى صريحة في أنه قطن حلب إلى أن توفي في السنة المتقدمة.

ثم رأيت في قطعة من تاريخ الشيخ عمر العرضي في حوادث سنة (٩٨٢) قال فيها : في جمادى الأولى مات القاضي محيي الدين ابن القاضي شمس الدين الكوراني الشافعي ودفن في تربة أعدها لنفسه بأرض الرحبي ، ذكرناه في المعجم.

وقال في حوادث سنة (٩٨٣) : وفيها وقفت على بيتين أسندا إلى القاضي سعد الدين الكوراني الشافعي سائلا الشاب الفاضل عمر بن الشيخ محمود البيلوني وهما :

أيا خير من أبدى القريض بشعره

وأحسن من خط الكتاب ومن أملى

إذا قصد المحبوب قتلي ببعده

أطالبه بالروح في شرعنا أم لا

فأجابه الشاب المذكور :

سعدت بحكم الحب يا من به حلّا

إذا أخذ المحبوب شيئا له حلّا

ولكن شينا أن نطالبه بها

ليمنحه في كل حين بها وصلا

ويظهر أن سعد الدين هو أخو محيي الدين المتقدم ، ولم أقف على تاريخ وفاته.

وخلف القاضي محيي الدين ولدين هما القاضي محمد تاج الدين والقاضي صلاح الدين ، أما الأول فإن المحبي لم يقف على تاريخ وفاته ، وكذا العرضي لم يذكرها في مجموعته ، وستأتيك ترجمته مع ترجمة ولده أبي السعود المتوفى سنة ١٠٥٦. وأما القاضي صلاح الدين وهو واسطة عقد هذا البيت فكانت وفاته سنة ١٠٤٩ ، وإليك ترجمته :

قال المحبي : (القاضي صلاح الدين) المعروف بالكوراني الحلبي مولدا وتربة ، شيخ

__________________

(*) في الأصل : العمادي.


الأدب ومركز دائرته بقطر الشهباء. وكان رئيس الكتاب بمحكمة قاضي قضاتها ، وله أخ اسمه تاج الدين كان يتولى النيابة بها.

والقاضي صلاح الدين هذا من مشاهير الأدباء ، له شعر مطبوع ونظم مصنوع مع مشاركة في فنون عديدة وخبرة بمفاهيم عجيبة. وهو من المكثرين في الشعر ، فليس لأحد من أبناء عصره عشر ماله منه الشعر ، وناهيك بمن لم يخل بياض يوم ولا سواد ليلة من تبييض وتسويد ، ولم يبق أحد يتوسم فيه النجابة إلا مدحه أو راسله أو طارحه إلى أن صعد درج الثمانين ورقي التسعين.

وذكره البديعي فقال في وصفه : شاعر إن ذكر المجيدون فهو الواحد الكامل ، وناثر إن وصف المنتمون إلى الآداب فهو القاضي الفاضل ، ومن محاسن إنشائه ما كتبه إلى السيد أحمد بن النقيب الحلبي المقدم ذكره ملغزا في اسم عندليب :

وهو الشريف الفاضل واللطيف الكامل ، قد تمسك الأحباء بأرج أعتابك ، وتمسك الألباء بأهداب آدابك ، وخلصت المشكلات بالتلخيص ، ولخصت المعضلات بالتخليص ، وملكت الاستعارات فأعرت ما ملكت ، وسبكت الكنايات فأنكيت بما سبكت ، وانعقدت على عفتك الخناصر ، وقيل للخائن إلى الخناصر ، وكيف تنصرف عن سلامة الطبع والصفة ، وفيك اجتمع الوزن والمعرفة ، وقد ارتاح الصلاح إلى خفض الجناح لديك وعوّل عليك ، وطلب أن يعذر ويقال فيما أطال وقال.

ما اسم بالظرف موصوف ، وبالحب مشغوف ، وتصحيف شطره بعد التحريف من الظروف ، على أنه بعض الأحيان مظروف ، وإن قلت ظرف مكان ، فهو في حيز الإمكان ، ويضاف إليه ظرف الزمان ، على أنه من وصف الآرام ، اللاتي هن المرام ، أو على أنه أنالك ، كما لي أن أعرف كمالك. وتصحيف شطره الأول والثاني جيد لأغيد ، وإن قلت أسد فهو للإيضاح ليث أسد ، وإن شئت قلت موضع ليث القلائد من الصدور ، أو ما استرق من رمل الصخور ، وإن أردت المجاز فالخمر من صروفه ، وإن أردت الحقيقة فظرفه من مظروفه ، وكيف يخفى وأوله اسم سنام الأنعام ، وثانية حيوان في البحر عام ، وثالثه اسم امرأة ذات سمن ، ورابعة اسم شجر ذي فنن ، وخامسة اسم ناحية من نواحي البقاع ، وسادسه اسم رجل كثير الوقاع ، على أن أوله والثالث والرابع ، ينبىء عن قلب


سقط الزند الواقع ، والثاني والثالث عن أطيب العرف نافث ، وهو نديم الملوك في القصور ، وخديم ربات الشنوف في الخدور ، وحقير المقدار ، جليل الاعتبار ، وأقواله مؤثرة في قلب عنتر ، مع أنه صغير ضعيف الجثمانية مغتر ، فهل يخفى بعد شرح هذه الأمور ، ولكن الخفاء في شدة الظهور ، فجد مجيبا مجيدا ، لا برحت مفيدا سعيدا.

فأجابه ملغزا له في بازي بقوله :

راسلتني لأبرح عندليب الفصاحة صادحا على أفنان رياض مراسلتك ، وقمر البراعة لائحا من أفق أفلاك عبارتك ، وحمى الفضل محميا بسمهري أقلامك ، وجيد الأدب محلّى بدرر عقود نظامك ، وإن لي قريحة قريحة بصروف حوادث الزمن ، وفكرة جريحة من معاناة خطوب هذه المحن ، وأدرت على سمعي من سلاف ألفاظك ما هو عندي أرق من نسيم الصّبا ، وأهديت إلى فكرتي من نفائس صنائعك ما ذكرتني به زمان اللهو والصّبا ، وأتحفتني ببدائع ما أحمر الورد إلا خجلا من بهجتها ، ولا اصفرت الصهباء إلا حسدا لما شاهدته من استيلائها على العقل وسطوتها ، لا غرو أنها صدرت من قس الفصاحة وقاضيها الفاضل ، وأتت من رئيس هذه الصناعة وإمامها المشار إليه بالأنامل ، فادخرتها تحفة للوارد والصادر ، ورقمتها بقلم الفكر على لوحة الخاطر ، فأماطت النقاب وأزالت الحجاب عن اسم مطرب ما زال يغرد في الرياض بين الأفنان ، ويحرك بصوته الشجي ما سكن في خواطر الولهان ، ويتعشق الورود لشبهها بخدود الملاح ، ويراقبها مرا قبة المهجور في الاغتباق والاصطباح ، طالما جنى عليه لسانه فحبسوه وضيقوا عليه ، ومن عجيب أمره أنه لم يحبس إلا لزيادة محبته وشدة الميل إليه ، صحف النصف الأول منه تجده عبدا عن الخدمة لا يحول ، وإذا شئت قلت عيد بالمسرة والهناء موصول ، وربما أظهر لك غيداء ممنعة الحجاب ، وأبدى لك بقلب بعضه عذب الرضاب واحذف ثلثا منه تجده عندي موجودا ، كما أن ذلك الثلث المحذوف ما زال مني في هوى الحسان مفقودا. وإن صحفت ثلثيه وقلبتها قلب كل أرتك لديغا بعقرب السالف ، أو قلبتها قلب بعض أبدت لك اسم شاعر من شعراء الزمن السالف ، وإن صحفت نصفه الأخير قلت ليته من هذا التصحيف خالص ، فإنه يظهر لك ليثا ترتعد منه الفرائص. وربما ظهر لك بأوله ورابعه وخامسه أنه عليّ المقام ، وبثانيه وثالثه وخامسه ندى عرف يحسن فيه الختام. فأجبر جابر هذه الصناعة كسر هذا الجواب ، وألق عليه من أكسير قبولك ما يروج به عند بني الآداب.


ولقد عن لي أن أعوّل على جنابك ، وأسأل من شريف أعتابك ، عن اسم يعرف بالشجاعة ، تقر له أبناء جنسه بالطاعة ، تخدمه الملوك والأعيان ، وتتبعه في المهامه الفرسان ، موضوع وهو محمول ، وعزيز مع أنه مقيد مغلول ، طالما سطا على عدوه فأورده الحمام ، ونال من إراقة دمه المرام ، ومع ذلك فهو يؤثر بما لديه وهو جائع ، ويفعل ولا يقول وهذا من أشرف الطبائع ، رباعي مع أن نصفه حرف من حروف الهجاء ، وإن صحف كان حرفا يستعمل عند الطلب والرجاء ، وإن حذفت أخيره وصحفت الباقي ظهر لك أنه أحد العناصر ، وبتصحيف آخر من غير حذف يبدو لك أحد أسماء القادر القاهر ، مظلوم مع أنه إن لوحظ نصفه الأخير كان في زي ظالم ، وربما أشعر بتصحيفه وحذف ثانيه أنه بريء من جميع المظالم ، فبالذي شيّد بك دعائم الأدب والكمال ، وجلى بفكرك غيهب كل إشكال ، إلا ما أوضحت مشكله ، وبينت خفيه ومقفله ، ولا برحت بنو الآداب ترد حياض آدابك الدافقة ، ويجنون من أزاهير رياض فضائلك الفائقة ، ما ترنم عندليب على فنن ، وحرك بشجوه من كل مغرم ما سكن. انتهى.

قال السيد أحمد ابن النقيب المذكور في ترجمة صاحب الترجمة : وكان بالقرب من ضريح المرحوم ، يعني والده السيد محمد ، عدة أشجار من العنّاب ، فشاهدت يوما أغصانها المخضرة ، تزهو بثمارها المحمرة ، فأتبعت الحسرة بالحسرة ، ولم أملك سوابق العبرة ، وجادت الطبيعة بأبيات على البديهة هي :

وقائلة والدمع في صحن خدها

يفيض كهطّال من السحب قد همى

أرى شجر العناب في البقعة التي

بها جدث ضم الشريف المعظّما

له خضرة المرتاح حتى كأنه

على فقده ما إن أحس تألما

وأغصانه فيها ثمار كأنها

بحمرتها تبدي السرور تلوّما

ولو أنصفت كانت لعظم مصابه

ذوت واكفهرت حيرة وتندّما

فقلت لها ما كان ذاك تهاونا

بما نالنا من رزئه وتهضّما

ولكنها لما وضعنا بأصله

غديرا بأنواع الفضائل مفعما

بدت خضرة منه تروق وحزنه

كمين فلا تستفظعيه توهّما

وما احمرت الأثمار إلا لأننا

سقيناه دمعا كان أكثره دما

فوقف الكوراني على ذلك فقال أبياتا منها :


فيا شجر العنّاب مالك مثمرا

سرورا ولم تجزع على سيّد الحمى

على رمسه أورقت تهتز فرحة

وتدلي إليه كل غصن تنمنما

أهذي أمارات المسرة قد بدت

أم الحزن قد أبكاك من دونه دما

ومنها على لسان العنّاب :

نعم فرحتي أني مجاور سيد

نما حسبا في عصره وتكرّما

وحضرته روض من الجنة التي

زهت بضجيع كان بالعلم مغرما

أتعجب بي إذ كنت في جنب روضة

وحقي فيها أن أقيم وألزما

كعادة أشجار الرياض فإنها

تمكّن فيها الأصل والفرع قد نما

وقد قيل في الأسماع إن كنت سامعا

خذ الجار قبل الدار إذ كنت مسلما

أما سار من دار الفناء إلى البقا

وأبقى ثناء بالجميل معظّما

ومن كان بعد الموت يذكر بالعلا

فبالذكر يحيا ثانيا حيث يمما

فقلت له يهنيك طيب جواره

وحيّاك وسميّ الغمام إذا همى

لتسقط أثمارا على جنب قبره

ليلقطها من زاره وترحّما

فواعجبا حتى النبات زها به

فحق لنا عن فضله أن نترجما

فلا زالت الأنواء مغدقة على

ثرى قبره ما ناح طير وزمزما

ومما اشتهر له قوله في دخان التبغ :

لقد عنّفونا بالدخان وشربه

فقلت دعوا التعنيف فالأمر أحوجا

ألا إن صلّ الغم في غار صدرنا

عصانا فدخّنا عليه ليخرجا (١)

__________________

(١) قال الشيخ محمد العرضي في مجموعته : وقد رد عليه شيخنا الأخ الوفائي مد الله عمره بقوله :

لقد دل هذا القول منك صراحة

على أن صل الغم ما كان مخرجا

وأن عموم الشاربين تواترت

عليهم غموم دائما لن تفرّجا

ومنه قول الفاضل الشاهيني مضمنا :

ولم أشرب الدخّان من أجل لذة

حواها ولا فيه روايح كالعطر

ولكن أداوي نار قلبي بمثلها

كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

ا ه. ورأيت في قطعة من ديوان المترجم مضمنا الشطر الأخير بقوله :

ولما تغشّاني دخان تأوهي

من الشوق عن قلب يقلّب في جمر

تداويت شربا بالدخان لدفعه

كما يتداوى شارب الخمر بالخمر


الصلّ : الحية السوداء ، ومن شأنها أنها إذا عصت في وكرها دخّن عليها لتخرج. وللصلاح أيضا فيه وهو معنى حسن :

لو لم تكن أيدي الأكارم لجة

ما كان في أطرافها الغليون

والغليون أطلق على سفينة معهودة بين العوام ، وعلى آلة يوضع فيها ورق التبغ ويشرب ، وكلاهما غير لغوي ، وهو في اللغة اسم للقدر. وفيه يقول عبد البر الفيومي صاحب المنتزه مع احتمال الغليون للمعنى اللغوي :

غليوننا لقد غلا

ما فيه والماء يفور

في مهجتي وفعلتي

دخانه أضحى يدور

وللصلاح معمّى باسم أحمد وهو قوله :

فؤادي محا عن لوح خاطره الهوى

فأثبته صدغ له قد تسلسلا

وله باسم عمر :

تساقط در من سحاب مسيره

إلى تاج روض قل وما كان منقطع

وله باسم يوسف :

إذا صح تقبيل على خال خده

أحاول شيئا منه في داخل الشفه

ومن غرامياته قوله :

أين فصل الربيع أين الشباب

يئست من رجوعه الأحباب

غادرته مواقع أعدمته

فشراب الربيع رغما سراب

خرس العندليب فيه وأضحى

صاحب النطق في رباه الغراب

لو علمنا أن الزمان خؤون

فيه تنأى عن اللقا الأصحاب

لشفينا من اللقاء قلوبا

لم يرعها من الزمان انقلاب

لكن المرء لا يزال غفولا

بين هذا وبين ذاك حجاب

 وله غير ذلك.

وكانت وفاته بحلب في سنة تسع وأربعين وألف ا ه.


وترجمه الشيخ محمد بن عمر العرضي فقال : هو وإن كان أحد الشهود بالعدول بحلب ، إلا أنه غبّر في وجه ابن الوردي بسنابك أقلامه في ميدان القريض والأدب ، ونشر من كلامه الملوكي دواوين ثلاثة أقام بها سوق عكاظ الفخر في العجم والعرب. نظم بديعية بديعة ، أحسن فيها المخلص من رقة نسيبها بمديح صاحب الشريعة ، وشرحها شرحا غريب الطرز والأسلوب ، كأنه القدح المسكوب أو القدح المشبوب. وله رسالة في المعمّى ، تضاهي رسالة القطب المكي ومعين الدين ابن البكا والشيخ جدي الأعلى ابن الحنبلي المسماة «بكنز عن حاجي وعمّى». وعارض همزية الأبو صيري التي أضحى في طرازها البديع نسيخ وحده ، ولم ينسج على منوالها أحد من قبله ولا من بعده ، حتى إن البرهان القيراطي مع إحرازه قصب السبق في كل فن ، حاول معارضتها فأسمع قعقعة ولم يأت بطحن ، وما أتى في ادعاء المعارضة ببرهان ، ولو لم يرجح صيرفي الكلام ديناره بقيراط لخاس في كفة الميزان ، بقوله في مطلعها :

ذكر الملتقى على الصفراء

فبكاه بدمعة حمراء

ومطلع همزية صاحب الترجمة :

كيف لا تنجلي بك الغبراء

واستضاءت بنورك الخضراء

وكستك العباء نورا ولا

أشرف ممن كسته تلك العباء

وتغشّى سناك كل لحاظ

وغشاء الأنوار منك جلاء

حصحص الحق واستحال بك الريب

أيبقى مع الصباح المساء

وسبقت الكرام شأوا فقل لي

كيف ترقى رقيك الأنبياء

أيرومون من علاك لحاقا

يا سماء ما طاولتها سماء

وأنشأ مقامات نسجها على منوال مقامات الحريري والبديع ، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع ، منمنما كم مقامة علمية ، ما بين تفسيرية وحديثية وأصولية. وكان رحمه‌الله مغرى بنظم المسائل العلمية ، حتى إنه إبّان اشتغاله بشرح المنار في أصول الحنفية ، نظم أكثر مسائلها وطارح بها أخدانه من الطلبة. وآخر ما ألفه رسالة سماها «بمطلع النيّرين في مناقب الشيخين» أعني شيخ الإسلام الوالد وأبا الجود البتروني قدس‌سرهما ، وسرد مقروءاته عليهما واستطرد من ذكرهما إلى ذكر المرحوم الفقيه نعمان الثاني أبي اليمن البتروني مفتي الديار الحلبية ، وإلى ذكر والدهما الشيخ المسلك الصوفي صاحب الكشف والشهود


عبد الرحمن البتروني ، وإلى ذكر شيخنا الأخ الوفائي مد الله ظل حياته ، وإلى ذكر صاحبنا المرحوم النجم الحلفاوي ، وإلى ذكر هذا العبد الفقير وذكر ما دار بيني وبينه وبين المذكورين من سلاف المساجلة ، وما أحرز من قصبات أقلامهم في برهان المناضلة. وقد كان في فيض البديهة وجودة القريحة مدرارا ، ولإنشاء الخطب ونظم القصائد المطولات مكثارا ، بحيث إنه لا يجف دويّه ، ولا يغيض أتيّه ، ولا يرد ما جادت به عليه قريحته من كل معنى جيدا كان أو زيّفا ، بعيدا كان أو قريبا ، ويصطاد بسبب ذلك ما بين الكركي والعندليب.

وقد ذكره الأستاذ العلامة الخفاجي في «خبايا الزوايا» وترجمه بأحد شيوخ الشعر بحلب ، وأنا مورد من كلماته ما وقع عليه اختياري ، وأنا استغفر الله مما جرى به القلم في غير طاعة الباري. فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها :

طارقات الردى علينا تحيف

وطريق الهدى سريّ مخيف

ومنها وهو معنى بديع :

نكرت حالة الأفاضل طرا

لام فضل من شأنها التعريف

وله من قصيدة تلقّى بها المولى شيخ الإسلام بالممالك العثمانية أسعد أفندي حين ألم بحلب قاصدا الحج :

لو سعد تفتازان حاول فضله

يوما لقال الناس هذا أسعد

ا ه

وترجمه الشهاب الخفاجي في «الريحانة» فقال : فاضل شاعر ناظم ناثر مكثر مسهب مطرب معجب ، رأيته بحلب يعاني حرفة الوراقة ، ويكتب للقضاة الوثائق التي شدت وثاقه ، وقد قيده الكبر ، وعاقه الدهر أبو العبر ، فحجل بين الغرائب والرغائب ، وقتل بيد فكره في الذروة والغارب ، وهو في مهد الخمول راقد ، فمرت به النوائب وهو على طريقها قاعد. وقد كان امتدحني بعدة قصائد ، منها قوله :

شهاب المعالي قد أضاءت به الشهبا

وقد أطلعت من غر أفكاره الشهبا

ومن قبل أخبار الثناء تواترت

وقد ملأت أسماعنا لؤلؤا رطبا

إلى أن قال :

على حلب لما قدمتم تبسمت

ثغور مبانيها وتاهت بكم عجبا


وأبناؤها القوم الذين مرادهم

وداد ولا يبغون مالا ولا كسبا

وختمها بقوله :

فلا زلت في أعلى مقام إذا حدت

حداة حجاز في السرى تطرب الركبا

قال الشهاب : وأنشدني :

لعمرك لم أشرب دخانا لأجل أن

تسرّ به نفس تدانى خروجها

ولكن زنابير الهموم لسعتني

فدخّنت حتى يستبين عروجها

ولما أنشدني هذا أنشدته قطعا لي في معناه ، منها قولي :

ما شربت الدخان إذ سرت عنكم

لتلهّ به عن الأحزان

أحرقتني الأشواق فالقلب منها

صار بالوجد مخزن النيران

فخشيت الأنفاس تفضح حالي

فلهذا سترتها بالدخان

ا ه وظفرت بثلاثين ورقة من ديوانه عند السيد جودة الكوراني من ذرية المترجم فاخترت منها قوله :

إذا ما أراد الخل منك قطيعة

تحمل له واحفظ عقود ولائه

وكن كسراج إن قطعت ذبالة

له زاد في إشراقه وضيائه

وقوله :

يا عامرا قصر الفناء مشيدا

والعمر في قصر له وفناء

تبنى قبابا لا يدوم بناؤها

إن القباب حكت حباب الماء

وقوله (دو بيت) :

أهوى قمرا لكل عقل قمرا

وافى سحرا وحسنه لي سحرا

كم قلت له وقد تهتكت به

يا أسمر قد جعلت عشقي سمرا

وقوله :

قال أهل الغرام بالدمع جدنا

قلت ذا الجود ماله من نجاح


جودكم في الغرام بالدمع بخل

وسماحي بالعين عين السماح

وقوله في غليون الدخان :

لقد عاين المحبوب قوم أجانب

فخفت عليه أن يصاب تعجّبا

فناولته الغليون حتى إذا علا

على وجهه الدخّان عنهم تحجبا

وقوله فيه :

إذا أودع الغليون بارق ثغره

غزال كحيل الطرف من آل سابق

وأكسبه العذب النمير من اللمى

(تذكرت ما بين العذيب وبارق)

وله غير ذلك في غليون الدخان ، وفيما قدمناه كفاية.

وقوله :

وليس الشعر قافية ووزنا

وألفاظا على نسق النشيد

ولكن شرطه حكم ووضع

على بيت من العليا مشيد

يترجم فيه قائله فنونا

وعلما قائلا هل من مزيد

يعبر عن فضائله وما قد

حواه من العلوم لمستفيد

لذلك قال من لم يعتمده

ونفر عنه في نظم سديد

(ولو لا الشعر بالعلماء يزري

لكنت اليوم أشعر من لبيد)

ومن نظمه :

كأن هلال التّمّ في غسق الدجى

وقد لاح بالأنوار في أفق السما

عروس تجلت والكواكب حولها

كما تنثر الأيدي عليها الدراهما

قال في الديوان : وقلت هذه القصيدة على طرز لم يسبقني إليه أحد من شعراء العرب ، وإنما هي على حذو شعراء الفرس والروم ، والتزمت في كل بيت منها بذكر السيف والقلم بالصناعات البديعية والتخيلات الشعرية والمعاني المجازية :

السيف ما أصبحت أغماده القمم

في حكمه القلم الماضي له حكم

لا فخر إلا إذا أبكى الفتى قلما

وأشهر السيف في الهيجاء يبتسم

لا سيف يقطع إلا بالدعاء له

وكم دعا قلم لبّت له الأمم


قد علّم الخلق ما لم يعلموا قلم

وأظهر السيف دينا كان * يكتتم

والرزق قدّره قبل الورى قلم

والسيف قسمته الآجال تنقسم

وكم إلى طاعة الباري جرى قلم

والسيف يخدم من تعلو له الهمم

والسيف يمضي الذي يقضي القضاء به

من دونه قلم يرضى به القدم

وربما فلّ سيف عن مضاربه

إن خانه قلم زلّت به القدم

والسيف ما دام عريانا كسا حللا

والعلم في قلم يعلو به العلم

والسيف يرقص في حرب ويطرب في

صريره قلم تحلو به النغم

ويترف السيف من أهل القتال دما

إن ينفث القلم السحار بينهم

والسيف إفرنده ماء الحمام به

يسقى وكم قلم يشفى به السقم

من سالم السيف يسلم من غوائله

والخير في قلم بالصلح يستلم

إن يشرح السيف متنا يوم معركة

فالقلب من قلم التحذير ينعجم

والسيف فرّق جيشا بالفتوح وكم

بنصره قلم التبشير يلتئم

والسيف في ظله دار مخلّدة

والوشي من قلم التحرير يغتنم

ورب سيف به طالت يد حكمت

في ظله قلم دامت له النعم

بعد الركوع على المرسوم من قلم

صلى على العنق سيف في الوغى فدم

لا سيف إلا إذا صار العراب دما

من قبله قلم بالجرح ينتقم

يربو على السيف عزم المرء إن بطلا

حكما وفي قلم الإنشاء يحتكم

ومجّ في نفس حساد له قلم

سمّا وعاتقهم بالسيف يحتجم

كم نكبة هاجها عن نكتة قلم

والسيف يفضي إلى ما يحدث الندم

إن يقطر السيف من نحر العداة دما

فقد جرى قلم كالغيث منسجم

والسيف في حده حد الهدى وإلى

كلامه قلم تهدى به الكلم

يجيد مدحة أرباب الندى قلم

فيرفع السيف عنه وهو متهم

ومن حماقته لم يشفها قلم

فالسيف أولى بداء ليس ينحسم

غاظ العدى قلم يبدي السرور ومن

صليل سيف الوغى في سمعهم صمم

والبوح بالسرشق الرأس من قلم

والسيف تأديبه بالنار تضطرم

__________________

(*) لعل الصواب : كاد.


فلا يغرّك من وشي العدى قلم

فإنه بدماء السيف يرتسم

واسلك سبيلا قويما قد حكى قلما

فالعرض كالسيف يقلى حين ينثلم

وإنما القلم الساري برقته

إلى المعالي ببأس السيف يحترم

والسيف أنزل فيه البأس يخدمه

وبرّ بالقلم الجاري به القسم

نور الهدى قلم تهدي السراة به

والسيف برق الوغى والغيت منه دم

والسيف ما كان كالمرآة صيقله

والنور من قلم تجلى به الغمم

إني لكالسيف يخشى حين لمعته

والدر من قلمي في الطرس ينتظم

سالت على السيف نفسي إن أبت أدبا

يوما ولي قلم كالبحر يلتطم

السيف يعرفني بالعزم كابن جلا

والنظم والنثر والقرطاس والقلم

وكتبت إلى نجل شيخنا أبي الوفا العرضي في محرم افتتاح سنة ثلاث وعشرين وألف ملغزا فيه ، وكان الوقت مستقبل الربيع وذكرته بأيام الربيع الماضي :

تكلل زهر الروض في الغصن بالقطر

كمنطقة صيغت من الدر والتبر

وقد نثرت أوراقه في رياضه

كنثر عقود الدر من ربة النحر

وفي الدمنة الخضراء ينظم نثرها

كنسج اللآلي وهي في الفرش الخضر

وكم لعبت فيها الرياح كأنها

طيور فراش في الرياض على النهر

ترفرف فوق الدوح حين هبوبها

بأجنحة بيض وأجنحة حمر

كأن الصبا تعطي الرياض دراهما

جيادا كما تعطى العروس من المهر

وتطرحها فوق الغدير كأنها

نجوم سماء في مجرتها تجري

تضاحك أزهار الربى فكأنها

تبسم ثغر الحب عن حبب الدر

تطايرها كالصحف في كل جانب

يشير إلى نشر الدفاتر في الحشر

ويشهد أن الله لا رب غيره

بقدرته قد أخرج الدر من ذر

كأن نبات النبت غيد رواقص

ينقطهن الريح بالأنجم الزهر

كأن غصون الزهر لما تكللت

سرادق بيض والمسامير من تبر

فأعظم بنبت من ثرى الأرض مخرج

كما يخرج الموتى الآله من القبر

وهذا دليل واضح وهو حجة

على منكر لم يرض بالحشر والنشر

تفرقه أيدي الرياح وهكذا

يقابل أرباب الندى المال بالنثر


كما نثرت أيدي اللبيب مسائلا

على الطرس مثل الدر يخرج من بحر

سليل المعالي نجل شيخي وقدوتي

إلى الله في الإرشاد بالنهي والأمر

إلى أن قال :

وخذها عروسا تنجلي بنت ليلة

تقلد منها جيدها أنجم الفجر

ولا زلت محفوظ الجناب مؤيدا

بحب الفتى الفاروق ثم أبي بكر

متى رقصت في الروض أغصان دوحة

وغرد شحرور وجاوبه القمري

فأجاب وأجاد :

أرتني عروس الروض عقدا من الزهر

تحاكي السما في الحسن بالأنجم الزهر

تبسم وجه الروض وافتر ثغره

فأبكى غزير السحب من أعين تجري

لبسن جلابيب السواد تغيظا

على الروض لما تاه في حلل خضر

أرى الروضة الفيحاء فيها جداول

كأخضر ديباج تكلل بالدر

ومالت عليها الدوح مذ لاعب الهوى

شمائلها لعب الشمول بذي السكر

فسحّت وما شحّت وجادت لناظر

فتدرى لآلي الزهر من حيث لا تدري

تفتّح أحداق الأقاح مشاهدا

ونرجسها قد ذبّل العين من فكر

إذا زرتها تلقاك والثغر باسم

وتخلع أثواب السرور على السر

تسرّح أنظارا وتشرح ناظرا

وتنثر منثورا وتنظم بالزهر

ومذ رقص الشحرور غنت بلابل

فجاءت عليها من دنانيرها الصفر

خليليّ طاب الوقت والمقت ذاهب

وهب نسيم الوصل طيبا لذي هجر

أسير غرام والحبيب غريمه

ترى الحب في يسر ومضناه في عسر

ألا حدّثاه عن قديم صبابة

يجددها صب إلى آخر الدهر

وقولا له هل جاء قتل معذب

شكا الطول من ليل على فرش الجمر

ولست بسال لا وعينيك والهوى

عن الحب إلا أن أوسّد في القبر

وكيف التسلّي والغرام يسوقني

كما سيق جمع الناس في الحشر والنشر

ومن لم يحركه الجمال تشوقا

إلى حبه فهو الجماد من الصخر

ولا سيما ذاك الذي قد عشقته

أورّي به من خشية الهتك والستر


أغار وذرات الوجود تحبه

لما فيه من جود وما فيه من بر

ألا قد أتى فصل الربيع موافيا

بأنواع بشر جنسها طيّب النشر

تأرّج في الأرجاء عرف رياضها

ونمّ عليها الريح من مطلع الفجر

تيقّظ فإن العمر رقدة نائم

وقم نختلس حظا على غفلة الدهر

ندير كؤوس البحث والنظم بيننا

ونحذر عن صرف العقول إلى الخمر

ونترك مالا يرتضيه فإنه

رقيب علينا حالة السر والجهر

فلله من لغز حكى في نظامه

قلائد عقيان على أبيض النحر

فألفاظه در ومعناه مسكر

ويحلو على التكرير كالسكر المصري

ومن لطفه لما قرأت بيوته

توهمتها عدا أقل من العشر

ولما وعى فكري محاسن قصده

فقلت أدار الراح أم جاء بالسحر

ليهنك أن الله أولاك منحة

فأنت وحيد العصر والله والعصر

وحقك لو جازى نظامك كامل

لما جاز نثر الدر إلا مع التبر

ولكن بنو الشهباء أجمع رأيهم

على ترك أرباب الفضائل بالهجر

ولا فرق بين العلم والجهل عندهم

ولا بين منظوم الكلام من النثر

ومنك أتاني بنت فكر خطبتها

وإني فقير وهي غالية المهر

ثم أخذ في الجواب عن اللغز وهو اسم حسين قاصدا به الحسين رضي‌الله‌عنه. وختم القصيدة بقوله :

ألا فابكياه بالدماء تأسفا

على فقد تلك الذات في عاشر الشهر

وكتب إلى الأخ الفاضل مولانا الشيخ نجم الدين ابن الحلفا الخطيب بالجامع الكبير بحلب في غرض عرض :

المال يفنى والثناء يدوم

ومضيع عهد الأصدقاء ظلوم

حسب ابن آدم سدّ خلته وما

يجدي الطموع ورزقه مقسوم

وقناعة الإنسان صون قناعه

ومآل مال المسرفين وخيم

يا رب شهوة ساعة أحزانها

طالت بها وهوى النفوس ذميم

تتبسم الآجال والآمال في

تقسيمها والنائبات تحوم


والظلم فينا مستفيض شائع

والخلف بين العالمين قديم

إياك تظلم من تحتم شكره

والظلم شرك لو علمت عظيم

واغنم معاملة الصديق فإنه

بالنفس في سوق النفيس يسوم

إلا المراوغ من حفاظ وداده

تلقاه في نفق النفاق يهيم

ومقلد الجود اللئيم مطوّق

بالدرّ جيد الكلب وهو نظيم

إلا الكرام فإن كل صنيعة

تسدى إليهم مسكها مختوم

والناس إما قادح أو مادح

والحر عن حظ النفوس سليم

من لم يذد عن عرضه بسلاحه

يثلم وحامي ساحتيه كريم

ومن اهتدى الساري إليه فإنه

نجم عطاياه الحسان نجوم

خلّ يواسي من تفاقم كربة

والكرب منه مقعد ومقيم

وإذا صفا ود الفتى لك صادقا

وحمى حمى الأسرار فهو حميم

وإذا الحسود رآك في وادي الردى

حيران أعرض عنك وهو نموم

عند النوائب ينجلي لك أمره

عما يسر ويظهر المكتوم

لله در النائبات فعندها

عذر الأحبة والعداة تلوم

٩٧٠ ـ عمر بن أبي الطيب الخشابي الصديقي

المتوفى ما بين ١٠٥٠ و ١٠٦٠ ظنا

عمر الخشابي الصديقي ، شاعر من شعراء الشهباء وأديب من أدبائها ، لم أقف له على ترجمة مخصوصة ، غير أني وقع لي مجموع فيه خطه قد أودع فيه بعض شعره الحسن ونثره اللطيف ، وذكر فيه مطارحات بينه وبين القاضي صلاح الدين الكوراني ، ويظهر من خلال المجموع أنه كان تلميذا للشيخ فتح الله البيلوني. فمن شعره مضمنا :

قلت لما هز عطفا

لسكون القلب حرّك

صل ولا تهتك غرامي

يا جميل الستر سترك

وقد ضمن هذا الشطر كثير من الأدباء أورد ما قالوه في هذه المجموع ، لكني تركته خوف الإطالة. وله :


بروحي أفدي قهوة البن إنها

شفاء وفاقت في الطبابة نعمانا

وإن لم يكن نفع بها فهي حيلة

لتصيير من أهواه عندي أحيانا

وله :

دعوه أبا زيد وقد زاد جوره

غزال كريديّ غدا حبه قيدي

وكنت دفنت العشق قبل وجوده

وقد حرك الداء الدفين أبو زيد

وله :

أفدّى أبا زيد وأفدي قوامه

بكل خليق لم يحط في الورى خبرا

ولا غرو أن بالغت في وصف حسنه

فإني أرى في وجهه الشمس والبدرا

وله عفا الله عنه :

ولم أر إذ كلمته وهو مسبل

من اللطف والإنصاف سترا على العين

لما صنت إحدى المقلتين فقال لي

مخافة ضرب العاشقين بسيفين

وله :

بروحي من في خده الورد يانع

وغطاه خوفا أن يرى ذاك إنسان

فقلت أما يكفيك طرفك حارسا

فقال بلى لكنّ طرفي نعسان

وله من قصيدة طويلة مدح فيها ابن عمه القاضي جمال الدين :

عجبا لمن أضحى رهين صبابة

كيف المنام يزوره أو يهجع

لهفي على عمر تقضّى دونهم

وعلى زمان كنت عنهم أمنع

أشتاقهم فيظل ناظر ساهري

يرعى السها حتى الصباح يشعشع

إن جاء طيف النوم يطرق مقلتي

فاجاه طيف للخيال فيرجع

لا أشتفي من ذا وذاك لأنه

لو زار حقا كنت لا أتوجع

دائي عضال والطبيب مروّع

والحب باد والحبيب ممنّع

ومنها وهو آخرها :

يبقيك رب العرش ذخرا للورى

ما دام طرفي في الرياض يرجّع


ولم أقف على تاريخ وفاته ويظهر أنها في أواسط هذا القرن.

٩٧١ ـ فتح الله المعروف بابن النحاس الشاعر المشهور المتوفى سنة ١٠٥٢

فتح الله المعروف بابن النحاس ، الحلبي الشاعر المشهور ، فرد وقته في رقة النظم والنثر وانسجام الألفاظ. لم يكن أحد يوازيه في أسلوبه أو يوازنه في مقاصده. وكثير من أدباء العصر يناضل في المفاضلة بينه وبين الأمير منجك ويدعي أرجحيته مطلقا. وعندي أن أرجحيته إنما هي من جهة حسن تراكيبه وحلاوة تعبيراته. أما أرجحية الأمير فمن جهة معانيه المبتكرة أو المفرغة في قالب الإجادة.

وكان فتح الله في حداثة سنه من أحسن الناس منظرا وأبهاهم صباحة ورشاقة. وكان أبناء الغرام يومئذ يفدونه وهو يعرض عنهم ويجافيهم ، حتى تبدلت محاسنه فعطف عليهم يستمد ودادهم. وكانت النفوس قد أنفت منه فرمته في زاوية الهجران ، وفي ذلك يقول وقد رأى إعراضا من صديق له كان يألفه :

إني أنا الفتح سمعتم به

ما همه حرب ولا صلح

من عدّ لي ذنبا قلاني به

فإنما ذنبي له النصح

قولوا له يغلق أبوابه

فإنما حاربه الفتح

ثم اندرج في مقولة الكيف وتزيّا بزي الزهّاد ، واتخذ من الشعر صدارة حدادا على وفاة حسنه ووفاة جماله. وما زال يرثي أيام حسنه وينعي ما يتعاطاه من الكيف. وله في ذلك محاسن ونوادر ، منها قوله في قصيدته التي أولها :

من يدخل الأفيون بيت لهاته

فليلق بين يديه نقد حياته

لو يابثين رأيت صبك قبل ما

الأفيون أنحله وحل بذاته

في مثل عمر البدر يرتع في رياض

الزهر مثل الظبي في لفتاته

من فوق خد الدهر يسحب ذيله

منّاه أنى شاء وهو مواته

وتراه إن عبث النسيم بقده

ينقدّ سرو الروض في حركاته

وإذا مشى تيها على عشاقه

تتفطر الآجال في خطراته

يرنو فيفعل ما يشاء كأنما

ملك المنية صار من لحظاته


لرأيت شخص الحسن في مرآته

ورفعت بدر التم عن عتباته

ثم مل الإقامة بين عشيرته فخرج من حلب وطاف البلاد. وكان كثير التنقل لا يستقر بمكان إلا جدد لآخر عزما ، وفي ذلك يقول وقد أحسن كل الإحسان :

أنا التارك الأوطان والنازح الذي

تتبّع ركب العشق في زي قائف

وما زلت أطوي نفنفا بعد نفنف

كأني مخلوق لطيّ النفانف

فلا تعذلوني أن رأيتم كتابتي

بكل مكان حلّه كل طائف

لعل الذي باينت عيشي لبينه

وأفنيت فيه تالدي ثم طارفي

تكلّفه الأيام أرضا حللتها

ألا إنما الأيام طرق التكالف

فيملي عليه الدهر ما قد كتبته

فيعطف نحوي غصن تلك المعاطف

ودخل دمشق مرات وأقام بها مدة ، واتفق عند دخوله الأول جماعة من الأدباء المجيدين ، وكان لهم مجالس تجري بينهم فيها مفاكهات ومحاورات يروق سماعها ، فاختلوا به وعملوا له دعوات ، وكانوا يجتمعون على أرغد عيش ، وجرت لهم محافل سطرت عنهم ، ولو لا خوف التطويل لذكرت بعضها.

ثم سافر إلى القاهرة وهاجر إلى الحرمين واستقر آخرا بالمدينة. وله في مطافه القصائد والرسائل الرائقة يمدح بها أعيان عصره (وهنا أورد المحبي من نظمه ونثره ثم قال) :

وكان مع ظهوره بزي الفقراء من الدراويش كثير الأنفة زائد الكبرياء والعجب ، ومن هنا حرم لذات المعاشرة واستعرض أكدار المذمة ، وهذا عندي من الحمق العظيم ، مع أنه ينافيه جودة تخيله في الشعر. وقد يقال إن الشعر موهبة لا يتوقف أمره على وجود الصفات الكاملة بأسرها. وأما أمر التناقض في الأحوال فكثير من يبتلى بها ، وهي وصمة لا راد للطعن فيها بحال. ومما يحسن إيراده في هذا الشأن ما يروى عن الإسكندر أنه رأى رجلا عليه ثياب حسنة وهو يتكلم بكلام وضيع قبيح ، فقال له : يا هذا إما أن تتكلم بمثل قدر ثيابك أو تلبس ثيابا على قدر كلامك. وقولهم (غن تشاكل بعضك) أصله أن سكرانا مر وهو يهلل فقيل له ذلك. انتهى.

وأشعار فتح الله كثيرة مطبوعة مرغوبة. وهنا أورد المحبي عدة قصائد يطول الكلام بنقلها ، إلى أن قال : وقال يخاطب بعض الصدور ، وكان الفتح قدم من الحج فأهداه تمرا :


أحسن ما يهديه أمثالنا

من طيبة من عند خير الأنام

بعض تميرات إذا أمكنت

إهدؤها ثم الدعا والسلام

وله :

من أرقني قد استلذ الأرقا

ويلاه ومن أعشقه قد عشقا

من ينقذني منه ومن ينقذه

أفنى حرقا فيه ويفنى حرقا

وأنفس نفائسه تضمينه المشهور لمصراع الرئيس ابن سينا :

لا يدعي قمر لوجهك نسبة

فأخاف أن يسودّ وجه المدعي

فالشمس لو علمت بأنك دونها

هبطت إليك من المحل الأرفع

ومن روائعه قوله :

أيا رب جعلت متاعي القريض *

وقد كان قدما يعد السنينا

فلم لا وقد درست سوقه

كأطلال أصحابه الأقدمينا

ولا بد للشعر من رزقة

فيا ويح من يقصد الباخلينا

أأقطف من روض شعري لهم

فأنثر وردا على نائمينا

فها أنا ذا شاعر واقف

ببابك يا أكرم الأكرمينا

ومحاسنه كثيرة وفي هذا القدر كفاية.

وكانت وفاته بالمدينة المنورة ليلة الخميس لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وخمسين وألف ودفن ببقيع الغرقد. ا ه.

وترجمه ابن معصوم في «سلافة العصر» فقال : ناظم قلائد العقيان ، فاضح نغمات القيان ، الشاعر الساحر ، والباهر بما هو ألذ من الغمض في مقلة الساهر ، فهو صانع إبريز القريض وإن عرف بابن النحاس ، ومسترق حر الكلام فما أشعار عبد (١) بني الحسحاس ، والمبرز في الأدب ، على من درج ودب ، وحسبك أن لقيه الأدباء بمحك الأدباء ، ولو لم تكن إلا حائيته التي سارت بها الركبان ، وطارت شهرتها بخوافي النسور

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي خلاصة الأثر ، ولعل الصواب : إلهي .. جعلت ...

(١) شاعر من شعراء الجاهلية. انظر السلافة فقد أطال في بيان خبره.


وقوادم العقبان ، لكفته دلالة على إنافة قدره ، وإشراق شمسه في سماء البلاغة وبدره ، وهي :

بات ساجي الطرف والشوق يلحّ

والدجى إن يمض جنح يأت جنح

فكأن الشرق باب للدجى

ماله خوف هجوم الصبح فتح

وهي طويلة وقد ذكرها ابن معصوم بتمامها ، وأورد له عدة قصائد ، وآخر ما أورده له قوله :

توهمت إذ مرت بنا الغيد بكرة

تلهّب خال في لظى خد أغيد

وردّدت طرفي ثانيا فرأيته

فؤادي الذي قد ضاع في الحب من يدي

وترجمه الشيخ محمد العرضي في كتابه الذي ذكر فيه شعراء عصره في حلب ومصر والشام ، قال في آخرها : وله في الدخان المتداول الآن :

وأرى التولع بالدخان وشربه

عونا لكامن لوعة الأحشاء

فأديم ذلك خوف إظهار الجوى

فأشوبه بتنفس الصعداء

قلت : ألم في هذا المعنى البديع يقول من قال :

(ولم أدخل الحمام ساعة بينهم

لأجل نعيم قد رضيت ببوسي)

(ولكن لكي أجري مدامع مقلتي

وأذري فلا يدري بذاك جليسي)

ا ه قال فانديك في «اكتفاء القنوع» : ديوان فتح الله الحلبي ابن النحاس المتوفى بالمدينة سنة ١٠٥٢ طبع في مصر سنة ١٢٩٠ في ٦٨ صحيفة. ا ه.

ويوجد ديوانه في باريس ، والمكتبة السلطانية بمصر ، وفي المكتبة الخسروية بحلب جزء من تاريخ للمحبي غير تام فيه تراجم لأعيان عصره منها ترجمة لفتح الله النحاس ، وذكر قصيدته التي مطلعها (تذكر السفح فانهلت سوافحه) وقصيدة (الغصن الرطيب) وغير ذلك من قصائده الطوال.

٩٧٢ ـ إبراهيم بن أبي اليمن البتروني المتوفى سنة ١٠٥٣

إبراهيم بن أبي اليمن بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد السلام بن أحمد البتروني الأصل


الحلبي المولد الحنفي ، الفاضل الأديب المشهور ، صدر قطر حلب بعد أبيه.

اشتغل في عنفوان عمره وسلك طريق القضاء وتولى مناصب عديدة ، منها حماة ، ثم ترك وعكف على دفاتره وتشييد مفاخره ، وتفرغ له أبوه عما كان بيده من مدارس وجهات ، وبقيت في يده سوى إفتاء الحنفية فإنها وجهت إلى غيره.

وكان حسن المحاضرة شاعرا مطبوعا ، وشعره كثير الملح والنكت حسن الديباجة. أنشد له البديعي في «ذكرى حبيب» قوله في فتح الله بن النحاس الشاعر المشهور الماضي ذكره ، وكان يميل إليه ، وكان فتح الله مع تفرده بالحسن ولوعا بالتجني وسوء الظن بصيرا بأسباب العتب ، يبيت على سلم ويغدو على حرب ، كم من متيم في حبه رعى النجم خوفا من الهجر ، لو رعاه زهادة لأدرك ليلة القدر ، بخيلا بنزر الكلام ، يضن حتى برد السلام.

شعر :

مهلك العشاق مهلا

فيك لي منك انتقام

بشعيرات كمسك

هن للمسك ختام

وله فيه من أبيات :

بيني وبينك مدة فإذا انقضت

كنت الجدير بأن تعزّى في الورى

رفقا بقلب أنت فيه ساكن

إن الحياة إذا قضى لا تشترى

فاردد على طرفي المنام لعله

يلقى خيالا منك في سنة الكرى

واسأل عيونا لا تملّ من البكا

عن حالتي ينبيك دمعي ما جرى

وقال فيه أيضا وقد عشق مليحا اسمه موسى فتجنى عليه :

كل فرعون له موسى وذا

في الهوى موساك يوليك النكد

فكما أكمدت من يهواك بال

صدّمت صدّا وذق طعم الكمد

ومن شعره قوله من قصيدة في الأمير محمد بن سيفا مطلعها :

أربى على شجو الحمام الغرّد

وشدا فبرّح بالحسان الخرّد

شاد يشاد به السرور لمعشر

عمروا مجالس أنسهم بالصرخد

في مجلس قام الصفاء به على

ساق وشمر للمسرّة عن يد


إلى أن يقول فيها :

ولقد شكوت له الهوى ليرق لي

فنأى عن المضنى بقلب جلمد

وأبى سوى رقّي فقلت له اتئد

إني رفيق للأمير محمد

وله غير ذلك من محاسن الشعر وعيونه.

وكانت وفاته في سنة ثلاث وخمسين وألف عن نحو أربع وسبعين سنة. ودفن بجانب والده بالصالحية.

والبتروني ، بفتح الباء الموحدة وسكون التاء المثناه ثم راء وواو ونون ، نسبة إلى البترون : بليدة بالقرب من طرابلس الشام ، خرج منها جماعة من العلماء. وأول من دخل حلب من بيت البتروني هؤلاء عبد الرحمن جد إبراهيم هذا ، دخلها في سنة أربع وستين وتسعمائة وتوطنها. وسنذكر من هذا البيت عدة رجال أنجبت بهم الشهباء. ا ه.

٩٧٣ ـ محمد بن أحمد القاسمي الشاعر المتوفى سنة ١٠٥٤

محمد بن أحمد بن قاسم الشهير بالقاسمي الحلبي ، الفاضل الأديب المشهور ، نادرة الزمان وفريد العصر.

كان غزير الفضل لطيف الطبع ، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر. ذكره الخفاجي في «الريحانة» و «الخبايا» وأثنى عليه كثيرا ، وذكر ما جرى بينه وبينه من المراسلة.

وقال البديعي في وصفه : معدن الملح والطرف ، وينبوع النكت والتحف ، وجاحظ زمانه وحافظ أوانه ، ولا يخفى طول باعه ، في فنون الأدب وأنواعه ، فأسرار البلاغة لا تؤخذ إلا منه ، ودلائل الإعجاز لا تروى إلا عنه ، مع دماثة أخلاق تعيد ذاهب الصبّا ، ورقة دعابة كأنما انتسخها من صحيفة الصبّا ، ومنطق يسوغ في الأسماع سلافه ، بلفظ كأنه اللؤلؤ والآذان أصدافه.

وقال الفيومي في ترجمته : كانت ولادته بحلب ، ثم قدم الروم وصار بها من كبار المدرسين ، ثم كف بصره فتقاعد برزق عين له من قبل السلطان ، فانزوى في بيته وهرعت إليه الأفاضل من كل جانب ، فاشتهر فضله وانتشر علمه فاستمر يقرىء أنواع العلوم ،


من كل منطوق ومفهوم ، ومباد ومقاصد ، لكل طالب وقاصد ، فانتفع به كثير من الطلبة. قال : ولما قدمت الروم وفدت عليه ، فرأيت الفضائل انقادت إليه ، فحضرته مجالس في المطوّل وسيرة ابن هشام ، فرأيت منه رتبة لا تنال بالاهتمام. ومات وأنا بالروم ودفن بدار الخلافة. وكانت له رتبة في الأدب هي من أعلى الرتب ، وشعره غاية في بابه ، له فيه التشبيهات العجيبة والمضامين الغريبة ما يكتب بماء الوجه على الحدق ، لا بالحبر على الورق (ثم أورد في خلاصة الأثر طرفا من شعره ثم قال) وله من رسالة :

ما كنت أحسب أن يكون كذا تفرقنا سريعا

قد كنت أنتظر الوصال فصرت أنتظر الرجوعا

قرة عيني ما أسرع ما طلع نجم التفرق في البين ، وهجمت على ائتلافنا قواطع البين ، هلا امتد زمان الاقتراب ، حتى تتأكد الأسباب ، وتأخرت أيام الفراق ، حتى يتم ميقات الاتفاق ، واها لأيام قرب ما وفت بما في الضمير ، ولا ساعدت على بقائها المقادير.

إلى الله أشكو أن في الصدر حاجة

تمر بها الأوقات وهي كما هيا

وأقسم بالله العظيم إنهم عندما :

قالوا الرحيل فما شككت بأنها

روحي عن الدنيا تريد رحيلا

فيا ليت شعري هل تحس بفقدي ، أتذكرني من بعدي. إن فعلت فما أحقك بالإحسان ، وإن نسيت فمن شيم الإنسان النسيان ، وأما أنا فإني :

أروح وقد ختمت على فؤادي

بحبك أن يحل به سواكا

ولو أني استطعت خفضت طرفي

فلم أبصر به حتى أراكا

وله :

ورد الكتاب مبشرا بقدوم من

ملأ النفوس مسرة بقدومه

فطربت بالأسجاع من منثوره

وثملت بالجريال من منظومه

وسجدت شكرا عند مورده على

إسعاد هذا العبد من مخدومه

وله من فصل : من التحية عندي ما يستعير الروض من ريّاه ، ويستنير الصبح من


محيّاه ، ومن الود مالا ينقضي يومه ولا غده ، ومن الشوق ما أحر نار الجحيم أبرده. وإنا له ببلوغ الأوطار وعلو المنار على أبلغ ما يكون ، حقق الله تعالى فيه كمال ما أرتجيه ، وسرني سريعا بتلاقيه.

ومن شعره قوله :

ودعتكم ورجعت عنكم والنوى

سلبت جميع تصبّري وقراري

والجفن يقذف بالدموع ولم أكن

لو لاه أنجو من لهيب النار

وقوله :

ومن يغترر بالبشر منك فإنه

جهول بإدراك الغوامض مغرور

فإنك مثل السيف يخشى مضاؤه

إذا لمعت في صفحتيه الأسارير

ومن جيد شعره قوله من قصيدة :

من شفيعي إلى الثنايا العذاب

من عذيري من الغصون الرطاب

من مجيري مما أقاسي من

الأيام من فرط لوعة واكتئاب

من نصيري على الليالي التي ما

زلت منها ما بين ظفر وناب

أترجّى منها الخلاص فألقى

من أذاها ما لم يكن في حساب

صار منها قلبي كقرطاس رام

مزقته مواضع النشّاب

أهو البين أشتكيه وقد عا

ندني في الديار والأحباب

وكساني المشيب من قبل

أن أعرف مقدار حق الشباب *

أم هو الخطب خطّ ما جنت الأيام

من طول محنتي واغترابي

ومقامي على الهوان بأرض

أنا فيها مقوّض الأطناب

أصطلي جمرة الهجير فإن رمت

شرابا لم ألق غير سراب

ليس لي من إذا عرضت عليه

شرح حالي يرق يوما لما بي

بخستني الأيام حقي ظلما

ورمتني بالحادث المنتاب

وأضاعت بين الصدور بطرق

الفضل سعيي وجيئتي وذهابي

__________________

(*) البيت هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : ... أعرف مقدار حق ذاك الشباب.


ليت شعري ما كان ذنبي إلى

الأيام حتى قد بالغت في عقابي

وجفتني حتى لقد صرت

من كل مرام مقطّع الأسباب

وقوله من أخرى أحسن في غزلها كل الإحسان :

مهلا أبثك بعض ما أنا واجد

دمع مقر بالذي أنا جاحد

قد كان يخفى ما تكنّ ضمائري

لو لا الشؤون على الشجون شواهد

ولطالما خفيت سطور الوجد من

حالي فضل بها وغاب الناقد

ليت الذي لم يبق لي من مسعد

فيما ألاقي من هواه مساعد

لو لم يحل بيني وبين تصبري

ما بان ما أشقى به وأكابد

حال كما شاهدت عقل واله

وجوانح حرّى ووجد زائد

لله ما أشقى أخا حب له

مع وجده اليقظان حظ راقد

يوري زناد الشوق ذكراه لهم

فتشب من بين الضلوع مواقد

وآثاره كثيرة ، ولو لا خوف الإطالة لا السآمة لأوردت له جل شعره ، فإن مثل هذا الشعر لا يهمل ذكره ، ومن وقف عليه عرف كيف يكون الشعر.

وكانت وفاته بدار الخلافة في سنة أربع وخمسين وألف. ا ه.

وترجمه الشهاب الخفاجي في الريحانة وأورد له الكثير من شعره ، فمن ذلك قوله :

قد كنت أبكي على من مات من سلفي

وأهل ودي جميعا غير أشتات

واليوم إذ فرقت بيني وبينهم

نوى بكيت على أهل المودات

فما حياة امرىء أضحت مدامعه

مقسومة بين أحياء وأموات

وله مضمنا :

صب على الشنب المعسول ذاب أسى

وبات من حر نار الشوق في شعل

كالشمع يبكي ولا يدري أعبرته

من صحبة النار أم من فرقة العسل

وله رباعية :

يا جيرتنا في حلب الشهباء

من يوم فراقكم سروري نائي

قدمتّ لبعدكم غراما وأسى

لكن غلطا أعدّ في الأحياء


٩٧٤ ـ النجم محمد بن محمد الحلفاوي المتوفى سنة ١٠٥٤

محمد بن محمد الملقب نجم الدين الحلفاوي الأنصاري ، الحلبي الدار الحنفي المذهب ، خطيب جامع حلب وصدرها المستوفي أقسام النباهة والبراعة.

وكان في عصره أوحد الفضلاء وأبلغ البلغاء ، وله الصيت الذائع بالسخاوة والمروءة ووفور المهابة والفتوة.

ذكره الخفاجي في الخبايا فقال في وصفه : نجم طلع من أفق المكارم زائد الارتفاع ، ونزل منازل سعد رقي فيها عن قوس الشرف بأطول ذراع ، يقطع أوقاته في طلب الفضائل والكمال ، ولا ينزه طرفه في غير سماء خلال أو رياض جمال. فلو كان العلم بالثريا لناله ، أو بالعيوق لطاله. ثم أورد له أبياتا كتبها إلى النجم فيها سؤال نحوي ، والأبيات هذه :

أنجما أضاءت سماء الرتب

به وتسامت فخارا حلب

أخا لي واسمي أخ لاسمه

وكم من إخاء يفوق النسب

أبن كلمة قيل مبنية

بغير اختلاف لهم أو شغب

وإن نعتت كان إعرابها

بإعراب ناعتها ما السبب

فمتبوعها لم يزل تابعا

على عكس ما في لسان العرب

فدم نجم سعد برأس العلا

وطالع أعدائه في الذنب

فأجابه النجم بقوله :

أمولاي منشي لسان العرب

وقاضي دواوين أهل الأدب

ومن فضله شاع في الكائنات

ونال به ساميات الرتب

سبقت الأولى في نظام القريض

وفي كل علم بلغت الأرب

وجادت أكفك بالنائلات

وفاضت بها غاديات النشب

لعمري لقد فقت كل الأنام

بذوق حلا وبفهم ثقب

كأن المسائل قطر الندى

وفكرك كالسحب منها انسكب

وقد كنت أسمع أوصافكم

فلما تبدت رأيت العجب

وقد كنت في تعب للعلوم

فلما رأيتك زال التعب


وقد شرفت بك كل البلاد

وضاق بفضلك نادي حلب

بعثت لعبدك در النظام

وصغت له أنجما من ذهب

سكرت بخمر معان صفت

به نقط الخط مثل الحبب

تضمن لغزا ينادى بيا

شهاب بن شمس حويت الطلب

فلا زلت تنظم نثر اللآل

وتنثر من دره المنتخب

ولا زلت أنشد فيه المديح

وأطوي الزمان به والحقب

وأثني عليه بآلائه

وأقرب منه نأى أو قرب

وأذهب من نور آدابه

ظلام الدياجي وظلم النوب

مدى الدهر ما انقض نجم وما

شهاب سما من سماء الرتب

وترجمه تلميذه البديعي فقال في وصفه : إمام الفضلاء الذي به يقتدون ، وبأنواره من حنادس الشبه يهتدون ، عالم جدد رسوم البلاغة بعد أن نسجت عليها العناكب ، وأحيا ربوعها بعد أن قامت عليها النوادب ، وافتتح بصوارم أفكاره مقفلات صياصيها ، واستخرج خرائدها الممنعة بمعاقلها واسترق نواصيها. حسن سيرته ، وطهر سريرته ، وقد زها بخطابته الجامع الأكبر :

لو أن مشتاقا تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليه المنبر

* وقد نسجت أفكار شعراء العصر وشائع مفاخره ، وخلدت في دواوينها ظرائف مآثره.

ولم تزل حضرته الشريفة كعبة الجود ، وسدته المنيفة قبلة الوفود ، مع سماحة شيم ، وفصاحة كلم ، ورجاحة كرم. وقد أصاب شاكلة الصواب ، وأتى بفصل الخطاب من قال في مدحه :

لقد بت في الشهباء ما بين معشر

تهاب الليالي أن تروع لهم جارا

مقاديرهم بين الأنام شريفة

ولكن نجم الدين أشرف مقدارا

ترى البشر يبدو من أسارير وجهه

فلو جئته ليلا لأهداك أنوارا

ثم أنشد له من شعره قوله من قصيدة :

أترى الزمان يعيد لي إيناسي

ويرق لي ذاك الحبيب القاسي

__________________

(*) البيت للبحتري.


كم قد نشرت به بساط لذائذي

وهصرت من عطفيه غصن الآس

أيام لا غصن الشباب بملتو

عني ولا حبي لعهدي ناس

قطر الحيا في وجنتيه مكلل

مثل الحباب على صفاء الكاس

ساقيته طعم المدام فلم يشب

صفو الحياة بكدرة الأدناس

لم أنسه متسربلا ثوب الحيا

متبخترا في قدّه الميّاس

وقوله من قصيدة :

نثر الدر من كلامك نظما

لم نكن بعد ورده الدهر نظما

قلت : وهو ممن أخذ عن شيخ الإسلام عمر العرضي وغيره ، وتصدر للإقراء فانتفع به الجم الغفير من أهل دائرته من أجلّهم العلامة محمد بن حسن الكواكبي مفتي حلب ، والفضائل الأديب مصطفى البابي ، وشيخنا العلامة الأجل أحمد بن محمد المهمنداري مفتي الشام وغيرهم.

واجتمع به والدي في عودته من الروم سنة اثنتين وخمسين وألف وذكره في رحلته التي ألفها ، وقرظ له عليها النجم المترجم فقال بعد الحمدلة والتصلية : وبعد فلما تشرفت الشهباء بقدوم مولانا فخر الأفاضل وعمدة الأدباء الوارث سلافة المجد عن أبيه وجده ، الحائز قصبات الرهان في ميدان البلاغة بعزمه وجده ، من فاق ببلاغته نثر النظام ، وسما في متانة نظمه على البحتري وأبي تمام ، وملك ديوان الإنشاء ، ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وكان قدومه عليها ووروده إليها من دار السلطنة العليا قسطنطينية المحمية ، راتعا طيب العيش بحصول المآرب ، ناهلا من وروده على ألذ المشارب ، فأوقفني على هذه الرحلة التي تشد إليها الرحال ، وتقف عندها مطايا الآمال ، فوقفت على حديقة أريجة النبات ، وصحيفة بهيجة الصفات ، وأجلت طرفي في ألفاظ أرق من السلافة ، وألذ من الأمن بعد الإخافة ، ومعان أحلى من لعاب النحل ، وأعذب من الخصب بعد المحل ، جمعت فضائل الآداب ، وملكت معاقل الألباب ، تعرب عن بلاغة منشيها ، وتبلغ الأنفس من أمانيها ، فلا زالت الأعين من لقائها مبتهجة ، والألسن بحسن ثنائها ملتهجة ، وأمده الله بسعد لا انقطاع لحبله ، وأيده بمجد لا انصداع لشمله ، لا برح يرتع في رياض الفضائل ، ويطبق من أصول دلائله المسائل على الدلائل. انتهى.


وكانت وفاته في سنة أربع وخمسين وألف ، وجاء تاريخ وفاته (زفّت لنجم الدين حور الجنان).

والحلفاوي بفتح الحاء المهملة وسكون اللام ثم فاء بعدها ألف مقصورة. قال ابن الحنبلي في ترجمة العفيف محمد بن أبي النمر : أخبرني إنما قيل لأجداده بنو حلفاء لما أنه كان لهم أب ولد في طريق الحجاز بجوار أرض كانت تنبت الحلفاء ، ولم يكن له مهد يوضع فيه ، فكانت أمه تأخذ شيئا من ورق الحلفاء وتضعه تحت ولدها إلى أن فارقت تلك الأراضي ، فكني بأبي حلفاء. قال : فنحن بنو أبي حلفاء ، إلا أنه اختصر فقيل بنو حلفاء بحذف مضاف.

قال : وكان أمر أن يكتب في نسبه الأنصاري في آخر وقته لما بلغه أن أباه كان من ذرية حباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي ، وهو الذي ذكر ابن دريد في ترجمته في كتاب «الإسعاف» أنه شهد بدرا ، قال : وهو ذو الرأي سمي لمشورته يوم بدر ذا الرأي. ا ه.

وقال المحبي في ترجمة يوسف المعروف بالبديعي الدمشقي نزيل حلب وتلميذ المترجم المتوفى بالروم : وله أي ليوسف في مدح النجم الحلفاوي :

رويدا هو الوجد الذي جلّ بارحه

وقد بعدت ممن أحب مطارحه

هوى تاهت الأفكار في كنه ذاته

ومتن غرام عنه يعجز شارحه

منها في المدح :

إمام أطاعته البلاغة ما رقى

ذرى منبر إلا وكادت تصافحه

تعدّ الحصى والليل تحصى نجومه

ولم يحص جزءا من سجاياه مادحه

ا ه

٩٧٥ ـ أبو السعود الكوراني المتوفى سنة ١٠٥٥ ووالده محمد

أبو السعود بن محمد الحلبي المعروف بالكوراني ، الأديب الشاعر المفلق.

كان لطيف الطبع جيد الفكرة ، وله محاضرة رائقة ومفاكهة فائقة مع حداثة سنه وطراوة عوده.


وشعره عليه طراوة وفيه عذوبة ، وقفت له على قصيدة غراء فريدة زهراء مطلعها :

أجل إنها الآرام شيمتها الغدر

فلا هجرها ذنب ولا وصلها عذر

ففز سالما من ورطة الحب واتعظ

بحالي فإن الحب أيسره عسر

وقد هاجني في الأيك صدح مغرّد

به حلّت الأشجان وارتحل الصبر

يذكرني تلك الليالي التي انقضت

بلذة عيش لم يشب حلوه مرّ

سقيت ليالي الوصل مزن غمامة

فقد كان عيشي في ذراك هو العمر

فكم قد نعمنا فيك مع كل أغيد

رقيق الحواشي دون مبسمه الزهر

لقد خطّ ياقوت الجمال بخده

جداول من مسك صحيفتها الدرّ

وروض به جر الغمام ذيوله

فخرّ له وجدا على رأسه النهر

وقد أرقص الأغصان تغريد ورقه

وأضحك ثغر الزهر لما بكى القطر

وضاع به نشر الخزامى فعطّرت

نسيم الصبا منه ويا حبذا العطر

بدائع من حسن البديع كأنها

إذا ما بدت أوصاف سيدنا الغرّ

ومن مقاطيعه قوله :

كأنما الوجه والخال الكريم به

مع العذار الذي اسودّت غدائرة

بيت العتيق الذي في ركنه حجر

قد أسبلت من أعاليه ستائره

وله غير ذلك.

وكانت وفاته بحلب سنة ست وخمسين وألف.

وأبوه محمد شاعر مثله ، حسن السبك دقيق الملاحظة. ولقد سألت عن وفاته كثيرا من الحلبيين فلم أظفر بها ، فلهذا لم أفرده في هذا الكتاب بترجمة ، وذكرته هنا رغبة بتطريز هذا التاريخ بشعره ، وما أورده له قد ذكر غالبه البديعي ولم يوفه حقه ، فمما أورده له قوله :

بدر أدار على النجوم براحه

شمسا فنارت في كؤوس رحيقه

شمس إذا طلعت كأن وميضها

برق تلألأ عند لمع بريقه

يسقي وإن عزت عليه ورام أن

يشفي لداء محبه وحريقه

فيديرها من مقلتيه وتارة

من وجنتيه وتارة من ريقه


وقوله :

عجبت لما أبداه وجه معذبي

من الحسن كالسحر الحلال وأسحر

بوجنته ياقوت نار توقدت

عليها عذار كالزمرد أخضر

وقوله مضمنا :

مليك جمال أنبت العز خده

نباتا له كل المحاسن تنسب

فكررت لثم الخد منه لطيبه

وكل مكان ينبت العز طيب

* وقوله :

ومهفهف لدن القوم ووجهه

قمر تقمص بالعذار الأخضر

فتق العذار بخده فكأنما

فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر

وترجم الشيخ محمد العرضي أبا السعود فقال : هلال فضل بزغ ، وفرع مجد نبغ ، وزهرة عاجلها القطع وهي كمام ، وقمر رماه الخسوف قبل أن يصير بدر تمام. فيا له من كوكب استهل ميلاده بالسعود ، وشفع شرف الأجداد بإقبال الجدود. حصل طرفا من العلم والأدب الغض ، ما يفوح عطره متى مس مسك ختامه بالفض ، مع الخط المخجل ريحانه لزهر الرياض ونور الغياض ، ما تحسد عليه كل الجوارح عندما تتملى به المقلة ، وتنعقد على حسنه الخناصر ويغبّر به في وجهه ابن مقلة. إلا أنه لم تطل أيام مدته ، ولم تسمح له بالتجافي عن مهجته ، حتى رمي بدره بالمحاق ، وهو إذ ذاك في كن الصبا يرسف من الحداثة في وثاق ، فانتقل إلى جوار به بالطاعون في سنة ٥٦ ، فما أحقه بقول أبي تمام :

عليك سلام الله وقفا فإنني

رأيت الكريم الحر ليس له عمر

وها أنا كاتب من شعره الرقيق ، كل بيت جديد يليق تعليقه بالبيت العتيق ، مثل قوله متغزلا (بدر أدار على النجوم براحه) الخ الأبيات التي نسبها العلامة المحبي لوالده محمد وهي له لأن رب البيت أدرى.

وترجم العرضي أيضا محمدا والد أبي السعود فقال : محمد تاج الدين بن محيي الدين الكوراني. كان أبوه وجده من زمرة العدول ، الذين ليس لهم عن دائرة الشرع حيد ولا عدول ، ولهما الدربة في التوريق وكتابة الصكوك ، بحيث تبرز وثائقهما بروز السيف المحلّى

__________________

(*) عجز البيت للمتنبي ، وصدره : وكل امرىء يولي الجميل محبب.


والتبر المسبوك. وصاحب الترجمة قد أربى عليهما بقول الشعر والقريض ، وكلمات كالثنايا أو كالدر والإغريض.

وثناياك إنها إغريض

ولآل توم وبرق وميض

* وقد سافر إلى دار السلطنة العليا مرات ، وانتظم في سلك القضاة بل السيوف المنتضاة. وفي سفرته الأخيرة تولى قضاء سرمين ، وفي خلاله بغته الحين ولات حين.

وقد كتبت له من شعره الرقيق المقصور على الغزل ، ما لو سمعه عمر بن أبي ربيعة لبخخ وحيهل ، ما هو من شرط كتابي هذا مثل قوله :

ومهفهف كملت محاسن وجهه

من فوق غصن قوامه المتمايل

وبدا طراز عذاره فكأنه

بدر الخسوف ببدر تمّ كامل

وقوله :

لما تأمل بدر التمّ عارضه

وقد بدا في محيّا نوره سطعا

بدا به غيرة خسف وشبّهه

كأنه في محياه قد انطبعا

ا ه

٩٧٦ ـ أحمد بن محمد الحسني النقيب المتوفى سنة ١٠٥٦

السيد أحمد بن محمد الحسني المعروف بابن النقيب الحلبي ، الأديب المفنن البارع المشهور.

ذكره البديعي في «ذكرى حبيب» فقال في حقه : عنوان الفضل وبسملة كتابه ، وفصل خطابه وفذلكة حسابه ، وسهام كنانته ودلاص عيا به ، ورواء الشهباء فخامة وجلالا ، ووسامة وإقبالا. وقد جمع الله له أسباب السعادة ، كما قصر عليه أدوات السيادة ، وهو في اقتناء السودد فريد ، وإنه لحب الخير لشديد ، ومنزلته في النظم رفيعة ، وطريقته في النثر بديعة ، ينظم فينثر الدرر ، وينثر فينظم الغرر ، وحاشيته على الدرر تشهد بأن الواني وان ، وحبرية أثر نقسه وبراعته برهان حق على مين مان. فكم نمقت أفكاره في غلس الديجور ، ما هو أوقع في النفوس من حور الحور ، وقيدت بسلاسل السطور ،

__________________

(*) البيت لأبي تمام ، وفي الأصل : ... ولآل قدم ، والصواب ما أثبتناه


وشوارد يقتبس منها مشكاة الهدى والنور ، وهو الآن للأدب وأصوله ، وأنواعه وفصوله ، إمام أئمته ، ومالك أزمته ، ويروي غليل الأفهام سلسال تقريره ، وتحلي أجياد الأقلام عقود تحريره. انتهى.

(قلت) : وقد رأيت خبره مفصلا في بعض كتبه إلى السيد عبد الله الحجازي رحمه‌الله تعالى من تراجم الحلبيين. قال : ولد بحلب وبها نشأ ، وأخذ عن العلامة عمر العرضي وغيره ، وتأدب بإبراهيم بن المنلا وبرع ، ورحل إلى قسطنطينية وولي القضاء برهة ، ثم تقاعد عن رتبة القدس ، وولي نيابة القضاء بحلب. وكان له إحاطة تامة بأنواع الفنون. وقرأ عليه جماعة من مشاهير فضلاء حلب وبه انتفعوا. وألف حاشية على الدرر والغرر في الفقه وأجاد فيها جدا ، واطلعت أنا له على تحريرات كثيرة تدل على دقة نظره وغزارة فضله.

وأما شعره ونثره فإليهما النهاية في الحسن ، فمن شعره قوله من قصيدة :

سقى الله عيشا مر في زمن الصبا

وحيّاه عني بالعبير نسيم

ودهرا بقسطينية قد قطعته

إذ السعد عبد لي بها وخديم

بلاد هي الدنيا إذا ما قطنتها

فوجه الأماني مسفر ووسيم

وما هي إلا جنة الخلد بهجة

وما غيرها إلا لظى وجحيم

فكم في مغانيها قضيت لبانة

وزالت عن القلب الكليم هموم

وقرب أبي أيوب كم روضة إذا

حللت بها يوما فلست تريم

تقول إذ شاهدت عالي قصورها

أهذي جنان زخرفت ونعيم

جرى ماؤها كالسلسبيل فمثلها

إذا ما تذكرت البقاع عديم

كستها الغوادي حلة سندسية

وأهدى شذاها للنفوس شميم

وبالسفح سفح الطوبخانة أربع

لها النسر في جوّ السماء نديم

تلوح بها الغيد الصباح كأنما

علوا وإشراقا تلوح نجوم

يقابلها ذاك الخليج بصفحة

كأن لها متن السماء خديم

ترى السفن فيها جاريات كأنها

جياد فمنها سابق ولطيم

وعند الحصارين المنيعين جيرة

حديث علاهم في الأنام قديم

عجبت لأيامي بهم كيف لم تدم

وهل دام شيء غيرها فتدوم


وكتب لبعض الكبراء مع قطاع من الصيني أهداها له قوله :

إن قصّر الداعي وأهدى بلا

روية محتقرا نزرا

من عمل الصين قطاعا أتت

لا تستحق الوصف والذكرا

فاعذر فقد أهدى إليك الثنا

عقدا نظيما يخجل البدرا

وكتب مع أخرى يعتذر عن هدية قوله :

وهديت اليسير فانعم وقابل

نزره بالقبول والإمتنان

فلو ان العيوق والشمس و

البدر مع الفرقدين في إمكان

كنت أهديتها وقدمت عذرا

ورأيت القصور مع ذاك شاني

وقال من فصل وهو مما يختار للكاتب مع الهدايا : قد جرت العادة بمهاداة الخدم للسادة رجاء أن يجدّدوا لهم ذكرا ، وإن كانت الهدية شيئا نزرا ، ولهم في ذلك أسوة بالسحاب إذا أهدى القطر إلى تيار البحر ، وبالنسيم إذا أهدى النشر إلى حديقة الزهر.

وله من قصيدة يخاطب بها صديقا له :

تزول الرواسي عن مقر رسومها

وودي على الأيام ليس يزول

ولست بمن يرضيه من أهل ودّه

خفيّ وداد في الفؤاد دخيل

إذا لم يكن في ظاهر المرء شاهد

على سره فالود منه عليل

أأرضى بود في الفؤاد مغيّب

وليس إلى علم الغيوب سبيل

وأقبل عن هجري اعتذرا مزيّنا

تمحّلته إني إذا لجهول

لعمرك قد حركت ما كان ساكنا

وعلمتني بالغيب كيف أصول

وكتب إلى الغلامك البوسنوي يودعه حين توجه إلى الروم من حلب من غير عزل وأقامه مقامه :

ركابك مقرون بعز وإقبال

وسيرك ميمون بطالعك العالي

رحلت فأضرمت القلوب بجمرة

وكل بما أوريت من حرها صالي

وغادرتنا حلف التأسف والأسى

نبيت بآلام ونغدو بأوجال

إذا ما تذكرنا زمانك والذي

جنيناه فيه من جنى كل إفضال

تمزّق درع الصبر عنا تلهفا

عليه ولم نبرح رهائن بلبال


فما أنت إلا الغيث نخصب إن دنا

ونجدب إمّا همّ عنا بترحال

وقد كانت الشهباء لما حللتها

تجرّ مروط العز ناعمة البال

وتفخر إعجابا وما ذاك بدعة

فكم من عرين نال فخرا برئبال

فصارت وقد أعرضت عنها خلية

عن العدل والإنصاف في أسوأ الحال

كأن امرأ القيس انتحالها بقوله

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

وقال يخاطب بعض أصحابه بقوله :

رويدك شأن الدهر أن يتغيّرا

وشيمته إما صفا أن يكدّرا

وعادته الشنعاء في الناس أنه

إذا جاء بالبشرى تحوّل منذرا

فلا بؤسه يبقى وأما نعيمه

فكالطيف إذ نلقاه في سنة الكرى

فلاتك مسرورا إذا كان مقبلا

ولا تك محزونا إذ هو أدبرا

فأي دجى همّ دهاك ولم تجد

صباحا له بالبشر وافاك مسفرا

وقد هزلت أيامنا فلو انها

أتتنا بجد كان للهزل مظهرا

ومنها :

وليس يعيب البدر فقدان نوره

إذا كان بعد الفقد يظهر مقمرا

وكتب إلى بعض الموالي يودعه :

إمامك التوفيق والرشد

وخدنك التأييد والسعد

وكلما حليت في منزل

قابلك الإقبال والجدّ

رحلت عن شهبائنا فانزوى

الفضل بها وانطمس المجد

من بعد ما أجريت عدلا بها

فيه تساوى الحر والعبد

فكنت مثل الشمس ما شانها

بالنور إلا الأعين الرمد

وكنت مثل الورد ما زرتنا

حتى ترحّلت كذا الورد

لا بل كريعان الصبا سرّنا

حينا ولكن ساءنا الفقد

فاذهب فأنت الغيث ما حلّ في

منزلة إلا له حمد

وله في غاية الجودة :


لدواة داعيكم مداد شاب من

جور الزمان وقد رثت لمصابه

فأتت تؤمل فضلكم وتروم من

إحسانكم تجديد شرخ شبابه

وكتب صدر رسالة :

أيها الفاضل الذي خصه الله

من الفضل والحجى بلبابه

إن شوقي إليك ليس بشوق

يمكن المرء شرحه في كتابه

وكتب إلى السيد محمد العرضي قبل توجهه إلى الروم :

ما زلت محسودا على أيامكم

حتى غدوت ببعدكم مرحوما

ومن البلية قبل توديعي لكم

أصبحت رزقا للنوى مقسوما

فأجابه وكان محموما :

وافى الكتاب وكنت قبل وروده

من خوف ذكر فرافكم محموما

هذا ولي أمل بصرفة عزمكم

عنه فكيف إذا غدا محتوما

وله :

إن شوقي يجل عن أن يودّي

بعض أوصافه لسان اليراع

وكتب لمن أعاره مجموعا :

مولاي هب أن المحب فؤاده

هبة مسلمة بغير رجوع

فاقنع فديتك بالفؤاد تفضلا

وانعم ولا تتبعه بالمجموع

قلت : مما يناسب هذا المضمون ويحسن موقعه عنده في المماطلة بمجموع أن الصدر تاج الدين أحمد بن الأمير الكاتب استعار مجموعا من مجاهد الدين بن شقير وأطال مطله به ، فاتفق يوما أن حضر إلى ديوان المكاتبات ، فقال له ابن الأمير : كيف أنت يا مجاهد الدين؟ والله قلبي وخاطري عندك ، فقال له : والله وأنا مجموعي عندك ، فطرب لها الحاضرون.

ومن رباعيات ابن النقيب قوله :

يا من اخترت لي حبيبا قبله

يا من صيرت حسنه لي قبله


روحي لك قد أخذتها خالصة

فاجعل ثمن المبيع منها قبله

ولما انتقل أخوه بالوفاة كتب إلى أبي الوفاء العرضي وكان أصيب بولديه قوله :

رزء ألمّ وحسرة تتوالى

ومصيبة قد جرّت الأذيالا

وجليل خطب لو تكلّف حمله

ثهلان ذو الهضبات دكّ ومالا

وفراق إلف إن أردت تصبرا

عنه أردت من الزمان محالا

وغروب عين ليس تفتر دائما

عن سكب رقراق الدموع سجالا

بعدا لدهر شأنه أن لا يرى

إلا خؤونأ غادرا محتالا

نغتر فيه بالسلامة برهة

ونرى المآل تمحّقا وزوالا

ويعيرنا ثوب الشبيبة ثم لم

يبرح به حتى يرى أسمالا

قبّحت يا وجه الزمان فلا أرى

لك بعد أن فقد الجمال جمالا

ذاك الذي قد كان قرة ناظري

وقرار قلبي بل وأعظم حالا

قد كنت أرجو أن يؤخّر يومه

عني ويحمل بعدي الأثقالا

ويذوق ما قد ذقته لفراقه

ويمارس الأهوال والأوجالا

فتطاولت أيدي المنية نحوه

وبقيت فردا أندب الأطلالا

كنا كغصني بانة قطع الردى

منا الأغضّ الأرطب الميّالا

أو كاليدين لذات شخص واحد

كان اليمين لها وكنت شمالا

أسفي عليه شمس فضل عوجلت

بكسوفها وعماد مجد مالا

لا كان يوم حمّ فيه فراقنا

فلقد أطال الحزن والبلبالا

فسقى ضريحا حله صوب الحيا

في كل وقت لا يغيب وصالا

ومنها :

هيهات من لي بالرثاء وفقده

لم يبق فيّ بقية ومجالا

أفحمتني يا رزأه من بعد ما

كنت الفصيح المصقع القوّالا

من لي بطبع اللوذعي أبي الوفا

ذاك الذي بالسحر جاء حلالا

مولى إذا وعظ الأنام رأيته

يلقي على كل امرىء زلزالا

بزواجر لو أنه استقصى بها

أهل الضلال لما رأيت ضلالا


مولاي يا صدر الزمان ومن غدا

لبنيه غوثا يرتجى وثمالا

ذي نفثة المصدور قد سرّحتها

لحماك تشكو بثّها إدلالا

إن المصيبة ناسبت ما بيننا

إذ حوّلت بحلولها الأحوالا

فثكلت مخدومين كل منهما

قد كان في أفق السعود هلالا

لو أمهلا ملأا العيون محاسنا

وكذا القلوب مهابة وكمالا

ولكان هذا للمعالي ناظرا

ولكان هذا في طلاها خالا

خطفتهما أيدي المنون وغادرت

ماء العيون عليهما هطّالا

فأجابه بقصيدة منها :

لهفي على بدر تكامل بعدما

قد سار في ذاك الكمال هلالا

أعظم به رزأ أتاح مصائبا

فتّ القلوب ومزّق الأوصالا

ما كنت أعلم قبل حمل سريره

أن الرجال تسيّر الأجبالا

وعجبت للبحر المحيط بحفرة

هل غاب حقا أو أراه خيالا

يا دافنيه من الحياء تقنعوا

غيبتم شمس الغداة ضلالا

عهدي الغمام حجابها مالي أرى

أضحى الحجاب جنادلا ورمالا

وكتب إليه في هذا الشأن قوله :

خطب يقرب دونه الآجالا

ويمزّق الأحشاء والأوصالا

فدع الجفون تجود إن نضبت سحا

ئب دمعها فيه دما هطّالا

أفلت نجوم الفضل من فلك العلا

ووهى ثبير المكرمات ومالا

فقدت أولو الألباب ذا المجد الذي

عدموا بفقد حياته الإقبالا

فقدوا حليف الفضل من بكماله

وحجاه كنا نضرب الأمثالا

من شاء للعلياء يسع فإن من

كانت له بالأمس ملكا زالا

ومنها :

أعزز علي بأن أرى رب الفصاحة

والبلاغة لا يجيب سؤالا

ما كنت أعلم قبل يوم وفاته

أن الكواكب تسكن الأرمالا

ما كنت أحسب أن أرى من قبله

للشمس من قبل الزوال زوالا


ومنها :

صبرا على ما نالني في يومه

كالصبر منه به على ما نالا

ملأ القلوب من الأسى ولطالما

ملأ العيون مهابة وجلالا

لو لا أخوه أبو الفضائل أحمد

لرأيت أندية العلا أطلالا

الكامل الفطن الذي عرفانه

إن صال تلقاه ظبى ونصالا

ومنها :

ما رام بدر التمّ مثل كماله

إلا وصيّره المحاق هلالا

مولاي يا ابن الراشدين ومن لهم

شرف على هام السماك تعالى

صبرا فإن الدهر من عاداته

يدني النوى ويحوّل الأحوالا

وقد اقتفى أثر الشريف الرضي في قصيدته التي رثى بها الصاحب ابن عباد ومطلعها :

أكذا المنون تقنطر الأبطالا

أكذا الزمان يضعضع الأجيالا

وهي طويلة جدا فلا حاجة بنا إلى إيرادها.

ولابن النقيب غضة الشغوف ، منها قوله : حضرة تقلدت أعناق الرجال بقلائد بعمها ، وتدبجت رياض الآمال بهواطل سحب كرمها ، وطافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقها وعلومها ، وسعت أفكار بني الآداب بين صفا منشورها ومروة منظومها. لا برحت الأيام باسمة الثغر بمعاليها ، والأنام حالية النحر بأياديها. (وكقوله) :

وهو صدر الدنيا وركن العليا ، وواسطة عقد ورثة الأنبياء ، وواحد هذا النوع الإنساني من الأحياء ، دعوى لا يدخل بيّنتها وهم ، ونتيجة لا يشين مقدماتها عقم. فإنّ من كان صدر بني هاشم ، وشنب ثغرهم الباسم ، وهم في الرفعة والمنعة كان أجل موجود ، وأعظم من في الوجود. (وكقوله) :

قسما بمن جعل محاسن الدنيا في تلك الذات محصورة ، وأسباب العليا على ملازمة عتباتها مقصورة ، إن عقد عبوديتي عقد لا تتطاول إليه الأيام بفسخ ، وعهد مودتي عهد لا تتوصل إليه الحوادث بنسخ ، وكيف يفسخ وصورته في الجنان مجلوّة ، أم كيف ينسخ وسورته في كل حين باللسان متلوة. ولعمري مهما نسيت فإني لا أنسى أيامي في خدمتها ،


والتقاطي الدر من مذاكرتها ، وما كان بيننا من المصافاة التي هي مصافاة الماء مع الراح ، وما يجري بيننا من المفاوضة التي هي في الحقيقة مفاوضة الورد مع التفاح. وعلى كل حال فلا عوض لنا عنها إلا ما تنقله الركبان من أخبار سلامتها ، وما تودعه في صدفة آذاننا من جواهر آثار عدالتها. لا جرم أنه كلما تعطرت مجالسنا بشيء من ذلك ، دعونا الله عزوجل فيما هنالك ، بأن يزيد باع عدلها امتدادا ، وشعاع فضلها سطوعا وازديادا ، وأن يبلغها أقصى ما تطمح إليه عين طامحة ، أو تجنح نحوه نفس جانحة. هذا والمتوقع من كرمها ، كما هو المألوف من شيمها ، أن لا تخرجنا من ضميرها المنير ، وأن تعدّنا في جريدة من يلوذ بمقامها الخطير. والله تعالى يبقي لنا تلك الذات سامية الركاب عالية القباب ، في رفعة دونها قاب العقاب.

وبالجملة فمحاسن هذا السيد كثيرة ، وأشعاره ومنشآته عزيرة ، فلنكتف بهذا المقدار.

وكانت وفاته في سنة ست وخمسين وألف وعمره ثلاث وخمسون سنة ، حتى إنه كان يقول في مرض موته : أحمد واقعة الحال. رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وترجمه الشهاب في الريحانة فقال : سيد عجنت طينته بماء الوحي والنبوة ، وغرست نبعته في ساحة الفضل والفتوة ، له مناقب هي الوشي حسنا وبهجة (إذا نشرت كانت ممسّكة النشر) وغرائب رغائب في الكرم واضحة المحجة (يظل بها مستعبد النظم والنثر). اجتليت بحلب محياه ، فأكرمني بجوده ونداه ، ومدحته شكرا لما أولاه :

وكذا الهاشميّ مثلك لا

يمدح إلا بها شميّ الكلام

فاستعار ديواني واشتغل بمطالعته وانتخابه ، وفي أثناء ذلك دعوته فلم يجب ، ثم لاقيته فاعتذر بعد عتابه ، بأن اشتغاله بالديوان منع من الملاقاة ، فأنشدني هذه الأبيات :

وحقك لم أترك زيارة سيدي

للوّ يعوق النفس عنه ولا ليت

ولكن بديوان له قمت خادما

وقد كان فكري قبل ذلك كالميت

فأدهشني حسن به ظلت حائرا

فأدخل في بيت وأخرج من بيت


٩٧٧ ـ يحيى الصادقي المتوفى بين سنة ١٠٥٠ و ١٠٦٠

السيد يحيى الشهير بالصادقي الحلبي ، الأديب اللطيف.

ذكره البديعي فقال في وصفه : هو مع شرف الأصل ، جامع بين أدوات الفضل ، صافي ورد الأخوة ، ضافي برد الفتوة ، مطبوع على التواضع والكرم ، معروف بحسن الأخلاق والشيم ، وكلامه ليس به عثار ، ولا عليه غبار ، كما قيل فيه :

وإن أخذ القرطاس خلت يمينه

تفتّق نورا أو تنظّم جوهرا

وهو الآن في الشهباء فارس ميدانها فضلا ، وناظر إنسانها نبلا. ثم قال : وأذكر ليلة من الليالي خيلت لحسنها ليلة القدر ، رقد عنها الدهر إلى أن انتبه الفجر ، في منزل حف بأمراء النظم والنثر ، منه بدر ترمقه المقل ، فتجرح منه مواقع القبل ، أفرغ في قالب الجمال ، ولم يوصف بغير الكمال. واتفق أنه بدد نارا هنالك بغير اختياره ، فقال الصادقي :

ضمّنا مجلس لتاج الموالي

عالم العصر بكر هذا الزمان

غرة الدهر أحمد ذو الأيادي

وابن خير الأنام من عدنان

بفريد الحسان خلقا وخلقا

عندليب الأخوان نور المكان

فانثنى كالقضيب تفديه نفسي

عابثا بالسياط والمجان

فأصاب الكانون سوط فطار

الجمر من وقعه على الأخوان

فسألنا ماذا فقال نثار

الحب جمر ولا بدرة من جمان

واعتراه الحيا فأخمدها

من غير بؤس بساعد وبنان

ففرقنا عليه منها فنادى

وكذا النور مخمد النيران

وقال فيه أيضا :

لاموا الذي حاز لطفا

وبهجة وجلاله

إذ بدد النار عمدا

ليلا وأبدى الخجاله

وضاع في البسط شهبا

إذ كان بدرا بهاله

وكفّل الطفي يمنا

ه تارة وشماله


كذلك الشمس تدني

لكل نجم زواله

فقلت لا تعذلوه

دعوه يوضح حاله

بأنه بدر تمّ

حينا وحينا غزاله

* وقال :

أنشدت من أهوى وقد أخذ الهوى

بمجامعي واستحوذ استحواذا

كبدي سلبت صحيحة فامنن على

رمقي بها ممنونة أفلاذا

فأشار للكانون فانثالت على

الجلاس جمرا وابلا ورذاذا

وبدا يكفكفه حيا ويقول لي

من كان ذا لب أيطلب هذا

فقال السيد أحمد النقيب :

قد قلت إذ عثر الذي ألحاظه

فعلت بنا فعل الشمول مشعشعه

في مجلس بالنار فانتشرت على

بسطي فكلله الحياء وبرقعه

وأكبّ يرفع غيها بأكفه

مستعظما ذاك الصنيع وموقعه

جمرات حبك لو علمت بفعلها

في القلب ما استعظمت حرق الأمتعه

وقال فيه أيضا :

لا تحسب النار التي ما بيننا

نثرت من الكانون كان شتاتها

بل إنما ذاك الذي ألحاظه

سلبت عقول أولي النهى فتراتها

لما رأى عشاقه تخفي الهوى

ولهيب نار رابه زفراتها

وأراد يفضحها أشار بكفه

لقلوبها فتناثرت جمراتها

وقال فيه الشيخ عبد القادر الحموي :

إن الذي أخجل شمس الضحى

في منزل المولى الرفيع العماد

بدد نارا كان للإصطلا

فانبثّ كالياقوت بين الأياد

فانصاع يزوي الجمر في أنمل

كالخزّ إن حاولت منها انعقاد

وقال إذ رامت بتأجيجها

تحكي سنا خدي ومنك الفؤاد

__________________

(*) الغزالة : الشمس.


نثرتها عمدا على بسط من

أروى نداه كل غاد وصاد

وولاه بعض قضاة حلب نيابة محكمة السيد خان بها ، فكتب إليه :

أصبحت مع الشمس ببرج الميزان

إذ أنزلني الهمام بالسيد خان

لكن وعلاك كل من ناب يخن

والعبد يعاف كلمة السيد خان

ا ه.

٩٧٨ ـ مصطفى العلبي المتوفى ما بين سنة ١٠٥٠ و ١٠٦٠

مصطفى المعروف بابن العلبي ، مفتي الحنفية بحلب ورئيسها السامي المكانة.

نبغ من بين قومه متفردا بشعار العلماء ، فإن أهله كلهم تجار ، غير أن لهم رياسة قديمة في التجارة والتمول.

وكان سافر إلى الروم وانحاز إلى شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ولازم منه وتقرب إليه كل التقرب. وكان الشيخ أبو اليمن مفتي حلب لما قارب الوفاة فرغ لابنه إبراهيم المقدم ذكره عن الفتوى ، فلما أرسل عرضه إلى دار السلطنة كان صاحب الترجمة بها ، وكان يتطلب من شيخ الإسلام أمورا يستصعبها ، فوجد الفتوى أسهل وأنفع له ، فوجهها إليه مع المدرسة الخسروية ولم يعتبر عرض القاضي. ثم قدم إلى حلب مفتيا ورأس بها وعلت حرمته. ثم لما جاء السلطان مراد إلى حلب وفي صحبته شيخ الإسلام المذكور أراد الشيخ إبراهيم الشكاية إلى السلطان باعتبار أنه أعلم من صاحب الترجمة ، فوجد لشيخ الإسلام اليد الطولى عند السلطان ، فعرض الأمر عليه ، فزجره زجرا عنيفا ثم قال له : مهما أردت من المناصب أسعى لك فيه إلا الفتوى. فلم يقبل شيئا حنقا.

ثم أضاف شيخ الإسلام لابن العلبي صاحب الترجمة قضاء إدلب الصغرى ، ولم ينل هذه الرتبة من تقدمه من مفتية حلب خصوصا ولا الأخوة الثلاث أبو الجود ومحمد وأبو اليمن مع اتساع علومهم ورفعة مقامهم ، وابن العلبي هذا بالنسبة إليهم في الفضل بمثابة تلميذ لهم ، بل ولا تتأتى له هذه المثابة ، فإنه كان مشهورا بالجهل ، وكان في أمر الفتاوي إنما هو صورة ممثلة ، والذي ينظر في أمرها رجل كان يكتب له الأسئلة يعرف بابن ندى.

ومن غريب ما وقع لصاحب الترجمة أنه حضر يوما الجامع ، فأحضرت جنازة فقدم


للصلاة عليها إماما ، فكبر خمسا ، فقال فيه السيد أحمد بن النقيب هذه :

ومذ مصطفى صلى صلاة جنازة

وكبّر خمسا أعلن الناس لعنه

فقلت اعذروه إنه قلّد الندى

ومن قبل في الفتوى لقد قلّد ابنه

يشير إلى قول أبي تمام في قصيدته التي رثى بها إدريس بن بدر ومطلعها :

دموع أجابت داعي الحزن همّع

توصّل منا عن قلوب تقطّع

إلى أن قال :

ولم أنس سعي الجود خلف سريره

بأكسف بال يستقيم ويطلع

وتكبيره خمسا عليه معالنا

وإن كان تكبير المصلين أربع

وما كنت أدري يعلم الله قبلها

بأن الندى في أهله يتشيع

وقوله : ومن قبل في الفتوى إلخ إشارة إلى كاتب أسئلته الذي ذكرناه على طريق الاستخدام ، وهذا المقطوع من سحر الكلام.

٩٧٩ ـ محمد بن عبد الوهاب المهمندار المتوفى سنة ١٠٦٠

محمد بن عبد الوهاب بن تقي الدين المعروف بابن المهمندار الحلبي الحنفي ، والد شيخنا العالم الفهامة أحمد مفتي الشام الآن ، وزبدة من بها من العلماء ذوي الشان. لا برحت فضائله ملهج ألسنة الوصاف ، وفواضله مظنة الإطراء والإتحاف.

كان المذكور من أشهر مشاهير العلماء ، له بسطة باع في الفنون ، ويد طائلة في التحرير والتهذيب. قرأ بحلب على علمائها الأجلاء ، منهم الشيخ عمر العرضي ، وخرج وهو متقن متضلع. ودخل دمشق في سنة أربع وثلاثين وألف ، ثم هاجر إلى الروم وتوطنها ودرس بها العلوم وانتفع به جماعة. ثم لازم من المولى يحيى وصيّره شيخا لابنه المولى عبد القادر ، ثم استخلصه المولى صادق محمد بن أبي السعود لنفسه وقرأ عليه وانتفع به ، وبه شاع ذكره واشتهر بين موالي الروم. ثم درس بمدارس الخلافة إلى أن وصل إلى مدرسة والدة السلطان مراد فاتح بغداد ، وولي منها قضاء مدينة أيوب.


وله من التآليف رسالة في المعاني ، وله تحريرات كثيرة وتنميقات لطيفة.

وكانت وفاته وهو قاض بأيوب في سنة ستين وألف عن اثنتين وستين سنة رحمه‌الله تعالى.

٩٨٠ ـ محمد بن أبي بكر التقوي الحراكي المتوفى سنة ١٠٦١

السيد محمد الشهير بالتقوي الحلبي الفاضل ، الأديب الحكيم البارع.

ذكره البديعي وقال فيه : حديث مجده قديم ، يغني عن الكاس والنديم ، ودر كلمه النظيم ، جار على أسلوب الحكيم. وقد عام في لجج دراية الأفلاك ، ووقف على ساحل نهاية الإدراك ، وابتدع من الأشياء العجاب ، ما لم يبتدعه قبله ابن داب. وله خط كأنه در ، تزينه ألفاظه الغر. ثم أنشد قوله :

قد جدد الشوق الشديد خيالكم

بجوارحي وضمائري وسرائري

فإذا نظرت إلى الوجود رأيتكم

في كل موجود عيان الخاطر

وقوله :

قد قسّم الحب جسمي في محبتكم

حتى تجزّا بحيث الجسم ينقسم

وما تصورت موجودا ومنعدما

إلا خيالكم الموجود والعدم

وقوله من قصيدة طويلة مدح بها الوزير نصوح باشا ومطلعها :

حيّاك سرحة دارة الآرام

وحباك ديمة مزنة وغمام

إلى أن قال فيها :

ذاك النصوح أبو الوزارة من رقى

فلك العلا وعلا على بهرام

ومنها :

تجري الأمور بوفق ما يختاره

ويطيعه العاصي بكل مرام

فكأنما الأقدار طوع يمينه

بعد المهيمن في قضا الأحكام

قطب تدور عليه دولة أحمد

ملك الدنا بالحل والإبرام


هابته أنفاس النفوس بأسرها

في الناس بعد العالم العلام

ولبأس شدّته الأسود تشردت

وتسترت في الغاب والآجام

ومنها :

يلقاك بالبشر الذي من نشره

ريح المنى يسري بطيب بشام

بخلائق تكسو الرياض خلائقا

فتضيع ريا مندل وخزام

ويريك من رضوان عدل جنة

فيها لحرب البغي نار ضرام

ومنها :

يا أيها الطود العظيم وصاحب

الطول الجسيم وجوشن الإسلام

ألبست من حلل الوزارة خلعة

قنع الألى منها بطيف منام

ومنها :

ما دار في فلك المدير مداره

إلا لنصرك في ألذ خصام

إلى أن قال في آخرها :

كتبت مدائحك الليالي أشطرا

تبقى بقيت على مدى الأيام

وقلت أنا الفقير في ترجمته : حكيم أخذ حظه من الحكمة فنطق بها والحكمة حظ النفس الناطقة ، فما سرى ذهنه في استقصاء غرض إلا وكانت الصحة له موافقة؟؟؟ عالج نسيم الصبا لما اعتل في سحره ، والجفن المريض لزانه وزاد في حوره.

ولو أنه طب الزمان بعلمه

لبرّاه من داء الجهالة بالعلم

حكى لي المرحوم السيد عبد الله الحجازي قال : رأيته وقد ملك كامل الصناعة ، وبلغ الغرض في البلاغة والبراعة ، وأملى مالا يسع ، واعتدلت معه الطبائع الأربع ، وفصل الموجز بفصيح العبارات ، وعلم الأسباب منها والعلامات ، فأويت منه إلى فاضل جمع شمل الفضل بعد شتاته ، وردّ في جسد الأدب روح حياته ، وأخذت عنه جملة من فنونه ، وتمتعت حينا بمصونه ومخزونه. وكان على أسلوب الحكيم ، ومشرب النديم ، ولهذا كثر القول في اعتقاده ، حتى صرح كثير بإلحاده. وقد وقفت له على قصيدة أثبت منها هذا القدر ، ومستهلها قوله :


سرت والليل محلول الوشاح

ونسر الجو مبلول الجناح

وعقد الزهر منتظم الدراري

كثغر البيض يبسم عن أقاح

وزاهي الروض أسفر عن زهور

بها ظمأ إلى ماء الصباح

كأن كواكب الظلماء روم

على دهم تهب إلى الكفاح

إذا انعكست أشعتها تردت

على صفحات غدران البطاح

تحاول ستر مسراها بوهن

وقد أرجت برياها النواحي

فوا عجبا أتخفى وهي بدر

وشمس في الحظائر والضواحي

أما علمت عبير المسك منها

ينم بها إلى واش ولاح

مهفهفة يغار البدر منها

ويخجل قدها هيف الرماح

تمازج حبها بدمي وروحي

مزاج الراح بالماء القراح

فأصبح في الملا طبعي وخلقي

وما في الطبع عنه من براح

كأن الله لم يخلق فؤادي

لغير الوجد بالخود الرداح

أحن إلى هواها وهو حتفي

كما حن السقيم إلى الصلاح

وأصبر والصبابة برّحتني

وأنحلت الجوارح بالبراح

فلولا الطمر يمسك من خيالي

لطار من النحول مع الرياح

أبث لطرفها شكوى فؤادي

وهل يشكو الجريح إلى السلاح

وأطمع أن يزايلني هواها

وهل حذر من المقدور ماحي

فلا تأوي لكسرة ناظريها

فكم ألوت بألباب صحاح

أفق يا حب ليس الحب سهلا

فكم جدّ تولّد من مزاح

رويدك كم تبيت تئن وجدا

كما أنّ الطعين من الجراح

وقائلة أرى نجما تبدّى

بليل عوارض كالصبح ضاح

أبعد الشيب تمزح بالتصابي

وتمرح في برود الإفتضاح

فما ماضي الشباب بمسترد

ولا الخسران يسمح بالرباح

فدع حب الغواني فهو غي

وتفنيد يحيد عن الفلاح

وكانت وفاته في سنة إحدى وستين وألف بأسحقلي قريب من قونية وهو راجع من قسطنطينية. ا ه.


ورأيت له ترجمة في مجموعة عند الشيخ يوسف الجمالي قال فيها :

السيد محمد تقي الدين بن أبي بكر بن إبراهيم بن أحمد بن محمد الحراكي السيد الشريف ، وبقية النسب نجدها في ترجمة جده إبراهيم بن أحمد المتوفى في أوائل القرن العاشر. كان جوادا فياضا ذا حشمة ورياسة وملقى رحب وصدر واسع ، لا يشك من يراه أنه من السلالة الطاهرة ، له السماحة الزائدة والثروة العظيمة والخدم الزائد والحشم. بنى دارا بالقرب من حمّام الذهب داخل باب النيرب وأحكم بنيانها وشيد أركانها ، فهي دالة على شرف بانيها وعلو شأن أهاليها. نشأ في حجر والده أبي بكر ، ثم سافر إلى مصر وتكرر سفره إليها واشتغل بها على الشيخ محمد السهلي في فقه الشافعية ، واعتنى بمطالعة كتب التواريخ حتى كان يحفظ غالب أخبار السلف. ثم جلس بحلب وأخذ له حجرة بخان الخرّاطين وصار يهرع إليه الأخوان والمحبون ، وجعل له واحدا يسافر إلى مصر وآخر يسافر إلى اليمن. ثم أصيب بماله بأن فتحت حجرته بالخان المذكور. عرض عليه الجمالي يوسف في مرضه الذي مات فيه أن يكون نقيبا عن السادات الأشراف من بعده فأبى. ا ه. (من مجموعة عند الشيخ يوسف الجمالي).

وترجمه الشيخ محمد العرضي في كتابه الذي ترجم فيه أعيان عصره ونقل عن نسخة نقلت عن خطه قال : التقوي الحراكي الحسيني ، هو في عصرنا ثاني كشاجم لأنه كاتب شاعر جواد منجم ، صرف نقد عمره على اقتناء الكمالات والكتب الممتعة ، وتدبير أمر المعاش مع الراحة والدعة. وفي اقتبال شبابه وقبل أنه لاق * سيف المشيب من قرابه أخذ طرفا من علم الفلك والميقات ورصد الكواكب والنظر في الساعات والبنكامات عن السيد علي الحنبلي بحلب. ثم سافر إلى الروم فلقي بها الدرويش طالب الفلكي المشهور ، فاقتبس من مشكاته جذوة ، وملأ من ركاياه إلى عقد الكرب دلوه. وقرأ من النحو ما يصون لسانه من الغلط ، وعنده أن ما زاد على ذلك ضرب من العبث واللقط. ونظر في الطب والأدب من غير شيخ يريه الرموز ، ويفتح له ما انغلق من المطالب والكنوز. وكتب الخط الحسن وحلّى عاطله بفصاحة اللسن ، فكأنما عجنت طينته بالعنبر الورد ، وكأنما أقلامه قضبان شجر الورد. وله كلمات تسحب على وجه سحبان مروط الفخار ، ويجنى من حلاوتها العسل المشار ، ومن زكاوتها الزبد والعرار. فمن ذلك قصيدته الميمية التي هي

__________________

(*) هكذا في الأصل.


واسطة قلايد قصائده ، ويتيمة عقد فرائده ، يمدح بها الوزير الكبير نصوح (باشا) وقد قرظ له عليها علماء الوقت وأفراد الدهر ، مطلعها :

حيّاك سرحة دارة الآرام

وحباك ديمة مزنة وغمام

ومنها :

ويحوك توشيع الروابي أقمصا

من زاهرات الزهر والأكمام

ومنها :

فلقد عهدت بك الغزالة في الضحى

وبدور تمّ في هلال لثام

ومنها في وصف العناق :

ويضمنا برد العفاف تضمنا

بتلازم وتطابق الأحكام

كالجزء لا متجزأ ومحيزا

ومقسّما ينفك للأجسام

أو واحد يدعى بصيغة أقبلا

أو ماء مزن في مزاج مدام

قلت : قد أجاد في تشبيه المتعانقين بالواحد إذ خوطب بصيغة الاثنين كما ذكره البيانيون في قوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)* وفي قول امرىء القيس : (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وكما في قول الحجاج : يا شرطي اضربا عنقه. (وهنا أطال العرضي الكلام في هذا المقام ثم قال) : ومن شعره بل عقد سحره قصيدة يمدح بها المولى صنعي زاده وهو إذ ذاك قاضي حلب ، ومطلعها :

طافت بنا ونطاق الأفق مشدود

وهدب جفن الرجا بالنجم معقود

وثغر أشنب ألمى الجو نظّمه

من أزهر الزهر منثور ومنضود

وعسكر الليل قد لاحت طلائعه

وخفق راياتها بالزحف مصفود

ومن بدائعه بل روائعه قصيدة يمدح بها المولى جشمي زاده وهو إذ ذاك مقتعد قضاء الشهباء وهي :

سرت والليل محلول الوشاح

ونسر الجو مبلول الجناح

__________________

(*) ق : ٢٤.


إلى آخر القصيدة التي تقدمت ، وهنا بعد البيت الأخير :

ولذ بالمصطفى فحماه أمن

من اللأواء والقدر المتاح

قوله في المطلع : ونسر الجو المصراع وقوله : كثغر البيض المصراع الأخير برمتها وقعا في شعر أبي الفضل بن شرف أحد رجال قلائد العقيان للفتح بن خاقان حيث يقول :

خيال زارني عند الصباح

وثغر النجم يبسم عن أقاح

وقد حشر الصباح له فنادى

فأصغى النجم منه إلى الصياح

وفاض على الكواكب وهو طام

فطار النسر مبلول الجناح

انتهى. فلم أدر هل هو من توارد الأفكار ، أم من المصالتة وشن الغارة على الأشعار.

وله وقد استصعب عليه الزمن الموات حتى حبب إليه الممات :

ما لذلي من بعد منزلة اللوى

عيش ولا خطر السرور بخاطري

كلا ولا آنست أنسا بعدها

بمؤانس ومحاضر ومسامر

ذاك الزمان هو الحياة فإن يفت

يا موت زر بقوادم وحوافر

ا ه.

٩٨١ ـ محمد حجازي بن عبد القادر الشهير بابن قضيب البان المتوفى سنة ١٠٦٩

محمد حجازي بن عبد القادر بن محمد الشهير بابن قضيب البان ، الحنفي الحلبي ، نقيب حلب.

كان عالما فاضلا جسورا كثير العرفان فصيح اللسان في اللغات العربية والفارسية والتركية ، وكان ذا همة علية مغبوطة ، ويد للخيرات مبسوطة ، ولي بعد أبيه نقابة الأشراف بحلب مدة وقصدته الناس في المهمات ، ثم سلك طريق الموالي ، ووجه إليه قضاء أريحا طريق التأبيد ، وأعطي رتبة القدس ، ورأس في حلب.

وكان ينظم الشعر وشعره لا بأس به ، فمن ذلك من قصيدة يمدح بها البهائي المفتي


المقدم ذكره لما كان قاضيا بحلب ، ومستهلها :

ألا منجدا في أرض نجد من الوجد

فما عند أهليها سوى لوعة تجدي

وقفت بها مستأنسا بظبائها

كما يأنس الصب المتيم بالوجد

أسائل عمن حل بالجزع والحمى

وأنشد عمن جاز بالأجرع الفرد

خليليّ إن الصدر ضاق عن الجوى

فلا تعجبا من طفرة النار في الزند

ففي الجسم من سعدى جروح من الأسى

وفي القلب من أجفانها كل ما يعدي

بثغر يزيد الوقد من خمرة اللمى

وصدغ يثير الوجد من جمرة الوجد

تقرب لي باللحظ ما عز دركه

وتنفر عمدا كي تصاد على عمد

تلاعب في عقل الفحول بطرفها

ملاعبة الأطفال من غرة المهد

رمت مهجتي أهدابها عن تعمّد

نبالا فزادت من توقدها وقدي

دنوت إليها وهي لم تدر ما الهوى

وما علمت ما حل بي من هوى نجد

فقلت أما لي من رضابك رشفة

معللة أروي بها علة الوجد

وهل للتداني ساعة أستمدها

وأبذل في إنجاز وصلتها جهدي

فقلت أما يكفيك وعدي تعلّة

لقلبك فاقنع يا أخا الود بالوعد

ولا ترج مهما تقصد النفس نيله

فإن الرزايا في متابعة القصد

ولا تستمح من كل خدن وصاحب

إخاء فقد يفضي الإخاء إلى الزهد

فما كل إنسان تراه مهذبا

ولا كل خل صادق الوعد والعهد

ولا كل نجم يهتدى بضيائه

ولا كل ماء طيب الطعم والورد

ولا المسك في كل المهاة محله

ولا ريح ماء الورد من عاصر الورد

ولا فضل مولانا البهائي محمد

كفضل الموالي السابقين على حد

وقوله من أخرى في مدح البهائي المذكور :

قطب السماء هو الطريق الأقصد

دارت عليه نجومه والفرقد

والمشتري والزهرة الزهراء في

أوج السعود هبوطها والمصعد

والشمس ما شرفت على أقرانها

إلا بنسبته إليها العسجد

والله لا تحصى شؤون كماله

فالويل ثم على الذي لا يشهد

ولقد أبيت الدهر غير مغادر

في حالة منها أقوم وأقعد


فسألته من بالحمى فأجابني

مفتي الأنام أبو البهاء محمد

وقوله في الصهباء وتعليل نشأتها :

لا ترض بالإضرار للناس

إن رمت أن تنجو من الباس

وانظر إلى الخمر وما أوقعت

في شاربيها بعد إيناس

لما رضوا في دوسها عوقبوا

بضربة منها على الراس

وله غير ذلك.

وكانت ولادته بمكة المكرمة سنة إحدى بعد الألف ، وتوفي بحلب في صفر سنة تسع وستين وألف.

٩٨٢ ـ أحمد بن محمد البتروني المتوفى سنة ١٠٧١

الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الرحمن البتروني الحلبي ، وهذا هو المعروف بابن مفتي ، الفقيه الحنفي ، أحد كبراء حلب وأحد رؤسائها.

وكان من أسخياء العالم ، ذا مروءة وهمة عالية وشهامة باهرة. ولي القضاء مدة مديدة ، ثم تقاعد عن رتبة قضاء الشام ، وتصدر بحلب وانقاد إليه أهلها ونفدت فيما بينهم كلمته وجلت حرمته. وحصل أموالا كثيرة وجاها وافرا ، إلا أن بضاعته كانت كبضاعة أبيه مزجاة. وفاته في سنة إحدى وسبعين وألف.

٩٨٣ ـ أبو الوفاء بن عمر العرضي المتوفى سنة ١٠٧١

أبو الوفاء بن عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد ابن محمد بن الحسين الشافعي الحلبي العرضي ، مفتي الشافعية بحلب وابن مفتيها وأحد أعيان العلماء في المعرفة والإتقان والحفظ والضبط.

وكان إماما عالما خيرا متواضعا حسن السمت لطيف تأدية الكلام واعظا ، إليه النهاية في التفهم وجودة الأسلوب.


روى العلوم النقلية والعقلية عن والده ، ولزم العلامة أبا الجود البتروني وغيره من الشيوخ ، واستجاز كثيرا ، وتصدّر للإقراء مدة حياته في دار القرآن الحيشية المنسوبة إلى أبي العشائر المطل شباكها على الجامع الكبير بحلب. وله شعر حسن ونثر بارع. واعتنى بجمع تاريخ سماه «معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب» رأيت منه قطعة ونقلت منها بعض تراجم لزمني ذكرها. وله رسائل كثيرة وتآليف ، منها كتاب «طريق الهدى» في التصوف ، و «شرح على ألفية ابن مالك» ، و «حاشية على شرح المفتاح» للسيد ، و «حاشية على البيضاوي» ، و «حاشية على شرح المنهاج» للمحلي ، و «شرح البديعيات» (١) ، و «شرح سورة والضحى» على لسان القوم. وله لامية تضاهي لامية العجم ، ومطلعها قوله :

جلالة الفضل تنفي زلّة الرجل

وذلة الجهل توهي صولة البطل

منها :

واضرب على العقل أسوارا محصنة

تقيك فتنة أحداث أولي حيل

ولا يروقك ماء الحسن قطّره

نار الحياء على الخدين كالشعل

ولا حلاوة ثغر حشوه درر

فكامن السم في العسّال والعسل (٢)

وذكره البديعي في «ذكرى حبيب» وقال في وصفه :

عالم الشهباء وابن عالمها ، ومن شد بالفضائل دعائم معالمها. وهو في الزهد كأويس وعروة ، وللسادة الصوفية قدوة وأنعم به من قدوة. اشتغل بالتصنيف والتدريس ، والإفتاء على مذهب محمد بن إدريس ، وهو الآن لناظرها بصر ، ولناضرها نور وثمر ، يعظ الناس في كل يوم جمعة بعد صلاة العصر ، بزواجر لو استقضي بها أهل الضلال لما كان مضل

__________________

(١) هو شرح البديعية التي قال في مطلعها :

براعتي في ابتدا مدحي بذي سلم

قد استهلت لدمع فاض كالديم

سماه «فتح المانح البديع في حل شكل الطراز البديع» وقد اطلعت عليها وهي محررة سنة ١٠٣٧ أي في حياة المؤلف ، وعليها خط حسين الوفائي الحلبي المتوفى سنة ١١٥٦ وخط الشيخ حسن البخشي الحلبي شيخ التكية الإخلاصية ، وقد أدرج الشيخ قاسم البكرجي هذه البديعية في شرحه لبديعيته المسمى «حلية البديع في مدح النبي الشفيع»

(٢) بحثت عن هذه؟؟؟؟؟؟ فلم أعثر عليها ولو عثرت عليها لنشرتها بتمامها.


في العصر. وله أخلاق تخلقت منها نسمات الأسحار ، وسجايا تنسمت عنها نفحات الأزهار ، وقد حوى زمام مكارم الأخلاق من طارف وتليد ، فأصبح مصداق قول أبي عبادة الوليد :

شجو حساده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واعي

ثم ذكر له طرفا من النثر وأورد له شيئا من الشعر ، فمن ذلك قوله :

عود الأراك قال خوف حاسد

لما ارتوى من رشف ثغر عابق

إن الذي قد شاقني من ثغرها

ذكر العذيب والنقا وبارق

ومثله للشهاب بن تمراس :

أقول لمسواك الحبيب لك الهنا

برشف فم ما ناله ثغر عاشق

فقال وفي أحشائه حرق النوى

مقالة صب للديار مفارق

تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى

أعلله بين العذيب وبارق

وله أيضا :

سألتك يا عود الأراكة إن تعد

إلى ثغر من أهوى فقبّله مشفقا

ورد من ثناياه العذيب فمنهلا

تسلسل ما بين الأبيرق والنقا

وقوله :

أسر الناس باللحاظ حبيب

كل مضنى بسجنه محبوس

فكأن القلوب منا حديد

وعيون الحبيب مغناطيس

ويقرب منه قول بعضهم :

ومغنطيس الخال في خده

يجذب بالسحر حديد العيون

ومنه :

نصب الحمام لقوتي شرك الردى

في غرّة وأنا به لا أعلم

فطفقت ألقط حبة الأمل الذي

راودته والشيب مني يبسم


فيه شمة من قول أبي تمام :

ولا يروعك إيماض المشيب به

فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب

ومنه فيمن دق على يديه بالزرقة :

البدر حين حكى ضياء جبينه

فاحمر من غضب على هفواته

شفق ومن جهة اليمين سماؤه

فأرتك زرقتها على حافاته

وأنشد له الخفاجي قوله :

بورد الخد ريحان محيط

وتركي حبه لا أستطيع

وقلت النفس خضرا يا عذولي

كما قد قيل والزمن الربيع

قال : وهذا مثل عامي ، يقولون : النفس خضراء تشتهي كل شيء ، وقولهم : تشتهي إلى آخره جملة مفسرة لخضراء ، وكان أصله ما ورد في الحديث : «إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترتع في الجنة». انتهى. والأصوب أن يقال إن أصله : ثلاثة تذهب عنك الحزن ، الماء والخضرة والوجه الحسن. ومعنى أن النفس خضراء أي تميل إلى الخضرة بالطبع.

ومن لطائفه في حق رجل يدعى منصورا : رذيل المرء ما نهض به حظه الحر مقهور ، والعلق منصور.

وذكره الحسن البوريني في تاريخه وأثنى عليه وذكر أنه اجتمع به في منصرفه إلى حلب في سنة سبع عشرة بعد الألف ، وذكر قصيدة كتب بها أبو الوفاء إليه مطلعها قوله :

شموس العلا من فوق مجدك تشرق

وغصن النقا من فيض فضلك يورق

فأجابه عنها بقصيدة مطلعها :

فؤاد بأسباب الهوى يتعلّق

ودمع له رسم على الخد مطلق

والقصيدتان في غاية الطول فلا حاجة بنا إلى إيرادهما.

وظفرت له بقصيدة قالها مادحا بها السيد أحمد النقيب استحسنتها فأوردتها وهي :


من النوى من مجيري

يا رحمة المستجير

والصبر جد ارتحالا

على نياق المسير

يوم الوداع أضاعوا

حشاشتي من ضميري

يا ليت شعري فؤادي

هل سار لا بشعوري

يقفو حداة المطايا

في ظعنهم كالأسير

رفقا بقلب كوته

أيدي النوى بسعير

والجسم كلّت قواه

من حادثات الدهور

وهدّ ربع التسلّي

مغيب أنس الحضور

قديم حكم قضته

حوادث التقدير

والشوق يغلو ضراما

بدمع جفن مطير

أجرى عقيق دموعي

جداولا كالبحور

نهرت سائل جفني

عن نوء دمع غزير

ففاض دمع عيوني

وفاض * كالتنّور

غوثاه من ذا التنائي

من شره المستطير

ومن فراق مثير

للوعة وزفير

من حاكم في فؤادي

يعتو عليه بجور

وا رحمة لمشوق

إلى التداني فقير

يهزه كل برق

إيماضه كالثغور

إن فاح نشر الخزامى

أو ضاع عرف العبير

يكسو الرياض فتجلى

في نورها والنور

يهيج كامن وجد

بين الحشا والضمير

يذكّر الصب عيشا

صفا صفاء النمير

أوقات أنس أضاءت

كالبدر في الديجور

نجني ثمار المعاني

من روض مجد نضير

والمشكلات علينا

تجلى بغير ستور

__________________

(*) لعل الصواب : وفار. وفي خلاصة الأثر :

فغاض ماء عيوبي

وفاض كالتنور


ندير راح الخفايا

على سرير السرور

وحيث غاب غزال ال

حمى وأنس الحضور

مولاي أحمد تاج ال

ملا وصدر الصدور

كشاف مشكل بحث

برأيه المستنير

السابق القوم فهما

في حومة التقرير

أقلامه في جدال

تطول بالتحرير

فذّ بتوأم فضل

بالنظم والمنثور

قد فاق كل لبيب

وعالم تحرير

يا مفردا في جميع ال

علوم لا بنظير

له بلاغة سحبا

ن بل نظام جرير

آدابه في انسجام

تفوق وشي الحرير

مدى الزمان سلامي

مع الدعاء الكثير

يهدي إليك ويبدو

في طيّه المنشور

خلوص حب صفا من

شوائب التكدير

سلساله العذب يحكي

معتّقات الخمور

وله غير ذلك.

وكانت ولادته ليلة الاثنين المسفر صباحها عن عيد الأضحى من سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ، وتوفي في اليوم الرابع من المحرم سنة إحدى وسبعين رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وله مضمنا ، وقد أوردهما الأديب عمر الخشابي من معاصري المترجم في مجموعته :

رأيت جميع العالمين مظاهرا

شخوصا وأشباحا ومولانا فاعل

فأضحى لسان العقل بالحق ناطقا

(ألا كل شيء ما خلا الله باطل)

* وله مضمنا :

سويدا عينه جذبت سويدا

فؤادي فهو رهن في يديه

فقلت تعجبوا من صنع ربي

شبيه الشيء منجذب إليه

__________________

(*) صدر بيت للشاعر لبيد ، وعجزه : وكل نعيم لا محالة زائل.


وترجمه الشهاب الخفاجي في الريحانة فقال : (أبو الوفاء بن عمر العرضي) لقيني منه حبر مجيد ، وشاعر مجيد ، وأديب يضع القلادة في الجيد ، له فضل لم تنظر عين الدهر لمنافيه ، بل كلما أجال طرفه رأى كل المنى فيه. فإذا واد خصيب النوى والثمر ، وحديقة منمنمة الأطراف والطرر ، سقتها غمائم نداه ، وباكرها صيب جدواه ، بلا منة لحوامل السحائب ، ولا انتظار لقوافل الصبا والجنائب. صرف نقد أوقاته ، ورأس مال عمره وحياته ، في تحصيل ربح الفضل والعبادة ، وترك فضل العيش وفضول الناس لما رأى من تركهما من السعادة ورأى في كل بكرة وعشية ، حبلى جنين نوائبهما في مشيمة المشيّة. ولما شمت كرمه وسيبه ، وردت ربيعا زر عليه جيبه ، انتدب لملاقاتي وابتدر ، وخير أنوار الربيع ما بكر ، وكتب إلى مادحا ، ولزند فكري قادحا قوله :

أرى الشهباء للعليا قبابا

ألم تر أفقها أبدى شهابا

وقبل كست معالمها الدياجى

مسربلة ذراها والهضابا

وكدّر صفو منهلها قتام

أحال شرابها الصافي سرابا

وجرعها كؤوس الجور صرفا

ولو سقي الغراب بها لشابا

وكان الجهل متسع الفيافي

يضل الألمعي بها الصوابا

وضاق العلم ذرعا حين سدّت

مناهجه وضاق بها رحابا

تعللها المطامع كاذبات

وكم عادت سحائبها ضبابا

إلى أن حلها روح المعالي

وطوّق عقد منّته الرقابا

إمام العلم بحثا واكتسابا

مشيد الفضل إرثا وانتسابا

فواصلها بغير سباق وعد

وفاجأها بنعمته احتسابا

فأهلا بالذي منه استنارت

معالمها وقد عزّت جنابا

وقد وطئت على هام الثريا

ونظّمت النجوم لها نقابا

فقرّبها وقرّ بها ودادا

وقرّ عيون أهليها اقترابا

وقد ظفرت بكنز المجد حتى

أحال التبر للذهب الترابا

أفاض بحار كفيه علوما

وأتبعها بمنطقه عبابا

ونضر وجه روض الفضل لما

سقاه من مواهبه ربابا

قد ازدحمت بمورده عفاة

الفضائل حين ما سال انصبابا

وقد ملؤوا ركاياهم وراموا

ذخائره انتهازا وانتهابا


إذا جال السؤال بفكر شخص

قبيل النطق لبّاه جوابا

فياذخر العلوم فدتك نفسي

ونادتك العلا تبغي الثوابا

أقل قلمي عثارا زل فيه

فما وفّى المديح ولا أصابا

وكنت نبذت شعري في قفار

نسيت الأنس منه حين غابا

إذا الأيام قد رفعت بغاثا

فخالت أنها ترقي العقابا

وظنوا أنهم كنزوا علوما

وأيم الله ما ملكوا نصابا

أأمدح من بنظمي ليس يدري

حبيبا قد أردت أم الحبابا

وكان القصد من قصدي نجازي

من الممدوح لو فهم الخطابا

ولو لا أنك السامي مقاما

له الأفلاك طأطأت الرقابا

وكان بمدحك العالي افتخاري

لما أذهبت بالمدح الكتابا

فدم يا زينة الدنيا بمجد

تقنعت العلا منه احتجابا

ثم كتب بعدها : لقد طفحت أفئدة العلماء بشرا ، وارتاحت أسرار الكاملين سرا وجهرا ، وأفعمت من المسرة صدور الصدور ، وطارت الفضائل بأجنحة السرور ، بيمن قدوم من اخضرت رياض التحقيق بإقدامه ، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه ، وتلألأت غرر المباحث إشراقا ، وأجريت مسائل الطالبين في ميادين التوضيح سباقا ، أعني به جهينة أخبار العلوم ، وخازن أسرار المنطوق والمفهوم ، المؤسس لدعائم الأحكام فرعا وأصلا ، والسابق في مضمار التحقيقات منذ كان طفلا. وقد خدمته بهذه القصيدة التي كتبتها عجلا ، وكنت أضمرت أن لا أفوه بكلمة منها خجلا ، لكن ظننت بالمولى كل جميل ، ورأيت سترها بذيلي السماح والصفح من فضله الجزيل. هذا وإن العبد كتب تاريخا سماه «معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب» سيعرض بعضه عليكم ، ويأتي بأنموذج منه لديكم ، وجل القصد أن تكتبوا إلي نسبكم وأشياخكم ومقروءاتكم وبعض شيء من المنظوم والمنثور ، ولنطرز حلله بطراز المأثور ، والسلام. ا ه.

وقدمنا في المقدمة الكلام على تاريخه «معادن الذهب». وكتابه «طريق الهدى» منه نسخة في الأحمدية والمولوية بحلب ، وعند الشيخ علي أفندي العالم قاضي حلب الآن ، وفي مكتبة أسعد أفندي العينتانبي ، وفي مكتبة خليل أفندي المرتيني في حلب.

ورأيت في آخر شرح «الكوكب المنير» في أصول الفقه الحنبلي ، وهو في المكتبة


الأحمدية بحلب ، في مسألة عرضت على شيخ الإسلام أبي الوفا العرضي رحمه‌الله تعالى : ما قول الأئمة الأعلام أئمة الدين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في رجل شافعي المذهب وانتقل إلى مذهب الحنفي ، هل يترتب عليه شيء ، والحنفي إذا صار شافعيا هل يترتب عليه شيء ، وإذا قال أحد من علماء الحنفية : إذا انتقل أحد إلى مذهب الحنفية يلبس خلعة ، وإذا انتقل أحد إلى مذهب الشافعية يعزّر ، فهل هو كما قال أم لا؟ أفتونا ولكم بذلك جزيل الثواب من الملك الوهاب.

(الجواب) :

جميع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلزمهم التمذهب بمذهب واحد ، فلكل واحد أن يكون حنفيا أو شافعيا أو مالكيا أو حنبليا. فلو فرضنا أن الآن ظهر ببلاد الإسلام عالم له قوة الاجتهاد فاتخذ مذهبا مستقلا مستنبطا من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحو ذلك ، وقلده أحد من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاز له ذلك ، فإن الله تعالى لا يعذب أحدا عمل بمسألة فيها قول بعض الأئمة. فمن تحنف بعد ما كان شافعيا أو مالكيا أو حنبليا ، أو تشفع بعد ما كان حنفيا أو مالكيا أو حنبليا ، أو تملك بعد ما كان حنفيا أو شافعيا أو حنبليا ، أو تحنبل بعد ما كان حنفيا أو شافعيا أو مالكيا فلا ملام عليه في الدنيا ولا في الآخرة. وأما قول هذا الحنفي العالم القائل من تحنف بعد ما كان شافعيا يخلع عليه ، ومن تشفع بعد ما كان حنفيا يعزّر فكلامه باطل ونقله باطل ، وهو الكلام الخصم ، وكلام الخصم لا يكون حجة بطريق الحق ، والدليل لا يكون بالعصا ولا بالسيف ، ومن كان دليله ذلك فلا كلام لنا معه ، فكلامنا مع من يقول من غير تعصب. ولما دخل ابن بنت أبي حنيفة إلى البصرة قاضيا فقال : أريد أن أعزّر كل من خالف مذهب أبي حنيفة ، فقيل له حينئذ عزّر نفسك لكونك خالفت أبا حنيفة ، لأنه ما عزّر من خالف مذهبه. فمن كان حنفيا يعتقد مذهبه صوابا مع احتمال الخطأ ، ومن كان شافعيا عليه أن يعتقد أن مذهبه صواب مع احتمال الخطأ ، وكذلك المالكي والحنبلي رضوان الله عليهم أجمعين. كتبه أبو الوفا العرضي المفتي بمدينة حلب ، كذا وجد بخطه. ا ه.

وفي أوراق عندي فيها عدة قصائد يغلب على الظن أنها من ديوان سرور بن سنين المتقدم ذكره ، وهي بخط ناظمها ، من جملتها قصيدة في مدح المترجم ، وقد توّجها بقوله : وكتبت بها للعلامة التاجي أبي الوفا ابن شيخ الإسلام وعلم العلماء الأعلام ممتدحا له ،


وذلك في أوائل ذي الحجة سنة ١٠١٩ :

سفرت وأرخت في الظلام ذوائبا

فأرت صباحا ساطعا وغياهبا

ورنت مغازلة بألحاظ الظبى

فنضت من الأجفان عضبا قاضبا

وغزت جيوش الإصطبار وصيّرت

أهل الهوى في الحب عنها جانبا

ورمت بسهم من كنانة جفنها

عن قوس حاجبها لصب صايبا

حوراء ترفل في مروط جمالها

وتجر من فرط الدلال جلاببا

صبّ الصبا ماء الشباب بعطفها

فتمايلت طربا وملت مطاربا

نشوانة الأعطاف تلعب بالنهى

وترى الحسان الغانيات لواعبا

من فرقها فلق الصباح ووجهها

شمس الضياء بدت وأبدت حاجبا

تفترّ عن شنب وظلم بارد

تحويه في ثغر يريك كواكبا

ما شمت بارق ثغرها إلا ولي

دمع من الأجفان يهمي ساكبا

رقّت حواشيها وراق حديثها

فهما كنظمي رقة وتناسبا

فرّطت في قلبي وأفرط عجبها

فازددت فيها رغبة ورغائبا

تختال في قشب البرود وتنثني

كالغصن أثمر بالملاحة كاعبا

سمح الزمان بليلة من وصلها

وتراه يحبو فرصة ومواهبا

بتنا ويجمعنا العفاف كأننا

خمر بماء المزن أصبح شائبا

حتى إذا سطع الصباح بنوره

كأبي الوفاء يريك رأيا صايبا

العالم العلم الذي أفكاره

تنهلّ شرعا للورى ومذاهبا

كنز الدقايق بحر كل فضيلة

يبدي بمنهاج البيان مطالبا

صدر الشريعة جامع لأصولها

مفتاح حل المشكلات له نبا

وترى سهام جداله برهانها

قلب البغيض يغيض منه ذاهبا

ويغوص منه الفكر لجة غامض

فتراه يذري درّه وعجائبا

ما سابق جاراه في ميدانه

إلا انثنى لجواد كرب راكبا

فخم سما أسنى العلا حتى ارتقى

من فوق فرق الفرقدين مراتبا

يلقاك مبتسما بثغر ضاحك

وبمنطق يبدي رحيقا ذايبا

يا بن الذي خضع الزمان لفضله

والعلم جاء إليه يسعى طالبا

هيهات يحصر حد فضلك ضابط

وتراه يعجز فيلسوفا كاتبا


إن زان قوما واصف بمناقب

فهي التي أثنت عليه مناقبا

طهرت طباعك في مقالة قائل

وظهرت فردا للمحامد كاسبا

إني رأيت بني الزمان جواهرا

وأراك واسطة حويت غرايبا

فرض الثناء على جنابك مثلما

فرضت صلاة الخمس أمرا واجبا

ومديحكم كالتبر إن كررته

يزداد رونقه ويرغب راغبا

٩٨٤ ـ محمد بن عمر العرضي المتوفى سنة ١٠٧١

محمد بن عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين العرضي الحلبي.

أنا أقول في حقه : إنه لم تنجب الشهباء منذ بنيت بمثله. كان من الفضل من مرتبة الآحاد ، ومن الأدب في مرتبة لا تنال بالاجتهاد. وحاصل ما أقول ، أني عاشق له ، والعاشق معذور فيما يقول ، وهيهات أن تستوعب مزاياه ولو فشا القول والمقول. وكان له سيادة من جهة أمه ، فهو سيد قومه.

وقد ولي القضاء مدة طويلة ، ثم درس بالمدرسة الكلتاوية والسعيدية. وولي إفتاء الحنفية بحلب مدة سنين. ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة مديدة وأخذ بها عنه الأدب جماعة من الصدور. ولما مات أخوه أبو الوفا صار مكانه مفتي الشافعية بحلب وواعظا بجامعها. وحصل له جذب إلهي وتكلم في وعظه برموز ودقائق على لسان القوم ، ووعظ أربع مرات ثم مات.

وذكره الخفاجي وأجاد في مدحه وبث فضائله ثم قال : وكتب لي مع هدية أهداها إليّ :

مولاي من يوم لقياه الأغر غدا

هدية من زمان قبل ضنّ بكا

لو كان تنصفني الأقدار آونة

وكنت أنصف فيما أرتضيه لكا

لكنت أهدي لك الدنيا وزينتها

والشمس والبدر والعيوق والفلكا

وذكره البديعي وقال في وصفه : فاضل روض فضله أريج ، دبّج حدائق معلوماته أدبه البهيج ، وشاعر رقت طباعه ، وكثر اختراعه وإبداعه ، يسترق القلوب بألفاظه الزاهرة ،


ويسكر العقول بمعانيه الساحرة ، ينظم فيأتي بكل عجيبة ، ويشنف الأسماع بكل غريبة ، وينثر فيفتض أبكار الدقائق بنظره الثاقب ، ويجلي غياهب المشكلات بفكره الثاقب ، وقد تقمص جلابيب المعارف في عنفوان عمره ، فأسبغت عليه ظلها الوارف من ابتداء أمره. وقد توجه إلى الروم مقدرا أن يبلغ كل مروم ، ولم يعلم أن الحظوظ ليست بالعلوم.

قال : لما ضاقت رقاع بلادي ، ونفدت حقيبة زادي ، فوّقت سهام الاحتيال ، وأجلت قداح الفال ، فكان معلاها السفر ، سفينة النجاة والظفر ، طفقت أتوكأ على عصا التيسار ، وأقتحم موارد القفار ، أفري فلاة يبعد دونها مسرى النعيّ ، وألطم خدود الأرض بأيدي المطيّ ، فكنت فتى قذفته رقة الحال على بريد النوى ، وأعتقته الهمة العاقرة وألقحت بعزمه لواقح المنى ، أساير عساكر النجوم والأفلاك ، وقد ركز الليل رمح السماك ، فأنخت بمخيم المجد ، وقرارة ماء السعد ، كعبة الأفاضل إلا أنهم يحجون إليها كل آن ، وسوق عكاظهم إلا أنها تنصب فيها مصاقع الروم لا مصاقع عدنان. فلما ألقتني فيها أرجوحة المقادير ، فإذا هي فلك العز ومطلع التدبير ، إلا أن حالي تقسمت فيها بين الاغتراب والاضطراب والاكتئاب أثلاثا ، فما نزلت منها منازل إلا حسبتها عليّ أجداثا ، وسقتني الدردي من أول دنها ، وسوء العشرة من باكورة فنها. كل هذا وأنا أستلين مس خشونتها ، وأسيغها على كدورتها ، وأقول إذا لم تتم الصدور فتتم العواقب ، وإن لم تريّش القوادم فستريّش الخوافي والجوانب.

ثم أنشد له قوله من قصيدة نبوية مطلعها :

سقى الله ذات الشيخ والعلم والفردا

وحيا الحيا وجه البشامة والزندا

وما طلبي السقيا لها عن ظما بها

ولكن بسقياها بقلبي أرى بردا

ومنها :

وحلت خيوط الغاديات يد الصبا

على أنها من قبل قد أحكمت عقدا

وقد أوقدت في مجمر الزهر عنبرا

يمين شمال من براد الندى أندى

ذكرت بها ريا الحبيب وساعة

بها ابيضّ وجه الدهر من بعد ما اسودّا

حبيب زنت عيني بعين جماله

فصيرت تزويج السهاد لها حدّا

ومنها :


وقربني منه وأخشى بعاده

فرب اقتراب جر من بعده بعدا

كسهم الرمايا كلما ازداد قربه

إلى صدر راميه تباعد وامتدا

ومنها :

ترى تمتري عشب الحجاز رواحلي

وتلطم أيديها وجوه الفلا وخدا

وله من نبوية أخرى :

ما زلت حسانا له ولبيته

ولصخر ذاك البيت كالخنساء

أبكي البقيع وساكنيه وليتني

كنت المخضّب دونهم بدماء

وله من أخرى :

مذ نشرت صحيفة البيد سرى

رسمت بالمنسم واوا للنوى

ومن أخرى :

هاب القريض مديحه

فانشق أنصافا سطوره

وهو معنى مبتكر لطيف إلى الغاية. وله :

أيها الريم هل تريم بنظره

علّ يصحو الفؤاد من بعد سكره

بأبي أنت غصن بان تثنّى

وغدا يمزج الدلال بخطره

ألف القدّ زانها نقطة الخا

ل فأضحى وواحد الحسن عشرة

قلت : هي حسنة والحسنة بعشر أمثالها :

شارب أخضر وبيض ثنايا

سوّدا وجه عيشتي بعد خضره

أنت زهر غض وقلبي كمام

فلماذا أوقدت بيتك جمره (١)

قلت : ومن شعره قوله :

__________________

(١) أورد في الريحانة بعد هذه الأبيات ثلاثة أبيات وهي :

زرعت مقلتي بخديك وردا

فأبحني قطاف زرعي زهره

يا أبا عذرة الملاحة إني

بين موتي هواك من حي عذره

كعبة الحسن كل وقت إليها

في ركاب المنى أحج بفكره


لم يبق مني هوى ذاك الغزال سوى

بقية من حياة نازعت بدني

فسين طرته مع نون حاجبه

كلاهما سن لي سيفا من المحن

هذا من التوليد الحسن ، فإنه ولّد من الطرّة والحاجب لفظة سن. ومثله لبعض الشعراء :

كيف لا يسرق العقول وذا

العارض واللحظ منه لام وصاد

وهو مأخوذ من بعض ظرفاء العجم. قال الزكي بن أبي الأصبع في «تحرير التحبير» :

إن أغرب ما سمعت في التوليد :

كأن عذاره في الخد لام

ومبسمه الشهيّ العذب صاد

وطرة شعره ليل بهيم

فلا عجب إذا سرق الرقاد

فإنه ولد من تشبيه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص ، وولد من معناها تشبيه الطرة بالليل وذكر سرقة النوم ، فحصل توليد وإغراب وإدماج.

وله :

روحي الفداء لظبي ذبت فيه أذى

مؤنّس الطرف وسنان بلا وسن

لم أنس إذ قام للتوديع وانبسطت

يد الفراق لقطع الشمل بالمحن

يقول والدمع في الآماق يخنقه

يا ليت معرفتي إياك لم تكن

وله :

وجهه كعبة حسن

ولماه ماء زمزم

خلت ذاك الخال منه

حجر الأسود يلثم

وقد وقف على أنموذج من شعره وأظنه من جمعه ، وفيه كل نادرة وتحفة ساحرة ، فاخترت منه جله لهذا الكتاب ، وأرجو أن لا يقال طال به بل طاب ، وقد صدره بهذه الديباجة الآتية من إنشائه النفيس ، وجعلها مقدمة لرسالة أهداها لشيخ الإسلام مصطفى الشهير ببالي زاده في فتح قلعة ينوه على يد الوزير الأعظم محمد باشا الكوبري في سنة ثمان وستين وألف فقال :

سبحان من جعل اندفاق أمداده لأوليائه ، وفيضه الإلهي ، غير مشوب بانقطاع ولا امتناع ، مع أنه منظوم في سلك المسلسل الغير متناهي ، وإن كبت جياد هممهم في بعض


الأحيان تداركها لطفه بنشاط فيكون لها السبق والإحراز في حومة الميدان ، فلا تزال خيولها بالمراح كالسيول متدفقة ، وكمائمها في حدائق الكون عن نوار النجاح متفتقة ، والصلاة والسلام على من جعل الله به للعرب الفخر الأشب ، وحوز بحبوحة النسب والنشب ، فأنزلهم من غوارب الضوامر ، وأركبهم متون الأسرة والمنابر ، فلهم به الفخار البكر على سائر القبائل والأمم ، فاستأسرت لهم مماليك وعبيد ملوك الديلم والعجم ، رفع الله به منار الدين ، وقطع دابر القوم الكافرين. فالإسلام وإن بدأ بالذلة والاغتراب فسيعود عزيزا ، وينقلب نحاس أربابه لدى السبك ذهبا وإبريزا ، وعلى آله وسائط القلائد ، واللآلي الفرائد ، وأصحابه مصابيح الدجى وشموس الضحى ونجوم الليل إذا سجى (وبعد) : فلما برز الإذن الإلهي بتبرج الفتوحات الإسلامية من خدور الغيوب ، وجالت أفراس الأفراح تركض في ميادين القلوب ، ودبت حميا المسرة في الضمائر ، وقامت خطباء الأقلام تصدح بالبشائر ، وهدرت شقاشقها من أنامل الكتاب على المنابر ، وزرفنت في وجنات الصفحات بالمداد الغوالي ، تشرح ما كتبته في صدور الكفرة صدور العوالي ، وذلك بإقبال ظل الله في الأرض ، الفائض من وجه البسيطة على الطول والعرض ، واسطة عقد ملوك آل عثمان ، لا زالت الأمور متسقة النظام ، ما قام له كل يوم ديوان وإقدام ، حضرة الصدر الكبير ، القائم بأعباء الرأي والتدبير ، من هو من فلك الوزارة ، بمنزلة النيّر الأعظم من بين الكواكب السيارة ، ويمن حضرة شيخ الإسلام ، ودرة تاج الملك وفض الختام ، بكر عطارد العلم وثاني الفرقد ، ومن هو من بين جواهر الذات در التقاصير والزبرجد ، لا زالت غرة المجد شادخة في جبينه ، وقلم الفتيا راكعا وساجدا في محراب يمينه ، عنّ لي نظم أبيات براعتها التهنئة بهذا الفتح المبين ، وختامها تاريخه من الهجرة النبوية بالسنين ، ضاما إلى ذلك رسائل علمية تبحث عن اسمه الشريف فقط ، وهي وإن لم تبلغ الذروة العليا من التحقيق لكنها كما قيل خير الأمور الوسط. وهي لما كانت كالمولود الجديد من بين بنيات الصدر ، وتستحق التسمية كما تستحق الرضاع والدر ، سميتها «بمنهل الصفا على اسم المصطفى» ، لا زال لمسماه من هذا الاسم نصيب ، إنه سبحانه قريب مجيب. ثم قال : ولنبدأ أولا بالقصيدة وهي هذه :

قبول يرود ويتلوه نجح

وأيد لتسآل قصد تلحّ

فأهلا بنشر بشير أتى

يضمخ من مسكه الروع جنح


كأن الخزامى وشيح الربى

متون وريح الصبا ذاك شرح

فلله بكر قد افتضها

مهنّده وسنان ورمح

وعهدي بها هامة للجبال

فأضحت بتمهيدها وهي سفح

وكم طرف طرف كبا دونها

له في بحار الميادين سبح

ولكن بإقبال سلطاننا

تزول الرواسي وينهد صرح

مليك بكلكله قد أناخ

فانقاد صعب وانزاح جمح

ونكس أعلام كفر عتت

ولما شقها عاد صلح *

فعيد شعانينهم مأتم

عليهم وأبكم قد عاد فصح

ففي مهرق الأرض أمسوا كخط

سقيم له صارم الدين يمحو

قد استله يمن سلطاننا

وتدبير صدر توخّاه نصح

وإقبال شيخ لإسلامنا

تخطّى المعالي وحاشاه كدح

تصدّح رغما لأنف العدا

ولكن به قرّ طرف وكشح

تقدم من قبله معشر

هم لليالي ذنوب وقبح

مضوا قبله كبهيم الدجى

وقد جاء من بعدهم وهو صبح

ولا بدع أقلامه إن جرت

بغالية النفس والنفس شح

فصحف فتاويه من حسنها

خدود العذارى عليهن رشح

ولله سر بدا في علاه

ومنذ تولى تولاه مدح

وحتى أعاديه لم ينطقوا

بذم وإن نابهم منه ذبح

يراعي قد طاش في مدحه

وثنى العنان إلى الفتح مرح

فلله فتح مبين إذا **

وما هو إلا من الله منح

لذا أنشأ الحال تاريخه

لنصر من الله حم وفتح

وقال وهي من غرره :

تألق البرق لي سلاسل

قلت وشاح على المنازل

أو شرد الطيف عن جفوني

فامتد منها له حبائل

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي خلاصة الأثر ، وفي عجز البيت كسر.

(**) هكذا في الأصل وفي خلاصة الأثر ، ولعل الصواب : فلله فتح مبين آتى.


أو أنها قد حكت عشورا

أخذت منها فالا لقابل

أو صارم والسماء قين

غدا لها بالنسيم صاقل

ذكرني بالوميض خصرا

جال به للنطاق جائل

أو أنه إبتسام ثغر

فيه شفاء لكل ناهل

بل طلعة العالم المفدّى

عين المعالي صدر الأفاضل

درة تاج المليك يزهو

جيد به للزمان عاطل

يراعه مثمر المعالي

يصيب منه الشبا الشواكل

إن يسقه النقس فهو غصن

يضوع منه شذا الخمائل

صريره مطرب قضاة

ما بين راج منهم وآمل

يصون منا ماء المحيا

وهو بماء الحياة سائل

ثاني عصاة الكليم تجري

لنا أنابيبه جداول

ولفظه عنبر بشحر

يقذفه البحر للسواحل

أنجب دهر به أتانا

رضيع ضرع العلوم حافل

وكان من قبله عقيما

كذاك ليلاته حوائل

فليهننا طالبي نداه

فزنا ورب الهوى بطائل

أعاد أفراد من تقضّى

كالصاحب الشهم وابن وائل

إن رمد الطرس من جهول

فهو بميل اليراع كاحل

أعر لقولي مولاي سمعا

أشكوك دهرا عليّ حامل

قطّع أسبابنا اللواتي

كانت لحاجاتنا وسائل

تلا محياك لي سطورا

فيها نجاح لكل سائل

ومما أورده قوله في الرثاء :

لك الله من غاد يسير بلا عزم

ومغترب في أهله والحمى المحمي

ومن راقد ليست له هيئة الكرى

ونشوان راح لا من التمر والكرم

فكم ناشد منا ويدري مكانه

فهلا وجدنا ما نشدناه في الرسم

حبيب فقدنا منه نجم سعوده

وكوكبه الوضاح بل قمر التم

أقامت عليه الكائنات مآتما

فدمع السحاب الجون من بعده يهمي


وألبس أثواب الحداد الدجى أسى

وبدر الدجى في وجهه أثر اللطم

وقد حلقت رأسا وألقت جلاببا

وشقت جيوبا روضة جادها الوسمي

وقد لبست ثوب الصدار * سماؤنا

بغيم وليس الغيم إلا من الغم

وصكت بنعل الفرقدين صدورها

فمن زرقة قد أثرت أثر الختم

عجبت له وهو الضنين بنفسه

يحارب عنها كيف يجنح للسلم

بنينا المراثي بعده وبيوتها

وقد صار منه هيكل الجسم للهدم

عزاء بني الأمجاد والشرف الجم

وصبرا جميلا لا يقبّح بالإثم

فسيف القضاء الحتم لا يسلب المضا

يصول بلا ذنب ويسطو بلا جرم

وما أمهات الخلق إلا صوائر

بثكل وما الأبناء إلا إلى اليتم

لقد أنتج الآباء أشكالنا سدى

فيا ليت ذا الإنتاج بدّل بالعقم

فيا رب أسكنه الجنان ممتّعا

وأسبل عليه ستر غفرانك الجم

وأبدله عن هذي الرسوم وأهلها

قصورا وحورا قاصرات بلا نقم

وقوله من قصيدة وهي من تحائفه :

على أثلات الواديين سلام

وبعض تحايا الزائرين غرام

تذكرت أيامي بها وأحبتي

إذ العيش غض والزمان غلام

وإلمامتي بالحي حيث تواجهت

قصور بأكناف الحمى وخيام

ألام على هجرانهم وهم المنى

وكيف يقيم الحر وهو يضام

همو شرعوا أن الجفاء محلل

وهم حكموا أن الوفاء حرام

وأبلج أما وجهه حين يجتلى

فشمس وأما كفه فغمام

جرى طائري منه سنيحا فعلني

بدرّ أياد ما لهن نظام

شردت عليه غير جاحد نعمة

أكلّف خسفا بعده وأسام

وقد يسلب الرأي الفتى وهو حازم

وينبو غرار السيف وهو حسام

فقد وجد الواشون سوقا ونفّقوا

بضائع زور ما لهن دوام

وبعض كلام القائلين تزيّد

وبعض قبول السامعين أثام

فأصبح شمل الأنس وهو مبدد

لديه وحبل القرب وهو ذمام

__________________

(*) لعل الصواب : الحداد.


يقرب دوني من شهدت وغيبوا

ويوصل قلبي من سهرت وناموا

تزاور حتى ما يرجّى التفاته

وأعرض حتى ما يردّ سلام

فلا عطف إلا لحظة وتنكر

ولا رد إلا صخرة وسآم

قال : ومما نسجته في حلية من نسج عليه العنكبوت ، من حليته الشريفة وهو مثبوت :

استمع حلية النبي المكنّى

من لآل فرائد ذات معنى

أبيض اللون أنفه كان أقنى

ذو جبين طلق وأفرق سنّا

خافض الطرف هيبة وحياء

وله حاجب أزجّ مثنى

وكثيف اللحى مجمع شعر

أسود العين كاسر لك جفنا

هدب عينيه مثل إقدام نسر

وله راحة غدت وهي تثنى

مثل مارقّ أنملا رقّ قلبا

مثلما طال أيديا طال منّا

يا لسطر من فوق مهرق صدر

من شعور كالخز لينا وحسنا

إن يسر سار جملة كانحطاط

من علو يجوز ركنا فركنا

كامل القد لم يسايره قرن

في مداه إلا تراه أرجحنّا

وإذا رام في مجالسه

القول بنصح فيوزن اللفظ وزنا

دائم الفكر مظهر لسرور

في محياه وهو يكتم حزنا

فعليه الصلاة كل مساء

وصباح ما صيغ في القول معنى

وله ملغزا في عيد ، وكتب بها إلى السيد بكر بن النقيب :

رعى الله ظبيا في الحشاشة مرعاه

وحيّاه قلب لم يفارق محيّاه

بوجه له اختطت محاريب حاجب

أطلت صلاة اللحظ فيها لمرآه

وقام بلال الخال فيها مراقبا

صباح جبين لا تغيب ثرياه

ولم أنس إذ جاذبته طرف المنى

وقد نظمت عقد التهاني ثناياه

بجنح دجى من قبل بنت عذاره

تسربل في شيب من الصبح خداه

وقد طلعت فيه شموس كؤوسنا

كما أطلعت نجل الشهابيّ دنياه

نجيب لعين المجد أصبح قرة

وأمسى قذاة في نواظر أعداه

ولا بدع أن يطوى له سبب العلا

وينشر في سوق المفاخر برداه

فمن كان من نسل الشهابي عطارد

سيملك من قدح المعلّى معلّاه


فيا بكر بشرى أنت بكر عطارد

ومن لم تقف في حومة البحث خيلاه

لقد جاش في صدري مباراة طبعكم

وصقل يمانيّ له لان متناه

فما اسم حكى النعمان في يوم بؤسه

ويوم نعيم يستطار لنعماه

يريق دما من ليس يجني على الورى

ويطعم أخرى جائعا من تلقّاه

وليس من الأجسام لكن له يد

وعين على مر الجديدين ترعاه

إذا صحّفوه فهو عبد مقيّد

إذا أطلقوه كان مولى بمولاه

فجد بجواب نستضيء بنوره

ونقطف أزهار الأمانيّ جدواه

بقيت بأفق الفضل والمجد طالعا

يقول الذي يلقاكم ربك الله

وله في والد السيد بكر المذكور ، وهو السيد أحمد يشير إلى خال له كان يلقب بآلا ، وإلى غلام كان يهواه يعرف بصاحب الخال :

من مبلغ عني الشهابي أحمدا

نجل النقيب الشامخ المتعالي

لا تفخرنّ عليك بعد بقية

ما لم تنلها لست بالمفضال

المرء يكرع من مناهل خاله

وشراب آلا كالسراب الآل

لله قاضي دهرك العدل الذي

أعطاك خالا ثم صاحب خال

فبقدر ما تهواه من ذي الخال قد

أعطيت عكس هواك عند الخالي

وله من مكاتبة كتبها وهو في الروم :

أيها القاصد العواصم من

أكناف شهبائنا ذوات النطاق

إن لي حاجة إليك فهل أنت

ترى في وفائها خير راقي

قل لسكان جامع طالما طاردت

بالبحث فيه خيل السباق

لم جفوتم صبا لقد قذفته

راحة البين فوق حوض العناق

فتلافوا فؤاده بكتاب

فكتاب الأحباب نصف التلاقي

وله في الغلام الخمّار الذي كان يهواه :

مهلا فعيني من بكا ونحيب

عميت وتوّجني الهوى بمشيب

في حب بدر ما استضأت بوصله

إلا وأعقبه الجفا بمغيب

أوردّ عيني عيسوي جماله

إلا وأدركها العمى برقيب


وله فيه أيضا :

وعصر بقسطنطينة قد قطعته

على وفق ما قد كان في النفس والصدر

يميني بها كرّاسة أجتلي بها

علوما لقد زاولتها غابر الدهر

أحرر منها في الطروس بدائعا

فاملأ صدر القوم في الورد والصدر

وطورا أحلّي من زماني عاطلا

بعقد نظام صاغه صائغ الفكر

معان إذا ما الصرّ درّ دعا لها

تراه بصرّ راح وهو بلا در

أضمنها سلوى الحزين ورقية

السليم ومأخوذ من اللحظ بالسحر

وخمر شمالي للشمول متابع

إذا حثها الساقي أذاعت له سري

من العبقريين الذين تحملوا

نقى كلكل الزنّار فوق وهي الخصر

إذا اعتمّ زرقاء اليمامة خلتها

سماء بها قد لاح نور سنا البدر

وإن قام بين الشرب خلت قوامه

قنا ألف قامت على وسط السطر

وإن أترع الكاسات خلت يمينه

لجينا تحلّيها مقامع من تبر

وإن نظرته العين نظرة ذي هوى

سقاني بكاس العين خمرا على خمر

وأدجو بليل من ذوائب شعره

فيا رب هل في لثمتي الثغر من فجر

أفكر في يوم النوى ليلة اللقا

فأذري دماء العين من حيث لا أدري

فأمسح في كافورة الجيد مقلتي

عسى أن بالكافور دمعي لا يجري

فما زال في ثوب الخلاعة ظاهري

وقلبي بذكر الله يفتر عن درّ

إلى أن قذفت الشرك عن صفو خاطري

كما تقذف الأدناس عن لجة البحر

ومن غزلياته قوله :

الصخر رق لحالتي يا ذا الفتى

مذ صرت خنساء وقلبي قد عتا

يا أيها الريم الذي ألحاظه

سلّت على العشاق سيفا مصلتا

عطفا عليّ بنظرة أو لفتة

إذ عادة الآرام أن تتلفتا

كم ذا أعاني فيك أهواء وكم

أصلى بنيران الهوى وإلى متى

الله أعلم لم أبح بهواكم

لكنما العينان فيها تمّتا

أترى زمانا مر حلوا بالحمى

هو عائد والعيش غض ثمتا

ما كان في ظني الفراق وإنما

قاضي الغرام عليّ ذلك أثبتا


كم ليلة للوصل قرّبت الكرى

عطس الصباح ولم أجبه مشمّتا

وعلى الذي نطق الكتاب بمدحه

وأتى الخطاب له بسورة هل أتى

مني صلاة أجتني نوّارها

من جنة عيناي فيها نامتا

ومن بدائعه قوله من قصيدة :

ما الخال مسكا فت في الأجياد

بل إنه بقيا فتيت فؤادي

أو إنه شحرور روضة وجهه

قد جاوبته بلابل الإنشاد

أو عابد ليس المسوح وقد رقي

من سحر عينيه بسورة صاد

وأقام في محراب حاجبه الهدى

يحكي بلالا للصلاة ينادي

بل إنه كرة تجول بسالف

كالسيف يسكن في حشا الأغماد

أو إنّ وجنته صحيفة مهرق

قلم الإله أمدّها بمداد

أو نقطة ولها العذار حمائل

أو كالكمام بغصنه الميّاد

بل إنه حبب طفا وخدوده

قدح تطفّح من دم الأكباد

أو مركز والخد دائرة المنى

خطت ببيكار الجمال البادي

بل حبة نصبت لصيد حشاشتي

بل قطرة من نفس عبد الهادي

ومن مقاطيعه قوله :

ريحان خدك ناسخ

ما خط ياقوت الخدود

وقع الغبار بها كما

وقع الغبار على الورود

وقوله :

تلك الثنايا واشقائي بها

باتت تريني عند لثمي الطريق

تبدّدت من غيرة عندها

سبحة در نظمت من عقيق

وله :

يا ليلة طالت على عاشق

بات من الوجد على جمر

كليلة الميلاد في طولها

تسيح فيها العين بالقطر


كأنها ثكلى جنين لها

أغرّ قد سمّته بالفجر

وله في شريف :

لما تعمم بالخضراء ذو شرف

قوامه صيغ من تبر ومن صلف

أيقظت صحبي وعين النجم ساهرة

قوموا انظروا ويحكم للبدر في الشرف

وله :

إرفقوا فالفؤاد ليس بجلد

وارحموا ذلتي وطول عويلي

إن شحاذ حسنكم وعيوني

يا غناة الجمال كالكشكول

وله في يتيم :

إن ذاك الرشأ الخشف الذي

مات عنه والد فهو كظيم

زاده موت أبيه قيمة

كان درّا فغدا اليوم يتيم

وله في أرمد :

ذاك الذي طلّت دمي عينه

وراح يسمى أرمد الاسم *

لما رآني لدمي ثائرا

عصبّها بالطرف المعلم

قولوا له يكشف عن عينيه

فإن فيها نقطا من دمي

وله في جرّاح :

لحا الله الطبيب لقد تعدّى

وجاء لقلع ضرسك بالمحال

أعاق الظبي قد شلت يداه

وسلط كلبتين على غزال

وله في حامل قنديل :

وشادن جاء والقنديل في يده

ما بيننا وظلام الليل معتكر

كأنه فلك والماء فيه سما

والنار شمس به والحامل القمر

وله في موشم :

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي خلاصة الأثر.


أفدي غزالا تعرّى من ملابسه

والجسم من ترف أضحى كفالوذج

كأنه وطراز الوشم دار به

جسم من الدر فيه نقش فيروزج

وله :

إن خال الحبيب لما دهاني

وشجاني منه الجفا والمطال

قلت إذ زاد نكهة وصفاء

قم أرحنا بقبلة يا بلال

وله :

ويلاه من جيد كماء الحياه

حف به زيق كشط الفراه

كأنما أطواقه حوله

فوّارة تمطر ماء الحياه

وله :

لم أزل من صحيفة القلب أملي

في دجا الإغتراب سطر مثالك

ناصبا هدب جفن عيني شباكا

فعسى أن أصيد طير خيالك

وله في العيون المستعارة للنظر :

قال لي الحب لم وضعت على

الأنف عيونا وفي عيونك مقنع

قلت مذ خط كاتب الحسن في

ثغرك نونا كحاجبين وأبدع

فجعلت العيون أربع علّي

أن أرى يا رشا حواجب أربع

وله :

وجنة كالشقيق مرآتها اليوم

صفت من قذاة عين الرقيب

خضبت من دم الرقيب فما

تبصر إلا تعلقت بالقلوب

وله :

عاب قوم شربى المدام ولا

يدرون أن التعييب عين العيوب

جبر قلب الأقداح بالراح خير

في اعتقادي من كسر كأس القلوب

ولما طال مكثه بالروم قال :


شيبت فود سيد الرسل هود

ولقد شيبت فؤادي الروم (١)

ورجع إلى وطنه فأخذ يندب أوقاته الماضية ، فمما قاله في ذلك المعرض :

ما قصرت تلك الليالي التي

في جنحها بت سمير الملاح

لكن أشواقي لذاك الرشا

ما عاجلتني خوف وشك البراح

شققت جيبا كالدجا حالكا

عن صدره فانجاب لي عن صباح

وقال :

قد ألفت الهموم لما تجافت

عن وصالي الأفراح وازددت كربه

فديار الهموم أوطاني الغر

ودار الأفراح لي دار غربه

وقال :

ألا قل لقسطنطينة الروم إنني

أعادي لقسطنطين إسمك والرسما

لقد غيبته في الثرى غير واجد

محبا يفاديه الحشاشة والجسما

وقد تركتني ساهر الطرف بعده

مشتت شمل البال أرتقب النجما

سأهجر فيه خلة الكاس والهوى

وأجتنب اللذات إن عدن لي خصما

وقال :

كان لي في الحظوظ بدرة عيش

بدرتها يد الشبيبة نثرا

ليت حكم النهى حماها فكانت

لي في فاقة الكهولة ذخرا

وقال :

قالوا عهدنا غض عمرك

بالصبا تدنو قطوفه

فذوي بمغبرّ المشيب

وطالما روّى نزيفه

وربيع ذاك العمر سار

فليت لو يبقى خريفه

ولما لزم الزهادة شرع في عمل الأشعار المتعلقة بالانكفاف والتوسل والمناجاة ، فمن جملة ما صنعه قوله :

__________________

(١) في الريحانة قبل هذا البيت بيت آخر وهو :

كان عهدي بالروم فيها يضوع العلم

والآن ضاع فيها العلوم


دواتي كاسي والكتاب حديقتي

وساقي مدام الفكر قام على قدم

صرير يراعي مطربي فكأنما

سطوري أوتار ومضرابها القلم

وقوله :

ألا إن حبي لطول الحياة

ليس لأجل حظوظ مضاعه

ولكن لأشهد لطف الإله

فأزداد شكرا وأزداد طاعه

وقوله :

أيا رب نفسي أتعبتني حظوظها

وتسويلها الإيقاع في زلة القدم

فيا رب إن كنت الشقيّ بفعلها

فما أنا إلا السنّ يقترع الندم

ولست بإياها وحاشاي إنني

من الروح ذات القدس لي أوفر القسم

وقوله :

إليك رسول الله وجهت وجهتي

وأرسيت في تيار بحر الرجا فلكي

فكن شافعي يا من يشفّع في غد

بستري في الدارين من فاضح الهتك

وقوله :

قيل لي كم وكم ترى تتمادى

في الهوى والطريق وعر قصيّ

قلت ظني بالله ظنّ جميل

وبخير الأنام جدّي عليّ

إن لله رحمة تسع الخلق جميعا

فمن هو العرضيّ

وكانت وفاته في صفر سنة إحدى وسبعين وألف وبلغ من العمر نحو ستين سنة ا ه. ووجدت له في مجموعة بخط الشيخ محمد المواهبي من رجال القرن الثالث عشر هذه الأبيات :

ومن عجبي أن الظباء رأيتها

تصاد بها الآساد وهي كواسر

وأعجب من هذا عيون كليلة

تذل لها الأسياف وهي بواتر

وأعجب من هذين هن نواعس

دلالا وأجفان الملوك سواهر

وأعجب من هذا وهذا وهذه

تناسيك لي مع أنني لك ذاكر


وأعجب من هذا العجاب بأسرها

تجور على ضعفي ومالي ناصر

وأعجب من أضعاف ذلك كله

تواني قريبا والبعيد تجاور

ا ه.

٩٨٥ ـ يوسف البديعي المتوفى سنة ١٠٧٣

يوسف المعروف بالبديعي الدمشقي الأديب الذي زين الطروس برشحات أقلامه ، فلو أدركه البديع لاعتزل صنعة الإنشاء والقريض عند استماع نثره ونظامه.

خرج من دمشق في صباه فحل في حلب ، فلم يزل حتى بلغ الشهرة الطنانة في الفضل والأدب ، وألف المؤلفات الفائقة ، منها كتابه «الصبح المنبي في حيثية المتنبي» (١) ، وكتاب «الحدائق في الأدب». ولما رأى كتاب الخفاجي «الريحانة» عمل كتاب «ذكرى حبيب» فأحسن وأبدع وأطال وأطنب وأعرب عن لطافة تعبيره وحلاوة ترصيعه ، إلا أنه لم يساعده الحظ في شهرته ، فلا أعلم له نسخة إلا في الروم عند أستاذي الشيخ محمد عزتي ونسخة عندي.

ومن شعره مادحا ومودعا ابن الحسام شيخ الإسلام حين انفصل عن قضاء دمشق :

أحاشيه عن ذكرى حديث وداعه

وأكبره عن بثه واستماعه

وما كان صبري عند وشك النوى على

الجوى غير صبر الموت عند نزاعه

ونحن بأفق الشام في خدمة الذي

يضيق الفضا عن صدره باتساعه

أجلّ حماة الدين وابن حسامه

وحامي حمى أركانه وقطاعه

عشية توديع المآثر والعلا

وكل فخار للورى في رباعه

وما سرت عن وادي دمشق ولم يسر

وسودده في مدنه وضياعه

ولها تتمة. وله أبيات في مدح شيخه النجم الحلفاوي الحلبي تقدمت في ترجمته.

__________________

(١) هو مطبوع في مصر على هامش شرح ديوان المتنبي للعكبري ، ومنه نسخة خطية في الأحمدية بحلب رقمها ١١٨٩ محررة سنة ١٠٥٢ أي في حياة المؤلف ، وفي آخرها تقاريظ لعدة من أفاضل الشهباء في ذلك العصر وهم أحمد ابن النقيب الحسيني ونجم الدين الحلفاوي الأنصاري وأبو الوفا العرضي ويحيى الصادق ومحمد التقوي وعبد القادر الحموي ، وهذه التقاريظ لا وجود لها في النسخة المطبوعة.


وشعره كثير أوردت منه في كتابي «النفحة» ما فيه مقنع. ثم ولي قضاء الموصل.

ثم توفي بالروم سنة ثلاث وسبعين وألف ا ه.

أقول : ومن مؤلفاته «هبة الأنام فيما يتعلق بأبي تمام» نسخة منه في السلطانية بمصر في قسم الأدب.

٩٨٦ ـ الشيخ إخلاص الخلوتي المتوفى سنة ١٠٧٤

الشيخ إخلاص الخلوتي ، الشيخ العارف بالله نزيل حلب.

كان مسلّكا ومرشدا حسن الخلق ، وهو في المقام اليونسي ، يقرب مريدوه من مائة ألف أو يزيدون.

وذكره العرضي الصغير ووصفه بصفات كثيرة ، ثم قال : كان في ابتداء أمره خادما لبعض أرباب الدول ، فلازم أعتاب أستاذه الشيخ قايا خليفة الشيخ شاه ولي ، وأقبل على الرياضة وكسر النفس وتهذيب الأخلاق وقمع الشهوات والمنع من اللذات والدخول في الخلوات أسوة غيره من المريدين ، حتى دنت وفاة الشيخ قايا فامتدت أعناق المريدين إلى الخلافة ، فاختار إخلاصا مع أن له ابنا صالحا فاضلا يقال له الشيخ حمزة ، لكن من عادة هذه الفرقة من الخلوتية أنهم لا ينصبون خليفة إلا الأجنبي ، كما أن الفرقة الأخرى من الخلوتية أتباع جدنا لوالدتنا أحمد القصيري لا يختارون إلا ابنهم أو أخاهم أو أحد أقاربهم ، ودليل الأولى اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصدّيق للخلافة مع كونه أجنبيا مع وجود العباس عمه وابن عمه علي بن أبي طالب ، ودليل الثانية طمأنينة قلوب المريدين للأقارب وعدم احتقارهم ولئلا ينقطع الخير عن ذريته.

وقد اتخذ له الوزير الأعظم محمد باشا الأرنؤد * زاوية صرف عليها مالا جزيلا ووقف عليها وقفا عظيما يحصل منه في اليوم ثلاثة قروش وطعن فيه بعض الناس أنها من مال العوارض ، ولكن قال بعضهم : إن الوزير اقترض من رئيس الدفتريين مالا جزيلا لأجل مهمات السفر ، وحصل الإيفاء من مال العوارض ، وما أظن الكلامين صحيحين.

__________________

(*) هكذا رسمها المحبي في خلاصة الأثر أيضا ، والمقصود الأرناؤوط.


وحكى لنا الشيخ عبد العزيز بن الأطرش ، وهو ناشد حلقة ذكره ، أنا كنا مع الشيخ بناحية بيرة الفرات ، وكان معي رجل يقال له الحاج حسين والله أعلم ، قال : ذهبت معه إلى ماء هناك للاغتسال ، فنزل المذكور إلى النهر فرآه عميقا ولا قدرة له على السباحة فيه ، فغط وأخرج رأسه وصرخ : إني هلكت ، وغط الثانية وأخرج رأسه لا يستطيع الكلام ، وأنا عاجز عن السباحة وما عندي أحد وثيابه بالقرب مني ، فهربت خوفا من الحكام وجئت إلى الشيخ ، فقال لي : أين الحاج حسين؟ فقلت له : يا سيدي لا أدري ، فكرر الكلام ثانيا وثالثا وقال : أين هو؟ فقلت : والله يا سيدي لا أعلم ، قال : يا مجنون ، الشيخ الذي لا يحمي مريده لا يكون شيخا. وبعد زمان طويل وإذا بالحاج حسين محمول ، انتفخ من الماء ، وفيه روح ، فعلقوه وجعلوا رأسه تحت وأقدامه فوق حتى نزل الماء من فيه وحصل الشفاء ، فسألته قال : كنت قطعت بالموت ، فرأيت يدا تدافعني إلى الساحل حتى خرجت سالما. هكذا أخبر والعهدة عليه.

وله في كل سنة أيام الشتاء خلوة عامة يجتمع إليها المريدون فيصومون ثلاثة أيام ويأكلون عند المساء مقدار أوقيتين من الحريرة ورغيفا من الخبز أكثر من أوقية ، ولا يشربون الماء القراح ، بل يشربون القهوة ، ويستمرون في الذكر والعبادة آناء الليل وأطراف النهار ، وأما باقي الأيام فيقومون سحرا ويتهجدون على قدر طاقتهم ، ثم يأخذون في الذكر إلى وقت الإسفار ، ثم يصلون الصبح لكون الشيخ حنفيا ، ويقرؤون الأوراد إلى ارتفاع الشمس ، ويصلون الإشراق. وهكذا يفعلون العبادات في أوقات الصلوات المفروضات.

وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وألف ، وبلغ من العمر إحدى وسبعين سنة. ا ه.

أقول : مكان الزاوية المذكورة في الترجمة في محلة البياضة أمام الجامع المعروف بالصروي ، وسميت الإخلاصية باسم من بنيت له ، ومكتوب على باب قبليتها :

لك الحمد يا من أرشد الخلق للهدى

وسيّر في بحر التقى كل غوّاص

وأرسل للشهبا الوزير محمدا

فأسدى بها المعروف للعام والخاص

وأنشأ فيها مسجدا دام عامرا

بذكر وتوحيد مدى الزمن القاصي

وأخلص في إنشائه متضرعا

إلى ربه العافي عن المذنب العاصي


وقال لسان الحال إذ تم أرّخوا

بنى مسجدا لله داعي بإخلاص * ١٠٤٤

وآلت هذه الزاوية إلى بني البخشي ، وسيأتيك ترجمة من تولاها منهم مشيخة ونظرا.

٩٨٧ ـ يوسف بن عمران الشاعر المتوفى سنة ١٠٧٤

يوسف بن عمران الحلبي ، الشاعر المشهور.

قال الخفاجي في ترجمته : أديب نظم ونثر ، فأصبح ذكره جمال الكتب والسير ، إلا أنه لعبت به أيدي النوى رحلة ونقلة ، فجعل الآمال على كؤوس الآداب نقله ، وهو لعمري أديب أريب ، ماله في ضروب النظم ضريب ، وحاله غير محتاج لدليل إنّي ولا لمّي ، فإنه كما عرفت الشاعر الأمي ، كما قيل :

أصبحت بين الناس أعجوبة

بين ذوي المعقول والفهم

حموي جدي فاعجبوا وانظروا

عمي خالي وأبي أمي

وفي آخر عمره داسته أقدام النوب ، وأدركته حرفة الأدب ، فصبر على الأيام المكدرة إلى أن صفت ، وعلى الليالي الجائرة فما أنصفت.

وقال السيد أحمد ابن النقيب الحلبي في حقه : هو أحد المشهورين بهذه الصناعة ، والمتعيشين بكسب هذه البضاعة. وكان في أول أمره ذا تجارة ومال ، ونباهة وحسن حال ، فقارن الأدباء من أبناء عصره وتشبث بأذيالهم ، وقصد أن ينخرط في سلكهم وينسج على منوالهم ، فنثر ونظم ، واستسمن كل ذي ورم ، وأقام على ذلك مدة مديدة بحلب ، إلى أن أدركته بها حرفة الأدب ، فطاف بلاد الشام والقاهرة المعزيّة ، ثم توجه إلى دار السلطنة السنيّة ، وامتدح أكابر علمائها ، وانتجع ندى رؤسائها. ومن شعره :

قولوا لمن بهزال الفقر يذكرني

ظننت أنك في أمن من المحن

فالشاة يؤكل منها اللحم إن عجفت

وليس يؤكل لحم الكلب بالسمن

وقد جمع ديوانا من شعره كتب عليه بعض الشعراء (١) :

__________________

(*) وعقب على ذلك الدكتور محمد أسعد طلس في كتابه «الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب» بقوله : وقد كانت فيها مكتبة حافلة ، إلا أنها تبعثرت ونقل ما بقي منها إلى خزانة كتب الأوقاف.

(١) هو الشهاب الخفاجي كما سيأتي نقلهما عنه ، لكن مع مغايرة لما هنا.


لشعر يوسف بحر في تموّجه

يهدي لأفهامنا روحا وريحانا

ذو منطق ساحر مطر وذا عجب

للسحر ينشئه وهو ابن عمرانا

ومن منتخبات أشعاره قوله :

غصن تمايل في قباء أخضر

بين الكثيب وبين بدر نيّر

ريم أحمّ المقلتين إذا رنا

فتن الأنام بسحر طرف أحور

يسطو عليّ بأبيض من أسود

ومن القوام إذا ثناه بأسمر

سلب النهى منه بقوسي حاجب

إذ حل صبري عقد بند الخنجر

ومنها في المدح :

يعطى الكثير عفاته ويظنه

نزرا فيشفعه حيا بالأكثر

لما أراني جعفرا من جوده

فأريته شعر الوليد البحتري

وله :

جاءت تهز قوامها الأملودا

حسناء ألبسها الجمال برودا

حورية في الليل إن هي أسفرت

خرّت لطلعتها البدور سجودا

لم يكفها تحكي الغزالة طلعة

حتى حكتها مقلتين وجيدا *

لعساء باردة اللمى وجناتها

كالجمر أحرقت الفؤاد وقودا

هي روضة للحسن صار خدودها

التفاح والرمان صار نهودا

فالحسن يكسو كل حين وجهها

ثوبا أغر من الجمال جديدا

يستوقف الأطيار حسن غنائها

وغناؤها أبدا تظن العودا

وقال :

لا تنكروا رمدي وقد أبصرت من

أهوى ومن هو شمس حسن باهر

فالشمس مهما أن أطلت لنحوها

نظرا تؤثر ضعف طرف الناظر

ولقد أطلت إلى احمرار خدوده

نظري فعكس خيالها في ناظري

وله :

__________________

(*) الغزالة : الشمس ، والضمير في الشطر الثاني يعود على الغزالة التي هي الظبية.


انظر إلى أجفانه الرمد

تبدل النرجس بالورد

تحمرّ لا من علة إنما

تأثرت من حمرة الخدّ

وله أشياء كثيرة من كل معنى مبتكر. وبالجملة فإن شعره جيد.

وكانت وفاته في سنة أربع وسبعين وألف. ا ه.

وترجمه الشهاب في الريحانة ، ومما قاله : أنه في أواخره داست ساحته النوب ، فأحاط به الفقر لما أدركته حرفة الأدب ، فأصبح بعد النعيم المقيم بؤسه أبا العجب.

لو كان يدري المرء أن ابنه

يحرم بالآداب ما أدبّه

وقد صحبني فرأيته بشعره معجبا طروب ، إذا سنح له معنى فكأنه قميص يوسف في أجفان يعقوب ، فمدحني بعدة قصائد ، وأهدى إلي منها ما هو على آدابه شاهد. وطلب مني يوما تقريظ شعره فقلت بديهة :

لشعر ذا الحبر يجري في تموّجه

يهدي لأسماعنا روحا وريحانا

ذو منطق ساحر مطر فواعجبا

للسحر ينشئه وهو ابن عمرانا

وكان من خزائن الأدب نهابا وهابا يطرب بألحانه ، وإن رجح على من سواه بأوزانه ، فمن عذب خطابه ، وقلائده المنتظمة في جيد آدابه ، ما أنشدنيه من قصيدة له :

أثار بأحشائي البنان المطرّف

رسيس هوى يقوى إذا الصبر يضعف

وأرقني من حي سلمى حمائم

غدت فوق أغصان المعاطف تهتف

وثغر إذا ما افتر يبدي ابتسامه

بروقا بها أبصارنا تتخطف

وخد سقى ماء الشباب رياضه

بألحاظنا منه جنى الورد يقطف

ودينار خد كامل الوزن حسنه

على حبه روحي النفيسة تصرف

وجسم صفا حسنا يكاد أديمه ال

منعم من فرط الطراوة يرشف

وقوله من أخرى :

حذار تروم الوصل من ساحر الجفن

فكم مشرفي دونه سل من جفن

وإياك من خطّيّ عامل قده

فكم أثخن الأحشاء طعنا على طعن

ألا أيها الريم الذي بات يرتقي

حشاشة نفس الصب لا روضة الحزن


بخديك ما في مهجتي من لظاهما

بجسمي المعنى ما بخصرك من وهن

ومنها :

لثمت له جيدا طلى الظبي دونه

وثغرا لماه العذب أحلى من المن

وألصقته بالصدر عند عناقه

كما ضمت الأحلام جفنا إلى جفن

وله من أخرى :

كأن زهور الروض حين تساقطت

لتقبيل أقدام الأحبة أفواه

وله من أخرى :

ربيع عدل به أيامه اعتدلت

فالشاة والذئب في أيامه اتفقا

لا تختشي الطير من ملقي الشباك لها

ولو إليها بألفي مقلة رمقا

ومما أنشدنيه أيضا قوله :

ما إن عصيت العين بعدهم سدى

إلا لأمر طال منه سهادي

لما قضى نومي بأجفاني أسى

لبست عليه العين ثوب حداد

ومنها :

رمدت جفوني عندما فارقت من

قد كان كحلا في نواظر عبده

وسرقت حمرة ناظري وسقامه

عند النوى من مقلتيه وخدّه

ومنها :

حين خبّرت أن في الطرف منه

رمدا زاد في ذبول المحاجر

جئت كيما أزور من وجه بدري

كعبة الحسن تحت سود الستائر

ومنها :

ما احمرّ طرف العين ضعفا ولا

نرجسه بدّل منه الشقيق

لكنه من حمرة الخد قد

أصبح سكرانا فلا يستفيق

ومما أنشده لي قوله في بخيل :


بخيل لو بثوم منه جادت

أنامله لغالته الندامة

ولو في النار ألقي ألف عام

لما عرفت له يوما سلامه

ولو صارت بسفرته رغيفا

ذكاء لما بدت حتى القيامة

وقوله :

أفدي حبيبا تفوق البدر طلعته

لأنها لغريب الحسن قد جمعت

حال الجمال عذارا فوق وجنته

غزالة الصبح في أشراكه وقعت

٩٨٨ ـ الشيخ مصطفى داده القصيري المتوفى سنة ١٠٧٤

ترجمه الشيخ يوسف الحسيني في كتابه «مورد أهل الصفا» فقال : هو الشيخ العارف ، ذو الفضايل والمعارف ، المربي المرشد. كان رحمه‌الله تعالى شيخا كاملا لطيف الطبع خلوقا مجللا ، معظما بين الكبار والأعيان ، ذا حشمة ووقار ، وله عند أهل عصره كمال الاعتبار ، عارفا باللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية ، وقد تلمذ له في اللسانين جماعة كبار ، وحظي عندهم بذلك ، منهم مفتي السلطنة العليا المولى أبو سعيد وغيره من علماء الروم وأعيانها.

وقد سار في مشيخته على التكية (تكية الشيخ أبي بكر ابن أبي الوفا خارج مدينة حلب) سير الفرقدين ، وهو ثالث القمرين وتابع نهج الشيخين ، وهو ثاني الخلفاء للشيخ الكبير (أبي بكر) وثالث المشايخ ذوي القدر الخطير. وقد خلفه الشيخ أحمد القاري قبل وفاته بموجب وثيقة محررة سنة أربعين وألف (وهنا ساق الحسيني صورتها وصورة ما كتبه تقريظا لها علماء عصره ، وفي نقل ذلك طول ، ثم قال) :

ولم يزل الشيخ مصطفى داده شيخا على الفقراء والدراويش في التكية المذكورة مدة تزيد على الثلاثين سنة ، قائما بحقوقها ولوازمها ، محسنا للفقراء والدراويش ، مكرما للصادرين والواردين والضيوف والمسافرين والمجاورين. والوزراء والأمراء والموالي يسعون إليه ، والمعتقدون منهم يقبلون يديه ، محترما عند أهل حلب وحكامها وخاصتها وعامها.

وكانت وفاته سنة أربع وسبعين وألف ، ودفن في المدفن السماوي قبلي حائط مزار الشيخ الكبير غربي الجامع ، وخلفه في المشيخة على التكية الشيخ حسين داده ابن الدرويش


محمد داده بن الدرويش عثمان داده. وكانت وفاته غرة شهر صفر سنة تسع وتسعين وألف ، ودفن في التكية في التربة التي دفن فيها سلفه الشيخ مصطفى داده خلف مزار الشيخ الكبير.

٩٨٩ ـ الشيخ إسماعيل الكلشني المتوفى سنة ١٠٧٦

الشيخ إسماعيل الكلشني ، خليفة الطائفة الكلشنية بحلب.

كان من خيار الخيار. ذكره أبو الوفا العرضي في تاريخه وقال في وصفه : أعطي مزمارا من مزامير آل داود ، وصار سمير العبادة والزهادة والركوع والسجود ، نشأ في العبادة والتقوى مذ كان طفلا ، واستمر على حالة واحدة شابا وشيخا وكهلا.

قرأ على العرضي المذكور في «المصابيح» للإمام البغوي مدة مديدة ، ثم استجازه فأجازه بما يجوز له وعنه روايته. وقرأ على النجم الحلفاوي في النحو والفقه مدة طويلة.

وكان أولا من المريدين للكلشنية ، وكانت زاويتهم أول من أصلحها وأنشأ هذه الطريقة في الديار الحلبية درويش رجب ، ثم إنه فعل أوضاعا مذمومة ، ثم تولى المشيخة رضوان دده فجلس مدة ولم يقبل الناس عليه ، ثم أدركته الوفاة. ثم قدم صاحب الترجمة مجازا في الديار المصرية من صاحب السجادة أحد أعيان ذرية الكلشني ، فوجده الناس ذا هيئة حسنة وشكل حسن وقراءة حسنة مجودة ، فإنه قرأ على الشيخ عبد الرحمن اليمني أحد أئمة القراءة في الديار المصرية ، وكان صاحب الترجمة يقرأ بالألحان والأوزان والأنغام من غير أن يخرج الحروف والكلمات عن حقوقها ، فاستحلى جميع الناس قراءته ، وكانوا في ليالي شهر رمضان يأتون إليه من نواحي حلب للتلذذ بسماع قراءته ، مع المحافظة على الدين والشريعة ، ويعرف الفقه معرفة لا بأس بها وبعض شيء من النحو ، ويقرىء المخاديم الصغار القرآن بالتجويد ، ويعلمهم مقدمات الفقة واللسان الفارسي ، مع الضبط لفقرائه بحيث إن غالبهم محافظون على الشريعة.

وكان لا يموت أحد من الأعيان وغيرهم إلا أحضروه يذكر أمام الجنازة تبركا به ويعظمونه ويعطونه أكثر من غيره.

وكانت الأكابر ترسل بالإحسانات فيبذلها للمريدين ولا يختص بها.


وصار لزاويته بعض خيرات وصدقات حتى انتظم أمرها. وكان يقيم حلقة الذكر ليلة الجمعة ، فيقرأ مع الجماعة سورة تبارك على أسلوب لطيف تستحليه الناس أرباب الأذواق السليمة ، ثم يذكر مع القوم على أسلوب حسن مع الرضى بالقناعة.

ثم إنه لما مات شيخه في مصر توجه إلى مصر ليأخذ البيعة على الشيخ الجديد ، فقدر الله أن الشيخ الجديد مات وهو في خلال الطريق ، وتولى غيره ، وحضر صاحب الترجمة فعظموه وأجلّوه وأعطوه إجازة أيضا ، فرجع عزيزا جليلا وأقام بحلب إلى أن توفي.

وكانت وفاته في سنة ست وسبعين وألف. ا ه.

٩٩٠ ـ صالح بن نصر الله الطبيب المتوفى سنة ١٠٨١

صالح بن نصر الله ، ويعرف بابن سلّوم بفتح السين المهملة وتشديد اللام ، الحلبي ، رئيس أطباء الدولة العثمانية ونديم السلطان محمد بن إبراهيم ، سيد الأطباء والحكماء وواحد الظرفاء والندماء.

أظهر في فنون الطب كل معنى غريب ، وركبها بمقدمات حسه كل تركيب عجيب ، فأنتج استخراج الأمراض من أوكارها ، وكان كل طبيب يعجز عن إظهارها. كان للطفه إذا جس نبضا يعطيه روح الأرواح ، ويفعل لرقته في النفوس مالا تفعله الراح ، وهذا التعريف لغيري احتجته ، ففي محله أدرجته.

ولد بحلب ونشأ بها وأخذ عن أكابر شيوخها ، واشتغل بالعلوم العقلية وجد في تحصيلها ، حتى برع وغلب عليه الطب.

وكان حسن الصوت ، عارفا بالموسيقى ، صارفا أوقاته في الملاذ ومسالمة أبناء الوقت. ثم تولى مشيخة الأطباء بحلب ، ولم يزل على تلك الحالة حتى رحل إلى الروم واختلط بكبرائها واشتهر أمره بينهم ، ونما حظه حتى وصل خبره إلى السلطان ، فاستدعاه وأعجبه لطف طبعه ، فصيره رئيس الأطباء وأعطاه رتبة قضاء قسطنطينية ، وقربه وأدناه. وبلغ من الإقبال ونفوذ الكلمة مبلغا رفيعا.

وكان في حد ذاته أعجب من رؤي وسمع في لطف البداهة والنكتة والنادرة ، وله رواية


في الشعر والأخبار واسعة. وكان ينظم الشعر ، ولم أر له إلا هذا المقطوع ، وقد جاء فيه بمضمون لطيف ، وهو :

سقاني من أهوى كلون خدوده

مداما يري سر القلوب مذاعا

ومذ شبب الإبريق في كاس حاننا

أقامت دراويش الحباب سماعا

وألف في الطب تأليفا سماه «برء ساعة». وسمت همته في اقتناص شوارد المكرمات حتى نفع بجاهه كثيرا من أهل دائرته.

ومدحه شعراء العصر ، وأحسن ما رأيت من مدائحه قصيدة مدحه بها صاحبنا المرحوم عبد الباقي بن أحمد السمان الدمشقي ، مستهلها :

بذكرك بعد الله يستفتح الذكر

فما لسواك الآن نهي ولا أمر

(أقول : ثم سرد في الخلاصة أبياتا منها اقتصرتها خوف الإطالة ثم قال) : ومنها :

أمولاي إقبالا لعبد توجهت

إليك به الآمال وصلته الشكر

إذا ما جرى ذكراك في مجلس غدا

يميل كما النشوان مالت به الخمر

ويبخل بالتصريح باسمك غيرة

وحبا وإجلالا وإن علم الأمر

وهل تختفي الشمس المنيرة في الضحى

ويكتم نور البدر أو يستر الفجر

وكانت وفاته بينكي شهر وهو في خدمة السلطان في سنة إحدى وثمانين وألف. ا ه.

٩٩١ ـ محمد غازي الخلوتي المتوفى سنة ١٠٨١

السيد محمد غازي الخلوتي ، الأستاذ العارف بالله تعالى ، خليفة الشيخ إخلاص المقدم ذكره بحلب.

وكان من خلّص عباد الله تعالى ، كثير التعبد والمجاهدة.

ورد دمشق مرتين ، وفي كلتيهما ألقى الله تعالى محبته في قلوب الناس ، وأقبلوا بكليتهم عليه ، وأخذ عنه الطريق جل أهل دمشق ، وكانوا يزدحمون عليه لأجل الطريق فلا يمكنه المبايعة باليد ، فيمسك بيده شاشا طويلا ويرسله إلى خارج الحلقة المزدحمة عليه ، فيقبض


عليه الناس ويبايعهم. وكنت أنا الفقير ممن جدّد عليه العهد.

وكان نوراني الشكل ، أخذت مهابة الصلاح بجميع أطرافه.

وكان سافر في قدمته الأولى إلى القدس وأخذ عنه بها جمع عظيم أيضا. ولم نر في عصرنا من مشايخ الطرق من أخذ عنه الناس مقدار هذا الشيخ. وبالجملة فهو مسك الختام لحزب الخلوتية في جلالة الشأن والحال والقال.

وكانت وفاته سنة إحدى وثمانين وألف بحلب رحمه‌الله تعالى. ا ه.

٩٩٢ ـ عبد الرحمن بن حسام الدين قاضي حلب المتوفى سنة ١٠٨١

عبد الرحمن بن حسام الدين المعروف بحسام زاده الرومي ، مفتي الدولة العثمانية وواحد الدهر الذي باهت بفضله الأيام ، وتاهت بمعارفه الأزمان.

وكان عالما متبحرا ، كثير الإحاطة بمواد التفسير والعربية ، جم الفائدة ، ممدحا ، كبير الشان. وكل من رأيته من الفضلاء يغلو في تقديمه وحفظ محاسنه ويقول : إنه لم تخرج الروم مثله. (ثم قال) :

ولي تفتيش الأوقاف وباشره أحسن مباشرة ، فاشتهر بالفقه ، حتى نما خبره إلى السلطان مراد فاتصل بجانبه. وبلغني أن العلة في تقربه إليه إتقانه للرمي بالسهام ، ومنه تعلمه السلطان المذكور وأتقنه. ولم يزل مشمولا بعنايته وهو يترقى في المدارس إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية وولي منها قضاء حلب ، فقدم إليها ، وسيرته بها مذكورة مشهورة ، ولأدبائها فيه مدائح كثيرة. وكان الأديب يوسف البديعي الدمشقي نزيل حلب إذ ذاك من خواصه وندماء مجالسه ، وباسمه ألف كتابيه «ذكرى حبيب» و «الصبح المنبي عن حيثية المتنبي» وترجمه بترجمة مستقلة ، وذكر أنه كان بينه وبين النجم الحفاوي مودة أكيدة.

ولم يتفق له نظم شيء من الشعر إلا هذين البيتين قالهما في حق النجم المذكور وهما :

عليك بنجم الدين فالزمه إنه

سيهدي إلى جنس العلوم بلا فصل

بنور اسمه السامي هدي كل عارف

ألا إنه شمس المعارف والفضل


قال : ولما أنشدهما قلت بديهة مخاطبا شيخنا الحلفاوي بقولي :

كفاك افتخارا أيها النجم إن ذا

المآثر بدر المجد شمس ضحى العدل

حليف العلا نجل الحسام المهذب الذي

عزمه ما زال أمضى من النصل

ومن أشرقت شهباؤنا بعلومه

وزحزح عنها ظلمة الظلم والجهل

حباك ببيتي سودد بل بدرّتي

فخار على أهل المآثر والفضل

ثم نقل من قضاء حلب إلى قضاء الشام ، وقدمها في منتصف شعبان سنة إحدى وخمسين وألف ، وله فيها مآثر ما زالت تتداولها الشفاه وتتناقلها الرواه. ولما وردها صحبة البديعي المذكور فصيره نائبا بالمحكمة العونية. وكان في خدمته أيضا الأديب الفائق المشهور مصطفى بن عثمان المعروف بالبابي ، وهو القائل فيه من قصيدة مستهلها :

هو الشوق حتى يستوي القرب والبعد

وصدق الوفا حتى كانّ القلى ودّ

يقول من جملتها في مدحه :

همام تناجينا مخايل عزمه

بأن إليه يرجع الحل والعقد

وأن على أعتابه تقصر العلا

وأن إلى آرائه ينتهي الجد

همت راحتاه للعدا وعفاته

فمن هذه سم ومن هذه شهد

من القوم قد صانوا حمى حوزة العلا

طريفا وصانتهم معاليهم التلد

هنالك ألقى رحله البأس والندى

وألقى عصا التسيار واستوطن المجد

حديقة فضل لا يصوّح نبتها

ونهر عطاء ما لسائله رد

ورقة أخلاق يسير بها الصبا

وبأس له ترمي فرائسها الأسد

قطفنا جنى جدواه حينا ولم يزل

علينا له ظل من السير ممتد

وغاب وعندي من أياديه شاهد

وواعجبا من أين لي بعدها عند

وآب فلا ورد البشاشة ناضب

لديه ولا باب المكارم منسد

فيا أوبة ذابت لها كبد النوى

لأنت برغم البعد في كبدي برد

وفاء بلا وعد من الدهر حيث لم

يكن قبل قسطنطينة باللقا وعد

أروض اللقا والله يبقيك أخضرا

أبن لي هل آس نباتك أم ورد

هنيئا لقسطنطينة الروم قد قضت

لبانتها واسترجع المنصل الغمد


أرانيه فيه الله والدهر لائذ

بأعتابه ما الوفد يزحمه الوفد

وهي قصيدة لطيفة المسلك ، وستأتي تتمة غزلها في ترجمة البابي. (ثم قال) :

وصار قاضي دار السلطنة ، ثم قاضيا بعسكر أناطولي ، ثم قاضيا بولاية الروم. وتولى في عدة مناصب آخرها قضاء مصر ، وبها توفي سنة إحدى وثمانين وألف. ا ه.

٩٩٣ ـ محمود بن عبد الله الموصلي المتوفى سنة ١٠٨٢

محمود بن عبد الله الموصلي الحنفي ، مفتي الموصل ورئيسها المشهور عند الخاص والعام بالعلوم الشرعية والفنون العقلية.

ولد بالموصل وبها نشأ ، واشتغل بالعلوم وتفنن في علم النظر والكلام والحكمة ، وبرع في جميع ذلك.

ورحل إلى حلب وأقام بها مدة ، وأخذ بها عن النجم الحلفاوي وإبراهيم الكردي وأبي الوفا العرضي والجمال البابولي وغيرهم وأجازوه.

ورجع إلى بلده ومكث مدة ، ورحل إلى الديار الرومية وحظي عند الصدر الفاضل وبقية كبرائها ، وأخذ عن جمع بها. وولي إفتاة بلده الموصل ، ورجع إليها وأقام بها يشتغل بإقراء العلوم ، وتخرج به جماعة. وكانت المسائل المشكلة ترد عليه فيجيب عنها بأحسن جواب وأتقن خطاب.

وكان عارفا بالعربية والفارسية والتركية. وله تصانيف ، منها «حاشية على التلويح» و «حاشية على البيضاوي» ونظم حسن.

وكان سهلا ذا دين متين وتقوى ويقين ، صادق اللهجة ، مواظبا على السنن النبوية والنوافل الشرعية ، حسن السمت رقيق القلب كامل العقل معتقدا للسادة الصوفية.

وحج في سنة إحدى وثمانين وألف ، وأخذ عنه جماعة بالحرمين ، منهم صاحبنا الفاضل الأديب والكامل الأريب الشيخ مصطفى بن فتح الله وطلب منه أن يجيزه ، فأجابه بديهة بقوله :

إني أجزت المصطفى الفتحي بما

أرويه عن أشياخ أهل الموصل


ومحققي أهل العراق وجلّق

والروم والشهباء أكرم منزل

وبكل ما ألفته ونظمته

ونقلته عن كل عذب المنهل

وبما يطول إذا ذكرت جميعه

بل بعضه فكفايتي بالأفضل

أعني البخاريّ الصحيح ومسلما

وبقية الست الشهيرة فانقل

عن شيخنا العرضي وهو أبو الوفا

عن عالم الشهبا الإمام الأفضل

عمر أبيه عن أبيه ذي التقى

عبد لوهّاب عن الشيخ الولي

زكريّنا عن حافظ الدنيا

شهاب الدين أحمد ابن سيدنا علي

العسقلاني الحافظ الحبر الذي

ينهى إليه كل ذي سند علي

وجميع ما يرويه في فهرسته

أطلبه فيه تجده ثمة وادع لي

ولما رجع من الحج توفي بحلب ودفن بها. وكانت وفاته في سنة اثنتين وثمانين وألف عن ثلاث وثمانين سنة تقريبا. ا ه.

٩٩٤ ـ محمد بن فتح الله البيلوني المتوفى سنة ١٠٨٥

محمد بن فتح الله بن محمود بن محمد بن محمد بن حسن البيلوني الحلبي القاضي أبو مفلح.

كان غرة في جبهة الفضل ، كثير الأدب ، راوية للشعر والوقائع ، خبيرا بصنعة النقد ، غواصا على دقائق الأدب.

ولد بحلب وبها نشأ وتأدب بوالده فتح الله المقدم ذكره. ورحل إلى الروم وسلك طريق القضاء ، فولي المناصب الستة في إقليم مصر.

وقد ذكره الفيومي في المنتزه فقال في وصفه : فاضل ركعت أقلامه في المحابر ، وسجدت في محاريب الدفاتر ، فطرّزت فلك الأوراق ، بما لذ وراق ، من نثر تغار منه النجوم ، وشعر كأنه عقد الدرّ المنظوم. ثم أورد له قوله من قصيدة مطلعها :

وجه يقابلني لكنه قمر

في الليل يطلع لكن ليله شعر

نظرته فسطا في القلب ناظره

ورب حتف به قد أوقع النظر

لله ما صنعت بي وجنتاه ومن

للنار يقرب لا ينفك يستعر


ظبي سبى اللب إلا أنه ملك

من الملائك لكن طبعه بشر

ولم يزد على هذا القدر ، وأنا رأيت القصيدة في مدائح يحيى التي جمعها التقي فاخترت منها قدرا وهو :

علقته بدويا راق منطقه

ورق حتى استعارت دلّه أخر

للسحر من لحظه معنى بقوته

عن العقول صواب الرأي مستتر

ما شاقني قبل رؤيا شكله قمر

ولم يشم بعد ريا نعله عطر

جم المحاسن معسول الدلال له ال

قد الذي خصره لا يدرك البصر

لا عيب فيه سوى أن المحاسن من

دون الأنام جميعا فيه تنحصر

عن كأسه خده سل يا نديم لكي

ينبيك أن الحميّامنه تعتصر

وانظم محاسنه درا كمبسمه

منه كدمعك در اللفظ ينتثر

الله أكبر ما هذا الفتى بشر

ولا تشاكله في ذاته الصور

لكنه سر صنع الله أبرزه

فلا يحيط به عقل ولا فكر

كم ليلة بت والأشواق تلعب بي

والفكر سامرني والنجم والسهر

تعذب القلب آمال الوصال دجى

حتى فؤادي كضوء الصبح ينفجر

لا الحب دان ولا وعد أسر به

ولا فؤاد عن الأشواق ينزجر

إذا تذكرت أيام الألى سلفت

يسيل من عبراتي السهل والوعر

أيام أنسي التي كان الزمان بها

في غفلة ليس تدري شأنها الغير

وكلما خطرت أمنية قضيت

ويكمل السعد لما يحصل الوطر

هذا الذي ذكره أنسى الحياة إلى

أن صرت حيا مع الأموات أدّكر

لا الشوق ينسي ولا دهري يعود بما

قد كان منه وليس القلب يصطبر

لكنها حسرة تبدو لسفك دمي

بها وإن دما أهل الهوى هدر

منها في المدح :

يكاد بدر الدجى ينمى لطلعته

لو كان يمشي على وجه الثرى القمر

قضى الإله بأن يفدى بحاسده

فما له حاسد باق له عمر

والدهر لو أنه ناواه لانقلصت

ظلاله ورأينا الناس قد حشروا


وله من قصيدة أخرى أولها :

دمت يا مربع الأحبة تندى

كاسيا بالزهور بردا فبردا

يا له مربعا إذا جاده

النوء فساقي الصبوح يقطف وردا

وإذا انساب في جداوله الماء

حساما جلى النسيم الفرندا

جنة والغصون في حلل

الأزهار حور بها ترنح قدا

وتهادى معاطف البان سكرا

بتهادي العناق أخذا وردا

وتدير الصبا كؤوس شذا النور

على نغمة البلابل سردا

كيف جزت الطريق جوزا ومن

خوفك دمعي بالسيل يسلك سدا

لو رعيت العهود أحسنت لكن

قلما تحفظ المليحة عهدا

وله من أخرى مطلعها :

صبابة لا اصطبار يضمرها

ومهجة لا خليل يعذرها

ودمعة لا الزفير ينضبها

وزفرة لا الدموع تضمرها

وعشقة قد أبان أولها

أن هلاك المحب آخرها

فكل نار إذا علت خمدت

سوى التي جمره تسعرها

ويح جريح اللحاظ علته

في الطب حيث الطبيب خنجرها

تبات عين الحبيب ليلته

كالنجم لكن أبيت أسهرها

لو لا الكرى قامت مرنحة

لم تك أيدي الجفون تهصرها

لي زفرة لم أزل أصعّدها

ودمعة لم أزل أقطّرها

ما العشق إلا كالكيمياء أنا

دون جميع الأنام جابرها

تبسم إن كلمت مشاكلها

ودر دمعي غدا يناظرها

هيفاء ما الغصن مثل قامتها

لكن أعطافه أشايرها

أعشق من أجلها الكثيب إذا

تضم أمثاله مآزرها

وأحسد البدر في محبتها

فغيره لا يكاد ينظرها

وألثم المسك والعبير عسى

يكون مما فتت ضفائرها

لله ما في الهوى أعالج من

لواعج في الهوى أصابرها

يا حبذا خلسة ظفرت بها

في غفلة للزمان أشكرها


حيث لعهد غدت تمدّيدا

لم تدر أسرارها أساورها

يسألها خاطري الوصال ولا

يجيب عنه إلا خواطرها

ليت ليالي الوصال لو رجعت

أو ليت قلبي معي فيذكرها

ومن مقطوعاته قوله :

لا تلم من شكا الزمان وإن لم

تشف شكواه علة المجهود

إنما يحوج الكرام لشكوى

شوق ما في طباعهم من جود

وله غير ذلك.

وكانت وفاته في سنة خمس وثمانين وألف. والبيلوني تقدم الكلام عليها في ترجمة والده.

ا ه.

٩٩٥ ـ موسى الرامحمداني المتوفى سنة ١٠٨٩

السيد موسى الرام حمداني الحلبي البصير الشافعي المذهب ، فاضل حلب وأديبها.

ولد برام حمدان من قرى حلب ، ثم توطن حلب واشتغل بتحصيل الفنون حتى تفنن في العلوم الرياضيات وبرع في العلوم الحكمية ، وأما معرفته بعلم الحرف فإنه المتصرف فيه. وكان مطلعا على مواقع العرب وغرر الأخبار ، وهو في ذلك بحر زاخر ليس له قرار ، وأما علم الأدب والشعر فقد أبدع فيه غرائب أنواع السحر.

وكان من المنتصرين لأبي العلاء المعري ويحفظ أكثر شعره ويرويه ، ويكره كل من يذم أو يسيء الظن فيه ، وإذا ذكر في مجلسه يمدحه غاية المدح ويقول : هل خلا كامل غيره من القدح ، ويقول : جميع ما نسب إليه من الأقوال المذمومة افتراء عليه ، ويقيم الأدلة على ذلك وينشد له من الشعر ما يناقض ما هنالك.

وله مؤلفات منها «نظم الأسماء الحسنى» يدل على علو مقامه.

وذكره البديعي فقال في وصفه : فاضل تقتبس مشكاة الصلاح من نوره ، وتطلب الهداية من جانب طوره. وموشحاته وشحت كل جمع ، وقرعت كل سمع. ومن خوارقه أنه بعد ما بلغ أشدّه ، خاض بحر القريض واستمده ، والشاعر يقول في المعنى :


وماذا يطلب الشعراء مني

وقد جاوزت حد الأربعين *

وقد أشار إليه السيد أحمد بن النقيب في مكاتبة كتبها إليه يقول فيها :

قسما بمن جعل الفضائل والمعالي حشو بردك

وحباك منه قريحة كعصا سميّك في أشدك

أبطلت سحر بني القريض بها فكنت نسيج وحدك

فتلقفت ما يصنعون فآمنوا رغما بمجدك

إن القوافي قد ملكت زمامها بعلو جدّك

وأخذت كل فريدة منها تضيء بسمط عقدك

وبلغت منه ما تروم فلم يصل أحد لجدك

فلأنت في شهبائها ملك القريض برغم ضدك

فاسلم ولا رميت بنو الآداب في حلب بفقدك

فأجابه بقصيدة طويلة منها :

فوق الشداد تشرّعت يا ابن النقيب قباب مجدك

وأطاعك الشرف الرفيع فأنت فيه نسيج وحدك

أتعبت جد بني العلوم فقصروا عن نيل جدك

وغدوت ترفل في العلا تيها وترغم أنف ضدك

قال : وأخبرني السيد يحيى الصادقي أن السيد موسى انتحل شيئا من شعره فقال يداعبه :

أقسمت بالسحر الحلال

وحرمة الأدب الخطير

ومجالس الأنس التي

عقدت على عقد السرور

إن كان موسى ذو الأيادي

البيض والأدب الغزير

لم يرجع المغصوب

من شعري وما أبدى ضميري

لأذيقه مر العتاب

لدى الكبير مع الصغير

بل والخصام لدى الهمام

رئيسنا صدر الصدور

وأصوغ من درر القوافي

عقد لوم مستنير

__________________

(*) البيت لسحيم بن وثيل ، وروايته : وماذا يدّري ...


ينسي أولي الألباب ما فعل الفرزدق مع جرير

فأجابه بقصيدة طويلة منها :

مالي وللقنص الصريح وهمتي صقر الصقور

وعصاي طوع يديّ تلقف كل سحر مستطير

إن ألقها انبجست عيون المجد من صم الصخور

وبها على الدر الثمين أغوص في لجج البحور

ولي اليد البيضاء بين الجمع والجم الغفير

أستغفر الرحمن حاضرة لدى المولى الكبير

نجل الحسام المستبد برأيه الليث الهصور

من شرّفت حلب به وعلت على هام النسور

إن كان ما زعموه حقا فهو أدرى بالأمور

ومما وقفت عليه أنا الفقير من شعره هذه القصيدة يمدح بها النجم محمد الحلفاوي خطيب حلب فقال :

حيا الحيا حلب العواصم والقلاع الأعصميّه

وسقى معالمها الممنعة المحصنة الأبيّه

وتداركتها بالعناية كل ألطاف خفيّه

بلد تكنفها الحدائق والرياض الأريضيه

فاحت على أرجائها نفحات أنهار زهيه

وترنحت عرصاتها بالرائحات المندليه

وتقمصت أبناؤها حللا من الزلفى العليه

ولمائها وهوائها وبنائها أوفى مزيه

فاقت على الدنيا فوافق إسمها حلب العديه

بلد هي الملك المطاع وكل مملكة رعيه

زهر النجوم لنجمها السامي الذرى خضعت وليه

نجم الهداية والدراية والأسانيد القويه


واللوذعي الألمعي السيد الوافي العطيه

لما استهل نواله الغمر الذي غمر البريه

صدحت بلابل روضها سرحا بأصوات شجيه

عقدت بأعناق العفاة شوارد المنن الخفيه

غرر القلائد والقصائد والعقود الجوهريه

ضاهى بها السبع الشداد على منازله العليه

وكواكب الجوزاء تشهد أن رتبته سنيه

وتلوّنت شمس الظهيرة عند غرته المضيه

وتواضع القمر المنير لحسن طلعته البهيه

وتمنت الأفلاك لو دارت بحضرته المليه

ألقت أعنتها العلوم إليه وانقادت أبيه

وسعت لناديه أبيّات العلوم الفلسفيه

فالفضل كل الفضل من فحوى فتاويه الجليه

والجود كل الجود من جدوى أياديه النديه

مولى يعامل من أساء بحسن أخلاق رضيه

ويصدّ عن كيد الحسود رجا الحظوظ الأخرويه

ويرد من خوف الإله عن الأمور الدنيويه

ماتت بغيظهم العدا كمدا وأنفسهم سخيه

يا زهرة الدنيا فداؤك كل نفس موسويه

وكما تحب وقتك آرام الظباء العيسويه

ومنحت ما تختار من لثم الشفاه الألعسيه

وسقتك من خمر اللمى كأس الثغور الأشنبيه

وسلمت يا مولاي من سحر اللحاظ البابليه

ومنيت ما تهواه من هصر الخصور الخاتميه

وغنتك سودات المحاجر بالبنان العندميه

وتمايلت شوقا لجبهتك القدود السمهريه


ورنت لرؤيتك اللحاظ الناعسات الجؤذريه

يا عالم الدنيا نداك على البوادي والبريه

واذكر حليفك بل أليفك في الديار الأجنبيه *

وانظر نديمك بل خديمك في الربوع الأنعميه

واعذر كليمك ما طوى تلك الدروس الطورويه

وادي المزار ولا مزار إذا تعرّضت المنيه

واجمع تبدد شملنا بك والليالي الأسعديه

فهوا كما لم يبق لي فرط الغرام به بقيه

فإذا تشاء منازلي يا غايتي منه الدنيه

وعلام أعتب إن رضيت لي المقامات القضيه

بجوار قوم مرملين من الخلال الآدميه

لا مصر داري يا همام ولا مرابعها العليه

كلا ولا لي ما حييت بجلّق والكرخ نيه

إلا جوارك منيتي وكذا مراتعه الشهيه

حيث الأخلاء الكرام ذوو المروءات الوفيه **

راق النسيم تلطفا بهم ورقّتهم سجيه

لا خانك الدهر الخؤون ولا منتك يد المنيه

وسلمت من غدر الزمان ولا مليك به مليه

فعليك مني ما ترنم طائر أزكى تحيه

مفتوقة بشذا العبير ونافحات عنبريه

واسلم ودم يدم الزمان فأنت ميزان البريه

وله أيضا في وصف الأخوة :

خليلي من إن جئت طالب مقصد

كفاني مؤونات المطالب والقصد

وإن صممت خيلي على شن غارة

وقى شرها مما يشين وما يردي

__________________

(*) في «خلاصة الأثر» : الديار الأحسنية.

(**) في الأصل وفي خلاصة الأثر : ذوي ...


وإن نابني خطب من الدهر هائل

تولى معاناة الخطوب بما يجدي

وإن أسلمتني للردى شقة الردى

أقام بأقوام جرت بيننا بعدي

فذاك خليلي إن ظفرت بمثله

فرشت مراعاة لمرضاته خدي

وأشغلت بالي في منامي ويقظتي

بما يرتضيه حالة القرب والبعد

وأسهرت ليلي في صلاح شؤونه

وعنه جبال الضيم أحملها وحدي

وكنت له حصنا منيعا وموئلا

وصنت بنفسي نفسه صولة الأسد

فإني ما أديت ما يستحقه

ولو طاقتي فيه بذلت مع الجهد

ومن أين للأيام عين بأن ترى

لذلك مثلا لا يكون بلا ندّ

ومن مقاطيعه أيضا قوله وأجاد :

أشد من الموت الزؤام مرارة

وأصعب من قيد الهوان وحبسه

معاشرة الإنسان من لا يطيقه

وحشر الفتى مع غير أبناء جنسه

وله غير ذلك (١).

وكانت وفاته في سنة تسع وثمانين بعد الألف بحلب رحمه‌الله تعالى.

٩٩٦ ـ رجب بن حجازي المتوفى سنة ١٠٩١

رجب بن حجازي ، الحمصي الأصل الدمشقي المولد ، المعروف بالحريري ، الشاعر الزجّال.

كان صحيح التخيل في الأشياء ، إلا أنه يغلب عليه جانب الهجو في تخيله والإزراء حتى بنفسه ، جيد النقد في الشعر مع أنه لا يعرف العربية ، وزّانا بالطبع وإن عرف شيئا من العروض ، وأميل ما كان في أقسام الشعر إلى الهجاء ، وله فيه نوادر عجيبة ، وله كثير من الأزجال والرباعيات والمواليا والموشحات والتواريخ والأحاجي ، وكل ذلك كان يقع له من غير تكلف روية بحيث إنه في ساعة واحدة ينظم مائة بيت ، ومثلها قطعة أو قطعتين من الزجل والموشح ، وقس على ذلك البواقي.

__________________

(١) منها مجموع قصائد في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكتبة برلين ، ذكره جرجي زيدان في آداب اللغة العربية (ج ٣ ص ٢٧٨).


وكان قليل الحظ كثير السياحة ، لم يسعه مكان ولم يقر له قرار ، وكانت سياحته مقصورة على حلب ومصر ودائرة الشام. وحج وجاور بالحرمين سنتين.

ولم يزل شاكيا من دهره باكيا على سوء بخته. ورأيت له أشعارا كثيرة غالبها شكاية وهجو ، وأما غزله فقليل ، ومن أعذبه قوله من قصيدة مطلعها :

فيض المدامع نار وجدي ما طفا

بل زدت منه تلهبا وتلهفا

وجوى أذاب جوانحي وجوارحي

وهوى على السلوان صال وألفا

ومن النوى لي لوعة لو بعضها

في يذبل أمسى رغاما أو عفا

رق الصبا لصبابتي وبكى على

حالي الحمام ولان لي قلب الصفا

والسقم واصل مهجتي لفراق من

أحببته لو عاد لي عاد الشفا

من راحمي من مسعفي من مسعدي

أفديك مالك مهجتي زر مدنفا

يا من بطلعته وسحر جفونه

بهر الغزالة والغزال الأوطفا

بشمائل فوق الشمول لطافة

منها ثملت وما شربت القرقفا

وبورد خد فوق بانة قامة

يحميه نرجس ناظر أن يقطفا

وبراحة بين العقيق ولؤلؤ

إسمح ودعني كأسها أن أرشفا

أرفق بصب قد أصبت فؤاده

ودع التجنب والتجني والجفا

ونباكر الروض الأريض فقد حكى

طيب الجنان نضارة وتزخرفا

والمزن أضحكه ونضّر وجهه

وكساه بردا بالزهور مفوّفا

وقوله من قصيدة أخرى مستهلها :

أبى القلب إلا غراما ووجدا

وطرفي إلا بكاء وسهدا

فلم يبرح الصب تبريحه

ولا الدمع راق ولم يطف وقدا

فلو لا النوى ما ألفت البكا

ولا كان بالسقم جسمي تردّى

ولا بت أرعى نجوم الدجى

ولا كان عني منامي تعدّى

فأواه صبري مضى لم يعد

وأما اشتياقي فلم يحص عدا

ومالي معين سوى أدمعي

وقلب لصد الهوى ما تصدّى

فلو بالكواكب ما بي هوت

وإلا على يذبل كان هدّا

يذكّرني ساجعات الرياض

حبيبا وربعا ربيعا وودّا


وما كنت أنسى ولكن تزيد

ولوعي قربا وصبري بعدا

رعى الله ربعا نعمنا به

وعهدا ألفناه حياه عهدا

فما راقني بعده منزل

ولا طاب عيشا ولا راق وردا

وله غير ذلك.

وكانت وفاته بحلب سنة إحدى وتسعين وألف. ا ه.

٩٩٧ ـ عطاء الله بن محمود الصادقي المتوفى سنة ١٠٩١

السيد عطاء الله بن محمود المعروف بالصادقي الحلبي القاضي.

كان من أدباء العصر الفائقين ، وله منادمة مبهجة ، وشعره بديع الصبغة والصنعة رقيق النادرة.

ولي القضاء في عدة بلاد إلى أن وصل إلى قضاء الموصل ، وفيها نظم أبياته المشهورة اللطيفة الموقع يشير فيها إلى بيتين للأمير شرف الدولة أبي الفضل بن منقذ ، وأبياته هي قوله :

ومعذّر حلو اللمى قبلته

نظرا إلى ذاك الجمال الأول

وطلبت منه وصله فأجابني

ولّى زمان تعطّفي وتدللي

نضبت مياه الحسن من خدي وقد

ذهب الروا من غصن قدي الأعدل

قلت الحديقة ليس يحسن وصفها

إلا إذا حفّت بنبت مبقل

ويك اتبع قول ابن منقذ طائعا

واعلم بأني صرت قاضي موصل

وبيتا ابن منقذهما :

كتب العذار على صحيفة خده

سطرا يحيّر ناظر المتأمل

بالغت في استخراجه فوجدته

لا رأي إلا رأي أهل الموصل

وأصل هذا ما شاع عن أهل الموصل أنهم لا يهوون إلا المعذّر ، وربما بالغ بعضهم فقال : نحن قوم إذا سمحنا في طريق المحبة بنوال لا نسمح إلا لمن ينفق على عياله.

وكانت وفاة الصادقي في سنة إحدى وتسعين وألف. ا ه.


٩٩٨ ـ مصطفى بن طه المتوفى سنة ١٠٩١

مصطفى بن طه الحلبي ، نقيب الأشراف بحلب وأحد رؤسائها.

وكان شهما جسورا خبيرا بأمور الناس ، له أنفة وحرمة. ورأس بحلب مدة ، وكان يراجع في المهام ، وولي قسمة العسكر بها وسما ، وكان الباعث لسموه مصاهرته للمولى صالح رئيس الأطباء ونديم السلطان محمد. ا ه (لم يذكر مولده ووفاته) وقد كانت سنة ١٠٩١.

٩٩٩ ـ مصطفى بن عبد الملك البابي الشاعر المشهور المتوفى سنة ١٠٩١

مصطفى بن عبد الملك ، وقيل عثمان ، البابي الحلبي الأديب المتمكن من المعارف.

وكان من أجلّ فضلاء الدهر ، وأوحد أدباء العصر ، وبالجملة ففضله يجل عن التعريف ، وأدبه غير محتاج إلى التوصيف.

نشأ بحلب وأخذ بها العلوم عن جمع من أجلهم الشيخ أبو الجود البتروني والنجم الحلفاوي والشيخ أبو الوفا العرضي والمنلا إبراهيم الكردي والشيخ جمال الدين البابولي. ودخل دمشق صحبة ابن الحسام قاضي القضاة بدمشق في سنة إحدى وخمسين وألف ، وأخذ بها عن الشيخ عبد الرحمن العمادي والنجم الغزي وأجازه مشايخه.

ورحل إلى الديار الرومية فدرس بها وانتفع به جماعة من فضلائها. ثم سلك طريق الموالي وتولى قضاء طرابلس الشام ثم مغنيسا ثم بغداد ثم المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام في سنة إحدى وتسعين. وحج في هذه السنة فتوفي بمكة.

وأشعاره كلها نفيسة فائقة مطربة رائعة ، وهي في الجزالة والفصاحة فوق شعر المفلقين من المتقدمين ، وفي الرشاقة وحسن التخيل تفوق قول المجيدين من المحدثين (١). وها أنا أتلو عليك منه ما به الأرواح تنتعش ، والجمادات ترتعش ، فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها ابن الحسام القاضي :

سرى عائدا حيث الضنى راع عوّدى

سرى البدر طيف بالدجنة مرتد

__________________

(١) أقول : طبع ديوانه في بيروت سنة ١٨٧٢ م في ٦٠ صحيفة ، وهو الآن نادر.


وما رق لو لم يدر * وجدي ولا سرى

على البعد في ثوب الحداد المرقّد

فأعجبه شوقي إليه على النوى

كذا كان حيث الشمل لم يتبدّد

وعاتبته والظن أيأس طامع

فجاوبني والقلب أطمع مجتد

ولا طفته حتى استملت فؤاده

فيا لك سعدا بعضه لين جلمد

وبت كأن الدهر ألقى زمامه

إليّ وصافاني فأحرزت مقصدي

وحكّمني من جيده وهو عاطل

فحلّاه دمعي بالجمان المنضّد

إلى أن نعى بالبين صبح كأنه

غراب النوى لكنه غير أسود

وقد جدد التذكار ما أخلق الضنى

وأي عهود مثلها لم تجدد

فيا ليت أبقى ذكرها لي عبرة

لأبكي لها أو ليت أبقى تجلدي

خليليّ ما آليتما جهد ناصح

ولكن حيران القضا كيف يهتدي

أما تصلح الأيام بعد فسادها

فلم تبق من عيشي صلاحا لمفسد

وقد زادني ظلما وأوسعني أذى

يدا عصبة لم تخش لله من يد

فأكبادهم للنحر في جوف جلمد

وألسنهم للشر في فم أسود

عسى يهدم الإحسان ما شيد الأذى

إذا لذت بالركن الشديد المشيّد

إمام أقال الدهر من عثراته

وأحيت مساعيه شريعة أحمد

كأن أماليه الرياض ثمارها

الدراريّ والأقلام صوت المغرد

منها :

يجود الحيا بالماء باك وجوده

مع البشر يهمي من لجين وعسجد

تقلدت الشهباء صارم عدله

ولو لا مضاء السيف لم تتقلد

ولو كلّف المخلوق ما فوق وسعه

سعت للقاه سعي صاد لمورد

أتى وظلام الظلم ** فيها كأنه

وساوس شرك في فؤاد موحد

فأشرق بدر العدل في عرصاتها

بوجه أغرّ مبرق العزم مرعد

تردّت بثوب بالصبابة معلم

وحفت ببحر بالمكارم مزيد

عزائم باتت فاختفى كل جاحد

وقامت فألفى وفرها كل مقعد

__________________

(*) في خلاصة الأثر : لم يرع.

(**) في خلاصة الأثر : وظلام الشرك.


وساخت أياديه فشردت الردى

وردت من العلياء كل مشرد

غدت تقرأ التحميد سورة حمده

سجودا ومن يستوجب الحمد يحمد

وقوله من أخرى يمدح بها ممدوحه المذكور فقال :

عوجا على رسم ذلك الطلل

نقضي حقوق الليالي الأول

لعل نثني أعطاف ثانية

وقد ترجيت غير محتمل

فالدهر يأبى بقاء مغتنم

فكيف يرجى لرد مرتحل

لكل ماض من شبهه بدل

وما لعهد الشباب من بدل

سقى لييلاتنا بذي سلم

كل ملثّ الرباب منهمل

معاهد طالما اقتطفت بها

زهر الهنا من حدائق الجذل

وأطلع السعد في معالمها

بدر المنى في غياهب الأمل

حيث قطوف اللذات دانية

ومورد الأنس مغدق النهل

تعثر تيها في ذيل لذتها

في هضبات العناق والقبل

بكل مستوقف العيون سنا

يدعو فراغ القلوب للشغل

أثقل أعطافه بخفته

لطف التصابي فخف بالثقل

وعطلت من حلي النبات

عذاراه فحلاه الحسن بالعطل

ألقى عليه الجمال حلته

وحلة الحسن أحسن الحلل

إذا رمتنا من قوس حاجبه

سهام جفنيه ما بنو ثعل

وارحمتا العاشقين قد دهمتهم

المنايا في صورة المقل

وقد تفاءلت من مصارعهم

إن تلافي بالأعين النجل

أسى لقد أزعج الأسى وهوى

أهويت من أجله على أجلي

فذا الذي حجبت محاسنه

عنا مساوي الصدور والنقل

من كان عني قبل النوى صلفا

أبعد من مسمعي عن العذل

ما زدت عنه بعدا بفرقته

لا واخذ الله البين من قبلي

وفي امتداحي ليث العرين غنى

عن الغنا بالغزال والغزل

مولى غدا في علاه عن رجل

أبعد عن حاسديه من زحل

الندب عبد الرحمن من فضحت

غر سجاياه الشمس في الحمل


أقام للفضل دولة حسنت

ودولة الفضل أفضل الدول

فأغدقت للورى مناهله

من بعد ما كان غائض الوشل

قد انتضى الله منه في حلب

سيف سداد لها من الخلل

حتى كسا عدله الليالي

والأيام ثوب الأسحار والأصل

واستتر الظلم من عدالته

بين جفون الظباء بالكحل

بأبيض العدل ما تركت بها

سواد ظلم إلا من المقل

واعتدلت حتى ما استمر بها

لو لا قدود الحسان ذو ميل

ما كنت أدري من قبل رؤيته

كيف انحصار الأنام في رجل

حتى رأيت امرأ يقوم به

الدهر على ساقه من الوجل

إن ادعى مبصر له شبها

فاحكم على ناظريه بالحول

وإن يكن في العيون بدر علا

فبأسه في القلوب سيف علي

رام السهى شأو مجده فسها

جزي بطرف بالسهد مكتحل

واعتل من لطفه الصبا حسدا

لا برحت حاسدوه في علل

وزوّر الغيث سح راحته

حتى اعتزى للسخاء بالحيل

وحصن البأس بالندى فغدا

أمن الأماني وغالة الغيل

يا سيدا أصبحت مكارمه

أشهر بين الأنام من مثل

كادت معاني الثناء تسبقنا

إليك والحق واضح السبل

يهنيك عيد به الهناء له

كما أهنّيك والهنا بك لي

وهاكها روضة لقد صبغت

منها خدود الربى من الخجل

لو نال فصل الربيع بهجتها

ما سلبت عنه حلة الخضل

وإنما المجد دولة جعلت

لها معاني الثناء كالخول

وله هذه النونية يمدحه أيضا :

أفي كل يوم لوعة وحنين

ومن كل فج للفراق كمين

وكل طريق هكذا غير موعر

فلي طرق كانت إليك تهون

نقضت عهودا باللوى وتصرمت

وعود وخابت يابثين ظنون

وولت لذاذات عهدت وأسفرت

نوى غربة ما تنقضي وشطون


كأن لم تدر تلك المناجاة بيننا

ولا هصرت ذاك القوام يمين

ولا أخضلت تلك المعاهد بعدنا

يضج لها صلد الصفا ويلين

عليّ لهذا الخطب إيقاظ همة

يضج لها صلد الصفا ويلين

ووجبة إرقال ينكّث بأسها

قوى البأس تدري العزم كيف يكون

فإنّ فؤادا بين جنبيّ حشوه

أمان ولي عند الزمان ديون

وسائلة عتبي أعنّي من الهوى

غنى وعتاب الغانيات شجون

أجل من تقصى المجد يا ابنة مالك

تولى شمال شمله ويمين

فلا تعتبيني واعلمي أنما العلا

أسير على وخد القلاص رهين

أتلك المطايا البزل أم سفن طغى

بها الآل تخفى مرة وتبين

تمور لرجع الحدي مورا كأنما

عراها بأصوات الحداة جنون

إذا لمحت برق العواصم لم تكد

مناسمها تقوى بهن حزون

تلفّت تلقاء الشآم كأنما

تخلّى لها بالرقمتين جنين

إذا أبصر الخالي بها قال علّقت

مشافر هاتي بالغبيط يمين

وصلنا السرى بالسير حتى شكالنا

من الوخد أخفاف لها ومتون

فرينا بها أوداج كل مطوق

من السحب ممنوع الفناء حصين

جبال تمطّت للعلا لو رأيتها

لقلت لها بين النجوم ديون

أشابت نواصيها الثلوج فما رقت

لها بعد فقدان الشباب عيون

ويا رب ليل ضل فيه دليلنا

فيهديه من نجل الحسام جبين

فتى لا ضلال بعد رؤية وجهه

ولا بارق الإفضال منه يمين

علاه رقى نسر السما بجناحه

وعرض بعيد الغايتين مصون

ورقة خلق راح يحسدها الصبا

فأضحى عليلا يعتريه أنين

وبذل تذوب السحب منه خجالة

وبأس به يمضى القضا ويدين

وعلم لو ان الناس قامت ببعضه

وهى الجهل حتى لا يكاد يبين

من القوم شادوا ذروة البأس والندى

ليوث لهم قضب اليراع عرين

هنيئا حسام الدين يا خير ماجد

به شيّدت للمكرمات حصون

بمقدم مولى قد هدت بقدومه

قلوب وقرب للكرام عيون

أناخ بأرض الروم أكرم قادم

له السعد خدن والعلاء قرين


وقد وفدت أخباره الغرقبله

تطوّق أعناق العلا وتزين

ألا هكذا في الله من يك سعيه

تدين له أيامه وتلين

فيا آل عثمان تهنوا بماجد

يذب لكم من عرضكم ويصون

رغمتم به أنف العدوّ وإنما

الزمان به من غيركم لضنين

أطلاب مسعاه هلموا أدلكم

عليه فإني في المقال أمين

ضعوا يدكم في جنح عنقاء مغرب

وأرجلكم في الريح فهو متين

وهام السهى فارقوا إذا حلقت بكم

إليه فما رمتم هناك يكون

أجاذب ضبعي إذ قواي ضئيلة

ومأمن روعي والزمان خؤون

أما إنه لولاك ما فتقت بنا

إلى الروم رتق الراسيات ظعون

ولا كنت أدري كيف تكتسب العلا

ولا كيف صعب الحادثات يهون

أقلت عثار الحال مني إذ همى

عليّ سحاب من علاك هتون

وإني لأدري أن فضلك كافل

لبانات طلاب الكمال ضمين

ومالي بعد الله غيرك مسعد

من الناس في نيل المراد معين

وفي بابكم حطت رحال مطامعي

وما تم لي إلا إليه سكون

وحاشاك أن ينتاشني برح غلة

ووردك صاف لا يغيض معين

وإنك أدرى من فؤادي بحاجتي

وحسبي بهذا كاشف ومبين

وكان وقف على هذه القصيدة أديب الزمان محمد القاسمي فاتهم البابي بانتحالها ، فكتب إليه البابي هذه القصيدة وهي :

أيشعر هذا البرق أي المناسم

سرى فيذكرنا بآي المعالم

وكم دونها من سبسب دون وطئه

سرى دونه وخد القلاص الرواسم

بريق الغضى هلا درى كيف حالنا

على البعد أخدان لنا بالعواصم

أسائلهم مالا تطيق قلوبهم

صدعت إذن بالظلم قلب المراحم

سقى الله أرضا خيموا بفنائها

وباكرها صوب الحيا المتراكم

ولا زال طفل النبت في مهد تربها

تدر عليه من دموع الغمائم

ولو سقيت أمثالها قبلها دما

لقلت سقاها من دموعي السواجم

معاهد كان اللهو فيها مساعدي

على وفق قصدي والزمان مسالمي


أأيامنا بالأجرع الفرد هل لنا

سبيل إلى عهد الصبا المتقادم

ليالي لا أقداح ترضي * مدارة

علينا سوى أحداق ظبي ملائم

ولا الخمر إلا من رضاب مبرّد

ولا الورد إلا من خدود نواعم

وسل أثلاث الجزع تخبرك أننا

نعمنا بعيش في ذراهن ناعم

إذ الروض مخضل الربى وغصونه

تقلد من قطر الندى بتمائم

وفي خلل الأغصان نور كأنه

مجامر ند في حجور الكمائم

يصافح بعضا بعضه بيد الصبا

كباسم ثغر راشف ثغر باسم

محاسن غطتها مساو من النوى

وأعراس لهو بدلت بمآتم

سل اليعملات البزل كم فتقت لنا

بأيدي السرى من رتق أغبر قاتم

وكم شدخت أخفافها هام سامد

من الشم تيها توجت بالغمائم

وكنا إذا فل السرى غرب عزمنا

تشحّذه ذكرى لقاء ابن قاسم

مقل لواء الفضل غير مدافع

وحامي ذمار المجد غير مزاحم

حديقة فضل لا يصوّح نورها

وبحر بأمواج الذكا متلاطم

عنت لمعانيه الكواكب واقتدت

بها فاغتدت ما بين هاد وراجم

ولو لا مقال جاءني منه أطرقت

حياء له الآداب إطراق واجم

وقطع أمعاء القريض لهوله

ورد القوافي وهي سود العمائم

إمام العلا إني أحاشيك أن ترى

بعين المعاني عرضة للوائم

زعمت بأني سارق غير شاعر

صدقت بمعنى ساحر غير ناظم

لقد قالها من قبل قوم فألقموا

بأيدي الهجا حاشاك صم الصلادم

رأوا مثل ما عاينت إبداع أحمد

وبادرة الطائي وطبع كشاجم

حنانيك بعض البغي لا بدع أن أتى

بشعر حبيب من رأى جود حاتم

وإن ندى نجل الحسام لروضة

أينكر فيها طيب سجع الحمائم

فدونكها أبكار فكر تزفها

يد الشوق عن ود من الريب سالم

مشيدة البنيان لا يستريبها

حسود ولا يقوى بها كف هادم

ومن مختاراته قصيدته التي مدح بها السيد محمد العرضي ومطلعها قوله :

__________________

(*) في «خلاصة الأثر» : مرضى.


هو الفضل حتى لا تعد المناقب

بل العزم حتى تطلبنك المطالب

وما قدر الإنسان إلا اقتداره

أجل وعلى قدر الرجال المراتب

أقام الفتى العرضي للفضل دولة

لها قائد من ناظريه وحاجب

بها اعتذرت أيامنا عن ذنوبها

وأقبل جاني دهرنا وهو تائب

يجددها رأي من العزم صائب

ويحرسها بأس مع الحلم عاطب

وللمجد مثل الناس سقم وصحة

وفيه كما فيهم صدوق وكاذب

أنيط به حتى لو اختار نزعه

لحن إليه وهو ثكلان نادب

ومن لم يوفّي للمعالي حقوقها

فإن مساعيه الحسان مثالب

ألم ترها كيف اقتناها محمد

تجاذبه أذياله ويجاذب

إذا الناس لم تشتق لشارب عذبها

فلا عذبت يوما عليه المشارب

فساس طواغيها وراض شماسها

وأضحى له منها وزير وحاجب

حوى سؤددا تبدو ذكاء بوجهه

وترنو لعينيه النجوم الثواقب

تغرّب لا يرضى ذرى المجد موطنا

وأمثاله حيث استقرت غرائب

دعاه العلا شوقا إليه وغيره

دعته فلباها النساء الكواعب

ومن يخسر الراحات يكتسب العلا

وبعض خسارات الرجال مكاسب

فآب بما يشجي العدا ويسره

فوائد قوم عند قوم مصائب

ليهن علاه منصب طالما صبا

له بل تهنى إذ رضيها المناصب

من القوم أما عرضهم فممنع

حصين وأما عرفهم فهو سائب

يدين لهم بالمجد دان وشاسع

وينعتهم بالفضل ساع وراكب

ففيهم وإلا لا تقال مدائح

ومنهم وإلا لا ترام الرغائب

إليك إمام الفضل منا توجهت

كتائب إلا أنهن مواكب

معان تعير العين سحر عيونها

وتسخر منها بالعقود الترائب

قد انسدلت بين الطروس سطورها

كما انسدلت فوق الصدور الذوائب

لها من براح الشوق حاد وقائد

إليك ومن لقياك داع وخاطب

محملة منّي الهناء بمنصب

تسير ببشراه الصبا والجنائب

وإن سرني أخبار أنك قادم

فقد ساءني تقدير أني غائب

قد اتسعت ما بيننا؟؟؟ النوى

وضاقت على وجه اللقاء المذاهب


فيا للموالي للعبيد بأوبة

ليهدا بها قلب من البعد واجب

وتسعد آمال وتسكن لوعة

ويفرح محزون ويبسم قاطب

ومن مبتدعاته أبياته المشهورة التي توسل بها وهي هذه :

هوت المشاعر والمدارك عن معارج كبريائك

يا حي يا قيوم قد

بهر العقول سنا بهائك

أثني عليك بما علمت وأين علمي من ثنائك

متحجب في غيبك الأحمى منيع في علائك

فظهرت بالآثار والأفعال باد في جلائك

عجبا خفاؤك من ظهورك أم ظهورك من خفائك

ما الكون إلا ظلمة

قبس الأشعة من ضيائك

وجميع ما في الكون فا

ن مستمد من بقائك

بل كل ما فيه فقير مستميح من عطائك

ما في العوالم ذرة

في جنب أرضك أو سمائك

إلا ووجهتها إلي

ك بالافتقار إلى غنائك

إني سألتك بالذي

جمع القلوب على ولائك

نور الوجود خلاصة ال

كونين صفوة أنبيائك

إلا نظرت لمستغي

ث عائذ بك من بلائك

قذفت به من شاهق

أيدي امتحانك وابتلائك

ورمته من ظلم العنا

صر والطبائع في شبائك

وسطت عليه لوازم الإ

مكان صدا عن فنائك

فإذا ارعوى أو كاد نادته القيود إلى ورائك

فالطف به فيما جرى

في طي علمك من قضائك

واسلك به سنن الهدا

ية في معارج أصفيائك

وله غير ذلك من البدائع.

وكانت وفاته في أواخر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وألف ، ودفن بالمعلاة بعد أن قضى مناسكه.


والبابي نسبة إلى الباب : قرية من قرى حلب ، لها واد مشهور بطيب الهواء وكثرة الرياض ، وفيه يقول زين الدين عمر ابن الوردي هذه الأبيات وهي :

إن وادي الباب قد ذكرني

جنة المأوى فلله العجب

فيه دوح يحجب الشمس إذا

قال للنسمة جوزي بأدب

طيره معربة في لحنها

تطرب الحي كما تحيي الطرب

مرجه مبتسم مما بكت

سحب في ذيلها الطيب انسحب

فيه روضات أنا صب بها

مثل ما أصبح فيها الماء صب

نهره إن قابل الشمس ترى

فضة بيضاء في نهر ذهب

ا ه أقول : في بلدة الباب نهر يدعى نهر الذهب ، ماؤه كالفضة البيضاء ، فيكون قوله : فضة بيضاء في نهر ذهب من المعاني البديعة.

ومن شعر المترجم كما وجدته في مجموعة بخط الشيخ محمد المواهبي الحلوي :

أود الكرى إن زار خشية نظرة

إليه فيدمى رقة خده القاني

وأسهر خوفا أن يمر خياله

بعيني فيؤذي أخمصاه بأجفاني

وله :

كأنما وقف الله العيون على

مرآى محاسنه لا شانها نظر

ولو تجلى ورا المرآة لانحرفت

إلى محياه عن أربابها الصور *

ا ه وله كما وجدت في بعض المجاميع :

ليت شعري ما الذي سحر السمع

لصوت السنطير حتى أصاخا **

ثم ماذا الذي أشار به الناي

لركب الأرواح حتى أناخا

__________________

(*) رواية البيتين في «نفحة الريحانة» :

كأنما أوقف الله العيون على

رؤيا محاسنه لاصابها ضرر

فلو بدا من ورا المرآة لا نحرفت

عن أهلها حيث دارت نحوه الصور

(**) هكذا ورد البيت في الأصل وهو مختل الوزن. ولعل الصواب :

ليت شعري ماذا الذي سحر

السمع لصوت السنطير حتى أصاخا

وأضاف في النفحة بيتا خامسا هو :

وترقى به إلى قاب قوسي

ن فألقى العصا ورام المناخا


ثم ماذا الذي به استشعر

الحسن لشد الأرواح حتى تراخى

ذاك معنى يذوقه من ترقى

عن ذرى عالم القيود انسلاخا

١٠٠٠ ـ قاضي الآستانة الشيخ محمد الكواكبي المتوفى سنة ١٠٩٣

العالم الفاضل الشيخ محمد الكواكبي. ترجمه القاضي راشد في تاريخه التركي قال :

كانت ولادته في حلب ، وحصل العلم فيها وبرع وفضل ، ثم توجه إلى إستانبول وسلك في مسلك المدرسين ، ثم صار قاضيا فيها ، وعند انتهاء مدته عزل عن القضاء فانزوى في بيته إلى أن وافاه أجله المحتوم في سنة ثلاث وتسعين وألف ، ودفن في الآستانة وقد كان حائزا أوفى نصيب من العلم والفضل والفقه والورع ، رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٠١ ـ السيد أسعد البتروني المتوفى سنة ١٠٩٣

السيد أسعد بن عبد الرحمن بن أبي الجود بن عبد الرحمن ، وتقدم تمام النسب في ترجمة إبراهيم بن أبي اليمن ، البتروني الحلبي الأديب البارع الحلو العبارة.

قرأ ودأب بموطنه ، ثم خرج في صباه إلى الروم فسلك طريق القضاء. ودخل دمشق ومصر وحظي في دنياه كثيرا وسمت همته حتى ولي إفتاء الحنفية بحلب عن مفتيها العلامة محمد بن حسن الكواكبي مدة يسيرة ، وبعد ذلك ترقى في مناصب القضاة بالقصبات حتى ولي أرقاها ، ومات وهو معزول عن أزنكميد.

وكان فاضلا أديبا حسن الهيئة ، فكها لطيفا طيب المحاورة ، شريف النفس متواضعا ، وفيه تودد وبشر وانبساط ، وهو مع ذلك شاعر مطبوع إلا أن شعره قليل وأغلبه في الهجاء وكان في هذا الباب أعجب ما سمع ، يخترع كل معنى غريب ومضمون عجيب. وأما وقائعه ومجرياته فهي من أعذب ما يحاضر به ، وكنت وأنا بالروم أسمع أشعاره ووقائعه ، ولم تتفق لي رؤيته مع المجاورة وقرب المحل إلا بعد مدة. ثم إني لزمت مجلسه وكنت مشغوفا بملازمته ومؤانسته مستعذبا أسلوبه ، ومدحته بقصيدة مطلعها :

حنانيك هل يلوى الحبيب المماطل

فتنجح آمال وتقضى وسائل


وهي طويلة جدا فلا حاجة إلى إيرادها. ومما أخذته من شعره قوله وكتب بها إلى السيد موسى الرامحمداني :

قد حل أمر عجب

شيب بفودي يلعب

نجومه لا تغرب

فأين أين المهرب

أرجو بقاء معه

ما أنا إلا أشعب

هذا الشباب قد مضى

وبان مني الأطيب

هل عيشة تصفو لمن

قد غاب عنه الطرب

دهر أرانا عجبا

وكل يوم رجب

أندب أياما مضت

فيها صفا لي المشرب

في حلب بسادة

قد خدمتهم رتب

من كل سمح ماجد

تخجل منه السحب

أفناهم الموت الذي

لكل بكر يخطب

وما بها بعدهم

من للمعالي ينسب

سوى جهول سفلة

عن كل فضل يحجب

وهو إذا أملته

كلب عقور كلب

أستغفر الله بها

أستاذنا المهذب

موسى الذي لفضله

مد رواق مذهب

حلّال كل مشكل

وحاتم إذ يهب

وإن جرى في محكم

يخال قسّا يخطب

وقد حوى معاليا

تنحط عنها الشهب

من سادة أحسابهم

تنطق عنها الكتب

مولاي أشكو غربة

طالت وعز المطلب

وتحت أذيال الدجى

حاملة لا تنجب

إلا بأولاد الزنا

هذا لعمري العجب

إليكها خريدة

منالها يستصعب

جآذر الروم لها

تسجد أو تنتسب


فاسلم ودم في رفعة

للسعد فيها كوكب

ما حركت متيّما

ورقاء حين تندب

فأجابه عنها بقوله :

ما الدهر إلا عجب

فمنه لا تستعجب

أعمارنا تنتهب

يوما فيوما تذهب

ونحن نلهو أبدا

في غفلة ونلعب

أواه من يوم يجي

وشمسه لا تغرب

صائلة فيه المنى

بصولة لا تغلب

تسطو على أرواحنا

فأين أين المهرب

تبا لدنيانا التي

لم يصف فيها المشرب

كم سيد غرت به

واراه لحد أحدب

للدود فيه مرتع

وللهوام ملعب

والويل يوم العرض إن

لم ينج منها المذنب

ومن لظى نار بها

أجسادنا تلتهب

لا عمل يرجى ولا

غوث إليه ينسب

إلا الكريم ربنا

ومن به نحتسب

مع الشفيع من إلى

جنابه ننتسب

محمد خير الورى

مقصدنا والمطلب

الحمد لله فلا

يكون مالا يكتب

والخير فيما اختاره

حتم علينا يجب

نسأله يبقى لنا

سيدنا المهذب

أسعد من ساد الورى

به وساد العرب

جوهرة العقد الذي

جوهره المنتخب

نجل الألى تجمّلت

بهم قديما حلب

علم وحلم وتقى

وحسب ونسب

يخجل من أخلاقه

زهر سقته السحب


ومن جميل صنعه

له المعالي تخطب

طلق المحيا بهج

مبجّل محجّب

ولطف أنفاس الصبا

إلى علاه ينسب

ومن إلى المجد يجا

ريه فلا يصوّب

زيد بنانا كفه

إن ضاق عما يهب

فسيب صوب جوده

يخجل منه الصيّب

لم يحل خل غيره

مودد محبب

وله غير ذلك.

وابتلي في آخر أمره بمرض المراقيا وعالجه مدة ، وكان بسببه كثير المراجعة للأطباء وكتب الطب حتى صار له في الطب مهارة كلية ، ثم بعد مدة قوي عليه المرض فكان سبب هلاكه. وتوفي بقسطنطينية ودفن بها. وكانت وفاته سنة ١٠٩٣. ا ه.

١٠٠٢ ـ باكير بن أحمد بن النقيب المتوفى سنة ١٠٩٤

السيد باكير بن أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب الحلبي ، السيد الأجل الفاضل الأديب الناظم الناثر.

كان عارفا باللغة والأدب حق المعرفة ، ولم يكن في حلب من أدباء عصره أكثر رواية منه للنظم والنثر. قال البديعي في وصفه : له كلمات من النمط العالي ، فكأنما عناه بقوله الميكالي :

إن كلام ابن أحمد الحسني

آسى كلام الهموم والحزن

سحر ولكن حكى الصبا سحرا

في لطفه غب عارض هتن

قال : وجرى ذكر نجابته ليلة في مجلس شيخنا النجم الحلفاوي فرأى في منامه كأن رجلا ينشده هذين البيتين :

باكير فاق على الأقران مرتقيا

أوج المعالي فلا قرن يدانيه

والفرع إن أثمرت أيدي الكرام به

فالأصل من كوثر الإفضال يسقيه


قلت : وقد مدحه بعض الأدباء بقوله :

إذا رمت تلقى ذات علم تكونت

وتروي حديث الفضل عن أوحد الدهر

فعرج على ذات العواصم قاصدا

سليل المعالي نجل الكرام أبا بكر *

دأب في تحصيل المعارف حتى رقي ذروة في الفضل علية ، وكان أكثر اشتغاله على والده ، وقرأ على غيره ، وتعانى صناعة النظم ، وشعره حسن الرونق بديع الأسلوب. وأخبرني من كان يدعي معاشرته وله وقوف على حاله أن أكثر شعره منحول من شعر والده.

ومن جيد شعره قوله من قصيدة :

لاح الصباح كزرقة الألماس

فلتصطبح ياقوت در الكاس

من كف أهيف صان ورد خدوده

بسياج خط قد بدا كالآس

فكأن مرآة البديع صحيفة

للحسن جدولها من الأنفاس

في روضة قد صاح فيها الديك إذ

عطس الصباح مشمّت العطّاس

ضحكت بها الأزهار لما أن بدت

عين الغمام القاتم العباس

ورقى بها الشحرور أغصانا غدت

بتموج الأرياح في وسواس

والورد تحمده البلابل هتّفا

من فوق غصن قوامه المياس

ويرى البنفسج عجبه فيعود من

حسد لسطوته ذليل الراس

والطل حل بها كدمع متيم

لمعاهد الأحباب ليس بناس

فتظن ذا ثغرا وذا عينا وذا

خدا لغانية كظبي كناس

واحمّر خدّ شقائق مخضلة

حميت بطرف النرجس النعاس

حسدا لخد الطرس لما أن غدا

خط القريض بمدح فضلك كاس

وقوله مضمنا :

بك صرح العلاء سام عماده

وكذاك الكمال وار زناده

إن كل الأنام من ناظر الدهر

بياض وأنت منه سواده

قد غرقنا من فيض فضلك

في أمواج بحر تتابعت أزباده

__________________

(*) هكذا في الأصل. ويستقيم بقولنا : سليل المعالى والكرام أبا بكر.


وإذا الفكر لم يحط بمعاليك

جميعا وخاب فيك اجتهاده

فاعتذاري ببيت ندب همام

ماكبا في ميدان فضل جواده

إن في الموج للغريق لعذرا

واضحا أن يفوته تعداده

ومن مقاطيعه قوله في تشبيه ثلاث شامات على نمط :

في جانب الخد وهي مصفوفة

كأنها أنجم الذراع بدت

وقوله :

في خده القاني المضرج شامة

قد زيد بالشعرات باهر شانها

كلهيب جمر تحت حبة عنبر

قد أوقدت فبدا زكي دخانها

وأنشد له البديعي قوله من قصيدة في المدح :

تهلل وجه الفضل والعدل بالبشر

وأصبح شخص المجد مبتسم الثغر

ومنها :

فيالك من مولى به الشعر يزدهي

إذا ما ازدهت أهل المدائح بالشعر

فريد المعالي لا يرى لك ثانيا

من الناس إلا من غدا أحول الفكر

معنى البيت الأول مطروق وأصله قول أبي تمام :

ولم أمدحك تفخيما بشعري

ولكني مدحت بك المديحا

وأبو تمام أخذه من قول حسان في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ما إن مدحت محمدا بمقالتي

لكن مدحت مقالتي بمحمد

والبيت الثاني مأخوذ من قول بعضهم :

إن من يشرك بالله جهول بالمعاني

أحول الفكر لهذا ظن للواحد ثاني

وله ويروى لوالده :

صدر الوجود وعين هذا العالم

وملاذ كل أخي كمال عالم

أيضا :


إن لم تكن لذوي الفضائل منقذا

من جور دهر في التحكم ظالم

فبمن نلوذ من الزمان وباب من

ننتاب في الأمر المهم اللازم

فبحق من أعطاك أرفع رتبة

أضحى لها هذا الزمان كخادم

وحباك من سلطاننا بمواهب

تركت حسودك في الحضيض القاتم

فإذا تتوج كنت درة تاجه

وإذا تختم كنت فص الخاتم

إلا نظرت بعين عطفك نحونا

وتركت فيهم كل لومة لائم

ورعيت في داعيك نسبته إلى

خير البرية من سلالة هاشم

فالوقت عبدك طوع أمرك فاحتكم

فيما تشاء فأنت أعدل حاكم

قلت : هكذا أنشدني هذه الأبيات صاحبنا المرحوم عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن السمان الدمشقي ، وذكر لي أنه أخذ قوله : فإذا تتوج إلى آخره من قول أبي الحسين العرضي العلوي :

كأنما الدهر تاج وهو درته

والملك والملك كف وهو خاتمه

ولم يدر مع سعة اطلاعه أن البيت برمته لأبي الطيب في قصيدته التي أولها :

أنا منك بين فضائل ومكارم

ومن ارتياحك في غمام دائم

وقد أطلنا الكلام حسبما اقتضاه المقام ، وبالجملة ففضل صاحب الترجمة غير خفي ، بل هو أجلى من الجلي.

وكانت ولادته في سنة ثلاث وثلاثين وألف ، وتوفي في سنة اربع وتسعين وألف بحلب رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٠٣ ـ محمد بن حسن الكواكبي المتوفى سنة ١٠٩٦

محمد بن حسن بن أحمد بن أبي يحيى الكواكبي الحلبي الحنفي ، مفتي حلب ورئيسها والمقدم فيها في الفنون النقلية والعقلية ، مع سعة الجاه والمال وشهرة الصيت والأناة والحلم. وكان أعظم رجل جمع كل صفة حميدة وألم بكل منقبة سامية. انتهت إليه مكارم الأخلاق والبشاشة وصدق الوعد.


وكان مع علمه الزاخر وعلو سنه وقدره لين قشرة المعاشرة مخالطا يحضر مجالس المداعبة والغناء ويقول : رب معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا.

نشأ بحلب وأخذ بها عن جمع من محققي عصره ، منهم الشيخ جمال الدين البابولي (١) ، وجد كثيرا حتى نال الرتبة العظيمة. وكان حديد الفهم سريع الأخذ للأشياء الغامضة. حكي أنه دخل يوما إلى مجلس النجم محمد بن محمد الحلفاوي خطيب حلب ، فسأله عن مسألة في الأصول فلم يدرها ، وكان النجم قصد أن يظهر زيفه ويعرف أنه لم يشتغل في الأصول ، فقام من المجلس وانفرد بنفسه مدة في داره وانكب على مطالعة الأصول حتى عرف من نفسه أنه حصله وأخذ بأطرافه ، ثم ذهب إلى النجم وناظره في مسائل كثيرة من هذا العلم فأربى عليه وشهد له النجم بمعرفته. وكان النجم المذكور في هذا العلم ممن لا يدرك شأوه.

وما زال بعد ذلك يترقى في الفضل حتى انفرد ، وولي إفتاء حلب وتصدر بها وأفاد ودرس وألقت إليه علماؤها أعنة التسليم ، وتواتر خبر فضله.

وبلغني أن السيد عبد الله بن الحجازي الآتي ذكره كان طلب من الوزير الفاضل أيام انضمامه إليه أن يشفع له في منصب الفتيا عن الكواكبي عند شيخ الإسلام يحيى المنقاري ، فلما فاوضه الوزير في ذلك قال له المنقاري : إذا عزل الكواكبي نضطر إلى أن نوجه إليه منصبا يليق به ، ولا يليق به إلا منصبي ، وقصد بذلك أن يكف الوزير عن هذا الأمر ، فلم يذكر له بعد ذلك ، وبقيت عليه الفتوى إلى أن مات.

وألف المؤلفات العديدة ، منها «نظم الوقاية» في الفقه وشرح نظمه شرحا مفيدا ، وله «نظم المنار» وشرحه في الأصول ، و «حاشية على تفسير البيضاوي» التزم فيها مناقشة سعدي (٢) ، وأخرى ناقش فيها عصام الدين ، و «حاشية على شرح المواقف» للسيد ،

__________________

(١) ومنهم عم أبيه المولى العلامة محمد أفندي ابن العارف بالله تعالى سيدي الشيخ محمد الكواكبي ، ذكر ذلك الشيخ يوسف الحسيني في ثبته «كفاية الراوي والسامع وهداية الرائي والسامع» في ترجمة المولى المذكور.

(٢) نسخة من هذه الحاشية في الأحمدية بحلب ورقمها ٣٥ ، ونسخة في مكتبة نوري باشا الكيلاني في حماه الموضوعة في جامع الشيخ إبراهيم ورقمها ١٩ وناسخهما واحد وخطهما حسن ، ونسخة في مكتبة سليم آغا ورقمها ٩٢ ، وفي مكتبة قره مصطفى باشا ، وفي مكتبة داماد إبراهيم باشا ، وفي مكتبة عموجه حسين باشا ، وهذه المكاتب في الآستانة.


وغير ذلك من التحريرات (١). وله نظم ونثر في غاية اللطافة ، فمن شعره قوله :

أورقاء عن عهد الحبيب تترجم

ليهنك إلف بالغوير مخيم

لئن تندبي إلفا وماشط حيه

فإني على شط المزار متيم

وهب سجعك الموزون باللحن مطرب

فدمعي أوفى صامت يتكلم

لكي مثل ما في العندليب وسجعه

ولي بالفراش الشبه والفرق يعلم

وقوله :

يا أيها البدر المنير إذا بد

وإذا رنا يا أيها ذا الريم *

كم ذا تموّه عن صبابة عاشق

صب على طول الصدود مقيم

فارحم ضنى جسدي وحسن تصبري

وارع الجميل فما الجمال يدوم

وله هذا المفرد :

فلا تعجبوا من لكنة في لسانه

فمن حلو فيه لا يفارقه الحرف

وهذا المعنى أصله بالتركية ، وكنت عربته قبل أن أرى بيت الكواكبي بقولي :

ما لكنة فيه تشين وإنما

تأبى الحروف فراق شهد لسانه

وللكواكبي مضمنا بيتي أبي العباس المرسي.

حتام في ليل الهموم زناد فكرك تقتدح

قلب تحرق بالأسى

ودموع عين تنسفح

ارفق بنفسك واعتصم

بحمى المهيمن تنشرح

واضرع له إن ضاق عنك خناق حالك تنفسح

ما أمّ ساحة جوده

ذو محنة إلا منح

أو جاءه ذو المعضلات بمغلق إلا فتح

__________________

(١) منها مجموع أبحاث تتعلق بسورة الأنعام موجودة في المكتبة الأحمدية في قسم التفسير ، ومنها رسالة في المنطق ذكر فيها وجه تقدم المتصوّر على التصديق وهي حاشية على الشمسية على هذا البحث وهي في كراسة.

(*) بعد هذا البيت كما في «خلاصة الأثر» :

ومعلم الغصن الرطيب تمايلا

رق النسيم لها فكاد يهيم


فدع السوى وانهج على

نهج السويّ المتضح

واسمع مقالة ناصح

إن كنت ممن ينتصح

ما تم إلا ما يريد

فدع مرادك واطرح

واترك وساوسك التي

شغلت فؤادك تسترح

وله غير ذلك (١).

وكانت ولادته في سنة ثمان عشرة وألف ، وتوفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة سنة ست وتسعين وألف. ا ه.

وترجمه الشيخ يوسف الحسيني الحنفي الدمشقي ثم الحلبي من رجال القرن الثاني عشر في ثبته الذي سماه «كفاية الراوي والسامع وهداية الرائي والسامع» ، رأيته بخطه عند الأستاذ الفاضل الشيخ كامل الهبراوي نقتطف منها ما يأتي : قال :

هو خاتمة المحققين على الإطلاق ، وفذلكة مفردات المفسرين بالاتفاق ، سلطان العلماء الأعلام في عصره ، وواحد أساطين الإسلام في مصره ، محرر المعقول ، ومقرر المنقول بيت الولاية والعلم ، وكنز الهداية والحلم ، شمس الدين محمد بن الحسن الكواكبي. (قال) :

وأنا وإن لم أتشرف برؤيته والاجتماع به فقد أدركت حياته وأنا بدمشق الشام وهو إذ ذاك مفتي حلب الشهبا وعالمها ورئيسها المقدم فيها في الفنون النقلية والعقلية مع سعة الجاه والمال وشهرة الصيت ونفوذ الكلمة وسعة العقل وحدة الفكر. وكان ودودا حلو المداعبة مع الوقار والحلم والأدب مع من هو دونه فضلا عن غيره ، يخاطب كل أحد على قدر عقله ، ويكلم كل إنسان بما يناسب طبعه ، مع الوقوف على حدود الشريعة والتكلم بالحق ، زاده الله بسطة في العلم والجسم والجاه والمال. وكانت حكام الشرع والعرف

__________________

(١) من ذلك ما رأيته على وقفية عبد القادر جلبي ابن الحاج عمر الشهير بجورباجي زاده ، وهي محررة سنة ١٠٩٣ وقد وقع عليها المترجم نظما قوله :

وقف صحيح لازم مؤبد

بالحكم في لزومه مؤيد

انعقدت خناصر الإجماع

على لزومه بلا نزاع

فعاد وقفا ساطع البرهان

مشيد الأركان والمباني

والله يولي الواقف الكرامه

بعفوه في موقف القيامه

ثم ذيل ذلك بإمضائه بخطه.


تجله وتهرع إليه وتتمثل أمره ونهيه ، وجميع أهل بلدته يهرعون إليه ويقبلون يديه ويسمعون كلمته وهو يحميهم مما يضرهم ، ويسوقهم إلى ما ينفعهم. وكانت كبراء الدولة من أهل الروم وزراؤهم ومواليهم وقضاة عسكرهم ومشايخ إسلامهم يعتبرونه ويحترمونه ويكاتبونه ، ويراجعونه ويعتمدونه كل الاعتماد. هكذا كانت تنقل إلينا الركبان أخباره في حياته ونحن في دمشق ، ثم لما وردنا حلب وتوطناها بعد وفاته سمعنا من أهلها بعد انتقاله أضعاف ما كنا نسمع حال حياته ، فهذا هو الفخر الذي لا ينال بالجد والاجتهاد ، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. (ثم قال) :

وبقيت عليه الفتوى إلى أن مات وإن تخلله عزل ما في أثناء ذلك لكنه كان لا يعد.

وكانت وفاته يوم الخميس ثالث ذي القعدة سنة ١٠٩٦ ودفن عند جده الشيخ محمد أبي يحيى في جامعهم المشهور. ا ه.

أقول : ووجدت بخط بعض الفضلاء أنه دفن في الرواق الصغير.

وممن مدحه قاضي مكة الشيخ محمد زين العابدين الصديقي سبط آل الحسن كما وجدته في مجموع في مكتبة المدرسة الطرنطائية في مدينة حلب بخط أحمد أفندي الكوراني تلميذ المولى الكواكبي قال :

أآفاق حسن أشرقت بالكواكب

وإلا بدور تنجلي في الغياهب

وإلا شموس بالسناء تشعشعت

فعم الضيا في شرقها والمغارب

وإلا رياض الزهر فتح نورها

كزهر السما والطيب عرف الأطايب

وإلا سطور في طروس تنظمت

كنظم عقود في نحور الكواكب *

بمنثور فضل قد طوى كل درة

من العالم النحرير عالي المناقب

كتاب كريم من كريم أصوله

كرام سموا مجدا ببيت الكواكبي

بلاغته السحر الحلال ولفظه

زلال حلا ذوقا لأهل المشارب

فلا زال منشيه بخير ونعمة

ودولة إقبال وعزة جانب

وإني ابن زين العابدين محمد

ومن آل ثاني اثنين أفضل صاحب

وسبط رسول الله أشرف مرسل

نبي أتانا من لؤي وغالب

__________________

(*) لعل الصواب : في نحور الكواعب.


عليه صلاة الله ثم سلامه

مدى الدهر ما سحت عيون السحائب

وآل وصحب كلما قال مادح

أآفاق حسن أشرقت بالكواكب

وهنا ساق كتابا نثرا أرسله للولي المذكور.

وقد تلقى العلم عنه كثيرون صاروا غرة في جبين عصرهم ونجوما يهتدى بهم ، منهم ولده العلامة الشيخ أحمد الكواكبي مفتي حلب بعد والده المتوفى سنة ١١٢٤ ، والعلامة الشيخ علي بن أسد الله المتوفى سنة ١١٣٠ ، والعلامة الشيخ محمد بن محمد البخشي المتوفى بمكة سنة ١٠٩٨ ، والعلامة عبد الله بن محمد الحجازي المتوفى سنة ١٠٩٦.

ومن آثاره تجديد جامع جده محمد بن أبي يحيى ، وقد أرخ ذلك بعض الشعراء بقوله :

تبرع لله العلي جنابه

فأبدع بالإفضال من كل جانب

أجل أولي العلم الهمام محمد

ونجل أبي يحيى إمام المناقب

بتجديد هذا الجامع الفرد طالبا

رضا الله إن الله خير المطالب

ليرغب في المحيا وفي الذكر والهدى

به الناس والمحيا حياة لراغب

ويغرب في كسب المحامد والعلا

وإن اكتساب الحمد أسنى المناقب

فتم بناء عم في وصفه الثنا

وناسب فيه الحسن حسن التناسب

ومن أفقه التاريخ أطلع كوكب ال

ثواب لسعد دام بابن الكواكبي

١٠٥٢

تاريخ آخر :

لقد أفرغ المولى الهمام محمد

على قالب التقوى بناءك إذ فرغ

فيا جامع المحيا الذي ضم جده ال

إمام أبا يحيى ومن نوره بزغ

لئن قيل إن الخير يبلغه الفتى

بسعي فمولانا بتاريخه نبغ

١٠٥٢

وقد وفقني الله تعالى لطبع شرحيه على منظومتيه في الفروع والأصول في مصر مع بعضهما في مجلدين وذلك سنة ١٣٢٢ ، وسبب نهوضي لطبع هذين الكتابين أن عندي الجزء الثاني من شرح المولى المذكور على منظومته في الفروع الذي يبدأ فيه من كتاب البيوع ، وكنت كلما طالعت فيه ازددت فيه شغفا لسلاسة نظمة وسهولة شرحه ، فأخذت


في البحث عن الجزء الأول إلى أن ظفرت به في المكتبة العثمانية في حلب (١) ، فاستنسخته بخط يدي وذلك سنة ١٣١٨ ، واستنسخ في ذلك الحين السيد عبد القادر الكواكبي من ذرية المؤلف نسخة لنفسه ، واستنسخ شرح المصنف على منظومته الأصولية من نسخة في مكتبة الأحمدية بمدينة حلب وقابلها على نسخة أخرى في المكتبة المذكورة (٢) ، وكنت أتمنى طبع هذين الشرحين تعميما للاستفادة منهما ، ثم وجدت أن التمني لا يجدي شيئا ، فعقدت النية على ذلك وخابرت الشيخ فرج الله ذكي أحد أرباب المطابع في مصر فوافق على طبعهما. وتفضل السيد عبد القادر الكواكبي بإعطاء نسختيه فأرسلتهما للشيخ فرج الله ذكي وكمل الطبع سنة ١٣٢٧. وتفضل صديقنا السيد مسعود أفندي الكواكبي شقيق السيد عبد الرحمن أفندي ونقيب أشراف حلب بتقريظ الكتابين بأبيات أرسلها إلينا أثبتناها في خاتمة الطبع وهي :

تباشر أهل العلم من كل جانب

بنظم ونثر للإمام الكواكبي

أحاط بمجموع الأصول وهكذا ال

فروع كفت عن غيرها كل طالب

وقد كان قبل اليوم كنزا مطلسما

تنص للقياه كناز النجائب

فوفق مولى الفضل جل جلاله

لإخراج ذاك الكنز أسنى الرغائب

وقد زاده حسنا رصانة طبعه

فجاء بعون الله في خير قالب

لئن كان هذا النظم في الفهم هينا

ففي نظمه لا شك كل المصاعب

فإن تعجبوا ممن فدى وقت غيره

بأوقاته قصدا لترغيب راغب

فأعجب منه من تقاصر عزمه

عن الحفظ إن الحفظ أدنى المراتب

وأعجب من هذين من ليس يقتني

كتابا به يكفى عظيم المتاعب

جزى الله خيرا سادة مهدوا لنا

إلى العلم والتعليم أقرب لاحب

وحمدا له أن أصبح العلم دانيا

وزال عن الطلاب رين الغياهب

وأذهانهم تمت جلاء فأرخوا

وطاب بسلك الطبع نظم الكواكبي

١٣٢٢

__________________

(١) يوجد نسخة منه في الأحمدية بحلب ، وفي مكتبة عموجه حسين باشا ونسختان في مكتبة كوبريلي وفي مكتبة الفاتح ، وهذه المكاتب الثلاث في الآستانة.

(٢) يوجد نسخة من إرشاد الطالب في مكتبة المدرسة الحلوية آخرها ما نصه : قد يسر الله مقابلة هذه النسخة على نسخة المصنف. ويوجد نسخة في مكتبة لاله لي في الآستانة وفي مكتبة ولي الدين فيها أيضا.


ولابن المصنف وهو السيد أحمد الكواكبي المتوفى سنة ١١٢٤ حاشيتان على شرحي والده ، ظفرت بالحاشية الأصولية بين كتب ملقاة في خزانة في جامع أبي يحيى الكواكبي في محلة الجلّوم داخل ضريح أبي يحيى المذكور ، فاستنسخت منها نسخة أرسلتها للشيخ فرج الله المتقدم الذكر على أمل طبعها في آخر الكتاب ، فلم يتسهل له ذلك ، وبقيت النسخة الأصلية عند السيد عبد القادر الكواكبي المتقدم الذكر أيضا ، ثم سرقها من عنده بعض من يلوذ به مع عدة كتب. وكنت قد استنسخت منها بخطي مقدار الثلث وأسفت كثيرا لعدم إتمام نسخها لأنها نادرة الوجود ، وربما كانت هي النسخة الوحيدة ، وسماها المؤلف «المباحث العجائب على شرح منظومة الكواكب» وتبين من خلالها أنه ألفها في حياة والده لأنه كثيرا ما يقول : قال سيدي الوالد حفظه الله تعالى.

١٠٠٤ ـ عبد الله بن محمد حجازي المتوفى سنة ١٠٩٦

السيد عبد الله بن محمد حجازي بن عبد القادر بن محمد أبي الفيض الشهير بابن قضيب البان ، الحلبي الحنفي ، الفاضل الأديب الشاعر المنشىء البليغ.

كان واحد الزمن وغرة جبهة الدهر ، وله في الفضل شهرة طنانة وحديث لا يمل. وكان مع علو قدره وسمو شأنه لين قشرة المعاشرة ممتع المؤانسة حلو المذاكرة جامعا آداب المنادمة عارفا بشروط المعاقرة. وكان أحد المبرزين بحسن الخط مع أخذه من البلاغة بأوفر الحظ.

وله تآليف سائغة ، منها نظمه للأشياء الفقهية ، وكتاب «حل العقال» (١) ، وذيل على كتاب الريحانة ولم يكمله. وشعره وإنشاؤه في الثلاثة حلو مطبوع.

وكان دأب في طليعة عمره وحصل وأخذ عن جملة من العلماء ، منهم العلامة محمد ابن حسن الكواكبي مفتي حلب ، والمنلا محمد أمين اللاري قدم عليهم حلب ، والسيد محمد التقوي الحكيم ، والشيخ مصطفى الزيباري.

وتفوق وتصدر للتدريس في المدرسة الحلوية ، وولي نقابة الأشراف ، وأعطي رتبة قضاء ديار بكر.

__________________

(١) مطبوع في مصر وهو متداول ، ويوجد منه نسخة خطية في مكتبة المدرسة الصديقية بحلب.


ثم استدعاه الوزير الفاضل لما بلغه فضله ، فانحاز إليه واشتد اختصاصه به وحل منه محل الواسطة من العقد ، فسير فيه قصائد فائقة وأنشدني منها جلها فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله من قصيدة حسنة التركيب وذلك محل التخلص منها :

ولرب يوم قد تلفعت الضحى

منه بثوبي قسطل وغمام

حسرت قناع النقع عنه عصبة

غبر الوجوه مضيئة الأحلام

متجردين إلى النزال كأنما

يتجردون لواجب الإحرام

لا يأنسون بغير أطراف القنا

كالأسد تألف مربض الآجام

يسري بهم نجمان في ليل الوغى

رأي الوزير وراية الإسلام

ثم ترقى عنده في المنزلة حتى استدعاه إليه وصيره نديم مجلسه الخاص ، فحسده حواشي الوزير ، ودخل إليه أحدهم في زي ناصح يقول له : إن حال الدولة في تقلباتها ليس بالخفي ، وقد أمكنت الفرصة ، فإذا طلبت قضاء نلت ما طلبته على الفور. فانساغ لهذا القول ووقعت منه هفوة الطلب والإلحاح ، فانحرف الوزير عليه وظن أنه سئم من مجلسه ، فوجه إليه قضاء ديار بكر استقلالا ، فتوجه إليه ، وكان مع خبرته وتجربته للأمور سيىء التدبير ، فانزوى عن الاجتماع بأحد وفوض أمر القضاء لرجل من أتباعه ، فتجاوز الحد في أخذ مال الناس رشوة ، ولم يمكنهم عرض ذلك على السيد صاحب الترجمة ، فشكوا أمرهم إلى جانب السلطنة فعزلوه ، وانخفض قدره وأقام مدة طامعا في أن يحصل على غرض من أغراضه فما قدر له. واستمر بالروم نحو خمسة أعوام منزويا ، واجتمعت به أيام انزوائه بقسطنطينية ومدحته بقصيدة طويلة مطلعها :

بدا فأراك الغصن والشادن الخشفا

بديع جمال جاوز النعت والوصفا

أغنّ يكاد الظبي يحكي التفاته

وتختلس الصهباء من جسمه لطفا

إذا طرفت منه العيون بلمحة

فأيسر شيء منه ما ينهب الطرفا

تروح به الألباب نهب هجيره

وما عفرت خدا ولا انتشقت عرفا

سقى عهده بالسفح حلة هاطل

إن المزن لم يطو الزمان له سجفا

أوان توافينا نشاوى من الصبا

ولم يبق منا الوجد إلا هوى يخفى

تحجبنا الظلماء حتى كأننا

رعينا لها من كل مكرمة صنفا

وبات يحييني بممزوجة الطلا

فإني قد آليت لاذقتها صرفا


إلى أن تولى الليل قائد جيشه

وراح سهيل الأفق يقدمه طرفا

وقفنا وأدمينا المحاجر برهة

فسالت نفوس في مهارقنا ذرفا

وسار مسير البدر يطوي منازلا

على أنه لا محق فيه ولا خسفا

فأودعني منه تعلة وامق

وزفرة وجد لم تكد أبدا تطفا

أسر بتجديد الهوى ذكر عهده

وإن كنت لا أقوى لأعبائه ضعفا

عدمت فؤادا لم تبت فيه لوعة

من العشق تذكيه لواعجها لهفا

أبيت ولي قلب يقلب في الجوى

فللشوق ما أبدى وللوجد ما أخفى

ويذكرني عهد التصابي مغرّد

من الشجو يتلو في أغاريده صحفا

كلانا غريب يشتكي فقد إلفه

فيبكي وحق الإلف أن يبكي الإلفا

تعللنا الآمال وهي كواذب

ومن دونها وعد نرى دونها خلفا

فليت الهوى فينا رخاء صنيعه

ولم يبق رحما من لدينا ولا عطفا

فنفرغ من كل الأماني لمدح من

به صح جسم الفضل من بعد ما أشفى

هو ابن الحجازيّ الرفيع جنابه

أعز الورى جاها وأعلاهم كهفا

فتى طابت الدنيا بحسن خصاله

ولم يبق فيها الدهر خطبا ولا صرفا

تثقفت الآراء منه بأروع

يخيف الضواري حيث ما اقتحمت حرفا

ويفترّ عن لألاء بشر كأنه

مقّبل شاد لا تمل به الرشفا

فما روضة قد فاح نشر عبيرها

بأطيب يوما من خلائقه عرفا

تحلت به الأعناق عقد مواهب

إذا ما هطلن استحيت المزنة الوطفا

فما تنطق الأفواه إلا بمدحه

ولا ترفع الآمال إلا له كفا

فديتك يا من لو صرفت لمدحه

جميع وجودي رحت أحسبه قذفا

وأحقر فيه المدح حتى لو انه

تجاوز ضعف الضعف بل مثله ضعفا

فيا أيها المولى الذي عم جوده

ومن عشت دهرا لم أفارق له عطفا

لرحماك أشكو من زماني حوادثا

أبادت بقايا الصبر من جلدي عنفا

فما كنت إلا الشمس في فلك العلا

تعدى عليها البين فانمحقت كسفا

حنانيك فالحظني بنظرة مشفق

تنبه مني الحظ من بعد ما أغفى

ودونكها ورقاء في روض محتد

تقلد إذن الدهر من درها شنفا

تود نجوم الأفق لو كن منطقا

لها وكلا البدرين يشطرها وحفا


نثرت عليها من مديحك لؤلؤا

فأهوت أيادي المجد ترصفه رصفا

تمتع بها واستر بعفوك هفوها

فمن دونها الحساد ترمقها طرفا

ودم في عرين العز صدر ليوثه

وكل البرايا منك قد نكبت خلفا

مدى الدهر ما حادت قريحة شاعر

ببيت فحاز الفخر دنياه واستكفى

فلما أنشدتها بين يديه نشط لها وتبجح بها وتحفظ أغلبها وتجزل صلتي عليها ، ومن عهدها لزمته لزوما لا انفكاك معه.

ووقع لي معه محاورات عجيبة من جملتها أني دخلت عليه يوما في وقت الصبوح فرأيته نائما ، فكتبت إليه هذه الأبيات بديهة ووضعتها على وسادته وهي :

أيها الراقد طاب العي

ش فاستحكم فلاحك

قم نباكرها شمولا

تبعث اليوم انشراحك

واصطبح كأس الحميا

أسعد الله صباحك

فلما استيقظ دعاني إليه وجلسنا نتفاوض المطارحة والمساجلة ، ثم استغرق بنا الوقت ثلاثة أيام فكان يقول لي : كل بيت بيوم. ودخلت عليه يوما فوجدته منقبضا والفكر قد استوعبه ، وكان إذ ذاك في غاية الانحطاط فأنشدته :

ولو كان عقل النفس في المرء كاملا

لما أضمرت فيما يلم بها هما

فأنشدني على الفور :

وما ذنب الضراغم حيث كانت

وصير زادها فيما يذم

ووقع حريق في داره فاحترق له شيء من الملبوس والكتب ، فكتبت إليه مسليا :

فدى لك ما على الدنيا جميعا

فعش في صحة وابل الربوعا

لئن جزع الأنام لفقد شيء

فلست لفقدك الدنيا جزوعا

تعلمنا الأناءة منك حتى

توطنا بها الشرف الرفيعا

أفاض الله جودك في البرايا

وأنبت من أياديك الربيعا

وصورك المهيمن من كمال

لنعلم صنع خالقك البديعا

فمر واحكم بما تختار فينا

تجد كلا كما تهوى مطيعا


فلو كلفت يوم الأمس عودا

لخاض الليل واختار الرجوعا

ولو ناديت سهما في هواء

لعاد القهقرى وأتى سريعا

يضم البرد منك أخا فخار

يبيت الليل لا يدري الهجوعا

وإني من بجودك قد ترقى

وحل من العلا حصنا منيعا

خلقت على الوفاء لكم مقيما

وأوفى الناس من حفظ الصنيعا

ومما طارحني به في جملة مطارحاته أنه لما كان مر بدمشق قاصدا الحج شغف بأحد أبناء سراتها وكان من الأشراف ، قال : ثم فارقته وتباكينا عند التوديع ، فكتبت إليه من الطريق مضمنا بيت البحتري فقلت :

يا آل بيت المصطفى هل رحمة

لفؤاد مشبوب الجوانح ثائر

ضلت نواظره الرقاد وما اهتدت

ببياض دمع من سواد ضمائر

دمع تعلق بالشؤون فساقه

زفرات برح من جوى متخامر

لو تنظرون إلى الشتيت وسربه

يقفو سروب زواخر وزوافر

لعذرتموه وماله من عاذل

وعذلتموه وماله من عاذر

واها لأيام تقضت خلسة

في ظل دوح بالسيادة ناضر

دوح عليه من النبي محمد

وضح الصباح ونفح روض باكر

لم أنسه يوم الوداع وطرفه

يرنو إلى شعث النجيب الضامر

وفعاله تبدي نفاسة عرفه

في فضل وجه بالسماحة زاهر

حتى إذا جدت بنا ذلل النوى

والعين تسفح بالنجيع المائر

سرنا وعاود كالمقيم وربما

كان المقيم علاقة للسائر

وما زال مدة إقامته يعمل حيله ويصطنع خدعه ليحصل على أرب فما نهض به حظ ، واستمر إلى أن سافر السلطان محمد إلى جهة أدرنة في سنة تسع وثمانين وألف وتبعه الوزير ، فلحقهم واستمر معهم مدة خمسة وعشرين يوما ، ثم قدم إلى إستانبول وأشاع أنه أعطي قضاء القدس والتفتيش على الأشراف ببلاد العرب ، وأقام أياما قليلة ، ثم سافر والتزم التفتيش من حين دخوله إلى بلده حلب إلى أن دخل القاهرة من طريق الساحل ، وأراد أن يفعل ذلك في القاهرة فلم يمكنوه ، وربما أرادوا إيقاع مكروه به ، فخرج حاجا ، ثم


بعد أن حج رجع من طريق الشام وتوجه إلى حلب وأقام بها في رفعة وصولة والناس يعظمونه ويحترمون ساحته.

واشتغل مدة بالإقراء فأقرأ التلويح وانكف عن أمور محذورة كان يرتكبها. وكنت إذ ذاك قدمت الشام فبلغني حسن معاملته للناس وانقياده للزمن ، فكتبت إليه قصيدة أولها :

أرى الندب من صافى الزمان المحاربا

وأغبى الورى من بات للدهر عاتبا

أتعتب من لا يعقل العتب والوفا

ولا همه شيء فيخشى العواقبا

وإن ضن لم يسمح بمثقال ذرة

ولم يبق موهوبا ولم يبق واهبا

ولا جنة تغنيك إن كان مانعا

ولا منزل يؤوبك إن كان طالبا

أحاول شكواه فألقى نوائبا

تهوّن عندي منه تلك النوائبا

ولن يسبق الأقدار من كان سابقا

ولا يغلب الأيام من كان غالبا

ومن صحب الدنيا ولو عمر ساعة

رأى من صروف الدهر فيها عجائبا

وقفر كيوم الحشر أو شقة النوى

يضل القطا أعملت فيه النجائبا

وليل كقلب السامريّ قطعته

إلى أن حكى بالفجر أسود شائبا

وما كنت أرضى بالنوى غير أنني

جدير بأن لا أرتضي الذل صاحبا

فنظمت من در المعاني قلائدا

جعلت قوافيها النجوم الثواقبا

ويممت أقصى الأرض في طلب العلا

ولم أصطحب إلا القنا والقواضبا

فلاقيت في الأسفار كل غريبة

ومن يغترب يلق الأمور الغرائبا

وخلفت من يرجو من الأهل أوبتي

كما انتظر القوم العطاش السحائبا

وكم قائل لا قرب الله داره

ومن يتمنى لو بلغت المطالبا

فعدت على رغم الفريقين سالما

ولم أقض من حق الفضائل واجبا

وحسبي وجود ابن الحجازيّ نائلا

به لم أزل ألقى المنى والمآربا

فتى قد جهلت العسر منذ علمته

ولانت لي الأيام عطفا وجانبا

وأصبح يلقاني العدو مسالما

وقد كان يلقاني الصديق محاربا

تخيم فوق الفرقدين مقامه

ومد على أفق السماء مضاربا

بعزم يرد الخطب والخطب مقبل

ورأي وتدبير يرد الكتائبا

وحزم يميز الحق من غير ريبة

وحكم يذيب الشامخات الرواسيا


فراسته تغنيك عن ألف شاهد

تريه من الأشياء ما كان غائبا

لقد نسخت أنواره كل ظلمة

كما نسخت شمس النهار الغياهبا

وقور كأن الطير فوق جليسه

ترى الدهر منه خائف الدهر راهبا

أخاف سباع الطير من سوط رأيه

فكادت لفرط الخوف تلقي المخالبا

ولو أدرك المجنون أيام حكمه

لأعرض عن ليلى وأصبح تائبا

جواد بما يحويه في كل حالة

إذا مل قوم لم يمل المواهبا

نقي عن الفعل القبيح منزه

كلا حافظيه يكتبان الرغائبا

خبير بتحقيق العلوم مدقق

إذا جال في بحث أراك العجائبا

وإن نثرت يمناه في الطرس لؤلؤا

كتبنا على تلك اللآلي مطالبا

فتى لا يحب الهزل والهزل باطل

وما خلق الله السموات لاعبا

يبيت بحب المكرمات متيما

إذا عشق الناس الحسان الكواعبا

إذا رمت أن تحصي فضائله ولم

تدع قلما في الأرض لم تقض واجبا

فإني رأيت المدح دون مقامه

فلا أيتم الرحمن منه المراتبا

وذيلتها برسالة وهي : أقسم بمن جلّت عظمته ، وعلت كلمته ، وسخر القلوب للمودة المؤبدة ، وجعل الأرواح جنودا مجندة ، إنني أشوق إلى لثم يد مولاي من الروض إلى الغمام ، ومن الساري إلى تبلج القمر في الظلام. وقد كانت حالتي هذه وأنا جاره ، فكيف الآن وقد بعدت عني داره ، وليست غيبته عني إلا غيبة الروح ، عن الجسد الباقي المطروح ، ولا العيشة بعد فراقه الجاني ، إلا كما قال البديع الهمذاني : عيشة الحوت في البر ، والثلج في الحر. وليس الشوق إليه بشوق وإنما هو العظم الكسير ، والنزع العسير ، والسم يسري ويسير ، والنار تشوي وتطير. ولا الصبر عنه بصبر وإنما هو الصاب والمصاب ، والكبد في يد القصاب ، والنفس رهينة الأوصاب ، والحين الحائن وأين يصاب. وقد كتبت إلى مولاي هذه القصيدة ، وأنا لا أحسبها من الإحسان بعيدة ، وهذا الكتاب وقد أنفقت عليه مدة من العمر ، وصرفت على تحريره حينا من الدهر ، وحررته وأنا مشغوف بذكرك ، مشغول بحمدك وشكرك ، وعيني تودّ لو كانت مكانه ، وأمكنت من قطع المسافة إمكانه ، كل ذلك لتذكري عهدك ، ومقامي عندك ، في أوقات ألذ من شفاه الغيد ، وأشهى من قبل الخدود ذات التوريد ، حيثما العيش آخذ في طلقه ، واستوفى من الأماني حقه ، وأنت


تقرط سمعي بفرائدك ، وتملأ صدفة أذني بلآلي فوائدك ، من أدب أغزر مادة من الديم ، وأنشط للقلب من بوادر النعم. ولقد يعز علي أن ألفى بعيدا عنك ، متروك الذكر منك ، ولكن هو الدهر ، وعلاجه الصبر.

فصبرا على الأزمان في كل حالة

فكم في ضمير الغيب سر محجّب

وربما تخالج في صدري ، لرعونة أوجبها طلب ازدياد قدري ، أن يشرفني بمكاتبة ، ويؤهلني إلى مخاطبة ، جريا على معروفه المعروف ، وطمعا في اغتنام كرمه الموصوف ، حتى أباهي بكلمه الزمان ، وأجعلها حرز الأماني والأمان ، وأظنه يفعل ذلك متفضلا ، لا برح لكل إحسان موئلا. فكتب إليّ في الجواب :

نحن عفنا الشهباء شوقا إليكم

هل لديكم بالشام شوق إلينا

قد عجزتم عن أن ترونا لديكم

وعجزنا عن أن نراكم لدينا

حفظ الله عهد من حفظ

العهد ووفّى به كما وفّينا

اللهم جامع المحبين بعد البين ، ومعين القوي على ألم النوى وما جعل الله لرجل من قلبين ، أسألك بما أودعته في سرائر المخلصين من أسرار المحبة ، وأنبت في رياض صدورهم من المودة التي هي كحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فارع فرع الشجرة المحبية وأصلها ، وأفض عليها فواضلك التي كانوا أحق بها وأهلها ، واحفظ اللهم هاتيك الذات الزكية التي رؤيتها أجل الأماني ، ونوّر تلك الصفات التي إذا تليت تلقتها الأسماع كما تتلقى آيات المثاني. هذا وما الصب إلى الحبيب ، والمريض إلى الطبيب ، بأشوق مني إلى تلقي خبره ، واستماع ما يفتخر به الركبان من حسن أثره ، وما غرضي من عرض الأشواق ، التي ضاقت عنها صدور الأوراق ، إلا تأكيد لما يحيط به علمه المحترم ، وتشنيف لمسامع اليراع بذكر صفاته التي تطرب فيترنم بألطف نغم. ولقد كنت أتوقع زيارته لما قدم من البلدة النجرا ، فثنى عنان الإعراض وأجرى جواد الأنبرا.

وما هكذا كنا لقد كان بيننا

معاملة عن غير هذا الجفا تنبي

هذا وضمير الأخ أنور من أن يضيء * بمصباح الاعتذار ، وأعلم بصدق المحبة في حالتي

__________________

(*) في خلاصة الأثر : يستضيء.


القرب والبعد والإعلان والإسرار ، وليس يندمل الجرح منا إلا بمرهم لقائه ، ولا يشفى غليله إلا بري روائه ، فالرجاء أن يتلافى ما فرط بل أفرط من الإعراض ، ويسمح بما نتوقعه منه بلا إغماض.

هي الغاية القصوى فإن فات نيلها

فكل من الدنيا عليّ حرام

ومن شعره الذي اشتهر قصيدته التي أرسلها إلى الأمير المنجكي ، وهي قصيدة طويلة اختصرت منها هذا المقدار وهو زبدتها ، وأولها :

سقى جلقا صوب السحاب المزرّد

وباكر من أفنائها كل معهد

وقلد أجياد الربى في عراصها

يد الغيث عقدي لؤلؤ وزبرجد

ولا زال خفاق النعامى منبها

عيون الخزامى بالحفيف المجسد

وغنت بها الأطيار من كل نغمة

تهجّن ألحان النديم ومعبد

لقد هتفت منه بوجدي سواجع

تلفع أظلال الغصون وترتدي

تنوح وتشجينا فتزداد عيمة

ستعلم إن متنا صدى أينا الصدى

أشيم بروقا بالشآم مثيرة

عقابيل (١) شوق بالفؤاد المشرد

وأستاف نشرا كلما هب ضائعا

يحدث أنفاس الحبيب المبعّد

فيهتز من رياه قلبي وينثني

ولو لا اهتزاز الغصن لم يتأود

فواحرقتي إن لم أبلغ نعيمها

ووافرقتي إن بت والبين مقعدي

ويوم بلألاء الكؤوس مفضض

كسته يد الصهباء حلة عسجد

قضيت به حق الهوى غير أنني

متى أدن منه اليوم ينأى ويبعد

رعى الله أيام الوصال فإنها

ألذ من التهويم في جفن أرمد

تقضت وضن الدهر منها بنهلة

تبل غليل الشائق المتزود

منها :

عسى تقذف البيداء نضوي برحلة

تنفس عن أسر المشوق المقيد

إلى بقعة زينت بباقعة الحجى

سليل المعالي المنجكي محمد

__________________

(١) ما يبقى من آثار المرض.


عريق بلاد الشام درة تاجها

غياث بني الآداب مأوى المطرد

منها :

أخا منجك يا أكمل الناس فطنة

وأشرفهم بيتا بغير تردد

صبغت العلا بالمكرمات فلم تحل

وينكر في الأعراض غير التجدد

أمولاي يا بدر المعالي وشمسها

ويا رحلة الآمال من غير موعد

لقد ذلقت في وصف مجدك ألسن

وعجّت به الركبان في كل مشهد

وأهدت لنا من بحر طبعك لؤلؤا

على الطرس حتى كاد يلقط باليد

منها :

فأسلفتك الإعظام والودّ موفيا

حقوق معاليك التي لم تعدد

وقدمت من فكري إليك ألوكة

حبتك بمغبوط من المدح سرمد

تخبر عما في القلوب من الجوى

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فأوجب لها حقا وأنعم بمثلها

وعفني بنظم من عقودك يحمد

أروّي بها من لاعج الشوق والنوى

غليل فؤاد بالصبابة مكمد

وآخرها :

فأنت لجفن الدهر سيف وناظر

ولولاك لم يبصر ولم يتقلد

ثم أعقبها بقطعة نثر وهي : حامل لواء النظم والنثر ، وحامي بيضته عن الصدع والكسر ، محل استواء شموس الكرم ، العاصر بمجده عنقود الثريا تحت القدم ، واسطة قلادة الفضائل وعد نظامها ، وبيت قصيدة الآداب ورونق كلامها ، جناب الأمير ابن الأمير ، والعطر بين العبير ، لابرحت ظلال معاليه ممتدة على مفارق الأيام ، وظل حساده أقلص من جفون العاشق عن طيب المنام. هذا ولو أوتي الداعي له زكن إياس * ، واستضاء من محاضرة أبي الفرج بنبراس ، وملك براعة ابن العميد ، وأحرز خطب ابن نباتة وبداهة عبد الحميد ، وأعطي بلاغة الصاحب ونوادر أبي القندين (١) ، ونال مقامات البديع

__________________

(*) هو إياس بن معاوية المزني قاضي البصرة ، والزكن : الفطنة والحدس الصادق.

(١) أبو القندين هو الأصمعي. قاله نصر ا ه من هامش خلاصة الأثر.


ومفاوضات الخالديين ، وحاز محاورات الأحنف وفصاحة سحبان ، وحوى منشآت القاضي الفاضل ومدائح حسان ، ورام أن يزخرف كلاما يناسب مقتضى المقام والحال ، لفل حد القلم وضاق ذرع المجال ، وإن أحجم بقيت في النفس حاجة ، وعصف على القلب ريح حسرة فهاجه ، فلذلك أقدم على الثانية سجيا. وأبدي لتلك الحضرة العالية هديا ، فإن أكرم الأمير مثواها ، فنظم من فرائد عوائده فحلاها ، وأجاب بما يروي غليل الفؤاد ، ويخصب مراد المراد ، فذلك من مساعي فطرته المنجكية ، ودواعي شيمته البرمكية.

فوصلته القصيدة والرسالة وهو متوعك المزاج فراجعه بهذه الأبيات :

أمولاي من دون الأنام وسيدي

بمدحك قد بلّغتني كل سودد

بعثت بأبيات كأن عقودها

منضدة من لؤلؤ وزبرجد

أمتع طرفي في طروس كأنها

مبادي عذار فوق خد مورد

سطور إذا ما رمت قتل حواسدي

أجرد منها كل عضب مهند

تكلفني رد الجواب وإنني

أبيت بفكر في الزمان مشرد

وليس يجيد الشعر منطق عاجز

ضئيل على فرش السهاد موسّد

يمر به العمر الطويل مضيعا

على الكره منه بين واش وحاسد

فعذرا أخا العلياء قلّت عزائمي

وقد كنت كالسيف الصقيل المجرد

فإنك أهل العفو والصفح والرضا

وإنك من نسل النبي محمد

أعز بني الدنيا وأشرف من سما

إلى الرتبة العليا بغير تردد

صغير إذا عدّت سنيّ زمانه

كبير به أشياخنا الغر تقتدي

تملّك رق الحمد والشكر والثنا

بكف على فعل الجميل معود

فلا زال عينا للزمان وأهله

يجرر ذيل الفخر في كل مشهد

وبلغني في أخريات أمره أنه تغيرت أطواره وانقلب إلى طبعه الأول ، وتجرأ على الناس بالأذية وسوء المعاملة ، وما زال حتى اجتمع عليه أهل بلده وقتلوه. وكان قتله نهار الأربعاء سابع عشري جمادى الأولى سنة ست وتسعين وألف.

ويروى خبر قتله على أنحاء شتى ، والذي اعتمدته أنه كان سعر القمح بحلب قد نهض ولم يزل يترقى حتى بيع الإردب بخمسة وعشرين قرشا ، وشاع الخبر أن السيد عبد الله ارتشى هو وقاضي حلب من المحتكرين بألف قرش ليبيعوه بهذا الثمن ، فبلغ ذلك حاكم


العرف فنادى بأن يباع الإردب بخمسة عشر قرشا ، وتقيد بنفسه في إخراج المحتكر من الحب ، واعتنى بذلك اعتناء بليغا ، فأسرّ له ابن الحجازي المكيدة. واتفق في ذلك الغضون أن بعض أعيان حلب دعا المتسلم وبعض أعيان البلدة ومنهم ابن الحجازي ، فلما تفرقوا صحب ابن الحجازي المتسلم ودعاه إلى داره ، فيقال إنه في أثناء المجلس أتاه بمشروب مسموم ، فلما تناوله أحس بالسم وتمت عليه المكيدة ، فخرج واستمر ثمانية أيام يعالج نفسه فلم يفد ، ثم إنه مات في اليوم الثامن وأخرجوا جنازته ، وخرج ابن الحجازي في جملة من خرج إلى الجنازة ، وكان الناس قد كرهوا وسئموا من أحواله وهم يترقبون لقتله فرصة ، فلما دفنوا المتسلم ركب فرسه وأراد الانصراف ، فنادت امرأة : هذا قاتل المتسلم ، فتبعها رجل من العوام واتصل ذلك بالرجال والصبيان والنساء ، فضربه رجل بحجر فأصاب رأسه ، وعثرت به الفرس فانكب على وجهه ، فهجم الناس عليه وقتلوه ولم يبقوا فيه عضوا صحيحا ، وذهب دمه هدرا ومضى هو وأولاده وأتباعه في أقل الأزمنة. ا ه.

وله قصائد موجودة في مكتبة برلين. ومن قصائده المشهورة قصيدته الدالية التي أولها (أهلا بنشر من مهب زرود) وقد خمسها الشيخ أمين الجندي الحمصي وهي في ديوانه ، وشرحها الشيخ شعيب الكيالي من رجال القرن الآتي ، وسنذكر ذلك ثمة إن شاء الله تعالى.

وله كما وجدته في بعض المجاميع :

ألا لا تسل أي شيء جرى

ومن قرح جفني ماذا جرى

تعلمت من حبه الكيمياء

وصرت حكيما أكبرا *

سحقت فؤادي وأودعته

بنار غرام به أسعرا

وصيّرت عيني إنبيقه

وقطّرته ذهبا أحمرا

ألا هكذا يا أخيّ الهوى

كما كل صيد بجوف الفرا

ا ه.

ومن نثره ونظمه ما ذكره في آخر كتابه «حل العقال» حيث قال : ولنختم الكلام ببيتي أبي العباس المرسي ليتعطر بهما مدادي ويبتهج منهما طرسي ، وهما :

ما كان إلا ما يريد فدع مرادك وانطرح

__________________

(*) عجز البيت مختل الوزن ، ولعل الصواب : وصرت حكيما بها أكبرا.


واترك وساوسك التي

شغلت فؤادك تسترح

وقد ضمنها علامة هذا العصر ، ويتيمة المجد بل يتيمة الدهر ، من توردت حدائق الشهباء بغوادي علومه ، وتحلت معاصم عواصمها بسوار منثوره ومنظومه ، وهرعت لاستلام أقدامه العلماء والأمجاد ، ورعت في ربيع فضله سوائم الطلب من أقصى البلاد ، ذو التآليف المشهورة ، والمساعي المشكورة ، أعني به شيخ الإسلام ، وناظم عقود المناقب في جيد الأيام ، جناب المولى محمد بن الحسن الكواكبي (المذكور قبل المترجم) مد الله ظلال حياته ، ولا برحت المعالي ضجيعة عتباته ، بقوله : (حتام في ليل الهموم) ... إلخ الأبيات التي تقدمت في ترجمة المولى الكواكبي. ثم قال بعدها : وقد اقتفيت أثر هذا المولى الرفيع ، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع بقولي :

يا أيهذا المصطلح

قل لي على من تقترح

في كل يوم مطلب

تمشي عليه وتصطبح

أفسدت عيشك بالعنا

وزعمت أنك تنصلح

وأسأت حتى كدت في

نار الغواية تلتفح

حتام تعنى بالذي

تكفى وأنت به ملح

وإلام تركن للحيا

ة ومن رداها تجترح

أو ما ترى الدنيا ومج

معها الشتيت المنكشح

والله ما افتخر العزيز بعزها إلا طرح

كلا ولا مرح الجوا

د برحبها إلا كبح

فاقنع بمجناها القلي

ل ولا تغال فتفتضح

واجعل معرجك التقى

فهو الطريق المتضح

وإذا الخطوب تزاوجت

فالصبر أنتج ما لقح

لا تيأسن من أن تدو

ر لك الأمور وتنشرح

فلربما سر الحزين

وربما غمّ الفرح

ولربما سقط القعو

د وقام بالعبء الطلح

والله أكرم من يرجّى

في الملمّ إذا برح

فكل الأمور للطفه

والزم حماه المنفسح


واعمل بنصح مسدد

من في تجارته ربح

ما كان إلا ما يريد فدع مرادك وانطرح

واترك وساوسك التي

شغلت فؤادك تسترح

١٠٠٥ ـ محمد بن محمد البخشي المتوفى سنة ١٠٩٨

محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد المعروف بالبخشي البكفالوني ، الحلبي الشافعي المحدث الفقيه الصوفي العذب الطريقة كعب الأحبار.

ولد ببكفالون بفتح الموحدة : قرية من أعمال حلب ، وبها قرأ القرآن ، ونشأ في حجر والده. ورحل في أوائل طلبه إلى دمشق وأخذ عمن بها من علمائها كالشيخ عبد الباقي الحنبلي والشيخ محمد الخباز البطنيني وشيخنا الشيخ محمد بن بلبان وشيخنا الشيخ محمد العيثاوي وغيرهم. وأخذ طريق الخلوتية عن العارف بالله الشيخ أيوب الخلوتي وقرأ عليه جملة فنون ، وأطلعه على أسرار علمه المكنون ، حتى نال منه غاية الأمل ، وأثمرت له غيث دعائه أغصان العلم والعمل ، فرجع إلى أهله بنعم وافرة. ثم توطن حلب وأخذ بها عن عالمها محمد بن الحسن الكواكبي المفتي بها ، وأقام على بث العلم ونشره في غالب أوقاته وانتفع به كثير من فضلاء حلب.

وله من التآليف الشافية نظم الكافية وشرح على البردة وغيرهما.

وسافر إلى الروم في سنة ست وثمانين وألف ، واجتمعت به بأدرنه ، ثم اتحدت معه اتحادا تاما فكنا نجتمع في غالب الأوقات ، وكنت شديد الحرص على فوائده وحسن مذاكرته مع الأدب والسكينة. وما رأيت فيمن رأيت أحلم ولا أحمل منه ، وكان روّح الله تعالى روحه من خيار الخيار ، كريم الطبع مفرط السخاء. ثم اجتمعت به بقسطنطينية بعد عودنا إليها ، وكان لأخي الوزير الأعظم الفاضل مصطفى بيك عليه إقبال تام وله إليه محبة زائدة ، وكان جاء إلى الروم بخصوص التكية الإخلاصية الخلوتية بحلب ، فتوجهت إليه وتوجه إلى حلب وأقام بالتكية المذكورة مبجلا معظما مقصودا ، ثم نازعه فيها بعض الخلوتية فلم تتم له وبقيت على صاحب الترجمة ، ودرّس بالمقدمية التي بحلب.

ثم بعد مدة مل الإقامة بحلب فقصد الحج بنية المجاورة وأقام ابنه محمدا مقامه في المشيخة ،


ودخل دمشق صحبة الحاج وأقام بمكة مجاورا ، وأقبلت عليه أهالي مكة المشرفة على عادتهم ، وقرأ عليه بعض أفاضلها ، ولقي حظا عظيما من شريفها المرحوم الشريف أحمد بن زيد لما كان بينهما من المودة والصحبة بالروم أيام كان وكنت ، حتى مدحه وأخاه الشريف سعد بقصيدة غراء مطلعها :

خليليّ إيه من حديث صبا نجد

وإن حركت داء قديما من الوجد

فآها على ذاك النسيم تأسفا

وآه على آه تروّح أو تجدي

عليلة أنفاس تصح نفوسنا

معطرة الأردان بالشيح والرند

وهيهات نجد والعذيب ودونه

مهامه تغوي الكدر فيها عن الورد

ومن كل شماخ الأهاضب خالط السحاب

يروم الشمس بالصد والرد

وتسرى الصبا منه فتمسي وبيننا

من البون ما بين السماوة والسند

سقى الله من نجد هضابا رياضها

تنفس عن أذكى من العنبر الوردي

وحيا الحيا حبا نعمنا بظله

بنعمان ما بين الشبيبة والرفد

تغازل غزلانا كوانس في الحشى

أوانس في ألحاظها مقنص الأسد

تحاكي الجواري الكنّس الزهر بهجة

وتفضلها في رفعة الشان والسعد

حجازية الألفاظ عذرية الهوى

عراقية الألحاظ وردية الخد

بعيدة مهوى القرط معسولة اللمى

مرهّفة الأجفان عسّالة القد

تميس وقد أرخت ذوائب فرعها

فتخطر بين البان والعلم والفرد

وتعطو بجيد عطّل الحلي حسنه

كأن ظبية تعطو إلى ريّق المرد

وكم ليلة باتت يداها حمائلي

وباتت يدي من جيدها مطرح العقد

ندير سلافا من حباب حبابها

على حين ترشاف ألذ من الشهد

ولما تمطى الصبح يطلب علمنا

تكنفنا ليل من الشعر الجعد

عفيفين عما لا يليق تكرما

على ما بنا من شدة الشوق والوجد

وقد كاد يسعى الدهر في شت شملنا

ولكن توارى شفعنا عنه بالفرد

انظر إلى هذا المعنى تجده في غاية اللطافة وكأنه اختلسه من قول بلديه ومعاصره المولى مصطفى البابي من قصيدة وهي :


وما سها الدهر عن تفرقنا

بل ظننا لا لتئامنا واحدا

رجع :

فأصبحت أشكو بينها وفراقها

بشط النوى شكوى الأسير إلى القدّ

وإني قد استدركت درك مطالبي

وتبليغ آمالي وما ندّ عن حدّي

بطلعة نجلي دوحة المجد غارب

المعالي سنام الفخر بل غرة المجد

إمام المصلى والمحصب والصفا

وراثة جد عن نمّي إلى جد

أبي أحمد زيد الصناديد في الوغى

بني حسن الأسد الكواسرة الحد

بزاة العلا الغر الميامنة الألى

سما قدرهم يوم التفاخر عن ندّ

غيوث إذا أعطوا ليوث إذا سطوا

مناقبهم جلت عن الحد والعد

فما أفلت شمس لزيد وقد بدا

لنا من ضياها شمس أحمد والسعد

هما نيّرا أوج المعالي وشرّفا

بروج قصور الروم في طالع السعد

ومذ رحلا عن مكة غاب أنسها

فكانا كنصل السيف غاب عن الغمد

أضاءت لهم أرض الشآم وأصبحت

ضواحي نواحي الروم تنضح بالند

وقد طالما ذابت قديما تشوقا

إلى نيل تقبيل المواطىء بالخد

إلى أن تجلى الله جل جلاله

عليهن بالإنعام واليمن والرشد

فأصبحن يحكين الجنان تبرجا

ويرفلن من نور الخمائل في برد

جوادين في شوط المماجد جلّيا

وحازا رهان السبق في حنق الضد

براحتهم إن تنسب الجود في العطا

فتلك بحور تتقي الجزر بالمد

وإن أحيت السحب النبات بمائها

فكم أحيت الراحات أنفس مستجد

رياض لمرتاد حصون للائذ

رجوم لمستعد نجوم لسمتهد

شمائل تهزا بالشمائل لطفها

وعطف شمول الراح هزته تبدي

إذا ما دجا ليل الخطوب بمعضل

أماطا لثام الكشف عن ذاك بالجد

بهم شرفت أرض الحجاز وآمنت

ظباها وأمتها الوفود إلى الرفد

بنو هاشم إن كنت تعرف هاشما

وما هاشم إلا الأسنة والهندي

بهم فخرت عدنان والعرب كلها

ودانت لهم قحطان أهل القنا الصلد

فمن مجدهم يستقبس المجد كله

ومن جودهم أهل المكارم تستجدي


هنيئا لنسل المصطفى الشرف الذي

تسامى فلا يحصى بعدّ ولا حد

بمدحتكم جاء الكتاب فما عسى

تقول الورى من بعد حم والحمد

وعذرا بني الزهراء إني ظامىء

إلى المدح والأيام تنسي عن الورد

يود لساني أن يترجم بعض ما

لكم في فؤاد الصب من صادق الود

وقد نضبت منه القريحة نضبة

على حذر من حاذر أحذر الربد

كنفثة مصدور ولمحة عاشق

تسارقه عين الرقيب على بعد

فإن أعطت الأيام بعض قيادها

رأيتم له من مدحكم أعظم الورد

وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وألف بقرية بكفالون ، وتوفي بمكة المشرفة ليلة الثلاثاء الخامس من شهر ربيع الثاني سنة ثمان وتسعين وألف ، وصلى عليه إماما بالناس ضحى يومها بالمسجد الحرام شيخنا العالم العامل الشيخ أحمد النخلي الشافعي فسح الله في أجله في مشهد حافل حضره شريف مكة الشريف أحمد بن زيد وقاضيها وغالب أعيانها ، ودفن بالمعلاة بالقرب من مزار أم المؤمنين السيدة خديجة رضي‌الله‌عنها. وكان في بلاده أخبره بعض الأولياء أنه يقيم بمكة المكرمة مدة طويلة جدا ، فكان في كلام ذلك الولي إشارة إلى أنه يموت بمكة ، فإنه لم تطل مدة إقامته ، فكانت إقامته بها ميتا رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٠٦ ـ صالح بن قمر المتوفى أواخر هذا القرن

ترجمه العلامة المحبي في «نفحة الريحانة» فقال (١) :

هلال نجابته يعد بأقمار ، وفيه وفي نباهته أحاديث وأسمار ، كتب وقيد بخطه الكثير ، ونظم ونثر فجاء بالدر النظيم واللؤلؤ النثير ، وقد أوردت له ما تستبدعه وتحفظه في خزانة النفس وتستودعه ، فمنه قوله :

يا مقلة الحب مهلا

فقد أخذت بثارك

وأنت يا وجنتيه

لا تحرقيني بنارك

__________________

(١) منه نسخة خطية في خزانة الشيخ تاج الدين الحسني الجزايري الدمشقي نجل الاستاذ المحدث الكبير الشيخ بدر الدين الحسني حفظهما الله تعالى وعنه نقلت هذه التراجم في رحلتي إلى الشام سنة ١٣٤٠.


فقد كفاني لهيب

أصابني من شرارك

هيهات أنجو سليما

من بعد خط عذارك

وذلك الخال غال

لوقعه في نضارك

وثغرك العذب فيه

لنا غنى عن عقارك

وقدك الغصن لكن

لا يجتنى من ثمارك

أنت الذي ما رأينا

في حسنه من مشارك

فارفق بصب عليل

أفناه بعد مزارك

إلى متى تتركنّي

أرعى نجوم انتظارك

وكم على ليل ضعفي

تسطو بجور نهارك

إن كان يرضيك قتلي

عمدا بحسن اختيارك

فذاك صب عميد

في ساحة الذل بارك

ولم يزل في التصابي

بالصبر فيك يعارك

عسى يلوح صباح الرضا له من ديارك

وتشمل الصب قربا

من بعد طول ازورارك

فجد وسامح وواصل

واعطف وعجل ودارك

١٠٠٧ ـ مصطفى بن محمد الحلفاوي المتوفى أواخر هذا القرن

ذكره المحبي في «نفحة الريحانة» فقال :

مصطفى بن محمد بن نجم الدين الحلفاوي ، خطيب وابن خطيب ، وعبير مستفاد من مسك وطيب ، تناول المجد كابرا عن كابر ، فاستفاده ما بين أسرة ومنابر. وهو من قوم رقوا أعلى الدرج ، وأمن مادحهم من الاعتراض والحرج ، لأياديهم فتحت بالثناء أفواه الأعلام ، ولأقدامهم طأطأت رؤس المنابر والأقلام. لم تزل النجابة فيهم نسقا على نسق ، وإذا لاحت وجوههم أضاءت بالليل وما وسق. وأنا إذا أمسكت عن ذكرهم لسانا رطيبا ، فقد قام اشتهارهم عني في الآفاق خطيبا ، وقد نبغ منهم هذا الندب كما شاءت العلا ، فجاء متحليا من الفضائل الغر بأفخر الحلى ، وقد عرف فيه الرشد ، من حين وضع في اللفافة وشد. إلا أنه اخترمه الأجل وغصنه بانع ، وليس له عن التوسع في المآثر مانع. وقد أنشدني


بعض الأدباء له بيتين ، جئت بهما في هذا المحل مثبتين ، وهما قوله :

قالوا سلا قلبه عن حبهم وغدا

مفرّغ الفكر منهم خالي البال

قلت اثبتوا أن لي قلبا أعيش به

ثم اثبتوا أنه عن حبهم سال

وهذا معنى حسن. وقلت فيه من قطعة :

وظننت قلبي ساليا

أتركت لي قلبا فيسلو

وقلت أيضا :

قالوا تسلى وقد جفاني

ونام عن صبوتي وحبي

صدقت بالقلب كنت أهوى

ما حيلتي إذ أخذت قلبي

والأصل فيه قول بشار :

عذيري من العذال إذ يعذلونني

سفاها وما في العاذلين لبيب

يقولون لو عزّيت قلبك لارعوى

فقلت وهل للعاشقين قلوب

ومثله لابن الوضاح المرسي :

يقولون سلّ القلب بعد فراقهم

فقلت وهل قلب فيسلو عن الحبّ

وللعرجي ما هو منه ولا يبعد عنه :

وزعمت أن الدهر يقنعني

صبرا عليك وأين لي صبر

وللبهاء زهبر :

جعل الرقاد لكي يواصل موعدا

من أين لي في حبه أن أرقدا

وللبوريني :

يقولون في الصبح الدعاء مؤثّر

فقلت نعم لو كان ليلي له صبح

وللشهاب الخفاجي :

يقولون لي لم تبق للصلح موضعا

وقد هجروا من غير ذنب فمن يلحى


صدقتم وأنتم للفؤاد سلبتم

ومالي قلب غيره يطلب الصلحا

١٠٠٨ ـ السيد حسين النبهاني المتوفى أواخر هذا القرن

قال المحبي في «النفحة» :

السيد حسين النبهاني أديب بشرطه الموجب لخموله وحطه ، فما نقص من حظه زيد في خطه ، سروجي المذهب ، ذاهب في التلون كل مذهب ، لا يهبط بلدا إلا أبدى أعجوبة محجوبة ، وبنى دسته على حيلة منصوبة. (ثم يفارقه مفارقة لبد ، ويقول : لا أقسم بهذا البلد) *. وقد رأيته بالروم وجهه أغبر ، وهمه من وعائه أكبر ، يظهر كل يوم في نمط ، وحيثما سقط لقط ، وعاشر ممن أعرف فرقة رفقة ، أداه خلل حاله معهم إلى فرقة وحرقة ، وتلاعبت به الظنون في ذلك الفريق ، تلاعب موج البحر المهتاج بالغريق ، وبقي أنقى من الراحة ، شاكيا بلسان كمده مغداه ومراحه ، وفارقته وهو منغمس في تلك الأوحال ، وتبريحه ما برح وحاله ما حال. ثم بلغني أنه انتعش فكانت نعشته النعشة الأخيرة ، وأدركه أجله الذي نفى الحكيم تقديمه وتأخيره. وهو بارع في النظام والنثار ، إلا أنه يرمى في شعره بالإكثار ، ولكون التكثير مملول الطباع ، لم أذكر منه إلا نزرا سهل الانطباع ، فمنه قوله من قصيدة في المدح :

العلم والحلم والمعروف والجود

وكل وصف حميد فيك موجود

حويت ذلك إرثا عن أب فأب

كأنكم في رياض المجد عنقود

يا من بسودده أعداؤه شهدت

وكيف لا وهو مشهور ومشهود

ففي العطا تغرق الدنيا بأجمعها

وفي السطا تتوقاك الصناديد

حاشاك تحرم عبدا مات من ظمأ

ومنهل الجود من كفيك مورود

لا سيما أن لي حق الجوار ولي

في كل آن بمدحي فيك تغريد

وما تقادم عهدي في الدعاء لكم

إلا ويعقبه في الحال تجريد

ولم يجاور كريما قط ذو أمل

إلا غدا وهو من نعماه محسود

لكن حالي لم يعلم به أحد

إذ لا يحيط به رسم وتحديد

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.


وأنشدني نادرة الوقت المولى العارف للنبهاني يمدحه :

أنا في التباعد والدنوّ

أرجو لمولانا العلوّ

أبدا تراني رافعا

كفّي إلى رب عفوّ

أدعوه في سهر وجهر أن يديمك في السموّ

فيما يسر به الصديق

وما يساء به العدوّ

يا عارفا هو للمعا

رف بالعشيّ وبالغدوّ

بل للفضائل والفواضل والفتوة والمروّ

من دأبه بث المكارم

والحفيظة والحنوّ

من سيفه ثكل العداة

وسيبه حور وحوّ

وبذكره طاب المديح

أما تراه في زهوّ

مولاي يا من فضله

ما إن رأيت له كفوّ

هذي العجالة قد أتت

ك تعوذ من طرف السلوّ

وتميس في حلل الفصاحة بالملاحة والدنوّ

نطقت بما يحوي الحشا

لا بالتقوّل والغلوّ

وهي التي لو رامها

قسّ رمته بالنبوّ

اسلم ودم تسمو على

شم الذرى أسمى السموّ

ا ه.

١٠٠٩ ـ مصطفى بن حسن الزيباري المتوفى بعد ١٠٩٤

قال المحبي في «نفحة الريحانة» :

هو في هذه الحلبة ، كالعقد النفيس في اللبة ، وله جامعية فنون تربو على الحصر ، وفضائل لا يستطيع حجودها نبهاء العصر ، لكنه أتى الدهر وقد هرم ، (فلم يتروّ زهير روضه بمثل ندى هرم ، فهو يشتكي زمنا بعيد الإحسان ، لا تستجلبه ولا دعوة الغيد الحسان) * ، فهو ينظم الشعر على فاقة ، ماله منها إفاقة ، بحد أمضى من النصل ، وهزل

__________________

(*) ما بين قوسين إضافة من «الريحانة».


أحلى من الوصل. وقد ذكرت له ما يستلذ وصفه الوصاف ، والقول فيه أنه في غاية في باب من الإنصاف ، فمنه قوله من قصيدة يمدح بها البهائي :

هي الشمس إن حيا بها الأوطف البدر

فخذها هنيا لا ملام ولا وزر

دهاقا دهاقا غير عار فإنها

إذا صافحت ذا عسرة حلها اليسر

ولا تخش إملاقا فإن حبابها

فرايد ياقوت وذائبها تبر

ولا تعتبر قول المعيبين صحبها

فأترابها زهر وأكوابها زهر

وقل لمدير الراح سرا وجهرة

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر

ومكحولة الألحاظ معسولة اللمى

تخال به قطر النبات ولا قطر

لها لحظات تسلب اللب والحجى

وما فارقت جفنا وهذا هو السحر

وجيد مهاة بل غزال كأنه

عمود لجين فوقه بزغ البدر

وليل كبحر خضت أمواج جنحه

على سابح عن سيره قصر النسر

أكفكف أذيال البوادي تعسفا

ولا يرعوي إن راعه الضرب والزجر

كأن أبا الفضل البهائي محمدا

لنا حيث سرنا من صباحته فجر

وقوله من أخرى مستهلها :

أأيتهنّ إذ تبدو نوار

صدوف أم كنود أم نوار

بعيشك هل سمعت فما سمعنا

بآرام وليس لها نفار

برزن من الخدور محجبات

ومحمود من البدر السرار

طلعن عليك ثم خنسن عجبا

كذلك تفعل الغر الجوار

حذار لواحظا منهن دعجا

فمقتول الهوى منها جبار

وبي منهن أملود رداح

نأت عني وقد شط المزار

لقد عذرت أخيّ وغادرتني

وحيدا لا أزور ولا أزار

وأنشدني له السيد عبد الله الحجازي يهجو قرية أوّارين :

ولو أن لي في كل وقت وساعة

بقرية أوّارين ما أتمناه

لقلت خليليّ ارحلا بي عن التي

تكثّر أوصابي فلا بارك الله

ورأيت له في بعض المجاميع قصيدة أرسلها إلى الشيخ عبد الله أفندي الحجازي وهي منقولة من خطه وهي :


هو الدهر لا بغض لديه ولا حبّ

ولا هو خب يتقى لا ولا حبّ

ومنحته إن لوحظت فهي محنة

ونعماؤه بؤس وخلّته خلب

لياليه في عقد العقول نوافث

ومن طبّ من أيامه ماله طب

ورب فتاة ظلت أرعى ودادها

وما سرني منها وصال ولا قرب

رأتني في طمرين فقر وفاقة

فقالت معاذ الله هذا الفتى عجب

أتعجب جمل من خمولي فطالما

جلوت محياها الجميل ولا سبّ

وتنكرني ذات الوشاحين بعدما

رعيت الردى في الحالتين ولا عجب

ولم تدر أني للحوادث صيقل

خبير وفي طمريّ صمصامة عضب

ولي مقول من دونه قس وائل

ونيران عزم لا تبوخ فلا تخبو

وصارم صبر صارم كل صابر

وكهف إذا يممته سهل الصعب

ملاذ الكرام الغر في كل معضل

وغوث اليتامى حيث لا مرضع تحبو

خلاصة آل البان ذو المجد من له

مآثر لا يأتي بها الزمن الخصب

عليه مدار المكرمات لأنه

على كل حال في سماء النهى قطب

حللت حبى آمال نفسي ببابه

وقلت لها طوبى فهذا هو الطب

وكنت أمنّي النفس قبل قدومه

أمانيّ ما خابت وما كذب اللب

ألا مبلغ ذات الوشاحين أنني

ظفرت بآمالي وقد يئس الخبّ

فلله در النفس قد كان رأيها

حميدا ولا بدع إذا جمد الغب

فيمم جرازا إن عرتك ملمة

وحسبك عضب لا يفل ولا ينبو

وفضفاضة قد أتقن الله نسجها

بها تتقى البأساء والزمن الجدب

ليهن بني الشهباء حسن مشيد

جواد حصان لا يرام ولا يكبو

لقد كان ورد العيش قبل وروده

أجاجا وأين الملح والسائغ العذب

أمولاي عبد الله من ليّ ذمة

بتسميتي منه لقد ملني الصحب

وأصبحت عن ذات الوشاحين نازحا

وأحير من ضب وهيهات ما الضب

أروم من الأيام نجحا وناصرا

ومن لي به إن لم تكن أيها الندب

فكن مسعدي بل مسعفي في حوادث

بها حطت الأنصار وارتفع الكرب

وقل نحن قوم جارنا ونزيلنا

مصانان عن خطب وهيهات ما الخطب

ودعني وتردادي لساحة ما جن

أخي طيلسان في حمائله كلب


وإني وإن كنت المسيء جهالة

فصدق ولائي لا يعادله ذنب

وأنت خبير أنني لك مخلص

ويشهد بالإخلاص مولاي والقلب

أما بيننا عهد قديم وخلة

أما بيننا إيجاب حب ولا سلب

ألسنا رضيعي ثدي بكر مودة

بتحريمه قالوا وما شابه ضرب

وحسبك حسادي الذين عهدتهم

قديما وحسبي منهم السب والعتب

وخذ بيدي رحما تكن أنت فرعه

فإنك لي مولى وذلك لي رب

وحسب الفتى حمدا ومدحا حنوّه

على من له في ورد آبائه شرب

وقد كان سنة ١٠٩٤ حيا لأن ولده حسين الآتية ترجمته ولد في هذه السنة ، ويظهر أن وفاته بعد ذلك بقليل.

١٠١٠ ـ محمد بن الشاه بندر المتوفى أواخر هذا القرن ظنا

محمد بن الشاه بندر هو من حين تحيز ، في نعمة بأدوائها تميز ، تغاديه النشوة وتراوحه ، وتناوحه أنفاس القصب وتفاوحه ، فنبغ ونجب ، وقضى من حق التحصيل ما وجب ، وفتق ثناء كالمسك صدرا ووردا * ، وتخلق بخلق كالماء الزلال عذبا باردا ، فوجه أدبه شادخة غرره ، وسلك نظمه متسقة درره. وهذه قطعة من شعره تعلم منها أنه أوتي الإصابة ، واستحق أن ينوه به بين هذه العصابة ، وهي قوله :

ذر الصد إني لست أقوى على الصد

وعد للذي عودتني منك من ود

فطامي عن ثدي الولا متمنع

وطفل نزوعي لا يعلل بالمهد

حنانيك ما هذا التجنى فإنني

لفي نكر من مزج هزلك بالجد

لئن بك شط الوهم عني لهفوة

فعدّ وعد وابشر فغفرانها عندي

وحقك لم أحسبك قط مفارقي

ولم يك ظني فيك خلفك للوعد

فكيف تنائي ويح غيرك هاشما

حباك بمحض الود بالقرب والبعد

فوالهفي لو كان يغني تلهفي

ووا أسفي إذ صرت أبطأ من فند

فما هكذا عهدي بفقدك ألفتي

أأحدثت أمرا لم يكن منك في عقد

__________________

(*) لعل الصواب : صادرا وواردا.


لقد كنت لي حسب اقتراحي ومنيتي

مقدّى إذا أشكو وأنت الذي أفدي

مجيبا بمطلوب ملب بدعوة

مراع بمرغوب سريعا إلى رقدي

فماذا عسى أنكرت مني وما الذي

أباحك تعذيبي وقتلي على عمد

أراك وقد خلفتني ذا لواعج

من البين في قلب أشد من الصلد

لمن صرت لا زلت بك النعل غاديا

حليفا وذا أهل وقد كنت لي وحدي

فيا ناسيا للود إني ذاكر

ويا ناقض الميثاق إني على العهد

أبى الله أن أرعى ذمامك جاهدا

وتبخسني حقي وتكثر في جهدي

فلا كان لي قلب لغيرك جانح

ولا صحبتني مقلة فيك لا تندي

فقدتك إبراهيم فقدان آدم

على دعة من أمره جنة الخلد

أعلل قلبا لا يحيل تعلة

به عنك ذا توق جزيل وذا وقد

وأنشد بيتا سالفا حسب لوعتي

إذا هاج تهيامي وقد فاتني قصدي

لعل الذي أبلى بهجرك يا فتى

يردك لي يوما على أحسن العهد

أقلب طرفي لا أراك فينثني

بوابل دمع كالجمان على خدي

وددتك تدري ما الذي بي من الجوى

عسى كنت ترثي لي من الهم والوجد

أما تذكرت * ما دار بالوصل بيننا

أباريق لذات ألذ من الشهد

لأية حال قد تناسيت خلتي

وكيف استجزت الهجر والنكث للعهد

سلامي على اللذات بعدك والهوى

وحلو التصابي والتشوق للمرد

فيا ليت شعري من تبدلت بي ومن

غدا حاسدي في القرب بالبين مسعدي

فما أم خشف راعها حبل صائد

فأذهلها عنه وغابت عن الرشد

تحن فتستهدي الأسود لغابها

فلا أثرا تلقى ولا هاديا يهدي

بأفجع مني حين فارقته ضحى

حليف أوار لا أعيد ولا أبدي

لئن كنت أخلفت العهود وخنت

بالمواثيق عن جهل وملت عن الرشد

فحبك في قلبي وذكرك في فمي

وأنت بعيني ما حييت إلى اللحد

قوله : (أبطأ من فند) مثل ، وفند هذا مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، وكان أحد المغنين المحسنين ، وكان يجمع بين الرجال والنساء ، وله يقول ابن قيس الرقيات :

__________________

(*) لعل الصواب : أما تذكرن.


قل لفند يشيّع الأظعانا

طالما سرّ عيشنا وكفانا

وكانت عائشة أرسلته يأتيها بنار ، فوجد قوما يخرجون إلى مصر ، فخرج معهم فأقام سنة ، ثم قدم فأخذ نارا وجاء يعدو ، فعثر فتبدد الجمر فقال : تعست العجلة.

وفيه يقول الشاعر :

ما رأينا لغراب مثلا

إذ بعثناه يجي بالمشمله

غير فند أرسلوه قابسا

فثوى حولا وسبّ العجله

المشملة : كساء يجمع المقدحة وآلاتها. وقال بعضهم : المشملة بفتح الميم وهي مهب الشمال ، يعني الجانب الذي بعث نوح عليه‌السلام إليه الغراب ليأتيه بخبر الأرض أجفت أم لا ، فاشتغل بجيفة رآها في طريقه ، وفيه يقال : (أبطأ من غراب) ا ه.


أعيان القرن الثاني عشر

١٠١١ ـ محمد بن محمد الحنفي المتوفى سنة ١١٠٤ (١)

محمد بن محمد الحنفي الحلبي نزيل قسطنطينية وأحد الموالي الرومية ، المولى العالم العلامة الفقيه.

كان غواص بحر العلوم معلما نافعا عالما بأكثر الفنون ، صاحب نكت ونوادر ، ظريفا أنيسا وقورا ، له عظمة وفضيلة.

ولد بحلب وبها نشأ وقرأ على علمائها وحصل مقدمات العلوم ، وبعده ارتحل إلى مصر ولازم في الجامع الأزهر الشيوخ ، واكتسب الفضائل حتى صار له مزيد الرسوخ ، وألف رسالة ورفعها إلى شيخ الإسلام المولى البهائي وبسببها دخل في سلك المدرسين وطريقهم. وبعد أن عزل عن مدرسة بأربعين عثمانيا أظهر مؤلفا له على شرح الملتقى في الفقه وصار عنوانا له بين الكبار والصغار. ثم تنقل بالمدارس كعادتهم وأعطي قضاء أدرنه برتبة قضاء

__________________

(١) اعلم أن ما نذكره في هذا القرن بدون عزو هو مأخوذ عن تاريخ «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» للشيخ محمد خليل المرادي الدمشقي ، وما كان من غيره فإنا نعزوه لموضعه. وإليك المآخذ التي أخذ عنها العلامة المرادي وقد ذكرها في خطبة تاريخه حيث قال :

اجتمع عندي جملة من الرحلات والأثبات والتراجم ، فكان عندي رحلة الوجيه عبد الرحمن بن محمد الذهبي ، ورحلة مؤرخ مكة الشيخ مصطفى بن فتح الله الحموي ، والنفحة للأمين المحبي ، وذيلها للشمس محمد المحمودي ، وثبت العلامة محمد بن عبد الرحمن الغزي العامري المسمى «لطائف المنة» ، وتذكرته الأدبية ، ورحلة الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي الكبرى والصغرى الحجازية والقدسية وغير ذلك من المشيخات والمعاجم. ا ه. أقول : ومما اجتمع عنده تاريخ أبي المواهب بن ميرو الحلبي ، انظر المقدمة في الكلام عليه.


مكة ، وآخرا ظهرت الشكايات عليه ورفعت مناصب الأربلق التي كانت عليه ووجهت إلى حكيم باشا زاده المولى يحيى الحلبي وبقي المترجم صفر اليدين وحك اسمه من الطريق. وصار قاضيا بقسطنطينية بهمة الصدر الأعظم مصطفى باشا ، وعزل عنها وتولى غيرها. وله تآليف غريبة.

وكانت وفاته في محرم سنة أربع ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١٠١٢ ـ الشيخ قاسم الخاني المتوفى سنة ١١٠٩

قاسم بن صلاح الدين الخاني الحلبي ، الشيخ الفاضل الصوفي العارف بالله. ترجم نفسه فقال :

ولدت سنة ثمان وعشرين وألف ، ثم إني سافرت إلى بغداد في شهر جمادى الأولى سنة خمسين وألف ، فكانت غيبة طويلة مقدار سنتين ، ثم رجعت إلى حلب وأقمت بها شهرين ، ثم توجهت إلى البصرة فأقمت بها مدة عشرة أشهر ، ثم إني توجهت إلى حلب وأقمت بها عشرة أيام ، وتوجهت مع الحاج إلى مكة المشرفة ورجعت إلى الحجاز إلى إسلامبول وأقمت بها سنة وسبعة أشهر ، ثم عدت إلى حلب. وكانت سياحتي هذه قريبا من عشر سنين. وأما في هذه المدة فكنت في أخذ وعطاء وبيع وشراء ، ثم إني بعد دخولي إلى حلب أحببت العزلة عن الناس وتركت البيع والشراء وسلكت طريق الذل والافتقار وغيرت الحلاس والجلاس والأنفاس ، وجاهدت نفسي وعاديتها بالجوع والسهر نحوا من سبع سنين ، فمنها نحوا من سنتين اقتصرت على أن أتناول في كل ستين ساعة كفا من طحين أجعله حريرة وأحليه بلعقة من العسل وأفرغه في حلقي. والكف من الطحين المذكور وزنه تقريبا خمسة عشر درهما ، وباقي أيام السبع سنين كان أكلي أقل من القليل ، وكل ذلك بإشارة مشايخي رضوان الله عليهم أجمعين ، فصدق عليّ قول سيدي عمر بن الفارض قدس‌سره :

ونفسي كانت قبل لوامة متى

أطعها عصت أو تعص كانت مطيعتي

فاوردتها ما الموت أيسر بعضه

وأتعبتها كيما تكون مريحتي

فعادت ومهما حمّلته تحمّلته

منى وإن خففت عنها تأذت


فلما انقضت سنو المجاهدة القريبة من سبع سنين واستهلينا شهر شوال سنة ست وستين وألف ألقى الله تعالى في قلبي حب طلب العلم الظاهر ، فقرأت على المشايخ سنتين إلا شهرا ، وفتح الله تعالى عليّ من العلم ما فتح ، فتركت القراءة وشرعت في الإقراء فأقرأت بعض الطلبة ، وكان أكثر الطلبة يضحكون ويستهزئون علي (ويقولون : نحن لنا عشر سنين نخدم العلم ، ولم نتجرأ فيأتي بعضهم إلى مجلس درسي مستهزئا) * ، فو الله ما يقوم من ذلك المجلس إلا وقد تبدل إنكاره بالاعتقاد ، وفي ثاني ذلك اليوم يأتي ويقرأ عليّ ويقول : هذا الأمر من خوارق العادة. وبقيت على ذلك سنة. انتهى.

وكانت قراءته على جملة من العلماء الأفاضل وجلها على الشيخ أبي الوفا العرضي صاحب طريق الهدى. وكان سلوكه على الشيخ أحمد الحمصي ، فأقام المترجم خليفة بعده في المدرسة الشرفية إلى أن توجه عليه تدريس مدرسة الحلوية ، وصار يدرس بها ويقيم الأذكار والأوراد. وتوجه عليه الإفتاء بحلب ، وكان يفتي على مذهب الإمامين أبي حنيفة والشافعي.

وله من التآليف «السير والسلوك إلى ملك الملوك» (١) ، واختصر السراجية وشرحه ، وله رسالة في المنطق (٢) ، وشرح على الجزائرية في التوحيد (٣) ، وله غير ذلك من التآليف والفوائد.

وكانت وفاته سنة تسع ومائة وألف ، ودفن بين قبور الصالحين خارج باب المقام بحلب رحمه‌الله تعالى.

١٠١٣ ـ محمد النوري البغدادي المتوفى أول هذا القرن

محمد النوري البغدادي ، الورع الزاهد المسلّك العارف.

__________________

(*) ما بين قوسين إضافة من «سلك الدرر».

(١) عندي منه نسخة وفي المدرسة الحلوية والمولوية ، ومنه عدة نسخ في مكاتب حلب وغيرها.

(٢) عندي منها نسخة ، وشرحها الشيخ أحمد الترمانيني شرحا سماه «الكوكب المشرق في شرح رسالة المنطق» منه عدة نسخ في مكاتب حلب ، والمتن والشرح مفيدان في بابهما

(٣) منه نسخة في المكتبة الصديقية بحلب في سبعة كراريس والمنظومة ٣٥٣ بيتا.


قدم إلى حلب قبل المائة فنزل في خارجها بمسجد محلة آغاجق مختفيا متسترا بالخمول مدة سنين لم يدخل البلدة ، إلى أن دخلها لرؤيا رآها ، وهي أن يدخلها وينزل بمسجد الأربعين ويتصدر للتسليك ، فلما وصل إلى المحل رأى أمارات رآها في رؤياه ، فقصد المسجد المذكور ونزله ونشر طريقته العلية النورية ، فإنه أول من دخل بها لهذه البلدة ، وجلس للتسليك وقراءة الأوراد وانتفع به خلائق لا يحصون ، من أجلّهم خليفته العارف محمود الدوركي.

وكانت وفاة صاحب الترجمة أوائل هذا القرن. وبالجملة فقد كان صاحب الترجمة أحد أفراد الدهر حالا وقالا ، نفعنا الله تعالى به آمين.

وهذه الطريقة العلية من أحد شعب طريق السادة النقشبندية منسوبة إلى العارف القطب أمير سلطان السيد محمد نور بخشي البخاري نفعنا الله تعالى به. ومشايخ هذه الطريقة العلية أصحاب السجادة في مدينة خلاط ، وإذا توفي خليفتهم بمكان خلّف خليفة ، وعلى الخليفة التوجه لخلاط للأستاذ وتجديد العهد على الأستاذ صاحب السجادة والحضور معهم في الأوراد والأذكار إلى أن يأذن له الأستاذ بالعود إلى محله فيعود ، وبعض الخلفاء يأتيه الإذن بالإقامة ويرسل له الإذن بقراءة الأوراد مع الأخوان وافتتاح الذكر وختمه وهو النادر ، وقد حصل ذلك في أيامنا للعارف محمد صالح أفندي كما ذكر في ترجمته.

وهذا المسجد معروف بمسجد الأربعين قبل نسبته للباب ، فإنه باب أربعين كان بابا للبلدة ، وسمي أربعين كما قال ابن شداد أنه خرج منه أربعون ألفا للجهاد فلم يعد منهم أحد. وقيل إنما سمي الباب باسم المسجد كان فيه أربعون من العباد يعبدون الله تعالى.

قال الحافظ أبوذر في تاريخه : كان في هذا المسجد أربعون محدثا يكتبون الأجزاء والطباق ويرحلون إلى الآفاق ويعودون بالأسانيد العوال وقد طوي هذا البساط. ا ه.

وأخبرت أنه دفن في تربة الجبيلة وقبره بالقرب من الجادة في داخل التربة.

وبعد وفاة المترجم ولي مشيخة التكية خليفته محمود الدوركي ، وتوفي سنة ١١٠٩ ودفن في تربة الجبيلة أيضا في الجبانة الصغيرة في أولها وقبره لازال موجودا.

وولي المشيخة بعده الشيخ أحمد ، وقد ترجمه المرادي فقال : أحمد الحلبي الشيخ البركة


المعمر الكامل شيخ السجادة بمقام القلاقلار بحلب ، تصدر للمشيخة سنة تسع ومائة وألف ، وتوفي سنة إحدى وثلاثين وماية وألف. ا ه. والقرقلار كلمة تركية ومعناها الأربعون.

١٠١٤ ـ عطاء الله العاني المتوفى سنة ١١١٠

عطاء الله العاني ثم الحلبي أمين الفتوى بحلب ، الأديب اللوذعي.

ترجمه الأمين المحبي في ذيل نفحته وقال في وصفه : خلاصة أهل العصر ، المجتمع فيه فضائلهم بجميع أدوات الحصر ، فهو من جوهر الفضل منتقى ، وقد رقي في درج العلا حتى لم يجد مرتقى ، فالكون به متألق ، والأمل بأدبه متعلق ، وله قدم في الأدب عالية ، والمسامع بآثاره البهية حالية ، تسهل له من البراعة ما تصعب فملكه ، وتوضح له من مشكلاتها ما تشعب حتى سلكه. وقد صحبته في الروم وطريقها في الرجعة ، فحمدت الله حيث سهل لي أمر هذه النجعة ، فاجتنيت من مفاكهته روضا أنفا ، وعلقت في جيد أدبي وأذنه قلائد وشنفا. وأنا وإن كنت لم أتعرض في الأصل لذكره ، فإني لم أكتب عنه شيئا من تحائف شعره. وقد ورد عليّ الآن له روائع بدائع ، فكأنها من جملة ما كان في ذمة الدهر من ودائع ، فدونك منها جملة الإحسان ، وكأنما دعا الحسن فلباه الاستحسان. انتهى مقاله فيه.

وقوله : لم أتعرض في الأصل إلى آخره مراده أنه لم يذكره في النفحة من جملة الأدباء الحلبيين الذين ترجمهم في باب مخصوص في نفحته.

ومن شعره قوله :

فؤاد به نار الغضا تتوقد

وطرف يراعي الفرقدين مسهّد

ودر دموع في الخدود منظّم

له اللؤلؤ المنظوم عقد مبدّد

ووجد بسحّار اللواحظ أغيد

يقيم عذولي بالغرام ويقعد

من الروم رام من كنانة جفنه

سهاما فيا لله سهم مسدّد

يميس به غصن من القد أصله

يكاد بأنفاس الصبا يتأوّد


عليه قلوب العاشقين تبلبلا *

فتصدح أحيانا وحينا تغرّد

وله معارضا قصيدة جعفر ابن الجرموزي التي مطلعها :

ما غرد بلبل وغنّى

إلا أضلني وعنّى

بقوله :

عاوده وجده وحنّا

وشفه داؤه فأنّا

وأبرز الدمع بين صب

من قبل أن كان مستكنّا

فعاد ظن الهوى يقينا

فيه وكان اليقين ظنّا

ويلاه من عاذل غبي

قد لج في عذله وجنّا

يسومني سلوة وأنّى

يسلو عن العشق من تعنّى

وبي مليح لو لاح ليلا

لبدره التم لا ستكنّا

غصن يعير الغصون لينا

بدر يعير البدور حسنا

إذا تجلى رأيت شمسا

وإن تثنى رأيت غصنا

في كل عضو ترى عيونا

عواشقا روضه الأغنّا

وقد ألم بقول قابوس :

خطرات ذكرك تسثير مودتي

وأحسّ منها في القلوب دبيبا

لا عضو لي إلا وفيه صبابة

فكأن أعضائي خلقن قلوبا

عودا :

رشيق قد ثقيل ردف

يموج حقف إذا تثنّى

ولي غرام به قديم

تفنى الليالي وليس يفنى

ولست وحدي به معنّى

كل البرايا به معنّى

وله أيضا :

بمواقع السحر التي

من ناظريك ضمينها

__________________

(*) لعل الصواب : تبلبلت.


وفواتك الحسن التي

في وجنتيك كمينها

وعوامل القد التي

قلبي لديك طعينها

إلا رثيت لمغرم

دامي الجفون سخينها

وله :

لو أن أنفاسي من حرها

مما بقلبي من هوى ألعس

قد خالطت لطف نسيم الصبا

ما شمته بردا على الأنفس

وهذا ما وصلني من خبره. ولم أتحقق وفاته في أي سنة كانت ، غير أنه من أهل هذه المائة رحمه‌الله تعالى.

وللشيخ عطاء الله العاني يخاطب بها المرحوم الشيخ قاسم الخاني رحمه‌الله ورضي عنه :

يا سيدا فاق قسا في فصاحته

وحاتم من ندى كفيه يحتجب

ومن هو البحر في علم وفي أدب

ومن هو الغيث جودا حين ينسكب

أين لفكري ما أعيا عليه فلا

زالت لعلياك كل الناس تنتسب

في حر ماء رمي قلبي بجمرته

حتى غدوت بحر النار اضطرب

ما السر فيه ضد قد اجتمعا

مع ضده ولعمري إنه العجب *

إن قلت نار فإن الماء قد طفحا

أو قلت ماء فإن الماء ** تلتهب

لعل فكرك ذا الوقاد يوضح لي

فتنتفي عن سويدا مهجتي الريب

إليكها من بنات العرب معربة

عن صدق ود وإخلاص كما يجب

خود تزف إلى كفو وليس لها

كفو سواك فأنت القصد والأدب

ومهرها مثلها إن كنت تمنحني

فإنني من صدود منك مضطرب

مزيحة لنقاب في القلوب غدا

من التباعد حتما وهي تنتقب

لا زلت تعلو بني الدنيا حجا وندى

وترتقي رتبة من دونها الرتب

ما غردت في رياض الشوق صادحة

إلى ارتشاف ثغور زانها الشنب

فأجابه الشيخ قاسم الخاني ارتجالا بهذه الأبيات ولم يعهد منه شعر قط :

__________________

(*) هكذا في الأصل. ولعل الصواب : ما السر في أنه ضد ..

(**) لعل الصواب : النار.


نار الصبابة في أحشاك تلتهب

ودمع عينك منها الماء ينسكب

كالغصن يبكي دموعا حين يلقى به

فيها كذا جسمك البالي فلا عجب

اصبر فإن الهوى ما حل في كبد

إلا وزال سوى المحبوب والكرب

طلبت مثلا لنظم لا مثيل له

فخامرت مهجتي من قولك الريب

ألم تكن عالما أن ليس لي أبدا

شعر فيردعك الإنصاف والأدب

من كان يقصد تخجيل العباد فلا

تربح تجارته بل فاته الشنب

إن كنت بين الورى في النظم مفتخرا

الشعر لا فخر فيه تركه يجب

إني وحقك مشتاق إليك فلا

تسمع مقالة واش بي فتضطرب

والعذر بالأمس إن يقبل ففيما مضى

أما من اليوم لا تقبل لكم كتب

أطلق يمينك من قيد السوى لترى

وجه المحب فهذا سيدي الأدب

ا ه.

١٠١٥ ـ خالد بن محمد بن عمر العرضي المتوفى بعد سنة ١١١٥ بقليل

خالد بن السيد محمد بن عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي المعروف كأسلافه بالعرضي ، الحنفي الحلبي الأديب الأريب اللوذعي الفائق الفاضل السميذع البارع.

هو من بيت بحلب خرج منه علماء وأفاضل اشتهرت فواضلهم وفضائلهم ، وكان جده الشيخ عمر علامة فهامة خصوصا بالفقه والحديث والأدب أوحد عصره ومصره ، وله من التآليف شرح على الشفاء في أربع مجلدات ضخام ، وشرح شرح الجامي ولم يكمل ، وشرح على العقائد ، وحاشية على تفسير المولى أبي السعود العمادي المفتي بالدولة العثمانية ، وغير ذلك من التآليف والرسائل والتحريرات والتعليقات ، واشتهاره يغني عن الإطالة بمدحه. وكانت وفاته في شعبان سنة أربع وعشرين وألف. وولده والد المترجم ترجمه الأمين المحبي الدمشقي في تاريخه ونفحته والشهاب أحمد الخفاجي المصري في ريحانته ، وكان فرد دهره أدبا وفضلا ، وتولى إفتاء الحنفية بحلب ، وكانت وفاته في صفر سنة إحدى وسبعين وألف ، وكان ولده المترجم صغيرا فنشأ يتيما وقرأ على علماء عصره ومهر ونظم


ونثر وتخرج في الأدب وابتدر مشرقا بالكمالات مورقا غصن فضله ، وانتظمت عقود فضائله ، وبرع في العلوم. وسيادته من جهة والدة والده. وأقاربه كلهم شافعية أجلاء ، وكان هو حنفيا ووالده أيضا.

وترجمه السيد الأمين المحبي الدمشقي في ذيل نفحته وذكر له شيئا من شعره وقال في وصفه : مولى الفضل وسيده ، ومن انحشر إليه حسن القول وجيده ، فعجز عن شأوه وقصر ، وعميت عليه طرق الحيلة فلم يهتد ولم يبصر ، سكن في القلوب ولوعه ، من قبل أن تساكن القلب ضلوعه ، فكل قلب به كليم ، يتبع خضرا في الهوى بود سليم ، فما ترى له نظيرا ولا مثلا ، فإذا انتهجت في وصفه فانتهج طريقة مثلى ، فوصفه كله تلميح وتمليح ، والعد في المجيد مليح. وقد ذكرت من شعره النضر ، ما التقى في روضة ماء الحياة الخضر. انتهى مقاله فيه.

ومن شعره قوله يمدح بعض قضاة حلب الشهباء :

بالصدر حاوي القدر من قدره

قد جاوز العيّوق والنسرا

قد أشرقت أرجاء شهبائنا

وفاقت المدن به قدرا

فالعدل فيها باسم ثغره

عن كل إنصاف قد افترا

والشرع قد نار بأحكامه

تهللت أوجهه بشرا

مولى إذا قست به حاتما

ما قلت إلا كلما هجرا

أو بإياس رمت تشبيهه

أتيت بالمعضلة الكبرى

أو كشريح قلت في حكمه

كنت لعمري الجاهل الغرا

فكل ذي منقبة لو رأى

سؤدده دان له قسرا

فإنه بكر الليالي إذا

أتى بصنع تلقه بكرا

لو علمت شهباؤنا أنه

يسعى إليها لم تطق صبرا

وابتدرت تسعى لاعتابه

والتمست من فضله العذرا

وكتب إلى بعض أحبابه معاتبا ومضمنا البيت الأخير بقوله :

أيا من قد تحول عن ودادي

وعهدي لا يحول ولا يزول

فديتك من غضوب ليس يرضى

سوى روحي وذا شيء قليل


أيجمل أن تخيّب فيك ظني

وأنت الماجد الشهم الجليل

وكيف رضيت بي غيري بديلا

ومالي والهوى العذري بديل

على هذا تعاهدنا قديما

أم الجاني الخؤون هو الجهول

أجلك أن تصدّق فيّ عذلا

ومثلي ليس يجهل ما يقول

ليفعل مالكي بالعبد مهما

يروم فإنه العبد الذليل

فمل واهجر وصد فلا اعتراض

عليك وأنت لي نعم الخليل

ولكني سأندب سوء حظي

وما يجدي بكاء أو عويل

وكيف وكنت آمل منك حبا

يدوم وصدق ود لا يحول

وكنت أظن أن جبال رضوى

تزول وأن ودك لا يزول

ومن شعره ممتدحا المولى أحمد بن محمد الكواكبي المفتي الحلبي بقصيدة مطلعها :

قد منح الصد واللقا منعا

وأوصل الهجر والوفا قطعا

بدر تفوق الشموس بهجته

في منزل السعد والبها طلعا

أهيف قدّ بالتيه منفرد

في وجهه رونق البها جمعا

مسكي عرف دري مبتسم

يزيد عزا إذا الشجي خضعا

وقده الناضر الرشيق به

مال لقتلي ظلما وفيه سعى

ألحاظه في الحشا فعائلها

في بعضها مهجتي غدت قطعا

لم يطق الطرف لمح طلعته

هيهات برق الوصال إن لمعا

ومذ جفاني فاضت مدامع أج

فاني وجادت وجودها همعا

أصبح في حبه حليف هوى

مضنى وأمسي محيرا جزعا

تضرم نار الغرام في كبدي

كأن قلبي على الغضا وضعا

وجاوز الحد في العباد وما

جاوز خلا بحبه ولعا

ودعني الصبر حيث أودعني

أسى قد اعيا الأسا وما رجعا

زاد فخارا على الحسان كما

أحمد زاد الكمال والورعا

سما مقاما ومن له نسب

كواكبيّ إلى السما رفعا

رب علوم يفوز طالبها

في كل علم أراد وانتفعا

راحته في انبساط راحته

لو رام قبضا حاشاه ما استطعا


مكمل فضله ولا عجب

في المهد ثدي الكمال قد رضعا

مهذب الخلق لن يرى أحد

في الخلق أمثاله ولا سمعا

شهم حماه غدا بهيبته

حمى مخوف وأمن من فزعا

ناهيك في ماجد أرومته

من خير داع إلى الرشاد دعا

منها في الأخير :

مولاي بكرا أتتك ترفع * في

روض المعاني ونورها طلعا

قانعة بالقبول تمهرها

والحر يا ابن الكرام من قنعا

ولا برحت الزمان في دعة

مرغّد العيش رافعا بدعا

ما صدح الورق في الرياض على الأو

راق صدحا به الحشا صدعا

وله من قصيدة مطلعها :

وحقك لا أشكو الزمان وأعتب

إذا كان عني عامدا يتجنب

وأي لبيب أكرم الدهر قدره

وهل هان إلا اللوذعي المهذب

فلا فاضل إلا تراه بحسرة

يبيت على فرش الأسى يتقلب

تعانده الأيام فيما يريده

وتمنعه عما أتى يتطلب

وله من قصيدة ممتدحا بها بعض قضاة حلب ومطلعها :

مديحك أشهى للنفوس من الوصل

ومرآك حقا إنه آية العدل

ومجدك قد سامى السماكين رفعة

وقدرك قدر لا يدنس بالمثل

ثويت بأسنى المجد مذ كنت يافعا

وجئت رياض العز تمشي على مهل

فيا كعبة الأفضال يا منهل الندى

ويا قاضيا يقضي على الحق في الفضل

أقمت بشهبانا شريعة أحمد

وأيدتها بالعلم عن وصمة الجهل

ومزقت أثواب المظالم كلها

وأظهرت دين الحق بالعدل والفضل

منها :

تراه لأهل الفضل يبذل لطفه

وفي بره لم يصغ يوما إلى العذل

تحلى بأنواع المعارف قلبه

كما قد تخلى عن مدانسة الغل

__________________

(*) لعل الصواب : ترفل.


فلا زال في حفظ الإله مؤيدا

بخصب الأماني في أمان من الذل

وله :

لا تطلبن من الإله وعفوه

إلا الكفاف وحسن خاتمة العمل

والعفو عن وزر مضى مع صحة

يا حبذا المطلوب إن هو قد حصل

وله مقتبسا من الحديث :

إن كنت لا ترحم المسكين إن عدما

ولا الفقير إذا يشكو لك الألما

فكيف ترجو من الرحمن مرحمة

وإنما يرحم الرحمن من رحما

وله معربا معنى بالتركية :

تؤمل أن الدهر ينجز وعده

فهذا محال بالزمان بلامين

فكم أجنبي صادق في وداده

فيعطي بلا من ويبذل من عين

فأحسن عندي من قريب وماله

بوارق إحسان إذا صرت في حين

وله :

إذا كنت لا تتقي الموبقات

ولم ترم عنك حديث الدمى

ولم تحرز الفضل والمكرمات

فأخذك للعلم قل لي لما

وهو مثل قول القائل :

إذا كان يؤذيك حر المصيف

ويبس الخريف وبرد الشتا

ويلهيك طيب زمان الربيع

فأخذك للعلم قل لي متى

وللمترجم غير ذلك من أحاسن الشعر وبدائعه. بالجملة فقد كان أحد الأدباء الأفاضل بحلب من ذوي البيوت. ولم أتحقق وفاته في أية سنة كانت ، غير أنه في سنة خمس عشرة ومائة وألف كان موجودا على التحقيق رحمه‌الله.

١٠١٦ ـ عامر المصري الضرير المتوفى سنة ١١١٦

عامر الشافعي المصري الضرير نزيل حلب ، الشيخ المقري الفاضل الماهر المتقن الأستاذ.


ولد في حدود الثلاثين وألف ، وأخذ بمصر وجوه القراءات عن شيوخ الحافظ البقري المشهور وعنه. وقدم حلب قبل المائة وألف من السنين ونزل بالمدرسة الحلاوية ، وأخذ عنه قراء وقته كالشيخ يوسف الشراباتي والشيخ إبراهيم السبعي المحبي وخلائق وانتفع به الناس. وكان دمث الأخلاق ، أخبر تلميذه الفاضل المتقن الشيخ عمر إمام جامع الرضائية أنه قرأ عليه القرآن قبل وفاته بشهور قلائل ، قال : كان لي أخوان يقرأان عليه ، فأخذني أحدهما يوما معه وكنت في سن الثماني سنين ، فرأيت شيخا كبير السن ، فلما قبلت يده قال لأخي : هذا صغير ، كم سنة؟ فقال له : ثماني سنين ، فضجر وقال لأخي : خذه إلى المكتب ، فقال له أخي : إنه ختم القرآن ونريد أن تشرفه تبركا بالقراءات ، فقرأت حصة من سورة البقرة ، فأعجبته قراءتي وقال لأخي : دعه عندي يخدمني إن شاء الله تعالى ينتفع بالقرآن ، فأقمت عنده غالب الأوقات إلى أن مرض ، وكنت وصلت إلى سورة إبراهيم عليه‌السلام ، فأتيت يوما وطرقت باب الحجرة عليه فقال : من هذا؟ فقلت : عمر ، فقال : رح عني ، أنا غدا أموت ، فذهبت ، فلما كان ثاني يوم أتيت فرأيته توفي ، وأخرجه ضابط بيت المال من الحجرة وختمها وظهر عنده دراهم وحوائج. انتهى.

وكانت وفاته في سنة ست عشرة ومائة وألف ، ودفن بمقبرة العبّارة خارج باب الفرج رحمه‌الله تعالى.

١٠١٧ ـ الشيخ محمد داده الوفائي المتوفى سنة ١١١٩

ترجمه الشيخ يوسف الحسيني في كتابه «مورد أهل الصفا» فقال ما خلاصته.

لما توفي الشيخ حسين دده سنة ١٠٩٩ تلاه في المشيخة (أي في تكية الشيخ أبي بكر) ولده الخير الكامل شيخ الأسخياء في عصره على الإطلاق ، وأوسع أهل زمانه صدرا بالاتفاق ، الشيخ النير المعمر البركة الصالح الشيخ محمد داده. كان رحمه‌الله كريم الأخلاق سخي الطبع رقيق قشرة العشرة طاهر السريرة حسن السيرة لذيذ الصحبة كثير المحبة ودودا للناس مكرما لهم مجللا معظما عند الوزراء والأمراء والموالي والحكام ، نافذ الكلمة عندهم مقبول الشفاعة موقرا له السمع والطاعة ، مبذول الشفاعة الحسنة ، كانت تأتيه الهدايا الكثيرة والنذورات الغزيرة فلا يبقى على شيء منها ولو كانت ألوفا مؤلفة لسخاء يده وكرم


نفسه. وكان رحمه‌الله متكلما بالخير عند الحكام كثير الرأفة والرحمة على الفقراء والمساكين مساعدا لهم فيما يهمهم عند الحكام بحيث لو أمكنه أن ينفق من ماله لدفع الظلم عنهم لفعل ، وكان لأهل بلدته وأبناء جلدته كالأب الشفوق يذب عنهم ويسعى فيما ينفعهم ويصلح بين المتشاحنين ويوجد في أفراحهم وأتراحهم وتهانيهم وتعازيهم ، ويعدون حضوره عندهم في مجالسهم ومحافلهم من اليمن والبركة ، وكان طبعه إغاثة الملهوف ودأبه إكرام الضيوف.

وقد انتظم حال التكية في زمنه ومدة خلافته ومشيخته أكمل النظام ، وجد فيها بعض الأماكن والحجرات ، وسعى في إصلاح شأنها بماله وبدنه وسعيه ومباشرته ، وكان لا يرفع يده من ترميم بعض الأماكن وتجديد بعض الأواني والآلات واللوازم لها ، وهو الذي سعى في فرش البلاط في سماوي التكية من أوله إلى آخره ، ونظم أحوال الدراويش بالرعاية والإحسان إليهم وتربيتهم.

وكان للناس عليه كمال الإقبال والمحبة له والاعتقاد لما عرفوه وتحققوه من صفاء سريرته وحسن سيرته.

وكان ملازما للأوراد والأذكار إلى أن توفاه الله تعالى صبيحة يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي الحجة سنة تسع عشرة وماية ألف ، وكان يوم وفاته يوما مشهودا وجنازته حافلة ، ولم يبق أحد من الناس إلا وبكى عليه ، ودفن إلى جانب والده في التكية المذكورة قبلي مزار الشيخ الكبير وغربي المسجد رحمه‌الله تعالى.

١٠١٨ ـ أحمد بن عبد الحي الحلبي الشافعي نزيل فاس المتوفى سنة ١١٢٠

ترجمه في كتاب «نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني» لأبي عبد الله محمد ابن الطيب القادري الحسني المغربي الفاسي ، وهو مطبوع بفاس ، فقال :

ومنهم الأديب الشهير العالم الصوفي الكبير الولوع بالأشواق النبوية والأمداح المصطفوية ، المحب الأسد الأبرع الأنور ، سراج الدين أحمد بن عبد الحي الحلبي الشافعي الفاسي وفاته ، كان ممن ذاق الحب النبوي وساغه ، وحمل فيه لأهل زمانه راية البلاغة ، قوال مكثار ، لا يستطيعه ابن الحسين ولا مهيار ، ممن أعجز كل مديح ، وحاز في هذا الباب الفخر الصريح ، أنفد عمره في الأمداح النبوية ، واغتنم بها طلب السعادة الأبدية ، وأكثر


من القصائد الرفيعة ، والأزجال البديعة ، فتارة يتغزل على طريق النسيب ، وتارة يصرح أولا بالمديح ويأتي في كل بالعجب العجيب ، فله في ذلك ديوان كبير. وله تآليف أحدها «الدر النفيس في مناقب مولانا إدريس» (هو الذي فتح المغرب الأقصى وأدخل إليه الإسلام) ومنها «كشف اللثام عن عرائس نعم الله تعالى ونعم رسول عليه‌السلام» ، و «السيف الصقيل في الانتصار لمدح الرب الجليل» ، و «فتح الفتاح على مراتع الأرواح» ، و «معراج الوصول في الصلاة على أكرم نبي ورسول» ، و «مناهل الصفا في جمال ذات المصطفى» ، و «مناهل الشفا في رؤية المصطفى» ، و «السيف المسلول لقطع أوداج الفلّوس المغلول» (الفلّوس في الصطلاح المغاربة فرخ الدجاج) ، وهو رجل أنكر عليه نداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه مجردا عن السيادة في قصيدة يقول فيها :

وحقك يا محمد ما رأينا

نظيرك في جميع العالمينا

وله مقامات عارض بها مقامات الحريري ، و «الكنوز المختومة في الساحة المقسومة لهذه الأمة المرحومة» في ثلاثة أسفار ، وله شرح على قصيدته العينية المسماة «بمراتع الأرواح في كمالة الفتاح».

وأثنى عليه أهل عصره كالشيخ أبي عبد الله سيدي محمد بن عبد القادر الفاسي وأخيه الحافظ سيدي عبد الرحمن وأبي عثمان سعيد بن أبي القاسم العميري والشيخ أبي عبد الله القسمطيني والقاضي أبي عبد الله المجاصي والقاضي أبي مدين السوسي وأبي العباس المجلدي وأبي العباس بن يعقوب فيما رأيت بخطوطهم.

ومن تأليفه «ريحان القلوب في ما للشيخ عبد الله البرناوي من أسرار الغيوب» في مجلد ، وقد طالعت منه غير مرة.

وكان الشيخ اليوسي من المعجبين بنظمه ، وكان يقضي له كل ضرورياته من ماله لغربته ونفاسة علمه ، حتى نظم قصيدة تكلم فيها على لسان الحق ، فنقر (عاب) عليه الشيخ اليوسي ذلك وزجره عنه ونهاه ، فلم ينته ، فهجره وقطع عنه ما كان يصرفه عليه.

وقد دام على المدح النبوي حتى قبضه الله على تلك الحالة ، فتوفي في جمادى الثانية من عام عشرين ومائة وألف ١١٢٠ ودفن بمطرح الجنة خارج باب الفتوح من فاس رحمه‌الله. ا ه. كلام النشر.


وفي عبارة لأبي الربيع سليمان بن محمد الحوات الحسني العلمي الفاسي في هذا الإمام قال : هو إمام مشهور وهمام مشكور وبحر لا تكدره الدلاء (أهل الدلاء محل بالبربر قرب فاس فيه زاوية للسادات الدلائين البكريين) ، أنفق بضاعته في مدح المصطفى ، وأخرج من بحر المعجزات ما رسب من درر البلاغة أو طفا ، فعلا في الناس قدره ، وامتلأ بالأنوار صدره ، استولى عليه في السر والإعلان ، حبان من الإحسان والاستحسان ، أحسن له المحبوب بكشف الحجاب ، فغاب في استحسان الجمال إلى حد الإعجاب. كان نشأ ببلده حلب ، وفيها حلب من ثدي العلوم ما حلب ، ثم أزمع الرحلة عنها في طلب الزيادة ، مرفوع الذكر في مراقي السيادة ، حتى حل بدره بحضرة فاس ، والناس فيها حينئذ خير ناس ، فأعظم أهلها بعد الاختبار أمره ، وأحقروا دونه زيد الأدب وعمره ، وعرف علماؤها من حقيقته الفضل والخاصة ، وانتهى بينهم إلى مقام خاصة الخاصة ، وتلمذ له لأكابر ، وخوطب بولاية الكراسي والمنابر ، فأغنته الغيبة عن الظهور ، ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور. كان رضي‌الله‌عنه شافعيا ، ولم يتحول قط مالكيا ، لأنه قدوة في ذلك المذهب ، وإليه المفزع في أحكامه والمهرب. وله مؤلفات في أغراض مختلفات أكثرها لم يكشف من مخدراته سواد ، ثم لم يكن بعد أن يبلغ فيه مداه تفتقت أكمام كلماتها عن أزهار الرقائق ، وانفلقت أنوار كلماتها عن شموس الحقائق. وله ديوان في الأمداح النبوية ، ومقامات فيها أيضا تعارض الحريرية ، كتب عليهما أكثر أئمة العصر في المشرق والمغرب ، وأوسعوا في الثناء عليه بما شاهدوا بما مداده المعجب ، وقد ذكر أكثرهم في كتابه «كشف اللثام عن عرائس نعم الله ونعم رسوله عليه‌السلام». وبمطالعة هذا الكتاب ، يعرف قدر هذا الرجل عند أولي الألباب ، وفيه ذكر هذه الرؤيا ، حسب ما نقل عنه في الأسطر العليا (أي المتقدمة في الكتاب المنقول عنه هذه الترجمة) في ترجمة مرائيه الإلهية والنبوية ، الدالة على أعظم البشائر الدنيوية والأخروية ، وهي مما لا يحتمله هذا التقييد ، والله على كل شيء شهيد. توفي رحمه‌الله سنة عشرين ومائة وألف وقبره بمطرح الجنة خارج باب الفتوح ، وأنوار الاستجابة على أرجائه تلوح. ا ه.

والرؤيا المشار إليها هي قوله في كتابه «كشف اللثام» : رأيت رب العزة يعنى في المنام وهو يخاطبني خطابا حسنا ويعدني وعدا جميلا من الفضل والعطاء الجميل ، وذلك أظنه في سنة سبع وثمانين وألف ، فسمعت ذلك الخطاب العظيم بمعنى لا أقدر عن التعبير


عن كيفيته الآن من غير صوت ولا حرف ، يقول لي (يا عبدي ، وعزتي وجلالي لأدخلنّك الجنة ، وعزتي وجلالي لأغفرنّ لك ذنوبك ، وعزتي وجلالي لأجعلنّ من ذريتك الشرفاء). هذا آخر ما سمعته منه تعالى ، وما بقي من الوعد الكريم لم أحفظه كله لطول العهد بيني وبين هذه الرؤية *. ا ه. وقد أعطاه الله ما وعده به من جعل ذريته شرفاء ، فإن بنته فاطمة كانت زوجا لبعض الشرفاء الكتانيين بفاس ، وولد لها منه أولاد ولا زال عقبهم موجودا إلى الآن. ا ه.

نقلت هذه الترجمة من عند الاستاذ المحدث الكبير الشيخ محمد الكتاني الفاسي نزيل الشام حفظه الله تعالى في رحلتي إليها سنة ١٣٤٠.

١٠١٩ ـ عبد الله بن مصطفى الزيباري المتوفى أوائل هذا القرن

عبد الله بن مصطفى بن حسن الزيباري ، الشاعر الأديب أخو حسين الآتي ذكره.

لم أقف له على ترجمة ، غير أني وقفت له في بعض المجاميع على عدة قصائد من نظمه ، منها قصيدة رثى بها الشيخ محمد ابن الشيخ محمد ابن الشيخ محمد نظام الدين القصيري شيخ قصير سنة ١١٠٢ وهي :

لعمرك ما الدنيا لأبنائها ذخر

ولكنها دار الفناء بها الخسر

قرارة أكدار ومعدن كربة

حبالة آثام بها يكسب الوزر

فتبدو بلذات وعيش مزخرف

وما عندها إلا الخديعة والمكر

وكم عصبة ظنوا الخلود بدهرهم

فلم يلبثوا إلا ومنزلهم قفر

وكم حصنوا بالسابغات وإنما

سهام المنايا ليس من دونها ستر

فلا البين ذو ودّ فيرعى مودة

ولا هو خل عنده يقبل العذر

وما الدهر إلا بالغرور لأنه

هو الخائن الغدار والصارم البتر

وهل بعد أحبابي يروم صداقتي

ومن بعدهم يا صاح قد نفد الصبر

ويوم وقوع البين حلت مصيبتي

وعمت بي البلوى وضاق بي الصدر

فما القلب بالمسرور بعد محمد

ولا أعيني بالراقدات وهم حمر

__________________

(*) هكذا في الأصل : ولعلها : الرؤيا.


ولي زفرات بالفؤاد وحسرة

ولي مقلة قرحى بها الأدمع الغمر

وتلك على تلك الشمائل أنها

حليفة أنس لا يدنسها كبر

ويا أسفي قد فرق الدهر بيننا

وما كنت أرجو أن يعاندني الدهر

ولكنما سهم المنون إذا عدا

على المرء لا ينجيه زيد ولا عمرو

لكل امرىء يوم وعمر مقدر

وقد مضت الأيام وانقطع العمر

فلا تأمن الدنيا ورقة عيشها

ومن يأمن الدنيا فذاك هو الغمر

ألم تدر أن الدهر خوان ألفة

مفرق أحباب ومن شأنه الغدر

ولم تدر أن الموت لا بد واقع

وكل امرىء يا صاح مسكنه القبر

وقد كان مقدورا فراق محمد

فكيف به صنعي إذا حكم القدر

فما هو بالميت الذي تحسبونه

ولا هو بالفاني ولكنه الذخر

شهيد له في جنة الخلد روضة

مع الحور والولدان يقدمه البشر

هو الحي والمرزوق من عند ربه

جنابا بها من كل ناحية قصر

وما شهداء السيف إلا كأنجم

محمدنا ما بين ساداتهم بدر

تردى ثياب الموت بيضا فما أتى

لها الليل إلا وهي من سندس خضر

فصبرا على فقد الحبيب محمد

ولا بد من يسر يزول به العسر

ولا نشتكي صرف الزمان إذا سطا

ولكن شكوانا لمن أمره الأمر

ألا إن في قتل الحسين لعبرة

لمن كان بالخطب الجليل له فكر

هو السيد المفضال والطاهر الذي

له النسب الأعلى وقاتله شمر

وقد كان إبراهيم نجل نبينا

سليلا نجيبا كان يزهو به العصر

أبوه رسول الله صفوة هاشم

وأجداده الغر الأكارم والطهر

فلم تبقه الأقدار عند حلولها

ولم تنجه الأحساب منها ولا الفخر

وبادوا من الدنيا وما باد ذكرهم

وكل امرىء بعد الممات له ذكر

فيا أيها المولى المصان بحلمه

تسل عن الأحزان يا أيها الحبر

ولا تك محزونا مدى الدهر سرمدا

فأنت الذي ما في شمائلك الغمر

فعما قليل يجمع الله شملنا

وقد قرب الميعاد واقترب الحشر

سقى الله رمسا ضم جسم محمد

وبلله صوب السحائب والقطر

ودمت قرير العين ما أظلم الدجى

وما هبت الأرياح وانفلق الفجر


وله يمدح العلامة أحمد أفندي الكواكبي سنة ١١٠٥ مهنئا له بعيد الأضحى :

من ذا الذي بخلوص الود يسعدني

وعن بقاع الردى والذل يبعدني

وأي حرّ يرى إسعاد منتجعي

وعن جوار أولي البغضاء ينجدني

نشأت في بلدة ظل الهوان بها

مؤانسي وسكوني للهوى سكني

وكم خطبت بها عشواء من سدري

في مهمه الذل والأوباش تقدمني

حيث الضلالة خلي والجهالة مغ

لاق اهتداي ولا هاد فيرشدني

وحين أعيت بأوطاني مكابدتي

وقع الخطوب وما ساقت من المحن

وخلت ريّق أيام قطعت بها

ضاعت ولذت مع الأهوال في قرن

وازداد قلبي ضلالا عن هداي وما

جنيت غير ثمار الجهل في وطني

يممت من أفق الشهباء منزلة ال

كواكب الزهر من ذرية الحسن

علّي بأنوارهم أجلو صدا فكر

غشى وأرخص ما بالقلب من درن

أبان كوكبها الدري أحمدها

المولى المطوق جيد الدهر بالمنن

قطب الهدى لأهاليها وأكرمهم

أبا وجدا وهاديهم إلى السنن

كأنهم لبني الدنيا إذا سدروا

في ظلمة الجهل وانقادوا إلى الفتن

وعن طريق الهدى ضلت هداتهم

نار بذيل الدجى شبت على القنن

يا أيها العلم الفرد الرؤوف ومن

تصفو مودته في السر والعلن

ناشدتك الله بالعهد القديم وما

كانت يداك من الجدوى تسربلني

أقبل حنانيك بالوجه الوسيم على

عبد أتى رافلا في دسته الخشن

ولا تكن غافلا عني فتلجئني

ألوي على كل خضراء من الدمن

وقد ثويت غريبا في دياركم

مثل الغريق الذي يلقى من السفن

أطوي طويل الليالي في مكابدة

تأبى الجفون بها عن زورة الوسن

وبينما أدمعي تنهل من حدقي

والقلب حاشاك مطوي على الحزن

إذ أقبلت زمر الأفراح يقدمها

عيد سعيد يسح البشر للزمن

عيد إذا قنط الراجون من عدة

قد أخفرت ردها مخضرة الغصن

روّى قلوب البرايا عن سموم قلى

من سلسل برحيق الود مقترن

وأفاك بالبشر والعيش الرغيد وبال

مجد الأثيل وعز قط لم يهن


بشراك فالسعد والإقبال قد هتفا

من فضل باري القوى إياه فاستعن

واستر معايب أبيات جمعت بها

لحن المقال وعما شان لم أصن

تبت يدا فكر كانت تمور بغل

واء القريض ويوم السبق لم تكن

وكان في فطنة لما تركت سدى

وقد وهى من مقاساة الأسى بدني

حال الجريض بما لاقيت من نصب

دون القريض وغاضت لجة الفطن

أرجو القبول من المولى فإن قبلت

فذاك خير وذاك الشين لم يشن

لا زلت في حرم الإقبال ترتع في

روض الحبور وحامي الود لم يخن

ودمت ما عاد عيد وانجلى فلق

وما انحنى راكع بالفرض والسنن

وله في هذا المجموع قصائد أخر ، وقد اكتفيت منها بما أثبته. ولم أقف على تاريخ وفاته غير أنها كانت في أوائل هذا القرن.

١٠٢٠ ـ صادق بن عبد السلام البتروني المتوفى أوائل هذا القرن

صادق بن عبد السلام المعروف بالبتروني الحلبي ، الأديب النبيه الفاضل.

كان والده من صدور أعيان حلب المشار إليهم والمعول عليهم ، وله شهرة هناك. وترجمه السيد محمد الأمين المحبي الدمشقي في ذيل نفحته وقال في وصفه : من محتد صادق جامع ، ذكراهم شرف لافظ وسامع ، فهم عقد الجيد وتاج المفرق ، ومدحهم فخر القلم وزينة المهرق ، نبغ منهم ماجد إثر ماجد ، فارقه الدهر وهو لعمري عليه واجد ، حتى طلع هذا بمجد لا مدّعى ولا منتحل ، وهمة لو رامها البدر لا ستخذى له زحل ، فركض في حلبة من حلبات المجد ، وعانق الغرام في ليل الجد والوجد ، فهو الآن خلاصة ذلك العنصر ، وله الفضل الذي تتباهى به الأعصر ، فهو أحق إلى العلا من شارف ، مجده متنافس فيه من تالد وطارف. وله شعر أخلصه السبك إبريزا ، فسما على نظرائه رجاحا وتبريزا ، أثبت منه ما تديره كؤوسا على الندام ، فيتسلى به فؤاد لا تسليه المدام. انتهى مقاله.

ومن شعره قوله من قصيدة :

دمع بتذكار أحباب له سفحا

وباح من سره المكتوم ما افتضحا

ومعهد بالحمى صاف تزف له

سرائر في سويدا القلب قد سنحا


آثار لاعج صب كان منكتما

بين الضلوع وشوق زنده قدحا

حيث الشبيبة والأيام مقبلة

وحيث دهريّ من معوجه صلحا

نشوان أختال من خمر الصبا مرحا

لا أستفيق غبوقا لا ومصطبحا

وقوله :

وردنا مقامك نجلي الهموم

بشرب المدام وننفي الكرب

فلم نر فيه الجناب الرفيع

وما فيه بغيتنا والأرب

فكاد الفؤاد جوى أن يذوب

لغيبة شهم العلا والنسب

فلما قدمت أضاء المكان

وزاد السرور بنا والطرب

فدرها سلافا وحث الكؤوس

فهذا الصباح أراه اقترب

وهذا النسيم له مؤذن

وهذي البلابل تملي الخطب

فداو الكلوم ببنت الكروم

وأفرغ نضارك فوق الذهب

وقوله :

حبذا عيشنا ونحن بروض

بين هزل من الكلام وجدّ

وغناء من مطرب وأغان

وعبير يضوع من عطر ند

وهزار مغرد وغدير

بين وردين من نبات وخد

وسقاة مثل البدور وناي

ومدام وضم خصر ونهد

وقوله :

لا ولحظ بابليّ سحره

وخدود حفها حسن الضرج

وخصور مضها طول الضنى

وشعور فوقها تحكي السبج

وثنايا درها منتظم

في عقيق زانه فيها الفلج

هو من قول أحمد المهمنداري الحلبي المفتي :

إن الشفاه اللاء حمّلنني

في الحب أضعاف الذي لا أطيق

جدول ياقوت بدا تحته

سبحة در نظمت في عقيق

عود :


ما نسيم الروض إلا أنه

سارق من طيب ذياك الأرج

ما تراه كلما هبت ضحى

فاح منه أرج يحيي المهج

وله :

ولما زارني من بعد بعد

وكاد اليوم يقضي بانقضاء

وأرشفني اللمى بعد التنائي

وأحيا الروح في ذاك اللقاء

وقام مودعا كالغصن قدا

وكالشمس المنيرة في الضياء

وآلى أنه في اليوم يأتي

قبيل غروب شمس في السماء

فليت الشمس لو بقيت قليلا

ففيها كلما بقيت فنائي

ومن مقطعاته قوله في التشبيه :

وبدر يعاطيني المدام عشية

ويمزج أخرى من لماه بأعذبه

إذا ما حساها من فم الكاس خلته

هلالا أزاح الشمس عن وجه كوكبه

وله :

لله يومي بالبستان إذ جليت

عليّ بنت الطلا من كف ذي ملق

كأنه إذ جلاها في الكؤوس ضحى

بدر تناول شمسا من يد الأفق

وله أيضا :

وليلة قد تقضت بالدجى عبثت

والكأس تجلى وبدر التم لي ساقي

فمذ حساها تراءى لي بغير مرا

بدر يقبل شمس الأفق من طاق

وهذا ما وصلني من خبر المترجم ، ولم أتحقق وفاته في أي سنة كانت ، غير أنه من أهل هذا القرن رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٢١ ـ صالح بن إبراهيم الداديخي المتوفى أوائل هذا القرن

صالح بن إبراهيم المعروف بالداديخي الحلبي ، الفاضل الأديب ، الناظم السميدع الأريب.


كان ممن اتصف بالأدب واشتهر به. وقد ترجمه الأمين المحبي الدمشقي في ذيل نفحته وقال في وصفه : أبدع من أجرى يراعا في مهرق ، وأبرع من وضع إكليلا على مفرق ، طلعت بدائعه على نسق ، فأرت نجوما زواهر تجلو ظلمة الغسق ، ما شئت من بر نافقة سوقه ، ومجد شارقة بسوقه ، وطبع ما شيب بجمود ، وذكاء ما شين بخمود ، شف في الآداب على جيله ، وزها جواد سبقه في غرته وتحجيله ، فساغ المنى أطوارا ، وفتق الدجى أنوارا ، فبشره يحدث عن منائحه ، كخرير الماء يحدث على مسائحه ، فكأن كل الأرواح إلى التروّح بمفاوضته شائقة ، ولولا حلاوة الشهد ما رغبت إليه ذائقة ، وهو مطمح أملي الذي به أستأنس بجدي * ورسمي ، وجرى مني أبعاض قلبي وأعشار جسمي ، فأصفى هواي كله إليه ، وصيرودي ما دام ودمت وقفا عليه. ومما أهدى إلي نهزة من إعجاله ، وخلسة ارتجاله ، قوله ينوه بي :

أنسيم الخزام من دار حبيّ

يا سقاك الحيا وحياك ربي

طالما حرك الغرام ادكاري

قرب مسراك من معاهد صحبي

فأعد أيها النسيم حديثا

وإلى سرب ذلك الظبي سربي

وامل عن لوعتي وفرط اشتياقي

ما ألاقي واشرح له بعض كربي

لهف قلبي وليت شعري أيجدي

قول مأسور لحظه لهف قلبي

رشأ بالشآم شمت عبير

الورد من نحره فعطر لبي

كان عشقي له بجارحة السمع

جزاها العتبى بلا دخل عتب

فأنا اليوم موسويّ الهوى من

قبل رؤياه هائم العقل مسبي

غير أني به على سنن الرق

مقيم في حال بعدي وقربي

إن يكن في هواه إطلاق دمعي

جائزا قد رآه فالله حسبي

فسقى جلّقا ولا غرو أن تختال

في بردتين تيه وعجب

كيف لا تدّعي على المدن فخرا

بأمين فرد الزمان المحبي

الإمام الهمام حامي حمى الآ

داب بالفضل والندى والتأبي

حاك وشيا من القريض عجيبا

قصرت عنه همة المتنبي

قلم في يديه كم حل صعبا

وازدرى في مضائه كل عضب

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولم أوفق إلى معناها. وفي ذيل النفحة : استأثر بحدي.


أيها الفاضل الذي لا سواه

للمعالي روح بها الكون محبي

هاك عذراء ليلة من نبيّ

الفكر وافت من الخجالة تحبي

تطلب الإعتذار منك وهاقد

نزلت من ندى علاك برحب

وابق واسلم ما غردت ساجعات

الورق في أيكها وقلبي ملبي

ومن تحائف فكره قوله من قصيدة مطلعها :

ما على ذلك الغزال الربيب

قود في دم المحب السليب

فلهذا ترى سكارى هواه

تحسب الصبح طالعا في المغيب

كنت أخشاه حال سلم فلم لا

وهو مغرى بالهجر والتعذيب

قمت في حال سخطه ورضاه

في مقام الترغيب والترهيب

فرعى الله ظبي أنس غدا مر

عاه في الحالتين حب القلوب

حاز إرث الجمال عن يوسف

الحسن وحزت الأحزان عن يعقوب

وكساه الإله بردا غدا يز

دان عجبا من فوق عطف قشيب

كللته العيون لما تبدى

مقبلا إذ غفت عيون الرقيب

فيريني إذ بدا بدر تمّ

يتثنّى من فوق غصن رطيب

عقرب الصدغ راح يحمي جنى خد

يه عن أن يناله ذو كروب

فخف الله أيها الريم واستر

ذا المحيا البهي بكف خضيب

وله معارضا قصيدة السيد محمد القدسي التي مطلعها :

يا نسمة لثمت حبيبي

وتمسّكت منه بطيب

بقوله :

بالله يا ريح الجنوب

وقّيت نكباء الخطوب

إن جزت في وادي النقا

بين المعاهد والكثيب

فاقرأ سلام المستها

م لذلك الظبي الربيب *

رشأ كأن الله أس

كن حبه كل القلوب

نظري إليه تلهفا

نظر العليل إلى الطبيب

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : فاقري ..


عجبا لفاتر طرفه

يرنو ازورارا كالغضوب

ولخده الجوريّ لم

يك في الهوى حينا نصيبي

ولخاله المسكيّ زيد

العرف من طيب رطيب

كشف الطبيب لفصده

عن معصم الرشأ الربيب

فجرى دم العرق الذي

يعنيه من لحظ الطبيب

وللمترجم :

في الدجى مذ لاح طالع

مسفرا تلك البراقع

أوهم الناس محيا

ه بأن الفجر ساطع

سحت العين على

ترحاله جم المدامع

ماله في الحسن ثان

لجميع الحسن جامع

ألف القلب هواه

فهو في الأحشاء راتع

عذلوني قلت كفوا

لست أصغي لست سامع

يا ظريف الشكل إني

هائم والدمع هامع

لك روحي لك قلبي

يا ترى هل أنت قانع

وله :

ظبي أنس وجهه قمر

عزّمنه النيل والظفر

ذو قوام زانه هيف

زانه الخطّيّ والسمر

عذلوا حتى إذا نظروا

ورد خديه إذا عذروا

ونهوا عنه فحين بدا

بتلافي في الهوى أمروا

قبلة الألحاظ طلعته

حيث دارت دارت الصور

هو من قول البابي :

كأنما أوقف الله العيون على

رؤيا محاسنه لا صابها ضرر

فلو بدا من ورا المرآة لا نحرفت

عن أهلها حيث دارت دارت الصور

والأصل في هذا قول بعض البلغاء :


كأنما أنت مغناطيس أنفسنا

فحيثما درت دارت نحوك الصور

منها :

رشأ يفتر عن برد

ناصع في ضمنه درر

توارد فيه مع الأديب مصطفى البتروني الحلبي في قصيدته اللامية :

شادن يفتر عن برد

ناصع في ضمنه عسل

منها :

وحواشي نمل عارضه

لخفا فيها لنا نظر

أحسن منه قول ابن عرفة :

انظر إلى السحر يجري في لواحظه

وانظر إلى دعج في لحظه الساجي

وانظر إلى شعرات فوق عارضه

كأنهن نمال دب في عاج

ومنها :

ما رأى موسى فواعجبا

كيف يدعى أنه الخضر

منصفي في الحب من رشأ

مقلتاه ملؤها حور

أخذت فيه بنو ثعل

فهي لا تبقي ولا تذر

بنو ثعل قبيلة من العرب رماة يضرب بهم المثل لجودة رميهم ، قال امرؤ القيس :

رب رام من بني ثعل

مخرج كفيه من ستره

فهو لا يخطي برميته

ماله ما عد من نفره

عودا :

ضل في ديجور طرته

عجمها والبدو والحضر

سائلي عن حالتي سفها

ليس لي عن حالتي خبر

ريع صبري في محبته

منه لا عين ولا أثر

سامح الله الظبا بدمي

فهو في شرع الهوى هدر


وللمترجم قوله :

أهواه قد لبست غدائره الدجى

وصباح غرته المنير تبلجا

وعلى حواشي الورد من وجناته

قد خط ريحان العذار بنفسجا

ألمى الشفاه يزينها خال لقد

طبعت على ياقوتها فيروزجا

واحيرتي في شادن حلو اللمى

رشأ رخيم الدل أحوى أدعجا

ما بين معترك القلوب ولحظه

لا كان مطّلب لحاجته التجا

لا صبر لي ووقعت في أشراكه

جهلا وأنظر لا أرى لي مخرجا

أرجو رضاه ولو بسلب حشاشتي

فيقول لي حاولت مالا يرتجى

ويهز عطف التيه مختالا كما

شاء الهوى فأعود منقطع الرجا

ومن مقطعاته قوله.

أيها الشادن المحجب

عن عين محب بليله يرعاكا

أنت في أسود الفؤاد ولكن

أسود العين يرتجي أن يراكا

وله غير ذلك. ولم تصلني وفاته في أي سنة كانت رحمه‌الله تعالى.

١٠٢٢ ـ أبو بكر الشهير بابن عراق المتوفى بعد ١١٢٠

أبو بكر الشهير بابن عراق الحلبي ، الفاضل المشهور الشاعر المجيد.

كان يعاني العطارة في حانوت بالقرب من جامع البهرامية. ولد بحلب ، ونظمه أكثر من أن يحصر ، وكان حلو المنادمة وله اطلاع على دواوين المتقدمين وحفظ أشعارهم. ومن نظمه قوله :

إليك يا دهر من أنباك تحسبني

أخاف إقتارا ام أبكي على طلل

إني إذا ما رأيت الضيم من جهة

بسيف بأسي أبري هامة الأمل

وكانت وفاته في حلب بعد العشرين ومائة وألف وقد ناهز السبعين رحمه‌الله تعالى.

١٠٢٣ ـ أبو المواهب سبط العرضي المتوفى سنة ١١٢١

أبو المواهب الحلبي سبط العرضي الحنفي ، نزيل قسطنطينية وأحد المدرسين بها.


ولد بحلب ونشأ بها ، ثم رحل إلى قسطنطينية دار الملك بعد تحصيل الاستعداد ، ولازم من المولى يحيى ابن حكيم باشي السلطان محمد المولى صالح الحلبي قاضي العساكر ولازم على قاعدتهم ، وعزل عن مدرسة بأربعين عثمانيا ، وبعده انتسب إلى المولى السيد فتح الله ابن شيخ الإسلام المولى فيض الله الشهيد وتشرف بخدمته وصار مكتوبجيا له.

ففي سنة ست ومائة وألف في ذي الحجة أعطي مدرسة سراي الغلطة ، وفي سنة ثمان ومائة في ذي القعدة أعطي مدرسة يار حصار ، وفي سنة عشر ومائة في صفرها صارت له مدرسة الداخل المتعارفة بين الموالي ، وفي اثنتي عشرة أعطي مدرسة سليمان صوباشي ، وفي سنة أربع عشرة في محرم صار له إنعام بثاني مدرسة شيخ الإسلام المولى زكريا مكان هادي زاده المولى فيض الله مرتبة موصلة الصحن ، وفي سنة خمس عشرة في ربيع الثاني بسبب واقعة أدرنه وقتل شيخ الإسلام وما جرى نزلت رتبته وصارت له مدرسة بهرانية برتبة الداخل ، وفي سنة سبع عشرة في رمضان أعطي عن محلول أركه زاده المولى بليغ مصطفى مدرسة حافظ باشا ، وفي سنة عشرين في صفر صار له إنعام مدرسة خديجة سلطان.

ومن مكاتباته قوله : يمينا بمن جعل الأرواح جنودا مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ، إن شوقي إلى سيدي شوق الروض إلى النسيم ، وتشوقي لأخباره تشوق الصحة من الجسم السقيم ، وإنه قد استنفد جلدي ، واحتوى على جميع خلدي ، وجرح جوارحي ، وجنح على جوانحي.

لو أنني كاتب شوقي إليك لما

أبقيت في الأرض قرطاسا ولا قلما

والذي جعل الدهر تارات ، وأودع التنائي الغم والتداني المسرات. لتكاد أنفاسي ، تحرق بالوجد قرطاسي ، وأكثر ما أكابد لتذكري تلك الليالي والأيام ، التي لا أشك في أنها كانت أضغاث أحلام.

ليالي لم نحذر حزون قطيعة

ولم نمش إلا في سهول وصال

فلا أكابد ما كابد من الكرب ، وأتمثل لها بقول شاعر العرب * :

__________________

(*) هو ابن زيدون.


حالت لبعدكم أيامنا فغدت

سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

إذ جانب العيش طلق من تألفنا

ومورد الأنس صاف من تصافينا

إن الزمان الذي قد كان يضحكنا

أنسا بقربكم قد عاد يبكينا

وقد كان من مدة ورد علي منه كتاب ، منطو على أنفس كلام وخطاب ، فسررت به سرور من عاد غائبه إليه ، ودخل حبيبه من غير وعد عليه ، وهذا سروري من ملاقاة خطه ، فكيف سروري إن لقيت جماله وجعلته أنيسي وسميري ، وجليسي ونديم ضميري :

وقلت له أهلا وسهلا ومرحبا

بخير كتاب جاء من خير صاحب

وفي خامس عشر شوال يوم الجمعة سنة إحدى وعشرين ومائة وألف كانت وفاته. وكان مشهورا بالعلوم والمعارف لطيفا حسن الألفة رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : لم يذكر محل وفاته ، وغالب الظن أنها كانت بالآستانة.

١٠٢٤ ـ مصطفى بن حسين اللطيفي المتوفى سنة ١١٢٣

مصطفى بن حسين المعروف باللطيفي الحموي ، الشيخ الأستاذ العارف بالله الصالح الدين الخير المشهور صاحب السياحات الكثيرة.

خرج من وطنه ودخل البلاد القاصية ودار غالب الدنيا واجتمع بأكابر العباد والعلماء والأساتذة والأولياء ، وله الرحلة المشهورة التي ألفها وذكر فيها غرائب الوقائع التي جرت له وما رآه ، وذكر الأولياء ومواقعه معهم وغير ذلك مما هو العجب العجاب. ودخل دمشق وحلب والروم وغيرهم من البلاد ، ودار في أقاصي الأرض ، وجاب طولها والعرض.

رأيت رحلته وطالعتها جميعا ، فرأيته ذكر فيها الأمصار والبلاد التي دخلها والأولياء الذين اجتمع بهم (١). ووقفت له على آثار تدل على علوّ قدمه في المعارف الإلهية ، وبالجملة فهو من كبار الأولياء العارفين والأئمة المرشدين ، يغلب عليه حال التفويض والتوكل.

__________________

(١) منها نسخة في الأحمدية والمولوية وتوجد في بعض بيوت الشهباء.


وكانت وفاته بحلب الشهباء يوم السبت رابع رمضان المعظم سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف ، ودفن بها وقبره معروف يزار ويتبرك به رحمه‌الله. ا ه.

أقول : إنه مدفون في تربة المشارقة ، ولا زال قبره باقيا وهو في صدر التربة.

١٠٢٥ ـ مصطفى بن الحفسر جاوي المتوفى سنة ١١٢٣

مصطفى بن الحفسر جاوي الشافعي ، خاتمة المحققين والعلماء العاملين ، شافعي زمانه ومزني أوانه.

ولد بقرية حفسرجة من أعمال حلب ونشأ بها ، وقرأ القرآن العظيم بإدلب الصغرى وبعض المقدمات.

ورحل لمصر فجاور بأزهرها عشر سنين ، وأخذ عن علمائها بعد أن قرأ عليهم في المدة المذكورة في سائر العلوم ، إلى أن فاق الأقران ، وشهد بتفوقه أهل هذا الشان. ثم حج منها وجاور بمكة سنتين وقرأ على أفاضلها وعنهم أخذ.

ثم عاد ودخل حلب سنة ثلاث عشرة ومائة وألف وأهلها إذ ذاك أحوج ما يكون إلى فقيه مثله ، فبلغ بني المحب رحم الله سلفهم وجبر خلفهم قدومه ، فدعوه إلى منزلهم وتلقوه بالترحيب وأنزلوه دارا من دورهم ، فهرعت إليه الطلبة ، فكان يقرئهم في دار بني المحب.

ثم إن المذكورين زوجوه بابنة عم له أتوابها له من قريته ، فاشتغل بالإفادة شتاء في دور المذكورين رحمهم‌الله تعالى ، وفي الفصول الثلاثة يخرجون إلى بستان لهم والطلبة ترد عليه ، منهم من يبيت عنده ومنهم من يعود ، وبنو المحب موكلون به وبأضيافه من يقوم بخدمتهم وطعامهم. وتسارعت إليه الناس وأخذ عنه الكثير ، منهم العلامة السيد حسن الشهير بابن الطباخ ، والعلامة محمد الشهير بابن الزمار ، والعلامة عبد اللطيف الزوائدي ، والعلامة السيد محمد الكبيسي ، والعلامة حسن السرميني ، وشيخنا رمضان العطار ، والشيخ محمد الحموي وخلائق لا يحصون.

وله بعض تحريرات ، منها رسالة مختصرة في طهارة فرو الصنصار الذي هو الدلق وأن التحقيق في المذهب أن الصمور والزرداوه والصنصار نوع واحد ولبسه رحمه‌الله.


ثم إن بني المحب اشتروا له دارا بمحلة سويقة حاتم وحبسوها عليه وعلى ذريته ، وهي الآن بيد بنته.

توفي رحمه‌الله تعالى في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف ، ودفن بمدفن بني المحب خارج محلة الهزّازة بالقرب من قبة الولي المشهور السيد علي الهمذاني قدس‌سره.

ورثاه العلامة إسحق أفندي البخشي بأبيات مكتوبة على لوح قبره وهي :

صوب الدموع العندميه

تسقي معاهدك الزكيه

ورضى الإله معاهدا

في كل صبح مع عشيه

فيه المحاسني مصطفى

الزاكي النفس الرضيه

فاندبه فيه مؤرخا

مات فقه الشافعية

وكثرت المراثي فيه وبواكيه إذ لم يخلف مثله رحمه‌الله تعالى ا ه (من خط أبي المواهب ميرو).

١٠٢٦ ـ أحمد بن محمد الكواكبي المتوفى سنة ١١٢٤

أحمد بن محمد بن حسن بن أحمد الكواكبي الحلبي الحنفي ، مفتي الحنفية بها ، العلامة الصدر ، والعلم العالم الأديب الماهر الفرد الوحيد ، ناشر ألوية الفضل وحامل لوائه ، والوارث المجد عن آبائه.

كان من أعيان العلماء محققا ، فضيلته شهيرة دائما ، مشغولا بالمطالعة والعبادة ، صارفا عمره بالاشتغالات في العبارات العلمية ، عابدا فالحا.

ولد بحلب في سنة أربع وخمسين وألف ونشأ بها ، وأخذ العلم عن علمائها الفحول والواردين إليها ، وقرأ التفسير على والده المحقق المولى الكواكبي ، والفقه على الشيخ زين الدين أمين الفتوى ، وأخذ المعقولات عن الفاضل السيد أبي بكر المعروف بنقيب زاده ، والحديث عن الشيخ أبي الوفا العرضي ، والآلات عن الشيخ عثمان الشعيفي. وأخذ كثيرا من الفنون على كثير من العلماء ، منهم الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني ثم المدني. وبرع وفاق ، وفهد بفضائله الآفاق ، وألف وأفاد ، وصنف وأجاد. وكتب على مواضع كثيرة


في التفسير ، ودون حاشية على جزء البنا ، وحاشية على منظومة والده في الأصول المسماة «منظومة الكواكب» وشرحها «إرشاد الطالب». وله تحريرات على المطول والتلويح وغير ذلك ، لكنه لم يخرج أكثرها من المسودات.

ولازم المولى شيخ الإسلام علامة الآفاق يحيى بن عمر المنقاري. ودخل طريق المدرسين والموالي في دار الملك قسطنطينية المحمية وعزل عن مدرسة بأربعين عثماني. ففي سنة ست وتسعين وألف توفي والده الشهير العلامة ، فأعطي مكانه فتوى حلب بلدته مع مدرسة الخسروية باعتبار رتبة السليمانية. ففي سنة ست ومائة وألف في ذي الحجة أعطي رتبة قضاء القدس الشريف. ثم في سنة إحدى وعشرين ومائة وألف في شعبانها أعطي قضاء أزنيق على طريق الأربلق. وفي سنة إحدى وعشرين ومائة في جمادى الأولى أعطي قضاء طرابلس الشام. وبعد عزله توجه إلى القسطنطينية وجرى له مع علمائها مباحث ومذاكرات نفيسة في أنواع العلوم ، وله في أهلها القصائد اللطيفة والمدائح البديعة ، إلا أنها لم تدون.

ولما كان قاضيا بطرابلس الشام أنشد فيه ممتدحا العالم الشيخ محمد التدمري الطرابلسي قوله :

على فترة قاض أتانا كيوشع

فردت شموس الفضل بعد الغياهب

فقل للمدعي إن رام يبلغ شأوه

محال ومن يبلغ بلوغ الكواكب

وقد ترجم المترجم خاتمة البلغاء السيد الأمين المحبي الدمشقي في ذيل نفحته وذكر له من شعره وقال في وصفه : سابق حلبة الإحسان ، والحجة البالغة في فضل الإنسان ، بهمة دونها فلك التدوير ، وشهاب تأبى أن تنطبع في قالب التصوير ، لا يبعد على قدره نيل السها ، ولا تعز على شيمته في المعاني سدرة المنتهى ، وثائقه في المجد ثابتة ، وأغصان محامده في رياض الشرف نابته ، فهو أعظم من أن يفي قول بأوصافه ، وأكبر من أن يقاس طول بمعروفه وإنصافه ، وهو الآن مفتي تلك الديار ، وعند حماه تلقى عصا التسيار ، فهو كالكعبة يزار ولا يزور ، وأم الفضائل بمثله مقلاة نزور. وتآليفه وتحريراته ، وفتاويه وتقريراته ، ملء النواظر والمسامع ، ورونق المحافل والمجامع ، ولأقلامه صرير من سرور الصواب ، بتحرير فتاوي شقت صدور الجواب. وله شعر تسمو به اليراعة وتعلو ، وتنمو به فرائد البراعة وتغلو ، فمنه قوله مضمنا مطلع قصيدة المتنبي :


دار للمياء كنت أعهدها

يجمع شمل السرور معهدها

أقوت فلا ريمها وربربها

بها ولا غيدها وخرّدها

لا تلحني إن وقفت أنشدها

بيت أخي الشعر وهو سيّدها

(أهلا بدار سباك أغيدها

أبعد ما بان عنك خرّدها)

وكف عن عبرة أحدّرها

فيها وعن زفرة أصعّدها

هل هي إلا بلوى أحققها

ونار وجد بالدمع أخمدها

ما لبنات الهديل تطربني

ألحانها عندما ترددها

حمائم كلما هتفن ضحى

يشب من لوعتي توقّدها

أبكي وتبكي معي فنحن كذا

تسعدني تارة وأسعدها

يا من لنفس عن برئها عجزت

أساتها واستعاذ عوّدها

ومهجة قد قضت صبابتها

لها وقد خانها تجلّدها

ساروا بريا الشباب ناعمة

يزين أعطافها تأوّدها

ما لغصون النقا موشّحها

ولا لسرب المها مقلّدها

ساروا وفي حمولهم كبدي

تائهة ما أطيق أرشدها

بالله يا حاديي ركائبها

قفوا لعلّي في الركب أنشدها

في كل يوم دار أفارقها

وأهل دار بالرغم أفقدها

ترمي النوى بي وناقتي سعة

للبيد ينصي المصيّ فدفدها

أرح بمثواك همة تعبت

وعن بلا * لا تزال تجهدها

سينظر الناس بعدها ويرى

أطواق مدحي لمن أقلدها

قيل فأي الكرام تطلب أو

تقصد والحال أنت أحمدها

قلت منجّي العباد هاديها

إذا ما عرت ومرشدها

وقوله :

بالله إن لحظات فتان الهوى

لحظت فكن للناس أكبر ناسي

(متهتكا في هاتك بجماله

بل فاتك بقوامه المياس) (١)

__________________

(*) هكذا في الأصل ، وفي سلك الدرر : وعزبلا. ولعل الصواب : وعزة.

(١) هذان البيتان لأبي نواس من خمرية أتى بهما المترجم مضمنا.


(وإذا جلست إلى المدام وشربها

فاجعل حديثك كله في الكاس)

وتناول الأفراح في حاناتها

بالزق أو بالدن أو بالطاس

واجعل نديمك فيه غير مقصر

ابن الكرام لبنت كرم حاسي

الراح طيبة وليس تمامها

إلا بطيب خلائق الجلاس

ومديرها رشأ كأن عيونه

وسنانة كالنرجس النعاس

فاشرب ولا تقنع بحسو قليلها

فأقل فعل الخمر ميل الراس

وإذا مللت من المدام فثغره

نعم المدام الطيب الأنفاس

وقوله من قصيدة :

يا رشادي وأين مني رشادي

غاب غني مذ غاب عني فؤادي

كان عهدي به بأطلال سلع

ضل مني ما بين تلك الوهاد

أسرته من ساكنيه مهاة

فهو في أسرها ليوم المعاد

فهو في قبضة الجمال معنّى

في هواها وهالك دون وادي

يا خليليّ عرجا نحو سلع

وانشداه من رائح أوغادي

واشرحا حالتي وسقمي لميّ

وغرامي بها وطول سهادي

وابكيا لي بين الطلول بدمع

فدموعي قد آذنت بنفاد

علّ ذات الحمى ترق لصب

قد خفى رقة عن العواد

وله :

إن لم يكن لي أجداد أسود بهم

ولم تثبت بنو الشهباء لي شرفا

ولم أنل من ملوك العصر منزلة

لكان فخري في ذا العلم منه كفى

وبعد نفيه وإجلائه إلى قبرس وعزله عن الإفتاء بلا جناية تقتضي ذلك ارتحل للروم ، وكان خلاصه على يد الوزير الصدر علي باشا ، فألف كتابا باسم السلطان أحمد خان ، وهو مبني على تعريف السلطان والرعايا وما يجب له عليهم وما يجب لهم عليه ، وجمع به نوادر ومسائل علمية وغير ذلك ، وأعقبه بنثر هو فرائد جمان ودرر ، وامتدح الوزير بقصيدة يذكر بها تراكم الخطوب عليه ومطلعها :

حلف الزمان يمينه مأجورا

من دون مجدك لا يروم وزيرا


وبلابل الأفراح غنت في الربا

طربا بمن ملأ الوجود سرورا

بمجدد الدين الذي علم الهدى

لا زال في ساحاته منشورا

صدر له شم المعالي رتبة

بالصدق يعرف ظاهرا وضميرا

إنسان عين الدهر جوهره الذي

ما مثله بين الأنام نظيرا

ألقت له الدنيا مقاليد الملا

فغدا العصيّ بعزمه مأسورا

تجري الأمور بوفق ما يختاره

فالعسر كان ببابه ميسورا

ما قبلته كتيبة إلا غدا

سلطانها من بأسه مقهورا

فكأن وقع سيوفه في هامهم *

قلم يسطر طرسهم تسطيرا

كل الولاة لأمره منقادة

حتى الزمان غدا له مأسورا

يا أيها البدر الذي في أفقه

أضحى على أهل الزمان منيرا

بشرت طالعك السعيد بأنه

في الخافقين بنى علا وقصورا

هابتك أجناس الخلائق كلهم

وغدا الكبير براحتيك صغيرا

وعليّ قدر شارفت شرفاته

شرف النجوم غدا لديك حقيرا

لك هيبة لولا تبسم سنك ال

ضحاك ألقت في القلوب سعيرا

منها :

والعبد يعرض حاله فلقد غدا

بالعزل ظلما جابرا مكسورا

فغدا يكابد همه وغمومه

في قعر دار لا يريد سميرا

يدعو لسلطان البسيطة والذي

أضحى بنصرة دينه مشهورا

بعلاك يرجو أن يكون مؤيدا

في خدمة تدع الفقير أميرا

أيحل من كانت تراجعه الورى

من كل مصر أن يرى محجورا

فإذا تصادمت الفحول بمشكل

أضحى بخافيه البهيم بصيرا

وغدا يقول الفاضلون بأنه

فخر غدا للفاضلين أميرا

وامنن على قوم كرام لم يروا

مما دهاهم منقذا ونصيرا

كانوا بحال في الغنى متوسط

حالت إلى حال أراه خطيرا

لا زلت في أوج المعالي صاعدا

متأيدا متأبدا منصورا

__________________

(*) في الأصل وفي سلك الدرر : حامهم.


واسلم ودم تمضي أمورك في الورى

كمضاء سيف لم يزل مشهورا

وامتدح بالقصائد من دمشق وغيرها ، فمن مدحه الأمين المحبي المذكور بقوله :

يهيجني للوجد ذكر الحبائب

وللمدح أشواقي لوصف الكواكبي

همام به الشهباء تسمو وتعتلي

وتجري على مضمارها بالغرائب

فتى لبس المجد المؤثل فخره

فكان إذا كشاف كل النوائب

إذا فسروا والتفت الساق بينهم

ودارت رحاهم في دقيق التشاغب

فما عدلوا منه بمثل ابن عادل

ولا فخروا بالفخر عند الثعالبي

وإن حدثوا قال البخاري ليته

تقدمني يوما ليسند جانبي

وإن ذكروا الأسناد سلّم مسلم

فمن فوقه حتى البراء بن عازب

ومهما رووا قال الإمامان سلموا

له فهو منا عوض ضربة لازب

ومهما نحوا بز الكسائيّ ثوبه

وجر به عمرو ذيول المآرب

وإن وزنوا قال الخليل بن أحمد

عروض عروضي ثم غير مناسب

وإن نظموا قال ابن أوس مدائحي

سبايا وقال البحتري نسائبي

جواد تناجي الفكر آثار جوده

بأن ثرى ناديه مثوى المواهب

لقد سارت الركبان شرقا ومغربا

بأوصافه الغر النقايا المناقب

ترقرق ماء البشر فيه ورنقت

على خلقه الأيام صفو المشارب

له سودد لو كان للشهب أصبحت

شموس نهار لا نجوم غياهب

وثمة آراء بنجح حوافظ

تسدد من أطراف سمر سوالب

تقلم أظفار المكارم تارة

وتمسح طورا من وجوه المطالب

من القوم يثنى نحو سدة مجدهم

عنان القوافي والثنا المتراكب

وإن كثروا أحصوا بفضل بيانهم

على ذلك التدوير زهر الكواكب

كأني وقد أسجيته المدح ريطة

تثنث على عطفيه حلة كاعب

أحييه بالمدح الذي فاح نشره

وأودعه قلبا نزوع المآرب

ولي أمل أرجو به طول عمره

يجدد ما أبلته أيدي الحقائب *

__________________

(*) بعده في «سلك الدرر» :

فلا زال يبقى للأنام يفيدهم

علوما كحد الماضيات القواضب


وكانت وفاة المترجم في قسطنطينية في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رجب سنة أربع وعشرين ومائة وألف ، ودفن خارج باب أدرنه. وفي حصر آثاره واستقصائها تجاوز الحد وكمال التطويل ، رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٢٧ ـ مصطفى نعيما المتوفى سنة ١١٢٨

مصطفى المعروف بنعيما الحنفي الحلبي ، نزيل قسطنطينية وأحد خواجكان ديوان السلطان ، الأديب العارف المنشىء الكاتب المؤرخ الشاعر الشهير.

ارتحل لدار الخلافة والملك في الروم قسطنطينية العظمى وصار في تربدارية سراية السلطان ، ثم بعد ذلك انتسب إلى الوزير أحمد باشا القلائلى وخدمه وصار عنده كاتب ديوانه. وفي سنة عشر ومائة وألف في جمادى الأولى تولى الوزير المذكور الصدارة الكبرى ، فوجه على المترجم محاسبة أناطولي. وفي سنة إحدى وعشرين صار تشريفتجي الدولة العثمانية ، ورؤي لائقا للخدمة المرقومة ، وصار كاتبا لوقائع الدول المعبر عنه بينهم بوقعه نويس. وفي سنة خمس وعشرين في رجبها صار دفتر أميني الدولة ، وهذا المنصب من المناصب المعلومة بين خواجه كان الدولة. وفي سنة ست وعشرين أعطي منصب باشا محاسبه. ثم في ربيع الأول سنة سبع وعشرين لما ذهبت العساكر الإسلامية من طرف الدولة العثمانية بعد الفتح والظفر في أواخرها صار المترجم عند رئيس العسكر دفتر أميني أيضا.

ومن آثاره تبييض تاريخ ابن شارح المنار ، وذيل عليه أيضا بمقدار ، وهو الآن مشهور بتاريخ نعيما (١).

وكان له بالتركية شعر جيد يعرفه أولو الفهم بذلك اللسان ، ولم أر له في العربية شيئا.

وكانت وفاته خلال سنة ثمان وعشرين ومائة وألف في قلعة بادره رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٢٨ ـ عبد الرحمن العاري المتوفى سنة ١١٢٨

عبد الرحمن العاري الحلبي الشافعي ، الأديب الفاضل المتفوق المعمر العالم. استفاد من الجهابذة وأفاد ، وألحق الأحفاد بالأجداد.

__________________

(١) هو مطبوع في ستة مجلدات ، وقد ترجمنا عنه كثيرا في الجزء الثالث وذكرناه في المقدمة.


وله شعر لطيف ، فمنه قوله :

أما أنا فكما عهدت

فكيف أنت وكيف حالك

يمسي حديثك في فمي

ويبيت في عيني خيالك

وكانت وفاته في سنة ثمان وعشرين ومائة وألف ، ودفن بحلب الشهباء رحمه‌الله تعالى

١٠٢٩ ـ الشيخ زين الدين بن عبد اللطيف الجلّومي المتوفى سنة ١١٣٠

الشيخ زين الدين بن عبد اللطيف الحلبي الجلّومي الحنفي ترجمه تلميذه الشيخ يوسف الحسيني الحنفي الدمشقي ثم الحلبي في ثبته الذي سماه «كفاية الراوي والسامع وهداية الرائي والسامع» رأيته بخطه عند الشيخ كامل أفندي الهبراوي وعنه نقلت ترجمة المترجم وغيرها. قال فيه ما خلاصته :

ومن مشايخي الذين أروي عنهم الشيخ الكامل جامع أشتات الفضايل ، ملحق الأحفاد بالأجداد ، المشهور بعلو الإسناد ، بقية السلف الصالحين من العلماء العاملين ، شيخنا الشيخ زين الدين بن عبد اللطيف الحلبي الجلّومي الحنفي أمين الفتوى بحلب نحو سنة. مولده كما أخبرني سنة ١٠٣١ ألف وإحدى وثلاثين وهو الآن (أي سنة ١١٢٦) في الأحياء ، وأنا أقول فيه كما قال صاحبنا المحبي في غيره : شيخ هرم ، يحدث عن سيل العرم ، أخذ عن جمع غفير ، وأخذ عنه جماعة كثير ، صحبته مدة وهو في خدمة الفتوى ، فإذا هو للعلم والأدب زين ، وبه ينجلي عن القلب كل زين. وكانت مثابته عندي مثابة الروض العاطر ، ومكانته من ودي محل القلب والخاطر. وسمعت من لفظه ما هو غذاء الروح ، وشاهدت من خلقه فيض الملائكة والروح ، إلى تثبت يستخف الجبال الرواسي ، وانعطاف يلين القلوب القواسي. وهو في ميدان التحقيق والتدقيق طلق عنانه ، وبرهان التطبيق ماثل بين يراعه ولسانه ، وكأنما حشر الصواب والتوفيق بين بيانه وبنانه. ثم لما أخذت منه السن انقطع في داره في محلة الجلّوم فزرته ثمة المرة ، بعد المرة ، وتشرفت به وقرأت عليه وأخذت عنه الكرة بعد الكرة ، وقرأت عليه من أوائل صحيح البخاري وأجازني بباقيه قراءة ومناولة وببقية الكتب الستة وبجميع مقروءاته ومسموعاته ومروياته من كتب التفسير والحديث وغير ذلك ، وذلك بحضور تلميذه العلامة المحقق أبي السعود أفندي الكواكبي في سنة


١١٢٤ ، وقد تكررت لي الإجازة من شيخنا المومى إليه في هذا المجلس وفي غيره من المجالس ، وهو يروي صحيح البخاري عن سادات ثقات من أجلّهم شيخه الشيخ إبراهيم ابن سليمان الكردي ثم الحلبي. (وبعد أن ساق سنده قال) :

ومن مشايخ شيخنا الزين الحلبي سيدي الملا محمد شريف بن ملا يوسف القاضي ابن القاضي محمود بن ملا كمال الدين الكوراني ، ومنهم الملا محمد أمين اللاري الصديقي البصير ، قال شيخنا : قرأت عليه أكثر شرح التجريد ، ومنهم شمس الدين محمد بن الحسن الكواكبي ، قرأ عليه العقليات وغيرها وانتفع به وتشرف بخدمته في فتواه وصار أمين الفتوى له طول مدته فيها ، ثم من بعده كان في خدمة فرعه العلامة أحمد أفندي الكواكبي ، وبقي أمين فتواه مدة إفتائه بعد أبيه إلى أن تنزه عن فتوى حلب وأعرض عنها باختياره ، وتولى مولوية طرابلس الشام (كما تقدم). ولم يذكر تاريخ وفاته ويظهر أنها كانت حول سنة ١١٣٠.

١٠٣٠ ـ يحيى العقّاد الشاعر المتوفى حول سنة ١١٣٠

يحيى الحلبي الشهير بالعقّاد ، الفاضل الكامل الأديب الشاعر المجيد.

ولد بحلب ونشأ بها وأخذ عن أفاضلها ، وبرع في علمي العروض والقوافي ، وله بذلك اليد الطولى ، وله النظم العجيب. وكان يعاني حرفة العقادة بسوق الباطية وترد عليه أحبابه لأجل المذاكرة والاستفادة.

ومن شعره حين بنيت منارة جامع البهرمية لما سقطت تاريخ مكتوب على بابها وكان ابتداء البنيان سنة إحدى عشرة ومائة وألف ، وذلك قوله :

قامت فصادمها السحاب بمرّه

وسمت بقدّ قد كل مشاد

حاكت علاء قدر طه المصطفى

أس السخاء ومنهل القصاد

فهو المعمر من أنار منارها

وأثار أجرا آب دون نفاد

بشراه أجرى بالسرور بناءها

والخبر أمنح بالهناء ينادي

ها كل وزن تم فيه مؤرخا

جل استواها باستوا الأعداد


وهلالها باللطف حلي مؤرخا *

في عكس رقم كالجلالة بادي ١١١١

أقول : إن في كل شطرة من هذه الأبيات تاريخا لبناء هذه المنارة وهو سنة ١١١١.

إصلاحات هامة في هذا الجامع وفي عقارات وقفه :

قلنا في الجزء الثالث (ص ١٧٥) : إن متولي هذا الجامع عبد الله بيك العلمي مد أنابيب حديدية من المطحنة الموضوعة أمام هذا الجامع إلى غرفة قديمة واسعة في الجهة الشرقية منه ، وساق الماء الحار إلى قصطل داخل هذه الغرفة ، وذلك في السنة الماضية وهي سنة ١٣٤٣.

ولما تم ذلك صار المصلون يهرعون إلى هذا المكان للوضوء بالماء الحار في فصل الشتاء ، فضاق المكان بالناس ، ففي هذه السنة وهي سنة ١٣٤٤ أزال هذه الغرفة وكانت موهنة البناء مع حجرتين كانتا أحدثتا أمامها واتخذ الجميع مصطبة كما كانت قديما ، وعمر في الجانب الغربي من صحن الجامع قبلية واسعة طولها ٢١ مترا وعرضها ٦ أمتار وسقفها بالقضبان الحديدية ، وحول أنابيب الماء إلى قصطل بني في شمالي هذه القبلية وشكر المتولي على هذا العمل الحسن.

وموضع هذه القبلية كان ميضاة حولها المتولي المومى إليه إلى عرصة غربي الجامع هي من جملة وقفه ، وقد كانت هي الميضاة قديما ، وبنى بجانبها دارا من ماله ألحقها بأوقاف الجامع.

والزقاق الذي بين الجامع وبين الميضاة والدار المتقدمين يدعى زقاق السودان ، وقد كان مسدودا من الجهة الشمالية الملاصقة للسوق ، ففي سنة ١٣٢٦ أزيل هذا السد وصار الناس يمرون منه.

ولم يأل المتولي عبد الله بك جهدا في تعمير عقارات الوقف وترميمها. ومن جملة ما رممه القاسارية التي في شمالي الجامع وقد كانت مشرفة على الخراب ، وغرس في جنينة الجامع أشجار الليمون والكبّاد والبرتقان.

ومن جملة الإصلاحات التي قام بها إصلاحه لحمّام بهرام الواقعة في محلة الجديدة التابعة

__________________

(*) هكذا في الأصل.


لوقف الجامع ، وقد كان فيها خمسة أجران وتؤجر بمائه وخمس وسبعين ليرة عثمانية ذهبا ، فجعل في خلاويها (٢٢) جرنا يأتي الماء إلى جميعها.

وكان للحمّام خزانة للماء صغيرة بقدر ما يكفي لخمسة جران ، فاتخذ هناك خزانة كبيرة تستوعب كفاية (٢٢) جرنا وألحقت بتلك. وكذلك بلط أرض الحمّام بالرخام الملون فغدت بهجة للناظرين بحيث أصبحت أحسن حمّام في الشهباء وصارت تضاهي الحمّامات التي في الشام والآستانة. وعلى أثر هذا الإصلاح أوجرت بخمسمائة ليرة عثمانية ذهبا وهي أعظم أجرة للحمّامات التي في حلب ، وحبذا لو يحذو أصحاب الحمّامات التي في حلب حذو المتولى المومى إليه فيقومون لإصلاحها فتحسن منظرا وتعظم ريعا.

ووالد المتولي وهو عبد الرحمن بك كان بنى ثلاثة دكاكين بطريق بوابة القصب في محلة الجديدة وألحقها بوقف الجامع.

١٠٣١ ـ علي بن أسد الله المتوفى سنة ١١٣٠

علي بن أسد الله بن علي ، كان عالما نحريرا وفاضلا كبيرا.

ولد سنة ثمان وأربعين ، وألف وقرأ على جماعة من العلماء ، منهم الشيخ سعيد أفندي نقيب زاده ، والشيخ العالم العلامة السيد محمد أفندي الكواكبي ، وكان جل قراءته على الشيخ العالم العامل أبي الوفاء العرضي. وتولى إفتاء الحنفية بحلب مدة خمس عشرة سنة إلى أن مات ، وكان إذ ذاك متوليا على جامع بني أمية بحلب ، وفي أيام توليته عليه أمر بمرمات الجامع المذكور ومرمات بعض حيطانه ، فظهر من أحد الحيطان لما قشروا عنه الكلس رائحة تفوق المسك والعنبر ، وإذا فيه صندوق من المرمر مطبق ملحوم بالرصاص مكتوب عليه : (هذا عضو من أعضاء نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام) فاتخذوا له هناك في ناحية القبلة في حجرة قبرا في مكانه الآن ، وحمل الصندوق إليه جميع العلماء والصالحين بالتعظيم والتبجيل والتوقير والتكبير ، وذلك سنة عشرين ومائة وألف. وكانت وفاة المترجم سنة ثلاثين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : حققنا في الجزء الثاني في (ص ٣٢٠) أن الضريح الذي في جامع حلب الأعظم عن يسار المحراب فيه رأس يحيى عليه‌السلام ، وذكرنا في الجزء الثالث في حوادث سنة


١١٢٠ تجديد تربة هذا الضريح في زمن الوالي عبدي باشا وأن ذلك كان في أيام تولية مفتي الحنفية وقتئذ علي بن أسد الله وهو المترجم الآن ، وذكرنا ثمة ما فيه الكفاية.

وهو باق على ما تجدد عليه في تلك السنة إلى يومنا هذا. وجانبا الضريح من خارجه مفروش بالرخام المعروف بالقاشاني (١) ، وكان توهن منه بعض حجرات فأصلح ما توهن وأعيد كما كان ، وداخل الضريح من جوانبه جميعها من الأرض إلى السقف مفروش بهذا الرخام وهو بصورة تدهش الناظر إليه لحسن الصنعة في فرشه على الجدران وبداعة هندسته ، وإليك رسمه :

١٠٣٢ ـ عبد اللطيف الزوائدي المتوفى سنة ١١٣٢

عبد اللطيف بن عبد القادر الزوائدي الشافعي الحلبي ، خطيب جامع الخسروية بحلب.

كان ملازما خدمة العلامة صدر حلب أحمد الكواكبي ، ولما ولي قضاء طرابلس الشام أخذه صحبته وجعله قساما فأساء السيرة فعزله ، فقدم حلب ولازم خدمة ولده العالم المولى أبي السعود الكواكبي ، فلما صار مفتيا جعله أمين الفتوى شركة مع الشيخ إبراهيم البخشي.

وكان حفظ القرآن أولا على الشيخ عامر المصري نزيل الحلاوية ، وقرأ التفسير على الكواكبي أحمد المذكور ، والفقه على الشيخ مصطفى الحفسر جاوي ، والعربية والصرف على الشيخ سليمان النحوي.

وكان فقيها حافظا ، ذا صوت حسن شجي ، خطاطا ، وقل أن تجتمع هذه المحاسن في عالم. وكان أبوه عاميا فقيرا صبّاغا ، نشأ المترجم في الفقر الحالك المهلك ، وكان يحث مخاديم أصحابه على اكتساب الكمالات ويخبرهم عن نفسه أنه كان فقيرا جدا لا يملك

__________________

(١) مما يجدر ذكره هنا ما حدثني به الوجيه الأديب جورجي بك الخياط قال : أطلعني معتمد دولة إنكلترا في حلب المستر هاندورسون الذي كان هنا في نواحي سنة ١٣٠٢ على قطعة من القاشاني محرر فيها في داخلها (شغل المعلم ميخائيل بحلب) وهذا يثبت أن هذه الصنعة كانت من جملة الصنائع في حلب ، وقد درست بموت عارفيها شأن صناعات كثيرة كانت في الشهباء ، ولا ندري الأمكنة التي كان يعمل فيها هذا الرخام البديع.



شيئا ، وأنه من احتياجه لا تصل يده إلى شراء ورق لتعلم الكتابة ، فكان يأخذ ألواح الغنم من عند القصاب ويفركها بالرماد لتزول الزهومة منها ، ويكتب عليها ، ويأخذ أوراق البن فيلصقها ويصقلها ويتعلم الكتابة بها ، فحسن خطه وصار ينسخ بالأجرة ويأخذ على الكراس الربعي قرشا لجودة خطه واتساق سطوره ، فانتعش حاله.

ثم ارتحل من محلته إلى محلة باحسيتا وسكن في جوار بقية الكرام الشيخ أحمد العلبي ، فاعتنى به وأسكنه دارا من دوره وزوجه. ثم انحلت خطابة القرمانيه فوجهها إليه مع الإمامة لكون تولية جامع القرمانية مشروطة على بني العلبي ، واستقام حاله وقطن في حجرة داخل الجامع المذكور يقري وينسخ ، ولازم صحبة العلبي المذكور وصار لا يكاد أن يفارقه ، فإن المترجم كان خفيف الروح دمث الأخلاق مزاحا صغير الجثة جدا بحيث إنه كان إذا وقف في المنبر لا يرى منه سوى العمامة ، فاستقام بجوار المذكور إلى أن مات ، فارتحل المترجم إلى محلته الأصلية ، ثم انحلت خطابة الخسروية فوجهها له العلامة أبو السعود الكواكبي المذكور آنفا. وكان له المعرفة التامة في الوعظ مع جهارة الصوت ، وكان يعظ في جامع قسطل الحرامي ، وكان له بقعة تدريس في الجامع الأموي بحلب.

وكانت وفاته في أوائل سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف فجأة بالقرب من باب النصر بحلب ، سقط عن ظهر البغلة ميتا ، ودفن بمقبرة جب النور بمحلة الشريعتلي رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : دفن في قبره سنة ١٣٢٠ الصالح المعمر الشريف السيد أمين تاج الدين وعمر عليه ضريح ، أخبرني بذلك الشيخ صالح تاجو خطيب الخسروية ، ثم زرت التربة ورأيت ذلك.

١٠٣٣ ـ الشيخ علي داده ابن الشيخ محمد داده الوفائي المتوفى سنة ١١٣٥

ترجمه الشيخ يوسف الحسيني في كتابه «مورد أهل الصفا» فقال :

لما توفي الشيخ محمد داده سنة ١١١٩ شيخ تكية الشيخ أبي بكر خلفه في المشيخة ولده الشيخ علي داده ، وهو الشيخ الفاضل ، جامع أشتات الفضائل ، العابد الناسك التقي ، والخّير الديّن المتقّي ، الصوام القوام الصالح ، والحبر الهمام الفالح ، وهو وإن كان


إنسان عين المشايخ الكرام ، فهو أيضا في زمرة العلماء الفخام. نشأ في حجر التقوى ، وتربى في كفالة الصيانة ، لا يعهد له شغل فيما يزريه ، ولم يسمع عنه تكلم فيما لا يعنيه. وقد قرأ النحو والبيان والفقه والعقايد والتصوف والحديث الشريف ، وأكثر قراءته على هذا العبد الفقير (الشيخ يوسف الحسيني). إلى أن قال :

وهو كأسلافه حنفي المذهب ما تريدي الاعتقاد وفائي الخرقة والطريقة. وقد قام بأعباء المشيخة وسار فيها أحسن سير ، مع مراعاته للدراويش والمريدين والمسافرين والمجاورين والواردين والصادرين وإكرام الأصناف وتلقيهم بالبشر والبشاشة وسياسة لأمور التكية كما ينبغي ، وهو منزو في التكية المذكورة لا يخرج منها أصلا إلا لصلاة الجمعة في جامع البختي خارج حلب ، وأما نفس البلدة وداخلها فلا يدخلها لا في فرح ولا في ترح ، ولا يجتمع بأحد من أهاليها ولا من حكامها إلا في تكيته المذكورة. وقد ألف العزلة عن الناس وأكب على العبادة والكراس. إلى أن قال وهو مما كتبه على هامش كتابه مورد أهل الصفا بخطه : وقد انتقل بالوفاة الشيخ علي داده في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان سنة خمس وثلاثين وماية وألف ، ودفن في مزار أسلافه في قبر جده لأمه الشيخ مصطفى داده قبلي مزار الشيخ أبي بكر ، وخلفه من بعده ولده لصلبه الشاب الصالح العابد الناسك الشيخ حسين داده ، وهو ملازم لوظائف الأوراد والأذكار ، ومجد في تحصيل العلم الشريف على هذا العبد الضعيف كأبيه ، مشتغل بالفقه والنحو والصرف والتصوف.

أقول : وكانت وفاة الشيخ حسين داده سنة ١١٥٦ وستأتيك ترجمته في موضعها.

١٠٣٤ ـ أحمد بن عبد الله الشراباتي المتوفى سنة ١١٣٦

أحمد بن عبد الله بن علوان الحلبي الشافعي الشهير بالشراباتي ، الشيخ الفاضل العالم العامل المحدث الفقيه الورع الصالح المفنن ، أبو العباس شهاب الدين.

ولد بحلب سنة أربع وخمسين وألف ونشأ بها ، ورحل إلى القاهرة لطلب العلم وأخذ عن جماعة من الأئمة المسندين كأبي العزائم سلطان المزاحي ، والنور علي الشبراملسي ، والشمس محمد بن علاء الدين البابلي ، وعنهم أخذ الفقه وأصوله ، وعبد الباقي الزرقاني. ثم رجع إلى دمشق وأخذ بها عن الشمس محمد بن علي الكاملي ، وعن السيد محمد بن


كمال الدين بن حمزة نقيب الأشراف بدمشق ، والعلامة عبد القادر بن مصطفى الصفوري الشافعي ، والشيخ محمد البطنيني ، والقطب أيوب بن أحمد الخلوتي ، وأخذ أيضا عن جماعة غيرهم كأبي الوقت إبراهيم بن حسن الكوراني نزيل المدينة المنورة ، والشهاب أحمد بن محمد الأدريسي المغربي نزيلها أيضا ، ومحمد بن سليمان المغربي ، وعبد العزيز الزمزمي ، وأبي الروح عيسى بن محمد الثعالبي المكي ، وأحمد بن محمد الحموي المصري ، وأبي الوفا العرضي الشافعي ، وموسى الرام حمداني البصير الحلبي الشاعر ، والشيخ خير الدين بن أحمد الرملي الحنفي وعن غيرهم. وبرع في سائر العلوم وفاق في معرفته المنطوق والمفهوم. ودرس بجامع حلب وانتفع به الناس.

ولم يزل على طريقته المثلى إلى أن توفاه الله سنة ست وثلاثين ومائة وألف ، ودفن خارج باب المقام. ولم أقف له على شيء من الشعر ، وستأتي ترجمة ولده عبد الكريم رحمه‌الله.

١٠٣٥ ـ إبراهيم بن محمد البخشي البكفالوني المتوفى سنة ١١٣٦

إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البخشي الخلوتي البكفالوني الحلبي ، العالم العامل الفاضل الكامل الناسك الزاهد التقي العابد.

أخذ عن علماء بلدته ، وارتحل إلى الحج صحبة والده في أواخر القرن الحادي عشر ، وجاور بمكة مدة ، وأخذ عن علمائها وعلماء المدينة في مدة مجاورته ، وأخذ عن والده فقه الإمام الشافعي وفنون الحديث والعربية. ثم عاد إلى حلب بعد وفاة والده واستقام بها مدة وأخذ عن علمائها ، ثم ارتحل إلى دمشق وأخذ عن علمائها ، وعاد إلى حلب بعد استقامته برهة من الزمن بدمشق ، وكانت مدرسة المقدمية يومئذ في تصرف أخيه الشيخ العالم عبد الله البخشي الخلوتي ، فقصر له يده عنها واستقام بها إلى منتهى أجله مشتغلا بالإفادة والتدريس ، وانتفع به خلائق ، واشتغل في تلك الأوقات بكتابة وقائع الفتاوي الحنفية ، وإليه انتهت رياسة فقهاء المذهبين بحلب مع ثباته على مذهب الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه.

وبرع في فن الحديث الشريف وسائر علومه حتى صار يشار إليه فيه بالبنان ، وأخذ عن كثير من أعيان هذا الشأن ، وله في الفتاوي الحنفية ثلاث مجلدات أفاد فيها وأجاد.


وله في فقه الإمام الشافعي تحريرات مفيدة. وكانت له اليد الطولى في سائر العلوم. وكان اشتهاره بالفقه في المذهبين وبالحديث.

وكان علما في الورع والزهد صابرا على ما ابتلاه الله به من حصاة كان الشق عنها سبب وفاته.

وكانت وفاته في سنة ست وثلاثين ومائة وألف. والبكفالوني نسبته لبكفالون بفتح الموحدة : قرية من أعمال حلب. والبخشي هو جدهم الكبير أحمد بخشي خليفة الأماسي نسبة إلى أماسية ، كان له يد في التفسير ، وقرأ عليه جماعة كثيرون ، وترجمه طاش كبري في «الشقائق النعمانية» وأثنى عليه في الطبقة التاسعة ، وذكر أن وفاته كانت في سنة ثلاثين وتسعمائة. وقد رأيت نسبة المترجم إليه محررة في خط أحد الحلبيين كما ذكرناه ، وسيأتي في تاريخنا هذا ذكر حسن وإسحق أخوي المترجم وذكر ابن أخيه إن شاء الله تعالى. ا ه.

١٠٣٦ ـ أبو السعود بن أحمد الكواكبي المتوفى سنة ١١٣٧

أبو السعود بن أحمد بن محمد بن حسن بن أحمد ، الشهير كأسلافه بالكواكبي ، الحنفي الحلبي ، مفتي الحنفية بها وابن مفتيها ، نجل السراة الصناديد الذين أشرقت سماء الشهباء بكواكب مجدهم وحسبهم ، وافتخرت بفضائلهم ونسبهم ، الذين تسنموا مراقي المعالي ، وازدانت بهم الأيام والليالي.

ولد بحلب في سنة تسعين وألف وبها نشأ ، وأخذ العلم عن فحول علمائها ، أجلّهم والده ، أخذ عنه التفسير والمعقولات ، وأخذ النحو عن الشيخ سليمان النحوي والشيخ عبد الرحمن العاري ، والفقه عن الشيخ زين الدين أمين الفتوى ، والحديث عن الشيخ أحمد الشراباتي ، وبالواسطة والإجازة أخذ الشيخ عن حسن العجيمي المكي ، وأجازه الشيخ أحمد النخلي ، وأخذ سائر الفنون من أجلاء العلماء.

وتولى الإفتاء بحلب بعد والده سنة خمس وعشرين ومائة وألف ، واستمر مفتيا إلى أن توفي. وأقرأ التفسير مدة إفتائه بالمدرسة الخسروية المشروطة لمفتي حلب قراءة تحقيق. والتزم المحاكمة بين ما ناقش به جده العلامة محمد بن حسن الكواكبي مع العلامة عصام والعلامة سعدي جلبي وبين والده وجده فيما تناقشا به.


وألف في مبدأ عمره لكن لم يسعه عمره ، فمما نظمه في مبدأ عمره وعنفوان شبابه رسالة آداب البحث ، ورسالة الوضع ، وكتب على منظومة آداب البحث شرحا مفيدا ، وباشر تحرير شرح على نظم الرسالة الوضعية فمنعته من ذلك شواغل الفتوى.

ولازم التدريس وتصدى للإفادة وأخذ عنه أفاضل حلب وغيرهم جماعة كثيرون وفاق أهل عصره.

وكان له شعر رقيق. وكان رحمه‌الله لطيفا خلوقا عفيفا نظيفا شريفا شفوقا عالما محققا مدققا رئيسا محتشما ، علامة مفردا علما وزهدا وورعا ، ذا حلم ووقار وصلاح ، حائزا للأوصاف الحميدة.

وكانت وفاته في ثاني رجب سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ، ودفن عند آبائه بالتربة التي بداخل المسجد المعروف الآن بمسجد أبي يحيى.

وبنو الكواكبي طائفة كبيرة أهل فضل ورياسة ، ولهم طريقة معروفة أردبيلية (تنتهي إلى الأستاذ جدهم الكبير الشيخ صفي الدين والحق إسحاق الأردبيلي) * ، ولهم سيادة الشرف من جهة المذكور. وأما المترجم فكان حائزا للشرفين ، فإنه كان شريفا أيضا من جهة والدته التي هي الشريفة عفيفة ابنة السيد الحسيب الشريف السيد بهاء الدين النقيب الحلبي المعروف هو وآباؤه ببني الزهر الذين امتدح جدهم الشريف أبا محمد إبراهيم المتنقل من حران إلى حلب أبو العلاء المعري في تاريخه وقصائده ، وكلهم نقباء في حلب وشرفهم أشهر من كل مشهور والله أعلم. ا ه.

أقول : رأيت للمترجم رحمه‌الله فتاوي جليلة في مجلد واحد متوسط ، وهي تدل على غزارة علمه وفضله ، رأيت منها نسختين إحداهما في المكتبة الخسروية وعليها ختم واقف المكتبة الكواكبية أحمد أفندي.

١٠٣٧ ـ عمر بن محمد البصير المقري المتوفى سنة ١١٣٧

عمر بن محمد البصير الشافعي المصري نزيل حلب ، المقري المتقن العارف باختلاف

__________________

(*) ما بين قوسين إضافة من «سلك الدرر».


القراءات ووجوهها ، النحوي الكامل العالم العامل.

قدم حلب في سنة خمس عشرة ومائة وألف ، فاعتنى به الرجل الخير مصطفى الكردي العمادي وأنزله في المسجد الذي تحت الساباط في أول زقاق بني الزهرا ، ويعرف قديما بدرب الديلم بالقرب من داره ، فكان يقرىء القرآن العظيم في المسجد المذكور ، وكان حديث السن.

وقد جمع الله فيه المحاسن والكمالات ، انفرد بحسن الصوت والألحان الشائقة والعلم التام بتحقيق التجويد ومخارج الحروف والإتقان وسرعة استحضار عند جمع وجوه القراءات وطول النفس ، لكنه كان ضنينا بتعليم القراءات السبع لم يقرىء أحدا بذلك ، وكل من طلب منه الإقراء بغير قراءة حفص يسوّفه ويماطله ولا يقرئه.

أخبر تلميذه المتقن عمر بن شاهين إمام الرضائية قال : حفظت عليه القرآن العظيم وسني اثنتا عشرة سنة والتزمت خدمته وكنت أقيم أكثر أوقاتي عنده ويأخذني معه إلى القراءات ، وكنت أقوده إلى مكان يريده ، وكان يتفرس في النجابة ، وبعد القراءة يعلمني الألحان من رسالة كانت عنده ، ويعلمني كيفية الانتقال من نغم إلى نغم ، ويقول : إن ذلك يلزم من كان إماما ، وأنت ربما تصير إماما. وكان يعلمني كيفية قراءة التحقيق والترتيل والتدوير والحدر والوقف والابتدا ، ويباحثني في طول النفس لأنه كان يدرج ثلاث آيات أو أربعا من الآيات المتوسطات في نفس واحد ، وكان يقرأ آية المداينة في ثلاثة أنفاس من غير إخلال في الحرف ولا في مده. وكان يصلي التراويح إماما بالمولى الرئيس طه بن طه الحلبي في الرواق الفوقاني من جامع البهرمية ويقرأ جزءا من القرآن درجا صحيحا بقصر المد المنفصل ، والإمام الراتب يصلي في القبلية الصلاة المتعارفة بين أئمة التراويح ، فكان يسبقه الإمام بالوتر فقط. وكان ذكيا متيقظا أذكى من تلميذه الشيخ محمد الدمياطي. قال :

وجرى لي معه مرة واقعة ، وذلك أني أتيت يوما لأقرأ ، وكنت لم أحفظ ما تلقيته وألزمني بالقراءة ولم يكن ثم أحد غيري ، فأخرجت مصحفا صغير الحجم ، فظهر له أني أقرأ عن ظهر قلبي ، فأصغى إليّ هنيهة ، ثم وثب علي ورمى بنفسه علي وقبض على المصحف من يدي ، فارتعت ، وشرع يضربني ويقول : يا خبيث ، تدلّس عليّ وتغش نفسك ،


فحلفت له إني لم أفعلها إلا هذه المرة ، فتركني حينئذ ، فلما سكن روعي قبلت يده وقلت له : بحياتك من أين علمت أني أقرأ بالمصحف؟ فقال : سمعت صوتك يأتي من سقف المحل فعلمت أن في يدك شيئا يمنع مجيء الصوت مواجهة.

ومرة أخرى كنت أذهب معه إلى دور بعض أحبابه ، وكان في الطريق بالوعة إذا وصلنا إليها أخبره بها ، فيتخطاها ، فبعد مدة سترت تلك البالوعة بالطوابق ، فلما مررت به من ذلك الطريق بعد مدة وصل إلى موضعها وتوقف ثم تخطى ، قلت له : لم تخطيت؟ قال : أليس هنا بالوعة؟ قلت : بلى ، كانت ولكنها من مدة زالت.

قلت : ومثل ذلك ما حكي عن أبي العلاء المعري أنه كان سافر مع رفيق له إلى جهة ، فمرا في طريقهما بشجرة ، فلما قربا منها قال له رفيقه : إياك والشجرة أمامك ، فانحنى حتى تجاوزها ، فلما رجعا من ذلك الطريق أيضا انحنى أبو العلاء لما قرب من مكان الشجرة ورفيقه ينظر إليه. ويحكى عن حذق أبي العلاء المذكور أنه أنشده المنازي أبياتا بالشام ، فقال له : أنت أشعر من بالشام ، ثم اتفق اجتماعهما بالعراق بعد سبع سنين فأنشده المنازي أبياتا أخر ، فقال له : ومن بالعراق. ومثله ما حكي عن داود الحكيم الأنطاكي صاحب «التذكرة» وغيرها أن رجلا دخل عليه وقال له : أي شيء يقوم مقام اللحم؟ فقال : البيض ، فغاب عنه سنة وجاءه فرآه منهمكا في تركيب معجون وهو يجمع أجزاءه ، فقال له : بأي شيء يقلى؟ فقال : بالسمن. وحكايات حذقه كثيرة ذكرها من ترجمه.

ثم إنه أعني صاحب الترجمة في آخر عمره ترك الإقراء وخرج من ذلك المسجد واشترى له دارا بالقرب من محلة الجلّوم الكبرى.

وكانت وفاته بحلب في سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ، ودفن بمقبرة العبارة خارج باب الفرج ، ولم يعقب غير بنت ، وخلف مالا كثيرا رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٣٨ ـ طه بن مصطفى الشهير بطه زاده المتوفى سنة ١١٣٧

طه بن مصطفى الحلبي الحنفي الشهير بابن طه. ترجمه الكمال الغزي في كتابه المسمى «بالورد الأنسي في ترجمة العارف بالله النابلسي» (١) فقال :

__________________

(١) اطلعت على هذا الكتاب في رحلتي إلى دمشق سنة ١٣٤٠ عند بعض أحفاد الشيخ عبد الغني النابلسي القاطنين في صالحية دمشق.


هو الشيخ الصالح الصوفي الفاضل الأوحد الرئيس المحتشم الإمام الهمام الكامل صدر الديار الحلبية. قال الأستاذ في «ديوان المراسلات» : وقد طلب مني فخر المشايخ الكرام جناب طه أفندي الحلبي أن أجيزه بالكلام على شرح كلام العارفين بحسب ما يظهر له من طريق الإلهام موافقا للشريعة المحمدية ، فكتبت له هذه الأبيات :

أجزناك يا طه بن طه المهذبا

بشرح كلام العارفين أولي النبا

ودم قائما بالله لاتك بالذي

تحاوله واصدق وخل التكذبا

تقرب إليه بالنوازل دائما

يكن لك في المعنى لسانا مرتبا

ودع عنك حكم النفس فيما تقوله

فنفس الفتى عنها الصواب تجنبا

ولا تفتكر وانطق بربك إنه

هو الملهم الفياض والنفس في الخبا

وكن مستقيما في ظهور تجده قد

أبان لك المعنى وأعطى وأوهبا

وسلم إليه لا تكن متكلفا

وخف وترجى منه تعذب مشربا

وإياك الدعوى بما هو فائض

عليك ولازم مذهب الفقر مذهبا

وإن هو أعطاك العلوم فلا تجد

لنفسك علما كن به متأدبا

قل العلم عند الله لكن طريقه

هو القلب كالميزاب يقطر طيبا

وقف عند باب القلب تنتظر الذي

به يفتح الفتاح إن شاء أو أبى

ولا تلتفت للفكر فالفكر موصل

إلى سد باب الله عنك فتحجبا

وقل في يد الرحمن يفعل ما يشا

على الشرع إما مبعدا أو مقربا

له الأمر كل الأمر لا رب غيره

وما الخلق طرا في الوجود سوى الهبا

وكانت وفاة المترجم بحلب سنة سبع وثلاثين وماية وألف.

ورثاه الأستاذ (أي الشيخ عبد الغني النابلسي) بقصيدة ذكرها في «ديوان المراسلات» مطلعها :

على روح طه العطر روح وريحان

وفي جنة الفردوس يلقاه رضوان

تصافحه الأملاك عن أمر ربها

وحور تحييه هناك ورضوان

سقى الله أياما بها كان قائما

على الذكر والتوحيد يلجيه إيمان

محبته للصالحين منيرة

له في طريق الصدق دان كما دانوا


وكانت له الأنفاس من كل جانب

إلى أن تسامى منه فضل وعرفان

وقد كان صدرا في البلاد مؤنّقا

لما هو تقريب لديه وإيقان

به حلب الشهباء زادت محاسنا

فقامت به في الناس تحسد بلدان

هو السيد النحرير نسل أماجد

لهم فوق هامات الأماجد تيجان

سلالة بيت بالنبوة عامر

وناهيك في بيت علت منه أركان

بنو هاشم الشم الأنوف أولو التقى

أماكنهم فيها تسامت وأزمان

لهم شرف عال ومجد مؤثل

وشان عظيم لا يماثله شان

ألا يا ابن طه كنت روحا مجسدا

وهيكل أنس باللطافة ملآن

أفلت كشمس أطلعت قمر الدجى

وأنجم سعد هنّ بعدك أعيان

وقد ضم منك القبر طود شهامة

عليه بك الله المهيمن منان

فنم في أمان الله تحت سرادق

من الغيب حتى ينجلي عنك كتمان

وتبعث معنا يا ابن طه مطهرا

إذا ما استوى فضلا على العرش رحمن

وأسفرت الأحوال عن غاية المنى

وفاز نشيط بالمراد وكسلان

ولم يبق إلا الحق للحق طالبا

هنالك للرحمن حسنى وإحسان

إليك تحياتي أتتك برحمة

من الله يتلو تلك عفو وغفران

على أمد الأوقات ما ناح طائر

وما قد جرى دمع من السحب هتان

وما جاءكم عبد الغنيّ مؤرخا

على روح طه العطر روح وريحان

وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في ديوانه المسمى «ديوان الدواوين» : وطلب منا فخر الأكابر والأعيان ذو الفضل والكمال ورفعة الشان جناب طه أفندي الحلبي بمكاتبة وردت علينا من مدينة حلب المحروسة في هذه الأيام يطلب منا عمل تاريخ لعرس ابنه فخر الأفاضل الكرام أحمد أفندي ، فقلت في ذلك وأرسلت به إليه ، وهو تاريخ واحد آخر الأبيات تشتمل على ثلاثة تواريخ ، أحدها بصريح الذكر ، والثاني بالحروف المعجمة فيه إذا حسبت بحساب الجملة ، والثالث بالحروف المهملة إذا حسبت بحساب الجملة إذا حسبت كذلك ، وذلك قولي :

أيها الكامل يا من أخبرت

عن علاه فئة بعد فئة

خذ تواريخا ثلاثا جمعت

لك في مفرد بيت منبئه


بصريح وحروف أعجمت

وحروف أهملت مختبئه

عم حول وسرور العرس

وهو ثلاثون وألف ومئه

وقلت مؤرخا العرس المذكور وكتبت به إليه في ذلك الحين :

إليك يا من بغيث فيض الإله يمدد

ومن إليه وجود جود العلا تعدد

إنها نهنيك بالأماني التي تجدد

وبالكمال الذي تبدى وماله حد

نقول فيمن يقول عمن لديك يشهد

أرخ لطه در التهاني لعرس أحمد

ا ه.

وقال المرادي في ترجمة الأديب الشيخ إبراهيم الدكدكجي : ومن شعره هذه القصيدة ممتدحا بها الشيخ السيد طه الحلبي ومهنئا له بعرس ولده أحمد وهي :

أترع الكاس يا نديم وهاته

ثم نهنه كرى جفون سقاته

واجتل البشر من وجوه التهاني

فصفاء الزمان من مسعداته

زمن اللهو والخلاعة والبس

ط حريّ بالحر بعد فواته

قم بنا نفترع فدتك المعالي

ونسارع فالروض طاب فواته

نجتلى فيه أكؤس الود فالرا

حة والأنس في اجتلا زهراته

وبشير الإسعاد أضحى ينادي

إن داعي السرور قام بذاته

وغدا الأنس كاملا والأماني

صرن للوعد فيه من منجزاته

كيف لا والزمان لا زال فيه

الشهم طه ممتعا بحياته

الإمام الهمام من قد تسامى

للمعالي وصرن من حسناته

والأعز الأغر من شاد مجدا

في ذراها بمقتضى عزماته

والنبيل النبيه والأروع الأو

رع غيث الأنام في مكرماته

والحسيب النسيب محيي ربوع ال

جود بعد اندراسها بهباته

آل بيت الرسول حزتم مقاما

تجتلي الناس باجتلا نيراته

يا وحيد الأفضال إني أهني

ك بعرس زهت جميع جهاته

عرس عين الكمال روح المعالي

أحمد المتقين في مسعداته

واحد الدهر ثاني الروح حقا

ثالث النيرين في هالاته


دام بالأمن والمسرة يزهو

بالرفا والبنين طول حياته

يا سليل الأمجاد ساجع شكري

لهج بالثناء في نغماته

ولغرّيد روضة البشر يشدو

بمديح كالدر في كلماته

فأعره سمع الرضى وتجاوز

عن قصور يلوح في أبياته

إن بيتا حوى بدائع تاري

خ أحرى بالعفو عن سيئاته *

نم قرير العيون بالعرس أرخ

وتنعم بالجود من طيباته

واسلم الدهر بالهنا وتسنم

ذروة المجد لا جتنا ثمراته

وفي آخر الثبت المسمى «الأمم لإيقاظ الهمم» للشيخ إبراهيم الكوراني الشهرزوري ثم المدني ، وهو من مخطوطات المكتبة الأحمدية (نسبة لابن المترجم) إجازة من الشيخ إلياس الكوراني للمترجم ، قال فيها : وكان ممن سعى في ذلك وأفاد ، واستفاد ما هنالك وأجاد ، فخر الأشراف العارف ، بالله الغارف من يم المعارف ، السيد الحسيب النسيب السيد طه بن السيد مصطفى إلخ.

وممن رثاه الشيخ عبد الرحمن البيري بقصيدة طويلة مطلعها :

هي الأيام للأعمار نهب

وللأعمال أسفار وكتب

تقلبها سرور ثم حزن

وأفراح وتضييق وكرب

إذا ركب ترحل عن مناخ

بحكم البين عرّس فيه ركب

إلى م تحث أنفسنا المنايا

على دهم وبيض ليس تكبو

كوامن بين أحشاء المنايا

إذا هي شارفت فرصا تهب

خلقنا والفنا حتم علينا

فلولا خلقنا لم يقض نحب

فنحن أمانة والحزر صعب

فإن ردت كما هي زال صعب

موارد هذه الأيام ملح

ومرآهن للمعروف عذب

طمعنا في مسالمة الليالي

ولم نعلم بأن السلم حرب

خدعنا بالمنا منها غرورا

بصنعة خاسر إذ بان غلب

إلى كم كل يوم فقد خل

تجود عليه بالآماق سحب

ومنها :

__________________

(*) لعل الصواب : لأحرى.


فيا ليت النعاة بموت طه

خرسن وكان في الآذان عطب

إمام كامل بحر تقي

لدائرة الطرائق فهو قطب

وعين المرشدين إذا أضيعت

نفوس في الهوى أو ضل قلب

وترياق النفوس غدا إذا ما

بدا من غاسق الشيطان وقب

بصير في خلاص النفس آس

خبير في علاج الروح طب

مربي الطالبين بحسن رأي

إذا اقترف القلوب الغلف ذنب

مرقّي السالكين إذا استحقوا

وزلت عن بصائرهن حجب

له قدم بطرق القوم ثبت

له في مأخذ العزمات دأب

له التسليم للأقدار خلق

ولو كان القضا نارا تشب

صبور في النوائب ذو احتمال

أخو جلد إذا ما لذعبّ

ومنها :

إذا السلوان دنس ثوب حزن

يغسله من العبرات سكب

فقل لنوائب الأيام تفعل

كما شاءت فهذا الرزء حسب

حباك الله في الفردوس ملكا

كبيرا ناضر الأرجاء خصب

له المسك العبير النشر ترب

له من خالص الكافور كثب

وولدان وحور في يديهم

ثياب سندس خضر وقشب

لهن إلى قدومك عين بشر

بهن إلى اللقا مرح ولعب

يقلن الكل يا رضوان أرخ

لطه منزل في الخلد رحب

ودفن في حجرة مخصوصة داخل المدرسة في صدر المدفن المعد لدفن آل الجلبي ، ولها شباكان على الجادة ، وهناك لوح كتب عليه القصيدة المتقدمة التي رثاه بها الشيخ عبد الغني النابلسي ، وله في مكتبة الأحمدية ثبت كتب عليه (مشيخة طه زاده) وهو في قسم كتب الحديث كنت رأيته وتصفحته وأردت الآن أن آخذ عنه من أخذ عنهم من المشايخ فلم أجده في المكتبة ، ولا أدري فقد أولا ، وهو كتاب صغير.

١٠٣٩ ـ حسن بن محمد التفتنازي المتوفى سنة ١١٣٧

ترجمه حسن أفندي الكواكبي في كتابه «النفائح واللوائح» فقال :


هو العالم الكبير والجهبذ الشهير الإمام الهمام حسن بن محمد التفتنازي. ولد في حدود السبعين ، واشتغل بعلوم الدين وفنون الأدب حتى برع وفاق ، وذكر من المبارين في حلبة السباق ، وألف مؤلفات حسانا ، أودع في مكنونها بيانا وتبيانا ، منها «نظم السراجية» وشرحها ، وله منظومات أخر لم نقف عليها. توفي بمكة المشرفة سنة تسع وثلاثين بعد المائة.

ومما قاله مادحا جناب الجد المولى أبي السعود أفندي الكواكبي رحمه‌الله :

ما هيج الشوق من صب وما وجبا

به الغرام وصافي دمعه وجبا

إلا وزاد اشتياقي للتي سلبت

عقولنا واستباحت في الهوى السلبا

قامت فأزرت بخوط البان وانعطفت

بمحزم كل من داناه إنثغبا

في حبها كل أرباب الهوى ثملوا

ولم ينل أحد من وصلها أربا

فلو تبدت وكان البدر في شرف

والشمس راد الضحى من حسنها احتجبا

يصيد أسد الشرا صاد بوجنتها

من صادها صيد بالأشراك وانتكبا

كم من شجاع شجا في حبها ولها

أذابه عقرب الصدغين فاضطربا

إن حاربت بظبا ألحاظها بطلا

أضحى يحرب بين الركب واحربا

خطّية سحرت بالطرف إن حسرت

عن اللثام ترى في ثغرها العجبا

ومنها في التخلص إلى المدح :

قوضت عن حب ذات الكشح منقلبا

إلى مديح ابن من قد شيدوا حلبا

بالعلم والحلم والأفضال محتدهم

مجد ورفد وقد فاقوا الورى حسبا

أبو السعود الذي من أم ساحته

يؤم ركنا تظل في ظله النجبا *

وهي طويلة تربو على أربعين بيتا اقتصرنا منها على هذه الأبيات.

وله أيضا مادحا السيد نعمة الله أفندي الكواكبي عم السيد حسن أفندي الكواكبي :

نسيم الصبا هيجت شوقا تشعبا

إلى مربع عهدي به زمن الصبا

وذكرتني أطلال من قد عهدتهم

بأرغد عيش ثم أهناه مشربا

__________________

(*) هكذا في الأصل.


ألا بلغا عني تحية مغرم

وسورة أشواق لهاتيكم الربى

أريج شذاها يشرح الصدر نشره

بها البان والنسرين والرند والكبا

تهيج إلى تلك الربوع جوانحي

ومن يبتلى بالعشق يمسي معذبا

أحن إلى ليلى وإن شط ربعها

وكانت بروق الوعد بالوصل خلّبا

لقد عاد رأسي كالثغام ولمتي

شميطى ولم أبلغ مراما ومأربا

إلى الله أشكو حر ما بي من الجوى

ومن لم يساعده القضا يبق متعبا

وهي طويلة أيضا اكتفينا منها بما تقدم.

١٠٤٠ ـ إسحق بن محمد البخشي المتوفى سنة ١١٤٠

إسحق بن محمد البخشي الحنفي الحلبي الخلوتي ، العالم الجليل الفاضل النبيل.

مولده بحماة في حدود السبعين. وألف واشتغل على والده وارتحل معه إلى مكة المشرفة في أواخر القرن الحادي عشر ، وجاور بمكة مدة ، وتفقه على والده. وأخذ عن علماء الحرمين في وقته وعن علماء بلدته. وبرع في سائر العلوم واشتهر بلطائف التحريرات في المنثور والمنظوم ، وله سياحات كثيرة ، وابتلي بالاغتراب بسبب القضاء.

وله في علوم العربية والأدب ، ما يملأ الدلو لعقد الكرب. وله نظم القدوري وغيره من الرسائل المفيدة والمراسلات الفريدة. ولما اصطحبه معه الوزير قبطان إبراهيم باشا لسفر المورة من البحر وحصل لهم الفتح والنصر أنشأ مقامة بحرية ووصف فيها كيفية الذهاب والإياب ، وكيفية القتال برا وبحرا وما يسره الله من الفتح والنصر ، بألفاظ عذبة وعبارات أنيقة ، وشاع ذكرها بين أدباء العصر. وكان له نظم كالدر النظيم ، وتحريرات تفصح عن فضله الجسيم ، لو دونت لبلغت مجلدات. وعاقبة أمره عدل عن القضاء.

وكانت وفاته في حلب الشهباء في سنة أربعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٤١ ـ حسن بن علي الطبّاخ المتوفى سنة ١١٤٠

حسن بن علي الشهير بالحنبلي الشافعي القادري الشريف لأمه المعروف بالطباخ الحلبي ،


الشيخ العالم العامل المحقق الكامل المتقن الخطيب بجامع الخسروية ، والمدرس بأموي حلب.

ولد بحلب في سنة ثمانين وألف ، وكان والده طباخا فأثرى حاله واقتنى من أنواع أواني النحاس شيئا كثيرا ، وكان يؤجرها إلى الناس في الأفراح واتخذها حرفة ، ثم ولده المترجم نشأ في حياته موفر الدواعي مرفه البال ، وكان ذكيا نجيبا ، فاشتغل بطلب العلم واكتساب الكمال ، فلازم الشيخ مصطفى الحفسر جاوي وأكثر عنه وانتفع به وعليه تخرج وبرع في الفقه وأخذه وسائر العلوم عنه.

وقرأ التفسير على المولى أحمد الكواكبي ، والحديث وفقه الحنفية والأصول على ولده أبي السعود الكواكبي ، وقرأ على الشيخ أحمد الشراباتي وعلى الشيخ سالم المكي وعلى غيرهم من علماء عصره وأكثر عن الواردين ، وبرع في المذهبين ، وكان سريع الاستحضار لأكثر المسائل.

واقتنى الكتب النفيسة النافعة كثيرا ، واعتنى بتصحيحها وضبطها لملازمته إقراءها. وكان يخبر عن نفسه أنه أكثر لياليه لا يضع جنبه على الأرض للنوم بل يتكىء في زاوية البيت ويضع الإحرام على ركبتيه والمصباح عند رأسه ويطالع ، فإذا استيقظ تناول الكتاب واشتغل بالمطالعة ، ويقول إن هذه الكيفية في المطالعة فائدتها كلية ، لأن الإنسان إذا نام عقب المطالعة وأعادها حين استيقاظه من النوم علق ذلك في ذهنه بحيث إنه لا يزول. وكان له تقرير بتحقيق وتدقيق من غير حشو ولا تلعثم ولا توقف ، وانتفع عليه خلائق كثير.

ولما انحلت خطابة الخسروية عن الشيخ عبد اللطيف الزوائدي وجهت على صاحب الترجمة ، وكان من الخطباء المحسنين.

وكان شديد الإنكار والتعصب على الدخان وشاربه حتى كاد أن يقول بحرمته ، وكان إذا حضر في مجالس من يحتشمونه لا يشربون أبدا ، وإذا شرب في مجلس أمسك أنفه بأصابعه وتأنف وقال : يا أخي اكفف أذاك عنا ، واستمر على ذلك إلى قبيل موته بنحو عامين حتى اعتراه حادر حار فعالجه فلم يفده شيئا ، فوصف له الدخان فتوقف برهة وزاد به الألم فشربه وترك الاعتراض. وكان معاصره الشيخ قاسم البكرجي مثله بل أشد تعصبا منه ، فحصل له قبل موته حادر ذهبت به عينه الواحدة ، فأمره الطبيب بشرب الدخان خوفا على عينه الثانية فشربه. وقد شاهدته في بلدتنا دمشق الشام وقع لبعض أحبابنا من


الأفاضل وكان كما ذكر ، فبعد مدة صار ديدنه شربه.

وكانت وفاة صاحب الترجمة بعد إيابه من الحج ، وكان سبق له قبل ذلك مرتين. توفي في بدر بختام ذي الحجة ختام سنة أربعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : بعد البحث كثيرا وقفت على دلائل متعددة غلبت على ظني أن المترجم جد عائلتنا الأعلى ، ولا زلت آخذا في البحث والتنقيب لعلي أصل إلى ما يجعل هذا الظن يقينا.

١٠٤٢ ـ سليمان بن خالد النحوي المتوفى سنة ١١٤١

سليمان بن خالد بن عبد القادر المعروف بالنحوي الحنفي الحلبي ، العالم الفاضل البارع المفضال النحوي المفنن المحقق الماهر.

كان والده من أمراء الأكراد الكائنين في ناحية حلب ، وولده المترجم نشأ بحلب وقدم دمشق وقرأ بها وحصل الفنون وحضر دروس مشايخها وأخذ عنهم ، منهم الشيخ يحيى المغربي نزيلها وغيره ، ثم رجع بعد تحصيل الفضل التام لحلب وتوطنها واشتهر بها بالنحو. وتولى تدريس جامع الفردوس وغيره وأخذ عنه الأفاضل وتفوق واشتهر.

وترجمه الأمين المحبي الدمشقي في ذيل نفحته وقال في وصفه : روض فضل مطير ، عرفه فواح عطير ، يتطاير الجد عند انقداحه ، فيورى زند النجاح قبل اقتداحه ، صحبته بدمشق إبان التحصيل ، والهمة تعقد بيننا وبين التفريع والتأصيل ، ونحن في بلهنية هنية ، نقطف زهر الحياة جنية ، فلم أعثر منه على ريبة ، ولم أعهد منه حالة غريبة. وكان له بيننا حظوة ، لم تقصر له عن سابقنا خطوة ، فثوب الاعتبار لباسه ، ونور التوفيق اقتباسه. ثم رحل إلى بلده حلب بفضل وافر ، وكمال يهون به كل صعب متنافر.

فتنازع البلدان فيه صبابة

وكلاهما جم الغرام طروب

فاجتنى الآمال لدنة الفروع ، وامترى حلوبة العيش ملآنة الضروع ، وأحرز قصب اليراع ، فحاك وشيا ما يحاك بالابتكار والاختراع ، فالأرجاء بأضوائه مؤتلقة والأراجي من الآملين به معتلقة. وله شعر مختار ، كأنه جنى نحل مشتار. انتهى ما قاله.

ومما وصلني من شعره قوله من قصيدة أولها :


روّى الملثّ بسيبه الفياض

ربعا به زمن الشبيبة ماضي

ورعى ظباء فيه قد طارحتها

ذكر الغرام بأعذب الأحماض

في روضة غنا بغوطة جلّق

يجري اللجين بها على الرضراض

مع كل معسول الثنايا لحظه

عند الفتور أحدّ عضب الماضي

يفتر عن حبب يجول خلاله

ماء الحياة لميت الأعراض

وله مضمنا :

يا مليكا قد سبى كل الورى

وعزيزا عز من رام حماه

كيف لا أزداد شوقا إذ غدت

قبلتي وجهك في كل صلاه

وقوله في القرنفل مشبها :

ألا حبذا في الروض زهر قرنفل

ذكي الشذا فاني الأديم مورد

إذا ما بدا للناظرين حسبته

مجن عقيق فوق غصن زمرد

وكانت وفاته في حلب في سنة إحدى وأربعين ومائة وألف عن نيف وثمانين سنة ، ودفن خارج باب قنسرين بتربة الشيخ نمير رحمه‌الله ا ه.

١٠٤٣ ـ علي بن بيان المتوفى سنة ١١٤٣

علي بن * المشهور بابن بيان ، أحد بحار الشهباء وأجوادها.

كان سمحا ووالده مغرما بتحصيل المعارف والصنايع الظريفة وحسن الخط حتى بلغ من ذلك الغاية ، ومن خطه الحسن الكتابة التي بأموي حلب على مرقد سيدنا نبي الله زكريا عليه‌السلام ومن داخل المرقد فوق ، وله اليد الطولى في النقوش العجيبة والدهان العجيب.

وكان في أوائل عمره قل ما في يده ، فتوجه إلى مصر إلى ابن عم له صاحب ثروة ، فاتفق بعد وصوله بأيام قليلة وفاة ابن عمه عن زوجة وبنت ، فورثه معهما ، ثم تزوج

__________________

(*) فراغ في الأصل.


بزوجة ابن عمه المذكور وعاد إلى حلب وزوج ولده محمدا بالبنت ، وتصدر في بيته للأحباب في وعاية * أرق من ماء المفاصل ، ولطافة أشهى من الحبيب المواصل ، وبيته أحد البيوت المشهورة بحلب بسويقة حاتم بحسن البناء ، وكان سكن الشيخ المرشد الكامل العارف الشيخ قاسم الخاني بالشراء بعد وفاة الشيخ لصاحب الترجمة من ولده. وأخبر ولد صاحب الترجمة محمد بن بيان أن جدهم مولده خوارزم ، وقدم لبلاد الشام في تجارة ودخل حلب ، ومن ذريته صاحب الترجمة والعهدة عليه.

توفي سنة ١١٤٣ وله من العمر اثنتان وستون بتقديم المهملة على المثناة فوق ، ودفن خارج باب الفرج ، وأعقب ثلاث بنين محمد الفاضل الحنفي وعمر كما عمر والده ٦٢ وتوفي سنة ١١٧٦ ودفن عند والده ، ومصطفى صاحب الخط الحسن والذكاء العجيب والملكة التامة في النقوش العجيبة والصنايع الغريبة ومعرفة تامة بالموسيقى ، وبالجملة فهو من أفراد زمانه مع دماثة أخلاق وعفة وصيانة ، توفي سنة ١١٧٧ ودفن عند والده وله من العمر ٧٤ سنة وأعقب ، وأصغرهم أخوهم أحمد وهو في الأحياء الآن. ا ه. (من مجموعة منقولة عن خط ابن ميرو).

١٠٤٤ ـ الوزير إسماعيل بن إبراهيم العظم المتوفى سنة ١١٤٥

إسماعيل بن إبراهيم العظم ، الوزير الشهير. كان والده إبراهيم هذا جنديا سكن بمعرة النعمان من أعمال حلب ، وكان لأهلها مع التركمان التي ترد إلى جبلها شتاء وقايع جرح في بعضها والد المترجم ، فحمل إلى بليدته المذكورة فتوفي في تلك الجراح ، وأعقب المترجم وسليمان الوزير الشهير وموسى ومحمدا ، وكلهم تولى الوزارة خلا محمدا.

وكانت ولادة المترجم قبل السبعين وألف بالمعرة وبها نشأ ، وتقلبت به الأحوال إلى أن صار حاكما ببلده ثم بحماة ، وأنعمت عليه الدولة العلية بعناية والي حلب عارفي أحمد باشا بطوخين رتبة روملي ومالكانة حماة وحمص والمعرة عليه وعلى أخيه سليمان ، ومنصب طرابلس عليه وسر عسكر الجردة ، فبعد عوده من الجردة سنة ثمان وثلاثين وماية وألف تولى الشام وإمرة الحاج بالوزارة ، وحج ست سنين ، وفي السنة السادسة قعدت للمحاربة

__________________

(*) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب دعابة.


معه طائفة حرب بين الحرمين في إيابه ، فما دخل المدينة المنورة بل توجه على طريق ينبع البحر إلى آبار الغنم ، وكتب الشريف وأهل المدينة في هذا الشان للدولة العلية ، فعزل وامتحن سنة ثلاث وأربعين وحبس بقلعة دمشق واستأصلوا أمواله مع أموال ذويه ، وأفرج عنه سنة أربع وأربعين وولوه خانيه (في كريد) فذهب إليها وبها أدركه الحمام سنة خمس وأربعين ، وأعقب السيد إبراهيم وأسعد سعد الدين ومصطفى وكلهم تولوا الوزارة خلا الأول ، فإنه توفي بحماة سنة ١١٥٩ في أوائلها وهي برتبة روملي معزولا من صيدا ، فإنه ولي أطرابلس قبل الامتحان وذهب مع والده إلى خانيه (في كريد) وولي بها بعض المحال ، وبعد وفاة والده عاد وولي صيدا مرارا وجده الأعلى لأمه الحراكي الولي المشهور. وأعقب المترجم بنتين زوج إحداهما في حياته من ابن أخيه مصطفى بن فارس فولدت له محمدا ، وهو الآن أبقاه الله واسطة عقدهم وزير شهم صدر متحل بالفضل والأدب ، وولي صيدا بالوزارة في رجب سنة ست وسبعين وماية وألف. ا ه (ميرو).

١٠٤٥ ـ مصطفى بن منصور الطبيب المتوفى بعد سنة ١١٤٥

مصطفى بن منصور الطبيب الحاذق المصيب.

كان ذكيا جدا ، قرأ على العالم الفاضل الشيخ قاسم البكره جي وعلى العالم الكامل علي الميقاتي ، وقرأ على والده فريد عصره علم الطب وألف فيه رسالة في علم النبض.

خرج من الشهباء سنة خمس وأربعين ومائة وألف وهو من أبناء الثلاثين ، ودخل دار الخلافة إسلامبول ، فسمع به أطباؤها ، فدعوه يوما إلى بعض الباليّات ، والباليّ هناك عبارة عن البستان ، فلما قدم عليهم استرحبوا به وأجلّوه ، وكان قدم إليهم من مكان بعيد ، وكان يوما شديد الحر ، فلما جلس عرضوا عليه بعض الأشربة موضوعا فيه ثلج ، فأبى شربه ، فقالوا : لم لم تشرب؟ فقال : هذا شيء مضر ، فأنكروا عليه ، والحال أنهم ما عرضوا ذلك عليه إلا للاختبار ، فاندفع يذكر لهم ما يتولد من شرب البارد على التعب ما لو جمع لبلغ كراسة أو كراستين ، فانبهرت عقولهم لاستحضاره وذكائه فأجلوه قرى *

وله رحلة ذكر فيها من لقي في طريقه من الأفاضل والأدباء.

__________________

(*) هكذا في الأصل.


ولم يلبث إلا قليلا في إسلامبول حتى انتقل إلى رحمة الله مطعونا فرحمه‌الله تعالى.

فمن شعره الذي له في رحلته قوله في عتب الزمان :

هو الدهر ما شمنا لأكداره صفوا

ولا برحت فيه بنوه على شكوى

ومنها :

ولا ذنب فيه للبليغ أخي الذكا

سوى أنه لم يعطه عرضه رشوى

وما هو إلا الصاب في كل حالة

ولكن سليم (١) الذوق يحسبه حلوى

فتبا لأيام لهت بذوي الحجا

على أنهم لم يعرفوا ضمنها لهوا

ومنها :

وما أسفي إلا تساوي كرامها

بأنذالها عند الرواية إذ تروى

ومنها :

وقد سودت شوم القرود كأنما

قد انقطع النسل الذي كان من حوا

ويأمرنا بالصبر فيهم أخو الذكا

سمعنا ولكن بين ذا القوم من يقوى

فلا تعجبي يا ميّ إنا لفي عنا

وإن كان كلّ جانب الرتبة القصوى

ولا تمتري فالموت للحر راحة

إذا أصبحت فيه الحياة بلا جدوى

ا ه (تاريخ ابن ميرو).

١٠٤٦ ـ عثمان بن ميرو المتوفى سنة ١١٤٥

عثمان بن يحيى بن عبد الوهاب بن الحاج ميرو الشافعي الكامل.

ولد بمكة ، وأمه أم ولد كرجية ، مولده قبل الثمانين. وبعد وفاة والده بمكة نقله عمه حسين لحلب مع إخوته وهم أبو بكر لأبويه ومحمد وعمر لأبيه.

وسافر المترجم إلى جهان أباد من بلاد الهند واستقام بها مدة ، ثم عاد لحلب وتزوج

__________________

(١) السليم لديغ الحية كما هو معروف.


بابنة عمه عائشة بنت مصطفى الميرو ، ومولدها مدينة إسلامبول ، وكان أتى بها لحلب بعد وفاة والدها عمها الحسين أيضا ، وولدت بنتا وتزوجت وماتت في حياة أبويها ، ثم تسرى بجارية وانقطع في داره منعكفا على تلاوة القرآن والتقوى والصلاح وحضور المسجد ، وكتب بخطه الكثير من الكتب.

وكانت وفاته سنة خمس وأربعين ومائة وألف ودفن بالتربة الأمينية بحلب. ا ه.

١٠٤٧ ـ الشيخ رمضان العطّار المتوفى سنة ١١٤٧

رمضان ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ أحمد العطّار ، الفاضل الكامل الشافعي.

كان يعاني صنعة العطارة بحانوت في سوق العطارين قبلي جامع أموي حلب. مولده في حلب قبل المائة.

قرأ على فضلاء بلدته كالعلامة الشيخ مصطفى الحفسر جاوي ، والفاضل الشيخ جابر ، والعلامة السيد محمد الكبيسي ، وأخذ عن العارف الشيخ قاسم الخاني طريقة القادرية وأفاد ، وقرأت عليه في الفقه الغاية وشرحها لابن قاسم الغزي والخطيب الشربيني ، وشرح التحرير لشيخ الإسلام زكريا ، وشرح الأجرومية للشيخ خالد ، وشرح الأزهرية له.

توفي سنة سبع بتقديم السين المهملة على الموحدة وأربعين وماية وألف وأعقب ، ودفن في التربة الشهيرة بالشيخ أبي نمير ، وكانت جنازته حافلة.

كان عفيفا سخيا حلو المنادمة كثير الذكر ملازما للعبادة والإفادة والاستفادة ، يقري بين العشائين تجاه سكنه بجامع منكلي بغا الفقه وينفع الناس رحمه‌الله تعالى. ا ه (ميرو).

١٠٤٨ ـ الشيخ محمد هلال الرامحمداني المتوفى سنة ١١٤٨

محمد هلال بن عمر ، الصالح الورع المسلّك الشافعي القادري الرامحمداني : قرية غربي حلب ، مولده بها ، وقرأ القرآن بها.

أخذ الطريقة الشريفة القادرية عن العارف الشيخ قاسم الخاني وانتفع به وعن الشيخ محمد بن الشكعة ، وعن السيد ياسين الكيلاني الحموي ، وعن العارف مصطفى اللطيفي


المشهور ، وتصدر للإرشاد سنة (لم يذكر) وتوفي سنة ثمان وأربعين وماية وألف ودفن في صحن المسجد الذي كان يقيم الذكر فيه بمحلة الجلّوم وقد ناهز التسعين. ا ه (ميرو).

أقول : وقد كنت اطلعت على مؤلف له شرح به حكم الشيخ محيي الدين بن العربي قدس‌سره ، وهذا الكتاب الآن في مكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية ، وقد ذكر في هذا الكتاب مجيء شيخه الشيخ يسين الكيلاني إلى حلب ، وقد علق بفكري من تلك الحكم قوله : (لن ترى الحلال إلا في شواهق الجبال) وقوله : (الشيخ من أصلحك حاله أو دلك على الله مقاله).

١٠٤٩ ـ عمر بن مصطفى طه زاده المتوفى سنة ١١٤٨

عمر بن مصطفى الشهير بطه زاده ، وهو أخو طه المتقدم وأخو يسين الآتية ترجمته. ولم أقف له على ترجمة خاصة ، غير أني وقفت على وقفيته لمسجده ومدفنه اللذين عمرهما جنوبي البيمارستان النوري في محلة الجلّوم ووقف عليهما وعلى ذريته وقفا ، ويعرف المدفن بمدفن الجلبي. وصف في وقفيته بالعالم العلامة ثمرة الدوحة المحمدية ، ذو الحسب الطاهر والنسب الباهر ، حضرة السيد عمر أفندي ابن مصطفى أفندي الشهير نسبه بطه زاده ، قايم مقام حضرة نقيب السادة الأشراف والقاضي بالقدس الشريف سابقا قال : عمرت مسجدا ملاصقا لداري الكائنة بمحلة الجلّوم ، وعمرت شمالي المسجد مدفنا لي ولذريتي ، وعمرت حوشا سماويا للمسجد والمدفن ، ويحيط بهذا المسجد والمدفن جدران ؛ فالجدار الغربي به شباكان محددان مطلان على الطريق السالك بأحدهما سبيل ماء لشرب العطاش المارين ، وبجانبه قصطل يجري إليه الماء من قناة حلب. (ثم قال) : ويصرف في كل يوم من غلة الوقف تسعين عثمانيا فضيا لثلاثين رجلا من القراء ليقرؤوا مجتمعين في كل يوم عقيب صلاة الصبح بالمسجد والمدفن. وتاريخ الوقفية سنة ١١٤١.

وكانت وفاته سنة ١١٤٨ ودفن بمدفنه هذا ولا زال قبره موجودا.

وللمترجم أخ ثالث اسمه محمد توفي عقيما سنة ١١٧١ ، وهو مدفون بهذا المدفن ، فيكون لمصطفى بن طه زاده والد المترجم المتوفى سنة ١٠٩١ أربعة أولاد.

ومما يجدر ذكره هنا أن على يسار القبلية في هذا المسجد حجرة فيها ثلاثة قبور لا كتابة


عليها ، غير أن المتوسط منها عليه ضريح من خشب المشهور أن المدفون فيه الشيخ صالح الكيلاني ، ولم أقف له على ترجمة. وكان هناك لوحة مكتوب عليها أبيات أولها :

ضريح به العرفان والزهد والتقى

وبحر الرضى فيه مدى الدهر سائح

لقد حله شهم كريم وفاضل

وبالعلم مشهور وبالجود صالح

ولا غرو في ذاك الهمام لأنه

بوالده فجر المعارف واضح

فذا صالح نجل لعبد لقادر

نتيجة جيلان له النور لائح

ووجود هذه القبور الثلاثة في هذه الحجرة يفيد أن المكان كان مسجدا أو زاوية قبل أن يعمره عمر أفندي الجلبي ، ولعله كان داثرا لم يبق فيه سوى هذه الحجرة فجدده المترجم والله أعلم.

ومدحه الشاعر الأديب مصطفى أفندي البيري بقصيدة غراء طويلة قال في مطلعها :

هل المجد إلا ما تسنمت غاربه

أو الفخر إلا ما امتطيت جنائبه

كفى المجد فخرا أن شمس علا كمو

لقد زينت للناظرين كواكبه

وأقسم ما جاراك في المجد نيّر

من الأفق إلا كان مجدك غالبه

لك النسب الوضاح والشرف الذي

يمزق من ليل الشكوك جلاببه

رفعت منار الجود بعد عفائه

وأظهرت منهاج السخا ورجائبه

وفضيت عن بكر المعالي ختامها

وصفيت من ورد الكمال مشاربه

وناديت للعليا فلبت مجيبة

وغيرك لو نادى بها لن تجاوبه

وهي طويلة قال في آخرها :

وشكرك في بث المحامد واجب

فمن لي بأن أقضي من الشكر واجبه

ودمت مهنا بالسعيد فإسمه

لحظكمو وصفا أتى بالمناسبه

ومن حظه أضحى سميّا لنجله

فذاك سعيد الدهر ما فيه شائبه

وبالعيد فاهنأ بل يهنا لأنه

أتاك ليملي من ثناك حقائبه

وخذ غادة غراء يسبيك حسنها

وتحمد أن وافتك منك المصاحبه

وخذني في روض امتداحك بلبلا

لأمليه تغريدا وأجني أطايبه

ودع كل شعر غير شعري فدرّه

يروقك حسنا مثل ما رق ثاقبه


ودم وابق واسلم كلما هبت الصبا

وذكّرت المضنى المشوق حبائبه

ولا زلت محسود الجناب ولم تزل

سهامك أهداف المكارم صائبه

١٠٥٠ ـ عمر بن عبد القادر الأرمنازي المتوفى سنة ١١٤٨

عمر بن عبد القادر ، الشافعي الأرمنازي الأصل الحلبي المولد ، المقرىء الفرضي العالم العامل الفاضل الكامل.

ولد بحلب في سنة خمس ومائة وألف ، وكان والده ورعا صالحا وخطيبا وإماما بجامع قسطل الحرامي بحلب ، فنشأ ولده المترجم وقرأ القرآن على والده ، وقرأ الفقه والنحو وعلم الفرائض على جابر بن أحمد الحوراني وعبد اللطيف بن عبد القادر الزوائدي وبرع في ذلك ، وقرأ علم الميقات على مصطفى بن منصور الطبيب ، وأخذ الحديث عن محمد ابن عقيلة المكي حين قدومه إلى حلب ، وأخذ العربية والصرف والمعاني والبيان والأصول على عدة شيوخ.

وكان رأسا في كتابة الوثائق الشرعية بحيث إن شهود المحاكم عادوه لذلك وراموا منعه مرارا فلم يقدروا ، إلى أن قدم الفاضل الأديب حسين بن أحمد الشهير بالوهبي الرومي قاضيا لحلب ، فوصل إليه وثيقة إبراء بين ذميين بكتابة المترجم ، فلما رآها القاضي قال ما أبقى هذا الكاتب حيثية للمحكمة ، فوجد الكتّاب فرصة ووشوا به إلى القاضي وقالوا : إنه قد سد أبواب المحاكم وتعطل حالنا ، فأحضره القاضي وهدده بعد التوبيخ التام بقطع أصابعه إن كتب مرة أخرى وثيقة لأحد ، فحلف له على ذاك ثم قال للقاضي : يا سيدي أرجو من فضلكم أن تأمروا بتحرير تاريخ هذا التنبيه عليّ في السجل المحفوظ ، ربما تقفوا على وثيقة مقدمة فيصير معلومكم أنها إنما كتبت قبل أمركم بمعني ، وإلا فتذهب أصابعي ظلما ، فضحك القاضي وأعجبه وأمر له بالجلوس وهش له وبش وقال : يا شيخ ، أنت تحرم نفسك وتحرمنا المحصول ، فلو أخذت كثيرا كان أنفع لك ، ثم أسر إليه أن اضرب بكلامي الحائط واكتب ما شئت وخذ كثيرا ولا عليك من هؤلاء الجهلة يعني الكتّاب ، فخرج من عنده وامتنع من كتابة الوثائق ولم يغتر بكلام القاضي لأنه كان يتلون كالحرباء.

ثم إن صاحب الترجمة حفظ القرآن العظيم قبل وفاته بعامين أو ثلاثة ، وحفظ الشاطبية


على الأستاذ محمد بن مصطفى البصيري ، ثم شرح الشاطبية شرحا مختصرا أسماه «الإشارات العمرية في حل رموز الشاطبية» لكن أعجلته المنية عن إتمامه وتبييضه ، فبعد وفاته أتمه وبيضه المتقن عمر بن شاهين إمام الرضائية ، وهو شرح لطيف نافع للمبتدي ولاستحضار المنتهي.

وجرت للمترجم محنة عظيمة قبل وفاته وكانت سببا لمرضه الذي مات فيه ، وذلك أنه لما كان سنة سبع وأربعين بعد المائة صار غلاء وقلت الأقوات ، فتحركت العامة والرعاع يوما لينهبوا الخبز من الأفران ، فصادفوا خليل المداري دائرا على الأفران يقبض ثمن الطحين ، ورأوا معه دراهم كثيرة ، فطمعوا في أخذها ولحقوه ، فساق دابته فأدركوه عند جامع قسطل الحرامي ، فنزل عن الدابة ورام الدخول للجامع المزبور ليحتمي به ، فمنعه المؤذن والقيم وغيرهما ، وكان صاحب الترجمة أمرهم بمنعه خوفا أن يقتل في الجامع ، وأغلقوا باب الجامع في وجهه ، ففر نحو البرية فأدركوه هناك وقتلوه ولم يعلم له قاتل. وفي تلك الغضون قدم إلى حلب كافلا وحاكما الوزير أحمد بن برهان الشهير بالبولاد ، فاشتكى أولاد خليل المذكور على أهل المحلة عموما وعلى صاحب الترجمة والمؤذن والقيم خصوصا ، فاختفى صاحب الترجمة عند بعض أصحابه مدة والطلب بالتفحص الشديد عليه ، إلى أن قضيت القضية وأخذ المذكور جريمة كثيرة من أهل المحلة ، فظهر المترجم لكن أثر فيه الرعب بحيث إنه كان يمرض مدة ويبرأ مدة حتى دنا أجله.

وكانت وفاته في أوائل شعبان سنة ثمان وأربعين ومائة وألف ، ودفن بمقبرة جب النور رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٥١ ـ مصطفى بن محمد البتروني المتوفى سنة ١١٤٨

مصطفى بن محمد المعروف بابن بيري ، الحنفي الحلبي البتروني أخو عبد الرحمن الآتي.

وهذا هو الأديب الذي سقى رياض الطروس بمياه براعته ، فأنبت في الصحائف أزهار البلاغة والفصاحة واشتهر بالأدب النفيس.

قدم دمشق مرارا وخالط أربابها وأفاضلها واشتهر بينهم. وكان وحيد أقرانه في زمانه.

وترجمه السيد الأمين المحبي في ذيل نفحته وقال في وصفه : ماجد امتطى بأخمصه فرق


الفرقد ، واتخذ الصهلة والصهوة أنعم المنعم وأفعم المرقد ، رقي من الفضل أسمى المراقي ، وأترع دلوه من السودد إلى العراقي ، فخبره قد أخذ من الكمال بالمجامع ، ومخبره تفتر منه ثغور الأماني في وجوه المطامع ، وبيني وبين أبيه في قسطنطينية ، وأنا وإياه عقيدا وداد في بلهنية هنية ، ذمم لا ترفض ، وعصم لا تنقض ، فعهده نقش على صخر ، ووده نسب ملآن من فخر. وأما كماله فقد تجاوز حده منه ما تم له ، فأصابته عين فيما أمّ له ، فأخطأه ما أمله ، فلئن أصلته الأيام بنار نوائبها ، ونفرت عن يده الطولى بذوائبها ، فلولا السبك ما عرف للتبر صرف ، ولو لا النار ما عرف للعود عرف. وولده هذا أرجو له حظا وافيا ، وعمرا يكون ما بقي من الكدر صافيا ، فهو للمعالي ملء نواظرها ، وللأماني مطمح مناظرها ، وللدهر فيه عداة إنجازها مضمون ، وآخرها كأولاها من شوائب الزمان مأمون. وقد ذكرت له ما تستجليه بكرا ، وتصقل به روية وفكرا. انتهى مقاله فيه وفي أبيه.

ومن شعره قوله وكتبها إلى الشيخ سعد العمري الدمشقي وهي :

أفاتن بالألحاظ أهل الهوى فتكا

فقد صال في العشاق صار منها فتكا

وكف سهام اللحظ عن مهجتي فقد

هتكت حجاب الصبر عن صدرها هتكا

تركت بقلبي لاعجا وسلبتني

هجوعي فهلا تحسن السلب والتركا

هواك لقد أجرى دموعي صبابة

وصدّك نيران الجفا في الحشا أذكى

رويدك يا من بالهوى قد أذابني

وأنهك جسماني بتبريحه نهكا

ومذ همت لما شمت بارق ثغره

لدرّ غدا الياقوت في نظمه سلكا

أسر الهوى خوف الوشاة ومقلتي

بدر ثنايا الدمع تفضحه ضحكا

وفي هتك سر العاشقين شواهد

ولكن فيض الدمع أكثرهم هتكا

وكان مجال الصبر متسع الحمى

بحلبة صدري فانثنى ضيقا ضنكا

وشاركني كل الأنام بحبه

وتوحيده في القلب لا يقبل الشركا

وقد زان ورد الخدّ في روض حسنه

بنقطة خال قد حكى عرفه المسكا

من الترك يسطو في القلوب بلحظه

فلا تسألوا عن حال من يعشق التركا

رأى غرب جفني سافكا بمدامع

تباري الحيا المدرار فاستوقف النسكا

تملك قلبا من تجنيّه قد عفا

فما ضره بالوصل لو عمرّ الملكا


ولما جلالي وجهه بعد بعده

وطور اصطباري عن محاسنه دكا

سبكت بنار العتب فضة خده

فأذهب أكسير الحيا ذلك السبكا

فيا مالكا لم أدّخر عنه مهجتي

أجبني فدتك النفس لم سمتها الهلكا

وإني ألفت الذل فيك وطالما

بعزة نفسي كنت استصغر الملكا

متى تجل عني ظلمة الصد علها

بصبح وصال تستنير به وشكا

هناك ترى قد حي من الحظ عاليا

وسعدي في أفق العلا جاور الفلكا

همام غدا في ذروة المجد ضاربا

له خيم العلياء من رفع السمكا

ومد رواقا للكمالات فوقه

وصاغ لها من درّ أوصافه حبكا

تبوأ من بحبوحة الفضل رتبة

بغير سناها نيّر الفضل لن يزكى

إذا رمت تلقى المجد شخصا ممثلا

فشمه تراه لأمراء ولا شكا

تود الدراري عند بث صفاته

تطاولها فخرا وتلزمها سدكا

فتى * خطبته المكرمات لنفسها

وفي فض ختم المجد قد أحرز الصكا

فلم يحكه مذ شب في الفضل فاضل

ولكنه عن حسن آدابه استحكى

وضوع عرف الفضل منه بجلّق

فيا فضل ما أنمى ويا عرف ما أذكى

ونظم أشتات المعالي إصابة

بعامل فكر قد أبى الطعنة السلكا

وأصبح في روض البديع مغردا

بأفنان أفنان تعز بأن تحكى

من العمريين الأولى شاع ذكرهم

وقام مقام الفضل في الليلة الحلكا

فمن ذا يجاريه بفضل وسودد

وآدابه تلك التي بهرت تلكا

فما الروض غب القطر حركه الصبا

قدودا زهت من قضب باناته فركا

وسوط المثاني والمثالث قد غدا

برجع الصدى يستنطق العود والجنكا

وترجيع عتب من محب بدت له

بروق الرضا ممن يعاتب فاستشكى

ودادك في قلبي لقد ضاع عرفه

بمدحك لما جال في القلب واحتكا

فخذ بكر فكر غادة قد زففتها

تجر حياء ذيل تقصيرها منكا

ودم وابق واسلم ما بكى من شجونه

أخو لوعة في رسم دار أو استبكى

فأجابه بقوله :

__________________

(*) في الأصل : متى ، ولعل الصواب ما أثبتناه.


أتت والدراري الزهر تعترض الفلكا

وطوق الثريا كاد أن يقطع السلكا

أقول : وهي قصيدة طويلة ذكرها المرادي بتمامها اقتصرت على مطلعها خوف الإطالة وللمترجم :

زوّد الصب نظرة من لقائك

واشف مضنى الهوى برشف لمائك

وانقذ المغرم الذي شفه

الوجد بوصل يذوده عن قلائك

إنما الليل من فروعك و

الصبح (غدا) * يستمد من لألائك

وكذا المسك ما تضوع إلا

حين وافته نفحة من شذائك

أنت في الحل من دم سفكته

في مجال الغرام بيض ظبائك

يا فؤادا أمسى جريحا بسهمي

لحظه ثغره شفاء لدائك

كف يا لحظه عن الفتك فينا

إننا في السقام من نظرائك

وكذا يا قوامه الغصن من ذا

اطلع البدر مشرقا في ذرائك

ومنها :

يا غزالا إذا رنا سلب الأنفس

رفقا على حشا مضنائك

أترى ما نفى الكرى عن جفوني

وشجاني من الهوى برضائك

أعذار بدا بخدّيك هذا

أم لصيد الألباب أضحى شرائك

أم حروف الدلال قد خطها الحسن

على وجنتيك من إملائك

أم على البدر هالة قد تراءت

لعيون الورى بأفق سمائك

أم مشى النمل فوق نور محيا

حار فيه اللبيب من شعرائك

بل غدا في البها سلاسل مسك

فوق جمر تقودنا لهوائك

ويك يا قلب كم تعاني التصابي

أو بلّغت طائلا بمنائك

فابتدىء وامتدح سليل المعالي

إنني في الرشاد من نصحائك

كوكب الفضل أحمد ذو الأيادي

من له في سما الفخار أرائك

يا إمام الهدى إليك حثثنا

طرف فكر مناخه بفنائك

يا رفيع الذرا وسامي الأراكي

وعليّ المنار في عليائك

__________________

(*) إضافة من سلك الدرر ليست في الأصل.


فبهذا الوجود والعلم الفر

دوعين الكمال في فتوائك

فقت من قد تسربلوا برد المجد

وثوب الفخار من آبائك

أنت كالشمس رفعة وبهاء

وكبحر العباب في جدوائك

إن قسا وأكثما وإياسا

مثلا مضربا غدا لذكائك

صمت شهرا بالبر قد خولتنا

منن فيه من ندى نعمائك

وابق ما حنّ مغرم لمحب

وتغنى الحمام فوق الأرائك

تتمنى الغيد الحسان عقودا

نظمت باللآل من إنشائك

بلغوا في العلا السماك ولكن

دون ما نلت من علو ارتقائك

لك عزم حكى الحسام انتضاء

وبإيماضه حكى آرائك

سيدي جئت قاصرا حيث أمسى

كل فضل وسودد من حلائك

وأتى العيد مؤذنا بالتهاني

عائدا والسرور في أحيائك

رافلا في ثياب عز مقيم

ونعيم مخلد ببقائك

وله قوله :

بشذا عنبر خال

ضاع في جمرة خدك

وبما يقضى على الأنفس من صعدة قدك

وبما يسطو به طر

فك من مرهف حدك

وبما يستلب الألباب من ملعب بندك

وبما ضلت به الآراء من فاحم جعدك

وبما يجنيه كف الوهم من رمان نهدك

وبما أودع في فيك الشهي من درّ عقدك

لا تدعني والهوى يو

ردني مورد صدك

لا ولا تخلف لمجروح الهوى ميثاق عهدك

يا هلالا ته من الحسن ببرد دون بردك

أنا ما أوليت ودّا

مع أني عبد ودّك

كم أناديك بما يشتق من أحرف حمدك

عد بوصل واشف مضنى القلب في إنجاز وعدك


وقوله من قصيدة :

هاج لي برق الحمى ذكر الحمى

فاستهل الدمع من عيني دما

مرّ بي وهنا فأذكى لا عجا

في فؤادي حره قد أضرما

وانثنى يروي أحاديث الصبا

منجدا طورا وطورا متهما

آه من دمع لذكر المنحنى

كلما حركه الوجد همى

يا رعى الله عهودا بالحمى

نقض الدهر بها ما أبرما

وليال منحتنا صفوها

فانتهبنا العمر فيها حلما

ومعان ضرب الحسن على

عذبات البان منها خيما

ورعى دهرا بها قد مر لي

في رباها بالأغاني مغنما

حيث غصن العيش فيها يانع

وبجفن الدهر عن ذاك عما

وسميري شادن لو لاح للبد

ر اعتراه من محاق سقما

ظبي أنس صيغ من لطف ولو

مر بالوهم تشكى الألما

نقله من قوله سيف الدولة :

قد جرى من دمعه دمه

فإلى كم أنت تظلمه

ردّ عنه الطرف منك فقد

جرحته منه أسهمه

كيف يسطيع التجلد من

خطرات الوهم تؤلمه

عودا :

ساحرا المقلة مهضوم الحشا

سمهري القد معسول اللمى

ما تثنى من ثنيات اللوى

مائلا إلا أرانا العلما

ألف الهجر فلو يخطر بي

طيفه في سنة ما سلّما

كتب الحسن على وجنته

بفتيت المسك خطا أعجما

معشر اللوام إن جزت اللوى

فقفوا واستنطقوا تلك الدمى

ثم لوموا إن قدرتم بعدها

عاشقا فيها استلذ الألما

وقوله :

عجبا للعذول كيف لحاني

ورأى الشوق قائدا بعناني


وأتاني من عذله بفنون

في هوى ذلك الغزال الجاني

يا عذولا على الصبابة فيه

كف عذلي عن طرفه الوسنان

لا تلمني فقد علقت بظبي

سرقت قده غصون البان

هو نشوان من عصارة خديه ولا

من عصير بنت الدنان

يمزج الدل بالنفار ويفتر دلالا

عن مثل حب الجمان

يا لها سبحة تراءت لعيني

درر سلكها من المرجان

قد حمى خدّه بآيات موسى

فنمى السحر فيه في الأجفان

بدر تم في كل يوم تراه

في ازدياد والبدر في النقصان

رشأ ما بطرفه من سقام

ما بجسم المضنى الكئيب العاني

وقوله أيضا :

من عذيري في هوى رشأ

طرفه بالسحر مكتحل

ينثني كالغصن من هيف

بقوام زانه الميل

شادن يفتر عن برد

ناصع في ضمنه عسل

تاه عجبا في خمائله

فهو من خمر الصبا ثمل

ذلتي فيه كغرته

بكلانا يضرب المثل

ومن مقطعاته أيضا :

وكأنما جرم الكواكب قد بدت

للناظرين على غدير الماء

شرر يبدّده النسيم بمدّه

من فوق وجه ملاءة زرقاء

وله أيضا :

لهفي لماضي عيش تقضى

والعيش فيه حظ وريق

أيام في حينه التصابي

نقل وراحي غصن وريق

وله أيضا :

كلما رمت سلوة عن هواه

جاء ناه من حسنه مقبول

خط لام العذار مع ألف

القد يصدانني فكيف السبيل


وله في معذر :

قالوا تعذر فاقلع عنه قلت لهم

كفوا الملام فقد حلى محاسنه

فالبدر ليس له نور يضاء به

إلا إذا ما سواد الليل قارنه

وكان المترجم بدمشق في أحد قدماته إليها ، وكان ممن يصحبه ويرافقه الشيخ مصطفى العمري الدمشقي ، ففي أحد الأيام وقف في محلة القباقبية بالقرب من دار العمري المذكور هو وإياه ، فنظر إلى غلام هناك في حانوت يبيع التتن قده مائل ، وورد خدوده غير ذابل ، بحسن راق مجتلاه ، وفاق نور سنا محياه ، وله خال يجلس معه في الحانوت ، وأيضا على خده خال كفتيت المسك في صحيفة الياقوت ، فقال له المترجم : هل تبيعني شيئا من التتن؟ فقال : ولا بأس ، ووضع له شيئا من ذلك وفت عليه سحيق مسك كان في ورقة ، وقال له الغلام : هذا المسك من خالي ، وأراد به خاله الذي هو أخو والدته ، فعند ذلك طرب المترجم من هذه الموافقة والقضية ، وأنشد ناظما هذين البيتين من فكرته السنية ، فجرت فيهما التورية اللطيفة وهما قوله :

بحبة مسك قد حباني جؤذر

وأشجى فؤادا كان عن حبه خالي

وقال ألا لا تحسب المسك من دمي

لكوني غزالا إنما المسك من خالي

وله في وصف جواد سابق :

وطرف لجينيّ الإهاب تخاله

شهابا إذا ما انقض في موقف الزحف

يسابق برق الأفق حتى إذا رنا

يسابق في مضماره موقع الطرف

ومن معمياته قوله في أحمد :

قم يا نديمي نصطبح ساعة

على غدير ماؤه كالنضار

فقد أزاح الظبي تاج الطلا

ودارها صرفا كما الجلنار

وقوله في مليك :

أيا نسيما قد سرى موهنا

رفقا بصب خلفوه لقى

فناظري مذ لاح برق الحمى

غصن وقلبي ذاب مذ أبرقا

وقوله في درويش :


رب روض قد حللنا دوحه

وتمتعنا اغتباقا واصطباحا

طاف بالورد علينا شادن

زاد بالقلب غراما حين لاحا

وقوله في مسلم :

مذ بدا يثني قواما مائسا

قلت والعين بماء تذرف

بلماك العذب يا غصن النقا

جد على مضنى براه الأسف

وقوله في أغيد :

بدر تم ينثني من ميد

بقوام مائس يسبي العذارى

أقسمت ألحاظه النجل بأن

تخلع السقم على قلبي شعارا

وغير ذلك.

وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين ومائة وألف بقسطنطينية رحمه‌الله. ا ه.

وأورد له المرادي في ترجمة الشيخ إبراهيم المرادي هذه الأبيات :

بأبي مشرق الجيوب بوجه

هو كالبدر في دجى الأغلاس

قد جلته يد التلاقي علينا

مسفرا في ملابس الإيناس

وأمال العناق نحوي عطفا

يزدهي من قوامه المياس

فتجارت سوابقي من دموعي

قطّرتها صواعد الأنفاس

فتلقى بفاضل الردن دمعي

مذ رأى فيض عبرتي ذا انبجاس

فتأوهت حين أنكر حالي

قائلا وهو بانعطافي مواسي

إن دمع السرور غب التلاقي

هو أحلى من ماء حب الآس

وأورد له في ترجمة حامد العمادي مشطرا :

نظرت إليها فاستحلت بنظرة

محارم سرّ قد تضمنها القلب

وفاض بقلبي من شؤون مدامعي

دمي ودمي غال فأرخصه الحب

وغاليت في حبي لها ورأت دمي

بتقطير أنفاسي بوادره سكب

وحال عقيق الدمع درا وقد غدا

رخيصا فمن هذين داخلها العجب

وسيأتي له أبيات في ترجمة الشيخ عبد اللطيف الكوراني الآتية قريبا.


وترجمه الشيخ كمال الدين الغزي العامري الدمشقي في كتابه المسمى «بالمورد الأنسي في ترجمة النابلسي» فقال : مصطفى بن محمد الشافعي الحلبي الشهير بالبتروني ، الشيخ الأديب الشاعر الناظم الناثر الأوحد المتفوق أبو البهاء بهاء الدين. ولد بحلب ونشأ بها ، ثم رحل إلى دمشق وأخذ بها عن الأستاذ (النابلسي). قال الأستاذ في «ديوان المراسلات» : وقد أرسل لنا عام ثمان وعشرين ومائة وألف من حلب الشهباء مفخر الأفاضل مصطفى جلبي البتروني حفظه الله هذا الموشح البديع وهو قوله (١) :

هاج أشجان الجوى برق الحمى

مستطيرا في دياجي الغلس

شب في قلبي وأذكى ضرما

حين أورى زنده كالقبس

كلما لاح فقلبي يجب

باحتراق وخفوق واضطراب

دور

قد حكى قلب الشجي إذ ومضا

باضطراب وخفوق ووجيب

شاق مذ ضاء على ذاك الأضا

كل صب في الورى مضنى كئيب

فهو في الظلماء سيف منتضى

وجريح من بني الزنج سليب

أودع الأكباد نيران الغضا

ومضى خلوا من الوجد سليب

كان يحكي زينبا مبتسما

لو تحلى بالرضاب اللعس

أو حكى لون طراز رقما

بنضار في حواشي أطلس

دور

من لصب راح مسلوب الكرى

قلق الأحشاء ممنوع الرقاد

دمعه في الخد يحكي ما جرى

مستهل ليس يدري ما النفاد

ما درى هل ذلك الظبي درى

أن مضناه على شوك القتاد

ساهرا بات يراعي الأنجما

في دجى الليل البهيم الحندس

مغرم راح يقاسي الألما

من جفا جور الظباء الكنس

__________________

(١) هذا الموشح وجدناه في مجموعة عند صديقنا الشيخ عبد القادر الهلالي شيخ الزاوية الهلالية ، وفيه زيادات عما هنا وبعض مغايرة ، فاعتمدنا على ما في هذا المجموع. وفيها كثير من نظم المترجم.


دور

يا رعى الله عهودي باللوى

ومغاني الشعب من وادي العقيق

حيث روض الأنس معتل الهوى

وبه غصن المنى غض وريق

معهد قد عاهد القلب جوى

في رباه بالهوى عهدا وثيق

وسقته السحب منها ديما

قد همت بالعارض المنبجس

وشفا من حرها برح الظما

وجلته في مروط السندس

دور

يا أهيل الشعب كما هذا الجفا

لمشوق لم يجد عنكم بديل

أترى هل تسمحوا لي بالوفا

ونرى ظل اللقا منكم ظليل

إن جفني مذ نأيتم ما غفا

وغدا ليلي من الهجر طويل

فارحموا من صار فيكم مغرما

وبثوب السقم منكم قد كسي

والهوى جار به مذ حكما

وهو من لقياكم لم ييأس

دور

حل في قلبي منكم قمر

ظبي أنس تخذ القلب مقام

شادن في الثغر منه درر

نظمت فيه حباب في مدام

ذو لحاظ زانهن الحور

راش منها السحر في القلب سهام

عندمي الخد مسكي اللمى

جال في فيه شراب الأكؤس

لذ في تعذيبه سفك الدما

وحلا فيه ذهاب الأنفس

دور

كم ليال بت فيها قاطفا

زهر الوصل بكف القبل

لاثما طورا وطورا راشفا

شنبا مثل الرحيق السلسل

وبواو الصدغ يثني عاطفا

قده المزري بقد الأسل

فضممت الخصر منه مثلما

ضمت الأسهم أعطاف القسي

وغدا يحسدني بدر السما

حيث بدري قد أضا في مجلس

دور

ليل وصل قد تناهى قصرا

يعثر الفجر به في الشفق


وغدا فيه لساني حصرا

فتناجينا بوحي الحدق

وارتفشت الراح فيه خصرا

من رضاب مثل ذوب الورق

عطرت أنفاسه مني فما

وكسا طيب شذاه نفسي

فنظمت الدر مني كلما

في ثنا عبد الغني النابلسي

دور

نور مشكاة مصابيح الهوى

مظهر الأسرار فراج الكرب

من بأنوار هداه يقتدى

إن دجا الشك وعم المحتجب

أطول العالم في العلم يدا

وأمد الخلق في الفضل سبب

نفثت في الروع منه عندما

راهق التمييز روح القدس

وغدا عند التناهي علما

ساطع الأنوار للمقتبس

دور

بحر علم قد طمت أمواجه

لذوي الإخلاص من خاص وعام

وتناهى في العلا معراجه

حيث لم يبق إلى مرقى مقام

ولكل قد أضا منهاجه

فلهذا غص من فرط الزحام

ومن الفضل أرانا أنجما

في دجى الجهل البهيم الحندس

يهتدي السالك منها بدمي

تنجلي مثل الجوار الكنس

دور

يا له روض كمال ناضر

عطر الدنيا بزاكي عرفه

جمل الكون بفضل باهر

قصرت أفهامنا عن وصفه

ولكم أحيا لعلم داثر

بعقود نظمت من وصفه

وجلا عن طرق الحق عمى

بعدها الأفهام لم تلتبس

فهو محيي الدين في العصر وما

غيره يسمو لهذا النفس

دور

يا فريد العصر يا قطب العلا

يا منار الحق إن ضل الأثر

هاكها عذراء زينت بحلا

وأتت ترفل في برد الحبر


وشحت في مدحكم بين الملا

لعقود فصلتها بدرر

ترتجى ملتمسا والإنتما

للمعالي بغية الملتمس

دمتم الدهر ملاذا وحمى

ما عفا المحسن فيه عن مسي

ا ه.

وله ملغزا في إبرة القبلة كما وجدته في المجموع المتقدم :

وذاك عراك والسكون طباعها

بها يهتدي من ضل عن قصد وجهتي

إذا اضطربت ضلت وإن هدأت هدت

وحيث استدلتها النفوس اطمأنت

إذا ما بدا الأهواء أثنت عنانها

عن المقصد المهويّ ثنت برجعة

وله :

ولاح لنا قوس السحاب كأنه

وقد نثرت فوق الثرى درر القطر

هلال لجين فوقه نصف دارة

عقيق تردت بالزبرجد والتبر

وله :

لقد هطلتنا في الصبوح سحابة

موشحة الأكناف بالبارق الومض

وحاكى لنا قوس السما في انحنائه

علاقة صطل زرفنت كرة الأرض

وله من قصيدة :

لما تبدى وكاس الراح في يده

حسبته من جنا خديه قد رشحا

فمذ حساها وقد ألقت أشعتها

في عارضيه أرتنا قوسه قزحا

وله في بطيخة خضراء :

وبطيخة خضراء تجلو صدى الصدي

إذا فصلت حيّت بلون مورد

كياقوتة حمراء أودع ضمنها

فصوص بلخش في إناء زمرد

وله :

يا ردفه الرامي المناط بخصره

علقت نفسك في الهوى بمحال

ولأنت مع فرط الضنى يا خصره

أتقنت علم الجر للأثقال


وله في مطلع قصيدة طويلة عثرت عليها في ورقة قديمة الخط وفيها ٤٣ بيتا وهي لم تتم بعد يمدح بها ولي الدين الكواكبي حينما أمر بالإقامة بحلب مسليا له :

سرى وظلام الليل وحف الذوائب

وزورة طيف الحب إحدى المآرب

سرى طارقا يفلي الفيافي ودوننا

سباسب بيد أردفت بسباسب

طوى شقة البيداء والبرق هاتك

بمرهفه الماضي جيوب السحائب

وزار وقد غضت من الشهب أعين

وجفن غيور الحي نيط بحاجب

تجشم هول الليل يقطع برده

فما دله غير الأنين لجانبي

ومنها في أواخرها :

وما علموا أن التفرق باعث

لتضعيف أشواق القلوب السواغب

فكم حاضر والعين تقذى بقربه

وناء عن الأفكار ليس بغائب

فإن أسارير الرضى من جهاتها

ترف وإن وفته في شكل غاضب

وبالجملة فإن شعره كله غرر ولم أجده مجموعا ، ولو عني بجمعه لجاء ديوانا حافلا.

١٠٥٢ ـ عبد الرحمن بن محمد البيري البتروني المتوفى حول سنة ١١٥٠

عبد الرحمن بن محمد المعروف بالبيري البتروني ، الأديب البارع.

كان دمث الأخلاق طيب الأعراق ، له أدبية غضة وسجية خضلة. وأخوه الأديب الذي أنجبته الشهباء وتفوق فضلا وأدبا مصطفى البيري. وهذا خرج من حلب سنة أربعين ومائة وألف لضيق أحواله ، فلحق بالقارظين ، ولم يلق غير خفي حنين ، ولم يقف له أحد على مكان.

وكان له شعر بقي في مسوداته ولم يجمع ، فمما وصلني منه ما وجد بخطه وهو قوله :

تبدى وبدر التم من خجل مغضي

وماس كخوط البانة الرطب الغضّ

ودار بياقوت الخدود زمرد

من النبت زاه لاح في المغرس الفضي

وخالسني من مقلتيه بنظرة

فأحرم أجفاني بها لذة الغمض

وأنهك جسمي حبه ونفاره

فغادرني لا أستطيع إلى النهض


وإن شام لحظ العين بارق ثغره

يجود بغيث الدمع من ذلك الومض

إذا ما رنا نحوي بجارح لحظه

حسبت فؤادي نهب أجدل منقض

وكنا تقاضينا على دين قبلة

فأرهنته قلبي الشجيّ ولم يقض

وما طلني في دينه وهو موسر

وظلم ذوي الإيسار يمطل بالقرض

وقفت له عكس اسمه متذللا

وأفرشت في ممشاه خدي على الأرض

ولم أنس لما عاقرتني بكأسها

يد البين حتى كدت من سكرتي أقضي

مناشدتي إياه وقت وداعنا

وصيّب دمعي فوق خدي مرفض

أمثخن قلبي من ظبا لحظاته

جراحا أمضت بعضهن على بعض

حذارا على قلبي بحبك قد غدا

جذاذا وقد آلت مبانيه للنقض

وما أسفي أن ينعفي غير أنه

كناسك وافعل ما تشا فهو المرضي

متى تجل عني ظلمة الصد والجفا

بصبح وفاء من وصالك مبيض

أقول : ما ألطف قوله : وقفت له عكس اسمه ، فإن مراده بمعكوسه سائلا ، لأن المحبوب الذي تغزل فيه اسمه إلياس كما أخبرني بذلك بعض الأدباء الحلبيين.

ولم أتحقق وفاته رحمه‌الله.

ومن نظمه وهو ما وجدته في تاريخ عبد الله ميرو :

أأحبابنا كفوا صدودكم عنا

فقد بلغ الأعداء ما حاولوا منا

وعطفا على صب إذا جن ليله

وأضرم فيه الشوق من نحوكم جنا

وإن هبت الأرواح من نحو أرضكم

دري أيها مرت على ذلك المغنى

وإن خطرت ذكراكم في فؤاده

يحن لكم شوقا على أضلع تحنى

تبدلتمو عنا بصحبة غيرنا

فو الله عنكم لا بشيء تبدلنا

وأخفيتمو عنا الوصال وطيبه

وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا

فتحتم لقول العذل أذنا سميعة

تصيخ ولم نفتح لعذالكم أذنا

وأرضيتم من في جليلكم سخا

وأسخطتم من في قليلكم ضنا

وسالمتمو من أضمروا لكم الأذى

وحاربتمو من أظهروا لكم الحسنى

أغدر وفيكم ذمة هاشمية

أهجر وفيكم للوفاء تمكنا

فيا ليتنا لم نفتتن بهواكم

ويا ليتنا يوما بكم ما تعرفنا


وله من قصيدة :

ونبئت أن الجيد أصبح عاطلا

فدونك ما للعقد عوقب بالهجر

فإن تشفقي من وحشة الجيد للحلى

خذي أدمعي إن كنت غضبى على الدر

خذي فانظميه أو كليني لنظمه

لئلا يخل النظم بالغضب المغري

لأني أدرى منك في نظم دره

عقودا على تلك الترائب والنحر

خذي اللؤلؤ الرطب الذي لهجوا به

عشية يوم البين في ساعة النفر

فسمساره شوقي وجالبه الأسى

وتاجره جفني ولجته صدري

ولا تخبري حور الجنان فربما

تغايرن مما فاق للأنجم الزهر

وكتب إلى بعض أحبابه في صدر كتاب :

أبرق اليماني قد أهجت بي الكربا

وذكرتني من كنت آلفهم حبا

وحركت أشواقي إلى زمن مضى

وردت وأحبابي به موردا عذبا

وذكرتني ساعات أنس نهبتها

بسالفة الأيام من زمني نهبا

فيا أبرق الحنان هل منك منة

تدعها أمينا في ضمائره تخبا

حفيظ عليها عارف بامتنانها

ذكور لمسديها وإن قدمت حقبا

تحمل لذاك الخل مني رسالة

ونب بتحياتي إلى قمر الشهبا

وله والأصل للفرس :

ولما رنا نحوي بجارح لحظه

وروع قلبي هدبه بالتناضل

أصيب الحشى ما بين جيشي جفونه

ولم أتحقق من أصاب مقاتلي

ومذ أطبقا جيش الجفون بغضه

أضيع دمي هدرا وأبهم قاتلي

وله كما وجدته في بعض المجاميع مضمنا عجز بيت للمتنبي وقع تاريخا سنة ١١٢٠ :

عصر محا لذنوب الأعصر الأول

لما أظل بعام مخصب خضل

عام غدا باسما ثغر الربيع غدا

عن لؤلؤ النور غب العارض الهطل

قد قارنت غرة النوروز غرته

وحلت الشمس فيه دارة الحمل

وقد كسى الأرض من موشيّ سندسه

وراح يجلو عروس الروض في حلل


وقد غدا وارفا * ظل السرور به

وانجاب بالأمن ليل الخوف والوجل

حتى إذا ما صفت أوقاته دعة

وقيل تم على وفق من الأمل

أعاذه الله من عين الكمال لنا

بعلة هو منها بالجراد بلي

فأطلع الخصب جند الريح فيه على

طليعة المحل فارتدت على عجل

نرجو يصح إذا ما عل أرخه

(فربما صحت الأجسام بالعلل) ١١٢٠

١٠٥٣ ـ عبد اللطيف بن أحمد الكوراني المتوفى سنة ١١٥٠

السيد عبد اللطيف بن أحمد المعروف بالكوراني الحنفي الحلبي ، الشريف لأمه ، الفاضل الأديب البارع النبيه الكامل.

كان من محاسن الأدباء ، وظرفاء الأفاضل النبهاء ، ذو صون من الوقار مفضوض ، وطرف من الحياء مخفوض ، جميل الصفات والأفعال ، مسدد الآراء والأقوال.

ولد بحلب وبها نشأ ، وقرأ على أفاضلها كالمولى أبي السعود بن أحمد الكواكبي المفتي ، والعالم الشيخ حسن التفتازاني وغيرهما. وظهر أدبه ونظم ونثر ومهر بالعلم والفنون ، وكانت له اليد الطولى على أحبابه.

ووالده كان رئيس كتاب المحكمة الكبرى بحلب لدى قاضي قضاتها ، واستقام بذلك مدة سنين مديدة ، ثم تولى إفتاء الحنفية بحلب. وكان فاضلا فقيها. وولده المترجم أولا تعانى الكتابة في المحكمة ، ثم صار إيكنجي (ثاني) رئيس الكتاب أيضا ، فلم يتعاط أمور الكتابة في المحكمة ولزم الانزواء والعبادة.

وكان شاعرا ، وشعره حسن مطبوع. ومن شعره ما كتبه جوابا عن قصيدة أرسلها إليه الشيخ قاسم البكرجي الحلبي وهي قوله :

جاءت تميس بقد دونه اللدن

حوراء ما حل جفني بعدها الوسن

مهضومة الكشح عبل الردف ناعمة

ومن سنا وجنتيها الشمس ترتهن

حوراء تختلس الأرواح طلعتها

لها بكل فؤاد للورى سكن

__________________

(*) في الأصل : وارف.


ترمي لواحظها عن قوس حاجبها

نبلا تصون اللمى والقلب مفتتن

جلت عليّ كؤوسا من مراشفها

وبددت نظم در كان يكتمن

وسرت القلب إذ أبدت مسائلة

وخاطبتني فزال الهم والحزن

فهل حكت ظبية الوادي شمائلها

كلا ولا أطلعت صنعا ولا عدن

مليكة الحسن قد عمت محاسنها

كفضل مولاي ذاك الجهبذ اللسن

طود الحجا قاسم من قد سما وعلا

به على سائر الأزمان ذا الزمن

حلّال كل عويص في مباحثه

مهذب الفهم إلا أنه فطن

لا عيب فيه سوى باهي مكارمه

وحسن أخلاقه بالعلم يقترن

من رام شأو علاه ظل ينشدنا

(تجري الرياح بما لا تشتهي السفن)

يا روضة الأدب الغض النضير ويا

من نظمه درر لم يحصها ثمن

أتت إليّ عقود أنت صائغها

قد رصعتها يد ما شانها وهن

من كل معنى بديع راق مبتكر

عرائسا يعتري حسادها ضغن

وقد أجبت لعالي الأمر ممتثلا

لكنني في القوافي باقل لكن

خذها إليك تجر الذيل من خجل

وحشية في خلال الطرق تكتمن

ولا برحت مدى الأيام مبتكرا

معانيا دونها العقبان تمتهن

ودم بعز قرير العين مبتهجا

بفضلك الدهر والأحباب والوطن

ما لاح برق وما هب النسيم وما

سقى الرياض شآبيب الحيا الدجن

وقصيدة الشيخ البكرجي المذكور هي قوله :

أبعد سلمى يطيب العيش والوطن

وهل يعود لصب ذلك الزمن

والجفن يهمي بدمع من سما مقل

فسل محاجرها هل زارها الوسن

آها لأيام وصل لو تعاد لنا

بذلت روحي لها لو أنها الثمن

أيام كان حبيب فيه طوع يدي

والعيش صاف ونجم السعد مقترن

وبيننا ما إذا فهنا به وبدا

إلى العذول علاه الهم والحزن

فيا له زمنا كان الشباب به

في عنفوان الصبا والقلب مرتهن

بأهيف لو تبدى غصن قامته

تطاير القلب لا يبقى له شجن

وقوس حاجبه المعوج كم رشقت

من لحظه أسهما قامت به فتن


ما سحر هاروت سحر عند مقلته

كم غزلت وغزتنا وهي تكتمن

وثغره قد حوى درا بمبسمه

وعند رشف لماه الشهد يمتهن

وخاله عمه حسنا وزاد به

لولاه كافور جيد منه لا يصن

والخصر منه دقيق دق في نظري

كفهم مولاي ذاك العارف الفطن

عبد اللطيف الذي باللطف منجبل

عن درك أوصافه قد قصر اللسن

السيد الكامل ابن الكامل ابن ذوي

الأفضال والعلم ندب وصفه حسن

من آل كوران بيت المجد نسل تقى

فرع الكرام زكيّ الأصل مؤتمن

خدن السداد ومقدام الرشاد كذا

أبو المعالى الذي أثرى به الزمن

بالعلم والفضل سدتم في زمانكم

وتحسد العين في رؤياكم الأذن

قس بن ساعدة تلقاه باقل إذ

ينشي الرسائل في بحث ويمتحن

سحبان يسحب ذيل الفضل منه حيا

وأمرؤ القيس في أشعاره غبن

يا ماجدا قد حوى في المجد منزلة

ومن حوى رتبة لم يحوها فطن

وافاك ناظمها الغر الذي حكمت

عليه ضيق القوافي أنه الجبن

وإن تكن قصرت في مدح سيدها

لكن بمدحك منها طابت اللسن

شنف مسامعنا من در بحرك إذ

لا غرو فالدر في الأبحار مكتمن

واسلم ودم وابق ياغوث الزمان لنا

على مدى الدهر لا يزري بك الزمن

وللمترجم أيضا :

كأن ذا الثغر روض ورد

جناه من قبلنا خصيبا

ونحن جئنا لنجتنيه

فراعنا شوكه جديبا

وفي ذلك للشيخ قاسم البكرجي المذكور :

قد اجتلى الدهر أناس مضوا

من قبلنا كالبدر في تمّه

ثم اجتلاه بعده فتية

مثل هلال الشك في رسمه

ونحن لم نلق هلالا ولا

بدرا سوى الأكدار من غمه

وفي ذلك للأديب مصطفى بن محمد الحلبي المعروف بالبيري :

لقد وردوا من قبلنا ورد دهرنا

نميرا بأنفاس النسيم مبردا


وقد وردوا من بعدهم منه آجنا

يعاف مساغا حين بالحمأة ارتدى

ونحن وردناه سرابا بقيعة

يغرّك مرآى وهو لا ينقع الصدى

والأصل فيه قول المتنبي :

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرهم وأتيناه على هرم

وذيله الأديب السيد حسين بن كمال الدين الأبزر الحلي فقال :

وهم على كل حال أدركوا هرما

ونحن جئناه بعد الموت والعدم

ولصاحب الترجمة أشعار غير ذلك ما ذكرناه. وبالجملة فقد كان من الأدباء المشاهير أهل الكمال والعرض.

وكانت وفاته في سنة خمسين ومائة وألف ، ودفن بحلب في خارج باب المقام بمقابر الصالحين ، وسبب ذلك أنه طولب بدين كان عليه بعنف ، وكان يتهم بالثروة مع أنه صفر اليدين ، ولكن نفسه تأبى الشكوى والتظاهر بذلك ، ولما مات لم تف تركته بالدين ، فبيع منزله في ذلك رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وله مخمسا :

رعاك الله يا أبام سعدي

زمانا كان لي عزمي وجدي

وقد أعيا القوى مني وجهدي

وعهدي بالشباب وحسن قدي

حكى ألف ابن مقلة في الكتاب

وكان الجيش يخشى السطو مني

ويروي في الحروب الكر عني

وكم أرديت أبطالا بشني

وقد أصبحت منحنيا كأني

أفتش في التراب على شبابي

(انتهى من تاريخ ابي المواهب ميرو) وله هناك تخميسان آخران.

١٠٥٤ ـ الشيخ محمد البيلوني المتوفى سنة ١١٥٠

السيد محمد البيلوني الحنفي الحلبي ، العالم الفقيه الفاضل الأديب الأريب.


كان له إطلاع تام ذا مباحثة دقيقة * ، يشغل المجلس بمذاكرة المسائل العلمية ، ويغلب عليه الفقه لأنه كان به متبحرا. وكان مهابا وقورا محتشما. تولى إفتاء أنطاكية ، ثم ولاه شيخ الإسلام إفتاء القدس مع رتبة السليمانية المتعارفة بين الموالي ، وأحبه أهل بيت المقدس.

وكانت وفاته سنة خمسين ومائة وألف ، ودفن بتربة باب الرحمة خارج باب الأسباط رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٥٥ ـ نعمة الفتّال المتوفى بعد سنة ١١٥٠

نعمة الفتّال الشافعي الحلبي ، الشيخ الفاضل البحاث.

ولد بحلب ونشأ بها ، واشتغل بطلب العلم على من بها من الأفاضل ، وأخذ عن أبي السعود الكواكبي وغيره ، واجتهد في تحصيل الكمال ، إلى أن بلغ المحل العالي بين كل الرجال ، وكانت له اليد الطولى في معرفة العلوم العقلية والنقلية.

ودرس بجامع حلب واستفاد وأفاد ، وانتفع به جملة من الطلبة من أهل حلب والواردين عليها.

وكانت وفاته بها بعد الخمسين ومائة وألف عن ثمانين سنة تقريبا رحمه‌الله تعالى.

١٠٥٦ ـ الشيخ صالح المواهبي المتوفى سنة ١١٥٢

ترجمه العلامة الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته المسمى «بمنار الإسعاد في طريق الأسناد» فقال :

ومنهم (أي من مشايخه) شيخنا وبركتنا الإمام العالم العامل ، والهمام الجهبذ الكامل ، عمدة الأولياء والصالحين ، وقدوة النجباء العارفين ، صاحب الأسرار الظاهرة ، والكرامات المشهورة الباهرة ، أستاذ الطريقة القادرية ، وخادم السجادة النبوية ، العالم الرباني ، والعارف الصمداني ، حاوي صفات الكمال الإنساني ، والمعنى اللطيف الروحاني ، سيدنا وأستاذنا ، وعسدتنا وملاذنا ، الشيخ المحدث المتقن الرّحلة البركة

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : وكان ذا مباحثة دقيقة.


المرشد المسلك ، المرحوم المبرور الشيخ صالح المواهبي الحنفي الحلبي شيخ الطريقة القادرية في مدينة حلب المحمية ، رحمه‌الله تعالى رحمة واسعة ، وأوكف عليه سحب جوده الهامعة ، آمين. حضرته رحمه‌الله تعالى في دروسه ووعظه ، وسمعت الحديث النبوي من لفظه ، وأتحفني بدعوات سنية ، وأجازني إجازة عامة بهية ، بجميع ما تجوز له وعنه روايته ، وما تصح إليه نسبته ودرايته ، بحق روايته لذلك عن مشايخه الأعلام وأئمة الإسلام ، منهم قطب الوقت والأوان ، ومعدن السلوك والعرفان ، العارف بربه والفائز منه بنيل الأماني ، سيدي الشيخ قاسم الخاني. ومنهم العلم الكبير ، والعمدة الشهير ، المتخلق بنسبته إليه ، والمعول في الاستفادة عليه ، مأمل كل طالب ، ومنهل كل راغب ، سيدي السيد أحمد أبو المواهب العرضي. ومنهم العالم العلامة ، والبحر الفهامة ، الجامع لأشتات العلوم من عقلي ونقلي ، الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد النخلي ، ومنهم الشيخ الإمام العالم الرحلة البركة المعمر الشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي. ومنهم العالم العلامة ، والرحلة الفهامة ، الشيخ محمد الوليد المكي. ومنهم الشيخ العالم العامل ، والحجة الناسك الكامل ، الشيخ محمد بن محمد الهريري. ومنهم قدوة الأولياء والعارفين ، وزبدة الصلحاء الكاملين ، المنلا إلياس بن إبراهيم الكوراني وغيرهم ممن يطول ذكرهم ، وجميع أسانيدهم ومروياتهم محررة في مشايخهم وأثباتهم تعلم من الوقوف عليها.

وقد أخذ رحمه‌الله تعالى صحيح الإمام البخاري مسلسلا بمشايخ الإسلام بروايته عن شيخه القطب العلامة الشيخ قاسم الخاني ، عن شيخ الإسلام أبي الوفا العرضي المتوفى في اليوم الرابع من المحرم سنة إحدى وسبعين وألف عن ثمان وسبعين سنة ، عن والده شيخ الإسلام الشيخ عمر العرضي شارح «الشفا» ، عن والده شيخ الإسلام الشيخ عبد الوهاب العرضي بركة الديار الحلبية ، عن شيخ الإسلام القاضي زكريا شارح «المنهج» و «الروض» ، عن شيخ الإسلام وعمدة الأنام الحافظ ابن حجر شارح البخاري ، عن شيخ الإسلام علي بن محمد الدمشقي ، عن شيخ الإسلام سليمان بن حمزة ، عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الهادي القدسي ، عن شيخ الإسلام الحافظ أبي موسى بن أبي بكر المديني ، عن شيخ الإسلام أبي علي الحسن بن الحداد ، عن شيخ الإسلام أبي نعيم صاحب «الحلية» ، عن عبد الأول السجزي ، عن شيخ الإسلام عبد الرحمن بن محمد الداودي ، عن شيخ الإسلام أبي محمد عبد الله السرخسي ، عن شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي رحمهم‌الله تعالى ونفعنا بهم آمين.


وكان رحمه‌الله تعالى من العلماء العاملين ، والصلحاء العارفين ، عليه لوائح السعادة لائحة ، ونوافح عرف سيرته بنشر سريرته فائحة ، حسن السمت ، طويل الصمت ، يرشد الناس بحسن حاله ، ويذكرهم ويعلمهم بلطف مقاله ، مثابرا على إفادة العلم وتعليمه ، ودرس الحديث وتفهيمه ، مع ملازمة الورع والزهد والقنوع ، والاشتغال بإصلاح أحوال إخوانه وإرشادهم بالرفق والخضوع ، حتى يحسبه الجاهل مع كثرة تعففه غنيا ، ويظنه الغافل من شدة تلطفه غبيا.

وكان بيني وبينه محبة شديدة ، ومودة أكيدة ، وكثيرا ما يتفقدني بالزيارة في أوقات عديدة مع العجز والكبر ، مع أني كنت بذلك أحق وأجدر ، وما ذلك إلا لكرم خلقه اللطيف ، ورفعة قدره المنيف. وقد طلبت منه رحمه‌الله تعالى أن ينظمني في سلك حزبه ، لأفوز بخدمته وقربه ، فبايعني ولله الحمد ، ولقنني الذكر والورد ، بعد أن كان قد امتنع من ذلك ، هاضما لنفسه الزكية قائلا لست هنالك. وكنت ألازم حضور مجلس الذكر عنده في المدرسة الحلوية ، وفي زاويته المسماة بالصالحية (١). وكان يحصل من لذاذة الذكر وسماعه والشوق والطرب للأخوان ، ما لم يحصل في غير مجلسه كما هو مشهور إلى الآن ، فرحمه‌الله تعالى برحمته ، وأسكنه أعلى فراديس جنته ، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وكان انتقاله بالوفاة إلى رحمة الله تعالى سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف. ا ه.

١٠٥٧ ـ حسن السرميني المتوفى سنة ١١٥٣

حسن السرميني المنشأ الحلبي الموطن الشافعي ، المدرس بالجامع الأموي في حلب ، الشيخ العالم الكبير والفاضل الشهير ، المحدث النبيه الفرضي الفقيه.

أخذ عن الأستاذ العارف الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي ، والشيخ أبي المواهب الدمشقي ، والشيخ محمد الوليدي المكي أجازه سنة حجه وذلك في سنة تسع وعشرين ومائة وألف ثم عاد إلى حلب وانتفع به خلق كثير.

وكانت وفاته في سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف رحمه‌الله.

__________________

(١) نقلت من خط أبي المواهب ميرو في ترجمة حسين بن الزيات أن هذه الزاوية تعرف قديما بزاوية البهشتية.


١٠٥٨ ـ مصطفى بن يوسف الخوجكي المتوفى سنة ١١٥٣

مصطفى بن يوسف بن عبد اللطيف بن حسين بن مسلم مير بن فتح الله بن محمد الخوجكي الكيلاني ، الشافعي الخلوتي الحلبي ، الشيخ المعمر الخيّر المسلّك الصالح.

ولد في حلب في حدود سنة خمس وأربعين وألف ، ورحل مع والده صغير السن إلى دمشق ، وقدم إليها وأخذ طريق الخلوتية عن الأستاذ الكبير الشيخ أيوب الخلوتي الدمشقي. ثم توجه إلى بيت المقدس والحج وجاور بمكة ، وعاد لمصر واستقام في هذه السياحة مع والده تسع سنين ، ولقي الأفاضل والعارفين وأخذ عنهم وشملته بركاتهم كالأستاذ الشيخ محمد بن محمد البخشي الحلبي وغيره.

ثم قدم حلب واجتمع بالولي المشهور الشيخ أبي بكر الخريزاتي صاحب المزار المشهور بمحلة ساحة بزه وقريبا من عرصة الفراني ، وقرأ القرآن على العارف الشيخ إسماعيل دره ، وقرأ بعض المقدمات الفقهية والعربية على أفاضل بلدته ، واستقام في زاويتهم المعروفة بزاوية النسيمي للإرشاد وتلاوة الأوراد والاشتغال بالخلوة والتسليك.

ورحل إلى الروم وبغداد وإيران والهند وزار سيدنا آدم عليه‌السلام. وله سياحة طويلة عجيبة ذكرها في بهجته (١). وتزوج باثنتين وعشرين زوجة ببلدته وسياحته ، ورزق عدة بنين ماتوا في حياته ما عدا ذكرين وبنتا واحدة ، أحد الولدين السيد محمد أبو الوفا توفي بعد والده بعشر سنين ، والثاني خليفته الكامل الشيخ السيد محمد أبو الصفا خلفه ليلة وفاته.

وكانت وفاة المترجم محموما في يوم الخميس السابع والعشرين من رجب سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف عن مائة وثماني سنين ، ولم ينقطع عن الزاوية المذكورة إلا ليلة وفاته رحمه‌الله تعالى.

١٠٥٩ ـ يوسف بن حسين الحسيني النقيب المتوفى سنة ١١٥٣

يوسف النقيب الحلبي بن حسين بن درويش ، السيد الشريف الحسيني الحنفي

__________________

(١) أقول : إن رحلته تعرف «ببهجة النسيمي» يوجد منها في مكاتب حلب عدة نسخ وعندي منها نسخة ، وفيها غرائب لا يسعنا فيما ذكره فيها إلا التسليم.


الدمشقي ، نزيل حلب ، المفتي والنقيب بها ، الإمام العالم العلامة الفقيه الأديب الفاضل المتفوق المحدث البارع المسند الناظم الناثر أبو المحاسن جمال الدين.

ولد بدمشق سنة ثلاث وسبعين وألف ، ونشأ بها ، وقرأ على جماعة من أفاضلها وأخذ عنهم كالشهاب أحمد بن محمد الصفدي إمام جامع درويش باشا ، والشيخ عبد القادر العمري ، وأبي المواهب الحنبلي ، وإبراهيم بن منصور الفتال ، وعبد الرحيم الكابلي ، والشيخ إسماعيل الحائك ، والأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي ، والشهاب أحمد المهمنداري ، والشيخ عثمان من محمود القطان ، وعبد الجليل العمري وغيرهم.

وارتحل للروم وإلى حلب مرات وأخذ بها عن الشيخ موسى الرامحمداني ، وعن زين الدين بن عبد اللطيف أمين الفتوى وغيرهما.

وترجمه الأمين المحبي في ذيل نفحته فقال في وصفه : نبيه فاق من مهده ، وأعهده يتزايد نبلا وأنا الآن على عهده ، فحبي جميعه على حسن أدبه مقصور ، وبقلبي منه شغل شاغل عن قاصرات القصور ، وهو أخ جمعت فيه المروءة والنخوة ، وأراه أحسن من آخيت ولا بدع فيوسف أحسن الأخوة ، وقد مضت لي معه أوقات وقيت كل صرف ، وكأنها خطوة طيف أو لمحة طرف ، وقد أمتعني من بنات فكره ، بذخائر توجب في الطروس تخليد ذكره ، أتيتك منها بما يقضي له بلطف البداهة ، ويحكم له بالبراعة المتمكنة من مفاصل النباهة ، فمن ذلك قوله في العذار :

كأنما نار خد زان رونقه

لا ما عذار جني قد جنى حيني

لاحت فآنسها في ليل عارضه

موسى فخط بماء المسك خطين

وحين ظن أبو العباس مبسمه

ماء الحياة أتى يسعى بلامين

وقوله مخاطبا بعض الموالي في مجلسه :

بأبي من ضمنا مجلسه

فاجتنينا منه أنواع التحف

فاضل صيغ من التوفيق إذ

صيغت الناس جميعا من نطف

وقوله في تشيبه الجلّنار :

باكر لروضة أنس

من حولها الماء يجري


والجلّنار تبدّى

على معاصم خضر

كأكؤس من عقيق

فيها قراضة تبر

وقوله :

وحديقة ينساب فيها جدول

من حوله تختال غزلان النقا

من كل أهيف إن رمتك لحاظه

بسهامها إياك تطمع في البقا

ومعذر ما أظلمت في وجهه

شعرات ذاك الصدغ إلا أشرقا

خالسته نظرا فقطب مغصبا

وغدا يرنح منه عطفا مورقا

فكأن نبت عذاره في خده

شحرور ورد في الرياض إذا رقا *

وقوله في فوّارة :

لله ما أبصرت فوارة

أعيذها من نظرة صائبه

كأنها في الروض لما جرت

سبيكة من فضة ذائبه

وقوله في نبوية مطلعها :

جاء فصل الربيع والصيف داني

حيث بتنا من الجفا في أمان

في رياض إذا بكى الغيث فيها

قهقهت بالمدام منه القناني

وثغور الأقاح تبسم عجبا

حين يشدو في الروض عزف القيان

حيث سجع الطيور سجع خطيب

قد رقى معلنا على الأغصان

وكأن الغصون قامات غيد

حين ماست حور لدى الولدان

فأدرها في جامد من لجين

حيث أضحت كذائب العقيان

من يدي شادن أغنّ ربيب

ناعس الطرف فاتر الأجفان

ناعم الخد أهيف القد أحوى

ذي قوام كأنه غصن بان

نرجسيّ اللحاظ ورديّ خد

جوهريّ الألفاظ ذي تبيان

فتمتع من حسنه بمعان

مطربات تنسيك جور الزمان

وتأمل إلى صحيفة خديه

بعين الإنصاف والعرفان

منها :

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : زقا.


يا شفيع الأنام كن لي شفيعا

يوم نصب الصراط والميزان

إنني أشتكي إليك ذنوبا

مثقلات وحملها قد دهاني

من لمثلي عاص كثير الخطايا

زاده الفقر عاجز متوان

فعليك الصلاة في كل وقت

مع سلام يفوق عرف الجنان

وقوله من قصيدة :

لي فؤاد في الحب أمسى مشوقا

لم يزل في هوى الحسان ملوقا

خافق تستفزه لحظات

مزقته بسحرها تمزيقا

راشقات من هدبها بسهام

صائبات لم تخط قلبا حريقا

لست أنسى حين الوداع عناء

حيث جد الرحيل والركب سيقا

إذ بكى للفراق خلّي فأضحى

ناظر اللحظ بالدموع غريقا

ورمى لؤلؤا على الخد رطبا

فاستحال الياقوت منه عقيقا

وانثنى للعناق يعطف قدا

هل رأيتم غصن الرياض عنيقا

رشق القلب وانثنى بقوام

لاعد منا ذاك القوام الرشيقا

بأبي ثم بي غزالا ربيبا

فوّق اللحظ للحشا تفويقا

ماس غصنا لدنا وهز قواما

وتبدى ظبيا وأسكر ريقا

ورنا ساحرا وصال مليكا

وحوى مبسما يقل بريقا

يا لقومي ويا لقومي أما

آن صريع اللحاظ أن يستفيقا

صاح شمر عن ساعد الجد واسمع

وأدر من كؤوس نصحي رحيقا

واطّرح ذكر زينب ورباب

واخلعن للوقار ثوبا خليقا

لا تؤمل من جاهل بك نفعا

تلق ضد الذي تروم حقيقا

قد خبرنا الجهول فيما علمنا

فرأيناه قد أضل الطريقا

رام نفعا فضر من غير قصد

ومن البر ما يكون عقوقا

وله من أخرى مستهلها :

أقضيب بان حركته شمول

أم قدك المعشوق راح يميل

وعقيق روض قد علاه سوسن

أم خدك المتورد المصقول


ودخان ند قد أحاط بوجنة

أم ذاك مسك في الخدود يسيل

وشبا سيوف أم عيون جآذر

رمقت تحاول فتكنا وتصول

وعبير طيب فاح ينفح طيبه

أم ثغرك المتبلج المعسول

وسقيط طل أم لآل نظّمت

فتخاله عرق الجبين يجول

وعقارب بزبانها تومي لنا

أم ذاك خال الخدّ أم تخييل

وظلام ليل ما ترى أم طرة

هل لي إلى إدراك ذاك سبيل

قد خلت مذ ليل الغدائر قد بدا

أن ليس للصبح المنير وصول

لكن بلال الخال أشعر أنه

ضوء الجبين على الصباح دليل

فانهض إلى حسو * الكؤوس أخا الهوى

في روض أنس والنسيم عليل

وافتض بكر مدامة واستجلها

فلها إذا افتضت دم مطلول

كمذاب ياقوت بجامد فضة

في لحظ ساقيها الصبيح ذبول

حمرا إذا ما قام يترع كأسها

غنج اللواحظ طرفه مكحول

خلت المدام ووجهه لما بدا

شمسا وبدرا ما اعتراه أفول

وظننت كأس الراح في يده غدا

كهلال يوم الشك وهو ضئيل

لم أدر هل خضبت بأحمر خده

أم خده من كأسها مطلول

فاشربهما صرفا فذلك شربه

رشف وهذا شربه التقبيل

واغنم فدتك الروح أيام الصبا

واللهو إن زمانهن قليل

وتلاف أيام الربيع وورده

فعليه من در الندى إكليل

فالروض معطار الأزاهر يانع

والغصن يرقص والهزار يقول

والدف يعزف والنسيم مشبب

والعود يشدو والسحاب هطول

وله غير ذلك من الأشعار والنظام والنثار.

وألف ثبتا حافلا جامعا (١) لشيوخه وإجازاته ، وصار له جاه واشتهار ودولة.

__________________

(*) في الأصل : حثو.

(١) رأيته بخطه ألفه كما قال في آخره برسم عمدة المدرسين الكرام الشيخ محمد أفندي أبي اليمن البيلوني العمري الحلبي ، وقال في أوله : وإن ممن لاحظته عين العناية ، وسبقت له الهداية ، فسابق في ميدان العلوم ، على خيل الذكاء والفهوم ، المتصل نسبه الشريف إلى محدث حلب الشهباء ، شيخ شيوخها البدر شيخ الإسلام محمود البيلوني ،


وصار نقيبا (١) ومفتيا بحلب ، ودرس بالحجازية والأسدية بها. واشتهر بالفضل والذكاء والنبل ، وأخذ عنه جماعة من الفضلاء.

وكانت وفاته بحلب سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف ودفن بها عن ثمانين سنة رحمه‌الله ا ه.

وترجمه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته المسمى «منار الإسعاد في طرق الأسناد» قال : ومن مشايخي شيخ الإسلام ومفتي الأنام العالم العلامة ، والعمدة الثبت الفهامة ، ذو الحسب الباهر ، والنسب الزاهر ، قدوة المحدثين ، وعمدة المفسرين ، سيدي السيد يوسف أفندي بن السيد حسين الحسيني نسبا الدمشقي مولدا الحلبي موطنا ، مفتي السادة الحنفية ، والنقيب بمدينة حلب المحمية. قرأت عليه حصة وافرة من شرح الأربعين النووية لابن حجر المكي ، وحضرت دروسه في تفسير القاضي البيضاوي في الخسروية ، ولازمت دروسه وصحبته ومذاكرته نحو تسع سنين ، وأجازني بجميع ما يجوز له وعنه روايته (إلى أن قال) :

وكان رحمه‌الله حين تسطير هذه السطور نقيب الأشراف بحلب ، وعزل بعد ذلك عن النقابة مدة ، ثم ردت إليه في سنة خمس وأربعين ومائة وألف ، ثم جمع له بينها وبين الفتوى في سنة سبع وأربعين فصار نقيبا ومفتيا ، ومع ذلك كان كثير التواضع لأهل العلم ، واسع الصدر كثير الحلم ، حسن الأخلاق والمعاشرة ، لطيف المذاكرة والمسامرة ، مع التقوى والزهد والصلاح. وناف سنه على الثمانين وهو ملازم للدروس والعلم ، وانتفع به خلق كثير. وكانت وفاته بحلب ليلة الأحد الثامن والعشرين من شهر جمادى الآخرة من شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف. وذكر هنا أبياتا رثاه بها.

١٠٦٠ ـ حسين بن علي الوفائي المتوفى سنة ١١٥٦

حسين بن علي بن محمد الوفائي ، شيخ سجادة الوفائية بزاوية الشيخ أبي بكر بن أبي

__________________

ومنه إلى القطب سيدي عقيل المنبجي ، ومنه إلى ثاني الخلفاء عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وهو السيد الشريف السيد محمد أبو اليمن أفندي بن السيد عبد القادر أفندي بن الشيخ شهاب الدين البيلوني. ثم ذكر إجازاته له بمروياته ومسموعاته وذكر مشايخه الذين أخذ عنهم ومشايخ مشايخه. وقد اقتطفنا منه بعض تراجم تقدمت معزوة له في محالها.

(١) تولى نقابة الأشراف بحلب سنة ١١٢٥ كما ذكره في ثبته.


الوفا ظاهر حلب المحمية ، الحنفي الحلبي المولد هو وآباؤه ، الفاضل الكامل الأديب المرشد.

ولد في سنة اثنتي عشرة ومائة وألف ، وقرأ القرآن على الشيخ محمد الشهير بقدره ، وأخذ العلوم أصولا وفروعا عن العلامة السيد يوسف الدمشقي مفتي الديار الحلبية وعالمها واختص به ، وعن العالم الشيخ قاسم النجار وغيرهما. وجلس على السجادة في الزاوية المذكورة بعد وفاة والده في سنة خمس وثلاثين ومائة وألف.

وكان شاعرا له ديوان شعر كله توسل ومدح في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والأولياء ، خصوصا في شيخه وأستاذه الولي الكامل الشيخ أبي بكر الوفائي قدس‌سره.

ومن شعره قوله من قصيدة نبوية مطلعها :

يا شفيع الورى وبحر العطايا

وملاذ الضعيف والملهوف

ورسولا أتى إلى الخلق طرا

رحمة عم فيضها بالصنوف

يا نبيا به هدينا إلى

الحق بهدي في عزمه الموصوف

ورؤفا بالمؤمنين رحيما

يوم نبلى بكل هول مخوف

حزت خلقا ونلت خلقا زكيا

وصفاتا تليق بالموصوف

إنني جئت نحو بابك أبغي

كشف ضر أضرني بالوقوف

فأقلني منه ومن كل كل

حل جسمي بجيشه الموصوف

أنت أنت الملاذ يا أشرف الرسل

وكنز الشتيت والمضعوف

منها :

فعليك الصلاة تترى دواما

ماتحلت صحائف بالحروف

وعلى الآل كل حين وآن

وعلى الصحب معدن المعروف

وله قبل وفاته بأيام قليلة قوله :

إذا عشت عمر النسر في ظل راحة

أحافظ لذاتي بها وأصون

فلا بدلي يوما بأن أسكن الثرى

وأعلم حال الموت كيف يكون

وله غير ذلك.


وكانت وفاته في الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة ست وخمسين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : رأيت ديوانه في المكتبة المولوية بحلب.

١٠٦١ ـ الشيخ محمد فتيان الأنصاري المتوفى سنة ١١٥٧

ترجمه السيد حسن الكواكبي في كتابه «النفائح واللوائح» فقال : هو العالم الخاشع ، والناسك الخاضع ، محمد فتيان الأنصاري ، المنقطع إلى الباري ، فتى الفتيان ، وصفوة الشيوخ والشبان ، المراقب للرحمن ، المتغني بالقرآن. كان ممن آثر لله العمل ، وصغر في نفسه وخمل ، وقد قيل : التصوف الخضوع والخمول ، والقنوع والذبول. وكان غارقا في مراقبة الحقائق ، وصادقا في معاملة الخالق.

ولد بحلب ونشأ بها وتفقه ، وتبرأ عن رعونة النفوس وتنزه ، وأخذ من العلم النافع ، ما حصل به الخير الواسع ، وأفاد الطالبين الوعاة ، وأجدى الراغبين العفاة ، ولم يزل مقبلا على مولاه ، مصلحا داري آخرته ودنياه ، معالجا أمراض القلب المردية ، مجانبا ضعيف الذنوب المعدية ، حتى توفاه الله تعالى طاهر القلب جميل الشكل سنة ١١٥٧. ا ه.

١٠٦٢ ـ حسب الله بن منصور البابي المتوفى سنة ١١٥٩

حسب الله بن منصور ، الحنفي البابي الأصل الحلبي ، كاتب الفتوى.

كان محققا مشهورا بالدراية والديانة والتقوى. قرأ على علماء عصره وجهابذة مصره ، وتنبل على يد المولى أبي السعود الكواكبي.

وكان لطيفا ظريفا دينا عفيفا نحيف الجسم صبيح الوجه له فضل وأدب. أخبر عنه من يوثق به أنه قال : كنت سئلت سؤالا بعد وفاة أستاذي أبي السعود الكواكبي والسائل في غاية الاضطرار إلى الجواب ، فاستمهلته أياما فلم أظفر بالجواب ، والسائل في غاية الإلحاح ، فبت ليلة في كرب عظيم لذلك ، فرأيت في النوم العلامة محمد الكواكبي جد أبي السعود الكواكبي وهو يقول : نسيت المسألة في كتب الفتوى التي طالعتها ، بل هي


في الكتاب الفلاني ذكرها استطرادا في باب كذا ، فانتبهت من النوم مسرورا لرؤيته وتناولت الكتاب الذي ذكره في النوم ، فإذا المسألة بعينها في الباب الذي عيّنه. وقد كان المولى أبو السعود الكواكبي يقول قبل أن أتولى خدمة الفتوى : رأيت الجد يعني العلامة محمد الكواكبي المذكور في النوم ومعه صاحب الترجمة حسب الله وهو يقول لي : إذا توليت الفتوى فاجعل كاتبك هذا ، وأشار إلى صاحب الترجمة ، فما مضى للرؤيا نحو من عشرة أيام إلا وأتى لنا الإذن بالفتوى من غير طلب.

وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة تسع وخمسين ومائة وألف وقد ناهز الثمانين ، ودفن بمقابر الصالحين غربي مقام خليل الرحمن عليه‌السلام بينهما طريق. والبابي نسبة إلى الباب. ا ه.

١٠٦٣ ـ يوسف بن عبد الله العطّار المتوفى سنة ١١٦٠

يوسف بن عبد الله الحلبي الشافعي الشهير بالعطّار ، الشيخ الفاضل الصالح الأوحد الفقيه.

كان خطيبا بجامع البهرمية بحلب ، فقيها ماهرا بالعربية والحديث ، وأحسن ما عنده الفقه والفرائض.

أخذ عن العلامة إبراهيم البخشي ومصطفى الحفسر جاوي والشيخ جابر والعلامة محمد الكردي الزعفراني وأبي السعود الكواكبي وغيرهم.

وكان وضيء الوجه نير الشيبة. وكان قد ترك العطارة ولازم النسخ مع الإفادة والاستفادة.

وكان مولده سنة أربع وتسعين وألف ، وتوفي سنة ستين ومائة وألف بتقديم السين ، ودفن بالقرب من قبر الشيخ مصطفى اللطيفي رحمه‌الله تعالى.

١٠٦٤ ـ يس بن طه زاده المتوفى حول سنة ١١٦٠

يس بن مصطفى الشهير بطه زاده الحلبي الحنفي ، الشيخ العالم الفاضل البارع الأوحد.


أخذ عن الشيخ أسد الدين الشعيفي والشيخ سليمان النحوي والشيخ أحمد الشراباتي الحلبيين ، وعن السيد أحمد بن السيد عبد القادر الرفاعي المكي وغيرهم. وبرع وفضل ودرس وأفاد. ذكره الشيخ عبد الكريم الشراباتي في ثبته من جملة شيوخه وأثنى عليه وكانت وفاته .... ا ه. ولم يذكر المرادي تاريخ وفاته ويظهر أنه في نواحي سنة ١١٦٠. وقوله : ذكره الشراباتي في ثبته عبارته فيه : ومنهم (أي ممن أجازه) السيد الفاضل فخر الأماثل السيد يسين أفندي ابن السيد مصطفى أفندي الشهير بطه زاده ، نقيب حلب المحروسة سابقا بلغه الله تعالى من خير الدارين مراده. استخرت الله تعالى فأجبته إلى ذلك ، وقد قرأ عليّ هذا السيد الفاضل وأنا أسمع من أول كتاب صحيح البخاري إلى كتاب الإيمان ، وقرأ منه عليّ أيضا إلى كتاب العلم ، وقد أجزته أن يروي عني كتاب الصحيحين وبقية الكتب الستة وغيرها من كتب الأحاديث الصحاح وسائر كتب الأحاديث وسائر ما اتصل بنا من الفنون عقلا وشرعا أصلا وفرعا إحياء لصورة الأستاذ الذي هو من خواص هذه الأمة التي هي أكرم الأمم عند الله تعالى. ثم ذكر أسناده في الحديث.

وكان ممن تولى إفتاء حلب ثم عزل عنها ، وهنأه الفاضل الشاعر الشيخ مصطفى البتروني المتقدم ذكره بعزله من الإفتاء بقصيدة قال في مطلعها :

ليهن سليل المجد ياسين من غدت

مساعيه آذان المعالي تشنّف

١٠٦٥ ـ حسين الباشا البابي جد بني الميسّر المتوفى حول سنة ١١٦٠

حسين باشا ابن الشيخ حسن بن حسين المشهور بالبابي.

ولد ببلدة الباب من أعمال حلب ونشأ بها ، ثم هاجر مع أبيه حسن سنة ١٠٩٨ إلى حلب وقطنا بها ، وتقدم حسين باشا المذكور عند الدولة العثمانية تقدما عظيما ، وحضر عدة مواقع حربية أصيب ببعضها بجروح بليغة ، ثم شفي منها. وفي آخر الأمر أحيل على التقاعد بموجب فرمان من السلطان أحمد على أن يعطى ثمان أقجات يوميا يقبضها من جمرك حلب.

وكان له مكانة عظيمة عند أمراء الدولة العثمانية مسموع الكلمة مرعي الخاطر لديها حتى إنه بعد أن أحيل على التقاعد كان يكاتب السلطان رأسا في أموره الخاصة ، فتأتيه


الفرامين السلطانية مخاطبة لولاة الأمر هنا بترويج مصالحه ، ولا زالت هذه الفرامين موجودة عند الشيخ ناجي الميسر من ذرية المترجم. وبلغت به المنزلة أن أثتثنى السلاطين العثمانيون عائلته من دفع ضرائب الأملاك وغيرها بموجب فرمان من السلطان أحمد خان بن محمد خان مؤرخ سنة ١١٣٢ في شعبان منها ، وإنما نال هذه المنزلة بما أبلاه في الحروب التي حضرها ولما كان لأبيه الشيخ حسن عند سلاطين عصره من المنزلة السامية لغزارة علمه وأدبه.

ووقف المترجم على ذريته وقفا حسنا ، ومعظم عقارات وقفه في محلة الماوردي والألمجي وفي بانقوسا وسوق الصابون ، ومنها بساتين بظاهر حلب ، والحمّام المعروفة بحمّام القواس خارج باب النصر. واتخذ الواقف مرقدا لنفسه في جامع الحدادين في محلة بانقوسا وشرط أن يدفن فيه ، وشرط أن يقرأ على قبره عشرة من القراء كل يوم كل واحد يقرأ جزوا ، وجعل لكل واحد عثمانيين كل يوم أعني عشرين عثمانيا للعشرة كل يوم على حساب كل ١٢٠ عثمانيا فضيا بقرش واحد من قروش المعاملة الجديدة.

وشرط إذا لم يبق أحد من ذريته من جهة الذكور أو الإناث أن تقسم واردات وقفه بعد إعطاء ما شرطه للقراء أربعة أقسام : الريع يصرف في مصالح جامع الحدادين ، والثاني لرجل من أهل العلم والورع على أن يقرأ البخاري والفقه الشريف وما تيسر له من العلوم في هذا الجامع كل يوم ما عدا يوم الجمعة ، والثالث يصرف في مصالح المسجد المعروف بمسجد تركمانجك الكائن في محلة الماوردي الملاصق لدار الواقف ، والرابع يعطى لثلاثين رجلا من القراء على أن يقرؤوا في كل يوم ٣٠ جزوا. وهي محررة سنة ١١٥٧.

ولم يعلم على الضبط أي سنة توفي ، ولكن يغلب على الظن أنه توفي حول سنة ١١٦٠ ، ولم أتحقق إن كان دفن في الجامع المتقدم أو في إحدى الترب.

وخلف حسين باشا ثلاثة أولاد هم عمر ومحمد وعلي وعبد الله آغا ، وكان الأولان يتعاطيان التجارة بموجب فرمان من السلطان محمود بن مصطفى مؤرخ سنة ١١٦٤ في ربيع الآخر يفيد أنهما من التجار ، وأما عبد الله جلبي فإنه انتظم في سلك المأمورين وتولى ولاية ديار بكر وغيرها من المناصب العالية ، ولم أقف على تاريخ وفاتهم.

ورأيت عند بني طه زاده المعروفين الآن ببيت الجلبي حجة شرعية بشراء محمد أفندي


ابن أحمد أفندي طه زاده مؤرخة في صفر سنة ١١٦٨ للدار الكبيرة في محلة شاهين بك المشتملة على ثلاثة أواوين وغير ذلك ، وهي دار الحكومة الآن ما عدا الجهة الشمالية التي فيها السجون ، والذين باعوا لمحمد أفندي طه زاده قد اشتروا ذلك من ورثة الحاج حسين بشه (هكذا الرسم) البابي الذي من جملتهم عبد الله آغا ، وهذا يؤيد ما قلنا من أن وفاته كانت حول سنة ١١٦٠.

وللمترجم ذرية مباركة تدعى الآن ببيت الميسّر (بضم الميم وفتح الياء وتشديد السين المفتوحة) من جملتهم التاجران الحاج محمد والحاج أحمد اللذان عمرا الخان العظيم الذي تسمى بخان الميسّر في السوق المعروفة بسوق خان الحرير في المحلة المعروفة بجب أسد الله ، وذلك في سنة ١٣٢٨ ، وهما ابنا الحاج عبد القادر بن عمر بن سليم بن حسين جلبي بن عمر جلبي بن حسين باشا المترجم ، ولم أعلم على التحقيق أول من تسمى من هذه العائلة بالميسّر.

١٠٦٦ ـ عبد الله بن فتح الله أديب المتوفى سنة ١١٦١ وولده

عبد الله بن فتح الله بن الحنفي الحلبي ، الأديب الشاعر البارع المنشي الفصيح الملقب بأديب ، واحد الدنيا بالمعارف.

ولد بحلب في حدود المائة وألف تقريبا ، ثم ارتحل به والده إلى إسلامبول وكان سنه سبع سنين ، وكان والده إذ ذاك باش محاسبه جي ، ونشأ بها تحت ظله ، ثم صار رئيس الكتاب ، وكان له الرؤساء المشهورين *. وتوفي في إسلامبول سنة سبع عشرة ومائة وألف. ثم إن ولد المترجم عاد لحلب وصار بها تذكره جيا للخزينة الميرية.

وكان شاعرا بالألسن الثلاثة ، وله ديوان شعر ، منه قوله :

إذا ما نال شخص ما تمنى

من الأرذال يوما مات منّا

فكن في خبرة من كل فرد

متى ما ساء فعلا ساء فنّا

وكان يتكلم بأشياء عجيبة ، واستولت عليه السوداء والجنون ، ومع ذلك ينظم البليغ.

وكانت وفاته في سابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وستين ومائة وألف رحمه‌الله.

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : وكان من الرؤساء المشهورين.


١٠٦٧ ـ حسن بن ملك الحموي المتوفى سنة ١١٦١

حسن بن ملك ، الحموي المولد الحلبي المنشأ والوفاة.

ولد في حماة في رابع عشر ربيع الأول سنة ثمانين وألف ، ونشأ بحلب وقرأ على فضلائها وأخذ عنهم الفنون والآلات ، وصحب الأديب الفاضل الشيخ مصطفى الحلفاوي الخطيب بأموي حلب يومئذ وتأدب عليه.

وكان له شعر رقيق الحاشية ، فمنه ما قاله في المديح النبوي من قصيدة :

ألا يا رسول الله يا أشرف الورى

ويا من يرجّى للمهمات والبلوى

منها :

فقد خصّك المولى الكريم بفضله

فيا حبذا عنك الأحاديث أن تروى

منها :

عليك صلاة الله ما غاسق دجا

وما زال نور البدر في الأفق يستضوى

كذا الآل والأزواج والصحب كلهم

ومن عن رضاهم لم أطق أبدا سلوى

وذاك مع التسليم في كل لحظة

بتعداد ما في العلم من عدد يطوى

وله مضمنا :

لقد رشقتني من سهام لحاظها

مريشة تلك اللحاظ من الهدب *

وقامت تهز العطف نحوي تجاهلا

وتخبرني أن ليس لي ثم من ذنب

ولكن ألحاظي رصدن متى رأت

أسير هوى ترمى بجارحة السلب

فقلت ودمع العين جاد كأنه

سحاب تراه حين سال على الترب

خليلي لا تستنظر البرء إنني

سمعت بأذني رنة السهم في قلبي

وكانت وفاته بحلب في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى وتسعين ومائة وألف. ا ه.

وهذا سهو والصواب سنة إحدى وستين وماية وألف كما في تاريخ ابن ميرو. قال ابن ميرو : ومن نظمه متغزلا في ابن رجل واعظ :

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : مريشة هاتيك ...


فديتك ظبيا ناعم الخد أغيدا

أغن رقيق الخصر مستعذب اللفظ

أبوك الذي يدعو الأنام إلى الهدى

ويأمرهم بالرشد والنسك في الوعظ

وأنت الذي تدعو القلوب إلى الهوى

بنيران وجنات وسحر من اللحظ

فتهدم ما يبنيه عاما بساعة

وأمرك محفوظ وذاك بلا حفظ

ومنها :

فلا زال روض الخد بالورد يانعا

وإن كنت أجني الآس منه فيا حظي

وله ديوان وهو مطبوع في بيروت كنت رأيته في خزانة كتب السيد عبد القادر أفندي الحسني الكيلاني في حماة في بعض رحلاتي إليها ، وعلق منه في فكري تضمين مطلع قصيدة ابن الفارض (قلبي يحدثني بأنك متلفي) حيث قال :

قد كان لي ثوب جديد طالما

قد كنت ألبسه بغير تكلف

والآن لي قد قال حين قلبته

(قلبي يحدثني بأنك متلفي)

١٠٦٨ ـ الشيخ محمد الكبيسي المتوفى سنة ١١٦١

ترجمه العلامة الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته فقال :

ومنهم (أي من مشايخه) شيخنا الإمام الجليل ، العديم المثيل ، ذو الحسيب الزاهر ، والنسب الباهر ، مفيد الطالبين ، ومنهل الراغبين ، الفائز بفصاحة المنطق والبراعة ، والحائز قصب السبق في مضمار البلاغة والبداعة ، فريد عصره ، ووحيد دهره ، الفقيه المحدث الفرضي النحوي ، سيدي السيد محمد الكبيسي الشافعي رحمه‌الله تعالى ، قرأت عليه مختصر السعد مرتين ، وشرعت في الثالثة إلى أحوال الإسناد الخبري فانتقل بالوفاة إلى رحمة الله.

وقد أجازني رحمه‌الله إجازة عامة ، وانتفعت به منفعة تامة ، وانتفع به خلق كثير ، وجم غفير ، وكان له همة عالية في إفادة العلوم ونشرها ، واستطراد الفوائد النافعة وذكرها ، مع الإرشاد والتفهيم ، والنصح في التعليم ، وقد ملك من كل فن زماما ، وتقدم في كل علم فكان إماما.

وتوفي رحمه‌الله تعالى ليلة الجمعة سابع عشر شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة


إحدى وستين ومائة وقد جاوز الثمانين سنة كما أفادني بذلك من لفظه. ا ه.

١٠٦٩ ـ محمود بن عبد الله الأنطاكي المتوفى سنة ١١٦١

محمود بن عبد الله الأنطاكي الحنفي ، الفاضل العلامة والكامل الفهامة ، خاتمة المحققين المشهور في بلاد الروم بسلطان العلماء.

مولده بأنطاكية سنة (لم يذكر) وقرأ على مفتيها العلامة علي أفندي والد السيد محمد أفندي جلبي مفتي أنطاكية وحلب ، ثم حج وجاور بمكة المكرمة أربع سنين وقرأ على أفاضلها ، ثم ارتحل لمصر وجاور في أزهرها سنين ، ثم قدم أنطاكية ومكث بها مدة ، وسافر إلى إسلامبول فلم يطب له بها المقام ، فكر راجعا إلى وطنه ، وارتحل إلى بلاد الأكراد فأقام بها مدة ثلاث سنوات قرأ بها على ملا حيدران وملا محيي الدين الآلات كالمنطق والحكمة وأتقن جميع العلوم.

وحكى رحمه‌الله تعالى أنه كان في مدة إقامته ببلاد الأكراد يتجزى طول السنة بستة قروش ترسلها له والدته من ثمن غزلها ، قال : وكانت الوالدة إذا غزلت تقول وهي تدير الدولاب عند كل دورة : اللهم زد علم محمود ، وكان هذا وردها ودأبها.

قال : واتفق في أثناء إقامتي ببلاد الأكراد نفد ما معي وأبطأت عليّ الستة قروش ، فأتيت باب المدرسة فرأيت على عتبة الباب عثمانيا ، فأخذته واكتفيت به ذلك اليوم لكثرة الرخا هناك ، ثم ثاني يوم رأيت العثماني في ذلك المكان ، فأخذته ، ثم في ثالث يوم كذلك ، فلما كان اليوم الرابع وصلتني الستة قروش ، فذهبت إلى المدرسة فلم أر شيئا ، فعلمت أن ذلك كرامة من والدتي.

ثم إنه عاد إلى بلدته ولازم الإفادة بها حتى طار ذكره في الآفاق وشدت إليه الرحال وتفوق على النظراء والأقران مدة تزيد على عشر سنين.

وكان عمّر الوزير عثمان باشا الدوركي جامعه الرضائية والمدرسة وأرسل أحضر لها مدرسا من عينتاب العلامة الشهير تاتار محمد أفندي ، فاستقام مدة أربعة أشهر ، ثم استعفى لقلة الوظيفة ورجع لبلدته ، فاستدعى الوزير المشار إليه صاحب الترجمة للتدريس ، فامتنع ، ثم بعد الإلحاح قدم لحلب سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف ، وكان دخلها مرارا ، فأكرم


نزله الوزير المشار إليه وأعدّ له دارا من دور الوقف وعين له وظيفة التدريس بالمدرسة المذكورة أربعين عثمانيا ، ولقراءة التفسير الشريف في بيت الوزير الملاصق للجامع المذكور عشرة عثامنة ، والموعظ يوم الخميس والاثنين عشرة عثامنة ، فأقام يقري التفسير الشريف بعد صلاة الصبح ، ويقري الهداية في الفقه بعد الظهر ، ويقري بعد العصر صحيح البخاري. وكان يحضر درسه جماعة من أبناء العرب والأتراك غير المجاورين ، وارتحلت إليه الطلبة من الأقطار.

وكان رحمه‌الله قد رزق الفصاحة والبلاغة وطلاقة اللسان بلغتي العربية والتركية ، مع حسن الإلقاء وجودة التقرير الخالي عن الحشو البليغ السهل ، يفهمه جامد الذهن فضلا عن الذكي ، فكان يقرر أولا بالعربي لأبناء العرب ، ثم يلتفت إلى الأتراك ويقرر لهم. وختم الجامع الصحيح في مدة خمس سنين وشرع في ابتدائه ثانيا.

وكان رحمه‌الله يحب أبناء العرب ويوصي بمحبتهم الأتراك ، خصوصا ليلة المولد الشريف ، ويورد الحديث الشريف قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أحبوا العرب لثلاث) ويذكر فضل العرب وفضل محبتهم والتحذير من إيذائهم ، ويطنب في ذلك كثيرا. أقام رحمه‌الله ثمان عشرة سنة مدرسا بالمدرسة المذكورة وأذن بالتدريس ممن لازمه وقرأ عليه لزهاء ثلثمائة رجل ، لأنه كان يقول : إن لم يكن في أولادي الصلبيين خير فأولادي في العلم فيهم كفاية.

وانتشرت تلامذته في الآفاق ما بين مفت ومدرس ، ومنهم تلميذة العلامة الذي خلفه في التدريس بالمدرسة المذكورة علي أفندي الدابقي ، ومنهم الفاضل السيد عبد الرحيم أفندي فنصه زاده ، فإنه لازم دروسه مدة وانتفع به وأخذ له بالتدريس وكتب له إجازة بذلك ، ووجدت الإجازة معه لما توجه إلى إسلامبول وأقبل عليه شيخ الإسلام بسبب ذلك.

وفي سنة ثلاث وخمسين سعى للمترجم الوزير الأعظم الحاج أحمد باشا بستين عثمانيا من مال الجزية ببراءة سلطانية لقراءة الجامع الصحيح بأموي حلب تجاه ضريح سيدنا نبي الله زكريا على نبينا وعليه وسائر النبيين أفضل صلاة وأنمى سلام ، وأرسل له مع البراءة نسخة من الصحيح مجلدة واحدة أخرجها له حضرة السلطان محمود خان سقى جدثه صيب الغفران من الخزينة لأن رؤيتها تشهد بذلك ، ثم بعد عزل الوزير المشار إليه طلبها من صاحب الترجمة إسماعيل باشا ، وهو حينئذ محصل الأموال السلطانية بحلب ، ودفع له ثمنها مائة ذهب


وأرسلها إلى إسلامبول كأنه أمر بذلك من طرف الدولة العلية.

ثم شرع المترجم يقري الصحيح يوم الاثنين في الجامع الأموي لا يقرر إلا بالتركية خلافا لعادته في المدرسة الرضائية ، فقيل له في ذلك فقال : عندكم في هذه البلدة قوم من الطلبة يقصدون إظهار فضلهم بين العوام فيوردون بعض إشكالات ، فإن أجبتهم لا يقنعون فيقع القيل والقال واللغط والجدال ، فسددناه بذلك الباب وقلنا : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ولعمري لقد أصاب.

ولما كان أواخر ذي القعدة سنة إحدى وستين ومائة وألف يوم الخميس ختم تفسير سورة الفرقان وحصل له بكاء كثير حالة القراءة ، ثم ودع الجماعة الحاضرين وأوصاهم بتقوى الله وأن لا ينسوه من قراءة الفاتحة ، وذهب إلى بيته وما به بأس ، فانقطع في بيته ذلك اليوم وثانيه ، وصبيحة السبت حضر إلى المدرسة فلم يستطع القراءة ، فعاد إلى بيته ولازم الفراش ثمانية أيام ، وفي اليوم التاسع توفي إلى رحمة الله تعالى ودفن في الجبيل في أعلى مكان بقرب السور.

وأعقب أربعة أولاد ذكور منهم الأديب عبد الله الملقب بذهني الشاعر المشهور ، ومحمد فإنه ذهب إلى الروم ومنها لمصر وهو بها الآن جندي ، ومحمود وهو الآن ببلاد المغرب ، وإبراهيم. ا ه.

١٠٧٠ ـ عبد اللطيف الإدلبي الرمّال المتوفى سنة ١١٦٢

عبد اللطيف الحنفي الإدلبي الكاتب العارف بصنعة الرمل.

مولده تقريبا بعد العشرين من هذا القرن في إدلب الصغرى ونشأ بها ، ورحل إلى طرابلس الشام.

قدم حلب سنة خمس وخمسين ومائة وألف وقرأ على فضلائها ، منهم الشيخ طه الجبريني ، والسيد علي العطار وغيرهما. وكان يكتسب بالرمل لضعف حاله ، وله فيه معرفة تامة ، وشوهد له فيه أمور عجيبة ، منها أنه كان له انتساب ومحبة مع ابن الخنكارلي أحد أعيان حلب ، وكان المذكور مع مخدوم الوزير عبد الله باشا بجزيرة قبرس ، وصاحب الترجمة أراد أن يسبر من القواعد حال المذكور ، فظهر له أن محلا بمنزله في الجزيرة المذكورة متهدم


وأنه يسقط ، وأن المحل مرتفع ، فحرر مكتوبا إلى المذكور وأخبره أن في منزلك محلا عاليا صفته كذا لا تدخل إليه ، فلما وصل الكتاب امتنع ابن الخنكارلي المذكور من الدخول لذلك المكان لما يعلم من معرفة صاحب الترجمة ، فما مضى مدة يسيرة من الزمان إلا وسقط المحل ولم يصب ضرره لأحد من أهل المنزل. وله من هذا القبيل أشياء كثيرة.

وكان قوي الحافظة يحفظ «متن القدوري» وأكثر «شرح المنية» وغير ذلك ، ولما أجدى حاله ترك معاناة الرمل واشتغل بحفظ «شفاء» القاضي عياض ، فلما أشرف على كمال هذا الكتاب دعاه داعي المنية فأجاب ، ولم يتيسر له الإتمام ، غير أنه فاز بحسن الختام.

وله نظم ، فمنه قوله مشطّرا موجّها في صنعته :

وشقائق قالت لنا بين الربى

يا من له في الإتصال مرام

منا طريق الإجتماع فإن ترد

دع وجنة المحبوب فهي ضرام

هل أنبتت قبل العوارض مثلنا

نبتا بحمرة شكله إلمام

أم هل يضاهينا النقي بخده

قلت اسكتوا لا يسمع النمّام

وشطّرهما الشيخ علي الميقاتي الحلبي فقال :

وشقائق قالت لنا بين الربى

وبنا إلى ورد الخدود غرام

والميل يحدث للنظائر غيرة

دع وجنة المحبوب فهي ضرام

هل أنبتت قبل العوارض مثلنا

نبتا له عند الملوك مقام

ويماثل النعمان آس عذارها

قلت اسكتوا لا يسمع النمّام

وشطّرهما الشيخ أحمد الحلوي الحلبي فقال :

وشقائق قالت لنا بين الربى

لما زها نوّارها البسام

إن كنت من أهل المعارف والذكا

دع وجنة المحبوب فهي ضرام

هل أنبتت قبل العوارض مثلنا

نورا تحار بنوره الأفهام

أم صبغها أضحى يحاكي صبغنا

قلت اسكتوا لا يسمع النمّام

وكانت وفاته في سنة اثنتين وستين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.


١٠٧١ ـ رجب المعروف بالنجيب المتوفى سنة ١١٦٣

رجب المعروف بالنجيب الحلبي ، الأديب الشاعر اللبيب. كان غرة جبهة الدهر ، له الباع الطويل في الأدب ، والإشاعة والذكر عند بني حلب.

ولد سنة ثلاث وتسعين وألف ، ونشأ في التحصيل وشمر أذيال الاكتساب ، وتعلق بخدمة فريد وقته الفاضل يوسف الشهير بالنابي أحد شعراء الروم ، واكتسب منه فن الأدب ، وبه تأهل ونما وتسبب. وفوضت إليه كتابة القلعة العواصمية وكان لا يرى له مثيل ، حريري النباغة ، فاق ابن مقلة في التحرير ، وليس لشعره شبيه ونظير ، وكان أغلب شعره باللغة التركية والفارسية ، وآثاره بالعربية نزرة قليلة.

وكانت وفاته بقلعة حلب في سنة ثلاث وستين ومائة وألف رحمه‌الله.

١٠٧٢ ـ قاسم النجّار المتوفى سنة ١١٦٣

قاسم المعروف بالنجّار الحنفي الحلبي ، الشيخ الإمام العلامة. كان خير الأخيار ، ورحلة أهل المدن والأمصار.

ولد بحلب في محلة البياضة في سنة سبع وسبعين وألف ، وكان يكتسب بعمل يده يصنع الأقفال الخشب ، ويقرىء الفقه والعقائد والنحو والحديث. وأخذ وقرأ على أئمة أمجاد وشيوخ أطواد ، وكان يقرىء بالجامع الذي قرب داره بمحلة خراب خان ، وأقام بهذا الجامع إماما وخطيبا ومتوليا مدة ست وستين سنة ، وكانت الطلبة ترد عليه من غالب البلاد خصوصا من بلاد الروم لأخذ الفقه. وكان يحيي ليالي المواسم من السنة كليلة نصف شعبان والمولد الشريف وسائر ليالي رمضان بالذكر والتوحيد وصلاة التسبيح. ثم قبل موته بقليل أحضر لنفسه كفنا وأوصى وأوقف داره على الجامع المذكور.

وكان طويلا متماسكا ذا وجه منير ، وشيبة علاها نور العبادة المقبول بتأثير ، خفيف الصوت ، ذا وقار وعفاف. حج مرتين وكان يؤمل الثالثة فلم ينلها.

وكانت وفاته في سنة ثلاث وستين ومائة وألف ، وليوم وفاته مشهد عظيم ، ودفن في جامع خراب خان المذكور تجاه المحراب الصيفي من طرف الشمال ، وهو يزار رحمه‌الله. ا ه.


١٠٧٣ ـ عبد الوهاب العدّاس المتوفى سنة ١١٦٦

السيد عبد الوهاب بن محمد قرط ابن الشيخ مراد المعروف بالعدّاس الحلبي ، العالم الفقيه ، الأصولي النحوي النبيه المجتهد في الإفادة. انتفع به خلق كثير ، وكان مكبا على إفادة الناس.

ولد بحلب في سنة سبع وتسعين وألف ، واشتغل بها في طلب العلم ، فقرأ على الشيخ قاسم النجار في الفقه ، وقرأ النحو على العالم الشيخ سليمان النحوي ، والعروض والحساب وآداب البحث والمنطق على السيد علي الباني ، وقرأ المعاني على أبي السعود الكواكبي.

وكانت وفاته في ليلة الأحد العاشر من شوال سنة ست وستين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١٠٧٤ ـ محمد الزمّار المتوفى سنة ١١٦٧

محمد المعروف بابن الزمّار الشافعي الحلبي ، الشيخ العالم الفاضل التقي الناسك الزاهد الصابر الوقور المهاب. جمع بين الولاية والعلم ، عليه آثار العبادة والصدق والتقوى ، وانتفع به كثير من أهل حلب وغيرها ، وله ملازمة تامة في الاشتغال بالعلوم ، ويد طولى في المنطوق والمفهوم. وكان مع جلالة قدره يتفقد أرامل جيرانه وأيتامهم ، وبالجملة فقد كان من أولياء الله تعالى.

وكانت وفاته سنة سبع وستين ومائة وألف رحمه‌الله.

وترجمه ابن ميرو فقال : هو محمد بن حسين بن مصطفى الشهير بابن الزمّار الشافعي التدمري الأصل الحلبي المولد هو وولده. وشهرته بالزمّار لحسن صوت والده ، شبهته جدته يوما بذلك فاشتهر حتى صار لا يعرف إلا بالزمّار ، العالم العامل الورع الفاضل الزاهد المحقق الفقيه الأصولي الفرضي الحيسوب المتقن ، بركة حلب ومعتقدها وشيخها.

أخذ عن مشايخ عصره كالفاضل حسن التفتنازي ، قرأ عليه «التوضيح» بطرفيه ، وحين أتم أمره شيخه المذكور بتفرقة رطل من الخبز على الفقراء ، وأخذ عن الصالح السيد محمد الديري ، ولازم العلامة مصطفى الحفسر جاوي وقرأ عليه «جمع الجوامع»


و «المنهج» بطرفيهما في الحجازية بأموي حلب ، ولازم دروس العلامة علي الأسدي ودروس العلامة أبي السعود الكواكبي.

مولده سنة اثنتين وثمانين وألف ، ووفاته سنة سبع وستين ومائة وألف. وبالجملة قد كان من أفراد الدهر علما وصلاحا وورعا وزهدا ، ودفن خارج باب الملك في تربة لالا. ا ه.

وترجمه تلميذه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته «منار الإسعار» بالعبارة التي نقلناها عن المرادي ، ويظهر أن المرادي نقلها عنه وذكر قبل ذلك ما قرأه عليه

١٠٧٥ ـ عثمان بن عبد الله العرياني المتوفى سنة ١١٦٨

عثمان بن عبد الله الشهير بالعرياني ، الحنفي الكلّيسي الأصل ، الحلبي المولد ، نزيل قسطنطينية ، العالم الفاضل البارع.

له من التآليف «شرح الهمزية» و «شرح النونية» في العقائد لخضر بيك ، و «شرح الحزب الأعظم» لعلي القاري وغير ذلك ، وقد اطلعت على هذه المؤلفات له وأنا في الروم.

قطن الديار مدة وأعقب بها ، ثم ارتحل للحرمين وجاور بالمدينة المنورة وتوفي بها. وكانت وفاته في سنة ثمان وستين ومائة وألف. ا ه.

١٠٧٦ ـ قاسم بن محمد البكرجي المتوفى سنة ١١٦٩

قاسم بن محمد المعروف بالبكرجي الحنفي الحلبي ، أحد العلماء الأفاضل الأديب ، الألمعي اللوذعي البارع الأريب ، حاوي فنون العلوم ، والماهر بالأدب منثور أو منظوم.

ولد بحلب ، وقرأ على معاصريه من أجلاء حلب وتفوق واشتهر. وكان عالما بالحديث والفقه والفرائض ، وله قدم راسخة في العربية والفصاحة والبلاغة والبديع والشعر ، ونظمه حسن رائق ، وكان في وقته أحد المتفردين بالنظام والنثار.

ومن تآليفه شرح على الخزرجية (١) لم يسبق بمثله ، وشرح على الهمزية (٢) للبوصيري ،

__________________

(١) سماه «الفوائد البكرجية على الخزرجية».

(٢) سماه «العيون الغمزية والإشارات الرمزية على القصيدة الهمزية».


وبديعية استدرك فيها أشياء على من قبله ، ونظم الزحافات والعلل الشعرية وشرحها وغير ذلك ، ولم يزل كذلك إلى أن مات. وكانت وفاته في سنة تسع وستين ومائة وألف.

ومن شعره له قوله يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصيدة مطلعها :

أأحبابنا بالخيف لا ذقتم صدا

ولا كان صب عن محبتكم صدا

ومنها :

أهيل الحمى تالله ما اشتقت للحمى

أيجمل بي أن أنشد الحجر الصلدا

ولكنّ سكان الحمى ونزيله

هم ملكوا قلبي فصرت لهم عبدا

أحن إليهم كلما حن عاشق

إلى إلفه وازداد أهل الوفا ودا

ومنها :

هو المصطفى من خير أولاد آدم

وأشرفهم قدرا وأرفعهم مجدا

وأطيبهم نفسا وأعلاهم يدا

وأثبتهم قلبا وأكثرهم زهدا

وأعرقهم أصلا وفرعا ونسبة

وأكرمهم طبعا وأصدقهم وعدا

نبي أتى الذكر الحكيم بمدحه

فأنى يفي بالمدح من قد أتى بعدا

ومنها :

ومذ شرفت من وطء أقدامه الثرى

فكانت لنا طهرا وكانت لنا مهدا

ومنها :

وإن رامت المداح تعداد فضله

وأوصافه لم يستطيعوا لها عدا

ومنها :

قصدتك يا سؤلي ومن جاء قاصدا

لباب كريم لا يخاف به ردا

عليك صلاة الله ثم سلامه

إذا ما شدا شاد وتال تلا وردا

كذا الآل والأصحاب ما انهل وابل

وما اخضرت الأشجار أو فتحت وردا

وله يمدح السيد حسين أفندي الوهبي قاضي حلب حين قدم حلب :


دام السرور والهنا المؤيد

وزال عن وجه الأماني الكمد

وكوكب السعد بدا في أفق

الإقبال حتى غار منه الفرقد

وأصبح الكون لدينا مشرقا

ووجهه الطلق بذاك يشهد

وارتاحت النفوس لما أن غدت

موقنة بالأمن مما تجد

ومنها :

قطب العلا غوث الولا كهف الملا

في الاجتهاد رأيه مسدد

قد زين الشهبا بحسن عدله

وسيره وهو الحكيم المرشد

وقد غدا مداويا بطبه

علتها فصح منها الجسد

ومنها :

عذرا إليك سيدي لمن أتى

يمدح من نعوته لا تنفد

وكيف أحصي من علاك شيما

أو أبلغ المدح وكيف أحمد

فاسلم ودم في صحة وعزة

أنت ومن تحبه يا أوحد

وقال مشطرا أبيات ناصح الدين الأرجاني :

هاك عهدي فلا أخونك عهدا

يا مليحا لديه أمسيت عبدا

لا وحق الهوى سلوتك يوما

وكفى بالهوى ذماما وعقدا

إن قلبي يضيق أن يسع الصبر

لأني فنيت عظما وجلدا

وفؤادي لا يعتريه هوى الغير

لأني ملأته بك وجدا

يا مهاة الصريم عينا وجيدا

وأخا الورد في الطراوة خدا

وشقيق الخنساء في الناس قلبا

وقضيب الأراك لينا وقدا

كيفما كنت ليس لي عنك بد

فأبحني ودا وإن شئت صدا

وملكت الفؤاد مني كلا

فاتلفن ما أردت هزلا وجدا

يا ليالي الوصال كم لك عندي

خلوات مع الغزال المفدّى

كم جنينا ثماركي * هي عندي

من يد كان شكرها لا يؤدى

__________________

(*) هكذا في الأصل.


فسقتك الدموع من وابل الغيث

مد يد البحار جزرا ومدا

وبكتكي * دما عيوني

من دمعي بديلا فهن أغزر وردا

هل لماضيك عودة فلقدآ

ن جمال الحبيب أن يتبدى

وله أيضا :

بنا ما بكم والحب إحدى النوائب

فلا تطمعن في وصل بيض كواعب

أخلاي نهي عنه دأب أولي النهى

وأين النهى من فعل سود الحواجب

فدونك ما فعل الجفون بعاشق

بأهون من فعل الرماح الكواعب

وما الأعين النجل الفواتك بالفتى

بأفتك منها فعل أبيض عاضب

وما لفتة الظبي الشرود بجيده

كلفتة ظبي شارد في الكتائب

ومن يبتلى بالغانيات فحسبه

من البين أن يرمى بعين وحاجب

وقبلك صابرت الهوى فوجدته

كشهد به سم يطيب لراغب

وعيش بلا صفو وحزن مؤبد

وعين بلا نوم وعبرة ساكب

ووعد بلا وصل وعهد بلا وفا

وقول بلا فعل ومطلة كاذب

ولوعة هجر في فؤاد مكابد

ونار فلا تضنى ** وحسرة خائب

حنانيك لا تجزع وكن متجلدا

فعبء الهوى سهل على ذي التجارب

فلولا الهوى ما كر في الحرب فارس

ولا حثت الركبان بيض النجائب

وما اشتاق للأوطان قط مفارق

ولم يرع خل عهد خل وصاحب

رعى الله قلبا بالصبابة عامرا

وألحى خليا في الهوى غير راغب

وأسعد بالا بالغرام معذبا

وأنجح صبا سار نحو المطالب

وفي المجد مجد جدّ فيه مكابدا

أبثك أن الجد أسنى المكاسب

عليك طلاب العز في كل حالة

ولا ترض سفساف الأمور وجانب

ألم تر أن الباز لو لم يكن به

قناص لما أعلوه فوق الرواجب

وله أيضا :

__________________

(*) هكذا في الأصل

(**) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : فلا تطفا.


حاولت رشفا من لمى ثغره

قال طلا شاربه يأثم

قلت أما وجهك لي جنة

والخمر في الجنة لا يحرم

وله قوله :

مليح طريّ الخد جاد بقبلة

وقال اغتنم لثمي بغير تعلل

فقبلته خدا لوى الجيد قائلا

تنقل فلذات الهوى في التنقل

وله غير ذلك من الأشعار والنظام والنثار. وتقدم ذكر وفاته رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وله :

اجعل الود والمحبة للنا

س يسيرا واحذر زيادة ودّ

ربما كثرة المحبة والود

لشخص تفضي لهجر وصدّ

وترجمه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته «منار الإسعاد» بعين العبارة المتقدمة مما يفيد أن المرادي أخذ ترجمته عنه. وأنشد له في آخر الثبت هذين البيتين :

وعدت ولم تفي ما السر قل لي

أيا من وعده حسن لدينا

أعيذك من خلاف الوعد خلي

أليس الوعد عند الحر دينا

وكتب لي ترجمته السيد حامد العجان الكتبي نقلا عن خط تلميذ المترجم الشيخ سعيد ابن الشيخ حسن الأسود فقال : هو الشيخ قاسم بن محمد البكرجي. ولد سنة ١٠٩٤.

قرأ على علماء حلب في عصره ، منهم الشيخ العالم الكبير الشيخ حسن السرميني ، وعلى الشيخ سليمان النحوي ، والشيخ أحمد الشراباتي ، وعلى الفاضل علي أفندي الأسدي مفتي حلب ، وقرأ الفقه الشريف على العالم الفقيه الصالح الشيخ قاسم النجار ، وقرأ على علامة وقته السيد محمد أفندي الكواكبي ، وأخذ على الشيخ محمد عقيلة وعلى الشيخ عبد الله السويدي البغدادي فنبغ في العلوم ، واهتدى بعلومه كما يهتدى بالنجوم. وكان له الباع الطويل سيما في علم النحو والعروض والمنطق والمعاني والبيان والحديث والتفسير والفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان. وكان صدرا للطلاب ، تنفجر من تقريراته الينابيع العذاب. وله شرح بديع على همزية الشيخ الأبوصيري ، وله شرح على بديعيته ، وله ديوان من الشعر ما فاه ببنت شفة إلا كثرت خطّا بها ، ولا برزت من مخدرات فكره نكتة إلا


ازدحمت طلابها. وله مداعبات لطيفة ، مشتملة على النكات البديعة الظريفة ، فمن مداعباته وقد سئل عن الحب هو بالضم أم بالكسر ، فأجاب بأن المضموم مصدر حب ، وأما الحب بالكسر فهو نفس المحبوب وضمه حسن. ويروى أنه قال : هو بالوجهين لكن ضمه أحسن. وله شعر بديع ، ونثر كأنه روضة ربيع ، بقريحة جيدة سيالة ، ومقاصد في قصورها مختالة. فمن شعره قوله :

يا مهاة الصريم عينا وجيدا

وأخا الورد في الطراوة خدا

إلى آخر الأبيات المتقدمة.

وكان مدعوا يوما عند بعض الأكابر بحلب ، مع جماعة من ذوي الكمالات والأدب ، فلما حضر عنده واستقر به المجلس أخبره بعض أحبابه أن في ذلك المكان محبوبا يسمى عبد الكافي ، وأن فلانا مشغوف بحبه وهو عليه ذا غيرة عظيمة ، فإن أردت أن تكتب له فيه بعض أبيات غزلية حتى نتداعب مع محبه ونوهمه محبتك لمحبوبه ، حتى نرى ما يظهر منه من الغيرة ، فكتب لهم ارتجالا أبياتا يستخرج من أوائلها اسم ذلك المحبوب ، فلما وقف عليها ذلك المحب تغير لونه وأخذته الغيرة ولم يتكلم بشيء إجلالا للشيخ ، غير أنه باهت متحير ، إلى أن خجر الشيخ من ذلك المكان ، فتبعه حيران ، فضحك الشيخ وأخبره بحقيقة القضية ، فانصرف حينئذ بنفس رضية ، والأبيات :

تعشقت مسك الخال حين ضممته

وقلبي جريح من شبا لحظه التركي

وقلت وقد زادت لواعج لوعتي

أيبرى جريح شم رائحة المسك

توفي في ٧ رمضان سنة ١١٦٩ ودفن خارج باب الملك بحلب بالقرب من محلة البلاط.

ا ه.

أقول : لا يؤخذ من أوائل هذين البيتين شيء ، ولعل الأبيات التي عناها غير هذين.

ومن مؤلفاتته كتاب سماه «نتيجة الحجا والإلغاز في المعمّى والأحاجي والألغاز» رأيته بخط تلميذه الشيخ محمد البهالي وذكر فيه أنه قرأه على مؤلفه شيخه الشيخ قاسم. ومما قاله في هذا الكتاب : الباب الرابع فيما نظمناه من المعميّات منها في اسم أحمد :

وشادن تاه على عشاقه

بحسنه جل الذي قد * أبدعه

__________________

(*) أضفنا (قد) ليستقيم الوزن.


قوامه الغض وظهري المنحني

ومدمعي الهاطل والقلب معه

وفي اسم أسعد :

بديع حسن قد تاه عجبا

وصار بين الملا يفاخر

قد رام أسري وحل قتلي

ليث وفيه للحسن ناظر

وفي اسم إسماعيل :

بدا يختال من هيف كغصن

وطائر ذا الفؤاد عليه رفرف

سما حسنا وفي تعب حسودي

وكان منكّرا فغدا معرّف

وفي اسم حسن :

من بني الترك غزال أغيد

مقبلا قلت له لما ورد

أنت قصدي يا منى قلبي فكن

راحما بي فتلاحى وشرد

وفي اسم حسين :

ومجلس أنس ضمني ومنادمي

وبتنا على شرب المدام بلا باس

أشاهده والكاس في يده معا

ومازال عين الحب في آخر الكاس

وفي اسم حسين أيضا :

شاهدت ظبيا كاتبا فبخطه

بهر العقول فديته من كاتب

ملك القلوب بسالف وبطرّة

وأنامل مخضوبة وبحاجب

وهكذا على هذا النسق إلى حرف الياء ، وبعد أن يذكر النظم يأخذ في شرحه لاستخراج الاسم.

وكتب إليه الفاضل الأديب مصطفى البيري حين أصابه وجع بعينه هذه الأبيات كما في بعض المجاميع :

حاشا لواحظ قاسم قطب العلا

أن تشتكي وصبا من الأوصاب

ولو اشتكت حقا شكت عين العلا

والمجد والإفضال والآداب

لكنها شنت إغارتها على

سرح المحاسن شنة ابن شهاب


وحنت على ضعف الخصور وقيدت

لحظاتها في كل ردف راب

وجنت شقائق كل روضة وجنة

قد ضرجت خفرا بغير خضاب

نهبت دم الوجنات حتى نم من

أجفانها فتسترت بحجاب

وغدت تموه بالنوازل خيفة

من أن يظن بها خلاف صواب

أستغفر الرحمن بل أودى بها

دأب اجتلاء خرائد الألباب

وتلقط الدرر الشرائد في الدجى

من جيد حاشية وصدر كتاب

ودخولها في كل باب مرتج

بمباحث وخروجها من باب

وتهجد الليل الدجى وعكوفها

من مسجد الآداب في محراب

وحرارة الفكر المؤلف بالذكا

سبب احمرار منابت الأهداب

فجلا الأذى عنها الإله بلطفه

حتى تقر وأعين الأحباب

وذكر المترجم في شرح بديعيته الآتي ذكرها مطلع هذه القصيدة وقال : فأجبته بقولي :

يا من أتى في شعره بمحاسن

لم يحوها في الفن شعر الصابي

وبشعره في الناس أضحى مؤمنا

من كان يوما كافرا أو صابي

وأتى بأبيات فلما شمتها

قد زال ما في العين من أوصاب

وهي أحد عشر بيتا غالبها جناس.

وبديعيته التي ذكرت في أول الترجمة اسمها «العقد البديع في مدح الشفيع» ومطلعها :

من حسن مطلع أهل البان والعلم

براعتي مستهل دمعها بدم

وشرحها شرحا ليس بالطويل الممل ولا بالموجز المخل ، سماه «حلية البديع في مدح النبي الشفيع» أوله : الحمد لله الذي أبدع ببديع صنعه صنعة البديع ، وجعل محاسن أنواعه الزاهرة في رياضه الباهرة زهر الربيع ، وجلا عرائس براعات الأبكار على نفائس ضراعات الأفكار ، فأنتجت من المعاني الغزار كل فطيم ورضيع الخ.

وأورد في الشرح سبع بديعيات إحداهن بديعية علامة الشهباء الشيخ أبي الوفا العرضي. وقد طبع هذا الشرح في المطبعة العزيزية في حلب سنة (١٢٩٢) وهذه المطبعة أنشئت حول سنة (١٢٩٠) وتعطلت في نواحي سنة (١٣٠٠).

وذكر المؤلف فيه (في ص ٨٢) أن له شرحا على بديعية الشيخ مصطفى البكري.


١٠٧٧ ـ الشيخ عبد القادر بن بشر المتوفى بعد سنة ١١٧٠

عبد القادر بن بشر الشافعي الحلبي. كان فاضلا ناسكا هينا لينا فقيرا صابرا له ذكاء واستحضار.

ولد تقريبا في عشرين ومائة وألف ، وقرأ على علماء عصره كالعلامة الشيخ علي الميقاتي والفاضل الشيخ حسن السرميني والعالم الشيخ طه الجبريني وغيرهم.

ورحل إلى إسلامبول ولقي الأفاضل ، وصارت له وظيفة تدريس بأموي حلب.

وكان له نظم ، فمنه ما نظمه ممتدحا به شيخه الميقاتي بقوله :

درر التحقيق بكر

لم تزح أنقابها

من يرم مدن المعاني

فعلي بابها

وله مضمنا :

إن المدائح للمداح قد شرعت

وكل أمر رجوه فهو مقبول

فلابس البردة الحسناء شافعه

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

وله مضمنا أيضا :

عمر الوردي لو يعلم ما

صنعت قوم بأهل الأدب

لم يقل في النصح يوما لابنه

انظم الشعر ولازم مذهبي

وكانت وفاته في نيف وسبعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١٠٧٨ ـ السيد علي بن إبراهيم العبسي المتوفى سنة ١١٧١

السيد علي ابن السيد إبراهيم ابن السيد جمعة العبسي ، سبط الكيلاني الشهير بالعطار الحنفي الحلبي العلامة الفاضل الفقيه.

ولد في حلب سنة ست ومائة وألف ، ونشأ بها ، وقرأ النحو على الشيخ سليمان النحوي ، والفقه والحديث على السيد محمد الطرابلسي مفتي حلب والشيخ قاسم النجار


والشيخ محمد الزمار والشيخ جابر ، وقرأ التصوف على الشيخ محمود الكردي ، والأصول على الشيخ علي الداغستاني ، وأخذ عن الشيخ صالح الجنيني الدمشقي ، وقرأ علم الفلك على الشيخ عبد القادر المغربي. وسافر إلى جهة العجم وقرأ على علماء الأكراد بها

وحج خمس مرات ، وجاور سنة ، وأخذ عن علماء المدينة الحديث وغيره ، وأخذ عن الشيخ محمد حياة السندي ، ثم عاد إلى حلب.

وكان بحلب يقري الدروس ، ولازمه جماعة وأخذوا عنه ، منهم الشيخ محمد العقاد والشيخ عبد اللطيف الكيلاني والشيخ عثمان العقيلي والشيخ عبد القادر البانقوسي. وأخذ عنه في الحرمين حين المجاورة جملة من الطلاب والأفاضل ، منهم العلامة المحدث أبو الفيض محمد السيد مرتضى اليمني شارح القاموس نزيل مصر والشيخ حسين عبد الشكور الطائفي والسيد محمد باحسن جمال الليل اليمني والشيخ عبد القادر الفتني الطائفي ، حضروه في إقرائه «فصوص الحكم» تجاه مزراب الرحمة خارج المطاف بجانب مقام الحنفي.

وكان بحلب يقرىء الهيئة والصرف والمنطق والمعاني والبيان والفرائض والفقه والفلك وغير ذلك في الأيام. وبالجملة فقد كان من الأفاضل الأجلاء.

وكانت وفاته في ليلة الاثنين خامس محرم سنة إحدى وسبعين ومائة وألف ، ودفن خارج حلب في مقابر الحجاج بالقرب من جامع البلاط.

ورثاه بعض الأدباء من تلاميذه بقصيدة بيت تاريخها قوله :

فإذا البشرى تنادي أرخوا

في جنان الخلد قد صح علي

١٠٧٩ ـ محمد بن أحمد المكتبي المتوفى سنة ١١٧١

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الشافعي الحلبي المولد ، الفاضل الكامل الشهير بالمكتبي لاشتغاله أولا بإقراء الأطفال بمكتب يشبك الدوادار الذي هو برأس السوق المعروف قديما بالنشابين. مولده سنة .... *.

قرأ على الفاضل أحمد الشراباتي ولازمه بالمدرسة الحجازية الكائنة بالجامع الأموي بحلب وبجامع عبيس لصيق داره ، وعلى العلامة مصطفى الحفسر جاوي حاوي الفقه والعربية

__________________

(*) فراغ في الأصل.


والحديث ، وأجازه إجازة عامة ، وعلى الفاضل حسن بن شعبان السرميني في عدة علوم وأجازه ، وعلى العلامة عبد الرحمن العاري في الفقه والمنهاج الفرعي وشرح القطر للفاكهي في النحو ، وعلى العلامة أبي السعود الكواكبي ، وعلى الفاضل الشريف محمد أفندي الطرابلسي ، وعلى العلامة يوسف أفندي الدمشقي ، وعلى العلامة الكامل العارف المسلك الشيخ محمد ابن الشيخ أحمد عقيلة المكي حين قدم حلب سنة أربع وأربعين وماية وألف في جمادى الثانية ، قرأ عليه حصة وافرة من صحيح البخاري وأجازه بجميع مروياته ومسموعاته ومؤلفاته ، وعلى العلامة العارف المرشد السيد مصطفى ابن السيد كمال الدين الصديقي ، فإنه لازمه وقرأ عليه الكثير وسمع منه وأخذ عنه طريقة السادة الخلوتية ، وعليه سلك ولبس منه الخرقة في قدومه لحلب.

وحج صاحب الترجمة مرتين إحداهما سنة ١١٣٢ والثانية سنة ١١٤٦ مع شيخه العارف السيد مصطفى الصديقي ، أخذ بها في الأولى عن علماء مكة كالعلامة المسند المعمر عبد الله بن سالم البصري والعلامة الشيخ محمد الوليدي ، قرأ على الأول بابين من أول الصحيح من كتاب العلم وأجازه ، وسمع على الثاني بداره في الصفا بقراءة جماعة أوائل الكتب الستة وأجازه ، وبقراءة دلائل الخيرات وحزب البحر بعد صلاة الصبح وبعد العصر وكتب له إجازة بخطه.

وقرأ في المدينة المنورة على الفاضل الشيخ محمد طاهر ابن العلامة الشيخ إبراهيم الكوراني وأجازه بما حواه ثبت ووالده المسمى «بالأمم» ، وبما في تبت شيخه العلامة حسن العجيمي المسمى «بكفاية المتطلع».

وقرأ بدمشق على العلامة الورع الزاهد العارف المسلك المنلا إلياس الكوراني الشافعي الدمشقي سنة ١١٣٣ في عوده من الحج حصة من شرح العقايد للقيرواني وأجازه بمقروءاته وبما حواه ثبت شيخه الفاضل الشيخ أحمد النخلي ، وقرأ بها على العلامة الورع الشيخ عبد القادر التغلبي الحنبلي الشيباني حصة من شرح ألفية الحديث للقاضي زكريا وأجازه ، وعلى العلامة الشيخ محمد بن خليل العجلوني الجعفري.

وفي القدس على العلامة المعمر محمد بن محمد بن شرف الدين الخليلي.

توفي سنة إحدى وسبعين وماية وألف نهار الجمعة حادي عشر شوال قبيل الغروب


مولده قبل الماية. توفي عن نحو ست وسبعين سنة كما أخبرني بذلك ولده الصالح الشيخ أحمد خليفة المترجم ، وأعقب ثلاثة ذكور أحدهم الشيخ أحمد. ودفن خارج باب النيرب شمالي قبر الشيخ محمد الزمار.

١٠٨٠ ـ محمد بن معتوق الطيبي المتوفى سنة ١١٧٢

محمد بن معتوق الشريف لأمه ، التاجر الشهير بالطيبي ، الحلبي المولد والدار والوفاة.

كان والده يبيع الورق وبعض الطيب في حانوته بسوق الطيبية بباب جامع أموي حلب ، وكذلك صاحب الترجمة ، فلذلك اشتهر بالطيبي.

سافر المترجم إلى الروم في عنفوان شبابه مع خلانه وأترابه واتخذ التجارة حرفة ، فسافر إلى القسطنطينية والرومللي ومصر وبلاد الساحل ، وداخل الأكابر ، وحج مرات إلى أن صار من أصحاب الثروات ، وحبب إليه أخيرا فعل الخيرات ، منها ترميم مسجد نبي الله بلوقيا عليه‌السلام ، وذلك في سنة سبع وخمسين وماية وألف ، وعمل لذلك تاريخا شيخنا العلامة أبو الفتوح الشيخ علي الميقاتي وهو :

مقام عليه هيبة وجلالة

تدل على تحقيق ما شاع واشتهر

بأن الذي هذا الضريح يضمه

نبي له في الذكر شأن وفي السير

وكان لموسى صهره ورسوله

ولم يخش جبارين إذ خشي النفر

وقاتلهم مع يوشع ثم بعده

أتته من الله الرسالة والظفر

وفي إسمه الأقوال زاد اختلافها

كذا في أبيه لوقيا اختلف الخبر

ورجح أصحاب التفاسير كالبا

وأبلوقيا من ابن لوقا مختصر

ولم يدر أرباب التواريخ رمسه

وثامن قرن فيه ذا الرمس قد ظهر

إلى أن قال :

وخصّ الذي أحيا المقام بدعوة

يطيب بها عيشا إذا نزل الحفر

تداعى البنا ثم استقام مؤرخا

يجدده الطيبيّ للأجر إدخر

توفي صاحب الترجمة بحلب في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وماية وألف ، ودفن


خارج باب المقام رحمه‌الله. ا ه. (من خط ابن ميرو). ثم قال :

قال الحافظ أبوذر في تاريخه في فضل المزارات : منه بلوقيا عليه‌السلام مذكور في قصص الأنبياء ، مدفون في محلة التركمان وتعرف الآن بساحة بزي. وقال فيه في محل آخر : عرصة الفراتي بحضرة نبي الله بلوقيا. ثم قال : ولم يبين أبوذر رحمه‌الله متى ظهر هذا المرقد الشريف ، وكذلك شيخه مؤرخ حلب العلامة ابن خطيب الناصرية لم يذكره ، وكذلك ابن العديم ، بل ولم يتعرض له ابن الشحنة مع تأخر زمانه عمن تقدم. وقول شيخنا أبي الفتوح في أبياته (وثامن قرن فيه ذا الرمس قد ظهر) مع عدم تعرض ابن خطيب الناصرية وتلميذه أبي ذر في تاريخه الذي ذيل به على تاريخ شيخه غريب ، ولم أدر من أين له ذلك. ا ه.

١٠٨١ ـ محمد بن علي المشهور بجلبي الأنطاكي المتوفى سنة ١١٧٢

محمد بن علي المشهور بجلبي المفتي الحنفي الأنطاكي نزيل حلب ، العالم الفاضل العفيف الصالح المتعبد النظيف الزاهد.

ولد بأنطاكية ونشأ ، وكان والده مفتيا بها فمات وتولى الإفتاء بعده بها ، ثم عزل عن الإفتاء وهاجر إلى حلب وصاهر بني الكواكبي وتزوج.

وحج مرارا وجاور بيت الله الحرام ، وأخذ عن علماء الحرمين.

وله خيرات في بلده ، منها عمارة الجامع الذي لم يسبق إليه بمثيل في الشكل والزينة ، وكله من كسبه الحلال.

وكانت وفاته بحلب في سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١٠٨٢ ـ السيد شعيب الكيالي المتوفى سنة ١١٧٢

السيد شعيب الكيالي بن إسماعيل المعروف بالكيالي ، الشافعي الإدلبي العالم الفاضل. كان أديبا أريبا محققا هشا بشا لطيفا عفيفا من رآه تحقق علو نسبه.

ولد بإدلب سنة ست عشرة ومائة وألف وقرأ على أفاضلها ، ثم ارتحل إلى دمشق وقرأ


على علمائها. وقدم حلب في سنة ثلاث وأربعين ونزل بالمدرسة العثمانية وقرأ على مدرسها الشيخ محمود الأنطاكي ، ومهر في عدة من الفنون.

وله رسالة في التصوف سماها «الدر المنضود في السير إلى الملك المعبود» ، وشرح على صلوات ابن مشيش ، وله مختصر في فقه ابن إدريس رضي‌الله‌عنه سماه «تدريب الواثق إلى معاملة الخالق» ، وله شرح لطليف على دالية ابن حجازي وغير ذلك.

وأما نسبته إلى الكيالي فهو جده الأعلى ولي الله تعالى الشيخ إسماعيل الكيال البلخي الأصل قدس الله روحه ، له كرامات ظاهرة وقبره معروف بقرية من أعمال حلب تدعى طرنبا وهو الآن يزار.

وكان صاحب الترجمة له أدبية وشعر أكثره في الجناب الرفيع صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن ذلك قوله مضمنا بيتي حسان رضي‌الله‌عنه :

أهيل الود هل منكم وفاء

وهل جرحي له منكم براء

سلبتم بالنوى قلبي ولبي

وهل للمرء دونهما بقاء

قد استولى * على كلي جواكم

ومالي عن تعشقكم غناء

إذا ما لامني اللاحي بلوم

أفوه له بأن قل ما تشاء

هيامي ليس لي منه براح

وصبري ليس لي عنه أنثناء

فكيف وقد جبلت على هواهم

وعهدي لا يغيره الضناء

فهم للروح وإن ظمئت رواء

وهم للعين إن رمدت جلاء

أيا سكان طيبة إن فيكم

يطيب لي التمدح والرثاء

نأيتم عن عيوني واحتجبتم

فهلا كان لي منكم لقاء

فبعد الدار عنكم هد حيلي

وشيبني وما تم الصباء

على قلبي تجلى من حماكم

حبيب قد تغشاه البهاء

جميل لا يشابهه جمال

منير لا يقاربه سناء

يعير البدر عند التم نورا

وهل إلا به ذاك الضياء

به الغبراء جاءت ثم قالت

ومن مثلي فهاتي يا سماء

__________________

(*) في الأصل : استوى.


نبي هاشمي أبطحي

قريشي يمازجه الذكاء

ومنها :

وما إن جئت أمدحه بنظمي

ولكن فيه للنظم الثناء

به الألفاظ تنفد والسجايا

لعمر أبيك ليس لها انتهاء

رسول الله ما مدحي بواف

وأين المدح مني والوفاء

رقيت من الكمال إلى مقام

عليّ لا يقاربه علاء

وكيف وقد ملكت زمام حسن

بشطر منه جاء الأنبياء

(فأحسن منك لم تر قط عين

وأجمل منك لم تلد النساء)

(ولدت مبّرأ من كل عيب

كأنك قد ولدت كما تشاء)

محياك الجميل له ثناء

لطلعتها حكتك به ذكاء

رسول الله ياغوث البرايا

وملجأها إذا عم البلاء

شعيب قد ألم به خطوب

يضيق الصدر عنها والفضاء

ومنها :

ضعيف عاجز قلق ذليل

له جرع الأسى أبدا غذاء

وقد فقد القوى كلا فأضحى

وثكلى في كآبتها سواء

حزين دائما حتى إذا ما

جلاه الصبح كدره المساء

ومنها :

له دارك رسول الله غوثا

إذا ما بالذنوب غدا يجاء

عليك الله صلى كل آن

مع التسليم ما لاحت ذكاء

كذاك الآل والأصحاب جمعا

دواما لا يرى لهما انقضاء

وله عدة نبويات عشقتها الأرواح والنفوس ، واتخذتها الأحباب تمائم فوق الرؤوس.

وأما غزلياته فقليلة ، من ذلك قوله :

وظبي من ظباء الأنس وافى

بوجه يخجل البدر الأتما


وخدّ فيه جمر شاب ثلجا

فوا عجبي لجمر جامع الما

وثغر قد حوى درا وشهدا

فواظمئي لشهد صار ظلما

وجيد زانه خال كمسك

وقدّ ما برا إلا وأدمى

منها :

سكرت ولم يكن في الحان خمر

سوى الألحاظ حين إليّ أومى

فقلت له وقلبي لم أجده

لدي وكيف قلبي منك علما

فقال وكم لمثلك من فؤاد

عليه قد وضعت يدا ورسما

ولكنت أنت طب نفسا فإني

أمين لا أخون العهد ظلما

وله غير ذلك ، وهذا ما وصلني منه.

وفي سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف أراد الحج من جهة مصر فأدركته الوفاة في الطريق رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وذكر المرتضى الزبيدي في شرحه «تاج العروس» على القاموس في مادة كيل قال : وبنو الكيال جماعة بالشام ، منهم شيخنا السيد شعيب بن عمر بن إسماعيل الإدلبي الشافعي المحدث الصوفي ، مات بين الحرمين سنة ١١٧١ ا ه.

أقول : يجمع بينهما بأنه توجه للحجاز سنة ١١٧١ وتوفي بعد المحرم سنة ١١٧٢.

ورأيت له تعليقات حسنة على هامش شرح المناوي الكبير على الجامع الصغير للجلال السيوطي في النسخة الموجودة في المدرسة المنصورية الكائنة في محلة الفرافرة.

ومن رائق نظمه الدال على رسوخ قدمه في الأدب تشطير دالية السيد عبد الله الحجازي الحلبي المتوفى سنة ١٠٩٦ ، وقد ظفرت به بخطه محررا سنة ١١٤١ ، غير أنه ينقص من أوله ورقة فيها تشطير ستة أبيات ، ومطلع القصيدة :

أهلا بنشر من مهب زرود

أحيا فؤاد العاشق المنجود

وهي في (٨٥) بيتا موجودة بتمامها في ديوان الشيخ أمين الجندي الحمصي لأنه خمّسها ، وأول الموجود من تشطير المترجم قوله :


كيف السلو ولي فؤاد موثق

بالنجل منهم محكم بعقود

ولي الغرام بها وبال مولع

بالحب لا يصغي إلى التفنيد

وتأوه لولا دموعي لم يكد

بلظاه تكوى أعيني وخدودي

بل لا يذر مني حراكا بل ولا

ينجو الورى من جمره الموقود

داء تعوده فؤاد متيم

لم يلف غير مذلل مبعود

قسما بكم لهو الذي من بعدكم

لم يلتحف غير الأسى ببرود

كلا ولا كحل الرقاد جفونه

إذ لم يذق من طعمه المعهود

احضر لدى قاضي الهوى واستفته

أيلذ من ألف الهوى بهجود

ما أعذب التعذيب في طرق الهوى

وألذ جور من لدن مورود

فأنا الهوى فيه البلاء يطيب لي

ما لم تشب أسقامه بصدود

نفسي الفداء لذي قوام ناضر

يرمي الحشاء بنبله المحدود

عار على أهل المعارف جفو من

جعل الحذار وسيلة التهديد

يلهو فيذكر موعدي متنصلا

متبرئا من موثقي وعهودي

حسبي وفاء من حبيبي ذكره

ومن الوفاء تذكر الموعود

لبست غدائره الدجى وتقلدت

سيف اللحاظ لفتك كل شهيد

إلى أن قال في آخرها :

يا مفزع الثقلين يا غوث الورى

وثمال كل متيم مجهود

يا ملجأ للخائفين ورحمة

وأمان كل مشتت مطرود

عطفا على حالي الشتيت فإنه

لم ألق في باب السوى مقصودي

أودت بي الحوباء واللأوا وقد

ضاق الخناق وقدّ حبل وريدي

وقد التقت حلق البطان وأحكمت

ربط العداوة أربعي وجنودي

وتنصلت مني الحسان وشددت

أيدي الهوان وثائقي وعقودي

فأتيت بابك ضارعا مستصرخا

مستنجدا أهل الوفا والجود

ونحوت نحو الباب أطرق قاصدا

بجوانح ترمي الغضا بوقود

وختمها بقوله :

صلى عليك الله ما جاد الحبا

بهتاين تملا بقاع البيد


وأتى سحاب القطر في زمن الشتا

بمجلجل يروي الصخور مديد

وعلى عشيرتك الذين بحبهم

أحببت كل معاهد وودود

ولأجلها وأبي إليها منتم

طهرت من دنس العقوق برودي

فودادهم ديني وطاعة أمرهم

فرضي ونفلي وانتها مقصودي

وقلاهم كفر لديّ وحبهم

نعم العتاد إذا ألمّ هجودي

وكذلك الصحب الكرام مسلما

ما أطربت نغمات صوت العود

وتعاقب الملوان بعد مباركا

ما فاح نشر من مهب زرود

بشعيب الطف يا سلام مشطر

الأبيات راج خدمة المحمود

عدد تراجم هذا الجزء

تتمة أعيان القرن العاشر (٩٠) ، الحادي عشر (٧٤) ، من الثاني عشر

(٧٢). المجموع (٢٣٦).

تم بتوفيقه تعالى طبع الجزء السادس من (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء)

ويليه الجزء السابع أوله ترجمة محمد بن علي الجمالي المتوفى سنة ١١٧٣

وبالله التوفيق


الفهرس

(تتمة أعيان القرن العاشر)

الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

٧

أبو بكر بن عبد الكريم الزاهد إمام البلاطية

٩٥٨

بابن الطويل الشماع

٩٦١

٨

الكلام على الزاوية البلاطية

٢١

محمد بن يوسف القسطنطيني

٩٦١

٩

عبد الله بن برهان الدين الحراكي المعري

٩٥٨

٢٢

نصر الله بن محمد الخلخالي

٩٦٢

٩

إبراهيم بن أحمد الحراكي جد المترجم المتوفى أواخر القرن التاسع

٢٢

محمد بن محمد البيلوني سنة

٩٦٢

١٠

محمد بن محمد بن التقى

٩٥٨

٢٣

درويش بن يوسف معلم السلطان بحلب

٩٦٢

١١

يحيى بن يوسف عم الرضي الحنبلي

٩٥٩

٢٣

محمد بن محمد الكواكبي

٩٦٢

١٣

إبراهيم بن يوسف الحنبلي والد الرضي الحنبلي

٩٥٩

٢٣

محمد بن قاسم الصابوني

٩٦٢

١٧

السلطانة كوهر ملكشاه

٩٥٩

٢٤

أحمد بن أبي بكر سبط بني العجمي

٩٦٢

١٨

بيت كوهر ملكشاه

٢٦

محمد بن محمد بن نفيس

٩٦٣

١٨

قاسم بن محمد ابن شيخ الظاهرية

٩٦٠

٢٦

فتح الله بن أحمد المشهدي

٩٦٣

١٩

محمد بن خليل بن قنبر

٩٦١

٢٧

عبد القادر بن أحمد البكراوي

٩٦٣

٢٠

محمد بن محمد بن دراج

٩٦١

٢٨

ست المنى بنت محمد بن الزكي

٩٦٣

٢١

أحمد بن إبراهيم المشهور

٢٨

عبد الرحيم بن عبد الكريم الآمدي الكوا

٩٦٣


الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

٢٩

محمد بن يحيى الحنبلي

٩٦٣

٤٢

محمد بن محمد الدباغ

٩٦٦

٣٠

إبراهيم بن خضر باني جامع القرمانية

٩٦٤

٤٢

محمد بن محمد بن كلجا الكلزي

٩٦٦

٣١

جامع القرمانية

٤٣

فاطمة بنت عبد القادر بنت قريمزان

٩٦٦

٣٢

الشهاب أحمد بن الحسين البيري

٩٦٤

٤٣

حمد الله بن أحمد الخلخالي

٩٦٧

٣٤

خليل بن أحمد الصيرفي

٩٦٤

٤٥

عبد الوهاب بن إبراهيم العرضي

٩٦٧

٣٤

محمد بن يوسف العادلي

٩٦٤

٤٧

أحمد بن الشيخ عبدو القصيري

٩٦٨

٣٥

هاشم بن ناصر الدين السروجي الطبيب

٩٦٤

٤٨

أبو بكر بن أحمد العطار الجلومي

٩٦٨

٣٥

يحيى بن يوسف الحمزاوي

٩٦٤

٥٠

محمد بن علي الطباخ

٩٦٨

٣٦

محمد بن الأميري أغامن

٩٦٤

٥٠

القاضي أبو الجود محمد بن محمد العزازي

٩٦٨

٣٦

الكلام على درب الحرانيين

٥١

علي بن عبد الرحمن الدليواتي

٩٦٨

٣٦

ناصر الدين بن زين الدين المصابني

٩٦٤

٥١

أبو بكر بن أحمد النقاش

٩٧٠

٣٧

عبيد الله بن محمد قاضي حلب

٩٦٤

٥٢

يحيى بن محمد البرهان

٩٧٠

٣٨

إبراهيم بن الناصر محمد المعروف بابن حطط

٩٦٥

٥٣

محمد بن علي التروسي

٩٧٠

٣٩

أحمد بن الأمير يونس بن صاروخان

٩٦٥

٥٣

محمد بن علي الملا

٩٧١

٣٩

عبد الكريم بن محمد القلعي

٩٦٥

٥٤

معروف بن أحمد الضعيف قاضي حلب

٩٧١

٤٠

علي بن يوسف كاتب الحرمين

٩٦٥

٥٥

عبد الباقي بن علي القرصلي قاضي حلب

٩٧١

٤١

محمد بن محمد بن سويدان العبيي

٩٦٥

٥٧

خليل بن أحمد الشيخ غرس


الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

الدين

٩٧١

٨٦

حسين بن عبد القادر الكيلاني المتوفى أواخر هذا القرن

٨٦

٦٢

رضي الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي المؤرخ

٩٧١

٨٧

أبو السعود بن أحمد النحريري المتوفى أواخر هذا القرن

٨٧

٧٢

إبراهيم بن بخشي المشهور بدده خليفة

٩٧٣

٨٧

عمر بن إبراهيم الأرمنازي المتوفى أواخر هذا القرن

٨٧

٧٣

عبد الرحمن بن محمد البتروني

٩٧٧

٨٨

محمد بن عبد الله القطان المتوفى أواخر هذا القرن

٨٨

٧٦

محمد بن مسلّم التونسي

٩٧٧

٩٠

إبراهيم بن محمد الماسلوني المتوفى أواخر هذا القرن

٩٠

٧٨

إبراهيم بن أحمد الحراكي

٩٧٨

٩٠

محمد بن محمد الأنصاري المتوفى أواخر هذا القرن

٩٠

٧٩

إبراهيم بن قاسم ابن شيخ الظاهرية

٩٧٨

٩٠

مسعود بن يوسف الشرواني المتوفى أواخر هذا القرن

٩٠

٧٩

يوسف بن عمر المعروف بابن حسن ليه

٩٧٩

٩١

أمير اللواء جان بلاط ابن عربو المتوفى أواخر هذا القرن

٩١

٨٠

محمد بن حسن الأسدي المتوفى أواخر هذا القرن

٩٣

الكلام على الدار العظيمة التي بناها جان بلاط

٩٣

٨٢

كمال الدين محمد بن أبي الوفا بن الموقع المتوفى أواخر هذا القرن

٩٤

محمد بن نور الدين الإسحاقي أمير الأشراف المتوفى أواخر هذا القرن

٩٤

٨٣

أبو بكر بن محمد بن قرموط المتوفى أواخر هذا القرن

٩٥

خالد بن أبي بكر الأريحاوي المتوفى أواخر هذا القرن

٩٥

٨٤

مسجد القرموطية

٩٦

يوسف بن أحمد الحسيني

٩٦

٨٤

الطبيب جمال الدين بن أحمد الأتروني المتوفى أواخر هذا القرن

٨٥

أبو بكر بن يحيى بن العديم المتوفى أواخر هذا القرن

٨٥

يحيى بن أبي بكر بن العديم

٩٥٤


الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

المتوفى أواخر هذا القرن

١٠٩

إبراهيم بن الخواجا قاسم

٩٨٣

٩٦

حسين بن عمر النصيبي المتوفى أواخر هذا القرن

١٠٩

عبد الرحمن بن علي الأماسي قاضي حلب

٩٨٣

١٠١

عبد اللطيف بن عبد الرزاق الأنطاكي المتوفى أواخر هذا القرن

١١٠

الشيخ أبو بكر بن أبي الوفا صاحب المزار المشهور

٩٩١

١٠١

فتح الله بن عبد اللطيف الآمدي المتوفى أواخر هذا القرن

١٢٥

وصف مكان الشيخ أبو بكر ورسمه

١٠٢

الكلام على جامع الحدادين

١٢٩

أحمد بن الحسن الشهاب الأسدي المتوفى أواخر هذا العقد ظنا

١٠٣

جامع بانقوسا والزاوية الملاصقة له

١٣١

الخواجه سعد الله بن علي الملطي

٩٤٦

١٠٧

نصوح بن يوسف الأرنؤوطي

٩٨١

وقد سهوت عن وضعها في محلها

١٠٨

ياسين بن إبراهيم البكفلوني

٩٨١

١٣٢

الكلام على جامع الطواشي في محلة باب المقام وزاوية الجيّة

١٠٩

محمد باشا بن مصطفى اللالا

٩٨٢

أعيان القرن الحادى عشر

١٣٥

الشهاب أحمد بن محمد بن الملا

١٠٠٣

١٦٢

محمد بن عبد القادر البيمارستاني نقيب الأشراف

١٠١٠

١٤٨

شمس الدين محمد بن قاسم بن المنقاره

١٠٠٥

١٦٣

محمد بن أحمد الملا

١٠١٠

١٥٦

بد الدين محمود بن محمد البيلوني

١٠٠٧

١٦٧

أبو الوفا بن محمد السعدي

١٠١٠

١٦٩

الكلام على الزاوية الوفائية

١٧١

الكلام على جامع الزكي


الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

١٧٣

حسين بن محمد البيمارستاني نقيب الأشراف

١٠١٣

٢١٤

المولى إبراهيم بن أحمد الكواكبي

١٠٣٩

١٧٥

ولي المعروف بشاه ولي العيني

١٠١٣

٢١٥

الشيخ أبو الجود بن عبد الرحمن البتروني

١٠٣٩

١٧٥

صادق بن هاشم السروجي الطبيب

١٠١٦

٢١٨

الشيخ عبد القادر بن محمد قضيب البان المتوفى في حدود

١٠٤٠

١٧٦

أحمد بن عمر الحمامي العلواني

١٠١٧

٢٢١

الشيخ أحمد بن عمر القاري خليفة الشيخ أبي بكر

١٠٤١

١٧٩

محمد بن علي الرامحمداني نقيب الأشراف

١٠١٩

٢٢٤

زين الدين بن أحمد الأشعافي

١٠٤٢

١٨٠

يوسف بن أبي بكر الأنصاري المتوفى أوائل هذا القرن

٢٢٥

فتح الله بن محمود البيلوني

١٠٤٢

١٨١

سرور بن الحسين الشاعر المتوفى في حدود العشرين

٢٣٠

زاوية البيلوني

١٨٦

محمد بن أحمد المعروف بابن قولاقسز

١٠٢١

٢٣١

محمد بن عبد الرحمن البتروني

١٠٤٢

١٨٧

أحمد بن محمد الكواكبي

١٠٢٣

٢٣٢

محمد الشهير بغلامك البوسنوي قاضي حلب

١٠٤٥

١٩٠

بهاء الدين بن زهرة

١٠٢٤

٢٣٣

أبو اليمن بن عبد الرحمن البتروني

١٠٤٦

١٩١

شيخ الإسلام عمر بن عبد الوهاب العرضي

١٠٢٤

٢٣٤

أصلان دده المجذوب

١٠٤٨

٢٠٠

إبراهيم بن أحمد الملا بعد

١٠٣١

٢٣٧

القاضي محمد بن محمد بن بهرام الكوراني

٧٠٥

٢٠٣

الشاعر الأديب حسين بن أحمد الجزري

١٠٣٣

٢٣٧

القاضي محيي الدين بن شمس الدين الكوراني

٩٨٢

٢١٣

الشيخ أحمد بن محمد السعدي

١٠٣٣

٢٣٧

القاضي سعد الدين الكوراني

٩٨٣

٢٣٧

القاضي صلاح الدين بن


الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

محيي الدين الكوراني

١٠٤٩

٢٨٩

أحمد بن محمد البتروني

١٠٧١

٢٥٢

عمر بن أبي الطيب الخشابي الصديقي المتوفى ما بعد

١٠٥٠

٢٨٩

أبو الوفا بن عمر العرضي

١٠٧١

٢٥٤

فتح الله بن النحاس الشاعر المشهور

١٠٥٢

٢٩٩

محمد بن عمر العرضي

١٠٧١

٢٥٧

إبراهيم بن أبي اليمن البتروني

١٠٥٣

٣١٥

يوسف البديعي

١٠٧٣

٢٥٩

محمد بن أحمد القاسمي الشاعر

١٠٥٤

٣١٦

الشيخ إخلاص الخلوتي

١٠٧٤

٢٦٣

النجم محمد بن محمد الحلفاوي

١٠٥٤

٣١٧

الزاوية الإخلاصية

٣١٨

٢٦٦

أبو السعود بن محمد الكوراني ووالده محمد

١٠٥٦

٣٢٢

الشيخ مصطفى داده القصيري

١٠٧٤

٢٦٩

أحمد بن محمد الحسني النقيب

١٠٥٦

٣٢٣

إسماعيل الكلشني

١٠٧٦

٢٧٨

يحيى الصادق الشاعر المتوفى ما بين (١٠٥٠) و (١٠٦٠)

٣٢٤

الزاوية الكلشنية

٣٢٤

٢٨٠

مصطفى العلبي المتوفى ما بين (١٠٥٠) و (١٠٦٠)

٣٢٥

محمد غازي الخلوتي

١٠٨١

٢٨١

محمد بن عبد الوهاب المهمندار

١٠٦٠

٣٢٦

عبد الرحمن بن حسام زاده قاضي حلب

١٠٨١

٢٨٢

السيد محمد بن أبي بكر التقوى الحراكي

١٠٦١

٣٢٨

محمود بن عبد الله الموصلي

١٠٨٢

٢٨٧

محمد حجازي بن عبد القادر المشهور بابن قضيب البان

١٠٦٩

٣٢٩

محمد بن فتح الله البيلوني

١٠٨٥

٣٣٢

موسى الرامحمداني

١٠٨٩

٣٣٧

رجب بن حجازي

١٠٩١

٣٣٩

عطاء الله بن محمود الصادقي

١٠٩١

٣٤٠

مصطفى بن طه نقيب الأشراف

١٠٩١

٣٤٠

مصطفى بن عبد الملك البابي الشاعر

١٠٩١

٣٥٠

محمد الكواكبي قاضي الآستانة

١٠٩٣


الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

٣٥٠

أسعد بن عبد الرحمن البتروني

١٠٩٣

٣٨٠

مصطفى بن محمد الحفاوي المتوفى أواخر هذا القرن

٣٨٠

٣٥٣

باكير بن أحمد المعروف بابن النقيب

١٠٩٤

٣٨٢

حسين النبهاني المتوفى أواخر هذا القرن

٣٨٢

٣٥٦

محمد بن الحسن الكواكبي

١٠٩٦

٣٨٣

مصطفى بن حسن الزيباري المتوفى أواخر هذا القرن

٣٨٣

٣٦٣

عبد الله بن محمد حجازي

١٠٩٦

٣٨٦

محمد بن شاه بندر المتوفى أواخر هذا القرن

٣٨٦

٣٧٦

محمد بن محمد البخشي

١٠٩٨

٣٨٠

مصطفى بن محمد الحفاوي المتوفى أواخر هذا القرن

٣٨٠

٣٧٩

صالح بن قمر المتوفى أواخر هذا القرن

أعيان القرن الثاني عشر

٣٨٩

محمد بن محمد الحنفي

١١٠٤

الشافعي نزيل فارس

١١٢٠

٣٩٠

الشيخ قاسم بن صلاح الدين الخاني سنة

١١٠٩

٤٠٥

عبد الله بن مصطفى الزيباري المتوفى أوائل هذا القرن

٣٩١

الشيخ محمد النوري البغدادي المتوفى ظنا سنة

١١٠٩

٤٠٨

صادق بن عبد السلام البتروني المتوفى أوائل هذا القرن

٣٩٢

مسجد الأربعين

٤١٠

صالح بن إبراهيم الداديخي المتوفى أوائل هذا القرن

٣٩٣

عطاء الله العاني المتوفى حول

١١١٠

٤١٥

أبو بكر الشهير بابن عراق المتوفى بعد

١١٢٠

٣٩٦

خالد بن محمد بن عمر العرضي المتوفى بعد سنة ١١١٥ بقليل

٤١٥

أبو المواهب العرضي

١١٢١

٤٠٠

عامر المصري المقري

١١١٦

٤١٧

مصطفى بن حسين اللطيفي ١١٢٣

٤٠١

الشيخ محمد داده الوفائي

١١١٩

٤١٨

مصطفى الحفسرجاوي

١١٢٣

٤٠٢

أحمد بن عبد الحي الحلبي

٤١٩

أحمد بن محمد الكواكبي

١١٢٤


الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

٤٢٥

مصطفى نعيما المتوفى

١١٢٨

٤٤٩

الوزير إسماعيل بن إبراهيم العظم جد بني العظم

١١٤٥

٤٢٥

عبد الرحمن العاري

١١٢٨

٤٥٠

مصطفى بن منصور الطبيب المتوفى بعد ١١٤٥ بقليل

٤٢٦

زين الدين بن عبد اللطيف الجلّومي المتوفى حول سنة

١١٣٠

٤٥١

عثمان بن يحيى بن ميرو

١١٤٥

٤٢٧

يحيى العقاد الشاعر المتوفى حول سنة

١١٣٠

٤٥٢

رمضان بن عبد الرحمن العطار

١١٤٧

٤٢٨

إصلاحات هامة في جامع البهرمية

٤٥٢

محمد هلال بن عمر الرامحمداني

١١٤٨

٤٢٩

علي بن أسد الله

١١٣٠

٤٥٣

عمر بن مصطفى طه زاده

١١٤٨

٤٣٠

عبد اللطيف بن عبد القادر الزوائدي

١١٣٢

٤٥٥

عمر بن عبد القادر الأرمنازي

١١٤٨

٤٣٢

الشيخ علي داده الوفائي

١١٣٥

٤٥٦

مصطفى بن محمد المعروف بابن بيري البتروني

١١٣٨

٤٣٣

أحمد بن عبد الله الشراباتي

١١٣٦

٤٦٩

عبد الرحمن بن محمد البتروني

١١٥٠

٤٣٤

إبراهيم بن محمد البخشي البكفلوني

١١٣٦

٤٧٢

عبد اللطيف بن أحمد الكوراني

١١٥٠

٤٣٥

أبو السعود بن أحمد الكواكبي

١١٣٧

٤٧٥

محمد البيلوني

١١٥٠

٤٣٦

عمر بن محمد البصير المصري المقري

١١٣٧

٤٧٦

نعمة الفتال المتوفى بعد

١١٥٠

٤٣٨

طه بن مصطفى المشهور بطه زاده

١١٣٧

٤٧٦

صالح المواهبي

١١٥٢

٤٤٣

حسين بن محمد التفتنازي

١١٣٩

٤٧٨

حسن السرميني

١١٥٣

٤٤٥

إسحق بن محمد البخشي

١١٤٠

٤٧٩

مصطفى بن يوسف الخوجكي

١١٥٣

٤٤٥

حسن بن علي الطباخ

١١٤٠

٤٧٩

يوسف بن حسين النقيب

١١٥٣

٤٤٧

سليمان بن خالد النحوي

١١٤١

٤٨٤

حسين بن علي الوفائي

١١٥٦

٤٤٨

علي بن بيان

١١٤٣


الصفحة

الوفاة

الصفحة

الوفاة

٤٨٦

الشيخ محمد فتيان

١١٥٧

٤٩٨

عبد الوهاب بن محمد العداس

١١٦٦

٤٨٦

حسب الله بن منصور البابي

١١٥٩

٤٩٨

محمد الزمار

١١٦٧

٤٨٧

يوسف بن عبد الله العطار

١١٦٠

٤٩٩

عثمان بن عبد الله العرياني

١١٦٨

٤٨٧

يس بن مصطفى طه زاده المتوفى في نواحي سنة

١١٦٠

٤٩٩

قاسم بن محمد البكرجي

١١٦٩

٤٨٨

حسين باشا بن حسن البابي المتوفى حول سنة

١١٦٠

٥٠٧

عبد القادر بن بشر المتوفى بعد

١١٧٠

٤٩٠

عبد الله بن فتح الله أديب

١١٦١

٥٠٧

علي بن إبراهيم العبسي

١١٧١

٤٩١

حسن بن ملك الحوي

١١٦١

٥٠٨

محمد بن أحمد المكتبي

١١٧١

٤٩٢

محمد الكبيسي

١١٦١

٥١٠

محمد بن معتوق الطيبي

١١٧٢

٤٩٣

محمود بن عبد الله الأنطاكي

١١٦١

٥١١

محمد بن علي جلبي الأنطاكي

١١٧٢

٤٩٥

عبد اللطيف الإدلبي

١١٦١

٥١١

الشيخ شعيب بن إسماعيل الكيالي

١١٧٢

٤٩٧

رجب المعروف بالنجيب الشاعر

١١٦٣

٤٩٧

قاسم النجار

١١٦٣

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ٦

المؤلف:
الصفحات: 525