بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد

وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد

كان قيام دولة الأغالبة فى أفريقية عام ١٨٤ ه‍ ـ ٨٠٠ م مرتبطا ارتباطا وثيقا بما كان يسود بلادها من اضطراب وفوضى وصراع مذهبى وثورات الجند العرب والبربر فى الفترة الممتدة من خلافة هشام بن عبد الملك (١٠٥ ه‍ ـ ١٢٥ / ٧٢٤ م ـ ٧٤٣ م) إلى نهاية الدولة الأموية ١٣٢ ه‍ / ٧٥٠ م (١).

وفى الحقيقة كانت الخلافة العباسية مشغولة بمشاكلها فى المشرق لتثبت كيانها ووجودها. فكان عليها محاربة الزندقة والقضاء على حركات العلويين ووقف أخطار البيزنطيين ، ولهذا لم يتسع وقت الخليفة أبى العباس السفاح للاهتمام كثيرا بما يقع ويحدث فى بلاد المغرب ، لأن تفكيره كان منصبا نحو المشرق ، ومع ذلك لم تغفل عيناه عن الجناح الغربى لدولة الإسلام والذى كان يشتمل على «مصر وبرقة وإفريقية» ، فاكتفى بالاستجابة إلى ما طلبه عبد الرحمن بن حبيب فقد كان عبد الرحمن بن حبيب بن أبى عبيدة ابن عقبة بن نافع زعيما سياسيا واسع النشاط ، يعتمد على ما حققه جده عقبة بن نافع من شهرة وسمعة وإنجازات حربية ، ولكنه فى نفس الوقت انحرف عن نمط سياسة جده ، فكان رجلا طامعا فى الحكم فلم يقم بتنظيم أمور دولته كما فعل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (١٣٨ ه‍ ـ ١٧٢ ه‍) ولكن كل همه البقاء فى إمارته دون سند شرعى (٢).

__________________

(١) محمود إسماعيل عبد الرازق : الأغالبة ص ٩.

(٢) ابن عذارى ، البيان المغرب فى أخبار المغرب ج ١ ص ٦٣ وابن خلدون فى كتاب «العبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٤ ـ ص ١٨٩ ـ ١٩٠». ونفس المعنى. عبد الواحد المراكشى فى «المعجب فى تلخيص المغرب ص ١٦».


وكان عبد الرحمن بن حبيب من أكبر قواد العرب البلديين بإفريقية ولذا كان أشدهم تطلعا إلى ولاية إفريقية ، فقد كان يرى نفسه أهلا لها رغم معارضة الكثيرين من أمثاله من قادة العرب البلديين فى إفريقية. ولم يسبق فى تاريخ المسلمين حتى ذلك الحين أن وافقت دولة الخلافة على أن يستقل أحد الولاة بولايته عن الدولة سواء أكان استقلالا تامّا أم غير تام.

ولكن الأحوال فى دولة الإسلام كانت تمر ـ أثناء فترة الانتقال من الأمويين إلى العباسيين والتى بدأت من منتصف حكم مروان بن محمد الجعدى وطوال خلافة أبى العباس السفاح وجزء من ولاية أبى جعفر المنصور ـ بحالة من الفوضى وعدم الاستقرار ، ولم تستقر الأمور إلا بعد عشر سنوات من ولاية المنصور ، وأصبح الخليفة المنصور سيد الدولة الإسلامية بلا منازع (١).

فلما أعلن عبد الرحمن بن حبيب نفسه أميرا على القيروان بعث بطاعته إلى أبى جعفر المنصور ، ولم يكن لدى الخليفة العباسى حينئذ متسع من الوقت للنظر فى أمر إفريقية بعناية ، فأقره ريثما تسمح ظروفه (٢) بالتفرغ للجناح الغربى من دولته الكبيرة ثم طالبه المنصور بالمال ، وكان ذلك طبيعيّا من المنصور لأنه كان خليفة المسلمين والمفروض على جميع ولاة الدولة أن يرسلوا للحكومة المركزية بالمال المتبقى من خراج ولاياتهم ليستعين به الخليفة على مطالب الخلافة ، وقد فوجىء عبد الرحمن بن حبيب بهذا الطلب لأنه إلى ذلك الحين لم يكن صاحب السلطان على إفريقية لكى يستطيع استخراج المال الكافى منها لينفق على إدارتها ومرافقها من ناحية ، ثم لكى يرسل ما يتيسر له إلى الخلافة ، وكان يستطيع أن

__________________

(١) د / حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ص ٦٧.

(٢) وكان عبد الرحمن بن حبيب قد كتب إلى المنصور «أن إفريقية اليوم إسلامية كلها وقد انقطع السبى منها والمال ، فلا تطلب منى مالا» فرد عليه المنصور «إنى ظننت أن هذا الخائن يدعو إلى الحق ويقوم به ، حتى تبين لى خلاف ما بايعته عليه من إقامة العدل وإنى الآن قد خلعته كما خلعت نعلى هذا ، وقذفه من رجله». انظر النويرى : نهاية الراب فى فنون الأرب ج ٢٤ ص ٦٦ ، وابن الأثير : الكامل فى التاريخ ج ٤ ص ٢٨.

وابن عذارى البيان المغرب فى أخبار المغرب ج ١ ص ٦٧.


يشرح أمره للخليفة المنصور ولكن بدلا من ذلك قام عبد الرحمن بن حبيب بنزع شعار السواد ، وهو شعار بنى العباس ، وقطع ذكر اسم المنصور فى الخطبة وهذا أول الأخطاء الكبرى التى وقع فيها عبد الرحمن بن حبيب لأنه ظن أنه يستطيع التغلب على كل منافسيه فى ولاية إفريقية ، وفى نفس الوقت كان يعتقد أن الخليفة لا يملك قوة كافية لاستعادة السلطان على إفريقية ، إذ لم يكن من المناسب له وهو فى مرحلة تثبيت أمره أن ينفصل عن الدولة العباسية ويحمى نفسه من جيوشها ، خاصة وقد كان له الكثير من المنافسين من أمثاله فى ولاية إفريقية ، ثم إن الدولة العباسية كانت شديدة الاهتمام بولاية إفريقية التى كانت تشمل طرابلس وأفريقية والزاب تأمينا لولاية مصر والتى كانت تعتبر من أهم ولايات الدولة الإسلامية سياسيا وعسكريّا وماليّا (١).

وبعد أن أعلن عبد الرحمن بن حبيب انفصاله عن الدولة العباسية ، شرع فى تثبيت سلطانه معتمدا على ما كان تحت إمارته من الجند العربى ومن استطاع إدخاله فى خدمته من أهل إفريقية ، وساعده على ذلك أن أخاه إلياس بن حبيب كان قائدا عسكريا قادرا وهو الذى ثبت أقدام دولة أخيه ، وبدلا من أن يتعاون عبد الرحمن بن حبيب مع أخيه ويطهر له موفيا لما اتفق معه عليه من أن يكون إلياس وليا لعهده ، نجده يتخوف منه ويفكر فى عزله عن ولاية الجند ، ولكنّ إلياس نجح فى جمع طائفة كبيرة من الفرسان والمقاتلين من الجند البلدية فى إفريقية بجانبه (٢).

وزاد فى ضعف مركز عبد الرحمن بن حبيب أنه لم يفكر فى توحيد العناصر العربية الموجودة فى البلاد أو الاستعانة بالعنصر البربرى فى إدارة شئون الإمارة لكى يستطيع التثبت فى ولايته ، إذ ما ظهر له منافس أو ثار عليه ثائر أو خرج عليه خارج ، وتعجل

__________________

(١) ابن الرقيق القيروانى : تاويخ إفريقية والمغرب ص ١٣٤ ، والنويرى : نهاية الأرب ج ٢٤ ص ٦٧. وابن الأثير : الكامل فى التاريخ ج ٤ ص ٢٨١. وابن عذارى البيان المغرب ج ١ ص ٦٧. ومحمد ضياء الدين : الخراج ١٤٩.

(٢) ابن الأبار الحلة السيراء : ج ١ ص ٨٢.


عبد الرحمن بن حبيب الأمر فعزل أخاه عن القيادة وأزمع المبايعة لابنه حبيب بولاية العهد مما جعل إلياس يحرض أهل إفريقية ويتآمر مع أخيه عبد الوارث لقتله.

وإزاء كل هذه الأخطاء لعبد الرحمن سواء من ناحية الدولة العباسية أو من ناحية إفريقية تحرج مركزه ووقع القتال بينه وبين أخيه إلياس ، وكان معه معظم رؤساء الجند ، فكانت النتيجة أن قتل عبد الرحمن بن حبيب فى سنة ١٣٧ ه‍ ، وفر ابنه حبيب إلى تونس (١).

وهكذا أسدل الستار على عبد الرحمن بن حبيب الفهرى بعد أن قضى فى الإمارة عشر سنوات وسبعة أشهر قضاها كلها فى حروب مع البربر.

ثم استعان ابنه حبيب بجماعات البربر لاستعادة ملك أبيه فى إفريقية ، ونجح فى قتل عمه إلياس ولكن لم يدم حكمه حتى استولى عمه عبد الوارث على القيروان ، ففر حبيب إلى قبيلة بربرية كبيرة مستعرية تعرف باسم ورفجومة (٢) وهى قبيلة طارق بن زياد ، وكان يرأس هذه القبيلة عاصم بن جميل (٣) ، وكان من الخوارج الصفرية وهو ابن أخت طارق بن زياد الذى تمكن من القضاء على حكم ونفوذ بنى حبيب فى إفريقية ، واقتحم مع رجال قبيلته القيروان وأقام فيها حكما خارجيا صفريا واضطهدوا أهل السنة حتى قيل إنهم دخلوا بخيلهم المسجد الجامع بالقيروان ، ولما بلغ ذلك أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافرى إمام الخوارج الإباضية فى جبل نفوسة غضب لما أصاب المسجد ، فسار بجموعه

__________________

(١) الرقيق القيروانى ، تاريخ إفريقية والمغرب ص ١٣٤. والنويرى نهاية الأرب ج ٢٤ ص ٦٨.

والرقيق القيروانى المصدر السابق ص ١٣٩.

(٢) ابن عذارى ، البيان المغرب ج ١ ص ٨٠. والسيد عبد العزيز سالم تاريخ المغرب فى العصر الإسلامى ٢٥١. ود. حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ص ٦٩ ، وابن حزم ، جمهرة أنساب العرب ٤٩٧.

(٣) كان عاصم بن جميل زعيما كاهنا «إدعى النبوة والكهانة» فبدل الدين وزاد الصلاة وأسقط ذكر النبى صلّى الله عليه وسلّم من الأذان ، وقيل هو من بطون نفزاوة.

انظر : ابن خلدون : العبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٤ ص ٤٠٩ ، وابن الأثير : الكامل فى التاريخ ج ٤ ص ٢٨٠ ، والرقيق القيروانى : تاريخ إفريقية والمغرب ص ١٤١.


ودخل القيروان وقتل عاصم بن جميل ، وبذلك انتهى حكم بنى عبد الرحمن بن حبيب فى إفريقية.

كل هذه الحوادث أفزعت أبا جعفر المنصور ، فأمر واليه على مصر آنذاك محمد بن الأشعث الخزاعى بالمسير إلى إفريقية وإخراج الإباضية الذين استولوا على إفريقية من الخوارج الصفرية وإعادتها إلى دولة أهل السنة والجماعة ، وكان جيش واليه يضم حوالى ٠٠٠ ، ٤٠ مقاتل ، وقد استطاع أن يعيد بن إفريقية مرة ثانية إلى مذهب السنة مذهب الدولة العباسية.

غير أن محمد بن الأشعث عين نائبا له فى إفريقية يسمى أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجلى ولكنه لم يتمكن من التغلب على ما كان يحدث فيها حتى طرده زعيم الخوارج الإباضية أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح بن مالك المعافرى ، وزاد خطر الخوارج الإباضية مما جعل المنصور يطلب من واليه بمصر مرة أخرى سرعة التوجه إلى إفريقية ودارت معركة فى منطقة تاورغا (الواقعة إلى الشرق من طرابلس) قتل فيها أبو الخطاب زعيم الإباضية ، فتولى زعامة الإباضية بعده يعقوب بن حاتم المعروف بأبى حاتم الملزوى (١).

وقام محمد بن الأشعث الخزاعى والى القيروان الجديد بعدة أعمال تميل إلى القسوة نذكر منها : أنه أنشأ معسكرا جديدا ، واتبع الشدة مع سكان القيروان حتى أنه أمر بقتل (٢) كل رجل يسمى بأسماء أموية مثل سفيان ومروان ، ولا نعرف سببا لهذه الظاهرة ، ولعله أراد أن يتخلص من كل شخصية يخشى منها على السلطة العباسية وإفريقية التى هى مسرح الحوادث ، وأمام هذا لابد أن نقف بعض الوقت عند هذه الولاية ، لنرى كيف كانت فى ذلك الوقت.

__________________

(١) انظر فى ذلك : النويرى ، المصدر السابق ج ٢٤ ص ٧٠ ـ ٧٤ ، وابن أبى دينار المؤنس فى أخبار إفريقيا وتونس ص ٤٦ ، وابن عذارى ، المصدر السابق ج ١ ص ٨٣ ، والأنصارى المنهل العذب فى تاريخ طرابلس الغرب ص ٦٦ ، ود / محمود إسماعيل عبد الرازق الخوارج فى بلاد المغرب ص ٧٦.

(٢) د. حسين مؤنس فتح العرب للمغرب ص ٨٢.


لمحة سريعة عن إمارة إفريقية :

بعد أن انتصر المسلمون على الروم فى موقعة سبيطلة ٢٧ ه‍ ـ ٦٤٨ م بدأت ولاية إفريقية فى الظهور عندما أنشأ عقبة بن نافع الفهرى مدينة القيروان (١). ومسجده ومسجدها الجامع فيما بين سنتى (٥٠ ه‍ ـ ٥٥ ه‍ / ٦٧٠ م ـ ٦٧٥ م).

قامت ولاية إفريقية الإسلامية ولاية مستقلة بنفسها ، ولها واليها وإدارتها المستقلة عن إدارة مصر.

وعند ما تولى تلك الولاية حسان بن النعمان الغسانى (٧١ ه‍ ـ ٨٥ ه‍ / ٦٩٠ م ـ ٧٠٤ م) وضع أساس النظام الإدارى لتلك الولاية الجديدة وكانت حدودها الجغرافية والسياسية مطابقة لولاية إفريقية البيزنطية ، فإن إفريقية البيزنطية كانت تشمل ولاية طرابلس مضافا إليها إفريقية نفسها ، وتقابل على وجه التقريب جمهورية تونس الحالية ثم جزءا مما عرف فيما بعد بأقليم الزاب عند الجغرافيين المسلمين.

وكانت إفريقية البيزنطية بهذه الحدود ولاية كبيرة تضم مساحة واسعة من الشمال الإفريقى ، وإذا كنا نستطيع أن نحدّ حدودها الغربية بشكل دقيق نقول : إنها كانت تشمل إقليم قسطيلية وما يليه شمالا حتى ساحل البحر ، ويمتد غربا فيشمل النصف الشرقى من جبال أوراس وتقف عند حدود ما يعرف اليوم ببلاد القبائل فى الجزء الشرقى من

__________________

(١) قال ياقوت الحموى : القيروان معرب وهو بالفارسية كاروان ، وهذه مدينة عظيمة بإفريقية غيرت دهرا ، وليس بالغرب مدينة أجل منها إلى أن قدمت العرب بإفريقية. وقال اليعقوبى : مدينة القيروان التى اختطها عقبة بن نافع الفهرى سنة ستين من خلافة معاوية. وقال الإدريسى : أم الأمصار وقاعدة الأقطار ، وكانت أعظم مدن الغرب قطرا وأكثرها بشرا وأيسرها أموالا وأوسعها أحوالا وأتقنها بناء. وقال البكرى كانت موضع القيروان واديا كثير الأشجار غيضة مأوى للوحوش والحيتان بينما قال المؤرخ : NEVILLEBAROUR كانت القيروان أول عاصمة جديدة أنشئت فى بلاد المغرب.

انظر فى ذلك : معجم البلدان ج ٧ ، ١٩٣ ، البلدان ١٣٦ ، نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق ٢٨٤ ، ASurvey of North The West Africa.


جمهورية الجزائر الحالية ـ فتدخل فيها قلعة أو قلاقل لمبيزة وباغاية وتصل إلى البحر فتشمل ولاية بيجيا الحالية وتصل إلى مجرى نهر شلف ، ونظن أن هذه كانت حدود ولاية إفريقية فى التنظيم الذى وضعه حسان بن النعمان (١).

وعندما تولى أمور إفريقية موسى بن نصير اللخمى أكمل هو وأولاده فتح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى ، وأنشأ موسى ثلاث ولايات جديدة الأولى ولاية المغرب الأقصى وتشمل النصف الشمالى للمملكة المغربية الحالية ، والثانية ولاية سلجماسة وكانت تطلق على النصف الجنوبى من المملكة المغربية الحالية ، أما الولاية الثالثة فهى تلك المساحة التى امتدت من الحدود الغربية لولاية إفريقية إلى حدود ولاية المغرب الأقصى وهى تشمل جزءا كبيرا من أراضى جمهورية تونس الحالية (٢).

وفى أواخر الدولة الأموية ونتيجة لأحداث الفتنة المغربية الكبرى التى بدأت فى المغرب من سنة ١٢٢ ه‍ فى ولاية عبيد الله بن الحبحاب واستمرت حتى نهاية العصر الأموى. ورغم الجهود الكبيرة التى بذلها هشام بن عبد الملك لإيقاف هذه الفتنة والقضاء على ثورات الجماعات الخارجية ما بين صفرية وإباضية التى كانت قد أخرجت المغربين الأوسط والأقصى عن السلطان الفعلى للخلافة الأموية ، فلم يبق لها سلطان ملموس إلّا على نهر شلف الذى ينبع من جبال أوراس ويتجه إلى الشمال حتى جنوب مدينة الجزائر الحالية ، فيتجه غربا ويقترب من البحر ويواصل سيره حتى يصب فى البحر المتوسط إلى الشرق من مدينة وهران الحالية. ويفهم من كلام الجغرافى اليعقوبى (٣) أن سلطان دولة الخلافة لم يجاوز المجرى الأعلى لهذا النهر وعلى الأخص من العصر العباسى ، وواضح أن العباسيين عندما ورثوا الخلافة من الأمويين وجدوا أن دولتهم تمتد وتغطى مساحة شاسعة جدا لم

__________________

(١) انظر فى ذلك اليعقوبى ، البلدان ص ٣٤٥ ، والنويرى نهاية الأرب فى فنون الأدب ج ٢٤ ـ ص ٣٦

(٢) انظر ابن الأبار الحلة السيراء ج ٢ ـ ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، والرقيق القيروانى تاريخ إفريقية والمغرب ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) وانظر كذلك : د. حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ص ٦٣ ، واليعقوبى المصدر السابق ٣٤٧.


تستطع قواهم أن تسيطر عليها سيطرة كاملة خاصة وأن انتقال مركز الدولة من دمشق إلى بغداد زاد من مسئوليتها الآسيوية ، وفرض عليها مطالب جديدة لم تكن تشغل بال الأمويين بالصورة التى كانت عليها أيام العباسيين.

ونتيجة لذلك نجد أن العباسيين ركزوا جهدهم كله فى المحافظة على ذلك الجزء الذى كان لدولتهم بصورة فعلية من إفريقية.

أما ما وقع غربى نهر شلف أى بيد المغربين الأوسط والأقصى فليس لدينا ما يدل على أن العباسيين كان لهم قيد من سلطان أو حتى حاولوا أن يبسطوا عليه سلطانهم ، وهذا هو الذى جعل عبد الرحمن بن رستم (١) بعد هزيمة الخوارج الإباضية ومقتل أبى الخطاب عبد الأعلى بن السمح بن مالك المعافرى سنة ١٤٤ ه‍ يفر إلى غرب نهر شلف ويحاول إنشاء دولة خارجية إباضية فى بلاد كانت خارج سلطان العباسيين وبذلك يأمن على دولته من جيوشهم.

ولم تتمكن الحكومة المركزية العباسية من أن تسيطر على ولاية إفريقية بسبب عدم الاستقرار فيها نتيجة للصراع الداخلى الذى شغل الخلافة العباسية ، ولم يترك لها من الفراغ ما يمكنها من محاولة بسط سلطانها على بقية بلاد المغرب.

ولما عزل محمد بن الأشعث الخزاعى ، أسند أبو جعفر المنصور ولاية إفريقية لزعيم من زعماء العرب وهو الأغلب بن سالم بن عقال التميمى (٢) وكان من كبار جند مصر ، فسار

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن رستم بن بهرام الفارسى ، وكان بهرام جده من موالى عثمان بن عفان ، وقد ذكر بعض الكتاب أن نسبه يرجع إلى ملوك الفرس القدماء ، تربى عبد الرحمن بن رستم فى القيروان وأخذ العلم عن فقهائها ومال إلى تعاليم الخوارج حيث تأثر بسلامة بن سعيد الذى كان يدعوا إلى مذهب الخوارج الإباضية. انظر فى ترجمته : الدرجينى : طبقات مشايخ إفريقية ج ١ ـ ١٩ ، وابن خلدون العبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٦ ـ ١٢١ ، والبكرى : المغرب فى ذكر بلاد إفريقية والمغرب ٦٧.

(٢) ذكر البلاذرى أن أصله يرجع إلى مرو الروذ بمعنى أنه كان من الجند العربى الخراسانى أى من أصحاب أبى مسلم الخراسانى ، وفد مع القوات العباسية إلى مصر وأصبح من جندها ، عرف الأغلب بالشجاعة والبلاء وحسن الرأى ، ولقب بلقب الشهيد.

انظر ترجمته فى السلاوى : الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى ج ١ ـ ٥٧ ، والبلاذرى : أنساب ـ ـ الأشراف ٣٥٠ ، ود. السيد عبد العزيز سالم : المرجع السابق ٢٦١.


الأغلب بن سالم وابنه إبراهيم إلى إفريقية غير أن زعيم الخوارج أبو حاتم تمكن من قتله وفر ابنه إبراهيم إلى منطقة الزاب ، وبدأ يمهد الأمر لنفسه.

وكانت الدولة العباسية تنظر إلى إفريقية على أنها بلد بعيد عن مركز الخلافة يعيش فيها جماعات متعددة متحاربة متعادية بعضهم سنة ، وبعضهم من الخوارج بشتى مذاهبهم ، وبعضهم عرب ، وبعضهم بربر ، فانتهى رأى المنصور إلى تقليد ولاية إفريقية لرجل من ذوى الكفاية وهو من بنى المهلب بن أبى صفرة القائد المعروف الذى حقق المنجزات والانتصارات العسكرية فى العصر الأموى ، هذا الوالى هو عمر بن حفص بن قبيصة بن المهلب ويكنى أبا جعفر والمعروف بهزار مرد يعنى ألف رجل أى يعادل ألف رجل فى ميدان الحرب وهذا مبالغ فيه (١).

ولما كان عمر بن حفص هذا لا يستطيع أن يثق بالقواد الخراسانيين المقيمين فى إفريقية ، ولا بالقبائل العربية المستوطنة هناك ، فقد جلب معه جيشا جديدا ، وبرغم تغلغل الجيش العباسى فى إفريقية فإن الخوارج ظلوا يحتفظون بسمعة طيبة وشعبية كبيرة من العرب والبربر أيضا مما جعل الجيش العباسى يرابط فى القلاع والحصون دون الاندماج بسكان إفريقية.

وفى عهده انفجرت ثورات الخوارج الإباضية بقيادة أبى حاتم يعقوب بن تميم الكندى وتمكنوا من الاستيلاء على القيروان ، أما فى طبنة كما يقول ابن عذارى فقد اتحد الخوارج الصفرية والإباضية على قتال الجيش العباسى تحت لواء أبى قرة الصفرى المغيلى الذى أعلن نفسه إماما وحاصروا القائد العباسى عمر بن حفص الذى استطاع أن يكسر حصارهم ويفر بحياته عائدا إلى القيروان ، ثم تفككت وحدة الخوارج الإباضية والصفرية ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها ، واستمرت القيروان للوالى العباسى (٢).

__________________

(١) انظر د. حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ٥٥ ، وابن حزم جمهرة أنساب العرب ٣٧٠ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ـ ٧٩.

(٢) انظر : النويرى المصدر السابق ج ٢٤ ، ٨١ ، والرقيق القيروانى المصدر السابق ١٤٣ ، وابن عذارى المصدر السابق ج ١ ـ ٨٨ ، وابن خلدون والعبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٤ ـ ١٩٣.


كتب عمر بن حفص إلى المنصور يطلب منه إرسال النجدات الجديدة ولكنه قتل قبل أن تصله النجدات والتعزيزات سنة ١٥٤ ه‍ / ٧٧١ م ، واحتل أبو حاتم الإباضى القيروان سنة ١٥٥ ه‍ / ٧٧٢ م ، وهكذا تمكن الخوارج من السيطرة على إفريقية وأصبح تعداد أنصارهم ما يقرب من ٠٠٠ ، ٤٠ مقاتل.

استخدم المنصور الحماس الدينى ضد الخوارج باسم الجهاد ، فأسند ولاية إفريقية ليزيد بن حاتم بن قبيضة المهلبى لما كان للمهالبة من أدوار بارزة فى محاربة الخوارج والقضاء عليهم فى العصر الأموى.

وكان يزيد بن حاتم كثير الشبه بجده المهلب بن أبى صفرة فى حروبه وكرمه ويكنى أبا خالد ، فاشتهر يزيد بن حاتم بالكفاءة والمهارة السياسية وحسن القيادة ، وكان قد تقلد لأبى جعفر المنصور عدة ولايات منها أرمينية والسند ومصر وأذربيجان (١).

وكانت أكبر الولايات التى تولاها يزيد بن حاتم هى مصر التى حكمها من ١٤٤ ه‍ إلى ١٥٢ ه‍ ، فأعد المنصور جيشا من ٥٠ ألف مقاتل بالإضافة إلى مقاتلين من الشام والجزيرة وأرسلهم إليه ، وأمره بالمسير إلى إفريقية وأنفق المنصور بسخاء على إعداد الجيش حيث بلغ ما أنفقه عليه ٦٣ مليون درهم ، وللتأكيد على أهمية الحملة رافق المنصور الجيش حتى وصل إلى مدينة القدس فى فلسطين ، وبعد عدة معارك طاحنة استطاع الوالى يزيد بن حاتم أن يقضى على معظم ثورات الخوارج بإفريقية ويقتل أبا حاتم الإباضى سنة ١٥٥ ه‍ / ٧٧٢ م بالقرب من مدينة طرابلس على حين فر بقية أصحابه إلى مناطق جبال نفوسة التى كانت تسكنها جماعات من الخوارج.

مكث يزيد بن حاتم واليا على إفريقية حوالى خمسة عشر عامّا ، تعد من أحسن فترات الولاة على إفريقية وأكثرها خيرا سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعمارية :

__________________

(١) انظر فى ذلك : ابن أبى دينار المؤنس فى أخبار أفريقية وتونس ٤٦ ، والنويرى نهاية الأرب ج ٢٤ ـ ٨٢ ، ومحمود إسماعيل عبد الرازق الأغلبية ١١ وابن الخطيب أعمال الأعلام ج ٣ ص ٨٢ ، وابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ٩٣ ، والرقيق القيروانى المصدر السابق ١٥١.


فأعاد بناء المسجد الأعظم بالقيروان ، وأعطى للفقهاء المالكية مكانة وأهمية كبيرة واعتمد عليهم فى محاربة الخوارج ، فكان يستشيرهم ويأخذ برأيهم ، مما جعل إفريقية قاعدة للمذهب السنى أو قاعدة للسنة على مذهب الإمام مالك بن أنس فى بلاد المغرب ، وهذه صبغة ذات مغزى بعيد فى تطور تاريخ المغرب الإسلامى وسنتحدث عن ذلك بالتفصيل فيما بعد (١).

ولما توفى يزيد بن حاتم تقلد ولاية إفريقية بعده ابنه داود الذى أخذ له يزيد البيعة بولاية العهد فى أثناء مرضه ، فاستمر فى الحكم تسعة شهور ونصف يحارب أمراء قبائل البربر الخوارج ، فثار عليه زعيم البربر نصير بن صالح الإباضى فبعث داود إليه أخاه المهلب بن يزيد فهزموه وقتلوه هو ومن معه من أصحابه ، فوجه إليهم داود قائده سليمان بن يزيد فى جيش يقدر ب ١٠٠٠٠ مقاتل ، فهرب البربر من أمامه ، فتتبعهم وقتل منهم أكثر من عشرة آلاف قتيل ، وظل داود مقيما فى إفريقية حتى قدم عمه روح بن حاتم ليتقلد إمارة إفريقية من قبل هارون الرشيد ، أما داود فأسند إليه هارون ولاية مصر ثم ولاية السند وظل بها حتى مات فيها.

كان روح قد تقلد عدة مناصب إدارية قبل مجيئه إفريقية منها ولاية البصرة والكوفة وطبرستان وفلسطين والسند ، وكان روح أكبر سنا من أخيه يزيد ، ولكنّ حكمه لإفريقية لم يدم ، إذ عزله الرشيد وأسند ولايتها لنصر بن حبيب المهلبى.

وعلى أى حال فقد كان آخر أمراء المهالبة لإفريقية الفضل بن روح بن حاتم الذى تولى سنة ١٧٧ ه‍ / ٧٩٣ م ولم يمكث فى حكمه إلا سنة ونصف تقريبا ، وثار عليه جند إفريقية والمغرب لاستبداده بالسلطة ، فقام عبد الله بن عبدويه الجارود قائد جند تونس ، فتمكن من الإستيلاء على السلطة وقتله سنة ١٧٨ ه‍ ـ ٧٩٤ م (٢).

__________________

(١) انظر فى ذلك : د. حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ٥٧ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ص ٨٦ ـ ٨٨ ، وابن الأبار الحلة السيراء ج ١ ص ٧٣.

(٢) انظر فى ذلك : ابن عذارى البيان المغرب ج ١ ص ٩٩ ـ ١٠٦ ، والسيد عبد العزيز سالم المرجع السابق ص ٢٧٣ ، والطبرى تاريخ الرسل والملوك ج ٨ ص ٢٧٢ ، والنويرى نهاية الأرب ج ٢٤ ص ٨٩.


وهكذا التهت رئاسة المهالبة فى إفريقية التى استمرت حوالى ربع قرن من الزمان أى من أواخر أيام أبى جعفر المنصور إلى عهد هارون الرشيد ، ذلك لأن تجربة إسناد حكم إفريقية إلى فرد بعينه مع بقائه على التبعية لدولة الخلافة كانت تجربة ناجحة ، فقد أفادت إفريقية فائدة محققة من فترة المهالبة فاستقرت خلالها الأحوال ، وعمرت المدن وبنيت المساجد واطمأن الزراع والتجار وزاد الدخل خصوصا فى أيام أكبر أولئك المهالبة وهو يزيد بن حاتم الذى حكم خمسة عشر سنة.

وبعد نهاية حكم المهالبة عادت إفريقية إلى التبعية المباشرة لدولة الخلافة وتوالى عليها ولاة بغداد ، ولكن الفوضى سادتها إذ اشتد تنافس زعماء العرب فى البلاد فى الوصول إلى السلطان فى القيروان أو الانفراد بالسلطة السياسية فى نواحيهم.

ولمّا كانت الخلافة العباسية شديدة الاهتمام بشئون ولاية إفريقية التى تشمل طرابلس وإفريقية والزاب ، والتى ذكر اليعقوبى الذى زار إفريقية فى عصر الأغالبة أن منتهى سلطة العباسيين غربا كانت حتى مدينة إربة الواقعة على المجرى الأعلى لنهر شلف ـ ولّى هارون الرشيد على إفريقية عاملا عربيا من طراز فريد فى معدنه هو هرثمة بن أعين وكان من أكبر رجال الحزب العربى فى بلاط الرشيد ، وكان شيخا مجربا فى فن الحروب وحكم الولايات (١).

حكم هرثمة بن أعين إفريقية قرابة من العامين من (١٨٠ ه‍ ـ ١٨١ ه‍ / ٧٩٦ م ـ ٧٩٧ م) وخلال هذه الفترة القصيرة ساد إفريقية هدوء واستقرار ، فعمل هرثمة على تجديد ما تخرب من المدن والموانىء والمنشأت ليعيد ثقة الناس فى الدولة العباسية ، فجدد ميناء تونس ، وأصلح مسجد القيروان ونظم الأسواق فيها ، واهتم ببناء قصور العبادة.

__________________

(١) راجع فى ذلك : د. حسين مؤنس معالم تاريخ الغرب والأندلس ص ٧٩ ، وابن عذارى : المصدر السابق ١١٠ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ص ٩٥ ـ ٩٦.


وبعد هاتين السنتين ـ كما يذكر ابن خلدون ـ رأى هرثمة بن أعين أنه قد قام بمهمته فى إفريقية فى إرساء قواعد الأمن والاطمئنان فى البلاد ، ولكن الحقيقة أنه تعب وضاقت نفسه وفضل العودة إلى بغداد ، فعاد إليها سنة ١٨١ ه‍ ـ ٧٩٧ م وأصبح من خواص هارون وأهل ثقته ، فأسند إليه منصب قائد الحرس (١).

وفى سنة ١٨١ ه‍ ولّى أمير المؤمنين الرسيد على إفريقية بعد هرثمة محمد بن مقاتل العكى (٢) ، وكان رضيع الرشيد ، وكان أبوه من كبار أهل دولته ، ولم يكن محمود السيرة فيما تولى للرشيد من ولايات ، ولذلك فإنه عندما دخل إفريقية لم يسر فى حكمها بطريقة تعجب الناس ، فاضطربت الأمور فى إفريقية ، وعلى الأخص فيما فعله مع الفقيه البهلول بن راشد بضربه بالسياط حتى مات مما أثار عليه غضب الفقهاء والعلماء وأهل إفريقية لما كان يتمتع به هذا الفقيه من مكانة ومنزلة فى نفوس أهلها ، كما اختلف عليه جنده لإنقاص رواتبهم مما جعلهم ينضمون إلى ثورة تزعمها ابن تميم التميمى (٣).

__________________

(١) انظر فى ذلك :

ابن الخطيب المصدر السابق ج ٣ ص ١١ ، وأحمد بن الضياف اتحاف أهل الزمان ج ١ ص ٩٨ ، وابن خلدون المصدر السابق ج ٤ ص ٤١٩ ، وابن أبى دينار المصدر السابق ص ٤٨. والطبرى المصدر السابق ج ٨ ص ٣٢٣ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ، والرقيق القيروانى المصدر السابق ص ٢٠٣.

(٢) وكان جعفر بن يحيى البرمكى شديد العناية بمحمد بن مقاتل العكى ، فقدم إلى القيروان سنة ١٨١ ه‍ ، وكان أبوه من كبار القائمين بالدعوة العباسية ، وحضر مع قحطبة بن شبيب حروب المارونية ، ثم قتله عبد الله بن على لما خلع وإدعى الأمر.

انظر ابن الأبار : الحلة السيراء ج ١ ص ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) هو تمام بن تميم التميمى جد أبى العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام صاحب كتاب طبقات إفريقية وهو ابن عم إبراهيم بن الأغلب صاحب إمارة الأغالبة ، خرج تمام بتونس على محمد بن مقاتل العكى والي إفريقية واستطاع دخول القيروان فى رمضان سنة ١٨٣ ه‍ ، فنهض إبراهيم بن الأغلب الذى كان فى ذلك الوقت حاكم الزاب لنصرة محمد بن مقاتل العكى ، فكتب تمام إلى إبراهيم بن الأغلب كتابا يستدعيه ويستعطفه ، وقد وصف لنا ابن الأبار كيفية استقبال تمام كتاب إبراهيم ومدى الخوف والرعب الذى نزل به نقلا عن فلاح الكلاعى أنه قال («كنت عند تمام يوم قرأ كتاب إبراهيم ، فذهب لونه ثم ارتعد حتى سقط الكتاب من يده») وكان تمام مشهورا بالصرامة والشجاعة


وسادت البلاد الفوضى ووقعت الحروب بين زعماء الجند ، وفى هذه الظروف برز إبراهيم بن الأغلب على مسرح الأحداث السياسية فى إفريقية.

__________________

ـ قال أبو العرب عن جده («تمام بن تميم هذا هو جدنا ، وهو ابن القادم من المشرق ، وتوفى سنة سبع وثمانين ومائة ببغداد») وذكر فى كتاب المغرب ، فى أخبار المغرب : أن إبراهيم بن الأغلب لما صار الأمر إليه بعث به وبجماعة معه من وجوه الجند الذين كان شأنهم الوثوب على الأمراء إلى الرشيد ، فأما تمام فإنه حبس إلى أن مات فى حبسه. وهناك رواية حكيت أن الرشيد وعد أخاه سلمة بن تميم بإطلاق صراح تمام ، فلما بلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب كتب إلى عمته وهى ببغداد فى سمه ، فاشتهى تمام حوتا فسمته له فمات من أكله بعد أن ذهب بصره فعلم الرشيد بذلك فترحم عليه ويوجع له ، وأحسن إلى سلمة أخيه وصرفه إلى إفريقية.


الحياة الاجتماعية فى إفريقية

حتّى قيام دولة الأغالبة

أما عن الحياة الاجتماعية فى إفريقية قبل قيام دولة الأغالبة فيجدر بنا أن نأتى بنبذة عن تاريخ انتشار الإسلام فى إفريقية لكى نتبين كيف تم هذا العمل العظيم من أيام المهالبة وحتى قيام العصر الأغلبى فنجد إفريقية بلدا إسلاميا عربيا يعيش فيها العرب والبربر المستعربون كما كان يعيش فيها قلة من الروم.

١ ـ الروم : وهم البيزنطيون الذين وجدوا فى البلاد إذاك وكانوا حكام البلاد ، ومع الفتح العربى اختفى معظمهم ولم يبق منهم إلا جماعات قليلة كانت تقيم على السواحل ومدنها وخاصة قرطاجنة وكذلك فى بعض بلاد الجريد ، وأغلبهم اعتنقوا الإسلام وذابوا فى سكان البلاد إلا من هاجر منهم إلى صقلية وغيرها من بلاد الجنوب الأوربى.

٢ ـ البربر : وهم سكان البلاد الأصليون ويقسمون إلى طائفتين : طائفة البربر الحضر المعروفين بالبرانس الذين يسكنون النواحى الخصبة والسفوح المزروعة ، وهؤلاء يعملون بالزراعة والصناعة ، نتيجة لاتصالهم بحضارة القرطاجيين واللاتينيين والبحر المتوسط ، وطائفة البربر البدو المعروفين بالبتر الذين يقيمون فى الصحارى والواحات وهؤلاء يعيشون على الرعى ويميلون إلى الإغارة على ما يجاورهم من نواحى العمران (١)

٣ ـ الأفارقة أو الأفارق : فهم أخلاط من الناس كانوا يسكنون النواحى الساحلية حيث يعملون بالزراعة والصناعة ، وقد ذكر ابن عبد الحكم فى تاريخه عنهم قوله : «وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم».

__________________

(١) راجع فى ذلك : د. السيد عبد العزيز سالم المرجع السابق ص ٣٣٣ ، ود. حسين مؤنس فتح العرب للمغرب ص ٢٨٤ ، ود. حسين مؤنس أيضا فى تاريخ معالم المغرب والأندلس ص ٢٣.


أما العنصر العربى فقد دخل مع مطلع الفتوحات الإسلامية لبلاد المغرب ، فالعنصر العربى دخل بلاد المغرب فى صورة جيوش فاتحة ، وقد استقر رجال هذه الجيوش فى نواحى المغرب كله بعد إتمام الفتح ، ولحقت بهم جماعات أخرى من الجند والمهاجرين العرب مع استمرار حركة الفتح ، وكانت نتيجة ذلك قيام مجتمعات عربية صغيرة معظمهم فى المدن والمعسكرات ، ومن هذه المراكز بدأوا ينتشرون فى نواحى البلاد ، ولحقت بهم جماعات من المهاجرين غير العسكريين أو غير الرسميين ، وهؤلاء جميعا تكون منهم ما يعرف بالعرب البلديين (١) أى عرب إفريقية فهم الذين استقروا فيها واعتبروها وطنا لهم دون أن يتخلوا عن عروبتهم ، فكانوا يتمسكون بأصولهم القبلية ويتحدون ضد الجند العربى الذى كانت ترسلهم الحكومة المركزية لإقرار الأمن فى البلاد ، وقد عرف هؤلاء الجند العربى بالشاميين لا لأنهم جميعا من أهل الشام ، بل لأنهم كانوا يأتون من الشام وهى قاعدة الحكم فى العصر الأموى.

ومن الواضح أن الجند العربي كان يتحول الكثير من رجالهم إلى عرب بلديين نتيجة للاستقرار فى البلاد ومخالطة أهلها ، وبهذه الطريقة كانت أعداد البلديين تتزايد بصورة مستمرة حتى نهاية العصر الأموى مما جعل غالبية هؤلاء البلديين ـ مع أنهم العنصر الهام للسلطان ـ يتحولون بمرور الزمن وتعاقب الأجيال إلى عرب إفريقيين ، ومن بينهم ظهر كبار الفقهاء والعلماء أمثال بهلول بن راشد وعبد الرحمن بن حبيب الفهرى وأسد بن الفرات وحبيب بن سعيد وأخيه سحنون وغيرهم ، ومع تخطيط عقبة بن نافع الفهرى لمدينة القيروان ٥٠ ه‍ ـ ٥٥ ه‍ بدأت فى إفريقية حركة التعرب بانتشار الإسلام واللغة العربية وعلوم الفقه والحديث ، حيث دخل نفر من البربر الإسلام ، وقد ذكر ابن خلدون أسماء القبائل البربرية التى اشتركت فى بناء القيروان واعتنقت الدين الإسلامى وهى لواته ونفوسه ونفراوة (٢).

__________________

(١) ابن عبد الحكم فتوح مصر والمغرب ١٨.

(٢) ابن خلدون العرب من ديوان المبتدأ والخبر ج ٦ ص ٤.


وقد دخل فى عهد حسان (١) بن النعمان ـ واضع أسس النظم الإدارية فى بلاد المغرب ـ عدد كبير من البربر فى الإسلام على الرغم من أن هذه الفترة كانت فترة حروب الفتح والمعارك الطاحنة بين البربر والعرب الفاتحين ، قتل فيها من القواد عقبة بن نافع وابن أبى المهاجر وزهير بن قيس إلا أن بعض القبائل البربرية دخلت الإسلام مثل قبيلة أوربة.

وبإيعاز من عبد العزيز بن مروان تولّى بعد حسان موسى بن نصير (٢) ، وكان يريد فتح المغربين الأوسط والأقصى ، ولكن إتبع فى ذلك أساليب عنيفة ، فنفر كثير من البربر ، فقد وجه موسى همه إلى غزو القبائل البربرية والحصول على المغانم وإرسال عدد كبير من السبى إلى دمشق إرضاء للخليفة الأموى ، وكان لذلك أثر سىء فى نفوس البربر.

ثم تولى عمر بن عبد العزيز خلافة الدولة الأموية وكانت سياسته تهدف إلى نشر الإسلام وإدخال الناس فيه من أهل البلاد المفتوحة بالرفق والحسنى والدعوة إلى الإسلام ، فكانت أول خطوة اتخذها نحو ولاية إفريقية أن أسندها إلى إسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر بدلا من محمد بن يزيد القرشى الذى تقلدها من قبل سليمان بن عبد الملك ، والمعروف عن محمد بن يزيد أن أسرته لم تكن محمودة نتيجة لما ارتكبه من أخطاء فى حق أهل إفريقية مما أدى إلى ثورة البربر عليه وقتله (٣).

__________________

(١) وهو أول أمير شامى يدخل إفريقية أيام الأمويين ، وكان يلقب بالشيخ الأمين ، وقيل إن الخليفة أطلق فى يده خراج مصر أثناء فتح بلاد المغرب ، وقيل عنه : لو امتدت ولاية حسان لجنى المغرب على يديه كثيرا من الخير.

راجع فى ذلك ابن أبى دينار : أخبار إفريقية وتونس ١٧ ، والمالكى : رياض النفوس ج ١ ص ١١ ، ود. حسين مؤنس : فتح الرب للمغرب ص ٢٣٩.

(٢) لما أراد والى مصر عبد العزيز بن مروان الانتقام من حسان بن النعمان لمكانته الحربية عند الخليفة عبد الملك بن مروان ، فأمر أخاه بعزله وإسناد مهمة الفتح لأحد خواصه وثقته وهو موسى بن نصير ، فقد قيل عنه إنه نهب خراج ولاية البصرة ، أما عن أبيه نصير فكان يعمل فى خدمة وحراسة معاوية ابن أبى سفيان.

انظر : محمد زينهم محمد عزب ، الإدارة المركزية للدولة الأموية ـ رسالة ماجستير ص ٦٧.

(٣) ابن الأثير الكامل فى التاريخ ج ٥ ص ٥٥ ، وابن الأبار المصدر السابق ج ٢ ص ٣٣٥ ، والسيوطى تاريخ الخلفاء ص ٢٤٧ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٢ ص ٨٣.


اتفقت المصادر والمراجع على أن إسماعيل بن عبيد الله «دعا من بقى من البربر إلى دين الإسلام (١)» وأنه «كان خير أمير وخير وال ، وما زال على دعاء البربر إلى الإسلام حتى أسلم منهم عدد عظيم فى دولة عمر بن عبد العزيز ، وهو الذى علم أهل إفريقية الحلال والحرام (٢) ، وأنه «لم يزل حريصا على دعاء البربر للإسلام حتى تم إسلامهم على يده (٣)».

طلب عمر بن عبد العزيز (٤) من واليه الجديد أن يبذل كل جهده فى سبيل نشر الإسلام بين البربر ، وقد وصف الدباغ (٥) هذا الوالى بأنه «كان فقيها ، صالحا ، فاضلا ، زاهدا» وكان عمر بن عبد العزيز قد أرسل إسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر ومعه عشرة من التابعين ، وهؤلاء التابعون هم : أبو عبد الرحمن بن يزيد المعافرى (٦) الإفريقى ، وأبو مسعود سعيد بن مسعود التجيبى (٧) وإسماعيل بن عبيد الأنصارى (٨) ، وأبو الجهم

__________________

(١) ابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ٣٤.

(٢) السلاوى الاستقصاء ج ١ ص ٤٦.

(٣) د. حسين مؤنس المرجع السابق ص ٢٩٦.

(٤) ابن عبد الحكم سيرة عمر بن عبد العزيز ص ٥٧.

(٥) الدباغ معالم الإيمان ج ١ ص ١٥٤.

(٦) شهد فتح الأندلس مع موسى بن نصير ثم سكن القيروان واختط بها دارا ومسجدا فى ناحية تونس.

مات سنة ١٠٠ ه‍ بالقيروان.

انظر ترجمته فى : ابن الحجر : تهذيب التهذيب ج ٦ ص ٨١ ، ابن حيان ، مشاهير علماء الأمصار ص ١٢١ ، المالكى : رياض النفوس ج ١ ص ٦٤ ، البخارى ، التاريخ الكبير ج ٣ ص ١ ، الدباغ : معالم الإيمان ج ١ ص ١٨٠ ـ ١٨١.

(٧) سكن القيروان وكان رجلا صالحا ، عالما مشهورا بالدين والفضل ، قليل الهبة للملوك ، توفى بالقيروان.

له ترجمة فى : أبو العرب : طبقات علماء إفريقية ٢١ ، الدباغ : المصدر السابق ج ١ ص ١٨٤ ، ابن أبى حاتم : الجرح والتعديل م ٢ ج ١ ص ٩٤.

(٨) من أهل الفضل والعبادة والنسك ، كثير الصدقة والمعرفة مع الفقه والعلم ، سكن القيروان وبنى بها مسجدا كبيرا فى الزيتونة.

راجع ترجمته فى رياض النفوس للمالكى ج ١ ص ٦٩ ، وعند ابن الحجر : تهذيب التهذيب ج ١ ص ٣١٨ ، وأبو العرب : المصدر السابق ٢٥.


عبد الرحمن بن رافع التنوخى (١) وأبو سعيد جعثل بن هاعان بن عمير الرعينى (٢) ، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر المخزومى (٣) ، وحيان بن أبى جبلة القرشى (٤) ، وعبد الله بن المغيرة بن أبى بردة الكنانى (٥) ، وموهب بن حبى المعافرى (٦) وطلق بن جابان الفارسى (٧).

بدأ هؤلاء التابعون فى تعليم البربر وأولادهم أصول وقواعد وتعاليم الدين الجديد ، ويبدو أن أهل إفريقية أقبلوا على الإسلام بنفس راضية لما وجدوا فيه من سماحة ومساواة وعدالة ، وتركوا ما يخالف عقيدة الإسلام (٨) ، وقال ابن عذارى «وكانت الخمر بإفريقية

__________________

(١) هو من أول قضاة القيروان ، ثقة ، ومن فضلاء التابعين مات سنة ١١٣ ه‍ انظر الخزرجى : خلاصة تهذيب الكمال ٩٢ ، الذهبى : ميزان الاعتدال ج ٢ ص ١٠٣ ، المالكى : المصدر السابق ج ١ ص ٧٢ ، ابن الحجر : المصدر السابق ج ٦ ص ١٨٦ ، البخارى : المصدر السابق ج ٣ ص ١ ، ابن حيان : المصدر السابق ص ١٢١.

(٢) كان فقيها صالحا ، ولاه هشام بن عبد الملك قضاء جند إفريقية وهو أحد القراء التابعين ، توفى سنة ١١٥ ه‍.

انظر المالكى ، المصدر السابق ج ١ ص ٧٢ ، ابن الحجر : المصدر السابق ج ٢ ص ٧٩.

(٣) كان فقيها صالحا ، فاضلا زاهدا ، تقلد منصب القضاء فى إفريقية ، أسلم على يديه عدد كبير من عامة البربر ، توفى سنة ١٢٢ ه‍.

له تراجم فى ، ابن الأبار : الحلة السيراء ج ٢ ص ٣٣٥ ، البخارى : المصدر السابق ج ١ ص ٣٣٦ ، ابن حيان : المصدر السابق ١٧٩ ، أبو العرب المصدر السابق ٢٠.

(٤) كان من أهل الفضل والدين ، سكن القيروان وانتفع أهلها بعلمه توفى سنة ١٢٥ ه‍.

انظر : المقرى : نفح الطيب ج ٢ ص ٥٣ ، ابن حجر : المصدر السابق ج ٢ ص ١٧١ ، المالكى المصدر السابق ج ١ ص ٧٣ ، ابن أبى حاتم : المصدر السابق م ١ ج ٢ ص ٢٤٨.

(٥) كان من فضلاء التابعين وأهل الورع ، تقلد قضاء القيروان لسليمان بن عبد الملك.

له ترجمة فى : الخشى : طبقات علماء إفريقية ٢٣٤ ، المالكى : المصدر السابق ج ١ ص ٨١.

أبو العرب : المصدر السابق ٢٢ ، ابن أبى حاتم المصدر السابق م ٢ ج ٢ ص ١٧٥.

(٦) كان من فضلاء التابعين ، سكن القيروان ، ونشر فيها علمه الغزير.

له ترجمة فى : البخارى : المصدر السابق ج ٤ ص ٢ ، الدباغ : المصدر السابق ج ١ ص ٢١٣.

(٧) كان فقيها عالما صالحا وهو من أهل مصر ، سكن القيروان ومات بها.

انظر المالكى : المصدر السابق ج ١ ص ٧٦ ، أبو العرب : المصدر السابق ٢٠ ، الدباغ : المصدر السابق ج ١ ص ٧٥.

(٨) د / حسين مؤنس فتح العرب للمغرب ٢٩٦.


حلال حتى وصل هؤلاء التابعون فبينوا تحريمها رضى الله عنهم» (١).

ونلاحظ أن معظم هؤلاء التابعين كانوا يقيمون فى القيروان ولذلك كثر بناء المساجد التى كانوا يعلمون فيها الناس قواعد الإسلام ، وكان البربر يفدون على هذه المساجد فيستمعون إلى الدروس التى كانت تلّقى فيها ، وعلى أيدى هؤلاء التابعين بنيت عدة مساجد نذكر منها مسجد الرباطى الذى بناه أبو عبد الرحمن الحبلى عبد الله بن يزيد المعافرى الإفريقى ، وجامع الزيتونة الذى بناه إسماعيل بن عبيد الله الذى اشتهر بلقب تاجر الله.

وبفضل هؤلاء التابعين وضعت أول بزور العلم والفقه الإسلامى حيث تتلمذ على أيديهم الطبقة الأولى من علماء إفريقية أمثال أبى كريب المعافرى وعبد الله بن عبد الحكم البلوى وأبى خالد عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافرى وأبى محمد خالد بن عمران التجيبى وسعيد بن لبيد المعافرى وأبى زكريا يحيى بن سلام وغيرهم.

وكان هؤلاء المتعلمون من أهل إفريقية يقضون بعض الوقت للدراسة فى القيروان ثم يعودون إلى قبائلهم ونواحيهم فيتقلدون وظائف القضاء والدين ويعلمون الناس أصول ومبادىء الإسلام ، فقد ذكر فى سيرة أسد بن الفرات بن سنان أن أباه قدم إلى إفريقية وأمه حامل به ، فولد أسد بتونس سنة ١٤٥ ه‍ وقرأ على علىّ بن زياد (٢).

والشىء الملفت للنظر فى تلك الفترة أن العرب لما نزلوا إفريقية كانوا شديدى الاهتمام والحرص على أن يتخذوا لأبنائهم الكتاتيب الصغيرة الملحقة بالمساجد ليدرسوا فيها القرآن والحديث والدين واللغة العربية ، ويعجبنى قول الأستاذ الكبير حسن حسنى عبد الوهاب فى تعليقه على هذه الظاهرة : «إنهم عند ما أناخوا بمعسكرهم وخطوا قيروانهم ، أنشأوا

__________________

(١) ابن عذارى البيان المغرب ٢ / ٣٤.

(٢) المالكى رياض النفوس ج ١ ص ٦٥ ـ ٦٦ ، وص ١٠٧ ـ ١٠٨ ، والدباغ المصدر السابق ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٤٨. د / حسين مؤنس المرجع السابق ص ٢٩٦ ، وابن الأبار الحلة السيراء ج ٢ ص ٣٨٠.


الدور والمساجد ، ثم التفتوا إلى تعليم صبيانهم ، فاتخذوا لهم محلا ـ كتّابا ـ بسيط البناء يجتمعون فيه لقراءة كتاب الله العزيز (١)».

ومع قيام الخلافة العباسية لم يجد العنصر العربى سواء أكانوا قيسية أم يمنية فى إفريقية سندا من الدولة العباسية حيث وفدت عناصر جديدة من الخراسانيين فى الحملات التى كان يبعثها العباسيون من وقت لآخر لبلاد إفريقية.

صحيح أنه حدثت فى بداية الأمر اضطرابات وصدامات مباشرة بين الجند العربى والخراسانى مما هدد بقاء السلطة العباسية فى إفريقية وكانت السبب مقتل محمد بن الأشعث الخزاعى ، ولكن بمرور الوقت اندمج العنصر العربى الخراسانى بأهل البلاد الأصليين (البربر) عن طريق المصاهرة ، فقد برز من العنصر الخراسانى عدد من الفقهاء والعلماء كان لهم دورا هامّا فى حدوث نهضة فقهية وعلمية فى إفريقية من أمثال محمد بن عبدوس.

ولكن من كان يقلق بال الدولة العباسية فى إفريقية هم الخوارج بشتى مذاهبهم ؛ لأن الخوارج كانوا من العوامل الرئيسية فى إسقاط الحكم الأموى ، مما دعا الخليفة المنصور أن يطلق يد ولاة مصر من أجل القيام بالحملات المتوالية للقضاء على الخوارج فى المغرب ، ومثال ذلك حملة محمد بن الأشعث التى تكلفت أموالا باهظة ، ونجح هذا الوالى فى قتل زعيم الخوارج الإباضية ، وهو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح بن مالك المعافرى ، ولكن سرعان ما استولى أبو حاتم الإباضى على القيروان ، وانتصر على واليها العباسى محمد بن الأشعث وقتله.

واستمرت مشكلة الخوارج تثير مخاوف وذعر بنى العباس ، فكان المنصور يرسل الحملة وراء الحملة ، وأخيرا أسند هذه المهمة للمهالبة الذين برعوا منذ العصر الأموى بقدراتهم فى التصدى للخوارج (٢).

__________________

(١) حسن حسنى عبد الوهاب ورقات القسم الأول وكذلك أداب المعلمين ص ٩.

(٢) ابن الأبار المصدر السابق ج ١ ص ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ، والمالكى المصدر السابق ج ١ ص ٣٦٠ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ص ٧٢.


وقد أنجز المهالبة هذه المهمة حيث ترك الخوارج منطقة إفريقية واتجهوا إلى مناطق أخرى فى بلاد المغرب فأسس بنو مدرار دولتهم فى سلجماسة (وأصلهم من البربر) ١٤٠ ه‍ ـ ٧٥٧ م وبنو رستم الإباضية فى المغرب الأوسط (ويقال إن أصلهم فارسى)

ففى فترة المهالبة هذه ظهر تعاطف البربر مع العباسيين فى تصديهم للخوارج وهذا يرجع لدور الفقهاء ، والمعلمين والتابعين الذين يمثلون المذهب السنى شعار دولة بنى العباس إلى جانب الكتاتيب الصغيرة العلمية ، والمساجد التى يلقى فيها الدروس عن مساوىء الخوارج ومذاهبهم المدمرة للإسلام أى ما نطلق عليه اليوم بالتوعية الدينية.

وتعتبر فترة المهالبة هذه من فترات الرخاء والاستقرار والهدوء التى عاشتها إفريقية خاصة فترة يزيد بن حاتم المهلبى ، إذ برع يزيد بن حاتم فى قيادة ولاية إفريقية قيادة حسنة حيث قام بعدة إنجازات ، وأعمال شهد له بها المؤرخون والرواة ، من أهمها ـ كما ذكرنا ـ قضاؤه على ثورات الخوارج فلم نسمع فى عهده عن قيام ثورة ، أو تمرد خارجى من جانب الخوارج ، كما اهتم بالبناء والعمارة فبنى المسجد الأعظم بالقيروان ، كما اهتم أيضا بالفقهاء والعلماء والشعراء ، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر عبد الرحمن بن زياد بن أنعم والبهلول بن راشد وابن فروخ (١).

١ ـ قيام دولة الأغالبة : (١٨٤ ـ ٢٩٦ ه‍ ـ ٨٠٠ م).

ووسط كل هذه الظروف التى ذكرناها فى الفصل السابق ظهر «إبراهيم بن الأغلب» على مسرح الحياة السياسية فى بلاد إفريقية فقد قيل كان ظهوره نتيجة خدمته فى جيوش بنى المهلب (٢) ، وقد ذكر «ابن الأثير» أن إبراهيم بن الأغلب كان بولاية الزاب سنة

__________________

(١) د / محمود إسماعيل عبد الرازق المرجع السابق ص ١١٢ ، وابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ٦٧ ، وحسن حسنى عبد الوهاب ورقات القسم الأول ص ٦٨ والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ص ٨٦ ـ ٨٧.

(٢) ابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ١١٢.


١٨٠ ه‍ ، وأنه لاطف «هرثمة بن أعين» وقدم له الهدايا فولاه ناحية الزاب ، وكانت بلاد الزاب منزل الكثير من التميميين قوم ورهط بنى الأغلب ، فكانت سندا قويا لإبراهيم بن الأغلب فيما بعد (١).

وعندما خلع الرشيد هرثمة بن أعين من ولاية إفريقية بدأ إبراهيم بن الأغلب يتطلع إليها بشغف ، وهناك ظروف وأسباب مهدت له الطريق للوصول إلى هذه الولاية ، فمنها أن الوالى «محمد بن مقاتل العكى» أساء معاملة جنده ، وقطع عنهم رواتبهم كما ذكرنا ، فثاروا عليه وناصبوه العداء إلى جانب انقلاب أهل القيروان عليه نتيجة علاقته مع البيزنطيين فى صقلية ، فقد قيل إنه لاطفهم عن طريق إرسال النحاس والسلاح والجلود والهدايا الثمينة إليهم.

وليس لدينا ما يثبت ذلك ولكن على أى حال شاع هذا الأمر بين الناس ، وقد حذره الفقيه بهلول بن راشد من إرسال هذه المواد التى تعتبر موارد عسكرية إلى أعداء الدين ، وهذا يدل على أن الفقهاء لم يقتصر عملهم على الناحية الدينية فحسب ، بل كانت لهم مواقفهم القومية (٢).

وفوق ذلك كله كانت براعة إبراهيم بن الأغلب فى القضاء على ثورة تمام بن تميم الذى بث الذعر والخوف والرعب لأهل إفريقية كلها حيث استعان إبراهيم بأهل إفريقية ، وهذه ميزة من ميزات الأغالبة عن أسرة آل طولون ، وقد اختلف الرواة والمؤرخون حول الدوافع والأسباب التى جعلت الخليفة هارون الرشيد يوافق على إسناد ولاية إفريقية لإبراهيم بن الأغلب ، فقد ذكر لنا «ابن الأبار» أن حصول إبراهيم على هذه الولاية كانت نتيجة نجاحه فى الكيد للأدارسة (٣).

__________________

(١) ابن الأثير الكامل فى التاريخ ج ٦ ص ١٥٤.

(٢) الرقيق القيروانى المصدر السابق ٢٠٥ ، ومحمود إسماعيل عبد الرازق الأغالبة ٢٢.

(٣) انظر : النويرى نهاية الأرب ج ٢٤ ص ٩٩. وابن الأبار الحلة السيراء ج ١ ص ٩٩. والأدارسة نسبة إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن الذى فر إلى المغرب الأقصى بعد انهزام إخوته فى موقعة الفخ بمكة سنة ١٦٩ ه‍ وتمكن من الإفلات من الموت مع مولاه راشد إلى مصر ، ومنها إلى الطرف الغربى من العالم الإسلامى حيث استقر ببلدة «ليلى» قاعدة جبل زرهون فى سنة ٧٢ ه‍ ، وبايعه ، بربر أوربة بالإمامة ونجح فى تأسيس دولة شيعية فى هذا الصقع من بلاد المغرب ، ثم انضمت إليه قبائل أخرى


بينما ذكر النويرى «أن الرشيد قلده إياها نتيجة لما فعله مع «محمد بن مقاتل العكى» فى مساعدته فى القضاء على ثورة تمام التميمى وهناك رأى آخر يقول : «إن تنازل «إبراهيم بن الأغلب» عن الإعانة السنوية التى كانت تجلب له من مصر وتقدر بمائة ألف دينار ، وتعهده بدفع أربعين ألف دينار سنويا للخلافة العباسية جعلت هارون يستجب ، ويرحب بتقلده ولاية إفريقية (١)».

وقيل إن صاحب البريد «يحيى بن زياد (٢)» له الفضل فى تقلد إبراهيم إفريقية ، حيث كان يطلع الخليفة هارون بأمور وأحوال هذه الولاية وبإخلاص وكفاءة إبراهيم السياسية والحربية.

كما يذكر الدكتور حسين مؤنس (٣) بأن سياسة الرشيد كانت تهدف إلى تأمين ولاية أفريقية ، لأنها كانت كل ما بقى لدولة بنى العباس فى الجناح الغربى لدولة الإسلام ، وقد سبق أن ذكرنا أن حدود دولة بنى العباس وقفت عند نهر شلف الفاصل بين ولاية إفريقية والمغرب الأوسط ، ولهذا فعندما أيد هرثمة بن أعين فكرة تولية إبراهيم بن الأغلب أمور إفريقية ، ومنحه استقلالا محليا طبقا للشروط السابق ذكرها وافق الرشيد على ذلك ، وأصبحت ولاية إفريقية فى بيت إبراهيم بن الأغلب (٤).

__________________

منها زواغة وسدرنة وغياثة ومكناسة وغمارة. تطلع إدريس بن عبد الله إلى توحيد المغرب ، وكان من الطبيعى أن يخشى الخلفاء العباسيون من مطامع الأدارسة فى المغرب ومصر ، فاستجاب الرشيد لطلب إبراهيم بن الأغلب حتى تكون دولة الأغالبة فى المغرب الأدنى حاجزا بين البلاد الخاضعة للدولة العباسية وبلاد الأدارسة فى المغرب الأقصى الذين كانوا يتطلعون إلى فصل المغرب عن بقية العالم الإسلامى ، بل كانوا يهدفون إلى توحيد المغرب والمشرق العربيين تحت قيادتهم.

وقد أورد الأستاذ الدكتور «أحمد مختار العبادى» نصا لرسالة وجهها إدريس بن عبد الله إلى المصريين يمكن أن نستنتج منها مدى اتصال الأدارسة بأهل مصر.

ابن الخطيب : أعمال الأعلام ج ٣ ص ١٧ ، ابن عذارى : البيان المغرب ج ١ ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(١) النويرى نهاية الأرب ج ٢٤ ص ١٠٠ ـ ١٠١ ، وابن خلدون العبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٤ ص ١٩٦.

(٢) السلاوى الاستقصا ج ١ ص ١٤٧.

(٣) د / حسين مؤنس فتح العرب للمغرب.

(٤) كانت أم هارون الرشيد هى الخيزران البربرية من المغرب ، فنشأ محبا للعرب.

انظر : محمد على دبوز : تاريخ المغرب الكبير ج ٣ ص ١٣١.


صفوة القول إن كل الأحداث التى مرت بها المغرب ج علت الخلافة العباسية تفكر فى إسناد هذه الولاية لرجل يتميز بصفات القدرة على الحكم والولاء للدولة والإخلاص للبيت العباسى ، والذى شجع العباسيين على إسناد هذه الولاية لإبراهيم بن الأغلب تلك التجربة السابقة مع المهالبة ، وهم بيت من الحكام طالت ولايتهم واحدا بعد واحد على إفريقية فى طاعة الدولة العباسية ، لأن بنى العباس كانوا يرون إفريقية عبئا كبيرا عليهم ، ويريدون أن يطمئن بالهم عن ناحيتها خاصة أنها كانت تكلفهم الكثير من المال ، فإذا عرض عليهم أحد رجالهم القادرين أن يحمل عنهم عبء إفريقية مع بقائه على طاعتهم وحفظ الأمن فى الولاية دون أن يكلفهم مالا. فكان من الطبيعى أن يرحبوا بمثل هذا العرض فما بالنا بإبراهيم بن الأغلب الذى عرض فى هذه الصفقة أن يتنازل عن مبلغ مائة ألف دينار كانت مصر ترسلها معونة لوالى إفريقية ، وهذا المبلغ سيئول إلى خزانة الدولة العباسية فى هذه الحال ، لكل هذا وافقت الدولة العباسية على جعل ولاية إفريقية فى بيت إبراهيم بن الأغلب مع البقاء على الطاعة والولاء.

واستطاع إبراهيم بن الأغلب أن يحقق التزاماته نحو الخلافة فكوّن قوة عسكرية كبيرة من البربر المستعربة الذين عملوا كجند فى الجيش الأغلبى كما استكثر إبراهيم بن الأغلب من الصقالبة و «هم جند من أصل أوربى كانوا يشترون صغارا من تجار الرقيق الذين يجلبونهم من أوربا ، وكانوا يربّون تربية عربية إسلامية ليكونوا بعد ذلك جندا وخدما للدولة فى القصور والوظائف» ، وكما أضاف إليهم بعد ذلك قوة من السود (١)

كذلك كوّن إبراهيم بن الأغلب قوة بحرية هائلة مكنت الأغالبة بعد ذلك من غزو صقلية ومالطة والسواحل الإيطالية ، ولم يطمئن على حكمه إلا بعد أن تم له إنشاء كل هذه القوات خلال السنوات الأولى من حكمه لإفريقية ، كما أقام إبراهيم الخطبة لبنى العباس على المنابر ، ورفع شعار بنى العباس ، ودفع الخراج المقرر عليه وهو أربعون ألف دينار ،

__________________

(١) د / السيد عبد العزيز تاريخ المغرب فى العصر الإسلامى ٣٣٤ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ص ١٠٢.


ونقش اسم الخليفة على السكة ، وشيد مدينة جديدة أطلق عليها العباسية (القصر القديم) تمجيدا لهم وهى تقع على بعد ثلاثة أميال جنوبى القيروان ، وفى عهد إبراهيم بن الأغلب ثار بتونس رجل من كبار رجالات العرب يسمى حمد يس ونزع السواد شعار بنى العباس ، فأرسل إبراهيم قائده عمران بن مجالد فى جيش كبير للقضاء على حركته ، فالتقى عمران معه فى معركة قرب تونس انهزم فيها حمد يس وأنصاره ، وقتل منهم نحو عشرة آلاف مقاتل ، وتمكن عمران من دخول تونس ، وبرغم أن عهد ابن الأغلب لم يخل من الثورات والفتن ولكنها كانت لا تقاس بالثورات التى كانت تضطرم فى إفريقية فى العهود السابقة ، على أى حال تمكن إبراهيم بن الأغلب بفضل ما لديه من كفاءة وشجاعة وذكاء وقوة مؤيديه من الجماعات اليمنية والقيسية من أن يقيم دولة جديدة تمثل الدولة العباسية فى بلاد إفريقية (١).

وكان لتربية إبراهيم بن الأغلب الدينية أثر كبير فى ثقافته الظاهرة ، فقد كان حافظا للقران الكريم ، فقيها عالما مؤيدا لمذهب أهل السنة ، كثير الزيارات لشيخه الذى تتلمذ على يديه وهو الليث بن سعد الفهمى الذى وهب لإبراهيم جارية تدعى جلاجل ، وهى أم ولده زيادة الله ، كما كان شاعرا خطيبا ذا رأى وحزم وبأس وعلم بالحروب والمكايد ، وهذا هو ما قرب بينه وبين الفقهاء من أهل الدين ، وهذا بدوره أكسبه تأييد الناس فاتخذ من الفقهاء مستشارين له كانوا خير عون له فى ضبط أمور الدولة ، ودفعها إلى طريق العلم والحضارة والرقى.

ووسط هذا الجو الذى كان يحمل الهدوء والاستقرار برز عدد كبير من العلماء والفقهاء الذين لعبوا دورا هامّا فى النهضة الفكرية للمذهب المالكى السنى ، كما تصدوا للخوارج

__________________

(١) د / أحمد مختار العبادى سياسة الفاطميين نحو المغرب والأندلس ١٩٦ ـ مجلة كلية الآداب ـ جامعة الإسكندرية ، العدد ١ ، ٢ ، ١٩٥٧ والقلقشندى صبح الأعشى ج ٥ ص ١٢٠ ، وابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ١١٧ ، وابن خلدون المصدر السابق ج ٤ ص ٤١٩ ، والسيد عبد العزيز سالم المرجع السابق ٢٨٩ ، وسعد زغلول عبد الحميد تاريخ المغرب العربى ج ٢ ص ٢٨.


الذين كانوا يشكلون خطرا على كيان أهل السنة ، وخطرا على السلطان لبنى العباس فى إفريقية قبل قيام دولة الأغالبة وبعدها (١).

٢ ـ الحضارة والعمران :

ذكرنا ـ من قبل ـ أن فترة الأغالبة فى إفريقية تعتبر من أمجد فترات تاريخها كما يروى المؤرخون ، فقد دامت هذه الفترة أكثر من قرن من الزمان ساد فى أثنائها الاستقرار السياسى النسبى لبلاد إفريقية ، وكان للمذهب السنى وشيوخه نصيب كبير فى إقامة وتثبيت دعائم هذا الاستقرار ، فقد تمكن الفقهاء بمعاونة أمراء الأغالبة من إخراج الخوارج من بلاد إفريقية ، فلم يعودوا يعيشون إلا فى جبل نفوسة جنوب ولاية طرابلس من أملاك الأغالبة ، أما طرابلس نفسها فقد كانت سنية يسودها الفقه المالكى ، وعند ما أقام الخوارج الإباضية دولة لهم أقاموها خارج بلاد الأغالبة فى إقليم تاهرت ، وهو الجزء الغربى من المغرب الأوسط (٢).

إن قيام دولة الأغالبة جعل لإفريقية وأهلها شخصية مميزة وفريدة تختلف كل الاختلاف عن بقية بلدان المغرب ، فكانت المدن والقرى الإفريقية محطات ومراكز العلم والشيوخ والتجار ، فنهضت حركة العمران والإنشاء إلى جانب الزراعة والرعى ، وكانوا ينتقلون من مكان إلى آخر ، واحتلت تونس بخطواتها السريعة هذه محل مدينة قرطاجنة فهى تشتمل على معالم الحياة من مبانى وأسواق ودار صناعة للسفن التى أنشأها حسان بن النعمان ، ومن جاء بعده من الولاة والحكام الأغالبة ، مما جعل العرب من سكان إفريقية يصابون بالغرور والكبرياء والتمرد على الحكام فى القيروان (٣).

__________________

(١) ابن أبيك الدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية ج ٦ ص ٢٣ ـ ٢٥ ، والباجى المسعودى الخلاصة النقية بأمراء إفريقية ٢٢ ـ ٢٣ ، وابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ١١٦.

(٢) انظر : د / حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ٩٥ ، والأنصارى المنهل العذب فى تاريخ طرابلس الغرب ج ١ ص ٦٨ ، وابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ٨٩.

(٣) حسن حسنى عبد الوهاب ورقات ج ١ ص ٣٩.


وإذا كان من المعروف عن فترة المهالبة أنهم قد أعطوا اهتماما كبيرا فى إفريقية لإقامة الأبنية والمنشآت التى تميزت بها ، وخاصة فى فترة يزيد بن حاتم (١) الذى كان له دور كبير فى توسيع جامع القيروان ، وإنشاء العديد من الأسواق فى مدينتى تونس والقيروان وغيرهما كما أنشأ هرثمة بن الأعين القصور للمرابطين والزهاد والمحاربين على الساحل ، فإن الأغالبة قد جلبوا المدينة والحضارة فى إفريقية والمغرب الأوسط.

فمن أعظم إنجازات الأغالبة المعمارية تجديد مسجدى القيروان وتونس وهما المعروفان بمسجد عقبة بن نافع ومسجد الزيتونة ـ فمسجد القيروان قد تعرض لعدة تجديدات منذ أن أسسه عقبة بن نافع الفهرى إلى نهاية عصر الأغالبة ، وذلك فى عهود : حسان بن النعمان وحنظلة بن صفوان وزيادة الله بن الأغلب الذى أدخل عليه التجديدات الحاسمة ، ورفع قبابته ومئذنته وإعطائه صورته الحالية ، ويذكر ابن عذارى (٢) أن زيادة الله أنفق أموالا كثيرة فى هذا العمل ، وكان يفتخر بهذا العمل فيقول : «ما أبالى ما قدمت عليه يوم القيامة ، وفى صحيفتى أربع حسنات : بنيانى المسجد الجامع بالقيروان ، وبنيانى قنطرة أم الربيع ، وبنيانى حصن مدينة سوسة ، وتوليتى أحمد بن أبى محرز قضاء إفريقية» (٣).

وقال الأستاذ أحمد فكرى عن جامع القيروان فى كتابه «آثار تونس الإسلامية ومصادر الفن الإسلامى» : «ولا يقتصر فضل القيروان على التخطيط ، فإن هذا المسجد العظيم يحوى عناصر معمارية ظهرت فيه لأول مرة فى تاريخ العمارة أو على الأقل يبقى فيها أقدم الأمثلة التى لاقت من بعده اتشارا كبيرا فى بلاد الشرق والغرب ، وأصبحت من العناصر المميزة للعمارة الإسلامية ، وأذكر من هذه العناصر أقواس مسجد القيروان» (٤).

__________________

(١) الرقيق القيروانى المصدر السابق ١٩٥٠ ، وحسن حسنى عبد الوهاب ورقات ج ١ ص ٦٠ ود / السيد عبد العزيز سالم المرجع السابق ٢٧٦ والمالكى ورياض النفوس ج ١ ص ٤٥.

(٢) ابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ١٣٨.

(٣) أحمد فكرى آثار تونس الإسلامية ومصادر الفن الإسلامى ٥٧.

(٤) حسن حسنى عبد الوهاب ورقات ج ١ ص ١١٣ ، وزكى محمد حسن فنون الإسلام ٦١.


وكذلك قام زيادة الله بتجديد وتوسيع مسجد جامع تونس ، ولكن المنية أدركته قبل أن يكملها ، فتولى بعده إبراهيم بن أحمد سادس أمراء الأغالبة فهو الذى أمر ببناء قبابه المضلعة ، ووضع فيه أعمدة الرخام وزينه بالزخارف والنقوش والكتابات الكوفية الجميلة ، وكذلك أمر إبراهيم بن أحمد ببناء القبة الكبيرة الموجودة الآن فى جامع القيروان ، وهى من أجمل القباب فى تاريخ المساجد الإسلامية. وحول القباب فى مسجد القيروان يقول الدكتور أحمد فكرى : «ولا شك أن أول مثل إسلامى للنظام المبتكر للقباب المرتكزة على أقواس يظهر أيضا فى مسجد القيروان ، وسواء أكان الفضل فى وضع هذا النظام الجديد يعود إلى الفرس أو إلى الرومان ، وسواء أكان الأصل فى اشتقاق هذه القباب يرجع إلى مصر القبطية أم إلى إفريقية البيزنطية ، وأيا كان الأصل فى هذه القباب فإنه لا يضعف شأن بنيان القيروان» (١).

ثم قام أبو العباس محمد بن الأغلب خامس أمراء الأغالبة ببناء جامع سوسة الذى يعتبر من أجمل الآثار المعمارية الإسلامية فى إفريقية ومن منشآته أيضا رباط سوسة المعروف بقصر الرباط (٢).

وإذا كان بنو الأغلب قد اعتنوا بالمنشآت الدينية فإن عنايتهم بالمنشآت العسكرية والمدنية لا تقل أهمية ، فقد أنشأ الأغالبة الكثير من الأسوار والأبراج للمدن وخاصة التى تقع على الساحل ، ولا ننسى دار تونس لبناء السفن ودار سوسة لصناعة الأسلحة واللتان كانتا لهما أمجاد فى تاريخ البحرية الإسلامية وخاصة فى حوض البحر المتوسط وخير مثال على ذلك فتح جزيرة صقلية (٣).

ومن أشهر المنشآت العسكرية فى عصر الأغالبة الرباطات ، وهى قريبة الشبه بالقصور السابق ذكرها ، ولكنها كانت تخصص للمجاهدين والمرابطين ما بين حاميات

__________________

(١) أحمد فكرى ، مسجد القيروان ٧٨.

(٢) سعد زغلول عبد الحميد ، تاريخ المغرب العربى ج ٢ ص ٧١.

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، المرجع السابق ٣٦٣.


رسمية وأفراد من المتطوعين ، ولكن من المعروف أن الرباط كان للأفراد ، أما الجند الرسمى فكانت تبنى لهم معسكرات ، وقد وصف لنا الأستاذ الدكتور حسين مؤنس الرباطات فقال (١) : «يحيط بالرباط عادة سور مرتفع ، وتقوم على أركانه وعلى مسافات منه أبراج يقف فيها الحراس ، وتوقد فيها النيران وقت الخطر» ، وقد بقى لنا من رباطات عصر الأغالبة رباط سوسة وهو من بناء زيادة الله بن الأغلب أسسه سنة ٢٠٦ ه‍ ، وتاريخ الإنشاء مسجل على لوحة من الرخام بأعلى مدخل المنار ، وتقرأ عليها النص التالى «مما أمر به الأمير زيادة الله بن إبراهيم أطال الله بقاءه على يد سرور الخادم مولاه فى سنة ست ومائتين ، اللهم أنزلنا منزلا مبارك وأنت خير المنزلين» ، ويقع رباط سوسة على خليج قابس ، وهو داخل سور المدينة من ناحية البحر وطول ضلع سوره أربعون مترا تقريبا ، وبداخل السور ثلاث قاعات واسعة تسمى الأسطوانات مرفوعة على عمد وفوقها سقف يتكون من ثلاث قباب ، وهذه القاعات والأسطوانات يؤدى بعضها إلى بعض وهى تستعمل للنوم والأكل ، ويليها صحن الرباط وهو مساحة واسعة مسورة تدور حولها البوائك ، وهذه البوائك طابقين وهى تفتح أو تطل على صحن الرباط ، وفى ركن من الصحن يقوم مسجد الرباط (٢).

وحول الرباط وقصره قال الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب : «فى فجر المائة الثالثة للهجرة وجه الأمير زيادة الله عناية كاملة لإعادة الحصن الذى أقامه أبو إبراهيم الأكبر فى مكان الرباط الخالى ، فيأمر أحد فتيانه بتوسيع نطاق الحصن الأول ، ويجعله على طابقين أسفل وأعلى ويقيم فيه ثلاثين غرفة لسكنى المرابطين علاوة على الحمام والمرحاضات ، وينصب فى الطابق العلوى مسجدا جامعا للصلاة والخطبة ، ويبنى المسجد على أقواس متماسكة العقود ، وهو أول مسجد يبنى أى قبل إنشاء فنائه وقبل الجامع الكبير الآتى

__________________

(١) د / حسين مؤنس ، المرجع السابق ٩٧.

(٢) Creswell AShort Account P.٢٣٢. ود / السيد عبد العزيز ، المرجع السابق ٣٦٤ ، وحسن حسنى عبد الوهاب ، ورقات عن الحضارة بإفريقية التونسية ج ٢ ص ٢٤.

(٣) حسن حسنى عبد الوهاب ، المرجع السابق ج ٢ ص ٢٤.


ذكرهما ، فمن يقطن سوسة وقتئذ كان يقصد الرباط لأداء الجمعة والأعياد (١).

وكان رباط سوسة قريب الشبه برباط المنستير (٢) وهو أقدم وأجمل منه من الناحية الهندسية ، وقد إتسع هذا الرباط حتى أصبح على شكل حصن كثير المساكن ، والرباط عبارة عن طابقين يخصص الأول منهما للمسجد وقاعات للدرس والاجتماعات والطعام الذى كان المرابطون وأهل الرباط يتناولونه معهم أحيانا ، ويخصص الثانى للحراسة والعبادة والخلوة ، وفى العادة يتولى الرباط شيخ من أهل التقوى والورع والصلاح وهو الذى يتولى تنظيم وتسيير العبادة أو الحراسة فيه (٣).

__________________

(١) المنستير ميناء يقع بين سوسة والمهدية ، وكانت فى الأصل رباطا أو قصرا يرابط فيه المسلمون لحماية ثغور إفريقية من الغارات البحرية التى كان يقوم بها الروم ، بناه هرثمة بن أعين والى إفريقية من قبل الرشيد فى سنة ١٨٠ ه‍.

وقد وصف البكرى هذا الرباط فقال «وبالمنستير البيوت والحجر والطواحين ومراجل الماء ، وهو حصن عال البناء متقن العمل وفى الطبقة الثانية منه مسجد لا يخلو من شيخ خير فاضل يكون مدار القوم عليه ، وفيه جماعة من الصالحين والمرابطين قد حبسوا أنفسهم فيه منفردين دون الأهل والعشائر ، وهو قصر كبير عال داخله ربض واسع ، وفى وسط الربض حصن ثانى كبير كثير المساكن ، والمساجد والقصاب العالية طبقات بعضها فوق بعض ، وفى القبلة صحن فسيح من قباب عالية متقنة ينزل حولها النساء المرابطات وله يوم عاشوراء موسم عظيم ومجمع كبير ، وكان أهل القيروان يخرجون إليهم بالأموال والصدقات الجزية ، ويقرب المنستير محارس خمسة متقنة البناء ، ومعمورة بالصالحين. انظر البكرى : المصدر السابق ٣٦ ، وابن الخطيب : المصدر السابق ج ٣ ص ١١.

(٢) د / حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ٩٧.

(٣) يبدو أن سبب بناء ابن الأغلب لهذه المدينة يرجع إلى سكان القيروان وبما كانوا يتصفون به من تدين وورع حيث ابدوا سخطهم على الأمير لإقباله على الخمر وانغماسه فى حياة اللهو والملذات ، فاضطر ابن الأغلب لإقامة هذه المدينة للاستمتاع بالحياة بعيدا عن أنظار رعيته فلا يناله شىء من تقريع فقهائهم وانتقادهم لسلوكه ، وربما يكون اتخذها تقليدا للخلفاء الأمويين والعباسيين فى اتخاذهم القصور خارج عواصمهم أو إشباعا ، لرغبته فى الظهور بمظهر العظمة والأبهة ، وقد اشترى الأغلب لهذا أرضا من بنى طالون ، وبنى قصرا للإمارة ، نقل إليه السلاح والعدد سرا ، وأسكن حوله عبيده وفتيانه ومواليه وأهل الثقة من خدمه ، وسمى بالقصر القديم بالنسبة لقصر رقادة الذى بناه إبراهيم بن أحمد سنة ٢٦٤ ه‍ وعرف بالقصر الأبيض ربما لبياض لون جدرانه.

وفى هذه المدينة استقبل الأمير رسل شارلمان إليه سنة ١٨٥ ه‍ عندما قدموا لنقل رفات القديس سان سيبرين.


أما المنشآت المدنية وخاصة مدينة القصر القديم (٣) ـ التى بناها إبراهيم بن الأغلب ، وتبعد ثلاثة كيلومترات جنوبى مدينة القيروان لتكون معسكرا لجنده ، ومقاما له ومعتقلا لأسرته وكانت تتكون من قصور وحدائق ومعسكرات وأماكن للعبادة ، ولم يبق من آثار هذه المدينة (الآن) شىء ، كما كانت تسمى العباسية ثم سميت بالقصر القديم تميزا لها عن مدينة القصر الجديد (رقادة) (١) التى بناها إبراهيم بن أحمد سنة ٢٦٤ ه‍ / ٧٨ م.

واعتنى الأغالبة كذلك ببناء صهاريج المياه وجبابها ، والضهريج عبارة عن خزان ماء فوق الأرض ، أما الجب فلا يكون إلا فى باطن الأرض ، والجب مخزن واسع يتكون من حجرة واسعة قد يصل قطرها إلى أربعين مترا ، وعمقها نحو عشرين مترا ثم يبنون عند الماء حجرة أو قبوا واسعا بالحجر أو الطوب الأحمر أو الطوب المغطى بالبلاط الذى لا تؤثر فيه المياه.

كذلك أكثر الأغالبة من بناء المواحل ، والماحل عبارة عن أحواض ماء واسعة ، وعميقة تشبه الفسقيات يتجمع فيها ماء المطر وهى دائما مكشوفة ، وقد يقام فى وسط الماحل جوسقّ يجلس فيه الأمير للراحة ، ومواحل القيروان وسوسة وتونس تعتبر من الآثار الجميلة التى تستحق المشاهدة (٢).

__________________

ـ انظر ابن عذارى : المصدر السابق ج ١ ص ١١٧ ، واليعقوبى : البلدان ٣٤٧ ، وياقوت الحموى : معجم البلدان ج ٢٤ ص ٣٦٢

Marcais L'Architecture Musulmane P. ٦٢ ـ ٧٢.

(١) يصفها البكرى بقول : «وأكثرها بساتين وليس بإفريقية أعدل هواء ، ولا أرق نسيم ولا أطيب تربة من مدينة رقادة» وسميت رقادة لأن الأمير إبراهيم أرق يوما ، وشرد الكرى عن جفنيه فلم ينم وأمر بالخروج والسير فلما وصل إلى هذا الموضع نام ، فسمى رقادة والذى بنا رقادة واتخذها دارا هو إبراهيم ابن أحمد بن محمد بن الأغلب انتقل إليها من مدينة القصر القديم وبنى بها قصورا عديدة وجامعا ، وعمرت بالأسواق والحمامات والفنادق ، وكان يحيط برقادة سور من الآجرّ واللّبن أصلحه الأمير زيادة الله الثالث يتحصن فيها عند محاصرة أبى عبيد الله الشيعى لها.

انظر البكرى : المصدر السابق ٢٧ ، Marcaiso P.CKT ٨٢

(٢) ويصف الإدريسى الماجل الكبير بالقيروان بأنه «من عجيب البناء لأنه مبنى على تربيع وفى وسطه بناء قائم كالصومعة ، وذرع كل وجه منه مائتا ذراع وهو مملوء كله ماء». أما البكرى فيذكر عن الماجل الكبير «أنه مستدير الشكل عظيم الاتساع ، يتوسط برج مثمن الشكل ، يعلوه مجلس له


وقد أنشأ زيادة الله الثالث آخر أمراء الأغالبة فى عهده بركة أو ماجلا طوله خمسمائة ذراع وعرضه أربعمائة ذراع وأجرى إليه الماء بالسواقى وسمى هذا الماجل الفسيح بالبحر ، وأقام على إحدى ضفتيه قصرا من أربعة طوابق سماه العروس ، وأنفق على إنشائه فيما يقرب من ٠٠٠ ، ٢٣٢ دينار. غير أن الفاطميين فى عهده كانوا قد أوغلوا فى بلاد إفريقية وكثر جندهم ، واقتربوا من القيروان ، وهنا جمع زيادة الله ألفا من أهل بيته وهرب بهم إلى مصر تاركا بلاد إفريقية مقر ملكه للفاطميين (١).

ومما لا شك فيه أن الحياة الاقتصادية قد ازدهرت فى إفريقية بقيام دولة الأغالبة ، فاستفادوا من وضع البلاد الجغرافى فجمعوا الثورات الطائلة. وبفضل الموانئ المنتشرة على شاطىء البحر المتوسط وهى موانئ سوسة وتونس وبجاية ، أمكن للأمراء الأغالبة أن يقيموا الأساطيل ويحرزوا الانتصارات وقد انعكس أثر هذا على سكان إفريقية فانتعشوا اقتصاديا.

ونتيجة إحكام الأغالبة على زمام البحرية دون منازع ، احتكروا دور الوساطة التجارية

__________________

ـ أربعة أبواب وبأعلاه قبة يحملها ١١ عمودا ، وبجوار هذا الماجل مباشرة ، وفى الجهة الشمالية منه ماجل آخر أقل إتساعا يعرف بالفسقية يتلقى مياهه من الوادى عند جريانها ، فيخفف سرعتها ، وعندها يمتلىء بالمياه حتى ارتفاع قامتين ، وتتدفق فى الماجل الكبير عن طريق فتحة يسميها الصرح وكان قد شرع فى بنائه الأمير إبراهيم بن أحمد سنة ٢٤٥ ه‍ وأتمه سنة ٢٤٨ ه‍ ، ويروى أنه أعتل أثناء اتخاذ الماجل بالقصر القديم ، فكان يسأل : هل دخله الماء؟ إلى أن دخله الوادى ، فعرفوه بذلك فسر به ، وأمرهم أن يأتوه بكأس مملؤة منه فشربها وقال : الحمد لله الذى لم أمت حتى تم أمره ثم مات على أثر ذلك.

وكان بالقيروان فيما يذكر البكرى ١٥ ماجلا كانت هذه المواجل مستديرة الشكل ، تكسو سطوحها طبقة من البلاط شديد الصلابة.

انظر ابن الخطيب : المصدر السابق ج ٣ ص ٢٣ ، والبكرى : المصدر السابق ٢٥ ، والإدريسى :

المصدر السابق ١١٠.

(١) ابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ١٨٦ ، وسعد زغلول عبد الحميد تاريخ المغرب العربى ج ٢ ص ١٦٧ ، وص ١٨٢. ومحمد إسماعيل عبد الرازق الأغالبة ص ٤٠ ، والإدريسى نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق ص ١٢١.


بالنسبة للتجارة العالمية بين الشرق والمغرب وجنوا من وراء ذلك أطيب الثمار ، كما اهتموا بالتجارة مع الجنوب فمهدوا طرق القوافل لتسهيل التجارة مع أهل اللثام وبلاد الجريد ، كما راجت دور الصناعة مثل دور تونس وسوسة وغيرها مستفيدة من الاستقرار النسبى للبلاد ، وأصبحت القيروان من أكبر المراكز التجارية فى غرب البحر المتوسط ، وأيضا سوسة والأربس وقفصة وغيرهم.

كذلك اشتهرت رقادة بالأسواق والفنادق والقصور وكذلك العباسية ـ وإذا كانت بغداد ودمشق والإسكندرية قد عرفت نظام الأسواق المتخصصة ـ فإن القيروان أيضا قد شهدت مثل هذه الأسواق منذ أيام حاتم بن يزيد المهلبى ، وعلا طريقها الرئيسى بالمتاجر ودور الصناعة ، ويحدثنا المالكى عن حوانيت الرفائين والكفايين وتجمعها فى مكان واحد حيث عرفت بالحوانيت الجدد (١).

وكانت إفريقية الأغلبية تصدر القمح والشعير إلى الإسكندرية والرقيق السودانى إلى بلاد الشام ، كما كانوا يصدرون أيضا النسيج والأبسطة والأقمشة الفاخرة إلى بغداد (٢)

ولم يكتف الأغالبة بما تجود به أرضهم من بعض أنواع الزراعة بل استوردوا بعض

__________________

(١) السيد عبد العزيز سالم المرجع السابق ص ٣٢٣ ، والبكرى المصدر السابق ص ٢٧ ، ٢٨ ، وحسن إبراهيم حسن تاريخ الإسلام السياسى ج ٣ ص ٣٢٠ ، ص ٣٢٥ ، والمالكى رياض النفوس ج ١ ص ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٢) اشتهرت إفريقية بصناعة المنسوجات ، وإلى سوسة كانت تنسب الثياب السوسية الرفيعة البياض الناصع ، وكانت منسوجات دور الطراز بإفريقية مما يهادى به للخلفاء العباسيين ، ويذكر ابن عذارى أن أبا عبد الله الشيعى لما هزم جيش إبراهيم قائد زيادة الله بن الأغلب ، غنم كثيرا من الأموال والسلاح والسروج واللجم وضروب الأمتعة ، وهى أول غنيمة أصابها الشيعى وأصحابه ، فلبسوا أثواب الحرير ، وتقلدوا السيوف المحلاة وركبوا بسروج الفضة واللجم المذهبة.

انظر فى ذلك : البكرى المصدر السابق ٣٤ ، مجهول : الاستبصار ١١٩ ، ابن عذارى : المصدر السابق ج ١ ص ١٨٥ ، وص ١٨٧ ، ويذكر ابن عذارى أن زيادة الله الثالث بعث الحسن بن حاتم إلى العراق رسولا منه بهدايا وطرف. وابن خلدون : المقدمة ص ١٨١.


المحاصيل الزراعية من المشرق مثل القطن وقصب السكر ، وما جناه الأغالبة من ثروات طائلة ظهرت أثارها فيما أقاموه من منشآت وعمائر بإفريقية (١).

وتعتبر فترة إبراهيم بن الأغلب وابنه زيادة الله الأول من أزهى فترات دولة الأغالبة حيث ساد الرخاء الاقتصادى فى عهدهما فضربت الدنانير والدراهم على نمط الطراز العباسى ، كما دونت الدواوين مثل ديوان الخراج وكان من يسند إليه يعتبر من الشخصيات المرموقة وصاحب ثقة فى البلاط الأغلبى ، وديوان الخاتم وكان إبراهيم بن الأغلب قد أسنده لابنه عبد الله ، وكذلك دار الطراز التى كانت تنتج ما يرسله الأمير من الكساوى والإنعامات إلى مشاهير وكبار رجال الدولة فى المناسبات ، كما عرف الأغالبة الحسبة والعس وكان بلاط الأغالبة صورة مصغرة للبلاط العباسى (٢).

وكتاب تاريخ إفريقية والمغرب من الكتب التاريخية الهامة التى ألقت الضوء على الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلاد إفريقية (تونس) والمغرب بصفة عامة ، فشمل الكتاب منذ الفتح العربى لبلاد المغرب حتى ظهور دولة الأغالبة.

وأسأل الله العفو والمغفرة يا أرحم الراحمين

والله ولى التوفيق

القاهرة فى ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٣ م

الدكتور / محمد زينهم محمد عزب

__________________

(١) Heyd Histoire Du Commerce Vol.١ P.٠٥ وهناك ثروة معدنية فقد اشتهرت «بجانة» بمعادنها الكثيرة وعلى الأخص الفضة والكحل والحديد والرصاص ، ويعتقد الأستاذ مارسيه أن منطقة «بجانة» أصبحت منذ منتصف القرن الثانى الهجرى تتمتع بنشاط اقتصادى بوجود المعادن بكثرة فى أرضها.Marcaisop.cit.p.٩٧

(٢) ويرى الأستاذ مارسيه أن المشرفين على دار السكة كانوا من الموالى والروم أو العبيد أو الفتيان الذين أولاهم أمراء بنى الأغلب كل ثقتهم ، ويذكر مارسيه بعض أسماء هؤلاء الفتيان منهم موسى فى عهد إبراهيم بن الأغلب ، ومسرور فى عهد زيادة الله الأول ، ويذكر ابن عذارى أن زيادة الله الثالث اشتد كلفه بغلام له يسمى خطاب ، فكتب اسمه فى سكة الدنانير والدراهم.

وابن عذارى : Marcaisop.cit.p.٢٨ المصدر السابق.



بسم الله الرحمن الرحيم

ولاية عقبة بن نافع (١) ـ رحمه الله

رحّل عقبة من الشام ، ولما مر على مسلمة (٢) بمصر اعتذر إليه من فعل أبى المهاجر (٣) ، وأقسم بالله : لقد خالف رأيه فيما صنع ، وأنه وصّاه به ، وأمره بتقوى الله وحسن السيرة ، وأن يعزل عقبة أحسن عزل ، فإن أهل بلده يحسنون القول فيه ، فخالفنى وأساء عزلك ، فقبل منه عقبة ، ومضى سريعا لحنقه على أبى المهاجر ، حتى قدم إفريقية ، فأوثق أبا المهاجر فى الحديد ، وأمر بخراب مدينته ، وردّ الناس إلى القيروان (٤) ، وركب فى وجوه العساكر من التّابعين والعبّاد ، فدار بهم حول مدينة القيروان وهو يدعو لها ويقول : «يا رب املأها فقها وعلما ، واعمزها بالمطيعين والعابدين ، واجعلها عزّا لدينك ، وذلّا لمن كفر بك ، وأعز بها الإسلام ، وامنعها من جبابرة الأرض».

(ثم عزم) عقبة على الغزو فى سبيل الله ، وترك بها جندا من المسلمين ، واستخلف عليهم زهير بن قيس (٥) ، ودعا أولاده فقال لهم : «إنى بعت نفسى من الله عزّ وجلّ أن

__________________

(١) وهو ابن خالة عمرو بن العاص ، ولد فى أوائل الهجرة النبوية فاعتبر لذلك صحابى المولد ، وتولى إمارة جيش إفريقية مرتين ، المرة الأولى من سنة ٥٠ ه‍ ـ سنة ٥٥ ه‍ / ٦٧٠ م ـ ٦٧٤ م. والمرة الثانية من ٦٠ ه‍ ـ ٦٤ ه‍ / ٦٨٠ م ـ ٦٨٤ م. وذلك فى عهد معاوية بن أبى سفيان وولده يزيد.

(٢) كان والى مصر فى أنذاك الوقت.

(٣) هو أبو المهاجر دينار ، تولى إمارة جيش إفريقية فى الفترة التى بين ولايتى عقبة الأولى والثانية أى من سنة ٥٥ ه‍ ـ ٦٠ ه‍ / ٦٧٤ ـ ٦٨٠ على عهد معاوية.

(٤) قال الأزهرى : القيروان معرب وهو بالفارسية كاروان ، وقد تكلمت به العرب قديما وهى مدينة عظيمة بإفريقية غبرت دهرا وليس بالغرب مدينة أجلّ منها إلى أن قدمت العرب إفريقية وأخربت البلاد فانتقل أهلها عنها فليس بها اليوم صعلوك ، يطمع فيه وهى مدينة مصرت فى الإسلام فى أيام معاوية

انظر التفاصيل فى : معجم البلدان لياقوت الحموى

(٥) هو زهير بن قيس البلوى ، وهو الذى استعاد إفريقية من يد كسيلة بعد أن هزمه وقتله سنة ٦٩ ه‍ فقضى بذلك على قوة البربر البرانس ، وقد استشهد زهير فى إحدى المعارك الساحلية مع البيزنطيين بنواحى برقة.


أجاهد من كفره حتى ألحق بالله ، ولست (ج) أدرى أتروننى بعد (يومى) هذا أو أراكم لأن أملى الموت فى سبيل الله أو ردى إليكم كما أحب» ، ثم قال : «اللهم تقبّل منى نفسى فى رضاك» ، ومضى فى عسكر عظيم حتى أشرف على مدينة باغاية ، فكانت النّصارى تهرب من طريقه يمينا وشمالا واحتصر صاحب قلعة مجانة (١) فلجأ النّصارى إلى مدينة باغاية ، واجتمعوا بها ، فنزل عليها وخرجوا إليه ، فقاتلهم قتلا شديدا ، فقتلهم قتلا ذريعا ، وأخذ لهم خيلا كثيرة ، ولم ير المسلمون فى مغازيهم أصلب منها ، وكانت من نتاج خيل أوراس (٢) المطل عليها ، ودخل بقية الروم حصنهم ، وكره عقبة أن يقيم عليها فمضى إلى المسن (٣) وكانت [فى] ذلك الوقت من أعظم مدائن الروم ، فلجأ إليها من كان حولها منهم وخرجوا إليهم فى عدّة وقوة ، فقاتلوهم قتالّا شديدا حتى ظن الناس أنه الفناء ، فانهزموا فقاتلهم إلى باب حصنهم فأصاب غنائم كثيرة [وكره] المقام عليها ، فرحل إلى بلاد الزاب (٤) ، فسأل عن أعظم مدينة لهم قدرا ، فقالوا : مدينة يقال لها «أذنة (٥)» ، ومنها الملك وهى ... الزّاب وكان حولها ثلاثمائة قرية وكلّها عامرة فلما بلغهم أمره لجأوا إلى حصنهم ، وهرب أغلبهم إلى الجبال والوعر ، ونزل واديا بينه وبينها ثلاثة أميال ، فلقوه عند الوادى وقت المساء ، فكره قتالهم فى الليل ، فوقف القوم ليلهم كلّه ساهرين ، فسماه الناس إلى اليوم «وادى سهر» فلما أصبح وصلى ، أمر بالقتال ، وكانت بينهم حرب ما رأوا قطّ ممن حاربوه مثلها حتى يئس المسلمون من أنفسهم ، فأعطاه الله عز وجل الظّفر ،

__________________

(١) بالفتح وتشديد الجيم وبعد الألف نون بلد بإفريقية فتحها بسر بن أرطاة ، وهى تسمى قلعة بسر وبها زعفران كثير ومعادن حديد وفضة.

(٢) وهى موجودة فى جمهورية الجزائر الآن.

(٣) له ذكر فى معجم البلدان لياقوت الحموى.

(٤) كورة عظيمة ونهر جرار بأرض المغرب على البر الأعظم عليه بلاد واسعة وقري متواطئة بين تلمسان وسجلماسة والنهر متسلط عليها.

انظر : معجم البلدان لياقوت الحموى.

(٥) بفتح أوله وثانية ونون بوزن حسنة وكسر الذال.

انظر معجم البلدان ١ / ١٣٢ ـ ١٣٣.


فانهزم القوم ، وقتل فيها أكبر فرسان البربر ، فذهب عزهم من الزّاب ، وذلوا آخر الدهر ، فكره أن يقيم عليها ، فرحل حتى نزل على المغرب بتيهرت ، فلما بلغ الروم خبره ، استعانوا بالبربر ، فأعانوهم ونصروهم ، فقام عقبة خطيبا على سيفه ، فقال : «يا معشر المسلمين ، إنّ خياركم وأشرافكم السابقون منكم [الذين] رضى الله عنهم ، بايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة الرضوان على قتال من كفر بالله يوم القيامة فبيعوا أنفسكم من رب العالمين ، فإنكم داخلون فى تلك البيعة لكم وعليكم ما عليهم ، وأنتم ما وطئتم هذه البلاد إلّا طلبا لرضاه وغضبا أن يعبد شىء سواه ، فأبشروا فكلّما كثر [بشركم] كان أخزى لهم وأعز لدينكم وربّكم ليس يسلمكم ، فألقوه بقلوب صادقة ، جعلكم الله أولى بأسه الذى لا يردّ عن القوم المجرمين.

فالتحم القتال ، وصبر المسلمون ، ولم يكن للروم والبربر بقتالهم من طاقة ، فولّوا هاربين ، فقتلهم قتلا ذريعا ، وفر جميع الروم عن المدينة ، وقتلوا حيث أدركوا ، وغنم المسلمون.

ثم رحل حتى دخل طنجة (١) ، فلقيه رجل من الروم يقال له «البيان» وكان شريفا فى قومه ، فأهدى إليه هدية حسنة ، فلاطفه فنزل على حكمه ، فسأله عن بحر الأندلس ، فقال له : «إنه محفوظ لا يرام» «دلنى على حال البربر والروم» فقال له : «قد تركت الروم خلفك ، وما قدّامك إلّا البربر وفرسانهم» قال له : «وأين موضعهم؟» قال : «فى السّوس الأدنى ، وهم قوم ليس لهم دين ولم يدخلوا النصرّانية ، يأكلون الميتة ، ويشربون الدم من أنعامهم وهم أمثال البهائم ، يكفرون بالله عز وجل ولا يعرفونه» (٢) فقال عقبة ابن نافع لجنوده : «ارحلوا على بركة الله».

فرحل من طنجة إلى السوس الأدنى وهو فى مغرب مدينة طنجة التى تسمى

__________________

(١) بلد على ساحل المغرب مقابل الجزيرة الخضراء وهو البر الأعظم وبلاد البربر. قال ابن حوقل : طنجة مدينة أزلية آثارها ظاهرة بناؤها بالحجارة قائمة على البحر.

(٢) إضافة من العبر من ديوان المبتدأ ـ والخبر.


«تارودانت» فانتهى إلى أوائلهم ، فتلقوه فى عدة عظيمة ، وقتلهم قتلا ذريعا ، وهرب بقيتهم ، وافترقت خيله فى طلبهم إلى كل موضع هربوا إليه من الأرض لا يزمّهم أحد ومضى كذلك حتى دخل السوس الأقصى ، فاجتمع به البربر فى عدد لا يحصى فلقيهم ، فقاتلهم قتالا شديدا ما سمع أهل المغرب بمثله ، وقتل منهم خلقا عظيما ، وأصاب منهم نساء لم ير الناس فى الدنيا مثلهنّ ، فقيل : إن الجارية منهنّ كانت تبلغ بالمشرق ألف [دينار وهربوا بين يديه ..] فخرجت العرب منها ، ولم يكن لهم بقتاله طاقة ، لعظيم ما اجتمع معه من البربر والروم ، وأسلموا القيروان وبقى بها أصحاب الذرارى والأثقال فأرسلوا إلى كسيلة : يسألونه الأمان وأجابهم ، وأقام كسيلة حتى نزل القيروان وأقام أميرا على إفريقية ، وقد بقى من بقى من المسلمين تحت يده ، فما زال على ذلك إلى أن ولى عبد الملك بن مروان فاشتدّ سلطان بنى أمية وعظم أمرهم ، واجتمع إليه أكابر المسلمين فسألوه فى قيروان إفريقية أن يخلصها ومن فيها من المسلمين من يد كسيلة بن ليوم ، وأن يرد بها الإسلام عزيزا كما كان ، فقال لهم : «لا يصلح للطّلب بدم عقبة من المشركين وكفرة البربر إلّا من هو مثله فى دين الله» فأتفق رأيه على زهير بن قيس البلوى ، وقالوا : «هو صاحب عقبة واعرف الناس بسيرته وتدبيره ، وأولاهم بطلب ثأره وكان زهير مقيما ببرقة مرابطا مع أهل من إفريقية ، فوجّه إليه عبد الملك يأمره بالخروج على أعنة الخيل إلى إفريقية ليستنقذ القيروان ومن فيها من المسلمين ، وكتب له قيس بن زهير : يعرّفه بكثرة من اجتمع إلى كسيلة من البربر والروم ، ويستمّده الرجال والأموال ، فوجّه إليه وجوه أصل الشام.

ولاية زهير بن قيس البلوى

فلمّا حشد له وجوه الرّجال من العرب ، وبعث إليه الأموال وتسرّع الناس معه ، ووفّدت عليه الجنود ، أقبل فى عسكر عظيم ، يريد إفريقية ، فلمّا دنا من مدينة القيروان ، وذلك فى سنة سبع وستين وبلغ كسيلة بن ليوم الأوربى قدوم زهير عليه .. لا نهاية له ، وكان كسيلة فى خلق عظيم من البربر والروم ، دعا أشرافهم وأكابرهم فشاورهم


وقال لهم : «إنى أردت أن أرحل إلى ممس (١) فأنزلها ، فإن هذه المدينة فيها خلق عظيم من المسلمين ولهم علينا عهد ، فلا نغدر بهم ونحن نخاف إذا التحم القتال أن يثبوا علينا ، ولكن ننزل ممس على ماء كثير يحمل عسكرنا ، فإنّ معنا خلقا عظيما فإن هزمناهم دخلنا معهم إلى طرابلس وقطعنا دابرهم من الدنيا ؛ تكون لنا إفريقية دارا إلى آخر الدهر ، وإن هزمونا كان الجبل منا قريبا الشعراء [ه] فنرجو ألّا نهلك ولا يفقد منا إلّا قليل فوافقوه فرحل إلى ممس فنزلها.

وبلغ ذلك زهير فلم يدخل القيروان ونزل على باب سالم وأقام ثلاثة أيام حتى استراح وأراح من معه وزحف فى اليوم الرابع ، ووقف على كسيلة وعسكره آخر النهار فأمر الناس بالنزول ، فنزلوا وبات الناس على مصافّهم ، ووقفت خيول القوم بعضهم إلى بعض طول الليل فلما اصبح صلى مغلّسا ثم زحف إليه. وأقبل كسيلة ومن معه والتحموا فى القتال ونزل الصّبر وكثر القتل فى الفريقين ، حتى يئس الناس من الحياة فلم يزالوا كذلك حتى انهزم كسيلة ، وقتل بممس ولم يجاوزها.

ومضى النّاس فى طلب الروم والبربر ، فلحقوا كثيرا منهم بمزرعة «ملمجنة» وألحوا فيهم وجدّوا فى طلبهم ، حتى سقوا خيلهم من الوادى المعروف بملوّية من المغرب ، ففى تلك الواقعة هلك رجال الرّوم والمشركين من البربر وفرسانهم وأشرافهم ، ففزع منه أهل إفريقية ، واشتد خوفهم ، فلجأوا إلى الحصون والقلاع ، ثم إنّ زهيرا رأى بإفريقية ملكا عظيما فخاف أن يقيم ، وقال : «إنّى قدمت إلى الجهاد ، وأخاف أن تميل بى الدنيا فأهلك ، ولست أرضى بملكها ورغد عيشها». وكان من رؤساء العابدين وكبراء الزاهدين ـ رضى الله عنهم ـ فنزل القيروان وأقام بها كثير من اصحابه.

ورحل زهير قافلا إلى المشرق فى خلق عظيم ، وقد كان بلغ الروم خروج زهير من برقة إلى إفريقية لقتال الرّوم ، فأمكنهم ما يريدون فخرجوا إليها فى مراكب كثيرة ، فأغاروا على

__________________

(١) بالفتح والسكون والسين مهملة مقصورة قرية بالمغرب.


برقة وأصابوا منها سبيا ، ومن الأموال شيئا عظيما ، وقتلوا وسبوا ، ووافق ذلك قدوم زهير من إفريقية إلى برقة فأخبروه الخبر ، فأمر العسكر أن يمضوا على الطريق ، وأخذ على ساحل البحر فى عدة من أشراف الناس مجدين مبادرين ، رجاء أن يدرك سبى المسلمين ، فأشرف على الرّوم فرآهم فى خلق عظيم فلم يقدر على الرّجوع ، واستغاث به المسلمون وصاحوا ، والروم يدخلونهم المراكب ، فنادى بأصحابه : «النزول رحمكم الله!» فنزلوا ، وكانوا رؤساء العابدين وأشراف العرب ، فنزل إليهم الروم فتلقوهّم بعددّ عظيم ، والتحم القتال وأعانوا بعضهم بعضا ، وتكاثر عليهم الروم ، فقتلوا زهيرا ـ رحمه الله ـ ومن معه من المسلمين جميعا ، فما أفلت منهم رجل ، وأدخلت الروم الخيل والسلاح والسبى وما أصابوه من برقة ، وانقلبوا وافرين يريدون ملك القسطنطينية.

ومضى المسلمون إلى دمشق ، فدخلوا على عبد الملك ، فأخبروه أن أميرهم وأشراف رجالهم قد استشهدوا ، فعظم ذلك عليه ، وبلغ منه لفضله ودينه ، وكانت مصيبته مثل مصيبة عقبة ـ رحمهم الله ـ على الناس ، واجتمع أشراف المسلمين ، وسألوا عبد الملك بن مروان أن ينظر إلى إفريقية من يسد ثغرها ، ويصلح أمرها. فقال لهم عبد الملك : «ما اعرف أحد كفؤا لإفريقية كحسّان بن النعمان الغسانىّ.

ولاية حسان بن النعمان الغسانى

[وجميع] من بإفريقية منها [ـ أى الكاهنة ـ] خائفون والبربر لها مطيعون ، وإن قتلتها يئس البربر والروم بعدها أن يكون لهم ملجأ حتى يلقوا بأيديهم فى يدك ، فيدين لك الغرب كله ، فلما سمع ذلك من أهل إفريقية توجه إليها يريدها ، فلمّا كان موضعا قريبا من مجّانة ، عرف أن الروم قد تحصّنوا بقلعتها فمضى ولم يعرض لها ، وبلغ الكاهنة أمره ، فرحلت من جبل أوراس بعدد لا يحصى فسبقته إلى مدينة باغاية ، وأخرجت منها الرّوم ، وهدمت حصنها ، وظنّت أن حسان إنما يريد حصنها يتحصّن فيه ، وأقبل حسان حين بلغه الخبر فنزل بوادى مسكيانة ، ورجعت الكاهنة إليه تريده وخرج حسّان حتى خرج بين


الفج والشعراء ونزل على النهر الذى يسمى بلسان البربر «بلى» ورحلت الكاهنة حتى نزلت على هذا النهر ، وكان هو يشرب من أعلي النهر وهى من أسفله ، فلما دنا بعضهم من بعض وتوافت الخيل ، وذلك آخر النهار ، فأبى حسان أن يقاتلها إلا أول النّهار ، فباتوا ليلتهم وقوفا على سروجهم فلما أصبحوا زحف بعضهم إلى بعض فالتقوا ، فتقاتلوا قتالا شديدا وما سمع قط ، فعظم البلاء وظن الناس أنه الفناء ، فانهزم حسان بن النعمان وقتلت العرب قتلا ذريعا وأسرت من أصحابه ثمانين رجلا منهم خالد بن يزيد القيسى وكان رجلا شريفا مذكورا. فسمى ذلك الوادى «وادى العذارى» وسمى أيضا «نهر البلاء» ، وبينه وبين باغاية ثمانية عشر ميلا ، وأتبعته الكاهنة ومن معها حتى خرج من عمل قابس ، وأسلم إفريقية.

فكتب إلى عبد الملك : بما لقى المسلمون وحاوره ، وأقام طمعا أن يلحق به من أفلت من أصحابه ، فعاد إليه الجواب : أن يقيم حيث وصل إليه الجواب ، ولا يبرح حتى يأتيه أمره ، فلقيه الكتاب ... فبنى وأقام بالموضع الذى لقيه فيه الكتاب خمس سنين ، فسمى ذلك المكان «قصور حسّان» إلى اليوم ، ثم أنّ عبد الملك أعمل رأيه واستشار فيمن يخرجه إلى إفريقية ... فوجّه إليه عسكرا عظيما ومالا وسلاحا وقوة ، وكانت الكاهنة حينئذ أاسرت ثمانين رجلا من أصحاب حسان ، فأرسلتهم ، وأحسنت إليهم وحبست عندها يزيد بن خالد القيسى.

فلما انتهى إلى حسّان سألهم عن يزيد بن خالد ، فأخبروه بسلامته ، فسرّه ذلك ، وأن الكاهنة قالت لخالد : «ما رأيت فى الرجال أجمل منك ولا أشجع! وأنا أريد أن أرضعك فتكون أخا لولدى ، وكانت لها ولدان أحدهما «قويدر» والآخر «يامين» فقال لها : وكيف يكون ذلك وقد ذهب الرضاع منك ، فقالت : إنّا جماعة البربر لنا رضاع إذا فعلناه نتوارث به ، فعمدت إلى دقيق الشعير ، فلثته بزيت ، وجعلته على ثدييها ودعت!!» ولديها وقالت لهما : «كولا معه على ثديى» وقالت لهم : إنكم قد صرتم أخوة ثم إن حسان توافت إليه فرسان العرب ورجالها ، فدعا عند ذلك برجل يثق به ومناه وكتب معه إلى [ابنّ يزيد


وهو ... طوعا فى الإسلام ، فلمّا أتى رسول حسان وقف بين يدى خالد فى زىّ سائل فلمّا رآه [ابن] يزيد علم أنه ... فكتب الله تعود إلى ، فلمّا أن خلا أخذ منه الكتاب وقرأه وكتب فى ظهره : إنّ البربر متفرقون ولا يتحدون (١) وإنما ابتلينا بأمر أراده الله عسى أن يكرم به من مضى منا بدرجة الشهادة (٢) ...

حتى خرجت الكاهنة ناشرة شعرها تضرب صدرها ، وتقول : «ويلكم مضى ملككم فيما يأكله الناس!» فافترقوا يمينا وشمالا يطلبون الرجّل ، فستره الله تعالى حتى وصل إلى حسان فكسر الخبزة فأصاب الكتاب الذى كتبه [ابن] يزيد قد أفسدته النار ... فقال له حسان : «راجع إليه» قال : «إنى أخاف الموت فإن الكاهنة لا يخفى عليها شىء من هذا قال [حسان] : أنا اخفيه لك فى مكان لا يجده أحد ثم عمد إلى قربوس سرجه ، فنقر فيه ، وأدخل الكتاب وسدّ عليه بشمع ، ومضى الرجل حتى أتى [ابن] يزيد ، فدخل إليه وعرفه أن الأول أحرقته النار فردّ جوابه ووضعه فى قربوس سرجه ومضى ، فخرجت الكاهنة ناشرة شعرها وهى تنادى : «ذهب ملككم فى شىء من نبات الأرض وهو بين فرجين» وكانت الكاهنة قد ملكت إفريقية خمس سنين منذ هزمت حسان ، فلما أبطأ العرب عنها قالت للبربر : «إن العرب إنما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة ، ونحن إنّما نطلب منها المزارع والمراعى ، فما نرى لكم إلّا خراب إفريقية حتى ييأسوا منها ، ويقل طمعهم فيها» فوجهت قوما إلى ناحية يقطعون الشجر ، ويهدمون الحصون.

قال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم : (٣) فكانت إفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلا وقرى متصلة فأخربت جميع ذلك ، ورحل حسان إليها فلقيه من النّصارى فى طريقه

__________________

(١) إضافة من المطبوع.

(٢) بياض فى الأصل.

(٣) انظر ترجمته فى : معالم الإيمان ١ / ٢٨٩ ، الدرة المضيئة فى أخبار الدولة الفاطمية ٢٤ ، الحلل السندسية ج ١ ق ٣ / ٧٣١ ، ترتيب المدراك ١ / ٣١٦ ، رياض النفوس ١ / ١٤٤ ، المؤنس فى أخبار إفريقيا وتونس ٤٩.


ثلاثمائة رجل يستغيثون إليه من الكاهنة فيما نزل بهم من خراب ومضى حتى وصل إلى قابس ، فخرج إليه أهلها وكانوا قبل ذلك يتحصّنون من كل أمير مرّ بهم ، فاستأمنوا إليه وأدخلوا عامله فأمنّهم على مال معلوم. فاستطال طريق القيروان فمال إلى طريق قفصة وقصطيلية ونفزاوة ، وبعثوا إليه أيضا يستغيثون به من أمر الكاهنة فسرّه ذلك وبلغ الكاهنة قدومه فرحلت من جبل أوراس تريده فى خلق عظيم [فرحل إليها فلما كانت] بالليل قالت لابنيها : «إنى مقتولة ، وأرى رأسى ... أذنابها إلى المشرق من حيث تأتينا الشمس [تركض به الدواب مقطوعا] بين يدى ملك العرب الأعظم الذى بعث هذا الرجل» ، وقال لها [ابن] يزيد : «فإذا كان هذا فارحلى بنا وخلّى عن البلاد» وقال لها أولادها مثل ذلك ، قالت : «كيف أرحل وأفّر ، وأنا ملكة والملوك لا تفر من الموت ، فأقلّد قومى عارا آخر الدّهر» فقالوا لها : «فما الذى تخافين على قومك؟» قالت : «إذا أنا متّ فلا أبقى الله منهم أحدا على الدنيا» فقال لها [ابن] يزيد وأولادها : «ما نحن صانعون؟!» فقالت : «أما أنت يا ابن يزيد فسوف تدرك ملكا عظيما عند ملك العرب الأعظم ، وأما أولادى فسوف يدركون سلطانا مع هذا الرجل الذى يقتلنى ويعقدون للبربر عزا» ، ثم قالت : «اركبوا واستأمنوا إليه فركب خالد بن يزيد وأولادها فى الليل وتوجهوا إلى حسّان ، فأخبره [ابن] يزيد بقولها «أنا مقتولة» وقال له : قد وجهت إليك بابنيها ، فأمر بهما فأدخلا العسكر ، وأمر بحفظهما ، وقدم [ابن] يزيد على أعنّة الخيل ، وخرجت الكاهنة ناشرة شعرها فقالت : «انظروا ماذا دهمكم واعملوا لأنفسكم ، فإنى مقتولة!» والتحم القتال ، واشتد الحرب ، واستحر القتل فى الفريقين حتى ظنّ الناس أنه الفناء ، فانهزمت الكاهنة واتبعها حسان حتى قتلها ، ونزل فى الموضع [الذى قتلت فيه وهو] بئرها وعليه بقى رأسها ، فسمى الناس هذا [البئر بئر الكاهنة] إلى اليوم.

وكانت مع حسان جماعة من البربر ... فى ولدى الكاهنة وقرّبه وأكرمه ، ثم إن البربر استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم ألا أن يعطوه من جميع قبائلهم اثنى عشر ألفا ، يكونون مع العرب مجاهدين فأجابوه وأسلموا على يديه ، فعقد لوائين لولدى الكاهنة ، لكل واحد


منهما على ستة آلاف فارس ، وأخرجهم مع العرب يجولون فى إفريقية يقاتلون الروم ومن كفر من البربر ، وحسن إسلام البربر وطاعتهم ، وانصرف حسان إلى مدينة القيروان ، وذلك فى رمضان سنة أربع وسبعين ، ودانت له إفريقية ، فدوّن الدواوين وصالح من ألقى بيده على الخراج ، وكتب الخراج على عجم إفريقية ، وعلى من أقام معهم على النصرانية من البربر والروم ، وأقام حسان بعد قتل الكاهنة ، وقد استقامت له إفريقية فلا يغزوا أحدا ولا ينازعه أحد.

موت عبد الملك بن مروان (١)

ومات عبد الملك بن مروان سنة ست وثمانين ، وولى بعده ابنه الوليد بن عبد الملك ، [وكان الروم] أغاروا على مرسى رادس ، فقتلوا من بها وسبوا وغنيموا ، .. الوليد بن عبد الملك يعرفّه بذلك ، وبعث إليه منها أربعين رجلا من أشراف العرب ، وأقام حسان بن نعمان فى رادس مرابطا حتى يأتيه أمر الوليد ، وكتب علماء المشرق إلى أهل إفريقية : «من رابط عنا يوما برادس حججنا عنه حجة ، وعظم قدر رادس عند العلماء وفضلها». فلما ورد الخبر إلى الوليد بن عبد الملك بعث إلى عمه عبد العزيز بن مروان وهو على مصر وإفريقية ، وأمره أن يتوجه ألف قبطىّ ، وألف قبطية ، ويحملهم إلى إفريقية ، وأمره أن يخرق البحر إلى تونس ، وأن يجعل بها دار صناعة ، وأن يعمل المركب ويستكثر منها ، ويجاهد الروم فى البر والبحر ، وأن يغير على سواحل الروم ويشغلهم عن بلاد الإسلام ، ثم عزل عبد العزيز بن مروان حسان بن النعمان ، وأمره بالقدوم عليه وبعث إليه أربعين رجلا من أشراف أصحابه ، وأمرهم أن يحفظوا جميع ما معه. فعلم حسان ما يراد به فعمد إلى الجوهر والذهب والفضة فجعله فى قرب الماء ، وطرحه فى العسكر وأظهر ما وراء ذلك ، فلما قدم حسان بن النعمان على عبد العزيز بن مروان أهدى إليه مائتى جارية من

__________________

(١) وهو أبو الخلفاء الأمويين لأن كل أولاده تقلدوا منصب الخلافة الأموية.


خيار ما معه ، وكان معه من السبى خمسة وثلاثين ألف رأس مما لم يدخل فيهم وصفاء ووصائف ما رأى الراؤون مثلهم قط ، فتخير ما أحب وأخذ منه خيلا كثيرة ، ورحل حسان بمن معه من السبى والجمال والأنعام ، حتى قدم على الوليد بن عبد الملك ، فشكا إليه ما صنع به عبد العزيز ، فغضب الوليد لذلك وأنكره فقال حسان لمن معه : «ائتونى بالقرب فأتى بها ، ففرغت بين يدى الوليد مما فيها من الجواهر ، والذهب والفضة» فاستعظمه وأبهته فقال له : «يا أمير المؤمنين ، إنّما خرجت مجاهدا فى سبيل الله ، وليس مثلى خان الله ولا الخليفة» فقال له الوليد : «أردّك إلى عملك وأحسن إليك» فحلف حسان : أنه لاولى لبنى أمية ولاية أبدا. فلما رأى ذلك الوليد غضب على عبد العزيز. وكان يسمى حسان الشيخ الأمين

ولاية موسى بن نصير (١)

وكتب الوليد بن عبد الملك ـ رحمه الله ـ إلى عبد العزيز بن مروان يأمره أن يوجه إلى إفريقية موسى بن نصير من قبل الوليد وقطع إفريقية عن عبد العزيز. فقدمها موسى فوجد أكثر مدنها خالية باختلاف أيدى البربر عليها ، فكان ينقل العجم من الأقاصى إلى ... قال إن كنيسة كانت بشقبّنارية كان فيها عجب ... منها مرآة فى سلطان الروم ، فإذا اتهم الرجل امرأته ... المرأة فرأى المبتلى بالمرأة ، وكانت البربر قد تنصرت ، فكان رجل بربرى قد أظهر اجتهادا فى النصرانية حتى صار شمّاسا ، واتهم رجل امرأته فنظر فى المرآة ، فإذا هو بوجه البربرى الشماس ، فدعا به الملك فقطع أنفه وطرده من الكنيسة ، فلما رأى ذلك قومه طرقوا المرآة فكسروها ، وأرسل الملك إلى حيّهم فاستباحه وخرج موسى من

__________________

(١) هو القائد التابعى المعروف عبد الرحمن موسى بن نصير اللخمى ولد سنة ١٩ ه‍ وتوفى سنة ٩٨ ه‍ وكان أبوه نصير من كبار حرس معاوية بن أبى سفيان ، وتولى موسى حكم المغرب مكان حسان سنة ٨٦ ه‍ على عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك الأموى ، وكانت سياسته متممة للسياسة التى بدأها أبو المهاجر دينار.


إفريقية غازيا إلى طنجة ، فوجد البربر قد هربوا من المغرب خوفا من العرب ، فتبعهم وقتلهم قتلا فاحشا ، وسبى منهم سبيا كثيرا ، حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد ، فلما رأى البربر ما حلّ بهم استأمنوا وأدوا الطاعة ، فقبل منهم وولىّ عليهم واليا ، ثم استعمل موسى بن نصير على طنجة طارق بن زياد مولاه ، وتركه بها فى سبعة وعشرين رجلا من العرب ، واثنى عشر ألف فارس وهى العدة التى جعلها عليهم حسان بن النعمان وكانوا قد دخلوا الإسلام ، وحسن إسلامهم ، فتركهم موسى وانصرف بعسكره من العرب خاصة وكان فى خلق عظيم ، وأمر العرب السبعة والعشرين الذين ترك عند طارق بن زياد أن يعلّموا البربر القرآن وأن يفقهوهم فى الدين.

ثم مضى إلى إفريقية فمر بقلعة مجّانة وانحصر صاحبها منه ، فرأى موسى بن نصير فلم يعرض له ، فلما نزل القيروان دعا بسر بن أرطاة (١) فعقد على أعنة الخيل ، وأمره أن يمضى إلى صاحب قلعة مجّانة. فلما أناخ عليهم عظم عليهم أمر القتال ، ونظر الروم من العرب صبرا لم ير مثله قط ، فملأهم ذلك رعبا ، فألقوا بأيديهم فدخلها ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية وغنم منها أموالا كثيرة ، فكانت تسمى باسمه «قلعة بشر» لا تعرف إلّا به ، لأنه هو الذى افتتحها ، فأصاب عددا من ولائد ووصفاء وذهبا وفضة ، فخمس ذلك وبعث بالخمس إلى موسى بن نصير ، وبعث موسى الخمس إلى الوليد فكانت قيمة ذلك الخمس عشرين ألف دينار.

قال : وتحامل أصحاب طارق بن زياد ، عامل موسى بن نصير بطنجة على أهل البلد ، وأساءوا إليهم وجاروا عليهم فكتبوا إلى أهل الأندلس يعرّفونهم بما يلقونه من جهة البربر وسوء سيرتهم ، فكان طارق يوما بطنجة إذ طلعت مراكب ، فأكمن لها المسلمون ، فلما أرست خرجوا إليها ، وأنزلوا أهلها ، فقال أهلها : «إنّا إليكم جئنا عامدين فإذا هم

__________________

(١) وهو بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة القرشى ، وقيل بشر وهو أحد قواد معاوية وأكابر أصحابه ، غزا طرابلس مع عمرو بن العاصى ، فبعثه إلى ودان فافتتحها وفرض على أهلها ثلاثمائة وستين رأسا ، ثم خرج مع عقبة بن نافع غازيا ، وافتتح قلعة من القيروان على ثلاثة أيام ، فعرفت بقلعة بشر اليوم.


يعظمون غلاما حدثا منهم ، يقال له «أليان» ، فقال له طارق : «ما جاء بك؟» فقال «أنا ابن ملك الأندلس وليس بينك وبينها إلا هذا ... إلى جبالها يريه إياها. قال له طارق : «ما جاء بك؟» ، قال له : «إنّ أبى مات ووثب على مملكتنا بطريق يقال له «لذريق» ، وبلغنى أمركم وجئت إليكم أدعوكم إليها ، وأكون دليلكم عليها»

ومع طارق اثنى عشر ألفا من البربر ، فعزم طارق على غزو الأندلس واستنفر البربر فجعل أليان يحمل البربر فى مراكب التجّار التى تختلف إلى الأندلس ، ولا يشعر بهم أهل الأندلس ، ولا يظنون إلا أنها تختلف بمثل ما كانت تختلف به من منافعهم ومعايشهم ومتاجرهم ، فجعل ينقلهم فوجا فوجا إلى ساحل الأندلس ، وقد تقدم أليان إلى أصحاب المراكب أن لا يعلموا بهم ، وقال لقومه : «إنى توثّقت لكم ، فاعلموا أنها دولة العرب ، وهم يملكون الأندلس» ، ودعاهم إلى أن يأخذوا نصيبهم منها ، فأعجبهم ذلك ورغبوا فيه ، وكتب لهم طارق بالأمان على أنفسهم ، وذراريهم وأموالهم فلما لم يبق لهم إلّا لوح واحد ركب طارق ، ومن بقى معه ، فجاز إلى أصحابه ، فنزل بهم جبلا من جبال الأندلس حريزا منيعا ، فسمى ذلك الجبل من يومئذ «جبل طارق» فلا يعلم إلّا به.

وموسى بن نصير بإفريقية لا يعلم شيئا من هذا ، فلمّا بلغ ملوك الأندلس خبره نفروا إلى الملك الأعظم ، وهو لذريق وكان طاغيا فى جموع عظيمة على دين النصرانية ، وزحف إلى طارق فى عدة عظيمة وعاد بسرير من ذهب مكلّل بالدرّ والياقوت فشد السرير على ... ، وحفّت به الرجال ، وقعد لذريق على سريره ، وعلى رأسه تاج وعليه قفّازان مكلّلان بالدرّ والياقوت وجميع الحلية التى يلبسها الملوك قبله ، فلما انتهى إلى الجبل الذى فيه طارق ، خرج إليه طارق وجميع أصحابه رجّالة ليس فيهم راكب ، فشمروا للموت فقال لرجاله : «ليس هم أحق بالموت منكم ، قد دخلوا عليكم بلادكم!» ونادى بالنزول فنزل العسكر ... فمشى بعضهم إلى بعض بالسلاح ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فوقع الصبر حتى ظنّ الناس أنه الفناء ، وتواخذوا بالأيدى وضرب الله عز وجلّ


وجوه أعدائه ، فانهزموا وأدرك لذريق فقتل بوادى الطين ، وركب آثارهم وكان الجبل وعرا فكان البربر أسرع منهم على أقدامهم ، فسبقوهم إلى خيلهم فركبوا خيولهم البربر ، ووضعوا فيهم السيف وأبادوهم ولم يرفعوا عنهم السيف ثلاثة أيام ولياليها ، فمكث جيفهم دهرا وبقيت عظامهم إلى حديث من الزمان. وأمر طارق فرسان المسلمين أن يسبقوهم إلى قرطبة ، فأتوها وقد وقف المسلمون حولها فقتلوهم ، فكانت قرطبة مدينة لذريق ... ثغر الأندلس.

ودخل طارق قرطبة فأصاب فيها من الدّر والياقوت والذهب والفضة ما لم يجتمع مثله قط وأصاب من الحرير ... والنساء والذرارى ما لا يحصى ولا يعد ، فكانت جملة السبى عشرة آلاف رأس وذلك سنة اثنين وتسعين.

وبلغ موسى بن نصير أن طارق بن زياد فتح الأندلس ودخلها فخاف أن يحظى بذلك عند الخليفة ، فغضب غضبا شديدا ، وكتب إليه يعنّفه : إذ دخلها بغير أمره ، وأمره أن لا يجاوز قرطبة ، وأمر موسى الناس بالرحيل ورحل معه وجوه العرب ، وكان مخرجه فى رجب سنة ثلاث وتسعين ، واستخلف على القيروان ابنه عبد الله بن موسى ، وكان أسنّ ولده ، وسار حتى إذا كان بطنجة عبر البحر منها إلى الخضراء ، وهى على مجاز الأندلس ، فكره طارق أن يخرج إليه من المدينة لكثرة العدو فوجّه إليه بالخفّ ، والحافر والهدايا والجوارى وغير ذلك.

ولما كان موسى بن نصير بطنجة قبل جوازه مال عياض بن عقبة إلى قلعة يقال لها «سقيوما» وكان فيها بقية قتلة عقبة ، ومال معه سليمان بن أبى المهاجر ، وسألا موسى أن يميل معهما فكره ذلك وقال : «هؤلاء قوم فى الطاعة» فأغلظا لهم الكلام حتى يرجع فقاتل أهل سقيوما قتالا شديدا حتى أخذوا لواء من ألوية العرب ، فكانوا يقاتلونهم به حتى تسور عليهم عياض بن عقبة من خلفهم فى قلعتهم ، فانهزم البربر واشتد القتل عليهم ... التى دخل عليهم منها عياض ، فمات القوم وبادرهم ... إلى اليوم. وذكر


ابن أبى حسان أن موسى لما فتح [سقيوما] كتب إلى الوليد بن عبد الملك : إنه صار لك من سبى سقيوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد : «ويحك! إنى أظنّها من بعض كذباتك ، فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة».

فلما وصل موسى إلى قرطبة ، استجار طارق بابنه عبد العزيز فشفع له عند أبيه ، ودخل موسى قرطبة فأتاه طارق بن زياد فترضّاه ، وقال : «إنما هذا الفتح لك ، وإنما أنا مولاك» فقبل منه وعفى عنه ، فتكاملت بقرطبة الجيوش من العرب والبربر فصاروا فى خلق عظيم ، فلما رأى موسى بن نصير ذلك دعا بطارق بن زياد ، فوجهه على أعنة الخيل إلى مدينة طليطلة.

فتح مدينة طليطلة

وهى مما يلى الأفرنج ، فانتخب له الرّجال ، وسار طارق حتى وقف عليها وأناخ بها وبها اشراف أهل الأندلس وأموالهم وذخائرهم فقاتلهم قتالا شديدا حتى افتتحها ، فأصاب فيها جميع كنوزهم وأموالهم ، وغنم منها من الجوهر ما لا يجد له قيمة ، وأصاب فيها مائدة سليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ وكانت من ذهب مكلّلة بالدرّ والياقوت وضروب الجوهر ، وكان سبب وصولها إلى طليطلة : أن الروم أخذوا ما كان فى بيت المقدس من مكارم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ حملوها إلى مدينة رومية وحمل أسقافة النصارى مائدة سليمان إلى مدينة الأسكندريّة ، فلما غزا عمرو بن العاص مصر هربوا إلى مدينة طرابلس ، فلما نزل عمرو بن العاص «لبدة» هرب بها الروم إلى قرطا جنّة ، فلما دخل المسلمون إفريقية هربوا بها إلى مدينة طليطلة ، ولم يكن لهم أمنع منها ، فلمّا ظفر بها طارق نظر إلى عجب لم ير مثله قطّ! فأمر بزبر جدها (أ) فقلع ، وهى مكّللة بالدر والياقوت ، وعمل لها رجلا غيرها ، ونهض بجميع ما معه من الجواهر والأموال إلى موسى ، ونظر من المائدة إلى عجب لم ير مثله ، وذلك سنة أربع وتسعين ، فأتى موسى بن نصير شيخ كبير قد عصب على حاجبيه من الكبر ، فقال له موسى : «من أنت؟!» فقال : «رجل من


أهل هذه البلاد» قال له : «ما لنا من العلم عندك؟» قال : «افتتحتم قمونية» قال : «نعم!» قال : «فإنكم لابد أن تنتهوا من هذه البلاد إلى منتهاكم» فنهض موسى بفتح مدائن الأندلس مدينة بعد مدينة حتى انتهى إلى مدينة «أربونة» فأراد لقاء ملك أفرنجة ، فأخذ حنش الصّنعانى بلجامه وقال : «سمعتك أيّها الأمير تقول حين فتحت طنجة لم يكن لعقبة ولا لأبى المهاجر من ينصحهما حتى أتيت أنصحك اليوم ، فارجع ، فقد توغلت بالمسلمين.

وعن يوسف بن هشام : قال : كان جدّى من خاصة موسى ، فأخبرنى ، قال : انتهينا إلى صنم ، فوجدنا فى صدر ذلك الصنم : «ارجعوا يا بنى إسماعيل ، فإلى هذا منتهاكم ، وإن سألتم إلى ماذا ترجعون أخبرتكم أنكم ترجعون إلى الاختلاف فى ذات بينكم حتى يضرب بعضكم بعضا ، وقد فعلتم».

وذكر عمر بن سهل ، مولى موسى بن نصير ، قال : لما أراد موسى الانصراف من ثغر الأندلس وضعت أكوام الذهب والجواهر والفضة بين يديه ، فأمر بالنيران فأوقدت ورمى فيها الجواهر والزمرد والياقوت وغير ذلك ، فما صلب على النار ولم ينفرق عزله ، وما تفرّق منه تركه ، وأتى بالمائدة فوضعت ، وذكر لموسى شيخ كبير فدعا به ، فإذا شيخ قد وقعت حاجباه على عينيه قال له موسى : «اخبرنى كم أتى عليك من السنين؟» قال : «خمسمائة سنة» قال له موسى : «ما هذه المائدة؟!» قال : «هذه مائدة سليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ» قال : وكيف وقعت إلى ... النصرانية عن اليهود قتل عيسى ـ عليه السلام ـ ... بها إلى بيت المقدس وحلف بطروش الملك ليرد منّ البيت ... فحمل عدو الله الزّبل من الأندلس فى مراكب حتى رماه فى بيت المقدس وغزت النصرانية من كل مكان واقتسموا ما فى بيت المقدس فصار لأهل الأندلس الذرارى والمائدة ، وصار لأهل رومية تابوت داود وعصا موسى ـ عليهما السلام ـ ، والتوراة وحلّة آدم ـ عليه السلام ـ وصار لأهل قسطنطنية الياقوتية» ، فقال موسى : «وما تلك الياقوتة؟» قال : «ياقوتة ذى القرنين التى كان يهتدى بها فى الظّلمات ، وهذه أول ما رجع إلى بيت المقدس ، وسيرجع كله».


فاجتاز موسى بالأموال والذّهب والفضة والجواهر والمراكب إلى طنجة ثم حملها على العجل ، فكانت وسق مائة عجلة وأربع عشر عجلة ، تبدّل عليها الأزواج فى كل مرحلة ، وقيل لرجل من أصحاب موسى يقال له أبو حميد : «كيف كانت المائدة؟» قال : «كانت من ذهب مشوب بشىء من فضة ملوّن بحمرة وصفرة ، وكانت مطوّقة بثلاث أطواق : طوق من ياقوت ، وطوق من زمرجد ، وطوق من لؤلؤ» قلت : «فلما كان يحملها؟» قال : لما كنا بباغاية أفلت بغل لرجل من أهل العسكر قطع ... الأخبية ، وإذا من فى العسكر موسى بن نصير أحمل (كذا) عليه حمائلا ، فما بلغ المرحلة حتى تفسّخت قوائمه قال : «إن موسى دعا ذلك الشيخ فقال له : «أين بلدك؟» فقال : «قرطاجنة» قال : موسى «كم أقمت بها؟ قال : «عمّرت به ثلاثمائة سنة وبالأندلس مائتى سنة».

خبر قرطاجنة ومن بناها

فقال : «كيف كان خبر قرطاجنّة ، ومن بناها؟» قال : «قوم من بقية آل عاد الذين هلك قومهم بالريح ، وبقيت بعدهم خرابا ألف عام ، حتّى أتى الزبير بن لاود بن ثمود الجبّار ، فبناها على البناء الأول ثم احتاج إلى الماء العذب ، فبعث إلى أبيه ، وكان أميرا على الشام ، وعمّه على السّند والهند ، وكان ملكه من قرطاجنّة إلى الأندلس ، فأرسل إليه أبوه المهندسين ، فهندسوا له الماء حتى وصلوا إلى قرطاجنّة» قال : «وكم كان عمره؟» قال : «سبعمائة سنة» فارتادوا له مجرى القناة أربعين سنة ، وكان لما حفر أساسه ، وجد حجرا مكتوبا فيه : «هذه المدينة علامة خرابها إذا ظهر فيها الملح». فبينما نحن ذات يوم فى غدير قرطاجنة إذ بان الملح على الحجر ، فعندها رحلت إلى هاهنا ، ثم إن موسى بن نصير ولىّ على الأندلس ابنه عبد العزيز وخلف معه حبيب بن أبى عبدة بن عقبة بن نافع وشخص موسى قافلا إلى الشام فوصل إلى مدينة القيروان ، فى آخر سنة خمس وتسعين فلم ينزلها ونزل منها على ميل من القيروان.

فحكى شيخ من أهل إفريقية .. الهمذانى : أن موسى بن نصير قعد فى مجلسه


وجاءه العرب ممن سافر معه وممن خلفه مع ابنه عبد الله بإفريقية ، فلما احتفل المجلس ، قال : «قد أصبحت اليوم فى ثلاث نعم ، اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين» ، فقرأ كتاب الوليد بشكره والثناء عليه ، ووصف ما أجرى الله تبارك وتعالى من الفتوحات على يديه ، فحمد الله فقاموا إليه فهنأوه بذلك. ثم قال : اقرأ كتاب ابنى عبد العزيز ، يصف ما فتح الله بعده فى الأندلس ، فقاموا إليه ، فهنأوه. ثم قال : «وأما الثالثة ، فأنا أريكموها» وأمر برفع ستر خلفه ، فإذا ببهو فيه جوار مختلفات الألوان من ملساء إلى ناهد إلى منكسرة ، عليهن الحلى والحلل ، فهنىء بذلك ، وعلىّ بن رباح اللّخمىّ ساكت. فقال له موسى : «يا على ما لك لا تتكلم؟!» فقال : «أصلح الله الأمير ، قد قال القوم» قال : «وقل أنت» قال : «أنا أقول ، وأنا انصح الناس لك : إنه ما من دار ملئت حبرة إلا امتلأت عبرة ، ولا انتهى شىء إلا رجع ، فارجع قبل أن يرجع بك! قال : «فانكسر موسى. ثم التفت فقال : يا فلان جئنى بهؤلاء الجوارى ، هذه قم يا فلان فخذ هذه حتى أزفّهن كلهن ، فأقام بعد عيد الأضحى بقصر الماء ثلاثة أيام بعسكره.

ثم رحل إلى المشرق ، ومعه طارق ، وقد قفل به وبكل ما أصاب من (أ) الأموال والجوهر والمائدة ، وخلّف على إفريقية عبد الله ابنه وكان أكبر بنيه ، وعلى طنجة ابنه عبد الملك وسار فلما ... ومر بخربة عادية ومدينة من مدائن الأولين نزل ، فركع ركعتين ، ومشى فيها ، وفكّر فى معالمها وآثارها وبكى بكاء كثيرا. ثم إنه ركب يريد الشّام ، فلما كان بالعريش جاءه كتاب الوليد يستعجله ، وجاءه كتاب سليمان يأمره بالتربّص ، وكان سليمان ولى عهده ، وكان الوليد مريضا بدير من غوطة دمشق ، فأسرع موسى ولم ينظر فى كتاب سليمان ، ودفع الأموال إلى الوليد ، وأهدى إليه المائدة والدرّ والياقوت ، وذكر موسى للوليد أنه الذى أصاب المائدة وفتح طليطلة. فلمّا رأى ذلك طارق دخل على الوليد وهو مريض ، أعلمه بالقصة وأخبره أن موسى تعدّى فى أموال المسلمين وأنفقها فبعث إلى موسى ، وجمع بينهما بين يديه ، وكذّبه موسى ، فقال له طارق : «يا أمير المؤمنين ، ادع بالمائدة ، وانظر هل ذهب منها شىء» فدعا بها الوليد ، ونظرها فإذا رجل من أرجلها لا يشبه بقية الأرجل ، فقال له طارق : «سله عنها يا أمير المؤمنين ، فإن أخبرك بأمر الرجل


وإلا استدللت صدقى على كذبه» فقال موسى : «هكذا وجدتها؟!» فقال طارق : «الرجّل عندى» فلما دعا بها ونظرها وضعها فى المائدة ، علم أنها منها فصدقه الوليد وقبل قوله واختاره ، ونزل منه أقرب مما كان وكذّب موسى وأمر بحبسه ، وأحضر من يعرف قيمة الجوهر ، فقوّمت تلك المائدة بمائتى ألف دينار ، ولم يلبث الوليد إلّا ثلاثة أيام حتى مات.

موت الوليد بن عبد الملك

ولاية سليمان بن عبد الملك

سنة ست وتسعين

توفى سلخ جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ، وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر ، وبويع لسليمان بن عبد الملك بالخلافة حين توفى الوليد ، فسخط على موسى ، وقال له : يا يهودىّ ، كتبت إليك فلم تنظر فى كتابى ، هلمّ مائة ألف! قال : «يا أمير المؤمنين ، قد أخذتم جميع ما فى يدى ، فمن أين لى بمائة ألف؟» فقال : «لابد من مائتى ألف دينار» فاعتذر إليه ، فقال : «لا بد من ثلاثمائة ألف» ، وأمر بتعذيبه وعزم على قتله. فلجأ موسى بن نصير إلى يزيد بن المهلب فاستجار به ، وكانت ليزيد ناحية من سليمان فاستوهبه دمه ، فقال : «يؤدّى ما عنده».

ولاية محمد بن يزيد (١) مولى قريش

قال الواقدى : «ثم إنّ سليمان بن عبد الملك ، قال لرجاء بن حيوة : يا رجاء ابغنى

__________________

(١) هو محمد بن يزيد مولى قريش تولى حكم المغرب سنة ٩٧ ه‍ ـ ١٠٠ ه‍ / ٧١٦ م ـ ٧١٩ م بعد انقضاء أمر آل موسى بن نصير ، وذلك على عهد الخليفة الأموى سليمان بن عبد الملك ، وكان يتميز بهدوء حالة بلاد المغرب ، واعتدال سياسته ، وحسن سيرته.


رجلا له فضل فى نفسه ونهوض بما ولى أولّيه إفريقية». قال رجاء : «سأنظر فى ذلك يا أمير المؤمنين» وسكت أياما ، ثم جاءه ، فقال : «قد وجدت رجلا له فضل فى نفسه ونهوض بما ولى» قال : «من هو؟» قال : «محمّد بن يزيد مولى قريش» قال : «ما اعرفنى به ، أدخله فأدخله رجاء» على سليمان ، فقال له سليمان : «يا محمد بن يزيد ، اتّق الله وحده لا شريك له ، وقم فيمن وليتك بالحق والعدل ، اللهم اشهد عليه» فخرج وهو يقول «ما لى عذر إن لم أعدل».

فولى محمد إفريقية سنة تسع وتسعين ، وكانت ولايته سنتين وأشهرا ، فى أحسن سيرة وأعدلها ببركة سليمان ، وكتب سليمان إلى محمد بن يزيد : أن يأخذ آل موسى بن نصير وكل من التبس بهم حتى يوفوا ثلاثمائة ألف دينار ، ولا يرفع العذاب عنهم ، فقبض على عبد الله بن موسى ، فحبسه فى السجن ، ثم جاء بريد آخر : بضرب عنقه ، فولى ضرب عنقه خالد بن أبى حبيب ، وأما عبد العزيز بن موسى ، فإنه كان عاملا لأبيه على الأندلس ، فتزوج بعد خروج أبيه إلى إفريقية امرأة لذريق ملك روم الأندلس ، الذى قتله طارق بن زياد. فجاءته من الدنيا بشىء عظيم لا يوصف ، فلمّا دخلت عليه ، قالت : «مالى أرى أهل مملكتك لا يعظمونك ولا يسجدون لك ، كما كان أهل مملكة زوجى يعظمونه ويسجدون له؟» وقالت : «إن هم سجدوا لك وعظّموك أخرجت لك كنز ملوك الأندلس». فلما سمع ذلك منها ، أمر بباب فنقب فى ناحية من قصره قبالة الموضع الذى يجلس فيه ، وكان يأذن للناس منه ، فكان يدخل الرجل حين يدخل منكّسا رأسه ، مكبّا على يديه ، لقصر الباب ، وهى على سريرها تنظر إلى الناس من حيث لا يرونها ، فلما رأت ذلك ظنّت أنّه سجود ، فقالت لعبد العزيز : «الآن أقررت عينى ، وأخرجت له أموالا عظيمة. وبلغ النّاس أنه إنّما أمر بهذا الباب ، ليخبرها أنه إنما أمر الناس يسجدون له ، فثار عليه حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى ، وزياد بن عابدة البلوى ، وزياد بن نابغة فيمن معهم من الناس فقتلوه ، وذلك فى آخر سنة ثمان وتسعين ، فى آخر


خلافة سليمان بن عبد الملك ، ثم مكثوا بعده لا يجمعهم إمام.

وقال غير الواقدى : (١) بلغ عبد العزيز ما نزل بأبيه وأخيه وأهل بيته ، فخلع ، طاعة بنى مروان ، وخالفهم ، فأرسل إليه يتهدّده ، فلم يرجع إلى الطاعة ، وجاء بالكتاب إلى حبيب ابن أبى عبيدة إلى وجوه العرب ، فقالت لهم الرّسل : «ما يمنعكم من هذا اليهودى»؟ قالوا : لا طاقة لنا به. فقالوا : والله لئن لم تقتلوه لنخبرنّه ، فسقط فى أيديهم. وأقبل حبيب بن أبى عبيدة مشتمار على سيفه ، فلمّا خرج عبد العزيز إلى صلاة الصبح ، فقرأ فاتحة الكتاب ثم قرأ «الحاقة» فقال له حبيب : «حقّت والله عليك يا بن الفاعلة» وعلاه بالسيف ، فقتله ، وحمل رأسه ورأس عبد الله إلى موسى فوضعا بين يدى أبيهما ، ولم يزل موسى يعذّب حتى مات ، واستعمل محمد بن يزيد على الأندلس الحسن بن عبد الرحمن القيسى ، وكانت الأندلس إذ ذاك إلى والى إفريقية ، وكان محمد بن يزيد يبعث السرية إلى ثغور إفريقية فما أصابه خمّسه ثم قسّمه عليهم ، ثم قسّم الخمس أيضا.

وفاة سليمان بن عبد الملك

وولاية عمر بن عبد العزيز

فى سنة تسع وتسعين

توفى سليمان بن عبد الملك ، فى ربيع الأول سنة تسع وتسعين ، وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر ، ثم بويع لعمر بن عبد العزيز بالخلافة ، حين توفى سليمان فاستعمل على إفريقية إسماعيل بن عبد الله بن أبى المهاجر مولى بنى مخزوم فأقام بها واليا سنة مائة وسنة إحدى ومائة فى خلافة عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وكان خير وآل ، وخير أمير ، وما زال حريصا على دعاء البربر إلى الإسلام فأسلم بقية البربر على يديه.

__________________

(١) وهو محمد بن عمر بن واقد الواقدى الأسلمى مولاهم المدنى قاضى بغداد ، روى عن الثورى والأوزاعى وابن جرير ، وعنه الشافعى ، ومحمد بن سعد كاتبه وأبو عبيد القاسم ، مات سنة ٢٠٧ ه‍ وقيل سنة ٢٠٩ ه‍


وفاة عمر بن عبد العزيز

ولاية يزيد بن عبد الملك

فى سنة إحدى ومائة

توفى عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بدير سليمان ، لستّ خلون من شعبان سنة إحدى ومائة. فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر ، ثم ولى يزيد بن عبد الملك ، واستعمل على إفريقية يزيد بن أبى مسلم ، مولى الحجاج وصاحب شرطته.

ولاية يزيد بن أبى مسلم مولى الحجاج (١)

فقدمها سنة ثنتين ومائة ، فمكث أشهرا وحرسه البربر خاصة ، ليس فيهم أحد من البرانس ، فقام يزيد بن أبى مسلم خطيبا على المنبر ، فقال : «أيّها الناس ، إنّى قد رأيت أن أسم حرسى فى أيديهم ، كما تفعل ملوك الروم بحرسها ، فأسم فى يمين الرجل اسمه ، وفى يساره «حرسى» ليعرفوا فى الناس بذلك من غيرهم ، فإذا دفعوا إلى أحد أسرع فيما أمرته به ، فلمّا سمع ذلك حرسه اتفقوا عليه ، وغضبوا ، وقالوا : «جعلنا بمنزلة النّصارى!».

ودبّ بعضهم إلى بعض وتعاقدوا على قتله ، فلما خرج من داره إلى المسجد لصلاة المغرب ، قتلوه فى مصلاه. فتكلّم الناس على رجل يقوم فيهم حتى يأتيهم أمر الخليفة ، فتراضوا بالمغيرة بن أبى بردة القرشىّ ، وكان شيخا كبيرا. فقال له ابنه ، عبد الله ، وهو الذى ولى بعد ذلك قضاء إفريقية : «أيّها الشيخ ، إنّ هذا الرجل ، يعنى : يزيد بن أبى مسلم ، قتل بحضرتك ، فإن قمت بهذا الأمر بعده لم آمن عليك أن يظن بك الخليفة قتله ، ويتهّمك أن تكون عملت فيه لنفسك ولكن الرأى أن تتراضى بمحمد بن أوس

__________________

(١) هو يزيد بن أبى مسلم مولى الحجاج وكاتبه وتلميذه ولاه الخليفة يزيد بن عبد الملك حكم المغرب سنة ١٠١ ه‍ / ٧٢٠ م ، قتلوه البربر سنة ١٠٢ ه‍.


الأنصارى ـ وكان غائبا ـ بصقلية ، فإذا قدم كتب إلى الأمير بالأمر ، فإنه لا يتهمه وهو عامل علينا له ، وسيقبل قوله ويصدّقه. فقبل الشيخ رأى ابنه ، فلم يلبث محمد إلّا يسيرا حتى قدم بغنائم أصابها ، فقلّدوه أمر إفريقية فكتب إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما كان فى وجهه ، وبما حدث من الأمر بإفريقية ورضاء الناس به ، وبعث فى ذلك خالد بن أبى عبيدة التّجيبى ، وهو من أهل تونس ، فقبل منه وعفا عمّا كان من حديثهم. قال خالد : «فدعانى ، خاليا ، فسألنى أىّ رجل محمد بن أوس الأنصارى» ، فقلت : «رجل من أهل الدين ، والفضل ، معروف بالفقه» قال : «فما بها قرشى إلّا المغيرة بن أبى بردة» قال : «قد عرفته ، فما باله لم يقدم» قلت : «إنّى ذلك». فاستعمل يزيد على إفريقية بشرا.

ولاية بشر بن صفوان الكلبى (١)

فقدمها سنة ثلاث ومائة ، ثم إنّ بشرا وفد بعد ذلك إلى يزيد فألقاه قد هلك فى ربيع الأول سنة خمس ومائة ، فكانت خلافته أربع سنين وشهرا وأربعة أيام ، ثم ولى هشام بن عبد الملك ، فردّ بشر بن صفوان إلى إفريقية. فلمّا قدمها ولّى على الأندلس عبد الله بن سحيم الكلبى ، وعزل عنها الحسن بن عبد الرحمن القيسى ، ثم إن بشر بن صفوان غزا صقلية بنفسه ، فأصاب سبيا كثيرا ثم رجع من غزوته ، فتوفى بالقيروان سنة تسع ومائة ، فلما احتضر صاحت جارية عند رأسه : «وا شماتة الأعداء يا سيداه!» قال : «قولى للأعداء لا يموتوا» ، واستخلف فى موضعه العبّاس بن ناصعة الكلبى ، فكانت ولاية بشر بن صفوان فى المرة الأولى (أ) ، والثانية سبع سنين. ، فلما انتهى موت بشر بن صفوان إلى هشام استعمل على إفريقية عبيدة.

__________________

(١) هو بشر بن صفوان الكلبى كان واليا على مصر حينما قتل يزيد بن أبى مسلم والى إفريقية فأمره الخليفة يزيد بن عبد الملك بأن يترك ولاية مصر لأخيه حنظلة ، وأن يتجه فورا نحو المغرب ، فذهب إلى القيروان فى نفس هذا العام ١٠٢ ه‍ ، واستمرت ولايته على المغرب بقية خلافة يزيد وجزءا من خلافة هشام حتى توفى نسخة ١٠٩ ه‍ / ٧٢٧ م.


ولاية عبيدة بن عبد الرحمن السلمى (١)

وهو أخو الأعور السّلمىّ صاحب خيل معاوية ـ رحمه الله ـ بصفيّن ، فقدمها فى سنة عشر ومائة. فحكى موسى بن أشعث قال : «خرجت من منزلى إلى الرملة ، وكانت سكة للبريد ، فبينا أنا متوجّه نحو القيروان إذا أنا بركب ثمانية على دواب البريد ، فتصدّيت للقائهم ، فإذا قوم سراة ، أجد عرف المسك كلّما ضربت الريح إلىّ منهم ، فسلّم أحدهم وهو من أحسنهم هيئة وملبسا ومركبا ، فرددت عليه السلام ، وقال : «سر هاهنا» ، فملت إليه آخذ معهم نحو القيروان ، فسألنى عن بعض حديث الناس والبلد ، سؤال من لا يعرف البلد. فقلت : «إذا توالت الغيوث فالواحد مائة» قال : «ينبغى أن يكون فحصا مسناتا ، يعطى عاما فى أعوام» قلت : «أجل! وقد سألتنى فأخبرتك ، وأنا أحبّ ـ أصلحك الله ـ أن أعرف من أنت ، فإنّى أرى شارة» قال : «أنا أميرك عبيدة بن عبد الرحمن» ، فما زلت أساقطه الحديث ، مرة أنشىء ومرة أجيب ، حتى جئنا مدينة القيروان ، فمال إلى دار الإمارة وذلك يوم الجمعة فألفى العباس بن ناصعة الكلبى قد تهيأ لشهود الجمعة ، ولبس ثيابه ، فقيل له : «هذا عبيدة قد قدم أميرا» فقال : «لا حول ولا قوة إلّا بالله ، هكذا تقوم الساعة بغتة!» فألقى بنفسه ، فما حملته رجلاه ودخل عبيدة بن عبد الرحمن يجمع الناس ، وأخذ عمال بشر فحبسهم وأرغمهم وتحامل عليهم ، وعذّب بعضهم وكان فيهم أبو الخطار بن ضرار الكلبى وكان قائدا جليلا ورئيسا شريفا فى قومه ، مع فصاحة وبيان ، وقول حسن الشعر ، وولى فى إفريقية ولايات كثيرة فى إمارة بشر ابن صفوان ، وولى بعد ذلك إمارة الأندلس ، فقال :

أفادت بنو مروان قيسا دماءنا

وفى الله إن لم يعدلوا حكم عدل

وقيناكم حرّ القنا بصدورنا

وليس لكم خيل سوانا ولا رجل

__________________

(١) هو عبيدة بن عبد الرحمن السلمى حكم المغرب من سنة ١١٠ ه‍ ـ ١١٤ ه‍ / ٧٢٨ ـ ٧٣٢ م ، وكان هذا الوالى قيسيا مسرفا فى عصبيته ، فاستبد بالبربر وباليمينية واضطهد غمال بشر بن صفوان الذى حكم قبله ، وكان يمنيا ، فكاد يوقع المغرب فى فتنة عصبية ، فعزله هشام ، وأقام مكانة عبيد الله بن الحبحاب.


وولى هشام إفريقية كلثوم بن عياض القشيرى (١)

فقدم فى شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائة ، وقد عقد له على اثنى عشر ألفا من أهل الشام ، وكتب إلى والى كل بلد أن يخرج معه ، فسار معه عمال مصر وبرقة وطرابلس حتى قدم إلى إفريقية ، فنكّب عن القيروان ونزل بسبيبة ، وكان على طلائعه بلج بن بشر القيسى ، فلما وصل بلج إلى القيروان قال : «يا أهل إفريقية ، لا تغلقوا أبوابكم ، حتى يعرف أهل الشام منازلهم» مع كلام يغيظهم به ، فكتب عرب إفريقية إلى حبيب بن أبى عبيدة ، وهو مواقف للبربر : إنّك تواقف عدوّا ، وهذا عدوّ قد نزل بنا ، يريد نزول ديارنا علينا ، وعرفّوه بما قال ، فكتب حبيب بن أبى عبيدة إلى كلثوم : أنّ ابن عمك السفيه قال لأهل بلدنا كذا وكذا ، فارحل بعسكرك عنهم ، وإلا حولنا أعنّة الخيل إليك «فكتب كلثوم إلى حبيب يعتذر إليه ، ويأمره أن يقيم بشلف ولا يجاوزه حتى يقدم عليه ، واستخلف كلثوم على القيروان عبد الرحمن بن عقبة الغفّارى ، وهو إذ ذاك قاضى إفريقية ، ثم سار كلثوم ووجه على مقدمته بلج بن بشر فوصل بها إلى عسكر حبيب ، فرفضه بلج واستهان به ، وخطب الناس فسبّ حبيب بن أبى عبيدة وانتقصه ، وقال : «هذا الذى يحول أعنة الخيل إلينا!» «فقام إليه عبد الرحمن بن حبيب ، وهو إذ ذاك حدث السن ، وقال يا بن أم بلج ، هذا حبيب فاعرض له إذا شئت ،» وصاح بالناس : «السلاح السلاح!!. فمال أهل إفريقية إلى ناحية ومعهم أهل مصر ، ومال أهل الشام إلى الناحية ، ثم سعى بينهم بالصلح.

وكان هذا الاختلاف سبب هلاكه مع سوء رأى ...

فلما بلغتم نيل ما قد أردتم

وطابت لكم فيها المشارب والأكل

تغافلتم عنّا كأن لم نكن لكم

صديقا وأنتم ما علمت لنا وصل

__________________

(١) كلثوم بن عياض القشيرى أحد قواد الدولة الأموية أرسله الخليفة هشام بن عبد الملك إلى المغرب على رأس جيش كبير من عرب الشام للانتقام من قبائل البربر التى أوقعت بجيوشه فى هزيمة الأشراف بالقرب من طنجة سنة ١٢٣ ه‍ ، ولكن كلثوم منى هو الآخر بهزيمة مماثلة أمام البربر ، وانتهى الأمر باستشهاده هو وأصحابه فى بقدورة بالقرب من تاهرت فى أواخر عام ١٢٣ ه‍ / ٧٤١ م.


وبعث بها إلى الأبرش الكلبى ، فدخل بها على هشام ، وقرأها. فغضب هشام ، وأمر بعزل عبيدة بن عبد الرحمن عن إفريقية. فقفل منها ، واستخلف على إفريقية عقبة بن قدامة التّجيبىّ ، وذلك فى شوال سنة أربع عشرة ومائة ، وولىّ هشام بن عبد الملك على إفريقية عبيد الله.

ولاية عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول (١)

وكان رئيسا نبيلا ، وأميرا جليلا ، وكاتبا بليغا ، وحافظا لأيّام العرب وأشعارها ووقائعها وأخبارها ، وكان يقول الشعر ، وهو الذى بنى الجامع ، ودار الصناعة بمدينة تونس فى سنة ست عشرة ومائة.

قال عبد الله بن أبى حسان اليحصبى عن أبيه ، قال : «رأيت عبيد الله بن الحبحاب يوما ينظر فى دفتر العطاء ، ويملى لرسالة ويأمر بحاجات فى ناحية أخرى ، ويأمر فى خلال ذلك بالحكم بين رجلين متنازعين ، وكان أوله كاتبا ، ثم تناهت به الحال إلى أن ولى إفريقية ، وذلك فى ربيع الأول سنة ست عشرة ومائة ، واستخلف ولده القاسم على مصر ، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج ، وعزل عنها عنبسة بن سحيم الكلبى ، واستعمل على طنجة ابنه إسماعيل ، وبعث حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب ، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان ، ولم يقابله أحد إلّا ظهر عليه ، وأصاب من الذهب والسبى أمرا عظيما ، ولم يدع فى المغرب قبيلة إلّا أداخها فملئوا منه رعبا وخوفا ، وكان فيما أصاب من سبى البربر جاريتان ليس لكل واحدة منهن إلا ثدى واحد وسبى من قبيل من قبائل البربر يقال لهم «مسوقة» فى طريق السودان نساء لهن جمال ، وكان لهن أثمان جليلة ما مثلها ، ورجع سالما حتى قدم على ابن الحبحاب ، وأقام ابن الحبحاب مدّة ، والأمر يجرى على ما يجب من الظفر والغلبة.

__________________

(١) كان واليا على خراج مصر حينما ولاه هشام بن عبد الملك على المغرب والأندلس بالإضافة إلى عمله بمصر وذلك سنة ١١٦ ه‍ / ٧٣٤ م ، وبهذا أصبح هذا الرجل يحكم غرب الدولة الإسلامية من العريش شرقا إلى المحيط الأطلسى غربا إلى جبال البرت شمالا.


ثم غزا حبيب بن أبى عبيدة فى البحر إلى صقلية ، وذلك فى سنة اثنين وعشرين ومائة ، معه ابنه عبد الرحمن بن حبيب ، فلما نزل بأرضها وجه ابنه عبد الرحمن على الخيل ، فلم يلقه أحد إلّا هزمه عبد الرحمن ، وأظفر ظفرا لم ير مثله ، ومضى حتى نزل «سرقوسة» وهى أعظم مدينة بصقلية ، فقاتلوه فهزمهم حتى ضرب بابها بالسيف ، فأثّر فيه ، فهابه النصارى ، ورضوا بالجزية ، ثم توجّه إلى أبيه خوفا أن يخالفه العدوّ إليه ، وكان ابن الحبحاب قد ولى طنجة وما والاها عمر بن عبيد الله المرادىّ ، فأساء السيرة ، وتعدى فى الصدقات ، والقسم أراد أن يخمّس البربر ، وزعم أنهم فى المسلمين ، وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله ، وإنّما كانت الولاة يخمّسون من لم يؤمن منهم ، ولم يجب إلى الإسلام. فلما بلغ البربر خروج حبيب بن أبى عبيدة إلى بلد الروم انتقضوا على عبيد الله بن الحبحاب بطنجة ، وتداعت عليه بأسرها ، وعظم البلاء وذلك فى سنة اثنين وعشرين ومائة ، وهى أول فتن كانت بإفريقية فى الإسلام ، فعند ذلك خرج ميسرة المدغرى فقام على عمر بن عبيد المرادى ، فقتله.

وفى المغرب يومئذ قوم فيهم دعوة الخوارج وفيهم عدد كثير وشوكة ، وكتب عبيد الله بن الحبحاب إلى أبى خالد حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع بالرجوع من صقلية ، وولى خالد بن أبى حبيب الفهرى على أشراف إفريقية ووجوههم ، وشخص إلى ميسرة ووصل حبيب بن أبى عبيدة من صقلية ، فعقد له ابن الحبحاب ، وأمره أن يلحق بخالد ، فوجه حبيب فى أثره ، وسار خالد حتى عبر «وادى شلف» ، وهو نهر فى أرض البربر ، على ساحل من» تيهرت». ثم قدم حبيب بن أبى عبيدة حتى نزل على وادى شلف فأقام ولم يبرح ، ومضى خالد بن أبى حبيب من فوره حتى لقى ميسرة دون طنجة ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله ، ثم انصرف ميسرة إلى طنجة ، وأنكرت عليه البربر سوء سيرته ، وتغيّروا عما كانوا بايعوه عليه ، وقد بويع بالخلافة ، فقتلوه وولّوا أمرهم خالد بن حميد الزناتىّ : فالتقى خالد بن أبى حبيب والبربر ، فكان بينهم قتال شديد ، فبينما هم كذلك إذ غشيهم ابن حميد الزناتّى بعسكر عظيم ، فتكاثرت عليهم البربر وانهزموا ، فكره خالد أن ينهزم ، فألقى بنفسه هو وأصحابه إلى الموت ، فقتل خالد بن أبى حبيب وجميع من معه


حتى لم يبق من أصحابه رجل واحد ، وقتل فيها جماعة العرب وفرسانهم ، فسميت تلك الوقعة «غزوة الأشراف» وانتقضت البلاد و... الناس ، وبلغ أهل الأندلس ثورة البربر ، فوثبوا على أميرهم عقبة بن الحجاج الساولى ، فقتلوه وولّوا عبد الملك بن قطنّ الفهرى ، واختلفت الأمور على عبيد الله بن الحبحاب ، واجتمع الناس وعزلوه عن أنفسهم ، وبلغ ذلك هشام بن عبد الملك ، وقال : اقتل أولئك الرجال الذين كانوا يفدون علينا من المغرب أصحاب الغنائم؟ قيل : «نعم يا أمير المؤمنين» قال : «والله لا غضبنّ لهم غضبة عربية ، ولأبعثنّ إليهم جيشا أوله عندهم وآخره عندى : ثم لا تركت حصن بربرى إلّا جعلت إلى جانبه خيمة قيسى أو تميمى.» ثم كتب إلى ابن الحبحاب بقدومه عليه ، فخرج فى جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائة.

وكان صفريا يعبد الله ، وهو الذى قدم على طليعة أهل الشام مع عبيد الله بن الحبحاب ، فتلقى مسلمة عكاشة بقابس فاقتتلا قتالا شديدا ، وقتل فيما بينهما عدد كثير وانهزم مسلمة ، ورحل عكاشة حتى وصل إلى المكنسة ، وهى من حدود تهودة مما يلى سبيبة. فسار إليه عبد الرحمن بن عقبة فى جيش عظيم. فانهزم عكاشة وقتل كثير من أصحابه ، وتفرق كثير منهم ، وهرب عكاشة وانصرف عبد الرحمن بن عقبة إلى القيروان. ولما بلغ هشام بن عبد الملك قتل كلثوم بن عياض وأصحابه ؛ وبعث إلى أفريقية حنظلة بن صفوان.

إمرة حنظلة بن صفوان الكلبى (١)

وكان عامله على مصر ، وولّاه عليه سنة تسع عشرة ومائة ، فأقام عليها حتى وجهه إلى

__________________

(١) كان واليا على مصر عندما كانت الجيوش الأموية تتلقى الهزائم المتتالية أمام البربر أيام عبيد الله بن الحبحاب وكلثوم بن عياض ، فأمر الخليفة هشام عامله على مصر حنظلة بن صفوان بالإسراع إلى المغرب لإنقاذ الموقف ، فوصل حنظلة إلى القيروان سنة ١٢٤ ه‍ / ٧٤١ م ، واستطاع أن يحرز نصرا على جيوش البربر فى موقعتى «القرن والأصنام» سنة ١٢٥ ه‍ / ٧٤٣ م ، واستمر حنظلة فى ولاية إفريقية مدة سنتين استتب فيهما السلام والهدوء إلى أن أخرجه منهما زعيم اليمنية عبد الرحمن بن حبيب ابن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى سنة ١٢٧ ه‍ / ٧٤٥ م.


إفريقية سنة أربع وعشرين ومائة ، فقدمها فى شهر ربيع الآخر منها. فكتب إليه أهل الأندلس ، ومن بها من أهل الشام وغيرهم ، يسألونه أن يبعث إليهم واليا ، فبعث إليهم أبا الخطّار بن ضرار الكلبى فسار فى البحر من تونس إلى الأندلس واليا عليها فأدّوا إليه الطاعة ، ودامت له البلاد ، فلم يمكث حنظلة بالقيروان إلّا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة الصفرى الخارجى بجمع عظيم من البربر ، وقد كان حين انهزم من المكنسة فى قبائل البربر ، فزحف إلى حنظلة فى عسكر لم ير أهل إفريقية مثله قطّ من البربر ولا أكثر منه ، وزحف أيضا حنظلة عبد الواحد بن يزيد الهوارى فى عدد عظيم ، وكانا افترقا من الزّاب ، فأخذ عكاشة على طريق مجّانة ، فنزل القرن ، وأخذ عبد الواحد بن يزيد على طريق الجبال فنزل «طساس» وعلى مقدمته أبو عمره المغيلى ، فرأى حنظلة أن يجعل قتال عكاشة قبل أن يجتمع عليه البربر ، فزحف إليه بجماعة أهل القيروان ، والتقوا بالقرن ، فكان بينهم قتال شديد فنى فيه خلق كثير من الناس ، وهزم الله عكاشة وأصحابه ، فقتل من البربر ما لا يحصى كثرة ، وقيل إن حنظلة لما رأى كثرة ما دهمه من البربر قال لأصحابه : «نخندق على أنفسنا ونستمد أمير المؤمنين» ، فقال عمرو بن عثمان القرشى ، وهو إذ ذاك شاب حدث السنّ : «الله الله يا حنظلة ، اتستمد أمير المؤمنين والكرائم محصورات يمتن هزلا ، بل نخرج إلى عدونا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين».

فعزم حنظلة ، وعزم الناس ، ونزل العدو وخرج رجل من البربر من أصحاب عكاشة يدعو إلى البراز ، فلم يجبه أحد فقال حنظلة : «ألا أحد يبرز إلى هذا!؟» ، فبرز إليه حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع فصاح به أخوه : ارجع عن هذا الكلب! قال حنظلة : «ترد أخاك ، فيرد كل واحد وليه عن هذا الكلب ، خلوا لهذا الكلب الذمار ، امض يا بن أخى. فمضى القرشىّ ، فلما دنا من البربرىّ بدره البربرى بالضربة ، فأعطاه القرشى الدّرقة ، ثم ضرب ساقيه فبراهما ، وسقط البربرى ، فجلده القرشى بالسيف ، فقتله ، وقال حنظلة : «الحملة!» فحمل الناس ، فهزم الله عكاشة ومن معه ، وكانت النساء قد ركبن ظهور البيوت بالقيروان ، فإذا رأين الغبار سائرا إلى الجبل كبّرن وسجدن ، وإذا رأينه مقبلا صرخن واستغثن ، فبعث حنظلة البشير بهزيمة البربر ، وانصرف راجعا


إلى القيروان خوفا أن يخالفه عبد الواحد إليها ، وقيل : إن عبد الواحد لما وصل إلى باجة أخرج إليه حنظلة بن صفوان رجلا من لخم فى أربعين ألف فارس ، فقاتلوه بباجة شهرا فى الخنادق والوعر.

قال عمر بن غانم : أخبرنى أبى ، قال : لما كان اليوم الذى انهزمنا فيه لم نصب شعيرا لخيلنا فعلفناها القمح ، ولم نظنّ أنه يكون ما كان من أمر الهزيمة ، فلما كان من غد انهزم اللخمىّ فلم تقم له قائمة حتى انتهى إلى القيروان ، فلما هزمنا وأخذنا الطرد أصاب خيلنا انتشار ، فلا تزال ترى صرعى ، فلما توافينا إلى القيروان تحاسبنا ، ففقدنا عشرين ألف فارس ووصلنا فى عشرين ألفا. قال : وتوافى عبد الواحد ، فنزل بالأصنام من جراوة ، ثلاثة أميال عن القيروان ، وكان فى ثلاث مائة ألف.

قال عبد الواحد بن أبى حسان : فأخرج حنظلة كلما كان فى الخزائن من السلاح ، وأحضر الأموال ، ونادى فى الناس ، فأوّل من دخل عليه رجل من تجيب ، من أهل قلعة مجّانة ، قال له : «ما اسمك؟» قال «نصر بن ينعم» قال : فتبسّم حنظلة كالمكذّب له ، ثم قال له : «بالله أصدق» قال : «والله مالى اسم غير ما ذكرت لك» فدعا عرّيفه فقال : «ما اسم هذا؟» قال : «نصر بن ينعم» فكبّر حنظلة عند ذلك ، وتفاءل به ـ ويقال «نصر بن فتح» ـ وأمر بدرع فصبت عليه ، وأمر بواحد بعد واحد يصب عليه الدرع ويعطيه خمسين دينارا ، فلم يزل يفعل ذلك حتى كثر النّاس عليه ، فردّ العطاء إلى أربعين ، ثم إلى ثلاثين ، ولم يكن يقدم إلّا شابا قويا فعبّأنا حنظلة اللّيل أجمع ، والشمع حوله وبين يديه ، فلم يصبح حتى عبّأ خمسة آلاف دارع وخمسة آلاف نابل ، وجعل على الطلائع شعيب بن عثمان ، وعلى السّاقة عمرو بن حاتم ، وعلى الميمنة عبد الرحمن بن مالك الشيبانى. فلما دنوا من البربر وهم متوارون بالقرب ، وإذا بمنصور الأعور ، وكان من أكبر فرسانه على الكدية الحمراء ، وهو على فرس أشهب معرفة ، فأشار إلى أصحابه ثم انحدر إلينا غير مكترث بنا ولا مبال بشىء حتى إذا كان غير بعيد منا أتبعه أصحابه وزحفنا إليه حتى أحسسنا بأنفاسهم فى وجوهنا ، وإذا بفارس يركض من عند حنظلة : أن قفوا!. قال : فوقفنا ، وإذا بقصّاص وقرّاء من أهل العلم والدين والفقه قد


أرسلهم إلينا ، فتفرّقوا فينا ، وحرّضوا على الجهاد ، وذكروا فضله ، وذكروا مذهب عدونا الخوارج وعظم ما يريدونه بنا من السّبى وهتك الحريم ، وسفك الدم ، وأنه ليس ملجأ بعد هذا المقام. ومشى حنظلة على الصفوف ، وأقبلوا يحرضون الناس ويرغبونهم فى الجهاد ، وخرج نساء القيروان ، فعقدن الألوية ، وأخذن معهنّ السلاح ، وعزمنا على القتال ، واستبسلن للموت مع الرجال ، وحلفنا لأزواجهن : لئن انهزم أحد منكم إلينا مولّيا عن العدو لنقتتلنّه ، وعلمن ما يردن بهنّ الصّفرية من السبى والعبودية ووطنّ الناس على الموت ، فهش الناس للقتال ، واشتدت نصرتهم حتى استبطأوا فراغ القوم من كلامهم ما سمعوا ، ثم إن رسول حنظلة أتى إلى القراء فقال : «تنحّوا عن القوم ، وخلوا بينهم وبين عدوّهم على اسم الله وعونه». قال : فنهضنا نهضة رجل واحد وتقدم شعيب بن عثمان فسلّ سيفه وكسر جفنه ، وفعلنا مثلما فعل. قال : فلقد رأيت الجفون قد تطايرت على رءوسنا حتى صارت كالطير لكثرتها.

فذكر بن أبى حسّان عن أبيه عن رجل من الصّفرية ، قال : شهدت ذلك اليوم ، فلما رأينا الجفون على رءوسهم أنكرنا ذلك : فقال بعض أصحابنا ، هؤلاء بنو إسماعيل قد كسروا أغماد سيوفهم ، فانظروا إلى الرجال كيف يكونون ، فجعل عبد الواحد يحرض أصحابه وينادى : «يا أهل البصائر ، قال : أول من خرج إلىّ رجل كالبعير عظما ، يدعو إلى البراز ، فخرج إليه شعيب بن عثمان ، فبدره البربرى بالضربة ، فقعد شعيب على مقعدته ثم وثب إليه ، فقتله واحترز رأسه والتحم القتال وتنازل الأقران ، وتداعى الأبطال ولزم الرجالة الأرض ، وجثوا على الرّكب فلا تسمع إلّا وقع الحديد وتواخذوا بالأيدى ، فكانت كسرة على مسيرة العرب حتى جاوزوا قصر الماء ، وانكسرت مسيرة البربر قبلهم ثم كرت مسيرة العرب على ميمنة البربر فكانت الهزيمة وفتح الله عز وجل لنا ، فقتلناهم إلى جلولاء وخرجت إلينا الصّبيان والنساء بالماء والسّويق ، وكان ذلك يوم الثلاثاء ، فأقمنا إلى يوم الخميس ونحن لا نعلم بموت عبد الواحد عدوّ الله ، حتى أتى إلى حنظلة برأسه ، فخر لله ساجدا وقيل : ما علم فى الأرض مقتله كانت أعظم منها وأخذ عكاشة أسيرا بجبل آخر بمضيق ، وأتى به حنظلة فقتلة ، وأراد حنظلة أن يحصى من قتل بينهم ، وأمر


بعددهم فما قدر على ذلك فأمر بقطع القصب وأمر أن تطرح قصبة على كل قتيل ثم جمعت القصب وعدّت ، فكانت القتلى مائة ألف وثمانين ألفا ، وكانوا صفرية يستحلون الدماء وسبى النساء ، وكتب بذلك حنظلة إلى هشام بن عبد الملك ، فكان اللّيث بن سعد يقول : ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة أحب إلى من غزوة القرن والأصنام.

ولاية عبد الرحمن بن حبيب

كان عبد الرحمن بن حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى قد هرب إلى الأندلس عند هزيمة كلثوم بن عياض فى الوقعة التى قتل فيها أبوه كلثوم : فلم يزل وهو بالأندلس يحاول أن يغلب عليها فلم يمكنه ما يريد إلى أن وجه حنظلة بن صفوان أبا الخطّار إلى الأندلس فخاف عبد الرحمن على نفسه ، ولم يتهيأ له فخرج متسترا ، فركب البحر إلى تونس فنزل بها ، وذلك فى شهر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائة ، فدعا الناس إلى نفسه ، فأجابوه فسار حتى نزل بسمنجة ، فأراد أصحاب حنظلة الخروج إليه والزحف لقتله ، فكره حنظلة ذلك كراهية شديدة لهراقتة دماء المسلمين ، وكان رجلا ورعا عن الدنيا ولا يرى السيف إلا فى الكفرة وفى مثل الصفرية ، الذين يستحلّون دماء المسلمين وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم ، وكان ذا دين وتقوى ، فوجه إليه حنظلة جماعة من وجوه إفريقية يدعونه إلى مراجعة الطاعة والنزوع عما هو عليه.

فلما قدموا على عبد الرحمن أوثقهم فى الحديد وأقبل بهم راجعا إلى القيروان ، وقال : «إن رمانى أحد من أوليائهم بحجر قتلتهم» فبلغ ذلك من الناس كل مبلغ ، وكان القوم الذين ظفر بهم وجوههم وأشرافهم ، فلما رأى ذلك حنظلة دعا القاضى وجماعة من أهل الفضل والدين ففتح بيت المال بحضرتهم ، وأخذ منه ألف دينار وترك الباقى. وقال : «ما أنا بماشّ منه إلّا بقدر ما يكفينى ويبلّغنى». ثم شخص عن إفريقية فى جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة وأقبل عبد الرحمن بن حبيب حتى دخل القيروان ، ونادى مناديه «لا يخرجنّ أحد إلى حنظلة ولا يشّيعه» فرجع الناس خوفا من عبد الرحمن.


فلما كان بالليل ركب عد العزيز بن قيس فرسه ولبس سلاحه ـ وهو عم أبى محرز القاضى ـ يريد توديع حنظلة ، فلما صار بقصر الماء سمع من خلفه وقع حوافر دابّة ، فراعه ذلك ووقف للدفاع عن نفسه مستعدا ، فإذا هو عمر بن غانم ، فسأل بعضهما عن بعض وتساءلا وتوجها حتى لحقا حنظلة ، فراعه وقع حوافر دوابهما وظن أن عبد الرحمن وجه فى طلبه خيلا ، فلما وصلا إليه سرّ بهما ، وجزاهما خيرا ، وسألاه أن يصحباه ، فأبى من ذلك كراهة أن يحالفهما إلى أهلهما مكروه من عبد الرحمن ، فودعّاه وانصرفا إلى القيروان ، فبلغ ذلك عبد الرحمن فبعث إليهما وقال : «خالفتما أمرى وارتكبتما نهيى» فذكرا أنه أحسن صحبتهما وأولاهما جميلا ، فبعث إليهما وعفا عنهما ، وقبل عذرهما وسالهما أن يتوليا من أمره ما كان يتوليان من حنظلة ، ورغب فى وفائهما ، فكان عمر بن غانم على حجابته ، وعبد العزيز بن قيس على شرطته ، فلما قفل حنظلة ، إلى المشرق دعا ، وكان مستجابا ، فقال : «اللهم لا تهنّ عبد الرحمن هذا الملك ولا أهله وأسفك دماء هم بأيديهم ، وابعث عليهم شرار خلقك» ودعا على أهل إفريقية فوقع الوباء والطاعون ، فأقام بإفريقية سبع سنين ، لا يكاد يرتفع إلّا وقتا فى الصيف ووقتا فى الشتاء.

ولما ولى عبد الرحمن ثار عليه جماعة من العرب والبربر ، ثم ثار عليه عروة بن الزبير الصدفى ، واستولى على تونس ، ثم ثار عليه عرب الساحل وقام ابن عطّاف الأسدى حتى نزل بطساس ، وهرب البربر من الجبال ، وثار ثابت الصنهاجى بباجة ، فأخذها. فدعا عبد الرحمن أخاه إلياس ، فقال له : «امض فى ستمائة فارس حتى تمرّ بعسكر ابن عطّاف الأزدى ، فإذا تراءت له خيلك فأظهر أنك تزهق عنه إلى تونس حتى إذا انتهيت إلى موضع كذا وكذا ، فقف حتى يأتيك جاسوس أدسه فى عسكر ابن عطّاف ، فخرج إلياس ودعا عبد الرحمن برجل ، فأعطاه أطمارا وأعطاه كتابا ، وقال له : امض حتى تدخل عسكر ابن عطّاف ، فإذا أشرف عليهم إلياس ورأيتهم تداعوا بالسلاح فأقم فيهم ، فإذا زهق إلياس عنهم ووضعوا السلاح وتمحقوا ، تسلل حتى تأتى إلياس فى مكان كذا وكذا ، فقد أمرته أن يقف لك هنالك ، فمضى الرجل حتى دخل عسكر ابن عطّاف ، فلما طلع إلياس عليهم


صاحوا بالسلاح ، ثم زهق إلياس عنهم ، فقالوا : «قد دخل بين لحى الأسد ، ونحن من هنا وأهل تونس من هناك ، نستريح ونعلف ، ثم نزحف إليه على أثره» ونزل القوم عن الخيل وحطّوا السلاح وتضجعوا وانسلّ الرجل إلى إلياس حتى جاءه فى المكان الذى أمره عبد الرحمن أن يقف فيه ، فدفع إليه الكتاب ، فإذا فيه : أن القوم قد أمنوا فانسلّ إليهم حتى تخرج عليهم من كثب وهى فى غفلتهم. فتخلل إلياس الأشراف حتى خرج عليهم ، فلم يدرك القوم لبس الدّروع ، وكان همّهم أخذ السيوف ، فقتلوا وقتل ابن عطّاف ، وأصبح عبد الرحمن على كدية الجلود ينتظر ، حتى طلعت عليه الشمس ، إذ قيل له : هذا فارس قد أقبل وتجاب ، قال : هل ترى غيره؟ قال : «لا» قال : «فهذا بريد ، وهو الفتح» وجاء البريد ، فلما رآه أقبل إليه ورمى برأس ابن عطّاف بين يديه فدعا بدواة وقرطاس وكتب إلى إلياس : «إن عروة بن الزبير وأهل تونس سيظنون أنّا نغتنم هذا الفتح ، فإذا جاءك كتابى ، فانزل واسترح واعلف ، ثم سر إلى تونس ، فإن قدرت أن تصبح عليهم فافعل ، فإنى لا أشك أنهم فى غفلة» فمضى إلياس ، فسار ليلته حتى أصبح دون تونس ، وعروة فى الحمام.

وكان إلياس قد فرق خيله مائتين على طريق الجزيرة ومائتين على طريق باجة وهو فى مائتين على طريق القيروان ، فقيل لعروة : «أصلح الله الأمير ، خيل على طريق الجزيرة!» فقال : «هؤلاء أهل الجزيرة جاءوا مددا لنا» فقالوا : «وخيل على طريق باجة!» قال : «ابن قويدر جاء مددا لنا» قالوا : «وخيل على طريق القيروان!» ، فعندها أيقن وبادر وخرج ، فما أدرك إلا ملحفة يتنشّف بها حتى دخل إلياس فبادر عروة إلى فرسه عريانا ، ولم يمهل حتى يسرج له ، وولى ، فلما خشى إلياس أن ينجو ، صاح به : «يا عروة ، يا فارس العرب!» فكّر عليه جاهزا فى سراويل وملحفة بغير سلاح ، فضربه إلياس فتلقاها بالملحفة وعانقه ، فوقعا إلى الأرض ووقع عروة على إلياس ، فجعل ينازعه على قائم السيف ، حتى غشيه أفرنجى من موالى عبد الرحمن فطعنه برمح بين كتفيه فأخرجه من صدره واحتزّ رأسه ، وحمله إلى عبد الرحمن فأقام إلياس بتونس حتى كتب إليه


عبد الرحمن أن يخرج إلى قويدر ، وخرج بناحية طرابلس رجلان يقال لأحدهما عبد الجبار والآخر الحارث ، وهما من البربر يدينان بدين الخوارج ، وكان بطرابلس عامل لعبد الرحمن يقال له بشر بن حنش مولى لقيس ، فخرج فى جماعة من مشائخهم إلى البربر ليصالحوهم ، فقتلوهم عن آخرهم. فبلغ ذلك عبد الرحمن ، وهو بالقيروان فى وقت القائلة فخرج فى ذلك الوقت ثم لحقته المضارب وأتاه الناس فسار حتى انتهى إلى مدينة قابس ، فهمّ الناس وأرادوا عزله ونفيه وتولية شعيب بن عثمان بن أبى عبيدة ، فأبى ذلك شعيب فانتهى ذلك إلى ابن حبيب فانصرف من قابس ، فلما عاد إلى القيروان أصلح ما كان يخشى فساده ، فلما اعتدلت له الأمور عاود غزوة طرابلس ، سنة إحدى وثلاثين ومائة ، وخلّف على القيروان عمر بن نافع ، فانتهى عبد الرحمن إلى طرابلس فقاتل عبد الجبار والحارث ، فقتلهما وكان الذى ولّى قتالهما شعيب بن عثمان وكان يدينان بدين الإباضية ، ويدعوان إليها وأوعب عبد الرحمن فى قتل البربر ، وامتحى الناس بهم وابتلاهم بقتل الرجال صبرا : يؤتى بالأسير من البربر ، فيأمر من يتهمه بتحريم دمه بقتله ، فابتلى جماعة من الناس فما سلم منهم غير عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، أبى ذلك وعصمه الله منه.

وكان فى موضع طرابلس وحاضرتها وموضع جماعتها يومئذ نهر جار ، فأمر بالرّحيل إلى مدينة طرابلس ، وبنى عليها السور وانتقلوا إليها ، وذلك سنة اثنين وثلاثين ومائة ، وكان عبد الرحمن بن حبيب قد كتب إلى مروان بن محمد وأهدى إليه هدايا وتقول على حنظلة ونسب إليه أهوالا كذب فيها ، فكتب إليه مروان بولايته على إفريقية والمغرب كله والأندلس ، وفى حين كونه بطرابلس كتب إليه مروان بن محمد كتابا يستدعيه إلى القدوم عليه ، وخلّف عبد الرحمن على طرابلس بكر بن حسين القيسى ، وأقام ابن حبيب على القيروان حتى كان سنة خمسين وثلاثين ومائة ، فغزا تلمسان حتى انتهى إليها ، وخلّف على القيروان حبيبا ابنه ، فظفر بما لم يظفر به أحد قبله. ثم بعث إلى إفريقية فأتى إليه من سبيها بما لم يؤت بمثله من بلد ، ودوّخ المغرب كلّه وأذل من به من القبائل ، ولم يهزم له عسكر ولا ردّت له راية ، وتداخل جميع أهل المغرب خوفه والحذر من سطوته.


وقتل مروان بن محمد ، وزالت دولة بنى أمية ، وعبد الرحمن أمير على إفريقية ، وهرب جماعة من بنى أمية عند قتل مروان خوفا من بنى العباس ومعهم حرمهم ، فتزوج عبد الرحمن وأخوته فيهم ، وكان فيمن قدم ابنان للوليد بن يزيد بن عبد الملك ، يقال لأحدهما القاضى والآخر المؤمن وكانت ابنة عمهما تحب إلياس بن حبيب فأنزلهما عبد الرحمن بدار شبيبة بن حسان ، وكانت معهما عجوز فى الدار ، فدّس إليها عبد الرحمن بن حبيب أن توصله إلى موضع تسمعه منه كلامهما ، فقالت له : «إن البيت الذى هما فيه سقفه غرّة ، فإن شئت فأنا اوصلك ليلا إلى ظهر البيت حتى تطلع عليهما ولا يعلمان» ، فقال : «افعلى». فلما كان فى الليل اطلع عليهما ، وهما على نبيذ لهما ، ومولاهما يسقيهما ، إذ قال القاضى : «ما أغفل عبد الرحمن أيظن أنه يتمنى معنا ولاية ونحن أولاد الخليفة» ، فلما سمع هذا منهما نزل وانصرف ثم دعا القاضى والمؤمن ، فسلّما مع الناس فأظهر لهما عبد الرحمن بشرا ولم يبد عليه شىء من التجهّم ، حتى أتاهما من أخبرهما أن عبد الرحمن سمع كلامهما الذى تكلما به ، فحذرا منه وعزما على الهرب وخافا ، فلما كان أول الليل ركبا جملين خصيين ، وركب مولاهما جملا ثالثا ، وخرجوا هاربين على طريق مجّانة ، فاستبطاهما عبد الرحمن من الغد ، فأرسل إلى منزلهما ، فوجده خاليا ففّرق الخيل والنجب على كل طريق فجاءه البشير بأنهما أدركا بطريق مجّانة ، فخرج إلى تونس واستخلف على القيروان ابن عم له يقال له عمر بن نافع ، وخرج إلى تونس وأمره أن يضرب أعناقهما ويعتق مولاهما ، فلما قدم بهما أمر عمر بن نافع بقتلهما ، وقتل مولاهما فقتلوا. وكانت ابنة عمهما عند إلياس ، فقالت له : «إنه قد قتل أخيك تهاونا بك ، وجعل العهد من بعده لحبيب ابنه ، وأنت صاحب حربه ، وسيفه الذى يصول به» ، ولم تزل تغريه عليه.

وذكر أشياخ من أهل القيروان : أن مروان بن محمد الجعدى حين بلغه أن عبد الرحمن يقتل كل من ورد عليه خوفا من الرواية التى أخبره بها الحنفى ، أنه يقتلك أخوان فجاءه كتاب مروان : لا تقتل الناس فإنما أصحابك أخواك إلياس وعبد الوارث. فهمّ أن يبعث إليهما ثم بدا له فبعث إلى مولى لهم يقال له «برد» ، فأتاه فرمى إليه كتاب مروان فقرأه ،


وضحك برد ، وقال : «أصلح الله الأمير هذا أمكر بنى أمية أراد أن يشتت عليك أمرك ، لمّا نزل بهم من الأمر ما نزل فكأنه كسره عما أراد» ، فقالت له امرأته اللخمية : وهى أخت موسى بن على بن رباح : «لا تقتل أحدا فإنك لن تقدر أن تقتل من يقتلك» ، ووجه عبد الرحمن كتابا إلى أبى العباس السفاح : بسمعه وطاعته وقدم عليه فى ذلك اليوم رسول موسى بن كعب بفتح السند. فدخل عليه عمر بن عيسى بن على ، فأخبره فوجم وتغيّر لونه وقال : إنّا كنّا نذكر ونتحدّث أن وفاة القائم منّا بالأمر يأتيه فتح المشرق والمغرب فى يوم واحد ، فمات لثمانى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة ست وثلاثين ومائة. فلما صار الأمر إلى أخيه أبى جعفر عبد الله بن محمد ، كتب إلى عبد الرحمن يدعوه إلى الطاعة ، فأجابه ودعا له ، وكتب إليه بطاعته ، ووجه إليه بهدية نزرة كان فيها بزاة وكلاب وكتب إليه : أن إفريقية اليوم إسلامية كلّها ، وقد انقطع السبى منها فلا تسألنى ما ليس قبلى. فغضب أبو جعفر ، وكتب إليه يتوعده ، فلما وصل إليه الكتاب غضب غضبا شديدا ، ثم نادى : الصلاة جامعة فلم يبق أحد من أشراف الناس ولا أعيانهم إلا اجتمع فى المسجد الجامع ثم خرج عبد الرحمن فى مطرف خزّ وفى رجليه نعلان ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أخذ فى سبّ أبى جعفر ، ثم قال «إنى ظننت أن هذا الجائر يدعوا إلى الحقّ ويقوم به حتى تبين لى خلاف ما بايعته عليه من إقامة الحق والعدل ، وأنا الآن قد خلعته كما خلعت نعلىّ هذين» وقذفهما وهو على المنبر ، ثم دعا بخلعه أبى جعفر الذى أرسل إليه فيها بسواره ، وقد كان لبسهما قبل ذلك ، ودعا فيها لأبى جعفر ، وهو أول سوار لبس بإفريقية ، وأمر بتخريق الخلعة فخرقت خرقا ثم حرقت ، وأمر كاتبه خالد بن ربيعة أن يكتب كتابا يخلعه ، وقرأه على جميع الناس.

وكان عبد الرحمن يخرج أخاه إلياس فى كل من خرج عليه يقاتله ، فإذا ظفر به نسب ذلك الظفر إلى ابنه حبيب ، وحوّل العهد لابنه حبيب ، وكان إلياس يظن أن العهد له من بعده ، ففسدت نيته عليه ولم تزل امرأته الأموية تغريه به وتحرضه عليه ، وتقول له : «إنه يستخف بك ، وقتل أصهارك وولىّ حبيبا عهده» فاجتمع رأى إلياس بن حبيب


وعبد الوارث على قتل عبد الرحمن ، ووالاهما على ذلك جماعة من أهل القيروان من العرب وغيرهم ، على أن يؤم إلياس بن حبيب ويدعوا إلى أبى جعفر فروى أن عبد الرحمن بن زياد ابن أنعم ليلة قتل عبد الرحمن تعشى على مائدة ومعه صهر له يقال له شراحيل ، ممن كان وقف على سر القوم فى عبد الرحمن ، فقال لابن أنعم : «ابنتك طالق إن رفعت هذه المائدة الليلة من بين أيدينا حتى يقتل عبد الرحمن بن حبيب» فقال : «ويحك! حرمت عليك ...» فهم كذلك حتى سمع الصيحة ، فسألا فقيل : قتل عبد الرحمن بن حبيب. وكانت ليلة الأسداس. فأتاه إلياس فاستأذن عليه بعد العشاء الآخرة ، فقال : «ما جاء به وقد ودّعنى ، وقد كان إلياس على أن يخرج إلى تونس ، هل بقيت له حاجة ائذنوا له» فدخل فوجده فى غلالة وردية ، وابن له صغير له فى حجرة ، فقعد طويلا وعبد الوارث يغمزه ، فلمّا قام يودعه أكب عليه يعانقه ، فوضع السكين بين كتفيه حتى صارت إلى صدره ، فصاح عبد الرحمن وقال : «فعلتها يابن اللخناء! ثم ردّ إلياس بيده إلى السيف فضربه فاتقاه بمرفقه فأزال يده ثم ضربه حتى أثخنه ، وكانت جارية لعبد الرحمن ، فأخذت شعر إلياس من ... ، فالتفت إليها فهربت منه ، وخرج إلياس هاربا دهشا ، وجعل عبد الرحمن كلّما أراد أن ينهض سقط ، فلما خرج إلياس قال له أصحابه : «ما فعلت؟» قال : «قتلته» قالوا : «ارجع فحزّ رأسه وإلا قتلنا بآخرنا» فرجع ففعل وثارت الصيحة ، فأخذ إلياس أبواب دار الإمارة ، وسمع حبيب بن عبد الرحمن الصيحة ، فسأل عنها فأخبر بقتل أبيه ، وكان مع أبيه فى قصر الإمارة فلم يقدر على الخروج ، وخاف أن يقتله إلياس فسّرح نفسه إلى ناحية السماط ، ثم تحامل على وجهه إلى باب تونس حتى خرج من القيروان ، فلقيه عمرو بن عثمان القرشى راجعا من بعض منازله ، فلما رأه راجلا قال : «ما وراءك؟» قال : «قتل أبى» قال : «ومن به؟» قال : «عمى إلياس» فنزل عمرو بن عثمان ، ثم قال له : «دونك الفرس فاطلب بدم أبيك» ودخل عمرو بن عثمان القيروان مستترا ليلا ، يعرف فينكر مشيه راجلا ، وظن إلياس أن حبيبا فى دار الإمارة حين أخذ عليه الأبواب فأصبح حبيب بقرب تونس فاجتمع مع عمه عمران بن حبيب ، فأخبره بخبر أبيه ولحق بهما موالى عبد الرحمن من كل ناحية ،


فخرج إلياس إلى «سمنجة» فوافاه حبيب وعمران ومن معهما فهّموا بالقتال ، ثم اصطلحوا على أن يعود عمران إلى ولاية تونس وصطفورة والجزيرة ، ويكون حبيب على قفصة وقصطيلية ونفزاوة ، وإلياس بسائر إفريقية والمغرب.

ومضى إلياس مع عمران إلى تونس ، وانصرف حبيب إلى القيروان ، فوثب إلياس على أخيه عمران ، وعلى عمرو بن نافع بن أبى عبيدة الفهرى والأسود بن موسى بن عبد الرحمن بن عقبة فشّدهم وثاقا ، ووجه بهم إلى يوسف بن عبد الرحمن بن عقبة فى سفينة ، وهو إذ ذاك والى الأندلس ، فوصلوا إليه وولى على تونس محمد بن المغيرة القرشى ، وانصرف إلى القيروان فبلغه عن حبيب أخبار كرهها ، فأغرى الناس للقيام عليه فى ما يتزيد به من ضياع أبيه ، وأرسل إليه من زّين له الخروج إلى الأندلس إرادة الراحة منه ، ففعل وجهّزه إلياس ، فوجه معه شقيقه عبد الوارث ، ومن أحب من مواليه ، فركبوا فى البحر ، فوقعوا فى طرقة ، فتعذرت عليهم الريح ، فكتب إلى إلياس : بأنّ الريح قد ردّته ، وأن السير لم يمكنه. فاتهمه إلياس ، وخاف إلياس من ناحيته وكتب إلى عامله سليمان بن زياد الرّعينى يحذّره أمره. وسمع موالى عبد الرحمن وصنائعه بخبر حبيب فأتوا إليه من كل ناحية وطرقوا سليمان بن زياد ليلا ، وهو معسكر يحارس حبيبا ، فأسروه وشدو وثاقه ، ومضوا إلى حبيب فأخرجوه إلى البرّ ، وأظهروا أمره فتوجه إلى الأربس فأخذها وبلغ خبره إلياس خرج يريده ، واستخلف على القيروان محمد بن خالد القرشى ، فلما قرب إلياس منهما تحاربا حربا خفيفا لم يتناجز فيه ، فلما أمسى حبيب أوقد النيران ليظن إلياس أنه مقيم ثم يفد إلى القيروان ، فأوقع بمحمد بن خالد خليفة إلياس ، وكسر باب السجن وأخرج منه سلّام بن عبد الرحمن بن حبيب أخاه ، وجماعة من صنائع أبيه ومواليه ورجع إلياس فى طلبه ونزل على القيروان ، وفسد عليه أكثر من معه وخرج فى جمع عظيم ، فكان على ميمنة إلياس عمرو بن عثمان الفهرى ، وعلى مسيرته أبو شريك الجزرى ، فخذلا إلياس ومضيا عنه فلّما التقى إلياس وحبيب ، قال له حبيب : «لم تقتل موالينا وصنائعنا بيننا ، وهم لنا حصن ، ولكن أبرز أنت وأنا فأينا قتل صاحبه استراح منه ، إن قتلتنى ألحقتنى بأبى ، وإن قتلتك


أدركت ثأرى منك» فارتاب إلياس ساعة ، فنادى الناس : «قد أنصفك فلا تجبن ، فإن ذلك سبة عليك وعلى ولدك من بعدك» فخرج كل واحد منهما إلى صاحبه ، ووقف أهل العسكر ينظرون إليهما وإلى جلدهما وصبرهما ، فتطاعنا ساعة ثم تضاربا بسيفهما ، ولا ينال أحدهما من صاحبه إلا ما ينال الآخر ، وعجب الناس من ذلك ، ثم ضرب إلياس حبيبا ضربة فأعمل السيف فى ثيابه ودرعه حتى وصل إلى جسمه ، ثم عطف عليه حبيب فضربه بالسيف ضربة سقط من فرسه إلى الأرض ، وألقى حبيب بنفسه عليه ، فحزّ رأسه وأمر به فرفع على رمح ، ومرّ به إلى القيروان ، وهرب عبد الوارث بن حبيب ومن كان معه ممن فلّ من عسكر إلياس إلى بطن من البربر يقال لهم «ورفجومة» ، ودخل حبيب القيروان وبين يديه رأس إلياس عمّه ، ورأس محمد بن أبى عبيدة بن نافع ، عمّ أبيه ، ورأس محمد بن المغيرة بن عبد الرحمن ، وجاءه محمد بن عمرو بن مصعب القرشى ، وهو زوج عمّة أبيه مهنئا له فأمر بضرب عنقه ، فضربت وذلك كلّه فى شهر رجب سنة ثمان وثلاثين ومائة.

وكان إلياس لما قتل أخاه وجه بطاعته وفدا من وجوه الناس إلى أبى جعفر المنصور. ولما وصل عبد الوارث بن حبيب ومن معه إلى ورفجومة من نفزة ، نزلوا على عاصم بن جميل الورفجومى ، فكتب إليه حبيب : يأمره بأن يوجه بهم إليه ، فلم يفعل فزحف إليه حبيب فلقيه ، ولقيه عاصم ومن معه وكل من هرب من حبيب فالتقوا واقتتلوا ، فانهزم حبيب ، وكان إذ خرج إليهم استخلف على القيروان أبا كريب جميل بن كريب القاضى ، فقوى أمر ورفجومة ، ثم زيّنوا له أمر المسير إلى القيروان وواعدهم أن يخذلوا الناس عن حربهم ، وكاتبهم بعض وجوه أهل القيروان خوفا على أنفسهم منه ، فيهم : عمر بن غانم وأظهروا أنهم يريدون أن يدعوا لأبى جعفر وظن العرب أن البربر تفى لهم بما وعدتهم وأعطتهم ، فزحف عاصم بن جميل وأخوه مكّرم بالبربر ومن لجأ إليهم من العرب بعد أن هزموا حبيبا ، وصار بناحية قابس ، فلما قربوا من القيروان خرج إليهم أبو كريب القاضى مع أهل القيروان ، فعسكروا بالوادى المعروف بأبى كريب ، حتى إذا دنا بعضهم من بعض خرج من عسكر جميل جماعة من أهل القيروان ، فخذلوا الناس ودعوهم إلى عاصم ،


وقتلوا منهم وافترق أكثر الناس عن أبى كريب ، ورجعوا إلى القيروان ولم يعلموا ما حلّ بهم من البربر ، وثبت أبو كريب فى نحو من ألف رجل من وجوه الناس ، من أهل البصائر والخشية والدين مستبسلين إلى الموت ، فقاتلوا باجتهاد فقتل أبو كريب ـ رحمه الله ـ ومر به بعض أصحابه فغطاه برداء كان عليه لئلّا يراه الناس فيفشوا.

فقاتلوا حتى قتلوا ، ودخلت ورفجومة القيروان ، فاستحلوا المحارم وارتكبوا العظائم ، ونزل عاصم بعسكره فى الموضع الذى يسمى «مصلىّ روح» واستخلف على القيروان عبد الملك بن أبى الجعد النفزى ، وسار إلى حبيب ، وهو بقابس فقاتله فانهزم حبيب ولحق بجبل أوراس ، وهم أخوال أبيه ، فسار عاصم إلى أوراس فى طلب حبيب ، فالتقوا فهزم عاصم وقتل هو وأكثر أصحابه ، وأقبل حبيب إلى القيروان فخرج إليه عبد الملك بن الجعد ، فانهزم حبيب وتكالبت عليه نفزة من كل مكان ، فقتلوه فى شهر المحرم سنة أربعين ومائة ، وكانت ولاية عبد الرحمن بن حبيب عشر سنين وأشهر ، وولاية إلياس أخيه ستة أشهر ، وولاية حبيب ابنه سنة وستة أشهر.

ولما حكمت ورفجومة على القيروان قتلوا من كان بها من قريش وساموهم سوء العذاب وربطوا دوابهم فى المسجد الجامع ، وندم الذين أعانوهم ودعوهم أشد ندامة.

فحكى أبو حسان : أن رجلا من الإباضية دخل القيروان ، فرأى ناسا من الورفجوميين قد أخذوا امرأة وكابروها على نفسها ، وهو ينظر والناس ينظرون ، فترك حاجته التى أتى فيها ، وخرج حتى أتى أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافرى فأعلمه الذى رأى ، فخرج وهو يقول : «لبيك اللهم لبيك» ، واجتمع إليه أصحابه من كل مكان وتوجهوا نحو طرابلس ، فأخرجوا عمرو بن عثمان القرشى منها واستولى أبو الخطاب على طرابلس ، وبلغه أن المسوّدة قد أقبلوا إليه من ناحية برقة ، وعليهم العوام بن عبد العزيز البلخى ، فخرج ابن الخطاب لجمعه حتى إذا كان بودراسة وجه رجلا من أصحابه يقال له مالك بن سميران ... وفى ولاية عمر بن حفص اشتدت فتنة الخوارج الصفرية والإباضّية عليه ، وأحاطت به عساكرهم بمدينة طنبة بالزاب ، فأخذ


يستميل بعض أمرائهم لينصرف بعضهم عن بعض ومن ذلك أنه دفع إلى ابن أبى قرة أربعة آلاف درهم وأثوابا على أن يعمل فى صرف أبيه ، فرّد الصفرية إلى بلدهم ، فعمل ذلك فى ليلته ، فلم يعلم بذلك أبو قرّة حتى ارتحل العسكر منصرفين إلى بلادهم تجريدا ، فلم يجد بدّا من إتباعهم ، فلما انصرفت الصفرية وجه عمرو بن حفص معمر بن عيسى العبدى فى ألف وخمسمائة إلى ابن رستم ، وهو فى تهودة فى خمسة عشر ألف ، فالتقوا فانهزم ابن رستم ، وقتل من أصحابه نحو من ثلاثمائة ووصل ابن رستم منهزما إلى تيهرت ، ثم أقبل عمر بن حفص يريد القيروان ، واستخلف على طبنة المهنّأ بن المخارق بن عفّان الطائى فلما بلغ أبو قرة مسير عمر بن حفص أقبل فى جمع كثير حتى حصر المهنّأ ، فأرسل إلى أبى قرة يسأله الانصراف عنه ، فأرسل أبو قرة إليه : «نصيبى منك ومن قبلك أحرار ، ولكن لا سبيل إلى ترك غنيمة المسلمين» ، فلما قال له ذلك تحمّلوا عليهم ، فانهزم أبو قرّة واستباحوا عسكره ، وكان أبو حاتم لما حصر القيروان أقام عليها ثمانية أشهر ، وليس فى بيت مالها درهم ولا فى أهرائها شىء من الطعام ، وكان الجند تلك المدة يقاتلون البربر كل يوم فى طرفى النهار حتى أجهدهم الجوع ، وأكلوا دوابّهم وكلابهم ، وجعل الناس يخرجون فيلحقون بالبربر من الجهد.

وبلغ ذلك عمر فأقبل يريد القيروان فى نحو سبعمائة فارس من الجند ، حتى نزل مدينة الأربس ، فبلغ البربر إقباله فزحفوا إليه بأجمعهم وخلّوا عن القيروان ، فلما بلغه إقبالهم توجّه إلى ناحية تونس ، وأغذّ السير ومضى البربر حتى صاروا إلى سمنجة ، وسار عمر من تونس ، وخرج جميل بن حجر من القيروان ، فبث خيله حول القيروان وجعل يدخل ما يصلحه من الطعام والحطب والمرافق واستعد للحصار ، وخندق خندقا على باب أبى الربيع فسكن فيه الجند ، ثم أقبل أبو حاتم فى جنوده حتى وصل إلى بحيرة المسروقين ، فنهض إلى عمر بمن معه ، فقاتله أشّد قتال ثم تكاثرت البربر ، فانكشف حتى سار إلى القنطاط ثم تقاتلوا بالقنطاط ، وأشتد قتلهم وكاثروه حتى انحاز إلى خندقه بباب أبى الربيع ، ثم زحف أبو حاتم بعساكره حتى نزل بالقرب من باب أبى الربيع ، وأنزل عسكرا


من باب سالم وباب أصرم وعسكرا بين باب نافع وباب عبد الله ، وفى هذا المعسكر عمرو بن عثمان الفهرى ، وكان قد سار معهم.

ويقال : إنّ عدتهم كانت فى ذلك اليوم مائة ألف وثلاثين ألفا ، وكان عمر يخرج إليهم فى كل يوم فيحاربهم ، فلم يزالوا كذلك حتى ضاق أمرهم وأكلوا دوابّهم وسنانيرهم وكلابهم ، وأخذ الناس فى أكل لحوم الخيل ، فغلا الملح حتى انتهى : أوقية بدرهم ، واضطرب على عمر أمره ، وضّج أصحابه وساءت آراؤهم ، فقال لمن معه من الجند : «قد كان أصابكم من الجهد أمر عظيم حتى قدمت عليكم ، ففرّج الله عنكم بعض ما كنتم فيه ، وقد ترون ما أنتم الآن فيه ، فإن شئتم خرجتم على ذراريهم وبلادهم وجعلت عليكم أى الرجلين شئتم : جميلا أو المخارق ، وأخرج فى ناس من الجند فأغيره على نواحيهم ونحتكر الميرة؟ قالوا «قد رضينا» قال : «وكان أبو حاتم الإباضى فى ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا ؛ الخيل منها خمسة وثمانون ألفا ، فلما هم بالخروج قالوا : «تريد أن تخرج أنت ونبقى نحن فى الحصار!» ، فقال : «أقيم معكم اسرّح جميلا أو المخارق ومن أحببتم وأخرج أنا فى أناس من الجند وأغير على نواحيهم؟» ، قالوا «نعم» فلما جاء إلى باب المدينة قالوا : «تخرج أنت ونقيم نحن ، لا تفعل» فغضب عمر وقال : «والله لأوردنكم ونفسى حياض الموت».

وجاءه وهو محصور كتاب خليدة بنت المعارك ، امرأته تخبره أن أمير المؤمنين استبطأه ، فبعث يزيد بن حاتم ، وهو قادم على إفريقية فى ستين ألفا فقال : «لا خير فى الحياة بعد هذا!». قال خداش بن عجلان : «فأرسل إلى فجئته ، وقد قام عرق بين عينه وهو علامة غضبه ، فأقرأنى الكتاب فدمعت عيناى ، قال : «مالك؟!» قلت : «وما عليك أن يقدم عليك رجل من أهلك فتخرج من هذا الحصار فترجع إلى أمير المؤمنين فيوليك خراسان ـ وكانت مناه ، فقال : «تتحدث نسوة العتيك أنّ يزيدا أخرجنى من الحصار ، إنّما هى رقدة حتى أبعث للحساب ، ارجع إلى أهلك واحفظ وصّيتى» ، وكان قد كتب وصيتة. قال خداش : فوصّى بما أحبّ ، وخرج من الغد فلم يزل يطعن ويضرب


حتى قتل ، وذلك يوم السبت للنصف من ذى القعدة سنة أربع وخمسين ومائة ، وبايع الناس جميل بن حجر ، وكان أخا عمر لأمه ، فلما طال عليه الحصار دعاه ذلك إلى موادعة أبى الحاتم ، فصالحهم على أن جميلا وأصحابه لا يخالفون طاعة سلطانهم ولا ينزعون سوادهم ، على أن كل دم أصابه الجند من البربر فهو هدر ، وعلى ألّا يكرهوا أحدا من الخيل على بيع سلاحهم ودوابهم ، فأجابهم إلى ذلك أبو الحاتم ، ودخل معهم فى الشّرط عمرو بن عثمان الفهرى على الوفاء بذلك ، ففتح جميل أبواب المدينة وخرج أكثر الجند إلى طبنة ، وأحرق أبو حاتم أبواب المدينة وأفسد فى سورها وبلغه قدوم يزيد بن حاتم ، فتوجه إلى طرابلس واستخلف على القيروان عبد العزيز بن السمح المعافرى ، وبعث إليه أبو حاتم يأمره بأخذ سلاح الجند ، وأن لا يجتمع منهم اثنان فى مكان وأن يوجه إليه بهم واحدا بعد واحد. فاجتمعوا واستوثق بعضهم مع بعض بالأيمان ألّا يرضوا بهذا وقويت قلوبهم بيزيد بن حاتم ، فلقوا عمرو بن عثمان الفهرى ، فقالوا له : قد كنتم حلفتم لنا الوفاء بما اشترطنا عليكم وإنّ هؤلاء القوم قد غدروا بنا وأرادوا أخذ سلاحنا ليفرقوا بيننا وبينهم ، فقال لهم عمرو بن عثمان : «ليس يجمعنى من البربر خلق ولا دين» قالوا : «إمّا أنت فقد جامعتهم على قتل والى أمير المؤمنين عمر بن حفص وشيعته وأنصاره ، فهل لك بجنود أمير المؤمنين من طاقة أم تستطيع أن تحرز منهم دمك ونفسك ومالك وأهلك ، ولكن هل لك فى أمر تمحو به ذنوبك القديمة والحديثة؟» قال : «ما هو؟» قال : «تقوم بطاعة أمير المؤمنين معنا ، وتنتقم على أبى حاتم غدره بنا». قال : ففعل ذلك عمرو بن عثمان ، وتولى الأمر وقام به وقتل أصحاب أبا حاتم واتصل ذلك به ، فزحف إليه من طرابلس فلقيه عمرو بن عثمان ومن معه من الجند وغيرهم فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل من البربر خلق كثير ومضى عمرو بن عثمان وأصحابه متوجهين نحو تونس ، ومضى جميل ابن حجر والجنيد بن سياق هاربين نحو المشرق وخرج أبو حاتم فى طلب عمرو بن عثمان ، ووجه قائدا من قواده يقال له حريز بن مسعود المديونى على مقدمته ، فأدركه بجيجل من ناحية كتامة ، فقاتلوه فقتل حريز بن مسعود وأصحابه وانصرف عمرو والمخارق


فدخلاها ، ومضى أبو حاتم إلى طرابلس حين بلغه قدوم يزيد بن حاتم ولحق جميل بن حجر وأصحابه يزيد وهو بسرت وأقاموا إلى أن لقيه أبو حاتم فقتله ، فيقال إنّه كان بين الجند والبربر من لدن قاتلهم عمرو بن حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمسا وسبعين وقعة.

ولاية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن الملهب

حاله فى جوده وكرمه وشجاعته وبعد صيته ونفاذ رأيه وتقدمه ، وعلم الخاصة والعامة به يغنى عن كثير من شرح أمره. وقدم إفريقية فأزال الفساد منها وأصلحها ورتب القيروان فى أسواقها وجعل كل صناعة فى مكانها وجدد بناء المسجد الجامع ، حتى لو قيل إنه الذى مصرها لم يبعد من الحق لو قدمها ، ولكنه حسنها وزاد فى قدرها وكان غاية فى الجود ، وهو القائل :

ما يألف الدّرهم المضروب خرقتنا

إلّا لماما قليلا ثمّ ينطلق

يمرّ مرّا عليها ثمّ يلفظها

إنّى امرؤ لم تحالف خرقتى الورق

وكان يزيد كثير الشبه بجده الملهب فى حروبه ودهائه وكرمه وسخائه ، وكان له أولاد مذكورون مشهورون بالشجاعة والإقدام والكرم والأنعام فى أيام أبيهم وبعد وفاته بالمشرق ، لما صاروا إليه ، يقال : إن الذى أوقع من الملهب إلى الأرض ثلاثمائة من الذكور والإناث بين من مات منهم ومن عاش ، وورثه ثمانية عشر ذكرا سوى الإناث ، رئيسهم بعد أبيهم يزيد بن الملهب.

وذكر المدائنى : أن سليمان بن عبد الملك الكلبى قدم عليه المهلب ، وقد ركب فى بنيه ، وقال : سرّ الله الإسلام بتلاحقكم وو الله لئن لم تكونوا أسباط نبوءة إنكم لأسباط ملحمة ، فقال الملهب : «لئن قلت ذلك ، فو الله ما ألقوا قط فى سواد إلا بيضوه


ولا بياض إلا سودوه» ويقال إن معاوية قال يوما لأصحابه : «إنى رأيت فى منامى البارحة كأن رجلا قدم علىّ وافدا من العراق ، فلما مثل بين يدى طال حتى بلغ السماء» ، قال : فلما كان بعد ثلاثة أيام قدم عليه المهلّب ، فقال معاوية : «هذا الرجل الذى رأيت فى منامى».

قال ابن سلام : وقدم الملهب على ابن الزبير بمكة ، فخلا به يشاوره ، فقال له عبد الله بن صفوان : «يا أمير المؤمنين من الذى يشغلك يومك هذا؟» قال : «أما تعرفه؟» قال «لا» قال : «هذا سيد أهل العراق» قال : «أهو المهلب»!؟ قال : «نعم» ، فقال المهلب : «من الذى يكلمك يا أمير المؤمنين؟» قال : «سيد قريش» قال : «أهو عبد الله بن صفوان» قال : «نعم» ، قال : وكان يزيد بن حاتم خاصا بأبى جعفر المنصور ، فكان لا يحجب عنه ، وتولى ولايات كثيرة قبل قدومه المغرب ، منها أرمينية والسند ومصر وأذربيجان ، وهو أحد من دبر معه قتل يزيد بن عمر بن هبيرة الفزارى ، وقال : «أيها الأمير إنّ ابن هبيرة يأتى فيتضعضع له العسكر وما نقص من سلطانه شىء!» فدبر معه أمره حتى قتله أبو جعفر ، مع الذى كتب بينه وبينه وبعث برأسه إلى أخيه أبى العباس ، فوضع بين يديه ثم التفت إلى إسحاق بن مشكم العقيلى ، فقال : «يا إسحاق ما أعظم رأس ابن عمك!» قال : «طينة عهدكم التى نزل بها من قصره وفرق بها جمعه كانت أعظم!» فاحتملها أبو العباس ، وولى أبو الجعفر يزيد بن الحاتم مصر فى ذى الحجة سنة أربع وأربعين ومائة.

وكان أبو جعفر عالما بالمغرب خائفا عليه ، وكان لا يبعث إليه إلا أهل ثقته من ذوى الرأى الأصيل والخطر الجليل ، قال يزيد بن حاتم : «لما ولانى المنصور مصر دخلت عليه ، وكنت لا أحجب عنه» فقال لى : «يا أبا خالد ، بادر هذا النيل قبل خروج الرايات الصفر وأصحاب الدواب البتر» قال يزيد : ولمّا ولانى المغرب انتهى فى تشييعى إلى فلسطين ، فحسدنى أقوام منهم شبيب بن شيبة بن عقال ، ورفع إليه ابن شيبة بن عقال كتابا لم يأل فيه من الحمل على والذكر لمساوى وتخويفه الغوائل ، قال : فأرسل إلى


فحضرت ، فرمى إلىّ بالكتاب فقرأته وذهبت لأتكلّم ، فقال : «كفيت مؤونة الاحتجاج ، وقال لهما : «لو لا أنى لم اتقدم إليكما لقتلتكما» قال يزيد : «فأخذت الكتاب وخرجت ، فجعلت الكتاب فى كتب كانت معى وقدمت إلى إفريقية فما لبث أن وجه إلّى شيبة بن عقال فى بعض ما توجّه الخلفاء فيه ، فبلغت فى برّه وإكرامه فوق ما أملّه ، فلمّا أراد الانصراف لم يكن قط إلّا على المودّة والمحبّة ، فضربت بيدى إلى ذلك الكتاب فأخرجته ورميته إليه وقلت له : «ولا غرو كتبت هذا الكتاب؟!» فسألنى الإقالة والتغمّد ، فقلت له : «لو لا أنك تستغفلنى ما عرفّتك هذا» ، فسأل دفع الكتاب إليه ، فلم آمن أن يدفعه إلى أبى جعفر ، فأمرت به فخرق.

وكان يزيد بن حاتم حسن السيرة بإفريقية ، مذ جاء تفد الشعراء عليه لطلب صلته وإحسانه ، فأخد من وفد عليه بإفريقية ربيعة بن ثابت الرقّى ، من أسد ، فمدحه بأشعار كثيرة ، منها قصيدته التى يمدحه فيها ويهجو يزيد بن أسيد السّلمىّ ، التى أولها :

ألا طرقتنا باللّوى أمّ عاصم

وقد زارنا منها خيال مجاشم

ألّمت بركب عرّسوا بتنوفة

هجوع لدى أعصار خوص سواهم

وبتنا كأنّ المسك ببين رحالنا

يفوح علينا من عباب اللّطائم

وأنّى اهتدت تسرى إلينا غزيزة

مخصّبة الأطراف ريّا المعاصم

فقلت لها إنّى شعرت بفتية

نشاوى من الإدلاج مثل النّعائم

حلفت يمينا غير ذى مثنويّة

يمين امرء آلى وليس بآثم

لشتّان ما بين اليزيدين فى النّدى

يزيد سليم والأغّر ابن حاتم

فهمّ الفتى الأزدىّ اتلاف ماله

وهمّ الفتى القيسىّ جمع الدّراهم

فلا يحسب التّمتام أنّى هجوته

ولكنّنى فضّلت أهل المكارم

أبا خالد أنت المنوّه باسمه

إذا نزلت بالنّاس إحدى العظائم

كفيت امير النّاس كلّ عظيمة

وكنت من الإسلام خير مزاحم


فصار قوله : «لشتّان ما بين اليزيدين فى النّدى» مثلا يتمثّل به فى كل بلدة وناحيّة ، وكان وجب على ربيعة وقومه ديّات ، فقصد يزيد بن أسد ، فلم يحل منه بطائل ، ثم رحل إلى يزيد بن حاتم ، وهو بالقيروان ، فأعطاه عشرة ديّات ، ووصله وأحسن إليه إحسانا عظيما.

وفيما يؤثر من الأخبار : أن نخّاسا عرض على أحمد بن يزيد السّلمى ، ابن هذا المهجوّ ، جاريتين ، فقال : «أيّهما أحسن ، هذه أو هذه ،» فقال : بينهما ـ أعز الله الأمير ـ ما قاله الشّاعر :

* لشتّان ما بين اليزيدين فى النّدى*

فقال أحمد : «خذوا بيد ابن الفاعلة» ، فاغتمّ بما سمع ، وأنّ الشعر قد سار فى الناس ، وأنّ الرجل تمثّل به ولم يدر فيمن قيل ، وبلغ هذا الشعر أبا الشّمقمق ، فقال يمدح يزيد بن مزيد الشّيبانى :

لشتّان ما بين اليزيدين فى النّدى

إذا عدّ فى النّاس المكارم والمجد

يزيد بنى شيبان أكرم منهما

وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد

كان أحمد بن يزيد وأبوه شريفين مذكورين. قال أشجع السّلمىّ فى علّة اعتلّها ثم أفاق :

لئن جرحت شكانك كلّ قلب

لقد قرّت بصحّتك العيون

تبيت من الحذار بنو سليم

عليك وكلّهم وجل حزين

وحقّ لّها بأن تخسى المنايا

عليك وأنت منكبها اليمين

ولو فقدتك قيس يا فتاها

إذا لتضعضعت منها المتون

ولو أنّ المنون بدت لقيس

لما نالتك أو يفنى المنون


فلما مات أحمد بن يزيد رثاه أشجع السلمىّ بشعر قال فيه :

رحم الله أحمد بن يزيد

رحمة تغتدى وأخرى تروح

جبلا أطبقوا عليه بجرجا

ن ضريحا ما ذا أجنّ الضّريح

ولربيعة الرّقّى فى يزيد بن حاتم أشعار كثيرة ، ويقال إنه لما مدحه بالقصيدة التى فضّله فيها على يزيد السّلمىّ استبطأ برهّ وصلته ، فقال :

أرانى ـ ولا كفران لله ـ راجعا

بخفّى حنين من يزيد بن حاتم

فنمى ذلك حتى بلغ إلى يزيد ، فدعا به فلما دخل عليه قال :

«انتزعوا خفّيه ، فملأهما دراهم ودنانير ، وكانا كبيرين كأخفاف الجند ، ثم وصله بعد ذلك بصلات كثيرة».

واكثرت الشعراء من مدح يزيد وهو بالمشرق ، من ذلك قول ابن المولى ، وهو محمد بن عبد الله بن مسلم :

يا واحد العرب الّذى دانت له

قحطان قاطبة وساد نزارا

إنّى لأرجو إن لقيتك سالما

ألّا أعالج بعدك الأسفارا

رشت النّدى ولقد تكسّر ريشه

فعلى النّدى فوق البلاد فطارا

وفيه يقول أيضا :

وإذا تباع كريمة أو تشترى

فسواك بائعها وأنت المشترى

وإذا توعّرت المسالك لم يكن

منها السّبيل إلى نداك بأوعر

وإذا صنعت صنيعة تمّمتها

بيدين ليس نداهما بمكدّر

وإذا القبائل عدّدت كرماؤها

كنت المقدّم فيهم بالخنصر

يا واحد العرب الّذى ما إن لهم

من مذهب عنه ولا من معشر


وفيه يقول أيضا :

يا واحد العرب الّذى

أضحى وليس له نظير

لو كان مثلك ثانيا

ما كان فى الدنيا فقير

حكى الزبير بن بكّار عمن حدّثه عن ابن المولى قال : كنت أمدح يزيد بن حاتم من غير أن أعرفه ولا ألقاه ، فلما ولّاه المنصور مصر أخذ على طريق المدينة ، فأنشدته منذ خرج من مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن صار إلى مسجد الصّخرة ، فأعطانى رزمتين ثيابا وعشرة آلاف درهم ، فاشتريت بها ضياعا تغلّ ألف دينار ، أقوم فى أدناها فأصيح أغنى أغنى ، فلا يسمعنى من هو فى أقصاها.

ومن أخبار يزيد بالقيروان ، ما حكاه ابن النّخلى الفقيه ، قال : كان لإسحاق (أ) بن مكرم الأشعرى ، وهو ابن أبى المنهال ، من يزيد بن حاتم خاصّة لم تكن لغيره ، ولم يكن قدم معه ، ولكن أتى بعد مستقرّه ، فخدم يزيد لثقته به وعلمه بديانته ، وكان عالما أديبا راوية لاشعار العرب وأخبارها ، وكان قريبا من يزيد ، فقال له يزيد ليلة : «يا أبا العياقيب ، فيمن قيل هذا الشعر» :

إنّ العرانين تلقاها محسدة

ولن ترى للئام النّاس حسّادا

قال : «يقوله بعض ما دحيكم فيكم» وأنشده القصيدة كلّها. فقال يزيد : «يا غلام علىّ بخمسمائة دينار لأبى العياقيب» قال : «كأنى قائلها» قال : «سبحان الله ، تحفظ مكارمنا وننام عنها ولا نكافيك على ذلك!».

وكان سحنون بن سعيد ـ رحمه الله ـ يقول : كان يزيد بن حاتم يقول : «والله الذى لا إله إلّا هو ما هبت شيئا قطّ هيبتى رجلا واحدا يزعم أنى ظلمته ، وأنا أعلم أن لا ناصر إلّا الله».


قال : ومن أخباره المشهورة بإفريقية أنّ بعض وكلائه أتاه يوما فقال : «أعز الله الأمير ، أعطيت فى الفول الذى زرعناه فى فحص القيروان كذا وكذا ، وذكر مالا جليلا ، فسكت عنه وأمر قهرمانة وطبّاخه أن يخرجا إلى ذلك الموضع وأمر فرّاشيه أن يضربوا فيه ، مضارب كثيرة ، وخرج مع أصحابه فتنزّه فيه وأطعم ، فلمّا أراد الانصراف دعا بالوكيل وأمر بأدبه ، وقال : «يا بن اللّخناء ، أردت أن أعيّر بالبصرة ، فيقال : يزيد بن حاتم باقلّانى أمثلى يبيع الفول ـ لا أم لك ـ؟» ثم أمر بإباحته ، فنادى فى أهل القيروان بالخروج إليه ، فخرج إليه الناس ، فمن بين آكل وشارب ومتنزه حتى أتوا على آخره.

ومن مشهور أخباره : أنه خرج من القيروان يوما متنزها إلى منية الخيل ، وهو الذى حفر البئر العذبة وبناها ، وجعل خيله هناك فى اصطبلات ، أمر ببنائها فى هذه المنية ، فبذلك سميت «منية الخيل».

ونظر يوما فى طريقه إلى غنم كثيرة ، فقال : «لمن هذا الغنم؟» ، فقالوا : «لإسحاق ابنك» ، فدعا به ، فقال : «الك هذه الغنم؟» قال : «نعم» ، قال : «لم أردتها؟» قال : «آكل من خرافها ، وأشرب من ألبانها ، وانتفع بأصوافها» قال : «فإذا كنت أنت تفعل هذا ، فما بينك وبين الغنّامين والجزّارين فرق» ، وأمر بالغنم أن تذبح وتباح للناس ، فانتهبوها وذبحوها وأكلوا لحمها ، وجعلوا جلودها على كدية ، فهى تعرف من ذلك الوقت إلى اليوم «بكدية الجلود».

وحضر عبد الله بن الفروخ الفقيه جنازة فى باب نافع ، فرأى إسحاق بن يزيد قد أغرى كلابه على ظبى ليضربها الصّيد فنهشته ومزقّت جلده ، فلمّا انصرف استوقفه ابن فرّوخ ، فوقف له إسحاق ، فما كنّاه ابن فرّوخ ولا زاد أن قال له : «يا فتى ، أنّى رأيتك تغرى كلابك آنفا ببهيمة ، وما أحب ذلك» ، قال له إسحاق : «صدقت أبا محمد ، جزاك الله خيرا» ولم يزل لديه مكينا معظما عنده ، ثم قال له : «والله لا فعلت ذلك بعد يومى هذا أبدا».

وكان سبب قدومه إفريقية أنّه اتّصل بأبى جعفر المنصور : أن عمر بن حفص قتل


عمّه ذلك وشغله ، وأخبر بفساد البلد وكثرة اجتماع البربر وصنيعهم بجنده ، رأى أن يوجّه يزيد لعلمه بقيامه وحزمه ونكايته ، ولأن عمر بن حفص عمّه ، فهو لا يألو فى طلب ثأره فوّجه إليهم فى ثلاثين الفا من خراسان وستين ألفا من أهل البصرة والكوفة والشام ، وأقبل حتى صار فى ناحية سرت ، فاجتمع بجميل بن صخر وبمن معه من الجند القادمين عليه من القيروان ، وسار نحو طرابلس ، فسار أبو حاتم إلى جبال نفّوسة ، وجعل يزيد على مقدّمته سالم بن سوادة التميمى ، وأمر شبيبة بن حسان أن يسير نحو قابس ، وتقدم سالم فالتقى هو وأبو حاتم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم سالم وأصحابه ، فرجعوا إلى عسكر يزيد ، وهال أبو حاتم أمر يزيد ، فطلب له عزّ المنازل وأوسعها ، فعسكر فيها وخندق على عسكره ، فأتاه يزيد من ناحية الخندق ، وأصبح يزيد فعبأ عساكره وأصحابه ، وترجّل أبو حاتم فى أهل البصائر من أصحابه ، ثم التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فأراد يزيد الحملة ، فنزل إليه المهلّب بن المغيرة ، فأخذ بلجام فرسه ، فرفع السّوط ليضربه ، فشد يزيد على يد المهلّب ، فقال : «والله لو قطعتها ما تركتك ، أنا أعلم بقتال القوم منك ، فمر بعض ولدك أن يحمل ، فإنّ للبربر حملة لا تطاق ، ثم احمل أنت بعده ، إذا شئت» فأمر ابنه عبد الله فحمل ، فرد البربر ، ثم قال : «احمل أنت الآن» فحمل ، فقتل أبو حاتم فى أهل البصائر من أصحابه ، وانهزم الباقون وطلبهم يزيد ، فقتلهم ، قتلا زريعا ، وبعث خيله فى طلبهم إلى كل ناحية ، فكانت عدة من قتل منهم ثلاثين ألفا ، ويقال : إنه لم يقتل من الجند إلّا ثلاثة رهط.

وكان ذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائة. وجعل آل المهلّب يقتلون البربر ، ويقومون بالثارات فى عمر بن حفص ، ثم أقام يزيد بمكانه ذلك نحوا من شهر وبثّ خيوله فى طلب الخوارج ، فقتلهم فى كل سهل وجبل. ثم رحل حتى نزل قابس ، وكان قد كتب إلى المخارق بن غفار بالقيام بأمر القيروان فدخلها لعشر بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة. ومات أبو جعفر المنصور بعد دخول يزيد بن حاتم القيروان بثلاث سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما.


وبعث يزيد بن حاتم المخارق إلى آخر الزّاب ، فنزل طبنة ، وكان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهرى مع أبى حاتم ، فهرب حتى أتى كتامة ، فنزل بجيجل ، فكتب يزيد إلى المخارق بالمسير إليه ، فسار حتى نزل بكتامة ، وضمّ إليه يزيد قوّادا من أهل خراسان وأهل الشام ، فأقام المخارق محاصرا له ثمانية أشهر ، فبعث يزيد العلاء بن يزيد المهلّبى ، فصار حتى دخل القلعة التى بها عبد الرحمن من موضع غير الموضع الذى نزل به المخارق ، ودخل المخارق من ناحيته التى كان بها ، فهرب عبد الرحمن وقتل جميع من كان معه ، وانصرف العلاء إلى القيروان والمخارق إلى طبنة ، وهرب البربر فى كل ناحية ، وخافوا خوفا شديدا. فلم يزل البلد هادئا فى أيامه إلى أن بلغه انتفاض أمر ورفجومة ، فأرسل إليهم ابن مجزأة المهلبىّ ، فالتقوا ، وعلى البربر رجل يقال له أبو زرجونة الورفجومى. ولمّا التقوا انكشف الجند ولم يناصحوا ، فقتل منهم. وقد كان يزيد عزل المخارق عن الزّاب ، وولىّ مكانه المهلّب بن يزيد ، فكتب المهلّب إلى أبيه يستأذنه فى الخروج إلى ورفجومة ، فأمره أن يثبت حتى يأتيه أمره ، فوجه إليه يزيد العلاء بن سعيد بن مروان المهلّبى ، وكتب إلى المهلّب ابنه ، وهو على طبنة وكتامة وما يليها ، أن يستخلف على عمله من يثق به وينضم إلى العلاء ، وكانت ورفجومة تقول : إنّما كان أمر يزيد بن مجزّاة أملا كاذبا ، ثم التقوا وانهزم البربر وقتلوا قتلا زريعا ، وطلبوا بكلّ سهل وجبل ، حتى أتى على آخرهم ولم يصب من الجند أحد ، وأقبلوا إلى يزيد بالقيروان فولى العلاء على طرابلس وعزل ابنه المهلّب عن الزّاب وكتامة ، واستعمل على الزّاب وكتامة ابنه محمد بن يزيد.

وبنى يزيد المسجد الأعظم بالقيروان وجدّده ، سنة سبع وخمسين ومائة ، وأقام والأمور مستقيمة والبلاد هادئة ، ثم توفّى يزيد فى شهر رمضان سنة سبعين ومائة ، فى سلطان هارون الرشيد ، وكانت وفاته بدار الإمارة التى كانت بالموضع المعروف برحبة التمر ، وقيل توفّى بمنية الخيل ، مما يلى باب سالم ، وكان سمى له البصرة ، فوّلى عليها غيره.


أخبار القضاة فى أيامه

كان عبد الرحمن بن زياد بن أنعم من جلّة المحدّثين والعلماء المتقدّمين ، منسوبا إلى الزّهد والورع ، متفنّنا فى علم العربيّة والشّعر ، وكان يروى عن أبيه أبى أيوب الأنصارىّ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، ويروى هو عن سفيان الثّورى وأبى يوسف القاضى وكثير غيرهم. وولى القضاء بإفريقية ، الأولى فى أيام بنى أميّة ، وولّاه مروان بن محمد ، ولمّا قدم على أبى جعفر مستنصرا على البربر ولّاه القضاء ، فبقى إلى أن توفى فى أيام يزيد بن حاتم.

وكان عبد الرحمن قد أسره الروم ، ومضوا به إلى القسطنطينية ، ثم أفتك فيمن أفتك من الأسارى فى ناحية المشرق ، فكان يقول :

أسرت أنا وجماعة معى ، فرفعنا إلى الطاغيّة ، فبينما نحن فى حبسه إذ غشيّه عيد ، فبعث إلينا بأصناف من الطعام ، واتصل ذلك بامرأة الملك ، وكانت تقيّة عنده فمزقت ثيابها ، ونشرت شعرها وخمشت وجهها. وأقبلت إليه تقطرسما ، وقالت : «العرب قتلت أبى وأخى وزوجى ، وأنت تفعل بهم الذى رأيت!» فغضب وقال : «علىّ بهم» فصرنا بين يديه سماطين ، فأمر سيّافه ، فضرب عنق رجل رجل منّا ، حتى قرب الأمر منى ، فحركت شفتىّ وقلت : «الله ربى لا أشرك به شيئا ، فأبصر فعلى» فقال : «قدموا شمّاس العرب ـ يريد عالمها ـ ، فقال لى : «نبينا ـ عليه السلام ـ أمرنا بها» قال : «وعيسى فى الإنجيل» وأطلقنى ومن معى.

ودخل يوما على أبى جعفر ، فقال له : «يا بن أنعم ، ألا تحمد الله الذى أراحك مما كنت فيه بباب مروان بن محمد» قال : «إمّا ما كنت أرى بباب مروان لا أرى اليوم شطره» قال : «فبكى لها أبو جعفر» ، قال : «فما منعك أن ترفع ذلك إلينا وأنت تعلم أن قولك عندنا مقبول» ، قال : «إنى رأيت للسلطان سوقا وإنّما يرفع إلى كل سوق ما ينفق فيها» قال : «فبكى لها أبو جعفر» ثم رفع رأسه وقال : «كأنك كرهت صحبتنا!» ،


قال : «ما يدرك المال والشرف إلا فى صحبتك ، ولكنى تركت عجوزا وأريد مطالعتها» ، وكتب عهده على قضاء القيروان ، وقال : «اذهب فقد أذّنا لك».

وقال عيسى ، ولىّ عهد المنصور ، لعبد الرحمن بن زياد يوما : «ما يمنعك من إتياننا؟» قال : «وما أصنع عندك إن أتيتك ، إن أدنيتنى قتلتنى وإن أقصيتنى أخزيتنى ، وليس عندك ما أرجوه ولا عندى ما أخافك عليه».

قال أبو عثمان المعافرى : كنت يوما عند عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، قاضى إفريقية ، وهو يتنفّس الصّعداء ، والكآبة ظاهرة عليه ، حتى أتاه شاب معه مخلاة فأسرّ إليه كلاما فأسفر وجهه وتبسّم ، وقال لغلامه : «جئنا بالفول الذى طبخوه البارحة لنا» ، فجاءه به ، فقال : «تقرّب» ، قال أبو عثمان : فقلت : «لا أفعل» قال : «ولم يا أبا عثمان ، أظننت ظنا؟» ، قلت له : «نعم» ، قال : «أحسب يا أبا عثمان أنك قلت إذا رأيت هذه الهدية دخلت دار القاضى : فاعلم أن الأمانة قد خرجت من كوّة داره ، وليس هو هديّة» قال : فقلت له : «إنّى كنت رأيتك مغموما فلمّا أتاك هذا الطّعام انطلقت وأسفر وجهك» ، فقال لى : «إنّى أصبحت وقد بعد عهدى بالمصائب ، فخفت أن أكون قد سقطت من عين الله ، فلمّا أتانى هذا الغلام ذكر لى أن أكفأ عبيدى وأقومهم بضيعتى توفى ، فزال عنى الهمّ والغمّ واسترحت.

وكان ابن أنعم يقول «لكل شىء آفة تستعبده ، وآفة العبادة الرّياء ، وآفة الحلم الذّل ، وآفة الحياء الغضب وآفة اللّب الإعجاب ، وآفة الظّرف الصّلف ، وآفة العلم النيسيان ، وآفة الجود السّرف».

وأقام عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضيا على إفريقية المرة الثانية إمارة ابن الأشعث والأغلب بن سالم وعمر بن حفص حتى قدم يزيد بن حاتم فأقام مدّة ثم انعزل ، وكان فيما روى عن سليمان بن عمران قال : كانت امرأة تدخل إلى نساء يزيد بن حاتم ، وكان لها خصومة عند عبد الرحمن ، فكتب لها كتاب حكم ، وختمه ، وأعطاها إياه فأخذته ودخلت به إلى دار يزيد بن حاتم ، فقال لها : «ما هذا؟» فأعلمته ، فأخذه وفضّ خاتمه


وقرأه ، وصاحت فقال لها : «لا عليك ، أنا أبعث به إليه يختمه» ثم بعثه إليه فقال : «ما أختمه حتى تعيد البيّنة مرة أخرى (فردّه عليه ثانية ليختمه فأبى» ، فقال : «ما أفعل» فلما ولىّ رسول يزيد أخذ عبد الرحمن خاتمه فكسره وأخذ جلده ، وقال : «والله لا أحكم بين اثنين أبدا» ، قال : «فوّلى يزيد بعده ابن الطّفيل التّجيبى ، وكان يسكن فى سوق اليهود فى الدّرب المعروف إلى اليوم بابن الطّفيل ، وكان يركب إلى دار عبد الرحمن بن زياد يشاوره فى أمره ، وكان يقرع الباب» ، فيقول الخادم : «من أنت؟» فيقول له : «قل لمولاك هذا الذى عزلك» وكان ربّما حضره الطعام فيأكل معه ابن الطفيل ، ويركب حمارا له حتى يأتى المسجد الجامع ، فينزل ويجلس ، ويخلّى الحمار فينطلق الحمار يريد دار يزيد بن الطّفيل بغير قائد ولا سائق ، فيأكل ما يلقى فى الأزقة من حشيش وبقل ، وهو فى ذلك يمشى حتى يأتى دار ابن الطّفيل ، فيؤخذ فيدخل ، فإذا كان الوقت الذى يعلمون أنه ينصرف ، اسرجوا الحمار فيذهب حتى يأتى الجامع فيخرج فيركبه وينصرف.

قال سليمان : ثم عزل يزيد بن حاتم بن الطّفيل ، وذلك أنه رفع إليه أنه رفع كتبه عند رجل من البراّزين ، فقال له : «لم فعلت هذا؟» ، فقال له : «إنّها مختومة وأنا أحفظ ما فيها» ، فقال له : «وإن كان ، فليس هذا من سير القضاة» وعزله. قال سليمان : وكان سبب وفاة عبد الرحمن بن زياد أنه أكل عند يزيد بن حاتم سمكا وشرب لبنا ، وذلك فى الليل ثم انصرف ، وكان يحيى الطّبيب حاضرا ، وكان عبد الرحمن قد جاوز السبعين ، فقال يحيى : «إن كان الطبّ حقا ، فإنّ الشيخ يهلك» ، وكان يزيد فى عليّة له فى دار الإمارة ، إذ سمع بكاء فى الليل ، فقال : «ينبغى أن يكون هذا البكاء على عبد الرحمن» فكان كذلك ، فلج فمات ، ووقف يزيد بن حاتم خارجا من باب نافع ينتظر الجنازة فلمّا أقبلت ، ونظر إلى جماعة النّاس وكثرتهم وازدحامهم تمثّل بهذا البيت :

يا كعب ماراح من قوم ولا ابتكروا

إلّا وللموت فى آثارهم حادى


ولاية داود بن يزيد بن حاتم

واستخلف يزيد فى مرضه داود ابنه ، فانتفض عليه أمر البربر ... صالح بن نصير فى الإباضّية فلقيه ... بباجة فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة فوجه إليهم داود سليمان بن الصمّة بن يزيد بن حبيب بن المهلّب فى عشرة آلاف ، فهرب البربر فتبعهم فقتل منهم أكثر من عشرة آلاف وسلم الجند ، وهرب صالح بن نصير فانضم إليه جماعة من مشيخة أهل البصائر من البربر ، ممن لم يكن شهد الوقعة الأولى بشقبنّاريّة من كورة الأربس ، فزحف إليهم سليمان بن الصمّة فلقّيهم فقتلهم وقتل أهل البصائر منهم ، ولم يصب من الجند أحد ، وانصرف إلى القيروان ، وكان داود جعل على شرطته خالد بن بشير ، وولىّ على الزّاب المهلّب بن يزيد.

وأقام داود واليا على إفريقية إلى أن قدم عمّه روح أميرا على المغرب ، فكانت ولاية داود سبعة أشهر ونصف شهر. وسار داود إلى المشرق فكان أجلّ قائد عند الرّشيد ، وولّاه ولايات كثيرة ، وولى مصر سنة أربع وسبعين ومائة ، ثم ولّاه السند ، فمات بها وهو أمير عليها ، ومدحه الشعراء وذكرت مناقبه وأفعاله ، فمن ذلك قول مسلم بن الوليد الأنصارى :

لا تدع بى الشوق إنىّ غير معمود

نهى النهى عن هوى الهيف الرّعاديد

وهى من القصائد المختارة لحسن ألفاظها وبديع معانيها ، يقول فيها :

الله أطفأ نار الحرب إذ سعرت

شرقا بموقدها فى الغرب داود

داويت من دائها كرمان وانتصفت

بك المنون لأقوام مجاهيد

خلىّ بها فزعا أخلى معاقلها

من كلّ أبلخ سامى الطّرف صنديد


ولاية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب

ثم وجه هارون الرشيد روح بن حاتم إلى المغرب ، وكان أكبر سنّا من يزيد وأكثر ولايات بالمشرق ، وحجب أبا جعفر المنصور فى أول أيّامه ، ثم ولّاه البصرة ، وولى الكوفة فى أيّام محمد المهدى ، وولى السند وطبرستان وفلسطين وولايات كثيرة.

روى عن عبد الله بن عمر بن غانم القاضى أنه قال : حدّثنى الأمير روح بن حاتم ، قال : «كنت عاملا لهارون الرشيد على فلسطين ثم صرفنى عنها ، فخرجت منها أريد بغداد ، فوافق موت أخى يزيد ، فأرسل إلىّ هارون فلمّا دخلت عليه قال لى : «يا روح ، أحسن الله عزاءك فى أخيك يزيد فقد توفّى ، ولا أشك أنّ له صنائع بإفريقيّة ، فإن ولى مكانه غيرك لم آمن عليهم من عدو يتشفّى منهم ، ولكن اخرج من فورك إلى إفريقيّة» ، ويقال إن روح بن حاتم بعث إلى كاتب له بثلاثين ألف درهم ووقّع إليه : قد بعثت إليك بثلاثين ألف درهم ، لا استقلّها لك تكبيرا ولا استكثرها لك تمنّنا ، ولا استثنيك عليها ثناء ، ولا أقطع عنك بها رجاء ، والسلام.

وكانت فى روح عصبيّة ، قال خداش بن عجلان : قال لى روح بن حاتم : «رأيت إنسانا يطوف بالبيت وهو يقول : اللهم اغفر لى ولا تغفر لأمى ، قلت : «ولم ويحك؟!» قال : هى من الأزد والرجل روح».

ومما يؤثر من :

أخبار روح بإفريقية

إنه أتى برجل من موالى نهشل ، فكان يتلصّص ما بين برقة ومصر ، فأمر بضرب عنقه ، فقال له : «أيها الأمير ، إنّ لى عليك يدا» قال : «وما هى؟» قال : «إنك جئت إلى مجلس قومى وهو محتفل ، فلم يتحفّز لك أحد منهم ، فقمت لك من مكانى حتى جلست فيه ، ولو لا كريم محتدك وشرف مجدك ونباهة ذكرك ما ذكّرتك هذا عند مثل هذه


الحال» فقال روح : «يد والله» ، وأمر بتخليته ، وولّاه على تلك النّاحية ووصله وأخرجه إليها.

وجلس يوما فى قصره ينظر من علّية مع جاريّته طلّة الفندهاريّة ، وكانت حظيّة عنده لجمالها وحسنها وأدبها وعلمها ، فطلع خادم له وبيده قادوس فيه ورد أحمر وأبيض فى غير زمان الورد ، فاستظرفه وسأله عن أمره ، فأعلمه أن رجلا أتى به هديّة إليه ، فأمره أن يجعل فى طبق بين يديه ، وأمر أن يملأ له القادوس دراهم. فقالت له طلّة : «ما أنصفته» قال : «ولم؟» قالت : «لأنه أتى به ملوّنا أحمر وأبيض ، فلوّنه له» ، فأمر أن يخلط له دنانير ودراهم ويدفع إليه.

قال : وكان وصوله إلى القيروان فى رجب سنة إحدى وسبعين ومائة ، وكان شيخا حازما قد حلب الدّهر أشطره ، وذهب أكثر عمره فى إمارة يديرها أو حرب يسرها ، فلمّا وصل أقرّ العلاء بن سعيد على طرابلس ، وعزل المهّلب بن يزيد على طنبة ، واستعمل عليها ابنه الفضل بن روح ، واستعمل على تونس الجنيد بن سيّار ، ثم عزله واستعمل عليها إسحاق بن يزيد بن حاتم ، وكان وصوله فى خمسمائة فارس من الجند ثم لحقه ابنه قبيصة فى ألف وخمسمائة فارس ، فولّاه أبوه برقة ، فمن يوم مات روح عزلت برقة عن عمل إفريقيّة ، ولم تزل البلاد معه هادئة والسبل آمنة ، ورغب فى موادعة عبد الوهّاب بن رستم الإباضى صاحب تيهرت وهو الذى تنسب إليه الوهبيّة ، فلبث روح والأحوال حسنة مستقيمة إلى أن توفىّ لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة ، فكانت ولايته ثلاث سنين وثلاثة أشهر ، وكان له أولاد مذكورون منهم الفضل وقبيصة ، وكان أبوه ولّاه برقة ، وفيه يقول أبو عيينة المهلبى ابن عمه :

أقبيص لست ولو عرضت ببالغ

سعى ابن عمّك ذى النّدى داود

داود محمود وأنت مذمّم

عجبا لذلك وأنتما من عود

ومنهم بشر بن روح ، وكان قد رجع ... وصار على شرطة علىّ بن المهدى ، وأمّ علىّ ريطة بنت أبى العبّاس السفّاح ، وكان المهدى ولىّ موسى العهد بعده ثم هارون من


بعد موسى ثم عليا من بعد هارون. فلمّا صار الأمر إلى الرشيد خلع علىّ بن المهدى وعوّضه من ذلك عشرين ألف ألف درهم ، وكان متولى القضاء لروح رجل من أهل تونس ، يقال له العلاء بن عقبة ، وكان صالحا ورعا ، فحكم لرجل من أهل باجة بحكم ففضّه روح ووقف عليه ، وبلغ ذلك العلاء ، فقام من المسجد فبعث روح ورائه ، فالتمسوه فلم يوجد فى داره ولا موضع قضائه ، فلقيه يوم ومعه جلده ودرّنه وهو سائر إلى تونس ، فبعث روح إلى عبد الله بن فرّوخ ليولّيه القضاء ، فأبى وامتنع ، فأجبره وأمر من يقعده فى الجامع ، فأقعدوه ودعوا بالخصوم ، فتقدّم إليه خصمان فقال لهما : «أنا شد كما الله أن تكونا أشأم رجلين علىّ» ، فقاما ، فلم ييأس منه وعرض عليه ، فأبى ثم قال له : «أشر علىّ» فأبى ، فأمر روح أن يصعد به إلى بعض السطوح ، وقال : «إن أشار وإلّا ألقوه إلى الأرض» فقال : «هذا الفتى عبد الله بن عمر بن غانم كانت لنا معه صحبة». فكأنه أومأ نحوه. قال : فولى روح القضاء عبد الله بن عمر بن غانم ، وكان لا يجيب مشيره فى الخصومات ، فيأبى ويقول : لم أتقلّد هذا قاضيا أتقلّده مستشارا!» ، وكان هذا سبب خروجه إلى مصر ، وبها توفى.

وكان عبد الله بن عمر بن غانم فقيها ورعا عالما مقدّما مع فصاحة لسان وحسن بيان ، وبصر بالعربية ورواية للشّعر وكان قائلا له حسن العلم به ، وهو أحد القضاة الذين يفخر بهم أهل إفريقية ، وأقام على القضاء نحوا من عشرين سنة ، وكان قد رحل إلى مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ وسفيان الثّورى وأبى يوسف القاضى وغيرهم. وكان يقول : «دخلنا على سفيان الثّورى ، فقال : ليقرأ علىّ أفصحكم لسانا ، فإنّى لا سمع اللّحنة فيتغيّر لها قلبى» فقرأت عليه إلى أن فارقته ، فما ردّ علىّ حرفا واحدا ... فنظرت فى حاجات وخرجت إلى ... فخرج هارون يشيّعنى ثم ودّعنى ثم لحقنى وصاح : يا روح ، لا تنزل ولا ترجع ... وأنا مقيم ثم سايرنى ، فقال : عليك بالزّاب املأه خيلا ورجلا ، وكان ذا رأى وحزم وعلم مع شجاعة وجود وصرامة ، وهو أنبه ذكرا بالمشرق من يزيد ، ويزيد أكثر أخبارا منهم بإفريقيّة لطول مقامه بها ، ويقال إنّ المنصور وجّه يزيد إلى إفريقيّة لمّا انتقضت عليه بقتل عمر بن حفص ، وبعث روحا إلى السند ،


فقيل له : «يأمير المؤمنين ، لقد باعدت بين قربهما» فتوفّى يزيد بالقيروان ودفن فى مقبرة باب سالم ، ثم وجّه هارون إلى إفريقية روح ، فمات ودفن إلى جانبه ، فقبرهما فى موضع واحد عليهما ساريّة مكتوبة فيها أسماؤهما ، وقد ذهب ما كان على قبرهما من بناء ، لأنّ بنى الأغلب هدموا ما كان على قبريهما ، ومنها الأعمدة التى تحت مصلىّ العيد ، وأكثر الناس يعرفون قبريهما ويقفون عليهما للعظة بما كانا فيه من السّلطان والقدرة. ولمّا أن هزم عبد الله ابن علىّ ، عمّ أبى جعفر ، صار إلى البصرة إلى أخيه سليمان بن على ، فأخفاه عنده ، فعزل أبو جعفر عمّه سليمان عن البصرة وولّى عليها سليمان بن يزيد بن المهلّب وصيّره مع روح بن حاتم فى سبعة آلاف ... البصرة حتى يظفر بعمّه عبد الله بن على ، وأمرهما أن يخ ... سفيان يلاطف آل سليمان ويدخل عليهم ويؤنسهم إلى أن دخل يوم ، فقالوا له : «سلّم على شيخ بنى هاشم» قال : «ومن هو؟» قالوا : «عبد الله بن على» فسلّم عليه وصافحه وأمسك بيده ، فقال له : «خلّ عن يدى» فقال : «ولا والله لا خلّيت عن يدك حتى ترى وجه أبى جعفر» فقالوا إليه ليخلّصوه منه ، واتّصل الخبر بروح فجاء بأصحابه وأحاط بالقصر وهو يقول : «لئن نال سفيان منكم مكروه لا يستقرّ بكم القصر». فوصل إلى أبى جعفر على يدى روح ، وتوفى عيسى ابن موسى ولىّ عهد المنصور بالكوفة سنة سبع وستين ومائة ، وعلى الكوفة روح بن حاتم ، فأشهد على وفاته القاضى والوجوه لمكانه من دولة المنصور ، ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا فى الشمس عند باب المنصور ، فقال له : «لقد طال وقوفك فى الشمس!» فقال لى روح : «ليطول مقامى فى الظل».

ومات ابن الروح فدخل عليه أصحابه ، وهو ذكىّ البال ضاحك السنّ ، فتوقّفوا عن تعزيّته ، فعرف ذلك منهم ، فأنشأ يقول :

وإنّا أناس لا تفيض دموعنا

على هالك منّا ولو قصم الظهّرا

يروى عن عبد الرحمن القصير قال : رأيت أربعة ما رأيت فى الدّنيا مثلهم ، رأيت ابن عثمان بالبصرة فما رأيت فى الدّنيا مثله ، ورأيت الأوزاعى بالشّام فما رأيت فى الدنيا


مثله ، ورأيت سفيان الثورى بالكوفة فما رأيت فى الدّنيا مثله ، ورأيت رباح بن يزيد بإفريقية فما رأيت فى الدّنيا مثله.

وكان رباح يقول : رضت نفسى عن المآثم حولا فبعد حول ضبطتها ، ورضت لسانى عن ترك ما لا يعنينى خمس عشرة سنة ، فبعد خمس عشرة سنة ضبطته. وهذه الرياضة كانت فيه لأنه مات وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، وكان قد حمل على نفسه الاجتهاد حتى قال : «كنت أحب الصحة فلمّا ضعفت عن العمل أحببت المرض. قال سليمان بن عمران : ولمّا توفى رباح بن يزيد حضر جنازته كافّة الناس ، وغلّقت الحوانيت ، وحضرها الأمير يزيد بن حاتم ، فلّما رأى من كثرة الناس ما رأى التفت إلى من يليه ، فقال : هذا والله عزّ الآخرة لا ما نحن فيه» وقال بعض شيوخ إفريقية : لمّا ولىّ روح بن حاتم أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن غانم القضاء بأفريقية ظهر من عدله فى قضائه ، وفهمه ما فضح به من كان قبله ، وولى فى رجب سنة إحدى وسبعين ومائة وهو يومئذ ابن أربعين سنة ، فأقام على قضاء إفريقية عشرين سنة أيام روح بن حاتم ، ونصر بن حبيب ، والفضل بن روح ، وهرثمة بن أعين ، ومحمد بن مقاتل العكى ، وبعض أيام إبراهيم بن الأغلب ، وسنذكر بعض أخباره معه. وكان ابن غانم إذا أشكلت عليه قصة أرجأ أمر الخصمين حتى يعود عليه جواب مالك بن أنس وأبى يوسف القاضى ، ونذكر بقيّة أخبار عبد الله بن فروخ ، وكان عظيم القدر عند العلماء قال ابن فروخ : كنت يوما عند ابن أبى جمعة فسقطت آجرة من أعلى داره على رأسى فأدمتنى فقال لى : «اخطر إن شئت أرش الجرح وإن شئت ثلاثمائة حديث» قلت : «الحديث» ، فحدّثنى ثلاثمائة حديث. قال : وقلت يوما لأبى حنيفة : «ما منعك أن تلى القضاء؟» فقال لى : «يا بن فرّوخ القضاء ثلاثة ، رجل يحسن العوم أخذ البحر طولا فما عسى أن يعوم يوشك أن يكلّ فيغرق ، ورجل لا بأس بعومه فعام يسيرا فغرق ، ورجل لا يحسن العوم فألقى بنفسه على الماء فغرق من ساعته ، فهذا منعنى من الدخول فى القضاء».

وقال ابن فرّوخ : أتيت الكوفة وأكثر أملى السماع من سليمان بن مهران الأعمش ، فسألت عنه فقيل لى : «إنه غضب على أهل الحديث وحلف ألا يسمعهم إلّا وقت ذكر


فكنت اختلف إلى داره طمعا أن أصل إليه ، فجلست يوما أتفكر فى تغربّى وما حرمته من السماع منه ، وقد أدركته إلى أن فتح الباب ، وإذا بجارية فقالت : «مالك»؟ فقلت : «أنا رجل غريب» ، واعلمتها بخبرى ، قالت : «وأين بلدك؟» قلت : «إفريقية» فاسترجعت وقالت : «أتعرف دار بنى فرّوخ؟» قلت : «أنا ابن فرّوخ» فقالت : «عبد الله!» قلت : «نعم» ، فإذا هى جارية كانت من بلادنا ، وكنت رضيعا لها فبعناها صغيرة ، فصارت إلى الأعمش وكانت لها دالّة عليه ، فدخلت عليه فقالت له : «إن ابن مولاى الذى كنت أخبرك به بالباب ، فأمرها بإدخالى ، وأسكننى فى بيت قبالته ، فكنت أسمع منه وحدى ، وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربا من سماعى منه. وكان مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ يكرمه ويعظّمه ، وكانت لمالك ـ رحمه الله ـ فراسة لا تكاد تخطىء ، نظر يوما إلى ابن فرّوخ فقال : «هذا فقيه بلده» ونظر إلى ابن غانم فقال : «وهذا قاضى بلده» ، ونظر إلى البهلول بن راشد فقال : «وهذا عابد بلده».

وقدم عبد الله بن فرّوخ المدينة حاجّا ، فلما نزل لبس ثيابه ثم توجّه إلى قبر النبى صلّى الله عليه وسلم فسلّم عليه ثم أتى مالك بن أنس مسلّما ، فلما رآه قام إليه وكان لا يكاد يفعل ذلك لكثير من الناس ، وأجلسه إلى جانبه وسأله عن أحواله وقدومه فأعلمه أن قدومه كان فى الوقت ، فقال : «صدقت لو كان قدومك تقدّم لعلمت ، ولو علمت لأتيتك» وجعل مالك لا ترد عليه مسألة وعبد الله حاضر إلّا قال له : «أجب يا أبا محمد ،» فيجيب ، فيقول مالك للسائل : «هو كما ذكر لك» قال : ثم التفت مالك إلى أصحابه فقال : «هذا فقيه المغرب» ، وكان على هديه وورعه يقول لتحليل النبيذ ويشربه ، ويروى أحاديث فى تحليله ، وكان يرى الخروج على أهل الجور والظلم ، وواعد أصحابه على الخروج ، وكان يتعاهد معهم أن يتوافوا بباب أصرم ، فما وافاه إلا أبو محرز وجم أصحابه ، واتصل ذلك بروح بن حاتم ، فقال له : «بلغنى أنك ترى الخروج علينا؟» قال : «نعم» فتعاظم ذلك روح من قوله وقال له : «فى كم؟» قال : «فى ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا عدة أهل بدر كلهم أفضل منى» ، فقال له روح : «قد أمنّا أن يخرج علينا أبدا لأنّه لا يجد أحدا


مثله ، فكيف هذه العدّة؟» ، وبعث إليه روح يسأله عن دم البراغيث يصيب الثّوب هل ينجّسه؟ فقال : «يا عجبا ، يسألون عن دم البراغيث ولا يسألون عن دماء المسلمين» ، والرسول يسمعه.

قال عبد الله بن وهب المصرى : قدم علينا ابن فرّوخ فى سنة ست وسبعين ومائة بعد أن مات الليث بن سعد ، فرجونا أن يكون لنا عبد الله بن فرّوخ خلفا منه ، فما لبث إلّا يسيرا حتى مات ، فدفنّاه فى مقبرتنا هذه ، وجعلت على نفسى ألا أحضر جنازة إلّا وقفت على قبره ودعوت له ورحمت عليه.

ولاية نصر بن حبيب المهلبى

يقال إن روح بن حاتم كان قى أسن وكبر ، وإذا جلس للناس كثيرا ما يغلبه النّوم من الضّعف ، فكتب أبو العنبر القائد وصاحب البريد إلى هارون الرشيد بضعف روح وكبره ، وإنهما لا يأمنان عليه أن يموت (وإفريقية) ثغر ولا يصلح بغير سلطان ، وقبلنا نصر ابن حبيب وكان على شرطة يزيد بن حاتم ولايته كلها مصر وإفريقية ، وهو محمود السيرة محبّب إلى الناس ، وله سن ومعرفة ، فإن رأى أمير المؤمنين ولايته فى السرّ إن حدث بروح حدث حتى يرى أمير المؤمنين رأيه. فكتب هارون له عهده سرّا ، فلما مات روح فرش لابنه قبيصة الجامع ، فجلس واجتمع الناس للبيعة له ، وكان الفضل بن روح عاملا على الزّاب ، فركب أبو العنبر وصاحب البريد بعهد هارون إلى نصر بن حبيب ، فأوصلاه إليه وسلما عليه ، وركبا إلى المسجد فيمن معهما حتى أتيا قبيصة ، وهو جالس على الفرش ، فأقاماه واقعدا نصرا وأعلما النّاس بأمر نصر ، وقرىء كتاب هارون عليهم فسمعوا وأطاعوا.

فولى نصر سنتين وثلاثة أشهر فعدل وحسنت سيرته ، وكان لم يعد أحد قبله بمثل


عدله ، وكانت ولايته لعشر باقين من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة ، وولىّ أعماله أهل البلد ، وعزل العلاء بن سعيد عن طرابلس بعد أن أقام عليها عشر سنين وتسعة أشهر ، واستعمله على الزّاب ، واستعمل على طرابلس النصر بن سدوس المرادى ، وكان الفضل بن روح لما مات أبوه وصار الأمر إلى نصر خرج إلى هارون فولّاه إفريقية ، فرجع إليها.

ولاية الفضل بن روح بن حاتم

لنا ولّاه الرشيد كتب بعزل نصر إلى إفريقية وأن يقوم بأمر إفريقية المهّلب بن يزيد إلى أن يقدم ، وكان قدوم الفضل فى المحرم سنة سبع وسبعين ومائة ، ويقال إنّه لم يل إفريقية أجمل منه ومن أبى العبّاس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب. وروى عمرو بن قدومة قال : ما رأيت مثل ما صنع الناس فى تلقىّ الفضل بن روح واستبشارهم به ، وسرورهم بقدومه ، نصبت له القباب من مسجد أم الأمير إلى دار الإمارة فى رحبة التمر ، فزعموا أن قسطاس النصرانى نصب له قربة ريحان فى طريقه ، وعليها طومار قد كتب فيه بخط غليظ : «إنّا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر» فنظر إليه الفضل فقال : «من فعل هذا؟!» قالوا : قسطاس ، قال : «أحسن والله النصرانى» فلمّا انتهى إلى مسجد أبى فهر نظر إلى زير زجاج معلق ، وفيه ماء وفى الماء حيتان تعوم ، فقال : «من فعل هذا؟!» قالوا : قسطاس ، فقال : «أحسن والله».

وكان قد أمر بعض كتّابه أن يكتب كلّما هيأ له ويلقاه به ، فلمّا نزل عرضت عليه الكتب ، وأتى قسطاس فقال له : «تمنّ» فقال : «يأذن لى فى بناء كنيسة» فأذن له ، فبنى الكنيسة التى يقال لها كنيسة قسطاس. فإن يكن ذلك كما قيل فقد أتى عظيما.

ولما ولى الفضل عزل عمال نصر بن حبيب إلّا أنه أقرّ العلاء بن سعيد على الزّاب ، وولى على طرابلس أبا عيينة الشاعر بن محمد بن أبى عيينة بن المهلّب إلى المشرق ، وكان قدم زائر الابن عمه يزيد بن حاتم ، فولّاه قفصة وقصطيلية ، فيقال إنه جلس يوما مع


أصحابه إذ سقطت من يده جوهرة ، فأخذ بعض جلسائه وأبو عيينة يراه فقال : «يا غلمان ، لا تطلبوها ولا يبيعنّها آخذها بخسا ، فإنّ شراءها عشرون ألف درهم» ، وكان نازلا بالحارثّيين ، فلمّا أراد الخروج إلى طرابلس جاءته جيرته مودّعين ، فقال لهم : «ما معنا دينار ولا درهم ، ولكن ما فى الدّار من طعام وشراب وأثاث ومتاع فهو لكم» ، قال بعضهم : فقمنا فوجدنا خزائن مملوءة من كل شىء فاقتسمناها ، وجاءه وهو على تلك الحال المعروف بأبى حسان الإسكاف فأهدى إليه خفّين ، فقال له : «ما حملك على أن تهدى إلينا ونحن على ما ترى من الحال؟!» فقال : «المودّة لك والأمل فيك بعد اليوم» قال : «ليس يغنى عنك هذا ، ولكن هل لك فى شىء؟» ، ونزع عن نفسه ثوب وشى فدفعه إليه ، فباعه أبو حسان بمائة دينار. قال أبو مالك بن الطّرمّاح بن حكيم ، وكان مقيما بالقيروان : «بعث إلى أبو عيينة المهّلبىّ أن جئنى بديوان الطّرمّاح لأقرأه عليك ، ففعلت فأمر بانتساخه وقرأه علىّ ، وكنت أحضر طعامه وكسانى كسوة نفيسة وأعطانى ثلاثين دينار ، فكان أبو مالك يقول : «والله ما رأيت المال أرقّ ولا أذل مما هو بأيديهم» ، وكانت تونس تعدل بالقيروان فى كثرة العرب والجند الذين كانوا فيها.

وكان أبو جعفر إذا قدم عليه رسول صاحب المغرب يقول : «ما فعلت إحدى القيروانين ـ يريد تونس ـ فلمّا قدم الفضل ولىّ عليها ابن أخيه المغيرة بن بشر بن روح ، وكان غرّا لا تجربة له بالأمور ، فاستخفّ بالجند وسار فيهم بغير سيرة من تقدّمهم ووثق أن عمّه لا يعزله ، هذا مع ما فى قلوبهم على الفضل من أشياء قد أنكروها ، أقلّها استبداده برأيه دونهم ، فاجتمعوا وكتبوا كتابا إلى الفضل يخبرونه بسوء صنيع المغيرة لهم وقبح سيرته فيهم ، فتثاقل الفضل عن جوابهم ، فاجتمعوا وتكلّم ابن الفارسىّ وقال : «إنّ كلّ جماعة ليس لها رئيس يدبّر أمرها ، فهى على شفا جرف مما تطلب ، فانظروا رجلا يدبّر أمركم» قالوا : «صدقت ، فأشر علينا» قال : «فإنى أشير عليكم بالبصير بن الحرب المعروف بالنّجدة ، ولعلّه مع هذا .. ماله ، فإنّه ذو مال» ، قالوا : «من هو (» قال : «عبد الله ابن الجارود ، وهو المعروف بعبدويه ، فأتوا ابن الجارود فقالوا : «قد علمت ما صنع بنا المغيرة وقد كتبنا إلى صاحبه فلم يزل خاذلنا وقد رأينا إخراجه ، وأنت شيخنا وفارسنا


والمنظور إليه ، ونحن نصيّر هذا الأمر إليك قال لهم : «ليس يمنعنى من إجابتكم إلى ما سألتم تقصير فى النّصيحة لكم ، ولكنى أكره أن أعقد فى أعناقكم عقدة ترجعون عنها ، فأكون أنا الدّاعى إلى هلاك نفسه ، ولكنّى أقنع بالعافيّة ما وسعتنى ، فإن وقع أمر كنت فيه كأحدكم ، فقال له محمد بن الفارسى «ما لنا من هذا الأمر بدّ» ، فلمّا رأى القوم فى جدّها قال لهم : «أعطونى من بيعتكم ما أثق به» فقالوا له : «أنفسنا دون نفسك» فأخذ بيعتهم على ما أراد ، ثم انصرفوا إلى المغيرة وهو بدار الإمارة فحصروه بها فبعث إليهم فسألهم : ما الّذى يريدون؟ قالوا : «ترحل عنا وتلحق بصاحبك أنت ومن معك.

وكتب عبدويه : إلى الأمير الفضل من عبد الله بن الجارود ، أما بعد : فإنّا لم نخرج المغيرة إخراج خلاف عن الطاعة ، ولكن لأحداث فيها فساد الدّولة ، فولّ علينا من ترضاه ولا طاعة لك علينا ، والسّلام. «فكتب إليه الفضل بن روح» ، من الفضل بن روح إلى عبدويه بن الجارود ، أما بعد : فإن الله عز وجل يجرى قضاياه فيما أحب الناس أو كرهوا وليس اختيار واليا لو اخترته لكم أو اخترتموه بحائل دون شىء أراد الله عز وجل بلوغه فيكم ، وقد ولّيت عليكم عاملا فإن دفعتموه فهو آية النّكث منكم ، والسلام» وبعث عبد الله بن يزيد المهّلبى عاملا على تونس ، وضم إليه النضر بن حفص وأبا ... والجنيد بن سيّار.

فروى مسعدة بن أبى قديك قال : خرجت مع عبد الله بن محمد بشيعة حتى انتهينا إلى باب المدينة نصب روح اللّواء فاندقّت القناة ، فتطيّر الناس ، ومضى حتى إذا كان مرحلة من تونس تخيّر ابن الجارود عدّة من أصحابه منهم وصّاف ومنصور بن هميان فى جماعة وقال لهم : «اذهبوا حتى تعلموا ما قدم به هذا الرجل وتبعثوا إلىّ بخبره ، ولا تتعرضوا للحرب ما وجدتم سبيلا إلى العافّية» ، فلقوه بالزيتون الذى بالقرب من سبخة تونس فلقوه فقال ابن هميان لأصحابه : «قد علمتم أن الفضل كان يأخذ الرجل منكم فى الأمر الذى ليس عليه فيه مؤنة ، فيقطع يديه ورجليه ، فكيف وقد أخرجتم ابن أخيه وكاشفتموه ، والله ما بعث عاملة ومن بعث معه من القوّاد إلا ليتلطّف بكم لترجعوا عن رأيكم ، فإذا اطمأنت به الدّار مرّ عليكم فلا يبقى منكم أحدا» ، قال وصّاف : «فما رأيك» ، فكأنى انظر إلى ما


تريد ، وإن شئت أعلمتك به» قال : «فخبرنى» قال : «نكون على عدة ثم نلقى القوم كأنّا نسألهم عمّا جاءوا إليه حتى إذا غشيناهم صببنا عيلهم ، فإن أرادوا قتالنا كنّا قد شغلناهم عن كثير من ذلك ، وإن لم يقاتلوا أخذنا عبد الله والقواد الذين معه فصاروا رهائن بأيدينا ، فكنا المخيّرين على الفضل ، فإمّا أجاب إلى ما نحبّ وإما أخرجناه ومن معه وقاتلناهم إن أبوا الخروج فقال له منصور : «والله ما أخطأت ما أردت» فأجمع رأيهم على ذلك ، فأقبل عبد الله بن محمد حتى التقوا بالزيتون ، فلمّا قربوا منه حملوا عليه وعلى أصحابه ، فقتلوه عبد الله وأخذوا القوّاد أسارى ، فلمّا رجعوا إلى ابن الجارود ، فأخبروه بما صنعوا فقال لهم : «ما لهذا بعثتكم ، فأمّا إذ وقع فما رأيكم؟» فأشار بعض أصحابه بما عنده من الرأى ، وقال : «إنّه لم تسأل الفضل واليا ، وأنت تريد قتله قبل أن تعرف رأيه وأنت غائب عن قتل عبد الله ، فأقم وكاتبه ، فإنه يحثّه على موادعتك طلب العافيّة ... الولاية» ، فضحك محمد بن الفارسى فقال له عبدويه : «لم ضحكت ، كأنك لم ترض رأيه؟» ، قال : «أما هو فقد أجهد لك نفسه فى الرأى» قال : «فما ترى أنت؟» قال : «إذا والله أعطيتك الوجه الذى إن ارتكبته ظفرت وإن تركته نكبت» قال : «وما هو؟» قال : «اعلم أن الفضل لن يسلم لك صدره أبدا بعد إخراج ابن أخيه وقتل ابن عمه ، وليس اعتذارك للفضل أنك غبت عن قتل ابن عمّه بالذى يقيم لك العذر عنده ، ولا راحة لك فى سلمه ، وقد قيل فى أمثال كليلة ودمنة : إن الضرس المأكول الفاسد لا راحة لصاحبه دون قلعه ، وكذلك نحن وآل المهّلب ، لا راحة لنا فيهم إلّا بقتلهم أو إخراجهم بالمكائد والحيل» ، فقال له عبدويه : «فتولّ أنت تدبير الرأى ومكالمة الناس ، واكفنى ذلك وأنا أكفيك تدبير الحرب ـ إن شاء الله ـ» فجعل محمد بن الفارسى يكتب إلى كل رجل من وجوه القوّاد يوهمه أنهم يؤمّرونه عليهم وكان فى كتبه : «أما بعد» فإنا نظرنا إلى ما صنع الفضل فى ثغر أمير المؤمنين فى تهاونه بجنده ، واستئثاره عليهم بما لم تكن الولاة تصنعه قبله مع وعورة لفظه لهم وتركه لكتاب أمير المؤمنين فى أرزاقهم وسوء سيرته فيهم ، فيما عهد إليه ، ولم ينفعنا إلّا الخروج عليه لنخرجه عنا ، ونظرنا فلم نجد أحدا هو أولى بنصيحة أمير










المؤمنين لبعد صيته وعطفه على جنده منك ، فرأينا أن نجعل أنفسنا دونك فإن ظفرنا جعلناك لنا واليا ، وكتبنا إلى أمير المؤمنين نسأله ولايتك ، وإن تكن الأخرى لم يعلم الفضل أنا أردناك ، والسلام.

فكان الكتاب إذا جاء أحدهم قال : «وما علىّ أن اكتفى هذا الأمر» ويطمع فيما كتب إليه به ، فأفسد الكتاب جماعة ، ولم يعالجهم الفضل وأمهلهم إلى أن دبّروا لأنفسهم ، وكتب ابن الجارود وأصحابه إلى باجة ، وبها جند من أهل خراسان يخبرونهم بالأمر الذى دخلوا فيه ، ويزينون لهم الخروج معهم ، فتسرعّ الناس إليه من كل ناحية ، وبلغ ذلك الفضل فكتب إلى عمّاله بالقدوم عليه ، ما خلا صاحب الزاب وهو العلاء بن سعيد ، وصاحب طرابلس ، وهو أبو عيينة ، ونادى فى الجند قال من شهد الأمر : فجعلت ـ يعلم الله ـ أنظر إلى العدّة منهم يأتون فيأخذون أعطيتهم ثم ينشرون السلاح ، ويخرجون إلى ابن الجارود.

وقدم على الفضل سمدون ، وأبو المغيرة ، وأبو عميلة ، فلما دخلوا عليه أمر لكل واحد منهم بخمسمائة درهم ، فبلغ ذلك من بالقيروان من أبناء خراسان فقال بعضهم لبعض : «ويحكم ، كيف ترضون بهذا أن يقوّى الفضل أهل الشام على أبنائنا .. يفعل ذلك بمن هو عبدة منا» ، وكان عمّاله أهل خراسان يقولون : «لا نقاتل معه» ، وولى الفضل محاربة ابن الجارود عبد الله بن يزيد بن حاتم.

وأقبل ابن الجارود على طلائعه فتح ، ووصّاف ، وابن الدّويدى ، وأقبل عبد الله بن يزيد وعلى مقدّمته شبيبة بن حسان وعلى طلائعه فلاح ، فنزلوا قرب طساس ، وجعل عبد الله يتنقّل حتى صار إليهم. ثم التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فولّت طلائع عبد الله بن الجارود وركبهم الآخرون فقتلوا منهم عدّة ، وكان على ميمنة عبد الله بن يزيد علّى بن هارون الأنصارى وسهل بن حاجب وعامر بن نافع ، وعلى المسيرة الميسرة عمر بن ... ، وشراحيل الأزدى ، فلما رأى سهل بن حاجب غريمه عبد الله بن يزيد فى قتالهم دنا منه ، ثم قال له : «والله إن زلنا نظن أنك سندا لهم وإنك تصانع عبدوية حتى


رأينا منك ما دفع الشك عنا فيك ، وليس كلامى لك كلام حقد ولكن نصرة للطّاعة وكراهّية للخلاف ، وهو الذى دعانى إلى قتال من ترى من أهل خراسان ، فلمّا انهزم أصحاب عبدوية ولحقوا به قال لابن الفارسى : «ما هكذا كتب إلينا من كتب من إخواننا!» قال ابن الفارسى : «إنما قاتلك أصحابنا أهل الشام وإنما لقوا طلائعنا بعساكرهم لا تعلم إذا التقينا كيف يصنع الناس».

كان هذا يوم الجمعة ، فلمّا كان يوم الأحد عبأ عبدوية جنده ، وزحف وعبد الله بن يزيد بطساس ، فلمّا تواقفوا ، قال عبدوية لأصحابه : «تهيأوا لحملة واحدة تصدقوا فيها ، فإنّ فى عسكر عبد الله بن يزيد من لو قد نظر إلينا لانهزم باليأس» وهو على ثقة بما قال لهم فانهزم أصحاب عبد الله بن يزيد ، وصبر ناس فأخذ الطاعة من أهل خراسان وأهل الشام ، فلما رأوا أنه لا يثوب إليهم أحد انصرفوا إلى الخندق ، وجعل عبد الله بن يزيد ينادى : «إلىّ إلىّ!» فما أحد رجع إليه ، قال له بعض أصحابه : «إنك والله لو قتلت ها هنا وثب الناس على الفضل فيقتل» ولكن سر على طاويّة بمن معك حتى تسير إلى القيروان ، فتستأنف القتال ، فإن الحرب سجال وقد كانت أول وقعة فانصرف. وقتل هارون الأنصارى فى المعركة وأدركوا أبا الأسود الحمصى فى بعض الطريق ، وقد نزل عن فرسه ، فقتلوه. وسار الناس إلى القيروان وأتبعهم أصحاب عبدوية ، فأقاموا على القيروان إلى المغرب ، ثم انصرفوا إلى منية اخيل.

واجتمع إلى الفضل بنوا عمه وأصحابه فقالوا له : «ما رأيك؟» فقال لهم : «أشيروا علىّ فاختلفوا فى رأيهم ، فمنهم من أشار بالخروج إلى طرابلس والرحيل عن القيروان ، ومنهم من أشار بالقعود واضطرب على الفضل أمره ولم يصح له رأى ، فلمّا أصبح بعث المهلب بن يزيد إلى باب سالم ، وفرّق الناس على ما بقى من الأبواب ، وأقبل عبدوية والفضل فى دار الإمارة مع خالد بن يزيد ، من ولد أبى صفرة ، وعبد الله بن يزيد وجنى بن خداش وجماعة من أهل بيته ، فلما قرب عبدوية من الأبواب سد من كان فى المدينة من


الأبناء على من بباب سالم من داخل ، فدفعوهم عنهم ، وفتحوا الباب ، وفتح أيضا باب أبى الربيع ، ودخل أصحاب عبدوية ما يدافعهم أحد ، ونزل عبدوية خارجا من المدينة وبدأ أصحابه بدار عبد الله بن يزيد.

ابن عبدوية قريش القشيرى ، وابن الرّبوذى والهيثم بن الرّبيع وغيرهم ، ثم رحل ابن عبدوية من تونس ودخل مالك بن المنذر ، فأقام بها عشرين يوما ، وكان كثير من أصحاب عبدوية المهزومين قد نصبوا بها ، فقال له أصحابه : «دعنا نتّبعهم» فقال لهم : «إنهم وإن خالفوا فإنهم جند أمير المؤمنين» وأبى أن يأذن لهم ، فلما عرفوا ذلك من رأيه انصرفوا عنه وأغاروا على القرى ، فبقى فى أقل من العّدة التى جاء بها من ميلة وقيل لابن الجارود : إن شئت أن تأخذ ملكا أسيرا فأخرج إليه وقد تفرق الناس عنه ، فخرج إليه وعسكر بطساس ، فلما بلغ الناس أن ابن الجارود عسكر ثابوا ورجعوا إلى مالك حتى صاروا فى ألفى فارس ، وسار ابن الجارود حتى نزل بقربة ، وأقبل مالك بن المنذر فالتقوا واقتتلوا ، فانهزم أصحاب مالك ، فلما رأى ذلك حمل فى نفر من أصحابه ، وهو يقول :

يا موت إنّى مالك بن المنذر

أمسك حسن البيض والسنّور

أقتل من صابر ومن لم يصبر

فقام إليه عبد الله بن الجارود ، وهو يقول :

 .. مالك بن المنذر

إنّى أنا قتلت ربّ المنبر

جرعته كأس حمام أحمر

فاصبر ستلقاه وإن لم تصبر

فلما همّ كلّ واحد منهما أن يلقى صاحبه اعترض رجل من أصحاب الجارود مالك ابن المنذر فصرعه وركبه الناس فقتل ، وقتل معه عدة من أهل بيته ، وانهزم أصحابه حتى صاروا إلى الأربس ، ووجه ابن الجارود حمّاد بن حماد واليا على الأربس فبيّته سمدون


وأصحابه فهرب ، ثم كتبوا إلى العلاء بن سعيد ، وهو بالزاب أن يقدم عليهم ، وتهيأوا إلى قتال ابن الجارود ، فأقبل العلاء حتى وصل إلى الأربس واجتمع مع المغيرة وأبى عميلة وسمدون وفلاح فى أهل الشام ، فلمّا بلغ ابن الجارود قدوم علاء قال عند ذلك :

أفى كل يوم ثائر قد قتلته

بفضل ما ينفكّ بالفضل طائر

قضيت لنفسى الّنذر فى قتل مالك

وإنّى لها قتل العلاء بناذر

قال : وجرت بينهما مكاتبات فقال العلاء فى آخر جوابه :

نذرت دمى فانظر إذا ما لقيتنى

على من بكاسيها تدور الدّوائر

ستعلم إن أنشبت فيك مخالبى

إلى أىّ قرن أسلمتك المقادر

قال : وأقبل العلاء إلى القيروان ، فصادف ابن الجارود وقد خرج منها يريد يحيى بن عيسى خليفة هرثمة بن أعين ، وذلك أن الرشيد لما اتصل به وثوب ابن الجارود على الفضل ... إفريقية ، وجّه يقطين بن موسى لمحلة من دعوتهم ومكانه فى دولته ، وكبر سنه وحاله عند أهل خراسان ، وأمره بالتلطّف بابن الجارود وإخراجه من البلاد ، ووجه معه المهلب بن رافع ثم وجه منصور بن زياد ومعه هرثمة بن أعين أميرا ، فأقام ببرقة وقدم يقطين القيروان ، فجرى بينه وبين ابن الجارود كلام كثير ، ودفع إليه كتاب هارون الرشيد فقال ليقطين : قد قرأت كتاب أمير المؤمنين ، وأنا له على السّمع والطاعة ، وليس لأمره دفع ولا بعد أمانه خوف ، وقد أظلنى العلاء بن سعيد وفى كتاب أمير المؤمنين أنه ولى هرثمة بن أعين وهو ببرقة بعدكم يصل ومع العلاء ... الثغر ، وثب البربر فأخذوه ، ثم أخرجوا العلاء منه أو قتلوه ، ولا يدخله وال لأمير المؤمنين أبدا ، فأكون إمام الخلق على هذا الثغر ، ولكن أخرج إلى العلاء فإن ظفر بى فشأنكم بالثغر ، وإن ظفرت به انتظرت قدوم هرثمة بن أعين ، ثم أخرج إلى أمير المؤمنين فاجتمع يقطين مع محمد بن يزيد


الفارسى ، وكان صاحب ابن الجارود ، فابتدأه يقطين بالإيمان التى وثق بها ليقينّ له بما يضمن فإن هو لم يقبل ما عرض عليه لا يخبرنّ به أحدا أبدا ، فلمّا سمع ذلك ابن الفارس قال : «أعرض مل شئت» قال : «علىّ قيادة ألف فارس وصلة وقطيعة فى أى المواضع شئت ، وأما الذى لنا عليك فتعلم رأى ابن الجارود إن كان يسلم إلى أمير المؤمنين ، فإن فعل وإلا زينت له الخروج إلى العلاء ، ثم دعوت الناس إلى الخروج عليه وخرجت معك ، فهو آية الظفر ، وتنال ما ذكرت لك مع رضا أمير المؤمنين ، وشكره» ، فسعى ابن الفارسى فى ... ابن الجارود ودعا أهل خراسان إلى ذلك ورغّبهم فى الطاعة واستمال قلوبهم حتى ساعدوه وسمع ما كان يحبّ الطّاعة والخلاف على ابن الجارود ، فأسرعوا إليه وبعث إلى من كان محبوسا فى السجن من القواد ومن كان مختفيا من ابن الجارود ، فأخرجهم وواعدهم أن يجتمعوا له بباب أبى الربيع ، ثم خرج فيمن معه وقام خطيبا ، فذكر الطاعة ... وحذر المعصية وعاقبتها ، وذكر نعمه على ابن الجارود.

وبلغ ابن الجارود خروج ابن الفارسى فوجّه إلى أبى النهار وأبى العنبر والعبّاس اللطيفى فقال لهم : إن ابن الفارسى قد خرج فى القواد وأهل القيروان معه ، وقد سار إليه شيبة بن حسان ، والجنيد بن سيار ، والنضير بت حفص وغيرهم ، فما ذا ترون؟ فقال أبو العنبر له : «لو كان ابن الفارسى حين خرج عليك مضى إلى العلاء ومن معه كان فى ذلك نصرة للقوم بنا ، فأمّا إذا أراد الانفراد بالأمر دون العلاء فعاجله» وقال أيضا عباس ابن اللطيفى : «إن ابن الفارسى لم يخرج حتى صانعه يقطين وليس له علم بالعرب فأسبقه إلى نفسه قبل أن يسير إلى العلاء» ، فقال ابن الجارود : «أصبتما ولاحتالن عليه بحيلة تحمد أن رأيى فيها إن شاء الله» ثم قال لرجل من أصحابه ، يقال له طالب : «اعمل بما أقول لك : أنا أدعوه إذا تواقفنا كأنى أريد أن أعاتبه وأطلب رجعته فانتبذ أنت كأنك تريد أن تقف من العسكر موضعا غير الذى كنت فيه ، ثم أدن فعارضنا حتى إذا علمت أنك قد صببت فرسك ولم يفتك ، فشدّ عليه ، فإنك إن قتلته لم يقف لنا منهم رجل» ، ثم إن عبد الله تهيأ فى أصحابه وخرج ، فلما تواقفا ناداه ابن الجارود فقال : «اخرج إلى حتى لا


يسمع كلامى وكلامك غيرنا ، فلما رأيت أعجب من أمرى وأمرك!» ، فلما سمع ذلك منه ابن الفارسى سر به ، فقال : «ما على أن أخرج فأكون قريبا منه فما فى يده قناة يعاجلنى بها ولا قوس يرمينى عنها» ، فخرج إليه فقال له : «ما حملك على ما صنعت ، ألم تكن المطاع المنظور إلى رأيه المقبول مشورته ، وجعل يشاغله بتدارك الكلام والنظر إلى موضع آخر ، وجعل ابن الفارسى لا ينظر إلى غيره مخافة حيله ، وقام طالب كما وصف له ابن الجارود حتى إذا أمكنه غدرته دفع عليه فرسه ، فما قدر أن يثنى عنانه حتى زهقه فدق قلبه وانهزم أصحابه ، وأصرع شيبة بن حسان ، ففى ذلك يقول عبد الله بن الجارود

لقد راعنى ابن الفارسى بكيده

فوافق أمضى منه عزما وأكيدا

عشية أدعوه ليسمع منطقى

فأعجزه إصدار ما كان أوردا

أشرت إلى ذى نجدة فانكفى له

بأسمر خطى إذا نال أقصدا

فما زال قاب القوس إلا عامل

من الرمح دام بين حضنيه مزبدا

فقل للعلاء قد أظلت محمدا

منية يوم فارتقب مثلها غدا

وقدم يحيى بن موسى خليفة هرثمة بن أعين طرابلس ، فصلى بالناس يوم عيد الأضحى وخطبهم ، وكتب يحيى إلى هرثمة يعلمه من قدم عليه من القواد ، منهم أبو العنبر التميمى ، والجنيد بن سيار الأزدى ، وجعفر بن محمد الربعى ، وشهاب بن حاجب التميمى ، وعبد الصمد العبدى وغيرهم ، وأقبل بعد ذلك خالد بن بشير الأزدى ، واستعجل أمر يحيى ، وأقبل العلاء بن سعيد فيمن معه يريد القيروان ، فلما بلغ ذلك ابن الجارود اجتمع ... الناس ، وأنه لا طاقة له به ولا قوة بلقائه ، كتب إلى يحيى بن موسى أن اقدم إلى القيروان ، فإنى مسلم سلطانها ، وأجاب إلى طاعته فخرج يحيى بن موسى بمن معه من طرابلس سنة تسع وسبعين ومائة فى محرم ، فلما بلغ قابس تلقى بها


عامة الجند من القيروان ومعهم النضر بن حفص بن عمر بن معاوية ، فخرج ابن الجارود من القيروان مستهل صفر ، واستخلف عليها بن عباس اللطيفى. فكانت أيام عبد الله ابن الجارود سبعة أشهر.

وأقبل العلاء بن سعيد بن يحيى بن موسى متسابقين إلى القيروان ، فسبقه العلاء إليها ، فقتل جماعة من أصحاب الجارود ، فبعث إليه يحيى : أن يفرق جموعه إن كان فى الطاعة ، فأمر كل من كان معه أن ينصرفوا إلى مواضعهم ، ورحل العلاء فى نحو من ثلاثمائة من أصحابه وخاصته إلى طرابلس ، وكان ابن الجارود وصل إليها قبل وصول العلاء فلقى بها يقطين بن موسى ، فخرج معه سائرا يريد المشرق ، فلقوا هرثمة بن أعين بأجدابية فصيره إلى منصور بن زياد ببرقة ، فخرج به هو ويقطين حتى وصل إلى هارون الرشيد ، وكان العلاء قد كتب إلى منصور وهرثمة يعلمهما أنه هو الذى أخرج ابن الجارود من إفريقية وكتب إليه بالقدوم ، وأجازه بجائزة سنية ، ووصل إلى مصر ، وبلغ وصوله أمير المؤمنين هارون ، فكتب له بمائة ألف درهم ، سوى الكساء فلم يلبث إلا يسيرا حتى توفى بمصر.

ولاية محمد بن مقاتل بن حكيم العكى

لما كتب هرثمة إلى هارون ، يسأله المعافاة وجّه ابن مقاتل أميرا للمغرب ، وكان رضيع هارون ، وكان أبوه مقاتل من كبار أهل دعوتهم وجلة من قام فيها ، وكان من قحطبة ابن شبيب فى حروبه حتى ظهر أمر المسودة ، وكان مقاتل بن حكيم مع أبى جعفر لا يفارقه ، وولّاه على حرّان ، فلما خلع عبد الله بن على وحاصر مقاتل بن حكيم بحران ، ثم آمّنه واحتال عليه حتى قتله ، وكان جعفر بن يحيى شديد العناية بمحمد بن مقاتل. فقدم القيروان فى شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة ، ولم يكن بالمحمود السيرة ، فاضطربت أموره واختلف جنده ، ولم يكن من قبح سوء رأيه وسيرته وقبيح ما يؤثر من أخباره إلّا إقدامه على عابد زمانه وورع عصره البهلوان بن راشد فإنه ضربه بالسياط ظلما وحبسه ، وكان ...


ولاية هرثمة بن الأعين

وقدم هرثمة بن أعين القيروان مستهل ربيع الآخر سنة سبع وسبعين ومائة ، فأمن الناس وسكنهم وأحسن إليهم ، وهو الذى بنى القصر الكبير بالمنستير ، وذلك سنة ثمانين ومائة على يدى زكرياء بن قادم وبنى أيضا سور مدينة طرابلس مما يلى البحر ، وواتر الكتب إلى هارون الرشيد فى الاستعفاء من إفريقية ، لما رأى من الاختلاف بها وسوء طاعة أهلها ، فكتب إليه هارون بالقدوم إليه فرجع فى أول شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة.

ذلك سبب موته وروى أنه لما حبس قال : «أما إنى كنت أمر بالسجن فما سألت ربى العافية منه».

وكان سبب عزل ابن العكى عن المغرب : أنه اقتطع من أرزاق الجند وأساء السيرة فيهم وفى الرعية ، وأن فلاحا القائد مشى فى أهل الشام وأهل خراسان ، فلم يزل بهم حتى اجتمع رأيهم على تقديم مرّة بن مخلد الأزدى وخرج عليه تمام بن تميم التميمى وكان عامله عليها ، وقد بايعه جماعة من القواد ، وأهل الشام وأهل خراسان ، فزحف فى النصف من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائة متوجها إلى القيروان ، وخرج إليه ابن العكى فيمن معه ، فاقتتلوا قتالا شديدا فى منية الخيل ، فانهزم ابن العكى ، فدخل القيروان ، ومضى إلى دار كان قبل بناها ، فتحصن فيها وخلى عن دار الإمارة. فأقبل تمام فعسكر خلف الوادى ، بباب أبى الربيع عند مصلى روح بن حاتم ، فلما أصبح تمام فتحت له أبواب القيروان ، فدخلها يوم الأربعاء لخمس باقين من شهر رمضان ، فأمّنه تمام على دمه وماله ، على أن يخرج عنه فخرج عنها تلك الليلة ، فسار حتى وصل إلى طرابلس ثم مضى منها إلى سرت ، ولحق بطرابلس قوم من أهل خراسان ، منهم عباس بن طرحون صاحب شرطته ، وأبو العنبر كاتبه ، فأجمع رأيهم على أن يكتبوا إليه بالرجوع إلى طرابلس ، فأرسلوا إليه وهو مقيم بسرت ، فرجع إلى طرابلس ، وأقام تمام بالقيروان فنهض إليه إبراهيم بن الأغلب من الزاب فى نصرة ابن العكى. فلما بلغ تماما إقباله إليه جلا من القيروان ومضى إلى تونس ،


ودخل إبراهيم بن الأغلب القيروان بعد أن قدم عمران بن مخالد ونادى ... ممن انتهب دارا أو كافأ أحدا على أمر ركبه فى دولة تمام.

وجاء إبراهيم بعد ذلك فدخل القيروان ، فبدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم طلع المنبر فخطب الناس وأخبرهم أن أميرهم محمد بن مقاتل. وكتب إليه يخبره بما فعل ، ويسأله الرجوع إلى القيروان. فأقبل راجعا حتى دخل ومن معه من أهل القيروان ، فلما صار بسوق اليهود ، وقد أشرف الناس عليه من دورهم نادته امرأة من جملة الناس : «اشكر إبراهيم ، فإنه الذى رد عليك ملكك بإفريقية!».

وأن تمام قال لخاصة من أصحابه ، منهم عيسى بن الجلودى وعباس الصليفى : «إن إبراهيم قد رد الثغر على العكى والذين مع العكى قد ملئوا رعبا من وقعاتنا بهم وقد بلغهم خروجى ، لقد أسلم العكى وساروا إلىّ ومع ذلك أنه حسود ، ومع ذلك أنه يخالف أمرهم فيما يشيرون به عليه ، فكاتب الناس فتسرع إليه منهم كثير ، فكان الرجل لا يزال يقوم فى الجماعة ، فيقول : قد كنا استرحنا من ابن العكى ، فجاء إبراهيم فغلب على الثغر ورده ، فالموت خير من الحياة فى سلطان بن العكى ، فنزع إلى تمام الناس ، فلما رأوا كثرة من معه ... نفسا بقتال ابن العكى ، وقال للناس : «إن إبراهيم لو أحيا لابن العكى أباه ما كان إلا متهما له».

وكتب تمام إلى محمد بن مقاتل العكى : «أما بعد ، فإن إبراهيم بن الأغلب لم يبعث إليك فيردك من كرامتك عليه ، ولا للطاعة التى يظهرها ، ولكنه كره أن يبلغك أحد البلاد فترجع إليه فإن منعك كان مخالفا ، وإن دفعها إليك كان كارها فى جعلها لغيره ، فبعث إليك لترجع ثم يسلّمك إلى القتل ، وغدا تعرف ما جربت من وقعتنا أمس.

«وفى آخره :»

وما كان إبراهيم من فضل طاعة

يرد عليك الثغر إلا لتقتلا

فلو كنت ذا عقل وعلم بكيده

لما كنت منه يا بن عك لتقبلا


فلما وصل كتابه إلى ابن العكى قرأه ودفعه إلى إبراهيم فلما قرأه ضحك ، وقال : «قاتله الله ، ضعف عقله زين له ما كتب به». فكتب إليه ابن العكى : «من محمد بن مقاتل إلى النّاكث تمام ، أما بعد : بلغنى كتابك ودلنى ما فيه على قلة رأيك ، وفهمت قولك فى إبراهيم ، فإن كنت كتبته نصيحة ، فليس من خان الله ورسوله وكان من المفسدين بمقبول منه ما يتنصح به ، وإن كانت خديعة فأقبح الخدائع ما فطن له ، وأمّا ما ذكرت من إسلام إبراهيم إذا التقينا فلعمر أبيك ما يلقاك غيره ، وأما قولك : إنا جربنا من وقعتك أمس ما سنعرفه غدا ، فإن الحرب سجال ، فلنا ، يا تمام عليك العقبى إن شاء الله.

«فى أسفله :»

وإنى لأرجو إن لقيت ابن الأغلب

غداة المنايا أن تفل وتقتلا

تلاقى فتى يستصحب الموت فى الوغى

ويحمى بصدر الرمح مجدا مؤثلا

فأقبل تمام من تونس فى عسكر عظيم ، وأمر ابن العكى من كان معه من أهل الطاعة بالخروج إلى تمام ، فعسكروا إلى تونس ثم أقبل على إبراهيم فقال : «ما ترى؟» فقال : «إن تماما طمع فيك ، وتصديق ذلك أنه هرب منى فيمن معه وأنا فى قلة ، ثم دعاه طمعه أن اجترأ على الإقدام عليك وأنا معك وعندى عصابة قد جربتهم ، فأقم حتى أكون أنا الذى أنتدب إلى قتالهم ، وأن أبيت إلا الخروج تقدمتك» فقال : «افعل ما رأيت». فبعث إبراهيم إلى أهل بيته ، وأصحابه ومعه عمران بن مخالد ، وعمرو بن معاوية وابن العكى ورائهم فى معظم العسكر ، ثم ساروا حتى نزلوا منية لخيل ، وأقبل تمام حتى صار بطساس وعبأ إبراهيم الخيل ، وزحفوا إليه فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم تمام وقتل جماعة من أصحابه ومضى إلى تونس ، وانصرف ابن العكى إلى القيروان. ثم أمر إبراهيم بالمسير إلى تمام بتونس وذلك مستهل المحرم سنة أربع وثمانين ومائة.

فلما بلغ تمام إقباله كتب إليه فى الأمان ، فأمنه وأقبل به إلى القيروان يوم الجمعة لثمان


خلون من المحرم ، فلما صار الأمر إلى إبراهيم بعث تمّام بن تميم ، والجلودى والطيفى وغيرهم من وجوه الجند الذين من شأنهم الوثوب على الأمراء والخروج عليهم إلى بغداد ، فحبسوا فى الطبق ، فخرج سلمة بن تميم إلى بغداد ، وتلطف حتى دخل إلى أخيه فى السجن ، فنزل إليه وعانقه وسلّم عليه ، وخرج من عنده ، فلزم باب رجل من جلّة أصحاب السلطان فاستأذن عليه وسأله أن يرفع خبره إلى الرشيد أمير المؤمنين ، فاستأذن له عليه فدخل ، فأعلمه بنفسه وقال : «يا أمير المؤمنين كان أبى من وجوه القواد ، قواد جدك المنصور أمير المؤمنين ، فأمر له بصلة وكسوة وأن ينزل فى دار الضيافة ، ووعده بإطلاق أخيه تمام وأن يرجع إلى إفريقية ، فبلغ ذلك إبراهيم ، فبعث إلى امرأة كانت تعالج لتمام ما يشتهى أن تسمّه فيه ، قال : فاشتهى حوتا فسمته له ، فأكل فمات ، فلما كان بعد ذلك دعا هارون الرشيد بالسجّان فأمره بإحضار تمام فأعلمه بوفاته ، فأخرج صاحبيه الجلودى والطيفى فولى الجلودى الحرمين والطيفى بعض عمله ، ودخل سلمة إلى أمير المؤمنين فترحّم على تمام ، وأمر لسلمة بسجل إلى إبراهيم بن الأغلب ليعلم قدره وقدر أهل بيته ويجعلهم فى أوفر الصلاة ، ورفع عنهم الخراج فيما صار إليهم من الضيّاع ، وأن يستعين بهم فى الأعمال ، وأمر له بجائزة وصرفه إلى إفريقية. فلما وصل إلى إبراهيم أنزله معه فى القصر وأكرمه وولّاه ولايات كثيرة. وسنذكر ولاية إبراهيم من الرشيد أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى.

ابتداء دولة بنى الأغلب

ولاية إبراهيم بن الأغلب بن سالم التميمى

كان إبراهيم بن الأغلب فقيها ديّنا ، عالما شاعرا خطيبا ، ذا رأى وبأس وحزم وعلم بالحروب ومكائدها ، جرىء الجنان طويل اللسان ، حسن السيرة. ولم يل إفريقية قبله أحد من الأمراء أعدل منه سيرة ولا أحسن سياسة ولا أرفق برعيّة ، ولا أضبط بأمر ، وكان كثير [الطلب] للعلم والاختلاف إلى الليث بن سعد الفقيه ، والليث وهب له جلاجل ،


أمّ زيادة الله ابنه ... إبراهيم خرج يوما من عند الليث ، فلقى غلمان الليث ... المائدة ، فرجع إبراهيم ودخل المجلس فأكل معه فأعجب ذلك الليث وسرّه ، وقال : «لتكوننّ لهذا نبأ وشأن» فلما أراد إبراهيم الخروج إلى المغرب أتى الليث ليودعه فقال له : «يا أبا إسحاق ، قد كنت رأيتك تطرب إلى هذه الجارية ـ يعنى جلاجل ـ وهى أديبة ذكية ، وأنت خارج وقد وهبتها لك ، فاقبلها» ، وكانت الجارية بكرا فافتضها من ليلتها وخرج بها حتى وصل إلى الزاب وعلى إفريقية الفضل بن روح ، فلقى من تعصبه وسوء مجاورته عظيما ، وأقام أخوه عبد الله بن الأغلب بمصر ، وكان ذا نعمة عظيمة ، وتوفى عبد الله بمصر فترحّل بنوه إلى إفريقية.

حكى أحمد بن ميسر ، قال : قرأت بمصر على قبر عبد الله بن الأغلب وعلى قبر من قد مات : «قف ثم ناده ، أيا من خلت فى الأرض منه المنازل ، بنيت فلم تسكن ولم تأكل الذى جمعت ولا أدركت ما كنت تأمل» ، وكانت ولايته الزاب من قبل هارون ، وابن العكى على إفريقية ، وذكرنا نصرته له ومعاونته إياه ومحاربته تمام.

قال محمد بن الوكيل ، قال : إنى سمعت إبراهيم بن الأغلب ونحن نريد إفريقية وقد خلف أهله بمصر ينشد :

ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة

إلّا وذكرك يلوى دائما عنقى

ولا ذكرتك إلّا كنت مرتقبا

أرعى النّجوم كأنّ الليث معتنقى

وهو القائل :

ألم ترنى بالكيد أرديت راشدا

بأخرى وإنّى لابن إدريس راصد

تناوله عزمى على نأى داره

بمختومة فى طيّهن المكائد

فمات أخو عكّ بمهلك راشد

وقد كنت فيها شاهدا وهو شاهد


وكان راشد هذا قد علا أمره بالمغرب واستفحل. وهو مولى أدريس بن عبد الله بن حسن ، وكانت همّته غزو إفريقية لما هو فيه من القوّة والكثرة ، ولم يزل يكيده ويدسّ فى أصحابه ويبذل لهم الأموال إلى أن اغتالوه ، فقتلوه وبعثوا برأسه إليه ، فبعثه إلى محمد ابن مقاتل ، فبعثه محمد بن مقاتل إلى الرشيد ونسب الأمر كله إلى نفسه ، فبعث صاحب بريد المغرب إلى هارون بصنيع إبراهيم فى راشد. فلما قرأ هارون كتاب ابن العكى قال : «كذب صاحب البريد أصدق» وحسّن ذلك لإبراهيم عند الرشيد.

وأما حديث إدريس مولاه ، فإن الحسن بن على بن الحسن بن على بن أبى طالب ـ رضوان الله عليه ـ كان قدم قام بالمدينة سبعة أيام ... موسى الهادى ، ثم خرج إلى مكة فى ذى القعدة سنة سبع وستين ومائة ، وخرج معه جماعة من أخوته ... منهم يحيى وإدريس بنى عبد الله بن الحسين بن على ، وبلغ ذلك الهادى فولّى حربه محمد بن سليمان ابن على ، وكانت الوقعة بفخّ ، فقتل الحسن بن على وأكثر أصحابه ، وأفلت أدريس بن عبد الله بن حسن بن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنهم ـ فوقع إلى مصر وكان على بريدها واضح مولى صالح بن منصور ، وكان رافضيا فحمّله على البريد إلى أن صار إلى المغرب ، فوقع بمدينة مليلة من طنجة ، فاستخلف له من بها وبأعراضها من البربر ، وولى الرشيد فبلغه أمره ، فبعث إلى واضح فضرب عنقه ودس إلى إدريس الشماخ التميمى مولى ... وكتب له كتابا إلى إبراهيم بن الأغلب ، فخرج حتى وصل إلى مليلة ، فذكر أنه متطبب وأنه من شيعته ، ووصل إلى إدريس فوصله واطمأن إليه ، ثم إنه شكا إليه علة فى أسنانه ، فأعطاه سنونا مسموما قاتلا ، وأمره أن يستنّ به عند طلوع الفجر ، فأخذه منه وهرب الشماخ من تحت ليلته. فلما طلع الفجر استن منه إدريس ، فسقطت أسنانه ومات من وقته ، وطلب الشمّاخ فلم يظفر به ، وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه.

قال وجاءته قبل مقدمه الأخبار بموت إدريس ، فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك ، فولى الشمّاخ بريد مصر ، وأحسن إليه.

وولد لإدريس ولد فسمى باسم أبيه ، ونشأ فيهم فعظّموه ، فعامة من بالمغرب من


الإدريسية من ولده ، وهم إلى اليوم فى تلك الناحية مالكين أمرها ما ... وكانت جارية إدريس التى ولدت ابنه تسمى كثيرة البربرية.

وكان إبراهيم لما عزم على النهوض من الزاب لنصرة ابن العكى على تمام لم يجد مالا يقوى به ، فسأل التّجار أن يقرضوه مالا ، فتكلم رجلا منهم فقال : «أصلح الله الأمير ، والله لو قمت وسألتنا أن نخرج من أموالنا لفعلنا ذلك لك ، ولكنك تريد أن تخرج بعدة قليلة إلى أكثر من خمسين ألفا ، فإن أغناك عن الخروج فنحن أعدى الناس لك ، والذى منع الناس عن إجابتك إلى هذا ، أنهم يقولون إنّك مقتول». واستقر عند إبراهيم أن أمهات أولاده وخاصته أرسلوا إلى التجار يسألونهم ألّا يعينوه على الخروج خوفا عليه ، فلما علم ذلك احتال على أهله وولده ، بأن جمعهم وقال : «لقد كنا بهذا الرجل فى واد وهو لنا فى آخر ، أنا بالأمس أطلب العرض لأستعين به فى قتاله ، وقد جاءنى اليوم كتابه : يسألنى أن أقدم عليه حتى أمد له الأمان وأصلح أمر الناس فقد اجتمعوا على الرضا بما حكمت بينهم وبين ابن العكى ، فسرّوا بذلك ، فقال : «كيف أرحل بغير مال وقد حلفت ألا اقترض من التجار فى سفرى هذا شيئا ، فأتاه أهله وولده بما كان عندهم من مال وحلى وطمأنوه ، وجمع إبراهيم أهل بيته وبنى عمه وخاصته وكانوا سبعين فارسا ، ففى ذلك يقول بعض الشعراء :

هاتوا لنا رجلا أردى بنجدته

سبعين ألفا بسبعين من النّاس

ما مرّ يوم لإبراهيم يعلمه

إلّا وشيمته للجود والبأس

قال : فأقبل إبراهيم ، فوافاه عدّة من أهل خراسان وعدّة من عامة الجنود إليه من كل بلد ، ومعه عمرو بن معاوية ، وعمران بن مخالد ، وحماد بن أبى حماد ، فقام إبراهيم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه وتكلم بكلام كثير حرّضهم به على قتال تمام ، وكان فيما قال لهم : «والله ما لكم من شام تلجأون إليه ولا عراق تستمدون منه ، ما لنا ملجأ إلا السيوف ، ولا تذرع إلا الصبر ، فمن عزم على غير هذا فقد أذنا له فى الانصراف» فقام


عمرو بن معاوية فقال : «أصلح الله الأمير ، ما نشك فى طاعتك وخلافه ، ولا فى حقك وباطله ، وإنك إذا نهضت فى قلة من المال والفرسان بنفسك وأهل بيتك ، لواثق بأن ينصرك الله نصرا يكون مثلا فى الناس ، لأنك أهل لذلك بحسن نيتك وخلوص سريرتك ، وإنك بقية أبرار وخلف أخيار ، ونحن نبلغ مبلغ الجهد فى مناصحتك وإيثار هواك فى الحق على هوانا ، ولك الإجابة منا إلى الدّعوة إليه إن شاء الله. فقام عمران بن مخالد ، فقال : «أصلح الله الأمير ، فو الله ما أحصى ما شهدت من العساكر ما منها عسكر ، إلا وطلائعه أكثر من عسكره والله لا يأتيك أمر من الموت بين تلك الجماعة ، ولكأنى بك غدا على منبر القيروان ، وإن نفسى لتحدثنى من نصر الله عز وجل ما لو أرسلت رجلا واحدا لأخذها لك إن شاء الله».

وأقبل إبراهيم يريد القيروان وعلى مقدمته عمران بن مخالد ، فلما علم بذلك تمام خرج هاربا إلى تونس ، ولما وصل إبراهيم دخل المسجد ، فصعد المنبر واجتمع إليه الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أيها الناس ، اذكروا ما كنتم فيه من الضر ، وتتابع عفوان البلايا إذا الدولة عليكم لا لكم ، واستقر قلوبكم خشية الاتباع لا تطمعون فى إنصاف ولا يتجاوز همّتكم الكفاف لا تنتصرون من عدوكم إلا بالدعاء ، فى كل يوم دولة وسراد وعصبية وتحرق ولا يغير صاحب ذى خلاف ولا يرعوى ذو خلاف إلى طاعة ، فقد عادت عليكم ... يأمن بها خوفكم ويعز بها ذلّكم ، ولست أميركم ولكنى أخذت ثغر أمير المؤمنين ممن أخذه بالخلاف ، وأميرهم محمد بن مقاتل ، وأنا مكاتبه ثم مسلمه إليه إن شاء الله. ثم أنشد يقول :

لو كنت لاقى تمام لسار به

ضرب يفرق بين الروح والجسد

ولكنه حين سام الموت يقدمنى

ولىّ فرارا وخلى لى عن البلد

إن يستقم نعف عما كان قدمه

وإن يعد بعدها فى غيه نعد


ثم نزل وكتب إلى محمد بن مقاتل فى ذلك بقدومه عليه ، وقال :

ألم ترنى رددت طريد عنكم

وقد نزحت به أيدى الركاب

أخذت الثغر فى سبعين مما

وقد وافى على شرف الذهاب

هزمت بهم بعدتهم ألوفا

كأن عليهم قطع السحاب

وأقبل العكى حتى وصل القيروان ، ولما بلغ تمام رجوعه جمع له وأتاه ، فخرج إليه العكى وإبراهيم على مقدمته ، على فرس أشقر مخذرف ، ثم دعا بحمزة الحرون فقال له : «قف فى موضعى وإياك أن تتحرك إلا أن تعلم أنى قد أصبت» ثم رجع إلى ميمنة تمام وهو يقول :

متى أرى كما أريد عفوا

أو أحسون كأس المنايا حسوا

قال : فكسر الميمنة ثم رجع إلى الميسرة فشد عليها وهو يقول :

قد علم ابن سعد وأفتى مضر

أنّ مغيب عزّها أن ننتصر

ففضها ثم رجع إلى القلب من عسكره وحمزة فى الموضع الذى أمره أن يقف فيه ، ثم أرسل إلى صاحب ميمنته وميسرته : «إذا رأيتما القلب من عسكرهم قد تضعضع ، فليركب كل واحد منكما ما قبله». ثم شد على القلب وجعل أصحابه يفعلون ما أمرهم فكانت الهزيمة. فكتب يحيى بن الفضل صاحب البريد إلى هارون بخبر ابن العكى وتمام ، وما كان من أمورهم وشرح الأمر على حسبه. فلما قرأ الكتاب على أصحابه وعرفهم ما فعل إبراهيم شاورهم وقال : «ما ترون فى أمر إبراهيم؟» وقال لهرثمة بن أعين : «أنت قريب العهد» فقال أمير المؤمنين : «أنت سألتنى فى مقدمى منها عن طاعة أهلها وأخبرتك أنه


ليس بها أحد أفضل طاعة ولا أبعد صيتا ولا أرضى عند الناس من إبراهيم ، ثم صدق فولى قيامه بطاعتك» قال : «أصبت وأرجوا أن أكون قد رميتها بحجرها ، اكتبوا له عهده على إفريقية. فلما وصل الكتاب إلى يحيى بن زياد صاحب البريد ، انطلق إلى إبراهيم بن الأغلب ، فقال إنى أريد أن أدخل عليك ولا يكون عندك أحد. فأخرج من كان عنده ، فدخل عليه فسلم بالأمرة ودفع إليه عهده. فأرسل إبراهيم إلى ابن العكى : «اقم ما شئت حتى تتجهز» ، فأقام أياما ثم رحل إلى طرابلس. فوافاه حماد السعودى بكتابين قدم بهما إلى ثغر إفريقية حسبما كانت تجرى به إلى أصحاب الثغور ، فافترى ابن العكى كتابا ثالثا بعزل إبراهيم وبعث به مع الكتابين إلى القيروان فلما قرأ الكتاب على الناس مع الكتابين اجتمع الناس إلى إبراهيم ، فقالوا : «أقم ـ أصلح الله الأمير ـ بمكانك ، واكتب إلى أمير المؤمنين فإن ابن العكى اختلق هذا الكتاب زورا ولم يكافئك على نصرتك له وحقنك دمه» فقال إبراهيم : «والله لقد ظننت ظنكم وهممت أن أسير إليه حتى أطعمه هذه الكتب ، وإنما اجترأ ابن العكى على ثغرنا لموضعه من جعفر بن يحيى».

ثم عسكر إبراهيم يريد الخروج إلى الزاب ، فأتى كتاب ابن العكى إلى سهل ابن حجاب يستحلفه إلى قدومه ، فكتب صاحب البريد بالخبر كله إلى هارون الرشيد ، فغضب وكتب إلى ابن العكى : «أما بعد فلم يكن آخر أمرك يشبهه إلا أوله فلأى مناقبك أو برك على إبراهيم بولاية الثغر ، أم لفرارك وإقدامه ، أو لجزعك وصبره ، أم لخلافك وطاعته. فإذا نظرت فى كتابى فأقدم غير محمود الفعال». وكتب إلى إبراهيم بتجديد ولايته ، فوصل الرسول بالكتاب إلى القيروان ، وإبراهيم بالزاب ، فمضى بالكتاب إليه فكانت ولايته الأخرى التى استقر بها ملكه وملك ولده لاثنتى عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين ومائة. وقفل ابن العكى إلى المشرق.

فلما ولى إبراهيم انقمع الشر بإفريقية ، وضبط أمرها وأحسن إلى من بها من أهل الخير ، ثم ولى تمام طرابلس ، فلما استقر البلد وجه إليه جعفر بن سعيد وجوين بن السماك. فأخذ تماما وشده وثاقا وبعث به إلى هارون ، وبعث بعباس الطيفى وأبى الميل


وعيسى الجلى ، وغيرهم ممن كان يتوثب على الأمراء ؛ لأن كل عامل من عمال إفريقية كان من وجوه الجند على خوف من قيامهم ؛ لأن أكثرهم يرى أنه أحق بالأمر منه ، فلما ولى إبراهيم علم أنه لا سلطان له عليهم مادام بين أظهرهم ، فصرف من صرف إلى المشرق منهم ، واشترى موضع القصر القديم من ابن طالوت او شى ، وابتنى به قصرا فجعله متنزها ، ثم جعل ينقل إليه السلاح والأموال سرا وهو فى خلال ذلك يراعى أمور أجناده ويصلح طاعتهم ، ويتفقد أمورهم ، ويصبر على جفائهم ، وأخذ فى شراء العبيد ، وأظهر أنه يريد أن يتخذ من كل صناعة صنعة تغنيه عن استعمال الرعية فى كل شىء من أمورهم ، ثم اشترى عبيدا لحمل سلاحه ، وأظهر للجند أنه أراد بذلك إكرامهم عن حمل سلاحه. ولما تهيأ له من ذلك ما أراد انتقل من دار الإمارة ، وصار إلى قصره بعبيدة وأهله وحشمه وأهل بيته ، وكان انتقاله ليلا ، وأسكن معه من يثق به من الجند ، وكان يتولى الصلاة بنفسه فى المسجد الجامع الذى فى القيروان والمسجد الذى بناه وشاده بالقصر القديم.

فذكر أنه صلى يوما ، فلما قضى الصلاة عثر ببعض الحصر ، فأمر أن يؤتى بمن حضر الصلاة من وجوه الناس ، فلما أتوا قال لهم : «استكهنونى» فأبوا فقال : «لا بد» فقال : «إنى خفت أن يقول إنى خرجت أصلى وأنا سكران ، فأحببت أن تعلموا مرادى» وكان حافظا للقرآن عالما به.

وكان أبو عبد الرحمن النفزى الكوفى يقول : قال لى الأمير إبراهيم : «أحب أن أقرأ عليك القرأن ولك بكل حرف اخطئه مائة درهم» فقلت : «إذا تقلّ درهمى ـ أصلح الله الأمير ـ» فقرأ علىّ فما أخطأ غير حرف واحد نقله من موضع إلى موضع ، وذلك قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فى سورة المؤمنين ، قرأ هو : بأنه كانت تأتيهم. وهو «بأنهم ـ ها هنا ـ كانت تأتيهم». فى التغابن «ذلك بأنه».

ووفد عليه رجل من المشرق ، وكان أديبا ، وقد سخط إبراهيم على رجال من الجند خالفوا عليه فاستشفعوا بهذا الرجل ، فقال : مثلى ومثلهم كما قال الشاعر :

كأنى سلبت القوم نور عيونهم وقد

فلا العذر مقبول ولا الذنب يغفر

كان وقد كان إحسانى لهم غير مرة

ولكن إحسان البغيض يكفر


فقال : بل مثلك ومثلهم أيها الأمير ، كما قال مروان بن أبى حفصة :

فما أحجم الأعداء عنك تقية

عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا

فضحك وسر بقوله وعفا له عن القوم.

وثار رجل من أبناء العرب ، يقال له حمد يس بن عبد الرحمن الكندى ، فخلع السواد وجمع جموعا كثيرة ، وأتى بعرب أهل البلاد وبربرها ، فلما كثرت جموعه بمدينة تونس بعث إبراهيم عمران بن مخالد إلى تونس ، وبعث معه عسكرا فيه وجوه القواد ، وأمره أن يحث السير إليه ، وكان فيما أوصاه به أن قال : «يا عمران ، إن أعظم الناس خطرا وأفلحهم حجة الحازم المعدّ لأمره ، وأعلم أن العرب لم يخرج بها مخالف قط منذ جاءت دولة بنى العباس وهو أعظم كفرا من هذا الفاسق ولا أبين بالخلافة ، ولا أشك أن الله سيقطع دابره ، فإن ظفر الله تعالى به فاقطع أثره وأثر من يتابعه ، وأعلم أنك إن أبقيت منهم رجلا ممن يرى رأيه لم تعدم أن ترى كل يوم قرن فتنة نجم ، وعقال خلاف انطلق ، فانهدّ لما أمرتك به ، ولست أدع أن أمدك بالخيل إن شاء الله» ، فسار عمران بن مخالد حتى لقيهم بسبخة تونس فاقتتلوا قتالا شديدا ، وكثر بينهم القتل حتى جعل ناس من أصحاب حمد يس يقولون «بغداد بغداد ، فلا والله لا اتخذت لكم طاعة بعد اليوم أبدا».

وأبلى حمزة بن الشباك ذلك اليوم بلاء عظيما ، ونادى عمران فى أصحابه «يا أبناء الدعوة وأهل الطاعة لابد من الموت ، فهبوا إلى الله ساعة من الصبر والحفيظة» وما زال يحرضهم ، فما زال حمد يس وأصحابه إلى أن انكشفوا وقتلوا مقتلة عظيمة ، وقتل حمد يس فدخل عمران تونس فجعل يتبعهم ويقتلهم حتى أفناهم. وكان خروجه فى سنة ست وثمانين ومائة.

وكتب إبراهيم بأمر حمد يس إلى الرشيد برسالة كبيرة ، وصف فيها ابتداء خروجه وحروبه إلى مقتله ، وأعلمه أنه قتل من أصحابه عشرة آلاف ، فلما استقامت الأمور


لإبراهيم بن الأغلب ، واشتدت لظاته بلغه ما اجتمع لإدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ من الجموع وأطاعه من حوله من القبائل ، فدعا يحيى بن الفضل صاحب البريد وابن غانم القاضى وابن عوانة الكلبى ، فشاورهم فى أمر إدريس ، وتكلم بكلام كثير ، فقالوا : «أصلح الله الأمير ، قد علم من حضر وغاب من أمر المغرب إنه لم يظفر بمثل ظفرك ، ولا كان له ما كان لك ، فدع ابن إدريس ما وادعك ، وأرض لك وله بالسلامة ...

قال بعضهم : إن ابن إدريس لم يجتمع إليه إلا ... [فقال ابن] غانم : «وما هو هذا؟» قال : «السم القاتل من ساعته!» قال : «أرنيه» فدفعها إليه ، فضرب بها ابن غانم عمودا كان فى المجلس ، فكسرها وأراق ما فيها ، فقال له : «ما صنعت ويحك؟!» قال : «أو أترك معك ما يقتل الناس اغتيالا»

وشق إبراهيم بن الأغلب يوما سماط القيروان ومعه ابن غانم من باب أبى الربيع ، فلما صار إلى موضع البزازين ، وزادت دابته فى المشى ، فجازت دابة ابن غانم ، فجازه فى المشى ، فلما رأى ذلك وجه دابته إلى داره ، فأرسل إليه إبراهيم وقال له : «ما حملك على أن عطفت حتى فارقتنى؟» فقال : «أصلح الله الأمير ، إنما القاضى بحرمته وإنما تنفذ أحكامه بقدر نفوذ جأشه وتحركت دابتك فلو ساعدتك وحركت دابتى سقطت قلنسوتى ، وإذا سقطت قلنسوة القاضى لعب بها الصبيان!».

قال : وكان إبراهيم بن الأغلب جالسا يوما وعنده ابن غانم فدخل عليه صاحب بريد إفريقية ، وقد وردت عليه كتب من هارون الرشيد فدفع الرسول إلى إبراهيم كتابه وإلى ابن غانم كتابه ، فقرأ إبراهيم كتابه ودفعه إلى ابن غانم ، فقرأه ورده على إبراهيم ، فقال له إبراهيم : «هات كتابك اقرأه ... من ذلك» فقال له : «فلم قرأت كتابى؟!» قال : «أنت دفعته إلى ومددت به يدك ، وكرهت أن أردها ، وأما أنا فلست أطلعك عليه فإن أمير المؤمنين أسر إلى فيه شيئا لا أطلع عليه أحدا» فقال له إبراهيم : «أما علمت أنه يقال إن أمير إفريقية يقتل قاضيها؟!» قال : «أعلم أن قد ذكر ذلك ، ولكن لست ذلك


الأمير ولا أنا ذلك القاضى» ، وإنما تهيأ لابن غانم هذا لكتابة هارون إليه وكان من قبله ، ولا أطلق لإبراهيم عزله. فلما مات ابن غانم صلى عليه إبراهيم بن الأغلب ، ثم جلس على كرسى ينتظر دفنه ، فوقف على قبره معد بن عقال خال إبراهيم وكان عامله على القيروان ، فجعل يجزع ويبكى على ابن غانم فلما فرغوا من دفنه دعا إبراهيم بمعد فقال له : «لم بكيت على ابن غانم؟» قال : «كان لى صديقا أبر كابن غانم» فقال له إبراهيم : «والله ما ملكنا إفريقية ولا أمنا إذا مات ابن غانم». وتوفى ابن غانم من فالج أصابه فى شهر ربيع الآخر سنة تسعين ومائة أيام إبراهيم بن الأغلب. وولى إبراهيم القضاء أبا محرز ، واسمه محمد بن عبد الله ، وذلك فى سنة إحدى وتسعين ومائة بعد موت ابن غانم.

قال سليمان بن عمران : لما ما ابن غانم أراد إبراهيم أن يولى القضاء رجلا فقال له رجل من أكابر أصحابه أن قال سليمان بن عمران : وكان مالك بن أنس يجل عبد الله بن غانم ، فإذا جاءه أقعده إلى جانبه ، وأقبل إليه يسأله عن المغرب وأخباره ، فكان إذا رآه ابن القاسم وطلبة العلم معه قالوا : «شغله المغربى عنا». فلما بلغ مالكا ولاية ابن غانم القضاء قال لأصحابه : «علمتم أن الفتى الحميرى الذى كان يجالسنا قد استقضى على إفريقية. وكان مالك قد عرض عليه أن يزوجه ابنته ويقيم عنده ، فامتنع وقال. إن أخرجتها إلى إفريقية تزوجتها.

وعن عبد الله بن أبى حسان قال : مضيت على عبد الله بن عمر بن غانم بعد ولايته القضاء إلى ضيعة بالديدان فقال لى فى الطريق : «ما يقول الناس يا بن حسان فى ولايتى» قلت : «ولاك ابن فروخ» قال : «على ذلك ، لقد قال لى الأمير روح بن حاتم ، والله ما خرجت إلى إفريقية إلا وأنت قاضى» قال : «قلت كيف ذلك؟» قال : «لما أردت الخروج إلى إفريقية دخلت على أبى يوسف القاضى ، وهو إذ ذاك قاضى القضاة ، فقلت يا أبا يوسف ، قد ولانى أمير المؤمنين إفريقية ، وأنا خارج فما كانت لك من حاجة


فأذكرها» قال «أوصيك بتقوى الله ، وبمدينة القيروان فتى يقال له عبد الله بن غانم قد فقه ، فوله قضاء إفريقية» فقلت له : «نعم» ثم ودعته ، فذلك الوقت وليت.

وكان هارون الرشيد يكاتب ابن غانم وكان بعد ذلك قضاؤه من قبله لا من قبل ولاته على إفريقية. وكان يكتب فى عنوانه : من هارون أمير المؤمنين إلى قاضى إفريقية عبد الله ابن عمر بن غانم.

وحكى سحنون قال : شهد قوم من أهل البادية عند عبد الله بن غانم ، فلم يحسنوا الشهادة ، فقال : «كل من بالبادية طريف إلا الرجال». وكان ابن غانم يكتب إلى مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ وإلى أبى يوسف القاضى فيما ينزل من نوازل الخصوم. فحكى عن هشام بن معدان كاتب أبى يوسف القاضى : قال : كنت إلى جانب أبى يوسف فى مجلس قضائه إذ ورد عليه رجل معتم فى زى أهل إفريقية فصاح : كتاب أبى عبد الرحمن عبد الله بن غانم قاضى إفريقية ، فدعا به فلما صار بين يديه دفع الكتاب إليه ، فسأله من أنت قال : «أنا أبو التمام عبد الوهاب بن محمد خرجت حاجا ، فكتب معى ابن غانم هذا الكتاب إليك وأمرنى بإيصاله بنفسى وأخذ الجواب» ، فقال هاشم : فدفعه إلى ، وقال «فضه واقرأه وارفع صوتك يا هشام وأعلن بقراءته» ففعلت وقرأته عليه وأصاخ نحوه فإذا فيه مسائل مما نزل به يشاوره فيها ويستقضيه فى جوابها ، فلما فرغت من قراءته أمر بدرجة ، ثم التفت إلى أبى التمام وقال : «احضر سفرك؟» قال : «نعم» قال : «قد ترى ما نحن فيه ولعله لا يتهيأ لك الوصول إلينا ، فخذ جوابك فى مقامك ، يا هشام ، اكتب له فى ظهره : «من يعقوب بن إبراهيم إلى عبد الله بن غانم قاضى إفريقية» ثم دعا له وشكره على تثبته فيما ينزل به وأعلمه أن ذلك كان صدر السلف الماضين ، ثم تابع إملاء المسائل على نحوها فى كتابه ، كل مسألة وجوابها ، وما أعاد نظرا فى الكتاب ، وأمرنى فختمته وعنونته ، وألقاه إلى أبى التمام وقال له : «هذا جواب صاحبك ، فإن أمكنك الوصول إلينا جددت معك كتابا» قال هشام : هذا بعض ما يذكر من حفظ أبى يوسف رحمه الله.

قال ابن عبدون القاضى : كان ابن غانم أحكم الناس ، خاصم عنده ابن زرعة أختا


له ، فحكم لها عليه ، فبلغ ذلك من ابن زرعة كل مبلغ ، فوافاه فى طريق الديدان ، فقال له : «يا بن الفاعلة!» وأغرق فى سبه ، فلم يرد عليه جوابا ، فلما كان بعد ذلك خرج أيضا إلى الديدان فلقيه ابن زرعة فسلم عليه ابن غانم وبره ، وقال له : «امض بنا» فمضى معه إلى متنزهه ، فأحضر طعاما فأكل معه ثم انصرف ، فلما أراد مفارقته قال له : «يا أبا عبد الرحمن ، اغفر لى ، فقد كان من يخطأ إليك» فقال : «أما هذا فلست أفعله حتى أخاصمك بين يدى الله تعالى ، وأما أن ينالك منى فى الدنيا مكروه أو عقوبة فأنت آمن من هذا».

يروى أن عبد الله بن غانم : جاءه ابنه من عند المعلم فسأله عن سورته وحفظه فقرأ عليه أم القرآن ، فأحسن فى قراءته ، فدفع له عشرين دينارا ، فلما جاء بها الصبى إلى المؤدب أنكر ذلك وظن بالصبى ظنا فأخذها وجاء بها إلى ابن غانم ، فقال له : «لم رددتها ، هل استقللتها؟» فقال المعلم : «ما أتيت لهذا ، إنما ظننت بالصبى ظنا» فقال له : «لحرف واحد مما علمته يعدل الدنيا وما فيها.»

وكان ابن غانم حسن اللباس ، يلبس من الثياب رقيقها ، وقد جعل للنساء يوما يجلس فيه للنظر فيهن ، فكان يلبس القرق الدنىّ والثياب الخلقة ، ثم يضرب ببصره إلى الأرض ، فمن كان لم يره قل ذلك لم يشك أنه مكفوف. وكان له حظ من الصلاة فى ليله ، فإذا انقضت صلاته وقعد فى آخرها للتشهد ...

[ولما توفى ابن غانم قال ابن الأغلب : «يا أبا محرز ، إنى عزمت على توليتك القضاء» فقال له أبو محرز : «لست [أصلحه لهذا الأمر ، ولست أطيقه» ، فقال له إبراهيم بن الأغلب] : لو كان لأغلب بن سالم ويزيد بن حاتم باقيين [لم أكن أنا أميرا] ولو كان عبد الرحمن بن أنعم وعبد الله بن فروخ باقيين [لم تكن أنت قاضيا ، ولكل زمان رجال وعلى الأمير الاختيار : ، فقال أبو محرز [متمثلا] :

[خلت الديار فسدت] غير مسوّد

ومن الشّقاء تفردى بالسؤدد


(فقال له «قد وليتك القضاء» فامتنع فأمر) به فأبى ، فأمر إبراهيم عامر بن المعتمر القائد وكان (صاحب الشرطة ليأخذ بضبه ويخرجه من باب مقصورة الجامع فيقعد (للنظر بين الخصوم. فلما قدموا إليه نظر أبو محرز فيما بينهم فكبّروا فسمع إبراهيم بن الأغلب التكبير فقال لأصحابه : (قد قبل أبو محرز القضاء.) ... وأربعة أشهر وعشرة أيام.

ولاية أبى العباس عبد الله.

ابن إبراهيم بن الأغلب التميمى

لما مات إبراهيم بن الأغلب [انتقلت الولاية من] بعده لابنه أبى العباس عبد الله ، وكان غائبا [بمدينة طرابلس فقام] أخوه زيادة الله بالأمر ، وأخذ له البيعة [على نفسه وعلى أهل بيته] وجميع رجاله ، وقدم أبو العباس [عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من طرابلس ، فتلقاه أخوه زيادة الله وسلم الأمر إليه.

تم بحمد الله


أ ـ المصادر ومراجع التحقيق :

١ ـ ابن الأبار ـ الحلة السيراء. تحقيق د / حسين مؤنس القاهرة ١٩٦٣ م.

٢ ـ ابن أبيك ـ الدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية. تحقيق صلاح الدين المنجد القاهرة ١٣٨٠ ه‍ ـ ١٩٦١ م.

٣ ـ ابن الأثير ـ الكامل فى التاريخ دار صادر ـ بيروت ١٣٨٥ ه‍ ـ ١٩٦٥ م.

٤ ـ أحمد بن أبى الضياف ـ أتحاف أهل الزمان بأخبار تونس ، تونس ١٩٦٣.

٥ ـ الإدريسى ـ نزهة المشتاق فى اختراق الأفاق نابولى ـ روما ١٩٥١ م.

٦ ـ الأصفهانى ـ مقاتل الطالبين تحقيق محمد صقر ـ القاهرة ١٩٤٧ م.

٧ ـ ابن واصل الحموى ـ تهذيب الأغانى دار الشعب ـ القاهرة ١٩٦٦ م.

٨ ـ الأنصارى ـ المنهل العذب فى تاريخ طرابلس المغرب ليبيا ـ ١٩٦٦ م.

٩ ـ الباجى المسعودى ـ الخلاصة النقية فى أمراء إفريقية. تحقيق محمد بيرم التونسى.

تونس ١٣١٥ ه‍ ـ ١٨٩٧ م.

١٠ ـ البخارى ـ التاريخ الكبير القاهرة ـ بدون تاريخ.

١١ ـ البكرى ـ المغرب فى ذكر بلاد إفريقية والمغرب ـ باريس ١٩١١ م.

معجم ما استعجم ـ القاهرة ١٩٤٥ م.

١٢ ـ البلاذرى ـ أنساب الأشراف. تحقيق جريفز فالدسين ١٨٨٣ م.

١٣ ـ التوحيدى ـ الأمتاع والمؤانسة. بيروت ـ بدون تحقيق وتاريخ.

١٤ ـ الجهشيارى ـ الوزراء والكتاب ـ تحقيق لجنة التأليف والترجمة ـ القاهرة ١٩٥٧ م.


١٥ ـ ابن أبى حاتم ـ الجرح والتعديل ـ دمشق ـ ١٩٦٨ م.

١٦ ـ ابن حجر ـ لسان الميزان. دار المعارف النظامية ـ الهند ١٣٢٩ ه‍.

ـ تهذيب التهذيب ، دار المعارف النظامية ـ الهند ١٣٢٥ ه‍.

١٧ ـ ابن حزم ـ جمهرة أنساب العرب ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ـ دار المعارف ـ القاهرة ١٣٨٢ ه‍ ـ ١٩٦٢ م.

١٨ ـ ابن حوقل ـ صورة الأرض ـ ليدن ١٩٦٨ م.

١٩ ـ ابن حيان ـ مشاهير علماء الأمصار ـ ليدن ١٩٦٨ م.

٢٠ ـ الخزرجى ـ خلاصة تذهيب الكمال ـ بيروت ـ ١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٩ م.

٢١ ـ ابن الخطيب ـ أعمال الأعلام ـ الجزء الثالث. تحقيق أحمد مختار العبادى ـ دار البيضاء ـ المغرب ١٩٦٤ م.

الإحاطة فى أخبار غرناطة ـ تحقيق محمد عبد الله عنان القاهرة ١٩٧٧ م.

٢٢ ـ ابن خلدون ـ المقدمة دار الشعب ـ القاهرة ١٩٦٨ م.

العبر من ديوان المبتدأ والخبر ـ بولاق ـ القاهرة ١٢٨٤ ه‍.

٢٣ ـ ابن خلكان ـ وفيات الأعيان ـ تحقيق محمد محيى عبد الحميد ـ القاهرة ١٩٤٨ م.

٢٤ ـ الدباغ ـ معالم الإيمان ـ تحقيق الدكتور محمد الأحمدى أبو النور والدكتور محمد ماضور ـ تونس ١٩١٤ م.

٢٥ ـ ابن أبى دينار ـ المؤسس فى أخبار إفريقية وتونس ـ تحقيق محمد شمام ـ تونس ١٩٦٧ م.

٢٦ ـ الذهبى ـ ميزان الاعتدال فى نقد الرجال ـ تحقيق على محمد البجاوى ـ القاهرة ١٣٨٢ ه‍ ـ ١٩٦٣ م.


٢٧ ـ الرقيق القيروانى ـ تاريخ إفريقية والمغرب ـ تحقيق وتقديم المنجى الكعبى ـ تونس ١٩٦٨ م.

٢٨ ـ السبكى ـ طبقات الشافعية ـ تحقيق محمود الطناحى وعبد الفتاح الحلو ـ القاهرة ١٣٨٣ ه‍.

٢٩ ـ السلاوى ـ الاستقصاء لأخبار دولة المغرب الأقصى ـ الدار البيضاء ـ المغرب ١٩٥٤ م.

٣٠ ـ السيوطى ـ بغية الوعاة ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة ١٣٨٤ ه‍ ـ ١٩٦٤ م

ـ تاريخ الخلفاء ـ تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد ـ القاهرة ١٩٦٧ م.

٣١ ـ ابن شاكر ـ فوات الوفيات ـ تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد ـ القاهرة ١٩٦٣ م.

٣٢ ـ الشماخى ـ السير ـ القاهرة بدون تاريخ.

٣٣ ـ الشهرستانى ـ الملل والنحل ـ تحقيق طه الزينى ـ الحلبى ـ القاهرة ١٩٦٣ م.

٣٤ ـ الشيرازى ـ طبقات الفقهاء ـ بغداد ١٣٥٦ م.

٣٥ ـ الطبرى ـ تاريخ الرسل والملوك ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار المعارف ـ القاهرة ١٩٦٨ م.

٣٦ ـ ابن طولون ـ قضاة دمشق ـ دمشق ١٩٦٨ م.

٣٧ ـ ابن عبد الحكم ـ سيرة عمر بن عبد العزيز ـ تحقيق أحمد عبيد ـ القاهرة ١٣٧٣ ه‍ ـ ١٩٥٤ م.

فتوح مصر والمغرب ـ بيروت ـ ١٩٧٨ م.


٣٨ ـ عبد الواحد المراكشى ـ المعجب فى تلخيص المغرب ـ تحقيق محمد سعيد العريان ـ القاهرة ١٩٤٩ م.

٣٩ ـ ابن عذارى ـ البيان المغرب فى أخبار المغرب ـ بيروت ـ ١٩٥٠ م.

٤٠ ـ أبو العرب ـ طبقات علماء إفريقية ـ تحقيق محمد بن أبى شنب ـ الجزائر ١٣٣٢ ه‍ ـ ١٩١٤ م.

٤١ ـ القزوينى ـ أخبار البلاد وآثار العباد ـ بيروت ١٩٧٦ م.

٤٢ ـ القفطى ـ أنباء الرواة ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار الكتب المصرية ١٩٦٤ م.

٤٣ ـ القلقشندى ـ صبح الأعشى ـ القاهرة ١٩٢٢ م.

٤٤ ـ الكندى ـ الولاة والقضاة ـ تحقيق رفن كست ـ لبنان ١٩٠٨ م.

٤٥ ـ المالكى ـ رياض النفوس ج ١ ـ تحقيق د / حسين مؤنس القاهرة ١٩٤٩ م.

٤٦ ـ أبو المحاسن ـ النجوم الزاهرة ـ دار الكتب ـ القاهرة ١٩٦٣ م.

٤٧ ـ المسعودى ـ بروج الذهب ـ تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد ـ القاهرة ١٩٦٤ م.

٤٨ ـ المقرىء ـ نفح الطيب ـ تحقيق. محمد محيى الدين عبد الحميد ـ القاهرة ١٣٦٧ ه‍ ـ ١٩٤٩ م.

٤٩ ـ النويرى ـ نهاية الأرب فى فنون الأدب ج ٢٤ ـ تحقيق د / حسين نصار ـ مراجعة د / عبد العزيز الأهوانى ١٩٨٢ م.

٥٠ ـ ياقوت الحموى ـ معجم البلدان ـ القاهرة ١٣٢٤ ه‍ ـ ١٩٠٦ م.

معجم الأدباء.

٥١ ـ اليعقوبى ـ البلدان ـ ليدن ١٨٠٩ م.

تاريخه ـ دار صادر ١٩٦٨ م.


ب ـ المراجع العربيّة :

١ ـ أحمد فكرى ـ مسجد القيروان القاهرة ١٩٣٥ م.

آثار تونس الإسلامية تونس ١٩٥٨ م.

٢ ـ د / أحمد مختار العبادى ـ سياسة الفاطميين نحو المغرب والأندلس. مجلة كلية الآداب ـ جامعة الإسكندرية ١٣٧٧ ه‍ ـ ١٩٥٧ م.

٣ ـ د / حسن إبراهيم حسن ـ تاريخ الإسلام السياسى القاهرة ١٩٧٣ م.

٤ ـ حسن حسنى عبد الوهاب ـ خلاصة تاريخ تونس ـ تونس ١٩٧٦ م.

آداب المعلمين ـ تونس ١٩٥٨ م.

ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية ـ المنار ـ تونس ١٩٦٦ م.

٥ ـ د / حسين مؤنس ـ فتح العرب للمغرب القاهرة ١٩٤٧ م.

معالم تاريخ المغرب والأندلس ـ القاهرة ١٩٨٣ م.

٦ ـ الزركلى ـ الأعلام ـ القاهرة ١٣٨٣ ه‍ ـ ١٩٦٣ م.

٧ ـ زكى محمد حسن ـ فنون الإسلام ـ القاهرة ١٩٥٤ م.

٨ ـ د / سعد زغلول عبد الحميد ـ تاريخ المغرب العربى ـ الإسكندرية ١٩٨٤ م.

٩ ـ السيد عبد العزيز سالم ـ تاريخ المغرب فى العصر الإسلامى.

١٠ ـ محمد زينهم محمد عزب ـ الإدارة المركزية للدولة الأموية ـ رسالة ماجستير ١٩٨١ م.

آداب القاهرة.

١١ ـ محمد ضياء الدين الريس ـ الخراج ـ القاهرة ١٩٨١ م.

١٢ ـ محمد عبد الله عنان ـ تراجم أندلسية وشرقية ـ القاهرة ١٩٥٦ م.


١٢ ـ محمد عبد الله عنان ـ تراجم أندلسية وشرقية ـ القاهرة ١٩٥٦ م.

١٣ ـ محمد على دبوز ـ تاريخ المغرب الكبير ـ القاهرة ١٣٨٣ ه‍ ـ ١٩٦٣ م.

١٤ ـ د / محمود إسماعيل عبد الرزاق ـ الأغالبة ـ القاهرة ١٣٦٧ ه‍.

الخوارج ـ فى المغرب الإسلامى ـ دار البيضاء ـ المغرب ١٩٧٣ م.

ج ـ المراجع الأجنبيّة :

(١) NEVILLBARBOURASU RVEYOFNORTHWESTA FRI CA (THEMAGHIRB) LONDON ـ NEWYORK ٩٥٩١.

(٢) MARCAISLABERBER IEMUSULMANEPARIS ـ ٩٣٩١.

(٣) TERRASSEHIST OIREDUMAROCPARIS ٢٥٩١.


الكشاف العام



أبو البصر ٩٧

بطرس ١٠

أبو بكر الصديق ٦٢

بكر بن وائل ٤٨

بلاى ١٠ ، ٦٣ ، ١٢٢ ١٢٣

بلج بن بشر القشيرى ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٧ ، ٦٨ ٦٩ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٢ ٧٥ ، ٧٦ ، ٨٠ ، ٨٣ ٨٨ ، ٩٠ ، ٩٣

بن بلسكوط ١٠٤

بواب (حوثرة بن عباس) ١٢٦

تمام بن علقمة ٧٢ ، ٨٦ ، ١٠٣

ثعلبة بن سلمة ٦٥ ، ٨٦

ثعلبة بن عبد الله ٩٣ ، ١٠٤

ثوابة بن سلمة ٧٨

ثوابة بن عمرو ٧٨

جابر بن لبيد ١١٢ ، ١١٣

جاك الأول ٣٧ ، ٣٨

أبو جعفر المنصور ١٣

أبو جوشن ٨٤

الحارث بن أسد ٧٢

الحارث بن بزيع ١٠٢

حبيب بن عبد الملك ٧٤ ، ١٠٣

حبيب بن أبى عبيدة ٥٩ ، ٦٤ ، ٦٦ ، ٦٧ ٧٤ ، ٨٠ ، ٨٥

ابن حجاج ١٢٥ ، ١٢٦

١ ـ الاعلام

أبان بن معاوية ٧٣

إبراهيم بن شجرة ١٠٣ البرنسى

أحمد بن إسحاق ١٢٥ ، ١٢٦

أحمد بن محمد بن أبى عبيدة ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤

إدريس ٢٩

إسماعيل بن بدر ١٢٥ ، ١٢٨ ، ١٢٩

إسماعيل بن ريان بن عبد العزيز ٧٠

إسماعيل بن عبد الله ٥٩

ابن الأشعث ٤٦

أم الأصبع ٧٤ ، ٧٦ ، ٧٧

ألفوتسو ١٠ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٦

أمية بن عبد الملك ٧١ ، ٩٢

إيزابيلا ٣٨

أبو أيوب ١٠٨

ابن باجة ٤٤

بالامينو ٣٨

بدر ١٠١ ، ١٠٢ ، ١٠٣

البراز ١٠٣

البرنسى ١٠٣

ابن بسام ٤١ ، ٤٤

بشر بن صفوان ٦٠ ، ٦١ ، ٦٣ ، ٦٤ ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٧ ، ٦٨

ابن بشير ١١١

الحر بن عبد الله ٥٩

ابن حزم ٤١


حسين بن يحيى الأنصارى ١٠٤

الحصن بن الدجن ٧١

حفص بن ميمون ١٠٤

حفص بن النعمان ٧٤

ابن حفصون ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ١٢٥

الحكم (الأول) ٣٠ ، ١١٠

الحكم بن هشام ٧١ ، ١٠٩ ، ١١٠ ١١١ ، ١١٢ ، ١١٣

حمدونة ١٢٦

حنظلة ٦٠ ، ٦٧ ، ٦٨ ، ٧٢

حنيفة بن الأحوض ٦١

حيوة بن ملامس ١٠١ ، ١٠٢

حيوة بن الوليد ٩٨

خالد بن الوليد ٤٧

خالد بن زيد ٧٩ ، ٨٩ ، ٩٠

ابن الخشخاش ١٠١

أبو الخطار (الحسام بن ضرار الكلبى) ٧٢ ، ٧٧ ، ٧٨

ابن الخطيب ٣٨

ابن خلدون ٣٨

داود بن هلال (أبو معن) ١٠٣

دوذى ١٨

ابن ديوان الجيشانى ١٠٢ ، ١٠٣

ذريق ٨ ، ٤٩ ، ٥١ ، ٥٤ ، ٥٧ ، ٥٨

رزق ١٠٥

ابن رشد ٤٤

الرماحس بن عبد العزيز الكنانى ١٠٣

روى دياز ٣٨

ابن الزبير ٤٧

أبو زرعة ٤٩

ابن زهر ٤٤

الزهرى ٨١ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٦ ٨٧

زياد بن أبى حبيب ٥٨

زياد بن النابغة ٥٩

أبو زيد ٩٤ ، ٩٥

زيد بن حصن ٦٥

ابن زيدون ٤٤

سالم (أبو زعبل) ١٠١

سعد بن عبادة ١٠٤

ابن سعيد ٤٤

السفاح (أبو العباس) ٧٣ ، ٧٤

سفيان بن عبد الواحد المكناسى ١٠١

سليم بن منصور ٨٢ ، ٨٣

سليمان الأعرابى ١٠٢ ، ١٠٤ ، ١٠٥

سليمان بن داود ٥٤ ، ٥٧ ، ٦٤

سليمان بن عبد الملك ٥٨ ، ٥٩

سليمان بن هشام ٧٣ ، ٧٤

السمح بن مالك الخولانى ٦٠

ابن السوداء ٧٩

السيد كامبادور ٣٣

السيكندى ٤٤

أبو الشجاع ٧٧


ابن الشمر ١١٦

شمر بن المختار ٧٧

صالح بن على ٧٣

أبو الصباح ١٠١

الصميل بن حاتم ٧٧ ، ٨٢ ، ٨٨ ، ٨٩ ٩٠ ، ٩١ ، ٩٣ ، ٩٧

طارق بن زياد ٤٨ ، ٥٠ ، ٥١ ، ٥٤ ٥٧ ، ٥٨ ، ٦٤ ، ٦٧ ٦٨.

أم عاصم ٥٧

عاصم بن مسلم ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ٩٢

عامر ٨١ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٩ ٩٠

ابن عباد ٤٤

عباس بن عبد الله بن مروان ١١١

عباس بن ناصح ١١٤

عبد الله بن خالد ٨٣ ، ٩٠ ، ٩٢ ، ٩٣

عبد الله بن الزبير ٣٦

عبد الله بن زيد ٥٩

عبد الله بن سعد ٤٧

عبد الله بن عمر ٩٧

عبد الله بن محمد ١٠٧

عبد الله بن وهب ١٠٢

عبد الحميد بن بسيل ١٢٥

عبد الحميد بن غانم ١٠٢ ، ١٠٣

عبد الرحمن (الثانى) ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢

عبد الرحمن الناصر ٣١ ، ٣٢ ، ١٢٤ ، ١٢٥ ، ١٢٦ ، ١٢٧ ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٣٠

عبد الرحمن بن حبيب ٦٩ ، ٧١ ، ٧٦ ، ٨٣ ١٠٢ ، ١١٥

عبد الرحمن الحكم ١١٥ ، ١١٦ ، ١١٧.

عبد الرحمن بن زياد ٦٨

عبد الرحمن بن عبد الله الغافقى ٦١

عبد الرحمن بن علقمة ٧١ ، ٧٢

عبد الرحمن بن محمد ١٢٤ ، ١٢٥ ، ١٢٦

عبد الرحمن بن معاوية ٤٦ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦ ٧٧ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ١٠٥ ، ١٠٧

عبد الرحمن بن هشام ٢٩

عبد الرحمن بن يوسف ٩٨

عبد العزيز بن مروان ٤٨ ، ٧٤

عبد العزيز بن موسى ٥٧ ، ٥٩ ، ٦٤

عبد الغافر اليحصبى ١٠١ ، ١٠٢

عبد الملك بن جهور ١٢٥ ، ١٢٦ ، ١٢٧ ، ١٢٨

عبد الملك بن قطن ٦١ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ ٨٥

عبد الملك بن مروان ٤٦ ، ٤٧ ، ٥٣ ، ١٠٧.

عبد المؤمن ٣٧

أبو عبدة ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ٨٩

عبدة بنت هشام بن عبد الملك ٧٣

عبد الواحد بن سليمان ٧٣ ، ٧٤

عبدوس بن أبى عتمان ١٣

عبيد بن على ٨٢ ، ٨٣

عبيد الله بن أبان ١٠٢


عبيد الله بن المبحاب ٦١ ، ٦٢

عبيد الله بن عثمان

أبو عثمان

عثمان

عثمان بن أبى تسعة

عثمان بن المثنى

ابن عروة

عقبة بن الحجاج

عقبة بن نافع

العلاء

علاء بن عبد الحميد

ابن عمار

عمرو بن الخطاب

عمر بن عبد العزيز

عنبسة بن عبد الرحمن

عيسون بن سليمان

الأعرابى

أبو عيسى

ابن غارسيا

غالب بن تمام

الغزالى

غطفان بن سعد

الغمر بن يزيد

غولد ريهر

غياث بن علقمة اللخمى

غيطشة

فارقاس

فاطمة

فرديناند الأرغونى

فرديناند الثالث

فلورندا

الفهرى ١٠٢

فيليب الثالث ٤٢

القعقاع بن زينهم ١٠٧

الكعبى ٦٤

كلثوم بن عياض ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٧

كنانة بن سعيد الأسود ١٠٣

الكنانى ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١٠٩

ابن اللبانة ٤٤

ابن لبيد ١١٢

لاس نيقاس القرلوزى ٣٦

لوبير بيزيز ٣٦

اليسانة ٥٩

ليفى بروفنسال ١٨ ، ٢٧

ليون ٢٧

مالك بن أنس ١٠٧

مالك بن عبد الله القرشى ١١١

محمد بن سعيد ٧٣

محمد بن عبد الرحمن ١١٨

محمد بن هشام ١٢٥ ، ١٢٦

محمد بن وليد ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٢٢

محمد بن يوسف ١٠٥

المختار ٧٧

مروان بن محمد ٧٣

مسلمة بن عبد الملك ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٩

المسودة ١٠٢

مصعب بن هاشم ٨١ ، ٨٣ ، ٨٤

أبو المطرف ١٢٦ ، ١٢٧

معاوية ٤٧ ، ٦٤ ، ١٠٧


المعتمد ٤٤

مغيث الرومى ٥١ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٥٧ ٥٨ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ١٠٣

أبو المغيرة ٧٥ ، ٧٩

المغيرة بن الوليد بن معاوية ١٠٥

المقرى ٤٤

المنذر بن محمد ١٢١

المنصور بن أبى عامر ٣٢

مهلب الكلبى ١٠١

موريفو ٣٨

موسى بن حدير ١٢٥ ، ١٢٦

موسى بن نصير ٨ ، ٩ ، ٤٧ ، ٥٠ ، ٥١ ، ٥٤ ، ٥٦ ، ٥٧ ، ٥٨ ، ٦٤ ، ٨٥ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١

ميسرة المحفور ٦٣ ، ٦٩

ابن نصير ٧٧

أبو نواس ١٢١

هارون القرنى ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٧

هاشم بن عبد العزيز ١١٨

هذيل بن الصميل ١٠٥

هشام بن عبد الرحمن ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١٠٩ ١١٠

هشام بن عبد العزيز ٦١

هشام بن عبد الملك ٦٤ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ ٧٢ ، ٧٣

هشام بن عورة ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠

ابن أبى هند ١٠٨

الهوارى ١٠٨

الهيثم بن عبيد الكنانى ١٠

الهيثم بن عصير ٦١

وقلة ٧ ، ٨

الوليد بن عبد الرحمن ١١٩

الوليد بن عبد الملك ٨ ، ٤٦ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥١ ، ٥٧ ، ٥٨ ، ٦٤

الوليد بن يزيد ٧٢ ، ٧٧

وهب الله بن ميمون ١٠٤ ، ١٠٥

يحيى بن حريث ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٨١

يحيى بن عثمان ٦٠

يحيى بن مسلمة ٦٠

يحيى بن معاوية ٧٣

يزيد بن عبد الملك ٦٠

يزيد بن معاوية ٤٧

يزيد بن يحيى ٩٦ ، ١٠٢ ، ١٠٣

أبو اليسر ١٢٠

أبو يعقوب ٧٠ ، ٧٤

يلبان ٤٨ ، ٤٩ ، ٥١ ، ٥٥ ٥٧

يوليان ٨ ، ٩

يوسف ٧١ ، ١٠٥

يوسف بن بخت ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٨٦

يوسف بن تاشفين ٣٤

يوسف بن عبد الرحمن ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٨١

٢ ـ الأماكن الجغرافية

آية ٤٩ ، ٥٠


أربونة ٦٣ ، ٧١ ، ١٠٤

البيرة ٩ ، ٢٠ ، ٢٦ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٥٢ ، ٥٣ ، ٩٤ ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨ ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠٣

أبيط ١٠

الأردن ٦٥ ، ٧٨ ، ٨٨ ، ١٠٧

أرغونة ٣٦ ، ٣٧

الأركوس ٣٦ ، ٤٣

إسبانيا ٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١ ، ٢٦ ، ٢٧ ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ٣٢ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٤ ، ٤٥ ، ٥٢ ، ٥٧

استيجة ٥١ ، ١٢٦

استرقة ٦٨ ، ٨٠

الإسكندرية ٣٠ ، ٤٥

آسيا ٢٨

أشبيلية ٢٢ ، ٣٣ ، ٣٥ ، ٣٦ ٣٧ ، ٣٨ ، ٤٥ ، ٥٣ ٥٥ ، ٥٧ ، ٨٩ ، ٩٠ ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠١ ، ١٢٥ ، ١٢٦

أشتريس ١٠

الأصفحام ٦٨

أفرنجة ٦١

إفريقية ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٦ ، ٤٧ ٦٣ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٦

٦٧ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ ٧١ ، ٧٢ ، ٧٤ ، ٧٦ ٧٧ ، ٧٨ ، ٨٢ ، ٨٣ ٨٥ ، ٨٨ ، ٩٠

أوريولة ٥٣

ألبة ٦٣

الأندلس ٩ ، ١٠ ، ١٨ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٦ ، ٢٨ ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧ ٤٠ ، ٤١ ، ٤٤ ، ٤٥ ٤٦ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٠ ٥١ ، ٥٤ ، ٥٥ ، ٥٦ ٥٧ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٠ ٦١ ، ٦٢ ، ٦٣ ، ٦٤ ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٧ ، ٦٨ ٦٩ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٢ ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦ ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٨١ ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٨٥ ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٩ ، ٩٠ ٩١ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠٣ ، ١١٠ ، ١٢١ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٥ ، ١٢٧ ، ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٣٠

أوروبا ١٨ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٣٩

أوربط ١٠٣

تونس ٢٠ ، ٣٨ ، ٤٢ ، ٤٧


باب الجزيرة ٥٢ ، ٧٠

باب القنطرة ٥٢ ، ٧٠ ، ١٠٣ ، ١٢٢

بابش ٩١

باجة ٥٥ ، ٥٦ ، ٩٩ ، ١٠٠

بارى ٧٧

باند ٥٧

ببشتر ١٢٢

البحر المتوسط ٢٠ ، ٢٣

بداجوز ٣٣

برتغال ٩

برج أسامة ٩٦

برج الشهداء ٥٦

برشلونة ١٠٢

البشقش ١٠٤

بغداد ٢٩ ، ٣١ ، ٧٣

بلاد ما بين النهرين ٢٤

بلاط الشهداء ٦١

بلايو ١٠

البليار ٣٧

بليارش ١٠٤

بنبلونة ٥٠ ، ٦٣ ، ١٠٤

البندقية ٤٥

بيزنطة ٢٤ ، ٣٠

بيزه ٤٥

بيطى (نهر) ٩

التاجو (نهر) ٩

تدمير ٥٣ ، ٥٤

تونس ٢٠ ، ٣٨ ، ٤٢ ، ٤٧

الجزيرة ٤٧ ، ٦٩ ، ٧٧

جليقية ١٠ ، ٥٤ ، ٥٦ ، ٦٣ ٦٧

جنوة ٤٥

جيان ١٠٨ ، ١١٠ ، ١١٢

أم حكيم ٦٩ ، ٧٠ ، ٩٠ ، ٩٣ ٩٥

حلب ٤٤

حمص ٧٨ ، ١٠١

خراسان ٤٦

دانيا ٣٣

دمشق ٢٨ ، ٢٩ ، ٣١ ، ٤٥ ٧٢ ، ٨٢ ، ٨٦ ، ٨٨ ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥

دويرو ١٠

دينيا ٤٥

الرباط ٣٦ ، ٨٠

الربض ١١٤ ، ١١٥

الرصافة ٧٥ ، ١٠٢ ، ١٠٥ ، ١٠٩

روندا ٣٨

رية ٥٢ ، ٥٣ ، ٧٨ ، ١٠٧

زيون ١٠٧

الزلاقة ٣٤

سبتة ٨ ، ٩ ، ٧٠

سبرة ٤٧ ، ٧٧

سرقسطة ٦٨ ، ٧٠ ، ٨٠ ، ٨٣ ٨٥ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ٩٣ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧


٩٨ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٧ ، ١٢٥ ، ١٢٦

سوتا ٤٤

سورية ٢٤ ، ٢٦ ، ٢٨

سيكندا ٤٤

الشام ٤٦ ، ٤٨ ، ٦٤ ، ٦٥ ٦٦ ، ٦٧ ، ٦٩ ، ٧٠ ٧١ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٧ ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ، ٩٥ ٩٧

شبه الجزيرة ٢٥ ، ٣١ ، ٣٥ ، ٣٦ ٣٧ ، ٤٥

شذونة ٥٥ ، ٨٠

الشرطانيس ١٠٤

شنشبرت ٤٩ ، ٥٠

شقندة ٥٢ ، ٧٩ ، ٩٣ ، ١٢٢

شنتبرية ١٠٣

صخرة كافادونجا ١٠

صقلية ٣١

طارق (جبل) ٢٥ ، ٤٤

طارق (عين) ٥١

طرسيل ٥٢

طرش ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ٨٩ ٩٠ ، ٩١ ، ٩٣ ، ٩٥

طريف (جزيرة) ٤٩ ، ٥٠

طشانة ٩١ ، ٩٢

طلبيرة ٥٧ ، ٦٩

طليطلة ٧ ، ٨ ، ٩ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٤٩ ، ٥٢ ، ٥٤

٦٩ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٨٥ ٨٦ ، ٨٨ ، ٨٩ ، ٩٠ ٩٣ ، ٩٥ ، ٩٧ ، ٩٨ ٩٩ ، ١٠٠

طنجة ٤٤ ، ٤٧ ، ٤٨ ، ٦٣ ، ٦٧ ، ٦٩ ، ٧٠ ، ٨١ ، ٩٠ ، ٩٢ ، ٩٣

العراق ٢٩ ، ٦٧ ، ٦٣ ، ٦٤

عين التمر ٤٧

العيون (قرية) ١٠٣

غرناطة ٩ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٣٣ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤١ ٤٥ ، ٥٢ ، ٥٥ ، ٨٠ ٨٥

فارس ٢٩ ، ٣٠ ، ٤٢ ، ٤٦ ٧١ ، ٨٢ ، ٨٥ ، ١٢٢

فالفيفاس (جبال) ٢٦

فالنسيا ٣٧

الفرات (نهر) ٧٦ ، ٧٧

أبو فرطس (نهر) ٧٤ ، ٧٥

فلسطين ٧٦ ، ٧٨ ، ٩٠ ، ٩٤

فلنسية ٣٣

قرطبة ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٧ ، ٢٩ ٣٠ ، ٣١ ، ٣٣ ، ٣٥ ٣٨ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٣ ٤٤ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٥٥ ٥٧ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٠ ٦٩ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٢ ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦


٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٨١ ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٨٦ ٨٨ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٢ ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٢٠ ١٢١ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ١٢٤ ، ١٢٥

قرمونة ٥٥ ، ٩٩ ، ١٠٠

القرن ٦٨

قسطلونة ١٠٥

قشتالة ٢٦ ، ٣٣ ، ٣٦ ، ٣٧

قلنبرة ١٠٤

قنسرين ٦٥ ، ٧١ ، ٧٥ ، ٧٧ ٨٢ ، ٨٨ ، ٩٠ ، ٩٢ ٩٥ ، ٩٧

قورية ٦٩ ، ٨٠ ، ١٠١ ، ١٠٥

القيروان ٩ ، ٣٠ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٥ ، ٤٧ ، ٥١

كانجاس ١٠

كريت ٣٠

الكنترية (الجبال) ١٠

الكوفة ٧٧

لبابة ٥٦

لبة ١٠٩

لجدانية ١٠١

لايستر ٥٣

ماردة ٥٥ ، ٥٧ ، ٦٩ ، ٧٠

٧٢ ، ٧٣ ، ٨٠ ، ٨٥ ١٠١ ، ١١٣

المائدة (مدينة) ٥٤

مالاكا ٣٧

مالقة ٤٥ ، ٥٣

المانش ٢٦

المدور ٧٠

مراكش ٢٢ ، ٢٥ ، ٢٦ ، ٢٧ ٢٨ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٢ ، ٨٥

مرج راهط ٧٧

مرسيا ٣٧ ، ٤٥

ألمرية ٣٣ ، ٣٧ ، ٤٥

مصر ٢٤ ، ٣١ ، ٤٢ ، ٤٨ ٦١ ، ٦٥ ، ٦٧

المغرب ٧ ، ٨ ، ١٨ ، ٢٠ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٣٨ ، ٣٩ ٤٢ ، ٤٣ ، ٤٥ ، ٧٤ ٧٨ ، ٩٠

المفاز ١٠١

مكناسة ٧٧

المور ٢٦ ، ٩٧

موريتانيا ٣٤

ميزتية ٢٦

النهروان ٦٥

نيبلا ٣٧

همدان ٥٠

وادى الحجارة ٥٤

وادى نليط ٧٠

وادى شوش ١٠٢


الوادى الكبير ٩

وادى النيل ٣١

اليمن ٧٠ ، ٧٨ ، ٨٠ ، ٨١ ٨٥ ، ٩٠

اليونان ٢٣

٣ ـ الفرق والطوائف والبطون

الأباضية ٦٣

الأزارقة ٤٦ ، ٦٥

بنو (الأغلب) ٤٢

الأكراد ٤٦

بنو (أمية) ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ٤١ ، ٤٥ ، ٤٧ ، ٧٤ ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٨٧ ٨٨ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠١

أوربة ٤٧

البرانس ١٠٣ ، ١٠٥

البربر ٢٠ ، ٢٧ ، ٢٨ ، ٣٠ ٣٢ ، ٣٥ ، ٤٣ ، ٤٧ ٤٨ ، ٦٣ ، ٦٦ ، ٦٧ ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ ، ٧١ ٧٧ ، ٨٠ ، ٨٣ ، ٨٦ ٨٧ ، ٨٨ ، ٨٩ ، ٩٠ ٩١ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٥ ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ١٠١

١٠٢ ، ١٠٥ ، ١٠٧ ١١٣

البورجوازية ٢٧ ، ٣٨ ، ٣٩

تميم ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠

جذام ٧٧ ، ٧٨

جهينة ٧٢

حمدان (بنو) ٤٤

حمير ٧٨ ، ١٢٥ ، ١٢٦

ربيعة ٧٨ ، ٨٥ ، ٩٢ ، ٩٥

الروم ٣٩ ، ٤٦

بنى سلول ٦١

الشعوبية ٤٠ ، ٤١

الصفرية ٦٣

الصقالبة ٣٢

الطوائف ٣٢

بنو العباس ٣٠ ، ٤٢ ، ٧٣ ، ٨٠ ٨٥

العجم ٤١

العرب ٧ ، ٢٧ ، ٣٠ ، ٤١ ، ٦١ ، ٦٩ ، ٧٣ ، ٨٥ ٩٠ ، ٩٤ ، ١٠٤ ، ١٠٧

علوج ٤٧ ، ٤٨ ، ٥٣ ، ٥٤ ٥٦ ، ٥٧ ، ٥٨

الفاطميون ٣١ ، ٣٢ ، ٤٣

الفرس ٤٦

فهر ٦١

قريش ٥٩ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٧٠ ٨٠ ، ٨١ ، ٨٢ ، ٨٧

هاشم ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٠ ،


١٢١ ، ١٢٢

قضاعة ٧٧ ، ٧٨ ، ٩٣ ، ٩٤

القوط ٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ٣٣

قيس ٦١ ، ٨٢ ، ٨٩ ، ٩٠ ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٥

كلب ٧٣ ، ٧٨

كلاب ٨٢

كنانة ١٠٩

لخم ٦٤ ، ٦٨ ، ٧٧ ، ٩٠ ٩١ ، ٩٢

بنو (مخزوم) ٥٩

المرابطين ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦

آل مروان ٢٩ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٩٠ ٩١ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧

المستعربة ٣٠

مصمودة ١٠٤

مضر ٧٨ ، ٨٢ ، ٨٥ ، ٩٣ ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٦

الموحدون ٣٦ ، ٣٧ ، ٤٢ ، ٤٣ ٧٥

الموريسك ٢٦ ، ٣٨ ، ٤٢ ، ٤٣

المولدين ٢٧ ، ٤٠

بنو ميمون ١٠١

نفزه ٧٧

المنكال ١٠١

نمير ٨٢

هاشم ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢١ ١٢٢

اليمانية ٧٧

اليهود ٦ ، ٧ ، ٥٣ ، ٥٥ ، ٦٤ ، ٧٦

٤ ـ الكتب الواردة فى النص

إحياء علوم الدين ٣٦

أخبار مجموعة فى افتتاح الأندلس ٤٦

تاريخ السلالة ٤٤

حضارة العرب فى الأندلس ٢٧

قلائد العقيان ٤٤

٥ ـ الايات

سورة آل عمران ٦٦

سورة التوبة ٦٦

٦ ـ الأشعار

أتقرت ١١٦

أعزى ١٢٢

أنتم ١٢٦

أين أصحاب ٧٤

تبسر بالسلامة ١١٨


دامت ١٢٦

دعنى وحيد ١٠٦

رأيت ١١٣ ، ١١٤

شتان ١٠٦

ظل من ١١٥

عذمت البين ١٢٨

قد بعثنا ١٢٧

قد كنت ١٢٩

قربضك ١١٦

قضب من ١١٤

كيف وإنى ١٢٩ ـ ١٣٠

لاغرو ١١٨

لانمت ١١٨

لا يفلتنك ١١٨

لطفت ١٣٠

لم يطيقوا ١٠٧

من ذا ١٢٧ ، ١٢٨

ويلى ١٢٣

يا ملكنا ١١٧

يا من ١٢٣


فهرست الموضوعات

الموضوع

صفحة

* مقدمة المحقق والدراسة........................................................... ٥

* ولاية عقبة بن نافع............................................................ ٤٠

* ولاية زهير بن قبس........................................................... ٤٤

* ولاية حسان بن النعمان....................................................... ٤٦

* موت عبد الملك بن مروان...................................................... ٥٠

* ولاية موسى بن نصير......................................................... ٥١

* فتح مدينة طليطلة............................................................ ٥٥

* خبر قرطاجة ومن بناها........................................................ ٥٧

* موت الوليد بن عبد الملك..................................................... ٥٩

* ولاية محمد بن يزيد........................................................... ٥٩

* وفاة سليمان بن عبد الملك..................................................... ٦١

* وفاة عمر بن عبد العزيز....................................................... ٦٢

* ولاية يزيد بن أبى مسلم........................................................ ٦٢

* ولاية بشر بن صفوان.......................................................... ٦٣

* ولاية عبيدة بن عبد الرحمن السلمى............................................. ٦٤

* ولاية كلثوم بن عياض القشيرى................................................. ٦٥

* ولاية عبيد الله بن الحبحاب.................................................... ٦٦

* إمرة حنظلة بن صفوان......................................................... ٦٨

* ولاية عبد الرحمن بن حبيب.................................................... ٧٢

* ولاية يزيد بن حاتم............................................................ ٨٥


* ولاية داود بن يزيد............................................................ ٩٧

* ولاية روح بن حاتم............................................................ ٩٨

* ولاية نصر بن حبيب........................................................ ١٠٤

* ولاية الفضل بن روح........................................................ ١٠٥

* ولاية محمد بن مقاتل........................................................ ١٢٣

* ولاية هرثمة بن الأعين....................................................... ١٢٤

* ولاية إبراهيم بن الأغلب..................................................... ١٢٧

* ولاية أبى العباس عبد الله..................................................... ١٤٠

* المصادر والمراجع............................................................ ١٤١

* الكشاف العام............................................................. ١٤٧

* الفهرست.................................................................. ١٦١

تاريخ أفريقية والمغرب

المؤلف:
الصفحات: 162