



مقدمة المركز
الحمد لله حَقَّ حمده . . والصلاة
والسلام على من لا نبي من بعده ، وعلى آله الأطهار الميامين ، وصحبه الخيار المنتجبين ، والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين . .
وبعد . .
فالمعاد ، أصل ثابت من أصول الاعتقاد ،
لا في الإسلام وحده ، بل في سائر الأديان السماوية ، وهو الأصل الذي اقترن بالتوحيد والنبوة ، إذ صار الإيمان بالله
وبرسله وكتبه داعياً إلى ضرورة الإيمان به ، فهو لازم التصديق بدعوات الأنبياء المشحونة بالنصوص القاطعة في إثباته ، وهو أيضاً لازم الوعد الإلهي بالثواب ، والوعيد بالعقاب ، وهما من لوازم التكليف ، ولوازم العدل الإلهي أيضاً ، ولوازم الهدفية والغائية في الحياة ، المنافية للعبث الذي لا محل له مع العدل والحكمة الإلهيين . . والقرآن يكشف عن هذا التلازم الأكيد في نصوص كثيرة ، من أكثرها وضوحاً قوله تعالى : ( ) ؟ [ المؤمنون : ٨٣ / ١١٥ ]
وقد واجه الكثير من البشر على امتداد
التاريخ هذه العقيدة بأسئلة بدائية ساذجة ، وما زالت ، رغم بدائيتها وسذاجتها ، مصدراً لشكوك الكثير ممن تردد في قبول هذا المبدأ أو أنكره . . تدور هذه الاشكالية حول إمكان عودة الجسد البشري بعد تفسّخه في الأرض ، أو توزّعه ذرات مفرّقة هنا وهناك . . ومنذ عصر التنزيل عالج
القرآن الكريم هذه الاشكالية بطرح البراهين الحسيّة التي تفتح الأذهان أمام أبسط أشكال القياس الذي تستسيغه العقول الفطرية ، وتدرك أهميته العقول الفلسفية ، وذلك في مثل قوله تعالى : (
)
[ يس : ٣٦ / ٧٨ ـ ٧٩ ] .
بل أوقف الله تعالى البشرية في حقب
كثيرة علىٰ مصاديق حيّة لهذا الاحياء والاعادة بعد الفناء والتفسّخ ، وهو كثير في قصص أنبياء بني إسرائيل هؤلاء القوم الذين كانوا أكثر الأمم لجاجةً وأبعدهم عن المنطق السليم .
أما في ما وراء هذه الاشكالية البدائية
، فقد ظهرت أسئلة الفلاسفة ، في أصل المعاد نفسه ، بل في كيفيته وصورته ، بعد الايمان به وإقامة البراهين الفلسفية
عليه .
فكانت أسئلتهم تدور حول طبيعة الروح
وعلاقتها بالجسد ، وما إذا كانت الروح تفنىٰ هي الأخرىٰ بعد الموت ثم تعود ، وما إذا كانت أدلة المعاد
الفلسفية والشرعية دالة على عودة الأجساد أم يمكن حصر دلالتها بعودة الأرواح ، ليكون الثواب والعقاب متعلق بالأرواح لا بالأجساد ، في أسئلة تفصيلية تعود إلى هذه المحاور ، والتي تنتهي الاجابات فيها عند سائر فلاسفة الإسلام إلى أنّ الموت متعلق
بالجسد ، لا بالروح ، وإن للأرواح محالّها حتى يوم البعث ، حيث تعود الأجساد ثانية ، بما اصطلح عليه بالمعاد الجسماني ، لتتلبس بها أرواحها ، في حياتها الأخيرة ، الأبدية .
ولتلك الحياة الأبدية فصول طويلة ، وضعت
آيات القرآن الكريم والسنّة المطهّرة حدودها ومعالمها الأساسية ، ابتداءً بالبرزخ ، فقيام الساعة ، فالبعث ، والنشور ، والحشر ، والحساب ، والميزان ، والصراط ، وانتهاءً بالجنة والنار .
تلك الفصول الطويلة التي صار يُعبَّر
عنها بمشاهد القيامة .
فإلىٰ مفهوم المعاد ، وأدلته ، ثم
حقيقته ، وفصوله المتصلة ، ينقلنا هذا الكتاب في رحلة روحية نحن أحوج ما نكون إليها .
مركز الرسالة
المُقدَّمةُ
الحمد لله ربّ العالمين ، وأفضل الصلاة
وأتمّ التسليم على خير الأنام محمد المصطفى وآله الهداة المعصومين الأكرام . . وبعد . .
إنّ الإيمان بالمعاد يعدّ أحد أهم اُصول
العقيدة الإسلامية وأركانها الأساسية الثابتة في القرآن الكريم والسنّة المطهرة ، فضلاً عن دلالة العقل السليم على ثبوت
حقيقة المعاد وحتمية الحياة الآخرة .
ومن قبل اتفقت الشرائع السماوية جمعاء
على تأصيل هذا المبدأ العقائدي ، وتحمّل الأنبياء والرسل ، في مختلف مراحل التاريخ ، المتاعب الجمّة والتحديات الكثيرة ، على طريق ترسيخه في نفوس أقوامهم .
إنّ التفكّر في خلق السماوات والأرض ،
وخلق مفردات هذا الكون الفسيح ونظامه الكامل المنسجم ، يقودنا إلى الايمان بالقدرة العظيمة ، لبديع السماوات والأرض ، على إحداث النشأة الثانية ، كما أحدث النشأة الأُولى من العدم ، لأنّ من قدر على الابتداء فهو على الاعادة أقدر ()
وعبّر أمير المؤمنين عليهالسلام
عن ذلك بقوله : « عجبت لمن أنكر النشأة الآخرة ، وهو يرى النشأة الاُولى ! » .
وعليه فالموت ، ذلك القادم الذي سيحلّ
بنا وشيكاً كما حلّ بمن قبلنا ، ليس هو العدم والفناء ونهاية قصة خلق الإنسان ، خليفة الله المكلّف بالعبودية والطاعة
لله ،
__________________________
وحده لا شريك له ، وإقامة عناصر الخير
ومبادئ الحق في الأرض ، بل هو في عقيدة الإسلام مرحلة أولية من مراحل عالم الآخرة ، عالم الخلود والبقاء ، عالم الجنة والنار ، حيث الناس هناك باقون رهائن أعمالهم ()
فإما نعيم دائم ، أو عذاب مقيم .
إنه العالم الذي يتجلّىٰ فيه عدل
الله تعالىٰ وصدق وعده ووعيده ، فذاك عالم الجزاء على ما كان في هذا العالم ، عالم الابتلاء . .
من هنا فإنّ الإيمان بأنّ الله تعالى
يبعث الناس بعد الموت في خلق جديد ، في اليوم الموعود ، فيثيب المطيعين ويعذّب العاصين ، يعدّ من
العوامل الأساسية في السيطرة على الغرائز الإنسانية والأهواء النفسية ، ويشكّل رادعاً عن اقتراف الذنوب ، ويجعل من وجود الانسان في الحياة الدنيا وجوداً مكرّماً ، فيسعى إلى تفعيل عناصر الخير والصلاح والفضيلة والكمال في نفسه ، وفي اُسرته ومجتمعه ، ليتهيأ لما يستقبله بعد الموت من شدائد القبر وأهوال الحساب .
إنّ الإيمان بالمعاد ، من ناحية أخرىٰ
، يحيي الأمل في نفوس البشر ، وهي تتطلّع إلى حياة الآخرة ، المعبّرة عن عدل الله وصدق وعده ووعيده ، فيجدّون في ترسيخ قيم الأخلاق والدين ، ويتحمّلون الصعاب في سبيل الاصلاح والدعوة إلى الحقّ والصدق والعدل .
وفي هذا البحث سنسلّط الضوء على هذا
الموضوع ، في أربعة فصول ، نتناول فيها تعريف المعاد وآثار الاعتقاد به ، وأدلة وجوبه وضرورته ، وبيان حقيقته ،
والردّ على شبهات المنكرين ، ومنازل المعاد كالموت والحياة البرزخية ، وأشراط الساعة ، ومشاهد يوم القيامة ، وغيرها .
أجارنا الله من غضبه وسطوته ، وشملنا
بعفوه ورحمته
__________________________
الفصل الأوّل :
معنى المعاد وآثار الاعتقاد به
المبحث الأوّل : معنى المعاد لغةً واصطلاحاً
المعاد في اللغة : كلّ شيءٍ إليه المصير والمآل ، وهو مصدر عاد إليه يعود عَوْداً وعودةً ومعاداً ، أي : رجع وصار إليه ، قال تعالى : ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .
ويتعدّى بنفسه
وبالهمزة ، فيقال : عاد الشيءَ عَوْداً وعِياداً : انتابه وبدأه ثانياً ، وأعدتُ الشيء : رددته ثانياً ، أو أرجعته ، وأعاد الكلام : كرّره ، قال تعالى : (
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا )
.
وأصل المعاد ( مَعْوَد
) على وزن ( مَفْعَل ) قُلبتْ واوه ألفاً ، ومثله : مقام ومراح ، وقد جاء على الأصل في حديث أمير المؤمنين عليهالسلام : « والحَكَمُ الله ، والمَعْوَدُ إليهِ القِيامةُ » .
ومَفْعَل ومقلوبها
تستعمل مصدراً صحيحاً بمعنى العَوْد ، واسماً لمكان العَوْد أو زمانه ، قال تعالى : (
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ
__________________________
مَعَادٍ ) ، وفي الحديث : «
واصلح لي آخرتي التي فيها معادي » .
والمبدئ المعيد : من
صفات الله تعالى ، لأنّ الله سبحانه بدأ الخلق إحياءً ، ثمّ يميتهم ، ثم يعيدهم إلى الحياة يوم القيامة ، قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ )
.
المعاد في الاصطلاح : هو الوجود الثاني للأجسام وإعادتها بعد موتها وتفرّقها .
وعرّف أيضاً بأنه
الرجوع إلى الوجود بعد الفناء ، أو رجوع أجزاء البدن إلى الاجتماع بعد التفرّق ، وإلى الحياة بعد الموت ، ورجوع الأرواح إلى الأبدان بعد المفارقة . واختلفوا في حقيقته ؛ أهو روحاني فقط ، أم هو جسماني ؛ فالقائلون بأنه روحاني فقط ، هم جمهور الفلاسفة الذين توقفوا عند قاعدتهم العقلية التي تقول : إن المعدوم لا يعاد . فلما كانت الأبدان تنعدم بعد الموت ، فلا يمكن أن تعاد ثانية ، وعليه جعلوا المعاد وما يتعلّق به من شأن الروح وحدها التي لا يعتريها الفناء .
__________________________
وأما القائلون
بالمعاد الجسماني ، وهم عامة أهل الإسلام من المتكلمين والفقهاء وأهل الحديث وأهل التصوف ، فقد آمنوا بعودة الأبدان يوم القيامة كما أخبر عنه الله تعالىٰ .
وقد افترق هؤلاء
أيضاً في مصير الروح بعد الموت إلى فريقين لاختلافهم في تفسير الروح ؛ فقال فريق بأن الروح جسم سارٍ في البدن سريان النار في الفحم ، والماء في الورد ، فالمعاد عندهم بالنسبة للبدن والروح هو معاد جسماني ، وقال آخرون وفيهم كثير من الحكماء وأكابر المتكلمين والعرفاء بتجرد الروح وعودتها إلى البدن بعد البعث . . فيصبح المعاد عندهم جسماني روحاني . وعلى هذا ورد تقسيم الأقوال في المعاد إلى ثلاثة : روحاني ، وجسماني ، وجسماني روحاني .
المبحث الثاني : آثار الاعتقاد بالمعاد
قبل أن نبين الآثار
المترتبة على الاعتقاد بالمعاد ، لا بدّ من الإشارة إلى أن الله سبحانه لم يفرض علينا الاعتقاد باليوم الآخر ، وما فيه من المُداقّة في الحساب وظهور نتائج الأعمال ، كوسيلة من وسائل الردع عن الشرّ والفساد في الدنيا والترغيب في عمل الخير والرشاد ، وحسب ، بل أوجبه تعالى لأنّه حقيقة ثابتة لها وجود واقعي ، ولأنّ الإيمان بالمعاد إيمان بالأمر الواقع ، وتسليم بالقضاء الحتم الذي لا بدّ منه ، قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ
__________________________
عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي
الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .
أمّا ما يترتب على
الإيمان بالمعاد ، من الوقوف عند حدود الشريعة وامتثال أحكامها وتطبيق مقرراتها ـ وما يتبع ذلك من آثار تعود في صالح الفرد والمجتمع ، سواء في إطار تهذيب الأخلاق وتقويم السلوك ، أو في إطار تنمية النوازع النفسية الخيّرة ، وضمان عروجها في سُلّم الفضيلة والكمال ـ فهي فرع لذلك الأصل ، وثمرة من ثمراته الطيبة ، والتي ترسم لنا بمجموعها صورة من صور الحكمة الإلهية في فرض اُصول الاعتقاد وتشريع الأحكام ، وما لذلك من آثار تعود في صالح الفرد ، وتضمن مصالحه وسعادته في الدارين ، وتسهم في تنظيم الحياة الانسانية بأبهىٰ صورها ، وفي ما يلي نذكر أهمّ تلك الآثار :
أولاً : أثر المعاد في إطار السلوك
لا يخفى أن إرسال
الأنبياء يُعدّ من الضرورات التي تفرضها حاجة الإنسان إلى الهداية والصلاح ، بما ينسجم مع الحكمة الإلهية التي قضاها الله تعالى في خَلْقه ، ولا يمكن إقامة اُسس تلك الهداية ما لم تقترن بقوّة تنفيذية فاعلة تحمل الإنسان على الانصياع لها ، وتُخرج التعاليم الإلهية والأحكام السماوية من حيّز النظرية إلى واقع الممارسة ، فتقود الإنسان إلى ساحل الرشاد ، دون أدنى تجاوزٍ منه أو مخالفة ، وبدون تلك القوّة ستبقى تلك التعاليم والأحكام مجرّد مواعظ ، ليس لها معنى في واقع الحياة ، ولا أدنى
__________________________
تأثير
في سلوك الانسان .
وإذا تصوّرنا أن
العوامل الخارجية المتمثّلة بقوانين العقوبات الوضعية ـ وما فيها من السجن والاعدام والابعاد وغيرها ـ قادرة على كبح جماح النفس الانسانية وسيرورتها باتجاه تطبيق اُسس الصلاح والهداية ، فإن الواقع يشير إلى فشل تلك العوامل في اجتثاث جذور الشرّ والفساد وضمان السعادة والكمال والأمن ، سواء على صعيد الفرد أو المجتمع .
ذلك لأنّ تلك
القوانين إذا كانت قد نجحت في ردع المجرمين والأشرار من الرعية ، بانزال أقصى العقوبات بهم ، فإنّها قد أفلست في الحدّ من انحرافات أصحاب القرار السياسي ، وأصبحت قاصرة أمام المتسلّطين الذين يتلاعبون بمقدّرات الشعوب ، ويبتزّون أموالهم ويغتصبون حقوقهم تحت غطاء قانوني مصطنع يوفّر لهم الحماية والأمان .
ثم إنّ العوامل
الخارجية المؤثرة في سلوك الفرد ، بما فيها من قوانين العقوبات التي تواضعت عليها أنظمة الحكم في أغلب الدول ، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقوة الدولة وهيبة سلطتها الحاكمة وسلامة أدواتها التنفيذية ، وحينما تفقد الدولة تلك القوة والهيبة ، ويستشري الفساد في أوصالها ، فلا قيمة لتلك القوانين ، وليس لها أدنى هيبة أو احترام .
وإذا افترضنا نجاح
القوانين الوضعية في ردع المجرمين من الرعية والحاكمين ، مع وجود القانون الذي يضمن استمرار قوة الدولة وفاعلية مؤسساتها التنفيذية ، فإنّ في جنبات الإنسان منطقة فراغ لا تطالها مراقبة السلطة ، ولا تصلها سلطة القانون ، ومن تلك المنطقة تحدث الجرائم والانحرافات الشاذة ، بعيداً عن الأضواء الكاشفة ، بسبب شهوات النفس
الأمّارة
وما يعدها الشيطان من الغرور (
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ) ، (
إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا )
.
وإذا قيل : بأن
الملحد قد يكون فاضلاً قويماً ، فإن فضيلته ظاهرية ، لا ترتكن على اُصول نفسية ، فضيلة أوجدها الحياء من المعاشرين ، أو التقية من سلطة القوانين ، ولو غاب الرقيب وخلا له الجو ، فإنه لا يتورّع عن هتك سترٍ أو سلب مالٍ أو اقتراف محرّم ؛ لأن الشهوة إذا امتلكت ناصية النفس ، قادتها إلى كلّ رذيلة ، وركبت كلّ دنيئة ، فأنّى تكون الفضيلة لمن يعتقد أنه حيوان فانٍ ؟
وعليه فإنّ القوانين
التي تسنّها الدول ، وحتى في أكثر دول العالم مدنيةً وتقدماً ، قد أثبتت فشلها الذريع في توجيه سلوك الفرد ، وتنظيم حياته ، وبلوغ أهدافه الإنسانية والروحية ، على اُسس ثابتة وقويمة ، تستوعب حركة الفرد في المجتمع وتصرفاته وأعماله الظاهرية والباطنية ، وترشده إلى الصلاح والسعادة في دنياه وآخرته .
وممّا تقدمّ يتبيّن أن
العوامل الداخلية الكامنة في أعماق نفس الإنسان ، والنابعة من صميم وجدانه وضميره ، هي القوة الوحيدة التي تحكم سلوكه وتصرفاته ، وتلازمه في حلّه وترحاله وسرّه وعلنه ، وذلك لما للروح من قدرة ذاتية على كبح جماح صاحبها ، لأنها من عالمٍ علوي ، فتنزع بفطرتها إلى الكمال والسمو ، ولكن قلّما يصل الإنسان إلى أن يجعل لروحه سلطاناً على جسده ، لأن هذا الأمر يحتاج إلى رياضة روحية قاسية لا تسهل إلّا
__________________________
لمن
يعتقد بخلود النفس ، وهذا الاعتقاد يخلق في أعماق النفس الإنسانية حافزاً يدعو إلى عمل الفضائل والخيرات ، رجاءً في ثواب الآخرة ، ووازعاً يحدّ من الأهواء والشهوات ، ويردع عن ارتكاب المعاصي والسيئات ، خوفاً ورهبةً من عقاب الآخرة .
ذلك لأنّ الضمير
الانساني وحده قد يؤنّب صاحبه على سيئةٍ فعلها ، لكنّه لا يعذّبه ، وقد يعاتبه على منكرٍ اقترفه ، لكنّه لا يعاقبه ، وقد يكون ناصحاً وواعظاً ، لكنّه قد لا يكون موجّهاً ، لأنه لا يملك نفعاً ولا ضراً إزاء أهواء النفس وجموحها في عالم الضلال والغواية ، وكثيراً ما تغالبه فيكفّ ويعتزل ، وعندها يفعل الانسان ما يشاء تحت جنح الظلام بعيداً عن أعين الناس .
فإذا كانت القوانين
الرسمية والأعراف الاجتماعية وازعاً يردع الانسان من الخارج ، والضمير الانساني وازعاً يردعه من الداخل ، فيضبطان سلوكه وتصرفه إلى قدرٍ معين ، فإنّ الإيمان بالله والاعتقاد باليوم الآخر يجمع بين الاثنين ويفوقهما ، لأنّه يغرس في النفوس اُسس التربية الأخلاقية القائمة على الشعور بوجود الرقيب على القول والعمل ، ولا يستطيع المؤمن التهرّب من ذلك الرقيب في جميع أحواله ، لأنه محيط بكلّ شيء ، وأقرب إليه من حبل الوريد ، ويعلم السرّ وأخفى ، وإنه سيحاسبه عن كلّ كبيرة وصغيرة فعلها ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة ، ولهذا يبقى المؤمن شاعراً بالمسؤولية ، خائفاً من عقاب الله وعذابه ، حتى لو سوّلت له نفسه الاختفاء عن الأنظار بجريرته ، وأمن من عقوبة القانون وسلطته ، إذ لا مفرّ من حكم الله وسلطانه .
روي عن الإمام علي بن
الحسين عليهالسلام أنه جاءه رجل ، وقال : أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية ، فعظني بموعظة . فقال عليهالسلام : « افعل خمسة أشياء واذنب ما شئت ، فأول ذلك : لا تأكل رزق الله ، واذنب ما شئت ، والثاني : اخرج من ولاية الله ، واذنب ما شئت ، والثالث : اطلب موضعاً لا يراك فيه الله ، واذنب ما شئت ، والرابع : إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك ، واذنب ما شئت ، والخامس : إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل النار ، واذنب ما شئت » .
فالمؤمن يعتقد أن كلّ
شيء تابع لسلطان الله تعالى وملكه ، وداخل تحت ولايته ، وأنه تعالى يرى كلّ أفعال المرء وحركاته وسكناته ، وما يجيش به صدره ويخطر على قلبه ، وأن تلك الأفعال هي الوحيدة التي سترافقه بعد الموت إلى يوم الحساب ، وتكون المقياس للثواب والعقاب ، وليس ثمة شيء غيرها ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يتبع المرء ثلاثة :
أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان ويبقى واحد ، يرجع أهله وماله ويبقى عمله »
.
ومن لوازم الإيمان
باليوم الآخر : الاعتقاد بأن الناس مدينون بما قدّموا ، ومُرتَهنون بما أسلفوا ، يوم يعرضون على ربهم في دار الحساب ، لا تخفى منهم خافية ، فيسألون عن كل أعمالهم وتصرّفاتهم وعمّا أبدوه وأخفوه من خير وشرّ ، ثم يلقون الجزاء وفاقاً على ما كانوا يعملون
__________________________
قال
تعالى : ( وَلَا تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ )
وقال سبحانه : (
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .
فالأعمال هي مقياس
الفضيلة والرذيلة ، وأساس القرب من الرحمة الإلهية والبعد عنها ، إذ لا ينظر في تلك المحكمة إلى الصور والأشكال ، ولا إلى الأحساب والأنساب ، ولا إلى التجارة وكثرة الأولاد والأموال ، قال تعالى : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ )
وقال تعالى : (
لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا )
وقال سبحانه : (
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ )
. وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إن الله لا ينظر
إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » .
هذا هو بعض ما يلزم
المؤمن الاعتقاد به ، ضمن دائرة الاعتقاد باليوم الآخر ، وهو يخلق في أعماق نفسه الزهد في الدنيا ، والورع عن محارم الله ، ويجعله يتردّد كثيراً قبل ارتكاب المعصية ، ويرتدع عنها بوازع ينبع من صميم نفسه المؤمنة بيوم الحساب ، ومراقبة ضميره الموقن بوجود الرقيب على الأعمال ، دون حاجة إلى مراقبة القانون وسلطته .
__________________________
فالاعتقاد بالمعاد
إذن أداة قويمة وفعّالة لتقويم السلوك الفردي ، وتنعكس آثاره على الصعيد الاجتماعي أيضاً ، ذلك لأنه يلزم المرء المسلم التمسّك بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدله ، حيث تنتظم اُمور الناس ، ويحفظ لكلّ ذي حقّ حقّه ، كما أنه يخلق في نفس الإنسان موجة قوية من الاحساس بالمسؤولية إزاء كلّ عمل من أعماله ، ويذكي في روحه نزاهة تصدّه عن العدوان على حقوق الآخرين ، وورعاً يجرّده عن الظلم والتجاوز عليهم ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « بئس الزاد إلى
المعاد العدوانُ على العباد »
.
وقال عليهالسلام : « لا يؤمن بالمعاد من لا يتحرّج عن ظلم العباد » .
وقال عليهالسلام : « والله لأن أبيت على حسك السعدان مُسهّداً ، أو أُجرّ في الأغلال مُصفّداً ، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، وغاصباً لشيء من الحُطام ، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها ، ويطول في الثرى حلولها ؟ ! » .
والإسلام يؤكّد أن
خير ما يحمله المرء إلى آخرته هو التقوى ، وذلك يحول دون اتساع أمواج الفساد والخيانة ، ويسهم في إرساء اُسس الصلاح والاستقرار الاجتماعي .
وكان أئمة المسلمين
يحثّون الناس بهذا الاتجاه ، قال أبو جعفر الباقر عليهالسلام : « كان أمير المؤمنين عليهالسلام بالكوفة ، إذا صلى
بالناس العشاء
__________________________
الآخرة ينادي بالناس ثلاث مرّات ، حتى يسمع أهل المسجد : أيها
الناس ، تجهّزوا يرحمكم الله ، فقد نودي فيكم بالرحيل ، فما التعرّج على الدنيا بعد النداء فيها بالرحيل ؟ ! تجهّزوا رحمكم الله ، وانتقلوا بأفضل ما بحضرتكم من الزاد ، وهو التقوى . . . » .
والاعتقاد بالآخرة
دافع لمراعاة حقوق الناس وإرساء قواعد التعامل الصحيح ، القائم على الانصاف والصدق والأمانة ، قال تعالى : ( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) .
والإسلام يؤكد أن
الانسان إذا انقطع عن الدنيا ، فلا يتبعه بعد موته إلّا ما يدلّ على العطاء المستمر من صالح الذرية ، والسنّة الحسنة التي يعمل بها بعد موته ، وأعمال الخير والإحسان .
قال الصادق عليهالسلام : « ليس يتبع المؤمن بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال : صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته ، وسنة هو سنّها فهي يُعمَل بها بعد موته ، أو ولد صالح يدعو له » ، وفي ذلك دعوة صريحة للإنسان المسلم لأن يفكّر في إقامة اُسس الخير والصلاح في المجتمع ، وتربية النشء الصالح حتى بعد انقطاعه عن الدنيا .
وعليه فإن الإيمان
بالمعاد والحساب يوم القيامة ، يعتبر من الاُصول الاعتقادية ذات الأهمية البالغة في آثارها ونتائجها الواضحة ، لتنظيم حياة
__________________________
المجتمع
المسلم ، وتوجيه سلوكه لبلوغ أهدافه الإنسانية والروحية على اُسس قويمة ، هي أرقى من كل التشريعات البشرية الهادفة إلى القضاء على الفوضى والفساد ، وجرائم القتل والنهب ، التي بلغت أوجها في أكثر بلدان العالم تقدّماً وتطوّراً وثقافةً .
( ومن هنا اضطرّ كثير
ممّن لا يؤمن بالدين ولا بالآخرة كواقع ديني ، إلى أن يصرّحوا بأنه لا شيء غير عقيدة الآخرة يصلح لمراقبة الإنسان وإخضاعه لسلوك طريق الحق والعدل والانصاف في جميع الظروف ، مثل « كانت » و« فولتير » وغيرهما ) .
ثانياً : أثر المعاد في إطار النفس
إنّ الاعتقاد بالله
وباليوم الآخر يعتبر من أمضى أسلحة الإعداد والحصانة ، ذلك لأنّه يمنح النفس الإنسانية قوّة الصمود أمام الرغبات النفسية والمظاهر الخدّاعة في هذا العالم ، ويكسبها حصانة تقيها من الجنوح إلى أهوائها وتفطمها عن إتيان شهواتها ، ذلك لأن أغلب من لا يؤمن بالمعاد ويعتقد أنه إذا مات تحلّل جسده وختمت حياته ، لا تكون له شكيمة تردّه عن الهوى وتصدّه عن الغيّ ، ولا يكون له وازع يزجره عن الباطل ويصرفه عن إتيان القبيح .
أمّا المؤمن باليوم
الآخر فإنّه يعتبر الحياة الدنيا مدرسة إعداد ووسيلة لاكتساب المعرفة والفضيلة للوصول إلى الكمال والحقّ والعيش في عالم
__________________________
الخلود
والبقاء الأبدي والسعادة السرمدية ، وذلك من خلال تنزيه النفس عن ارتكاب الخطايا ، وترويضها على معاني الفضيلة والعدالة ، ومجاهدتها عن الاستسلام لرغباتها المضادّة للشرع والعقل ، والعروج بها إلى سلّم الكمال الانساني والاطمئنان الروحي (
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .
وتلك القيم لا ينشدها
الإنسان إلّا ليقينه بمعادٍ يثاب فيه على إحسانه ويعاقب على إساءته ، فهو يسيطر على نفسه بقوة عقيدته التي غرست في نفسه حبّ الفضيلة ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات ، ومنحته المناعة الكافية عن ارتكاب الخطايا والذنوب ، لما تخلّفه من ندامة وحسرة ومسؤولية كبرى في يوم الحساب .
ثمّ إن الاعتقاد
بالمعاد ليس رادعاً عن إتيان القبائح وغشيان الخسائس وحسب ، بل إنه مُطمأنّ النفس وسَكَن الخواطر ومعتصم الاندفاعات ، وبه تمتدّ أشعة الأماني إلى ما لا نهاية ، ولا تقف الآمال إلّا عند غاية الحق والكمال ، حيث يصبح الانسان فاضلاً ، لا لأنّه يخاف العذاب أو يرجو الثواب ، بل لأنه يجد لذة الفضيلة أكبر من لذّة الرذيلة ، ويعبد الله تعالى لا بدافع الرهبة أو الرغبة ، بل لأنّه يرى الله تعالى أهلاً للعبادة ، يقول أمير المؤمنين عليهالسلام : « إلهي ما عبدتك
خوفاً من عقابك ، ولا طمعاً في ثوابك ،
ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك » . وتلك عبادة الأحرار المخلصين والكرام المؤمنين .
__________________________
أمّا الذين لا يؤمنون
بالآخرة ولا يرجون لقاء الله ، فقد رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وركنوا إليها ، فاستولت عليهم الرغبات ، وامتلكتهم الأهواء ، فاستعبدت ذواتهم ، وحطّمت نفوسهم ، فتراهم يلهثون وراء الحطام الدنيوي الزائل ، لأنّه وسيلتهم لتحصيل السعادة ، وتحقيق سبيل الرفاه والعيش الرغيد والأماني والرغبات قبل الرحيل إلى عالم الموت ، الذي يعني العدم والفناء في اعتقادهم .
ومن هنا تراهم يشعرون
بالاضطراب وعدم الاستقرار ، خشية من انتهاء الرزق قبل الموت ، وعدم تحصيل أسباب السعادة والرفاه قبل الفوت ، فينتابهم الهمّ والأسى لأدنى فشل في الحياة ، وتشقى نفوسهم بالمتاعب الدنيوية التي لم يحصلوا على عوضٍ أو ربحٍ لقاءها ، فتكون الدنيا في أعينهم سوداء قاتمة وعبثاً لا معنى له ، وقد يلـجـأون إلى الانتحار فراراً من الواقع المؤلم ، لأنهم عميٌّ لا يبصرون ، أعمتهم الدنيا من أن يبصروا طريق الحق والخير والكمال .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى ، لا يبصر مما وراءها شيئاً ، والبصير ينفذها بصره ، ويعلم أنّ الدار وراءها ، فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص ، والبصير منها متزوّد ، والأعمى لها متزوّد »
.
وعلى عكس ذلك يعتقد
المؤمن وبنفس مطمئنة أن السعادة لا تقتصر على هذه الحياة الدنيوية ومتاعها المحدود ، وأن الذي عند الله سبحانه هو أكثر خيراً وأبقى أثراً (
وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا
__________________________
وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ )
وذلك يمنحه الصمود أمام مصائب الحياة ومصاعبها وأحداثها المفجعة ، فلا يستسلم للحوادث ، ولا يقع فريسة للاضطراب والقلق والضياع ، بل يوطّن نفسه على الصبر متذكّراً الموت وقيامه بين يدي الله تعالى رجاء السعادة الأبدية ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «
أكثروا ذكر الموت ويوم خروجكم من القبور ، وقيامكم بين يدي الله تعالى ، تهون عليكم المصائب » .
فالمعاد عقيدة ترمي
إلى سعادة الإنسان وتوجيه ملكاته النفسية نحو الفضيلة والكمال ، لأنّ الفوز بالدار الآخرة يتطلّب التحلّي بالفضائل والمكارم التي يكتسبها الإنسان ، باعتدال نفسه وتوسّطها بين طرفي الإفراط والتفريط من كلّ قوة غضبية أو شهوانية ، وسلوكه الطريق المؤدي إلى نيل الفضيلة وتجنب الرذيلة على اختلاف أنواعها ، لما فيها من الذلّ والهوان في الحياة الدنيا ، وما يترتّب عليها ممّا لا يحمد عقباه من الخزي وعذاب النار في الدار الآخرة ، وبذلك تُهيَّأ له الأرضية للسير في مدارج الكمال .
ومهما امتلك الانسان
المعاصر من تقنية متطوّرة وأدوات حضارية مكّنته من السيطرة على قوى الطبيعة المختلفة ، إلّا أنها أثبتت فشلها من أن تمسك بزمام النفس الإنسانية ، وأن تروّضها في طريق الكمال المطلوب ، وعجزت بالتالي من أن تحول دون انتشار عوامل الانحراف والفساد والاضطراب والقلق التي اتسعت أمواجها وانتشرت آثارها في أكثر بلدان
__________________________
العالم
المتطوّر مدنياً .
ومن هنا بقيت جميع
الحلول المطروحة ، من قبل الاتجاهات الوضعية ، لرفع حالة الاضطرابات الروحية المتفشية في مجتمعات الدول المتطوّرة عقيمة وغير مثمرة ، وبقي الإنسان هناك يعيش حالة من الضياع والخواء الفكري .
وبقيت عقيدة المعاد
هي القوّة الوحيدة القادرة على تهذيب النفوس والحيلولة دون انحرافها ، وهي الدرع الحصينة التي تحفظها من هجمات الأهواء وتصوغها صياغة رفيعة ؛ لتصل إلى السعادة المبتغاة ، وهي الركن الأساس الذي يرسو عليه بناء النفس الفاضلة والمجتمع الفاضل .
الفصل الثاني :
أدلّة حتمية المعاد ووجوبه
أولاً ـ الأدلّة القرآنية
إن أساس الإيمان
باليوم الآخر يقوم على ثوابت الوحي الإلهي الصادر عن الذات الإلهية المقدسة ، ولقد حظيت عقيدة المعاد بنصيب وافر من الآيات القرآنية ، فلا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم من بضع آيات تتكلّم عن عالم الآخرة ، حتى أنه قيل : إن عدد الآيات التي أخبرت عن المعاد على نحو التصريح أو التلويح ، قد بلغ أكثر من ألف آية .
وكان الإخبار القرآني
عن اليوم الآخر وما يتّصل به قد جاء على مستويات مختلفة ، فقد ساق الأدلة والبراهين المختلفة على إمكان المعاد وضرورته ووجوبه كأصل من أصول الاعتقاد الثابتة في جميع الشرائع السماوية ، وردّ على شبهات المنكرين ، وأخبر عن أشراط الساعة والبعث بعد الموت والمحشر والحساب والصراط ، ووصف حال المؤمنين في الجنة وما اُعدّ لهم من النعيم الدائم ، وحال المجرمين في جهنم وما اُعدّ لهم من العذاب الأبدي .
وفي ما يلي نقدّم
صورةً موجزةً عن أهم المضامين القرآنية الواردة في النشأة الاُخرى ، وما يتعلّق بها :
١ ـ إعطاء اليوم
الآخر موقعه في البنية العقائدية ، والتأكيد على أنه من اُصول الاعتقاد الواجبة ، قال تعالى : (
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) وقال تعالى : ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) .
٢ ـ التأكيد على وجود
اليوم الآخر ، وكونه أمراً محتوماً لا ريب فيه ، ووعداً حقّاً لا يقبل التخلّف ، قال تعالى : (
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )
وقال تعالى : (
اللَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ) وقال تعالى : ( وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )
. وقال تعالى : (
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ )
.
٣ ـ إثبات إمكان
المعاد والنشور بطريق ملموس لا يقبل الحمل والتأويل ، وذلك بذكر أمثلة من إعادة بعض الأشخاص والأقوام والحيوانات من الاُمم السابقة إلى الحياة الدنيا ، بعد أن ثبت موتهم
__________________________
وخروجهم
إلى عالم الموتى ، فعاشوا بعد حياتهم الثانية مدةً إلى أن توفّاهم الله سبحانه بآجالهم ، وقد وقع ذلك في أدوار وأمكنة مختلفة ، لدفع استبعاد الناس للنشأة الآخرة ، وإثبات قدرة الله تعالى على المعاد ، وفي ما يلي بعض الأمثلة على ذلك :
أ ـ إحياء قوم من بني
إسرائيل ، قال تعالى : (
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ
مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَشْكُرُونَ ) .
ب ـ إحياء أحد أنبياء
بني إسرائيل ، قال تعالى : (
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي
هَـٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ
وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا
لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
.
جـ ـ إحياء سبعين
رجلاً من قوم موسى عليهالسلام ، قال تعالى : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ ) .
__________________________
د ـ إحياء قتيل بني
إسرائيل ، قال تعالى : (
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا
كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )
.
هـ ـ إحياء الطيور
لإبراهيم عليهالسلام بإذن الله سبحانه ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .
٤ ـ بيّن الكتاب
الكريم أنّ من أهمّ وظائف الأنبياء عليهمالسلام
هو إنذار الناس بالبعث والحساب في اليوم الآخر ، فقال تعالى : (
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي
وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )
وقال تعالى : (
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ
لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ
يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ )
والانذار هنا عام لا يقتصر على اُمّة دون اُخرى .
٥ ـ اكّد الكتاب
الكريم على وجود عقيدة المعاد في الشرائع السماوية
__________________________
السابقة
للإسلام ، فقال سبحانه في ذكر خطاب نوح عليهالسلام لقومه وكان فيه : ( وَاللَّهُ
أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا )
.
وقال تعالى في شأن
موسى عليهالسلام : (
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم
بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) .
وقال تعالى حكاية عن
تنديد موسى عليهالسلام بفرعون وملئه : ( إِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ )
.
وقال سبحانه مذكّراً
عيسى عليهالسلام بيوم القيامة : ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .
٦ ـ أكّد الكتاب
الكريم في آيات كثيرة على أن الله تعالى قد وكّل رسلاً من الملائكة برصد أعمال العباد وأقوالهم بشكل دقيق ، وضبطها في صحف لا تغادر صغيرة ولا كبيرة ، فقال تعالى : (
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ
مُّبِينٍ ) ، وقال تعالى : (
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ
وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ
__________________________
يَكْتُبُونَ ) ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ
بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )
.
وبيّنت الآيات
القرآنية أن صحائف الأعمال تعرض على الناس يوم يجيئون للحساب ، فيقال لهم : (
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )
فينتاب المجرمون الدهشة والخوف والرهبة ممّا في تلك الصحائف من الأمانة والدقة ، قال تعالى : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا
كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )
.
ولا يخفى أن في هذه الآيات
ما يتعدّىٰ الدلالة علىٰ الرصد والتسجيل ، إلى الدلالة على يوم الجزاء ، الذي يعرض فيه على كل امرئ ما كان قد تم رصده وتسجيله عليه في حياته الدنيا ، والذي استوعب كل صغيرة وكبيرة .
٧ ـ تبنّت الكثير من
الآيات القرآنية الردّ على شبهات منكري المعاد ، مؤكدة أنهم لا يمتلكون أدنى برهان أو دليل على إنكارهم ، وليس لديهم
__________________________
إلّا
الظن الذي لا يُغني من الحق شيئاً ، قال تعالى : (
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا
الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) وقال في موضع آخر : ( وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا
) .
وطالبهم بإقامة
البرهان على إنكارهم (
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) فما كان منهم إلّا شبهات ضعيفة
وتخرّصات واهية ، أجاب عنها الكتاب الكريم بأجوبة شافية ، يستند بعضها إلىٰ البرهان العقلي الذي يؤكد ضرورة المعاد وحتمية الوعد الإلهي ، كما في قوله تعالىٰ حاكياً شبهتهم وراداً عليهم : (
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ
بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
) .
ثانياً : السنّة المباركة
لقد أسهبت الأحاديث
النبوية وأحاديث أهل البيت عليهمالسلام في وصف العالم الآخر ، وما فيه من الحشر والحساب والنعيم والعذاب ، وعلى نفس المستويات المذكورة في القرآن الكريم ، بل بتفصيل أكثر وتوضيح أوفر ، وسنقتصر في هذا المقام على ذكر بعض الأحاديث الدالّة على وجوب المعاد
__________________________
وضرورته
وحتميته .
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يا بني عبد المطلب ، إن الرائد لا يكذب أهله ، والذي بعثني بالحق لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، وما بعد الموت دارٌ إلّا جنّة أو نار ، وخَلْقُ جميع الخلق وبعثهم على الله عزَّ وجلَّ كخلق نفس واحدة وبعثها ، قال الله تعالى : (
مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) » .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة : حتى يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنى رسول الله بعثني بالحق ، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت ، وحتى يؤمن بالقدر » .
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « حتى إذا بلغ الكتاب أجله ، والأمر مقاديره ، واُلحق آخر الخلق بأوله ، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه ، ماد السماء وفطرها ، وأرجّ الأرض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها ، ودكّ بعضها بعضاً من هيبة جلالته ، ومخوف سطوته ، وأخرج من فيها فجدّدهم بعد إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثم ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال ، وخبايا الأفعال ، وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء ، وانتقم من هؤلاء »
.
وقال عليهالسلام في وصف يوم القيامة : « ذلك يوم يجمع الله
فيه الأولين
__________________________
والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ، خضوعاً ، قياماً ، قد
ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً ، ولنفسه متّسعاً »
.
وقال الإمام علي بن
الحسين زين العابدين عليهالسلام : « العجب كلّ العجب لمن شكّ في الله وهو يرى الخلق ، والعجب كلّ العجب لمن أنكر الموت وهو يرى من يموت كلّ يوم وليلة ، والعجب كلّ العجب لمن أنكر النشأة الآخرة وهو يرى النشأة الاُولى ، والعجب كلّ العجب لعامر دار الفناء ويترك دار البقاء »
.
ثالثاً : الإجماع
إن الاعتقاد باليوم
الآخر ممّا أجمع عليه المسلمون كافة بلا مخالف في ذلك ، وجميعهم يعتبرون الإيمان باليوم الآخر من ضرورات الدين التي يجب الاعتقاد بها ، ومن أنكرها فهو خارج عن عداد المسلمين
، وما يردّده المسلمون كلّ يوم في صلواتهم : (
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) هو تعبير عن إيمانهم بوجود الحياة بعد الموت ، وكون ذلك محلّ وفاق عند الجميع .
وقد اتفقت الشرائع
والأديان على وجود الحياة بعد الموت ، وإنما وقع الاختلاف في كيفية الاعادة بعد الموت ، وقد ذكرنا الأقوال في المعنى الاصطلاحي للمعاد ، وليس غرضنا هنا تحقيق تلك الأقوال وبيان المختار
__________________________
منها
، وإنما المهمّ التأكيد على أصل الفكرة ، وهي عودة الإنسان كيفما اتفق إلى حياة ثانية ، يحاسب فيها ويُجزى بأعماله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ ، وذلك محلّ وفاق عند الجميع ، لأنّه ممكن عقلاً وواقع حتماً بنصّ القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية .
رابعاً : الدليل العقلي
استدلّ كثير من
الفلاسفة والمتكلمين ، بالبراهين العقلية المجرّدة ، على حتمية المعاد ووجوبه ، كما جاء في الكتاب الكريم أيضاً الكثير من الأدلّة العقلية والبراهين الوجدانية على ثبوت حقيقة المعاد والحياة الآخرة ، للردّ على منكري المعاد ، وإثبات كونه قطعي الوجوب وحتمي الحدوث ، وفي ما يلي نذكر بعض تلك البراهين :
أولاً ـ برهان المماثلة
قال العلّامة الحلي :
العالم المماثل لهذا العالم ممكن الوجود ، لأن هذا العالم ممكن الوجود ، وحكم المثلين واحد ، فلمّا كان هذا العالم ممكناً وجب الحكم على الآخر بالإمكان .
وقد ورد في القرآن
الكريم بعض الأمثلة ، في المساواة بين الإحياء في الدنيا والإحياء في الآخرة ، وذلك من خلال نمطين في المماثلة ؛ الأول : مماثلة النشأة الاُولىٰ من العدم بالنشأة الآخرة ، والثاني : مماثلة إحياء الأرض
بعد موتها بالإحياء في الآخرة ، والعقل يحكم بتساوي الأمثال في الحكم ، ومنه
__________________________
يتبيّن
أن القادر على الإحياء الأول قادر على الإحياء الآخر ؛ لأنهما مثلان .
النمط الأول من المماثلة : ونريد به البرهان على المعاد من خلال المبدأ ، عن طريق المماثلة بينهما ، فقد أكّد الكتاب الكريم على إمكان المعاد عن طريق ثبوت مثله أولاً ، وذلك بالمماثلة بين إيجاد الانسان في هذه الدنيا بعد أن كان عدماً ـ كما في خلق آدم عليهالسلام ابتداءً من غير مادة لأبٍ واُمّ ـ وبين
إعادته إلى الحياة بعد الموت والفناء ؛ فقال تعالى : (
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن
نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم
مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئًا ) إلى قوله تعالى : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ
عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
فالإنسان لم يكن
شيئاً مذكوراً ، فأوجده الله تعالى من تراب ، وأخرجه من العدم إلى حيّز الوجود ، ووهبه النطق والعقل ، وجعله في أحسن تقويم ، فلا ريب إذن في إمكان بعثه بعد الموت وتفرّق الأجزاء ، لأنه يماثل خلقه وإيجاده في هذه الدنيا بعد أن كان عدماً ، ولأن حكم الأمثال واحد ، والعقل لا يفرّق بين المتساويين ، بل يجعل وجود أحدهما دليلاً على إمكان وجود المساوي الآخر ، فضلاً عن أن النشأة الاُولى أعظم وأجلّ ، قال تعالى : (
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )
.
__________________________
ويدخل في هذا البرهان
جميع الآيات التي تساوي بين المبدأ والمعاد من حيث الحكم ، منها قوله تعالى : (
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) وقوله تعالى : ( فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ ) وقوله تعالى : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا
إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) .
النمط الثاني من المماثلة : أكدّ الكتاب الكريم في كثير من آياته
على إثبات المعاد عن طريق المماثلة بين إحياءٍ محسوس ومشاهد ، وهو إحياء الأرض بعد موتها ، بخروج النبات منها وعودة نشاطه الحيوي بعد جفافه أو ركوده وتوقّفه عن العمل في الشتاء ، وبين إحياء الأموات يوم القيامة ، قال تعالى : ( فَانظُرْ إِلَىٰ
آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ) .
وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ
الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ ) .
هذه الآية الكريمة
والتي قبلها في معرض مناشدة العقل السليم الذي
__________________________
يقرّر
أن حُكم الأمثال واحد ، فإذا تحقّق الإحياء في الأرض بعد موتها ، أمكن تحققه في الإنسان بعد موته ، وفي غيره من الأحياء .
قال السيد الطباطبائي
: المراد بقوله : (
إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ )
الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة وإحياء الموتى ، إذ في كل منهما موت ، وهو سقوط آثار الحياة من شيء محفوظ ، وحياة وهي تجدّد تلك الآثار بعد سقوطها ، وقد تحقّق الإحياء في الأرض والنبات ، وحياة الإنسان وغيره من ذوي الحياة مثلهما ، وحكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد ، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال ، وهو الأرض والنبات ، فليجز في البعض الآخر .
وقد أشار الكتاب
الكريم إلى ما يقرّب هذا المعنى ، وهو كون خلق الإنسان كالإنبات وكذلك إعادته ، قال تعالى : (
وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا )
.
ثانياً : برهان القدرة
لمّا كانت قدرة
الخالق العظيم غير متناهية ، جاز تعلّقها بكلّ شيءٍ مقدور ، وكانت نسبتها إلى ما هو سهل في نفسه أو صعب على حدّ سواء ، وهو المستفاد من قوله تعالى : (
إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
، وقد أشارت الآيات القرآنية إلى صورتين من الاستدلال على المعاد ، بذكر عموم القدرة الإلهية وعدم تناهيها :
__________________________
الصورة
الأُولى : بيّن تعالى قدرته على المعاد في الآخرة
مرتباً على ذكر المبدأ في الاُولى في آيات كثيرة ، إشارة إلى أن القادر على الإيجاد من العدم ابتداءً ، فهو على إعادة الموجود أقدر ، قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ
إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
فالآيتان تحثّان
الإنسان على النظر في أمر الخلق الأول ، ليصل باستقلال عقله إلىٰ معرفة خالقه ومدبّره ، وليكون ذلك مقدّمة للاحتجاج على المعاد بعموم القدرة الالهية وعدم تناهيها ، وأكّد الكتاب الكريم على تلك المقدّمة في آيات اُخرى كثيرة ؛ فقال تعالى : (
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ، وقال سبحانه : ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ )
، إلى أن قال : (
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ )
.
ولا يخفى أن الإنسان
قد علم النشأة الاُولى ، وعرف من خلالها أن الذي أوجده ، وقدّر له خصوصيات خلقه ، ودبّر له أمره ، هو الله خالق كلّ شيء ، وليس ثمّة أحد غيره ، قال تعالى : (
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن
__________________________
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ )
. وقال تعالى : (
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
.
وممّا تقدم تبيّن أن
نسبة قدرة الله تعالى غير المتناهية إلى الإحياء الأول والثاني على حدّ سواء ، فلا يخالطها عيّ أو عجز ، ولا يطرأ عليها نصب أو تعب ، قال تعالى : (
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ، وقد بيّن تعالى أن قدرته على الخلق
الأول والخلق الجديد ، من حيث الامكان والتأتّي ، كخلق نفسٍ واحدةٍ ، فقال تعالى : ( مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) فلا يوجد بالنسبة إلى الخالق جلّ وعلا
شيء أسهل أو أصعب من شيء ، وفي ذلك برهان متين يقود الإنسان إلى الإيمان باليوم الآخر والتصديق بأمر المعاد .
الصورة
الثانية : بيّن تعالى قدرته على المعاد في الآخرة
مرتّباً على ذكر خلق السماوات والأرض ، فقال سبحانه : (
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ )
، وقال تعالى : (
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم
بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن
__________________________
فَيَكُونُ ) . وقال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ
الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
فالتأمل في خلق
السماوات والأرض يقودنا إلى الإيمان بعالم الآخرة ، ذلك لأنّ الذي خلق عوالم السماوات والأرض ـ بما فيها من سعة الخلقة البديعة وعجيب النظام العام المتضمّن لما لا يُحصى من الأنظمة الجزئية المدهشة للعقول والمحيرة للألباب ، والعالم الإنساني جزء يسير منها ـ كيف لا يقدر أن يخلق الناس خلقاً جديداً في يوم القيامة ؟ وخلق الإنسان في نفسه أسهل وأهون من خلق السماوات والأرض ، قال تعالى : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) وقال تعالى : (
أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا . . . وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا )
.
وفي هذا السياق يأتي
إبطال القرآن الكريم ما تمسك به أهل الجاهلية في استبعادهم المعاد : (
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) فردّهم سبحانه بتذكيرهم بالقدرة
المطلقة ( قُلْ كُونُوا
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ )
فأمرهم أمر تسخير أن
__________________________
يكونوا
حجارة أو حديداً أو شيئاً ممّا يتصورّون أن تبديله إلى إنسانٍ أبعد وأصعب من تبديل الرفات أو التراب إليه ، فليكونوا ما شاءوا ، فإنّ الله تعالى سيعيد إليهم خلقهم الأول بعد بعثهم ، وفي ذلك إشارة إلىٰ أن القدرة الإلهية المطلقة لا يشقّها شيء تريد تجديد خلقه ، سواء أكان عظاماً أو رفاتاً أو حجارةً أو حديداً أو غير ذلك .
ثالثاً : برهان الحكمة
إنّ الله تعالى حكيم
في أفعاله ، وكلّ ما يصدر منه جلَّ وعلا في عالمي التكوين والتشريع يخضع لمبدأ الحكمة والهادفية ، فالمنظومة الكونية في نظامها العجيب تسير بكل جزئياتها وفق حركة هادفة ، وتتّجه صوب نهاية مرسومة بدقة وإحكام ، وكذلك تخضع المفردات التشريعية في وجودها وحركتها وتفاعلها إلى مبدأ الحكمة الإلهية والغاية الحكيمة التي تتجافى عن العبث واللغو والباطل ، قال تعالى : (
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ )
، وقال تعالى : (
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) وقال تعالى ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى )
.
ويمكن صياغة صورة هذا
البرهان على شكل قياس ، يتركب من
__________________________
مقدمتين
:
الاُولى : إن الله
حكيم . الثانية : الحكيم لا يفعل العبث ، إذن فالله تعالى لا يفعل العبث ، ولو لم يكن للإنسان معاد لكان خلقه عبثاً ، ومقتضى الحكمة الالهية أن الله تعالى لا يفعل العبث ، إذن فلا بدّ للإنسان من معادٍ يوم القيامة تتجلّىٰ فيه الحكمة الالهية .
فلو كان الإنسان
ينعدم بالموت ، دون أن تكون هناك نشأة اُخرى يعيش فيها بما له من سعادة أو شقاء ، لكان خلقه في هذا العالم عبثاً وباطلاً ، لأنّ الفعل لا يخرج عن العبثية إلّا إذا ترتّب عليه فائدة أو غاية عقلائية ، وترتب الفائدة أو الغاية موقوف على وجود المعاد ، لأنّه إذا انعدم الإنسان بالموت ، فذلك يعني أنه ليس ثمّة غاية من خلقه غير هذه الحياة المحدودة التي تعجّ بالمتضادات ، والمحفوفة بأنواع المصائب والبلايا والفتن والفجائع ، ويعني أيضاً أن الله تعالى قد اقتصر في خلقه على الإيجاد ثم الاعدام ، ثم الإيجاد ثم الاعدام ، وهكذا دون أي هدفٍ غائي في أفعاله سبحانه ، وذلك ما لا نقبله على الإنسان العاقل ، فكيف نقبله على فعل الخالق ، جلّت حكمته ، الذي لا يعتريه الباطل ولا يتجافى عن الحكمة ؟ ! تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً .
وعليه فلا بد من وجود
عالم آخر يتّضح فيه هدف الخلقة ، وذلك هو عالم البقاء الأبدي المعبّر عنه بالحيوان ، قال تعالى : ( وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .
ومن هنا أكدت الآيات
القرآنية على أن وجود عالم الآخرة يقتضيه
__________________________
خلق
العالم بحكمة ، قال تعالى : (
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ
مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ) .
وقال تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) .
رابعاً : برهان العدالة
١ ـ وجود التكليف
يقتضي وجود المعاد
من المعلوم أن الله
تعالىٰ جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء للإنسان ، ووهبه النوازع الخيّرة إلىٰ جنب النوازع الشريرة ، لتتمّ بذلك حقيقة الابتلاء ، وأعطاه العقل الذي يميّز بين الخير والشر ، وبعث له الأنبياء والرسل ليحدّدوا له طريق الخير وطريق الشرّ ، ثم كلّفه باتباع سبيل الخير والحق ، وتجنّب سبيل الشرّ والباطل ، وأعطاه الإرادة والاختيار ليستحقّ الثواب أو العقاب ، قال تعالى : (
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ، وقال سبحانه : ( وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ )
، وقال تعالى : (
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )
.
__________________________
وعليه فإن واقع
الحياة الدنيا بما يحمل من متناقضات الراحة والعناء ، والصحة والمرض ، والغنى والفقر ، والإقبال على الأشرار والإدبار عن الأخيار ، هو امتحان وابتلاء ، وليس فيه ما يصلح للمكافأة والجزاء ، وبما أن ضرورة التكليف تقتضي ضرورة المكافأة ، لذا يجب المعاد ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وإلّا لبطلت فائدة التكليف ، ولكان عبثاً ولغواً .
وفي بيان ذلك يقول
الفاضل المقداد : لو لم يكن المعاد حقاً لقبح التكليف ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله ، ذلك أن التكليف مشقّة مستلزمة للتعويض عنها ، فإن المشقّة من غير عوض ظلم ، وذلك العوض ليس بحاصل في زمان التكليف ، فلا بدّ حينئذٍ من دار اُخرى يحصل فيها الجزاء على الأعمال ، وإلّا لكان التكليف ظلماً ، وهو قبيح ، تعالى الله عنه
.
٢ ـ العدل الإلهي
يستلزم وجود اليوم الآخر
يقول النصير الطوسي
في إثبات وجوب المعاد : وجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث . وذكر العلّامة الحلي في شرحه : إن الله تعالى وعد بالثواب ، وتوعّد بالعقاب مع مشاهدة الموت للمكلفين ، فوجب القول بعودهم ليحصل الوفاء بوعده ووعيده .
إذ لا ريب أن الناس
لا يصلون إلى الثواب أو العقاب الملائم
__________________________
لأعمالهم
في هذا الزمان المحدود ؛ فالمحسنون الذين قضوا أعمارهم في العبادة ونشر الفضائل والإصلاح في الأرض ، وتحمّلوا الكوارث والمحن والأرزاء في هذا السبيل ، لا يمكن لأي سلطة في الأرض أن تعطيهم مرادهم ، وتوصلهم إلى ثوابهم ، والمجرمون الذين ارتكبوا الجرائم الفظيعة بحقّ الإنسانية ، وتوفّروا على النعم والملذّات والحياة الرغيدة أكثر من غيرهم ، قد لا يقعون في قبضة القانون ، وإذا وقعوا فإن عقابهم لا يتناسب مع الجرائم التي ارتكبوها ، فقد يقتص منهم مرة واحدة ، وتبقىٰ أكثر الجرائم التي ارتكبوها تمرّ بلا عقاب ، وعليه فليس ثمّة قوة في هذه النشأة المحدودة تستطيع استرداد جميع الحقوق المهضومة للناس .
وإذا كان الإنسان
ينعدم بالموت ، ويفد الظالمون والمظلومون والمصلحون والمفسدون إلى مقابر الفناء دون محكمة عادلة تثيب المحسنين وتضع المجرمين في أشدّ العذاب ، فإن ذلك خلاف العهد الإلهي الذي يقتضي التفريق بين الفريقين من حيث المصير والثواب والعقاب ، وبما أن ذلك غير متحقق في النشأة الاُولىٰ ، فيجب أن يكون المعاد لتجسيد العدالة الإلهية تجسيداً عملياً ، وتحقيق الوعد الرباني الصادق في الوفاء للأنبياء والأولياء والشهداء والأبرار من عباد الله الصالحين والانتقام من الظالمين والمفسدين .
وقد صرحت الآيات
الكريمة بهذا الدليل على مستويين :
الأول :
التأكيد على الفرق بين العاصي والمطيع في النشأة الاُخرى ، لتحقيق الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، وذلك مقتضى العدل الإلهي .
قال تعالى : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ
شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْفُرُونَ ) ، وقال تعالى : ( فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ )
.
والثاني : التنديد بالتسوية بين الفريقين وإنكارها .
قال تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا
يَسْتَوُونَ ) ، وقال تعالى : ( أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ )
، وقال تعالى : (
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) . وقال تعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .
__________________________
الفصل الثالث :
حقيقة
الروح والمعاد
المبحث الأوّل : حقيقة الروح وتجرّدها
حقيقة الروح غامضة
من الحقائق المسلّمة
أن روحك التي بين جنبيك هي أقرب الأشياء إليك وأشدّها لصوقاً بك ، إلّا أن حقيقتها غيبية مجهولة ، لم يستطع العقل البشري أن يتوصل إلى معرفة أسرار كنهها واستجلاء ماهيتها .
ومن هنا تعدّدت آراء
الفلاسفة ونظريات المتكلمين في ماهية الروح ، وهل هي عرض أو جوهر ، وفي نشأة الروح وهل هي قديمة أو
حادثة ، وفي علاقة الروح بالبدن ومحلّها منه وتعلّقها به ، وفي خلودها بعد الموت ، وحقيقة سعادتها وشقاوتها ، وغيرها من المباحث الكثيرة
.
__________________________
وقد أعرضنا عن ذكر
أقوالهم وآرائهم المختلفة مكتفين ببحث معاني الروح الواردة في التنزيل العزيز والسنة المطهرة ، وبذكر ما قيل في تجرد الروح عن ماهية المادة وصفاتها ، واستقلالها خالدةً بعد الموت رغم اضمحلال البدن وتلاشيه ، لما لهذا البحث من أثر في معرفة حقيقة المعاد .
الروح في القرآن والحديث
غاية ما قيل في الروح
: إنها ما يقوم به الجسد ، ويقوى على الإحساس والحركة والارادة ، ولفظها في اللغة يذكر ويؤنث
. وقد تكرّر ذكرها بهذ المعنى وغيره في آيات كثيرة مكية ومدنية ، وفي ما يلي نذكر بعضها مرتّبةً حسب معانيها ، مع ما جاء فيها من الحديث والأثر :
١
ـ الروح التي هي سبب الحياة
: قال تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )
وللمفسرين في هذه الآية عدة أقوال ، أظهرها أن المراد بها روح الحيوان
التي بها قوام الجسد ، ويساعد على ذلك سبب النزول ، وبعض الحديث الوارد عن
__________________________
أهل
البيت عليهمالسلام .
منه ما رواه أبو بصير
عن أبي جعفر الباقر ، أو أبي عبد الله الصادق عليهماالسلام قال : سألته عن قوله تعالى : (
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ . . . ) ما الروح ؟ قال : «
التي في الدواب والناس »
. قلت : ما هي ؟ قال : « هي من الملكوت من القدرة »
.
ويستفاد من أقوال
المفسرين في معنى قوله تعالى : (
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) عدّة معانٍ ، أشهرها :
الأول :
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم سئل عن ماهية الروح ، فأجابت الآية
بكون الروح من سنخ الأمر ، ثمّ عرّف سبحانه أمره في قوله : (
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فبيّن أن أمره تعالى من الملكوت ومن
القدرة ، وهو قوله للشيء ( كن ) ، وهي كلمة الايجاد والحياة التي يلقيها إلى الأشياء فتكون ويحييها بمشيئته ، دون توسط الأسباب الكونية الأخرى بتأثيراتها التدريجية ، ومن غير اشتراط قيد الزمان والمكان ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُنَا
إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) فاتضح أن الآية قد بينت أنّ ماهية الروح من سنخ الأمر الذي ذكرناه .
الثاني :
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم سئل عن ماهية الروح ، فأجابت الآية : ( الرُّوحُ
__________________________
مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أي مما استأثر ربي بعلمه ، ولم يُطلع
عليه أحداً .
الثالث :
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم سئل عن الروح ، أهي قديمة أو حادثة ،
فأجابت الآية : ( الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي ) أي من فعله وخلقه ، فأراد أن الروح
حادثة تحصل بفعل الله وتكوينه وإيجاده .
ويساوق معنى الروح في
الآية المتقدمة ، قوله تعالى في خلق آدم عليهالسلام : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) ، وقوله تعالى في خلق عيسى عليهالسلام : (
فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً
لِّلْعَالَمِينَ ) . وقوله سبحانه : (
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) ، فالروح هنا تعبير عن القوة الخفية
التي بها سرّ الحياة ، وعن سرّ الروح الالهي الذي يحوّل الجماد إلى كائن حيّ ، وقد خصّ تعالى روح آدم وعيسى عليهماالسلام بالذكر ، لأن خلقهما على غير جري العادة في سائر الخلق ، وأضاف لفظ الروح إليه سبحانه إضافة تشريفية تعبّر عن الاختصاص بالإكرام والتبجيل والتعظيم ، كما أضاف البيت إليه في قوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ )
.
__________________________
٢
ـ الروح بمعنى جبرئيل عليهالسلام : قال تعالى : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) والمراد به جبرئيل عليهالسلام ، ووصفه تعالى بالأمانة والطهارة في قوله تعالى : (
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ ) وقوله تعالى : ( قُلْ نَزَّلَهُ
رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ ) وجاء عن الإمام أبي جعفر الباقر عليهالسلام في تفسيرها أنه قال : « هو جبرئيل ، والقدس الطاهر » وإضافة الروح إليه سبحانه في الآية الاُولى للتشريف مع إشعار بالتعظيم
.
٣
ـ الروح بمعنى مخلوق أعظم من الملائكة
: يبدو من الآيات
والروايات أنه مخلوق سماوي رفيع المكانة عند الله سبحانه ، وأنه تعالى يوكل إليه المهمات المرتبطة بالغيب والوحي ، بمفرده أو مع الملائكة ، في الدنيا أو في الآخرة ، قال تعالى : (
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ )
، وقال : ( تَنَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ )
ووصف هذا المخلوق في الروايات بأنّه خلق أعظم من الملائكة
ـ أو ملك أعظم
__________________________
من
جبرئيل وميكائيل ـ كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو مع الأئمة عليهمالسلام .
عن أبي بصير ، عن أبي
عبد الله الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا . . . )
قال : « خلق من خلق الله ، أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمة من بعده »
.
٤
ـ الروح بمعنى الإيمان
: قال تعالى : ( وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ )
وقد روي عن الإمام الباقر والصادق عليهماالسلام أنّ المراد بالروح في هذه الآية
الإيمان .
وعن أبي بكير ، قال :
قلت لأبي جعفر عليهالسلام في قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
إذا زنا الزاني فارقه روح الايمان ؟ » قال عليهالسلام : « هو قوله تعالى : ( وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ )
ذلك الذي يفارقه »
. وروي عن الإمام الصادق عليهالسلام نحوه
.
وقيل : إن كلامه
تعالى على ظاهره يفيد أن للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر روحاً اُخرى تفيض عليهم حياةً اُخرى ، وتصاحبها قدرة وشعور جديدان ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : ( أَوَمَن كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن
مَّثَلُهُ فِي
__________________________
الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا )
.
٥
ـ الروح بمعنى الكتاب والنبوة
: قال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )
وقال تعالى : (
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) روي عن الإمام الباقر عليهالسلام في الآية الاُولى قال : «
بالكتاب والنبوة »
.
وقيل : إنما اُطلق
لفظ الروح هنا على النبوة والدين والوحي وغيرهما مما تحصل بها حياة الأرواح والعقول ، لأن بها تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله ، والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف
.
تجرد الروح
المراد بالروح ما
يشير إليه الانسان بقوله أنا ، أو ما يسمى بالنفس الناطقة ، والمراد بتجردها هو عدم كونها عنصراً مادياً ذا انقسام
وزمان ومكان ، وكون حكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية
__________________________
الاُخرى
.
وتلك مسألة ذات علاقة
بخلود الروح ، وهي من أكبر المسائل الفلسفية التي تنازعتها الفلسفات المتضاربة بالايجاب والسلب قروناً متمادية ، لأنها أعلق المسائل وأمسّها بقلب الانسان ، وأكثرها علاقة بشأنه ، إذ هي مُطْمَأنّ آماله عندما ينقطع عن عالم الحسّ . وكان النزاع على أشدّه بين الماديين المنكرين لخلود الروح ، وبين القائلين بتجرد الروح وخلودها ، وفي ما يلي نذكر طرفاً من مقالات المذهبين وبعض أدلتهم :
١
ـ الماديون : اختلفت أقوال الماديين في محل الروح من
الجسد وفي أقسامها ، ولهم مذاهب مختلفة في ذلك ، لكنهم جميعاً اعتبروا الانسان هو هذا الهيكل المحسوس ، وليس ثمة وجود مستقل عن المادة يسمّى بالروح ، بل هي من خواص الجسد ، وتخضع لجميع القوانين التي تحكمه ، ومجموع ظواهر الشعور والعقل والارادة والفكر ، ما هي إلّا وظائف عضوية مثلها كمثل جميع الوضائف البدنية الاُخرى ، وكذا الآثار الفكرية والمعرفية عندهم ما هي إلّا نتائج وآثار فيزيائية وكيميائية للخلايا العصبية والعقلية ، وجميع تلك الآثار والنشاطات الروحة تظهر بعد ظهور العقل والجهاز العصبي ، وتموت بموت الجسد ، فإذا مات الانسان بطلت شخصيته ، واندثر بدنه ، وزال معه كلّ ما بلغه من محصول عقلي وارتقاء نفسي وكمال روحي .
__________________________
وتجاهلت الفلسفة
المادية الحديثة كل الخصائص والآثار الروحية التي لا تخضع لقانون المادّة ، وأعلنت أن الروح ومظاهرها من الشعور والعلم لا وجود لها كوحدة متميزة عن جسم الانسان المادي ، وإنّما هي في ذاتها وظيفة له ونتيجة لعلاقته بالعالم الخارجي ، وأن الأفكار والأماني لا توجد إلّا من خلال عملية مادية ، كحصول الحرارة نتيجة احتكاك قطعتين من الحديد مثلاً ، وأن جميع الخصائص التي يتمتع بها الانسان ما هي الا نتيجة لردّة فعل للعالم الخارجي ، على نحو ما قاله ( بافلوف ) في نظريته حول ( الفعل المنعكس الشرطي ) ، وأن الوعي بمختلف مظاهره ليس إلّا نتاج مادة عالية التنظيم ، أي نشاط الدماغ ووظيفته .
وقالوا : إن المادية
الجدلية ترفض تصوّر أن الروح شيء قائم في استقلال عن المادة ، فما هو روحي هو وظيفة المادة في أعلى أشكالها العضوية نتيجة النشاط العملي والاجتماعي .
وتمسّك الماديون في
الدلالة على مذهبهم القائم على إنكار الروح ، بجملة افتراضات غارقة في الغموض وتفسيرات واهية لا تملك أدنى رصيدٍ من الإثبات .
٢
ـ القائلون بالتجرد
: كانت غالب الاُمم
القديمة تعتقد بوجود الروح وخلودها ، كالهنود والمصريين وأهل الصين وفارس واليونان وفلاسفتهم
__________________________
وشعرائهم
، وكان سقراط وإفلاطون يعتقدان أنّ الروح جوهر خالد موجود منذ الأزل ، وعندما يكتمل الجنين في بطن اُمّه تتعلق به الروح ، ثمّ تعود بعد الموت إلى محلّها الأول ، ويرى إفلاطون أن هناك روحين : إحداهما الروح العاقلة وهي الخالدة ومحلها الدماغ ، والاُخرى غير خالدة ولا عاقلة ، وهي قسمان : غضبية ومستقرها الصدر ، وشهوية ومكانها البطن .
وذهب أرسطو إلى
الاعتقاد بحدوث الروح مع حدوث البدن ، فعندما يتكامل البدن توجد الروح دون أن تكون لها سابقة حياة قبل حدوثها ، وعدّ ثلاثة صنوف من الأرواح منبثّة في مجموع البدن ، وهي : الروح العاقلة ـ أو النفس الناطقة ـ وهو يقول بتجردها ، والروح الحاسة أو الحيوانية ، والروح الغاذية ، ولا يقول بتجرد الأخيرتين
.
واهتم ديكارت ( ت ١٥٦٠
) بتمييز الروح عن الجسم ، وتحديد خصائص كلّ منهما ، فاعتبر الروح جوهراً أخصّ صفاته الفكر ، ولا يتصوّر فيه إمكان التجزّي والانقسام وعدم التجانس في أجزائه ، واعتبر الجسم جوهراً أخص صفاته الامتداد ، ومن أحواله الصورة والحركة ، ويقبل الانقسام والتجزّي والتغير بطبيعته .
وأقوال فلاسفة الغرب القدامىٰ
والمحدثين في الروح كثيرة ، نكتفي بما ذكرناه منها .
__________________________
أما علماء وفلاسفة
المسلمين فقد قال الشيخ الصدوق : الاعتقاد في الروح أنّه ليس من جنس البدن ، وأنه خلق آخر لقوله تعالى : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )
، وإذا فارقت الأبدان فهي باقية ؛ منها منعّمة ، ومنها معذّبة إلى أن يردّها الله تعالى بقدرته إلى أبدانها .
وقال نصير الدين
الطوسي : النفس جوهر مجرد ، وقال العلّامة الحلّي في شرحه : اختلف الناس في ماهية النفس ، وأنها هل هي جوهر أم لا ، والقائلون بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجردة أم لا ، والمشهور عند الأوائل وجماعة من المتكلمين كبني نوبخت من الامامية ، والمفيد منهم ، والغزالي من الأشاعرة أنّها جوهر مجرد ليست بجسم ولا جسماني
، متعلّقة بالجسم تعلّق التدبير والتصرّف . .
وذهب إلى هذا الرأي
أيضاً الراغب الأصفهاني والفخر الرازي من الأشاعرة ، ومعمر بن عباد السلمي من المعتزلة ، ويؤيده العلامة الحلي والشيخ البهائي من الإمامية وغيرهم كثير ، وادّعى بعض المتأخرين أنه
__________________________
يستفاد
التجرد من كثير من الأخبار .
وكان ابن سينا يؤمن
بتجرد القوة العاقلة فقط ، لكن صدر المتألهين الشيرازي يؤمن أن جميع القوى الحيوية للانسان لها وجهة مادية ووجهة تجردية ، وأن جميع القوى المادية للانسان ترافقها قوى مجرّدة بحيث إن الانسان عندما يموت لا ينفصل عنه العقل لوحده ، بل العقل والخيال والذاكرة والباصرة والسامعة .
أدلّة القائلين بالتجرّد
استدل كثير من فلاسفة
المسلمين ومتكلميهم على كون الروح مجردة عن صفات البدن وأعراضه ، ولا تفنى بالموت ، بل تبقى خالدة ، إما في نعيم وسعادة ، أو في جحيم وشقاوة ، بأدلة نقلية وعقلية كثيرة نذكر منها :
أولاً
ـ الأدلة القرآنية ، وهي تشتمل على ما يلي :
١ ـ الآيات القرآنية
الدالة على أن أرواح الشهداء والصدّيقين لا تموت بموت البدن ولا تفنى بفنائه وتبدد أجزائه ، بل تبقى في عيش هنيء ونعيم مقيم ، كقوله تعالى : (
وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ) ، وقوله تعالى : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . . . )
وقوله تعالى : (
يَا أَيَّتُهَا
__________________________
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) فثبت أن الإنسان قد يكون حياً بينما
جسده في التراب ، وذلك يلزم كون حقيقة الانسان غير هذا البدن
.
٢ ـ الآيات الدالة
على أن الكفار يعذّبون في النار بينما أجسادهم في القبور ، كقوله تعالى : (
وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ . . . )
، وقوله تعالى : (
مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ
أَنصَارًا ) فهم أحياء يعذّبون بعد موت أجسادهم ، وذلك يستلزم كون حقيقة الانسان شيئاً غير هذا الجسد .
٣ ـ الآيات التي ذكرت
مراتب الخلقة الجسمانية ، كقوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ) فأفادت أن الإنسان لم يكن إلّا جسماً
تتوارد عليه صور مختلفة متبدلة ، ثمّ إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )
أي أنشأ هذا الجسم الجامد الخامد
__________________________
خلقاً
آخر ذا شعور وإرادة وفكر وتصرف وتدبير إلى غير ذلك من الخواص والأفعال التي لا تصدر من الأجسام والجسمانيات ، وهو تصريح بأنّ ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من الصور الجسمية المتبدّلة الواقعة في الأحوال الجسمانية ، وذلك يدلّ على أن الروح شيء مغاير للبدن .
وكذلك قوله تعالى في
خلق الإنسان : (
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ )
وقوله تعالى في خلق آدم عليهالسلام : (
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي )
فلمّا ميّز تعالى بين التسوية ـ وهي خلق الأعضاء والأبعاض الجسمية ـ وبين نفخ الروح ، دلّ ذلك على أنّ جوهر الروح شيء مغاير لجوهر الجسد .
٤ ـ الآيات التي
ميّزت بين ما هو مادي مضمحلّ من الانسان ، وبين ما هو حقيقة باقية يتوفّاها الله إليه ، كقوله تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي
قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى )
وهي تدلّ على أن الإنسان روح وبدن ، وأن الروح هي التي تسيّر البدن وتدبّره بأمر الله تعالى ، والموت
__________________________
عبارة
عن قطع العلاقة بين الروح والبدن ، وأنها بعد ذلك تذهب إلى خالقها . فهو تعالى يقبض النفس عند موت الجسد وعند منامه ، فتبقى التي قضى عليها الموت عند بارئها إلى يوم القيامة ، ويردّ الاُخرى إلى الجسد حتى يحين أمدها المعيّن .
وقيل : إن النَّفْس
التي تتوفّى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، وإذا زالت لا يزول معها النَّفَس ، والتي تتوفّى عند الموت هي نَفْس الحياة التي إذا زالت زال معها النَّفَس ، فقبض النوم يضادّ اليقظة وتكون الروح معه ، وقبض الموت يضادّ الحياة وتخرج الروح معه من البدن .
فالإنسان حينما يموت
على وفق المنطق القرآني ، فإن ما يقوّم ملاك شخصيته الحقيقية يظلّ باقياً ، وهو الروح ، التي تعدّ حقيقة إرادية واعية فيما يضمحل البدن ويتلاشى .
وما تشتمل عليه هذه
الآية من الأخذ والإمساك والإرسال ظاهرٌ في المغايرة بين النفس والبدن ، لأنّ تلك الخواص قد تفرّدت بها الروح
دون الجسد ، فإذا كانت حقيقة الإنسان مادية فلا معنى للأخذ والارسال والامساك .
٥ ـ قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي ) ،
__________________________
والأمر
هو ( كن ) المشار إليه في قوله تعالى : (
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يعنى أن الأمر ومنه الروح دفعيّ الوجود
غير تدريجيه ، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان ، ومن هنا يتبين أن الأمر ومنه الروح شيء غير جسماني ولا مادي ، لأن الموجودات المادية الجسمانية من أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود مقيدة بالزمان والمكان ، فالروح ليست بمادية جسمانية
.
ثانياً
: أدلة السّنة ، وهي كثيرة ، نذكر منها :
١ ـ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من صلّى عليّ عند قبري سمعته ، ومن صلى عليَّ من بعيد بُلّغته »
. وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من صلّى عليَّ مرة
صليت عليه عشراً ، ومن صلّى عليَّ عشراً صلّيت عليه مائة ، فليكثر امرؤ منكم الصلاة عليَّ أو فليقلّ » . فبيّن أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه ، ولا يكون كذلك إلّا وهو حي عند الله تعالى ، وكذلك أئمة الهدى عليهمالسلام يسمعون سلام المسلّم عليهم من قرب ، ويبلغهم سلامه من بعد ، وبذلك جاءت الأخبار الصادقة عنهم عليهمالسلام .
٢ ـ روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه وقف على قليب بدر ، فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذٍ وقد اُلقوا في القليب : « لقد كنتم جيران سوء
لرسول الله ، اخرجتموه من منزله وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ » فقيل له صلىاللهعليهوآلهوسلم :
__________________________
ما
خطابك لهامٍ قد صديت ؟ ! فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم « فوالله ما أنتم
بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلّا أن أُعرض بوجهي هكذا عنهم »
.
وفي رواية : «
ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوني »
.
٣ ـ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم من خطبة طويلة : « حتى إذا حمل الميت
على نعشه ، رفرف روحه فوق النعش ويقول : يا أهلي ويا ولدي ، لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال من حلّه وغير حلّه ، فالغنى لغيري والتبعة عليَّ ، فاحذروا مثل ما حلّ بي »
.
٤ ـ وعن أمير
المؤمنين عليهالسلام أنه ركب بعد انفصال الأمر من حرب البصرة ، فصار يتخلّل الصفوف حتى مرّ على كعب بن سورة . . . وهو صريع بين القتلى ، فقال : « اجلسوا كعب بن سورة » فاُجلس بين نفسين ، وقال له : «
يا كعب بن سورة ، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ؟ »
ثم قال : «
أضجعوا كعباً »
وفعل مثل ذلك بطلحة بن عبد الله ، فقال له رجل من أصحابه : يا أمير المؤمنين ، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك ؟ ! فقال عليهالسلام : « مه يا رجل ، فوالله
لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
»
.
__________________________
٥ ـ وعن حبّه العرني
، قال : خرجت مع أمير المؤمنين عليهالسلام إلى الظهر ، فوقف بوادي السلام ، كأنّه مخاطبٌ لأقوامٍ . . . فقلت : يا أمير المؤمنين ، إني قد أشفقت عليك من طول القيام ، فراحة ساعة . . . ! فقال لي : «
يا حبّة ، إن هو إلّا محادثة مؤمن أو مؤانسته » قلت : يا أمير المؤمنين ، وإنهم لكذلك ؟ ! قال : « نعم ، ولو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون . . . »
.
٦ ـ وعن أبي بصير ،
قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن أرواح المؤمنين ، فقال : «
في حجرات في الجنة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون : ربنا أقم الساعة لنا ، وأنجز لنا ما وعدتنا ، وألحق آخرنا بأولنا »
.
٧ ـ وعن أبي بصير ،
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن أرواح المشركين ، فقال : « في النار يعذّبون ، يقولون : ربنا لا تقم لنا الساعة ، ولا تنجز لنا ما وعدتنا ، ولا تلحق آخرنا بأولنا » .
ثالثاً : الأدلة
العقلية
استدلّ القائلون
بتجرد النفس عن صفات المادة بعدّة أدلة عقلية نذكر منها :
١ ـ بديهي أن معلومات
الانسان مجردة عن المواد ، فالعلم المتعلق بها
__________________________
يكون
لا محالة مطابقاً لها ، فيكون مجرداً لتجردها ، فمحله ـ وهو النفس ـ يجب أن يكون كذلك ، لاستحالة حلول المجرد في المادي .
٢ ـ الماديات قابلة
للقسمة ، وعارض النفس ـ وهو العلم ـ غير منقسم ، فمحلّه ـ وهو النفس ـ لا بد أن يكون كذلك ، ثمّ إن محلّ العلوم الكلية لو كان جسماً أو جسمانياً لانقسمت تلك العلوم ، لأن الحالّ في المنقسم منقسم ، وانقسام العلوم والمفاهيم الذهنية مستحيل .
٣ ـ إن النفوس
البشرية تقوى على أفعال وإدراكات لا تتناهى ، كتعقّل الأعداد غير المتناهية ، والقوة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى ، فهي إذن غيرها .
٤ ـ لو كان وعاء
العلم هو الدماغ أو غيره من آلات التعقّل ، لكانت كلّ معلومةٍ تضاف إليه تشغل حيزاً منه ، ولأصبحت القابلية العلمية للانسان متناهية ؛ لأن قابلية المادة على استيعاب المعلومات محدودة كالصحيفة التي تمتلئ بالكتابة ، أو القرص الذي يمتلئ بالصوت أو الصورة ، وذلك يعني أن الانسان لو سمح له عمره أن يستوفي كل وعائه العلمي ، فسيصل إلى مرحلة يفقد فيها استعداده للتعلم ، وذلك محال .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « كل وعاء يضيق بما جُعل فيه ، إلّا وعاء العلم فإنه يتّسع به »
فسعة وعاء العلم بمقدار العلم ذاته ، فوعاؤه إذن غير مادي .
٥ ـ العلم البديهي
حاصله أن في ذات الانسان حقيقة ثابتة يشعر بها
__________________________
على
طول العمر وحتى بعد النشور ، ويعبّر عنها بالأنا ، فلو كان الانسان هو هذا البدن المحسوس
لأصبح عرضةً للتبدّل والتغيّر ، ولاُسدل الستار على جميع معلوماته
وأفكاره ، ولكان شعوره بالأنا أمراً باطلاً وإحساساً خاطئاً ، لأنّ أجزاء
البدن متبدّلة متغيّرة ، ففي كلّ يوم تموت ملايين الخلايا وتحلّ محلّها خلايا
جديدة ، وقد حسب العلماء معدل هذا التجدّد ، فظهر أنه يحصل بصورة شاملة في
البدن مرة كلّ عشر سنين ، أما بعد الموت فإن البدن يضمحلّ ويتلاشى ، والمتبدّل غير الثابت الباقي ، وعليه فإن ملاك وحدة شخصية الانسان والاساس في ثبات أفكاره ومعلوماته رغم حصول التغير في البناء الجسمي هو الروح .
٦ ـ إن القوى
الجسمانية تضعف وتكلّ مع توارد الأفعال عليها ، فإنّ من نظر إلى قرص الشمس طويلاً لا يكاد يدرك في الحال غيره إدراكاً تاماً ، أما القوى النفسانية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال ، بل عند كثرة التعقلات تقوى وتزداد نشاطاً ، فالحاصل لها عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوى الجسمانية عند كثرة الأفعال ، فوجب أن لا تكون جسمانية .
٧ ـ حصول الأضداد في
القوى النفسانية وعدم حصولها في القوى الجسمانية ، فإذا حكمنا بأنّ السواد مضادّ للبياض ، وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض ، والبداهة حاكمة بأن اجتماع الأضداد في الأجسام محال ، فلمّا حصل اجتماعها في القوى النفسانية وجب أن لا تكون جسمانية .
٨ ـ إن المادة
الجسمانية إذا حصلت فيها صور ونقوش مخصوصة ، فإن
وجود
تلك الصور يمنع من حصول غيرها إلّا بعد إزالة الاُولى ، بينما يستوعب التعقّل والتصوّر الذهني الصور المتعاقبة التي يستطيع الإنسان أن يستحضرها أو يتخيلها في لحظة ما بمقدار وجودها الخارجي دون حاجة إلى التدرّج أو مرور الزمان ودون أن يمتلئ المحلّ بها ، فلا بد أن يكون محلها غير ماديّ ولا متحيّز .
رابعاً : أدلة علمية
تجريبية
توصّل علماء الغرب
إلى نتائج باهرة على صعيد إثبات عالم الروح وصحة خلودها وتجردها عن صفات المادة ، ليس على أساس فلسفي يقوم على النظر والاستدلال ، بل على أساس علمي تجريبي لا يتطرق إليه أدنى شكّ ، فنُسِفت على أيديهم صروح المذهب المادي ، وطُعِن طعنة نجلاء لا يرجى له بعدها شفاء ، وذلك من خلال علمي استحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي اللذين فتحا إلى عالم الروح آفاقاً جديدة ، غيّرت الكثير من العلماء الماديين الجاحدين لعالم الروح إلى مؤمنين بعالم الغيب موقنين بخلود النفس .
وكلا العلمين
المتقدمين كان معروفاً منذ القدم ، فقد كان يعرفه المصريون القدماء والآشوريون والهنود والرومان وغيرهم ، ولكنه كان لا يتعدّى المعابد ولا يشتغل به إلّا رجال الدين ، وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي شاع هذان العلمان في أمريكا واُوربا ، وانتشرا على نطاق واسع في أنحاء المعمورة ، وأصبحا من العلوم المعترف بها عند أساتذة الجامعات وأساطين الدراسات العالية ، وأضفوا عليهما روحاً علمية جديدة ، وفي ما يلي نذكر طرفاً من الجهود العلمية في كلا العلمين .
أولاً
: استحضار الأرواح
: وهو العلم الذي يتمّ
بواسطته الارتباط بالموتى عن طريق استحضار أرواحهم من عالمها ، فتظهر أمام المستحضر وتُحدّثه وتُثبت له بكلّ وضوح أنها روح فلان ، وتجيب على أكثر الأسئلة التي توجه إليها بعقلٍ وحكمة إلى الحدّ الذي استعان بعض العلماء بالأرواح في حلّ ما يجهلونه من مسائل معقدة ، كما تجيب الروح عندما تُسأل عن حالها ومصيرها بعد الموت وما هي فيه من نعيم أو جحيم .
وأثارت هذه الظاهرة
دهشة كثير من علماء الطبيعة والطب والفلاسفة وغيرهم من كافة أرجاء المعمورة ، فتواصلت دراساتهم العلمية متلاحقةً ، وأوقفتهم على قضايا مثيرة للانتباه فيما يتعلق بعالم الروح وبقائها وحضورها بعد الموت عن طريق التحقيقات العلمية القائمة على البحث والتجربة والدراسات المستفيضة ، فأقروا هذا العلم ، واعترفوا بخوارق مشاهداته بعد أن قام لهم الدليل الذي لا يتطرق إليه الشك والبرهان الذي يستحيل دحضه ، وقد ذكر وجدي في ( دائرة المعارف ) جدولاً بأسماء مشاهير اُولئك العلماء .
كما اُخضعت تلك
الدراسات للرقابة العلمية حيث تأسست جمعية في بريطانيا وأمريكا برئاسة الاستاذ هيزلوب عن أمريكا ، والدكتور هودسن عن بريطانيا ، واستمرت تلك الجمعية بالفحص والبحث نحواً من اثني عشر عاماً ، ثمّ أعلنت سنة ١٨٩٩ م أنّها قد اقتنعت بصحة تلك التحقيقات وبكون نتائجها هي من فعل أرواح الموتىٰ .
وتفرّغ كثير من
العلماء الماديين من مختلف بلدان العالم للبحث في هذا
__________________________
المضمار
، فاستنتجوا من مجموع التجارب التي أجروها أن للانسان قوة روحية مجردة عن صفات المادة ، ولا تفنى بموت الجسد ، تستطيع التحرك بنشاط وحيوية دون حاجة إلى الجسم الترابي ، فاعتقدوا بخلود الروح بعد أن كانوا جاحدين لها ، ومن هؤلاء : آلفرد روسل دلاس ، والاستاذ كروكس رئيس الجمعية العلمية الملكية البريطانية ، والسير أوليفر لودج عالم الطبيعة ورئيس جامعة برمنجهام ، والدكتور البريطاني جورج سكستون ، والدكتور شامبير ، والدكتور جيمس جللي ، والاستاذ الأمريكي هيزلوب ، والاستاذ البريطاني هودسن ، والفلكي المشهور كاميل فلامريون ، والفيلسوف البريطاني سيرجون كوكس ،
والاستاذ الجيولوجي باركس ، وغيرهم كثير ، ولا تزال جهود العلماء تتواصل إلى اليوم لتسجل الحقائق تلو الحقائق عن عالم الروح .
ثانياً
: التنويم المغناطيسي
: وهو تنويم صناعي
يحدثه المتخصّصون بهذا العلم ، فيغطّ المُنوَّم في نوم عميق تتوقّف فيه أعضاؤه عن الحركة والاحساس ، ولا يسمع إلّا صوت مُنوّمه ، ويستسلم لإرادته متأثّراً بأفكاره ، مطيعاً لأوامره دون تردّد ، وتظهر منه نتيجة ذلك خوارق تُثبت أن له روحاً متميزة عن البدن ، فقد تنتقل روحه إلىٰ مناطق بعيدة عن موضع النائم ، وتكشف أسراراً لا يعرفها وهو في حال اليقظة ، وقد يتكلم بلغات لا يتقنها ، ويخبر عن أشياء ليس له أدنى إطلاع بها .
__________________________
وتوجه جملة من أقطاب
الفلسفة إلى دراسة النوم مستنيرين بمشكاة العلوم النفسية الحديثة ، فسجّلوا حوادث روحية مدهشة وظواهر عجيبة توصلوا من خلالها إلى نتائج باهرة ، ومن هؤلاء الاستاذ البريطاني ميارس المدرس في جامعة كمبردج ، وصاحب كتاب ( الشخصية الإنسانية ) الذي ذكر فيه عدة مشاهد وتجارب من عالم التنويم المغناطيسي ، واعتبرها من المسائل التجريبية التي لا يمكن تعليلها بعلم وظائف الأعضاء ، بل هي تثبت أنّ الانسان مع تركّبه من جسم مادي يشتمل على سرٍّ روحي يستمدّ وجوده من العالم الروحاني ومن العالم الأرضي ، وتلك هي حقيقة الانسان الكريمة ، على حدّ تعبيره .
وخطا هذا العلم خطوات
واسعة في مجال عالم الروح الرحب على أيدي نخبة من العلماء الذين تخصصوا به وحققوا نتائج علمية فائقة تقوم على أساس البحث والتحقيق ، ومنهم العالم البريطاني جيمس برايد ، ونولز ، وشاركو ، وفيليب كارث وغيرهم .
ومن مجموع الأدلة
التي قدمناها تبين أن شخصية الانسان التي يشار إليها بالأنا ليست بجسم ولا أجزاء من هذا الجسم ، لأن هذه الشخصية تتصف بالعلم والادراك ، ولا تتبدل بتبدّل الجسم والأعضاء ، ولا تخضع لقوانين الزمان والمكان خضوع الجسم لها ، وتتميز بخصائص اُخرى ليست
__________________________
من
خصائص الجسم والمادة في شيء على ما بيناه .
أما علاقة الجسم
والأعضاء بهذه الروح فهي علاقة أدوات وآلات لظهور حركتها وإبراز آثارها وأفعالها ، مع أنعكاس أثر كل منهما على الآخر ، فالخوف والرهبة والسرور والابتهاج تنعكس آثارها على أعضاء الجسم من حيث التقلص وتغيّر اللون وغيرهما ، كما أن ضعف الأدوات أو تلفها يؤثر على النشاط الفكري والعقلي ، وتستمر العلاقة بين الروح وأدواتها المادية في يوم النشور حيث تعاد الروح إلى البدن ، وتكون الجوارح شاهدة على فعل الروح ، كما دلّ عليه صريح القرآن الكريم في عدة آيات ، منها قوله تعالى : (
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
على أنه لا يمكن
الجزم في الأساس الذي تقوم عليه العلاقة المتبادلة بين الروح والجسد ، فهل تقوم على أساس الامتزاج بينهما ، أو على أنهما شيء واحد ، أو على أساس استقلال كل منهما عن الآخر بصورة موضوعية ؟ إنه من أمر ربي وهو العالم بجلية الحال .
المبحث الثاني : حقيقة المعاد
اتفق المسلمون على
حقية المعاد وثبوت النشأة الآخرة ، وشاطرهم المحققون من الفلاسفة الرأي في ذلك ، ولكن اختلفوا في كيفية المعاد على قولين :
__________________________
الأوّل ـ المعاد جسماني
ويعني أن الله سبحانه
يحشر الناس يوم القيامة بهذا البدن المشهود بعد رجوعه إلى هيئته الاُولى ، والمعاد بهذا المعنى أصل عظيم من اُصول الدين ، وضرورياته الواجبة الاعتقاد ، وأركانه الثابتة ، وجاحده كافر بالاجماع ، والدليل على ثبوته أنه ممكن ، والصادق أخبر بثبوته ، فوجب الجزم به والمصير إليه .
أما إمكانه فقد تقدّم
بحثه في الفصل السابق ، وأما الإخبار بالثبوت فضروري من دين الأنبياء عليهمالسلام ، كما أنّه معلومٌ بالضرورة في دين
نبينا الصادق الأمين صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد نصّ عليه القرآن الكريم وأنكر
على جاحديه في آيات صريحة كثيرة في ألفاظها واضحة في معانيها ، مؤكدة أن المعاد إنما يكون حينما يخرج الناس من أجداثهم مسرعين إلى الحساب (
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للَّهِ الْوَاحِدِ
الْقَهَّارِ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ) من خير وشرّ ، كما أنه ثبت بالتواتر أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعترته المعصومين عليهمالسلام قد نصّوا على ثبوت المعاد الجسماني
وقالوا به في أحاديث صريحة بهذا المعنى ، فمن الآيات :
١ ـ قوله تعالى : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) .
٢ ـ قوله تعالى : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي
الْعِظَامَ
__________________________
وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ
بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .
٣ ـ الآيات الدالة
على إخراج الأموات من القبور ، كقوله تعالى : ( وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ
وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )
، وقوله تعالى : (
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ )
.
٤ ـ الآيات الدالة
على أن الإنسان يحضر إلى الحساب بكامل جوارحه ، وتكون ضمن الشهود على أعماله ، كقوله تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، وقوله تعالى : (
حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
٥ ـ الآيات التي
قدّمت أمثلة عينية على المعاد البدني ، كما في بيان قصة إحياء العزير ، وقتيل بني إسرائيل ، وأصحاب الكهف ، وإحياء الطيور لإبراهيم عليهالسلام ، وقد ذكرناها في أدلّة المعاد .
__________________________
٦ ـ الآيات الدالة على
لذّات الجنة التي لا تدرك إلّا بآلة جسمانية ، والآلام التي تقع على بعض أجزاء الجسم المعذّب في نار جهنم ، قال تعالى في وصف أهل الجنة : (
عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ )
وقال تعالى في وصف أهل النار : (
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ )
.
أما الأحاديث فكثيرة
، منها قول أمير المؤمنين عليهالسلام في خطبته الغرّاء : «
حتى إذا تصرّمت الاُمور ، وتقضّت الدهور ، وأزف النشور ، أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجرة السباع ، ومطارح المهالك ، سراعاً إلى أمره ، مهطعين إلى معاده ، رعيلاً صموتاً ، قياماً صفوفاً . . . » .
ومنها ما رواه علي بن
إبراهيم والشيخ الصدوق في الصحيح عن الإمام الصادق عليهالسلام ، قال : « إذا أراد الله أن
يبعث الخلق ، أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً ، فاجتمعت الأوصال ، ونبتت اللحوم » .
__________________________
حقيقة المعاد الجسماني
القائلون بالمعاد
الجسماني هم عامة أهل الإسلام من الفقهاء والمتكلمين وأهل الحديث والعرفان ، وقد اتفقت كلمتهم على إعادة الإنسان ببدنه يوم القيامة كما أخبر عنه الله تعالى في كتابه ، لكنهم اختلفوا في حقيقة الروح ، فمنهم من يرى أن الروح هي جسم سارٍ في البدن ، سريان النار في الفحم ، والماء في الورد ، وعليه فيكون المعاد عندهم بالنسبة للبدن والروح جسمانياً ، ولا يعني ذلك قولهم بعودة الأجسام ميتةً لا روح فيها ، بل تعود حية عاقلة ، وإنما الروح عندهم معدودة في عداد الأجسام .
أما الذين قالوا
بتجرّد الروح عن البدن ، فالمعاد عندهم سيكون للأجسام وللأرواح ، وذلك بعودة الروح إلى البدن عند البعث . والقائلون بهذا هم كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين ، كالغزالي ، والكعبي ، والحليمي ، والراغب الأصفهاني ، وكثير من أصحابنا الإمامية ، كالشيخ المفيد ، وأبي جعفر الطوسي ، والسيد المرتضى ، والمحقق الطوسي ، والعلامة الحلي ( رضوان الله عليهم أجمعين ) ذهاباً إلى أن النفس المجردة تعود إلى البدن في يوم القيامة .
وقد استفاض النقل بأن
الروح جوهر لطيف نوراني مغاير للبدن ، وأنّها تبقى بعد خرابه مبتهجة مسرورة حيّة مرزوقة ، أو بالعكس
، وقد تقدّم ذكر الكثير منها في المبحث الأول ، ونكتفي هنا بذكر الحديث الآتي
__________________________
عن
الامام الصادق عليهالسلام ، والذي يستوعب حقيقة المعاد بأكملها :
سأل زنديق الامام الصادق عليهالسلام مستنكراً البعث : وأنّى له بالبعث
والبدن قد بلى ، والأعضاء قد تفرقت ، فعضو ببلدة يأكلها سباعها ، وعضو باُخرى تمزّقه هوامها ، وعضو صار تراباً بني مع الطين حائط ؟
فقال عليهالسلام : « إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفُسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير تراباً كما منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته ، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها . . . فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ، ثمّ تُمخَضوا مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غُسِل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مُخِض ، فيجتمع تراب كلّ قالب إلى قالبه ، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً »
.
الثاني ـ المعاد روحاني
ذهب جمهور الفلاسفة
إلى أنّ المعاد روحاني ؛ لأنّهم لم يتمكّنوا من تعقّل عودة الأبدان على معاييرهم الفلسفية ، فقالوا : إنّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه ، لقطع تعلّق النفس به ، فلا يعاد بشخصه تارة اُخرى ، إذ المعدوم لا يعاد ، والنفس جوهر باقٍ لا سبيل للفناء
__________________________
إليه
، وعليه جعلوا المعاد وما يتعلّق به من شأن الروح وحدها التي
لا يعتريها الفناء .
وهذا القول لا تساعده
ظواهر آيات القرآن الكريم وصحيح سنة المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم الدالّة على إعادة الإنسان ببدنه يوم
القيامة ، والقائلون بالروحاني من بعض فلاسفة المسلمين ، اعتبروا الثواب والعقاب هو التذاذ النفس أو تألمها باللذات أو الآلام العقلية أو الروحية بعد مفارقتها البدن ، وحاولوا تأويل ظواهر الأدلّة الشرعية حتىٰ تنطبق على أسسهم العقلية ، فتكلّفوا في تأويل الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على النعيم والعذاب الحسّيين اللذين يتعرض لهما الإنسان في الجنة والنار ، حيث اعتبروهما من باب التمثيل الحسّي للنعيم والعذاب الروحاني أو العقلي ، تقريباً لأذهان عامة الناس الذين تستهويهم الاُمور الحسيّة دون المعاني العقلية ، ليكون ذلك باعثاً لهم على الانقياد والطاعة .
وقد اشتهر عن الشيخ
الرئيس ابن سينا أنه ينكر المعاد الجسماني ويقول بالمعاد الروحاني حتى أن الغزالي كفّر ابن سينا وبعض
الفلاسفة في ( تهافت الفلاسفة ) لانكارهم المعاد الجسماني
.
والحق أنه لم يتعرّض
ابن سينا في كتبه المعروفة لإنكار البعث الجسماني صراحة ، بل نجده في ( الشفاء ) وهو أكبر كتبه ، يعترف بالبعث الجسماني
__________________________
ويرى
أنه حق لا ريب فيه .
قال المحقق الدواني
في شرحه على ( العقائد العضدية ) : إن الرئيس أبا علي مع إنكاره للمعاد الجسماني على ما هو بسطه في كتاب ( المعاد ) وبالغ فيه ، وأقام الدليل بزعمه على نفيه ، قال في كتاب ( النجاة والشفاء ) : يجب أن يُعلم أن المعاد منه ما هو منقول من الشرع ، ولا سبيل إلى إثباته إلّا من طرق الشريعة وتصديق خبر النبوة ، وهو الذي للبدن عند البعث ، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تُعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها نبينا وسيدنا ومولانا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن ، ومنه ما هو مُدرك بالعقل والقياس البرهاني ، وقد صدّقته النبوة ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس ، وإن كانت الأوهام هاهنا تقصر عن تصوّرهما الآن
.
وقد أثبت الأستاذ فتح
الله خليفة في دراسته لمذهب ابن سينا في النفس أنه يقول بجسمانية المعاد بما لا يقبل الشكّ والترديد
.
كما توهّم البعض أن
الغزالي يُنكر حشر الأجساد ، والحق بخلاف ذلك ، فقد قال شارح المقاصد : قد بالغ الإمام الغزالي في تحقيق المعاد الروحاني وبيان أنواع الثواب والعقاب بالنسبة إلى الروح حتى سبق إلى كثير من الأوهام ووقع في ألسنة بعض العوام أنه يُنكر حشر الأجساد افتراءً عليه ، كيف وقد صرّح به في مواضع من كتاب ( الإحياء ) وغيره ، وذهب إلى أن إنكاره كفرٌ ؟ وإنما لم يشرحه في كتبه كثير شرحٍ لما قال : إنه
__________________________
ظاهر
لا يحتاج إلى زيادة بيان .
إنكار المعاد الجسماني
لقد عانى الأنبياء
والمرسلون عليهمالسلام من إنكار أقوامهم لعقيدة المعاد ، وتحمّلوا في هذا السبيل مصاعب جمّة وافتراءات باطلة (
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ )
هذا مع أن المعاد من أوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي والعقل حتى وصفه تعالى في مواضع من كتابه ( لَا رَيْبَ فِيهِ )
وما إحياء الطيور لإبراهيم عليهالسلام وإحياء قتيل بني إسرائيل والعزير وأصحاب الكهف وغيرها إلّا أمثلة حية قدمتها يد القدرة الإلهية في فترات متفاوتة لترسيخ عقيدة المعاد في أذهان الناس ، وهي تدلّ على شدّة نكيرهم لهذه العقيدة الحقّة .
وإنكار المعاد عند
اُولئك الأقوام لا يقوم على شيءٍ من الدليل المطابق للواقع أو المؤيد بالبرهان ، بل يقوم على أساس الظنّ الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً ، قال تعالى : (
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ ) ويقوم على أساس الاستبعاد الذي لا يعدّ شبهة وفق الموازين العلمية ، بل هو دليل على العجز عن فهم الحجة وتأمّل البرهان للوصول إلى الحق ، والارتقاء
__________________________
إلى
ما عند الله سبحانه من النعيم المقيم والملك العظيم .
والباعث الأساس
لانكار المعاد هو قصور الانسان في المقاصد الدنيوية والغايات المادية وعبادة الشهوات ، مما يدفعه إلى التحرر من قيود التقوى ، وعبور حواجز الإيمان التي تفرضها عليه عقيدة المعاد ، والانطلاق باتجاه عالم الجريمة والفساد والفجور (
بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ )
.
ولهذا نجد أن
المستكبرين الذين ملأوا الدنيا فساداً وجوراً ، والمترفين الذين عبدوا شهواتهم وأهواءهم ، قد بالغوا في إنكار المعاد وتأكيد استبعاد حصوله علواً واستكباراً ، ومن هؤلاء قوم هود عليهالسلام قال تعالى : ( قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا
تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ )
. وأكّد تعالى على استكبارهم عن الخضوع للحقّ والانصياع لنور الحجة وإشراقة البرهان في قوله تعالى : ( فَالَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ )
.
وأنكر الجاهليون
المعاصرون للرسالة الخاتمة المعاد بناءً على نفس
__________________________
المبدأ
المتقدم ، أي الظنّ والاستبعاد ، ولم يكن لديهم أي دليل أو برهان ( بَلْ قَالُوا مِثْلَ
مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ
إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .
ومن هنا جاءت الآيات
الكريمة لتردّ عليهم إنكارهم وتجيب عن شبهاتهم في ثلاثة اتجاهات :
الأوّل :
إقامة البراهين التي تناشد العقل والوجدان ، وتثبت ضرورة المعاد ، وحتمية تحقق الوعد الإلهي ، لازالة الاستبعاد عن أذهان المنكرين ، وإقامة الحجة الواضحة عليهم ، ومن تلك البراهين برهان المماثلة ، والقدرة ، والحكمة ، والعدالة ، وقد ذكرناها مع الأمثلة في أدلة المعاد .
الثاني :
بيان حقيقة الانسان ، ذلك لأنّ مشركي الجاهلية كانوا ينكرون المعاد الجسماني ، كما هو ظاهر من صور إنكارهم التي عرضها الكتاب الكريم (
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ )
، (
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) ، (
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ، وقد اُجيب عنه في كلامه تعالى ببيان
حقيقة الإنسان المتمثلة
__________________________
بالروح
التي يقبضها ملك الموت (
قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ )
أي إنكم لا تضلون في الأرض ولا تنعدمون بسبب الموت ، لأنّ الملك الموكل بالموت يأخذ أرواحكم ، فتبقى في قبضته ولا تضلّ ، ثم إذا بُعثتم ترجعون إلى الله لفصل القضاء بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم وتعلّقها بها وأنتم أنتم .
الثالث :
التنديد بظاهرة الإنكار ليوم المعاد وتهديد المنكرين بأشدّ العقاب ، قال تعالى : (
وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ
الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
، وقال تعالى : (
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )
، وقال تعالى : (
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) .
الشبهات المثارة حول المعاد الجسماني
يبدو من خلال مجموع
الشبهات التي تعلّق بها الفلاسفة القدامى والمتأخرون لانكار جسمانية المعاد ، أنّها ترجع إمّا إلى الجهل بصفات الحقّ
__________________________
القدسية
، سيما في مجال قدرة الخالق غير المتناهية ، وعلمه الذي أحاط بكلّ شيء ، وإمّا إلى الجهل بصفات عالم الآخرة وخصائص البدن المبعوث في النشأة الثانية ، حيث إنّهم قاسوا ذلك العالم وذلك البدن بالقوانين والنظريات التي تحكم عالمنا وأبداننا المادية ، وهو قياس في غير محلّه ، لأن عالم الآخرة يختلف عن عالمنا هذا بجميع أبعاده وخصائصه ، لأنه عالم يتبدّل فيه النظام الكوني ، وتطوى فيه المنظومة الشمسية ، وتبدل الأرض غير الأرض ، بل الانسان نفسه يعيش فيه حياةً لا فناء بعدها .
وطالما دلّ الكتاب
الكريم والسنة المطهرة على أن البدن لا يفنىٰ ولا يعدم ، بل يبعث وتتعلق به الروح ، فيكون الإنسان هو هو ، لينال الجزاء يوم الفصل ، فالشبهة في مقابل ذلك كالجهل في مقابل العلم ، ومع ذلك فإننا سنذكر أهم الشبهات التي أثاروها في هذا المجال ، ونحاول الإجابة عليها .
أولاً ـ شبهة الآكل والمأكول
وهي شبهة قديمة ،
ذكرها إفلاطون وغيره من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين من المسلمين وغيرهم بتعابير وتقريرات مختلفة ، أهمها : لو أن إنساناً تغذّى على إنسانٍ آخر ، وأكل جميع أعضائه ، فالمحشور لا يكون إلّا أحدهما ، لأنّه لا تبقى للآخر أجزاء تخلق منها أعضاؤه ، وعليه فالبدن المحشور بأيّ الروحين يتعلّق ؟ ولو تعلّق بروح الآكل وكان كافراً ، والمأكول مؤمناً ، للزم عقاب المؤمن ، ولو عكس الأمر للزم ثواب الكافـر .
الجواب :
يتضمن جواب هذه الشبهة عدّة وجوه :
١ ـ إن الله سبحانه
بكلّ شيء عليم ، وهو بعلمه الواسع والمحيط بكلّ الممكنات ، يعلم كلّ ذرات الكون ، ومنها أجزاء الآكل والمأكول ، فيجمعها بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة ، وينفخ فيها الروح ، مهما أصابها من التحوّل أو الفناء أو النقص ، قال تعالى : (
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ، وقال تعالى في حكاية شبهة المنكرين
وجوابهم : ( أَإِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ، وقال تعالى : ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى )
.
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام في وصف النشور : « حتى إذا تصرّمت
الاُمور ، وتقضّت الدهور ، وأزف النشور ، أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجرة السباع ، ومطارح المهالك ، سراعاً إلى أمره ، مهطعين إلى معاده . . . »
، فدلّ على أنّهم سيُبعثون وإن افترستهم السباع أو أكلتهم الطيور .
٢ ـ جاء في الحديث عن
الإمام الصادق عليهالسلام أنه قال : «
إنّ إبراهيم عليهالسلام
نظر إلى جيفةٍ على ساحل البحر تأكلها سباع البرّ وسباع البحر ، ثم تحمل السباع بعضها على بعضٍ ، فتأكل بعضها بعضاً ، فتعجب إبراهيم عليهالسلام فقال :
يا (
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) ؟ فقال الله تعالى :
( أَوَلَمْ تُؤْمِن
قَالَ
__________________________
بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ )
إلى آخر الآية
، فأخذ إبراهيم عليهالسلام
الطاووس والديك والحمام والغراب ، فقال الله عزَّ وجلَّ : ( فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ )
أي قطعهنّ ثمّ اخلط لحمهنّ ، وفرّقهن على عشرة جبال ، ثم خذ مناقيرهنّ ، وادعهنّ يأتينك سعياً ، ففعل إبراهيم عليهالسلام ذلك ، وفرّقهن على عشرة جبال ، ثم دعاهنّ . . . فكانت تجتمع ويتألف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه ، فطارت الى إبراهيم عليهالسلام
فعند ذلك قال إبراهيم عليهالسلام
: ( أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ )
» .
قيل : في هذا الحديث
إشارة إلى أنّه تعالى يحفظ أجزاء المأكول في بدن الآكل ، ويعود في الحشر إلى بدن المأكول ، كما أخرج تلك الأجزاء المختلطة والأعضاء الممتزجة من تلك الطيور وميّز بينها .
٣ ـ وأجاب المتكلمون
والفلاسفة عن هذه الشبهة بما خلاصته أن المعاد هو في الأجزاء الأصلية التي منها ابتداء الخلق ، وهي باقية من أول العمر إلى آخره ، لا جميع الأجزاء على الإطلاق ، والأجزاء الأصلية التي كانت للمأكول هي في الآكل فضلات ، فلا يجب إعادتها في الآكل ، بل تعاد في المأكول ، لأنّ الله سبحانه يحفظها ولا يجعلها جزءاً لبدنٍ آخر .
وارتضاه المحقق
الطوسي حيث قال في ( التجريد ) : ولا يجب إعادة
__________________________
فواضل
المكلف ، وذكر العلامة في شرحه : أنه اختلف الناس في المكلف ما هو على مذاهب . . منها قول من يعتقد أن المكلف هو النفس المجردة . . ومنها قول جماعة من المحققين أن المكلف هو أجزاء أصلية في هذا البدن لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان ، وإنّما يقعان في الأجزاء المضافة إليها ، والواجب في المعاد هو إعادة تلك الأجزاء الأصلية ، أو النفس المجردة مع الأجزاء الأصلية ، أما الأجزاء المتصلة بتلك الأجزاء ، فلا يجب إعادتها بعينها .
ثانياً : استحالة إعادة المعدوم
قالوا :
إنّ إعادة المعدوم محال ، لأنها تستلزم تخلّل العدم في وجود واحد ، أي بين الشيء الواحد ونفسه ، فيكون الواحد اثنين ، وبعبارة اُخرى أن الموت فناءٌ للإنسان ، فإذا رُدّت إليه الحياة ثانية ، فهو إنسان آخر غير الأول ، وذلك خلق جديد بعد العدم لا إعادة فيه ولا رابط بين المبدأ والمعاد .
الجواب :
١ ـ المعاد وفق منطق
الفلاسفة ، هو إما بمعنى الوجود بعد الفناء ، أو بمعنى رجوع الأجزاء بعد تفرّقها ، وقد قال الفلاسفة باستحالة المعنى الأول ، لكنّ قانون المادة المنسوب إلى لافوزيه ( ت ١٧٩٤ م ) ينقض هذا القول من الأساس ، لأنه ينصّ على أن المادة لا تفنى ، بل هي ثابتة ولا تتغير إلّا الصورة الطارئة عليها ، كما أنه في عرف الفلاسفة أن الوجود لا يتطرق إليه العدم ، وجوّز بعض الفلاسفة والمتكلمين إعادة المعدوم ،
__________________________
وقالوا
: إنه لا يمتنع وجوده الثاني لا لذاته ولا للوازمه ، وإلّا لم يوجد ابتداءً ، والإعادة أهون من الابتداء ، كما نصَّ المعتزلة على ثبوت الأحوال وذوات الأشياء ، وقالوا : إن المعدوم شيء ، فإذا عُدم الموجود بقيت ذاته المخصوصة ، فأمكن لذلك أن يُعاد ، لأن ذاته باقية حتى في حال عدمها ، وإنّما يتعاقب عليها الوجود والعدم .
أمّا المعاد بالمعنى
الآخر ، فقد قال بعض فلاسفة المسلمين المؤمنين بالمعاد الجسماني : إنّ المعاد الجسماني ليس هو إعادة المعدوم ، بل هو جمع الأجزاء المتفرقة ، وإن فناء الأجسام ليس إعدامها بل تفرّق أجزائها واختلاطها . وجمع الأجزاء أمر ممكن ، لأنّ الله تعالى عالم بتلك الأجزاء وقادر على جمعها وتأليفها ، لعموم علمه وقدرته على جميع الممكنات
.
٢ ـ ذكرنا في جواب
الشبهة المتقدمة نصّ بعض المتكلمين والفلاسفة على أنّ في البدن أجزاء أصلية لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان والفناء ، وروي عن الإمام الصادق عليهالسلام ما يدلّ على ذلك ، ففي ( الكافي ) عن
عمار بن موسى ، عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام قال : سُئل عن الميت يبلى جسده ؟ فقال : «
نعم حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلّا طينته التي خلق منها ، فإنها لا تبلى ، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق أول مرة » .
٣ ـ لو سلّمنا بقانون
استحالة إعادة المعدوم ، فإنّ الله سبحانه الذي خلق الانسان أولاً ولم يكن شيئاً مذكوراً ، قادر على إعادته وإن لم يكن
__________________________
شيئاً
مذكوراً ، وقد ذكرنا ذلك في برهان القدرة من أدلة المعاد العقلية .
٤ ـ إن الحافظ لوحدة
شخصية الانسان هو الروح ، وهي موجودة عند الله غير باطلة ولا معدومة ، والوجود الثاني هو خلق البدن وتعلق الروح به ، فيكون هو هو لا مثله ولا غيره ، لوجود الماهية المشتركة بينهما .
ثالثاً : تعدّد الأبدان
قالوا : إنّ خلايا
بدن الإنسان في الدنيا عرضة للتبدل والتغير ، وقد قرر العلم أن الانسان يتغيّر كل تركيبه المادي في نحو عشرة أعوام ، فلو مات في الستين ، فإن له ستة تراكيب بدنية مختلفة ، فإن كان المحشور في المعاد جميع التراكيب التي مرّ بها البدن ، استلزم حشر أكثر من بدن لانسان واحد ، وان كان المحشور منها بدناً واحداً ، فهو يستلزم مخالفة قانون العدل الإلهي ، لإن ذلك البدن سيتحمل ثواب أو عقاب جميع الأعمال التي قام بها الإنسان على امتداد فترة العمر .
الجواب :
إن حال الإنسان في
الدنيا يدلُ على نقض هذه الشبهة ، فهو على الرغم من تبدّل تركيبه على ما قرره العلم ، لكنه محافظ على وحدة شخصيته مهما امتدّ به العمر وتبدلت هيئته أو صورته ، ولو أن جانياً ارتكب جريمة في الشباب ، وعوقب في المشيب ، فلا يقال إن ذلك خلاف العدل ، أو أن تلك العقوبة هي لغير الجاني ، وهكذا الأمر في يوم الحساب ، فالبدن هو بعينه إذا تعلقت به الروح سواء بُعِث شاباً أو شيخاً أو كهلاً .
قال الملا صدرا :
الحق أن المُعاد في المَعاد هو بعينه بدن الإنسان
المتشخّص
الذي مات بأجزائه بعينها ، لا مثله ، بحيث لو رآه أحد يقول : إنه بعينه فلان الذي كان في الدنيا ، ومن أنكر هذا فقد أنكر الشريعة ، ومن أنكر الشريعة كافر عقلاً وشرعاً .
وعليه فإنّ القدر
الذي يجب على كلّ مسلم مكلّف الاعتقاد به هو أنّ الله تعالى يعيد في الآخرة الأشخاص وخصوص المكلفين من أجل الحساب فالثواب والعقاب ، وأمّا الخصوصيات ، من كيفية الاعادة وكيفية الحساب وكيفية الجنة والنار وسائر متعلّقات عالم القيامة . . . فقد قالوا بعدم وجوب العلم والاعتقاد التفصيلي بها ، بل يكفي الاعتقاد الاجمالي . ونحن إنما ذكرنا الأقوال والأدلّة من مختلف الكتب لتساعد القارئ الكريم على التأمّل والتفكّر وليكون ما أوردناه منطلقاً للبحث والتحقيق .
__________________________

الفصل الرابع :
منازل المعاد
في سلّم حركة الإنسان
من لدن موته حتىٰ لقائه ببارئه ، يرتقي عدة مرتقيات صعبة ، ويمرّ في عقبات مهولة ، تبلغ من الشدّة والفظاعة بحيث لو قيست بالموت مع شدّة غمراته ، لكان إزاءها أمراً هيّناً يسيراً .
قال الإمام الصادق عليهالسلام : « إنّ بين الدنيا والآخرة ألف عقبةٍ ، أهونها وأيسرها الموت »
.
وفيما يلي نبيّن
بايجاز المنازل التي يقطعها الانسان في طريقه إلى المعاد ضمن خمسة مباحث :
المبحث الأول : الموت وغمراته
الموت هو أول منازل
الطريق إلى المعاد ، وأول مشاهد النشأة الآخرة ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « الموت القيامة ،
إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته ، يرى ما له من خيرٍ وشرّ » . وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : «
الموت باب الآخرة »
.
ويراد به قبض الروح
وقطع تعلّقها بالبدن ، أو الانتقال من نشأة الحياة الدنيا إلى نشأة الحياة الآخرة ، وهو من فعل الله تعالى ، قال تعالى :
__________________________
(
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ
لَهُ كُن فَيَكُونُ ) . وقد أوكل تعالى مهمّة قبض الأرواح إلى ملك الموت ، فهو يقبضها بأمره سبحانه ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) . واصطفى له أعواناً من الملائكة
يصدرون عن أمره ، وجعل فعلهم فعله ( حَتَّىٰ إِذَا
جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ )
والله تعالى يتوفىّ الأنفس من ملك الموت (
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )
.
وإلى ذلك أشار الإمام
الصادق عليهالسلام في حديث قال : «
إنّ لله جعل لملك الموت أعواناً من الملائكة ، يقبضون الأرواح ، بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس ، يبعثهم في حوائجه ، فتتوفّاهم الملائكة ، ويتوّفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو ، ويتوفاها الله تعالى من ملك الموت » .
غمرات
الموت :
الموت صورة مرعبة تجسّد نهاية مسيرة الكائن الإنساني في الحياة الدنيا ، وتعبّر عن مصيره المحتوم الذي لا بدّ من لقائه ( قُلْ إِنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )
.
وقد جاء في وصف الموت
وما يحيطه من أهوالٍ وما يكتنفه من غمراتٍ الكثير من الآيات والأحاديث ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « وإنّ
__________________________
للموت لغمرات هي أفظع من أن تُستغرق بصفة ، أو تعتدل على عقول
أهل الدنيا »
. وفيما يلي نورد وصفاً لبعض تلك الغمرات على ضوء آيات الذكر الحكيم والأحاديث الشريفة :
١
ـ الاحتضار : ويراد به حضور ملك الموت أو أعوانه من
ملائكة الرحمة أو العذاب ، لانتزاع روح المحتضر ، وهو من الأهوال المرعبة ، لما يدخل من الروع والخوف على قلب المحتضر حين مشاهدة الملائكة ، قال الامام زين العابدين عليهالسلام : « أشدّ ساعات ابن آدم
ثلاث ساعات : الساعة التي يعاين فيها ملك الموت ، والساعة التي يقوم فيها من قبره ، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى ، فإما إلى الجنّة ، وإمّا إلى النّار » .
وأهوال الاحتضار ليست
هي بدرجة واحدة لكلّ المحتضرين ، بل تتفاوت شدّة ورفقاً بحسب سلوك الانسان وعمله ، فالمتّقون لهم مناخ نفسي مريح تتلقّاهم به ملائكة الرحمة بالبشارة العظمى ، وهي الفوز بنعيم الأبد ، قال تعالى : (
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ
عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )
فليس بين وفاتهم والبشارة فاصل زمني ، لعدم العاطف بين الجملتين فهو موت عنده البشارة .
وتتحدّث آيات اُخرى
عمّا يعانيه الكافرون والظالمون من غمرات مفزعة وأهوال مرعبة ، فتُصوّر الضغط النفسي بسبب الوعيد القاتل وهول العذاب النازل ، قال تعالى : (
وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
__________________________
أَيْدِيكُمْ ) .
٢
ـ سكرات الموت : قال تعالى : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) والمراد بسكرة الموت : الكرب الذي
يتغشّى المحتضر عند الموت من هول المطلع ، وهي غصص الموت ، وغمرات الآلام ، وطوارق الأوجاع والأسقام ، وما يصحبها من « أنّةٍ موجعةٍ ،
وجذبةٍ مكربةٍ ، وسوقة متعبةٍ »
.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أدنى جَبَذات الموت بمنزلة مائة ضربةٍ بالسيف »
. وتتجلّى آثار تلك السكرات الملهثة والغمرات الكارثة في احتباس لسان المحتضر ، وشخوص بصره ، وترشّح جبينه ، وتقلّص شفتيه ، وارتفاع أضلاعه ، وعلو نَفَسه ، واصفرار لونه ، وموت أعضائه بالتدريج حيث تبرد قدماه ، ثم فخذاه ، وهكذا سكرة بعد سكرة ، وكربة بعد كربة ، حتى تبلغ الحلقوم ، فينقطع نظره عن الدنيا انقطاعاً لا رجعة فيه ( فَلَوْلَا إِذَا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ، هذا مع ما يعاني المحتضر في أول
احتضاره من حالات مدهشة .
__________________________
يقول أمير المؤمنين عليهالسلام في وصف تلك اللحظات : « اجتمعت عليهم سكرة الموت ، وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيّرت لها ألوانهم ، ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنه لبين أهله ، ينظر ببصره ، ويسمع باُذنه ، على صحّةٍ من عقله ، وبقاءٍ من لُبّه ، يفكّر فيم أفنى عمره ، فيم أذهب دهره . . . فهو يعضّ يده ندامةً على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره . . . فلم يزل الموت يبالغ في جسده ، حتى خالط لسانه وسمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولا يسمع بسمعه ، يردّد طرفه بالنظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ، ولا يسمع رجع كلامهم ، ثم ازداد الموت التياطاً به ، فقُبِض بصره كما قُبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده ، فصار جيفةً بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من قُربه ، لا يُسعِدُ باكياً ، ولا يُجيب داعياً ، ثمّ حملوه إلى مخطّ في الأرض ، فأسلموه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته »
.
وممّا يهوّن تلك
السكرات بعض الاعمال الصالحة مثل صلة الأرحام وبرّ الوالدين ، لما ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : «
من أحبّ أن يخفّف الله عزَّ وجلَّ عنه سكرات الموت ، فليكن لقرابته وصولاً ، وبوالديه باراً . . »
.
٣
ـ انتزاع الروح : ورد في الحديث أن انتزاع الروح يتفاوت
من حيث الشدة والرفق بحسب سلوك المرء وعمله ، فالمؤمنون الذين ترسّخ الإيمان
__________________________
في
صدورهم ، وكفّوا جوارحهم عن السوء ، واستبشروا بلقاء ربّهم ، تقبض أرواحهم ملائكة الرحمة بكلّ تأنٍ ويُسر ، والكافرون الذين خدعتهم الدنيا بغرورها ، فغرقوا في خضمّ الفجور والإعراض عن لقاء الله سبحانه ، فتنتزع ملائكة العذاب أرواحهم بشدّة .
قال الإمام أبو جعفر
الباقر عليهالسلام : « إنّ آية المؤمن إذا
حضره الموت أن يبيضّ وجهه أشدّ من بياض لونه ، ويرشح جبينه ، ويسيل من عينيه كهيئة الدموع ، فيكون ذلك آية خروج روحه ، وإن الكافر تخرج روحه سلّاً من شدقه كزبد البعير . . . »
.
ويبدو من الأخبار أنّ
ذلك ليس قاعدة مطردة ، فليس كل ما كان من شدة النزع فهو عقوبة ، ولا كل ما كان من سهولة ورفق فهو ثواب ومكرمة ، إذ قد تكون الشدّة على المؤمن تمحيصاً لذنوبه ، وقد يكون الرفق بالكافر استيفاءً لأجر حسناته ، وقد سئل الإمام الصادق عليهالسلام : ما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع ، فينطفئ وهو يتحدث ويضحك ويتكلم ، وفي المؤمنين من يكون أيضاً كذلك ، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد ؟ فقال عليهالسلام : « ما كان من راحةٍ
للمؤمن هناك فهو عاجل ثوابه ، وما كان من شدّة فهو تمحيصه من ذنوبه ، ليرد الآخرة نقياً نظيفاً ، مستحقاً لثواب الأبد ، لا مانع له دونه ، وما كان من سهولة هناك على الكافر فليوفي أجر حسناته في الدنيا ، ليرد الآخرة وليس له إلّا ما يوجب
__________________________
عليه العذاب ، وما كان من شدّةٍ على الكافر هناك فهو ابتداء
عذاب الله له بعد نفاد حسناته ، ذلك بأنّ الله عدلٌ لا يجور » .
٤
ـ الدخول في النشأة الآخرة
: حينما يتناول
المسجّىٰ كأس الموت غصّةً بعد غصّة ، وتستسلم الروح للخروج ، ينكشف له بالموت ما لم يكن مكشوفاً في الحياة ، كما ينكشف للمتيقظ ما لم يكن مكشوفاً في حال النوم ، و «
الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا » فيرون ما لم يره الحاضرون ، قال تعالى : ( لَّقَدْ كُنتَ فِي
غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، ومن جملة الأمور التي يعاينها
الإنسان عند الموت على ما ورد في الأخبار ما يلي :
أ
ـ منزلته من الجنة أو النار
: قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، ويقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة »
.
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام في كتابه لمحمد بن أبي بكر لما ولاه مصر : «
ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم أي المنزلتين يصل ؛ إلى الجنة ، أم إلى النار ، أعدوٌ هو لله أم وليّ ، فإن كان ولياً لله فُتِحت له أبواب الجنة ، وشرعت له طرقها ، ورأى ما أعدّ الله له فيها ، ففرغ من كلّ
__________________________
شغل ، ووضع عنه كلّ ثقل ، وإن كان عدوّاً لله فُتِحت له أبواب
النار ، وشرعت له طرقها ، ونظر إلى ما أعدّ الله له فيها ، فاستقبل كل مكروه ، وترك كلّ سرور ، كلّ هذا يكون عند الموت ، وعنده يكون اليقين » .
ب
ـ تجسّد المال والولد والعمل
: عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : « إنّ العبد إذا كان في آخر يومٍ من الدنيا ، وأول يومٍ من الآخرة ، مُثّل له ماله وولده وعمله ، فيلتفت إلى ماله ويقول : والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً ، فما لي عندك ؟ فيقول : خُذ منّي كفنك . قال : فيلتفت إلى ولده ، فيقول : والله إنّي كنت لكم محبّاً ، وإنّي كنت عليكم محامياً ، فماذا لي عندكم ؟ فيقولون : نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها . فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إنك كنت عليّ لثقيلاً ، وإنّي كنت فيك لزاهداً ، فماذا عندك ؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك حتى اُعرض أنا وأنت على ربك » .
ج
ـ معاينة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
والأئمة عليهمالسلام
:
قال الشيخ المفيد رحمهالله : هذا باب قد أجمع عليه أهل الإمامة ، وتواتر الخبر به عن الصادقين من الأئمة عليهالسلام وجاء عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال للحارث الهمداني رحمهالله :
يا حارِ همدان من
يمُت يرني
|
|
من مؤمنٍ أو منافقٍ
قبلا
|
يعرفني طرفه وأعرفه
|
|
بعينه واسمه وما
فعلا
|
__________________________
في أبياتٍ مشهورةٍ .
وأورد أبن أبي الحديد
ستة أبيات منها عند قول أمير المؤمنين عليهالسلام : «
فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم ، لجزعتم ووهلتم ، وسمعتم وأطعتم ، ولكن محجوبٌ عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يُطرَح الحجاب » .
قال ابن أبي الحديد :
ويمكن أن يعني به ما كان عليهالسلام يقوله عن نفسه إنه لا يموت ميت حتى يشاهده عليهالسلام حاضراً عنده .
ثم استدلّ على صحّة
ذلك بقوله : وليس هذا بمنكر ، إن صحّ أنه عليهالسلام قاله عن نفسه ، ففي الكتاب العزيز ما يدلّ على أن أهل الكتاب لا يموت منهم ميت حتى يصدّق بعيسى بن مريم عليهالسلام ، وذلك قوله : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) قال كثير من المفسرين : معنى ذلك أنّ كلّ ميت من اليهود وغيرهم من أهل الكتب السالفة ، إذا احتُضِر رأى المسيح عنده ، فيصدّق به من لم يكن في أوقات التكليف مصدّقاً به .
أمّا كيفية الرؤية ،
فلا يلزمنا معرفتها والتحقيق فيها ، بل يكفي فيها وفي أمثالها من اُمور الغيب ، التصديق بمجملها ، والإيمان بعمومها ، لورودها في النصوص الصحيحة الصادرة عنهم عليهمالسلام .
__________________________
المبحث الثاني : البرزخ وعذابه
معنى
البرزخ : البَرْزَخ في اللغة : الحاجز بين شيئين
، وهو العالم المتوسط بين الموت والقيامة ، يُنعّم فيه الميت أو يعذّب حتّى تقوم الساعة ، قال تعالى : (
وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ )
، والآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية وحياتهم بعد البعث .
وقال الإمام الصادق عليهالسلام في تفسيرها : « البرزخ : القبر ،
وفيه الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة » .
أهوال
البرزخ : عرفنا أن الحياة في عالم الآخرة تبدأ
من الموت ، فبالموت يولد الانسان في عالم الآخرة ، وبعد غمرات الموت يواجه أهوال القبر ، وهي كما يلي :
١
ـ وحشة القبر وظلمته
: القبر منزل موحش من
منازل الطريق إلى المعاد ، حيث يودع الميت في حفرةٍ مظلمة ضيقة من غير أنيس إلّا ملائكة الرحمة أو العذاب ، ومن غير قرين إلّا العمل .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام في كتابه إلى أهل مصر : « يا عباد الله ، ما
بعد الموت لمن لا يُغْفَر له أشدّ من الموت القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته
__________________________
وغربته ، إنّ القبر يقول كلّ يومٍ : أنا بيت الغربة ، أنا بيت
التراب ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود والهوامّ . . . » .
وهناك يستبدل الإنسان
بظهر الأرض بطناً ، وبالأهل غربةً ، وبالنور ظلمةً ، وبسعة العيش ورفاهيته ضيق القبر ووحشته ، فينقطع الأثر ، ويُمحى الذكر ، وتتغير الصور ، وتبلى الأجساد ، وتنقطع الأوصال .
يقول أمير المؤمنين عليهالسلام : « فكم أكلت الأرض من عزيز جسدٍ ، وأنيق لونٍ ، كان في الدنيا غذيَّ تَرَفٍ ، وربيبَ شرفٍ ، يتعلّل بالسرور في ساعة حزنه ، ويفزع الى السلوة إن مصيبةٌ نزلت به ، ضنّاً بغضارة عيشه ، وشحاحةً بلهوه ولعبه . . »
.
٢
ـ ضغطة القبر أو ضمّته
: ورد في الأخبار أنّ
الميت يتعرّض إلى ضغطة القبر ، أو ضمّة الأرض ، إلى الحدّ الذي تُفري لحمه ، وتطحن دماغه ، وتذيب دهونه ، وتخلط أضلاعه ، وتكون بسبب النميمة وسوء الخلق مع الأهل ، وكثرة الكلام ، والتهاون في أمر الطهارة ، وقلّما يسلم منها أحد ، إلّا من استوفى شرط الإيمان ، وبلغ درجات الكمال .
قال أبو بصير : قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : أيفلت من ضغطة القبر أحد ؟ فقال : «
نعوذ بالله منها ، ما أقلّ من يفلت من ضغطة القبر . . ! » .
وتعرّض لضغطة القبر
الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضياللهعنه ( ت ٥ هـ ) حيث جاء في الروايات أنه لمّا حُمِل على سريره شيعته الملائكة ، وكان
__________________________
رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تبعه بلا حذاء ولا رداء ، حتى لحّده
وسوّى اللبن عليه ، فقالت أمّ سعد : يا سعد ، هنيئاً لك الجنة . فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
يا أُمّ سعد مَه ، لا تجزمي على ربك ، فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة » وحينما سُئل عن ذلك قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنه كان في خُلقه
مع أهله سوء »
.
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم »
.
٣
ـ سؤال منكر ونكير
: وفي عالم البرزخ
ينزل الله سبحانه على الميت وهو في قبره ملكين ، وهما منكر ونكير ، فيقعدانه ويسألانه عن ربه الذي كان يعبده ، ودينه الذي كان يدين به ، ونبيه الذي أُرسل إليه ، وكتابه الذي كان يتلوه ، وإمامه الذي كان يتولّاه ، وعمره فيما أفناه ، وماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، فإن أجاب بالحقّ استقبلته الملائكة بالروح والريحان ، وبشرته بالجنة والرضوان وفسحت له في قبره مدّ البصر ، وإن تلجلج لسانه وعيي عن الجواب ، أو أجاب بغير الحقّ ، أو لم يدرِ ما يقول ، استقبلته الملائكة بنُزلٍ من حميم وتصلية جحيم ، وبشّرته بالنار .
وقد تظافرت بذلك
الأخبار الصحيحة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل البيت عليهمالسلام
واتفق عليه المسلمون
، فهو ممّا يجري مجرى الضرورة من الدين .
__________________________
قال الإمام الصادق عليهالسلام : « من أنكر ثلاثة أشياء ، فليس من شيعتنا : المعراج ، والمُساءلة في القبر ، والشفاعة » .
٤
ـ عذاب القبر وثوابه
: وهو العذاب أو
الثواب الحاصل في عالم البرزخ ، وهو واقع لا محالة ، لإمكانه ، ولتواتر السمع بوقوعه بدلالة القرآن الكريم والأخبار الصحيحة عن نبي الهدى صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته المعصومين عليهمالسلام ، ولانعقاد الإجماع عليه ، واتفاق الاُمّة سلفاً وخلفاً على القول به
.
أدلته
القرآنية : الآيات القرآنية التي أشارت إلى عذاب
القبر وثوابه وأرشدت إليهما أو فُسّرت بهما كثيرة ، ذكرنا بعضها في أدلة التجرد ، وفيما يلي نذكر اثنتين منها :
١ ـ قوله تعالى في آل
فرعون : ( وَحَاقَ بِآلِ
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) وهي نصّ في الباب ، لأنّ العطف بالواو
يقتضي المغايرة لما قبله ، فقد ذكر أولاً أنهم يعرضون على النار غدوّاً وعشيّاً ، ثم عطف بعده بذكر ما يأتي يوم تقوم الساعة ، ولهذا عبّر عن الأول بالعرض ، وعن الثاني بالادخال .
__________________________
وروي عن الإمام
الصادق عليهالسلام في تفسيرها أنه قال : «
إن كانوا يعذّبون في النار غدوّاً وعشياً ، ففيما بين ذلك هم من السعداء . لا ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة ، ألم تسمع قوله عزَّ وجلَّ : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) » .
٢ ـ قوله تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ )
قال كثير من المفسّرين : إنّ المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر وشقاء الحياة البرزخية ، بقرينة ذكر الحشر بعدها معطوفاً بالواو الذي يقتضي المغايرة ، ولا يجوز أن يراد به سوء الحال في الدنيا ، لأن كثيراً من الكفار في الدنيا هم أحسن حالاً من المؤمنين ، وفي معيشة طيبة لا ضنك فيها .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « واعلموا أن المعيشة الضنك التي قالها تعالى : ( فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكًا )
هي عذاب القبر »
.
أدلته
من السنة : تكاثرت الروايات الدالة على عذاب القبر
وثوابه من طرق الفريقين ، وتوسعت في بيان تفاصيله ، وقد ذكرنا
بعضها في
__________________________
أدلة
تجرد الروح ، ونقتصر هنا على ذكر ثلاث منها :
١ ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « القبر إما حفرة من حفر النيران ، أو روضة من رياض الجنة »
.
٢ ـ قال أمير
المؤمنين عليهالسلام : « يسلّط على الكافر
في قبره تسعة وتسعين تِنِّيناً ، فينهشن لحمه ، ويكسرن عظمه ، ويتردّدن عليه كذلك إلى يوم يبعث ، لو أنّ تنِّيناً منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعاً أبداً . . . » .
٣ ـ وعن علي بن
الحسين زين العابدين عليهالسلام في قوله تعالى : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ )
قال : « هو القبر ، وإن لهم فيه لمعيشة ضنكاً ، والله إن القبر لروضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران » .
إثارات
: هناك بعض الاثارات
والشبهات حول عذاب القبر وثوابه ، وأغلبها يتعلّق ببيان كيفية العذاب أو الثواب ، والخوض في تفاصيلهما ، وهو أمر لم نكلّف به ، ولا يلزمنا إلّا التصديق به على الجملة ، والاعتقاد بوجوده ، لإمكانه ، وثبوته عن طريق السمع من المعصوم ، وهذا شأن جميع اُمور الغيب ، لأنّها من عالم الملكوت الذي لا تدركه عقولنا ولا تبلغه حواسنا . . وفيما يلي نذكر أهمّ الشبهات المتعلقة بالحياة البرزخية ، ونجيب
__________________________
عنها
على ضوء الآيات والأخبار :
١ ـ إذا كان البدن هو
وسيلة وصول العذاب إلى الروح ، فكيف تعذّب الروح أو تُثاب وقد فارقت البدن ، وتعرّض هو للانحلال والبلى ؟
الجواب :
دلّت الأخبار على أن الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمساءلة ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقه ، أو لعذاب إن كان يستحقه ، وذلك إمّا بإحياء بدنه الدنيوي ، أو بالحاق روحه في بدن مثالي ، وفيما يلي نبين كلا الأمرين مع أدلتهما من الحديث .
أولاً
: إحياء البدن الدنيوي
: أي أن الله تعالى
يعيد الروح إلى بدن الميت في قبره ، كما تدلّ عليه ظواهر كثير من الأخبار ، منها ما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ في حديث ـ قال : «
تعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه »
.
وعن أبي جعفر الباقر عليهالسلام : « فإذا دخل حفرته ، رُدّت الروح في جسده ، وجاءه ملكا القبر فامتحناه » .
وعن أبي عبد الله الصادق
عليهالسلام : « ثم يدخل ملكا القبر
، وهما قعيدا القبر منكر ونكير ، فيقعدانه ويلقيان فيه الروح إلى حقويه » .
ومن هنا قيل : إن
الحياة في القبر حياة برزخية ناقصة ، ليس معها من آثار الحياة سوى الاحساس بالألم واللذة ، أي إن تعلّق الروح بالبدن تعلّقٌ ضعيف ، لأنّ الله سبحانه يعيد إلى الميت في القبر نوع حياة قدرما يتألم
__________________________
ويلتذّ
.
ثانياً
: التعلّق بالجسد المثالي
: ورد في الأخبار أن
الله سبحانه يسكن الروح جسداً مثالياً لطيفاً في عالم البرزخ ، يشبه جسد الدنيا ، للمساءلة والثواب والعقاب ، فتتنعّم به أو تتألم إلى أن تقوم الساعة ، فتعود عند ذلك إلى بدنها كما كانت عليه .
عن أبي بصير ، قال :
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن أرواح المؤمنين . فقال : «
في الجنة على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت فلان » .
وعن يونس بن ظبيان ،
قال : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام جالساً فقال : «
ما يقول الناس في أرواح المؤمنين ؟ » قلت : يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش . فقال أبو عبد الله عليهالسلام : « سبحان الله ! المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير . يا يونس ، المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا »
.
وفي حديث آخر عنه عليهالسلام : « المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدانٍ كأبدانهم » ، وهناك أحاديث اُخرى
__________________________
تدلّ
على ما ذكرناه .
وعلى ضوء ما تقدّم ،
فإنّ المراد بحياة القبر في أكثر الأخبار هو النشأة الثانية للإنسان في عالم البرزخ ، والذي تتعلّق فيه الروح ببدنها المثالي ، وبذلك يستقيم فهم جميع ما ورد في آيات وأخبار دالة على تجرّد الروح وعلى ثواب القبر وعذابه ، واتساعه وضيقه وحركة الروح وطيرانها ، وزيارة الأموات لأهلهم وغيرها .
العلم
يؤيد وجود الجسد المثالي
: وتقرر تجارب علماء
استحضار الأرواح حقيقة الأجسام المثالية ، حيث يقول أشياع هذا المذهب : إن الموت في حدّ ذاته ليس إلّا انتقالاً من حال مادي جسدي إلى حال مادي آخر ولكن أرقّ منه وألطف كثيراً ، وأنهم يعتقدون أن للروح جسماً مادياً شفافاً لطيفاً ألطف من هذه المادة جداً ، ولذلك لا تسري عليه قوانينها
.
هل إن ذلك من التناسخ
الباطل
؟
وقد يتوهّم أن القول
بتعلق الأرواح بعد مفارقة أبدانها بأشباح اُخر هو ضرب من التناسخ الباطل ، وهو غير صحيح ، لأنّ العمدة في نفي التناسخ ضرورة الدين وإجماع المسلمين ، وقد قال بالأبدان المثالية كثير من المسلمين من المتكلمين والمحدثين ، ودلّت عليه أخبار الأئمة الطاهرين عليهمالسلام ، والتناسخية إنما كفروا بانكارهم
المعاد والثواب والعقاب ، وقولهم بقدم النفوس وتردّدها في أجسام هذا العالم ، وإنكارهم النشأة الاُخرى ، وإنكارهم الصانع والأنبياء ، وسقوط التكاليف ، ونحو ذلك من
__________________________
أقوالهم
السخيفة .
٢ ـ والشبهة الثانية
في هذا المقام ، هي كيف يكون عذاب القبر وثوابه وليس ثمّة جنة أو نار ؟
الجواب : دلت الآيات
والأخبار التي ذكرناها في أدلة عذاب القبر على وجود الجنة والنار وكونهما مخلوقتين ، ويدلّ على ذلك أيضاً ما روي عن الإمام الصادق عليهالسلام وقد سئل عن أرواح المؤمنين ، فقال «
في حجرات في الجنة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها » .
وقال عليهالسلام : « إن أرواح الكفار في نار جهنم ، يُعرَضون عليها » .
وقال الشيخ الصدوق رحمهالله : اعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان ، وأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد دخل الجنة ، ورأى النار حين عُرج به
، وأنه لا يخرج أحد من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة أو النار
.
وقال النصير الطوسي :
والسمع دلّ على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن ، والمعارضات متأولة . وبيّن العلامة في شرحه موضع الخلاف في ذلك حيث قال : اختلف الناس في أنّ الجنّة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم لا ، فذهب جماعة إلى الأول ، وهو قول أبي علي ، وذهب أبو هاشم والقاضي إلى أنهما غير مخلوقتين .
احتجّ الأولون بقوله
تعالى : ( أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ ) و (
أُعِدَّتْ
__________________________
لِلْكَافِرِينَ ) و (
يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ )
و (
عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ ) وجنة المأوى هي دار الثواب ، فدلّ على
أنها مخلوقة الآن في السماء .
واحتج أبو هاشم بقوله
تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) فلو كانت الجنة مخلوقة الآن ، لوجب هلاكها ، والتالي باطل ، لقوله تعالى : ( أُكُلُهَا دَائِمٌ )
.
وأجاب العلّامة عن
ذلك بقوله : إن دوام الأُكل إشارة إلى دوام المأكول بالنوع ، بمعنى دوام خلق أمثاله ، وأُكل الجنة يفنى بالأكل ، إلّا أنه تعالى يخلق مثله ، والهلاك هو الخروج عن الانتفاع ، ولا ريب أنّ مع فناء المكلفين تخرج الجنة عن حدّ الانتفاع ، فتبقى هالكة بهذا المعنى
.
المبحث الثالث : أشراط الساعة
معناها اللغوي : الأشراط في اللغة : جمع شَرَط ، ويراد به العلامة ، وأشراط الساعة : أعلامها ، أو علاماتها الدالّة عليها ، وعن ابن عباس رضياللهعنه : معالمها ، قال تعالى : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم
بَغْتَةً
__________________________
فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا
جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) ، وهذه الآية تدلّ على اثنتين من خصال القيامة :
الاُولى : أنّها تأتي بَغْتةً ، أي فَجأةً ، كما في قوله تعالى : ( لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) وهو يدلّ على أنّ وقت حدوثها مختص به
تعالى ( قُلْ إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ )
.
الثانية : إذا بدأت مقدمات القيامة وظهرت أشراطها لا تنفع عندها الذكرى ، كما قال تعالى : (
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا )
فلا تُقبل عند حدوثها التوبة ، ولا ينفع الإيمان والطاعة لزوال التكليف .
أنواعها
: على ضوء ما ورد في
القرآن الكريم والسنة الشريفة ، يمكن تقسيم أشراط الساعة إلى قسمين :
الأول :
ما يخصّ سلوك الناس في آخر الزمان ، وما يتّصل بذلك من فتن وحروب ، وقد أسهبت الأحاديث في وصف ذلك الزمان سواء على صعيد وصف تعامل الناس ، أم الأحداث التي تُلمّ بهم .
منها ما رواه ابن
عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «
من أشراط الساعة : إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل إلى الأهواء ، وتعظيم
__________________________
أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يُذاب قلب المؤمن
في جوفه ، كما يُذاب الملح بالماء ، ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره » .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء » قيل : يا رسول الله وما هي ؟ قال : « إذا كانت المغانم
دولاً ، والأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، وأطاع الرجل زوجته وعقّ اُمّه ، وبرّ صديقه ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرمه القوم مخافة شرّه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، ولبسوا الحرير ، واتخذوا القينات ، وضربوا بالمعازف ، ولعن آخر هذه الاُمة أولها ، فليرتقب عند ذلك الريح الحمراء أو الخسف أو المسخ » .
الثاني :
ما يكون على شكل حوادث في الأرض والكواكب المحيطة بها ، وهي كما يلي :
١ ـ إخراج الدابة ،
قال تعالى : ( وَإِذَا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا
يُوقِنُونَ ) .
٢ ـ ظهور الإمام
المهدي عليهالسلام ، وفي قطعية ظهوره قبل قيام الساعة أحاديث يصعب حصرها ، من أشهرها قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا تقوم الساعة حتى
يخرج رجل من عترتي ( أو قال من أهل بيتي ) يملؤها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وعدواناً »
.
__________________________
٣ ـ نزول عيسى بن
مريم عليهالسلام وفُسّر به قوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَٰذَا صِرَاطٌ
مُّسْتَقِيمٌ ) فقد صرح الكثير من المفسّرين أن الآية بخصوص نزول عيسى بن مريم عليهالسلام في آخر الزمان .
٤ ـ خروج يأجوج
ومأجوج ، قال تعالى : (
حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا )
.
٥ ـ الدخان المبين ،
قال تعالى : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )
وجاء في الآثار أنه يملأ ما بين المشرق والمغرب ، ويمكث أربعين يوماً وليلة .
٦ ـ وهناك علامات
اُخرى كثيرة ورد ذكرها في الحديث ، منها : نارٌ تخرج من قعر عدن ، تسوق الناس إلى المحشر ، ولا تدع خلفها أحداً ،
__________________________
تنزل
معهم إذا نزلوا ، وتقيل معهم إذا قالوا ، وطلوع الشمس من مغربها ، وثلاثة خسوف في الأرض : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وظهور الدجال ، وأن يفشو الفالج وموت الفجأة
. ويطلع الكوكب المذنب ، ويكون المطر في غير أوانه
، وتظهر الريح السوداء .
المبحث الرابع : مشاهد يوم القيامة
القيامة : يوم البعث
، يقوم فيه الخلق بين يدي الحيّ القيوم ، قيل : أصله مصدر ، يقال : قام الخلق من قبورهم قيامةً ، وقيل : هو تعريب قِيَمْثا ، وهو بالسريانية بهذا المعنى .
وسئل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن سبب تسمية القيامة ، فقال : « لأنّ فيها قيام الخلق للحساب »
.
واُشير إلى يوم
القيامة بأسماء عديدة وردت في القرآن الكريم ، كالآزفة ، والحاقة ، والقارعة ، والطامة الكبرى ، والواقعة ، والصّاخّة ، والساعة ، ويوم الجمع ، ويوم التغابن ، واليوم الموعود ، واليوم المشهود ،
__________________________
ويوم
التلاقي ، ويوم التنادي ، ويوم الحساب ، ويوم الفصل ، ويوم الحسرة ، ويوم الوعيد .
والقيامة من المنازل
الشديدة والمواقف العصيبة على ابن آدم ، لما فيها من شدّة الأهوال ، ورهبة الفزع ، وطول الوقوف ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى
النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )
.
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « كلّ شيءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكلّ شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، فيكفيكم من العيان السماع ، ومن الغيب الخبر »
.
ومواقف القيامة كثيرة
، وساعاتها طويلة ، ومقاماتها مختلفة ، قال الإمام الصادق عليهالسلام : « حاسبوا أنفسكم قبل
أن تُحاسَبوا عليها ، فانّ للقيامة خمسين موقفاً ، كلّ موقف مقداره ألف سنة » ثمّ تلا قوله تعالى : (
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ ) .
وفيما يلي نذكر تلك
المشاهد من نفخة الصور إلى انتظار النداء بفصل القضاء ، إما بالإسعاد في الجنة ، أو الإشقاء في النار :
١
ـ نفخة الصعق ، أو صيحة الموت
: قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي
__________________________
الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ) وقال سبحانه : ( مَا يَنظُرُونَ
إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ )
.
ورد في التفسير أن
الصور : هو قرن ينفخ فيه ، وقيل : هو جمع صورة ، فإنّ الله سبحانه يصوّر الخلق في القبور كما صورهم في أرحام الاُمهات ، ثم ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام اُمّهاتهم
.
لكن ظاهر الآيات
وصريح الأحاديث يدلان على المعنى الأول ، فقد ورد في الأخبار المتضافرة أن الله تعالى خلق إسرافيل وخلق معه صوراً له طرفان : أحدهما في المشرق ، والآخر في المغرب ، وهو قابض عليه ، منتظرٌ لأمر الله تعالى ، فإذا أمره نفخ فيه .
ومن نتائج تلك النفخة
أن لا يبقى ذو روح في السماوات والأرض إلّا صعق ومات ، ولا يبقى للحياة عين ولا أثر إلّا ما شاء الله سبحانه ( لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ ) .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « وإنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقتٍ ولا مكانٍ ، ولا حينٍ ولا زمانٍ ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون
__________________________
والساعات ، فلا شيء إلّا الله الواحد القهّار الذي إليه مصير
جميع الاُمور »
.
٢
ـ تغيير النظام الكوني
: الحياة في الآخرة هي
نشأة ثانية تقوم على نظام جديد يكتسب صفة الخلود ، ويشتمل على محض السعادة أو الشقاء ، ويتمّ ذلك بعد تغيير النظام السائد في النشأة الدنيا القائمة على الزوال والفناء ، قال تعالى : (
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) .
وقد وصف الله تعالى
ذلك التغيير الحاصل في السماوات والأرض في آيات كثيرة ، يدلّ مضمونها على تسيير الجبال ونسفها حتى تكون قاعاً صفصفاً ، أو كثيباً مهيلاً ، أو كالعهن المنفوش ، وتفجير البحار وتسجيرها ، وتكون الأرض بارزةً كما دحاها أول مرة ، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، ثم تتزلزل وترتجف وتندكّ ، وتتكور الشمس ، ويخسف القمر ، وتتهافت النجوم وتنكدر ويذهب نورها ، وتحمرّ السماء ، فتكون وردةً كالدهان ، وتنشقّ وتتصدّع ، وتُطوى كطيّ السجل للكتب .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام في وصف ذلك اليوم : « يوم عبوس قمطرير ، ويوم كان شرّه مستطيراً ، إنّ فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشقّ السماء فهي يومئذ واهية ، وتتغيّر فكأنّها وردة كالدهان ، وتكون الجبال كثيباً مهيلاً بعدما كانت صُمّاً صلاباً . . . » .
__________________________
٣
ـ نفخة الإحياء ، أو صيحة البعث
: وهي النفخة التي
تحيا بها جميع الكائنات في النشأة الآخرة ، قال تعالى : (
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا
هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ
لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) .
وقال سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « لا تنشقّ الأرض عن أحدٍ يوم القيامة إلّا وملكان آخذان بضبعيه ، يقولان : أجب ربّ العزّة » .
فيجيبون الداعي بعد
أن تشقّق الأرض عنهم ، سراعاً إلى عرصة الموقف ، خشّعاً أبصارهم ، ترهقهم ذلّة ، كأنّهم جراد منتشر ، أو فراش مبثوث ، قال تعالى : (
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَٰلِكَ
الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) .
٤
ـ الحشر : الحشر : الجمع ، يقال : حشر القوم :
جمعهم وساقهم ، ويراد بالحشر هنا : اجتماع الخلق يوم القيامة حيث يحشرون حشراً عاماً لا يستثني أحداً ، قال تعالى : (
وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ
__________________________
أَحَدًا ) ويشمل الوحوش والدوابّ والطيور ، لقوله
تعالى : ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) وقوله : (
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن
شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) .
والحشر من المنازل
التي تذهل العقول وتروّع القلوب حتى تبلغ الحناجر ، حيث يُساق الخَلْق إلى أرض المحشر في يوم الفزع الأكبر ، كما خلقهم ربهم أول مرّة ، حفاةً عُراةً غُرلاً ، قد ألجمهم العرق من ضيق المكان .
يقول أمير المؤمنين عليهالسلام : « وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ، خضوعاً ، قياماً ، قد ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً ولنفسه متّسعاً »
.
وعن الإمام الصادق عليهالسلام : « مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين ، مثل السهم في القرب ، ليس له من الأرض إلّا موضع قدمه ، كالسهم في الكنانة ، لا يقدر أن يزول هاهنا ولا هاهنا » .
ويعرض الناس على ربهم
صفاً لفصل القضاء ، لا تفاضل بينهم في نسب أو مال أو جاه أو مقام ، بارزين لا تخفى منهم خافية ( يَوْمَئِذٍ
__________________________
تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ )
فيتبدّل الغيب شهادةً ، والسرّ علناً ( يَوْمَ تُبْلَى
السَّرَائِرُ ) وتظهر كلّ فعلةٍ أو عقيدة خافية ظهوراً
بارزاً في أرض الموقف ( يَوْمَ هُم
بَارِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ )
.
ويتفاوت حشر الناس
بحسب أعمالهم الظاهرة ، فيحشر المتقون ركباناً ( يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا )
وعلى وجوههم مظاهر الفرح والسرور ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ )
بما اُعدّ لها من الثواب والفوز العظيم ، ولهم نور وبهاء يميزهم عن أهل الموقف ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِم ) .
ويحشر المجرمون من
الكافرين والمشركين مقرّنين مع أوليائهم من الشياطين جثياً (
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ
جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) ومع ما كانوا يعبدون من دون الله
سبحانه ( وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) ويتميزون عن أهل الموقف بوجوههم
المسودّة ومظاهرهم الكئيبة (
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) .
__________________________
ويسحبون على وجوههم
إلى النار وقد خبت حواسّهم (
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا )
.
٥
ـ المحكمة الإلهية
: قال تعالى : ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ )
تلك هي المحكمة الإلهية التي لا تشبه محاكم الدنيا في شيء ، لأنّ قاضيها يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وشهودها الأنبياء والمرسلون ، وأعضاء المتهم ، وأعماله التي تتجسّد أمامه ، وصحائف الأعمال التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصتها ، فأنّى للمتّهم الإنكار والأعمال محضرة ، والصحف منشورة ، والشهود قائمة ، والجوارح ناطقة ؟ !
وفيما يلي نذكر بعض
ما يتعلق بفصل القضاء في تلك المحكمة من السؤال والحساب والشهود ، وهي كما يلي :
أولاً
: السؤال : وهو واقع على جميع الخلق لقوله تعالى :
( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
وقوله تعالى : (
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ )
يعني عن الدين ، وأمّا الذنب فلا يُسأل عنه إلّا من يُحاسب ، وكل محاسب فهو معذّب ولو بطول الوقوف .
__________________________
وتُسأل الأعضاء
والجوارح ، لما روي عن الإمام الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا )
أنه قال : «
يُسأل السمع عما سمع ، والبصر عما يطرف ، والفؤاد عما يعقد عليه » .
والسؤال يستغرق كلّ
وجود الانسان وكيانه واعتقاده ، لما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «
لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله مما اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت » .
والمراد بأهل البيت
الذين يُسأل الناس عن محبّتهم ، هم المنصوص على عصمتهم في قوله تعالى : (
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) والذين باهَلَ بهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نصارى نجران استناداً إلى قوله تعالى : (
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ
اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) وهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام والتسعة المعصومون من ذريته دون غيرهم من الخلق .
وإنّما يُسأل عن
محبّة أهل البيت عليهمالسلام لأنّ الله سبحانه فرض مودتهم
__________________________
على
الخلق في قوله تعالى : (
قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) كمبدأ عقائدي يجسّد عمق الانتماء
للإسلام وأصالة الارتباط بالعقيدة ، وأكّد ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في أحاديث كثيرة منها قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبّوني لحبّ الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبّي »
.
والمسؤول عنه ليس
مجرد الحبّ والمودّة ، بل اعتقاد الموالاة لهم عليهمالسلام
باعتبارهم أوصياء
معصومين وقادة رساليين للاُمّة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد جاء عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم في قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ )
أنّه قال : «
يعني عن ولاية علي بن أبي طالب » .
ثانياً
: الحساب : قال تعالى : ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
__________________________
حِسَابَهُم ) الحساب : هو المقابلة بين الأعمال
والجزاء عليها ، والمواقفة للعبد على ما فرط منه ، والتوبيخ له على سيئاته ، والحمد له على حسناته ، ومعاملته في ذلك باستحقاقه .
والله تعالى يخاطب
عباده من الأولين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبةً واحدةً ، يسمع منها كلّ واحد قضيته دون غيرها ، ويظنّ أنه المخاطب دون غيره ، لا تشغله تعالى مخاطبة عن مخاطبة ، ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا
.
وفي قوله تعالى : ( وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )
ورد في الخبر أنه تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر ، وروي بقدر حلب شاةٍ
.
وعن الإمام الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : (
فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال : « لو ولي الحساب غير
الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل ان يفرغوا ، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة » .
وسئل أمير المؤمنين عليهالسلام : كيف يحاسب اللهُ الخلقَ على كثرتهم ؟ فقال : «
كما يرزقهم على كثرتهم »
قيل : فكيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ قال : « كما
__________________________
يرزقهم ولا يرونه » .
وعن الإمام الباقر عليهالسلام : « إن أوّل ما يُحاسب به العبد الصلاة ، فان قُبلِت قُبِل ما سواها »
.
ولا ينجو من أهوال
يوم الحساب إلّا من حاسب نفسه في الدنيا ، ووزن أعماله وأقواله بميزان الشريعة ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « عباد الله ، زنوا انفسكم من قبل أن تُوزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تُحاسبوا ، وتنفّسوا قبل ضيق الخناق ، وانقادوا قبل عنف السياق » .
ثالثاً
: الشهود وتطاير الكتب
: وهي من أهوال
القيامة المروّعة ، لانّ العبد يجد نفسه أمام عدة شهود لا تُدحض حجّتهم ، ولا يكذّب قولهم ، فلا محيص له إلّا الإقرار بالذنب والاعتراف بالخطيئة ، ومن الشهود :
أ
ـ الله سبحانه : فهو تعالى محيط بكلّ شيءٍ علماً ، وعلى
كلّ شيء شهيد ، يشهد على العبد في خلواته ، ويعلم ما يكنّه ضميره ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، قال تعالى : (
وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا )
وقال سبحانه : (
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
.
__________________________
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : « اتقوا معاصي الله في الخلوات ، فإنّ الشاهد هو الحاكم »
.
ب
ـ الأنبياء والأوصياء
: دلّ الكتاب الكريم
على أنّ الله سبحانه يستشهد كلّ نبي على اُمّته يوم القيامة ، ويستشهد نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم على اُمّته ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا
جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ
هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا ) .
وفي قوله تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم
مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ )
بيّن سبحانه أيضاً أنه يبعث في يوم القيامة من كلّ اُمّة شهيداً ، وهم الأنبياء والعدول من كلّ عصر ، يشهدون على الناس بأعمالهم .
وفي هذه الآية دلالة
على أن كل عصر لا يجوز أن يخلو ممّن يكون قوله حجّة على أهل عصره ، وهو عدل عند الله تعالى ، وهو قول الجبّائي وأكثر أهل العدل ، وهذا يوافق ما ذهب إليه الإمامية ، وإن خالفوهم في أن ذلك العدل والحجّة من هو .
ومن المعلوم أن
الاُمّة كلّها لا تتصف بالخيار والعدل ، وكونهم شهداء على الناس ، فإنّ فيهم الكثير ممن لا يخفى حاله ، فهذه الصفات إنما تكون
__________________________
باعتبار
البعض ، والموجّه إليه الخطاب هو ذلك البعض .
وقد روى العياشي عن
الإمام الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) أنه قال : «
فإنّ ظننت أنّ الله تعالى عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاعٍ من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟ كلا لم يعنِ الله مثل هذا من خلقه ، يعني الاُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم عليهالسلام
( كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )
وهم الاُمّة الوسطى
، وهم خير اُمّة اُخرجت للناس » .
وعن الإمام الباقر عليهالسلام قال : « نحن الاُمّة الوسطى ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحججه في أرضه »
.
ج
ـ الملائكة : جعل الله تعالى على الانسان حفظةً من
الملائكة ، يصاحبونه ويسجّلون كلّ أعماله ، قال تعالى : (
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )
وحينما يرد العبد صعيد الحساب تشهد عليه الملائكة بما عمل في الدنيا من خير أو شرّ ،
__________________________
قال
تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « سائق يسوقها إلى محشرها ، وشهيد يشهد عليها بعملها »
.
د
ـ الأعضاء والجوارح
: وفي بعض مواقف
القيامة يختم الله تبارك وتعالى على أفواههم ، وتشهد أيديهم وجميع جوارحهم بما كانوا يعملون ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
والمراد بالشهادة
شهادة الأعضاء على السيئات والمعاصي بحسب ما يناسبها ، فما كان منها من قبيل الأقوال كالقذف والكذب والغيبة ونحوها ، شهدت عليه الألسنة ، وما كان منها من قبيل الأفعال كالسرقة والمشي للنميمة والسعاية وغيرها ، شهدت عليه بقية الأعضاء
.
هـ
ـ صحائف الأعمال : ذكرنا أنّ أعمال الانسان وأقواله تضبط
في صحف عند الحفظة من الملائكة ، قال تعالى : (
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )
.
وفي يوم القيامة
تُنشَر صحف الأعمال ، فيخرج الله سبحانه لكلّ اُمّةٍ كتاباً ينطق بجميع أقوالهم وحقائق أفعالهم ، قال تعالى : ( وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ
__________________________
جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ
كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )
.
ويخرج لكلّ إنسانٍ
كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ويجعل الله سبحانه الإنسان حسيب نفسه والحاكم عليها ، قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيبًا ) .
ويشفق المجرمون من الكافرين
والمشركين مما في تلك الكتب من المتابعة والرصد الدقيق (
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) .
و
ـ ظهور الأعمال أو تجسّمها
: قال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) . وقال تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ
أَمَدًا بَعِيدًا ) .
فالأعمال شهود على
الإنسان في النشأة الآخرة ، لكن اختلف المفسرون في بيان طريقة إحضارها ، فبعضهم تأوّل ذلك باحضار جزاء الأعمال من الثواب والعقاب ، أو بإحضار صحائف الأعمال وما فيها من الحسنات والسيئات ، بناءً على أن الأعمال أعراض ، والأعراض
__________________________
تنعدم
، أو بظهورها عياناً ، لأنّ الإحضار يدلّ على أن الأعمال موجودة
ومحفوظة عن البطلان ، لكنها غائبة عنا في هذا العالم ، ويحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ، ومن هنا قيل : بأن كتاب الأعمال يتضمن نفس الأعمال بحقائقها .
وعليه فإن إظهار
الأعمال بأعيانها يدلّ على أنّها تُحفَظ في العالم الخارجي بطريقة غيبية هي أقرب إلى التصوير فضلاً عن الحفظ والتدوين ، وتعرض على العبد يوم القيامة فيراها عياناً ، ولا حجة كالعيان .
٦
ـ الميزان : الميزان في اللغة : آلة توزن بها
الأشياء ، أو هو المعيار الذي يُعرَف به قدر الشيء ، ومن مشاهد القيامة نصب الموازين الحق لتمييز أهل الطاعة والإيمان عن أهل الجحود والعصيان ، قال تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ )
.
ولا يقام للكافرين
والمشركين وزن يوم القيامة ، بل تبطل أعمالهم ، ويحشرون إلى جهنّم زمراً ، قال تعالى : (
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَزْنًا ) .
وعن الإمام علي بن
الحسين زين العابدين عليهالسلام ـ في حديث ـ قال : «
اعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تُنصَب لهم الموازين ، ولا تُنشَر لهم الدواوين ، وإنّما يحشرون إلى جهنّم زمراً ، وإنّما نصب الموازين ونشر
__________________________
الدواوين لأهل الإسلام ، فاتقوا الله عباد الله » .
وأصل الميزان لا خلاف
فيه بين طوائف الاُمة المختلفة ، لدلالة الكتاب عليه ، وإخبار المعصوم عنه ، لكن وقع الاختلاف في مفهومه ومعناه على أقوال بعضها يستند إلى الروايات وأهمها :
أوّلاً ـ
إن في القيامة موازين كموازين الدنيا ، لكلّ ميزان لسان وكفّتان ، تُوزَن به أعمال العباد من الحسنات والسيئات ، أخذاً بظاهر اللفظ ، واختلفوا في الموزون هل هو الأعمال ، أو صحائف الأعمال ، أو غيرها ، على عدّة أقوال .
ثانياً ـ
الميزان كناية عن العدل في الآخرة ، وأنه لا ظلم فيها على أحدٍ ، ووضع الموازين هو وضع العدل ، وثقلها رجحان الأعمال بكونها حسنات ، وخفّتها مرجوحيتها بكونها سيئات ، أي إن الترجيح بالعدل ، فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فاُولئك هم المفلحون ، ومن لم ترجح أعماله لقلّة الحسنات فاُولئك الذين خسروا أنفسهم
.
ويؤيد هذا المعنى ما
روي عن الإمام الصادق عليهالسلام وقد سأله الزنديق : أوليس توزن الأعمال ؟ فقال عليهالسلام : « لا ، إنّ الأعمال
ليست بأجسام ، وإنّما هي صفة ما عملوا ، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها أو خفّتها ، وإنّ الله لا يخفى عليه شيء » .
__________________________
قال : فما معنى
الميزان ؟ قال : « العدل » قال : فما معناه في كتابه (
فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ؟ قال : « فمن رجح عمله » .
ثالثاً ـ
الميزان : هو الحساب ، وثقل الميزان وخفّته كناية عن قلّة الحساب وكثرته ، لما روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال : «
ومعنى قوله : ( فَمَن ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ )
، (
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ )
فهو قلة الحساب وكثرته ، والناس يومئذٍ على طبقات ومنازل ، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً ، ومنهم الذين يدخلون الجنّة بغير حساب ، لأنهم لم يتلبّسوا من أمر الدنيا بشيء ، وإنّما الحساب هناك على من تلبّس هاهنا ، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ، ويصير إلى عذاب السعير ، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلال ، فاُولئك لا يقيم لهم وزناً ، ولا يعبأ بهم ، لأنهم لم يعبأوا بأمره ونهيه ، فهم في جنهم خالدون ، تلفح وجوههم النار ، وهم فيها كالحون »
.
رابعاً ـ
الموازين : الأنبياء ، والأوصياء ، لما روي عن الإمام الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )
قال : «
الموازين : الأنبياء والأوصياء » هم عليهمالسلام المعايير التي يعرف بها الحق والعدل ، ورجحان الأعمال إنما هو بقدر الإيمان بخطّهم ، واعتقاد محبّتهم وطاعتهم ، والاقتداء بهديهم وآثارهم .
__________________________
هذه هي أهم الأقوال
والأخبار الواردة في معنى الميزان ، ولعلها تمثّل بعض مصاديقه ، ولا يلزمنا الاعتقاد بها على التفصيل ، إنما الواجب هو الإيمان بالميزان على الجملة دون الخوض في التفاصيل والماهيات .
٧ ـ الصراط
: الصِّراط في اللغة :
الطريق ، أو السبيل الواضح ، وهو لغة في ( السِّراط ) بالسين ، والصاد أعلى لمكان المُضارعة
، وإن كانت السين هي الأصل ، والصاد لغة قريش التي جاء بها الكتاب ، وعامة العرب تجعلها سيناً ، قال تعالى : (
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي ثبّتنا على المنهاج الواضح .
والصراط من منازل
المعاد ، ويراد به الجسر الذي يُنصَب على جهنّم ، ويُكلّف جميع الخلق المرور عليه ، ويكون أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، فأهل الجنة يمرون عليه لا يلحقهم خوف ولا غمّ ، والكفار يمرون عليه عقوبةً لهم وزيادة في خوفهم ، فإذا بلغ كلّ واحدٍ إلى مستقره من النار سقط من ذلك الصراط .
وتتفاوت سرعة
العابرين على الصراط بحسب ما قدّموا من أعمال في الدنيا ، فالمؤمنون يعبرونه كالبرق الخاطف ، والكافرون يتعثّرون من أول قدم ، ويتهافتون إلى النار ، قال الإمام الصادق عليهالسلام : « الناس يمرون على الصراط طبقات ، والصراط أدق من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، فمنهم من يمرّ مثل البرق ، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمر حبواً ،
__________________________
ومنهم من يمرّ مشياً ، ومنهم من يمرّ متعلقاً ، قد تأخذ النار
منه شيئاً وتترك شيئاً »
.
وقيل : الصراط في
الآخرة هو نموذج يُعبّر عن صراط الدنيا ، فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم ، خفّ على صراط الآخرة ونجا ، ومن عدل عن الاستقامة في الدنيا ، وأثقل ظهره بالأوزار وعصى ، تعثّر في أول قدمٍ من الصراط وتردّى .
قال الإمام الصادق عليهالسلام في بيان معنى الصراط : « هو الطريق إلى
معرفة الله عزَّ وجلَّ ، وهما صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، وأمّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا ، زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة ، فتردّى في نار جهنم » .
ويدلّ عليه حديث رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا كان يوم
القيامة ، ونُصب الصراط على شفير جهنّم ، لم يجز إلّا من معه كتاب علي بن أبي طالب » .
وطريق الأئمة عليهمالسلام هو منهاجهم الواضح المعبّر عن الاستقامة والاعتدال في محبّتهم ، والتمسك بالحدّ الوسط الذي يقع بين الأفراط والتفريط ، أو الغلو والتقصير ، وهو الحبّ الذي أُمرنا به ، وعلينا أن ندين
__________________________
به
ونلقى الله عليه .
قال الإمام الحسن
العسكري عليهالسلام : « الصراط المستقيم هو
صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا ، فهو ما قصر عن الغلوّ ، وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، أما الصراط الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة ، الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنة إلى النار ، ولا إلى غير النار سوى الجنة » .
عقبات
الصراط : الصراط من المنازل المروّعة ، لما فيه
من العقبات التي لا بدّ للعبد من المرور عليها ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « واعلموا ان مجازكم على الصراط ، ومزالق دَحْضِهِ ، وأهاويل زللـهِ ، وتارات أهواله » .
قال الشيخ الصدوق :
وعلى الصراط عقبات تسمّى بأسماء الأوامر والنواهي كالصلاة ، والزكاة ، والرحم ، والأمانة ، والولاية ، فمن قصّر في شيءٍ منها حُبِس عند تلك العقبة ، وطُولب بحقّ الله فيها ، فإن خرج منها بعملٍ صالح قدّمه أو رحمةٍ تداركته ، نجا منها إلى عقبة اُخرى ، فلا يزال كذلك حتى إذا سلم منها جميعاً انتهى إلى دار البقاء ، فيحيا حياة لا موت فيها أبداً ، ويسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً ، وإن لم يسلم زلّت قدمه عن العقبة فتردّى في نار جهنّم .
وقال الشيخ المفيد :
العقبات : عبارة عن الأعمال الواجبة والمُساءلة عنها ، والمواقفة عليها ، وليس المراد بها جبال في الأرض تُقطَع ، وإنما هي
__________________________
الأعمال
شُبّهت بالعقبات ، وجعل الوصف لما يلحق الانسان في تخلّصه من تقصيره في طاعة الله كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها ، قال الله تعالى : ( فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ) فسمّى سبحانه الأعمال التي كلّفها العبد عقبات ، تشبيهاً لها بالعقبات والجبال ، لما يلحق الانسان في أدائها من المشاقّ ، كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها .
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إن أمامكم عقبة كؤوداً ومنازل مهولة ، لا بدّ لكم من الممر بها ، والوقوف عليها ، فإمّا برحمةٍ من الله نجوتم ، وإمّا بهلكةٍ ليس بعدها انجبار »
أراد عليهالسلام بالعقبة تخلّص الإنسان من التبعات التي
عليه .
المبحث الخامس : أهل الجنة وأهل النار
يساق الناس بعد أهوال
الحساب والصراط والميزان إلى المستقر الأبدي ، فإمّا إلى نعيم الجنة ، وإمّا إلى عذاب النار .
أوّلاً : صفة الجنة وأهلها ونعيمها
صفة
الجنة : وهي الدار التي أعدّها الله سبحانه لمن
عرفه وعبده من المتقين والمؤمنين والصالحين ، ونعيمها دائم لا انقطاع له ، وهي دار البقاء ، ودار السلامة ، لا موت فيها ولا هرم ولا سقم ، ولا مرض ولا آفة ، ولا زوال ولا زمانة ، ولا غمّ ولا همّ ، ولا حاجة ولا فقر ، وهي دار الغنى
__________________________
والسعادة
، ودار المقامة والكرامة ، لا يمسّ أهلها فيها نصب ، ولا يمسّهم فيها لغوب ، ولهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، وهم فيها خالدون ، وهي دار أهلها جيران الله وأولياؤه وأحبّاؤه ، وأهل كرامته
.
أهل
الجنّة : (
أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
وصف القرآن الكريم
الفائزين بالنعيم المقيم والملك العظيم ، بأنّهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والذين اتقوا ربهم ، والذين آمنوا بالله ورسله ، وأطاعوا الله ورسوله ، والذين صبروا ابتغاء وجه الله ، وأقاموا الصلاة ، وانفقوا مما رزقهم الله سرّاً وعلانية ، والصديقون والشهداء ، والذين اتّبعوا هدى الله ، والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، والذين خافوا مقام ربهم ونهوا النفس عن الهوى ، والذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، والذين هاجروا في سبيل الله ثم قُتِلوا أو ماتوا ، وعباد الله المخلصون ، والذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين ، ويتبعهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم المؤمنين ، وكلّ أواب حفيظ ، من خشي الرحمن بالغيب ، وجاء بقلب سليم .
__________________________
وجاء عن أمير
المؤمنين عليهالسلام في وصف ما كان عليه أهل الجنة في الدنيا ، وذلك فيقوله تعالى : (
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا )
قال عليهالسلام : « قد اُمِن العذاب ،
وانقطع العتاب ، وزُحزحوا عن النار ، واطمأنّت بهم الدار ، ورضوا المثوى والقرار ، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم في دنياهم نهاراً ، تخشّعاً واستغفاراً ، وكان نهارهم ليلاً توحّشاً وانقطاعاً ، فجعل الله لهم الجنة مآباً ، والجزاء ثواباً ، وكانوا أحق بها وأهلها ، في ملك دائم ، ونعيم قائم » .
أقسام
المقيمين فيها : ذكر الشيخ المفيد أن الساكنين في الجنة
على ثلاثة أضرب ، وهم :
١ ـ من أخلص لله
تعالى ، فذلك الذي يدخلها على أمانٍ من عذاب الله .
٢ ـ من خلط عمله
الصالح بأعماله السيئة ، وكان يسوّف منها التوبة ، فاخترمته المنية قبل ذلك ، فلحقه خوف من العقاب في عاجله وآجله ، أو في عاجله دون آجله ، ثم سكن الجنة بعد عفو الله أو عقابه .
٣ ـ من يتفضّل عليه
الله سبحانه بغير عملٍ سلف منه في الدنيا ، وهم الولدان المخلدون ، الذين جعل الله تعالى تصرّفهم لحوائج أهل الجنة ثواباً للعاملين ، وليس في تصرّفهم مشاقّ عليهم ولا كلفة ، لأنّهم مطبوعون إذ
__________________________
ذاك
على المسارّ بتصرفهم في حوائج المؤمنين .
صفة
نعيم الجنة : حُفّت الجنة بأنواع اللذات والنعم ،
ولأهلها فيها نعيم مقيم وسرور دائم ، ولهم فيها كلّ ما يشاءون وجميع ما يشتهون ، قال تعالى : ( فِيهَا مَا
تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ )
وقال سبحانه : (
لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) .
وفي الجنة ما لا تحيط
بوصفه الكلمات وما لم يسمع به بشر مما أعدّه الله سبحانه لعباده المتقين ، قال تعالى : (
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
.
وفي الحديث القدسي : «
قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » .
اللذائذ
الحسية : ثواب أهل الجنة الالتذاذ بالمآكل
والمشارب ، والمناظر والمناكح ، وما تدركه حواسهم مما يُطبعون على الميل إليه ، ويدركون مرادهم بالظفر به .
وفيما يلي وصف لبعض
تلك اللذائذ وفقاً لما جاء في الكتاب الكريم :
١
ـ المأكل والمشرب
: يُرزَق أهل الجنة
بغير حسابٍ رزقاً كريماً واُكلاً
__________________________
وافراً
، ليس له نفاد ، مما تشتهيه أنفسهم من أنواع الطعام والشراب ، ولهم فيها فاكهة كثيرة ممّا يتخيّرون ، لا مقطوعة ولا ممنوعة ، دانية عليهم ظلالها ، وذللت لهم قطوفها تذليلاً .
ولهم فيها شراب طهور
، ويسقون خمرةً مختومةً بالمسك ، لا تحدث صداعاً ، ولا تذهب عقلاً ، ولا لغو فيها ولا تأثيم ، ويطاف عليهم بكأسٍ منها بيضاء لذيذة ، ممزوجة بأنواع الطيب كالكافور والزنجبيل ، وفيها أنهار كثيرة وعيون ، منها أنهار من ماءٍ غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه ، وأنهار من خمرٍ لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفّى ، ويشربون من أعذب العيون كالتسنيم والسلسبيل ، ويقال لهم : كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون .
٢
ـ الملابس والحُليّ
: وفي الجنة يرفل
المؤمنون بثيابٍ خضرٍ من أرقّ أنواع الحرير والديباج ، كالسندس والاستبرق ، ويُحلّون فيها بأساور من ذهبٍ ولؤلؤ وفضّة .
__________________________
٣
ـ التمتّع بالمناظر
: ويتمتّعون بالمناظر
الخلّابة وهم متكئون على الأرائك المنصوبة على أطراف الأنهار المتصلة الجريان ، وتحت الظلال الوارفة الدائمة ، لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ، ينظرون إلى المياه المسكوبة ، والعيون الجارية ، وحدائق النخل والأعناب والرمان الغنّاء ، وأفنانها المتهدّلة بمختلف الأثمار .
٤
ـ التمتّع بالقصور وأثاثها
: يدخل المؤمنون جناتٍ
واسعة عرضها السماوات والأرض ، وأبوابها مشرعة لهم ، وتحرسها الملائكة المتأهّبة لاستقبالهم ، ولهم فيها درجات متفاضلات بعضها فوق بعض ، بحسب خيرية العمل ، في قصور الجنة وغرفها ، وفيها مساكن طيبة في جنات الخُلد العالية ، وغرف من فوقها غرف مبنية ، تجري من تحتها الأنهار ، وهم يفترشون بسطاً حساناً من العبقري ، بطائنها من استبرق ، ومتكئون على وسائد خضر مصفوفة مرفوعة ، حال كونهم متقابلين ، ويطاف عليهم بصحاف من ذهبٍ ، وآنية من فضة ، وأكواب وأباريق وكؤوس بما اشتهت أنفسهم .
__________________________
٥
ـ الولدان المخلّدون
: ويتمتّع أهل الجنة
بالخدمة المتصلة من الغلمان المخلدين الذين جعلهم الله سبحانه في منتهى الجمال والصفاء وحسن المنظر ، قال تعالى : ( وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ) .
٦
ـ الأزواج والحور العين
: ولهم في الجنة أزواج
مطهّرة من الحور العين مقصورات في الخيام ، قد جعلهنّ الله عُرباً ؛ متحببات إلى أزواجهنّ ، قاصرات الطرف عليهم دون غيرهم ، كواعبَ أتراباً في العمر ، أبكاراً لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، ساحرات الجمال ، فكأنهنّ الياقوت والمرجان ، أو كأمثال اللؤلؤ أو البيض المكنون .
اللذائذ الروحية : وفوق ذلك يتمتع أهل الجنة بنعيم روحي أو عقلي ، يتمثّل برضوان الله تعالى ومغفرته ورحمته بهم ، وإحساسهم بالسرور لترحيب الملائكة بهم ، ولسعادتهم الدائمة ، والشعور بالأمن من خوف العذاب والحزن وكلّ مظاهر اللغو والكذب والتأثيم والتحاسد والتباغض .
__________________________
ثانياً : صفة النار وأهلها وعذابها
صفة
النار : النار هي دار الهوان ودار الانتقام من
أهل الكفر والعصيان ، وقد وصفها القرآن الكريم بأنها كالسجن ، محيط بالكافرين ، حصير لهم ، ولها سرادق محيط بها ، وأنها مُؤصدة في عمدٍ ممدّدة ، وفيها ظلّ ذو ثلاث شعب ، لكنه غير ظليل ، ولا يقي من شدّة فورانها وتصاعد لظاها ، وأن وقودها الناس والحجارة ، وأوارها لا ينقطع ، فكلما خبت ازدادت سعيراً ، وتحرسها ملائكة غلاظ شداد موكّلون بالعذاب ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، ولها سبعة أبواب ، لكلّ باب منهم جزء مقسوم
.
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : « أن جهنّم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض . . . فأسفلها جهنّم ، وفوقها لظى ، وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية » .
وفي رواية : «
أسفلها الهاوية ، وأعلاها جهنّم » .
وقال عليهالسلام في وصفها : « فاحذروا ناراً قعرها بعيد ، وحرّها شديد ،
__________________________
وعذابها جديد ، دار ليس فيها رحمة ، ولا تُسمع فيها دعوة ، ولا
تُفرّج فيها كُربه »
.
أهل
النار : (
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ
وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) .
جاء في الآيات
الكريمة أنّ النار اُعدت للذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وماتوا وهم كفّار ، والمشركين الذين جعلوا مع الله إلهاً آخر ، والمنافقين ، والمتكبرين ، والظالمين ، والطاغين ، والمكذّبين الله سبحانه ورسله ، ومن يعصي الله ورسوله ، ويتولى عن طاعته ، ويتعدى حدوده ، ويستكبر عن عبادته ، ويصدّ عن سبيله ، ويعرض عن ذكره ، ولا يرجو لقاءه ، والمكذبين بيوم الدين ، والذين رضوا بالحياة الدنيا وزينتها واطمأنوا بها وآثروها على الآخرة ، ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ، ومن يرتدّ عن دينه ويموت كافراً ، والذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، أو يأكلون أموال اليتامى ظلماً ، ومن يقتل مؤمناً متعمداً ، والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله ، وأئمة الجور والضلال ، وتاركي الصلاة .
__________________________
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : يُؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيُلقى في نار جهنم ، فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثمّ يُربَط في قعرها » .
وعنه عليهالسلام وهو يعظ أصحابه : « تعاهدوا أمر الصلاة
، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فانها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا : (
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ )
؟ ! » .
الخالدون
فيها : لا يخلد في النار إلّا أهل الكفر
والشرك ، وأمّا المذنبون من أهل التوحيد ، فإنهم يخرجون منها بالرحمة التي تدركهم والشفاعة التي تنالهم
.
قال الامام موسى بن
جعفر الكاظم عليهالسلام : « لا يخلد في النار
إلّا أهل الكفر والجحود ، وأهل الضلال والشرك » .
عذاب
النار : يتعرّض أهل النار لأصنافٍ من العذاب
الحسي والروحي ، وقد وصف الله تعالى عذابها بالمهين والغليظ والأليم والعظيم والشديد ، فحينما يُساق المجرمون إلى جهنّم زمراً وجماعات ، تتلقّاهم ملائكة العذاب :
__________________________
أدخلوا
أبواب جهنم خالدين فيها ، فبئس مثوى المتكبرين ، هذا والنار تنتظرهم من مكانٍ بعيد ، فإذا رأتهم تغيّظت وزفرت وزأرت كالأسد إذا رأى فريسته على بُعد .
فتُفتح لهم الأبواب ،
ويُدعّون فيها دعّاً مع الشياطين وما كانوا يعبدون من دون الله ، فيكونون حصب جنهم ووقود السعير ، وإذا اُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور ، فتكاد تميّز من الغيط ، وتتأجّج نارها ، ويتّقد أوارها ، ويتطاير شررها ، ويتعالى لهيبها ، وهم غرقى فيها ، طعامهم منها ، وشرابهم منها ، ولباسهم منها ، وهي مهادهم وسقفهم ، يلتحفون حممها ، ويفترشون لظاها ، ويتقلقلون بين أطباقها ، فيغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، في مقطّعات النيران وسرابيل القطران ، فتكوي جباههم ، وتلفح وجوههم وتتقلّب في النار ، فتسودّ وجوههم ، وينتزع الشَّوى من رؤوسهم .
وهم خالدون في عذابٍ
مقيم ، ويأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين ، فلا يُقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم من عذابها ، ولا هم يُنْظَرون ، وكلّما نضجت جلودهم بُدّلت باُخرى ليتجدّد عذابهم ، وكلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ اُعيدوا فيها ، وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق .
هذا وهم مقرّنون
بالأغلال والسلاسل في الأعناق ، مصفّدون في مكان ضيق ، ثم يُسحبون في الحميم على وجوههم ، ويُؤخَذون بالنواصي والأقدام ، ثمّ في النار يُسجرون ، وتهشّم جباههم بمقامع الحديد ، وينتظرهم عذاب السّموم وشجر الزقّوم والحميم الذي يُصبّ من فوق رؤوسهم ، فيصهر ما في بطونهم والجلود .
وإن استغاثوا من شدة
العطش ، يُغاثوا بماءٍ صديدٍ يتجرعونه ولا يكادون يستسيغونه ، أو بماء الحميم فيقطّع أمعاءهم ، أو بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه ويغلي في البطون كغلي الحميم ، فلا يذوقون برداً ولا شراباً إلّا حميماً وغسّاقاً ، وهم مع ذلك يشربون منهما شُرب الهيم .
وإن استطعموا من شدّة
الجوع ، اُطعموا غذاءً ذا غصّة من الغسلين والزّقوم ، وهي شجرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، وهم مع ذلك لآكلون منها ، فمالئون منها البطون ، فشاربون عليه من الحميم .
ولهم من هول العذاب
اصطراخ بين أطباقها ، وهي تغلي بهم غلي المراجل ، فيتعالى زفيرهم وبكاؤهم وعويلهم وتخاصمهم ، وهتافهم بالويل والثبور ، ولكن لا يُسمعون .
__________________________
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام فيوصف عذابها : « أما أهل المعصية
فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق ، وقرن النواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ، ومقطّعات النيران ، في عذابٍ قد اشتدّ حرّه ، وبابٍ قد اُطبق على أهله ، في نارٍ لها كَلَبٌ ولَجَبٌ ، ولهبٌ ساطع ، وقصيف هائل ، لا يظعن مقيمها ، ولا يُفادى أسيرها ، ولا تُفصَم كبولها ، لا مُدّة للدار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيُقضى »
.
عذابها
الروحي : وله صور عديدة يعرضها القرآن الكريم ،
منها الشعور بالخسران والندامة والخزي والخوف والرهبة ، فينادي الظالمون بالحسرة ، حسرة فوت الجنة ونعيمها ، وفوت لقاء الله ورضوانه ، وينتابهم اليأس من الرحمة والمغفرة ، ويصيبهم الذلّ والصغار حين يعرضون على النار خاشعين من الذلّ ينظرون من طرف خفيّ .
__________________________
وحينما يُعرَضون على
النار ويرون عذابها تتقطّع أنفسهم حسرات من شدة الندم ، فيظهرون البراءة من كبرائهم وساداتهم ، وتتوارد عليهم الأماني ، فيقولون : (
يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا )
، وكلّ منهم يقول : ( يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) و (
يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ) وأنّى لهم الندم وهم في محضر اليوم
العسير ؟ !
ويضجّون حسرّة على ما
فرّطوا في الدنيا ، فيطلبون العودة إليها ، ليعملوا صالحاً ويكونوا من المؤمنين ، ويتعالى هتافهم : ( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ويصرخون : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) .
وتلك الأماني لا تعدو
كونها سراباً بقيعة ، لأنّهم في عالم الجزاء ، عالم لا تنفع فيه الطاعة والانابة وإظهار الندم ، ولو كانوا صادقين لأنابوا وتابوا وهم في دار التكليف والعمل (
وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) .
ومن هنا يأتيهم
الجواب : ( فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ )
__________________________
ويقال
لهم : ( اخْسَئُوا فِيهَا
وَلَا تُكَلِّمُونِ ) وهو مما يزيد من حسرة نفوسهم وشعورهم بالخذلان والخيبة واليأس من الرحمة والمغفرة ، فيُصلَون جهنم مذمومين مدحورين ملومين .
وممّا يحزّ في نفوسهم
هو تبكيت الملائكة وتقريعهم لهم بمجرد أن يدخلوا النار ، قال تعالى : (
كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) وهم يجيبون بالإقرار والاعتراف : ( بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا
لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) .
وحينما يستسلمون
لليأس يقولون لخازن النار : (
يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فيقول لهم : ( إِنَّكُم مَّاكِثُونَ )
.
أعاذنا الله جميعاً
من شرّ الجحيم ومن أهوال يوم القيامة ، ورزقنا رحمته التي وسعت كل شيء وشفاعة نبيه المصطفىٰ وآله الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين .
__________________________
محتويات الكتاب
مقدمة المركز ............ ٥
المقدمة ......... ٧
الفصل
الأوّل : معنى المعاد وآثار الاعتقاد به ......... ٩
المبحث الأوّل : معنى
المعاد لغةً واصطلاحاً ........... ٩
المبحث الثاني : آثار
الاعتقاد بالمعاد ...... ١١
أولاً : أثر المعاد
في إطار السلوك ....... ١٢
ثانياً : أثر المعاد
في إطار النفس ....... ٢٠
الفصل الثاني : أدلّة
حتمية المعاد ووجوبه ........... ٢٥
أولاً ـ الأدلّة القرآنية
............. ٢٥
ثانياً : السنّة
المباركة ............ ٣١
ثالثاً : الإجماع ........ ٣٣
رابعاً : الدليل
العقلي ........... ٣٤
أولاً ـ برهان
المماثلة ......... ٣٤
ثانياً : برهان
القدرة ......... ٣٧
الصورة الأُولى ........... ٣٨
الصورة الثانية ........... ٣٩
ثالثاً : برهان
الحكمة ........ ٤١
رابعاً : برهان
العدالة ........ ٤٣
١ ـ وجود التكليف
يقتضي وجود المعاد ...... ٤٣
٢ ـ العدل الإلهي
يستلزم وجود اليوم الآخر .... ٤٤
الفصل الثالث : حقيقة
الروح والمعاد ............ ٤٧
المبحث الأوّل :
حقيقة الروح وتجرّدها ..... ٤٧
حقيقة الروح غامضة ........ ٤٧
الروح في القرآن
والحديث ............. ٤٨
١ ـ الروح التي هي
سبب الحياة ..... ٤٨
٢ ـ الروح بمعنى جبرئيل
عليهالسلام ....... ٥١
٣ ـ الروح بمعنى
مخلوق أعظم من الملائكة ..... ٥١
٤ ـ الروح بمعنى
الإيمان ............ ٥٢
٥ ـ الروح بمعنى
الكتاب والنبوة ..... ٥٣
تجرد الروح ........ ٥٣
١ ـ الماديون ............. ٥٤
٢ ـ القائلون بالتجرد
..... ٥٥
أدلّة القائلين
بالتجرّد ........ ٥٨
أولاً ـ الأدلة
القرآنية ...... ٥٨
ثانياً : أدلة السّنة
........ ٦٢
ثالثاً : الأدلة
العقلية ..... ٦٤
رابعاً : أدلة علمية
تجريبية .......... ٦٧
أولاً : استحضار
الأرواح .......... ٦٨
ثانياً : التنويم
المغناطيسي .......... ٦٩
المبحث الثاني :
حقيقة المعاد ............. ٧١
الأوّل ـ المعاد
جسماني ....... ٧٢
حقيقة المعاد
الجسماني ...... ٧٥
الثاني ـ المعاد
روحاني ........ ٧٦
إنكار المعاد
الجسماني ............. ٧٩
الشبهات المثارة حول
المعاد الجسماني ........ ٨٢
أولاً ـ شبهة الآكل
والمأكول ........ ٨٣
ثانياً : استحالة
إعادة المعدوم ...... ٨٦
ثالثاً : تعدّد
الأبدان ..... ٨٨
الفصل الرابع : منازل
المعاد ..... ٩١
المبحث الأول : الموت
وغمراته ........... ٩١
غمرات الموت : ............ ٩٢
١ ـ الاحتضار ........... ٩٣
٢ ـ سكرات الموت ....... ٩٤
٣ ـ انتزاع الروح .......... ٩٥
٤ ـ الدخول في النشأة
الآخرة ...... ٩٧
أ ـ منزلته من الجنة
أو النار ......... ٩٧
ب ـ تجسّد المال
والولد والعمل ..... ٩٨
ج ـ معاينة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام ....... ٩٨
المبحث الثاني :
البرزخ وعذابه .......... ١٠٠
معنى البرزخ ...... ١٠٠
أهوال البرزخ .............. ١٠٠
١ ـ وحشة القبر
وظلمته ......... ١٠٠
٢ ـ ضغطة القبر أو
ضمّته ........ ١٠١
٣ ـ سؤال منكر ونكير ........... ١٠٢
٤ ـ عذاب القبر
وثوابه ........... ١٠٣
أدلته القرآنية .......... ١٠٣
أدلته من السنة ........ ١٠٤
إثارات ....... ١٠٥
أولاً : إحياء البدن
الدنيوي ...... ١٠٦
ثانياً : التعلّق
بالجسد المثالي ...... ١٠٧
العلم يؤيد وجود
الجسد المثالي .... ١٠٨
هل إن ذلك من التناسخ
الباطل ؟ ......... ١٠٨
المبحث الثالث :
أشراط الساعة ......... ١١٠
أنواعها ......... ١١١
المبحث الرابع :
مشاهد يوم القيامة ...... ١١٤
١ ـ نفخة الصعق ، أو
صيحة الموت ........... ١١٥
٢ ـ تغيير النظام
الكوني ............. ١١٧
٣ ـ نفخة الإحياء ،
أو صيحة البعث .......... ١١٨
٤ ـ الحشر ....... ١١٨
٥ ـ المحكمة الإلهية ......... ١٢١
أولاً : السؤال ......... ١٢١
ثانياً : الحساب ........ ١٢٣
ثالثاً : الشهود
وتطاير الكتب .... ١٢٥
أ ـ الله سبحانه ......... ١٢٥
ب ـ الأنبياء
والأوصياء .......... ١٢٦
ج ـ الملائكة ........... ١٢٧
د ـ الأعضاء والجوارح
............ ١٢٨
هـ ـ صحائف الأعمال ........... ١٢٨
و ـ ظهور الأعمال أو
تجسّمها .... ١٢٩
٦ ـ الميزان ....... ١٣٠
٧ ـ الصراط .............. ١٣٣
عقبات الصراط ........... ١٣٥
المبحث الخامس : أهل
الجنة وأهل النار ........... ١٣٦
أوّلاً : صفة الجنة
وأهلها ونعيمها ..... ١٣٦
صفة الجنة ............ ١٣٦
أهل الجنّة ............. ١٣٧
أقسام المقيمين فيها ............. ١٣٨
صفة نعيم الجنة ........ ١٣٩
اللذائذ الحسية ......... ١٣٩
١ ـ المأكل والمشرب ............. ١٣٩
٢ ـ الملابس والحُليّ
..... ١٤٠
٣ ـ التمتّع بالمناظر
..... ١٤١
٤ ـ التمتّع بالقصور
وأثاثها ....... ١٤١
٥ ـ الولدان
المخلّدون ............ ١٤٢
٦ ـ الأزواج والحور
العين ......... ١٤٢
اللذائذ الروحية ........ ١٤٢
ثانياً : صفة النار
وأهلها وعذابها ..... ١٤٣
صفة النار ............. ١٤٣
أهل النار ............. ١٤٤
الخالدون فيها ......... ١٤٥
عذاب النار ........... ١٤٥
عذابها
الروحي ......... ١٤٨
|