

يشرف على هذه السلسلة
:
نوري الجرّاح
«ومن عوايد
أروبا سفر العروسين وقت الزفاف ، ولعلهم يرون فيه راحة من تكاليف المنزل وقبول
المهنئين. والمسافرون يركن بعضهم إلى بعض بداعي الحاجة والإعانة ، وفي السفر يعلم
الإنسان قيمة نفسه ، واحتياجه إلى بني جنسه ، والإنسان مدني بالطبع. يعمد هاذان
الرفيقان ، في مبدأ تعارفهما ، للاجتماع العمري على وجه الأرض ، إلى الترافق في
سفر قصير يستفيدان منه لزوم إعانة كل منهما للآخر في سفر الحياة الطويل وحاجته
الشديدة إليه ، ولكي يعلما أن ليس لهما ثالث يعتمدان عليه في شؤونهما أو له حظ في
القرب من منزلة اتحادهما.».
نص الرحلة ص ٨٦
«... وكلما زاد
النهار ازداد الاضطراب ، وأتعب الدوار الركاب وبالأخص أصحاب الدرجة الرابعة الذين
على سطح السفينة ، فقد ابتلت حقائبهم وأمتعتهم التي طفت عليها الأمواج فأصعدوهم
على سطح بيوت الأكل ومجالس الراحة بعدا عن تيار الماء واختطاف الأمواج حيث مجالس
الرتبة الأولى والثانية بأسفل بطن السفينة ، وأما الرتب الأخيرة والرخيصة ففي
أعلاها عرضة للحر والقر. وكذلك مجالس التمثيل حيث أهل الدرجة الأولى ينظرون للمرسح
وأدوار الرواية أفقيا على مساواة سطح مجالسهم. وصار منظر السفينة محزنا ، حيث لا
يرى إلا ركاب مبتلي الثياب ، وآخرون بدواير السفينة يتجرعون ما في بطونهم من آلام
الدوار.».
نص الرحلة ص ٩٤
استهلال
تهدف هذه
السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية ، من خلال تقديم
كلاسيكيّات أدب الرّحلة ، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب
ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم ، ونقلوا صورا لما شاهدوه
وخبروه في أقاليمه ، قريبة وبعيدة ، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا
ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النّخب العربية المثقفة ، ومحاولة التعرّف
على المجتمعات والنّاس في الغرب. والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي
بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملأوا دروب الشّرق ، ورسموا له صورا
ستملأ مجلدات لا تحصى عددا ، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية
والإيطالية ، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم ، ومن منطلق المستأثر
بالأشياء ، والمتهيئ لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين
ومخيّلاتهم ، وتمهّد الرأي العام ، تاليا ، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق.
ولعل حملة نابليون على مصر ، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية
، هي النموذج الأتمّ لذلك. فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة
المدفع الفرنسي
لتؤسس للظاهرة الاستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.
على أن
الظّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله ، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب
العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيّة لمجتمعاتها جديدة عليها ،
وهو ما استفز فيها العصب الحضاري ، لتجد نفسها تملك ، بدورها ، الدوافع والأسباب
لتشدّ الرحال نحو الآخر ، بحثا واستكشافا ، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في
حضارته ، ونمط عيشه وأوضاعه ، ضاربة بذلك الأمثال للناس ، ولينبعث في المجتمعات
العربية ، وللمرة الأولى ، صراع فكري حاد تستقطب إليه القوى الحيّة في المجتمع بين
مؤيد للغرب موال له ومتحمّس لأفكاره وصياغاته ، وبين معاد للغرب ، رافض له ،
ومستعدّ لمقاتلته.
وإذا كان أدب
الرحلة الغربي قد تمكّن من تنميط الشرق والشرقيين ، عبر رسم صور دنيا لهم ، بواسطة
مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ ، فإنّ أدب الرحلة العربي إلى
الغرب والعالم ، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسلة ، ركّز ، أساسا ، على تتبع
ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة ، وتطوّر العمران ، ومظاهر العصرنة ممثلة في
التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب
إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات ، مدفوعين ، غالبا ، بشغف
البحث عن الجديد ، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط ، من باب الفضول
المعرفي ، وإنما ، أساسا ، من باب طلب العلم ، واستلهام التجارب ، ومحاولة الأخذ
بمعطيات التطور الحديث ، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي
وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا ، على هذا المنقلب ، نجد أحد المصادر الأساسية
المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته ، وهي نظرة المتطلّع إلى
المدنيّة وحداثتها
من موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة ، المتحسّر على ماضيه التليد ،
والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.
إنّ أحد أهداف
هذه السّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم ، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر
الذي تشكّل عن طريق الرحلة ، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة ،
والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة ، على هذا
الصعيد ، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة ، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار ، فضلا عن
كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون
تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى ، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر
بها.
أخيرا ، لا بد
من الإشارة إلى أن هذه السّلسلة التي قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس ،
وللمرة الأولى ، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ
في ارتياد الآفاق ، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة ، وهي
إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس ، وتجمع إلى
نشدان معرفة الآخر وعالمه ، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من
خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء ،
وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.
محمد أحمد السويدي

المقدّمة
هو محمد بن
الناصر بن عمار الورتتاني نسبة إلى قبيلة ورتتان من بربر جنوب الكاف قرب مدينة أبة
بتونس ، «بضم أوله وتشديد ثانيه والهاء : اسم مدينة بإفريقية بينها وبين
القيروان ثلاثة أيام ، وهي من ناحية الأربس ، موصوفة بكثرة الفواكه وإنبات
الزعفران» . ويوهم كلام الزركلي السابق أن أصل الورتتاني بربري ،
بينما هو نفسه يقول عن أهله إنهم من ذرية عيسى بن الأكحل من الساقية الحمراء
بالمغرب الأقصى . ويضيف معرفا بقبيلته وأجداده : «ولقبيلنا امتياز
بانتحال العلوم والأخذ بطرق الصلاح ، وجدنا الأعلى هو علي بن القروي صالح تلك
الجهة ... وابنه القروي جدنا الأدنى هو عالم جهته وثقة نشأته» . وأضاف أنهم كانوا «مستوطنين بين قبائل أبة والقصور
وشرقي فحص مرماجنه وجبل الحناش» .
__________________
ولا تشير المصادر التي اعتمدتها إلى سنة ميلاده ، غير أن إشارة وردت في
الرحلة تؤكد أنه ولد قبيل احتلال فرنسا لتونس ١٨٨١ م. يقول أثناء حديثه عن مرور
عساكر فرنسا ببلدته وسير والده وبعض الأعيان في ركاب حملة الاحتلال إنه كان دون
الاثعار ، بدأ في التعلم . درس بجامعة الزيتونة ، وذكر أنه زاول «علمي التاريخ
والجغرافيا باعتناء المدرسة الخلدونية» . ومن أبرز من تلقى عنهم محمد ابن الخوجة والبشير صفر الذي ترأس بعثة المدرسة الصادقية إلى فرنسا
كما تولى رئاسة الأوقاف . وسيدي محمد النخلي القيرواني الذي أخذ عنه اللسان
والمنطق والعروض ، وسيدي الصادق ابن القاضي الذي أخذ عنه أصول الفقه . كما ذكر من أساتذته الشيخ سالم بوحاجب . ومن مؤشرات نشاطه الأدبي ومشاركته العلمية عضويته في
النادي الأدبي للشيخ الخضر حسين .
ومن المناصب
التي تولاها محمد المقداد الورتتاني : نائب الأوقاف بالقيروان ، مدرس متطوع بالمسجد الأعظم كما كان مستشارا في مجلس مستشفى
__________________
القيروان . وتنم مضامين رحلته هذه عن ثقافة تراثية غنية ، وخاصة
التاريخ ، وعن إلمام باللغة الفرنسية وتاريخ فرنسا ، وهو أمر عاديّ بالنسبة للفترة التي نشأ
فيها الورتتاني ، إذ أصبحت اللغة الفرنسية بعد الاحتلال هي اللغة الوحيدة للتعلم .
وقد اعترف له
بعض المستعربين ممن حاورهم أثناء رحلته بحسن الاطلاع على تاريخ فرنسا مبديا سروره
بذلك .
وتوفي محمد
المقداد الورتتاني سنة (١٣٧١ ه ـ ١٩٥١) عن حوالي سبعين سنة . وقد خلف مجموعة من المؤلفات :
* المفيد
السنوي ، في جزءين. (مطبوع).
* رسالة في
تاريخ الشابية بالقيروان.
* دراسة في
تاريخ الأطعمة التونسية في العصر الحفصي. (مخطوط).
* الرحلة
الأحمدية. (مطبوع). وهي في وصف رحلة أحمد باشا باي إلى فرنسا . كما ذكر أن له رسالة عن حمة قربص .
* البرنس في
باريز ، وهي رحلته إلى فرنسا وسويسرا وإليها يساق الحديث فيما يلي.
__________________
البرنس في باريز :
يمثل هذا
الكتاب امتدادا لمتن رحلي تونسي إلى أوربا أثيل نتج عن انفتاح مبكر لهذا القطر في
القرن التاسع عشر على الآخر الأوربي مقارنة مع باقي أقطار الشمال الغربي لإفريقيا.
حيث عمّ لدى النخبة المثقفة إذ ذاك الشغف بتلقف الأحاديث عن أوربا وأخبارها من
أفواه الذين سمحت لهم الفرص النادرة بالسفر إليها ... كما شاع الإقبال على مطالعة
ما ظهر من كتب الشرقيين الذين سبقوا إلى التعرف على الحياة الغربية ودونوا وصفها
وجهروا بالدعوة إلى الاقتداء بمحاسنها في الكتب التي وضعوها عن رحلاتهم وطبعت في
المطابع المصرية ، وأهمها رحلة الشيخ رفاعة الطهطاوي» .
ومن أهم ثمرات
هذا النتاج الرحلي التونسي نذكر :
١. رحلة أحمد
باشا إلى فرنسا ١٨٤٦ م ، وقد قام أحمد بن أبي الضياف بتدوين ملاحظاته عليها «وعلى
عمران فرنسا ورقي الأخلاق فيها وازدهار الاقتصاد وغيرها» .
٢. أقوم
المسالك إلى معرفة الممالك ، خير الدين التونسي ، وطبعت بتونس سنة ١٨٦٧ .
٣. رحلة باي
تونس إلى فرنسا ، محمد الخيار ، تونس ، ١٨٩٥ .
٤. الرحلة
الناصرية ، محمد بن الخوجة ، وهي رحلة باي تونس إلى فرنسا سنة ١٨٩٥ ، طبعت بتونس .
__________________
٥. الاستطلاعات
الباريسية ، محمد السنوسي في رحلته إلى باريس ١٨٨٩ ، تونس ١٣١٠ ـ ١٨٩٢ .
٦. الرحلة
الأندلسية ، علي الورداني التونسي ، نشرت بجريدة الحاضرة التونسية ، وهي تسجيل لرحلته سنة ١٨٨٨ إلى إسبانيا في بعثة علمية
برفقة العلامة محمد محمود التركزي الشنقيطي ، وذلك أن السلطان عبد الحميد لاهتمامه بكتب العربية
الموجودة في إسبانيا ، بعث الشنقيطي لتسجيل قائمة بأهم الكتب الموجودة بها .
وجدير بالذكر
أن إيراد هذه العناوين تمثيلي فقط لا يروم الاستقصاء بقدر ما يتوخى تجلية المناخ
الذي كتبت فيه رحلة «البرنس في البرنس».
وهذه الرحلة
تدوين للسفر الذي قام بها محمد المقداد الورتتاني إلى كل من فرنسا وسويسرا سنة
١٣٣١ ه ـ ١٩١٣ م ، وزار خلاله ١٨ مدينة ، وكان برفقته الشيخ أحمد ابن السعيد ، وهو مثقف ومتقن
للفرنسية . وقام بطبعها بالمطبعة الرسمية بتونس في السنة الموالية
(١٣٣٢ ه : ١٩١٤ م). ودامت الرحلة شهرا كاملا ، إذ صرح أنها «لم تتجاوز أيامها في
تراب العدوة الشمالية شهرا واحدا» . كان نصيب
__________________
باريس منها ثلث هذه المدة إذ أقام بهذه المدينة ١٢ يوما ، كما يسعفنا نص الرحلة بعدة مؤشرات محدّدة لزمانها
كقوله إن يوم ٨ جوان هو اليوم الثالث من الرحلة ، مما يعني أن بدايتها كانت يوم ٥ جوان ١٩١٣ م. أما
نهايتها فكانت بعد حوالي شهر من ذلك إذ يشير إلى أن تاريخ رجوعه هو ٧ جويلية .
وتضافر عاملان
دفعا بالورتتاني للقيام برحلته هذه ، أولهما الرغبة في التعرف على فرنسا واستطلاع
عوائدها وحضارتها بما يفيد وطنه تونس ، والثاني هو الاستجابة لدعوة بعض أصدقائه في كل من
فرنسا وسويسرا . أما كتابة الرحلة فقد حثه عليها أصدقاؤه من المثقفين
سواء قبل سفره أو بعده ، فقد أهاب به بعضهم أن يسجل مشاهداته ويلخصها في محاضرة
يعقبها نشر . وقد وطن الكاتب النفس على الاستجابة لهذه الرغبة فعمد
إلى تدوين بعض مواد رحلته «بمفكرة السفر» ، غير أن تزامن عودته مع زمن الحر جعله يؤخر تحريرها
إلى فصل الشتاء . واستمرت هذه العملية سنة كاملة ، يقول الورتتاني في
ختام الكتاب : «نجز بعون الله في مثل شهري الرحلة ، رجب وجوان ، من العام الموالي
سنة ١٣٣٢ ه
__________________
ـ ١٩١٤ ما توخينا رسمه وانتخبنا رقمه» . وقد أهدى الكاتب رحلته إلى الشيخ سيدي الطاهر ابن
عاشور قاضي قضاة المالكية بتونس ، إذ جعله بمثابة التهنئة بهذه الولاية بدل «قصيدة من
الشعر الذي أكثر له منه أرباب الود والأدب» .
ولا بد لنا ،
ولكل قارئ ، من وقفة عند عنوان الرحلة غير العادي «البرنس في باريز» : البرنس ،
بالضم» ، كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كان أو ممطرا أو جبة ، يقال إن اشتقاقه
من البرس : القطن» . والدراعة ضرب من الثياب وقيل جبة مشقوقة ويطلق عليه في المغرب أيضا السلهام : لباس كالمعطف له
غطاء للرأس وليست له أكمام . ويعرف الورتتاني في رحلته البرنس بما يشابه ما سبق
مضيفا أنه «من الثياب الموضوعة على الأكتاف كالدرع» ، وأنه «في الحواضر يوضع على الأكتاف ، على ما فيه من
المشقة وإشغال اليدين ، وفي غيرها يسلك في العنق على الطريقة الأولى له» .
ويبرر
الورتتاني تضمين اسم البرنس في عنوان رحلته قائلا : «لما كان هو الوحيد شهرة في
المملكة عنونت به كتاب الرحلة ليعلم بمجرد سماع الاسم مرجع جنسية ووطن صاحب الرحلة»
. وقبل ذلك يؤكد أن البرنس إلى زمن كتابة الرحلة «عام في طبقات المملكة
التونسية ، حتى أن من كانت وظيفته تقضي عليه بلباسها
__________________
الخاص بها فإنه يتبرنس في أوقات راحته وخلواته . على أن هناك أسبابا أخرى تعضد هذا الاختيار منها أن
البرنس في أوربا محترم وعزيز وغريب في الوقت نفسه ، هذا بالإضافة إلى اختصاص البرنس بالسفر ، يقول
الورتتاني : «ولعل البرنس والقفطان صارا في تنازع فاقتسما الأمر ، فالبرنس للسفر ، وهو
المناسب للركوب وكثير المنافع في الحر والقر ، واختص القفطان بالإقامة والحواضر» .
وقد أشاد صديق
أحمد الرحالة المصري في تقريظه الرحلة بالبرنس والتزام الورتتاني به في فرنسا
قائلا :
وهل جمال
الفتى في غير ملبسه
|
|
مهما أقام
ومهما حلّ في أمم
|
فاحفظ شعارك
والزم ما عرفت به
|
|
فالبرنس
الحلو في باريز ذو قيم
|
ومما يميز «البرنس
في باريز» تضمنها توثيقا فوتوغرافيا هاما وكثيفا . وقد حقق الورتتاني ذلك تطبيقا للشروط التي يرى لزوم
توفرها في الرحالة ، والتي خصها بفصل كامل . فمن هذه الشروط حمل القلم واستعماله «فيكتب به الراحل
كل ما يرى أو يسمع ، حتى إذا عاد وجد خزينة كبرى من تلك المفكرات يستمد منها
لتحرير
__________________
كتاب رحلته بأصح مصدر وأوفى بيان» . واصطحاب آلة التصوير التي سماها «مرآة التصوير التي
تمثل إلى العين ما لا يقدر القلم على وصفه ، يأخذ بها المسافر صور البلدان
والأشخاص والأشجار والأنهار والجبال والمعامل» . وتتصدر هذه المادة التوثيقية الفوتوغرافية صورة المؤلف
وخريطة مبينة لمسار رحلته . وجدير بالذكر أن المؤلف لم يكتف بما أخذه بنفسه من صور
، بل عمد التزود بوثائق وصور من أفراد وهيئات أشار إليهم جميعا في كلمة الشكر في
ختام الرحلة إذ يقول : «وقبل أن أضع القلم من كتب ملحقات هاته الرحلة أشكر
الجمعيات والأفراد الذين أمدونا بما رجوناه منهم من المعونة على تحرير مسألة أو
نقل صورة وإعارة طوابع بعض المناظر كإدارة ليزانال في باريز ، وشركة ل ل وشركة ن د
بواسطة أصحاب المطبعة الفرنساوية بتونس مسيو نمورا وبونيسي ، وجمعيات تقدم البلدان
في مرسيليا وكرونوبل وارياج وإيكس ليبا وجنيف ومقاطعات الرون ، وعائلة دالبيرتو في
كرونوبل ، والمسيو رونز في فاراين انركون ، والمسيو بول ناظر مدرسة اللغات الشرقية
بباريز والمسيو كابار بمجلس السينات ، والمسيو ناظر اللابرا والمسيو كيوم في
إيسودان ، وعائلة دوبوردايز في طولوز ، والدكتور إمان في مونبليي» .
وختمت الرحلة
بتقريظ لصديق أحمد وآخر كان نشر في جريدة الزهرة تضمن قصيدة للشاعر صالح سويسي
مطلعها :
قل سيروا في
الأرض ، تحريض لمعتبر
|
|
فقوض الرحل
إن العز في السفر
|
ويحفل الكتاب
بالإحالات على رحالة سابقين قدماء ومعاصرين للورتتاني ،
__________________
وكثيرا ما اقتطف من رحالة تونسيين سابقين لجيله بقليل أو مجايلين له زاروا
أوربا ، ونذكر في هذا الإطار خير الدين التونسي ومحمد الخضر حسين ومحمد ابن الخوجة
ومحمد السنوسي وغيرهم. وقد ختم الكاتب رحلته بما يشبه دليل السفر للمتوجه من
مواطنيه إلى أوربا متوقفا فيه عند أدق الجزئيات والمحاذير .
مضامين الرحلة :
تعد رحلة «البرنس
في باريز» من أغنى الرحلات العربية إلى أوربا في القرن العشرين مادة ومن أشملها
وصفا وأكثرها دقة وتقصيا. وقد استهلها صاحبها بمقدمة مسهبة تتخللها استطرادات
طويلة استقصى فيها الأسباب الذاتية والموضوعية المختلفة الداعية إلى السفر ، ووضع لتدوينها خطة تقوم على انتخاب ما دونه «بمفكرة
السفر واستحضره الفكر مما سمعته الأذن ووقع عليه البصر ، وكذلك ما نفثته القريحة
أو جادت به الحافظة مما له علاقة بالموضوع ، أو مناسبة تهم المشروع» .
ولعل ذلك هو ما
يبرر استطرادات المؤلف المتنوعة ، وخاصة منها التاريخية والجغرافية سواء ما تعلق
منها بأوربا أو البلاد العربية ، وهو أمر يتناسب وتأكيده ضرورة استعانة الرحالة
بهذين العلمين لح لخ. وخصّ الورتتاني مدينة القيروان بنصيب الأسد من
استطراداته لأن الحديث عن هذه المدينة عنده «متى عنت المناسبة هو طرف من تلك
الحملة ، وقوس دائرة الرحلة» لح لخ. بل هو من صميم مسار الرحلة حتى يكون الكلام شاملا
لمبدأ خط السفر ومنتهاه» .
__________________
والملاحظ أن
الورتتاني غالبا ما يستدعي التاريخ العربي ومعالمه أثناء توقفه عند المنجزات
الأوربية من طائرات ومكتبات ومستشفيات وغيرها. وهو كثيرا ما يستشهد بكلام ابن
خلدون في تفسير الظواهر السياسية معتمدا نظريته في العمران البشري والعصبية . كما أنه حلى رحلته بمتن شعري كبير تعود جملة معتبرة
منه لصديقه الشاعر صالح سويسي المتوفى سنة ١٩٤١ م . وورد لدى الزركلي أن ديوانه غير مطبوع ، في حين أنه مطبوع بتونس سنة ١٩١١ بعنوان «زفرات
الضمير» . هذا بالإضافة إلى شواهد شعرية من مختلف العصور يوردها
الورتتاني كلما اعتبرها مناسبة للسياق ، فضلا عن أشعار له هو ، وإن كانت قليلة .
وزيادة على وصف
المدن والقرى التي حل بها وحال سكانها وعاداتهم والمقارنة بينهم أحيانا ، تطرق الورتتاني لوصف معالم
كثيرا ما تكرر ورودها في رحلات العرب إلى فرنسا بصفة خاصة ، كمدينة باريس ومدرسة
اللغات الشرقية التي وصف ماجريات امتحانا حضره بها ، والمكتبة الوطنية
بباريس ، ومتحف اللوفر ،
__________________
والمسلة المصرية ، والتروكاديرو ، وكنيستي نوتردام ولا مادلين والأوبرا وغيرها. وقد استقصى تاريخ كل هذه المعالم ومكوناتها
وطريقة عملها بتدقيق مثير.
وهو في أغلب
المواضيع المطروقة مولع بإيراد الإحصاءات مما يبرر كثرة الجداول المتخللة للرحلة.
بعد إنهاء
المقدمات ، يستهل الورتتاني رحلته بتبرير شدّه الرحال إلى أوربا مجوزا إياه ما دام
الإنسان «آمنا على نفسه ودينه وماله» ، ويبدو بذلك داخلا في جدال فقهي يخص حليّة السفر ، إلى
أو الإقامة ، في بلد الكفر باعتبارها دار حرب ، وضرورة هجر المسلم لها قياسا على
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وعضد الورتتاني موقفه بالاستشهاد بسفر العلماء والسفراء
إلى الممالك غير الإسلامية. بل أخذ على المتأخرين عدم فهمهم لما وصفه العلماء
الأوائل بدار الحرب إذ تلقفوا كلامهم ، في نظره ، «بدون إمعان النظر فنزلوا
المسألة على السفر لغير بلاد الإسلام مطلقا ، وغضوا النظر عن كلمة دار الحرب. فإن
دار الحرب هي بلد القوم العدو الذين بيننا وبينهم القتال بحيث من ظفر منهم بواحد
منا كان غير آمن على نفسه وماله» .
وواضح أن تعامل
الورتتاني مع الفرنسيين هو الذي أملى هذا الفهم عليه ، ومعلوم أن دار الحرب «هي
بلاد المشركين الذين لا صلح بينهم وبين المسلمين» .
__________________
إلا إذا اعتبر
المؤلف معاهدة ١٨٨١ صلحا ، وقد ساق مجموعة من آراء الفقهاء منها كراهة السفر إلى
بلد الكفر إذا لحقت المسافر مذلة .
ونسجل توقا من
المؤلف طيلة الرحلة إلى التواصل مع أوربا واعيا بتخلف بني جلدته. بل هو يتمنى ،
وهي أمنية لها سمة رمزية دالة ، لو صار البحر المتوسط «كله يبسا أو جعل له نفق تحت
الأرض بين إفريقيا وأوربا ... لتسريح أمم القارات من ويلاته وأرباب الأسفار من
نكباته ... وتتعارف الأمم المفرق ما بينها بحد سيفه ... ويرى كل فريق صاحبه عيانا
ويتعرف لغته وخلقه وعوائده وتنقشع سبل الوهم من بعض أفكار قوم في احتقار قوم آخرين»
.
ويسجل
الورتتاني انتشار الحضارة في كل أنحاء أوربا إذ «لا يخلو بلد من آثار مع مكتب للتعليم
ومعبد ديني ومستشفى صحي ومحل للتمثيل ونزل للمسافرين» .
وقد لخص مجالات
إعجابه بأوربا في :
١. عمران الأرض
وخضرتها إلى حد اعتبار فرنسا كلها بستانا واحدا ، وهو أمر مألوف في رحلات العرب إلى أوربا متكرر الورود
فيها مما لا يحتاج معه إلى التمثيل.
٢. انتشار
المعرفة وتعميمها .
٣. الانكباب
على العمل المتواصل.
__________________
٤. حسن معاملة
الغريب .
٥. وقد خص
باريز بأكبر إشادة إذ أعجب بحركتها الدائبة وكثرة سكانها وغناهم ، وبوسائل النقل
وسريان النظام بها ، وذوق أهلها في المنازل والملابس .
كما أبدى
إعجابه بجنيف ونظافة سويسرا بصفة عامة . على أن أهم ما يستوقفنا من مواقف الورتتاني من حضارة
البلاد المزورة ومعالمها :
ـ موقفه الإيجابي
من المسرح واعتباره مجديا خاصة للناشئة ، بخلاف كثير من سابقيه ومعاصريه من الرحالة من شمال
غرب إفريقيا ، يقول : «التمثيل يصور التاريخ وينشر الأدب ويحيي اللغة ، واستحضار
الصورة الغريبة له تأثير في ذوق اللسان العربي ، وترتاح له النفوس وتوده» .
ـ إشادته
بفوائد الرسم أو الصور الدهنية ، كما سماها ، فبها في نظره «يحفظ التاريخ وتظهر
مقدرة الخيال» . بل إنه حاول تقديم تفسيره الخاص لا بتسامة الموناليزا . وكانت هذه اللوحة قد تعرضت للسرقة ذلك العام ووجد «الحديث
على ضياعها من متحف اللوفر مستفيضا» . وومما قاله الشاعر صالح سويسي في شأنها ضمن قصيدة
بعثها للورتتاني أثناء رحلته :
جوكندا تبا
لسارق رسمها
|
|
رسم على ملك
الجمال تقدما
|
__________________
يا متحفا مالي أرى بك وحشة
|
|
وأرى فؤادك بالفراق تكلما
|
«فمحمد» يبدي إليك توجعا
|
|
وتصبرا عند الزيارة مثلما
|
غير أنه يعود
في مواضع أخرى من الرحلة فيحد من غلواء هذين الحكمين العامين فلا يحبذ من الرسم
إلا ما وافق الواقع . ومن الطريف أنه لما أنكر وجود تمثال من الرخام ، في
متحف مدينة تولوز ، مكشوف السوأتين أضاف قائلا : «مع أن ثيابه منحازة إلى جانب منه ، فلم
أدر لما ذا أبعدت عنه . فكأن النحات أعجزه أمر تحريك هذه الثياب لتغطية سوأتي
التمثال في هذا العمل الفني!
وعلى الرغم من
طابع الانفتاح والإعجاب بالحضارة الغربية الذي طبع لقاء الورتتاني بأوربا ، فإن
خطابه لم يخل من تلك النفحة الدينية الصوفية المألوفة لدى أغلب الرحالة المسلمين
إلى أوروبا الحديثة ، تلكم النفحة التي تعتبر كل المعالم الحضارية المدهشة للمطّلع
عليها مجرد قشور «لا تساوي جناح بعوضة أو قيمة خردلة من نعيم الآخرة» . فمع كل الإعجاب الذي كاله لمضيفيه ، نجده ينبه في مقطع
صغير متفرد إلى افتقارهم إلى الاطمئنان الروحي فيقول : «ولو تتبعت أحوال هؤلاء
واطلعت على باطن أعمالهم لوجدتهم في عناء وأفئدتهم تردد لا راحة في الدنيا» .
__________________
ـ وصفه الدقيق
لحركات الراقصين وسكناتهم بأحد العروض التي حضرها وصفا موضوعيا خاليا من الانتقاد.
ـ إعجابه
بمشاركة المرأة في الحياة العملية ، وقد لخص مكانتها قائلا : «والمرأة في فرانسا هي كل
شيء ولها كل شيء ، فالجوهر والحرير والزينة ، وإن شئت قلت المال للمرأة ، والتقدم
للمرأة والفؤاد للمرأة ، والمنزل للمرأة ونفوذ الكلمة للمرأة ، والحرية للمرأة» .
ورغم ملاحظة
الورتتاني جمال النساء وحسن ذواتهن ، على حد تعبيره ، ونعومة أجسامهن وبياض بشرتهن
وغير ذلك من الأوصاف ، فإنه مع ذلك ظل متمسكا بعفته حريصا على إعلانها ، فهو
يحمد الله لأنه لم يجر «طلقا مع الهوى» ، بل إنه كاد ينساق لإغراءات باريز لو لا أنه استرجع ،
يقول : «ثم راجعت نفسي وقرأت (رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ، وكففت نفسي عن الإغراق في إدامة النظر إلى فتنة الحياة الدنيا»
.
وقد دخل
الورتتاني في حوار مع بعض النساء الفرنسيات في مواضيع تعدد الزوجات ، وعدم رؤية
المرأة قبل الزواج وتليم المرأة ورفع الحجاب عنها في المجتمعات الشرقية .
بيد أن نساء
مدينة تولوز خلفن في نفسه انطباعا سلبيا ، فقد سجل قيامهن بالأعمال المبتذلة
ومعاناتهن من التعاسة ، ووقف على أحوال منهن غريبة
__________________
يلخصها قوله : «وشأن المرأة غريب في طولوز ، إن نساء طولوز ممتلئات الأجسام
لحما وثيابا ... ويظهر العرج فيهن كثيرا فتراهن ظالعات ضليعات ، ولهن شوارب
كالرجال ولحى يختلفن فيها كثرة وقلة.» ولذلك شبههن بالسعالي .
ومما تميز به
الورتتاني وصفه رياضة مصارعة الثيران بدقة وإسهاب ذاكرا الأسماء التي تطلق على
المشاركين فيها ، إلا أنه اتخذ منها موقفا سلبيا منتقدا تعذيب الحيوان ، معرّضا
بجمعية الرفق بالحيوان التي لا تعمل على مناهضة هذه الرياضة ، مشبها إياها ،
بسخرية ، بمحكمة العدل الدولية التي لا تمنع الحروب ولا تعدّ ملجأ للهروب .
ورغم ثقافة
الورتتاني الفرنسية ، فإنه وقف عاجزا عن فهم عمل البورصة وكيفية كسب الناس الأموال
من خلالها ، فشبهها بالكيمياء التي «لها أسرار ... لكن لا يعرفها إلا أربابها» ، ولم ير فيها سوى اختلاط للناس «وغوغاء بدون انتظام
ولا فهم كلام» .
كما حضر جلسة
مجلس النواب بباريز يوم ٢٣ جوان ١٩١٣ مدعوا من وزارة الخارجية وبعض النواب ، وقد
وصف المجلس ومكوناته وهيئة الجلوس ومدة انتخاب النواب. وكان موضوع الجلسة مناقشة
تمديد الخدمة العسكرية من سنتين إلى ثلاث في ظروف مواجهة التهديد الألماني الذي سبق
اندلاع الحرب العالمية الأولى .
__________________
وكان جان جوريس
، الزعيم اليساري المشهور ، خطيب الحزب الاشتراكي ، وجدير بالذكر أن جوريس من أبرز السياسيين الفرنسسين
الذين كانوا يواجهون سياسة فرنسا الاستعمارية في المغرب .
ومن المؤكد أن
تقديم هذه الرحلة الزاخرة بالمعلومات والمواقف لا يغني عن الاطلاع عليها ، ولعل
مسك الختام أن يكون تعليق محمد الفاضل ابن عاشور على هذا الكتاب النفيس ، إذ
اعتبره «مظهرا جليلا لسمو فن التحرير في تسجيل الرحلات الفردية الخاصة في أوربا» و «أكمل صورة قلمية لنظر العربي الناهض إلى أوربا لوصف المسالك والمشاهد
والتأثرات النفسية والمناظر الطبيعية والحياة الاجتماعية ، مع إثارة المقارنات
التفصيلية بين الماضي الإسلامي والحاضر الأوربي في كل ناحية من نواحي الحضارة ...
ولو لا ما شحنت به من الاستطرادات البعيدة لذكر أمور شؤون الحياة العادية بتونس
لكان مثالا كاملا لفن الرحلة ، على أن هذا لم ينزل بهذا الكتاب عن كونه أرقى مثال
وأمثل صورة في كل ما كتب من الرحلات التونسية» . في القرن العشرين .
وجدير بالذكر
أن هذه الرحلة تتضمن معلومات ومواقف تستحق التصحيح
__________________
والتعليق ، غير أن خطتنا القاضية بإخراج الكتاب بأمانة ، كما ارتضاه صاحبه
، جعلنا لا نتوقف عند ذلك مما قد يزيد هذا المطبوع تضخما ، والكتاب أصلا ضخم ،
معتمدين في الانتباه لكل ذلك على حصافة القارئ.



مسار الرحلة
تبدأ رحلة
الورتتاني يوم ٦ جوان / يونيه ١٩١٣ م ، الساعة الثانية بعد الزوال ، أما نهايتها
فكانت بعد شهر من ذلك أي يوم ٧ جويليه / يوليوز من السنة نفسها. وقد كان نصيب
باريس من هذه المدة ثلثها ، أي ١٢ يوما.
تبدأ الرحلة من
القيروان ، بلد الرحالة ، ثم حلق الوادي ، قرية بضاحية تونس. ويتحدد مسارها في
أوروبا في دولتين هما سويسرا وفرنسا ، وزار فيهما ١٨ مدينة :
ـ مرسيليا ، (Marseille).
ـ كرونوبل ، (Grenoble)
ـ أرياج ليبا (ليبان)
، (Uriage ـ les ـ Bains).
ـ جبال شارطروز
، (Les montagnes de la chartreuze)
+ قرية صان
لورون دوبون ، (St.Laurent ـ du Pont)
+ قرية صان
بيايير ، (St.Pierre).
ـ إيكس ليبا (إيكس
ليبان) ، (Aix ـ les ـ Bains)
ـ جنيف ، (Gene
? ve).
ـ فيفي ، (Vevey).
ـ منترو ، (Montreux).
ـ جنيف.
ـ بولكارد (الحدود
السويسرية الفرنسية) ، (Bellegarde).
ـ شامبري ، (Chambe
? ry).
ـ كرونوبل.
ـ ليون ، (Lyon).
ـ باريز ، (Paris).
ـ كليرمون
أنركون ، (Clermont en Argonne).
ـ فاراين
أنركون. (Varennes en Argonne).
ـ ليون.
ـ صان كايزر ، (Saincaize).
ـ إيسودان ، (Issoudun).
ـ فيشي ، (Vichy).
ـ ليموج ، (Limoges).
ـ طولوز ، (Toulouse).
ـ مونبليي. (Montpellier).
ـ نيم ، (NIME).
ـ أرل ، (Arles).
ـ مرسيليا.
ـ حلق الوادي.
ديباجة المؤلف
بسم الله
الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الذي
أمر بالسير في الأرض. وأثاب على المباح بحسن النية ثواب المندوب والفرض. نحمده أن
جعلنا شعوبا وقبائل. لتعارف الأواخر والأوائل. فمنهم الراقي والمنحط ، والمفرط
والمفرّط والوسط. اختلفوا لاختلاف الوظائف والطوائف والنحل والأجناس ، في شارات
الأكسية وحلل اللباس. ولاختلاف حرارة وبرودة الطقس ، على حسب البعد والقرب من خطوط
الأرض المسامتة لسير الشمس. فأوجبت الأقطار الباردة على أبنائها الانكباب على
العمل ، ودعت الجهات الحارة سكانها إلى التمتع بنظر الكواكب والإخلاد غالبا إلى
الراحة التي يعقبها الكسل. كما اختلفوا لهذا الشأن ، في النباهة والغفلة والسمات
والألوان. واختلاف الألوان واللغات ، له سبحانه وتعالى من أعظم الآيات. ونشكره أن
جعل ما في الأرض من ماء ومرعى ، لسكانها متاعا ونفعا. ونشهد أن لا إله إلّا الله
الواحد الذي خلق لنا ما في الأرض جميعا ، وتفضل بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم
رسولا وشفيعا. وعلى آله الأخيار ، وأصحابه المنساحين في الأقطار ، والتابعين وتابع
التابعين حفظة الآثار. وبعد فيقول كاتبه محمد المقداد ابن الناصر بن عمار
الورتتاني إن النفوس البشرية تواقة إلى الأخبار. وتجشم
أخطار الأسفار ، ولو إلى ما وراء البحار. علما بأنها هبطت من المحل الأرفع
، إلى هذا الفضاء الأوسع. وتلقت بالجسد الغير المجانس لها على كره منها لتنال
العلوم بواسطته ولتستفيد بالتلبس به وتعود عالمة بما لم تعلم. فهبوطها لا شك ضربة
لازب لتكون سامعة لما لم تسمع ، وتعود عالمة بكل خفية في العالمين فخرقها لم يرقع.
غير أن المعلوم بواسطة المشاهدة أصح من المعلوم بواسطة السمع فقط ، والفرق يتبين
من التأمل في حالة وصول المعلوم إلى الذهن بواسطة الحواس مباشرة كما في الأول
وبواسطة المخبر في بعض المعلومات كما في الثاني. وآفات الأخبار كثيرة. فالاقتصار
على السماع لا يفيد الثمرة المقصودة والمأمور بتحصيلها بالسير في الأرض (أفلم
يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها). فالحقيقة تتجلى
باستعمال العاملين النافعين وهما السمع والبصر كالعلم بالشيء وتصحيحه وتطبيقه ،
وكم من معلومات لا يصدق فيها الخبر الخبر ، وكم من أوهام خبرية تزيلها معلومات
المشاهدة والسفر. ما دامت الاستفسارات ناقصة والقياسات في الغالب مخطئة ، فتعارف
الأمم ببعضها واستطلاع الحقائق والوقوف على بواطن الأمر مما يقرب التوادد ويزيل
الشحناء ويذهب بما يلصق في فكر إحدى الأمتين مما يعده ذنبا أو عيبا أو نقصا أو
توحشا في جانب الأمة الأخرى. والفوائد لا تحصل والاقتباس لا يتم إلّا بالتعارف
والبحث. وما اكتساب التجارب وصحة الأبدان وتهذيب النفوس ونيل المعارف إلّا
بالأسفار واتساع المدارك. لذلك كله كلما خلوت ونفسي إلّا وناجتني في هذا الغرض
وأفضت لي بذات صدرها وأفاضت في شرح فعلها ومصدرها ، والجسد طوع يمين النفس شأن
السلطة من المدبر الحكيم والنور على الظلمة والعالم على الجاهل والدائم على الفاني
والقوي على الضعيف :
لو لا حجاب
أمام النفس يمنعها
|
|
عن الحقيقة
فيما كان في الأزل
|
لأدركت كل
شيء عز مطلبه
|
|
حتى الحقيقة
في المعلول والعلل
|
وبعد مزاولتي
علمي التاريخ والجغرافيا باعتناء بالمدرسة الخلدونية ازدادت حاجة
النفس إلى السفر والترقي إلى الخبر من الخبر وتقوت بسلاح معلوماتها على
الجسد الضعيف. أما الانكباب على مطالعة هذين العلمين «والكتب حصون العقلاء إليها
يلجئون ، وبساتينهم بها يتنزهون» ، وذلك بعد زمن التعليم على أستاذي المدرسة
المذكورة : النابغة سيدي البشير صفر والبارع سيدي محمد بن الخوجة وهما بالمنزلة
المعلومة في سعة الاطلاع وإصابة المرمى في التقرير وبلاغة التحرير. فقد زادني شوقا
على شوق إلى مشاهدة أحوال الممالك وطبائع سكان الأرض وأخلاقهم ومعارفهم ، وموازنة
حاضرهم بغابرهم وقياس درجة رقيهم وانحطاطهم بالنسبة لغيرهم. وهذا الأمر كما سيتبين
بعد هذا أحد موجبات الأسفار والنزوح عن الديار. وعقدت النية على السفر إلى أروبا
أمّ القارات ومعلمة الأمم ومدبرة الممالك ومالكة البحار. وجعلت مقدمة ذلك مملكة
فرنسا لما يبلغنا عنها من ملاءمة أخلاق سكانها وغزارة المعارف بها ، واستبحار
العمران بعواصمها وانتشار الحرية والثروة في أمتها ، سيما وهاته الدولة العظيمة
والأمة النبيهة هي حامية الحمى ومدبرة القطر ومعلمة أبنائه. فيهم التونسي أن يدرس
ويتعرف مملكتها وحضارتها ويسافر إلى وطنها ويستطلع عوائدها ويرى نواياها وآمالها
في السير بهذه المملكة في طرق الحضارة والأمن ويشاهد منزلة سكانها الأدبية
والمادية من علم ومال ، وكل ذلك مما يعود بالفائدة المتعددة في عالم الاجتماع «والإنسان
مدني بالطبع». وقد سهلت لنا أروبا امتطاء البحار والانتفاع بالبخار ، والتطلع إلى
العلوم والأخبار ، والميل إلى مشاهدات نتائج هذا العصر والبحث عن الآثار ، سيما
والتونسي في فرانسا ، وبالأحرى في باريز ، محترم وعزيز ، وسيأتي ذكر ذلك في الحديث
على أخلاق تلك الأمة النبيلة ، وعاصمتها الجميلة. ثم مملكة سويسرة لما يقال عن
جمال مناظر الجبال والبحيرات بها وأمن قاصدها وراحة بال زائرها ، وإنجازا لوعد
البعض ممن دعانا لمشاهدة تلك الممالك ممن عرفناه من سكان هاتين المملكتين. وإجابة
دعوة الأودّاء إلى الأقطار النائية وزيارة المتعارفين عادة قديمة في البشر ،
وسيأتي ذكرها من بين دواعي السفر. فشاهدت في رحلة قصيرة لم تتجاوز أيامها في تراب
العدوة الشمالية من البحر الأبيض شهرا واحد ثمانية عشر مدينة بفرنسا وسويسرة. وهي مرسيليا و كرونوبل و شامبري و إيكس ليبا و جنيف و فيفي و منترو و باريس و وكليرمو أنركون
و فرين أنركون و فرساي و إيسودان و فيشي و ليموج و طولوز و مونبيلي و نيم و أرل. وعقب الرجوع أشار البعض من أرباب الفضل بإلقاء
مسامرة بالقيروان فيما يبقى بفكر التونسي إذا سافر إلى أروبا وعما لم يعهد في
مملكتنا التونسية. غير أن رجوعي إلى القيروان في أيام الحر الذي كانت درجته في أوائل
شهر جويليه ٤٤ سانتيكراد ، والالتجاء إلى شاطئ سوسة الجميل حال دون إنجاز ذلك.
ولما دخل الشتاء وراجعت مفكراتي وجدت من بينها ما كاتبني به بعض النبهاء بالقيروان
في أثناء السفر بفرانسا في الحث على الاعتناء بتدوين كتابة في مشاهدات السفر ،
فكان ذلك لي منشّطا من أهل الذكاء الفطري القيرواني الذي عرفه الإمام مالك رضي
الله عنه في القرن الثاني من الهجرة في أبناء هاته المدينة الطيبة حيث قال : مدن
الذكاء ثلاثة المدينة والقيروان والكوفة. لذلك كنت كلما حضرت مجلسا جليلا أو رأيت
مشهدا عظيما أو اطلعت على أثر معتبر في أثناء السمر وددت أن يكون معي من بعض
أصدقائي الأجلاء. وفي مقدمتهم من خصوص القيروان نادرة الزمان وفخار القيروان الشيخ
باش مفتي سيدي محمد صدام ممن يقدرون الأشياء حق قدرها ويعظم التونسيون بأمثالهم في
أعين رجال الممالك الأجنبية متى اطلعوا على كفاءة التونسي ومقدرته. وأذكر هنا قطعة
من إحدى الرسائل القيروانية لبعض أفاضل الأصدقاء وسيأتي ذكر بعض القصائد الشعرية
وغرابة وصولها في المكان الذي تضمنت لزوم زيارته في قصر ليزانفاليد الذي به مدفن
نابليون بونبارت بباريز.
الحمد لله
من القيروان في ٢٤ رجب وفي ٢٩ جوان سنة ١٣٣١ ه / ١٩١٣ م ،
مولانا الشيخ سيدي محمد المقداد
السلام عليكم
ورحمة الله ، فقد تاقت النفس للقياكم والتأنس بمجالسكم اللطيفة ومذاكرتكم الجميلة
التي لا تخلو كل كلمة منها من حكم وفوائد جمة شأن أصحاب الآراء الثاقبة والمدارك
العالية والأفكار السليمة ، شأن الرجال المصلحين ، الذين كتبوا
على أنفسهم خدمة الوطن والدين. هذا وإن إيابكم بأمن الله وسلامته منتظر
بفراغ صبر لقص ما شاهدتموه في هاته السياحة المباركة من اللطائف والغرائب والعجائب
التي لا بد لها من الفائدة الكبيرة على الأحباب والأصحاب ، والمأمول أن يكون ذلك
ملخصا في مسامرة يعقبها نشر بقلمكم المسهب المتعود منه حسن البيان فيما يمليه
الجنان. إلى أن قال : وإن تكن القصص مشفوعة بالصور الفوتغرافية ، وهو مما لا يشك
فيه ، فالحظ أسعد والفائدة أكبر والرسوخ أثبت والتأثير أقوى. إلى أن قال : أيها
الرحالة إنكم بمسامرة تلقونها في العاصمة العتيقة في المدينة الأثرية ، ألا وهي
مدينة «القيروان» مضطجع أولئك الأبطال الباسلين الذين جابوا السهل والوعر واحتقروا
أشعة شموس إفريقية المحرقة ورمالها الصالية ، مسامرة تستهل بذكر شيء من تاريخ هاته
العاصمة صاحبة الماضي الذي لا يقايس ولا يشابه حالتها اليوم. مسامرة تبعثون بها
نشاطا في السكان ويتحققون بها وجوب الكد والعمل ، ويجارون الأمم الحية في معترك
الحياة ويستنتجون برهانا من أعمال الشعب الفرانسي ناشر لواء حمايتهم الذي ما برح
يناديهم بالنهوض والعمل ، مصرحا بتذليل كل صعوبة يلاقونها في سبيل تقدمهم ، ممدا
يد الحنو والشفقة لانتشالهم من مخالب الجهل والفقر. إلى أن قال :
وأعيد لكم
سلامي وتحيتي إلى الملتقى عن عود حميد بسلامة الله ه. ولم أسمع كلمة قبل سفري جمعت
بين الحنان ومتانة الود ، وبين الحث على الاستفادة والإفادة من السفر مثل ما صدر
لي من الشريف المفضال العالم النقاد سيدي محمد ابن عاشور ليلة الموادعة ونحن حول
مائدته ، وفي دائرة نادي فصاحته ، قائلا : اجعل سفرك قصيرا وحدثنا كثيرا. فأظهر
بفصل خطابه وبلاغة قوله في الجملة الأولى التعطف ودلائل المحبة ، وهي إنما تظهر من
الصديق المحق وتؤثر على المخاطب في مثل هاته المواقع. وأبان في الجملة الثانية
هدية السرور التي يرجع بها الراحل إلى وطنه وليست بعض بضائع باريز ، التي مثلها في
تونس ليس بعزيز. وما هي النقطة المهمة المرادة من السفر. ورغبته في الحديث الكثير
من السفر القصير إيماء إلى أن الفائدة لا تتوقف على السفر الطويل. كما تواردت علي
من خارج المملكة المكاتبات ممن عرفتهم في إعطاء رأيي فيما شاهدته وإظهار كتابة
فيما قيدته أثناء الترحال ليطلعوا على
ذلك. والقوم كما علمت أهل ولع بكل جديد وبما يتحدث به عنهم وما يقال في
عالم الاجتماع. فنشرت في هاته الرسالة بعضا مما قيدته أو عاينته من خصب الأرض الذي
يملؤ العين إعجابا وابتهاجا قبل كل شيء ودرجة الهواء وكثرة العمران ووفرة المعارف
وتهذيب الأخلاق ونمو الثروة ومواصلة العمل ، وألمعت في كل مناسبة إلى طرف من غابر
القيروان وحاضرها حتى يكون الكلام شاملا لمبدأ خط السفر ومنتهاه ، وربما كان
المطالع في حاجة إلى العلم بالقيروان والحديث عنها. والقيروان ملأت الأسماع قديما
وحديثا بالاعتبار والآثار. وسأقص عليك ذكر اعتناء الملوك والعلماء بزيارتها. وفي
عهد الأغالبة وصل إليها وفد سلطان فرانسا شارلمان ، وفي أواخر القرن الثالث عشر
أتاها قنصل الأنكلير بالجزاير ١٢٩٣ ، وأحد علماء الآثار من فرنسا ١٢٩٤ ، والمسيو
كسلان القنصل الفرنساوي الباحث عن الآثار عام ١٢٩٨ قبيل الحماية. وما بين هذين
الزمنين من الأحد عشر قرنا أمر لا يحصى عدّه. وها هي اليوم في دور الحماية قد
ازدادت سمعتها وعظم احترامها وقدرها الزائرون بالمشاهدة حق قدرها ، لذلك أصبحت
وجهة سكان القارات القديمة والجديدة ، يحجونها فرادى وجماعات نساء ورجالا. ولا يقل
عددهم في السنة عن أربعة آلاف ، يستعظمون جامعها الذي مضى عليه فوق الأحد عشر قرنا
، ويستغربون تخريم ألواح منبره الجاثم من أواسط القرن الثالث على يمين المحراب المقامة
جدرانه الداخلية من أواسط القرن الأول ، ويستحسنون شكل ماجلها الأغلبي الكثير
الأضلاع المقارن للمنبر في تاريخ نشأته ، ويتمتعون بصفاء أديم سمائها وطيب هوائها
وقوة كهرباء شمسها وبريق نجومها ، ويقتنون من مصنوعات بسطها وصور بناآتها ،
ويركبون جمالها ويسرون بجمالها. وكثيرا ما يسألون عن كمية سكانها ودرجة ثروتها
ومصنوعاتها ومجمل تاريخها وعوائدها ونظام إدارتها. وقد جعلت عنوان هاته الرحلة «البرنس
في باريز» وسبب التسمية ظاهر ، والكلام بالأواخر. والحديث على القيروان متى عنّت
المناسبة هو طرف من تلك الجملة ، وقوس من دائرة الرحلة ، وتقدمت إلى من افتخرت به
المملكة التونسية على الأقطار «مثلما سمت مملكة الأندلس وهي في دور شبابها وزهرة
علومها منذ ألف عام بقاضيها وعالمها وخطيبها المنذر بن سعيد في العقد الرابع من
القرن الرابع في أيام الملك الناصر الأموي» ، فأصبح القطر التونسي في ظل مولانا
الأمير
المعظم سيدنا محمد الناصر باشا باي أدام الله دولته وأمد بالسعادة مملكته ،
في دور جديد وعصر سعيد في العقد الرابع من القرن الرابع بعد الألف بولاية العالم
الجليل والخطيب المصقع ، والبليغ اللسن والشاعر المفلق ، والسياسي المدرب والمصلح
المتنور الصديق الوفي والنحرير اللوذعي الشيخ سيدي الطاهر ابن عاشور قاضي قضاة
المالكية بالمملكة التونسية ، فرسمت هذا الكتاب باسمه تذكارا بعام ولايته لهاته
الخطة وأداء لما توجبه روابط الوداد من التهنئة التي جعلت هدية هذا الكتاب عنوانا
عنها بدل قصيدة من الشعر الذي أكثر له منه أرباب الود والأدب. وقد رسمت من تلك
القصايد ما أرسل به صديقنا النحرير الفاضل الشيخ سيدي الخضر بن الحسين من دمشق
الشام برسم التهنئة وما نظمه الصديق الماجد الأديب سيدي عبد العزيز المسعودي
الكاتب بالقسم الأول بالحكومة التونسية (برد الله ثراه) ، وهما ركنان من النادي
الأدبي الذي يجمعنا منذ عشرين سنة أقام أركانه ، وأشاد بنيانه ، ونظم عقده وألف
بين قلوب أعضائه متين الود ووفي العهد الشيخ قاضي القضاة أمده الله بروح منه وها
أنا أخاطبه متذكرا أيام النادي ومتمثلا بما لبعض الأدباء :
لقيتك في «ناد»
وأنت رئيسه
|
|
وبابك
للأعلام مجتمع الوفد
|
فإن لم ندر
فيه الكؤوس فإننا
|
|
أدرنا به
للأنس مستعذب الورد
|
جمعتنا حلقات
العلم به في نصف ما قطعنا من الطريق ، فقضينا معه من أدوار الحياة الدور الذهبي
الذي هو من العشرين إلى الأربعين. وها نحن مستقبلون مسافات بقية السفر في هذا
العالم ، ونسأله تعالى فيها الحفظ والعصمة ودوام النعمة. وإليك قصيدة أحد الركنين
من النادي الأدبي الذي أصبحت أخاطبه بمثل ما خاطب به ابن الخطيب صاحبه ابن خلدون
وقد بعدت داره وشط مزاره :
بنفسي وما
نفسي علي رخيصة
|
|
فينزلني عنها
المكاس بأثمان
|
حبيب نأى عني
وصم لأنثني
|
|
وراش سهام
البين عمدا فأضناني
|
قال ابن الحسين
الشاعر المجيد :
بسط الهناء
على القلوب جناحا
|
|
فأعاد مسود
الحياة صباحا
|
أبه محيا
الدهر أنك مونس
|
|
ما افتر ثغرك
باسما وضاحا
|
ونعد ما
أوحشتنا في سالف
|
|
خالا بوجنتك
المضيئة لاحا
|
لو لا سواد
الليل ما ابتهج الفتى
|
|
إن أبصر
المصباح والإصباحا
|
أنست تحت
سماء تونس مزنة
|
|
تحيي بلامع
برقها الأرواحا
|
نشأت بترقية
ابن عاشور إلى
|
|
أوج القضاء
ليستجد صلاحا
|
أنباؤها تغشى
وأفئدة الورى
|
|
تحسو على
نغماتها أفراحا
|
يا طاهر
الهمم احتمت بك خطة
|
|
تبغي هدى
ومروءة وسماحا
|
سحبت رداء
الفخر واثقة بما
|
|
لك من نوايا
تعشق الإصلاحا
|
ستشد بالحزم
الحكيم إزارها
|
|
والحزم أنفس
ما يكون وشاحا
|
وتذود بالعدل
القذى عن حوضها
|
|
والعدل أقوى
ما يكون سلاحا
|
في الناس من
ألقى قلادتها إلى
|
|
خلف فحرم ما
ابتغى وأباحا
|
بادر قضاياها
بفهمك إنه
|
|
فهم يرد من
العويص جماحا
|
وإذا أقمت
العقل قسطاسا فما
|
|
يلفي لديك
أولوا الخداع مراحا
|
يا من ترفع
أن يسوس مباحثا
|
|
بالفكر إلا
أن تكون صحاحا
|
بصر الزمان
بأنك الشهم الذي
|
|
يملي عليه
سعادة وفلاحا
|
فتفتقت
أزراره عن أنعم
|
|
نقشت على قلب
الحسود جراحا
|
وسعت إليك
نظارة البيت الذي
|
|
من روضه نشر
المعارف فاحا
|
فاطرح عليها
ثوب جد إنها
|
|
ظلت تمج كما
علمت مزاحا
|
وإذا الشهامة
خالطت جأش امرئ
|
|
جعلته يصدع
بالحقوق صداحا
|
يا من تموج
نظمه بفصاحة
|
|
فترشفت منه
المسامع راحا
|
أنسى ولا
أنسى إخاءك إذ رمى
|
|
صرف الليالي
بالنوى أشباحا
|
أسلو ولا
أسلو علاك ولو أتت
|
|
لبنان تهدي
نرجسا وأقاحا
|
كأس الهناء
عصرتها من مهجة
|
|
شربت من الود
العتيق قراحا
|
أو لم نكن
كالفرقدين تقارنا
|
|
والصفو يملأ
بيننا أقداحا
|
دامت يد
الأنعام تكسبكم حلى
|
|
شرف وتطلق
للقريض سراحا
|
وها هي قصيدة
ثاني الركنين من النادي الأدبي وقد بت أنشد في شأنه رحمه الله :
لو كان يدري
الميت ما ذا بعده
|
|
بالحي منه
بكى له في قبره
|
غصص تكاد
تفيض منها نفسه
|
|
ويكاد يخرج
قلبه من صدره
|
قال المسعودي
برد الله ثراه :
حري باليراعة
أن تناجي
|
|
عبارات
المسرة بابتهاج
|
وتنسج للهناء
بها برودا
|
|
فتغني الطرس
عن حلل الديباج
|
فهذا الفوز
إذ أوتيت علما
|
|
وحكما قد
توقد كالسراج
|
وأصبحت
العدالة في انتصار
|
|
ودست الشرع نحوك
في انفراج
|
علوت منصة
للحكم فيه
|
|
فكنت لعز
هامته كتاج
|
وحاكيتم ضياء
البدر لما
|
|
تطلع نيرا
والليل داج
|
وكنت
لإفريقية خير قاض
|
|
نفى ظلما
وقوّم ذا اعوجاج
|
وبشر كل من
علم المزايا
|
|
وكان إلى
ارتقائك خير راج
|
وأثنى الكل
عن ملك نبيل
|
|
تخيّركم
لإمحاق اللجاج
|
خطوتم منذ
نشأتكم بخط
|
|
قويم للسيادة
ذي انتهاج
|
وغذيت
المعارف مع كمال
|
|
فأمزجتا بكم
أي امتزاج
|
وزان خلالكم
خلق زكي
|
|
ومجد للنبوءة
ذو انعراج
|
وهاك اليوم
قد أحييت ذكرا
|
|
لجدكم المقدس
بانبلاج
|
فإهنأ بالمنى
وليهن قطر
|
|
بهذا الفوز
والخير المفاجي
|
وعفوا إذ
تأخر وفد شعري
|
|
عن الإتيان
نحوك والتناجي
|
فإن الجسم
أتعبه سقام
|
|
فأصبح وهو
منحرف المزاج
|
ولو لا مسرتي
مسكت يراعي
|
|
لما سكن
اليراع من ارتجاج
|
بقيتم والإله
لكم حفيظ
|
|
وعيشك
والسعادة في ازدواج
|
بواعث السفر ودواعيه
قدمت الكلام في
هذا الموضوع المبتكر في بواعث السفر بين يدي الحديث على
أيام الترحال وأرجو أن تكون فيه فائدة ولم أر من رسمه في طالعة كتاب ، أو
نوع ومثل جزيئات الأسباب باستيعاب. وإن لم أبسط القول كما ينبغي في هذا المجال
المتسع واقتصرت على ما أمكن وقنعت برسم المثال وتخطيط الأساس ، وعسى أن أشبع القول
في مناسبات قابلة إن شاء الله تعالى ، وهو ولي الإعانة والتوفيق. غالبا يكون السفر
للأسباب الآتية :
١. المال ـ كالتجارة
، التغلب والاستيلاء ، ما ينشأ عنه من نزوح بعض السكان الأصليين ، الاستجداء
بالشعر والتأليف.
٢. العلم ـ كطلب
الفنون والصنائع ، حضور المؤتمرات ، المداواة ، تطلّب الأقاليم الملائمة للصحة في
بعض الفصول ، استطلاع أحوال الأمم النائية ومعارفها ودرجة عمرانها ، وهو سفر
الاعتبار والاطلاع على الآثار.
٣. الدين ـ كالحج
والهجرة ، الفرار من الاضطهاد في المال أو النفس في أيام الحروب.
٤. لشئون
سياسية ـ كتولي الخطط بالأقطار البعيدة ، السفارة بالهدايا أو للصلح أو للاستنجاد
، تبادل الزيارات بين الملوك ، النفي والأسر.
٥. لأمور أدبية
ـ كزيارات الأقارب والأودّاء لإزالة الشوق وتمكين المحبة والوفاء بالعهد. أسفار
الزفاف عند بعض الأمم.
١ ـ فالتجارة
قديمة العهد يميل لها الأفراد والجماعات والسفر لها إذا كان متخطيا ما جاور أو قرب
تكون الأرباح فيه أكثر. أما التجارة البسيطة فتكون حتى للمجاور أو في جهات القطر ،
وأفراد هذا القسم وإن كانوا أكثر إلا أن ربحهم أقل لكون حياتهم في أمن ومعاناتهم
للشوق والمشاق أقل ، وأوفر ما تكون الأرباح في الفجاج المخوفة ، والمسافة الغير
المعروفة ، والأمم الغير المألوفة ، وبقايا من تلك فيما بين المملكة التونسية
وسودان الصحراء الكبرى ، وهي بلاد التبروسن الفيل وريش النعام وغير ذلك مما خص
الله به تلك الأصقاع التي سادت فيها السذاجة واسودت فيها الأجسام واكفهرت العقول
بقدر ما صفا فيه الجو وضحكت النجوم وتجملت الغزالة. ولصاحبنا السيد علان النبيه
النشيط نزيل قابس الآن «والذكاء والتجارة من قديم في الشرق
عموما والعراق خصوصا» علم بما يروج في تلك الأقاليم ويجلب منها ، وخبرة
بطرقها وحداء نوقها ، حدثنا عنها كثيرا بغرائب وعجائب ، وربما كان من أسباب
الأرباح الطائلة في التجارة الحروب في بعض الأقار لكثرة الحاجة وانقباض المخاطر
بماله وحياته وقلة الناض ومثل ذلك سنوات الجدب والمجاعة. وفي جميع هاته الأحوال
تباع النفائس ما عدا المأكولات ومواد الحرب بثمن بخس لما قررناه ، والغريب أن
الحرب موت لأجل الحياة ، وارتفاع الأسعار فيها لمواد الحياة والموت. وقد سافر
الأنبياء عليهم السلام والعلماء للتجارة وهي من أسباب الغنى وعلامة على نشاط الأمم
وحزم الأفراد. وقد قرروا أن السواد الأعظم من الذين رفعوا منار العرب والعربية
ووضعوا قواعد الفخر الباقي كانوا من أهل السياحة والتجارة. ومن أروبا الآن تسير
القطارات والسفن مفعمة بالمصنوعات إلى أطراف القارات وفي يد أفرادهم وهم يجوبون في
كل مكان كتب بها أمثلة وصور وأسعار كل ما يطلب ترويجا للبضاعة واستدرارا للأموال (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبا). والقيروان من قديم محط ركاب التجارة من المشرق والمغرب
والسودان لتوسط الموقع وثروة السلطنة وتعدد نتايج قطرها ومصنوعات سكانها. من ذلك
جيد الحبوب ورفيع الزيت وفايق التمر وفاره الحيوان وغريبه ، وأنواع الطّيب وأصناف
المنسوجات الصوفية المتقنة. وإلى الآن شيء من ذلك كالبسط بالقيروان والقطيفة
بالهمامة والأردية والأكسية والبرد والبرانس الخفيفة بالجريد وشبه هذه بجربة.
والبرانس الشتوية بالكاف ودقة. وابن خلدون أشار إلى هذا في شأن جربة بقوله : واختصت
جربة بالنسج وعمل الصوف للباسهم فيتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال وغير
المعلمة للباس ويجلب منها إلى الأقطار. والرياسة بها على الكل لبني النجار من
الأنصار من جند مضر ، ولاه معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين فقدم إفريقية وفتح
جربة سنة سبع بعدها. وللمصنوعات الخزفية ونقوشها وأشكالها من عهد الرومان بإفريقيا
رونق بديع لا زالت بقايا منه في المتاحف ويستخرجها إلى الآن سكان البادية من
مقابرهم بما لا يقل لونها الأحمر القاني عن المصنوعات الملونة الآن بنابل ظرفا
وبهاء. ومن أهم صادرات القيروان بالخصوص الصوف لكثرة الحيوان الذي يجد في ساحتها
وبسائطها نبتا طيبا ومناخا فسيحا.
ومن المشتهرين
الآن بالأسفار من القيروان إلى أروبا للتجارة السيد الحاج حسين
النخلي الذي تكررت رحلاته إلى الشرق والغرب. ومن تونس صديقنا الماجد السيد
الحبيب ابن الشيخ النشيط الشهير المتجول في القارات الثلاث. وصاحبنا النشيط السيد
محمد جمال بتونس الذي اجتمعت به في فيشي ناسجا على منوال والده الحازم ينشر
البضايع الشرقية في المصيف بأروبا وفي الشتاء في صحراء الجزائر ببسكرة التي يقصدها
الأروباويون ، فهو يصطاف بلد الثلج ويشتو بلد التمر. والتجارة ربح وراحة ، والسيد
الشاذلي الخلصي بتونس والسيد عبد الرحمان اللوز بصفاقس ، والسيد علاله ابن الحاج
الرحالة سنويا بالعطورات التونسية إلى أروبا. وقد شاهدت مركز دكانه في المجكستي
بباريز وحسن الذوق في تنسيقه وطيب الرايحة التي قاد بها الأنظار ، وجمع حوله سكان
باريز في الليل والنهار. وفي تجارة الكتب والسفر لجلبها وترويجها ، وبالأخص للنفيس
منها والعتيق الغريب يد طولى لصاحبنا السيد محمد الأمين الكتبي ، وشيخ الجميع
الثقة الخبير سيدي الحاج محمد المبزع الذي شد الرحال إلى الهند وبغداد
والقسطنطينية وأروبا. وفي القديم سافر محمد بن سعدون القيرواني في أواسط القرن
الخامس بقصد التجارة فطاف بلاد المغرب والأندلس وهو من أهل العلم والتأليف.
وأكثر أصحاب
الاغتراب في التجارة بالمملكة التونسية أهالي صفاقس وجربة والمنستير ، وأبناء
البلد الأخير مثل أبناء مدينة نابل وقرى الساحل ممن يستسهلون الاغتراب في طلب
العلم وتولي الوظائف كما سيأتي في القسم السياسي.
وقد يكون السفر
لطلب الرزق بالممالك البعيدة التي تحتاج لأرباب الحرف والصنائع إما لثروة تلك
المملكة وكثرة أعمالها التي تستلزم الاستعانة بأيدي أفراد البشر النائين أو
لافتقار السكان الأصليين لمن يستخرج كنوز أراضيهم ويدير دولاب شئونهم الداخلية.
وهكذا كانت
القارة الجديدة «أمريكا» ، ولا زالت إلى الآن في دوري تأخرها وترقّيها وجهة
المهاجرين من القارات القديمة حتى عبر عنها بعض أرباب الرحلات ببلاد الذهب. وهذا
المعدن الشريف نور يتهافت عليه فراش البشر في ليل الحياة المدلهمة التي لا يعرف
صاحبها أين يذهب ، ولا في أي مكان يبيت أو يصبح ، فكلما لاحت له بارقة نجاح طار
إليها.
والمهاجرون من
أروبا لهذا الغرض على النسبة الآتية وأكثرهم من إيطاليا لكثرة النسل وحاجة الأمة ،
وأقل المفارقين لمملكتهم أمة فرنسا لثروة الأمة وحضارة العنصر وخصب التربة وحرية
الجنس وعدل الحكومة. وحق لمن كانت هاته حالة أمته ومملكته أن لا يفارقها أو يرضى
بما سواها بديلا ، وأماني الحكماء ومدائح الشعراء تقول :
وكنت فيهم
كممطور ببلدته
|
|
يسر أن يجمع
الأوطان والوطرا
|
وإليك جدولا في
المهاجرين من أروبا بالنسبة للمائة ألف :
١٥ فرنسا
٤٥ ألمانيا
٥٠ هولانده
١٤٠ السويس
١٧٠ الدانمارك
٤٨٠ السويد
٥٣٠ إسبانيا
٥٣٠ البرتكال
٥٤٦ النمسا
٥٩٠ انكلتيرا
٨٤٠ النرويج
١١٢٠ إيطاليا
وفي السنوات
الأخيرة كثر سفر الراغبين في الاسترزاق إلى جهات المغرب الأقصى بعد ما مدت عليه
دولة فرانسا جناح الحماية وظلّ أمن السبل ، وسرت فيه روح العمران ، وتدرجت فيه
حرية العمل وتعارفت أبناء البشر على أديم تربته. والحياة ميدان عمل ، فكما أن
العلم يطلب ولو بالصين ، وهو حياة للروح ، كذلك منافع حياة
البدن واستدرار الأرزاق تركب إليها متون البحار إلى سائر الأقطار.
إذا نزل
الربيع بأرض قوم
|
|
رعيناه ولو
كانوا غضابا
|
٢ ـ والتغلب والاستيلاء يكون في
دور العصبيات أو الوطنية التي قامت مقامها في القرون الأخيرة ، واتساع المطامع وحب
السيادة ، ويكون على المجاور قبل البعيد حفظا لخط الرجعة ، ويدل على ما للدولة أو
الأمة من قوة الساعد ومضاء العزيمة وبذل الدماء العزيزة لتشترى بها الأموال
الغزيرة. أما في دواخل المملكة الواحدة فهو عيث وفساد ومن علامات ضعف الحكومة
وانشقاق وحدة الأمة وافتراق كلمتها واختلاف جماعتها واستعدادها للفقر للعاجل ،
والانخذال أمام كل طارق أو منازل. وفي دور الحماية انقطعت مشاغبات القبايل
بالمملكة التونسية وتمهدت طرق الأمن وعمرت الطرقات في القفر مثل شوارع المدن.
ومن الذين طوحت
بهم الأسفار في الفتوحات من العرب فيما يرجع لإفريقيا عبد الله بن سعد بن أبي سرح
سنة ٢٧ والعبادلة الذين معه وأبناء فاطمة الزهراء ، وجيشه الذي به عشرون ألفا
اجتازوا صحراء برقة من مصر وتجازوا قابس وصمموا على سبيطلة بعد الاستراحة في بسايط
القيروان الآن. ورجعوا بعد خمسة عشر شهرا بثلاثمائة قنطار من الذهب صلحا أو
مليونين ونصف من الدنانير التي ضربها جرجير باسمه وصورته مستبدا على القسطنطينية ،
عدا ما ناب الفرس وهو ثلاثة آلاف دينار وفارسه ألف دينار والراجل ألف وكذا الخمس
أربعمائة ألف دينار. ثم جيش عقبة بن نافع عام ٦٢ إلى شاطئ المحيط الأطلانتيكي الذي
خاضه بقوايم فرسه بعد أن سبح في بحار الرمال بالسودان.
ثم موسى بن
نصير سنة ٩٣ من القيروان ، وابنه عبد العزيز من بعده إلى دروب جبال البيريني
وفجاجها حتى مسك بعنان فرس موسى حنش الصنعاني وذكره في عواقب الإبعاد في الترحال
وما جرى لعقبة من تألب أمم البربر عليه وسد الطرق في وجهه عند رجوعه. ومعلوم أن
الإيغال في الفتح والإبعاد في السفر ، من أسباب الخطر. وسيأتي ما جرى لأبي الحسن
المريني ملك المغرب الأقصى لما رام ضم
إفريقية إلى سلطنته الطويلة العريضة البرية والبحرية. فآب موسى عام ٩٤ وهو
يجر الدنيا وراءه بذخاير ملوك إسبانيا على مائة وأربع عشرة عجلة تتداول عليها
الأزواج في كل يوم بعد أن قال لحنش ما معناه : لو تركتموني لوقفت بكم على أبواب
رومة ، وهي أعظم مدينة بأروبا في عصرها.
ثم جيش أسد ابن
الفرات في البحر عام ٢١٢ إلى جزيرة صقلية ، ثم القايد جوهر الكاتب الصقلي رمى به
المعز لدين الله العبيدي المغرب الأقصى فدوخه ثم شرق إفريقيا الأقصى ، وهو مصر ،
فافتتحه عام ٣٥٨. وأسس مع دعائم الملك جدران الجامع الأزهر عام ٣٥٩ ، ونقل إليها
المعز لدين الله كرسي خلافته عام ٣٦٢ من صبرة منصورية أبيه الملاصقة لمدينة
القيروان ، والآن مكسوة الأطلال بتين الهندي. ومن الأفراد الذين نجحوا في التغلب
على الممالك وتأسيس الدول بها عبد الرحمان الداخل الذي أقام خلافة بالأندلس بعد أن
فرّ بدمه في ظهور الدولة العباسية وخلص إلى المغرب عام ١٣٨ وسماه أبو جعفر المنصور
صقر قريش. كما قال فيه لمناسبة أخرى : الحمد لله الذي جعل البحر بيننا وبين هذا
الشيطان. وإدريس الذي نجا في واقعة فخ بجهات مكة من العباسيين إلى إفريقية وظهر
أمره المغرب الأقصى عام ١٧١ ، وأقام دولة له ولبنيه قاعدتها مدينة فاس. وعبيد الله
المهدي عقد النية من مكة مع ابنه أبي القاسم على مداخلة البربر والدخول لبلادهم ،
وبعد أن سجن في سجلماسة آل أمره إلى تأسيس خلافة عبيدية بالقيروان فوق الستين عاما
، إلى أن انتقل رابع بنيه إلى مدينة القاهرة المعزية بمصر ، وأناب يوسف بلكيز بن
زيري بن مناد على إفريقية ، وأوصاه على أن لا يرفع السيف على البربر ولا الجباية
على أهل البادية وأن لا يولي أحدا من أقاربه. ولكن ذريته من بعده خالفوا الوصية
فالتوى عليهم الأمر وانقسم ملكهم ونكروا الجميل أخيرا لأولياء نعمتهم ، فعاد على
المملكة من جراء ذلك ما سيتلى في استيلاء العرب من هلال على إفريقية بأواسط القرن
الخامس. والمهدي ابن تومرت الذي آب من آسيا مملوء الوطاب من تعاليم الإمام الغزالي
واخترق إفريقيا بحرا متفجرا من علم ، وشهابا واريا من دين ، وأسس الدولة الموحدية
بالمغرب الأقصى التي ضمت جناحيها على عدوتي الأندلس وإفريقيا في أوايل القرن
السادس.
أما الأمم التي
تغلبت على إفريقية أي المغرب الأدنى المعروف بالمملكة التونسية وعلى البرابرة
السكان الأصليين ، وهم أبناء حام بن نوح الذي دعا عليه أبوه نوح بأن يكون ذريته
عبيدا وخولا لولد أخويه سام ويافث ، وكان دينهم المجوسية إلّا في بعض الأحايين
يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم ، ولا يعلم عددهم وآماد أجيالهم إلّا من خلقهم.
فيقال أول من غزاهم عرب اليمن وإن إفريقيا نسبة إلى إفريقش. قال الحموي : ذكروا أنه
لما غزا المغرب انتهى إلى موضع واسع رحيب كثير الماء فبنى هناك مدينة وسماها
إفريقية اشتق اسمها من اسمه ، ثم نقل إليها الناس ثم نسبت تلك الولاية بأسرها إلى
هذه المدينة ، ثم انصرف إلى اليمن فقال بعض أصحابه :
سرنا إلى
المغرب في جحفل
|
|
بكل قرم
أريحي همام
|
نسري مع
إفريقش ذاك الذي
|
|
ساد بعز
الملك أولاد سام
|
قالوا فلما
اختط المسلمون القيروان خربت إفريقية وبقي اسمها على الصقع جميعه.
ثم ملوك العرب
الرعاة بمصر حوالي سبع عشرة مائة قبل المسيح ، ولكن لم يبق من أثر مدون يخبر
بتفاصيل هذا الاحتلال وتحقيقه.
والفنيقيون
بدأوا أمرهم بالتجارة بإفريقيا ، وهي من مقدمات الاستيلاء للتعرف بطرق البلاد
والاطلاع على مكامن الضعف وترقّب الفرص واتخاذ البطانة وتسريب الأموال للأعوان
والأدلاء ، فدامت دولتهم من سنة ٨٨٠ ق م إلى سنة ١٤٦ ق م ، ثم أمة الرومان من سنة
١٤٦ ق م إلى ٤٣٩ سنة ب م ثم أمة الفندال ٤٣٩ ـ ٥٣٤.
ثم الروم «الكريق»
٥٣٤.
ثم العرب ٢٧ ه
، وقد تقدم ذكر عبد الله بن أبي سرح.
ثم قبايل
الهلاليين لما أمر المعز بن باديس بلعن عبيد الله في الخطب ، فخطب قاضي مدينة صبرة
وإمام الجامع الأعظم بها القاضي محمد بن جعفر وقال : اللهم والعن الفسقة الكفار.
وأمر السلطان خطيب جامع القيروان أن يفعل مثل ذلك على
المنبر في الجمع في كل خطبة. ثم محا سكة العبديين وكتب على السكة (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً) ذكر ذلك ابن خلدون وابن الخطيب ، وقرأت على دينار من
أيام المعز بن باديس بدائرة أحد وجهيه (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى
اللهِ ،) وفي الوسط ثلاثة أسطر لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك
له ، محمد رسول الله. وبدائرة الوجه الثاني ضرب بمدينة عز الإسلام والقيروان «هكذا»
سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ، وفي الوسط ثلاثة أسطر (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ). قلت وعلى عضادتي باب تونس بالقيروان إلى الآن كتابة
كوفية يستفاد منها تاريخ البناء ٤٣٧ على يدي أمين الدولة وصفي الخاصة أحمد ولفظ «هذه
مدينة عز الإسلام» ، وحيث إن التاريخ أثبت أن بناء سور القيروان عام ٤٤٤ ، وأن
السور الذي بني عام ٤٢٧ وسور مدينة صبرة على ما ذكره ابن عذاري ، وعلما بأن المعز
ابن باديس كانت إقامته بمدينة صبرة فالذي يظهر أن عضادتي باب تونس الآن هما من
بقايا باب مدينة صبرة خصوصا إذا نظرنا إلى ما في نقوش دنانير المعز من عطف
القيروان بالواو ، وعلى مدينة عز الإسلام ، فتتحتم المغايرة بين المعطوف والمعطوف
عليه ، ويكون المراد بمدينة عز الإسلام هي صبرة لسكنى المعز الصنهاجي والمعز
العبيدي قبله بها. وهي تأسست ٣٣٧ عند تغلب المنصور العبيدي على أبي يزيد النكاري
صاحب الحمار الأبيض. كتب للمعز وزير المستنصر العبيدي : أما بعد فقد أنفذنا إليكم
خيولا فحولا ، وأرسلنا عليها رجالا كهولا ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وكان
المعز عند ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين ، فلم يكن مجربا للأمور ولا بصيرا
بالسياسة ولا كانت فيه عزة وأنفة ، هكذا قال في شأنه ابن خلدون. وبعد أن طمى سيل
العرم وهزموا بثلاثة آلاف جيش المعز البالغ ثلاثين ألفا نجا المعز سنة ٤٤٩ إلى
المهدية بنفسه. وترك صبرة والقيروان نهبة للأعراب الذين سرحهم العبيدي فخربوا
بناءات إفريقية واكتسحوا أشجارها وعاثوا في أطرافها وأفنوا سراتها واستبدوا
بخيراتها ، فانذعر الساكن وعفت الرسوم وهاجرت العلماء إلى الأقطار البعيدة ، ومن
بينهم الشاعر الشهير ابن رشيق ، ولم يبق بمدينة القيروان على ما ذكروا إلّا رجل
واجد يترنم برثائها ليلا في صومعة جامعها. قال السيد البشير صفر في جغرافيته : بلغ
عدد سكان المملكة على عهد الرومان إلى ستة ملايين ، واستمر هذا العمران إلى
أن كانت الفتن العظمى بهجوم الأعراب الوافدين من مصر. قلت وتحرير هذا
الحادث الجلل على القيروان أنه في يوم الاثنين عيد الأضحى خرج المعز إلى جهة قرية
هلال صباحا ، وفي نصف النهار بلغه قرب العرب فأمر بالنزول في أوعار وأودية ،
وعاجله العرب وحملوا عليه فانهزم العسكر وصبر المعز ، ومات من العبيد لديه خلق
كثير وانتهبت العرب النقد والأمتعة والخف والكراع ، وكانت الأخبية نحو عشرة آلاف ،
والجمال نحو خمسة عشر ألفا ، والبغال لا تحصى ، وسلك أكثر الناس جبل حيدران ، «ومن
ينبئنا أين هو الآن؟ وفي ثالث العيد بلغ الخبر للقيروان ، وفي السابع عشر من الشهر
انتقل سكان صبرة للقيروان وأسكن السلطان العساكر والصنهاجيين بها بعد أن أخرج
السكان من القيروان. وقعة باب تونس : خرج العامة لمدافعة العرب إلى هذا الباب بسلاح
وعصي لا تدفع ضعاف الكلاب على ما ذكره ابن عذاري ، فحملت عليهم العرب بالسيوف
والرماح فتساقطوا على وجوههم وجنوبهم ، فقامت النوايح والنوادب بكل جهة من أزقة
القيروان تنصدع لمنظرها وسماعها الجبال ، وسودت النسوة وجوهها وحلقت رؤوسها ، فكان
هذا اليوم يوم مصائب وأنكاد لم ير الناس مثله في سائر الأمصار ، وفيما مضى من
الأعصار ، قال ذلك ابن شرف القيرواني. قلت مثل هذا وقع للقيروان عام ١١١٢ على عهد
مراد بوبالة أي بعد نحو ستمائة وستين عاما حيث أباحها إلى خليل صاحب محلة طرابلس ،
فسبى نساءها وذراريها وأخرج رجالها إلى ذراع التمار وقتلهم ، وتركها خاوية فحرثها
مراد ولم يبق إلّا على المساجد والزوايا.
وإذا نظرت
إلى البلاد وجدتها
|
|
تشقى كما
تشقى العباد وتسعد
|
والذي أحيى
عمارتها هو حسين باي ، الرجل العظيم مؤسس الدولة الحسينية أدام الله عزها. وبقيت
إفريقية مجالات للعرب من سليم. وهوارة من البربر مغلوبون تحت أيديهم وقد تبدوا
معهم ونسوا رطانة الأعاجم وتكلموا بلغات العرب ونحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم ،
قرر ذلك في شأنهم ابن خلدون. ثم الصقليون على شواطي المهدية قاعدة الملوك
الصنهاجيين في أيام ضعفهم وعجزهم على ما حوالي المهدية عند ما انتزى العرب على
سلطنة القيروان وشردوا سلطانها المعز بن باديس إلى
المهدية ، وخربوا بلدان مملكته واكتسحوا أشجارها وطمسوا معالمها ، واستبدوا
بكورها ولم يبق ولذريته من بعده إلّا ما حوالي مدينة المهدية ، وكانت أعظم الوقايع
على المهدية سنة ٥٤٣ أتاها أسطول رجار في ثلاثمائة مركب فاستولى عليها قايده جرجي
ابن مناسل. قال ابن خلدون : وكان مذهب رجار وديدنه فيما ملك من سواحل إفريقية أن
يبقيهم ويستعمل عليهم منهم ويذهب إلى العدل فيهم. وقال قد تقرر أن الدولة في أول
أمرها لا بد لها من الرفق في مملكتها والاعتدال في إيالتها. وفي سنة ٦٦٨ نزل صان
لوي التاسع ملك فرانسا بأطلال قرطاجنة ومعه حارل ملك صقلية وتيباط ملك نبارة ،
هاكذا سماهم رسم الصلح المنعقد مع محمد المستنصر الحفصي بتاريخ الخامس لربيع الآخر
عام ٦٦٩ ، وبه معين الصلح معهم ومن انضاف إليهم مثل الأنبرور بادوين صاحب قسطنطينة
، وانفوس كمت طلورة ، وكي كمت دامفدر ، وهري كمت لوسنبرك ، مائة ألف أوقية ذهبا
وعشرة آلاف أوقية ، ويقبض عن كل أوقية خمسون درهما بدراهمهم. قلت وإذا اعتبر ثمن
الكرام ثلاثة فرنكات (والأوقية ثلاث وثلاثون كراما) ، كان ثمن الأوقية مائة فرنك ،
فيكون مال الصلح واحدا وعشرين مليونا من الفرنكات ، ومدة الصلح خمسة عشر عاما
شمسية مبدؤها نونبر الموافق لشهر ربيع الآخر المذكور ، وأن يؤدي الحفصي إلى ملك
صقلية عن خمسة أعوام ماضية ما كان يودي للأمبرور سواء ، وفي المستقبل يودي له ما
كان يودي للأنبرور مثنيا. قال ابن خلدون وكانوا زهاء ستة آلاف فارس وثلاثين ألفا
من الرجالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله ، وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين
كبار وصغار ، فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة ، وكانت ماثلة
الجدران ، ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضدوا شرافاتها. وسرح
إلى السلطان محمد بن عبد القوي عسكر بني توجين لنظر ابنه زيان ، واتهم السلطان
بالتحول عن تونس إلى القيروان. قلت وبنو توجين بجبل ونشريس بالمغرب ، وقال أيضا
وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأول سنة تسع وستين ، فتولى عقده وكتابه
القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاما ، وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز
وزيان بن محمد بن عبد القوي أمير بني توجين. ونقل ابن خلدون أن مال الصلح عشرة
أحمال. قلت وبفضل الاعتناء بفرنسا على الآثار قد أمكن الاطلاع
على رسم الصلح الذي نشرنا مضمونه. قال وأمر الحفصي بتخريب قرطاجنة وأن يوتى
بنيانها من القواعد فصيّر أبنيتها طامسة. قلت ويحقق أنه عرض لذلك الجيش مرض الوباء
وأنه انتشر إلى المتحاربين ما قرره ابن ناجي في ترجمة الشيخ عمار المعروفي دفين
أريانة قائلا : لما نزل الافرانسي وشرون «كذا» بتونس سنة ٦٦٨ بجيوش النصارى ، توجه
عمار المعروفي وسالم القديدي في جمع كثير من الناس. فلما وصلوا إلى قرب تونس نزلوا
بأريانة وضربوا خيامهم إلى أن انقضت المقاتلة ووقع الصلح بينهم وبين أمير المومنين
المستنصر بالله ، ثم حدث بالشيخ أبي عمار مرض استرسال ببطنه فأقام الشيخ سالم
بسببه هناك أياما إلى أن مات فدفنه بها.
ثم الإسبان على
الشواطي من عام ٩٤١ ـ ٩٨١.
ثم الترك
استنجد بهم أهل القيروان في أواسط القرن التاسع على الشابية الذين ساموا أهلها سوء
العذاب فشردهم عنهم حيدر باشا الذي ضرب السكة الحيدرية بالقيروان ، ثم احتلوا تونس
عقب الإسبانيول من عام ٩٨١.
ثم دولة فرنسا
سنة ١٢٩٨ و ١٨٨١ بمعاهدة باردو يوم الخميس في ١١ جمادى الثانية و ١٢ مايه. وقد ذكر
فصولها الكاتب الكبير والمؤرخ الخبير سيدي محمد بن الخوجة في الرحلة الناصرية. قلت
بلغوا القيروان في يوم الأربعاء الثالث من حجة الحرام عام ١٢٩٨ وقت الزوال ، وكبير
المحلة الأولى القادمة من جهات سوسة شرقا الجنرال لوجرو ، ودخل المدينة من باب
الخوخة مع عامل المدينة الفريق المنعم أحد رجالات المملكة وأصهار العايلة السيد
محمد «بالفتح» المرابط ، والعساكر ضربت جوفي المدينة بإزاء زاوية أبي يوسف
الدهماني ، وفي ٥ يوم الجمعة وصلت محلة من الجوف لنظر الجنرال سوسي ، وفي ٧ يوم
الأحد بلغت محلة الغرب لنظر الجنرال فرجمول. قلت ومرت عساكر الحماية بعيد ذلك على
جهات ورتتان وبني عيار. عهدي بالسيد خضر بن علي من فحص أبة ووالدنا في سرى ورتتان
، وأنا دون الاثغار ، بدأت في التعليم بمنزلنا ، وقد طارت بهما مع رجال القبيل من
الأقارب والأصهار والأعياص عقبان خيلهم ، وجياد خيل ورتتان لها شأن من قديم الزمان
يحق أن تقرأ عليها :
عرايس أغنتها
الحجول عن الحلى
|
|
فلم تبغ
خلخالا ولا التمست وقفا
|
فمن يقق
كالطرس تحسب أنه
|
|
وإن جردوه من
ملاءته التفا
|
وأبلق أعطى
الليل نصف إهابه
|
|
وغار عليه
الصبح فاحتبس النصفا
|
ووردي يغشى
جلده شفق الدجا
|
|
فإذ جازه دلى
له الذيل والعرفا
|
وأشقر مج
الراح صرفا أديمه
|
|
وأصفر لم
يسمح بها جلده صرفا
|
وأشهب فضي
الأديم مدنّر
|
|
عليه خطوط
غير مفهمة حرفا
|
كما خطط
الراهي بمهرق كاتب
|
|
فجر عليه
ذيله وهو ما جفا
|
ترى كل طرف
كالغزال فتمتري
|
|
أظبيا ترى
تحت العجاجة أم طرفا
|
تناوله لفظ
الجواد لأنه
|
|
على ما أردت
الجري أعطاكه ضعفا
|
لعبت في أثناء
التعليم الابتدائي دورا على صهواتها في عهد الصبى ، بتلك البسايط والربى ، والخيل
أعز مركوب ، وأنفس مكسوب :
أعز مكان
منتقى سرج راكب
|
|
وخير أنيس في
الزمان كتاب
|
استنزلت تلك
اللمة بعض القبايل الدخيلة والعائثة من صياصي جبال الزيتونة جوفي العين البيضاء
وشعاب البعلية على الثنيات المفضية من الخنقة إلى جبل العمود ، فانسدل الأمن على
تلك الجبال وقصورها ذات النسيم المعطر بالشيح والقيصوم والماء الفرات ولا مياه
كرونوبل :
بلاد بها
نيطت علي تمايمي
|
|
وأول أرض مس
جلدي ترابها
|
وقد أنعمت
الحكومة بوظايف خصت والدي من بينهم وظيفة القبيل الخاص ، وبعد ذلك استكفى به السيد
خضر بن علي عامل ورتتان البعيد عن مواطن السرى في مهمات كافة العمل لما لقبيلنا
الخاص ، وهم من ذرية عيسى بن الأكحل من الساقية الحمراء بالمغرب الأقصى من السمعة
والاحترام والنباهة في تلك العروش من سالف القرون ، مستوطنين بين قبائل البربر
جنوب أبة والقصور وشرقي فحص مرماجنه وجبل الحناش ، وهذه مجالات هوارة من قديم وكان
ثالث جمعهما ومصقلة رأيهما وبيت نجواهما ومودع سرهما أحد رجالات المملكة خبرة
واعتبارا الشيخ عمار بن علي النوري من بيوت العلم والمجد بالقصور. ولقبيلنا امتياز
بانتحال العلوم والأخذ بطرق الصلاح ، وجدنا الأعلى هو علي بن القروي صالح تلك الجهة
ومقصد التماس التبرك ومدفن القبائل المحيطة في حوالي تربة ضريحه رجاء الرحمة من
الخالق في جواره ، وابنه القروي جدنا الأدنى هو عالم جهته وثقة نشأته. أعطت
الإدارة العسكرية بطاقات خاصة إلى منازل الأعيان بالقيروان في مبدء الأمر.
وفي ١٨ يوم
الخميس رحلت محلة الجنرال لوجرو إلى الجريد ومعها نائب عن المنعم السيد الفريق
المرابط الممتد عمله من القيروان إلى واحات قصطيلية. وفي ٢٠ يوم السبت سافرت محلة
إلى الأعراض ومعها عين رجالات العرب وطائر السمعة في النباهة والوجاهة السيد عبد
الرحمان زروق من قبيل الرماضنية وعرش أولاد يدير الجائلين في جنوب القيروان ، فكان
خير واسطة أرشد الأهالي إلى صالحهم وحذرهم مغبة أمرهم ، وسعى من جهة أخرى على ما
يقال لجلب الصالح العام وصار الحاكم العسكري بالمدينة الجنرال إتيان ، واتصل
التلغراف بين سوسة والقيروان يوم ٢ محرم عام ١٢٩٩ ، وبعده ربطت سكة حديد بين
المدينتين تجرها الخيل ، وأخذت هاته الدولة في إجراء الإصلاحات وتمهيد الطرقات.
ومن فارق المملكة في تلك الهيعة لظن بدا له رجع لها مغتبطا ، أما الذين خرجوا من
القطر على عهد دخول العرب من مصر أواسط القرن الخامس ، وبالأخص العلماء الأجلاء
مثل ابن رشيق وابن شرف ، فلم
يرجعوا حيث رأوا الظلم عيانا وتخريب المملكة جهارا ، فقد أقفرت المملكة
وأجدبت بذهابهم ، وفقد أهل العلوم وأرباب الصنايع نقص في العمران وهدم للحضارة.
ومن هذا العهد صار للمملكة وللقيروان بالخصوص تاريخ جديد أساسه الأمن ورائده العلم
، فيه تعارفت الأمم واقتبست المعارف وانطلقت الألسن وجرت الأقلام ودونت الأخبار ،
وسهلت الأسفار وطبعت التاليف ورقيت الصنائع وأتقنت الفلاحة ونمت الغراسة وحفظت
الصحة ودونت القوانين ، وها هي المملكة بعد جيل من ذلك التاريخ تتفيأ ظلال الأمن
متسنمة ذرى الرقي.
٣ ـ وقد تكون
مفارقة الوطن فرارا بالمال الذي يخشى صاحبه على العادية عليه وخروجه من يده فتهون
على النفس مفارقة الوطن حبا في المال حبا جما ، وهو في الدرجة الرابعة والوطن في
الدرجة الخامسة فيما يظهر في منازل القرب من النفس.
وأولها الدين
ثم العرض والشرف ، ثم الحياة ثم المال ثم الوطن. وكل واحدة من هذه يضحى له ما بعده
ويهون فقده للإبقاء على السابق منها دون العكس ، مثل العرض ولشرف تضحى الحياة
والمال والوطن لأجله أما الدين فلا. والحياة يضحى المال والوطن دونها أما الشرف أو
الدين فلا :
يهون علينا
أن تصاب جسومنا
|
|
وتسلم أعراض
لنا وعقول
|
وهذا لا يكون
إلّا في أيام الدولة المنحرفة عن واجبات العدل والعمران فتمتد أيدي الولاة لأرباب
الأموال أو في زمن ضعفها وعجزها عن كف هجمات النهب وقطع أيدي السرقات ، وبذلك لا
يأمن السكان على أموالهم فتجدهم لا يظهرونها في هاته الأدوار للانتفاع بها في
التجارة ونحوها خوفا من الغايلة جهرا أو خفية. فمن نامت عنه أنظار التفتيش على
كنوز الأغنياء وجهلت منه أرباب السعايات والغايات مدافن معادنها استنام وأخلد إلى
زوايا منزله يأكل ماله درهما بعد درهم ، وربما لابست هاته الصفات بعض الأغنياء حتى
في أدوار العدل ، وهو أمر مشاهد في بعض الأفراد مع كمال الأمن على الأموال وحرية
الأعمال في دور الاحتلال لما ألفته نفوسهم من خلال الخوف على إظهار المال مع
القصور عن التعرف بطرق الانتفاع بالناض منه. والدنانير كالرجال لها طرق في أسفارها
متى علمت واعتيدت كان
سلوكها من أسباب نجاحها ، والربح في غدوها عليها ورواحها. أما الجهل بذلك
فيصل منه إلى أدمغة الرجال زمهير الجمود ، وإلى قلب المال لام الجحود.
ومن توجهت نحوه
سهام المطامع ، ولم يجد لها من مدافع احتضن ماله وطار إلى منازل الأمن واستنشاق
رياح الراحة :
إذا ناكرتني
بلدة أو نكرتها
|
|
خرجت مع البازي
علي سواد
|
وقد جرت قوانين
الأمم الراقية ذيلها على آثار العادات المؤلمة من المصادرة للمتوظفين في المال ،
وأسدلت ستار الإنصاف دون تلك الروايات المدهشة. ومن هذا يتجلى أن الأمة في تلك
الأدوار تفقد المال من عدم الاستعمال كما تفقد الرجال في بعض الأحوال. والآن أخذت
المملكة تعلق على المستقبل آمالها وتدير أموالها وتظهر نباهة رجالها ومقدرة
أعمالها في التجارة وغيرها في فسيح الأمن وجنبات الحرية بفضل الامتزاج بالأمم
الحية.
٤ ـ ومن السفر
للمال الاستجداء بالشعر وإهداء التأليف. وإجازة الشعراء من قديم أوجبتها العرب على
نفسها وكذلك الملوك وعظماء الرجال وكبار النفوس ، ولصاحب النبوءة الخاتمة صلى الله
عليه وسلم عند سماع الشعر اهتزاز وجود.
وللملوك في
أنواع الإجازة غرائب يقصدونها حتى تخيلوا أن المجيز يملؤ فم الشاعر باللآلي كما
ترى صورة ذلك عند الكلام على مكتبة باريس أخذا من نسخة مقامات الحريري العتيقة.
صور الخليفة
الآمر بأحكام الله في أوايل القرن الخامس بمصر شعراؤه واستدعى من كل واحد منهم
قطعة من الشعر في المدح ، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر وبجانب صورة كل منهم رف لطيف
مذهّب ، حتى إذا دخل الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف صرة مختومة فيها
خمسون دينارا وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده. ويقول الخليل بن أحمد :
لا تقبلن
الشعر ثم تعقه
|
|
وتنام
والشعراء غير نيام
|
واعلم بأنهم
إذا لم ينصفوا
|
|
حكموا
لأنفسهم على الحكام
|
وجناية
الجاني عليهم تنقضي
|
|
وعقابهم يبقى
مدى الأيام
|
ولى الحجاج قطن
بن قبيصة الهلالي فارس وكرمان ، فلما انتهى إلى نهر ولم يقدر أصحابه على عبوره قال
من جازه فله ألف درهم ، فجازوه فوفى لهم وكان ذلك أول يوم سميت الجائزة جائزة. قصد
القيروان من المشرق الشاعر ربيعة ابن ثابت الأسدي ومدح يزيد ابن حاتم أمير القيروان
المستولي سنة ١٥٥ إلى سنة ١٧١ بقصيدته التي يقول في أثنائها :
وشتان ما بين
اليزيدين في الندى
|
|
يزيد سليم
والأغر بن حاتم
|
وجرى هذا البيت
مجرى الأمثال ، وفي ضمن مدحه هجا يزيد السلمي حتى قال :
فهم الفتى
الأزدي إتلاف ماله
|
|
وهم الفتى
القيسي جمع الدراهم
|
وتوهم في آخر
الأمر أن لا يحصل على مراده من يزيد بن حاتم ، والشعراء أهل خواطر فقال :
أراني ولا
كفران لله راجعا
|
|
بخفي حنين من
نوال ابن حاتم
|
غير أن أمير
القيروان أحسن جائزته وأكرم وفادته. وعايلة بني المهلب بالقيروان من أحسن عايلات
الملك شجاعة وكرما وتدبيرا ، ومن شعر يزيد :
لا يألف
الدرهم المضروب خرقتنا
|
|
إلّا لماما
يسيرا ثم ينطلق
|
وفيه يقول بعض
الشعراء. ومنه تعلم أن الشعراء طوافون في أراضي الكرم وجو الخيال :
يا واحد
العرب الذي دانت له
|
|
قحطان قاطبة
وساد نزارا
|
إني لأرجو إذ
بلغتك سالما
|
|
ألا أكابد
بعدك الأسفارا
|
وإلى الآن في
المملكة من يجيد نظم الشعر ويخوض بحارا ويتعرف مسالكه ، وفي الناس من يهش للشعر
ويكرم أربابه ويقدر آمال ثنايهم.
٢ ـ طلب العلم
، هذا الموجب من أحسن الأسباب وألذ الدواعي وأحمد مغبة وأسلم وجهة ، تتقوى به
الروابط وتنتج عنه المصالح وتتغذى به الأرواح وتحترم به الأشباح. وقد حثت الشريعة
الإسلامية على طلبه من أقصى العمران وأخذ الحكمة من كل أمة ومن أي فرد كائن من كان
، ويتوقف على طرق الأمن وتسامح الأمة صاحبة العلم ، ويدل على سعادة الأمة الطالبة
ونباهة أفرادها ، والسفر له من مقاصد الأفراد والجماعات.
١ ـ نزح إليه
من القيروان عند ما أزهر في المشرق أفراد كثيرون منهم صاحب الشهرة سحنون بن سعيد ،
في أواخر القرن الثاني ، وهو ابن خمس وعشرين سنة ورجع وهو ابن ثلاثين عام ١٩١ بعد
أن أخذ على علي بن زياد الطرابلسي أصلا التونسي مسكنا ، صاحب الرحلة من قبل ذلك
لمالك. وبسحنون وأمثاله صارت القيروان كعبة طلاب العلم حتى من أقصى الأندلس ، وعلى
توالي العصور وتجدد العلوم كانت تنفر من كل جهة من أطراف المملكة طايفة ليتفقهوا
في العلوم ويفيدوا قومهم إذا رجعوا إليهم عساهم يتقدمون. وسيأتي في السفر السياسي والأدبي
ذكر عبد الرحمان بن أنعم قاضي القيروان وسفره إلى الخليفة أبي جعفر المنصور ،
وسابق تعرفه به وروابط مدته معه من عهد المصاحبة في حلقات التعلم التي هي سلك متين
لجمع قلوب عقد التلامذة من ساير الآفاق والأجناس. لذلك احتاج إلى القيروان سكان
صحراء المغرب الأقصى في من يعلمهم ، وطلبوا عند ما اجتازوا بالقيروان
راجعين من الحج «والقيروان لممالك شمال إفريقيا طريق قويم ومركز خصب ونعيم»
من عالم عصره سيدي أبي عمران الفاسي سنة ٤٣٠ بأن يرسل معهم من يفقههم في الدين
فكتب إلى تلميذه واجاج اللمطي من أهل السوس الأقصى في ذلك ، وهذا أرسل معهم أحد
تلامذته وهو عبد الله بن ياسين الجزولي الذي آل أمره بعد التعليم إلى تأسيس دولة
المرابطين بمراكش التي أقام دعايمها ووسع فتوحاتها يوسف بن تاشفين. ورحل في أواخر
القرن الثالث من القيروان إلى الأندلس أبو جعفر محمد بن هارون البغدادي يصحب الناس
ويجالس أهل الأدب ، وكان بعد رجوعه وولايته الكتابة على عهد عبيد الله المهدي ثم
ديوان البريد ، يحافظ على من جاز به قاصدا إلى الحج من خلطائه بقرطبة ويكرمهم.
وأهل القيروان إلى الآن أصحاب كرم وبر بالضيوف.
وبانتقال مقر
الحكومة إلى تونس على عهد الدولة الحفصية ، من أول القرن السابع صار أهالي
القيروان وبالأحرى من سواهم يرحلون إلى تونس وينالون منها المعارف والوظائف. ونبغ
كثير منهم وأفادوا ، وربما طابت الإقامة لبعضهم فيها وأحرزوا على أعالي الرتب.
فمنهم أبو القاسم البرزلي تلميذ ابن عرفة ، ولي الفتيا بتونس ، وكان يعرف بشيخ
الإسلام وتوفي فوق الأربعين وثمانمائة. وفي ذلك العصر كان قاضي الجماعة بتونس من
القيروان أيضا وهو يعقوب بن يوسف الزعبي قاضي القيروان في أول الأمر ، وولي تلك
الخطة السامية بتونس بعد القاضي الغبريني. وفي القرن العاشر والحادي عشر كان دور
الترحال للعلماء الأجلاء من آل عظوم المرادي بالقيروان إلى تونس ، وبرزوا في
التحصيل والولايات الشرعية ، فمنهم محمد بن أحمد بن عيسى ولي الفتيا بتونس ومات
أواسط القرن العاشر وهو صاحب كتاب الفرق بين التمليك والتوكيل ، في المسألة
الجارية بها العادة من ذلك العهد ومن قبله إلى الآن بالقيروان. وهي تبرع الزوج بعد
انعقاد النكاح لزوجته في صلب رسم الصداق بكونه طاع لها بعدم التزوج عليها بامرأة
ثانية وجعل أمر الداخلة عليها بيدها. وفرق المؤلف بين التمليك والتوكيل. ووقعت في
السنوات الأخيرة نوازل مالت فيها النفوس إلى عدم العمل بذلك التبرع. والتزام ما لا
يلزم لا يلزم ، فتجدد الإذن والفتيا بالعمل بما قرره المؤلف المذكور بعد إجراء
الكشف على ذلك التأليف النفيس والاحتجاج به.
وكذلك للقيروان
في الزفاف عادة ربما كانت قديمة من عهد المعز بن باديس في أول القرن الخامس ، وهو
عرض ما تجهز به العروس للعموم وتقويمه قبل الخروج به لدار الزوج. قال بعض المؤرخين
في رجب ٤١٥ تزوجت السيدة أم العلو بنت نصير الدولة باديس أخت شرف الدولة المعز ،
فلما كان يوم الأربعاء غرة شعبان المكرم زين الإيوان المعظم للسيدة الجليلة أم
العلو ، ودخل الناس خاصة وعامة فنظروا من صنوف الجوهر والأسلاك والأمتعة النفيسة
وأواني الذهب والفضة ما لم يعمل مثله ولا سمع لأحد من الملوك قبله. قال أبو إسحاق
الرقيق : فبهر عيون الخلق حال ما عاينوه ، وأبهتهم عظيم ما شاهدوه ، وحمل جميع ذلك
إلى الموضع الذي ضربت فيه الأبنية ، والقباب والأخبية وحمل المهر في عشرة أحمال ،
على عشرة بغال ، على كل حمل جارية حسناء وجملته مائة ألف دينار عينا. وذكر بعض
حذاق التجار أنه قوم ما هو لها فكان زايدا على ألف ألف دينار ، وهذا ما لم يرقط
لامرأة قبلها بإفريقية. وزفت العروس في يوم الخميس ، ومضى بين يديها عبيد أخيها
شرف الدولة وأبيها نصير الدولة وجدها عدة العزيز بالله ووجوه رجال الدولة ، فكان
يوما سارت الركبان بمحاسن آثاره وامتلأت البلدان بعجايب أخباره.
ثم ولي الفتيا
بتونس أبو القاسم بن محمد بن مرزوق العظومي في أواخر القرن العاشر في صدر الدولة
التركية بتونس ، وتوفي في أوايل القرن الحادي عشر وله التأليف النفيسة مثل كتاب
الأجوبة. قال في شأنه الشيخ عيسى المؤرخ : وأول نواب الأوقاف بالقيروان بعد نظامها
الحالي. هذا الكتاب مفقود إلّا البعض عند الخواص ومن ظفر بجميعه من الفقهاء يعينه
في تصرفه. قلت ولهاته العائلة النبيلة ذرية طيبة بالقيروان تبدو منهم سمات الذكاء
والأخلاق وتلوح عليهم صفات المجد والمروءة. ثم المفتي بتونس العالم الجليل صاحب
الرحلات الشرقية محمد ، بالفتح ، العواني الشريف الذي نصح إلى مراد بوبالة عند ما
عزم على قتله عام ١١١٠ بقوله أنصحك وليس النصح لنفسي أن من قتل عالما أيس من طول
حياته. وكان طويل القامة كث اللحية. قال السراج : ولم يكن له في ميدان الفتاوي من
مجاري ولا في تصرف الأحكام من مباري. قلت قتله مراد بوبالة وأكل من لحمه مثلما فعل
المنصور بن بلكيز الصنهاجي لما ظفر بالثائر أبي الفهم الخراساني الداعي بكتامة عام
٣٧٨ ، فإنه
قتله وأخذه عبيده فشرحوا لحمه وأكلوه ، ولعل هاته العادة الوحشية إنما
انساقت إلى شمال إفريقيا من العبيد. وأول العوانيين بالقيروان يحيى بن محمد بن
زياد بن عوانة شيخ أبي يوسف الدهماني في القرن السادس. والآن في ذرية هذا البيت
المحترم والنسب الطاهر أمر نقابة الأشراف والنظر فيما يرجع لهم من الأوقاف. وحدث
ما شئت عنهم من نزاهة نفس وكرم أخلاق وطيب أعراق.
وفي العصر
الحاضر جلى في قصبات التحصيل والتدريس أستاذنا النحرير الشيخ سيدي محمد النخلي
القيرواني ، قصد جامع الزيتونة من أول هذا القرن وما دخل العقد الثاني منه حتى أخذ
في تدريس الفنون وتفتيق الصدف عن جوهرها المكنون ، وهو الآن شيخ الطبقات وأستاذ
الشيوخ ملأ جامع الزيتونة علما والمملكة تلميذا.
وأكثر ما أخذت
عنه علوم اللسان والمنطق والعروض. أما أصول الفقه فعن الأستاذ الجليل المنعم سيدي
الصادق بن القاضي كامل الأخلاق والمروءة ، وتقدمت لحلبة الامتحان على يديهما.
وكما يؤم تونس
طلاب علوم اللغة والدين بجامع الزيتونة ، يقصدها أيضا طلاب اللغات الأجنبية من عهد
تأسيس المدرسة الصادقية عام ١٢٩٢ وقد أنجبت هاته المدرسة رجالا سدوا فراغ الحاجة ،
وأظهروا من المقدرة في السياسة والعلم وحب الرقي ، لما لهم من المبادي المتينة في
اللغة والدين ، ما عرفته لهم أمتهم وقدرتهم لأجله دولة الحماية التي انتفعت بهم في
القيام بالمهمات مع حسن الوساطة بين الأمتين. رحلت منهم ثلة إلى فرانسا لإكمال
معلوماتهم. وأروبا منذ نحو ثلاثة قرون هي المعلم الأكبر والأستاذ المتفنن والمكتب
العالي لعائلات الأمم التي على وجه المعمور. وكثير منهم أحسنوا القيام في الخطط
العالية والولايات النفيسة والإدارات المنظمة وتدريس العلوم ونشر التأليف وتحرير
الصحف. وقد ازداد بعد قوة الروابط بين تونس وفرانسا التمرن على اجتياز البحر
الأبيض وتلقي علوم الطب وحقوق الأمم.
وقد سبقنا
المصريون وهم من قديم أكثر اعتناء بالترحال في طلب العلوم على اختلاف أنواعها
وتعدد فنونها العصرية ، والسفر لباريس وأخذ العلوم بها وتخصيص كل قسم من التلامذة
بنوع من العلوم. وبين أيدينا رحلة الشيخ رفاعة إلى فرانسا منذ نحو مائة عام وبها ذكر
العلوم التي تقررت مزاولتها. والشيخ رفاعة برع في الترجمة لما له من
سابق العلم باللغة العربية في الأزهر ، شأن كل مترجم لا يبرع في صناعته
إلّا إذا كان مكينا في لغته الأصلية وفي قطرنا هي العربية. والآن مصر فيما يبلغنا
عنها هي أندلس الإسلام في العلوم الأصلية والعصرية والتلميذ النجيب المتفنن بين
الأمم المتلقية للعلوم من أروبا. وأرباب العلم الذين سافروا وتكبدوا المشاق وعرفوا
الرجال وحلقوا في جو الأخلاق والعوائد وسبحوا في بحار الأجناس والطوائف وتقبلوا مع
ليالي الدهر ، تجد بينهم وبين الذين نالوا العلم بدون ذلك فرقا كبيرا في تدقيق
أصول المسائل واستنباط الجزئيات والحكم على الأمم ، لاتساع الخيال وسعة الاطلاع
اللذين يتقوى بهما الإدراك الفكري ، فيكون في أخلاقهم من اللطف ونفوسهم من المروءة
ما يقرب بهم إلى درجة الفلسفة والتدبر في أمور الدهر والنظر إلى الصالح العام. فهم
أبرء ساحة من احتقار الأجناس أو الإجحاف بحقوق الغير ، وأبعد عن حب الأثرة أو
الإعجاب بالنفس. يتجلى ذلك من مجالسة ودروس وسيرة الأستاذ الأكبر عالم القطر الشيخ
سيدي سالم بوحاجب الذي سيأتي ذكره في السفر السياسي ، والممتزج بسبب العلم بأرباب
التقدم في العلوم على الأساليب الجديدة ، يستفيد ملكة اجتماعية غير مسائل العلم
الخاص الذي يزاوله ، لأن أصحاب النظام في العلوم أصحاب نظام أيضا في محاوراتهم
وإداراتهم وشئونهم الخاصة ، فالتحكك بهم وممارستهم تعود بخلال صالحة في عالم
الاجتماع.
٢ ـ ومن السفر
للعلم حضور المجتمعات والمجالس التي يعقدها فطاحل العلماء في بعض العواصم ، يدعون
لها كل من كانت له مقدرة على المشاركة في الغرض الذي عينوا البحث فيه وتحرير
الرسائل في مسائله ، أو للكلام في عموم أنواع العلوم ومهمات المواضيع في زمن معين
يعد له أرباب الفكر وأصحاب المقدرة ما استطاعوا مما يحسن سمعه ويروق ذكره ويفيد
نشره. وربما كان للدول في جمع هاته المؤتمرات لنشر العلم وتلخيص مهمات مسائله
وتمحيص حقائقها وهو من محاسن هذا العصر. وفي القديم يدعى بعض العلماء من الجهات
البعيدة لتحقيق بعض المسائل يكون لهم من ورائها ذكر وغنى ، والعلم محمود العاقبة.
وكان سوق عكاظ مجمعا عاما لعرض نفايس الشعر وبدايع القصايد. وأول من دعا علماء
الأمم للاجتماع والبحث في العلوم الشرقية دولة فرانسا ، وأول مؤتمر كان بعاصمة
العلوم باريز عام ١٨٧٨ ، وسيأتي ذكر
ذلك في الكلام على مكتب اللغات الشرقية بباريز. وأخيرا للنابغة السيد البشير
صفر في بعض المؤتمرات العلمية والاستعمارية بتونس والجزاير وباريس تقارير جليلة.
ولصديقنا
البارع السيد حسن عبد الوهاب صاحب الأبحاث المفيدة وراء علوم الأدب والتاريخ
والآثار مشاركة في بعض هاته المؤتمرات. ومن كبار العلماء بالمملكة من حضر بعض
المؤتمرات العلمية بباريز ، وهما الأستاذان الجليلان العلامة الشيخ سيدي محمود بن
محمود قاضي الحاضرة ومفتيها الحنفي ، والعلامة الشيخ سيدي محمد بن يوسف المفتي
الحنفي والعضو بمجلس الأوقاف سابقا.
٣ ـ ويلحق بطلب
العلم طلب الانتفاع بالعلم كالمداواة ، فلأجلها تشد الرحال إلى البلدان التي بها
فحول الأطباء والجهات التي بها العيون الحمة والأقطار المعروفة بطيب الهواء
واعتدال الطقس في بعض الفصول. والآن أروبا وجهة أصحاب الحاجة لما ذكر كله. وأطباء
فرانسا أصحاب حذق في هذا الفن الجليل ، وكل نوع من الأمراض له خصيصيون برزوا فيه
وأجادوا فهم جزئياته وأحسنوا العلم بمداواته ـ ولأروبا الفضل في نقل هذا العلم من
العرب والمحافظة عليه وربط سلسلته الفضية أيام تقدمه مع تقدم العلوم الإسلامية قبل
انحدارها واندحارها ـ مع سلسلة أيامه الذهبية في الأجيال الأخيرة بأروبا ، وهو لا
يزال في رقي مستمر ينتفع به البشر ويدفعون به صدمات الطبيعة والآلام الطارية
والعلل المعضلة. وغير بعيد كان سفر الطبيب الخبير السيد البشير دنكزلي من تونس إلى
باريس لعرض ما اكتشفه من الدواء النافع للبول السكري بتتبعه آراء الحكيم ابن سينا
في هذا الغرض على فطاحل علماء هذا الفن بباريز.
وكتاب رحلة
النحرير الحسيب الشيخ بيرم أول رؤساء الأوقاف إلى المداواة بأروبا بين أيدينا مع
ما اشتمل عليه من الأسباب والتفاصيل والفوائد.
والمياه
المعدنية النافعة لكثير من الأمراض مشهورة في فرانسا وأعظمها مما عاينته حمة فيشي
وإيكس ليبا تتزاحم الأمم من أقطار الأرض على الشرب منهما ، وسيأتي ذكرهما في أثناء
الرحلة وبداخل المملكة لحمة قربص ذكر شايع ، وماء نافع تجتمع حواليه أنواع الطوائف
والقبايل ، وكانوا يتجشمون لما يعلمون من منافعه مخاوف البحر ووعر الجبال. والآن
بما دخل عليه من النظام وتسهيلات الإقامة وطرق الوصول
اندفعت له الأفراد من الأقطار البعيدة. وفي دواخل المملكة عدة عيون ماؤها
معدني حار ظاهر النفع مزهود في أمره ، وإن قصده الأباعد فغير موفق إلى تسهيل طرق
الانتفاع به من الأقارب. والحديث الشريف : العالم كالحمة تأتيها البعداء ويتركها
القرباء * ، فبينما هي كذالك إذ غار ماؤها ، وقد انتفع بها قوم وبقي أقوام يتفكنون
أي يتندمون. كنت أقمت في قربص عام ١٣٣٠ ـ ١٩١٢. في رفقة من الأوداء أربعين يوما
وكتبت رسالة في حالته الحاضرة لتقدم إلى من يجب أن تساق لخزاينه الرسايل ، وتحظى
بين يديه مهمات المسايل ، وذلك بمناسبة عزمه إذ ذاك على زيارة قربص ، وعسى أن يسعف
الحال على تنقيحها وإظهارها ، وكتبت على صورته في طالعتها :
صورة الفرد
الهمام العلم
|
|
صانها الله
لنفع الأمم
|
إذ رياض مصر
في تونسنا
|
|
طيب الأصل
وزير القلم
|
٤ ـ والسفر لأماكن طيب الهواء
واعتداله في بعض الفصول والأقطار من ملائمات حفظ الصحة ونعيم العافية ، وهو محبب
حتى للحيوانات ، ومن أشهرها في قطرنا طير الخطاف ، لا يأوي إلى المملكة التونسية
إلّا في أوائل الربيع وينسلخ في أواخر الخريف مصحرا للجهات الحارة ، وربما كان
سواد لونه دالا على ميله لطول الإقامة بالأقاليم الحارة ، كما أن بعض الطيور بهذا
القطر لا ترى إلا في فصل اشتداد البرد. والعلم بترحال الطيور إلى الآفاق البعيدة
اعتنى به أروباويون حتى أنهم يأخذون أنواعها إلى مركز واحد ويطلقونها بعد أن يضعوا
في سوقها حلقا معدنية وعلامات ، ويرسلون في طلب التعريف بالأماكن التي تحل بها
ويعطون الجوايز إلى المخبرين عنها والصائدين لها. وهذا شأن سكان جنوب إفريقيا من
البرابر الملثمين وقبائل العرب من بعدهم ، يصحرون في الشتاء بأنعامهم ويوغلون في
القفر إلى صحراء السودان ، يتبعون انحدار ميل الشمس من الشمال إلى الجنوب ومواقع
__________________
انصباب أشعتها عموديا وكأنهم لا يرضون البقاء في الشتاء حوالي مساكننا في
شمال إفريقيا وقريبة من سيف البحر الأبيض حتى لا تنظر إليهم الشمس شزرا تتبعا
لرضاها ، ومتى عادت نحونا وأخذ الثلج يتقلص عن الربى والمرتفعات عادوا إلى التلول
معتمدين على مساعدتها في مدافعة وطأة البرد بهاته الجهات متى أراد أن يسومهم سوء
العذاب بزمهريره ، حيث لا يجتمع بياض الجو من أنوار الشمس وبياض أديم الأرض
بالثلوج وهما ضدان. وأمم أروبا الآن كذلك تنحدر من ممالكها إلى شمال إفريقيا بمصر
وتونس والجزائر لتقضية أيام البرد وتسخينا لدمائهم بالشمس التي تبعد عنهم كثيرا في
فصل الشتاء ، فينزل بهم البرد القارص إلى نحو الخمس عشرة درجة تحت الصفر «الذي هو
جمود الماء» في أواسط أروبا وربما أفضى بهم اشتداد البرد في بعض الأحيان إلى
انجماد دم البشر فيهلكون. وقد ورد الإيصاء باتقاء وطأة البرد حيث قتل أخانا أبا
الدرداء. وفي زمن حر المصيف وإلحاح الشمس على شمال إفريقيا ينزع عدد غير قليل من
السكان إلى أروبا لاعتدال هوائها مدة نحو الثلث من السنة ، مبدؤه شهر جوان وهو
الشهر الذي اخترناه لرحلتنا هاته ، وهناك يتنعمون بماء بارد سايغ الشرب وبطيب
نفحات النسيم وأرض منحصرة الأديم ، والبعد من الحر في القيلولة مسنون وغير البشر
لا يقيل.
٥ ـ والسفر
لمجرد الاطلاع على أحوال الأمم ومعارفها ومشاهدة درجة رقيها ومواقع سكناها
وعوائدها وما اختصت به كل جهة من آثار الأمم الغابرة والدول البائدة ، ضرب من
السفر لطلب العلم كبير الفائدة يعرف به الإنسان منزلة نفسه ودرجة أبناء جنسه وما
للبشر من الأطوار والآثار وما في ملكوت السماوات والأرض مما يستوقف الأنظار ويدعو
إلى الاعتبار. والسفر لهذا القصد من أكبر الدروس المهذبة للنفوس ـ والمطلع على
كتاب رحلة ابن بطوطة عام ٧٢٥ يعلم ثمرة السفر لهذا القصد وما يعود منه على البشر
من النفع العام للمسافر نفسه وإلى من سواه. ولأروبا ولع عظيم بالسفر لهذا الغرض
والانسياح في الأقطار المعلومة والبحث عن الجهات المجهولة ، وكريستوف كولومب صار
له ذكر باكتشاف أمريكا عام ١٤٩٢ من عهد أربعة قرون والبحث على أراضي القطبين لا
زال متواليا في بلاد الثلوج وانقطاع العمران. والآن ازدادت رغبتهم وكثر عديدهم
لأمن السبل وسرعة السير بالبخار ، يفدون على
المملكة التونسية جماعات ووحدانا ، فيتأملون من أطلال مدينة قرطاجنة وجمال
موقعها الذي لا زالت مسحة منه على قرية سيدي أبي سعيد. ويا ليت المستنصر الحفصي
أنعم على بقية أسوارها وقصورها بالبقاء بعد أن استقرت بها جنود لويس التاسع ملك
فرنسا عام ٦٦٨ ـ ٦٦٩. بدون أن ينسب ذنب العجز عن الدفاع إلى تلك الحصون والهياكل
العظيمة ، وهي برية من كل ذلك ، والجسد متى كان بلا روح لا حرج عليه إذا لم يبد
حراكا ، قال بعض المؤرخين : وهذا شأن الملوك ما زالوا يطمسون آثار من قبلهم
ويميتون ذكر أعدائهم ، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن والحصون ، وكذلك كانوا
أيام العجم وفي جاهلية العرب وهم على ذلك في أيام الإسلام. فقد هدم سيدنا عثمان بن
عفان صومعة غمدان. قلت ربما مثل ذلك كان من الرجال العظام لأسباب أدى الاجتهاد إلى
ملايمتها ـ وكثير من مسائل الهدم تكون لأسباب أخرى ، فقد هدم بنو العباس مدن الشام
لبني مروان وحاربوا بالمعاول والأموال مداين كسرى بالعراق وحاولوا نقض أهرام
الفراعنة بمصر. وبنو عبيد بالقيروان كبر عليهم ذكر أسماء من قبلهم فأمروا أن تقلع
من المساجد والمواجل والقصور والقناطر أسماء الذين بنوها ، فطمسوا بهاته الطريقة
وجه الحقيقة. وبنو مرين هدموا قصور تلمسان ، ولو بقيت لكانت تفيدنا في إحياء صنائع
الأندلس البديعة التي أجادتها مهرة عملتهم وصناعهم. ويشاهدون قصر الأجم «التياترو»
العتيق الجاثم في وسط المسافة بين تونس وقابس هيكلا عظيما وبناء متينا له عدة
طبقات ، وارتفاع نحو ثمانين ذراعا يقصر دونه مرسح مدينة نيم ومرسح مدينة آرل في
فرنسا ، إلّا أن أيادي البشر عبثت بنصفه الشمالي وصرعته في الأرض ، وقد عجز كر
الأيام والليالي عن نصفه الجنوبي ، وعادية الإنسان أنكى من عادية الزمان. وتجلب
أنظارهم غابات زيتون صفاقس ونخيل واحات الجريد ، ويعطفون على أطلال سبيطلة. ثم
معالم القيروان وجامعها وحوض شربها في القديم من عهد الدولة الأغلبية في القرن
الثالث ـ قال الشيخ ابن أبي الضياف : في عام ١٢٥٦ أمر أحمد باي بتنظيف فسقية ابن
الأغلب بالقيروان ، وذلك من فاضل أوقاف السيد الصاحب رضي الله عنه ، لأن ذلك من
أجل أعمال البر على ما به العمل عند المحققين من صرف فاضل الحبس بعد استقامته في
طريق ما يزداد به الثواب للمحبس ولا ينقطع به عمله. قلت وأعيد
إصلاحها في ٢١ حجة عام ١٢٩٩ بإشارة الإدارة العسكرية وكان عدد الخدمة من
أهل البلاد مائة وثمانية وأجر الواحد فرنكا واحدا.
فالممالك ذات
الآثار ، لهذا السبب ، يعود عليها وفود الرحالين ورحلات المستطلعين بأرباح مالية
يصرفونها مدة إقامتهم بتلك الإيالة على حسب كثرتهم وقلتهم وطول مدة إقامتهم. زار
القيروان أبو الحسن المريني عام ٧٤٨ ، قال ابن خلدون فجال في نواحيها ووقف على
آثار الأولين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين وزار أجداث
العلماء والصالحين ، ثم سار إلى المهدية ووقف على ساحل البحر ونظر في عاقبة الذين
كانوا من قبل أشد قوة وآثارا في الأرض ، واعتبر بأحوالهم ومر في طريقه بقصر الأجم
ورباط المنستير وانكفأ راجعا إلى تونس. وقال في موضع آخر ارتحل إلى القيروان ثم
إلى سوسة والمهدية والتمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة والسلف من
التابعين. قلت وهاته الزيارة قبل أن يتألب عليه الكعوب ويحاصروه بالقيروان.
والكعوب أنزلهم الموحدون بساحة القيروان وهم من ذرية رافع بن حماد الذي دخل مع
العرب إلى إفريقية وعنده راية جده التي حضر بها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكان
عيسى بن الحسين بن علي بن أبي الطلاق من مشيخة بني مرين وصاحب شوراهم لعهده ، وكان
السلطان أبو الحسن قد عقد له على ثغور عمله بالأندلس وأنزله بجبل الفتح فحظره عند
سفره إلى إفريقية وأشار عليه بالاقتصار عنها وأراه أن قبايل بني مرين لا تفي
أعدادهم بمسالح الثغور إذا رتبت شرقا وغربا وعدوة البحر ، وأن إفريقية تحتاج من
ذلك إلى أوفر الأعداد وأشد الشوكة لتغلب العرب عليها وبعد عهدهم بالانقياد ، فأعرض
السلطان عن نصيحته. قلت فلاقى ما لاقى حول القيروان من العرب وفي بحر بجاية من
الغرق والعطب : يذكرون أن إسبانيا تنبهت أخيرا بعد التفريط في مصنوعات البناء
العربي بالأندلس إلى المحافظة على بقية من ذلك تستدر بها الأموال من وفود الأمم
البعيدة وأصحاب الصناعات وأرباب الفنون وأهل الذوق السليم ، لإعجابهم بما كان لتلك
الأمة العربية البايدة من المقدرة في الهندسة والنقش على الحجارة والجبس والتخريم
على الألواح والتزويق بالدهن على السقوف والآجر ، بما يصعب جدا في هاته العصور
تقليد كثير منه. غير أن الممالك التي تقصد للإعجاب بما بها تختلف من الوجهة
الأدبية في نظر
الباحث المدقق على تقدم الأمم وتأخرها ، بقطع النظر على ما يحصل من أموال
الفرجة أو إبداع الصنعة ، فإذا كانت الأسباب الحاملة على الاستطلاع من أثر الجيل
الحاضر ومنسوبة لمقدرته العلمية أوله مآثر أخرى ومصنوعات كبرى يعزز بها أعمال من
قبله ويبني كما كانت تبني أوايله. فإن الأمة تكون محترمة في عين الزاير الذي يعود
بإطرايها وتدوين جلايل أعمالها ويعتبرها في صف الأحياء ، وبعكس ذلك إذا كانت
الأسباب الداعية لمشاهدة تلك المملكة منحصرة في عمل السلف ويحاول أن يفتخر بها
الخلف للفرق الكبير ما بين الناسج لبرد الرواية ، والممثل لتلك الحكاية ، وللعبد
ما بين المؤلف للكتب والحارس لها ، وشتان ما بين المفتخر بما في الصدور والمتباهي
بسكان القبور. ونظير هذا إذا تأملته تجده في اللغات ، فمنها الحية ، وكل يوم يمر
عليها تزداد بها حياة ، ومنها الميتة تقتنى لمسايل خاصة ولا تزيدها الأيام إلّا
نقصا. والأمر الأول هو الذي تقصد له فرنسا لمعاهد العلم ومجموعات الآثار وخزاين
الكتب وجميل التربية ، ولين المعاشرة وإتقان الزراعة والإبداع في الصناعة ، ونظام
الإدارة وحرية الشعب وغزارة الثروة ، زيادة عمالها من الآثار والبناءات والقصور
والهياكل التي تفوق قيمتها كل تقدير. من ذلك فرساي وبساتينها ، فقيمتها ثلاثة
أرباع مليارد ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٧٢٠
بالي دولوفر
٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٢٨٤
الأبرا ٠٠٠ ،
٠٠٠ ، ٥٣
بالي لوكسنبورغ
«مجلس الأعيان» ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٣٣
قوس النصر ٠٠٠
، ٠٠٠ ، ٢٠
الأبرا كوميك
٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٦
قصر لاليزي مقر
الجمهورية نحو ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٥
قيمة السارية
المصرية ١٣٥ آلاف والحق أن تقدر بمليون. كل ذلك عدا التماثيل القائمة في المدينة
والقناطر البديعة ومجموعات الآثار العظيمة والمكاتب النفيسة.
وأصبح من مقاصد
الجماعات بعد أن كان من رأي الأفراد السفر لمشاهدة اختلاف الطبايع والذوات
والصنايع والبناءات وسهل ذلك أمن السرب وكفاية المرافق وسرعة
الانتقال ، وزال من الأفكار ما كان يقال :
تقاعد عن
الأسفار إن كنت طالبا
|
|
نجاة ففي
الأسفار سبع عوايق
|
تشوق إخوان
وفقد أحبة
|
|
وأعظمها يا
صاح سكنى الفنادق
|
وكثرة إيحاش
وقلة مونس
|
|
وتبديد أموال
وخيفة سارق
|
فإن قيل في
الأسفار كسب معيشة
|
|
وعلم وآداب
وصحبة وافق
|
فقد كان ذا
دهرا تقادم عهده
|
|
وأعقبه دهر
شديد المضايق
|
فهذا مقالي
والسلام كما بدا
|
|
وجرب ففي
التجريب علم الحقايق
|
ولذلك قلت :
فإن قيل في
الأسفار قلة مونس
|
|
وتبديد أموال
وخيفة سارق
|
فذاك زمان قد
تقضى وشأنه
|
|
وهذا زمان
فيه كل المرافق
|
فسرعة سير ثم
أمن وراحة
|
|
بحالة ترحال
ونزل الفنادق
|
٣ ـ السفر الديني ، السفر للدين
كالحج. نقول الحج لبيت الله الحرام ووجوب زيارة مكة مرة في العمر حدا بأمم الإسلام
من أطراف الأرض وأجبرهم على الترحال ، فكم جمعت له من رفاق ، وقطعت للتلبية في
عرفات من آفاق ، وعرفات من عهد آدم وحواء مكان التعارف. وجل الرحلات التي دونت في
القرون الأولى والوسطى إن
لم نقل كلها كانت في الحج. وحرر فيه أخيرا بعض المقتدرين بمصر رحلة مفيدة.
وكتب الرحالون
سابقا في رحلاتهم على ما رأوا من المدن والطرقات والأمم والصناعات ، فعادت هذه
الكتب على علم الجغرافيا وعلم الأخلاق وعلم الصنائع بفوائد عظمى. وقد حاول من قديم
كثير من الناس وفي أوقات مختلفة تحويل وجهة الحجاج إلى أماكن أخرى لمثل غايات
سياسية أو مالية وصرف وجوههم عن أول بيت وضع للناس (بِوادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ) فلم ينجحوا. واقتلعت القرامطة الحجر الأسود ولم يرجع
إلّا في سنة ٣٣٧ بمكتوب صدر من المنصور العبيدي وهو بمنصوريته المعروفة بصبرة جوار
القيروان يخاطب به قادة القرامطة بجزيرة العرب ، ومنه يظهر حسن صنع القيروان في
جانب بيت الله الحرام ، كما تعلم الدرجة التي بلغت إليها القيروان في نفوذ الكلمة
ورفعة الجاه وبعد الصيت وعلو الكعب ، بحيث يرجع الحجر الأسود وما أدريك ما الحجر
الأسود إلى مكة. وقد عجزت عن إرجاعه أمم الحجيج ثلاثا وعشرين سنة ، بمجرد كتاب
يرسل من القيروان ، وهذا فخر يخلد للقيروان ما دامت الأمم من أقاليم الأرض تلمس
الحجر الأسود وتقبله في كل عام بمكانه من بيت الله الحرام.
ولكل أمة أماكن
محترمة يتواردون عليها من جميع الجهات في ساير السنة أو بعض الأوقات تروج فيها
أسواق التجارة والآداب. والقيروان في القديم بشمال إفريقيا يمر بها أمم الأندلس
والمغرب الأقصى والأدنى في الأركاب ، ويزيلون بها الأتعاب ، ويجددون ما نقصهم
ويشترون ما خصهم. وقد تقدم في القسم العلمي حفاوة أهل القيروان بركب الأندلس
وإكرامهم لفضلاء قرطبة في آخر القرن الثالث للروابط العلمية والتعارف القديم. وليس
لهم في تلك العصور ما يسهل المواصلة من العربات والبخار ، وما هي إلا كور الرواحل
، وسروج الصواهل. ومن رسوم ركب الحج أن يكون عليه رئيس يجمع كلمتهم وينظر في
مصالحهم ، ويعطى لقب أمير الركب ، يرحلون ويقيمون حسب إشارته وتدبيره وشروطه ذكرها
الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية.
وكثيرا ما يسمى
به قاض يعين من نبهاء العلماء ، وعيف ينظر في الطرقات وأليقها بالحجيج خصبا وأمنا
، فتكون وظيفته جغرافية هندسية ، والقاضي لإفادة شعاير الدين ، والأمير نايب عن
المخزن ورئيس الكل. ومن الذين سمتهم الدولة من
القيروان أمراء على الأركاب السيد الحاج عمر المرابط أمير ركب عام ١١٨٠.
والسيد محمد بن عبد الملك العواني أمير ركب عام ١٢٣٨. وفي تاريخ الشيخ ابن أبي
الضياف ذكر إنابة المنعم سيدي مصطفى باي للشيخ سيدي إبراهيم الرياحي عنه في الحج.
وفي هذا العام كان الناظر على الحجاج التونسيين الوجيه الرحالة السيد العربي بسيس
العضو الثالث بجمعية الأوقاف بما أفادهم ورفع حيثيتهم.
أما السفر
للهجرة فيكون في أدوار اختلاف أجناس الأمم أو الأديان في الإقليم الواحد إذا كان
مسلك الأمة الغالبة بعددها أو عديدها أو نفوذها متغالية في التعصب للجنس أو متعمقة
في العقيدة. وهذا ينذر بانقلاب عظيم في ذلك القطر بالنقص في المال والعلوم
والصناعات التي تذهب مع أربابها ويبشر بزيادة ذلك في الأقطار المنحاش إليها أولايك
المهاجرون. انظر ما طرأ على مملكة فرانسا في الحروب الداخلية بين الكاتوليك
والبروتستانت في القرن السادس عشر على عهد هنري الرابع ، فإن أرباب الصنايع
والمعارف وغيرهم من الأخيرين وعددهم نحو الخمسمائة ألف خرجوا من المملكة فتركوا
بها فراغا عظيما. وهذا بعينه أجراه الإسبان مع عرب الأندلس ، وقد قبلتهم مملكة
فرانسا في جنوبها وسيأتي ذكر امتزاجهم بالسكان إلى القرن الثاني عشر مسيحي عند
الحديث على كرونوبل. ومن قبل ذلك انجلى العلماء والنبهاء من إفريقية في القرن
الخامس عند عيث أعراب سليم فيها حسبما تقدم في قسم الاستيلاء والتغلب. وقد بينا في
فصل احتلال فرانسا بتونس أن من خرج من المملكة لأمر بدا له رجع بعد ذلك مغتبطا.
ومثل هذا ما نقلناه عن سيرة روجار عند الاستيلاء على المهدية في القرن السادس.
والتاريخ يعيد نفسه في السيئات والحسنات ، كعود النهار والليل بالنور والظلمات.
قلت وتضارب الأمم والأجناس في القطر الواحد صار نادرا في عصرنا هذا بالنسبة
للأقطار التي تحكمها الدول القوية الخبيرة بطرق العمران ، وائتلاف الأجناس فهم
يساوون بين طوايف السكان ، بما في الوسع وقدر الإمكان. والله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).
٤ ـ السفر
السياسي ، أسباب السفر السياسي مثل الولاية بالأقطار البعيدة ، والسفارة بين
السلاطين والأمراء بالهدايا وعقود الصلح أو الاستنجاد ونحو ذلك ، تبادل الزيارات
بين الملوك أنفسهم. كانت ولاة القيروان يأتون من أقصى المشرق على
عهد الأموية والعباسية وما صارت الولايات من جملة الموروثات إلّا من عهد
إبراهيم ابن الأغلب سنة ١٨٤ الذي بذل مهرا في تملك العروس الإفريقية مائة وأربعين
ألف دينار. مائة أسقطها على الدولة كانت تعين بها سنويا ولاة القطر في سبيل شئون
السلطة وإقامة قسطاس الأمر ، وأربعون ألفا تحمل بها لخزينة الخلافة العباسية. قدم
يزيد بن حاتم عام ١٥٥ من آل المهلب واليا على القيروان وكان أخوه روح بن حاتم
واليا بأقصى المشرق ، فلما مات يزيد ودفن بالقيروان في رمضان قال الناس ما أبعد ما
يكون بين قبري هاذين الأخوين. فلما قدم روح واليا على القيروان ومات في رمضان عام
١٧٤ ودفن في قبر يزيد عجب الناس من ذلك. ويختار لمثل سد الثغور والولايات على
الأقطار المنقطعة أرباب الكفاءة وذوو الرأي وأصحاب الحزم وربما نال المتوظفون في
الأقطار البعيدة عن قاعدة الملك خبرة بأحوال الأمم ودراية بطرق السياسة. يتأتى لهم
ذلك بالاعتماد على النفس ومراقبة أنواع الوظايف التي ترجع لنظرهم ، فإذا عادوا إلى
القواعد العليا وترقوا إلى المراتب الكبرى أحكموا سياستها وهان عليهم إدارة
دولابها بما لهم من الدربة والممارسة وحسن التجربة. وكانت من قواعد ملوك بني حفص
في المملكة التونسية في بعض الخطط أن يرسلوا بالموظف إلى بعض جهات بالمملكة ثم
يولى بعد ذلك بالعاصمة ـ قال ابن أبي الضياف وكان السنن في الدولة الحفصية أن
القاضي لا يبقى في خطة القضاء في بلد أكثر من ثلاث سنين ، ثم ينتقل لغيرها إلى أن
يتصدر لقضاء الحاضرة ثم يتصدر للفتيا والشورة.
وقال المؤرخون
في ترجمة المنعم علي تركي والد المنعم سيدي حسين بن علي جد العايلة الحسينية
المحترمة ، أدام الله عزها. كان خيرا حازما خدم الجندية من أول دولة بني مراد وكان
أقرانه يخشون توثبه على الولاية فأبعدوه واستكفوا به لحفظ قلعة الكاف ، فتزوج
امرأة من شارن أولدها حسينا وأخرى من الشنانفة أولدها محمدا.
وهذا الآن من
أساليب دول أروبا في كثير من ولاياتها بداخل إيالتها ومستعمراتها وممالك حمايتها.
وأكثر
المساعدين لخطى الإبعاد في الوظائف بداخل المملكة أهالي بلدان الساحل وبالأخص
المنستير ، ثم أبناء نابل ضموا إلى النباهة الجلد في نيل العلم والصبر في الوظائف
على مفارقة بلدانهم. ومن الذين استخدموا سابقا في دولة المغرب الأقصى
السيد عبد الحكيم الأكودي ، والآن صاحبنا السيد عبد القادر بحرون المترجم
بالسفارة الفرنساوية برباط الفتح. رحل محمد بن جعفر الكوفي قاضي صبرة جوار
القيروان في أواسط القرن ٥ إلى مصر فنال بها حظوة وولي القضاء بها ، ومثل هذا جرى
لابن خلدون في أواخر القرن الثامن. جعل مروان الأموي سنة خمس وستين صلات مصر
وخراجها إلى ابنه عبد العزيز ، فقال عبد العزيز : يا أمير المؤمنين كيف المقام
ببلد ليس به أحد من بني أبي ، فقال له مروان : يا بني عمهم بإحسانك يكونوا كلهم
بني أبيك. واجعل وجهك طلقا تصف لك مودتهم. وما عليك يا بني أن تكون أميرا بأقصى
الأرض أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك. وقد انثال من التونسيين على
سلطنة المغرب عدد غير قليل ، شأن أمريكا عند فتحها هاجرت إليها الأمم حبا في
تربتها ولا يقال إن قسم الولايات يرجع إلى السفر لأجل المال ، لأن الأمر الظاهري
هو الخطة وإلّا فجميع الأعمال قطب دائرتها المال.
والسفر
بالهدايا بين الملوك من عوائد مشاهيرهم وسنن عظمائهم يربطون بها عرى ودادهم.
ويتوصلون بالمبادلة بها إلى غير المألوف في بلادهم. ومن أشهر الهدايا بين ملوك
الإسلام وملوك أروبا هدية هارون الرشيد من بغداد لشارلمان ملك فرانسا في أواخر
القرن الثاني هجري وأول التاسع مسيحي. أرسل له فيما ذكروا بساعة وقطع للعب الشطرنج
، وهما من أغرب الغريب في ذلك العهد بأروبا. ولا بد أن تكون هدية شارلمان الشهير
جزاء إلى البادي الكريم مما تناسب سمعته ، لأن مثل هذا المقام حسب المعتاد مما
يتظاهر فيه بنفيس الهدايا من غريب الحيوان وغالي المتاع ومستظرف المصنوع وجيد
السلاح ، والسكوت عن المكافأة في الهدايا مثل إغفال الجواب عن الكتاب.
جرى إلى الوداد
مع ملوك أروبا عبد الرحمن الثاني في أوايل القرن الثالث بالأندلس مجاراة للرشيد
فأرسل يحيى الغزال من كبار الشعراء والحكماء إلى ملك القسطنطينية سنة ٢٢٥ لربط عرى
المودة بينهما وصار لعبد الرحمن شأن في آذان بني العباس الناقمين على الأموية
بالأندلس ، وكلاهما يسر حسوا في ارتغاء ، يتظاهر بالمودة ويترامى بالهدايا كأنما
ذلك لمجرد التعرف والمجاملة للجامعة الملكية ومناجاة من العباد بين المتساويين في
صولجان السيادة ، وفيما يظهر أن غرض الأموي إرغام العباسي بمصادقة جاره وعدوه قيصر
القسطنطينية مشاكلة للعباسي في محالفة
إمبراطور فرانسا يجأجىء به على حدود الأندلس عسى أن تضعف شوكة بني أمية أو
على الأقل يقف تيارهم. وهذه شنشنة أخزمية بين الدول ، وعادة معروفة وسنة مألوفة
حتى الآن في المحالفات والاتفاقيات.
رحل الكاتب
الشاعر المؤرخ إبراهيم الرقيق بن القاسم القيرواني سنة ٣٨٨ بهدية من نصير الدولة
باديس بن زيري من القيروان إلى الحاكم الفاطمي بمصر وقال في ضمن القصيدة التي
نظمها في هذا الغرض :
إذا ما ابن
شهر قد لبسنا شبابه
|
|
بدا آخر من
جانب الأفق يطلع
|
إلى أن أقرت
جيزة النيل أعينا
|
|
كما قر عينا
ظاعن حين يرجع
|
وما مثل
باديس ظهير خلافة
|
|
إذا اختير
يوم للظهيرة موضع
|
حسام أمير
المؤمنين وسهمه
|
|
وسم زعاف في
أعاديه منقع
|
وغالب الهدايا
التي تصدر من إفريقيا تكون من جياد الخيل ، وقد حدث عنها موسى بن نصير سليمان بن
عبد الملك في آخر القرن الأول وذكر له أن أحسن خيلها الشقر. وابن الخطيب يقول في
وصف هذا النوع منها :
وورد شقر
واضحات شياتها
|
|
فأجسامها تبر
وأرجلها در
|
ومن المنسوجات
الصوفية ، ومن سباع الوحوش والطير ، وأكثر ما يستغربه أهالي أروبا الجمل مثلما
تستغرب عندنا بشمال إفريقيا الزرافة والفيل. وقد شرح الكاتب البليغ والمؤرخ الخبير
سيدي محمد بن الخوجة في الرحلة الناصرية إلى باريز عام ١٩١٢ الهدايا التي دارت بين
ملوك فرانسا وتونس. وينتقى للسفر بين الملوك نوابغ الرجال في النباهة والفصاحة
والعلم والسياسة لأنهم عنوان عن سياسة الملك المرسل
ومرآة ترى فيها مجسمة صورة المملكة التي منها الرسول ، في الطباع والمعارف
ودرجة التفكير ، وهم لا يحتاجون لما لهم من المقدرة والتفويض بالنيابة عن المرسل
إلى مراجعة لبعد الشقة ، ولا بد أن تكون ممن تطيب لهم النفوس على الأسرار التي هي
أصعب من الائتمان على الأموال والحرمات التي لا تودع إلا عند الثقة الأمين ، وصاحب
النباهة والدين. والاستنجاد والإمداد من مشاهير الرسل فيه عبد الرحمن بن أنعم لما
أحاط الخوارج بالقيروان ، أرسله السكان إلى الخليفة المنصور العباسي لإنجادهم لها
، بلغت عساكر الحصار للقيروان في هاته الفتنة ٣٥٠ ألفا. ومنها يعرف كثرة ساكن
المدينة وجندها. ولما طال مقامه تشوف للإياب وتلطف في الإذن بالرجوع ، فأجيب
لمرغوبه وولاه القضاء على مدينته فقال قصيدته الشهيرة :
ذكرت
القيروان فهاج شوقي
|
|
وأين
القيروان من العراق
|
وابن الأبار
خاض البحار من الأندلس إلى تونس واستنجد بالحفصي في أوايل القرن السابع بالقصيدة
الشهيرة :
أدرك بخيلك
خيل الله أندلسا
|
|
إن السبيل
إلى منجاتها درسا
|
وهب لها من
عزيز النصر ما التمست
|
|
لا زال منك
عزيز النصر ملتمسا
|
ورسول صلاح
الدين الأيوبي إلى يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبد المومن بن علي يستمد منه الإعانة
بالأسطول في الحروب الصليبية ، ولاكنه لم ينجده حيث لم يذكر من ألقاب التعظيم في
الكتاب ما تطمح إليه نفسه. وسافر العلامة المنعم سيدي إبراهيم الرياحي رسولا من
أمير تونس إلى ملك المغرب في عام مسغبة للترخيص في شراء الحبوب للمملكة التونسية.
وابن الخطيب في القرن الثامن سافر بين متبوعه ابن الأحمر وبين أبي عنان المريني
فقضى حاجته قبل أن يجلس وهي من خوارق البخت والمقدرة. وله من الثقة ما وكل له بها
السفر بحزم ابن الأحمر من
المغرب إلى الأندلس فيما بعد الستين والسبعمائة. مثل عامر بن محمد الهنتاتي
المصمودي الذي جعل له النظر على حرم السلطان أبي الحسن المريني في البحر بين تونس
والأندلس. وكذلك المنعم قريبنا العلامة النزيه الشيخ أحمد الورتتاني ثاني رؤساء
الأوقاف سافر بحرم الوزير الخطير المنعم خير الدين التونسي من تونس إلى الأستانة.
والسفر في مسايل دولية خاصة ، مثل الوفد الذي أرسله إبراهيم بن الأغلب إلى شارلمان
ملك فرانسا ، وشارلمان من العز والسطوة بمكان. فقد دانت له إيطاليا وجرمانيا ،
وكان فيصلا عند جميع ملوك أروبا حتى قيل إنه كان سعيدا كأغسطوس ومقداما في الحرب
كأدريانوس. فارتبطت بين القيروان وفرانسا علائق التعارف ، وتجاذب ابن الأغلب
وشارلمان حبل الوداد على سطح البحر الأبيض الذي سكن هياجه خوفا من هذين الملكين
الشهيرين بعدوتيه. والبحر الأبيض كما سيأتي في فصل الحديث عنه لا تومن غايلته على
سالكه أو مجاوره إلّا إذا كان سكان عدوتيه بمنزلة الدولة الواحدة. وإلّا اغتنم
الخلاف لإخافة السرب ، وشن غارات القرصنة والنهب. أدى هذا الوفد رسالة متبوعه إلى
ملك فرانسا وهو بجهات إيطاليا عام ٨٠١ وذلك بعد أن أتت رسل ملك فرانسا إلى
القيروان في أواخر القرن ٢ هجري لطلب تسليم رفاة صان سيبريان. وترجمته أخذا من
أوسع المصادر. أصل اسمه طاسيوس سيسيليوس سيبريانوس ، ولد في قرطاجنة حسب الظن في
أول القرن ٣ ومات ٢٥٨ م وهو من عائلة من أعيان رومة. وتعلم جيدا وصار مباشرا
للتعليم العالي ، ولما بلغ ٣٥ عاما دخل المسيحية على يد سيسليوس بقرطاجنة وتصدق
بثمن كامل أملاكه على الفقراء وترهب ، وأخذ يقرأ كتب الدين. وفي عام ٢٤٨ ترقى لخطة
دينية في قرطاجنة ثم وقع اضطهاد في المسيحية. وبعد أن دافع هذا الموظف وعجز سافر
إلى مكان غير معلوم ثم رجع بعد سكون الاضطهاد فوجد المسيحية ضعفت ووقعت خلافات
بزنطية نفي فيها المذكور ، ثم رجع ثم جرى عليه بحث وأخيرا قتل في ١٤ سبتمبر ٢٥٨
وخصص له موسم سنوي في ١٦ سبتمبر. وطلب الملوك لبعض المهمات في نظرهم كثير الوقوع ،
فإن يعقوب المريني طلب من ملك إسبانيا عام ٦٨٤ أن يوجه له جانبا من الكتب العربية
الباقية من مخلفات الأندلسيين فأرسل له منها ثلاثة عشر حملا. وفي المسايل الدولية
الخاصة سافر أستاذنا العلامة الفخر سيدي
سالم بوحاجب أدام الله نفع القطر به. إلى إيطاليا مع المنعم السيد حسين
وزير العلوم وكانت وجهتهما في موضوع واحد شارك في مثله قبل ذلك المنعم الوزير خير
الدين التونسي بباريز. سافر ابن خلدون إلى ملك قشتالة بطره بن الهنشة بن أدفونش (هكذا
سماه) لعقد الصلح بينه وبين ابن الأحمر ٧١٥ وأثنى على معاملته له وإكرامه وإهدائه
له بغلة فارهة. وممن سافر من القيروان المرحوم السيد محمد المرابط الفريق وعاملها
فيما بعد. وجهته الحكومة إلى فرانسا عام ١٢٧١ مع اثنين من أبناء العائلة الحسينية
لتهنئة نابليون الثالث بالنجاة من اليد العادية التي رمته بالرصاص. وبين هاذين
الملكين وداد سابق فقد أرسل في عام ١٢١٨ ملك فرانسا إلى أحمد باي رسولا يعوده لما
بلغه خبر مرضه.
وكثيرا ما
يسافر الملوك أنفسهم لزيارة بعضهم وينشأ عن ذلك الاجتماع من الحديث في المسايل
العظيمة ما لا يمكن أن يقال أو يبرم بواسطة الرسل والرسائل لما بين الملوك من
الاحترام والمسارعة إلى الإجابة في الرغايب التي تعرض بلا واسطة.
وهذا الأمر
أصبح في العصور الجديدة شائعا. ومن قبل ربما استعظموه وكبر على نفوسهم ويحسبون من
العزة والانفراد بالتبجيل وكلمات التفخيم ، وأن الملوك لا تتلاقى إلّا في الحروب ،
وأن التساوي في المعاملة فيما بينهم ليس إليه من سبيل ، حيث يحط من كرامة من يعتقد
الرفعة على الآخر. وقد قال محمد بن الحكيم إلى أبي يحيى الحفصي لما أراد الاجتماع
مع أبي الحسن المريني بالمغرب الأوسط أن لقاء سلطانين لا يتفق إلّا في يوم على
أحدهما فكره ذلك السلطان الحفصي وتقاعد عنه ، نقل ذلك ابن خلدون. وقال في شأن
اجتماع ملك إسبانيا ويعقوب المريني عام ٦٨٤.
فلقيه أمير
المسلمين بأحسن مبرة وأتم كرامة يلقى به مثله من عظماء الملل. قلت ويظهر أن ملوك
الأندلس والمغرب الأقصى كانوا أعرف بالسياسة وأكثر خبرة من ملوك بني حفص بمقتضى
الحال لمجاورتهم لملوك أروبا. ومن الملوك الحسينيين سافر المنعم سيدي الصادق باي
للجزاير ١٢٧٨ لملاقاة نابليون الثالث هناك. وسيدي أحمد باي إلى باريز عام ١٢٦٢ وفي
صحبته شيخ المؤرخين بتونس المنعم السيد أحمد بن أبي الضياف وقد وصف طرفا مفيدا من
الرحلة والإقامة.
والمنعم سيدي
محمد الهادي باي عام ١٣٢٢ ـ ١٩٠٤ إلى باريز رجع الزيارة إلى
المفخم المسيو لوبي رئيس الجمهورية الفرانسوية الذي أتى لتونس عام ١٩٠٣.
ومن مآثره في تلك الزيارة وضع الحجر الأساسي للتكية بتونس وقد كنت أرختها ونص ما
نشرته جريدة الحاضرة المؤرخة بيوم الثلاثاء في ١٦ صفر ١٣٢٤ الموافق ١٠ أفريل ١٩٠٦
عدد ٨٨٧.
صدى التكية
هبت على
القيروان شمول هاته الحسنة فحركت قريحة الفاضل الأديب الشاعر المطبوع السيد محمد
المقداد الورتتاني فجادت بأبيات بديعة تاريخا لهذه المنقبة التي سيسرمد الدهر
ذكرها ، ولذلك نبادر لإثباتها هنا خدمة للتاريخ وللأدب ، وسيرى القاري الكريم ضمن
البيت الخامس منها ذكر اسم المفلق هيكو صاحب كتاب البؤساء ، وما هذا الاستنباط
الغريب في فن القريض العصري إلا من البديعيات في كلام هذا الشاعر التونسي ، ووقع
نظيرها في كلام نخبة من شعراء الإسلام منهم الأديب ابن الصايغ حيث قال ضمن قصيدة
فريدة «كأني هميروس لدين محمد».
ومعلوم أن
هميروس هذا هو الشاعر اليوناني صاحب الإلياذة التي ملأ ذكرها الآفاق ، أما الأبيات
المشار إليها فإليك هي بحروفها :
قف ورز للبر
قصرا أنفسا
|
|
من خطوب
الدهر يحمي الأنفسا
|
منزل تبارك
الله سما
|
|
ونما خيرا نضيدا
حبسا
|
هيأت جناته
رفقا بمن
|
|
حالك العصر
عليهم عسعسا
|
فيبيتون وقد
لاذوا به
|
|
وإذا صبح
المنى تنفسا
|
ليت هيكو
الفيلسوف البشري
|
|
حاضرا قصر
نعيم البؤسا
|
كل مأمول عدا
الخلد به
|
|
راحة النفس
وقوت وكسا
|
صنعه المحكم
والبر الوفي
|
|
جددا ما كاد
أن يندرسا
|
ذلك من عزم
البشير الوطني
|
|
حافظ الوقف
رئيس الرؤسا
|
كم له في كل
فضل من يد
|
|
غبطت مصر
عليه تونسا
|
ورئيس حكم
باريز السري
|
|
شرفت يمناه
تلك الأسسا
|
ذلك الشهم (لبي)
حامي الحمى
|
|
من له في
القطرود غرسا
|
وكذا الهادي
السني باينا
|
|
فهو كهف بهما
تأسسا
|
قد تولى فتحه
يوم انتهى
|
|
وزرا ضاهوا
الجواري الخنسا
|
نعم كهفا
منزل تاريخه
|
|
قصر بر محسن
للبؤسا
|
ووضع الملوك
أيديهم في تأسيس البناءات المعتبرة شايع من قديم ويقول الوزير السراج في تاريخ
تأسيس المنعم سيدي حسين باي بن علي لسور القيروان المرقوم على باب تونس الآن من
قصيدة مطلعها :
«للقيروان نظام في تعجبها»
|
|
وكيف لم
تتشرف يوم أرخها
|
وكان أول في
وضع يديه بها. ولسيدنا ومولانا محمد الناصر باي أدام الله كمال
طلعته وأيد رجال دولته رحلة في عام ١٣٣٠ ـ ١٩١٢ إلى باريز ، ومعه وزراؤه
الكرام ، رجع بها الزيارة إلى جناب المفخم رئيس الجمهورية المسيو فاليار الذي أتى
للمملكة التونسية عام ١٣٢٩ ـ ١٩١١. وقد تكفل قلم الكاتب البليغ والمؤرخ الخبير
سيدي محمد بن الخوجة ببسط القول على تلك الرحلات بما جلى في كتاباته وتحاريره على
كل سابق وسن الطريق في أساليب التآليف لكل لا حق.
السفر على وجه البحر كالنفي والأسر
أسرت الروم عبد
الرحمان بن أنعم في البحر ومضوا به إلى القسطنطينية ثم افتدي مع من افتدي من
الأسرى. وكان الملك هم بقتله فحرك شفته بقوله : الله ربي لا أشرك به شيئا فسأله
الملك عن ذلك فأعلمه بما قال فأطلقه لذلك. وكذلك وزمار بن صقلاب أمير مغراوة
وزناتة أسره عبد الله ابن أبي سرح وأرسل به إلى سيدنا عثمان ، فلما أسلم أطلقه
وصار له ولذريته من بعده ذكر ونفع للأمة وانتماء وتشيع لصاحب الولاء. وغالبا يكون
القسم الأول لأسباب سياسية وأحكام إدارية. وقد سارت لأجل ذلك سفينة نابليون إلى
جزيرة هيلانة وسفينة إسماعيل باشا والي مصر ، وغيرهم من عظماء الرجال كثير.
والثاني يكون لاختلاف الأمم وينشأ عنه الرق في الإسلام على شروط معلومة وأحيانا
لمجرد التعدي في صحراء السودان والممالك الغير المنظمة والقرصنة في لجج البحار وشواطئها.
وقد أجمعت الآن آراء الدول على إراحة البشر من ذلك كله.
٥. السفر الأدبي :
١. كزيارة
الأقارب والأوداء لإزالة الشوق وتمكين المحبة.
٢. أسفار
الزفاف. سافر سيدنا عمرو بن العاص إلى الإسكندرية إجابة لدعوة شماس بها كان عرفه
في الشام في بعض رحلاته التجارية. والشماس في وجهة
دينية بالقدس. وقد أجهد الشماس العطش في بعض الأيام وأشرف على الهلاك فجاد
عليه بالماء عمرو بن العاص ، والعرب كرام ، ثم نام الشماس وسعت نحوه حية فقتلها
عمرو ، ومن أخلاق العرب حفظ الجوار ، فلما استيقظ الشماس وعلم قيمة هاتين المزيتين
طلب منه أن يزوره في بلده الإسكندرية حيث كان منقطعا عن أهله وماله ولا يقدر على
مكافأته عن إحيائه له مرتين. نجاه من العطش والحية معا. وعند ما حل سيدنا عمرو
بالإسكندرية قابله الشماس بكل حفاوة وإكرام في إقامته وعودته. سافر عبد الرحمان بن
أنعم قاضي إفريقية من القيروان في أواسط القرن الثاني إلى بغداد لزيارة أبي جعفر
المنصور صاحبه من عهد التعليم ـ وحلقات العلم من أعظم أسباب التعارف المتين لرجال
المستقبل وحكى عن نفسه قائلا : كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين
قبل الخلافة فأدخلني يوما منزله فقدم إلي طعاما ومريقة من حبوب ليس فيها لحم ثم
قدم إلي زبيبا ثم قال يا جارية : عندك حلواء؟ قالت : لا. قال : ولا التمر؟ قالت :
ولا التمر. فاستلقى ثم قرأ هذه الآية (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ). قال فلما ولي المنصور الخلافة أرسل إلي فقدمت عليه
فدخلت والربيع قايم على رأسه فاستدناني وقال يا عبد الرحمان ، بلغني أنك كنت تفد
إلى بني أمية. قلت أجل. قال : كيف رأيت سلطاني من سلطانهم وكيف ما مررت به من
أعمالنا حتى وصلت إلينا. قال فقلت : يا أمير المؤمنين رأيت أعمالا سيئة وظلما
فاشيا ، وو الله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور والظلم إلّا
ورأيته في سلطانك وكنت ظننته لبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت كان الأمر أعظم.
أتذكر يا أمير المؤمنين يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاما ومريقة من حبوب لم يكن
فيها لحم ثم قدمت زبيبا ثم قلت يا جارية عندك حلواء قالت : لا. قلت : ولا التمر.
قالت : ولا التمر. فاستلقيت ثم تلوت (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ) فقد والله أهلك عدوك واستخلفك في الأرض ، ما تعمل؟ قال
فنكس رأسه طويلا ثم رفع رأسه إلي وقال : كيف لي بالرجال؟ قلت : أليس عمر بن عبد
العزيز كان يقول : إن الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها ، فإن كان برا
أتوه ببرهم وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم. فأطرق طويلا فأومأ إلي الربيع أن اخرج
فخرجت ، نقل ذلك الحموي. رحل أبو عقال غلبون ابن الحسن من القيروان إلى مكة
في القرن الثالث وهو من عائلة بني الأغلب فرحلت إليه أخته من القيروان لزيارته
وأقامت معه بمكة حتى مات فقالت في حقه :
ليت شعري ما
الذي عاينته
|
|
بعد طول
الصوم مع نفي الوسن
|
مع عزوب
النفس عن أوطانها
|
|
والتخلي عن
حبيب وسكن
|
يا شقيق ليس
في وجدي به
|
|
علة تمنعني
من أن أجن
|
وكما تبلى
وجوه في الثرى
|
|
فكذا يبلي
عليهن الحزن
|
١٣٢٠ ـ ١٩١٢ في العام الفارط سافر
صديقنا الفاضل الحسيب النحرير سيدي الخضر ابن الحسين إلى دمشق الشام لزيارة أقاربه
بيت العلم والشرف والنزاهة ومكارم الأخلاق ونشرت جريدة الزهرة من تحرير قلمه
البليغ وأدبه الغزير في شأن الرحلة ما تسابقت أيدي قراء العربية إلى تناوله من
مطبوعات تلك الجريدة وادخاره ذخرا بين عيون الأخبار وأحاديث الأسفار.
ومن عوايد
أروبا سفر العروسين وقت الزفاف ، ولعلهم يرون فيه راحة من تكاليف المنزل وقبول
المهنئين. والمسافرون يركن بعضهم إلى بعض بداعي الحاجة والإعانة ، وفي السفر يعلم
الإنسان قيمة نفسه ، واحتياجه إلى بني جنسه ، والإنسان مدني بالطبع. يعمد هاذان
الرفيقان في مبدأ تعارفهما للاجتماع العمري على وجه الأرض إلى الترافق في سفر قصير
يستفيدان منه لزوم إعانة كل منهما للآخر في سفر الحياة الطويل وحاجته الشديدة إليه
، ولكي يعلما أن ليس لهما ثالث يعتمدان عليه في شؤونهما أوله حظ في القرب من منزلة
اتحادهما. وليس للعروسين من درس لذيذ ومفيد لهذا الغرض العظيم أحسن من السفر وهذا
شأنهم في غير سفر الزواج ، فمتى رحل الرجل في أي خدمة أو نزهة إلا وعياله معه ،
وإذا تمثلنا نحن بقول الشاعر :
نقل ركابك في
الفلا
|
|
ودع الغواني
في القصور
|
ما الماكثون
بأرضهم
|
|
إلا كسكان
القبور
|
قلت قال لسان
حالهم :
نقل ركابك في
الممالك
|
|
بالعيال ترى
السرور
|
إن العيال
إذا نووا
|
|
أضحوا كسكان
القبور
|
وتلك رتبة من
ثمرات العلم والتهذيب العام في طبقات الرجال والنساء دون الوصول إليها مراحل
الأجيال ، وعظائم الأعمال وعزائم الآمال.
الإقدام على السفر لغير الممالك الإسلامية
الإقدام عليه
ما دام الإنسان آمنا على نفسه ودينه وماله لا مانع منه لجميع الممالك المتباينة
الأجناس والأديان. وبالأحرى إذا كان لفائدة مرغوب فيها فإن الحكم الشرعي الذي جاء
بمصالح الدنيا والدين يتعلق بذلك على حسب تفاوت الأسباب والمصالح. وسيأتي شرح
الأمن في فرانسا على الدين والنفس والمال ـ وقد سافر أساطين العلماء سعيا في الصلح
أو مناظرة أهل الأديان أو في السفارات أو في نقل العلوم ونحو ذلك ـ وقد تكلم
الفقهاء في ذلك قديما وعنونوها بمسألة السفر إلى أرض الحرب أو دار الحرب. وجاء
الناس بعدهم فتلقفوا كلماتهم بدون إمعان النظر فنزلوا المسألة على السفر لغير بلاد
الإسلام مطلقا وغضوا النظر عن كلمة دار الحرب.
فإن دار الحرب
هي بلد القوم العدو الذين بيننا وبينهم القتال بحيث من ظفر منهم بواحد منا كان غير
آمن على نفسه وماله كما كان الحال في أيام القرصنة. وقد توسع
بعض الفقهاء فعلل المسألة بأن المسافر إلى غير بلد الإسلام تجري عليه أحكام
غير الدين الإسلامي ولا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه لذلك. وقد وقع التعليل بذلك في
المدونة وقال لا أحب ذلك ففهم سحنون وابن حبيب الحرمة وارتضاه المازري ، وذهب
جمهور القرويين إلى أنه مكروه ولا يجرح في عدالة فاعل واستدلوا له بتصريح مالك في
غير المدونة. وقال ابن محرز الصواب أنه إن لحقت المسافر ببلدهم مذلة فهو مكروه وإن
لا فلا شيء فيه.
نصّ الرّحلة
قبل السفر إلى فرانسا
كنت أبحث كثيرا
عما يلزم المسافر وما ينبغي له أن يحتاط منه في فرانسا حيث لا يوجد دليل يشتمل على
ما يتطلبه التونسي عند السفر لأروبا. وبعد أن جمعت كثيرا من الإفادات لخصت من
أهمها ثلاثة أشياء يجتهد المسافر للتيقظ لها وهي :
١ ـ التنبيه
لبعض المحتالين بإظهار التودد وبالتدليس في التشبه بقوم ذوي شرف أو وظيف ومرادهم
الخداع. وأن تلف الثياب كما يلزم على البدن ، وبالأخص الجهات التي بها مال الإنسان
وحاجته تحفظا من تسرب أيدي السراق من المنافذ الكثيرة في الثياب العربية ، وإن كان
الأروباويون يجهلون خفايا وأكمام لباسنا ومواقع وضع المال. وقد سمعت ذلك من بعض
العائلات في باريز اغتباطا على جهل السراق لذلك واطمئنانا عني من هاته الجهة حسبما
يأتي ـ وأن لا تسلم الحقيبة عند النزول من السفينة أو القطار للحمالين غير
المستخدمين بالشركات ، وبالأخص في مرسيليا المفعمة أرصفتها وطرقاتها بمزيج من
أصناف الحرافيش وكثير من أذناب الأمم.
٢ ـ التباعد عن
القهاوي التي تجلس بها النسوة ذوات الحرية وتغشاها غير ذوات الأزواج ويكثر
اجتماعهن فيها وبالأخص ليلا.
٣ ـ التنبيه في
الطرقات للسيارات «الأتوموبيلات» لكثرتها وسرعة سيرها لأنها أضرت بكثير من الناس
من أبناء البلاد فكيف بالغريب الذي تصعب عليه بباريز السباحة في تيار الطرقات
المفعمة بحشر من البشر والحيوان والعجل وضروب آلات النقل السريعة. وسيأتي ذكر هاته
المسايل في مواضعها.
والعلم قبل
السفر بالأماكن المقصودة والإحاطة خبرا بشؤونها والاحتياط لما يهم المسافر منها
مما يوفر الاستفادة والأمن والمال للمسافر عند الوصول إليها كما لا يضيع على
المسافر الوقت في البحث والسؤال. والوقت للمسافر أنفس من المال.
من القيروان إلى باريز
المسافة بين
القيروان وباريز نحو خمسين ساعة برا وبحرا ، فالراكب من القيروان بالقطار على
الساعة الرابعة ونصف صباحا يوم الجمعة مثلا يدرك السفينة التي تخرج من مرسى تونس
على الساعة الثانية بعد الزوال ، ومن الغد يوم السبت مساء يصل إلى مرسيليا مرسى
التجارة العظمى بفرانسا على الساعة الثامنة مساء ومنها إلى باريز. والحصص اللازمة
للتنقل بين مراكب البر والبحر في العدوتين قليلة جدا ، ومدة السفر الحقيقية من
القيروان إلى تونس سبع ساعات في القطار ، وفي البحر ثلاثون ساعة ، ومن مرسيليا إلى
باريز نحو اثنتي عشرة ساعة في القطار السريع جدا ، ولا يقف بعد مرسيليا إلّا في ست
مراكز فقط وهي أفينيون ، فلانس ، ليون ، ماكون ، ديجون ، لا روش ثم باريز. وبعض
القطارات تصل في أربع عشرة ساعة فما فوق.
فالجملة نحو
يومين بين القيروان وباريز التي هي مسافة نحو ألفي كيلومتر فمن القيروان إلى تونس
على طريق سكة الحديد نحو مائتي ميل ، ومن تونس إلى مرسيليا بحرا ٨٨٥ ميلا ومن
مرسيليا إلى باريز ٨٦٢ ميلا.
يوم السفر من تونس إلى فرانسا
قطعت تذكرة
السفر من شركة الملاحة المسماة لا طرانز أتلانتيك على طريق إدارة النيابة الأجنبية
«لا جانس طرانجي» في الدرجة الثانية بحرا وبرا من القيروان إلى القيروان. وعينت
الخطوط والبلدان التي أمر بها وأجرة الكراء برا بحساب الأميال ، وكلما كثرت قل
الكراء ، ويدفع مسبقا بتخفيض محدود يقارب الثلث لو دفع المسافر أجرة الركوب إلى كل
بلد في مراكز الدفع ويسمى (بايي سركلاير). كما أن الشركة تتولى قبض معلوم الركوب
في البحر ثلاثة فرنكات. وكان الفاضل الثقة الشيخ أحمد ابن سعيد المحصل على شهادات
التطويع والخلدونية واللغة الفرنساوية قد عزم على السفر لفرانسا ، فعقدنا النية
على الترافق وعزمنا على المصاحبة في السفر إلى أروبا ، وهو من أحسن الناس معاشرة
وأصفى مودة وأنزه طوية وأبعد عن التداخل في الخصوصية. ذلك كله بعد أن قدمت مطلبا
إلى النيابة المذكورة قبل السفر بمدة وعينت لها يوم الركوب وهو من لوازم المسافر
ليأخذ فراشا في السفينة ، إذ قد لا يجد مكانا للكراء يوم السفر إذا أخر الطلب ،
وبالأخص في أيام المصيف التي يكثر فيها المسافرون الأروباويون إلى مرسيليا رجوعا
إلى لدات الأوطان ونعيم المصيف ، فيجمعون بين الوطن والوطر ، يصطافون بلد الثلج
ويشتون بلد التمر. وركبت يوم الجمعة مساء على الساعة الثانية بعد الزوال في
السفينة المسماة بلد الجزائر «فيل دالجي» ، ووادعنا بعض من الأقارب من بينهم الشيخ
سيدي عمر الورتتاني ولمة من الأصدقاء والأخلاء ، منهم الأكمل النحرير الشيخ سيدي
الطاهر ابن عاشور قاضي قضاة المملكة التونسية فيما بعد ، والمفضال الإمام سيدي
محمود محسن الشريف ، وشقيقه الأكمل الإمام سيدي علي محسن. ورأيت كثيرا من الأحباب
بعد صعودي ظهر السفينة قرب الأقلاع ليتمكنوا من مقابلتي ، جازى الله جميعهم خيرا.
وقوة الوداد ، إنما تظهر في وداع وتلقي المسافر من البعاد. وتلك الذوات آخر ما
يبقى بخياله في الاغتراب ، وأول ما يسر بها عند الإياب.
كما أن
الإعانات المادية والأدبية والإرشادات المفيدة للمسافر التي أمدنا بها كثير من أهل
الكمال والوداد مما رسخت في نفوسنا التي أثر عليها ذلك الحنو والانعطاف
في مثل تلك الأوقات التي يعز فيها على الإنسان كثرة الأصدقاء ، ومن قبل كان
فتح عينه على كثير ولا كنه إذ ذاك لا يرى إلّا قليلا فيحسن التمثل بما يأتي :
وإذا دعتك
إلى صديق حاجة
|
|
فأبى عليك
فإنه المحروم
|
«فالأمر» يأتي عاجلا من غيره
|
|
وشدايد «الحاجات»
ليس تدوم
|
فاستغن عنه
ودعه غير مذمم
|
|
إن البخيل «بجاهه»
مذموم
|
كل ذلك بعد أن
أخذت رخصة من الحكومة لمدة شهرين في السفر لأروبا ودفعت عن ذلك ٣ فرنكات. وبلغني
من بعد أن الموظفين يمكن أن يعفوا من الأداء منحة لهم مثل الإعفاء من كراء ركوب
البحر الذي تعطفت همة جناب مسيو بلان الكاتب العام بالدولة التونسية فسوى فيها بين
الإدارات التي يراها كلها لديه سواء ، والمتوظفين فيها منه بمنزلة الأبناء. لذلك
تراه ينشطهم بأقواله وفعاله. وتذكرة الرخصة في السفر يستظهر بها عند الصعود في سلم
السفينة بالرصيف لأعوان المحافظة المراقبين لكل مسافر. وغلمان السفينة يتلقون
الراكب ويعينون له فراشه من العدد المرقوم على بطاقة السفر ويعينونه على رفع
أمتعته ومواد سفره وقضاء حوايجه وهو ملزوم بالإحسان إليهم. ومن هنا يأخذ في التعود
على الإحسان «بوربوار» أي ثمن المشروبات الواجب في كل مكان بفرانسا إلى كل من
يباشر لك عملا زيادة على الأجور الواجبة.
بين السماء والماء وصف البحر وراكبه
أقلعت السفينة
على الساعة الثانية بعد زوال يوم الجمعة بالتعديل المعتبر رسميا والمعمول به
بالمملكة التونسية أخيرا المطابق لخط الزوال بأواسط أروبا ، وهو شرقي خط
الزوال بتونس والقيروان ووقته سابق بنحو ربع الساعة أو ثلاثة أرباعها بحسب
تنقلات الشمس وتباعد خطوط الزوال في أواسط الكرة وتقاربها في أطرافها على ما
اقتضاه شكلها الكروي السابح في الفضاء كبقية الكواكب. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ودامت السفينة في القنال بين الرصيف وحلق الوادي نحو
نصف ساعة.
خاضت غدير
الماء سابحة بها
|
|
فكأنما هي في
سراب أينقا
|
كانت سرعة سير
السفينة ثلاثة عشر ميلا بحريا وهي أربعة وعشرون كيلوميترو والميل البحري ١٨٥٠
مترا. ولسير السفن في البحر حساب خاص فيعبرون على مسافة خمسة عشر ميترو وكسر بالنو
«عقدة». والميل البحري مركب من مائة وعشرين «نوا» ولما كانت الساعة بها ستون دقيقة
قسموها إلى مائة وعشرين مثل أجزاء الميل البحري ، فكان الجزء من الساعة لأجل ذلك
عبارة عن نصف دقيقة وبها يحسبون ما تقطعه السفينة من عدد «العقدات». فسفينة
الجزاير تقطع ١٣ نوا أي في نصف الدقيقة وذلك عبارة عن ١٣ ميلا بحريا في الساعة
المساوية لأربعة وثلاثين كيلوميتر من حساب مسافات البر. وعدد المستخدمين بالسفينة
تسعون وصنعها كان عام ١٨٩٠. وقوتها ثلاثة آلاف وخمسمائة فرس ولها تلغراف بدون سلك
وبها فرش ٩٥ في الدرجة الأولى وفي الثانية ٨٧ وفي الثالثة ٤٢ ، على عكس المجالس في
قطارات البر حيث تكون الرتبة الثالثة أكثر ثم الثانية ثم الأولى ـ وهاته الشركة
فرانساوية رأس مالها ثمانون مليونا ، وابتداء أعمالها في البحر المتوسط من سنة
١٨٨٠ ولها فيه عشرون سفينة جايلة ، وعلى جميع سطح البحار في العالم لها ٧٨ سفينة.
قضينا عشية
اليوم والسمر بالليل في هدو وطيب هواء وراحة بال ، وشكرنا البحر وعجبنا من عظمته
وتلونات مائه وامتداد سطحه والتصاق آفاقه بالأفلاك. فكان مثله مثل الحليم في قدرته
أو العالم مع صغار تلامذته ، يبدي لهم ألوانا من المسايل بحسب ما يراه فيهم من
القابلية وتفاوت الأهلية. وعندما غابت الشمس في لججه غاب عنها معها حسن ذلك المنظر
الذي راق لنا للمرة الأولى. وكان البحر أسدل علينا ستار الليل ليستحضر رواية
عجائبه ويمثلها لنا في الغد. ففي آخر الليل انقلب
الحال وانعكست القضية ، وما بالطبع لا يتخلف. فاضطربت السفينة وغلقت شبابيك
غرف النوم لأن شرب الماء المالح لا ينطبق على صحتها :
ومخالط
السلطان مثل سفينة
|
|
في البحر ترعد
دائما من خوفه
|
إن أدخلت من
مائه في جوفها
|
|
آوى بها مع
مائها في جوفه
|
فكأنه يعاملها
بشريعة المصريين إذ كانوا يعاقبون السارق بأن يسترق طول دهره ، كما قصته علينا
سورة يوسف ، فصعدت إلى الطبقة العليا وبها بيوت الأكل والجلوس منظمة بأحسن من بيوت
المنازل البرية ، وكلما زاد النهار ازداد الاضطراب وأتعب الدوار الركاب وبالأخص
أصحاب الدرجة الرابعة الذين على سطح السفينة ، فقد ابتلت حقائبهم وأمتعتهم التي
طفت عليها الأمواج ، فأصعدوهم على سطح بيوت الأكل ومجالس الراحة بعدا عن تيار
الماء واختطاف الأمواج حيث مجالس الرتبة الأولى والثانية بأسفل بطن السفينة ، وأما
الرتب الأخيرة والرخيصة ففي أعلاها عرضة للحر والقر. وكذلك مجالس التمثيل حيث أهل
الدرجة الأولى ينظرون للمرسح وأدوار الرواية أفقيا على مساواة سطح مجالسهم. وصار
منظر السفينة محزنا حيث لا يرى إلا ركاب مبتلي الثياب وآخرون بدواير السفينة
يتجرعون ما في بطونهم من آلام الدوار ، والبعض ملقى على الكراسي والكنبيات لا حراك
به ، وطائفة على الأرض تئن بدون أن تقدر على الوقوف ، ومنهم من يحاول المشي نازلا
إلى الطبقة السفلى التي بها غرف النوم وبيوت التطهير ، والبعض يعاني الصعود للجلوس
في الطبقة العليا استنشاقا للهواء. وبالجملة (وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) ولكن دوار البحر شديد ، وتحقق قول الشاعر :
ترى متنه
سهلا إذا الريح أقلعت
|
|
وإن عصفت
فالسهل منه وعور
|
حاولت في أول
الأمر الثبات وعدم الاكتراث وكنت لا أعرف معنى لآلام الدوار
ولم يكن يخطر ببالي أنه يتغلب على حواسي. وعدم الخوف مما يخفف فيما يظهر ،
وأما الوهم فإنه مما يتقوى به الألم. وأخيرا كانت قدماي غير مساعدتين لي على
الوقوف والمشي بهما على خلاف ما أعهد منهما. يكثر الصداع برأس الإنسان فلا يحب
إلّا الاتكاء. ويتمشى الوجع بين الرأس والقلب فيتطلب ما في المعدة الخروج قهرا ،
وكلما نزلت السفينة في هوة بعد الصعود على الأمواج التي هي كالجبال إلّا ويهوي
القلب في جسد الراكب حتى يكاد يتقطع ، فيتأثر جميع البدن ويكاد يغمى على الدماغ.
كنت أشجع نفسي في أثناء هاته الحالة لأتمكن من إغاثة بعض القوم الذين كانوا صرعى
على بساط السفينة رجالا ونساء ، غير أنني صرت لا أقدر على الحركة بالمرة. نعم كنت
أشاهد الزوج لا يلوي على زوجته ولا يتذكر صديق صديقه فهم لا يعملون بما قاله ابن
رشيق :
ولقد ذكرتك
في السفينة والردى
|
|
متوقع لتلاطم
الأمواج
|
والغيث يهطل
والرياح عواصف
|
|
والليل مسود
الذوايب داج
|
وعلا لأصحاب
السفينة ضجة
|
|
وأنا وذكرك
في ألذ تناج
|
ولم يجلس
المسافرون على مائدة الأكل ساير اليوم وفازت السفينة بطعام الصباح والزوال والعشاء
، حيث المؤنة داخلة في معين الكراء عدا موظفا عسكريا فرانساويا أتى من المغرب
الأقصى ، وذكر أنه ركب البحر نحو العشرين مرة وأن ما عرض من الاضطراب للسفينة في
هاته المرة لم يعهده ، وكان كلما ضرب طبق النحاس إيذانا بأوقات الأكل يجلس على
المايدة وينال مشتهاه.
شكل البحر الأبيض وشئونه بين القارات الثلاث البحر الأبيض
أو الغول
الأزرق ، قل ما شئت في أسمائه ، على حسب التقلب في أعماله
والتلون في حلل مائه. ليس لمجاوري هذا البحر راحة ولا هدو من قديم الزمان ،
والأمم تتهافت على سكنى شواطئه الطيبة الهناء وامتلاك وارف ظلالها وأراضيها الخصبة
والجيدة التربة. المحفوفة بالمكاره والصعوبات ، والهجوم والغزوات. فكم تخطفت به
ظلما من أرزاق ، وأسرت من عدوتيه نفوس بريئة وأريقت على جوانبه من دماء للدفاع عن
المقر أو سلامة الشرف أو الانتقام له ، وامتلاك مكاسب الغير هجوما من قوم آخرين.
وتاريخ هذا السام الأبيض أو الثعبان الأخضر التلون لسكان عدوتيه أمنا وبؤسا وراحة
وشقاء وحلاوة ومرارة. رأسه الأسود في جهات البلغار القديمة ويداه بأراضي الفراعنة
جنوبا وجزر أمم الإكريق شمالا ، ورجلاه في ممالك الرومان بالعدوة الشمالية ومجالات
بربر إفريقية بالعدوة الجنوبية وذنبه بين جبل طارق وطنجة.
وقد اندلع هذا
اللسان من المحيط الأطلانتيكي مشرقا سالكا بين أروبا شمالا وإفريقيا جنوبا ، حتى
إذا ضرب بصدره في غربي آسيا وضع رأسه في أعالي الشمال واستنام بين قارة آسيا
وأروبا ، وأرسى بأطراف جوارحه ومكن مخالبه في شواطي القارات الثلاث أروبا وآسيا
وإفريقية. طوله نحو أربعة آلاف وخمسمائة ميل ، وعرضه بين تونس ومرسيليا ثمانمائة
وخمسة وثمانون ميلا ، وعمقه نحو أربعة أميال ونصف ودرجة حرارته نحو ٢٥ درجة على
السطح. ضرب بعصا يمينه البر «بالمهندس لسبس الفرنساوي سنة ١٢٨٦ ـ ١٨٦٩» بين مصر
والحجاز فانفلق ما بين إفريقيا وآسيا وفرق ما بينهما على القاعدة القديمة (فرق
تملك). ويقال إنه في القديم حال أيضا بين هاتين القارتين ولاكن صير فيما بعد يبسا
وفي كتاب «تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن». عندما استولى ملوك الفرس
على مصر فكروا في حفر ما بين البحرين القلزم والرومي ، ولكن توهموا ارتفاع ماء القلزم
على أرض مصر فأحجموا ، وفي دولة اليونانيين وصل بينهما بطليموس الثالث على يد
أرسمدس بلا ضرر. فلما كانت دولة الروم القياصرة طموه منعا لمن يصل إليهم من
أعاديهم. ولما عزم الرشيد على إيصال بحر السويس إلى البحر الأحمر قال له جعفر
البرمكي حيث خاف من سطو أمم البحر الأبيض على ثغور آسيا إن خرق السويس ووصله
بالبحر الأحمر خرق في الإسلام ، وأشار بأنه يجب سده لو وجد متصلا بالبحر الأحمر.
لذلك عبرت أمم
آسيا إلى إفريقيا على طريق مصر بسهولة وامتزج أبناء سام بأبناء
عمهم حام. وأبناء حام لا يزالون من قديم تصيبهم دعوة جدهم نوح بأن يكونوا
خولا وعبيدا لأبناء عميهم ، قرر ذلك ابن خلدون. ونص عبارة التوراة : ملعون كنعان (ابن
حام) عبد العبيد يكون لإخوته. مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدا لهم.
ليفتح الله
ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم. جرى البحر الأبيض في عهد الدولة
الخديوية المصرية إلى البحر الأحمر وربط وصلة التعارف بين البحرين العظيمين
الأطلانتيكي والهادي وصار مجمعا في أراضي الدنيا القديمة فكأنه اليربوع جعل نافقة
ليجد مخلصا يوما ما إذا سد عليه بوغاز جبل طارق.
فعظمت في
الواقع بذلك سلطته وزادت أهمية مركزه وامتدت عروق تغلبه. وليته صار كله يبسا أو
جعل له نفق تحت الأرض بين إفريقيا وأروبا مثل الذي فكروا فيه ببحر المانش على ضيق
مسافة عرضه بين فرانسا وأنكلترا لتستريح أمم القارات من ويلاته ، وأرباب الأسفار
من نكباته ، وسكان الشواطىء من روعاته ، وموازين الدول من نفقاته. وتتعارف الأمم
المفرق ما بينهما بحد سيفه ، حيث المجتاز عليه كالمار على الصراط وتتآخى بانقطاعه
الممالك بموجب الجوار وسهولة المواصلة ، وتزول الخلافات ويرتفع اللبس ، ويرى كل
فريق صاحبه عيانا ويتعرف لغته وخلقه وعوايده ، وتنقشع سحب الوهم من بعض أفكار قوم
في احتقار قوم آخرين أو ظن النقص في جانبهم من أصل الخلقة أو عارض الاعتقاد.
نعم قد حال هذا
السيف الأبيض بين أمم القارات وأرهف حده للممالك التي على حفافيه ، والجزر الناهدة
على صدره ، يسكن في بعض الأحيان هياجه فتطمئن له النفوس البسيطة فيمازجونه وينامون
بجواره على طيب الهواء وصفاء الماء ، ثم يفور تنور لهيبه ويغلو مرجل البغضاء بمائه
فيضرب الأمم بعضها ببعض ليبتلع من فرايصها ما يقتات به حوت بطنه ، ويلتقم من
المراكب والذخاير والنفايس ما يكتنزه ظلما في ظلمات أعماق أمعائه ، والبحار ذات
ولع بالذخائر والجواهر. واليوم معدل نكباته أن يبتلع يوميا مركبا كأن ذلك معاوضة
بما أكله البشر منه لحما طريا واستنشقه هواء نقيا. وفي العام الفارط طغى على أكبر
سفينة وهي تيتانيك ، فابتلعها بما فيها من مال ورجال. ويوم نزلت تيتانيك إلى البحر
للمرة الأولى قامت الصحافة الأنكليزية تفاخر بها وتلقبها بسيدة البحار ، وتحسب
زيادة إتقانها ثمرة ما أتته الهندسة البحرية
إلى اليوم لأنها تقل ٣٥٠٠ راكب يمكن لألف وخمسمائة منهم أن يتناولوا الطعام
في آن واحد ، وهي لشركة هويت الأنكليزية ، وأكبر بواخر العالم ، تحمل ٠٠٠ ، ٦٤ طن
، وأبحرت للمرة الأولى من مدينة سوثمبتون في العاشر من شهر أفريل الماضي ١٩١٢
قاصدة البلاد الأميريكية حاملة من الركاب ٢٢٠٩ ، بينهم كثير من أصحاب الأموال
الطايلة والشهرة البعيدة. وكانت تسير بسرعة ٣٠ عقدة في الساعة ، أي سبعة وثلاثين
كيلوميترو حين اعترضها في منتصف الليل جبل من الجليد منحط من القطب الشمالي فاصطدمت
به صدمة قوية فتحت في مقدمتها ثغرة كبيرة اندفعت فيها المياه بقوة هايلة أوقعت
الرعب بقلوب من فيها من ركاب وبحارة. ولما رأى الربان شدة الخطر أوعز إلى مأمور
المركونوغراف فيها أن يطير البرقيات في عرض الأوقيانوس يطلب النجدة من البواخر
الماخرة فيه. وكانت كرباتيا ، وهي أول باخرة وصل إليها النبأ ، تبعد نحو ١٧٠ ميلا
عن محل الفاجعة فلم تتمكن من إدراكها إلّا وقد قضي الأمر. وغدت تيتانيك إلى الأبد
في قعر البحر ولم ينج من الباخرة إلّا ١٧٥ راكبا.
وظلت تلك
الباخرة الجبارة أربع ساعات في نزع هايل ثم اختفت عن الأبصار. حكى ذلك البرق
البيروتي. وكأن البحر شح بها فادخرها في خزاينه ـ ومن قبل ابتلع سفينة القاضي أبي
بكر بن العربي الأندلسي ومعه أبوه في وجهة السفر السياسي بين يوسف بن تاشفين
وبغداد في أواخر القرن الخامس هجري ورمى بهما على شاطي برقة. وسفينة أبي الحسن
المريني سلطان المغرب الأقصى وقذف جسده على شاطىء بجاية ، ومن بين النفايس التي
بها والذخاير الملوكية عقد المجوهرات الغالية ويسمى بالثعبان ، في نصف المائة
الثامنة ـ وماء البحار بالنفايس مولع. وابتلع السفينة التي بها عائلة ابن خلدون
ومكاسبه بين تونس والإسكندرية بما أحزن ذلك العالم الرحالة في أواخر عمره ولولا
أنه فيلسوف المؤرخين لمات غما من الحادثة.
كثيرا ما تتمزق
من هياج البحار أرحام القرابة بين أبناء نوح في أثافي القارات الثلاث ، ويتسع خرق
الخلاف لبعد الشقة ويسوء التفاهم لاختلاف اللغة. والبعد عن العين من أسباب البعد
عن القلب. واختلاف اللغات من أسباب سوء التفاهم في مصالح الحياة. مكن البحر الأبيض
القرطاجنيين ، النازحين من صور الشام وهم عرفوا امتطاء البحار وطرقها من قبل
المسيح بقرون ١٥ ، من تأسيس مستعمرة أتيكا
وعاصمة قرطاجنة قبل المسيح ٨٨٠. وهم من أبناء حام ولذلك آوتهم قرابة البربر
بهم وإن اختلفوا في اللغات حيث الفنيقيون لغتهم عبرانية. كما أغرى الفنيقيين أيضا
بمهاجمة الرومان في قعر منازلهم وعاصمة ملكهم ومناخ عزهم وقوة جيشهم وأبهة جبروتهم
، وساحل بهم بزعامة القائد أنيبال مع شاطيه الجنوبي الإفريقي زوجيتانيا «المغرب
الأدنى «ونوميديا» الأوسط ومورة «الأقصى». وأجازهم على ذنبه ومنبع مائه «بحر
الزقاق» ، وأدارهم على الشاطي الشمالي مع دروب وفجاج جبال البيريني ثم جنوب غليا (فرانسا)
التي زودته بجيش من أبنائها إعانة على حرب رومة فامتزجوا بعساكر قرطاجنة وإفريقية
يدا واحدة على من سواهم. وربما أعاد التاريخ نفسه في السنوات الأخيرة من جهة اتحاد
إفريقية قرطاجنة وفرانسا في مواضع كثيرة بالشمال الغربي من إفريقيا. ثم ضرب هؤلاء
القرطاجينون ببطل رومة القائد سيبيو المعروف بالإفريقي في أول القرن الثالث قبل
المسيح ، ودامت سلطة الرومانيين قائمة على العدوتين. فإحدى رجليها بالجنوب على
قرطاجنة والرجل الأخرى بالشمال على رومة نحو ستة قرون ١٤٦ ـ ٤٣٩. ثم أدال من
الرومان بالفندال سنة ٤٣٩ ، جلبهم من جهات الدانمارك إلى إفريقيا. ثم أحل بإفريقيا
أصحاب قيادته ومن بيدهم دواير قلادته من شواطي بزنطة «دولة الروم» سنة ٥٣٥ حتى ضرب
الروم بجرانه على إفريقيا ، غير أن نوابهم خافوا من أذى مجاورته فرحلوا عن ساحله
وتباعدوا عن ساحته. ومعلوم أن ماء صداقة البحر أجاج ، وليس لكف أذاه من علاج.
فنصبوا كرسي الاستقلال بسبيطلة بدل قرطاجنة ، والبراري وحواضر القفار هي منازل
العز بلا خلاف.
لذلك أسس العرب
القيروان في أواسط إفريقيا بين البسايط الجميلة الموالية للصحراء وبين التلول
النضرة المتصلة بساحل البحر الأبيض ، حيث قال لهم عقبة إنني أخاف أن يطرقها صاحب
القسطنطينية فيهلكها صاحب البحر لكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا تقصر فيه
الصلاة. وبعد أن كانوا يخافون البحر وينهون عنه أنشأوا بشاطىء قرطاجنة جيشا من
المراكب ملكوا به أعضاء الحياة من هذا المخلوق العظيم وحرثوا أديمه بأساطيلهم
الماخرة ، وأكلوا وشربوا على بساطه الفيروزجي ، وملكوا غالب جسده. ولم ينفلت منه
غير يسراه في اليونان ورأسه الأسود وراء عنق مرمرة ، وبحيث
لم يبق منه إلا يد مقطوعة ورأس بلا جسد. واتخذوه طريقا لسلطنة الأندلس التي
كانت هي الواسطة الوحيدة لإمداد أروبا بالمعارف ومبادئ الحضارة. وطرقوا جنوب
العدوة الشمالية ردحا من الزمان وتغاضى صاحب بزنطة للعرب عجزا أو تغافلا بعد واقعة
ذات الصواري عام ٣٧ في بحر الإسكندرية بين عبد الله بن أبي سرح وقسطنطين صاحب
الأستانة ـ فللأول نحو مائتي مركب وللثاني خمسمائة في بعض الروايات ربطوها لبعضها
وتضاربوا بالسيوف وتواجؤوا بالخناجر.
كما أطالت لهم
أمم العدوة الشمالية حبل الإمهال إلى أن تفشى داء الفشل في العرب وتنازعوا أمرهم
وأخلدوا إلى الراحة ، وساعفوا هواهم فركدت ريحهم ، وذهبت ريعهم ، فلم تقو إذ ذاك
على أن تمسك بيدها الضعيفة وجسدها العليل على مخلوق عظيم متغلب. فتألبت الأمم
المجاورة وتجاذبت حبل رياسته واقتعدت غواربه وتمرنت على تسيير أغربته. فرمى بأمم
أروبا وهم أبناء يافث أبناء عمهم سام بأسيا وأبناء عمهم الآخر في إفريقيا في حرب
الصليب.
وأحسن صلاح
الدين الأيوبي في النصف الثاني من القرن السادس هجري مقابلة ضيوفه فأرجعهم إلى
أوطانهم مزودين بالصنايع والعلوم الأيسوية العربية ، ومنها إجادة صنع المراكب
البحرية. وأدى المستنصر الحفصي بتونس في النصف الثاني من القرن السابع هجريا
مصاريف الضيافة للدول المحتلة بقرطاجنة وقدرها نحو واحد وعشرين مليونا من الفرنكات
حسبما تقدم بسط المسألة في أسباب السفر للتغلب والاستيلاء ، وانجلى تعاون أمم
أروبا. وهم كما علمت أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة. على
امتلاك الشق الأيسر «الشمالي» حتى إلى الذنب «الأندلس». وأصبح البحر حدا طبيعيا
بين القارات فتعلقت الدولة العثمانية بعنقه «بحر مرمرة» فاضطرب جسده ونفر من هذا
المتغلب الجديد عام ٨٥٧. ففزعت أرباب الشواطي ولم تتوفق الأمم لطرق الاتحاد على
إسكانه والمسك بأطرافه. ولعب خير الدين بربروس دورا على مرسح مائه في أواسط القرن
العاشر هجريا ، ولما استنجد فرانسوا الأول على أعدائه بالسلطان سليمان أرسل له
عمارة بحرية تحت قيادته عام ٩٣٢ ووصلت إلى مرسيليا وانضمت إلى العمارة الفرانساوية
التي لقيادة أجيان. حتى اجتمعت كلمة الدول وامتلكت الآن رأسه دولة الروسيا ، فهو
ينام بإحدى مقلتيه ما
بين رومانيا وبلغاريا ويتقي عداه بأخرى في جهات الأناضول. وطوقت عنقه
الدولة العثمانية بسلسلتي البوسفور والدردانيل. وقبضت على يمناه دولة الأنكليز
بمصر فشاركت في مجاذبة اليد الأخرى دول بحر الأدرياتيك. وكان القلب وهو جزيرة كريت
دائما في خفقان وهو مركز الدورة الدموية البحرية فكانت دقاته وحرارته سببا في
انتشار عقد الجزر من أطرافه ووسطه. واغتاظت دولة إيطاليا من نصيبها منه وهو جزيرة
صقلية التي هي بمثابة الطحال من هذا المخلوق فرفصت البحر بنعلها البرية المرتسمة
صورتها على أديم مثال الأرض لكل متأمل من أشكال الممالك وألوان صبغتها في خرايط
علم الجغرافيا. حتى تعكر من تلك الصدمة أخيرا ماء خليج برقة وطمى الماء على طرابلس
الغرب.
واختطف
الأنكليز ـ سابقا سنة ١٨٠٠ الكبد وهو جزيرة مالطة بالجانب الأيمن من صقلية. وتمحضت
السلطة على نصف جسد هذا البحر «الشق الأسفل» لدولة فرانسا ما بين خليج ليون وخليج
قابس واتحدت هاته الأخيرة مع أنكلتيرا. وواصلت دولة إسبانيا على متنه ما بين سبتة
والريف بين جزيرة طريف بخط مقاطع للخط الموصل من جبل طارق إلى طنجة. ويتكون من
هذين الخطين الوهميين شكل علامة الضرب في علم الحساب X.
وسطح البحر والبر مرسح في الحياة الدنيا وميدان تضار وتغالب. وقد قام هذان الخطان
المتقاطعان لأمر المرور بذلك الزقاق مقام القنطرة التي ذكروا أنها كانت للأول على
ذلك البحر تسهل الوصول ما بين العدوتين. ولكن البحر ركبها وابتلعتها لججه لما أنه
لا يجب الظهور عليه. ولو لا اتحاد هاته الدول على إخافة هذا المخلوق العظيم
بالجواري المنشآت ورشقه بسهام الغطاسات والتحليق فوقه بالطيارات لسد الطرق في وجه
المسافرين ، وطغى على السكان المجاورين. واختطف أبناءهم وأفسد مزارعهم وأوقف تجارتهم.
وبما لدولة فرانسا من الأرجحية والاعتبار بالبحر الأبيض أمكن للتونسيين السير
بأمان بين خليجي قابس وليون في مخاوف لجج بحر الروم لمشاهدة أحوال أروبا وحضارتها.
فالتونسيون بفضل أسطول دولة الحياة في أمن من عائلة البحر متى أبحروا ، وهجمات
الأمم المجاورة متى أصحروا. وسيأتي ذكر تصفيقهم وهداياهم لسفينة قرطاج في العام
الفارط عند ما فازت في البحر.
واليوم البحر
المتوسط كما ترى قد استكان للغلب وانكسرت حدته ، وسالمت
التونسيين شدته. وأصبح مغلوبا على أمره ، والله يحكم لا معقب لحكمه.
خليج مرسيليا
عجبا من كثير
السيئات كيف تكون له حسنة في بعض أيامه ترفع من ذكره وتدافع عن أمره. فقد أكثر
الناس من ذمّ خليج مرسيليا وتعب الركاب في مائه ونحن رأينا فيه هاته المرة راحة
وهدوا. ومن إحسان المسيء أن يكف عنك أذاه. فعندما جاء الليل وقربت السفينة من
شواطئ مرسيليا أخذ البحر في الهدوء ورجع إلى الركاب نوع من الحياة فأخذوا يهنئ
بعضهم بعضا بالسلامة والنجاة ، لأنه بلغ فيما بعد أن مرجل السفينة عرض له خلل وأن
شدة الخوف من الخطر كادت توجب على رؤساء السفينة توقيف السير ، ولذلك تأخر الوصول
إلى مرسيليا عن الموعد المعتاد بنحو ستة ساعات وجرت المخابرة بالتلغراف اللاسلكي
المركبة آلته على ظهر السفينة. سمعناه والسفينة تلعب بها الأمواج يتحدث همسا
كالخايف من الشكاية بالبحر أو المسارر بخبر مهم يناجي برسائله مع تموجات الهواء
فتتلقفها منه مراكز آلات التلغراف المذكور سواء كانت في البر أو البحر ، مثلما
تتلقى في القديم مراكز حمام الرسائل ما يحمله من البلدان البعيدة والأقطار الشاسعة
، وهي تلغراف الأمم الماضية. وكان الحمام نفسه رسولا لنوح عليه السلام عقب الطوفان
لاختبار جفاف الأرض. ويقطع الحمام في القفار والبحار نحو أميال ٨٠ في الساعة أي ٢٢
ميترو في الثانية ويهتدي إلى الأماكن التي يعرفها قبل بإلهام غير معلوم حتى الآن ،
لا زال يتميز به عن الطيارات التي قلدت الطير في التحليق في الهواء كما تشاء. ولكن
لو لا البوصلة لم يمكن لها الاهتداء. يقول مرسل حمامة بين القيروان وتونس :
وفي غزوان
فاستعلي علوا
|
|
وداني في
تعاليك السحابا
|
وكانت تصل
الرسائل من طرابلس إلى رقادة حول القيروان في حينها ويومها بأواخر القرن الثالث.
ممازحة ربان السفينة
جرى بيني وبين
بعض أكابر الباخرة حديث كان في ضمنه دعابة ، وذلك لما رأى عندي ساعة ذهبية بها
وجهان للوقت العربي والفرنساوي ، فقال لي إذا كنت رجلا مليحا فإنك تسلم لي هاته
النقالة. وكان بعض الأوداء أرسل لي بها تذكارا.
واشتراها لي من
مملكة بعيدة. والتونسي يتحتم عليه أن يكون بساعته حس بأن لخط زوال بلده وخط أواسط
أروبا المعمول به رسميا ، كما يلزمه لغتان وعادتان ، مثلما له في الكتابة تاريخان
، وفي المعاملة مسكوكان :
وللناس عادات
وقد ألفوا بها
|
|
لها سنن
يرعونها وفروض
|
فمن لم
يعاشرهم على العرف بينهم
|
|
فذاك ثقيل
عندهم وبغيض
|
فأجبته بأنه
إذا أراد ما يتذكرني به فنوجه له ذلك من المملكة التونسية مثلما سلم أهالي
القيروان زربية إلى قبطان سفينة قرطاج. أما المنقالة فإنها غير مصنوعة بالقيروان.
فقال لكن كلما نظرت إليها أتذكركم. وكاد أن يحجني بهاته المداعبة فقلبت عليه
الدعوى وقلت له : من المعلوم أن المفكرة إنما يسلمها الراغب في المودة ويظهر أنكم
كذلك. وعليه فلا مانع من أن تسلموا لي ما أتذكركم به. وإن كنت لا أنسى هذا اليوم
ولا أرغب فيما يفكرني فيه. كما أنه من العادة أن تكون المفكرة حسب اختيار المهدي
لا باقتراح المهدي له لشيء مخصوص. فسلم ذلك ومرت الممازحة معه لطيفة قضينا بها حصة
من الزمن ونحن إذ ذاك بالقرب من مرسيليا في حاجة إلى السمر. وكانت الأمواج لطيفة
تعبث بالسفينة وهي تتهادى وتتمايل كالمتغلب في حرب ، والفايز في عراك يتماشى
الخيلاء ، ويتيه على الأعداء ونحن فيها كدوح تحركه الأم الشفوقة بمرضعها لتسكن ما
عنده وتسليه عن مطالبه. وكأن السفينة علمت بأننا أحوج لذلك كله من الرضع فراحت
تجاملنا وتسلينا ونحن نشكر هاته الأم التي حملتنا في بطنها ثلاثين ساعة وزادت على
ذلك ست ساعات ونصفا
بموجب العواصف التي أنهكتها وكادت أن تسقطنا كالأجنة. وعلى الساعة الثانية
ونصف بعد نصف الليل استهل الركاب في عالم الوجود كالمواليد بمرسيليا وقد لاح لنا
ذلك الثغر باسما بعقود الفوانيس الدرية فانقلب به خوفنا أمنا وليلنا نهارا.
فبادرنا بالنزول إلى سطح الأرض وهي أم البشر بعد أن قرأنا شعر ابن زريق البغدادي
في هول البحر وقد شطره شاعر القيروان الشيخ السيد صالح سويسي الشريف وذيله بيتين :
لا أركب
البحر أخشى
|
|
من حادثات
المراكب
|
هول عظيم
أخاف
|
|
علي منه
المعاطب
|
طين أنا وهو
ماء
|
|
أمواجه لا
تغالب
|
فكيف لا
أتقيه
|
|
والطين في
الماء ذايب
|
يا راكب
البحر صبرا
|
|
على أليم
العواقب
|
فانظر إليه
تراه
|
|
يبدي إليك
العجايب
|
مثل السياسة
فعلا
|
|
في دورها
تتلاعب
|
وطابقنا تماما
ما وصف به سيدنا عمرو بن العاص منذ ثلاثة عشر قرنا هيئة البحر وراكبه في جمل قليلة
جامعة عند ما كتب إليه سيدنا عمر بن الخطاب بعد فتح مصر يقول له : صف لي البحر
وراكبه. فأجابه بقوله : هو خلق كبير ، يركبه خلق صغير. ليس إلّا السماء والماء ،
إن ركد أقلق القلوب ، وإن تحرك أزاغ العقول ، يزداد فيه اليقين قلة ، والشك كثرة ،
وراكبه دود على عود ، إن مال غرق ، وإن نجى فرق.
لذلك كان سيدنا
عمر ينهى عن المخاطرة بالمسلمين في ركوب البحر أو أن يكون حاجا بينه وبينهم.
أطوار الفلك والسير على الماء
من نعم الله
على عباده أن علم أباهم نوحا صنع السفينة زمن الطوفان الذي كانت فيه نقمة لمعانديه
وغير المومنين به. وما بقوم من نعمة فلأضدادهم نقمة.
مصائب قوم عند
قوم فوائد. فكانت سفينة النجاة التي صنعها الأب الثاني للبشر بأعين الله ووحيه
طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها ثلاثون على ما في التورية. وبها ثلاث
طبقات مساكن سفلى ومساكن وسطى ومساكن عليا ولها كوى على ما يشبه السفن في الحالة
الحاضرة في الجملة. وكان سيرها على الماء تحت رحمة الرياح والأمواج. وبعد أن عمر
ذرية نوح جهات بابل وتفرقوا في أقطار الأرض واختلفت لغاتهم وأقطار مساكنهم ومصروا
الأمصار كانت الحضارة في بابل بالغة حدها بالنسبة لتلك العصور الأولى. وكانت هاته
المدينة العظمى يشقها نهر الفرات الذي يضرب المثل باسمه في المياه ، فكان سكان
أعاليه يرسلون الغلال في فلك من جلود وأعواد ويجعل فيه مع المراكب حمار وتبن ليمكن
أن يحمل عليه ذلك الفلك ويرجع به إلى سكان أعالي النهر بعد وصوله إلى بابل وأخذ ما
به. وعبارة الحموي : يسيرون في الماء إلى بابل على أطواف من أنحاء مولفه تصطنع في
أرمينية وهي أعلى أشور ، ويكون اصطناع الأطواف بمد خشب الصفصاف وجعل تلك النحي
فوقها على شكل طوف مدور كالترس لا يكون له مقدم ولا مؤخر ، وينفخون النحي ويفعمون
جوفها تبنا وهكذا تنساب هذه الأطواف في النهر حاملة أنواع المنقولات ولا سيما
الخمر والتمر ، وحين يصلون إلى بابل يبيعون ما حملوه عليها ومثله التبن وخشب
الصفصاف ويحملون النحي على الحمر راجعين إلى أرمينية ، ثم يصنعون أطوافا نظير تلك تحملهم.
قلت : الطوف قرب ينفخ فيها ويشد بعضها إلى بعض كهيئة السطح يركب عليها في الماء
ويحمل عليها ، وهو الرمث بفتح الراء والميم ، وهذا الأخير فسروه بأنه خشب يضم بعضه
إلى بعض كالطوف ويركب عليه في البحر. وفي الحديث أن
رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أركب أرماثا لنا في البحر
ولا ماء معنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته. ثم قلدت
الأمم بعضها فصنع الفلك أولا بسيطا يد حرج فوق الماء بأعواد من كلا جانبيه يتناوب
معاناة ذلك الراكبون على شبه ما هو مشاهد الآن في صغار الفلك.
ثم جعلت له من
المنسوجات قطع كأجنحة الطير تدفعها الرياح فأراحت الطبيعة بهذا الاختراع أيدي
البشر والاختراعات كما هو مشاهد تتعب العقول وتريح الأجساد ، فكان السير للجهات
المقصودة على حسب الرياح المتجهة لها. ثم توفق الناس إلى أساليب يسيرون بها ذوات
القلاع حتى إلى الجهات الآتية منها الرياح ، بتصرفات يسلكون بها البحر إلى الجهات
الأربع أو الثمانية على رأي أهل البحر الذين يسمونها بأسماء خاصة ، وربما سموا
رياحا أخرى ما بين الثمانية ، وإليك دائرة في أسمائها ومواقعها.
ومن نعم الله
المتوالية على عباده وجود أسرار في الكائنات هدى إليها بمنه تعالى من أراد سعادتهم
، ومن بينها جاذبية المغناطيس الذي صنعوا منه إبرة تتجه نحو القطب ، وهو النجم
الثابت في الشمال يقابله قطب آخر ثابت في الجنوب. والنجوم الثوابت نعمة عظمى أيضا (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها) على فنون الهندسة والهيئة والجغرافيا والسير في البحر.
يتخذ ركاب البحر تلك الإبرة القطبية دليلا في مذاهبهم ليلا ونهارا وكانت معروفة
عند الصينيين من قديم ، وعرفها المسلمون في القرون الأولى. قال المقريزي : وما برح
المسافرون في بحر الهند إذا أظلم عليهم الليل ولم يروا ما يهديهم من الكواكب إلى
معرفة الجهات يحملون حديدة مجوفة على شكل سمكة ويبالغون في ترقيقها جهد المقدرة ثم
يعمل في فم السمكة شيء من مغناطيس جيدا ويحك فيها بالمغناطيس (كذا) فإن السمكة إذا
وضعت في الماء دارت واستقبلت القطب الجنوبي بفمها واستدبرت القطب الشمالي ، وهذا
أيضا من أسرار الخليقة. فإذا تحددت الجهات الأربع عرفوا مواقع البلاد بها فيقصدون
حينئذ جهة الناحية التي يريدونها. وبها اكتشف كريستوف كولومب أمريكا عام ١٤٩٢ ،
ولم يعرف صنعها في أروبا إلّا في القرن الثالث عشر مسيحي. وكانت حمولة السفينة على
عهد لويس التاسع في القرن ١٣ مائة من الخيل وثمانية من الرجال ، ولكنها
كانت لذلك العهد غير متقنة. قال بعض المؤرخين وفي أيام لويس الثالث عشر في
القرن السابع عشر كان ريشليو وزيره يحث الأمة على إنشاء السفن حيث جوار الأمة
أقوياء في البحر ، حتى أن القرصنة أضرت بهم وبتخطف بناتهم وبيعها. وقال لهم عندنا
اللوح والحديد. وكانت أخيرا سفن تونس تصنع في مرسيليا فمن ذلك المراكب التي صنعت
على عهد المنعم سيدي حسين باي الثاني الحسيني وأتت في أواسط القرن الثالث عشر.
وكان ثمنها من الغرامة التي ضربها شاكير صاحب الطابع على القيروان في عام ١٢٤٩ وهي
خمسمائة ألف ريال. وقد تفضلت دولة فرانسا بإسقاط الكمرق على آلاتها الصادرة من تلك
الإيالة مجاملة في الباي على ما قرره شيخ المؤرخين ابن أبي الضياف. وفي القديم
أحدث حسان بن النعمان دار صناعة في شطوط قرطاجنة لإنشاء المراكب عام ٧٨ ولا زال
هذا الاسم علما موروثا على نقطة من الشاطي المذكور حواليها بقايا رصيف. وتسرب اسم
دار الصناعة مع هاته الصناعة إلى أروبا فقالوا فيه محرفا (أرسنال).
وتجدد في ذلك
العصر بعد نحو ثمانية قرون ذكر بحرية الفينيقيين بإفريقيا الشمالية الذين بادت
دولتهم في أواسط القرن الثاني قبل المسيح. والآن تجدد ، بعد نحو ثمانية قرون أيضا
مضت على سقوط دولة إفريقية القيروانية ، دور التقدم البحري بالأساطيل العظيمة
لدولة فرانسا والسفن التجارية المتقنة ، وإليك قوة هاته الدولة في البحر وتعداد
سفنها الحربية والتجارية.
جدول السفن الحربية للدول العظام
|
فرانسا
|
ألمانا
|
أنقلترا
|
النمسا
|
أمرکا
|
إطالا
|
الجابون
|
الموسکو
|
مدرعات
کوراسي
|
٢٠
|
٢٨
|
٦٠
|
٧
|
٢٨
|
١٤
|
١٤
|
١٣
|
کوروازور
کوراسي
|
٢٠
|
١٠
|
٣٨
|
٣
|
١٢
|
٨
|
١٣
|
٧
|
کوروازور ضد
مدرعات
|
٢٥
|
٣٧
|
٧١
|
٥
|
٢٤
|
٧
|
١٤
|
٩
|
ضد نسافات
|
٥٩
|
٧٣
|
١١٩
|
٧
|
٢٠
|
٢٠
|
٥٧
|
٧٩
|
نسافات
|
٢١٣
|
١٧
|
٨٥
|
٢١
|
٣٣
|
٢٩
|
٥٧
|
٦٨
|
غطاسات
|
٥١
|
٢
|
٦٠
|
٠٠
|
١٢
|
٧
|
٧
|
٢٤
|
السفن التجارية بالبخار والقلاع
أنلکترا
|
١١٤٤٢
|
الموسکو
|
١١٩١
|
ألمانا
|
٢١٩٩
|
النمسا
|
٣٨٢
|
أمرکا
|
٢٢٧٣
|
إسبانا
|
٥٩١
|
النروج
|
٢٠٧٠
|
الدانمارک
|
٨٥٤
|
فرنسا
|
١٤٧٨
|
الونان
|
٤٢٠
|
إطالا
|
١٠٧٧
|
البلجک
|
١٦٠
|
الجابون
|
٧٦٦
|
البرازل
|
٤٠٩
|
هولاندة
|
٦٥٩
|
ترکا
|
٣٤١
|
السود
|
١٤٤٠
|
ارجنتن
|
٢٧٩
|
أما البخار
فقيل ظهرت في الوجود فكرة إمكانه في القرن الثاني قبل المسيح بخاطر هيرون
الإسكندراني وبقي هذا الفكر نائما عدة قرون مثل فكرة الطيران بالأندلس منذ قرون.
شأن كثير من الآراء إذا لم تصادفها أجنحة البخت لتطير بها من عالم خفاء التفكير
إلى عالم الظهور والانتشار والترقي فتلبث في كهفها مئات السنين ،
حتى يقدر لها التيقظ والانتصار بقوم يتدبرون. والزهد طبيعي للبشر في مبادي
الأمور النافعة. وفي ١٦٩٠ أواخر القرن السابع عشر مسيحي فكر دوني بباDenis
Papa الفرنساوي واهتدى إلى قيمة قوة
البخار من قدر طبخ رفع البخار غطاءه ، فجد في صنع آلات السير بالبخار. وكان من
جملة المهاجرين إلى ألمانيا عند اضطهاد البروتستانت في فرانسا وجلائهم عنها زمن
لويس ١٤ ، وهنالك سير في أول القرن الثامن عشر ١٧٠٧ مركبا بخاريا في نهر بألمانيا
غير أنه لم يمت حتى رأى ثمرة اكتشافه مدمرة. وكثيرا ما تمتد أيدي التهاون إلى
العبث على وجه الاحتقار أو الحسد أو لأسباب أخرى بالنتايج المهمة التي بذل فيها
المفكرون والعاملون المجهودات العظيمة بدون احترام لأعمال الغير ولا تبصر لقيمة
المصنوع والمقول بقطع النظر عن الصانع والقايل. وفي أول القرن التاسع عشر حسن
روباير فولطن الأمريكي المتوفى سنة ١٨١٩ فعل البخار وعرض عمله على نابليون الأول
فزهد فيه فصار إلى أمريكا وصنع فلكا بخاريا فسخر منه قومه وامتنعوا من الركوب فيه.
فكان هو يسخر منهم أيضا كما يسخرون. ويقال إنه لما ركب في فلكه أول رجل وقبض منه
الأجرة بكى وقال له اسمح لي يا سيدي فإن هذا أول كسب استفدته من إجهاد فكري وعملي
منذ أمد طويل. وبعد أن عرفت قيمة البخار ذاع صيت صانعه وحصل على الثروة وجميل
الشكر وانجر من ذلك لأمته أيضا المال وحسن الذكر. وسافرت أول سفينة بأميريكا من
نيويورك في عام ١٨٠٦ أو ١٨٠٧ تسمى كليرمون وأول سفينة استخدمها الإنكليز في
اسكوتلاندا سنة ١٨١٢ تسمى كومت Comte.
فبفضل البخار
قربت أطراف البحار وهان ركوبها ، وبعد أن كان السفر إلى أمريكا في مدة شهر أصبح في
نحو أسبوع ، وكان السير فيما بين مرسيليا وباريز نحو أسبوعين في رحلة المنعم سيدي
أحمد باي إلى فرانسا ، فقام الآن مقام اليوم من تلك الأيام أقل من ساعة واحدة.
وبقدر ما زهد نابليون الأول في البخار اعتنى به نابليون الثالث حيث كان يحضر تجارب
العمل في ذلك بنفسه ، وسافر على سفينة الفخر عام ١٢٦٠ إلى الجزاير ، وهي من اختراع
دوبوي دولوم الفرنساوي عام ١٨٥٠ ثم انتشرت هاته الاختراعات في أمريكا وأنكلترا.
مرسيليا وتاريخها
بت في «أوتيل
البوسطة» وأخذت من الغد دليلا واطلعت على بعض نقط المدينة وشاطئ بحرها الغربي
الجميل. وأول ما رأيت مما لم يعهد عندنا كون النسوة واقفات في مراكز ركوب
الطرامفاي تنادي بأسماء كثيرة من أنواع الجرايد تبيعها للمارين مثلما يعجب الأجانب
الزايرون لتونس من الصبيان الذين يبيعون بها الجرايد حفاة. يوجد غربي المدينة جبل
فوقه كنيسة تسمى نوتردام دولاقارد وعلى صومعتها التي ارتفاعها ٤٥ ميترو صورة شخص
قايم. والارتفاع هناك على سطح البحر نحو ١٥٠. وذكروا أن بالكنيسة «جليزا» غريب
المنظر يقصده أصحاب الفن والذوق من جميع الأقطار ، ويصعد بواسطة رافعة إلى ربوة
بسفح الجبل المذكور. وارتفاع هذا السفح المايل نحو ٨٠ مترو ، وفي مدة صعود الرافعة
التي هي دقيقة ونصف يرى الراكب بسبب الميل مع سفح الربوة المكان الذي ركب منه
وابتعاده شيئا فشيئا ، وربما كان هذا المنظر مرهبا. وهذه المرة الأولى للغريب في
مشاهدات مثل هذا بخلاف الرافعات العمودية فلا يظهر منها ما يثير الهواجس بخاطر
الراكب. أخبروا بأن لهاته الرافعة أربعة حبال من حديد واحد منها يكفي للإصعاد
والإنزال. وعلى فرض انقطاع الحبال فهناك آلة تمسك البيت الذي به الركاب وتحفظه من
السقوط ـ ومن صعد فوق هاته الربى يشاهد المدينة شرقية للشمال وسحب دخان الماكينات
متلبدة عليها وتعيق النظر عن الإحاطة بجميعها. ويرى في الشمال الغربي مرسى السفن
ورماحها المشتبكة وأعلام غالب الدول فوقها. ويوجد بهاته المدينة التي سكانها نحو
٥٠٠ ألف البناءات الكبرى والطبقات العالية والشوارع المتسعة التي يمشي بها الراجل
براحة بدون مزاحمة. وعلامة مرسيليا «مضيئة من حركتها العظيمة». ومن العادة في
فرانسا أن تعطى بعض البلدان والعائلات ألقابا تتميز بها مثلما جعل أخيرا للعائلات
بالمملكة التونسية في دفاتر إحصاء السكان وضبط المواليد والوفيات. وللمدينة اعتبار
بحري تجاري في الدرجة الأولى بمملكة فرانسا ، وبالأخص بعد فتح قنال السويس إلى
الشرق والعلايق الاحتلالية والاستعمارية بالعدوة الجنوبية من البحر الأبيض. ومرساها
القديمة والجديدة من جهة الغرب ، وقد هجرت الآن المرسى القديمة وهي
خليج آت من الغرب يدفع في وسط المدينة فيترك شماله المدينة القديمة. وشاطئ
المرسى الجديد وجنوبه بعض المدينة الجديدة التي بها جبل نوتردام دولافارد. وعند
منتهى الخليج المذكور يوجد شارع عظيم يذهب شمالا إلى بطحاء جوليات بالمرسى الجديدة
ويسمى لاريبوبليك. وجنوبا إلى أطراف المدينة من رأس الخليج أيضا يبتدي مشرقا نهج
عظيم يسمى في مبدئه كانبياير ، وفي غايته مادلاين متصل ببستان النباتات والحيوانات
الغريبة في شرقي المدينة. يمر هذا الشارع في مبدئه بالبورصة وهي محل بيع الأوراق
المالية ، ثم يقاطع الشارع العظيم المستقيم بهاته المدينة ، والممتد إلى طرفيها من
الشمال ويسمى فيه بنهج باريز ، إلى الجنوب ويسمى فيه بنهج رومة. وإذا سلكت فيه
قليلا إلى الشمال بعد التقاطع المذكور تصادف نهج كولباير مشرقا ، وفيه غربا محل
البوسطة وشرقا أوتيل دولابوست الذي نزلناه فوجدنا في ساحته ما يحتاج إليه المسافر.
وقريبة منه مراكز وقوف العربات والطرمفاي الكهربائي الذي رأيناه في مرسيليا يخترق
غالب شوارعها أكثر من ساير المدن بفرانسا. أسعار العربات من الفرنكين إلى الثلاثة
في الساعة والبرهة لا تقل عن فرنكين في الغالب مع الإحسان. وكذلك سيارات الكهرباء
وهي أحسن للمستعجل والغيب الذي تكون أعماله مضبوطة وأوقاته نفيسة ، وكراؤها في
الغالب مثل العربات في المسافات المقصودة ، أي ما يصرف فيها لقضاء مأرب بمكان معين
يصرف على العربات حيث ارتفاع أسعارها تقلله السرعة وبالعكس العربات الخيلية.
ونبهنا بعض السكان أنفسهم إلى إلغاء إرشادات أرباب العربات ، خشية التضليل ،
والتباعد عن سؤال السكان عن أي شيء كائن ما كان وهذا على خلاف بقية مدن فرانسا أهل
العناية الغريبة بالضيف الغريب.
زرت بستان
الحيوان بمرسيليا بعد الرجوع من باريز فتذكرت ما قاله المؤرخون من أخبار خمارويه
بن أحمد بن طولون أمير مصر في النصف الثاني من القرن الثالث ، وأنه كان له بستان
غرس فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر وزرع فيه الزعفران وألوان الأزهار ، وجمع فيه
الطيور المستحسنة وماله صوت حسن منها ، وأعد لها أبراجا من الخشب وأجرى لها جداول
المياه ، وخصص قسما للسباع وبنى لها بيوتا تفتح أبوابها بحركات ولها أوقات تخرج
فيها إلى قاعة تمرح وتتهارش ثم تعود لأماكنها تحت مراقبة
سواسها. وقال ابن خلدون : لما اختط الناصر (أي بالأندلس) في أول القرن
الرابع مدينة الزهراء واتخذها منزله وكرسيا لملكه اتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة
الفناء متباعدة السياج ومسارح الطيور مظللة بالشباك. ورأيت في بستان مرسيليا كثيرا
من أنواع الطيور والوحوش ومن بينها جمل بنيت له جدران على شكل عربي وعليها كتابة
عربية ولاكن لا يفهم منها معنى صحيح حيث الكلمات ملفقة والكتابة محرفة.
تاريخ تأسيس مرسيليا
ذكروا أن في
القرن السادس قبل المسيح أتى تجار من آسيا الصغرى ، وآسيا أقدم القارات وأم
الاستعمار وأس البناءات ، وأرسوا بمركبهم اليوناني بالشاطي الشرقي من نهر الرون ،
ورئيس الرفقة يسمى أوكزان Euxe ? n ، فاستضافهم ملك الجهة نان Nann
(على عادة الغاليين في إكرام الضيف) وحيث تلك الليلة بها احتفال
لانتخاب ابنته لزوج ، على عادتهم التي أشرنا إليها في فصل سكان فرانسا الأصليين ،
فكان من غريب الاتفاق أن البنت جيبتيس Gyptis
عند ما خرجت من مخدعها وأجالت بصرها في الحاضرين قدمت الزجاجة التي بيدها مملوءة
مشروبا ، وهي علامة الاختيار لذلك الرجل الغريب رئيس المركب (والفرنساويون يعجبهم
الغريب من قديم) فبهت الحاضرون لهذا الاختيار الذي لم يكن في الحسبان. وما وسع
الملك الذي انقاد بحكم العادة إلى مصاهرة ضيفه الغريب إلّا المبالغة في إكرامه بأن
عزز الضيافة والمصاهرة بثالث منة وهي هبة الخليج الذي صارت بشاطئه بناءات رئيس
المركب أساسا أوليا لمدينة مرسيليا الآن. وهي مفتاح تبادل التجارة الشرقية التي
يرى كثير من أنواعها بالرصيف محشورا في ذلك الصعيد مع أجناس البضايع الغربية.
ومنظر هذا الرصيف للمتأمل بديع كمعرض لبواخر الأمم وأنواع بضائعها ، وبه خليط من
أجناس الأمم ولغاتها.
مرسيليا كانت
تسمى باليوناني ماساليا وبالرومي ماسيليا ، ونسب إليها اللحن الموسيقي المعروف
بالمرسيليز الذي اخترعه روجي دونيس ١٧٦٠ ـ ١٨٣٦ وترجمه
الشيخ رفاعة المصري ومطلعه :
فهيا يا بني
الأوطان هيا
|
|
فوقت فخاركم
لكم تهيا
|
نظم تلك
القصيدة الحماسية في عام ١٧٩٢ ، وهو من المشغوفين بالموسيقى والشعر وكان ضابطا
صغيرا للرمي بالمدافع في مدينة استراسبورغ «بمقاطعة الألزاس واللورين» واخترع
لحنها في إحدى الليالي بعد السمر بدار شيخ المدينة وعائلته ومنادمتهم. ولما أصبح
نشر اختراعه الحماسي وأنشده ، وكانت ابنة الشيخ تعينه بتأثير ألحان الورغن «البيانو»
بمحضر ثلة من الضباط والرجال والنساء حتى أبكاهم جميعا وحملهم على القيام كجسد
واحد في الدفاع عن الوطن. قلت وهكذا تفعل البلاغة الشعرية وألحان الموسيقى في
استهواء العقول واستمالة النفوس. وأول من اتخذها وتغنى بها أهالي مرسيليا في حروب
ذلك العهد فنسبت لهم وقيل فيها ألحان المرسيليز. وهي اللحن الوطني المؤثر والمتخذ
شعارا للجند والمحترم في المجامع والموروث للأصاغر من الأكابر.
سكان فرانسا الأصليون
بعد الكلام على
مرسيليا حاضرها وغابرها فمن المناسب التكلم على أصل السكان بفرانسا وأدوار دولها
باختصار ليكون القاري على بينة من هاته المملكة ، حيث يتحتم على المسافر العلم
بذلك وتدعوه الضرورة إلى استحضار تاريخ هاته الدولة بمجرد دخوله لترابها. قرروا أن
السكان الأصليين الأولين بفرانسا «كانصتاد» قصار القامات وجباههم غايرة ووجوههم
مفرطحة وأدواتهم بسيطة وأعمالهم ساذجة. ثم داخلهم قوم من جنوب أروبا من بينهم
طوايف طوال القامة وأرباب صنايع ـ ثم أتاهم أناس شقر الشعور من الكولوا ، كما وافى
هاته المملكة الباسك قبايل من شمال إفريقيا ، ولا زالت لهم بقية ولغة في جنوب فرانسا.
فتولد من هذه الأجناس وغيرها عنصر ورث كثيرا من محامد الأخلاق ولم يفقد إلى الآن
مع طول الزمن بعض ما له من ملامح الصفات أو لهجة بعض اللغات. فسميت فرانسا الفول
حيث سكانها
الكولوا. ومساحتها في القديم أكثر من الآن وكانت أراضيها غابات ومستنقعات. وطباع
سكانها الشجاعة والكرم ، غير أن النزاع بينهم كثير مع خفة وفيهم عصبيات وانقسامات.
وبناءاتهم بسيطة في الغابات وحول المياه. ومعبوداتهم كثيرة ولهم اعتقاد في خلود
الروح ويقدمون البشر قربانا للآلهة. وهم أهل ولع بالجديد من الأشياء ، ولنسائهم
الحرية في اختيار أزواجهن ، فالأب إذا أراد زواج ابنته يدعو جماعة من الشبان
وتناول ابنته كأسا مملوءة لواحد منهم فيكون ذلك زوجا لها حيث إعطاء الكأس له بيدها
علامة اختيارها له. غير أن الرجل كان له التسلط المطلق على العائلة مثل العادة
العربية.
ويمتد تاريخ
فرانسا إلى القرن ١٦ قبل المسيح. وفي القرن الثاني قبل المسيح صارت للرومان
مستعمرة بجنوب فرانسا وفي جهات إيكس ونربون ، ثم تم لهم الاستيلاء على الكولوا في
أواسط القرن الأول قبل المسيح ، ومن ذلك الوقت بدأ الرقي في الأفكار وأخذت المملكة
في العمران. وكان لاستيلاء هاته الدولة الأجنبية فضل على الكولوا فشيدت البناءات
ورسمت الطرقات وانتشرت الزراعة. وفي القرن الخامس بعد المسيح أخلد الرومان
والكولوا إلى الراحة واللذات عقب أيام الشجاعة والمكافحة فهاجمتهم البربر من شمال
أروبا وهي الأمم الخالية من التمدن الروماني ، فقبيلة البوركون في شواطي الرون والفيزيكو
على نهر الكارون والفرا في شمال أراي الكول التي سميت من ذلك العهد فرانسا. وأول
رؤساء الفراكلوديو وهي عائلة الميروفانجيان.
ومن قوانين أول
ملوك الإفرنك وهو فرامون الذي ولي من عام ٤٢٠ إلى عام ٤١٧ بعد المسيح أن المرأة لا
تلي الملك أنفة من طاعة النساء. وهذه من قواعد الشرع حيث أن المرأة ضعيفة الإرادة
والبدن فهي ناقصة بالطبع ومن أصل الخلقة عن الرجل.
كتب القتل
والقتال علينا
|
|
وعلى
الغانيات جر الذيول
|
ويشهد لذلك في
الخارج ضعف صوتها المسموع. وفقد الشعر في الوجه وهو من علامات الضعف أيضا ، حتى أن
ملوك الافرنك أنفسهم كانوا يطلقون شعرهم علامة الشهامة والقوة. ولعل هذا من أسرار
الشريعة في عدم حلق اللحية. وقد عملوا بهذا
القانون حتى في أواخر القرن السادس عشر وتمسكوا به بعد نحو اثني عشر قرنا ،
وذلك عند ما طلبت إسبانيا بمناسبة تحريم البابا هنري الرابع لما كان من البروتستانت
، أن تكون امرأة منهم ملكة على فرانسا ، فقالوا لا يجوز تغيير القانون الفرنساوي
القديم القاضي بحرمان النساء من التاج الملكي. والفرنساويون مشرعون من قديم يسنون
القوانين ويحافظون عليها كالرومانيين. ولما هجم (أتيل) ملك (الليها) على الفرا في
القرن الخامس بعد المسيح اتحد هؤلاء مع الفيزيكو ، إخوانهم البرابرة ، ومع السكان
الأصليين وهم كولو رومان أي الكولوا والرومان وأطردوا الليهانيين. قلت ولو لا
اتحاد الغاليين السكان الأصليين مع القبايل الافرنكية الدخيلة في بلاد غاليا لما
أمكن للافرنك التغلب على الليهانيين ، خصوصا لو انضم الغاليون السكان الأصليون إلى
العدو المهاجم لكان انكسار الإفرنك في الحروب وخروجهم من أراضي غاليا سهلا جدا
لوقوعهم بين نارين.
نظير هذا
الاتحاد جرى في حروب يوسف بن تاشفين للإسبان واتحاد سكان الأندلس مع المرابطي
المؤلف جيشه من السودان وبرابرة المغرب الأقصى ، فانتصر بذلك ابن تاشفين في واقعة
الزلاقة عام ٤٧٩ هجريا مع زعيم ملوك الأندلس صاحب إشبيلية ابن عباد على العدو
انتصارا باهرا ، وكانت الأندلس من بعد ذلك له وللأندلسيين. وكما اطمأنت خواطر
الدولة العربية في شمال إفريقيا ورسخ قدمها لما اتحد معها السكان الأصليون وهم
البرابرة ، بل وفتحوا معها شبه جزيرة الأندلس ، أما قبل الاتحاد مع السكان
الأصليين فقد كانت إفريقية تتقد نارا. والفضل في ذلك لموسى بن نصير الذي استمالهم
بإحسانه حتى أعطوه أبناءهم فتح بهم سلطنة الأندلس. وكذلك عبد المومن بن علي استمال
سكان المملكة التونسية من الجنس العربي الوارد من الأبواب المصرية والمتغلب على
دولة صنهاجة بالقيروان وبجاية واستنجدهم بقصيدته المشهورة التي يقول فيها :
أقيموا إلى
العلياء هوج الرواحل
|
|
وشدوا إلى
الهيجاء جرد الصواهل
|
بني العم من
آل هلال بن عامر
|
|
وما ولدته
وائل وابن وائل
|
ونظاير هذا
كثيرة في سائر الممالك ومسائل الكون متشابهة والتاريخ يعيد نفسه.
وفرانسا اليوم
بفضل اتحاد العناصر التي هي (١) العنصر البربري من شمال إفريقيا (٢) وعنصر القبائل
المهاجرة من آسيا (٣) وعنصر السكان الأصليين. أصبحت كجسد واحد يتأثر الفرد منها
للآخر في دفاع العدو وتحصيل المنافع. وكل مملكة أصبح سكانها على وفاق كانت في
سعادة ، ومثل ذلك المدينة والعائلة والجسد. ومعلوم أن الجسد علامة صحته واعتدال
طبائعه تألمه كله لتألم عضو من أعضائه ، وعلامة فساده وخروجه من المعتاد عدم إحساس
ما يجري على بعض أعضائه كالنايم والمريض والمخدر والسكران والمفلوج. وفي آخر عائلة
الميروفانجيان حارب شارل مارتيل العرب في بواتيي وأوقفهم عند حدهم وردهم على
أعقابهم والواقعة تسمى بلاط الشهداء عام ١١٤ ه.
وأورث شارل
مارتيل ابنه «ببان» القصير الملك المتسلسل وأسقط الملوك الكسالى ودولة ذريته من (٧٥١
ـ ٩٨٧) وهم عائلة الكارولانجيان. ومنها شارلمان ودود ابن الأغلب بالقيروان والرشيد
ببغداد. وأواخر هاته العائلة هو عصر «الفيوداليتي» أي السادات الذين هم كملوك
الطوائف : ثم سقطت هاته الدولة بهوك كابيت أول عائلة الكابيسيان التي مدتها من ٩٨٧
ـ ١٧٩١. ثم جاء دور الجمهورية التي حاربتها سلطة الفرد وأسقطتها مرتين ، والآن
دورها الثالث من سنة ١٨٧١. وبيان هاته الأدوار وأسماء الولاة بفرانسا بالجدول
الآتي. هذا ما يخص الأجناس والحكام أما حالة الأمة ففي العصور الوسطى صارت السلطة
للسادات وهم أفراد من الأمة. ثم في دور الملوك اجتمعت كلمة الأمة وبالاتحاد صارت
الطبقة المحكومة وهي أكثر سواد الأمة لها حرية شخصية وحقوق التملك. ومن بعد ثورة
عام ١٧٨٩. ومن عهد الجمهورية الأولى ١٧٩٢ صارت لها حقوق المساواة مع بقية الطبقات.
ومن بعد ١٨٤٨ ومن الجمهورية الثانية ضمن لها الرأي في السياسة وحق الانتخاب. ثم
بالترقي في المعارف وانتشارها بلغوا إلى درجة الحرية الفكرية وتملصوا من قيود
التقليد وانفلتوا من بين جدران الحجر.
السنون
بعد المسيح
|
مبدأ
ولايات ملوك فرانسا
|
٤٢٨
|
كلوديون
|
٤٤٨
|
ميروفا ـ وبه سميت العائلة الميروفانجيانية
|
٤٥٨
|
شيلديريك الأول
|
٤٨١
|
أولاد كلوفيس الشهير
|
٥٥٨
|
كلوتاير الأول
|
٦٢٨
|
داكوباير الأول
|
|
الملوك الكسالى ـ عائلة الكارولانجيان (٧٥١ ـ ٩٨٧)
|
٧٥١
|
بيبان القصير
|
٨١٤
|
شارلمان الكبير
|
٨١٤
|
لويس لوديبوناير
|
٨٤٠
|
كارلوس الثاني
|
٨٧٧
|
لويس الثاني
|
٨٧٩
|
لويس الثالث
|
٨٨٤
|
شارل الجسيم
|
السنون
بعد المسيح
|
مبدأ
ولايات ملوك فرانسا
|
٨٨٧
|
أود
|
٨٩٨
|
شارل الثالث
|
٩٢٢
|
روباير الأول
|
٩٢٣
|
راول
|
٩٣٦
|
لويس الرابع
|
٩٥٤
|
لوتاير
|
٩٨٦
|
لويس الخامس (عائلة الكابيسيان (٩٨٧ ـ ١٧٩١)
|
٩٨٧
|
هوك كابي
|
٩٩٦
|
روباير الثاني
|
١٠٣١
|
هنري الأول
|
١٠٦٠
|
فيليب الأول
|
١١٠٨
|
لويس السادس
|
١١٣٧
|
لويس السابع
|
١١٨٠
|
فليب الثاني
|
١٢٢٣
|
لويس الثامن
|
١٢٢٦
|
لويس التاسع
|
١٢٧٠
|
فليب الثالث
|
١٢٨٥
|
فليب الرابع
|
١٣١٤
|
لويس العاشر
|
١٣١٦
|
فليب الخامس
|
١٣٢٢
|
شارل الرابع
|
السنون
بعد المسيح
|
مبدأ
ولايات ملوك فرانسا
|
١٣٢٨
|
فليب السادس
|
١٣٥٠
|
جان الثاني
|
١٣٦٤
|
شارل الخامس فالوا
|
١٣٨٠
|
شارل السادس
|
١٤٢٢
|
شارل السابع
|
١٤٦١
|
لويس الحادي عشر
|
١٤٨٣
|
شارل الثامن
|
١٤٩٨
|
لويس الثاني عشر ـ فالوا أورليان
|
١٥١٥
|
فرنسيس الأول
|
١٤٣٧
|
هنري الثاني
|
١٥٥٩
|
فرنسيس الثاني
|
١٥٦٠
|
شارل التاسع
|
١٥٧٤
|
هنري الثالث
|
١٥٨٩
|
هنري الرابع
|
١٦١٠
|
لويس الثالث
عشر
|
١٦٤٣
|
لويس الرابع عشر
|
١٧١٥
|
لويس الخامس عشر
|
١٧٧٤
|
لويس السادس عشر. وقتل عام ١٧٩٣
|
السنون
بعد المسيح
|
مبدأ
ولايات ملوك فرانسا
|
|
(الجمهورية الأولى)
|
١٧٩١ ـ ١٧٩٢
|
السلطة التشريعية
|
١٧٩٢ ـ ١٧٩٥
|
الاتفاق الوطني انفولام
|
١٧٩٥ ـ ١٧٩٩
|
المديرية (نابليون الأول بونبارت)
|
١٧٩٩ ـ ١٨٠٤
|
القنصلية
|
١٨٠٤ ـ ١٨١٤
|
الإمبراطورية
|
١٨١٤
|
لويس الثامن عشر
|
١٨١٥
|
نابليون مرة ٢
|
١٨١٥
|
لويس الثامن عشر مرة ٢
|
١٨٢٤
|
شارل العاشر
|
١٨٣٠
|
لويس فيليب
|
١٨٤٨
|
(الجمهورية الثانية ورئيسها نابليون الثالث)
|
١٨٥٢
|
نابليون الثالث إمبراطور (الجمهورية الثالثة)
|
١٨٧١
|
تيارس أول رئيس
|
١٨٧٣
|
مكمهون ٢
|
١٨٧٩
|
فريفي ٣
|
١٨٨٧
|
كارنو ٤
|
١٨٩٤
|
بارييي ٥
|
١٨٩٥
|
فليكس فور ٦
|
١٨٩٩
|
لوبي ٧
|
١٩٠٦
|
فليار ٨
|
١٩١٣
|
بوانكاري ٩
|
ومن غريب
الاتفاق أن ظهور الجمهورية الأولى والثانية والثالثة كان عقب اسم لويس ، أي السادس
عشر في الأولى ولويز فيليب في الثانية ولويز نابليون في الثالثة.
ومن الاتفاق
أيضا أن المسقط للجمهورية الأولى والثانية نابليون ، الأول في الأولى والثالث في
الثانية.
بين مرسيليا وكرونوبل
ركبت من
مرسيليا على الساعة العاشرة صباحا من يوم الأحد ثالث أيام السفر من تونس ، والثامن
من شهر جوان والأول من رجب ، قاصدا مدينة كرونوبل على طريق جبال الألب. وبمجرد
خروج القطار من مرسيليا وانسيابه في وهاد أراضي فرانسا وامتطائه جبالها يتجلى
للغريب التونسي منظر جميل غير معهود في أراضي مملكته. لما أن تربة الأراضي بفرانسا
خصبة بالأمطار المتوالية والسحب المنعقدة والغيث المدرار في سائر فصول السنة.
وبإتقان
الحراثة والغراسة والعمل المتوالي على حسب القواعد الفلاحية أصبحت جميع أراضي
فرانسا حيثما امتد البصر وقصد المستطلع مخضرة الأديم ، تملأ البصر مزارعها
وأشجارها وأزهارها لذة وحبورا. يستوي في ذلك السهل والجبل ، فالسهول تخترقها
الأودية والجداول ، وبها الأشجار المثمرة وغيرها مما ينتفعون به في مباني
المنازل وصنع الكاغد والوقد في بيوتهم التي يلازمونها في كامل فصل الشتاء
من شدة البرد «ومنافع الغابات سيأتي الحديث عنها في جبال شارطروز حول كرونوبل».
أما الجبال
فزيادة على ما أنعمت عليها به العناية الإلهية من الأشكال البديعة ، فهي مكسوة
الأديم بأنواع الأشجار والأزهار ومعممة بالثلوج الناصعة حتى صارت ذات جمال وهيبة
بهذا اللباس الأخضر والعمائم البيض التي تخفف في زمن المصيف ، فتسقي الأشجار
والمزارع بمياهها العذبة عند الذوبان وتشفي غليل كل ظمآن. وتظهر الطرقات بيضاء
ممتدة في السهول ومتعرجة في الجبال كجداول ماء في بستان اعتنى مالكه بإتقان خدمته
وإبداع تنسيقه.
خيرات الأرض ومحاسن السماء
بهرتني خضرة
أديم الأرض في فرانسا وانتشار الثوب السندسي على البسائط والرّبى وامتداده إلى قمم
الجبال. وحيثما مر بنا القطار إلّا وقامت أمامنا قدود الأشجار ، ورنت لنا عيون
الأنوار ، وبسمت ثغور الأزهار ، الأمر الذي قلد فيه الطبيعة وقابلنا بمثله سكان
ذلك البستان ، «ومملكة فرانسا كلها بستان واحد» ، البادي على وجوههم البشر
والرافلين في الحلل الجميلة ، حيث صادف ذلك يوم الأحد ، وهو يوم الراحة والزينة
والخلاعة عندهم ، في محطات سكة الحديد التي مررنا بها مداورة لقرى جبال الألب.
وعجبت لما سبق لمسامعي من كثرة كلام الزائرين الأروباويين للمملكة التونسية وضربهم
على وتر واحد وإجماع كلمتهم على حب قرص الشمس وبريق النجوم وزرقة السماء عندنا ،
وغبطتهم لسكان هذا القطر على التمتع بجمال تلك المخلوقات الزاهرة والأضواء
الباهرة. بما يخيل لسامعهم أن ليس في ممالكهم ما يغبطون عليه من جمال الطبيعة
ونتاج الأرض حتى رأيت ما رأيت. فعلمت أن القوم أتمّو تدبير ممالكهم وتشبعوا من
التنعم بمحتوياتها واستدرار خيراتها ، وتفرغوا لما بأيدي غيرهم ليشاركوا فيه
وليعلموا قيمته. ونحن لا نعبأ بزينة الكواكب ولا نلتفت لقرص الشمس وما له من
العظمة والمنافع وقد تقدم في فصل طلب العلم بالمقدمة ما في الحديث الشريف. العالم
كالحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء. فبينما هي كذلك إذ
غار ماؤها وقد انتفع بها قوم وبقي أقوام يتفكنون ، أي يتندمون. ولعل كل شيء
نفيس أو أمر نافع هذا شأنه. يعرف قيمته الغريب ، ويزهد فيه القريب. اللهم إلّا
الذين أراد الله بهم خيرا. مثلما قرروا في أسباب السيادة وطرق الرياسة يوفق الله
من أراد لاكتساب خلالها. وإذا أراد الله شيئا هيأ أسبابه وسيأتي هذا في أخذ
الفرنساويين بأسباب السيادة كإكرام أهل العلم وإنزال الناس منازلها إلخ في فصول
باريز. والأمة العربية في الأجيال الغابرة عرفت منازل الكواكب وفوائدها الحسابية
وأنواءها وكادوا أن يعتبروا الكوكب النهاري العظيم أكبر إله في عهد جاهليتهم ،
وشبهوا بجمال الكواكب وتوهموا فيها صورا لبعض الحيوان والنبات.
وكنت نظمت
بمناسبة كسوف الشمس في عام ١٣٢٣ ـ ١٩٠٥ قصيدة ضمنت بها الكسوف ودوران الكواكب
بالشمس ذات المنافع الجمة في عالم الحياة وما كان للعرب من الخبرة بعلم النجوم.
ونص ما نشرته جريدة الحاضرة بعددها ٨٥٩ :
من القيروان إلى نادي العرفان
وردت لنا
القصيدة الآتية من الفاضل المهذب الأديب المتفنن الشيخ السيد محمد المقداد
الورتتاني نائب جمعية الأوقاف في شأن الكسوف الذي وقع في الثلاثين من أوت الفارط
ضاق نطاق الجريدة عن إدراجها بوقتها. وحيث كانت من أجل ما جادت به قريحة أديب في
كشف أسرار الكوكب العظيم وما له من التأثير في نظام العالم والحياة البشرية مع
تخلص إلى التنويه بالعلوم الرياضية عموما ، وعلم الفلك خصوصا ، الذي تقاعست عنه
همم الأمة الإسلامية وأصبح ميدان تنافس الأمم الإفرنجية بعد أن كان نوره مشرقا
بالبلاد الإسلامية ، فقد أحببنا تطريز جيد الجريدة بقلائدها وتوشيحه بمنظوم
فرائدها. ونصها بلفظها الرايق ، ومعناها الفايق :
أفلت وكان
كسوفها متوقعا
|
|
وخفت فكاد
القلب أن يتقطعا
|
ونضت بعيد
الصد ذاك البرقعا
|
|
فشفت فؤاد
المستهام تطلعا
|
هيفاء تبسم
للمحب تصنعا
|
|
وتصد عنه
تدللا وتمنعا
|
لا تعجبوا
فلها التقلب شيمة
|
|
عن نفسها
والناس في آن معا
|
والبدر
حاجبها ونور جمالها
|
|
كل الكواكب
حول مركزه سعا
|
وتصاغرت كل
الكواكب عند ما
|
|
أضحى لها حسن
التوسط موضعا
|
وإذا بدا
للكائنات ضياؤها
|
|
نشرت كيوم
الحشر قوما صرعا
|
ونما النبات
وساد ما بين الورى
|
|
أمن به عمروا
الفضاء الأوسعا
|
وهي الدواء
المستطاب فكم يرى
|
|
طب الحكيم
بدونها لم ينجعا
|
ووحيدة الحسن
المريع فطالما
|
|
فتنت بها أمم
وظلت ركعا
|
وتراد في
التشبيب مهما شبهوا
|
|
حوراء في مثل
الغزالة مطلعا
|
لكن كسوف
الشمس أكبر عبرة
|
|
تبدو إلى عبد
تدبر أو وعى
|
في نصف عشر
سويعة أنوارها
|
|
تخفى وتظهر
للعوالم أجمعا
|
جرم عظيم صنع
مولى قادر
|
|
عرف الخليل
به الإله المبدعا
|
فيه الغواية
للغبي إذا سها
|
|
وبه الهداية
للذكي إذا سعى
|
ركب البحار
تطلبا أسراره
|
|
قوم أرادوا
في العلوم توسعا
|
فالغرب ساد
وما اقتفينا إثره
|
|
حتى أناط بكل
علم مجمعا
|
والشرق ينظر
للوفود بأرضه
|
|
وذوي المعارف
للمراصد شرعا
|
فكأنه لبس
الخمول تورعا
|
|
أو أنه لم
يدر ما قد ضيعا
|
وبنوه شأنهم
التفرق والجفا
|
|
والاتكال على
المقابر والدعا
|
فإذا دعوت
إلى التعاضد والإخا
|
|
نفر يصد وآخر
لن يسمعا
|
وإذا سألتهم
علوم الارتقا
|
|
جعلوا الجواب
الانتقاد تذرعا
|
يا مبغضا علم
النجوم ترفعا
|
|
هيهات أن تلج
الصواب وتقنعا
|
أتذم جهلا
روض علم أينعا
|
|
بالشرق ثمت
في سواه تفرعا
|
والشرق دام
لكل علم مرجعا
|
|
حقبا فصار
الآن قفرا بلقعا
|
قضت العمائم
بانقضا تلك المعا
|
|
رف والجهاد
لها بأن لا ترجعا
|
وليس المراد
بذكر العمائم ذم تيجان العرب أو الخدش في نباهة حملتها وغزارة معلوماتهم وسعة
مداركهم. وأرباب العمائم قديما وحديثا هم حملة علوم اللسان والدين والقائمون
بالخطط الشرعية والسياسية أكمل قيام. وما رجال السيف والقلم
إلّا من أبناء التعليم العربي. ومعهده الأكبر بإفريقيا جامع القيروان في
القديم ، ومن القرن السابع إلى الآن جامع الزيتونة دام عمرانه. وإنما كتاب العصر
اتخذوا هاته الكلمة رمزا إلى من يتعرض في طريق الإصلاح أو لا يرى فائدة في علوم
الحياة.
ولعلها استعملت
من القرن الثاني عشر في مبدأ تغيير رجال الدولة والقائمين بالإصلاح اللباس القديم
وتركهم العمامة في اللباس الجديد. وما لا قوه في أول أمرهم من بعض من لا يعلمون
قيمة الإصلاح. وهم بلا شك من المعممين. فأطلقوا هاته الكلمة على أولائك الأفراد
المخالفين إذ ذاك للمصلحين في لباسهم وأفكارهم.
فذهبت مثلا
وصارت تطلق على منكر الإصلاح وعلوم الرقي بقطع النظر عن جنسه ولباسه. وسيأتي
الكلام على اللباس وأطواره في فصول باريز.
الحياة بالمال؟ أو بالجمال؟
يود الإفريقي
أن يعطي غطاء السماء على ما هي عليه من الجمال والزركشة ويأخذ بساط الأرض ذات
الاخضرار. والثمار معاوضة ولكن هل تبقى تلك الأرض على زخرفها وزينتها إذا صارت إلى
غير أربابها العاملين ، وهل المعجبون والراغبون في مثلها قادرون على مداومة خدمتها
وإثارتها وعمارتها حتى لا تصبح حصيدا كأن لم تغن بالأمس ، أو هل يتحمل أربابها
بالقيام بها ولا يكلفون الراغبين في أخذها معاوضة عناء العمل فيها. وأظن أن
المشترط لهذا الأمر يذكرنا في حديث قوم موسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). وإلّا اشترطوا هم أيضا على أرباب السماء ما فوق الطوق
وهو الالتزام لهم بأن الشمس متى صارت لهم لا يأتيها السحاب وأن تبقى السماء صقيلة
المنظر الفيروزجي مطرزة الجلباب. لهذا يرى المتدبر أن لهم العذر في تمنيات شمسنا
وطيب هوائنا إذ ليس في وسعهم اقتناء ذلك بممالكهم ، ونحن ليس لنا عذر بدون أن تصير
أرضنا نضرة بالغراسة في الجهات التي تقل فيها الأمطار أو أن لا نجيد خدمة الأماكن
الطيبة التربة مع تربية الحيوان والتنقل به إلى مظان الكلأ والرعي في مواقع نزل
الربيع ، وإعداد ما يقيه ويقتاته في أوقات الجدب وزمهرير الشتاء. ولا يرجع جمال
أرض فرانسا فيما يظهر إلّا لإجادة العمل
وإتقان الزراعة. ولربما كانت تربة أرضنا أجود وطقس عدوتنا ألطف ، حيث رأيت
مزارع القمح هنالك أضعف سوقا وأقصر قامة والسنبل أقل حجما. فالشكر إنما يوجه
للرجال على هاته الأعمال لا إلى تراب السهول والجبال.
بلغني أنهم
يجلبون لأراضيهم تراب الفسفاط يمزجونها به فتجود الأرض وتتجدد قواها. وقد عرف
الأروباويون مزية تراب هذا الإكسير على الفلاحة ، فاستثمروا خصيصته ونالوا أرباحه.
كنت رأيت بشركة فسفاط المتلوي بجنوب المملكة التونسية نحو أربعة آلاف عامل باليد ،
عدا النظار والمكلفين والمهندسين ، وتفوق الحساب القوات البخارية والكهربائية
لاستخراج تراب الفسفاط من غيران وكهوف في أعماق الجبال الشاهقة على أنوار الكهرباء
، ويجر بعربات البخار إلى معامل التجفيف الأول بالشمس والفلح ، ويطحن ويغربل بعد
ذلك بأمتن الآلات وأسرعها. ثم يجفف بنار الفحم الحجري وتسير به القطارات إلى
الشواطئ ليحمل إلى ما وراء البحار وليدر على أراضي أرباب العلم بالمنافع والأعمال
الزراعية المحكمة. فيرى الإنسان في معامل استخراج الفسفاط الكيمياء بمعنى الكلمة
التي يصير بها التراب تبرا من الأرباح الباهظة في أثمانه. ومتى رأى تأثيرات ذلك
التراب على الأراضي التي يمزج بها ، وخصبها بعد الجذب وحياتها واخضرارها بعد الموت
والعراء ، يعلم قيمة أسرار الكائنات في هاته الأرض التي خلقنا منها وخلق لنا أيضا
ما فيها جميعا ، وأن ما بها فيه كفاية ورزق واسع لمن تدبر واجتهد في الوصول إلى
الأسرار والمنافع. والأرض كالبشر فمن تشبع بماء العلم والتهذيب وأد من العمل
واكتسب المعارف والآداب أنتجت أفكاره ومواهبه ما يسوس به نفسه وينفع جنسه. وإذا
قابلت بينه وبين من يبقى على أصل الفطرة الحيوانية شبه السائمة ، تحسب الفرق من
أصل الخلقة أو التفاوت في الاستعداد. والأمر على خلاف ذلك وما هو إلّا العلم
والعمل وربما خفي هذا الأمر على بسطاء العقول في توهم الفرق بين الحضري والبدوي.
ورجع بنسبة ذلك إلى اصل الفطرة مثل ما خامر بعض الأفكار من أن بين الشرقي والغربي
تفاوتا في العقل ، وكل ذلك بعيد عن الصواب وبمعزل عن الحقيقة ، إذ قد تجد في
النفوس الغير الممرنة والعقول الغير المدربة كمالا ومتانة واستعدادا تفوق بها
غيرها. وتتجلى حقيقة الأمر إذا أرسلت من كلا الجنسين في رهان التعليم والتثقيف على
السواء
ومددتهما بسلاح واحد فترى النفوس الساذجة لسلامة الفطرة وصفاء القريحة
مجلية في ذلك الميدان. كذلك الأراضي إنما تفيد وتجود بإتقان الخدمة ولا تفيد جودة
التربة وحدها. أما مع التساوي بين نوعي الأرض في العمل ، فالبلد الطيب يخرج نباته
بإذن ربه. لذلك فالبساط الأخضر والنبات الناشئ في مملكتهم لم يكن هبة ، وإنما
صنعوه بكد اليمين وسقوه بعرق الجبين ـ قلت ومن لم يعرق جبينه عملا يعرق وجهه خجلا
ـ وفعلا كنت في أثناء تسريح الطرف من روشن القطار في المزارع التي استوت على سوقها
تعجب الزراع أمسح جبيني من العرق. فهل أدركتني دهشة الخجل؟ أو الإعجاب بالعمل؟ أو
ذلك من حر الشمس الذي يؤثر قليله لقلة النسيم عندهم على خلاف المعتاد عندنا؟ ثم
راجعت نفسي بعد إجالة النظر وجولان الفكر فيما بين إفريقيا وفرانسا ، وهو أسرع من
لمح البصر ، وقلت الآن نهارنا ليل بأمريكا. فشمس النهار كشمس السعادة وحياة الفكر
متى تشرق على قوم تغيب عن آخرين ، ذلك تقدير العزيز العليم. فلا يمكن أنه يكون
سكان جميع الأرض في يقظة أو نوم في وقت واحد في جميع القارات. أو تستمر اليقظة أو
يدوم الرقاد في سائر الأوقات.
ألا إنما
الدنيا غضارة أيكة
|
|
إذا اخضر
منها جانب جف جانب
|
ولكن لو خلقنا
في تلك الأرض وبين مثل أولئك السكان لكنا مثلهم في العمل.
والبيئة التي
يخلق فيها الإنسان والوسط الذي يتربى فيه مما له تأثير على الإرادة ومتانة العزم
والتفكير الصحيح. ومن تنبه أو أراد الرقي ، فمثله كمثل طائر محاط بقفص العوائد
ومقوص جناح العلم ، فهل يمكن أن ينهض بدون جناح؟ أو ينقاد ذلك الوسط بسهولة
للإصلاح؟ نعم إن ممازجة الأمم الراقية ينفع الأمة المتأخرة. وقد علم مما تقدم في
تاريخ فرانسا أن مبدأ التفات الأنظار إلى الزراعة والانتفاع بثمرات الأرض كان عند
احتلال الرومان لفرانسا ومن القرن الأول قبل المسيح بعد أن كانت الأرض خدمتها
بسيطة وغالبها مستنقعات وموات. والأمم الراقية متى حلت أرض قوم لا يعلمون بذرت من
حضارتها فيها فتنتج المملكة زرعا طيبا يتنفع به المالك والأجير ، يعجب الزراع ،
والزائرين للاستطلاع. وكذلك الأندلس في عهد العرب ، وكتبهم في
الفلاحة إلى الآن مرجع للأمم مثل كتب النبط بآسيا ، إلّا أن قواعد الفلاحة
الأندلسية أقرب موافقة لشمال إفريقيا لتقارب الطقس والتربة. ومن أهم الكتب في هذا
الفن كتاب ابن العوام الإشبيلي بالقرن السادس الهجري ، ترجم إلى اللغات وطبع.
وبالخط العربي نادر الوجود ، ظفرت بنسخة منه ولاكن التصحيف والتحريف من ناسخها
يحولان دون الوصول لبعض المسايل منها. وفي أواخر القرن السادس عشر نهضت أمة فرانسا
للزراعة على عهد هنري الرابع وبهمة وزيره سولي القائل : إن الزرع والضرع هما مراضع
فرانسا. وهذا الملك العظيم له مزايا كبرى على أمته وسيأتي ذكر حلمه وحزمه في
الحديث على فرساي. وفي القديم كانت إفريقيا على عهد الرومان خزينة الحبوب لرومة
بحيث كانت من أهم مستعمرات رومة التي صيرتها بستانا بالزيتون في القسم الجنوبي ،
وروضا بمزارع الحبوب في القسم الشمالي. والآن أخذت تعود لها الحياة التي لا تكون إلّا
بالعلم والملقن. فالاحتلال بالمملكة التونسية نبه إلى الزراعة ونشط على غراسة
الزيتون وخطط الطرقات وبث علوم الحياة ونشر الأمن ورقى الفكر وأجاد المصنوع. وقد
أظهرت إدارة المصالح الاقتصادية الاعتناء الزائد في موضوع الزراعة والصناعة
بالكتايب والنشريات والتفقد والمسامرات.
أما فلاحة أرض
القيروان فقد قال ابن ناجي عنها في القرن ٨ : وما زالت السحب تتمزق فيها إلى الآن
، فالمعتمد فيها في الحرث إنما هو على السواني التي يسنى على بيرها بالدلو ، وأما
الحرث في الأراضي التي تأتي إليها الوديان فغير مأمون فإذا جاء زرعها في عام طيب
تبقى أعواما لا يجيء فيها زرع طيب في الأعم الأغلب فيفتقر الحارث فيها. وقد خسرت
دنانير كثيرة بسبب الحرث فيها مرارا ، ولكن أصل حرثي إنما هو لقصد الآخرة فأنا
رابح في الحقيقة على كل حال.
محصول فلاحة فرانسا
القمح
|
٨٥٠. ٢١٢. ١٨٨
|
هكتوليتر
|
الشعير
|
٢٥٣ ، ٣٢٥ ،
١٣
|
هكتوليتر
|
القصيبة
|
٠٠٠ ، ٩٩٩ ،
٩٤
|
هكتوليتر
|
السلت
|
٠٠٠ ، ٤٨٠ ،
٢٠
|
هكتوليتر
|
بطاطة
|
٧١٤ ، ٠٣٨ ،
١٢٠
|
قناطير
|
اللفت للأكل
|
٩١٣ ، ١٥٩ ،
١٨٩
|
قناطير
|
لفت السكر
|
٨٠٨ ، ٦٢٠ ،
٧٦
|
قناطير
|
ومساحة المحترث
بفرانسا ٠٠٠ ، ٧٧٩ ، ٦٣ هكتارا وهو نحو ٧٠ في المائة من كامل مساحة المملكة.
والفرنساويون منكبون على الزراعة ، وجنسهم مشهور بالأمة الزراعية في داخل مملكتهم
وخارجها ، ولا يستنكفون عن مباشرتها علما بحصول الأموال الطائلة والثروة العاجلة
من ورائها ولما لهم من الخبرة بعلومها. والفلاحة كبقية الصناعات لها قواعد خاصة
ومسائل مضبوطة فيتنازل علماؤهم وسراتهم لخدمتها.
وابن راشد
القفصي في القرن ٦ يقول في شأن بلده :
بلد الفلاحة
لو أتاها جرول
|
|
أعني الحطيئة
لاغتدى حراثا
|
تصدى بها
الأفهام بعد صقالها
|
|
وترد ذكران
العقول إناثا
|
أما علماء
العصر فيقول أستاذهم العلامة الشيخ سيدي سالم بوحاجب من نظم له في الحث على تعمير
الأرض :
علينا عباد
الله خدمة أرضنا
|
|
وما هي إلّا
في الحقيقة أمنا
|
وهكذا كان
علماء السلف. وقد عوضت البيت الثاني من شعر ابن راشد بما يأتي وربما ينطبق ذلك على
أهل العناية بالفلاحة :
بلد الفلاحة
لو أتاها جرول
|
|
أعني الحطيئة
لاغتدى حراثا
|
يسقي بعلمه
ما يثير كنوزها
|
|
والأرض أحسن
ما يفيد تراثا
|
النباهة والإقدام في صغارهم
ركبت معنا
امرأة لها صبي جلس بجانبها ثم ثنى ركبتيه واعتمد على أرائك الجلوس ، والتفت إلى
ستاير الاستناد ، وكانت عليها حروف ب ل م ، فسألته أمه عن تلك فقرأها ، ثم عن
معناها قال لها : اسم شركة سكة الحديد ، وعن بقية كلمات تلك الحروف فقال : باريز.
ليون. البحر المتوسط. فعجبت من نباهة الصبي الذي كان دون الاثغار ومن سؤال الأم
أيضا. وعلمت أن البحث لا بد وأن يعود به الصغير من جملة التعاليم المفيدة بل ذلك
أساس العلوم والنتيجة بنت البحث. لذلك يشب الصغير وواجب الاستفهام عن معاني
الأشياء التي يقع عليها بصره يدعوه لاستجلاب حقائقها ، لأنه يعلم أنه مسئول عنها
وملام على الجهل بها ومتى غاب عنه حقائقها لأنه يعلن أنه مسئول عنها وملام على
الجهل بها ومتى غاب عنه معنى لا يهنأ دون الوصول إلى إدراكه ومثل ذلك في المعقولات
، فلا يقرأ كتابا أو يحفظ متنا حتى يأتي على فك ألفاظه وتدقيق غوامضه قبل الاشتغال
بما سواه. ولا يخطر بباله أن يعلق آماله على ما هو أعلى من تلك المرتبة التي بلغ
إليها في التعليم ما دامت منها بقايا غير مفهومة أو فصول غير معلومة. كل هذا من
أهم طرق التعليم والتعود على الاستفادة وأسهل وسائل الوصول إلى غايات المسائل
وأصناف العلوم ـ وقال بعض المحررين المحققين أن عدم الهيبة والخوف على صغير السن
هو الذي يرث جيل الإفرنج جميعا الإقدام والجرأة على الأمور والكلام ، ويزيدهم بسطة
في العلم والجسم والعقل ، ويبطئ بهم عن الشيب والهرم ، فإن إلقاء الرعب في قلب
الصغير كلوافح الرياح العاصفة على الغرس ، فمتى تمكن منه جعله بعد ذلك غير صالح
للمساعي الجليلة. وما عدا خوف الحكام في بعض البلاد الشرقية ، فإن الأمهات يزرعن
في قلوب أطفالهن الخوف من الخيال والظلام. قلت فيشب لذلك الصغير على الأوهام ويشيب
ودماغه مملوءة بشبه أضغاث الأحلام.
والخلاصة أنهم
يرشدون أبناءهم إلى المعاني المجهولة حتى يتعودوا البحث والحرية.
وبعض الناس
يعودون أبناءهم بالخمول والسكوت والجمود. وهم يعودون أبناءهم بالاستقلال في مجالس
الأكل والنوم ليعتادوا الاعتماد على النفس. ومن الناس من
يجلسون أبناءهم في أحضانهم وينيمونهم بجانبهم. وهم يخففون غذاء أبنائهم
حفظا لصحتهم. ومن الناس من يمدون أبناءهم بالشهوات والمآكل الغليظة فيعتلون. وهم
يزجرون أبناءهم عن كل ما لا ينطبق على الأدب كمس التراب وتلويث الثياب وبالأحرى
السباب. وبعض الناس يتركون أبناءهم كالسائمة يفعلون ما يريدون ويقولون ما يشاؤون
فيكون لهم ذلك ملكة يشبون عليها ويشيبون.
جبال الألب
قصدت كرونوبل
بعد مرسيليا لما يبلغنا من خصب تربتها وجميل موقعها ، وعذوبة مائها وشموخ جبالها ،
واتساع مروجها وكثرة معاملها ، وتدفق أنهارها وطيب مناخها ، وذكاء سكانها الذين
امتزجوا من قديم بالعرب في عرصات جبال الألب وجعلت طريق الوصول إليها مع الخط
الحديدي الملتوي مع جبال الألب. حتى أرى ارتفاعاتها وثلوجها وأشجارها ومزارعها.
وقد رأيت في أثناء السير بين مرسيليا وكرونوبل منظرا جميلا وعمرانا منتشرا وقرى
منتثرة في جنبات الجبال المعممة بالثلوج والمكتسية باللباس السندسي الذي تظهر عليه
بناءات القرى المغشاة سطوحها بالقرميد الأحمر وغيره كالوشي والتطريز على الثوب ،
وكالأزهار المختلفة الألوان في البساتين. والقطار يلتوي ما بينها صاعدا نازلا يفري
صدور الجبال ويمسح على جباه الربى طائفا بالنهد ومستبطنا للغور ، وبالأخص بعدما
تجاوزنا وسط الطريق وتركنا قرية سيسترو وراءنا ، فهو في الارتفاعات تحسبه سرب قطا
، وفي الانخفاضات تظنه حية رقطا :
تلقاه حال
السير أفعى تلتوي
|
|
أو فارس
الهيجا أثار العثيرا
|
أو سبع غاب
قد أحس بصائد
|
|
في غابه فعدا
عليه وزمجرا
|
وما القطار إلا
مجموعة أجناس ومنازل ، يطير بها البخار ويطوي المراحل ، والبخار
مما فاز به الأواخر عن الأوائل. وعند ما قاربنا كرونوبل وتراءت لنا جبالها
صار القطار في انحدار مدهش ، ووصلنا على الساعة الثامنة مساء بعد أن بارحنا
مرسيليا على الساعة العاشرة صباحا. وفضلت غير السريع من القطارات لأتمكن من التأمل
وتسريح النظر.
كرونوبل وضواحيها
جاء غربي هاته
المدينة مركز قطارها فابتدرنا منه أتيل أنكلترا وسلكنا له نهج الألزاس واللورين
إلى بطحاء فيكتور هيكو بوسط المدينة. وبابه الغربي يفتح إليها والمطاعم ومحلات
التجارة ومركز وقوف العربات وإدارة البوسطة والتلغراف كلها قريبة من هذا النزل
الذي تحمل إلى بيوت طبقاته رافعة (صانسور) في كل الأوقات بلا كلفة أو مشقة ، تلحق
الصاعد إلى العلو فهو والساكن في البيوت السفلى سواء بل يزيد عليه بطيب الهواء
وحسن المنظر والرياضة بالرافعة. وشرقي بطحاء فيكتور هيكو بطحاء كرانايت. وبينهما
مركز الترمفاي والقهوات المكتظة والمخازن المرصوصة بالبضائع ، والمنقالة التي تدق
على رأس أرباع ساعات دقا مرتبا يشبه التنقير على بعض آلات الموسيقى بتعدد الأرباع
فيما بين الساعات يسمعه جيران تلك البطحاء والنازلون في أوتيل أنكلتيرا وهو مما
يفيد الساكن ويعجب به الغريب ويطربه. ومن بطحاء كرانايت يذهب شرقا شارع لاريبوبليك
الذي به دار الطبيب الماهر المسيو باربيي. وبالغرب والقرب من هاته البطحاء نهج
مونتورج الذي به جمعية تنظر فيما تتقدم به البلاد (صانديكادي نيسياتيف). وهي من
الجمعيات التي لا تعرف عندنا وحبذا لو كان لنا مثلها. وعلى المسافر أن لا يهمل
الزيارة لهاته الجمعية التي تجود بما في وسعها من الإرشادات والإعانات بما يعود عليها
بالشكر وعلى المدينة بحسن السمعة والرغبة في زيارتها لاعتناء هاته الإدارة بمطالب
الغرباء. ونحن نشكرها على ما أمدتنا به من بعض المناظر على وجه الإعارة. وشمال
مركز الجمعية بستان البلد وهو حسن التنظيم ، كثير الأزهار والتقاسيم ، على الشاطئ
الجنوبي من نهر إيزاير الزلال ، وبه سميت مقاطعة كرونوبل (إيزاير). آت من الشرق
يسقي بمائه العذب
المزارع والمروج إلى أن يدفع بصدره في الطرف الشرقي من المدينة ، ثم يتجافى
عنها إلى الشمال محيطا ببستان ليل فايرت (الجزيرة الخضراء) حتى يسقي سكان قرية
لاطرونش ، ويركبونه بقنطرة تعرف بباب ليل فايرت ، تربط تلك القنطرة بينهم وبين
المدينة. ثم يعود النهر الكرة على المدينة منعطفا لزيارتها مرة ثانية. وكرونوبل
الجميلة تستحق تكرار الزيارة فينساب شمالها بين قصورها والجبل المستندة عليه
المدينة ، وبه ثكنات العساكر. وكرونوبل حتى من عهد الرومان مركز حربي مثل كونها
الآن مدينة زراعية صناعية (ومما اشتهرت به صنع القفازات) تجارية علمية. ثم يمد
النهر ذراعه إلى الشمال الغربي من المدينة محتضنا لها وواصلا يده بنهر دراك الآتي
من الجنوب وغربي المدينة ، فهي محفوفة بهاذين النهرين من جهاتها الثلاث. أما
الجنوب فزيادة على السور يوجد خليج من ورائه كالوتر واصل ما بين النهرين ،
فاستدارة الماء كانت حسنا وحصنا لهاته المدينة العظيمة في عين الناظر ، السهلة في
سلوك شوارعها ، الهينة على القاصد لأطرافها والمتجول في أرجئها ومنازهها. فإذا
تمادى الماشي مسايرا للنهر ومغربا بعد مشاهدة بستان البلد الذي مر ذكره فإنه يصل
إلى القنطرة الغربية على النهر المسماة قنطرة باب فرانسا ، وبينها وبين القنطرة
الشرقية في لاطرونش ثلاث قناطر كلها على نهير إيزاير. وفي خارج قنطرة باب فرانسا
بستان دوفان ، ومن داخلها بطحاء تجمع عدة طرقات عظمى مثل نهج صان أندري ، يخترق
وسط المدينة من الشمال إلى الجنوب ويتجاوزها في البساتين والضاحية أميالا كثيرة ،
تكتنفه الأشجار والمنازه والقصور. وهو أعظم شارع هناك ، ويتفرع من القنطرة
المذكورة شارع كنبيطة موصلا إلى الجنوب الشرقي من المدينة. ثم نهج الدكتور مازاي ،
وبه منازل الأعيان ومحل للاستحمام ويتصل بالجانب الغربي من بطحاء فيكتور هيكو.
ولطالما سلكنا هذا النهج المحبوب ولقينا من بعض سراة سكانه كل حفاوة وإكرام :
وكل فتى يولي
الجميل محبب
|
|
وكل مكان
ينبت العز طيب
|
وينتهي هذا
الشارع جنوبا إلى نهج لافونتاين ومكتب التعليم ، ومن ورائه مكتب الطب ومكتب
الصنايع المستظرفة. والطريق الموصل شرقا إلى بطحاء كنستيتيسيون هو
نهج لاليبايرت ، وبجنوبها الشرقي بستان النباتات تحت أسوار المدينة. وهاته
الحارة من المدينة بها الحركة العلمية كمكاتب التعليم وديار الآثار والكتب
والإدارات ونحو ذلك. هذه هي صورة مدينة كرونوبل التي لا ينقصها إلّا تعميم فرش
شوارعها حيث البعض منها مفروش بألواح غير تامة ولا ملتحمة يتعثر فيها المارة ويثور
من بينها القتام في طريق الألزاس واللورين. ومثل هذا الغبار على وجه مدينة كرونوبل
مما ينقص من جمالها الوافر اللهم إلّا إذا كانت الغبرة تعد من المحسنات في بعض
العادات. يزيد سكان المدينة عن سبعين ألفا ، وارتفاعها على سطح البحر أمتار ٢١٤ ،
وأما شكلها فيشبه سفينة فينيقية أو هيئة هلال طرفاه في الشمال أيمنهما شبه جزيرة
ليل فايرت ، وطرفه الأيسر شبه جزيرة صان مرتان بين نهري إيزاير ودراك. والعمران
قليل في هاذين الطرفين والمحاق من الهلال هو موقع الجبل الشمالي من المدينة ، وبه
الثكنات العسكرية التي لا تقع على أسرار ما بها أنظار العموم. ومعلوم في فن الفلك
أن مكان المحاق من الهلال لا تقع عليه أشعة بصر الشمس. وعلى رأس الطرف الأيمن من
ذلك الهلال نجم مضيء هو قرية لا طرونش التي بها الجمال الرايع والبناءات اللطيفة. ويقابلها
بداخل جزيرة ليل فايرت منازه ورحاب. والمدينة في سهل تحيط بضواحيها المروج النضرة
والغابات والمعامل المحكمة والقرى المتعددة ، والسكك الممدودة وتيجان الجبال
الشواهق وشرافات الأطواد الشوامخ ، طال عليها أمد الوقوف في حراسة ملكة هذا القطر
، والعروس المتجملة بين مدن هذا الصقع ، فشابت مفارقها ببياض الثلوج وكأن ملكة
الطبيعة أرادت أن تكافئ الحراس عن حسن الصنيع وثبات الموقف فأفرغت عليهم الحلل
الخضر وجمّلتهم بالعمايم البيض فازدادت محاسن أفق كرونوبل وتشابهت وتجمعت بها
المروج والجبال والغابات والأنهار والرياض والبناءات في صعيد واحد فهي سهلية جبلية
بحرية ، يرضى بها المحرور والمقرور. يتمتع المقيم في البلد بطيب الهواء المعتدل
ومناظر الجبال ، وبالأخص جبل لاموشوروت المطل على المدينة من الجنوب الغربي. كما
تنال عينه الغابات والأنهار وهو بسكك المدينة. والعاصمة القديمة لعمالة دوفيني
التي جاءتها التسمية بكرونوبل من النسبة إلى الإمبراطور الروماني كراسيا في أواخر
القرن الرابع مسيحي ، وبقي بها لقب آخر الآن أخذته شعارا وتذكارا من انتشار العرب
بالعدوة الشمالية من البحر الأبيض الرومي ،
وطول إقامتهم بجبال الألب إلى القرن ١٢ مسيحي وهو كلمة «سرزا» مصحفة من لفظ
مشارقة كما صرح بجميع ذلك أعظم المؤرخين الفرنساويين. ونحن الآن عالة في التاريخ
والمعارف على أروبا وعلى كتبها في القرون الأخيرة مثلما نستفيد بواسطتها مشاهدة
مصنوعاتنا العتيقة وكتبنا التي حوتها خزاينها من تآليف القرون الأولى والوسطى كما
سيأتي في مكتبة باريز. ونستمد تحقيق الحوادث وجليل المسائل ونوادر الفوائد من
جرائدها ومجلاتها وكتبها ودروسها. ولا زالت بعض الأعلام العربية في الأشخاص
واللباس والأماكن مستعملة إلى الآن في تلك الجهات ، فمن ذلك «الفار» اسم قرية
محرفة عن الواعر لصعوبة موقعها في شرقي كرونوبل وجنوب شانبيري ، و «برايدا» اسم
مجرى ماء بين الجبال يمر على الفار ويصب بنهر إيزاير محرفا عن باردة ، و «أليب» و
«ممود» بقلب العين همزة وحذف الحاء أعلام أشخاص ، وأصلهما علي ومحمود ، و «فودا»
اسم ثوب يجعل من أمام محرفا عن فوطة. قلت ودرام الذي هو اسم نهر في كرونوبل علم
أيضا على جبل للبربر في المغرب ذكره ابن خلدون. ولعل تسمية النهر وضعها الإفريقيون
أولا على جبل في كرونوبل يشبه جبالهم ثم أطلق على النهر المنحدر منه وهذا لا غرابة
فيه ، فبالمملكة التونسية أسماء بلدان وجبال وغيرها من لغات الأمم الغابرة وتحرفت
نوعا لمخالفة اللسان الوارث للأرض (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها)
قام في القرن
الثاني عشر على العرب سادات تلك الجهات وحاربوهم وألجؤوهم إلى الجبال التي لا زالت
بها آثار مساكنهم. وأخيرا فر بعضهم وقتل البعض واختلط الباقي بالسكان الأصليين ـ فبذروا
مشتلة من مفردات اللغة العربية في تلك الأصقاع تلوكها الألسنة إلى الآن ، وأورثوا
عنصر السكان الأصليين بموجب الامتزاج ملامح الوجوه وأشكال الرؤوس في أحواز (الفار.
وبوردوازان) شرقي كرونوبل. يقرأ القايف تلك السّمات في وجوهم ، ويربط بها سلسلة
أنساب الخلف بالسلف ، ويتوصل المتفرس بمسحة الجمال العربي والذكاء والرصانة التي
لأهالي أحواز كرونوبل إلى إثبات الامتزاج بين ذينك العنصرين العظيمين المتولد
منهما جنس جامع بين جمال الصورة ونباهة الفكر وحسن الخلق. وممن لدينا في المملكة
من سراة تلك الجهات السيد تيار المستعرب الشهير ، واسع العلم والتفكير ، والسيد (ما
يري) مدير المكتب
الفرنساوي بالقيروان ، صاحب أخلاق وأناة والذي زاد سكان كرونوبل بسطة في
العلم واستنارة في الفكر وصحة في الجسم ووضاءة في الوجه جبال الثلوج التي جاءت في
جنوبها يهب عليهم في المصيف نسيم منها يتنسم منه روح الحياة كما قالوا عن غرناطة
بالأندلس ، وأن ذلك روّق أمزجة أهلها وأكسبهم الألوان البديعة من امتزاج الحمرة
بالبياض ، التي يخجل منها ورد الرياض.
ومن محاسن
كرونوبل المروج الواسعة في الشرق الذي هو مطلع الشمس وبقية جهاتها جبال. والموقع
الذي بهاته المثابة كما قال ابن سينا مدائنه صحيحة جيدة الهواء تطلع على ساكنيها
الشمس في أول النهار وتصفي هواهم ثم تنصرف عنهم ، وتهب عليهم رياح لطيفة ترسلها
عليهم الشمس آخر النهار ، ثم يتبعها طلوع الشمس من أول النهار الثاني. وحال خروج
الشمس عنهم حال دخول الهواء عليهم بخلاف المدن الغربية أي التي تحول الجبال بينها
وبين الشمس شرقا ، فلا توافيها الشمس إلّا بعد حين ، وعند ما توافيها تأخذ في
البعد عنها فلا تلطف هواءها ولا تجففه ـ ولكرونوبل مثل غرناطة نهران أحدهما آت من
المشرق وهو إيزاير ونهر غرناطة يسمى حدره ، وكلاهما عليه قناطير خمسة ، فما أشد
التشابه بين هذين البلدين. ولها نهر آت من الجنوب يسمى دراك ولغرناطة مثله يسمى
شنيل. وقد أدخلت لفظ كرونوبل في شعر لبعضهم فقلت :
(كرنبل) الحسن تزهو
|
|
على دراري
النجوم
|
وكل نهر عليه
|
|
كمثل سلك
نظيم
|
ما جردت
كسيوف
|
|
إلّا لقتل
الهموم
|
والجبال
المنحدر منها دراك في الجنوب مثل جبال غرناطة في الجهة والوصف ، فهي كما قالوا
تنبجس العيون من سفوحها ، وتطرد في أرجائها وساحاتها المياه ، وتعددت الجنات بها
والبساتين والتفت الأدواح فجسوم أهلها بصحة الهواء صلبة.
وحال سكان
كرونوبل وما حواليها كما وصفوا أهالي غرناطة. حريمهم حريم جميل موصوف بالحسن وتنعم
الجسوم واسترسال الشعور ونقاء الثغور وطيب النشر وخفة الحركات ونبل الكلام وحسن
المجاورة. ولهن التفنن في الزينة والمظاهرة بين المصبغات والتنافس بالذهبيات
والديباجيات. غير أن نساء كرونوبل لسن بقصيرات مثل نساء غرناطة ، كما أن مدينة
غرناطة جاءت في مرتفع تقصر دونه مدينة كرونوبل.
فكأنهما تعاوضا
في هذا السبيل. وماء هاته الجهات عذب بارد زلال. وإني لأعجب من السكان كيف عدلوا
عنه إلى شرب الخمر وما رأيت في فرانسا ماء أحسن منه عذوبة.
عذب إذا ما
عل فيه ناهل
|
|
فكأنه من ريق
حب ينهل
|
عذب فما ندري
أماء ماؤه
|
|
عند المذاقة
أو رحيق سلسل
|
فالهواء والماء
، والتراب والسكان وكل ما في كرونوبل جميل. وإذا كانت هاته المقاطعة بمنزلة الرأس
من فرانسا فكرونوبل بمنزلة العين النجلاء منه. ولا أدري هل هي كذلك وعلى هذا الوصف
في نفس الواقع؟ أو تجلت لي خاصة بهذا التصنع؟
وإذا كان هذا
فما هو السبب يا ترى؟؟
هل لكونها أول
أرض أقمت بها في فرانسا ورأيت بها ما رأيت؟
أو لما لاقيته
من جميل المعاملة بها؟ أو لجاذب روحي وتعارف قديم بين العنصر الإفريقي والكولوا في
تلك المقاطعة التي لا زالت ترفرف فيها طيور الأرواح على أوكار الأشباح؟؟
فيزيل : ركبت
يوما سيارة مع صديقنا دالبايرتو إلى قرية فيزيل جنوب المدينة بنحو خمسة عشر ميلا ،
وشاهدنا قبل الوصول إليها مع نهر (دراك) وما أدريك. معامل الكهرباء المتولدة بقوة
انحداره ، فأنتجت قوة ونور وحرارة هذا السيال الشبيه بالروح المعلوم النفع
والمجهول الأمر منافع عظمى بالمدينة وضواحيها في تسيير القطارات وإدارة الماكينات
وإضاءة المنازل والطرقات. وقفت على معامل الكاغد يوتى لها بحطب
الغاب فتقطعه الآلات السريعة ثم ينشر ثم يخمر بالماء ثم يعجن ثم يمر على
حياض يتسرب منها إلى أعمدة حديدية أفقية متحركة تأخذ من ذلك العجين باستدارتها
جلدا ثخينا ، وفي أعمدة أخرى بعدها يرقق بالضغط على حسب إرادة الصانع ، وعند
الكفاية يمر على أعمدة محماة تجففه وآلات بعدها تقطعه على الطول والعرض الذي يحدد
أسفل الآلة القاطعة. فما يصل الكاغد إلى آخر بيت المعمل الذي دخل له وهو حطب إلّا
وقد هيىء للإرسال إلى سائر الأقطار. فهذا العمل هو (الكيمياء التي قالوا ولم تصب)
يوضع بإحدى جهتي المعمل الحطب ويقبض بعد تحليله وتركيبه من الجهة الثانية الذهب.
وفي صدر الإسلام وعظمة الخلافة العباسية راج اختراعه وإبداعه ، وأوجبته الحاجة
التي هي أم الاختراع لنسخ الكتب ورسائل الدواوين. قال ابن خلدون وكانت السجلات
أولا لانتساخ العلوم وكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات والصكوك في الرقوق المهيأة
بالصناعة من الجلد ، ثم طمى بحر التأليف والتدوين وضاق الرق عن ذلك فأشار الفضل بن
يحيى بصناعة الكاغد. فصنع واتخذه الناس من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية وبلغت
الإجادة في صناعته ما شاءت.
وهناك معامل
السيمان ، وفي سفح الجبل مقاطع الحجارة تجر إلى السهل بالآلات ، فما أكثر الخيرات
والموارد في تلك الجهة من حجارة وماء وغاب ، وما أعرف تلك الأمة بطرق الانتفاع بها
وصرف هممهم لتعاطي الأسباب.
وصلنا إلى قرية
فيزيل التي يقدرون سكانها بنحو خمسة آلاف وبها قصر الكونيطابل ـ أي القايد الأكبر.
وهو عظيم متسع ، وبه وقع اجتماع رؤساء تلك الجهات لمقدمة الثورة العظمى بفرانسا
١٧٨٨ وطلب الحرية وإسقاط الحكم المطلق. فله ذكر تاريخي عظيم ولذلك تسابقت إليه
أيدي الأغنياء ومن بينهم أحد رؤساء الجمهورية الثالثة ثم خرج إلى ملكية أحد أغنياء
إيطاليا ـ والدخول إليه برخصة خاصة ، وقفنا على بابه وتأملنا في صورة صاحب القصر
على فرس جواد. ونبحتنا هناك كلاب القصر من خارج الباب على خلاف طباع أهالي تلك
الجهة. ولكن الكلب كلب وهو مشهور بنكران الضيف وبالأخص المخالف لأربابه في اللباس
ولعله لم يشم منا أيضا رائحة من عرفهم في ذلك القصر من أبطال الحرية. «أرياج ليبا»
:
عرجنا عنها شرقا بعد فيزيل وهي تبعد عن كرونوبل بنحو أميال ١١ ـ وكانت
حماماتها معروفة عند الرومان ومنتفعا بها مثل حمامات قبرص ، ويوجد بها بعض الآثار
من القرون الخالية العامرة بمعارف الانتفاع من الدنيا في أدوار السذاجة البشرية
والإلهامات إلى التجارب الطبية. ولا زالت تلك الآثار محفوظة في قصر هناك على ما
ذكروا. تتصل بهاته الحمة سكة الطرمفاي الكهربائي وبها لوازم الإقامة من الأتيلات
ومحلات التمثيل والمطاعم والحفظ بالبوليس ووسايل المواصلة والمخابرة.
جاءت في وهاد
بين سلاسل الرّبى المغشاة بالأشجار ، فكانت أدواحا للأطيار ، وظلالا وشفاء لبني
الإنسان. وزادتها حسنا الطرقات المنظمة التي يتفيؤ السافرون ظلالها في مراتع الأنس
وحسن المناظر وطيب الهواء والأمن والانتفاع بالحمامات المعدنية. دخلنا إلى بناء
العين الحمة فوجدن به امرأة تسقي الوافدين أعطاها صاحبنا بعض المسكوكات ، وسألت
عني لغرابة اللباس وقالت لعلك تونسي فاستفسرتها عن اهتدائها لذلك فبينت لي أن
أختها متزوجة بمسلم تونسي مستخدم بالسفارة الفرنساوية بتونس ، وأثنت على التونسيين
وجميل معاملتهم للأوروباويين وحسن معاشرتهم لزوجاتهم ، فزادني سرورا ذكرها لوطني
وأبنائه بعبارات الثناء في تراب الحرية ، والاصداع بما في الضمير. وازداد عجبا
سامعوها من بعض عائلات كرونوبل الذين كانوا معي لأن الكثير من أهالي أروبا لا
يعلمون معنى الحياة الاجتماعية للتونسي إلّا في صورة مشوهة ، ولربما تخيله بعضهم
كسكان أواسط الصحراء الكبرى على شكل السودان وعوائدهم وانحطاط إدراكهم. لذلك يظهر
أن من أهم ما يرفع به اللبس ويماط به الغطاء سفر التونسيين إلى فرنسا. حدث الأستاذ
الشيخ سيدي سالم بوحاجب في أنباء رحلته إلى إيطاليا التي أقام بها ما يزيد عن خمسة
أعوام وحفظ لغة القوم ، وذلك منذ نيف وأربعين سنة ، أنه لما سئل عن سبب المنع من
تزوج المسيحي بالمسلمة وإباحة تزوج المسلم بالكتابية ، أجاب بأن المسلمين يعتقدون
نبوة عيسى عليه السلام ويحترمونه فلا تلحق الكتابية إهانة في دينها من زوجها ،
بخلاف المسيحيين فلا يرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا مانع من التحام
المرأة بزوجها في سبيل المعاشرة ، ومن أقوى أسباب الشقاق.
ومياه أرياج
نوعان منها الملح المسهل والعذب للشرب ، وفي بعض العيون الحديد
وفي البعض الآخر الجير والكبريت ، ودرجة الماء الحار نحو ٢٧.
وسعر الدخول
للرجال نحو الفرنك ونصف وللصبيان نصف ذلك تقريبا ، وتختلف الأسعار باختلاف أوقات
النهار والليل. أما دخول النسوة فمن الغريب أنه مرتفع السعر بما يزيد على ثلاث
فرنكات. وأغرب منه خمسون صانتيما لغسل الرجلين ، مسطر ذلك بفهرس الأسعار. ارتفاع
أرياج على سطح البحر أمتار ٤١٤ وهو بين ربى مجللة بالمزارع والأشجار وهناك «قد
أخرجت الأرض أسرارها وأظهرت يد الغيث آثارها». وفي باطن ذلك الشعب ، الذي يذكرنا
بشعب بوان ، الرياض والأزهار والأشجار المتعانقة حفا في الطرقات وحول الأتيلات (أشجار
كأن الحور أعارتها قدودها وكستها برودها وحلتها عقودها) :
والسرو شبه
عرايس مجلوة
|
|
قد شمرت عن
ساقها أثوابها
|
لو كنت أملك
للرياض صيانة
|
|
يوما لما
وطىء اللئام ترابها
|
فخاطبت رفيقي
بقول الخيام :
صاح لاحت في
دوحنا يد موسى
|
|
صاح مرت
بالروض أنفاس عيسى
|
سرحنا الطرف
هناك وتماشينا مع رفقائنا في طرقات الرياض ، وكانت الطيور تارة تصفر كأنما هي في
عرس والأوراق تصفق لها. وأحيانا تتناجى وتتجاوب ، فكأنها للإعجاب بذلك المكان
مثلنا. فقالت لي إحدى السيدات إن هاته المنازه من ملائمات الشعراء ، فعجبت من
إدراك النساء عندهم ورقي معارفهن وتمنيت إن كنت أقدر على الشعر بالفرنساوي لأنسج
لها برودا تشبه في الحسن ما أفرغته يد القدرة من الحلل على قدود الأشجار ،
والألوان على أنواع الأزهار.
نعم تسابقت لدي
بنات الشعر بعقود فاخترت منها كلام صفي الدين الحلي لانطباقه تماما على المكان
والسكان وأدمجت به كلمة «أرياج» :
روضة قد صبا
لها السعد شوقا
|
|
قد صفا جوها
وطاب المقيل
|
جوها سجسج
وفيها نسيم
|
|
كل غصن إلى
لقاه يميل
|
صح سكانها
جميعا من الدا
|
|
ء وجسم
النسيم فيها عليل
|
إيه يا ماء
نهرنا العذب صلصل
|
|
حبذا يا زلال
منك الصليل
|
إيه يا ورقها
المرنة غني
|
|
فحياة النفوس
منك الهديل
|
روض (أرياج)
فقت طبعا ووصفا
|
|
فكثير الثناء
فيك قليل
|
ته على الشعب
شعب بوان وافخر
|
|
فعلى ما تقول
قام الدليل
|
نهر دافق وجو
أنيق
|
|
زهر فائق وظل
ظليل
|
فيه لي رفقة
رقاق الحواشي
|
|
كاد لين
الطباع منهم يسيل
|
أريحيون لو
تسومهم النف
|
|
س لجادوا
فليس منهم بخيل
|
رجعنا إلى
كرونوبل عند الأصيل محاذين لسكة القطار الكهربائي ، وعند ما بلغنا نصف المسافة
انحصر الطريق بين جبلين وامتدت ظلال الأشجار على حفافي الخليج. وفي ذلك المضيق
تؤنس المسافر الأطيار ، وتهب عليه نفحات الأزهار وتسليه تلك المسالك على بعد
الدار. وتستوقف النواظر منه تلك الجبال المخضرة الأديم الآمنة السرب. وبالجملة
فجميع الحواس لا محيص لها هناك من المشاركة في حظ من
لذات الحياة الدنيا. وجدت في كرونوبل مظاهرات ضد قانون الثلاثة أعوام
وسيأتي الحديث عنه في مجلس الأمة بباريز.
جبال شارطروز
ركبنا يوما بعد
الزوال سيارة صديقا دالبايرتو وصعدنا إلى جبال شارطروز شمال كرونوبل وما أبنا منها
إلا قبيل الغروب. قضينا في صعودها ونزولها وتعاريجها ودروبها وقراها نحو ست ساعات
، وقطعنا نيفا وسبعين ميلا في الغابات الجميلة والارتفاعات التي تزيد على ألفي
ميترو. ذهبنا من غربي الجبال وأبنا من شرقيها ، فمررنا على قرية فورايب بعد أن
تركنا جبل نايرون على يميننا شرقا ، وكانت على يسارنا سكة حديد ليون ومن ورائها
غربا نهر دراك وإيزاير مجتمعين بعد مجاوزتهما كرونوبل.
كشفنا على قرية
صان لوران دوبون وهي في أساس جبال عليا ذات غابات عظمى جاءت في انحدار إلى الشرق
والجنوب وقريبة من شعب عظيم. ومنها تنعطف مشرقة الطريق الموصلة إلى دير شارطروز ،
والطريق فيما بينهما من أحسن الطرقات التي أجادت هندستها يد البشر وانتفعت بها
أرباب الخلاعة والتجارة والصناعة لسير السيارات الكهربائية التي تطير فيها أرباب
المال منهم في ظلال أشجار الجبال «ولسير العربات الحاملة لأطول الأشجار المقطوعة
من الغابات». وقد وجدنا كثيرا منها في تلك الثنيات المتفرعة من دروب وفجاج هناك
تسمى الحلقوم لضغط الجبال عليها والإحاطة بها. نزلنا من السيارة على الضفة الغربية
من الوادي الجاري من الشمال إلى الجنوب في الحلقوم الذي بين صان لوران دوبو وبين
دير الرهبان بشارطروز ، وتماشينا على جانب الرصيف الحجري الذي يحفظ السالكين
بالطريق التي يكتنفها جبلان عظيمان يحجبان بارتفاع أشجارهما أشعة الشمس ، فلا يوجد
هناك إلّا ظل ممدود وماء مسكوب.
وقانا لفحة
الرمضاء واد
|
|
سقاه مضاعف
الغيث العميم
|
نزلنا دوحه
فحنى علينا
|
|
حنو الوالدات
على الفطيم
|
وأرشفنا على
ظمأ زلالا
|
|
ألذ من
المدامة للنديم
|
يصد الشمس
أنى واجهتنا
|
|
فيحجبها
ويأذن للنسيم
|
ورأيت في هاته
الغابات نظاما لقطع الشجر من جانب منها ثم يصان إلى أن تنمو أصوله ويرجع كعادته ،
وفي مدة صيانته يقص جانب آخر وهكذا. فالأشجار لها قوانين خاصة ولها عشاق كبقية
المناظر الطبيعية مثل الجبال والبحار. ومعلوم أن منافع الأشجار كثيرة للإنسان
والحيوان ، فأول ما ستر به آدم أبو البشر جسده هي أوراق الشجر. وأول ما اقتات منه
ربما كانت ثمارها. ومن ألواحها أول ما بنيت المساكن فيما يظهر ، ومن حطبها كان
تنضيج اللحم وبقية أنواع الغذاء ومنها خشب آلات حرث الحبوب. فالمنافع الطبية في
الغابات ثم الاجتماعية كسقوفات المساكن وطرقات سكك الحديد وسفن البحر ثم الصناعية
حتى الصبغ والدبغ. خدمت الأشجار العلم خدمة عظيمة بالكاغد الذي تحرر عليه الكتابة
وتخلد به العلوم.
فالأشجار تخدم
الحيوان بل والعالم في حال حياتها بثمارها ومناظرها وظلالها وطيب هوائها. وفي حال
مماتها باستعمالها في غالب حاجات وضروريات الحيوان الذي تخدمه بموتها ليعيش. لذلك
غرس الأشجار من منافع الحياة ومن الأعمال العظيمة.
وقطع الأشجار
جناية كبرى على العالم أجمع.
وصلنا إلى
كوفان دوشارطروز وهو دير للرهبان في جبال شارطروز أسسه منذ قرون من كان محبا للبعد
عن الناس والتفرغ للعبادة. حيث وجد مبتغاه بين الجبال المسماة شارطروز جوفي
كرونوبل. وأنت تعلم أن الحكماء اختارت أربع كلمات من أربع كتب ، فمن التوراة من
قنع شبع ، ومن الزبور من سكت سلم ، ومن الإنجيل من اعتزل نجى. ومن الفرقان (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ
هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). وقال ثابت بن قرة : راحة الروح في قلة الآثام ، وراحة
القلب في قلة الاهتمام ، وراحة
اللسان في قلة الكلام ـ فمن وفق في هذا المكان نجا من الآثام والكلام
والاهتمام ـ واخترع العباد به خمرا جيدا فعالا في بابه ، محبوبا عند أربابه ،
يتغالون فيه بأسعار باهظة نال به حزب الانقطاع أموالا ، غزيرة ساعدتهم على تحسين
حال سكناهم وتوسيع دائرة برهم وصدقاتهم وعلى خدمة المنافع الجالبة للمال أيضا.
فهذا الدير به الضدان : معبد ذو انقطاع ، وملهى السافكين دم الشمول. وبالبناءات
متانة تستوجب مصاريف عظيمة واعتناء بالغا ، وبها أقسام للعبادة وأخرى كالسجون ،
بيوت بها طاقات يمد منها الغذاء للمقيم بها. وخزائن للكتب ومطابخ كبرى وكأنهم
يقرؤون في هاته الحالة ما نظمه عمر الخيام :
وأجبني
ووافني لاعتزال
|
|
وابتعاد عن
محض قيل وقال
|
رب قفر من
المظالم خال
|
|
ليس فيه عبد
ولا سلطان
|
هو عندي
المكان نعم المكان
|
|
رب كهف تثوبه
نفس أبي
|
فاق
قصرا طالت ذراه السحابا
|
وجدنا حارسا
أرشدنا إلى طرقه الطويلة ، وفي بعضها ظلمة والداخل هناك لو لا الهداية يضل. بلغني
أن أولائك الرهبان يعملون في العبادة وفي خدمة الأرض معا :
فلا هو في
الدنيا مضيع نصيبه
|
|
ولا عرض
الدنيا عن الدين شاغله
|
ولاكن لا
يتكلمون بشيء سوى يا أخي لا بد من الموت ـ وفي عام ١٩٠٣ عملا بقانون عام ١٩٠١
أبعدوا من ذلك الدير الكبير وبقي خاويا بلقعا ، وذهب الرهبان هم واختراعهم الخمري
إلى جهات إسبانيا. وسيأتي ما لنا من الكلام على الخمور عند
الكلام على مستشفى باستور بباريز. تجاوزنا دير الرهبان إلى قرية صان بياير
وبها أتيلات من بينها أتيل ديزاير الذي نزلنا في ساحته. وأسعارها كالحواضر مع أنها
في الجبال ، وذلك من تسهيلات الإقامة في تلك الارتفاعات الخالية من الأكدار
العامرة بالاطمئنان وراحة الجنان والوافدون الراغبون في حسن الهواء والمعيشة
المنفردة والرياضة على الأقدام ، وخلو البال كثيرون هناك حيث توجد الأطباء وكل
المرافق ، وسيأتي مزيد الكلام على البداوة في باريز. في أثناء جلوسنا أتاني طالب
معروف فنفحته بما تيسر وتلك أول مرة وآخرها رأيت بها مستجديا. ولما رآه رفيقي
الكرونوبلي نهره وأبعده عن تلك الساحة فأخذت عليه في خاطري لما أعلم عن هذا الجنس من
أنه خير الناس بمسكين ويتيم ، وقلت لعلهم لا يريدون أن يروا ما يقلق الضيوف ، أو
لأمر أخص من ذلك بأن لا يروا أبناء جنسهم يتكففون ، حتى علمت فيما بعد ببلدانهم
قطع أيدي الطلاب بإيواء العجز إلى التكايا وحرمان الصحيح من العطايا ليلتجئ إلى
العمل ، إذ حالة الطلب من كلا هاذين محزنة جدا شفقة على الأول ، ومن السير على
خلاف الطبيعة في الثاني ، ومن اللايق عدم ترك الأول والثاني يلحفان في الطلب ،
ويبديان الصخب والشغب ، فيستلفتان الأنظار ويمنعان سير المار ، والغريب بلا شك
يرشق الأمة التي تكثر طلابها بسهام التأنيب والاحتقار. مدح المؤرخون أحد خلفاء
بغداد فقالوا : أنفق الواثق في أيامه الأموال في وجوه البر ببغداد في النصف الأول
من القرن ٣ فحسنت أحوال التجار وبنوا أسواقهم بالجص والآجر وجعلوا أبواب حوانيتهم
من حديد ، ومنع السؤال وصار يجرى على المعوزين النفقة والكسوة. وقالوا عن أخبار
بعض ملوك الهند في القرون الأولى بعد الهجرة : ولا يدع السلطان بدهلي سائلا يستعطي
الناس بل كل من استعطى منع من هذا وأجرى عليه ما يجري على أمثاله من الفقراء.
قبيل الغروب
كان انحدارنا من أعلى جبال شارطروز وكانت الشمس أمامنا سائرة نحو التنزه بين جبال
كرونوبل الشاهقة وقد لبست ثوبا معصفرا وجللت نهر ليزاير بالنضار ونحن ننظر إليه
وقد عانق المدينة الجميلة وطوقها :
نهر يهيم
بحسنه من لم يهم
|
|
ويجيد فيه
الشعر من لم يشعر
|
ما اصفر وجه
الشمس عند غروبها
|
|
إلا لفرقة
حسن ذاك المنظر
|
وعلى يسارنا
وشرقي المدينة المروج النضرة تنساب فيها أعالي النهر المذكور آتيا من جهات شامبري
:
فكأنه وكأن
خضرة شطه
|
|
سيف يسل على
بساط أخضر
|
نزلنا من
السيارة عند ما عرض لنا روض دعتنا أزهاره للوقوف فاقتطفنا منها ولم تشح بالنوال :
والروض بين
مفضض ومذهب
|
|
والزهر بين
مدرهم ومدنر
|
ولم يكن أسفنا
بعد موادعة ذلك الروض وتلك المناظر العالية الغالية بأقل من أسف الشمس على الفراق
:
وعشية كم كنت
أوقف وقتها
|
|
سمحت بها
الأيام بعد تعذر
|
دخلنا المدينة
من قرية لا طرونش في الشمال الشرقي منها فوجدنا بعض الناس آيبين أيضا مع الشاطئ
الجنوبي من منازه الجزيرة الخضراء وألعاب تنيس التي للأروباويين بها ولع شديد ،
وهي نوع من ألعاب الكرة فيه رياضة وتسلية.
إيكس ليبا :
سافرت من كرونوبل قاصدا جنيف ونزلت في إيكس لبا بالكار الغربي ، وكانت للغرب منها
بحيرة بورجي على بعد نحو ميلين. ويظهر أن إيكس ليبا مثل أماكن النزهة والمداوات لا
تفتح ولا يلتئم عمرانها إلّا من أكتوبر إلى نوفامبر.
وتكاد أن تكون
جميع منازل المدينة أتيلات مثل فيشي ، إلّا أن منازل هاته أضخم وبساتينها أكبر
وأسعارها أوفر. وفيشي أحسن ماء وأعدل مكانا وأرخص أسعارا وأبهج
منظرا. وبها من أبناء الشرق وأهل اللسان العربي ما يؤنس الشرقي بخلاف إيكس
ليبا كما سيأتي. وسعر الانتفاع بالمياه في الأحواض وأخذ الإزارات بلغني عنه ما
يهون علينا أسعار قربص الجديدة بتونس ، بل ويحث الأروباويين على تقضية فصل الشتاء
في قربص الذي به المناظر الجميلة التونسية البرية والبحرية والهواء الطيب والأسعار
الرخيصة والاستحمام بمياهه الغريبة النفع والعديمة النظير والفعالة بالشفاء العاجل
بإرادة الله تعالى.
سكان إيكس ليبا
نحو آلاف ٨ وفي المصيف أكثر من ذلك ، وفيه يبلغ عدد الزائرين نحو أربعين ألفا وهذا
ما يضاهي فيشي أو يفوقها. وجمعية مصالح المدينة «صانديكا دونيسياتيف» من أسباب
توفير عدد الزائرين بما ينشرونه من الكتايب والتعريف بمنافع ومنتزهات بلدهم.
وربما ساق
الزائرين إليها موقعها العامر بما حواليه من القرى والجبال والبحيرات ، لذلك ربما
كان طقسها أبرد من فيشي. وهي في ضواحي كرونوبل كما علمت ومتوسطة بين البلدتين
الجميلتين كرونوبل وجنيف. وليست لهما ثالثة في جمال الموقع وكثرة المنازه والمناظر
الطبيعية المحيطة بهما في جميع الجهات والبلدان التي شاهدتها. يسكنها نصف غني
لكثرة المصاريف ، ونصف مريض لأن نفع مياهها يكاد في تأثيراته أن يقارب مياه فيشي ،
ويمكن أن يكون في منزلة حمام الأنف بالنسبة إلى قربص وبالأخص من جهة آلام الأعصاب.
ويسكنها نصف متنزه لتوسطها بين جنيف وكرونوبل وبقرب الجبال والمروج والبحيرات وهذا
مما تفوق به فيشي. من الكار الغربي المذكور يصعد في طريق يسمى به إلى بطحاء بها
الأشجار والكراسي تسمى (بارك) وعلى اليمين أي إلى الجنوب من ذلك البستان طريق
شامبري وكرونوبل وبه مخزن تباع به البضايع التونسية ، وإلى الشمال طريق جنيف وهما
متقابلان ، وكلاهما كلما أوغل وقارب طرف المدينة مال إلى الغرب حتى يماسس خطا
مستقيما كوتر على قوس هو بلفار الكار حدا غربيا للبلاد مارا بين محطة سكة الحديد
والمدينة.
وفي زاوية
ملتقى نهجي الكار وفي قبالته شرقا مطعم نظيف ومناسب قلت به فرأيت فيه المرافق
اللائقة للمتحري في أمر معيشته مع الرفق.
مياه إيكس ليبا
منها الحار ومنها البارد ، وآثار البناءات الرومانية تشهد بانتفاع
الرومان تلك الأمة الراقية الجاري ذكرها إلى الآن مع المياه التي سار على
منوالهم في إحياء النفع بها أمم أروبا. ونحن في قربص لو لا النظام الجديد من شركة
فرنساوية لبقيت معاناة السفر تذيق أرباب الحاجات إليه ما هو أمر من آلام الأمراض
نفسها.
وبجهات قصطيلية
بجنوب المملكة وفي جنباتها أيضا مياه كثيرة حارة وربما سميت بعض البلدان لأجل ذلك
بالحامة تصحيف الحمة وهي العين الحارة. وفي قفصة يسمى ماؤها الحار «ترميل» ولعلها
كلمة يونانية من زمن الروم «الإكريق» الدولة التي وجدها الإسلام بإفريقيا وأصلها «تيرمال»
Thermal أي الحار ، ومنه التيرموميتر
ميزان الحرارة ، شاهدت تلك المياه المتفجرة في عدة أماكن من مدينة قفصة وأحوازها
عذبة.
تسمح في تلك
الأراضي الطيبة ، التي بها الآن جانب من النخيل والزيتون وأشجار بعض الغلال أطلعني
عليها صديقنا الفاضل سيدي بلقاسم بن العربي الشريف شيخ الطريقة القادرية ، أن تكون
ثروة قفصة وعمرانها في درجة معتبرة. ولتوسط موقعها بين أراضي الفلاحة والنخيل
والزيتون «إفريقيا والجريد والساحل» يمكن أن تضاهي مدينة صفاقس الشهيرة الآن
بالثروة والعمل وهما أمران متلازمان. ومن لم يعرف مدينة صفاقس وأهاليها لم يطلع في
المملكة التونسية على الأعمال الكثيرة والثروة الغزيرة والنفوس الكبيرة. بحمامات
إيكس ليبا عينان إحداهما تعرف بعين الشب اسم لا مسمى ، والثانية بعين الكبريت
ودرجة حرارة الماء فوق الأربعين صانتيكراد يعالج بهاته المياه على ما بلغني : مرض
المفاصل ـ الصداع العصبي ـ تليين الأعصاب اليابسة ـ الحب الإفرنجي ـ البول السكري
ـ تقليل الشحم ـ أمراض الجلد ـ الأمراض الداخلية للنسوة ـ الأمعاء ـ ضد الإسهال.
والاستحمام بها للفقراء مجانا وهذا من محاسنها ، والأهالي يدخلون أيضا مجانا.
والظاهر أن الأهالي بقربص كذلك. والساكن الأصلي أولى بالرحمة والاعتبار.
بلغني أنها
تقام بها أفراح عامة كسباق الخيل وصيد الحمام ونعمت الرياضة ركوب الخيل وسباقها
ونعمت النزهة حضورها ، وليت شركة قربص تعين أياما في السنة وبالأخص في أيام الربيع
تقيم بها أفراحا عامة تسلي المتنزهين وتجلب ما يرجع بالنفع على الشركة بهذا
الإشهار.
بلغني أن في
إيكس ليبا من الديار المعدة لسكنى الزائرين لمدة شهر ما يبلغ كراؤه
العشرة آلاف فرنك مع جنيناتها ، رأيت بها كثيرا من الأجانب ويظهر أنهم من
أصحاب اللسان الألماني والأنكليزي الذي لا يجيب من يكلمه ولا يركن لمن يجالسه وممن
لا يرى في الوجود سواه ، سبحانك اللهم إن العظمة لا تكون إلا إليك.
فكأنما نحن في
هاته القرية لسنا في مدن فرانسا الباسمة في وجه زائريها والمرحبة بالقادمين إليها
والمرشد أهلها لسائلهم ، وربما بدأوه بالسؤال تعطفا لإرشاده وإمداده بما عسى أن
يسأل عنه أو يحتاجه ، ولذلك لم تحصل لي رغبة في الإقامة بها وتحبب إلي الخروج منها
وأنشدت قول المتنبي :
ولكن الفتى
العربي فيها
|
|
غريب الوجه
واليد واللسان
|
ملاعب جنة لو
سار فيها
|
|
سليمان لسار
بترجمان
|
وربما كنت غير
ذي حاجة إليها والانتفاع بمياهها. والعذر لأرباب الحاجات.
ويقولون عن
إيكس ليبا أنها ملكة المنازل ومنازل الملوك لكثرة زوارها منهم. فعلمت أن ذلك سبب
غلاء الأسعار في المنازل والبضائع التي شاهدتها والتحف التي بها ، وبالأخص أواني
البلور الملون المختلفة الأشكال وهي غاية في النفاسة. حاولت أن أقتني منها بعض قطع
فوجدتها غالية وتذكرت أن المال للمسافر أنفس منها ، فتركت بضاعة ملكة المنازل لمن
ينزلها ويممت جنيف على طريق آنسي.
وأشكر شركة
تقدم البلاد في إيكس ليبا عما أمدتنا به من الإعانة. مملك السويس. شاهقة الجبال
وبها تدوم النباتات لما بها من الثلوج. وكثيرة الحيوان ، وأهاليها أرباب جد وصنائع
واقتصاد واتحاد ، والسويس كعبة الأغنياء لحسن المناظر ، وتلامذة العلم للكليات
العالية فيها ، وأرباب السياسة المضطهدين لحرية القول هناك.
ومن ذلك يحصل
للمملكة دخل عظيم يقدر بعشرات الملايين في العام ، واعتنى الأهالي بإحضار ما يلائم
ذوق جميع الوافدين لاستدرار أموالهم وهم في بلدانهم ، جمعوا بين الوطن والوطر ،
فما أسعد الأمم التي تكون مثلهم. أما في المعارف والتربية وترتيب أثاث المنازل
فيكفي أن الدولة تصرف أكثر من ثلث ميزانيتها على المكاتب ،
ونساؤهم يجلبن لمنازل الأعيان في سائر الممالك حاضنات ومعينات على القيام
بالمنزل. ولا أقول خادمات لأنهم منعوا هاته الكلمة أخيرا وسيأتي ذكر ذلك في باريز.
والسويس الآن جمهورية مؤسسة من عام ١٨١٣ ومتمتعة بلذات الحرية التامة.
قال بعض
المؤرخين كانت تسمى في القديم هلفيسيا وتولى عليها يوليوس قيصر ، ودامت تحت سيطرة
الرومانيين نحو خمسة أجيال حتى نزعها منهم البورغون ، ثم أخذها الفرانساويون في
الجيل السادس للمسيح ، والألمانيون في الجيل التاسع ، واستبدوا بها حتى الجيل
الرابع عشر إذ أخذ إمبراطور ألمانيا يقسو على أهلها ويعاملهم بالخشونة وإذ ذاك قام
رجل شجاع من الفلاحين اسمه غيليوم تل وتصدى لأمر الوالي بالاعتراض فحنق عليه
الوالي وعاقبه معاقبة ترتعد منها الفرائص. وهي أنه أمره أن يضع على رأس ابنه
الوحيد تفاحة غرضا لرمي النبال ويطلق عليها النبل بيده وإلّا قتله وابنه فأخذ
غيليوم تل سهمين رغما عن إرادته ورمى بأحدهما التفاحة فأصابها لحذاقته في الرماية
ولم ينل وحيده ضرر ، ثم التفت إلى الوالي قائلا له لو أصاب ابني السهم الأول لصوبت
عليك الثاني ، واستبدوا بالاستقلالية سنة ١٣٠٨ م.
المدينة الهادئة
هي جنيف.
وعلامتها حسب العادة في إعطاء أسماء وعلامات للعائلات والبلدان (بعد الظلمات النور)
وصورة مفتاح ورأس وجناح طاير. ومعنى الجملة في القديم يتعلق بنبوءة عيسى عليه
السلام إلّا أن مضربه الآن رمز على حسن جنيف.
وهي معتدلة
الهواء في الشتاء والصيف لائقة بالصحة ، وارتفاعها على سطح البحر ٣٧٥ ميترو ،
وميزان الهواء في الشتاء سبعة تحت الصفر وفي الربيع ٩ فوقه ، وفي الصيف ١٨ وفي
الخريف ١٠ ، وأهويتها طيبة ناعمة ، تمر على جبال الثلج وأزهار الرياض وأشجار
الغابات. والبحيرة النقية التي جاءت المدينة على طرفها الغربي وعند مصدر نهر الرون
منها إلى فرانسا ، أما مصبه فهو في الطرف الغربي من البحيرة آتيا من إيطاليا.
وكامل المدينة وشمال البحيرة للسويس وجنوبها لدولة فرانسا ، فلجمالها اجتمعت الدول
حواليها ليأخذ كل حظه من التنعم بمحاسنها. وهيأة
البحيرة على
شكل هلال طرفاه للجنوب وهما مصب النهر ومصدره ومحد بها للشمال ولذلك قلت في شكلها
: كأنه ظهر عجوز أو ثمرة تموز. ارتفاعها ٣٧٥ ميترو وطول شاطيها الشمالي ٩٥ ميلا
والجنوبي ٧٠ وعرضها في الأكثر أميال ١٢ وعمقها نحو ٣٠٠ ميترو ، ولا زال عمقها في
نقص مما تجلبه المياه من الأتربة والحصباء فيرسب فيها. ويخرج الماء إلى فرانسا مع
الرون صافيا وهي مزية كبرى لها في هذا التقطير ومن جهة انصباب الوادي فيها يخشى
عليها من الانسدام. وهذا مما يؤسف له فيتعفن ماؤها ولا يبقى له رونق ولا عذوبة.
أخذت مدينة
جنيف التي بها نحو ١٥٠ ألفا من السكان حظا وافرا من جمال الموقع من بين سائر
العواصم ، فطرف البحيرة والنهر يقسمانها نصفين شماليا وجنوبيا مدت عليهما قناطر
سبعة. وأحدقت بها الجبال متدرجة في الارتفاع ، فالقريبة منها ترى دهماء بالأشجار
والتي من ورائها تظهر شاهقة بيضاء بالثلوج ، يتجلى لك ذلك المنظر البديع من
القنطرة الشرقية والشارع العظيم الذي جاء شمالها وكلاهما ينسب إلى (مون بلان)
الجبل الأبيض. فكأنما تلك الجبال التي ابيضت مفارقها قامت من وراء سلاسل الجبال
الصغرى الفاحمة الرؤوس. لتطل على جمال المدينة والبحيرة مثل الشيوخ وراء التلامذة
في حلقات الدروس. ولما رأيت الغمام لا ينقطع من الجو هناك ولكنه متقطع تفيض عليه
الشمس بكهرباء أشعتها فتصبغ طبقاته ألوانا شهية قرأت على الغمام قول الشاعر :
كأذيال خود
أقبلت في غلائل
|
|
مصبغة والبعض
أقصر من بعض
|
وقرأت على
الجبال وحال مدينة جنيف وبحيرتها وغيم بخارها :
شابت مفارقها
فشبن لشيبها
|
|
طربا وعهدي
بالمشيب تمسك
|
فاليوم يوم
نزاهة ولذاذة
|
|
سيطل فيه دم «الهموم»
ويسفك
|
والغيم من
أرج الهواء كأنه
|
|
ثوب يعصفر
مرة ويمسك
|
وتلك الجبال
التي طعنت في السن وشابت رؤوسها هي مطمح أنظار المسافرين.
يقصدها أبناء
الأجيال الحاضرة ليروا من سمات قدمها وملامح هرمها ويسمعوا من حديثها عمن شاهدته
ممن قبلهم. ومن عرف الأيام قص غريبها. وذلك أكبر موعظة وأبلغ اعتبارا ، فهي كما
تحدث عمن وفد عليها تحدث عنه بعد حين إلى أن تصير المدن خرابا ، والرياض يبابا ،
والجبال سرابا ، والخالق وحده هو الذي أحصى الكائنات كتابا. نزلت في أتيل السويس
في الطرف الشمالي من نهج مون بلان وبالقرب من محطة سكة الحديد الشمالية المسماة
كونفا ، وبهذا النهج العظيم إدارة البوسطة من أكبر مباني البوسطات التي رأيتها في
بلدان هاته الرحلة ، ولها تقسيم محكم وسرعة غريبة في إجابة الحاجات على اختلافها.
وساعتها مقدمة على ساعة باريز بنحو ساعة. وبهذا الشارع المخازن الكبرى مفعمة
بأنواع البضائع والتحف والمصنوعات الخشبية التي ليد الأهالي فيها حذق كالمصوغ
والفخار المطلي ، وغربي ملتقاه مع القنطرة مكتب يعطي الإرشادات لزوما ومجانا
للغرباء ، وما بين هاته القنطرة وقنطرة بارك الغربية عنها جزيرة جان جاك روسو
العالم الشهير. وفي النهر وبين القناطر طيور بيضاء سابحة في ذلك الماء الفيروزجي
لا تصاد بل يمد إليها الطعام من أيدي السكان والمعجبين بحسن لونها تراها عائمة على
ماء البحيرة فآونة تبدو وآونة تخفى كنجوم على أديم السماء :
نزه الطرف يا
أخا الظرف ليلا
|
|
في طيور أحسن
بها من طيور
|
فوق وجه
المياه ترعى وتسعى
|
|
كنقوش قد
خيلت في ستور
|
وقد صبغت شركة
البابورات البحرية سفن البحيرة بيضاء. فكان ذلك لمشاكلة هاته الطيور. والعدوة
الشمالية من النهر بها البناءات العظيمة ومخازن الجارة ، وفي الجهة الجنوبية
البطايح والقهوات والبساتين ومناخ السمر والتجول مساء وليلا ومن بينها قهوة الشمال
التي أرشدني إليها بعض الأحباء بتونس ، وكان عرفها من قبل ، وهي بقرب بطحاء
البحيرة وبطحاء الرون بالعدوة الجنوبية من النهر. يأوي إليها
الشرقيون وكادت أن تكون مع قنطرة مون بلان بمنزلة الرصافة من الجسر في
بغداد ، عرفني فيها تلامذة إسرائليون من تونس شمامة ـ شطبون دباش. يتلقون في دروس الطب.
وجنيف شهيرة مكاتبها في هذا العلم ، طائرة السمعة في القارات ، وبها كثير من أبناء
آسيا باللباس الأروباوي تماما. وكنت لا أعرفهم وهم يعرفونني ويهتدون إلي باللباس
التونسي المحترم في كل جهة. والكلام عليه سيأتي في باريز وأذكر هنا من خطبة
الدكتور «كريستيان سنوك هرغرنج» الهولاندي المستعرب والعالم بشئون الإسلام
والمسلمين جيدا ما يأتي : ففي كل المدارس الأروباوية الكبرى تجد كثيرين من الطلبة
المسلمين وهم من فئة المتنورين الذين بواسطتهم تحدث التغييرات الأولى في الإسلام.
وهؤلاء الشبان من أهل العالم قد درسوا العلوم الغربية بفروعها نظير خيرة طلبتنا
الغربيين. وهم لا يقومون بكل الفرايض المطلوبة من المسلم الحقيقي لأنهم مثلنا في
طرائق اللباس والمأكل والمعيشة. وقال : من زمان كان فيه المسلم يعرف أخاه المسلم
بألف طريقة مختلفة كأخلاقه وطريقة معيشته ولباسه وأكله ، ولكن كل هذه المميزات
أخذت تزول بالتدريج بل إن الميزة الوحيدة التي كان بها المسلم يقدر أن يعرف أخاه
في الدين سيزيلها التهذيب والتعليم ببقية معروفة من العقيدة الدينية ـ وممن عرفت
تلميذا صينيا من شانغاي اسمه أسياسي يحب الحركة دائما ولا يستقر في قيام أو جلوس
طويلا ، يمثل الجنس الأصفر النشيط الذي لا يهجع إلّا قليلا. ولا ينفك عن العمل
ومتى تهذب برز وتقدم سريعا. والحديث عن الجابون وأخبار نهضتهم الفائقة ملأ الصحف
والآذان ساريا مع أشعة الشمس من المشرق إلى المغرب. سرني التعرف بالتلامذة
التونسيين أبناء الوطن وتغربهم لمزاولة علم الطب بقدر ما ساءني عدم وجود تلامذة من
أبناء الجنس يأخذون هذا العلم النفيس المفيد لصاحبه والشامل نفعه لكافة أبناء
الدنيا. انظر إلى الشبان الذين أخذوا مبادي عملية في الطب بالمستشفى الصادقي عن
الحكيم برانسفيك كيف نفعوا في المستشفيات التي أسسها الحكومة ببلدان المملكة
التونسية وسدوا فراغا عظيما وقاموا بأعمال مهمة. وجدت إسرائيليا يسمى الكسراوي في
وجهة تجارية ببلدان السويس وكنت عرفته قبل في مرسيليا.
ولم أصادف
مسلما في هذا السبيل. والإسرائليون لهم حضارة عتيقة واستعداد للرقي
والسير مع مصالح الحياة والمسك بذيل الأمم الراقية. وربما كانوا واسطة
نافعة في العلوم فقد ترجموا الكتب على عهد المامون بالدولة العباسية من اليونانية
وسمت بهم قريحتهم في العربية بالأندلس فبرعوا في الكتابة والأدب ، وإلى الآن موشح
ابن سهل ، لمعارضة الشعراء غير سهل. ووصل بواسطتهم علم الطب لأروبا نقلا عن العرب
الذين وسعوا لهم في مجالس العلم واستعملوهم في دواوين الحساب. وهم الآن في دور
الحماية قد تقدموا شوطا فسيحا في اللغات والتجارة والكتابة.
الجانب الجنوبي
من المدينة مزاحم للشرق الشمالي من النهر في الرقي حتى تحسب كل قسم من العدوتين
مدينة مستقلة. وبداخل القسم الجنوبي بستان الباستيون وغربية بطحاء تكتنفها ثلاثة
بناءات عظمى علمية ، فمن جهة الشمال دار التاريخ الطبيعي وبه أنواع الحجارة
العتيقة والحيوان والطير من البر والبحر ، ترى الواحد منها مصبرا تحسبه حيا صابرا
ولكنه بلا روح وأغرب ما يراه التونسي بأروبا في ديار التاريخ الطبيعي ، أي الحيوان
المبلصم وبساتين الحيوانات الغريبة ، حيوان الزرافة الغريب الشكل العظيم الهيكل
المختلف الشبه بالحيوانات كما قال ابن خلدون.
والذي قال في
وصفه ابن رشيق القيرواني وقد أهدي في عهده إلى المعز بن باديس :
جمعت محاسن
ما حكوا فتناسبت
|
|
في خلقها
وتنافت الأعضاء
|
حطت مؤخرها
وأشرف صدرها
|
|
حتى كان
وقوفها إقعاء
|
نعم التجافيف
الذي ادرعت به
|
|
من جلدها لو
كان فيه وقاء
|
وفي الصدر غربا
محلات التعليم ، وفي الجنوب قسم المكتبة العمومية وبها مجلدات نحو ٢٠٠٠٠٠ منها
خطية نحو ٣٠٠٠. أفادني بذلك المكلف بها وأطلعني على عدة كتب عربية بالخط الكوفي
والمشرقي والمغربي. ورأيت صورة في كتاب فارسي بها هيئة مدلس مرتفع به أربعة أشخاص
ينظرون إلى أربعة يرشقون بالسهام رجلا مصلوبا تظهر منها ثلاثة في صدره ويداه
مغلولتان إلى خلف ورجلاه مربوطتان
إلى سندعال. ولعلها تمثل الحكم بالإعدام في بعض أدوار التاريخ الذي تفننت
فيه أساليب إزهاق الروح شأن الاختلاف في قوانين الأحكام وعوايد الأقطار والأعصار.
والذي ذكر في
غضون التاريخ وغرايب الوقايع والمعروف من العادات الجارية : إقامة الآدمي هدفا
ورميه بالبندق في بعض الأحكام الحربية ١ وهو يشبه الرشق بالسهام في القديم ٢
والقتل بالحجارة وضعا ورميا على الأعضاء الرئيسة شأن أدوار البساطة وقابيل مع
هابيل ٣ أو غطا حتى تفيض الروح ٤ أو خنقا ٥ أو صبرا بالجوع والعطش ٦ أو إلقاء في
الماء ٧ أو في النار شأن النمروذ مع سيدنا إبراهيم عليه السلام ٨ أو من شاهق ٩ أو
سد لأبواب المساكن على الأحياء ١٠ أو بإرسال السباع. ولعب الرومانيون بهذا دورا
مهما على مرسح التعذيب ١١ أو هبرا بالسيوف ١٢ أو قعصا بالرماح ١٣ أو شدخا بالعصي
والدبابيس ١٤ أو حزا للرأس بمحدد ١٥ أو تثبيتا للحي بالمسامير على الألواح
والجدران ، وكان هذا من بني إسرائيل في صلب شبه عيسى عليه السلام ١٦ أو بترا
لأعضاء الجسد واحدا واحدا ١٧ أو ربطا بأذناب الحيوانات ١٨ أو للأعناق تدليا في
الهوى وهي طريقة الحد على القاتل في تونس ١٩ أو جبرا على شرب السموم ٢٠ أو
باستنزاف الدم من الشرايين وبعض العروق إلخ إلخ. والبشر لا يقف عند حد في التنوع
والاختراع حتى في قتل بني جنسه وإزهاق روحه. وكما تكون سعادة البشر من البشر كذلك
شقاء البشر من البشر. وسيأتي الإلماع لهذا في زيارة قصر نابليون ومستشفى باستور
بباريز. وقبليا عن بستان الباستيون متحف التصوير الدهني الفايق.
وغربي البطحاء
التي بها المكاتب بطحاء (بلان بالي) متسعة جدا ومخضرة الأديم بالنباتات صالحة لتجل
الصبيان ورياضتهم وبالجملة فالنظافة والهدوء في جنيف لا نظير لها فيهما ولذلك يحق
لها أن تسمى المدينة «الهادئة».
والاعتناء
بالتعليم والمعارف في الدرجة الأولى من عواصم أروبا. والمناظر الطبيعية من الجبال
والأنهر والبحيرات والأشجار والأزهار حدث ولا حرج. لذلك كانت بلاد النزهة الكاملة
والعلم المنتشر يقصدها التلميذ المعتني والغريب المتنزه.
فيفي ومنترو
عزمت على
الركوب في البحيرة من رصيف العدوة الشمالية شرقي قنطرة مون بلان ، فلما وقفت هناك
نظرت متأملا من هاته المدينة التي أخذت حظا من الحسن في شاطي البحيرة اللازوردية
ومراكبها البيضاء التي تحاكي الكواكب وزوارقها ذات الجناحين الطائرة في الأفق الذي
تشابه فيه لون السماء. والماء آتية من البلدان التي على شواطئ البحيرة متهافتة على
مرسى المدينة كأنها تسعى إلى مدينة جنيف تتطلب النور الذي تقصده طيور الفراش عشاقة
النور وقد أشبهتها في الشكل والفعل. فيفي : ركبت سفينة بقصد النزول في فيفي
بالشمال الشرقي من البحيرة إجابة لدعوة السيدة صاحبة المروءة والأيادي البيضاء
التي عرف لها التونسيون الإحسان لبني الإنسان ، وهي مدام دوكيو ، وكان اسم السفينة
من غريب الاتفاق فيفي أيضا ، وبها درجتان فقط أولى وثانية ومطبخ والموسيقى تترنم
من حين إلى آخر مدة الثلاث ساعات التي قضيناها في البحيرة بين البلدين ، حيث أقلعت
٤ ، ١١ وأرست ٢ ،. ٣ والركوب على سطح البحيرة الهادئة على خلاف ما عرفناه من البحر
، فقد وجدناه هاته المرة لذيذا في البواخر البيض التي تشبه حمام الرسايل أو لكواكب
السيارة ، ونحن كسكان الكواكب على مذهب فلامريون سابحين على أديم أزرق وفي عالم
فيروزجي. لذلك يكون التشبيه حقيقيا بلا قلب في البيت الذي مثلوا به لعكس التشبيه.
إذا قيل في هاته البحيرة :
وزورق أقر
عيني ماؤه
|
|
كأن لون أرضه
سماؤه
|
تلقتني السيدة
بسيارتها على رصيف فيفي وبعد دخول القرية التي بها من السكان نحو ١٥ ألفا صعدنا
الجبل بالشمال الشرقي إلى منزل إقامتها ببستان «بايل زيو» ، وبه قصره الشامخ
وبجانبه منزل السيدة مستديرا على شكل صومعة من بناء عربي تحيط به شرافات يسمى «لاتور»
، أي الصومعة. وبه طبقات أربع ونوافذ من جميع الجهات ، ولما استقريت نظامه ، وبرور
القرى من كرامه ، جاء نصب عيني قول
يحيى بن خالد : الدنيا سعة المنزل ، وكثرة الخدم ، وطيب الطعام ، ووطاءة
الفراش ، وطيب الرائحة ، وموافقة الأهل ، والقدرة على الإحسان بالإخوان. وشكل هذا
التور يشبه منار القصر بسوسة الذي بناه زيادة الله ابن الأغلب أول القرن الثالث ،
وهو أحد أشكال الصوامع العربية والقديم العهد. وكان معروف الاستعمال في الشواطئ
لحراستها حسبما يأتي عند ذكر تور بلانش في إيسودان. ثم الشكل المربع كصومعة جامع
القيروان ثم كثير الأضلاع ، وهذا ظهر في المملكة التونسية من الأندلس والشرق. ونقل
فارس أن أول منارة عرفت في الزمان القديم المنارة التي بنيت قبالة الإسكندرية في
عهد «بطليموس فيلادلفوس» ملك مصر سنة ٢٨٢ قبل الميلاد واسمها أطلق على كل منارة
بنيت بعدها إلى يومنا. وهي ثلاث طبقات ، الطبقة الأولى مربعة والطبقة الثانية
مثمنة والطبقة الثالثة مدورة. قلت فهذه جمعت بين سائر الأشكال ، فكانت لمن بعدها
أحسن مثال. تظهر من التور المزارع والقصور والرياض متصلة برؤوس الجبال ، وتشاهد
قطع الأرض صغرى متجاورات بما يدل على عزة الأرض وتزاحم العمران بالسكان الذين
يجعلون لانحدار الأرض في سفح الجبال روافع حجرية وبالألواح ليتساوى سطح الأرض
ويغرس ويبذر ، فترى قطع الغراسة متدرجة في الجبال إلى أعلاها. وأرضهم حجرية وليست
بجيدة في الغالب غير أن موالاة العمل وكثرة الأمطار أجبرت الأرض على الخصب.
والجبال التي على ضفتي البحيرة جنوبا وشرقا شاهقة وبها بقايا من ثلج الشتاء.
والسحب متلبدة على أعاليها كأنها تقي تلك الثلوج من الشمس ليبقى من جمال منظرها
وبرودة مائها في الصيف بقية يتمتع بها قصاد بحيرة السويس الكثيرون. تذكرت من كثرة
السحب بلا مطر والغيوم الراكدة في الجو حول البحيرة ما قرره ابن خلدون حيث قال :
البحر الأخضر لتلونه غالبا بالخضرة ويسمى بحر الظلمات تقل فيه الأضواء من الأشعة
المنعكسة على سطح الأرض لبعده عن الأرض فيكون مظلما ، ولفقدان الأضواء تقل الحرارة
المحللة للأبخرة فلا تزال السحب والغيوم متكاثفة على سطحه منعقدة هنالك متراكمة.
فصريح عبارته إن ضوء الشمس يقل في البحار لبعدها عن الأرض وإنه في البر أكثر لأجل
الانعكاس وهذا غير مفهوم ، لأن الشمس تفيض الأشعة على الكرة برها وبحرها سواء. كما
تفيد عبارته أن الأبخرة التي على البحار تبقى متراكمة لقلة
الضوء والحرارة مع أن بخار البحار من حرارة الشمس المنطبعة في مائها كماء
القدر على النار يتصاعد بخاره من حرارتها.
منترو : ذهبت
إلى منترو وهي على الشاطي مثل فيفي وشرقي عنها بنحو أميال ٦ ، وبها محطات للقطار
ومراسي بحرية تقابل محطات سكة الحديد وهي مزاحمة إلى فيفي في الحسن. ويظهر أن
منترو أكبر سمعة وأوفر قاصدا وأعظم تجارة وألصق للجبال الشامخة حولها من الشرق
والشمال ، ولها طرق كثيرة متعرجة في الجبال مطروقة بأقدام الأغراب ، ومنها رأس
خارج في البحر وبعدها عن جنيف نحو الثمانين ميلا وسكانها نحو العشرين ألفا بما
حواليها فيما بلغني.
قصر شيو
الجنوبي من منترو قصر مشهور بمن سجن فيه أو زاره من ذلك حيث صار أخيرا دارا للآثار
، وآخر من سجن فيه شماس من لوزان مضاد للدستور عام ١٨٤٨.
وفي القديم
كانت تلك الجهة منفى والآن صارت منتزها ، وكأن ذلك القصر أبى إلا أن يكون حاويا
حافظا في جميع أحواله للنفائس إما تغريبا للحيوان أو ترغيبا له.
وإرادة البشر
تحسن وتقبح وتونس وتوحش. فما أقدر البشر على التلاعب بالأمكنة يسعدها ويشقيها ،
يرغب فيها وينفر منها ، ولو لا الزمان الذي يلعب أيضا بالسكان لما كانت لتوجهات
الناس غاية ولتقلباتهم نهاية. كان اسم شيو معروفا هناك من القرن التاسع أما بناؤه
الحالي فمن القرن الثالث عشر سجن به بونيفار سنة ١٥٣٠ ستة أعوام في مقاصد مصلحة
بلاده وأطلق. وقد رأيت صورته مقيدا من يديه بسلسلة عظمى مربوطا إلى بعض أعمدة
القصر مكشوف الرأس وشعره أشعث وهو واقف بنعله العتيقة ، وقد ترك أثر المشي بقدميه
على بلاط الساحة المحيطة بتلك السارية مثل الدائرة التي تبقى حفرا في الأرض من سير
دابة الطحن ، والشمس من كوة القصر رسمت ظله على العمود المربوط به بونيفار وقد
اتكأ عليه للاستراحة ورؤية ضوء الشمس التي اشتاقها وحرموه من مشاهدتها فلا يراها
إلّا لحظات خفيفة. يتخيل الناظر من تلك الصورة والخيال المطبوع في السارية ظلا من
بونيفار كأن الشمس آنسته بوجهها الجميل وولدت له منه خيالا يونسه أيضا عند ما يراه
شخصا ثانيا معه والشمس ثالثتهما ولا مشارك لنجوى هؤلاء الثلاثة إلّا الله رابعهم.
فما أعظم منة الخالق بهذا الكوكب العظيم على كافة المخلوقات «راجع قصيدة الشمس
ومنافعها
فيما بين مرسيليا وكرونوبل». فالشمس أبدلت ظلمة السجين ضياء ووحدته مزدوجة
مونسة وأنعشته بتنقية الهواء الذي يتنفس فيه ولذلك ترى جسمه خصبا.
والفيلسوف لا
تكدره الحوادث ، تراه واقفا ثابتا مفكرا في أدوار الدهر العجيبة الزائلة يقرأ على
صحيفة الشمس كل يوم رسوم الحوادث وغرائب الأخبار مصورة في مرآة كوكب النهار. وهذا
منظر كل من يراه يرثي لحال هذا الرجل وما هو عليه من الإهانة من بني جنسه لمقاصد
دنيوية فانية محتقرة ، وذات ابن آدم وروحه أكبر وأرفع من ذلك. وكأنه ينشد وهو
متأثر من أعمال البشر ونكبات الدهر قول ابن سينا :
دخولي عن
يقين كما تراه
|
|
وكل الشك في
أمر الخروج
|
ولاحتقاره
لهاته الأعمال شبك ذراعيه على صدره شاخصا ببصره إلى قرص الشمس ، منتظرا تجليات
رحمة المتعالي ، مناديا ربه في تلك الظلمات إلى أن استجاب له بعد ست سنوات ـ بلغني
أن كثيرا من الشعراء منهم فيكتور هوكو واللورد بيرون الشاعر الأنكليزي كتبوا على
هذا السجن ولم أطلع على آرائهم فيه فكتبت ما كتبت ـ وقفت برهة حول هذا القصر
واشتريت بعض مفكرات من بايعتها بجواره.
وفي الرجوع من
فيفي إلى جنيف ركبت من إحدى المراسي البحرية التي على شاطئها المسماة فيفي مارشي
لقربه منها بعد المرور على بطحاء الكارواتيل دوبون الذي عرفني رفيقي عن نظافة
رياشه وتناول كافة المرافق منه بسهولة زائدة على المعتاد في غيره. وهو بقرب
القنطرة المقامة على نهر فيفايز الآتي من الجبال شمال القرية ، وبقرب هاته البطحاء
شمالا محطة سكة الحديد الرابطة بين جنيف ولوزان والقرى المبثوثة على الشاطئ ـ وكان
اسم السفينة التي رجعنا فيها بونيفار وفاقا لاسم السجين شيو الذي رثيناه فأرسل
باسمه لوداعنا شاكرا. تقف هاته السفينة على كافة المراكز والقرى بالشاطئ الشمالي
السويسري والموسيقى لا توجد في السفن الطائفة على المراسي ، ولعلهم أرادوا تسلية
المسافر بها في السفن التي يكون سفرها على الجادة وبعيد الشقة.
أما السائرة مع
الشاطئ فحركة النازلين والراكبين تشغل المسافر في مدة الأربعة
ساعات التي يقضيها بين فيفي وجنيف. بدت لنا على طول ضفة البحيرة الشمالية
قرى كثيرة وعمران ممتد على أراضي أحسنت خدمتها يد الأهالي حتى صيرتها مجدولة كبيوت
الشطرنج بالطرقات المفعمة بأنواع ما أنعم الله به على البشر من حيوان الحمل
والركوب وسكك البخار وسيارات الكهرباء ودراجات الرجل وحوافل النقل التي سخروا لها
في السويس حتى البقر.
استقبلنا ثغر
جنيف باسما عقب المغيب القصير عنه وعانقت المدينة بذراعي رصيفيها الشمالي والجنوبي
كوكب السفينة حتى أجلستها عند مصدر النهر من البحيرة وهو منها بين الحشا والترائب.
بين جنيف وكرونوبل (شامبري)
بارحت جنيف
راجعا إلى كرونوبل كي أرى هاته المدينة الجميلة مرة ثانية وركبت القطار من المحطة
الشمالية «كونافا» صباحا بعد أن كاد المعطي لتذاكر السفر يعطلنا بدعوى أن كراس
تذاكرنا به محطة الجنوب المتصلة بخط آنسي ولكن عون الأوتيل الذي معنا حاجه بكون
المدار على الخط الذي بين جنيف وكرونوبل ، والذي اخترناه الآن مارا على بلكارد هو
وخط آنسي ، ولا روش سواء تقريبا. والكلام المعقول في أروبا معمول به ومقبول بين
ساير الطبقات. فشكرنا ذلك العون على فوزه ووفرنا له في الإحسان. وما قدست أمة لا
ينتقم من قويها لضعيفها.
وسايرنا عند
الخروج من جنيف نهر الرون صادرا من البحيرة متسربا على يسارنا مسافة عشرات الأميال
ثم جزناه مودعين له إلى الملتقى في ليون.
نزلنا ثلاثة
أرباع ساعة في بولكارد بالحد بين سويسرة وفرانسا وجرى التفتيش ولكن بدون تشديد على
صناديق وحقائب المسافرين ، وأكثر ما يسألون عن التبغ وهو رخيص السعر في سويسرة. ثم
جد بنا القطار إلى شامبري التي ادخرنا زيارتها إلى الرجوع من جنيف.
شامبري ـ بلغني
أن سكانها واحد وعشرون ألفا ، وهي مركز تلك الجهة المسماة لا سافوا ، ارتفاعها ٢٧٠
على البحر في شعب ذي مروج يشقها نهر جزت قناطره وقلت
في بلفار دولاكولون ، وكان مكتظا بالعساكر والأهالي في عيد يوم الأحد وفي
المساء ، أبت إلى كرونوبل.
تعرفت بين
شامبري وكرونوبل برجل وزوجه من المكسيك متجول في مصالح تجارية ، حدثنا عن أحوال
مملكته وكثرة اللغات بها زيادة عن اللغة الرسمية الإسبنيولية بحيث تبلغ نحو
الثلاثين مثل لاستيك وما كسيكان وبلوكه وطارسك وميستاك. إلى غير ذلك من لغات تثقل
على السمع واللسان أسماؤها. فما بالك بمفرداتها. وخضنا في حديث اتفاق البشر على
لغة واحدة يتفاهم بها مع بقاء لغة كل قوم. وكنت أستحسن هذا الرأي وإن قل ناصره في
لغة الاسبيرنتو مع علمي. بأن اللغة المراد الاتفاق على تعميمها إذا كانت لغة أمة
فلا توافق بقية الأمم على امتياز تلك الأمة بهاته الخصوصية. والأمم تحب لغتها بقدر
ما تحب جنسها ووطنها ضرورة ، إنها رفيقة الإنسان من يوم عرف الدنيا ، وعلم خبايا
النفوس وخواطر العقول بواسطتها ، وتغذى بها مع لبان الأم وحنان الوالد ومدنية
القرابة وعلائق الشعب. وإن كانت لغة مخترعة أو ميتة فهي صعبة النجاح حيث لا وطنية
ولا جنس ينطق بها جبرا في عالم الاجتماع. مثل ما يتعذر إحداث دولة مثلا من أفراد
في أطراف الأرض وزوايا الممالك إذ لا وطن ترتكز فيه الدعايم ، ولا عصبية تنفخ
روحها في العزايم. ولذلك فلغة الاسبيرنتو وإن كانت النفوس المفكرة الجانحة إلى
تعارف أبناء آدم كما ينبغي تود تعميمها ولكن دون ذلك إفاضة نور الشمس فيما أرى على
عموم الكرة الأرضية في آن واحد أو إزالة البحار عن جميع سطح الأرض. دار هذا الموضوع
في ميدان الحديث بباريز مع المسيو صال ، تفقد المستعمرات سابقا وأحد زعماء نشر
اللغة الفرنساوية فكان لا يرى نجاح اللغة المزمع عليها لكونها على خلاف الطبيعة ،
إذ اللغة يسبق بها الاستعمال العام بين سائر الطبقات ثم تحرر لها العلماء القواعد
فيما بعد فتقابل بالقبول. وأما تحكم العلماء بوضع لغة كاملة وحمل الناس على
استعمالها فهذا مما يتعذر. واختلاف اللغات من عهد برج بابل حتى لا يتفاهم أبناء
نوح بلغة واحدة إنما كان لحكمة يعلمها الله ولا راد لقضائه.
أمطرت السماء
في كرونوبل كأفواه القرب ساعة زمانية ، وتلك أول مرة رأيت فيها المطر في فرانسا
وآخر مرة رأيت فيها ذلك التدفق وتلك الغزارة عدا رذاذ بلل شوارع
باريز مدة إقامتنا بها في أواخر جوان. وكانت ثكنات العساكر مدة نزول المطر
في كرونوبل تطلق المدافع من أعالي الجبال المحيطة بها ، وأخبروا بأن ذلك مما
يتلاشى به انجماد المطر خوفا منهم على نزول البرد على الغلال فيفسدها. وأحسن ما
رأيت من الغلال في تلك الجهة توت الأرض «فريز» قاني اللون. لذيذ الطعم. طيب
الرائحة.
تذكرت عند نزول
وابل المطر طالع الموشح الذي طالما ترددت بيننا أبياته لابن سناء الملك في محادثات
الأديب العالم المتفنن صديقنا السيد الطيب بن عبيد القيرواني وهو :
كللي يا سحب
تيجان الربا بالحلي
|
|
واجعلي
سوارها منعطف الجدول
|
فقرأتها على
نهر إيزاير وجبال شارطروز ولا موش روت فانطبقت تماما.
أتاني في
كرونوبل الشاب وزان الإسرائلي السوسي المتعلم لقواعد الماكينات وأسرار الكهرباء
بوصاية من تلامذة جنيف فصاحبني ، ولاقيت من بعض أحبابه في لا طرونش عدد ٤١ مزيد
الحفاوة والرغبة في تطويل الإقامة ، وإن كنا نحب جهات كرونوبل إلا أن المحادثة مع
بعض أهالي البلد وثنائهم على باريز وقولهم لي ستجد في باريز فوق كل ما رأيت زادني
شوقا على شوق إلى تلك العاصمة التي هي بيت القصيد وبغية المستزيد. وسمعت مثل هذا
الثناء عنها في جميع جهات المملكة وذلك معنى الوطنية الصحيحة والاتحاد المتين
والاعتراف بما للعاصمة من حقوق التبجيل.
بين كرونوبل وليون
شايعنا من الغد
صباحا عند السفر إلى ليون نهر إيزاير ومعه نهر دراك إلى جهات قرية فرايب ، وكأنه
ضم نهر دراك معه عند الوداع ، وكانا على يسارنا ونحن في القطار متوجهين إلى الشمال
الغربي ليكون ذلك أكثر احتفالا بالضيف وأقوى احتراما عند الوداع كما هي عادة
الأوروباويين يبالغون في إظهار الإكرام عند مشايعة الزاير أكثر من تلقيه ـ بعض
الأماكن يمر بها الإنسان فتأخذ بمجامع قلبه حتى يتمنى الإنسان العيش
في مثلها بوطنه مدة حياته وفي وسط من جنسه ، مثل أهاليها أرباب المعاشرة
والمعارف وأصحاب العمل والهدو. وبلا شك يكونون كذلك سكان الأماكن التي جملتها يد
القدرة وزركشتها أنامل العلم والاجتهاد. يوجد هذا كله حوالي كرونوبل الجميلة
المنظر ، الشامخة الجبال ، المتواضعة بسايط المروج ، المشتبكة الغابات ، المجردة
سيوف الأودية ، الباسمة الرياض. فبأي لسان يعبر عن محاسنها؟ وبأي بنان يعرب عن
منازهها؟ ولا تسأل عن البصر يوم ودعت أهاليها وبارحت مياهها وظلها ، فقد كان الطرف
من منافذ القطار يغتنم المشاهدات الأخيرة منها وهي مارة كمناظر السينما ، ولكن
قدود جبالها لم تشح علينا بالوقوف ساعة من الزمن مثل سكانها ناظرة لنا نظرة مدع
مخلص ، فكأنها علمت منزلة اعتبارنا لها فقابلتنا بالمثل. وأما الفكر فإنما تسلى عن
البعاد لكونه أخذ بين جوانحه مناظر تلك البلاد. وما التسلي عند الوداع إلّا لتعليل
النفس بإمكان الاجتماع. وهكذا جنيف وبحيرتها وفيفي ومنترو. فهاته الجهات نزهة
الحواس وراحة الأفكار ولذة الحياة.
ظاهر الأمر وباطن الحقيقة
شاهدت ما شاهدت
وكتبت ما كتبت على مناظر الأرض ومتاع الدنيا وأنا أعلم أن هذه المحاسن كلها في نظر
العين لا نظر الفؤاد.
والبصر كثيرا
ما ينخدع كمشاهدته الشاطئ من السفينة حال سيرها يحسبه سائرا. ونظر الإنسان من
القطار في مبدأ سيره إلى ما حواليه من الأشياء فيراها مارة به. ويحسب السحاب يسعى
نحو القمر. والحقيقة خلاف ذلك. أما النظر بعين البصيرة لمثل هاته الجمادات من جبال
ومياه وغابات فإنها ترى كلا شيء ولا تساوي جناح بعوضة أو قيمة خرذلة من نعيم
الحياة الآخرة ، وما زخرف الحياة الدنيا ونعيم الأغنياء والأصحاء في ظاهر الأمر
إلا غرور. ولو تتبعت أحوال هؤلاء واطّلعت على باطن أعمالهم لوجدتهم في عناء
وأفئدتهم تردد كلمة «لا راحة في الدنيا» ، على أن المناظر الطبيعية وحطام هاته
الحياة كيف يلذ لبشري يعلم أن من بين إخوانه وأحفاد أبيه آدم من يفترش التراب ،
ويلتحف السحاب لا يملك من الدنيا قطميرا ، ولا يخلون
فؤاده تفكيرا. يبيع الدنيا وما فيها من مناظر برغيف ، وثوب كثيف. ومن بين
أبناء أمه حواء ومن قاسموه في لبنها وحنوها وشفقتها من باتوا يشكون صدمات الطبيعة
ويئنون من آلام الأمراض لا يبتغي من الدنيا ذلك العليل ، في ليله الطويل ، إلّا
ظهور الصباح وانقطاع الآلام واندمال الجراح.
لذلك عقلاء البشر
يبذلون أموالهم ويوقفون أعمالهم على مواساة إخوانهم من الفقراء والمرضى ـ وكنت
ضمنت هذا المعنى في قصيدة استنهضت بها الهمم وجمعت المال للمنكوبين بالغرق في
جزيرة شريك ، ونشرت جريدة الحاضرة جرائد فيما تجمع بأوايل العقد المنصرم مع
القصيدة وهي :
الدهر شيمته
يسر ويفجع
|
|
والنفس تجزع
والتصبر أنجع
|
أهل الجزيرة
عمهم سيل به
|
|
فقدوا الشعور
ولم يسعهم موضع
|
وطما عليهم
مرعدا بجيوشه
|
|
فأداسهم وهم
بليل هجع
|
وأذاقهم هلعا
به لبسوا العنا
|
|
والعين تدمع
والمناكب تقرع
|
وربا على
أعلى المنازل والربا
|
|
تلفت بذاك
نفوسهم والمزرع
|
أسفا على تلك
المنازه بعد ما
|
|
باتت وصادحها
بأمن يسجع
|
أضحت خليجا
فلكه جثث الورى
|
|
والروض بلقع
والحمامة أبقع
|
أهل الجزيرة
نسل أندلس أرى
|
|
من كان يخبر
دهره لا يجزع
|
فكأن هذا
اليوم يومكم الذي
|
|
هجرت جزيرتكم
به والمربع
|
طوبى لمن نال
الشهادة منكم
|
|
وإلى النجاة
على الكرام تبرع
|
أبناء تونس
من إليكم ينزع
|
|
في المعضلات
وبركم لا ينزع
|
شبه الجزيرة
أهله افترشوا الثرى
|
|
أيسوا الحياة
وشملهم متصدع
|
أيلذ عيشكم
وهم لم يسعفوا
|
|
بيد الإغاثة
والممالك تسمع
|
وإغثة
الضعفاء ذخر للفتى
|
|
والجود يوم
الفزع بر أنفع
|
والأروباويون
الآن أكثر اعتناء وأكبر شفقة بالبؤساء ، وقد ضمنت ذكر فيكتور هيكو صاحب كتاب
البؤساء في تاريخ التكية بتونس في فصل أسباب السفر السياسي من المقدمة.
والحكماء لا
يرون الحياة إلّا قفصا يسخر فيه المرء للقيام بلوازم الحياة ويسير لأجلها تحت
أحمال الكوارث والمضاضات. فرحماك اللهم بعبادك في هاته الدار. ومرضاتك عنهم في دار
القرار.
بين ليون وباريز
ليون ـ ما
وجدنا من نعرفه بها ولذلك اقتصرت على الإقامة في محطتها بضع دقائق وهي سوق عظمى
تباع بها المآكل والمشروبات من الجوالين فيها بين الركاب ، وإنما عرفت بها نهر
الرون صاحبنا بالأمس في جنيف وبلكارد وامتداد هذا النهر ٨١٠ كيلوميترو. جزناه في
القطار بوسط المدينة وقد اقترب من ملاقاته نهر الصون الذي جزناه أيضا بعده بقليل
في المدينة حيث ينحدران معا إلى جهات مرسيليا.
وكأن مواعيد
الاجتماع للأنهار في فرانسا هي المدن ، أو أن عمران المدن يعشق
مجتمع الأودية وهو من الذوق الحسن للمؤسس ومن ملائمات الخصب والعمران ،
والأمن من عطش المزارع والسكان. سار بنا القطار إلى الشمال ونهر الصون على يمناه ،
سلمت تلغرافا إلى ناظر محطة ماكون ونقدت له معلومه وعنوان نزلي في باريز ليخابر به
ناظر المحطة في ليون للبحث بعربات القطار الوارد من كرونوبل عن أوراق وبعض أمثلة
تركتها به عند ما نزلت في محطة ليون لانتظار القطار الوارد من مرسيليا. والتلغراف
عمومي في جميع المحطات ، وهو من محاسن نظامها. وجميع العربات تنفذ إلى بعضها ،
فالذهاب إلى بيت الأكل ولو للراحة بها وتناول القهوة أو الماء المثلج سهل على
المسافرين ، وبهذا البيت مراوح تهون الحر على المسافر ، وقد ابتدأت الحرارة في شهر
سفرنا. والمطبخة السائرة معه من المرافق المفيدة للمسافرين وبالأخص في المسافات
الشاسعة والأسفار الطويلة ، ومع الأقسام المخصصة للنوم أيضا في بعض القطارات يكون
المسافر كالمقيم بين الرفقاء متمتعا بأحسن غطاء ووطاء وغذاء ، بل المسافر أحسن من
المقيم تأتي البساتين والأنهار والجبال والأطيار بين يديه ، يمر به الغور والنجد
وهو في وقاية من الحر والبرد. يجيل طرفه على قطعان البقر والغنم في المروج النضرة
ويشاهد المدن والقرى تمر به كأنه مقيم وهي سائرة ، وهذا مما لا يحصل للمقيم. فما
أسعد أبناء هاته العصور الذين أمدهم الله باستخدام نور العقل فكشفوا بأشعة
كهربائيته ما في الكون من الخبايا ، وما في المخلوقات من الأسرار والمزايا. وانتفعوا
بما أنعم الله به على النوع البشري مما في الأرض جميعا. وبذلك أصبح السفر راحة بعد
أن كان عناء. ولذة بعد أن كان مشقة ، ومونسا بعد أن كان موحشا وأمنا بعد أن كان
خوفا.
سهلت السكك
الحديدية التعارف بين الأمم وأعانت على الرقي ، ولها الفضل على التجارة والزراعة
التي كانت تباع على أربابها بأبخس الأثمان بين سكان بعض الجهات ويتمناها بأغلى
الأسعار قوم آخرون. وفي غالب الأحيان يحرمون من الانتفاع بها مثلما تحرم أربابها
من أثمانها.
البخار ـ تقدم
لنا الكلام على اكتشافه وتسيير السفن به في البحر في فصل أطوار الفلك والسير على
الماء. أما الذي سير أول رتل بخاري في أنكلتيرا فهو جان استيفانصون الأنكليزي في
معرض عام ١٨٢٩ وكانت سرعة سيره ستة عشر ميلا.
وصنع رتلا في فرانسا بين باريز وروان وبين مرسيليا وأفينيون. كان هذا الرجل
يفكر كثيرا ويقتصد المال ويوثر المشي على الأقدام فافتدى بماله نفسه من الخدمة
العسكرية كما استعان بالمال والوقت على تقديم عمله المايكانيكي ، ولو لا ذلك لضاع
اختراعه. لذلك فسيره على الأقدام كثيرا في سبل اختراع البخار ، قد استراح به البشر
من بعده كثيرا بركوب القطار. وتقدمت سرعة القطارات إلى أن بلغت الآن في أروبا
حوالي السبعين ميلا في الساعة. ويقال إن في ألمانيا قطارا كهربائيا يقطع مائتي ميل
في ساعة وفي أمريكا يحاولون إيصال السرعة إلى خمسمائة ميل في الساعة. وإذ ذاك لا
يفوتها في حلبة ذوات السرعة من الحيوان وغيره إلّا القليل وإليك جدولا فيها :
أمتار في
الثانية :
٥٠ ، ٥ الفرس.
٠٠ ، ٦ مركب
القلاع.
٠٠ ، ٧ الريح
القوي.
١٠ ، ٩ بابور
حربي كبير.
أمتار في
الثانية :
٠٠ ، ١٢
|
قطار تجاري.
|
أميال :
|
٥٠ ، ٢١
|
بابور حربي صغير.
|
٣٠ دورة الأرض حول الشمس.
|
٠٠ ، ١٣
|
بابور تجاري.
|
٣٠٠ سرعة الضوء.
|
٠٠ ، ١٥
|
بابور توربيد.
|
٤٠٠ الكهرباء.
|
٠٠ ، ١٥
|
البسكلات.
|
|
٠٠ ، ١٩
|
القطار الغير السريع.
|
|
٠٠ ، ٢٢
|
الحمام.
|
|
٠٠ ، ٣٢
|
القطار السريع.
|
|
٠٠ ، ٣٣
|
السيارة في السباق.
|
|
٠٠ ، ٤٥
|
ريح العاصفة.
|
٠٠ ، ٣٤٠
|
الصدى.
|
٠٠ ، ٤٥٠
|
دورة الأرض حول نفسها في خط الاستواء.
|
٠٠ ، ٧٠٠
|
بندق المكاحل.
|
٠٠ ، ٩٠٠
|
كرة المدفع.
|
وأميريكا أكثر الممالك في طرقات الحديد
ألف ميل :
١
|
٣٤٩
|
فالممالك
المتحدة بها خطوط حديدية طولها.
|
٢
|
٧٠
|
الروسيا.
|
٣
|
٥٧
|
ألمانيا.
|
٤
|
٤٩
|
فرانسا.
|
وأكثر الدول
سككا على نسبة اتساع أراضيها
١
|
البلجيك
|
٢
|
السويد
|
٣
|
أنكلتيرا
|
٤
|
ألمانيا
|
٥
|
الممالك الصغرى الجوفية
|
٦
|
فرانسا
|
باحثتنا عائلة
بين ليون وباريس في شئون الإسلام من عقائد وعوايد ، واستغربت سيدة حياة ثانية بعد
هاته فأوصلتها بمقدمة ، وهي تسليم قدرة الخالق الموجد لنا من العدم ، إلى نتيجة
التسليم بأن الإعادة أهون عليه من بدء الخلق. كما أقنعتها ،
وسلمت بعد المفاهمة بالتي هي أحسن. بالجنة والجزاء ما دامت أمور الدنيا
ناقصة في جزاء المحسن والمسيء. والأحكام فيها بمقتضى الظاهر لا تفي بالمسلوب حقه
أو المهضوم جانبه. فلدى الخالق العالم المقتدر يعظم الجزاء للمحسن والمسيء الذي
ربما فاز في الدنيا. واستحسنت لزوم ذلك حتى لا تضيع الحقوق. والقوم أصحاب حرص على
حقوقهم ولا يرضون بالهضيمة دون الثار. وقد توقفت تلك السيدة في إدراك دوام الحياة
الثانية بلا نهاية كما توقفت أنا في عدم إدراكها لذلك مع تسليمها للقدرة التي
آثارها فوق العقل ، مع ما هي عليه من الذكاء والاعتدال في المحاورة ـ أما ابنتها
فكان بحثها عن العوايد وكيف يتزوج المسلم بأربع وغالبا بامرأة لا يعرفها ثم يطلق
بعد ذلك متى شاء ، وكيف تكون منازل المسلمين عمرة في الليل والنهار بالنسوة
المسجونات بقدر ما خلت أدمغتهن من العلوم والآداب ، وهل ذلك من الدين؟ إلى غير ذلك
من المسايل التي يحار فيها عقل الأروباوي متى تصور الشرقي سالكا لها ويعيش بها
القرون الطويلة في هدو وراحة بال ولا يبغي بسواها بديلا. حتى قال كريستيان سنوك
هرغرنج الهولاندي المستعرب : فالإسلام لا يمكن أن يرتقي ارتقاء حقيقيا إلّا إذا
حرر نساءه الراسفات في سلاسل التقاليد القديمة التي لا تنطبق على روح العصر
الحديثة التي هي روح الترقي الحقيقي. فأفهمتها محاسن بعض المسايل على خلاف ظواهر
ما يظنون وجاريتها في طرو بعض العوايد على كثير من المسايل المهمة حتى سارت بها
على غير المحجة المعقولة. وإن الرجوع إلى ما ينطبق على مصالح الدنيا والدين لا
يكون إلّا بنشر العلم والتهذيب لكلا النوعين كل بما يلايمه وينطبق على ناموس
الاجتماع به ، وما خلقه الله لأجله وأعده للقيام به. فتعدد الزوجات وإن أجازه
الشرع لمصالح كثيرة لاكنه لا يوجبه على الرجال وقلما تجد رجلا يفكر في زوجة ثانية
ما دامت الأولى تفي بالحاجات ، والمصالح المرغوبة في الحياة. ومتى فكر لسبب صحي أو
طبيعي أو أدبي أو عمراني فإن رضيت الزوجة الأولى بالإقامة عاشرها بمعروف وتساوت مع
الثانية وإن طلبت نفسها فلا يشح عليها بتسريح بإحسان. وإباحة الطلاق من محاسن
الاجتماع وأصلح للزوجة نفسها متى تحتم عليها وجود السعادة بمفارقة الزوج مثلما
يسعد الزوج غالبا بنعمة إباحة الفراق ، فيغني الله كلا من سعته. أما عدم رؤية
المرأة قبل الزواج فهي مسألة من مهمات مسايل
الاجتماع وشريعتنا السمحة أباحتها وإن حالت أخيرا دونها العادات في الحواضر
لأسباب الشرف وحفظ العرض. فالحزب النبيه المفكر من الأمة أخذ يتدبر للمسألة في
طريقة تنطبق على الكرامة ولا تصادم العادة. مثل الرؤية بدون خلوة بعد العقد الذي
يلزم به نصف الصداق وهو يهون على الزوج إذا لم يصادف المرأة طبق هواه ، ومن جهة أخرى
فالعلم بأداء نصف الصداق يدعو الخاطب إلى التثبت في الصداق وعدم التساهل في الطلاق
بعد الرؤية التي لا تكبر على أولياء المرأة ما دامت زوجا بمجرد العقد. وقد أصبح
عدد غير قليل في الأمة يتضجر من عواقب اتخاذ رفيقة لمدة الحياة لا يعرف من صفاتها
الذاتية الأدبية غير الاسم لذلك تعقب هاته الطريقة غالبا النفرة والاختلاف ، وقلما
يكون معها بحكم الطفرة رضى وائتلاف. أما تهذيب المرأة ورفع الحجاب فهما من المسايل
التي انقسمت فيها آراء الكتاب. والفكر التونسي لا يرى مانعا من الأول ويتعذر عليه
الأمر الثاني وقد كتب فيه الشيخ صاحب كتاب «أم الدنيا» ، والباشا نجل الحاج عبد
القادر في رسائله بما فيه غنى لكل باحث في هذا الموضوع ـ وخلاصة القول في المسألة
ما ذكره أبو علي ابن سينا في شأن المرأة من الرأي السديد والقول الجامع لموجبات
الزوج والزوجة في القرون الأولى ، ومضمونه بإيجاز ـ أن المرأة الصالحة شريكة الرجل
في ملكه وقيمته في ماله وخليفته في رحله.
وخير النساء
العاقلة الدينة الحيية الفطنة المبتذلة في خدمة زوجها ، تحسن تدبيرها وتكثر قليله
بتقديرها ، وتجلو أحزانه بجميل أخلاقها وتسلي همومه بلطيف مداراتها.
وجماع سياسة
الرجل أهله ثلاثة أمور : الهيبة الشديدة ، الكرامة التامة ، شغل خاطرها بالمهم.
وليست الهيبة إلّا صيانة الرجل لمروءته ودينه وتصديقه وعده ووعيده. وليست الكرامة
التامة إلّا تحسين شارتها ، وشدة حجابها وترك إغارتها.
وليس شغل
خاطرها إلّا أن يتصل شغل المرأة بسياسة أولادها. وتدبير خدمها وتفقد ما يضمه خدرها
من أعمالها. أما اتحاد العوايد بين البشر فهذا مما لا سبيل إلى الطمع فيه ، مثل
توحيد اللغات والأديان والسعي وراءه معارضة لنظام الكون وسنة الله في خلقه ، ومع
ذلك فلا يأتي بفائدة. (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً). ناولتني تلك الفتاة المهذبة كتابا تطالعه وأوقفتني على
فصل منه فيما يتعلق بالتنبه قبل الزواج حتى يكون الزوجان على بينة ، وهو يتضمن أن
الحب ربما جرى
بموجب ظواهر الإنسان التي تنخدع لها النفوس حتى تهيم بحبها والثناء عليها
ولكن متى ظهرت خفايا البواطن زالت المحبة. وأخيرا سألتني عن سكان إفريقيا والكسل
المشهور عنهم والمنتشر بينهم فأدمت فؤادي بهذا السؤال ، والحقيقة تجرح. وأجبتها
بأن إفريقيا حارة الطقس وذلك من دواعي الميل إلى الراحة بعكس حرارة العلم فإنها
تدعو إلى العمل ونفض غبار الكسل. لذلك يرى العالم لا يجد فراغا في أوقاته سائر
بياض النهار حتى أنه يبيض جل ليله بنور المصابيح في المطالعة. ومن لوازم الراحة من
حرارة القطر أو برودة العقل أحمال الفقر التي تمنع الرجال من القيام ـ والآن في
المملكة التونسية أخذت الأمة في علوم الحياة واستضاءت الدنيا أمام أبصارهم بكهرباء
الاحتكاك بالأمة الفرنساوية ، وأما أنتم في فرانسا فبرودة القطر وحرارة العلم
نشطتكم على الأعمال وأكسبتكم ذريع الأموال. قضينا بهذا الحديث ساعات بعد الزوال
والقطار يطوي البراري وينهب الأرض وراء الشمس النازلة إلى الأفق فكأنه يبغي اللحاق
بها وأن لا يفارق ضوء قرصها. إلا أن سير الأرض إلى المشرق معاكسا لسيره على خط
مستقيم ، وهي أسرع منه ، حال دون مبتغاه. فهل يأتي زمان تكون فيه سرعة القطار على
مثال سرعة الأرض حتى إذا عاكسها في سيرها وسبح فوق البراري والبحار لا تغيب عنه
الشمس ويندمج ليله مع النهار؟؟
ما تمتاز به
القطارات عندهم على قطارات المملكة التونسية. السرعة وقد بيناها :
١. مكتب
التلغراف في سائر المحطات.
٢. ضرب ناقوس
مرتين تنبيها للركاب وبعد ثالثتهما يقلع القطار.
٣. وضع ساعة في
المحطات الكبرى غير متحركة وعقاربها على أرشام الساعة والدقيقة التي يسافر فيها
القطار إعلاما للمسافرين بذلك الوقت حتى لا يحتاجوا إلى الاستفسار.
٤. مكلف في
إدارة المحطات الكبرى وظيفته إعطاء الإرشادات للركاب.
٥. المطابخ
وبيع المأكولات بالمحطات.
وأما المميزات
البسيطة فمثل الصفير بالمزجية عند السفر أو في أثناء السير للتنبيه بأصوات مقتطعة
مثل صوت الناهي على أمر بحرف الهمزة والهاء والأعوان يترنمون
في المحطات التي تجتمع بها عدة قطارات بأصوات شجية ينبهون الركاب لما يلزم
ويهم.
ودخان القطارات
في فرانسا يظهر كثيرا وينفذ إلى الركاب متى فتحوا المنافذ للنسيم فيققهم ويلوث
ثيابهم ، ولعل كثافته من البرد وضعف النسيم فلا يوجد من الحرارة ما يتحلل به
البخار ، أو من الرياح ما تتلاشى به سحبه. وبموجب الندى في هواء أروبا يلتصق سواد
البخار وقتامه الفحمي بأثواب الركاب. فالمناسب في أروبا وبالأحرى في قطاراتها لبس
الثياب القابلة للصبر على تقلبات السفر وكتم ألوان جنايته. والثوب مثل الرفيق فلا
بد من كونه موافقا وكاتما. وسيأتي هذا في آخر الكتاب عند الكلام على لوازم
المسافر. وأما ما يتعلق باللباس عموما وتطوراته وأشكاله فقد عقدنا له فصلا في ضمن
دائرة الكلام على باريز التي بلغنا إليها في يوم السفر من كرونوبل واجتياز مدينة
ليون على الساعة السادسة مساء في وقت الأصيل ، والشوق إليها طويل.
باريز
نزلنا إليها من
محطة ليون بالجنوب وسلكنا شمالا إلى بطحاء الباستيل الذي كان سجنا وهدم في ١٤
جويليه سنة ١٧٨٩ لكراهة الفرانساويين للمسجونين ظلما حتى هجموا عليه ونقضوا جدرانه
من أسسها بعد أن أراقوا دماءهم هناك وبنوا بأنقاضه قنطرة لاكونكورد الموصلة بين
مجلس الأمة وبطحاء المسلة المصرية الآن.
وبالمرور على
هاته البطايح التاريخية أخذنا في مشاهدات تذكارات الحرية وجميل منازلها وطيب
مناخها ، وعرجنا يسارا وغربا من بطحاء الجمهورية مع شارع صان مرتان المتصل بشارع
مونتمارتر غربا ، وهذا يتصل أيضا بشارع الطليان وهي أسماء بحسب الأماكن التي يمر
بها هذا الشارع العظيم الذي جاء في وسط المدينة ومن أحسن مراكزها عمرانا. أرشدني
إلى النزل به في أوتيل دوفمي بدرب «باساج جوفروا» صديقنا الفاضل سيدي الصادق
التلاتلي «وهو الصادق إسما ومسمى» أجمل الله معاملته.
وكانت خيل
العربة وهي تجري بنا كأنما هي السفينة التي عهدي بها في البحر غير بعيد ، تخوض في
أمواج الخلائق بتلك الشوارع المتسعة النطاق ، أو كأنما هي طائرة فوق ما اشتملت
عليه الطرقات من أناسي وحيوان وعربات حيث لا يرى أمام العربة قيد شبر فضاء.
ولأرباب
العربات وسكان باريز عموما براعة في السير بالطرقات يجهلها الغريب ويرتبك عليه
المشي فيها على الأقدام قبل التمرن كثيرا على السير في سكك المدينة.
اندهشت في أول
الأمر من بحر ذلك العمران المختلف الأشكال والألوان وبين القصور الشاهقة والمخازن
العامرة باختلاف البضايع. وسبح البصر في نظام هاته العاصمة الجميلة ، وتجاذبته
جزئيات محاسنها الكثيرة ، فأسرع لاقتراحها الذي لا يرد ، وتردد ما بين هاته وتلك.
ثم راجعت نفسي وقرأت (رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا). وكففت نفسي عن الإغراق وإدامة النظر إلى فتنة الحياة
الدنيا ، حيث رزق ربك خير وأبقى.
الأذن تعشق قبل العين أحيانا
يسمع البعيد عن
باريز أخبارا مزعجة ومخوفة بالقتل والتعدي والسرقة وإداسة الأقدام فيتخوف الإنسان
ويحسب باريز غابة مظلمة فتنقبض نفسه من هول هاته المدينة ويود أن لا يراها.
إن السلامة
من سلمى وجارتها
|
|
أن لا تحل
بحال قرب واديها
|
وأحيانا يسمع
عن باريز الأخبار المسرة والداعية لزيارتها مثل الحديث على الأخلاق والمعارف
والمنارة والنظام وسهولة الوصول إلى الاجتماع بالرجال العظام ولذات الحياة الدنيا.
فيكاد السامع يطير إليها لو وجد جناحا ومتى أمكنته الفرصة أسرع بالخطى وأنشد أسرب
القطا. والحقيقة أن كل مدينة عظيمة مثل باريز ، وهي
بابل الجديدة ، لا بد وأن تجري فيها الحوادث العظيمة كل لحظة لكثرة السكان
وحشرهم في صعيد واحد وتزاحمهم على مركز تضيق مساكنه وطرقاته عن سكانه ، ومع ذلك هي
أكثر من غيرها نظاما وحضارة وجمعا لمهمات المرافق النافعة للبشر.
بلغت باريز كما
بلغت بابل ورومة وبغداد وقرطبة والقاهرة والقيروان منتهى الحضارة والرقي في العلوم
والفنون الطبيعية والرياضية والحربية والصناعية والفلاحية والبحرية. وجنحت جانبا
إلى اللهو وأنواع اللذات البدنية ولبس أنواع الحلل فأخذت من ذلك الحظ الوافر
وواصلت الليل بالنهار ، وتقلبت في سائر الأطوار. ولكنها فاقت غيرها من العواصم
التي تقدمتها أو عاصرتها في كل شيء على ما قصه علينا التاريخ وسمعناه من أفواه
المسافرين في باريز من عدة ممالك ، فالاختراعات الجديدة محت بها ذكر من تقدمها
وحسن الموقع الجغرافي العلمي الزراعي ونباهة الشعب جلت بهما في مضمار الفخر بين
عواصم التاريخ الحاضر.
قال الشيخ ابن
أبي الضياف شيخ المؤرخين التونسيين وقد زارها منذ سبعين عاما : باريز وما أدريك ما
باريز ، وهي الغانية الحسناء الباسم ثغرها في وجوه القادمين ، مشحونة بأعاجيب
الدنيا ، جامعة لأشتات المحاسن ينطق لسان عمرانها الزاخر. بقوله كم ترك الأول
للآخر. ما شئت من علوم وصنائع وثروة وسياسة وظرف وحضارة وعدل ، تموج شوارعها
بالساكن في مراكز الأمن ومضاجع العافية.
وقال الشيخ
بيرم أول رؤساء الأوقاف الذي رحل إلى باريز أواخر القرن المنصرم أي منذ جيل : باريز
وما أدريك ما باريز هي نزهة الدنيا وبستان العالم الأرضي وأعجوبة الزمان.
وحق
للفرنساويين التفاخر بها ومباهاة الأمم بمحاسنها وجمالها وغناها ومعارفها ومصانعها
«أي حسن البلاد والعباد. وثروة العلم والمال والصنايع».
ولم يترك هاذان
الكتابان التونسيان بهاته الجمل الجامعة مجالا لمستزيد في الألفاظ الراجعة لتلك
المعاني. غير أن باريز كل ما توصف به فهو إقلال وكلما طال الشرح فهو إجمال. وغاية
ما يقال في شأنها هو ما قاله قاضي العسكر بفاس عن مدينة القاهرة بمصر في القرن
الثامن أن الذي يتخيله الإنسان إذا رآه وحده دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال
عن كل محسوس إلّا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل
فيها ، وهذا ما ينطبق تماما على باريز.
أصل التسمية والتأسيس
كانت باريز في
القديم تسمى لوتايس Lute ? ce حيث منازل السكان حول المياه والمستنقعات وفي جزيرة
نهر الساين التي بها الآن كنيسة نوتردام. ويطلق على السكان في القرن الأول قبل
المسيح ليبريزيي. وبعد انتشار السكان حول النهر أطلق على المدينة في القرن الثالث
م باريز وصارت قاعدة للملك على عهد كلوفيز في القرن الخامس.
ارتفاع باريز
على سطح البحر بين الأربعين والثلاثين ميترو ، وسكانها نحو ثلاثة ملايين ، وهواؤها
متغير ومحيط سورها نحو ٣٦ ميلا. نزلنا بقسم الأبيرا وهو التاسع من عشرين قسما كل
واحد تحت نظر شيخ وبعض أعضاء ، وطولها من الشرق إلى الغرب نحو اثني عشر ميلا
وعرضها من الشمال إلى الجنوب نحو تسعة أميال ونهر الساين يأتيها من الجنوب الشرقي
متسربا بين محطة قطار ليون وبين محطة دوستارلي ، ثم ينقسم إلى فرعين حتى يكون
جزيرة تنقسم لاثنتين بخليج بين الفرعين. وفي الجزيرة الغربية منهما نوتردام ثم
يتصاعد في الشمال حتى يقارب جنوب قصر اللوفر وبستان التويلري ، وبعد مجاوزة قنطرة
لاكونكورد يذهب مغربا باستقامة بين قصري الصور الدهنية شمالا وبين وزارة الخارجية
وبستان قصر نابليون جنوبا. ثم يرجع للجنوب بين قصر تروكاديرو غربا وصرح إيفل شرقا
حتى يخرج من الجنوب الغربي للمدينة بعد أن يرسم بها قوسا طرفاه بالجنوب ومحد به
بالشمال مثلما وصفنا به بحيرة جنيف. ويوجد وتر صغير لهذا القوس يبتدئ من مجلس
الأمة غربا إلى مبدأ جزيرتي النهر شرقا ، وهو نهج صان جرمان العظيم. وإذا قابلت
هذا الوتر المحدب قليلا للجنوب بقوس آخر في شمال النهر محد به للشمال ، ومن حيث
انتهى نهج صان جرمان ، وهو نهج هنري الرابع من غربي الجزيرتين المذكورتين مارا على
بطحاء الباستيل التي قدمناها بعد محطة ليون فشارع بون مارشي ، فبطحاء الحرية ،
فشارع صان مرتان فشارع مونتماتر الذي نزلنا به ، فشارع الطليان فشارع
مادلاين فشارع روايال المتصل ببطحاء كونكورد وقنطرتها ومجلس الأمة من حيث ابتدأ
شارع صان جرمان. فتلك دائرة مدينة كبرى تتكون من هاذين القوسين في وسطها نهر
الساين ، وفي هاته الدائرة مركز العمران وازدحام السكان وهي قلب مدينة باريز. وإن
كانت المدينة كلها على شكل قلب. والنهر كدم الحياة يتمشى فيه ورأس هذا الشكل
الصنوبري أو المخروط الهندسي من الغرب واتساعه من الشرق.
سكك المدينة
عندهم لها
أسماء ، فالفنوما كان متسعا وتكتنفه الأشجار بين المنازل الرفيعة والقصور العالية
مثل نهج فرانسا بباب البحر بتونس ، والبلفار دونه في ذلك كله وغالبا به مخازن
التجارة مثل الشارع الذي بين باب البحر وباب الجزيرة بتونس.
والنهج يطلق
على بقية السكك الصغرى ، والممشى بين الأشجار يسمى «ألي».
والعلامة
المعطاة لباريز على عادتهم في البلدان والعائلات. صورة مركب في البحر والكتابة «تسبح
ولا تغرق».
الحضارة والبداوة في باريز
باريز هي بابل
الساحرة. وما السحر إلّا بحاضرتها الغير المألوفة ، وآدابها الغير المعروفة. عند
الأجيال الغابرة ، بل وأكثر الأمم الحاضرة. فباريز إذا سميت عاصمة فهي أم العواصم
، وإن قيل فيها قاهرة فهي قاهرة اسما ومسمى. وإن عبروا عنها بالحاضرة ، أو
بالمدينة الزاخرة ، فالأنسب أن تدعى بابل الساحرة ، والمنصف لا يجنح إلى النزاع أو
يلج في المكابرة.
كثيرا ما يفوز
في المناظرة حزب القائلين بمدح البوادي واعتبارها أحسن مناخا وأطيب هواء وأحفظ
للشرف والمال من الحواضر التي هي في القديم أو في غالب أحوالها لا تنطبق هندسة
بناءاتها وضيق سككها وتراكم قماماتها على القواعد الكافية لصحة الأجسام ونقاوة
الهواء وتسريح النظر في متسع الفضاء وخضرة
النبات. كما أن الاضطهادات التي عرضت قبل صدر الإسلام وبعده لسكان المدن
وهم أضعف خلق الله أموالا وأبدانا تجهمت بها الحواضر في أعين الناس ورأوها بصفة
أقفاص يسامون فيها سوء العذاب. وكلما التفتوا إلى بساط البداوة تجلى في أعينهم
جميلا فتنكبوا إليه وقنعوا بما انتشر على مائدته من النبات وسروا على ما في سقفه
من النجوم ، وناموا به على سرر العز فأنسوا بها وهم جوار الوحوش واستغنوا على كثير
الحاجات ، وما هم فقراء ، فأخذوا بحظ من العصور الأولى لمبدأ الإنسان المسماة
بالدور الذهبي لما فيه من راحة بدن الإنسان وقلبه وحواسه من التكاليف. وربما عرف
أرباب التحزب للحواضر ما لأهل البداوة من مكان الاعتزاز فصمدوا إليهم في النوايب
واستجاشوا بهم على أعدائهم. وهل أتاك حديث عبد المومن بن علي مع عرب سليم
واستدعائه لهم بشعره للتوثب بهم على الأندلس ، وتقدم هذا في بعض الفصول من المقدمة
؛ وما لملوك بني حفص بتونس وملوك بني حمو بتلمسان في شد أزرهم والتعاظم على
أعدائهم بكماة قبائل العرب. والدول تستجد عمرا جديدا سالما من الهرم متى اتخذت
جندها من أهل البادية عوض المعتادين للترف على ما أشار إلى طرف من هذا ابن خلدون
وخبرته المشاهدة.
ولم يجهل أرباب
الحضر مقام أهل البادية في الكرم فقصدوهم ابتغاء معروفهم.
أما محمود
الأخلاق وسلامة الأبدان وفصاحة اللسان فكفاك أن الملوك يرسلون بأبنائهم إلى
البوادي ليأخذوا من جبلة أبنائها ويشبوا على كريم أخلاقها ويتغذوا بفصاحة شيحها
وقيصومها.
وما قررناه من
أن الاضطهاد إنما عرض لسكان المدن قبل صدر الإسلام وبعده ، حيث أن صدر الإسلام
استوصى بأهل المدن خيرا ، ولعل ذلك لما قررناه في شأنهم من الضعف ولكونهم أرباب
الحذق في الصنائع التي تسد حاجة البشر. فمراعاتهم ومعاضدتهم من قبيل الإعانة على
العمران لما لهم من الرقي الفكري في هذا الشأن.
والحواضر التي
تطفأ بها حرارة النفوس وتبرد العزايم وتخضع الرقاب وتستسلم الإرادة هي التي يكون
بها الاضطهاد سائدا والاستبداد في الأحكام رائدا والضغط على الحرية متزايدا.
فتتربى ملكة الجبن وتذهب معاني الرجولية ، وتنكسر شوكة الشهامة وتتولد الرذايل ،
فتفسد الطباع ، وينكمش أرباب الأموال والعلم والصناع.
وكل ذلك خسارة
كبرى في عمران الكون وعالم الاجتماع. ومرتع وخيم لسياسة الدولة ، ووبال على جل
الأمة التي هذا شأنها.
أما العدل
والمساواة والحرية فمن بواعث استنارة العقول ، وانطلاق الألسنة في كل مقول.
واستدرار منافع الحياة بسائر الطرق الطبيعية متى كانت سابحة في بسائط العدل وراتعة
في بحبوحة الأمن ، الأمر الذي يوجد في باريز بأتم معانيه وأكمل مظاهره.
فحضارتها على
خلاف المعهود لم تجنح بسكانها إلى التكاسل أو إلقاء شؤونهم بيد أتباعهم أو الترفع
عن مشي الأقدام ، أو حصر أوقاتهم في تحسين الهندام أو جعل حديثهم كله في الكأس
وأنواع الطعام ، كلا ثم كلا.
جمع سكان باريز
بين آداب الحواضر ولذتها ، وشهامة البداوة وعزتها. يعمل رجالهم ونساؤهم ولا
يلتصقون بالمنازل إلّا قليلا. يجوبون الشوارع والمنازه وضواحي المدينة على الأقدام
سواء في ذلك عزيزهم ووسطهم رجالهم ونساؤهم ، اللهم إلّا في بعض الأوقات ، بموجب
الاستعجال أو التفاخر بالمركبات. وليس فيهم من لا شغل له. يقنعون بالأكل بما يسد
الرمق ، ولكن على أسلوب حضري منظم يوافق القواعد الصحية والأشغال البدنية «ما ملأ
ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، حسب المسلم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث
لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه».
ويكتفون ، أعني
رجالهم ، باللباس البسيط مع نظافته ومراعاة ترتيب لبسه والموازنة بين أجزائه.
وسيأتي في فصل اللباس الإلماع لمعنى الموازنة بين الأجزاء. وتقسمت أوقاتهم
فاستقامت حياتهم. تهون عليهم الأسفار ، وجوب الأقطار ، يتألفون لاستطلاع أحوال
الممالك قطعانا ، ويترامون على فدافد البادية وتسلق الجبال زرافات ووحدانا.
لهم قدرة على
الكفاح باللسان والقلم والسلاح ، ينزعون إلى التدرب على الفروسية والرماية
والسباحة. ولهم أعمال لرياضة البدن يلقنها الأساتذة للتلامذة من عهد الصبا في
مدارس التعليم ويمرنونهم عليها ، وعلى كثير من الخصال الحميدة التي يتنافس فيها
أفرادهم لكونها من أسباب السيادة التي لا تحصل بالراحة والنزع إلى الانزواء أو إلى
مسالك البطالة. بل هاته كلها من أسباب ذهابها بالمرة. والرجال
الذين طلبوا العلى واصلوا الليل بالنهار ، لإنجاز الأوطار. فطار ذكرهم
وانساق الشرف لعائلاتهم أو قبائلهم أو أممهم ، كل على حسب ما تهيأ له وبلغه
مقدوره.
وإذا كانت
النفوس كبارا
|
|
تعبت في
مرادها الأجسام
|
فسكان باريز
لذلك كله نمت صحتهم ، وازدادت شهامتهم ، وحريتهم ، وتقوت جماعتهم وأنكت بالعدو
حميتهم. فاغتبطتهم على هذا الأودّاء ، وأيست من مناواتهم الأعداء. والمملكة متى
كان هذا شأنها في أمصارها ، ومراكز حضارتها ونعيمها ومظهر أبهة سلطانها ، ولم تهو
بها الحضارة الكاذبة إلى الترف المذموم والشرف الموهوم ، امتدت حياة عمرانها ،
ودامت سعادة سكانها. وصفوة القول إن هذا المصر وكذا أمصار أروبا على ما يبلغنا
عنها بمنجاة من كل ما يخشى منه الخطر على الأمة كانحلال الجامعة أو قلة الحامية
والجند أو ضعف الشجاعة والأبدان بالانكباب على الشهوات ، والانقطاع إلى الترف
واللذات. أثبت الاستقراء وجود تفاوت بين ممالك أروبا في الرقي اقتضته أسباب سياسية
أو جغرافية أو مالية أو اجتماعية. إلا أن التوازن موجود في الجملة ولهذا طال السلم
في أروبا. ومتى تكدر صفوه في النادر القليل فقد جاء في التاريخ أن الساقط فيه لا
يعتم أن ينهض والمغلوب أن يغلب. وأن الحروب إذا تورطت فيها أي أمة منهم بغلطات بعض
رجال سياستها واندحرت في لججها المغرقة ، ونكبت بمدمراتها المحرقة ، فلا تلبث
الأمة بعد ذلك أن تتلافى أمرها وتتدارك غلطتها ، وتلم شعثها وتنشل شرفها وتجمع
كلمتها ، وترفع رأسها رافلة في حياة جديدة ، وجنود عديدة ، وعدد شديدة. وما الفضل
كل الفضل إلّا لعموم الإحساس في جلب الصالح العام واتحاد الشعور في درء النوائب.
فإذا نادى مصلحهم لبّاه صوت الأمة كلها وانتشرت حول صعيده قلوبها وشخصت إليه
أبصارها ومدته برجالها ومالها. وقوة هذا الاتحاد مما تندك أمامها الجبال ، وتبلغ
بها الأمم أقصى الآمال. تناهوا إلى هاته الغاية في التمدن الإنساني والرقي السياسي
بعد طول التجربة مئات من السنين دأبوا فيها على تحصيل أنواع العلوم وتوخي طرق
التربية الصحيحة حتى برعوا في علم أمور دنياهم ولم ينسوا نصيبهم منها ، فأضحوا
وطبيعتهم الراسخة المتوارثة وشغلهم الوحيد هو الانهماك في شئون عالم الكون
والفساد يعلمون ظاهرا مفيدا من الحياة الدنيا. (وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). باريز شبه بابل. ذكرت فيما تقدم أن باريز شابهت عمران
بابل وحضارتها وفاقت العواصم السابقة واللاحقة وأذكر هنا مما حدثوا به عن بابل
وأبين وجوه الشبه بينهما في الرقي.
بابل عاصمة
الكلدانيين على ضفتي نهر الفرات بالعراق بنيت في القرن السابع والعشرين قبل المسيح
، وبني القصر الذي بها في القرن الثالث والعشرين (ق. م) ، يحيط بها سور مربع الشكل
كل جهة منه تزيد على عشرين ميلا بحيث يبلغ تكسير المساحة التي اشتمل عليها نحو
خمسمائة ميل. وله خمسة وعشرون بابا من كل جهة ، وتصل الطرقات المستقيمة بالمدينة
بين الأبواب المتقابلة فتتكون أقسام بالمدينة كقطع الشطرنج عددها ٦٢٥ ، وسمك السور
خمسون ذراعا ، وارتفاعه مايتا ذراع وحول السور خندق ، وموقعها جاء في بساط سهل ،
وبالمدينة مرصد لحركات الكواكب.
والبساتين
المعلقة المغروسة على أرض صناعية مقامة على أعمدة متينة ومدرجة الجوانب. وبالمدينة
البقول والرياحين والأشجار المثمرة ، وقد علمت أن النهر يأتي لها بالتمر والخمر من
سكان أعاليه في الفلك المهيأة من الجلود والأعواد التي ترجع بها الأحمرة إلى أعالي
النهر حسبما قررنا ذلك عند الكلام على أدوار الفلك والسير على الماء. وذكروا عن
هيكل إلههم بعل الذي بنته سميراميس أن ارتفاعه نحو مايتي ميترو وعدا الأبراج التي
فوقه. وسكانها أهل ذكاء ومعارف وإقدام. وعادتهم في المداواة «والطب أساسه التجربة»
أن يضعوا المريض على الطريق ، وكل من مر به يخبر بالدواء الذي نجع في مثل ذلك
الألم.
ولهم اعتناء في
ترتيب أثاث وموائد منازلهم ولباسهم فجمعت هاته المدينة ، لاتساع نطاق العمران ،
جمال الموقع وجودة التربة وغزارة المياه وقوة الأمة بالعلم والمال والإقدام فطارت
شهرتها في الآفاق ، وهي جاثمة بالعراق. فلا غرابة إذا خضعت لها الأقطار ، ودعيت
مدينة التجار. واستمر ذكرها إلى الآن يملأ صحائف المؤرخين شروحا وأندية السمر
إعجابا وقد مضى على ذلك آلاف من السنين وجاءت العواصم بعدها وشاكلتها في بعض
الوجوه. إلا أن باريز قد شابهتها في كثير من ذلك
وفاقتها ، بما اقتضاه العصر الأخير ، في ترقي العلوم وكثرة الاختراع ،
مثلما شابهت باريز عاصمة القاهرة المعزية فيما حدثوا به عنها في العمران بالقرن
الثامن. فباريز هي العاصمة القاهرة وبابل الساحرة.
فأوجه الشبه
بين باريز وبابل :
١. مثل
الاعتناء بالطب وبالفلك.
٢. وترتيب
اللباس وأثاث البيوت والموائد.
٣. التجارة.
٤. في النهر
الذي يشق المدينة ـ وهو الساين في باريز.
٥. في البساتين
الكثيرة في البلاد.
٦. في القصر
الشاهق بالمدينة ـ وهو تور إيفايل في باريز.
٧. في اتساع
السور وكثرة الأبواب.
وما خالفت
باريز بابل إلّا في واحدة فقط : كانت بابل تحتقر النساء وتسيء معاملتهن وباريز
بعكس ذلك على خط مستقيم. تحترم المرأة غاية ، وتجاملها بلا نهاية. ولأديب القيروان
الشريف السيد صالح سويسي من قصيدة أرسل لي بها حال إقامتي بباريز وستأتي بعض عيون
منها في منازلها بأدوار الكلام على تفاصيل باريز :
باريز تبد
وباعتبار جنة
|
|
وإذا أريد
بها المجون جهنما
|
فالزائرون
لعبرة نالوا المنى
|
|
والويل من
لسوى المعارف يمما
|
نظرة في الرقي
: يقف الناظر إلى نظام المجتمع ورقي الجنس في باريز مستغربا مما وصل إليه التدبير
الفكري والعمل البشري من المدارج العالية والكمالات الباهرة التي يحار المتأمل في
سبيل الوصول إليها ويضل دون فهم طرق غايتها. ولكن أمد الرقي والوصول إليه ، في نظر
الغافل أو الناظر للأشياء سطحيا وبدون سبر الغور والقياس الصحيح ، يحسبه هينا وهو
عند المتعقل عظيم. كعمر الأرض أو مبدأ النوع البشري
يقربه الإخباريون ويبعده قوم آخرون. غير أن المقلد في الإصلاح والآخذ عن
الأمم الراقية تقرب منه النتيجة ويفوز في وقت قصير ، ولو بقي على حالة الانفراد
والتفكير والاختبار لما بلغ أمرا أو حصل على مقصد أو أتى بشيء.
وتونس لو لم
تكن لديها التعاليم الجديدة والمدد المالي والعلمي والإداري ما حصلت في بحر جيل
واحد بفضل الامتزاج ، وهو درس عن عيان ، على الدرجة التي عليها الآن من حياة الفكر
والسير الحثيث في تطلب الغايات العالية في الصنائع والفلاحة والمعارف والإدارة
والاقتصاد والنظام وحفظ الصحة وتدوين العلوم واحترام الأفكار وآداب الاجتماع
ومعرفة قيمة الزمان والتشبث بالعمل والجد.
تنويع الكلام على باريز
بعض شؤون باريز
التي تتعلق بها الرحلة هي حسب التقسيم الآتي :
١. القسم
الإداري.
٢. القسم
العلمي.
٣. المعابد
والملاجي.
٤. عمران
المدينة.
١. أول ما يخطر
ببال التونسي إذا حل بباريز ويهمه معرفته هو القسم الإداري الذي ترجع المملكة
التونسية لنظره ويدير أعمالها وهو الوزارة الخارجية. زرت ذلك القصر في غد يوم
وصولي وهو على الضفة الجنوبية من نهر الساين وغربي دار مجلس الأمة تفتح أبوابه
شمالا. ومن الغريب أن كان وزير الخارجية إذ ذاك هو المسيو بيشون ومدير دائرته
المسيو فوتي والمكلف بالقسم التونسي المسيو بيو وكلهم ممن خدم بالمملكة التونسية
وعرف طيب هوائها ومحاسن سكانها مثلما عرفت المملكة أعمالهم بها. وتواضع المتوظفين في
دوائرهم وبشاشة أتباعهم على المعروف من حسن خلق المستعرب السيد دولور ناظر ديوان
الكتابة العامة عندنا.
يوم الاثنين ٢٣ من جوان ١٩١٣
حضرت مجلس نواب
الأمة «شانبردوبتي» في قصر عائلة ملوك البربون ، ويسمى «بالي بربون» ، بعد أن
جاءتني بطاقتان من وزارة الخارجية في الرخصة للحضور وبطاقتان كذلك من أحد النواب
بمجلس الأمة المسيو ألبان روزي المتودد للمسلمين بما يدافع به هذا الكريم ، عن جنس
له فخر قديم. ورقي عظيم ، ويتطلب له مشاركة في الرقي الحاضر بالمساواة والتعليم.
فنشكر جميعهم على حسن الاعتناء وجميل القبول. دخلت إلى هذا القصر المؤسس من عام
١٧٢٢ على شفير الضفة الجنوبية من نهر الساين وبابه متجه لقنطرة كونكورد التي
جنوبها البطحاء الكبرى المسماة بذلك ، وبها المسلمة المصرية كما سيأتي الحديث
عنها. وجدت المجلس محتبكا بالنواب ومفعما بالمتفرجين ، وكان جلوسي في قبالة مجلس
الرئيس وبالجانب الذي على يمينه ، والمتفرجون في الأدوار العليا والنواب في السفلى
، ومجالسهم على هيئة مجالس التلامذة في بيوت التعليم لكل فرد دواة. غير أن بقاع
الجلوس مدرجة تشبه مجالس محلات التمثيل من هاته الجهة وتتخلل المجالس معابر كخطوط
العرض بالكرة الأرضية توصل إلى مركز دائرة تلك المجالس. وأمام مجلس الرئيس الذي هو
كوتر بقوس الدائرة. وبمكان المرسح في محلات التمثيل «وهذا المكان أيضا مرسح
للسياسة» مجلس الرئيس مرتفع على سطح مركز الدائرة وخلفه كتبه ، ومسدولة على جدار
البهو وراءهم زرابي مصورة من صنع معمل كوبلاين الشهير. وأمام الرئيس منبر الخطابة
متى انتهى الخطيب إلى الدرجة العليا منه يكون الرئيس على يساره. وقبالته حزب
الشمال وأسفل المنبر كتبة الأخبار. وفي ذلك المجلس صور مجسمة منها واحدة بيدها
قضيب فوقه صورة ديك من نحاس وأخرى بيدها مزمار وصورة تباشر كتابة شيء بين يديها ،
وأمام طاولة الرئيس ميزان ولعله رمز للعدل. وجدت خطيبا من حزب الشمال يتكلم في شأن
قانون استخدام العساكر ثلاثة أعوام بدل عامين ليصير الجيش فوق السبعمائة ألف حال
السلم بدل خمسمائة ألف ، وكان رأي الخطيب عدم لزوم ذلك وحزب المسيو جوريس رئيس
الحزب الاشتراكي مؤيد له ، وكثيرا ما صفقوا له في أثناء الخطبة ، وأحيانا ينادون «تريبيا
تريبيا» : حسن جدا حسن جدا. وبعكس
ذلك قسم يمين الرئيس قاطعوا الخطيب مرارا. فيدافع عنه حزب الشمال فيختلط
الكلام فيدق الرئيس بعصاه على مصطبة ، وإذا تمادوا دق بناقوس أمامه فيسود السكوت
ويتمادى الخطيب في كلامه. وكانت بين يديه أوراق يراجع منها من حين إلى آخر طوالع
الكلام أو بعض أرقام. وأمامه كأس ماء كان يتناول منها ليرطب حلقه ويبل لهاته. صعد
خطيب ثان وفي أثناء كلامه انتقد على وزير الحرب ، فدافع الوزير عن نفسه وهو جالس ،
فسكت الخطيب وتصدى له حزب الشمال وقام شيخ الخطابة المسيو جوريس متحمسا فنثر جملا
حادة كالسهام المفوقة من بين بياض لحيته وحمرة وجهه صفق لها حزب الشمال ، وكانت
تأييدات حزب اليمين أقل صدى من هجمات صف الشمال. ويطوف بين المجالس أعوان في
أعناقهم سلاسل؟ وكثيرا ما يدعو الرئيس أناسا يتحادث معهم ، وأخيرا يشتغل بكتابة
بعض رسائل يرطب ظروفها بنفسه. وإليك مضمون ما أبرزته الأفكار ورقمته في المسألة
صحف الأخبار. قالوا إن الأفكار عموما مستحسنة لتمديد الخدمة العسكرية وتنتظر
موافقة مجلس الأعيان بفراغ صبر ولا شك في إمضائهم هذا القانون بسرعة. وسمعت من بعض
الأعيان استعدادهم للموافقة على هاته المسألة. كتبوا وقالوا يود العقلاء أن تفهم
كافة الأمة هاته المصلحة العامة المقصودة من هذا القانون للأمن على المملكة من
اختلال التوازن مع الدول المجاورة حيث عساكر ألمانيا مفعمة بهم حدود الألزاس
واللوراين ، في حال أن العدد العسكري الفرنساوي محتاج إلى التنمية خصوصا بعد عام
١٩٠٥ الذي كان قانونه غير سادّ كما يلزم لثغر الحاجة ، وأن فرانسا الآن تنشل نفسه
وترفع رأسها لما ظهر أن ألمانيا هيأت جيشا عدده تسعمائة ألف. فبقانون خدمة الأعوام
٣ يكون لفرنسا سبعمائة وخمسون ألفا تحت السلاح بنقص مائة وخمسين ألفا من ألمانيا ،
ولكن لا مضرة في ذلك إذ ليس المقصود هو التسوية في الأعداد وإنما المقصد تهيئة جيش
ذي مقدرة وخبرة يدافع العدو ولا تسود عليه أعماله. وهذا لا يتأتى بجيش خدمة
العامين وإنما يحصل من جيش الثلاثة أعوام على كثرة مصاريفه. ومعلوم أن مصاريف
السلم دائما لا تكون ثقيلة.
وإليك حساب
القوات الحربية لبعض الدول في البر والبحر
في السلم
والحرب أخذا من بعض الإحصائيات :
وقت السلم
|
في الحرب
|
الروسيا
|
٠٠٠ ، ١٦٠ ، ١
|
عسكري منهم
بحرية
|
٠٠٠ ، ٤١
|
٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٥
|
نحو
|
ألمانيا
|
٠٠٠ ، ٦٨٨
|
"
|
٠٠٠ ، ٦١
|
٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٣
|
فوق
|
فرانسا
|
٠٠٠ ، ٦٠٤
|
"
|
٠٠٠ ، ٥٤
|
٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٣
|
فوق
|
|
|
|
|
|
|
|
أعداد سكان الممالك
الممالك
|
ملايين
|
المساحة بالكيلوميتر ومربعا
|
١
|
الروسيا
|
١٤٢
|
٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٦
|
ينوب الكيلوميترو
|
٢
|
أمريكا
|
٩٣
|
٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٩
|
٩
|
٣
|
ألمانيا
|
٦٤
|
٠٠٠ ، ٥٠٠ ، ٥
|
١١٢
|
٤
|
النمسا
|
٥١
|
٠٠٠ ، ٧٥٠
|
٧٢
|
٥
|
إيطاليا
|
٤٦
|
٠٠٠ ، ٣٠٠
|
١٤٠
|
|
|
|
|
|
|
|
الممالك
|
ملايين
|
كيلوميترو مربعا
|
ينوب الكيلوميترو
|
٦
|
فرانسا
|
٣٩
|
٠٠ ، ٥٠٠
|
٣٧
|
٧
|
السويس
|
٤
|
٠٠٠ ، ٤١
|
٤٨
|
٨
|
المملكة
التونسية
|
٠٠٠ ، ٨٠٠ ،
١
|
٠٠٠ ، ١٦٧
|
١٠
|
|
|
|
|
|
|
|
|
وأعداد سكان المستعمرات
ملايين
٣٨٠ للأنكليز
٤٨ لفرانسا
٣٨ لهولاندة
٢٠ للبلجيك
٢٠ للبلجيك
١٤ لألمانيا
حساب مصاريف الدول حسب التفصيل الآتي
المصاريف للدول عام ١٩١٠
أكثر الدول
مصاريف هي ألمانيا ـ تصرف عشرة ملياردات وكسرا يخص البحرية ٤ في المائة والعسكرية
١١ والدين ٩ فينوب الشخص ١٦١
ثم الروسيا
ثم أنكلتيرا
ملياردات ٦ وكسرا. على البحرية ١٦ والعسكرية ١٣ والدين ١٥ فينوب الواحد ١٤٨.
ثم أمريكا
ثم فرانسا
ملياردات ٤ وكسرا. على البحرية ٩ والعسكرية ١٨ والدين ٣٢ فينوب الواحد ١٠٧.
مصاريف مجموع الدول بأروبا
نحو ملياردات
٤٢ يخص كل فرد ٨٧ ، فللدائرة الملوكية ملايين ٤٠٠ وهو ١ في المائة وعلى البحرية
نحو ملياردات ٣ وهو نحو ٧ والحربية نحو ملياردات ٧ فيكون ذلك ١٥ والدين نحو
ملياردات ٨ فيكون ٢١ ، والمعارف نحو ملياردات ٢ فيكون ٥ ، وللتقاعد نحو مليارد
فيكون نحو ٢. أما مصاريف جميع العالم فنحو
٥٥٠ مليارد
ينوب الشخص منها ٣٥ فرنكا. وأقل دولة في الأداء الذي ينوب الأشخاص هي الصين فينوب
الواحد عندهم فرنك واحد في العام.
النواب عددهم فوق الخمسمائة
والنائب ينتخب
لمدة أعوام ٤ إذا كان غير موظف وعمره خمس وعشرون سنة من كافة رجال جهته الذين
أعمارهم ٢١ وليسوا في الخدمة العسكرية ومكث في تلك الجهة ستة أشهر. ويكون للنائب
مرتب قدره تسعة آلاف فرنك ويؤدي شهريا معلوم
الركوب في القطارات خمسة عشر فرنكا ، وعن المشروبات في محل الخدمة خمسة
فرنكات. عقب خروجي من مجلس الأمة الذي امتلأت جدرانه بلفظة «حرب» التي رددتها
ألسنة رجال الخطابة والسياسة استعدادا للحرب وحبا في السلم ، وبعد معاينتي للعمل
بالشورى والحرية في المراجعة وتخليص مهمات الآراء التي تعود بالنفع على الأمة التي
تباشر أمرها بنفسها ، ذكرت مجلس لاهاي وقصره المؤسس بمال كارناجي الأمريكاني وتم
فتحه في هذا العام وأهدت إليه الدول من الرياش واللوازم ما صار به القصر المذكور
كمعرض جميل. ومضمون ما نشرته مجلة ليزانال في هذا الغرض : حبيب الإنسانية كارناجي
الأميركاني ، عام ١٩٠٣ سلم للدولة الهلاندية مالا كافيا لقصر يجمع نواب الدول لحسم
الخلافات بين الدول حتى لا يقع حرب. وفي عام التاريخ ١٩١٣ فتح القصر المذكور الذي
أرضه من دولة هولاندة وقيمتها مليون ونصف فأهدت فرانسا كواتروات دهنية وزرابي
قبلاين ، وأعطت لندرة البلور الملون ، أمريكا صورا مجسمة ، الروسيا سبالة ، النمسا
الثريات وأدوات الإيقاد ، السويد نوعا من الرخام ، إيطاليا الرخام ، البلجيك الباب
الخارجي ، ألمانيا بابا من نوع الدربوز ، الجابون مقاطع حريرية ، الصين أكوازا من
الفخار. قلت وليتهم وضعوا به صورة الرومانيين والصابين في الحرب التي قامت فيها
نساء الأولين وهن بنات الأخيرين لإيقاف الحرب وهي التي أجادت صورتها أنامل وأفكار
دافيد المصور الطائر الشهرة والمزدان بها قصر اللوفر. ومن تأمل تلك الصورة مليا
انبعثت في فؤاده الشفقة وحب السلم. وقال المؤرخون أن الخطيبة البليغة الصابية قالت
لقبيلتها من الصابين ما معناه : إن كنتم أقمتم الحرب لأجلنا فنحن نرغب منكم
إبطالها وإن كنتم أتيتم لإنقاذ أبكار حفظا للشرف فنحن الآن ذوات أزواج ، فإنقاذكم
لنا هو افتكاك ذوات أزواج محصنات ، وهذا لا يسوغه إلا الظلم.
بالي دولوقزنبور
أما محل
السينات «مجلس الشيوخ» بجواره بستان متسع وبقرب منه المرصد الفلكي العظيم الشكل
والغريب النظام. دخلت قصر مجلس الأعيان بواسطة
صديقي السيد كابار وشاهدت البيت الذي به مجالس الأعضاء للنظر في المسائل
وجزت بيت المكاتبين للجرائد ، وكان عددهم كثيرا واستنطاقهم محادثهم واقتباس أخباره
تسبق لك به العيون قبل الألسن ، وعدد أعضاء مجلس الشيوخ ٣٠٠ ، وعمر الواحد لا يقل
عن أربعين عاما. وهو الأمد الذي يكمل فيه العقل ويبلغ فيه الإنسان الأشد. منهم ٢٢٥
تنتخبهم عمالات فرانسا و ٧٥ بالانتخاب العام والقسم الأول لمدة أعوام ٩ وثلث العدد
ينتخب بعد ثلاثة أعوام ، والقسم الثاني بانتخاب السينات أنفسهم.
الحسبة والبوليس
الحسبة في
الإسلام إحدى الوظايف الدينية الستة بعد الإمامة. وهي القضاء والمظالم والحسبة
والشرطة والمصر والرد.
وقد عرفها
الماوردي في كتاب «الأحكام السلطانية» بأنها الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، والنهي
عن المنكر إذا ظهر فعله. وهي حق على كل مسلم إلا أن والي الحسبة قد تعين لذلك بحكم
الولاية وأما غيره فداخل في فرض الكفاية. وإنما ناطوها بوال خاص ليكون مشتغلا بذلك
وحده متتبعا ذلك غاية جهده وليكون مشهورا يقصده الناس للاستعداء من التعديات. وقد
يجعل له من جملة وظيفته أن يباشر التعزير على المنكرات ، وقد لا يجعل له ذلك في
الولاية بل يقتصر على الكشف على المناكر ولكنه يرجع أمرها للقاضي. وأخص ما ينظر
فيه أحوال الأسواق من بخس أو تطفيف أو غش وأحوال من لا يستطيع الدفع عن نفسه وليس
له من يدفع عنه كالحيوان. وكثيرا ما كانوا يضمونها لخطة القضاء وكذلك كانت بتونس
من جملة خطة قاضي الجماعة ، وفي سنة ١٢٧٠ أفرد بعض خصائصها فألحق بالإدارة البلدية
وبقي بعضها تبعا لقضاء الجماعة. وكانت لا تسند إلّا لمن هو من وجوه المسلمين
وأعيان المعدلين. ومن وظايف نوابه أن يتبعوا الطرقات ويمنعوا من المضايقة
فيها ، ومنها أن يلزموا أرباب الحيوان بأن لا يحملوا أكثر من وسق السلامة ـ ومن
لطائف نوادر الحسبة ما وقع لابن عائشة الذي كان والي الحسبة من الدولة العباسية
أنه رأى رجلا يكلم امرأة في
الطريق فقال له : لئن كانت حرمتك إنه لقبيح بك أن تكلمها بين الناس ، وإن
لم تكن حرمتك فهو أقبح ، ثم ولى عنه وجلس ، فإذا برقعة قد ألقيت في حجره مكتوب
فيها :
إن التي
أبصرتها
|
|
سحرا تكلمني
رسول
|
أدت إلي
رسالة
|
|
كادت لها
نفسي تسيل
|
فلو إن أذنك
عندنا
|
|
حتى تسمع ما
نقول
|
لرأيت ما
استقبحت من
|
|
أمري هو
الحسن الجميل
|
وزاد في آخر
الرقعة اسم أبي نواس ، فعلم أنه صاحبه فقال : مالي وللتعرض لأبي نواس. والبوليس في
باريز غالبه سري من الرجال والنساء ، ومن أهم أعماله المحافظة على الغريب ومراقبة
ما عسى أن يصل له من أذى المحتالين والمعتدين ، لذلك يقرأ أصحاب الخداع ألف حساب
للغريب المرفوق بأعين أعوان المحافظة المتنكرين. فما أحسن هذا التستر الذي لا
يغادر به البوليس صغيرة ولا كبيرة. والبوليس المعلوم اللباس تراه قائما على ساق
الجد وساهرا على راحة المارين نهارا وليلا ، يوقف العربات وغيرها متى غصت الطرق
بسالكيها وتعذر اجتياز المارين بالطرق المقاطعة لها. فيرفع عصا قصيرة في يده «كصولجان
الملك» علامة الإذن بالوقوف فلا يخالف حقير ولا جليل تلك العلامة الخفيفة وذلك
الأمر البسيط حيث القانون محترم والناس فيه سواء. ثم يشير بتلك العصا بعد ذلك
علامة الإذن بالجواز فينهال سيل من البشر والحيوان والعربات والسيارات والدراجات
والقطارات في منظر عجيب وصعب السلوك على الغريب. وإذا سألت عن أمر وطلبت الإعانة
على شيء من البوليس فتجد الأذن الواعية والإعانة التامة والبشاشة والأدب المجسمين
في هؤلاء المهذبين أعوان المحافظة أو رجال باريز ، إذ بدونهم يفسد النظام وتصير
طرقات باريز ومساكنها أصعب على
المارين من غاب الأسود وقفر السباع. وإذا كان العالم بستانا سياجه الدولة
فباريز بستان سياجه البوليس. فشكرا لهم على ذلك النشاط وتلك الأخلاق وخدمة
الإنسانية بلا تفرقة بين الأجناس بما يعود على وطنهم بالعمران ، والذكر الحسن في
سائر الأقطار بين بني الإنسان.
٢ ـ القسم العلمي
مدرسة اللغات الشرقية
بباريز
في يوم الاثنين
صباحا ٢٣ من جوان حضرت امتحان مدرسة اللغات الشرقية بباريز. وكانت اللجنة متركبة
من مدير وكاتب على يساره ومدرس على يمنيه يباشر اختبار التلميذ باللسان العربي.
وبقية التلامذة الممتحنين في زاوية البيت والامتحان يجرى بمرأى منهم ومسمع. وفعل
ذلك تطمين لخاطرهم وتسكين لروعهم وكانت الأسئلة مختلفة. فأجلسونا مع لجنة الامتحان
التي كاتبها في حضورنا المسيو صال متفقد المستعمرات سابقا. يناول المدرس مجلدا بين
يديه من كتاب مجاني الأدب يقرأ فيه التلميذ الصحيفة التي تعين له ويجرى سؤاله عن
الإعراب أولا ، ثم عن تصريف الكلمة واشتقاقها والمفردات التي تشاكلها في اللفظ
وتشترك معها في مادة واحدة ، ثم يسأل عن المعنى ثم عن أشياء تتعلق بدين وعادات أمة
اللغة العربية.
وكان الممتحن
يقابل التلميذ في المحاورة بالبشاشة. ومتى غلط التلميذ يقول له اسمح لي فإن الأمر
كذا وكذا. وخشية أن يخجله يبسم له ابتسام المنبسط الراضي.
كان مجلس
الامتحان الذي حضرته لتلامذة السنة الثانية في اللغة العربية. سئل منهم اثنان
بمحضري في العربية الأصلية والمغربية بشمال إفريقيا. قرأ أحدهما ويسمى «أنجي» من
صحيفة ٤٥ فصل الصدق والكذب وأعرب أن الصدق مع الحياة خير من الحياة مع الكذب. وسئل
عن معنى الحج والطواف. واختبر «بكن» من صحيفة ١٠٠ قدم لأعرابي كامخ وهو أكلة
مصنوعة من الحنطة واللبن. ثم جرى اختبار تلامذة اللغة العربية الأصلية والشرقية أي
لغة سكان آسيا. قرأ أولهم «كلا» من صحيفة ١٠٨ : مررت بمعلم يضرب صبيا ويقول والله
لأضربنك حتى تقول لي من
حفر البحر. فذكرت هول البحر لراكبه وما يلاقيه الصبي في المكتب من البحث عن
حافره والتلميذ بمدرسة اللغات الشرقية عن أصل اشتقاقه. وسئل عن أفكار المسلمين في
بدء الخلق وعن الواسطة بين الخالق وعبيده وعن الكتب السماوية الأربعة ، وعن
الواسطة بين الله ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو جبرائيل عليه السلام ، وكون
الديانة الإسلامية تعترف بالملائكة. ثم جاءت فتاة اسمها «لمبورج» فقرأت من صحيفة
٤١ في النصيحة والمشورة : أن الحكيم إذا أراد أمرا شاور الرجال ، وإن كان عليما
خبيرا ، لأن من أعجب في رأيه ضل ، ومن استغنى بعقله زل. وكانت لهجتها أنكليزية
فسألت عنها الكاتب بجانبي فقال هي فرانساوية غير أنها مكثت كثيرا في أنكلتيرا ،
وحادث المدير بجانبه في معرفتي لها بلهجة اللغة. حاورها المدير بلطافة حتى ضحكت
وانجلى عن وجهها شفق الخجل الذي غشى وجهها في أول الأمر ، وكانت محاورته معها في
أصل اللغات فأسهبت في تفرع اللغات عن بعضها وكانت عارفة ببعض لغات السودان. ثم
تلاها «فاشيي» قرأ من صحيفة ٩١ حكاية أشعب وطلبه من صانع الطبق توسيعه لعله يهدى
إليه فيه شيء. ولم يجب عن معنى الطهارة ، فسئل عنها أحد التلامذة الحاضرين فأجاب.
ولما جعل هذا التلميذ عند الجواب قراءة القرآن من جملة قواعد الإسلام أجابه السائل
بقوله : (يكون هذا شيئا سادسا). تأسس مكتب اللغات في مارس ١٧٩٥ بإشارة لاكانال
واللغة العربية فيه ثلاثة أقسام : ١ الأصلية وكتبها ابن سديرة. رحلة ابن جبير. ألف
ليلة وليلة.
مقامات
الهمذاني. كلمات لغوية ٢ والدارجة بشمال إفريقيا. الأوراق الإدارية والتجارية.
الكتب الخطية في جغرافية وتاريخ إفريقيا الشمالية. النطق العربي ٣ العربية
الشرقية. نطق أهالي الشام. الأفعال. كتاب روكاي مجموعة «دوكونت أراب» حكايات
عربية. وهناك لغات أخرى وهي ، البربرية ، الفارسية ، التركية الأرمنية ، اليونانية
الجديدة الجغرافيا والتاريخ والقوانين المتعلقة بالشرق الأقصى ، اللغة الصينية.
اللغة الجابونية. اللغة الأنامية ، الهندية «تامول» ، الموسكوفية ، لغة رومانيا ،
لغة سيام. اللغات الملحقة. درس في الجغرافيا والتاريخ والقوانين المتعلقة بالدول
الإسلامية. درس في اللغة الحبشية ، لغة مدغشكر ، لغة ماليزيا ، لغة السودان.
وعلى ما أفادني
به الناظر المسيو بول بواياي أن الأقسام ٣ العربية بها تلامذة ١٣٢ وأن القسم
العربي الأصلي فاز فيه أربعة في هذا العام بالتحصيل على الشهادة ديبلوم التي لا
تعطى إلّا لقسم السنة الثالثة. والعامي المغربي حصل منه ثمانية من أقسام السنة
الثالثة على الشهادة وأحرز واحد فقط على ذلك في العربي الشرقي.
والدولة تعين
المحصلين على هاته الشهادة في الوظائف بالممالك الخارجية. ولدولة فرانسا اعتناء
عظيم باللغات الأجنبية وبالأخص العربية ، وهي أول دولة دعت علماء الدول الأخرى
بصفة رسمية للاجتماع والبحث في العلوم الشرقية. فإنها افتتحت أول مؤتمر علمي شرقي
في مدينة باريز في سنة ١٨٧٣.
ومن ذلك العهد
أخذت هذه المؤتمرات في الانعقاد آنا بعد آخر في عواصم الممالك الأروباوية الأخرى
على التعاقب وكان بها المؤتمر الحادي عشر أيضا. ١٨٩٧. قاله الشيخ بيرم الأصغر في
المؤتمر. وإليك إحصائية في الذين لا يحسنون القراءة من عساكر الأمم بحساب عشرة
آلاف ومنه تظهر درجة اعتنائهم بالتعليم.
٢ / ١ ألمانيا
٢ الدنمارك
٤ السويد
٥ السويس
|
١٠ أنكلتيرا
١٤ هولانده
٣٣ فرانسا
٨٥ بلجيك
٢٣٠ النمسا
٣٠٠ اليونان
|
٣٠٠ إيطالية
٣٥٠ صربيا
٦٢٠ روسيا
٦٥٠ رومانيا
|
ومما يأتي تظهر
لك أعداد من يتكلم باللغات الآتي بيانها بحساب الملايين.
اللغات
|
المتكلمون
بها بالملايين
|
العربية والعبرانية
|
٢٤
|
الصينية
|
٣٧٠
|
الهندية
|
١١٠
|
الأنكليزية
|
١٥٠
|
الروسية
|
١١٠
|
التركية
|
٠٢٣
|
الفرنساوية
|
٠٥٠
|
الألمانية
|
٠٩٠
|
الفارسية
|
٠١٥
|
الطليانية
|
٠٣٧
|
السودانية
|
٠٩٠
|
المجرية (تشاك)
|
٠٠٩
|
اللغات
|
المتكلمون بها بالملايين
|
الإسبنيولية
|
٠٥٢
|
الرومانية
|
٠١١
|
البرتغال
|
٠٢٥
|
الفالمنك
|
٠٠٧
|
هولاندة
|
٠٠٤
|
السويد
|
٠٠٦
|
الدانمارك والنرويج
|
|
بلغاريا
|
٠٥
|
بولونيا
|
٢٠
|
صربيا
|
٠٩
|
الأرمن
|
١٠
|
اليونان
|
٠٥
|
بانكال
|
٥٠
|
كشمير
|
٣٠
|
عدة لغات بالهند
|
٢٣
|
الجابون
|
٤٧
|
التوارق
|
٠٦
|
الصومال ونحوهم
|
١٤
|
سيلان
|
٦٠
|
جاوة
|
٤٠
|
التيبت
|
٧٠
|
سيام
|
٠٨
|
برمانيا
|
١٠
|
أنام
|
٢٠
|
الأميريكية العتيقة
|
١٠
|
وينقسم سكان
الأرض بحسب الأديان حسب التفصيل الآتي :
الأديان
|
بحساب الملايين
|
إسلام
|
٢٣٠
|
نصارى
|
٢١٧
|
يهود
|
٠١٢
|
براهمة
|
٢٢٠
|
بوذيون
|
٤٧
|
وثنيون
|
١١٠
|
واللغات التي
راجت في شمال إفريقيا فالمظنون أنها الآتية :
١ البربرية
٢ الحميرية
٣ المصرية
٤ العبرانية
٥ اللطان
٦ باربار
٧ اليونانية
٨ المضرية
٩ السودانية
١٠ الإسبنيولية
١١ التركية
١٢ الفرنساوية
|
للسكان الأصليين
لافريقش واليمن
ملوك الرعاة
للفينقيين
للرومان
أروبا للفاندال ونحوهم
للروم
للعرب
لكثير الرقيق من الصحراء
للإسبان
للترك
للفرنساويين
|
٤. حكى الأب دولاتر العارف باللغات والآثار القديمة أن
اسم البلدة الجديدة سلامبو الكائنة تحت قرطاجنة فنيقي معناه «سلام عليكم».
|
وفي شمال
إفريقيا الآن أعني المغارب الأربع ثلاث لغات : رائجة العربية ، البربرية ،
الفرنساوية. واللغة البربرية يكاد أن يساوي عدد المتكلمين بها المتكلمين باللغة
العربية وهي في المغرب الأقصى أكثر من بقية المغارب. والعربية الفصحى للكتابة
وحلقات التعليم والعربية المحرفة وهي الحضرية. أو العامية أو الدارجة. للتفاهم بين
العموم. ولها مثل البربرية عدة صيغ بحسب مواطن القبائل. وسبب انقسام اللغة العربية
إلى أصلية وعامية ، وهاته إلى شرقية وغربية وهذه إلى تونسية وجزيرية إلخ ما قاله
ابن خلدون : هجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك وصار اللسان
العربي «يعني بعد الفتح» لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم ، وصارت
الألسنة العجمية دخيلة فيها وغربية. ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه
وتغير أواخره ، وإن كان بقي في الدلالات على أصله وسمي لسانا حضريا في جميع أمصار
الإسلام.
وقال المستعرب
هرغرنج الهولاندي ما مضمونه : إن أكثر المسلمين يعتبرون القرآن كتابا مغلقا ، وكان
يقرؤه كل مؤمن ورع ، أما اليوم فإنهم يقرؤونه دون أن يتدبروا معناه
حتى أن بعض كلماته حجة عليهم في أشياء يصنعونها كل يوم.
ولم أتواصل
لفهم ما عناه ابن خلدون وما هي القواعد التي يمكن أن تقوم مقام الإعراب في اللغة
العامية حيث يقول : ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا
أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه فتكون لها
قوانين تخصها ، ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر ، فليست
اللغات وملكاتها مجانا. ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة
ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات
إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر ، إلا أن العناية بلسان مضر من أجل
الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذا العهد ما
يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه. والحق مع ابن خلدون في شأن المتعلمين للغات
ثانية بعد لغاتهم الأولى حيث قال : وانظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا
في اللسان العربي أبدا ، فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكه
اللسان العربي ولا يزال قاصرا فيه ولو تعلمه وعلمه ، وكذا البربري والرومي
والإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي وما ذلك إلّا لما سبق
إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر. قلت إلا أن التونسيين متى تعلموا لغة أخرى
برعوا فيها وضاهوا أبناءها وقبضوا على لغتهم بيد وعلى الثانية بيد أخرى.
سمعت بعض
الفرنساويين يعترف لهم بذلك ولا يفرق بين كتابات بعض التونسيين والفرنساويين
أنفسهم لشدة التساوي والالتباس. وأما النطق فلا يميز بينهما فيه إلا اللباس «إن
كان». ولا يقدح في هذا ما قاله ابن خلدون في سكان إفريقية والمغرب من أنه كان لهم
القصور التام في تحصيل ملكة اللغة بالتعليم حيث كانوا أعرق في العجمة ، لأنه يظهر
أن التعليم إذ ذاك غير عام ولا مهذب البرنامج ولا هو بكاف لمتعاطيه وإلا فغزارة
مادة علماء اللغة وبلاغة الكتاب ودواوين الشعراء الذين نبغوا في إفريقيا والقيروان
ملأت شمال إفريقيا وفاضت على الأندلس وبلغ صداها المشارق. ولا يصح الاحتجاج في نظر
المنصف برسالة من بعض السواد ، وممن لم يستصحبوا من أساليب الإنشاء غير الدواة
والمداد. نقلها ابن خلدون عن ابن الرقيق
حيث قال : نقل ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له : يا أخي
ومن لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي ،
وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج ، وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد
كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا وكتابي إليك ، وأنا مشتاق إليك إن شاء
الله. والعجب من ابن خلدون يستحسن الطريقة التي أبداها أبو بكر ابن العربي في
التعليم ثم إنه يستصعب قبول الأمة لها ، فهو اعتراف منه بنقص برنامج التعليم الذي
ينشأ عنه قصور المتعلمين وبضعف عزيمته وعجز تدبيره في تذليل طرق الإصلاح. ونص ما
ذكره في طريقة ابن العربي : ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى
طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على
سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال : لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى
تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب
فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه
المقدمة. ثم قال : ويا غفلة أهل بلادنا في أن يوخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره
يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه. ثم قال : ينظر في أصول الدين ثم أصول
الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ، ونهى مع ذلك ألا يخلط في التعليم علمان ، إلا
أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم والنشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر
رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه ، وهي أملك بالأحوال.
وقد اختصر
الشيخ ابن خلدون كلام القاضي أبي بكر ابن العربي وهو كلام أبسط من هذا ، والطريقة
التي وصفها أشبه شيء بالطرق المتبعة اليوم في التعليم بالمدارس الأروباوية إلا أن
العلوم مختلفة. ولقد وقفت على كلامه مفصلا في كتاب العواصم من القواصم له. وقد
أجاد البارع السيد خير الله بن مصطفى أخيرا في برنامج المدارس القرآنية ونجحت تلك
الطريقة نوعا وانتشرت وخلدت له ذكرا ، وأنطقت الأمة شكرا.
وقد أخذت اللغة
العربية «وإن كانت حيّة» ، في الانتشار على ألسنة تلامذة الجامع الأعظم والمطبوعات
العربية الحديثة. وسيعين عليها التمثيل إذا احتفظ
الممثلون على اختيار الروايات الفصيحة وتوخوا اللهجة العربية الحقيقية لا
تقليد بعض اللهجات الشرقية المولدة. ولصاحبنا ومقام أخينا العلامة الشيخ سيدي
الخضر بن الحسين في اللغة العربية :
بعض من لم
يفقهوا أسرارها
|
|
قذفوها بموات
مستمر
|
نفروا عنها
لوذا وإذا
|
|
جف طبع المرء
لم تغن النذر
|
فأقيموا
الوجه في إحيائها
|
|
وتلافوا عقد
ما كان انتثر
|
المكتبة الأهلية بباريز
جاءت في نهج
رشيليو بالجانب الشرقي منه ، وبابها للغرب وشمال هذا النهج يواجه باساج جوفروا
الذي فيه نزلنا بأتيل دوفمي في بلفار مونتمارتر المتصل ببلفار دي زيطليان ، ولذلك
كنت أتردد عليها بسهولة وبالمكتبة أربعة أقسام :
١. المطبوعات
والخرائط.
٢. المخطوطات
والمعاهدات والأوامر ، وبيت مطالعتها في العلو.
٣. النياشين
والحجارة المنقوشة. وبابها خارج باب المكتبة.
٤. قوالب
الطبع.
عند التوسط في
الصحن يسلك يمينا إلى مجاز بجانبه الأيمن مطبخ ، وفي الصدر بيت فسيح متباعد
الزوايا للمطالعة تقدر الكراسي التي به بعدة مئات. لم يزالوا يشتغلون فيه بتحرير
فهارس لعدة كتب لم يشملها برنامج المكتبة. وهناك تذكرت ما قاله بعض الرحالين من أن
المكتبة العمومية في باريز تحتاج إلى فهرس مرتب جامع سهل المراجعة ، ويفهم من
كلامه الثناء على فهارس أمريكا ولندرة. وبالمكتبة فوق الثلاثة ملايين من المجلدات
مطبوعة ونحو مائة ألف من الكتب الخطية. وعلى اليسار
بالمجاز المذكور درج يصعد بها إلى المكتبة الخطية ، وبيت المطالعة على
اليسار ويقابلها يمينا وجنوبا بيت به الكتب الغريبة النفيسة ، يباح الدخول له في
بعض الأيام لمشاهدة الخطوط والصور بالعين فقط. وبالمكتبة الخطية أنواع الخطوط
العربية وغيرها على اختلاف أنواعها وأطوارها وأعصارها وفنونها. قرأت على بعضها
ألفاظ التحبيس ، والدخول برخصة بعد تقديم مطلب كتابة للناظر في بيت بمجاز الطبقة
العليا يستظهر به للكاتب بداخل الباب من بيت المطالعة ، وهو يراقب أيضا ما يدخل به
المطالع من الأوراق وما يخرج به منها. وفي داخل البيت يكتب الراغب في بطاقة حمراء
اسمه والمكان الذي يقطنه في باريز والكتاب المرغوب وعدده من الفهرس ، ولا يطلب أكثر
من ثلاثة كتب في دفعة واحدة. ووقت المطالعة قصير من الساعة العاشرة صباحا إلى
الرابعة مساء ، لذلك يغتنم غالب الراغبين في المطالعة الاستفادة ملازمة المكتبة في
كامل تلك المدة وتقضية تلك السويعات التي تمر كسرعة قطار باريز بين رياض الكتب
وفنونها ، وأزهار المسائل وعيونها ، ويتناولون غذاءهم من المطبخ الذي بمجاز الطبقة
السفلى وقدمنا الكلام عليه.
توجد نسخة من
كتاب مقامات الحريري بخط مشرقي غليظ على كاغد عتيق أسطرها ١١ والكلمات بها من
ثماني إلى عشر. وهي ناقصة وغير مرتبة صحفها في التسفير. بها صور كثيرة ملونة وأحسن
ما يستفاد منها هيئة اللباس في القرن السابع الذي ترجع إليه كتابة النسخة فيما
يظهر ، وكذلك لبوس القرن قبله الذي تألفت فيه المقامات لأن من لوازم حسن الذوق في
التصوير الحرص على مشاكلة اللباس أيام الوقائع «التأليف» بقدر الطاقة. وفي آخر
ورقة منها : فتنفس تنفس من ادكر أوطانه وأنشد والشهيق يلعثم. ـ عدد هاته النسخة
٣٣٢٩ من الكتب الخطية العربية. أخذت منها صورا بالفوتغرافيا بواسطة أحد أعيان مجلس
الشيوخ المسيو كابار الذي نسدي له جزيل الشكر على المعاضدة العلمية ، زيادة على
حسن الملاقاة الودية. وكانت المكتبة منعتني من ذلك في بادي الأمر. فالصورة الأولى
من المقامة الثانية الحلوانية ومطلعها : حكى الحرث بن همام قال كلفت مذ ميطت عني
التمايم ، ونيطت بي العمايم ، بأن أغشى معاني الأدب ، وأنضي إليه ركاب الطلب. إلى
أن قال : حضرت دار كتبها التي هي منتدى المتأدبين ، وملتقى القاطنين منها والمتغربين
، فدخل ذو
لحية كثة ، وهيئة رثة ، فسلم على الجلاس ، وجلس في أخريات الناس. والصورة
الثانية من المقامة السادسة المراغية ومطلعها : روى الحرث بن همام قال : حضرت
ديوان النظر بالمراغة ، وقد جرى به ذكر البلاغة ، فأجمع من حضر من فرسان اليراعة ،
وأرباب البراعة ، على أنه لم يبق من ينقح الإنشاء ، ويتصرف فيه كيف شاء ، إلى أن
قال في المقالة التي كلمة منها معجمة والأخرى مهملة : الكرم ثبت الله جيش سعودك
يزين ، واللؤم غض الدهر جفن حسودك يشين. «وبعد النثر والنظم قال» : ثم أن خبره نمى
إلى الوالي ، فملأ فاه باللآلي ، وسامه أن ينضوي إلى أحشائه ، ويلي ديوان إنشائه
إلخ. ولا يستغرب أن يملأ الممدوح فم الشاعر باللؤلؤ الذي هو أمر نزر في جانب إعطاء
الولايات التي تمتلئ منها الخزائن مالا وجوهرا. فقد ذكر ابن خلدون أن العادل بن
المنصور المومني الموحدي دخل عليه ابن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص فقال له : كيف
حالك. فأنشده :
حال متى علم
ابن منصور بها
|
|
جاء الزمان
إلي منها تائبا
|
فاستحسن ذلك
وولاه إفريقية. وقد نقلنا شيئا عن الجائزة والسفر للاستجداء بالشعر في المقدمة
بقسم السفر المالي. ونظير ما قصه الحريري أن أحد الملوك سأل بعض جلاسه عن سبب منع
الصرف لعمر فأجابه بقوله : لما فيه مما عندك من العدل والمعرفة. فقال الملك املؤا
فاه بالجواهر.
أما وصول
المقامات إلى المغرب فقد نقل الحموي أن أبا عمر يوسف ابن خيرون القضاعي الأندلسي
سمع من أبي عمر يوسف ابن عبد البر وحدث عنه الموطأ ودخل بغداد سنة ٥٠٤ ، وسمع من
أبي القاسم بن بيان وأبي الغنايم ومن أبي محمد القاسم بن علي الحريري مقاماته في
شوال من هذه السنة ، وعاد إلى المغرب فهو أول من دخلها بالمقامات. تصفحت رياض
النفوس للمالكي القيرواني تحت عدد ٢١٥٣ بصحيفة ٣٨١ من الفهرس وهو بخط رديء تصعب
قراءته من نسخ بل مسخ أدوار السقوط ، بل التلاشي للخطوط ، وإهمال رسم الأحرف وضعف
الملكة في هاته الصناعة كبقية الصنايع العربية. ومن بعد سقوط الدولة الحفصية التي
كان بها الخط
الأندلسي ممتزجا بالخط المغربي ذهب الاعتناء «على ما يظهر من تصفح كتب
العلوم» بإتقان الخط بصفة عامة. والخصيصيون في كل عصر بجودة الخط لا كلام عليهم.
والخطوط
كاللغات واللبوس ، لكل قطر طريقة خاصة به في رسم القلم ونطق اللسان وزي اللباس ،
ولها أدوار في الرقي وأطوار في الانحطاط. ومن أمعن النظر وجد من الفرق أيضا بين
الأفراد ما يعرف به حديث زيد من حديث عمرو من وراء حجاب ، ويعلم أيهما على بعد من
سحنة اللباس ، ويميز بين خطيهما من غير كثير اشتباه. قال ابن خلدون ما مضمونه :
لما جاء الملك للعرب واحتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وتعلموه فترقت
الإجادة فيه وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان ، إلا أنها كانت دون الغاية ،
والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد. وكان الخط البغدادي معروف الرسم وتبعه
الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد ، ويقرب من أوضاع الخط المشرقي وتحيز ملك
الأندلس بالأمويين فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد ، ولما
انتشروا في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدولة اللمتونية وتعلقوا بأذيال الدولة
غلب خطهم على الخط الإفريقي وعفا عليه ، ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان
عوائدهما وصنائعهما ، وصارت خطوط أهل إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس. ثم
صارت الخطوط بإفريقية والمغربين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة ، وصارت الكتب
إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلّا العناء والمشقة لكثرة ما يقع فيها
من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاد تقرأ إلّا بعد
عسر.
قلت : أما الخط
الإفريقي فهو بلا شك مثل خط المعز بن باديس في أواسط القرن الخامس الذي تكلمنا
عليه في المقدمة بدور التغلب والاستيلاء وهو يشبه المشرقي ، وذلك الزمن هو الذي
ضجت فيه بالقيروان العلوم والصنائع التي منها الخط كما كان بالقيروان في ذلك العهد
الخط المشرقي والخط الكوفي حسبما ذلك على ظاهر مصحف حاضنة باديس عام ٤١٠ ، وخط
النسخ لكتب العلوم ، وهذا أقوى برهان على غاية رقي العمران. ومنتهى جودة الصناعة
بالقيروان. أما في عصر الأغالبة بالقرن الثالث قبل الصنهاجيين والعبيديين فالخط
النسخي الإفريقي غير القيرواني الذي منه خط المعز في القرن الخامس على معنى أن
السابق أبسط ، شأن الترقي والإتقان في
الصناعات ، يتبين لك ذلك مما على ظاهر مصحف مؤرخ بأواخر القرن الثالث كتبت
بخطها تحبيسه فضل مولاة أبي أيوب عام ٢٩٥ ـ ومنه أجزاء بالمكتبة العتيقة من جامع
القيروان.
وللقيرواني :
سئل بعض الكتاب عن الخط متى يوصف بالجودة قال : إذا اعتدلت أقسامه وطالت ألفه
ولامه. واستقامت سطوره ، وضاهى صعوده حدوره ، وتفتحت عيونه ، ولم تشتبه راؤه ونونه
، وأشرق قرطاسه ، وأظلمت أنقاسه ، ولم تختلف أجناسه ، وأسرع إلى العيون تصوره ،
وإلى العقول تثمره ، وقدرت فصوله ، واندمجت أصوله ، وتناسب دقيقه وجليله ، وخرج من
نمط الوراقين ، وبعد عن تصنع المحبرين ، وقام لصاحبه مقام النسبة والحلية.
قلت والآن صار
للخط التونسي طريقة خاصة تجيدها أنامل بعض الكتاب وتحكم أشكالها الجميلة ،
وبالقيروان شهرة لخط الموثق صديقنا الفاضل السيد الحاج علي بن عبيد الغرياني.
ولعدة عائلات بالقيروان أساليب حسنة في الخط تتوارثها الأبناء من الآباء ، وتتميز
طريقة كل عائلة عما سواها ، يرجع الخبير المتأمل بكل نوع منها إلى مصادره. ولبعض
الناس براعة في معرفة خط كل كاتب ممن سبقت له مشاهدة خطوطهم لحسن الحافظة وجودة
التأمل.
وأعرف من بعض
النبهاء بالقيروان فراسة يستجلي بها صفات الكتاب ويتوسم في أخلاقهم وطباعهم بمجرد
النظر في خطوطهم فقط وبدون سابقية علم بأحوالهم ولا رؤية ذواتهم. واستحكمت منه
هاته الخصيصية حتى تساوت في نظر فراسته الخطوط العربية والفرنساوية الي برز في
لغتها. والعرب من قديم «والقيروان عربية التأسيس والسكان» لهم نباهة في الفراسة
والقيافة والعيافة ، ينقلون عنهم فيها أخبارا غريبة ونوادر عجيبة. والدهر لم يبخل
على القيروان بالنابغين في عموم الأجيال مثلما لم يشح نبغاء هاته البلدة على
المملكة بجلائل الأعمال.
وممن لهم جودة
النظر في تتبع الأثر بعمل القيروان السيد بلقاسم الشريف يلجأ إليه عند الحاجة
فيقتفي أثر الحيوان مسافات بعيدة حتى يتجلى الأمر فيه. وفي عرش أولاد يدير جنوب
القيروان محمد بن صالح الذويبي ، له نظر حاد في رؤية ما تحت الأرض من آبار للأول ،
وهي كثيرة في القطر من عمران من قبلنا الذين أثاروا الأرض
وعمروها أكثر من عمراننا ، يستأجر على تعيين مواقع تلك الآبار فتوجد تحت
طبقات من الأرض على حسب ما قال ، وهي رحمة كبرى ومنفعة عظمى وفرصة ثمينة في صاحب
هاته الخصيصة لاستنباط المياه المحتاج لها القطر في غالب الجهات.
يجول بخاطري
كلما كررت الزيارة لهاته المكتبة المفعمة بكنوز العلوم ونفائس الخطوط ما كان
ببغداد من الكتب التي ابتلعتها الدجلة بالقرن السابع على يد التتار.
ومن أشد أعداء
الكتب الماء والنار ، فمكتبة الإسكندرية قبلها التي حدثوا عنها قد أفناها الحريق
بالتمام ولكن على غير يد الإسلام. وما كان بمكتبة المستنصر الأموي ابن الملك
الناصر صاحب قرطبة بالأندلس ٣٥٠ ـ ٣٠٦ من المؤلفات والكتب الخطية التي بلغت إلى
نحو أربعمائة ألف. وما بمكتبة يوسف بن عبد المومن بن علي بمراكش ٥٥٨ ـ ٥٨٠ ، وقد
بلغت ثروتها إلى مساواة مكتبة المستنصر بقرطبة ، وما بمكتبة الحاكم بأمر الله بمصر
في أواخر القرن الرابع وهي المسماة دار الحكمة «والمكتبة الخديوية الآن قامت
مقامها». وما بمكتبة القيروان التي لا زالت منها بقية من الصحف تنبئ أنواع خطوطها
وتواريخها وأصناف ما كتبت عليه من الرق والكاغد عما كان لها من الأهمية في بحر
قرنيز تقريبا أي من أواسط الثالث إلى أواسط الخامس في منتهى قوة وحضارة دول ثلاث
وهي الأغالبة والعبيديون والصنهاجيون بسلطنة شمال إفريقية العظمى وعاصمة القيروان
المحترمة.
وقد أشار جناب
المسيو روا الكاتب العام بالدولة التونسية محب العلم وأهله بحفظها وتحرير برنامج
لها ، فاجتمع في بيت الحكمة بالقيروان بفضل هذا الرجل العظيم شيخ الحكمة وأستاذ
التشريع بعض رفاة من المخطوطات ، وعادلها ذكر في الحياة. ابتدئ في العمل بذلك
الإذن فوق عشرة أعوام سابقة وتم جانب له بال بإعانة الفرد الإمام العلامة الشيخ
سيدي محمد صدام كبير أهل الشورى بالقيروان. وأنجز العبد كثيرا بعد ذلك من ضم صحف
كل علم إلى نظائرها وجمع ما كان مفرقا في عدة أماكن من الجامع وبيوت المؤذنين.
وكثيرا ما ألحقت وألحق الشيخ الإمام المذكور إلى تلك المكتبة ما يعثر عليه في بعض
التركات من الصحف العتيقة لأن القيروان مدينة علم ولا تخلو بعض ديارها من
المخطوطات الأثرية.
أما مكتبة تونس
فقال التجاني : لما ولي الواثق استدعى الحسن بن موسى الهواري
في يوم السبت التاسع عشر لذي الحجة من سنة خمس وسبعين «أي وستمائة» وأمره
بالنظر في خزانة الكتب ، وسئل عنها حين كانت لنظره أولا فذكر أنها كانت ثلاثين ألف
سفر وأنه الآن اختبرها فوجدها تقصر عن ستة آلاف سفر. فسئل عن موجب ذلك فقال المطر
وأيدي البشر. وأبو فارس عبد العزيز الحفصي سنة ٧٩٦ ـ ٨٣٧ من حسناته خزانة الكتب
بجامع الزيتونة التي نوه المؤرخون بها. وخزانة الكتب بالمقصورة الشرقية من جامع
الزيتونة كانت من عهد عثمان الحفصي سنة ٨٣٩ ـ ٨٩٢ ، والعبدلية أسسها محمد الحسن
أبو عبد الله ابن محمد المسعود بن عثمان سنة ٨٩٩ ـ ٩٣٢ وهي المقصورة التي بصحن
الجنايز ، ووقف بها كتبا في فنون شتى.
اللوفر
قصر عظيم شامخ
رحب البيوت له طبقات شاهقة وفسيحة بني على عهد فرانسوا الأول في سنة ١٥٢٢ وفيه
حسبما نقلوا وضع أحسن ما أمكن جمعه من الصور والتماثيل وتحف الصنايع المعروفة في
الدنيا.
ولا زالت
الدولة تنظر إليه بعين الاعتناء والأمم بالاعتبار. دخلته فرأيت به أنواع المصنوعات
العتيقة لسائر الأمم ومن جميع الأقطار والقارات ، من صور حجرية وجثث بشرية
ومنقوشات أثرية وإطارات دهنية بتقاسيم يختص بها كل نوع مع أمثاله وكل صنف مضموم
لنظائره. فالجدران المعلقات الدهنية ترى
مغشاة مزركشة
بأنواع وألوان وأشكال وغرائب بالصور الممثلة للحقيقة والخيال ، على تعدد أصناف
الاجتماعات والأفراد من البشر والحيوان والغابات والجبال والبساتين والبحار وسائر
أحوال الإنسان في الأفراح والصيد ومجالس الملوك وأسواق الغرام يقضي الناظر في ذلك
أياما لو تتبع جميع ما هنالك. ترى الوفود المكتظة بهم البيوت الطويلة العريضة
كأنما على رؤوسهم الطير لا يعرفون أين يضعون أقدامهم ولا من يمشي أمامهم أو
وراءهم. ملكت هواهم صور الجدران ، وشدت بأهداب إليها الأجفان ، لما أن هاتيك
الرسوم الأنيقة ، تكاد أن تضاهي الحقيقة. ففي ذلك المكان كما قال بعض الأدباء :
حدائق لم تنبت في التراب ، ولا جادتها أيدي السحاب ، وتصاوير تحرك العارف بسكونها
، وتفتن الألباب
بحمرة خدودها وسواد عيونها. ويوجد مصورون بالدهن يقلدون أمثلة من تلك وأكثر
ما رأيته ينقلونه متعلقات الحب. شاهدت صورة دهنية دعتني للإعجاب ، ومنعتني من
الذهاب. واستوقفتني للتأمل من حسن الرسم وبلاغة الرمز ، وهي امرأة قامت بين عسكرين
قد فوق كل منهما سلاحه للآخر وأراش سهامه وجاء مهاجما بعدته وعديده ، تراها ترد
أحدهما بيدها اليمنى والآخر باليسرى وقد انضمت لها نسوة تطارحن حواليها على أقدام
الأبطال من الجهتين وصبيتهن في أحضانهن وبين أيديهن ، ومن خلفهن كالمستشفعات في
حقن الدماء على هيئة تدعو كل من يراها إلى قبول شفاعتهن ولو كانت في جميع الدنيا
وما فيها. ومكتوب تحتها اسم المصور الشهير دافيد ١٧٤٨ ـ ١٨٣٥ ، الرومان والصابين.
وقصتها أن الذين أسسوا رومة في القرن الثامن قبل المسيح كانوا عصابة غارات لا نساء
لهم فاغتصبوا بنات المجاورين من الصابين فأراد هؤلاء حربهم لافتكاك النسوة وقابلهم
الآخرون بمثل ذلك فتوقفت النسوة للوقوف بين الأمتين ، حيث أولئك آباؤهن وهؤلاء
بعولتهن فكن سببا في حقن الدماء بمثل قولهن : إن كنتم تريدون الدفاع على الشرف
فنحن ذوات أزواج ، وإن أردتم افتكاك زوجات فهذا ضد السداد. ولذلك قلت في الكام على
مجلس الأمة من اللائق وضع مثل هاته الصورة بقصر السلم في لاهاي عاصمة هولاندة.
ويوجد قسم للمصوغ النفيس والحجارة الكريمة يحيط به سياج ، والحارس يرصدها ويعرضها
من داخل والمتفرجون من خارجه. ومن بين ذلك سيف قبضته مرصعة بكريم الحجارة البيضاء.
ومنقالة وتاج نفيس بالحجارة الملونة صفراء وبيضاء وخضراء. وفيل وعقد منظم من ثلاثة
أسلاك. وصورة طائر. وأكثر ما راق في نظري قصر تظهر غرفه وبها الآدميون مرصع
الرواشن بنفائس اليواقيت وبدائع ألوانها. كانت باللوفر صورة شهيرة ذات اعتبار فني
وقيمة باهظة سرقت في العام الفارط وفي زمن رحلتي لباريز كانت في غيابات الخفاء.
وهاته الصورة الدهنية هي مادوناليزا أو موناليزا اسم امرأة تزوجها دال جوكوندو في
عام ١٤٩٥ ومات سنة ١٥٢٨ ، وهي من نابلي من عائلة شريفة فقيرة وتزوج بها المذكور
وهو في فلورانسا نائبا على الجمهورية. وهي ثالثة زوجاته وكان عمره نحوا من خمسة
وأربعين سنة. وفي سنة ١٥٠٢ أخذ ليوناردو فانسي يصورها في بستان لطيف يأذن فيه بضرب
الموسيقى زمن التصوير حتى تكون على الصورة ملامح
البشر والسرور. وكان عمره إذ ذاك نحوا من خمسين عاما وعمرها نحوا من ثلاثين
سنة. وقبيل تمام الصورة التي أدام العمل فيها أربع سنين عرض لهما سفر كان هو
الافتراق النهائي. وفي آخر أيام الاجتماع قبل يدها عند الوداع. فتعطفت هي أيضا
عليه بما يشبه ذلك. وبعد افتراقهما على نية الاجتماع بشهرين ماتت ، وكأن لسان حال
ليوناردو ينشد قول الشاعر :
لو كنت أعلم
أن آخر عهدكم
|
|
يوم الوداع
فعلت ما لم أفعل
|
وعند ما اطلع
فرانسوا الأول على تلك الصورة أعجبته ورغب في شرائها منه بعشرين ألف فرنك ، ولما
لم يوافق مصورها على فراق صورة اتخذها رفيقة لآخر عمره وجوهرة بعقد صدره ، سلم له
الملك المال وأبقى له الصورة ، وبعد وفاته ترجع للملك.
ولما توفي سنة
١٥١٩ كانت نظراته الأخيرة عند الاحتضار إلى محيا صورة موناليزا.
قالوا في ملامح
تبسمها معان مبهمة. وفي المعنى المراد من هيئتها يحار الناظر.
وجدت الحديث
على ضياعها من متحف اللوفر مستفيضا ، والأسف شديدا من فقدها بين جدران ذلك القصر
الغني المقام كالتاج على رأس باريز ، تناطح به شامخ العواصم وقد أضحى أغنى قصور
الآثار ومصنوعات الأمم ورموز الرسامين وإبداع المصورين. وصورة لاجوكوند بمثابة
يتيمة الجواهر وواسطة العقد لم يسد فراغها ولم تقم مقامها مئات من الصور الحافلة
بها جدران قصر اللوفر على اتساع بيوته وبعد ساحاتها ومجالات عرصاتها. وكأنها
بمنزلة الشمس بين الكواكب في عالم الصور بقصر اللوفر. لذلك يقدرون تلك الصورة
الغريبة في هيئتها ، الثمينة في تاريخها ، المحبوبة بين عشاق الصور المتقنة وأهل
الغرام بالغريب منها ، بعدة ملاين. وما ظن السامع بأستاذ في علوم الرياضة وفي
الهندسة والنقش والتصوير والموسيقى ملكت جوهر قلبه ونور خاطره وأقلام أنامله فتاة
ذات دلال تجلت له وهي في سن الشباب وهو في الشيخوخة يحسب أن ليس سواها في العالم
فانبرت أقلامه ترسم مثالا ملونا يشاكل ما تقدر به تلك الذات في عين المحب وفي
الدرجة التي يرضاها الضمير. إلا أنه كلما أعملت الأنامل جهدها في الوصول إلى
الغاية المطلوبة وتشكيل المثال في
أكمل الأحوال كان العجز رائدها والقصور دون المراد غايتها. حيث جمال الصورة
في الخيال ، لا يمكن أن تعبر عنه الألسن ولا تبرزه صناعة الأيدي بحال. فكلما رسم
هذا المتيم البارع صورة وعرضها على الذات التي في خياله أو على ذات جوكوندا تبدى
له الفرق بينا والبون ما بينهما بعيدا. فيعمد إلى إجهاد نفسه وإفراغ حواسه في
إتقان المثال ، وتعويض بعض الألوان وتحوير الأشكال ، ولكن بلاجدوى مدة أربعة أعوام
وهو ما بين التفكر في صورة الخيال ومجاز المثال. فيرجع إلى إجالة النظر في ذات
جوكوندا فتتزاحم لديه صور ثلاث من صنع الله ، واختراع النفس ، وريشة الدهن. فيحار
ويتضاءل عمله بين يدي صنع الخلاق المختار وهذا غاية ما سمع في إجهاد النفس وتوقيف
أعمالها على خدمة المحبوب وصرف النظر والفكر عمن سواه.
وكأنه يتمثل
بشعر إبراهيم بن علي الحصري القيرواني :
إني أحبك حبا
ليس يبلغه همي
|
|
ولا ينتهي
فهمي إلى صفته
|
أقصى نهاية
علمي فيه معرفتي
|
|
بالعجز مني
عن إدراك معرفته
|
فلا عجب إذا
قدرت النفوس منزلة هذا المصور المفتون الذي رق طبعه وخفت روحه وصفا فكره بالعلوم
الرياضية ، حتى إذا فتح عينه وهي مرآة التصوير على ذات تلك الفتاة في بعض الأوقات
وكان قلبه مغلقا عما سوى الولع بالعلوم انطبعت تلك الصورة جبرا في مرآة قلبه ،
وكلما حاول غسلها بالتفكر فيما سواها إلّا وازدادت ارتساما فلم يجد بدا من أخذ
مثال من مرآة القلب لتراها العيون الباصرة فتعذره.
والعذر لهم متى
كانت نظرات الفتاة في الصورة غير مفهومة وتحملت معاني كثيرة ، وكانت ملامح تبسمها
مبهمة وداعية للتفكر في المراد ، فلعل هذا المحب كلما خطرت بباله هيئة الإقبال
ونظرات المفاجأة بالزيارة وبوارق البشرى من الثغر رسمها كما هي ، ثم تأتي بخياله
صورة ضحك المداعبة وملامح هيئة المحادثة فتنشر أنامله ثوبا رقيقا من ذلك على الذات
، ثم تمر صورة تبسم إعجابها بإقدامه على محاكاة ذاتها بفعل يمينه فيرسم مسحة من
ذلك على العيون وخاتم الثغر ، ثم تظهر هيئة الوجه في حالة الوداع
ونظر العين ضئيلا والتبسم بالشفاه الذابلة قليلا. فتتحرك يده الضعيفة بريشة
الرسم أمام هجمات حر الضمير وتكفكف رذاذ الدمع فتأخذ الصورة طرفا من ذلك المنظر
أيضا. لذلك يتوسم في الصورة طرف من هاته الأحوال. رأيت صورة لاجوكوند فيما بعد
وبلغني أن كثيرا من الكتاب استعملوا أقلامهم في الحديث عن هاته الصورة بما لا يقل
عما عملته أنامل ليوناردو بريشته الفنية فجاريتهم في هذا المضمار (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ
وَيَخْتارُ.
كتب لي وارث
ابن رشيق القيرواني ومحاكي شوقي مصر السيد صالح سويسي كتابا وأنا بباريز ، ضمّن لي
فيه فقد هاته الصورة فزادني شوقا على شوق لرؤيتها وحسرة من عدم مشاهدتها بين
مستظرفات باريز ونص الأبيات المتعلقة باللوفر :
واللوفر
المشهور قد وضعت به
|
|
تحف بمثل
جمالها لن تحلما
|
مرت على جسر
القرون ولم تزل
|
|
ببهائها مهما
الزمان تصرما
|
«جوكوندا» تبا لسارق رسمها
|
|
رسم على ملك
الجمال تقدما
|
فإذا نظرت له
كأنك مبصر
|
|
حورية هبطت
إليك من السما
|
رسامها قد
كان آية عصره
|
|
وبعشقها قد
صار صبا مغرما
|
«ليوناردو» أفهل يحل لمغرم
|
|
سرق المليحة
أم تراه محرما
|
روح المليحة
قد تناجي روحكم
|
|
في متحف أو
تحت إطباق العمى
|
يا متحفا ما
لي أرى بك وحشة
|
|
وأرى فؤادك
بالفراق تكلما
|
«فمحمد» يبدي إليك توجعا
|
|
وتصبرا عند
الزيارة مثلما
|
«يعني مثلما تصبر محبها وتوجع عند
ما فقدت ذاتها من متحف الوجود» وبينما أوراق الرحلة مهيأة للطبع وإذا بجرائد
الأخبار أتت بنبأ العثور على صورة موناليزة المفقودة من قصر اللوفر في مقاطعة
فلورانسا من إيطاليا بعد ذلك الكسوف الذي اعترى مثالها مدة مثلما اعترى جثمانها
الخسوف بل المحاق ، الذي ليس معه تلاق.
ديار الآثار
تكونت في
فرانسا جمعية الآثار في العقد الأول من القرن التاسع عشر. والآثار تفيد من جهة
العلم بما للأمم السابقة من البراعة وجيد الصناعة في الأواني والمسكوكات والبناءات
والصور والكتابات. وقد أفادت الأمم الأخيرة من حيث عوائد الأمم الغابرة وتواريخها
وآدابها زيادة على التقليد لكل شيء قديم. إذ النفس ميالة إلى التنقل مما يدوم
استصحابه لها وولوعه بالتقليد والارتياح لكل جديد. فكانت مصنوعات الأمم السابقة
على اختلافها ملجأ تنحت منه الأذواق ما تريد وتغترف منه نفوس الشهوات مبتغاها. ولا
تزال الهمم من أرباب العلوم تبذل نفيس العمر والمال في البحث والترحال لأجل العثور
على أثر قديم والتفهم في واضعيه وما يوجد عليه من الصور والكتابات والأشكال ،
فيشهرونه للعالم الجديد الراغب في توسيع هذا الفن الذي لا يزال في درجات الرقي
وبالأخص في الجهات التي لا تزال مساكن وبناءات ومدن أممها السالفة في بطن الأرض
وتحت طبقات من تراب العصور التي مرت عليها. وفي هذا الجيل الذي مر على الاحتلال
الفرنساوي للقطر التونسي ظهرت آثار عظيمة للأول بدواخل المملكة وعواصمها القديمة
تنبئ على أنها خلف عن أمم تداولت ملك القطر الإفريقي. والدنيا دول. من فينقي
وروماني وفندالي ورومي وعربي ، أما البرابرة السكان الأصليون فهم هم ، لا يزالون
أحياء أثرا من بقايا السكان الأصليين. وكلما بعدنا إلى الوراء في التاريخ وجدنا
البناء أمتن والصناعة
أتقن ، شأن البساطة في المأكل والملبس وقوة التغلب وكثرة الأيدي والفراغ
للعمل والاعتناء بالشهرة وطول أمد التملك. وأكبر ما تركه الأول بهذا القطر مما عثر
عليه إلى حد الآن هو ما وجد في أطلال العاصمة العتيقة من قرطاجنة ، ثم القاعدة
الثانية المزاحمة لها وهي سبيطلة بعمل ماجر ، التي التجأ إليها الروم لما استبدوا
على ملك القسطنطينية وبقصر الأجم بعمل المهدية ، وهو تياترو عتيق التجأ إليه الروم
عند تغلب العرب على سبيطلة ، ودقة بعمل تبرسق «اصطفورة». ولا تزال الأيدي تكشف من
حين إلى آخر المسكوكات من خالص النقدين في خرابات الأول ومقابرهم العتيقة التي من
عادة تلك الأجيال أن يصحبوا بعض موتاهم بشيء منها وبالحلي والجواهر ، والبعض
بالآنية الخزفية المستعملة للأكل والشرب والاستصباح.
وأحيانا تكون
من البلور السماوي النفيس. وربما بقيت عادة استصحاب أحسن الملبوس وأفخر الثياب للميت
إلى هذا العهد في بعض جهات المملكة ولا عجب في تقليد السلف للخلف بقطع النظر عن
منشأ العادة واختلاف العقيدة. والتاريخ يقص علينا ما أصحب به المعز بن باديس جدته
من غالي الجوهر ورفيع العنبر وخالص التبر وجيد الخشب في أوائل القرن الخامس هجريا
إلى قبرها في بلد المنستير دار الرباط من أوائل الفتح. ولعل هذه الأوهام في السرف
هي التي أنشأت في النباشين فكرة نبش القبور وسلب الموتى. ومتحف باردو الآن غني
بمصنوعات الأول. وفي فرانسا لا يخلو بلد من دار آثار مع مكتب للتعليم ومعبد ديني
ومستشفى صحي ومحل للتمثيل ونزل للمسافرين ، والمملكة التونسية جارية الآن على ذلك
المنوال.
اعتنى ملوك
الإسلام بالمصنوعات والتحف والمكاتب والمستظرفات فكانوا يجمعون المجوهرات ومصنوعات
المصوغ وآلات السلاح ، تنتقى لهم من غاية ما بلغت إليه درجة الصناعة في عصرهم
وترفع إليهم من نفائسها تقربا واستجداء وطمعا في أغلى الأثمان التي لا تجود بها
إلّا خزائن الملوك الواسعة ، وتجلب إليهم من الأقطار. وهم يبعثون أيضا في نيل كل
ما يعوزهم مما يظهر على وجه البسيطة غريبا ورفيعا ، فتتجمع لديهم مختلفات
المصنوعات على حسب اختلاف الأذواق والعوائد بالأقطار وأجيال الأمم ، فتكون في
خزائن الملوك وحاشيتهم ورجال الدولة والوزراء من كل جنس أنواع بديعة. ويعظم ذلك
كلما عظمت ثروة الدولة واستمرت مواصلتها مع الدول والأمم
وطال أمد حياتها في الشرف والحضارة. أضف إلى ذلك غرائب الوحش وأجناس
الحيوان وأنواع الطير فإنهم يحشرون منها حول قصورهم ما تعز رؤيته ويعسر تذليله
ويندر وجوده ويستكثرون منه ، وهم قادرون على تنويع مساكنه وتوسيع مجالاته وإرغاد
علوفته وإجادة سياسته وإلطاف حياته. فانظر إلى باريز مثلا كيف وصلت لها المصنوعات
الغريبة من بغداد من ساعات مخترعة وجيوش شطرنج نفيسة. ولا بد من حصول بغداد على مكافأة
من ملك فرانسا شارلمان من غريب المصنوع وعزيز المقتنى ومن ينبئنا ما هي؟؟ يا ترى؟
وذلك كله مع
بعد الشقة وشاسع المسافة برا وبحرا وعزة أسباب التعارف لذلك السبب. والقيروان
جاءتها كذلك من أروبا ومن ملوك السودان ومصر غرائب الهدايا والحيوان مثل الزرافة
والفيل. وكلما طال الزمن على المصنوعات كانت أكثر غرابة وأغلى ثمنا لتبدل الأذواق
والعوائد وميل أرباب الصنائع إلى ما يناسب العصور الجديدة ، فيعز نظير القديمة مع
الحاجة إليها لمعرفة الدرجة التي انتهى إليها العقل وملكة الصنع في الأزمان
الغابرة. وهي كما قال المويلحي خبر صادق ولسان ناطق ، تخبر بالعبر ، وتحدث عمن
عبر. أما الصور فأمرها قديم وكانت في المنسوجات الفارسية في صدر الإسلام ويرسمونها
في جدران المنازل. وكان منها في بيت الإمام مالك وعند ما نبهه لها بعض تلامذته
أزالها بما يشعر باتخاذ غيره لها جريا على المتعارف. وعبيد الله بن زياد كانت له «البيضاء»
دار عمرها بالبصرة ، ولما تم بناؤها دخلها أعرابي وكانت فيها تصاوير ، فقال في
شأنها رأيت فيها أسدا كالحا وكلبا نابحا وكبشا ناطحا. ولا يخفى ما في وصفه كل
حيوان بالوصف الحقيقي من الرقي لشدة إتقان تصويرها حتى يخالها الناظر تعمل أعمالها
الطبيعية. وفي جامع بني أمية بدمشق صور المدن والأشجار بالألوان والذهب. وخمارويه
بن أحمد بن طولون بنى مجلسا في القرن الثالث سماه بيت الذهب ، طلى حيطانه كلها
بالذهب وجعل فيه مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب ، معمولة على صورته
وصور حظاياه ومغنياته بأحسن تصوير وأبهج تزويق ، ولونت أجسامها بأصناف أشباه
الثياب من الأصباغ العجيبة ، ومن بينهن حظيته بوران التي بنى هذا البيت لأجلها
وصورها فيه بجانب صورته فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا. والآمر بأحكام الله
صور الشعراء وبلدانهم في بعض منازله ، وكتب شعر كل واحد منهم عند رأسه وجعل
بجانب كل واحد منهم رفا لطيفا ، وأمر أن تحط جائزة كل واحد على الرف المجاور له
ويأذن للشعراء بالدخول ليأخذ كل منهم جائزته بيده. وكانت للفاطميين بمصر مجموعات
من الصور الآدمية والوحشية مجسمة في خيام خاصة مفروشة بالبسط الأندلسية.
والأندلس قال
ابن خلدون في شأنهم ما مضمونه : إذا كانت أمة تجاور أخرى يسري إليها منها في
التشبه والاقتداء حظ كبير ، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة ، فإنك
تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم
التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت.
وكانت
للعبيديين في القاهرة من جملة أثاث المنزل أشكال الصور الآدمية والوحشية من الفيلة
والزرافات ونحوها ، معمولة بالذهب والفضة ، مكللة بأنواع الحجارة الكريمة من لؤلؤ
وياقوت وزبرجد ، وبعض الحيوانات من عنبر معجونة كخلقة الفيل وناباه من فضة وعيناه
جوهرتان كبيرتان في كل منهما مسمار ذهب وعليه سرير منجور من الزرد بمتكئات فضة
وذهب ، وعليه عدة من الرجال ركبانا وعليهم اللبوس تشبه الزرديات ، وعلى رؤوسهم
الخود وبأيديهم السيوف المجردة والدرق وجميع ذلك فضة. وصور بعض السباع منجورة من
عود وعيونها من الياقوت الأحمر وهي على فريستها. إلى غير ذلك من المصنوعات الظريفة
والتحف اللطيفة. وعبد الرحمان الناصر بالزهراء جلب حوضا من الشام منقوشا بتماثيل
نصبه في مجلسه المعروف بالمونس ، وجعل عليه اثني عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصعة
بالدر النفيس مما عمل بدار الصناعة بقرطبة ، وصورة أسد إلى جانبه غزال إلى جانبه
تمساح ، وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل ، وفي الجانبين الآخرين حمامة وشاهين وطاوس
ودجاجة وديك وحدأة ونسر من ذهب مرصع بالجوهر النفيس يخرج الماء من أفواهها. ذكر
جميع ذلك أشهر المؤرخين وعمدة رواة الأخبار بما يدل صريحا على أن عوائد الأمم من
فارس والروم والإفرنج فاضت حتى في صدر الإسلام بموجب المجاورة والامتزاج والتقليد
وغمرت المسلمين فخاضوا في ضحضاحها الذي بللهم قليلا. وبقطع النظر عن هذا كله
فالمسلمون قد جاروا غيرهم واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر في طرق
الحضارة المألوفة ولذات الحياة المرغوبة.
فوائد النظر في الآثار وتأثيرها على الناظر
إذا كان من أهل الذوق والاعتبار
يرسل الفكر
بأشعته على المجتمع البشري وأنواع الحيوان وعظيم الهياكل وبدائع المصنوع وأقسام
الطبيعة البادية على وجه الأرض ، فيتجلى له من اختلاف العناصر وتباين الطبايع
وعظيم الهياكل وبدائع المصنوع ما يندهش به لأول مرة. ثم يرجع البصر كرة أخرى فيجد
الإنسان نفسه ضئيلا قليل العمل وصغير الجرم أمام ما صنعه البشر قبله ومن بين
مخلوقات الله. وعند ما يعسر عليه فهم دقائق العمران وفوائد ما في عالم الكون وتخفى
عليه بعض الأسرار وكثير من أسباب الرقي والانحطاط والاندماج والانقلاب فلا يجد
نظرا يضاعف به نور التفكر ومرآة يكبر بها الأشياء البعيدة ، وكهرباء يكشف بها ما
خفي من بواطن الأمور وقطارا يسرع به إلى رياض النفوس ومجاني الأدب غير أنواع
المعارف. فإذا كان الإنسان ضحى فيها زمنا طويلا ، وبذل مالا جزيلا ، وأرهف فكرا
صقيلا ، فقد حان له نيل المبتغى والتبريز في إظهار مكنونات الفوائد ، وحل نكات
الفرائد. وفي هذا الدور يأخذ في إفادة النوع البشري ويصير حيوانا راقيا مفيدا حيث
كان مفكرا وعاملا. وأول ما يبدأ به في زمن العمل هو تقليد من سبقه واتباع أعمال من
سلفه ، وللبيئة التي خلق فيها والجامعة التي فتح بها بصره تأثير خاص على ذوقه.
ومتى كان واسع الفكر وصحيح العمل تجاوز بمراده ما فوق المعتاد ، وتشوق إلى اختراع
ما وراء المعروف. وأحسن ما يستعين به على توسيع المعلومات هو الإبعاد في الأسفار
والتأمل من مجموعات الآثار ، فهي التي تتجلى بها عظمة قدرة الخالق وإجادة صنع
المخلوق وما أملاه نور العقل الذي هو النعمة العظمى المميزة للإنسان على ما فوق
سطح الأرض ، وما دبرته النفوس الكبيرة وأملته على أنامل الأيدي البشرية فأجادت
رسمه وشكلته حسب الإيحاء صنعا بديعا ، وولدته ثمرة مفيدة وأبدته نتيجة صالحة في
الحياة الدنيا بتصرفات تلك الأنامل الضعيفة في الحيوان والنبات والمعدن. ولكل عصر
معلومات خاصة وصنايع معلومة
ودرجة معروفة ينتهي إليها علمه ، والعصر الموالي له ربما زاد حلقا في سلسلة
المعلومات والمصنوعات شأن الرقي المأخوذ في مفهوم عمران الكون إذا كان ذلك الجيل
الموالي حيا بمعنى الكلمة. كثيرا ما يهزأ الآخر بالأول «ولا استخفاف المعاصر
بالمعاصر» ويستصغر عمله ويستضعف نتيجته مع أن للأول العذر إذ العلوم لا تتناهى ،
وله أيضا أكبر فضل في إيجاد الأساس الذي بنى عليه من بعده ، وهو أمر لا بد منه. كما
أن بعض الأجيال ربما شمخت ، وبمعلوماتها وما أبرزته بمجهوداتها تعاظمت. وظنت أن لا
سبيل لمن أتى بعدها في الزيادة على ما بلغت. وهذا غلط ينكر وإعجاب يذم ، إذ العقول
لا تقف عند حد. وفي الإمكان أبدع مما كان. والتناهي في أعمال البشر عجز. والتجبر
بمثل هاته الأوهام ضعف في العقل وتعرض لمحاربة الدهر. وهو كما علمت أبو العجائب (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).
كثيرا ما ينطبع
في مخيلة المستفيد من الأسفار والآخذ من محاسن أعمال الأجيال الأولى ومخترعات
الأمم المعاصرة ما يجيد به مصنوعا جديدا جامعا من محاسن أعمال المتقدمين
والمتأخرين ، فينشر ذلك في القطر وتزداد إجادته في ذلك العصر ويصبح أثرا معلوما
خاصا بأبناء الجيل ينبئ على منتهى علمهم وغاية مقدرتهم وما بلغوه في حياتهم. كل
ذلك في المصنوعات وشئون الفلاحة وأسالب التجارة ونظام الإدارة وصناعة التعليم
والتأليف واللباس والرياش والعوائد. هذه كلها بعض نتائج الأسفار وديار الآثار.
منزلة الآثار من الإنسان في معترك الحياة
من الناس من
تأخذ بقلوبهم وأعينهم المناظر الطبيعية كالجبال والأنهار والبحار.
ومنهم من يعشق
المجموعات الأثرية وغرائب المتاحف ، ولكل نوع من ذلك لذة بالحواس ومكان بالفؤاد.
ولإدراك المصنوعات العتيقة بقدرة الخالق ويد المخلوق ذوق خاص وملكة جيدة لبعض أناس
وقفوا بها على دقائق في ضمن تلك المصنوعات البديعة فيقدرونها حق قدرها ويتأثرون
عند مرآها فيعظمون الصانع ويعتبرون بالمصنوع. وربما حقرت هاته النفائس في أعين
كثير من الناس ونبت عنها أبصارهم
وأهملت في مرابطهم فأضاعوا ما بها من المعاني وهم لا يعلمون قيمتها ، فإن
داموا على ذلك اضمحلت حياتهم وهم لا يعلمون كثيرا من غرائب المخلوقات وعجائب
المصنوعات ، وبدائع المخترعات وأسرار الكائنات. وإن تعاطوا النظر وتأملوا إما
باختيارهم أو بأن ساقهم القدر إلى مخالطة بعض رجال هذا الفن وشاركه في العمل ، جرت
في عروقه وتسربت إلى فؤاده منزلة هذا الفن العذب. وأصبح من عشاق النظر ، وما في
ملكوت السموات والأرض من إبداع الخالق وتقليد البشر.
وحصلت له ملكة
في التأمل والتدقيق وأحب علوم الخط والنقش والتصوير والموسيقى ، وصار ممن يميز بين
جيدها ورديئها ويرجع بها لحسن الملكة إلى تعيين أقطارها وأعصارها.
وبات من
الباحثين المنهمكين وممن تلذ لهم إجالة البصر فيما أبرزته يد القدرة والعقول
المتنورة والأنامل البارعة والأفكار المتسعة.
المسلة المصرية في باريز
أكبر أثر شرقي
في باريز هو المسلة المصرية الكبرى «السارية المربعة» ، في بطحاء كونكورد «الوفاق»
شمال نهر الساين والقنطرة المسماة باسم هاته البطحاء المتسعة ذات الأحواض المائية
والشوارع العظيمة المرتبطة بجنباتها والبساتين الممتدة بساحاتها.
فبالشرق بستان
لاتويلري الفسيح ، وبالغرب شانزيليزي وبالجنوب القنطرة المؤسسة سنة ١٧٨٧ ـ ١٧٩٠
وبالشمال كنيسة مادلاين. والمسلة قائمة في وسط ذلك الفضاء الشبيه بالصحراء في
الجانب الغربي من باريز فتلك المسلة أبت إلا أن تكون مثلما كانت برمال مصر في قفر
بطحاء موحشة ، يرجع تاريخها إلى أواسط القرن الثامن عشر وكان بها تمثال لويس
الرابع عشر. وكانت تسمى باسم لويس الخامس عشر ومات بها خلق في عرس لويس السادس عشر
، وقتل بها هو وزوجه في أواخر القرن الثامن عشر. سلكتها غير مرة وموقعها تطؤه
أقدام غالب سكان المدينة وتقع عليه أبصارهم ، وهي طريقهم إلى غابات بواد بولونيا
غربي المدينة ، فاستوقفتني تلك المسلة الغريبة (والغريب إلى الغريب نسيب) وتأملت
في الكتابة المصرية العتيقة
«هيروكلوف» بالصور حفرا في ذلك العمود الحجري الذي ارتفاعه يقارب الخمسين
ذراعا ، فتشعبت أمامي في تلك اللحظات مذاهب العجب وعجائب الدهر كثيرة من صناعها
الذين قطعوا هذا الجلمود وقدروا على نحته وحمله من مقطعه وإيصاله إلى هيكل طيبس
بمصر. ومن وصولها سالمة من وراء البحار عند ما أهدها محمد علي إلى لويز فيليب الذي
خصص لها بعد أن وصلت إلى الإسكندرية ، على طريق النيل في مركب شراعي ، سفينة سميت
باسم المسلة «لوكسور» حملتها إلى طولون في أوت عام ١٨٣١ وأقيمت باحتفال عام ١٨٣٦
في مكانها الحالي فتجدد لها عمر جديد في أروبا وتاريخ حديث في فرانسا بعد أن أقامت
بقطر الفراعنة نحو ثلاثة آلاف سنة.
فهي كالروح على
مذهب القائلين بنقلها في الأجساد البشرية في عصور مختلفة وأقطار متباعدة لتعود
عالمة بكل خفية ، وتصير سامعة بما لم تسمع. كما عجبت من الصور والخطوط المرسومة
بها واختلاف أذواق البشر في طرق الكتابة ، واشتقت إلى كتاب شوق المستهام إلى معرفة
رموز الأقلام لأحل به معمى الكتابة. ومن الأسف أن هذا الكتاب لم ينشر إلى الآن بين
أبناء العربية. ونص ما قاله محمد رشدي المصري في شأنه بمدنية العرب عام ١٣٢٨ :
الكتابة القديمة
قد سبق العرب
علماء أوربا في حل رموز الخطوط القديمة وترجمة كتبها إلى اللغة العربية ، ولا أخال
أن أوربا ما توصلت إلى حل رموز الآثار والوقوف على علوم من سبق من الأمم إلا
بواسطة كتب العرب وترجمتها إلى لغتهم ، فمن ذلك ما رأيته بعيني وطالعت فيه بنفسي
وهو كتاب شوق المستهام إلى معرفة رموز الأقلام لأحمد بن وحشية النبطي المتوفى سنة
٣٢٢ هجرية. فإن مؤلفه جمع فيه صور الخطوط القديمة التي تداولتها الأمم الماضية
وترجمها جميعها إلى اللغة العربية ، ووضعها بطريقة يسهل للمطلع عليها أن يترجم ما
على الأثارات من الكتابة على اختلاف أنواعها إلى اللغة العربية في زمن لا يتجاوز
الساعات عدا. ودليلي على ذلك درسي في هذا الكتاب أربع ساعات.
في أربع ساعات
بعد وقوفي على
هذا الكتاب ودرسي إياه في زمن لا يتجاوز أربع ساعات ، أمكنني أن أترجم من
الكلدانية القديمة إلى العربية وأكتب بها وبالعكس أيضا ، ومن اليونانية القديمة
إلى العربية وبالعكس أيضا ، وقس على ذلك باقي اللغات المدونة به بدون سابق معرفة
لي بإحداها أو سؤال معلم فيها. فرحم الله هذا العربي الذي سهل لمن يأتي بعده من
الأمم طريق الوقوف على أسرار من مضى ، وهنيئا لعلماء أروبا الذين ترجموا هذا
الكتاب إلى لغتهم ، فقد ترجمه الأنكليز منذ مائة وعشرين سنة ووقفوا بواسطته على
آثار الأمم الماضية وعلى تاريخ حياتهم وكذلك باقي طوائف أروبا.
فأعمال
المستشرقين ووقوفهم على حل رموز الآثار ما هي إلّا نتيجة بحثهم في هذا الكتاب
ووقوفهم عليه وإخفائه عنا حتى لا نسبقهم فيه.
تروكاديرو
قصر بني سنة
١٨٧٨ في ربوة غربي نهر الساين له صومعتان ارتفاع ٧٠ م ، وشرقيه بستان لطيف به صور
كبرى معدنية لبعض الحيوانات. وفي القسم الشمالي من القصر صور مجسمة كبرى وبعض صور
دهنية.
لوكران بالي
وفي بالي قصران
متقابلان بهما صور كثيرة يقام بهما معرض في الربيع وآخر في الخريف لنتائج أعمال
الرسامين من أطراف الأرض ، وهما بشمال القنطرة الجديدة التي على نهر الساين
المسماة باسم قيصر الروسيا إسكندر الثالث غربي وزارة الخارجية ومجلس الأمة. وكم
أخذت من أمثلة تقليدا لما بالمملكة التونسية من بناءات ونبات وإنسان وحيوان
وبالأخص من القيروان ، حازت قصب السبق في معارض التقليد الدهني بذينك القصرين وفي
غيرهما. ونال بعض الرسامين من
ذلك مالا ذريعا. والمملكة التونسية في معرض ممالك القارة الإفريقية. ومدينة
القيروان في مجموعات العواصم والمدن الشهيرة ، مما يرغب البشر في سكناهما ، والعين
أن تراهما.
المعابد والملاجي
المعابد في
فرانسا كثيرة ومنتشرة في المدن والقرى ، وهي في أطراف المملكة ، والمداشر الصغرى
أكثر عمرانا وأوفر عبادا وغالبهم نسوة طاعنات. ولا مجادلة أو انتقادا أو كراهية
تظهر من السكان لذات الشخص لمجرد صبغة الإسلام ، فهو يؤدي واجباته الدينية بسهولة
مثلما بالمملكة التونسية ، ويتجول في جميع البقاع ويحضر سائر المجامع ويدخل
الكنائس بدون مانع ، وقد دخلت بعضها وبالأخص العتيق منها لمجرد الاطلاع على الذوق
في البناء ، والإبداع في الزخرفة والتفنن والنقش والعناية بهياكل الدين.
والمسيحيون أنفسهم يدخلون لمثل هاته الغاية فقط ، ولم أر أدنى معارضة في الدخول
للكنائس بجميع جهات فرانسا لما يعلمون أنه لا يخطر بالبال أدنى ازدراء أو إهانة
بمحلات العبادة.
أذن سيدنا عمر
بن عبد العزيز للوفد المسيحي الذي قدم من الروم إلى دمشق بدخول المسجد الأموي لما
كان المراد الاعتبار بقوة بنائه وإبداع هندسته.
نوتردام
دخلت كنيسة
نوتردام الرفيعة السماك الشاهقة الصوامع البديعة النقوش ، وهي في جزيرة بنهر
الساين وعهدها قديم ، غير أن التجديد الذي بقي له ذكر هو ما كان بمناسبة حضور أحد
بابوات رومة سنة ١١٦٣. وطولها على ما ذكروا ١٣٠ ميترو وعرضها نحو الأربعين
وارتفاعها نحو ٣٥. وبنوافذها كثير من البلور الملون وبها ثريات نحاسية حسنة ، بها
الشموع البيضاء ويتردد الزائرون بكثرة على هذا البناء القديم الذي رأيت به بعض
نسوة طاعنات عابدات.
كنيسة مادلاين
يصعد إليها
بدرج وشكلها الخارجي كبناءات الرومان ، وشديد الشبه بالبيت المربع الروماني في نيم
المسمى لاميزون كاري. بني هذا المعبد لوي الخامس عشر عام ١٧٦٣ م وجاء شمالا من
بطحاء كونكورد ، وبينها وبين تجديد البابا لكنيسة نوتردام ستمائة سنة تماما. عزم
نابليون على جعلها مدفنا لمشاهير الرجال ثم تمحضت كنيسة في أواسط القرن التاسع عشر
الميلادي.
(الملاجي)
قبر نابليون أو قصر ليزانفليد
نابليون
بونبارت من رجال الدنيا ونوادر الأجيال وفلتات الطبيعة ، بما له من قوة الجأش
واتساع الفكر وخصال الكمال. أضاء نجمه على القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، وكلما
زادت الأيام بيننا وبينه بعدا إلا وازداد عدد الألسنة الناطقة بالثناء عليه
والآذان لسماع نوادر أخباره ، والأقلام لتدوين سيرته وضرب الأمثال به. وكان من
سياسته أنه لم يضر بالمتوظفين السابقين ، نعم وظف كثيرا من أخصائه فأرضى سائر
الأحزاب. كما أنه لما ولي شارك الأمة معه في تدبير المملكة ، لأن الفرنساويين
يحبون المساواة ، فأنتج له اعتبار نفسه واحدا من الأمة أن صارت تخضع له الملوك. وهكذا
العصبية وقوة الجماعة تزيد في حيثية المتوظف إن لم تكن أساسا لرقيه. والحصول على
العصبية وامتلاك القلوب لا يتأتى إلّا بحسن الخلق والحلم وصفات الكمال التي يهبها
الله ويوفق إليها من أراد له السيادة من الرجال.
أما البناء
الذي صار له قبرا فيسمى ليزانفليد ، بني في أيام لويز الرابع عشر في أواخر القرن
١٧ وجددته عدة ملوك ، وصار ملجأ لعجز كبراء العساكر ، وانتشر ذكر هذا القصر بضمه
لرفاة نابليون الأول الذي أعجزه الدهر بعد أن غالبه ، غير أن :
كل امرء
بمحال الدهر مكروب
|
|
وكل من غالب
الأيام مغلوب
|
فاستوطن بهذا
القصر إلى الأبد ، وكان محبا للعساكر ومحبوبا عندهم ومتواضعا معهم ، فكأنه أحب أن
لا يفارق منازلهم بعد وفاته ، وأن يشاركهم في الأسى الذي خيم على أهالي ذلك القصر
، فهم يصبحون ويمسون ذاكرين لعظيم الهمة ورجل الدهر في عصره نابليون الأول ،
فيصغّر ذكره في أعينهم حالة الدنيا ، كما يسلي ويخفف من ويلات أولئك الأبطال مثل
أمر ذلك الفاتح الكبير الذي مزق أشلاء ممالك الأرض وداس أعز مواقعها بقدميه ،
وأخيرا قنع بمعيشة نكدة في جزيرة سانت هيلانة.
والنفس راغبة
إذا رغبتها
|
|
وإذا ترد إلى
قليل تقنع
|
وآواه عرض شبر
من التراب في قصر ليزانفليد الشامخ المتطاول بين قصور العالم ، بعد أن كانت
القارات على اتساعها وابتعادها تضيق عن الأشعة المنبعثة من كهرباء أماليه. قال
عبيد الله المهدي الخليفة بالقيروان ، وقد أوتي إليه برؤوس قواده في قفة لأمر بدا
له فيهم بعد أن وطأوا له أركان الخلافة ومكنوه من أطراف شمال إفريقيا ومهدوا له
سبلها «ويقولون المخزن والزمان ليس لهما أمان» ما أعجب أمور الدنيا ، هاته الرؤوس
ضاق بها المشرق والمغرب وحملتها هذه القفة!!. يفكر الإنسان في عظماء رجال العالم
عند ما يقف على قبر نابليون ويطول سكوته هناك وتهدأ أعضاؤه ريثما طائر الخيال يجوب
جو العالم أجمع ويحلق أحيانا ويرفرف على تراجم بعض رجال الدنيا ومحاربة الدهر لهم
، مثلما يحلق ويرفرف صاحب الطيارة على بعض البلدان لاكتشاف أحوالها أو ليبيض في
جوها. وأول ما يعترض الخيال أمر موسى بن نصير الرجل العظيم وما امتحنه به سليمان
بن عبد الملك في آخر عمره في ذريته وبدنه وماله. ثم ما امتحن به ابن عباد نادرة
الزمان وما كان يحق لمثله أن يهان ، إلا أن يوسف بن تاشفين ، وإن كان على جانب من
الدين ، غير أنه رجل حرب لا رجل سياسة. لذلك ارتكب يوسف بن تاشفين في قبول الوشاية
من المعتصم صاحب المرية محمد بن صمادح في مزاحمه ومعاصره المعتمد ابن عباد صاحب
إشبيلية ، ذنبا جسيما غطى جليل أعماله. ولكن ما أكبر مروءة ابن عباد في عدم
التنازل إلى الوشاية ضد عدوه الساقط المعتصم ، وما أعلى همته في اختياره بلاد رعي
الإبل
تباعدا عما ينافي الشمم. والوشاية إنما تروج عند سخيف الفكر ويتقبلها ضعيف
الإرادة. والأول يعتبرها صدقا متى لم يتدرب على أطوار وحقائق أبناء الدهر ولم
يتدبر عاقبة بطانة السوء. وهذا يحمل على الغفلة والتفريط. والثاني يداري بقبولها
أغراض حاشيته أو أقاربه ويجاملهم بما لا يعتقده ضميره وبحيث يستسلم لإرادتهم ،
وهذا يحمل على التغفل والإفراط.
ومن لم يطرد
الواشين عنه
|
|
صباح مساء
يردوه خبالا
|
شاهدت من
مجموعات القصر أو الملجأ أو قبر نابليون كثيرا من المدافع والرايات المأخوذة من
الأمم وعلى بعض المدافع كتابة عربية : هذا مما أمر بعمله الأمير المفخم جعفر باشا
أيده الله تعالى ٩٨٩ بتاريخ أوائل رمضان السلطان مراد الثالث «عمل المعلم جعفر».
وعند مبارحة
قصر نابليون قال لي صديقنا الدكتور قد زرنا رجلا قتل كثيرا وسنزور رجلا أحيى
كثيرا. ولما سألته عنه قال إنه باستور الطبيب ، فلاحظت له بأن هذا الكلام شعر.
وتلقيت إذ ذاك رسالة وردت لي من صديقنا الفاضل السيد صالح سويسي بها قصيدة دخلت
معي إلى بعض الأماكن التي اشتملت عليها أبياته وإشاراته ونص ما يخص قصر نابليون :
«ليزانفليد» كن إليه مسارعا
|
|
فدخوله قطعا
عليك تحتما
|
واقصد «لنابليون»
عند ضريحه
|
|
رجل الشجاعة
من به الملك احتمى
|
فلكم تفرقت
الجيوش ببأسه
|
|
ولكن أسيلت
من قواضبه الدما
|
رد الألوف
بعزمه لاكنه
|
|
بالعزم لم
يردد قضاء مبرما
|
مستشفى باستور
به مداواة مرض
الكلب وأمراض الجراثيم على اختلاف أنواعها وتتناسل به حيوانات التجربة. ولتربيتها
قواعد معلومة ومعيشة خاصة ودرجة من الهواء معينة.
دخلت الأقسام
المخصصة لها وشاهدت معيشتها وأعمالها. توفي باستور الذي استقر بهذا المستشفى بعد
أن نقل إليه أعمال الخدمة ١٨٩٥. وهو من عائلة بسيطة وقرأ على نفقة الحكومة ، ثم
استخدم معلما ولم ينقطع عن التعليم واكتساب المعارف التي أنفق على مباديها زهرة
شبابه ، وذاق مرارة الانقطاع وبعد الدار عن عائلته وأحبابه. ومن واصل السير وصل ،
ومن ثابر على ازدياد المعارف جل. وأخذ في التجارب في معمل الكيمياء ، وفعلا كان
بالآخرة عمودا وعمادا حتى اكتشف ميكروب تخمر الخل ، واطلع بأخذ الأهوية من البيوت
والشوارع وأعالي الجبال في قنينات وبتحليلها ، حسب قواعد الفن الحديثة ، على أن
الميكروب في البلدان أكثر منه في الجبال.
وعالج دود
الحرير الذي اعتراه الفناء ونجح في مداواته واقتدر على الأدوية المفيدة ضد فساد
الجراح.
يؤخذ من كلام
هبة الله الطبيب البغدادي المتوفى ٥٦٠ ما تفسد به الجروح من جراثيم الذباب وهو
قوله :
لا تحقرن عدوا
لان جانبه
|
|
ولو يكون
قليل البطش والجلد
|
فللذبابة في
الجرح المديد يد
|
|
تنال ما قصرت
عنه يد الأسد
|
واستمر خمس
سنوات في البحث عن دواء الكلب الذي يموت به كثيرون في فرانسا ولعل ذلك لكثرة
الامتزاج وتربية الكلاب ، ونجح في تجربة ذلك في غلام استغاثت به أمه لعلاجه من
جراحات كلب كلب في جويليه ١٨٨٥ ، فصار يوفر على فرانسا نحو مائة ألف نسمة
باكتشافاته المفيدة ، وتخرجت عليه فحول العلماء مثل الدكتور روا الذي اكتشف تطهير
الثياب من العدوى. قلت وقد قرر مجلس إدارة
المستشفى بالقيروان أخيرا إحداث بناء بجوار مستشفى ابن الجزار لتطهير
الثياب ولخصوص المصابين بأمراض العدوى ، من المال الذي جادت به همة مسيو بلان في
أوقات مختلفة وتوفر بفضل المناطة بهم شئون المستشفى ، ومتى نجز هذا البناء ولوازمه
صار مستشفى القيروان من أهم مستشفيات المملكة تنظيما ونفعا. وتأسيسه غير بعيد العهد
على يد كاتبه ، وابتدأت أشغال بنائه في شعبان وسبتامبر عام ١٣٢٦ ـ ١٩٠٨. كلفت بذلك
من طرف الكتابة العامة وحضر افتتاحه جناب المقيم العام الهمام المسيو لابتيت وجناب
الكاتب العام مسيو بلان ، وقام بأعباء أعمال المستشفى المراقب المدني المسيو
منشكور وبتنفيذ رغائب الدولة ومنافع الإنسانية حسب عادته في الأعمال الجليلة وحسن
المجاملة التي يشكره عنها البشر ويحفظها التاريخ. وقد نشرت جريدة الزهرة تحت عدد
١٨٣ المؤرخ في ١٥ ربيع الثاني وفي ٦ مايه عام ١٣٢٧ ـ ١٩٠٩ تفاصيل حفلة افتتاح
المستشفى في هذا الشهر ، التي حضرها المتوظفون والأعيان ، وخطبة المراقب المذكور
الذي أثنى على الطبيب القيرواني في القرن الرابع مدة المعز العبيدي ، وهو أبو جعفر
أحمد ابن الجزار. وأمل من العائلات المثرية بالقيروان الميل إلى تعلم فن الطب.
ورحم الله كشاجم إذ يقول في هذا الطبيب العظيم الذي بقي ذكره فخرا للقيروان تعترف
به سائر الأمم :
أبا جعفر
أبقيت حيا وميتا
|
|
مفاخر في ظهر
الزمان عظاما
|
سأحمد أفعالا
لأحمد لم تزل
|
|
مواقعها عند
الكرام كراما
|
وخطبة جناب
المقيم التي جاء فيها أن قدوم فرانسا أكسب المملكة الأطباء والمستشفيات وأن
الأوقاف أعانت بالمال على تأسيس هذا المستشفى الذي جاء بناؤه على ما يرام ، بفضل
السيد المقداد نائب الأوقاف الذي كان في إنجاز هذا المشروع من أنفس أعوان الحكومة.
وإن الكتابة العامة اعتنت بهذا المشروع ، فالمسيو روا خاطب جمعية الأوقاف بشأن
إعداد المال اللازم في أكتوبر عام ١٩٠٧ وفي الشهر بعده تولى المسيو بلان أمر هذا
المشروع إلخ.
كما نشرت
الزهرة قصيدة السيد صالح سويسي التي ألقاها في تلك الحفلة. ببيت قبر باستور صور
الحيوانات التي اكتشف أمراضها واستعان بالتجربة في بعضها وفيه كتابة معناها ،
الإيمان ، الرجاء ، العلم ، الصدقة. وكلها بقطع الحجارة الملونة. وجدت الطبيب
مانويليو الأرمني مشتغلا بخصوص جراثيم السل وأطلعني على زجاجة صغرى بمقدار طول
الخنصر وبها دواء أصفر ، وقطعة كأنها من البطاطس عليها حبوب صغرى بيضاء قال إنها
جراثيم السل. وعند ما قدمها لي كرر الوصاية في التحفظ عند مسكها ، قائلا إن الدواء
الذي بها مخطر جدا يمكن أن يقتل عددا يساوي سكان المملكة التونسية. سألته عن
الدواء النافع لهذا المرض هل أمكن الكشف عنه؟
فأجاب بأن
الحصول عليه لا يزال صعبا. قلت والأطباء يذكرون أن من أقوى أسباب أمراض العقل
والصدر بالسل الخمور. وأخيرا كتب شيخ مدينة ليون إيدوار ليريو والعضو بمجلس الشيوخ
بنهر الرون ما مضمونه : مرض السل يهجم على كافة البدن ومقاومه كالمصلح الذي يعاني
المشاق في شأن مملكته بجلب المصالح ودفع المضار وتقويم المعوج ، والله يعلم ما
يلاقي ذلك العاني. وفي أروبا قرروا انتشاره على النسبة الآتية فيموت بسببه في
العشرة آلاف كما يأتي :

وينقص في
فرانسا في العام نحو مائة ألف بهذا المرض الفتاك ، وربما كان من أسباب انتشار هذا
المرض وإعانته على هدم الهياكل البشرية شرب الخمر فهو كالبارود في قذف قنابل
الميكروب على البشر. وقد تنبهت الأمم العصرية إلى مضاره بعد أن عرفها الإسلام منذ
ثلاثة عشر قرنا ، فمتى يظهر تعميم تحجيره وإراقة هذا السم في الفلاة حتى تصح
الأجساد وتحفظ الأموال والعقول ، وتفرغ السجون وتقل الجرائم من
هذا العالم؟ قرروا أنه بكثرة الشرب للخمور تتفشى أمراض أخرى حتى تكثر العجز
في الأمة ولا يجدون مالا ولا مقدرة على العمل.
ذكر ابن ناجي
أن رجلا كافرا التزم دفع مال للمخزن يؤديه كل يوم أو في العام على أن يبيع الخمر
بالقيروان ، فخرج له الأمر بذلك ، فعمد إلى دار بالحومة المسماة الآن بالنباذية ،
سميت بذلك لبيع الخمر بها ، وكان يؤتى له به في البحر من صقلية إلى سوسة ، ثم يوتى
به في البر للقيروان. وكتب شيوخنا إلى السلطان بتونس في ابتداء الأمر فأبى أن يقضي
فيه لهم حاجة وسد الباب في وجوههم ، وقال هذه تونس وفيها الصالحون ، يعمل هذا فيها
، فأتى الشيخ إبراهيم بن عبد السلام المسراتي المتوفى عام ٧٠٤ إلى قبالة تلك الدار
وجلس هناك في الزقاق ، ويقال إنه كان يعمل الميعاد «حلقة الدرس» هناك وأكثر
الملازمة لذلك ليلا ونهارا ، فكان كل من يريد دخولها لشربه أو لشرائه من الناس يجد
الشيخ ومن معه من أصحابه هناك فيستحيي أن يدخل وهم ينظرون إليه فيرجع ، فتعطل
الدخول عنده لما ذكر.
والآن الدكتور
صانتشي السويسري في تلك الحومة نفسها بالقيروان يجمع المجالس وينشر فكر التباعد عن
الخمور التي حجرت بالجهات القبلية من المملكة ، وظهر أخيرا منعها أيضا في المغرب
الأقصى وذلك من حسنات الحكومة واعتنائها بمصالح وصحة بني الإنسان. في أثناء طبع
هذا الكتاب حجر قائد جيش الاحتلال الجنرال فيران بيع غالب أنواع الخمور إلى
المسلمين وشربها مدة أيام عيد الفطر ١٣٣٢ فكتب العبد بيتين نشرتهما جريدة الزهرة
بعددها ١٩٥٤ وشطرهما كثير من أهل الأدب والعلم ، وهما :
يا قائد
الجيش المصون ومن سما
|
|
بالسيف
والرأي المدبر للحمى
|
حرمت مسموم
الخمور بموسم
|
|
فاجعل بحقك
كل عصرك موسما
|
فأصدر هذا
القائد المنع لمدة الحرب الأروباوية التي شاركت فيها المملكة التونسية.
فنظمت أبياتا ٤
من البحر والقافية التزمت فيها الاكتفاء ، وهي تتضمن الثناء على
الحاكم العسكري وترجي المنع المستمر بالإشارة إلى التدريج في منعها بصدر
الشريعة وهي :
شكر البرية
صنع بطل أنعما
|
|
بالحرب للخمر
العدوة مثلما
...
|
لبيت يا سيف
الحكومة سؤلنا
|
|
والسيف أسرع
في الإجابة حيثما
...
|
قطع العلائق
للحميا صحة
|
|
وسلامة في كل
قطر كيفما
...
|
والمنع
بالتدريج سنة شرعنا
|
|
في تركها حال
العبادة ريثما
...
|
وكان كورش ملك
الفرس «قبل م» يعتبر الخمر سما ناقعا. وكان فرنسوا الأول في أوائل القرن السادس
عشر يحكم على السكيرين بالجلد وإذا عادوا فيصلم آذانهم.
وفي «البيان
المغرب في أخبار المغرب» لابن عذاري المراكشي : ولي إسماعيل ابن أبي المهاجر إفريقية
من قبل عمر بن عبد العزيز وأسلم جميع البربر على يده ، وكانت الخمر بإفريقية حلالا
حتى وصل العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز من التابعين أهل العلم والفضل
فبينوا للناس تحريمها رضي الله عنه. وعبد الله بن أبي حسان اليحصبي الفقيه
بإفريقيا الذي لقي مالكا وسمع منه ومات ٢٢٧ ، سأله زيادة الله بالقيروان عن النبيذ
فقال له كم دية العقل ، قال ألف دينار ، قال أصلح الله الأمير يعمد الرجل إلى ما
قيمته ألف دينار فيبيعه بنصف درهم ، فقيل له أنه يعود ويرجع ، فقال : أصلح الله
الأمير بعد كشفه سوءته وضرب هذا وشتم هذا. وكان أهل الكوفة يقولون من لم يرو هذه
الأبيات فإنه ناقص المروءة وهي :
أتاني بها
يحيى وقد نمت نومة
|
|
وقد لاحت
الشعرى وقد طلع النسر
|
فقلت اصطبحها
أو لغيري فأهدها
|
|
فما أنا بعد
الشيب ويحك والخمر
|
تعففت عنها
في العصور التي مضت
|
|
فكيف التصابي
بعد ما كمل العمر
|
إذا المرء
وفى الأربعين ولم يكن
|
|
له دون ما
يأتي حياء ولا ستر
|
فدعه ولا
تنفس عليه الذي أتى
|
|
وإن جر أسباب
الحياة له الدهر
|
وما خرجت حتى
ناجتني نفسي بما حدثوا به عن أبي يوسف يعقوب المنصور حفيد عبد المؤمن في القرن
السادس من أنه بنى في مراكش بيمارستانا عظيما في أعدل مكان وأكمل زخرفة ، وغرس به
الأشجار والأزهار وأجرى في بيوته المياه وبسط فيه الفرش النفيسة من صوف وكتان
وحرير وأدم. ويقال إنه خصص للمرضى لباسا في الليل ولباسا في النهار. وجعله عاما
للفقراء والأغنياء وأجرى لنفقة الطعام فيه خاصة يوميا ثلاثين دينارا عدا ثمن ما
جلب إليه من الأدوية ، كما أقام فيه الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال ،
وفي كل يوم جمعة بعد صلاته يعود المرضى ويسألهم عن أحوالهم.
مستشفى الصدقة بباريز
زرته ومعي
صديقنا الدكتور شايو الخصيصي في أمراض العين ، والقوم خير الناس لمسكين ويتيم
وضعيف. فوجدنا به عدة منازل متفرقة وبستانه فسيح وبه من الفروشات نحو ألف.
وأطلعتنا الآنسة الباريزية النشيطة ناظرته على المطبخ فرأينا بدائع التقاسيم
والتنظيم والنظافة والاستعانة بآلات البخار لتسخين بعض البيوت وآلات الثلج للتبريد
ببعض آخر. وهاته المخترعات مع الكهرباء أسرعت بالأعمال وقللت من أيدي العمال. رأيت
إداما أبيض يطبخون به مثل الشحم ذكروا أنه دهن نباتي أنفع من شحم الحيوان ، وأنه
المستعمل الآن في أطعمة الأروباويين مثل الزبدة.
حياة المدن وموقع باريز
يراعى في تأسيس
المدن ما يدوم به عمرانها ويسعد به سكانها وأول ما يعتني به :
١ ـ مواد
المعاش والشراب وسهولة تناولها وملايمتها. ٢ ـ ثم تحصينها من كل عادية وعدو. ٣ ـ ثم
تحسينها بالقصور الشاهقة والبطائح المتسعة والبساتين المظللة والبناءات المرتبة في
مثل الطرقات والأسواق وديار التمثيل وكل ما يرجع للمجتمع العام ، والنظافة
والتنوير. ٤ ـ ثم ترقية أدوات النقل راحة البشر وتوفيرا للوقت. ٥ ـ ثم إجادة
الصنائع. والتجارة بسائر البضائع لتتوفر الآمال لسكان المدينة بما يشترى منها مما
يعز وجوده في الضواحي وأقطار البساطة. ٦ ـ وأهم شيء لاستدرار الأموال بالمدن ترقية
العلوم والأمن وإعداد ما تتوفر به راحة الغرباء ، ويتطلبه منها البعداء ، فتتزاحم
الآمال على قصدها وتشد الرحال لساحتها وذلك هو عين الحياة للمدينة وطريق الثروة
وزمن الرفاهية ، فتأتيها إلى منازلها الرجال والأموال ، وتفوز في مكانها بجميع
الآمال.
١ ـ جمعت هذه
الصفات مدينة باريز فيمدها نهر الساين بالماء العذب ويسقي سكانها ، سواء منهم من
كان في شرقي المدينة أو وسطها أو غربيها ، وقد تقدم لنا في الكلام على مدينة ليون
أن الأنهار تعشق المدن في فرانسا وبينا أن ذلك من حسن الوضع والتدبر لها عند
التأسيس. أما ضاحية باريز فهي أراض جيدة للزراعة وبها الغابات والبساتين ، فمواد
الغذاء والوقد متوفرة وقريبة من المدينة.
قال المؤرخ
الخبير بطرق العمران ابن خلدون ما معناه : يراعى في البلد أن يكون على نهر أو
بإزائه عيون عذبة ثرة لتسهل على الساكن حاجة الماء الضرورية حيث وجوده مرفقة عظيمة
عامة. وقال : قد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو
أهم على نفسه وقومه ولا يذكر حاجة غيرهم ، كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن
التي اختطوها بالعراق وإفريقية ، فإنهم لم يراعوا فيها إلّا الأهم عندهم من مراعي
الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح ، ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا
الحطب ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف ولا غير ذلك كالقيروان والكوفة والبصرة
وأمثالها ، ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.
٢ ـ باريز
محصنة بسور وقلاع وثكنات العساكر في ضواحيها ، وموقعها علمي يسهل وصول كل الناس
إليه ، بخلاف ما لو كانت دونها قمم الجبال وخلجان البحار ، لكانت أشبه بمعقل حربي
فتضيق بالمقيم وتشق على المستطلع. وعلى كل حال فدرجتها بالنسبة إلى سطح البحر
ليتها كانت بمكان أرفع ، وفي خبايا جبال أمنع لما علم من أن ارتفاعها نحو الأربعين
ميترو فقط وأن هواءها متغير وربما كان راكدا ثقيلا يصعب معه التنفس.
٣ ـ غير أن
التحسين بلغ فيها حدا من العناية لا تدركه عواصم الممالك فيما بلغنا وتحدث به
الغرباء الذين عرفناهم فيها وأقروا بمنتهى نظافتها وإبداع تنويرها وارتفاع قصورها
وإحكام هندسة بناءاتها. وصرح إيفل أو صومعة باريز سما على جميع بناءات العالم ،
وبلغ ارتفاعه إلى ثلاثمائة ميترو ، ويذكر ناظره بمضي مائة سنة عند تأسيسه ١٨٨٩ على
الثورة الكبرى والجمهورية الأولى لفرانسا التي كانت سنة ١٧٨٩ ، وبه ثلاث طبقات
يصعد إليها برافعة وبفرنكات ٣ معدودة.
وللسيد صالح
سويسي :
فالصرح مد
إلى الكواكب كفه
|
|
فصبا عطاردها
إليه وسلما
|
أوحى لإيفل
علمه أن ابن لي
|
|
صرحا يكون
على العلوم مترجما
|
لم نر عند
الصعود إليه أطراف المدينة لتكاثف دخان الماكينات وركود الغيم على جوها ، حيث يد
الهواء بالمد ضعيفة في جو باريز وبالقصر قوية في أرضها على ما ذكروا. أما التنفس
فهو ثقيل بهاته المدينة القاهرة كثيرة النفوس والأنفاس ، ولكن تتسلى حاسة الشم
هناك بما تتنعم به فيها بقية الحواس. يساوي هذا القصر في الارتفاع مئذنة دلهي
بالهند التي حدث عنها المؤرخون قديما ، فقد نقل صاحب مسالك الأبصار في أخبار ملوك
الأمصار عن أبي بكر برهان الدين بن الخلال أن في مدينة دلهي بالهند الجامع المشهور
المئذنة ، التي ما على بسيط الأرض لها شبيه في سمكها وارتفاعها ، وعلوها ستمائة
ذراع في الهواء ، والهند والصين لهما الحضارة
الغريبة منذ آلاف من السنين. بلغني أن المخابرة تجري بين أعلى الصرح وبين
بحيرة تشاد في دواخل الصحراء الكبرى بسودان قارة إفريقية بواسطة التلغراف اللاسلكي
في مدة ست ساعات. أما المغرب الأقصى فالحديث معه فيه ، أسهل وأقرب من احتلال
أراضيه. لما لأمة فرانسا من البراعة في العلوم والتقدم بين الدول في الفنون ،
وكانت سرعة المخابرة بواسطة البناءات الرفيعة معروفة ومستعملة في شمال إفريقيا
وسلطنة القيروان.
قرروا أن
إبراهيم بن أحمد بن الأغلب لما ولي إفريقية في سنة إحدى وستين ومائتين بنى الحصون
والمحارس على ساحل البحر ، حتى كانت توقد النار من مدينة سبتة إلى الإسكندرية فيصل
الخبر منها إلى الإسكندرية في ليلة واحدة وبينهما مسيرة أشهر.
والبساتين
والرياض في المدينة كثيرة منها شأن زيليزي والتويلري ، والأول غربي بطحاء كونكورد
والثاني شرقيها. وبستان مجلس الأعيان وأكثر ما رأيت فيها الصبيان يمرحون بعدا عن
المزاحمة بالطرقات وخطرها. والطيور في هاته البساتين تألف المتجولين لإحسانهم لها
، ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا. تراهم يمدونها بالمطعومات فتتلقفها هذه من أيديهم
ولا يتعرض لها كبير أو صغير بأدنى أذى :
تسقط الطير
حيث تلتقط الح
|
|
ب وتغشى
منازل الكرماء
|
وأكبر البساتين
ما كان غربي المدينة ويسمى بواد بولونيا. وهو غابة عظمى بها بحيرات وطرقات بعيدة
الغاية يقصدها أغنياء باريز في العربات على اختلاف أشكالها وأنواعها ، ومشيا على
الأقدام للتجول في رياضها بأكمل زينة وأحسن هندام واستنشاقا للهواء النقي. وأما
محلات جلوسهم ومجامعهم ليلا فديار التمثيل ، التي سيأتي الكلام عليها في فصل خاص ،
والقهوات الكبرى ، ومن بطحاء اللبيرا وقهوة السلم «كافي لا باي» وشارع الطليان إلى
شارع مونمارتر وكافي روايال ، التي هي مجتمع المشارقة ، يستمر التجول والسهر غالب
الليل.
حادثني رجل
روسي وظيفه قاضي صلح في بلده ومعه زوجته ، وكان ينزل معنا في أتيل دوفمي في شئون
باريز ، وإعجابه بما رأى فيها مما لم يعرفه في مملكته أو غيرها ، وحادثتنا امرأته
في عوائد المسلمين رعايا الروسيا من ضرب الحجاب في خارج منازلهن ، وأنهن في راحة
كبرى بداخل المنازل ، وسيأتي بسط خبر وسمر هاذين الزوجين عند الكلام على خلق
الفرنساويين وخلقهم.
ديار التمثيل والملاهي في باريز
التمثيل يصور
التاريخ وينشر الآداب ويحيي اللغة. واستحضار الصورة الغريبة له تأثير في ذوق
اللسان العربي وترتاح له النفوس وتوده ، والمسألة التاريخية إذا شكلت على ما يوافق
مجاري الأخبار ، ويناسب الأطوار ، استلفتت الأنظار وعلقت بالأفكار ، وكانت ادعى
إلى التدبر والاعتبار. ولا أعون على علوق المسائل التاريخية بحافظة طلاب هذا العلم
، وبالأخص تلامذة المكاتب ، غير تمثيل الوقائع التاريخية الصحيحة بأسلوب أبعد عن
الهزليات وأرقى عن الوهميات. وإذا وضحت المسائل الكبرى سهل ربط حلقاتها في الفكر
وأمكن إلحاق فرع كل موضوع بأصله. اعتنى الأروباويون بديار التمثيل للغاية التي
ذكرناها ومحاربة النقائص ونشر الفضائل. وأصل التمثيل عندهم للاحتفالات الدينية في
القديم ، وتمثيل القسيسين هيئة القصص الدينية وتقريبها للعقول عيانا كإظهار بعض
الصبيان بلباس مخصوص كأنهم ملائكة ، أو بعض أشخاص يوهمون الناظرين أنهم القدماء
المذكورون في القصص التي يلقونها في الكنائس ، ثم ترقوا في ذلك لإقبال الناس على
المحسوسات حتى مثلوا الجنة والنار وغير ذلك. ثم كتب جان بودال ألعاب صان نيكولا ،
وهي تمثل بعض أدوار الحروب الصليبية في القرن ١٢. ثم راجت صناعة التمثيل الديني
والفكاهي واعتنى به الكاردينال ريشليو وأسس له جمعية. وفي باريز كثير من هذه
الديار ، وكذلك في بلدان المملكة ، وقد قدمنا أن القرى بفرنسا لا تخلو من محل
للتمثيل ومكتب ومعبد ومستشفى ودار آثار.
ترددت في باريز
على عدة ديار منها ، والمسافرون في كل واد يهيمون ، فولى
بيرجاير : بشارع ريشار مثلوا به ليلة حضوري عدة أساليب من اللباس والغناء
والرقص العربي. الأبرا : حضرت التمثيل بقصر الأبرا الشهير وكانت الرواية تسمى «لو
أن كرين» بها ثلاثة فصول ، والشعر والألحان من تأليف ريشارد فانيار الألماني ،
ترجمه إلى الفرنساوية شارل نويتار. وأصلها حكاية الفارس الأبيض شخصت عام ١٨٥٠ في
فالمار بمناسبة احتفال بالشاعر كوت بنجاح باهر بعد أن رفضت في التشخيص وزهد فيها
عدة سنوات. وهكذا الأمور في مباديها تنبت على أديم الزهد وتحت أشعة الازدراء ،
وليس لنجاحها إلا ماء الثبات وعزيمة الصبر. وعام ١٨٨٧ ـ ١٨٩١ شخصت في فرانسا
واحتقرت في أول الأمر وقوبلت بالصفير عند الشروع في العمل ، ثم أعقب ذلك قبول
العموم في باريز وغالب مدن أروبا وأمريكا وترجمت إلى كثير من اللغات بصفة خارقة
للعادة في الإقبال والولوع بها.
اعتبر المؤلف
أن «لو أن كرين» أحد الآلهة «على عادة الأمم السالفة البعيدة عن التعاليم الإلهية
الحقة» نزل إلى الأرض في صورة رجل باحث عن امرأة لا تسأله عن اسمه ولا من أي جهة
أتى ، غير أنه يلزم أنها تحبه محبة عمياء بلا شرط ولا يريد إظهار مقامه العالي
للمرأة حتى تكون المحبة منها غير معللة. كما يريد من جهته أيضا أن يكون محبا
ومحبوبا في آن واحد بلا سبب آخر غير الحب. ولبعض أسباب طرأت على المرأة في ملأ من
الناس صاحت كأنها مستغيثة فظهر بعض الشيء من ألوهية لو أن كرين فخالج الشك بعض
الناس في ألوهيته وحقره قوم وحسده آخرون ، وامتدت هاته الأسحبة على أديم المرسح
البشري حتى بلغ ظلها قلب المرأة نفسها فلاحظ لو أن كرين للملأ بأنه لو عرفت
المخلوقات حقيقته لعبدته أو على الأقل لم يهن. وبالإخارة أوضح لهم حقيقة أمره ورفع
ستار الشك عن تمثيل الحقيقة ، وزالت ظلمات السحب ببرق الكهرباء ففارقهم وطوى بساط
أمره ولسان حاله ينشد «الطلاق والانطلاق».
أطلت في شرح
هاته الرواية ليعلم أن أوهام الأمم السابقة وخرافاتهم تتجدد قصصها ويلذ سماعها حتى
في أدوار الحضارة. كانت الأبيرا مفعمة بالأغنياء والغانيات ، وبها ترى الحلل
الفاخرة والمصوغ النفيس على نساء باريز. بنات العائلات الكبرى وزوجات الأغنياء
وصاحبات المال والجمال يرفلن في الديباجيات ، وقد
ظاهرن بين المصبغات التي ينطبق عليها قول الشاعر :
كأذيال خود
أقبلت في غلائل
|
|
مصبغة والبعض
أقصر من بعض
|
وكما قال
الأديب الشريف السيد صالح سويسي في قصيدته التي أرسل لي بها في باريز :
يرفلن في حلل
الحرير ترفها
|
|
ويمسن
كالأغصان في ذاك الحمى
|
فالجفن ريشت
للقلوب نباله
|
|
ولكم أصاب
مقاتلا مهما رمى
|
والمرأة في
فرانسا هي كل شيء ولها كل شيء ، فالجوهر والحرير والزينة وإن شئت قلت المال للمرأة
، والاحترام للمرأة ، والتقدم للمرأة ، والفؤاد للمرأة ، والمنزل للمرأة ، ونفوذ
الكلمة للمرأة. والحرية للمرأة إلخ وبالجملة فمن لم يحضر التمثيل بالأبرا لم يعرف
درجة الاعتناء باللهو والانهماك فيه والاحتفال بمجامعه في باريز.
يذكرون أن
الموسيقيين هناك من أبرع أرباب الصناعة وكذلك الممثلات ، وفعلا ترى لهن حركات في
المرسح غير مألوفة ولا سهلة العمل ، حتى يتخيل لخفة الأجسام وتنوع الحركات
والانفتال والجري على أطراف الأصابع وسرعة الدوران أنهن طائرات سابحات في فضاء
واسع تمدد أطرافه وتفسح مجالاته ، وتستحضر مناظره الطبيعية سيمياء الستاير الملونة
بالأدهان ، وأنامل الرسامين بما أبدعوا فيها من الغابات والجبال والقصور والأنهار
والسحب والكواكب. وكلما أجهد الإنسان بصره ليرى ذلك الستار القائم وراء الممثلين
إلّا وخدعته عينه وأرته أفقا فسيحا ومنازل كثيرة ، وبساطا أرضيا وسماء وراء
الممثلين صناعيا لا فرق بينها وبين الحقيقة. وكلما أتم الممثلات دورا من أعمالهن
إلا وارتجت جدران القصر بالتصفيق للاستزادة والإعادة ، فتخرج الممثلة وتضع يدها
على فيها ثم تمدها نحو المتفرجين إشعارا بالشكر والاحترام منها ، فطابق هذا
التسليم من الجواري ما كان مألوفا منهن عند ملوك الإسلام ، وحاكتها
الصور التي ورد ذكرها في أثناء الحديث على الساعة التي كانت لملوك تلمسان ،
تخرج منها جارية بيمناها كتابة تتضمن اسم الساعة ويسراها على فيها كالمبايعة.
والعادات ربما اندثرت بمنابتها الأصلية وتوارثتها الأمم البعيدة. وانظر ما نقله
ابن الكردبوس التوزري في تاريخه من سؤال الخليفة المعتمد العباسي المتوفى سنة ٢٧٩
لابن خرداذبه عن الرقص حيث قال له : صف لي أنواع الرقص والصفة المحمودة من الرقاص
وشمائلهم ، فقال : يا أمير المؤمنين أهل الأقاليم والبلدان مختلفون في رقصهم ،
والرقاص يحتاج إلى أشياء في طباعه وأشياء في خلقته وأشياء في عمله ، فأما ما يحتاج
إليه في خلقته فطول العنق والسوالف وحسن الدل والشمايل ، والتمايل في الأعطاف ورقة
الخصر والخفة ، وحسن أقسام الحلق والمناطق واستدارة أسافل الثياب ومخارج النفس ،
والصبر على طول الغاية ولطافة الإقدام ولين الأصابع وإمكان بنانها في نقلها ، ولين
المفاصل والأعطاف وسرعة الانفتال في الدوران. وأما ما يحتاج إليه في عمله فكثرة
التصرف في ألوان الرقص وإحكام كل حد من حدوده ، وحسن الاستدارة وثبات القدمين على
مدارهما ، واستواء ما يعمل بيمين الرجلين ويسراهما ، حتى يكون ذلك واحدا. ولوضع
الأقدام ورفعهما وجهان ، أحدهما أن يوافق بذلك الإيقاع والآخر أن يتباطى به حتى
يكاد يموت. فسر المعتمد بذلك وخلع على ابن خرداذبه. تجد كثيرا من ذلك التفصيل
ينطبق على ما عند الإفرنج في مراسح التمثيل. وفي القاموس ردت الجارية رفعت رجلا
ومشت على أخرى تلعب. أطلنا في هذا الغرض الكلام ، إيفاء بحقوق كل مقام.
والعرب أعيانهم
وملوكهم بلغوا حد الغاية في الاعتناء بمجالس الموسيقى ومجالس الأنس في أوقات
مخصوصة لترويض النفس وجمع الفكر ، وربما كانت للروح علاقة بالنغمات ، ولأهل التصوف
ذوق في هذا الفن والأطباء يستعينون به في المداواة.
وتأثير الألحان
محسوس فعال حتى في عجم الحيوانات يطربها ويحثها ، غير أن العكوف على آلات الطرب
وألحان الغناء لإضاعة الوقت والسير مع الهوى مما ينافي صفات الرجولية ويذهب
بالشهامة. الأروباويون عرفوا قيمة الموسيقى وتأثيرها على النفس مثلما عرفها العرب
قبل ذلك ، ولا زالت تآليفهم شاهدة بالاعتناء والإتقان.
وهي التي قلدهم
بها غيرهم وصارت للإفرنج أوقات خاصة لها وأماكن معلومة
لسماعها ، يسود فيها النظام وينتشر الأدب. وأرباب الموسيقى وأصحاب الآلات
ضبطوا أعمالهم ورتبوا أدوارهم وحرروا كتابات في الألحان التي تجري في مجالسهم ،
وبينوا ما يبدأ به منها وما يختم به عند اجتماعهم. فيكون السامع عالما بسائر أدوار
الموسيقى في ذلك المجلس. وبعض الأمم لا زالت مجالسها غير معلومة الموضوع ولا مرتبة
بها جزئيات الأعمال بل ربما كانت الألحان غير منضبطة وزنا ، والأقوال غير مفهمة
معنى. و [مولاروج] حضرت التمثيل بها وهي في بولفار دو كليشي ، وأكثر من يحضرها
الغرباء والأجانب عن المدينة ، وكان الكراس الذي به برنامج التمثيل يشتمل على
مجموعة أخبار وحوادث جديدة ملتقطة من عدة جهات ، وبالأخص باريس ، وغالبها فيما
يتعلق بالسياسة والحب ومحلات التمثيل وهذا الموضوع يسمى عندهم روفو.
وهو تمثيل
انتقادي للحوادث الجديد ، ومن لوازمه في التمثيل أن تكون امرأة قائمة عند رفع
الستار على هيئة ربة المنزل ، ورجل يسألها كالمستخبر الأجنبي عما في المنزل فتجيبه
المرأة إجمالا بما سيمثل كالمخبرة عما عندها ، وتسمى المرأة «لاكوماير» أي هدرة ،
والرجل لوكانباير أي محتال. ومن جملة ما فيه : خدمتنا المستقيمون ، المرأة
المغرومة بالرياضة ، العشق يجذب العالم ، الليلة الأخيرة في القهوة الأنكليزية «كافي
أنكلي» وهي مشهورة في أيام نابليون بباريس. وزارها كثير من أعيان الرجال من عدة
ممالك ، وهدمت أخيرا توسعة للطريق العام.
ليونابارك
من المنتزهات
الليلية في باريس ، وهي بستان فسيح في نهج لاكراند أرمي بين المدينة وغابة بواد
بولونيا. أطلعنا على ما بها النبيه المهذب السيد الهادي بن عمار ، وكان له بها
دكان به العطورات والتحف التونسية بشركة آنسة فرانساوية لها ولع بالمصنوعات
التونسية وبضائعها والإقامة والتعمير في ترابها. وقد أحسن ملاقاتنا وعرض علينا
الإعانة منه على ما عسى أن نحتاجه له بباريس ، فجازاه الله خيرا.
والتونسي يزين
وطنه متى رحل إلى الممالك البعيدة. بهذا البستان أراجيح وألعاب
ولو كانت عندنا لعبرنا عنها بالقصبة في الأعياد ، غير أن النساء بها أكثر
من الرجال ، وهكذا الحال. في :
مجكسيتي
الكائنة في
رصيف دورسي وغير بعيدة من ليونابارك في المكان والأعمال ، إلّا أن هذه أكثر قاصدا
وأغرب بأنواع الألعاب ، ومن غرائبها أن دخول الرجال بمعلوم معين والنسوة فيها
يدخلن مجانا. وقد تقدم أن المرأة في فرانسا هي كل شيء ولها كل شيء. في أقسام
التفرج بالمجيكسيتي طائفة من سودان الصومال يضربون بطبولهم ويصيحون بجعجعتهم ،
وبأيديهم الرماح وغالب أجسادهم عارية ، حشروا منهم صبية يقرؤون القرآن ورجالا يحترفون
على أساليب البساطة والهمجية في الحديد والجلود والنسج. وقد عرضوا شيئا من بضائع
تجارتهم كالخناجر والسبح والحروز. كلمني منهم بعض رجالهم ونسائهم بمفردات قليلة من
العربية ، وبعض صبيتهم يطلبون المتفرجين بحالة تسيل دموع الإنسان على أخيه الإنسان
عبرة ، لحكمة الخالق وشفقة على ضياع حياة هذا النوع سدى ، ملحقا بقسم الحيوانات
التي رأيناها تعرض في قسم من هذا السوق الليلي. فقد رأيت أسدا ولبؤة في قفص من
حديد بصدر بيت يسخرهما رجل معهما في القفص واحدا بعد آخر بعصا في يده اليمنى ،
يحركها فيصعدان على التناوب من مكان منخفض إلى آخر مرتفع. وفي بعض الأحيان يغضب
الأسد ويروم الهجوم على الرجل فيسالمه الرجل ويتركه حتى يذهب غضبه ثم يعاوده
بالإرهاب. ومتى عاد الغضب للأسد قابله الرجل بالرمح الشايك فيخشأ. فكرت والأسدان
والرجل في نزاع سياسي وقلت ، هذان قويان غلبهما ضعيف والمعروف ضعيفان يغلبان قويا
وهل الإنسان ضعيف؟ نعم. أو هو قوي؟ نعم! بالنظر لبدنه العاري من أصل الخلقة عما
يستره ويقيه من الحر والبرد مجردا من أدوات الدفاع من ناب ومخلب ، محتاجا إلى
الغذاء في اليوم الواحد عدد مرات ، عاجزا عن تحمل المشي المستمر بضع أيام ، قاصرا
في سرعة العدو عن السباع والطيور وكثير من أنواع الحيوانات. حياته موقوفة في هذا
العالم على أشياء كثيرة كالثياب والسلاح والطعام
والركوب للسفر والهروب ، تجده ضعيفا جدا والحيوانات العجم أقوى منه وأغنى
بما أمدها الله تعالى به من الأصواف والأوبار والأشعار ، مع بسطة في قوة الأجسام
وسرعة الجري والطيران ، صبورة على الجوع والعطش وطويل السير ، ولو لا أن ذللها
الله للبشر وأمده بسلطان العقل الذي استولى به على عوالم الكون لما كان له في
أنواع الحيوان مطمع ولا منها نجاة.
كما أن الإنسان
قوي بالعقل الذي ميزه به الخالق ، فدبر به شئونه الخاصة فاكتسى وتغذى ، ودون
الوصول إلى هاذين الأصلين أعمال كثيرة وأدوار متعددة وفروع متشعبة. ثم اتخذ آلات
الدفاع والتسلط وذلل الحيوان فامتطى غواربه ركوبا وزينة واستطاب أكل لحومه
بالتربية والقنص ، واستخدم الطير مغنيا ورسولا ، فهذه حالة الإنسان مع ما سواه
وكيف أمكنه بالعقل الانتفاع من الحيوان والتوقي منه. وأما مع بني جنسه فالخالق
تفضل عليه بنعمة كبرى وهي النطق ، فخاطبهم بما يكنه ضميره وما يلوح للعقل تدبيره ،
ولو لا ذلك لما نتجت مصالح الاجتماع التي لا تتأتى للأفراد ولبات كل واحد وشأنه هو
في واد ، وغيره في واد ، فتفوت استفادة الناس من بعضهم وما يجمعون على نيله من
غيرهم. ويتبين لك ضعف الإنسان بدون لسان حتى في الأشياء البسيطة المحسوسة بالعيان
من قضية تبلبل الألسنة عند إشادة برج بابل لحكمة أرادها الله ، فقد حال عدم
التفاهم دون إنجاز المشروع. لذلك كانت وحدة اللغة في الأمم جامعة متينة وهذا
برهانها. ومعنى قولهم الآن في اختلاف الآراء افتراق الكلمة ينطبق حتى على الاختلاف
في اللغة بمعنى الكلمة. فالإنسان بلسانه الذي جعله كجزء من أفراد بني جنسه قوي
بذلك الجموع البشري ، الذي هو كالبنيان المرصوص والحصن المتين يشد بعضه بعضا. فما
أحسن جامعة الإنسان وما أحصنها ، وما أسعد الإنسان بعقله ولسانه متى استعملها فيما
خلقا لأجله ، وما أكبر نعمة الله عليه بهما. وهو بدون تدبير العقل لا يكون في أمن
ولا راحة من نوائب الدهر وغائلات العوالم والطبيعة معا ، وبدون مفاهمات اللسان
ليست له جامعة ولا ينتج من وجوده في الكون فائدة. فبالتعقل والتدبر حصل الإنسان
المزايا الخاصة لبعض الحيوانات وغالب الطبيعة وأبرز أسرار الكائنات. اخترع
الكهرباء فاستعاض بنورها عن الشمس وبحرارتها عن النار وبقوتها على البخار ، فجرى
بها في بيت
جلوسه سابحا في البسائط ومتسلقا للجبال التي مهدها وصيرها طرقا لمجالات
لهوه على متونها العالية وذراها الشاهقة ، وسابق أسرع حيوانات الهضاب والشعاب ،
وامتزج بحيوانات الجبال والغاب ، وسبح تحت ماء البحار في غطاسات الأساطيل واختلط
بالحيتان وطار في الهوى كما شاء. فما أقدر الإنسان على التقليد وما أشد طموحه
للجديد. ونور العقل هو الوحيد في تمكينه من اختراع ما يشاء وتذليل ما يريد. وبدون
استثمار العقل ونتائج العلم ومحمود الخصال ، يلحق بقسم الحيوانات أو بسودان
الصومال. كان الإنسان يدافع الأسد بقوة البدن ومتانة السلاح وثبات الجأش. وبشر
يقول : أفاطم لو شهدت ببطن خبت ، وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا. إذا لرأيت ليثا لاقى
ليثا إلخ. واليوم ذلك السلطان المتسبع يرى خاضعا لسلطة تدبير الإنسان ، يأمره
فيفعل ويهينه فيصمت. كل ذلك بضروب السياسة الجديدة التي تملك بلا حرب وتسوق بلا
ضرب. والسياسة الحكيمة كالجمال لها سلطة على النفوس تستهويها وتنومها ، حتى يتصرف
الآمر في المأمور ويكون أطوع له من البنان وأعلق به من الظل. على هاته الحالة رأيت
الأسد في بستان المجكستي يلاعبه رجل أو يهارشه أو يعذبه ، قل كما شئت على حسب
حالات الناظر أو الرجل أو الأسد.
وابن آدم له
ولع بربط السباع ومشاهدتها ومصارعتها ، فقد كان المعز بن باديس في النصف الأول من
القرن الخامس هجريا يقودها خارج القيروان فيبرز لمشاهدتها غالب السكان. خرج يوما
إلى ظاهر المدينة وأخرجت السباع بين يديه ، فأفلت منها سبع فانهزم الناس أمامه
ووقع بعضهم على بعض ، فمات منهم نحو المائتين ، ووثب السبع على رجل من كتاب باب
الغنم يدعى بالكرامي فقتله.
والبطايح كثيرة
في مدينة باريز التي شبهناها فيما سلف بمدينة بابل وما وصفوها به من حسن التقسيم
والتنسيق. وكنت أستحسن منظر بطحاء اللوبيرا واجتماع الطرقات الكثيرة عند ما تمر
فيها أجناس البشر وأنواع العربات. وفي وسط البطحاء نقطة يغيب عن الأبصار فيها
الماشون ، ويظهر منها أحيانا وفجأة أشخاص آخرون.
وهو أمر غير
مألوف ، وسببه عندنا غير معروف. وأما في باريز فيصعد وينزل بمثل ذلك المركز إلى
محطات سكة الحديد التي تحت الأرض وهي من أهم وسايط النقل ٤.
الميتروبوليتان
: قطار يسير في الأنفاق تحت الأرض بقوة الكهرباء إلى سائر حارات
المدينة ويمر تحت نهر الساين بغاية السرعة وأرخص سعر. ففي الدرجة الأولى
بصانتيمات ٢٥ خمسة وعشرين وفي الثانية بخمسة عشر فقط إلى أي جهة قصدت وأبعد نقطة
أردت. والعربات ودهاليز السير مضاءة بالكهرباء ونظيفة ولا يشق على الراكب فيها
إلّا ثقل الهواء وظهور آثار الندى ، إلا أن سرعة السير وقصر الإقامة في هاته
الأنفاق ، وما يلقى فيها من مواد تطهير الهواء تسلي الركاب. والأمر الوحيد الذي
يحملهم على تجشم السفر في قبور الحياة والانحجاب عن مشاهدة شوارع باريز هو توفير المال
، وأكثر ركابه نساء ولعلهن خادمات. ومن الغريب أن أكثر من بالكنائس أو في الشوارع
الكبرى أو بساتين النزهة أو مراسح التمثيل أو مخازن التجارة نسوة ، فبالمعارف
والتمرين ، وإطلاق العنان ترجلت المرأة عندهم وشاركت حتى في أنواع الأعمال الخارجة
عن وظيفتها ، وكأنما هذا الامتزاج في عصر الحضارة تجديد لعصور اختلاط الجنسين على
عهد آدم وذريته في القرون الأولى ومبدأ ظهور الإنسان. أو أن هاته الأكثرية غير
حقيقية وإنما تظهر كذلك في عين الشرقي فقط لعدم تعوده برؤية جيوش من النساء. وإن
كانت النسوة في الواقع أكثر من الرجال حسبما يستفاد ذلك من الإحصائيات العامة ،
فانظر إلى إحصائية سكان القيروان مثلا تجد عدد الرجال ٨٥٥٧ ـ والنساء ٨٨٥٨ ـ كما
سيأتي في الكلام على خلق الفرنساويين وعوائدهم.
وأدوات النقل
في مدينة باريز كثيرة ومنوعة ، من عربات تسيرها النار على السكك الحديدية وأخرى
تذهب حيث شاءت ، وهاته منها ما يسمى أمنيبوس وما يسمى أوتوبوس ، وبعض آخر هو
الأتوموبيل أسرع سيرا وأغلى سعرا وأكثر خطرا ، تموج به شوارع المدينة التي يمكن أن
يطلق عليها بسببها طرقات النمل. والكراريس عندهم يقودها فرس واحد بطيء السير ولكن
نعم السير على ... والأجر بحسب الوقت تحرره ساعة بقرب مصباح العربة تعمر عند
الركوب ، فبعد نحو عشر دقائق ترقم خمسة وسبعين صانتيما ، وبعد ذلك ترقم بالعشرة
صانتيمات ، والوقف في أثناء الطريق حسب أوامر البوليس ليمر السالكون في الطرقات
المقاطعة تحسب مدته على الراكب ، والعربجي كثيرا ما يأخذ طريقا بعيدة أو غاصة
بالمارين لتوفير الأجر.
وأصحاب العربات
سواء في صنيعهم مع الركاب بساير الأقطار. وللعربات رايات
صغرى متصلة بساعات حساب السير ، يدار رمحها إلى أسفل عند الركوب أو
المقاولة على الكراء ، علامة على أن العربة غير معدة للكراء ، ومتى كانت الراية المثلثة
قايمة الرمح فالعربات يمكن الركوب فيها بالكراء المعين ولو بصفة الجبر للسايق ـ رأيت
قبل مبارحة باريز وفي اليوم الأخير بها وهو يوم السبت ٢٨ من جوان جميع الطرقات
خالية من نمل العربات ، فكان منظر المدينة هاديا والماشي على قدميه يسلك الشوارع
آمنا مطمئنا. ويقول الذين اعتادوا بدبيب النمل أن منظر باريز صار موحشا لما امتنع
أرباب العربات الخيلية والكهربائية من العمل. وما اعتاده البشر يشق عليه مفارقته
ولو كان سيئا. في صبيحة اعتصاب أرباب العربات بباريز بحثت عن عربة فلم أجد واحدة
للكراء ، ومرت بعض عربات خصوصية ليست عليها علامات الاستعداد للكراء فسألت البوليس
فأعلمني بالاعتصاب ، فتمنيت دوامه لإراح الماشين من ذلك الجراد المنتشر. وما جاء
المساء حتى رجعت عن رأيي حيث كانت لي عدة حاجات في أطراف المدينة لم أتمكن لفقد
العربات من قضاء جميعها في ذلك اليوم الأخير لي بباريز. وفي الليل بلغنا انحلال
الاعتصاب الذي كان سببه ضغط البوليس عليهم في مصالح المدينة والركاب. تقدم ما
قررناه في وسايط النقل تحت الأرض وعلى أديمها وكذلك السير تحت الماء في الكلام على
البحر ـ والقسم الرابع وهو الطيران في الهواء قد بلغ إليه البشر أخيرا بعد ما فكر
فيه قديما. فأبو القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس احتال في تطيير جثمانه وكسى
نفسه الريش ، ومد له جناحين فطار في الجو مساحة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في
وقوعه فتأذى في مؤخره.
عاينت الطيارات
سابحة في جو باريز وقد مضت في عهد ظهورها عندهم في عام ١٧٨٣ إلى الآن مائة وثلاثون
سنة. استفسرني عن مشاهدة الطيارات بعض الأعيان بباريز ونحن في منزل السيد كابار
فأعلمته بإعجابي به ومشاهدته في جو باريز ، فقال على وجه المداعبة لعلكم تقولون
متى عاينتموه أنه أو فاعله شيطان؟ فأجبته بأن اختراع الطيران قديم في الأندلس ولا
نستغرب مشاهدته الآن حيث وصل لنا طرف من حضارة أروبا ومخترعاتها بواسطة دولتكم ،
والطيارات سابحة عندنا الآن في جو المملكة التونسية. وكلمة شيطان متى قيلت لا يراد
منها في مجاري الحديث إلّا النباهة وكمال المقدرة وإلحاق بعض بني البشر بالتشبيه
البليغ بجنس عرف له التأثير
والتطور من عهد آدم وحواء. فقد قال ابن خلدون أن شديد الكيس يقال له شيطان
ومتشيطن وذلك في فصل : إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له ، الذي قال فيه ما معناه :
إذا كان الحاكم قاهرا باطشا بالعقوبات منقبا عن عورات الناس لاذوا منه بالكذب
والمكر للخوف والذل وفسدت النيات ، وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم لاذوا
به وأشربوا محبته ، وهذا من حسن الملكة التي تستقيم بها الأمور.
قال ويتبع في
حسن الملكة النعمة عليهم والمدافعة عنهم ، وأكثر ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل
، أما اليقظ شديد الذكاء فلنفوذ نظره وإطلاعه على عواقب الأمور في مباديها يكلف
الرعية فوق طاقتهم إلخ. وقالوا في كلمة ديوان أنها فارسية ومعناها شياطين ، فأطلقت
على الكتبة للذكاء والبراعة في العمل ، ثم أطلقت على مكان اجتماعهم وخدمتهم.
٥ ـ الصنايع
وأنواع البضائع في باريز : لهم الأيادي الطولى في إتقان القسم الأول وترويج الثاني
، فالتحف اللطيفة والمخترعات الغريبة سوقها باريز. تستوقف الأنظار ، وتصيد الدرهم
والدينار. وقصور التجارة مثل اللوفر والبرانطا. وقد دخلتهما ، فعاينت كل حاجات
البشر بهما وكأنما الأموال لا تفي بأثمان بضايعهما. وغالب أقطار الدنيا فيما بلغنا
لا تستغني عن مصنوعات ومبيعات باريز. والكتب قد ضاقت بها الدكاكين فطرحوها على
أرصفة نهر الساين تمتد معه مسافات بعيدة ، وتباع بأثمان زهيدة ، وذلك فيما بين نهج
بونبارت وكنسية نوتردام. ولعله انقضى الزمان الذي كان الصينيون يقولون فيه على ما
نقله صاحب مسالك الأبصار : إنهم ، أي الصينيون ، بصراء والإفرنج عور وباقي الناس
عمي. يعني أن صنايعهم صناعة بصير بعينين ، فهو يبصر ما يعمل والإفرنج صنايعهم
صناعة من له عين واحدة ، وباقي الناس صنايعهم صناعة من هو أعمى. ويؤيد دعواهم في
القديم أن الحكمة أنزلت على أيدي الصينيين وعقول اليونانيين وألسنة العرب. وعلى كل
حال فالنزاع في المسألة بين الصين وأروبا أما نحن فلا دخل لنا في هذا الموضوع. ومن
متعلقات التجارة قصر المصرف «البورصة» ، وهو مجتمع التجار تباع فيه التذاكر
المالية ، وهو قصر عظيم واجهته للغرب أمامه درج كثيرة على اتساع الواجهة ، مررت به
غير مرة وهو قريب من باساج جوفروا محل نزلنا ، وجنوبا منه فأقف متعجبا من أمر واحد
لم أر له نظيرا في
باريز ، وهو اختلاط خلق عظيم أمام الواجهة الغربية وعلى درجها. وغوغاء بدون
انتظام ولا فهم كلام. يذكرون أن التجار بها يربحون أموالا طائلة تفوق أعمال
الكيمياء التي لها أسرار فيما أخبروا ، ولكن لا يعرفها إلّا أربابها. وحقيقة هم
شياطين ، فلا عجب إذا كان ذلك السر مكتوما على بقية المتفرجين ، وكلما أعدت النظر
إلى ذلك السوق يوما بعد آخر وما به من الهرج والمرج وفي ضمنه أرباح عريضة لبعض
أناس وخسارة لآخرين وقوم لا يفهمون ، والبعض عن تلك الأسرار غافلون إلّا ولاح لي
تشبيهه بالدنيا وأبنائها ، وموقفهم فيها وتكالبهم عليها ، فلو نظر إلينا سكان
الكواكب بمرآتهم المكبرة أو حلق بعضهم على رؤسنا أو أتانا زايرا متى وصلت إليهم
طياراتنا لرأونا على هذا البساط الترابي كجماعة البورصة ، وأخذهم العجب من شديد
عناء البشر ومصارعة الدهر لسكان كوكب الأرض ومنافسة بعضهم لبعض.
وكنت أقرأ على
سوق البورصة عند منصرفي نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ)
٦ ـ أنواع
العلوم والأمن ومنازل الراحة للغرباء في باريز أمر عرفته لها كل القارات ،
فيقصدونها لاقتباس العلوم العالية والفنون المستظرفة ، فيلذ لهم المقام في مواطن
الأمن ومنازل النعيم والراحة. وقد تكلمنا في فصل الحسبة والبوليس على اعتناء إدارة
المحافظة بالغرباء وكف يد العادية عنهم ، يجد المسافرون في منازل السكنى بجوار
العائلات أو بالأوتيلات ساير المرافق بأسعار تناسب كل نفس على حسب وسعها. فالزاير
لباريز يمكنه العيش بالإنفاق فيها من سعته أو على حسب ما آتاه الله ، فأسعار المعاش
ولوازم السكنى ليست بغالية.
وابن خلدون
يقول إذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت ، وما في معناه ،
وغلت أسعار الكمالي ، وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس. وأكثر أكل
السكان في المطابخ القائمة في كافة الطرقات ولا يتحرجون من استدعاء ضيوفهم لها حيث
ما يعدونه بمنازلهم لا يكون أكثر مما يوجد بالمطابخ التي تملأ قائماتها أسماء
المآكل ، حتى يضل الغريب في قاموس تلك الأعلام التي كأنها نحتت من لغة الصين ، ولا
يهتدي لجيدها من رديئها ما لم يكن حافظا
من قبل بعض أسماء يلائمه أكلها وأحيانا لا يجدها في بعض جرائد المطابخ ،
فعلى الإنسان أن يتزود من أعلام المأكولات الفرنساوية حتى لا ينخدع بما لا يليق أو
يتورط فيما لا ينبغي وأخيرا يدفع المال على كل حال. وكثرة المطابخ اللائقة عادة
قديمة في الصين.
ذكر صاحب أخبار
ملوك الأمصار ما مضمونه : حكي لي عن أحوال هذا القوم ما ينبئ عن عقول جمة وترتيب
حسن وتأمل في الأمور ، فمما حكي لي عنهم أن في مدن الخطا مطابخ تطبخ فيها الأطعمة
الفائقة والمشروب اللذيذ مما لا يوصف حسنه ومما يصلح أن يقدم منه للملوك ، معدة
لمن يشتري منها من الأكابر حتى أن أحدهم إذا اهتم بضيافة كبير بعث إلى صاحب المطبخ
من تلك المطابخ وقال له عندي ضيف وأريد له ضيافة بكذا في وقت كذا ، فإذا كان ذلك
الوقت حمل إليه كل ما يناسب من بدائع المأكول والمشروب والمشموم كل شيء في وقته.
وإن كان المضيف ما له مكان يصلح للضيافة أعد له صاحب المطبخ مكانا بكل ما يحتاج إليه
من البسط والفرش والآلات والغلمان على قدر ما حد له المضيف من القيمة ، يحسب له
صاحب المطبخ حساب مكسبه في مثل ذلك عن أجرة المطبخ والدار والفرش وكلفة الطعام
والشراب وأثمان كل شيء بحسابه ، بقانون معلوم لا يزيد ولا ينقص من غير أن يحصل على
المضيف تفريط ولا خيانة في شيء قل أو جل.
شرقي باريز
«غابات أركون»
، سافرت لها من باريز مع سكة قطار الشرق إلى شالون سور مارن ومنه تحولنا إلى قطار
فيردان المدينة الفرنساوية الحربية التي بحدود ألمانيا. وصل بنا القطار غابة أركون
في مقاطعة موز ، الممتدة هاته الغابة من الشرق إلى الغرب في نحو عشرة أميال وشمالا
جنوبا نحو أربعين ميلا وهي بالحدود الشرقية من فرانسا. فنزلت بها في قرية كليرمون
أنركون المستندة إلى جبل صانتان شرقيا منها ومجللا بغابة شعراء. وقد أرشدني رفيق
في القطار «والفرنساويون أهل إرشاد لضيوفهم» إلى النزول بهاته القرية قبل محطة
أوبريفيل لما بها من مرافق الإقامة وأدوات السفر إلى فاراين
التي هي وجهة سفري ، وإن كانت أبعد مسافة عن فراين من أوبريفيل. أخذت عربة
من أتيل فوباير ذهابا وإيابا إلى فاراين البعيدة غربا عن كليرمون بأربعة عشر ميلا
، وصاحبنا إلى فاراين شيخ كرسكي من شأنه تقضية مدة في هاته الغابات وآنسنا بحسن
معاملته ، والغريب إلى الغريب نسيب.
سلكنا طريقا
مظللة بالأشجار المثمرة من السوريز والتفاح الممنوع قطفهما عن غير الإدارة التي
لها النظر في صرف أثمان تلك الغلال على مصالح الطرقات. لذلك صيانة تلك الغلال مما
يشارك فيها السكان العارفون بمصالحهم ، لأن دخلها يعود على صالح وطنهم ، وطرق
مواصلتهم في تلك المروج البسائط والمزارع الواقعة بين تقاطيع سحب غابات أركون
المتلبدة على المرتفعات وحفافي الشعاب والمنخفضات. والأهالي هناك أرباب عمل وأبدان
خصبة وعضلات قوية وأجسام ممتلئة ووجوههم مستديرة ومحمرة الوجنات إلى الأذنين.
شاهدنا منهم الانكباب على أعمال الزراعة مع نسائهم وصغارهم بالفدادين بضواحي قريتي
نوفيي وبرويو ، والبساطة بادية على مساكنهم ومعاملتهم ولباسهم.
كانت تحييني
صبيتهم من المزارع على حفافي الطريق بقولهم «بونجور مسيو لوكوراي» ظنا منهم بأنني
شماس لما كنت من برد الطقس في هذا الصقع مرتديا برنس أبيض. وهو شعار أهل الدين من
قديم وتلبسه إلى الآن طائفة من رهبان المسيحية. وبعض السكان لجهلهم اللباس العربي
، «وربما لم يرفرف جناح البرنس على تلك المقاطعة منذ عهد بعيد حل فيه العرب ساحات
فيردان في الفتوحات الأولى» ، كانوا يهمسون لبعضهم بأننا من رؤساء العساكر «ضباط».
وعمالة نهر موز مدينتهم الكبرى الحربية فيردان ، قطعت تذكرة السفر إليها ثم اقتصرت
لضيق الوقت على ما حواليها.
فاراين أنركون
قرية صغرى لها
شهرة كبرى ملأت المسامع حيث بات بها لويس السادس عشر بعد ما قبض عليه بها عند
فراره من باريز فكانت مصيبة الملك بها شهرة لها وسمعة.
دخلنا القرية
من شرقيها فكانت السكة التي سلكناها المسماة بنهج المجلس البلدي هي عينها التي بها
العلو الذي بات به لويز ١٦ وعايلته ، وعليه كتابة تفيد أن ذلك في عام ١٧٩١ ، فصعدت
له وكتبت اسمي في دفتر معد لضبط أسماء الزائرين له وربما كان أول خط عربي حفظ
هنالك. وقيّمة المنزل امرأة تطلع الوافدين على بقايا من أثاث ذلك العلو الضيق الذي
لا يرضى به أتباع أتباع الملك أيام كونه بفرساي :
والنفس راغبة
إذا رغبتها
|
|
وإذا ترد إلى
قليل تقنع
|
ويشق القرية
نهر آير من الشرق إلى الغرب ، وفي أعاليه بالضفة الجنوبية بستان ودار وفدادين
صديقنا رونز وماله من مخازن تربية الحيوان ومعامل غزل الصوف وعصر الزيت ، ورحا
القمح تدير دولا بها وتحرك آلاتها قوة ماء الوادي المنتفع به في هذا الشأن ،
والماء يعبر عنه بالفحم الأبيض لأن الاستفادة بالماكينات والآلات الحديثة متوقفة
على البخار من حرارة النار المتأججة بالفحم. وقوة الماء المتدفق تقوم مقام ذلك
وتولد الكهرباء في الأماكن التي ينصب فيها تياره انصبابا. والطحن بقوة الماء ينسب
ابتداء أمره إلى الرومان في القرن السادس م. أما بواسطة الهواء فأخذته أروبا في
القرن ١٣ من المشارقة في حروب الصليب.
وعلى صغر هاته
القرية التي لا يتجاوز سكانها ألفا يوجد بها نزل للمسافرين وبها ما سواه مما
أوجدته الحضارة الأروباوية السارية في دم السكان بأي مكان ، ولو في غيابات الغابات
وضعف العمران. وقد علمت أن قرية كليرمون وهي أصغر من هاته ، بها أتيل وعربات
للكراء.
جعلت رجوعي إلى
كليرمون على قرية أوبريفيل وهي مركز لسكة الحديد بين كليرمون وفيردان. وقبل مبارحة
كليرمون أخذت حظا من التجول بين الأدواح الملتفة في جبل صانتان المجاور لها ،
وأخيرا شايعنا إلى القطار صاحبنا في غابات أركون ذلك الشيخ الكرسكي. ومتانة الود
من علامات الشهامة وعزة النفس وهما من صفات نابليون بونبارت نسيب كرسكا التي
تداولها كثير من أجناس الأمم الراقية.
كما وادعنا بعض
سكان القرية الذين عرفناهم وعلامات الوداع بالمنادل كأجنحة
الطير كادت أن تطير بهم معنا حتى غاب القطار عن الأبصار. فما أحب هذا الجنس
للغريب وما أشدهم سرورا به وأسرعهم إلفا له ، وشأن العاقل أن يؤلف ويألف.
حول باريز
«فرساي» مدينة
سكانها نحو ستين ألفا بالجنوب الغربي من باريز وبها قصور الملوك في عصر الرقي
بأروبا في القرون الأخيرة ، شامخة البنيان ، واسعة الأركان. ضمت بين جدرانها من
رياش الملوك ومقتنياتهم ما يحمل سكان باريز وضيوفها على زيارة هاتيك المصانع
والبساتين. وأول أمرها قصر صيد أسسه لويس ١٣ واستقر فيه من بعده ابنه لويس ١٤
بحاشيته وصرف في البناءات عليه نحوا من ستين مليونا. ومن عهد لويز فيليب صارت من
منازل الآثار العامة مباحا دخولها للعموم ، فهي تكاد أن تكون باردو بالمملكة
التونسية في عناية من تقدم من الأمراء وسكناهم بها في ضاحية المدينة ، ثم اعتبارها
من أحسن البناءات والرياش التي يشاهدها الزائرون وأبدع ما تركه الملوك السابقون.
ركبت لها من
محطة صان لازار من شمال الأوبرا في قطار له درجتان أولى وثانية فقط ، يصل لها في
نحو ثلاثة أرباع الساعة ويود الراكب أن تكون المسافة أكثر لما يشاهده في الطريق من
البساتين والأدواح النضرة ، وأهم ما بفرساي بيت الزجاج ساعتان فلكيتان البساتين والمياه الصور الدهنية بيوت الملوك وأثاثها العربات العتيقة ـ بعد مشاهدة كنيسة وعدة صور بالطبقة
الأولى صعدت إلى الطبقة الثانية من سقيف مدهون السقف المعقود دهنا بديعا وعديم
النظر.
١. ودخلت إلى
بيت الزجاج وشاهدت اتساعها مد البصر وبها مرايا كثيرة ، وعلى يمين الداخل لها
نوافذ كبرى مطلة على البساتين وحياض المياه التي يتصاعد منها الماء بالضغط في بعض
الأيام بصفة يعجب بها كثير من الناس على ما بلغني ويقصدون مشاهدتها من كل فج ، ولم
تتفق لي رؤية ـ ، ذلك ، وتكفل بوصف هذا البيت والبستان كتاب
الاستطلاعات الباريزية.
٢. وبالساعتين
والموجودتين في علو هذا القصر ونظام سير الكواكب بهما.
٣. والصور
الدهنية كثيرة على الجدران أرشدنا الدليل إلى صورة من بينها ، بها رجل مستلق ومن
كل جهة أتاه الناظر يحسب أبصاره وامتداده نحوه. وإلى صورة من مناظر معرض عام ١٨٨٩
بها رئيس الجمهورية المسيو كارنو وأعلام الطرق ترفرف على وفد الجزائر بلباسهم ،
فسألت البركادي الذي كان مصاحبا لي من طرف إدارة فرساي التي أرسل بعض معارفنا
كتابا إلى كاتبها بالوصاية بنا : وهل توجد صورة للاستعراض العسكري في عام ١٨٧٨
الذي أقامته الدولة الفرنساوية احتفالا بضيوف المعرض ، وتجاوز المتفرجون فيه نصف
مليون ، وعند ما احتبك الموكب قدم رئيس الجمهورية مسيو مكماهون على حصان أشهب عربي
يتقدمه ثمانية فرسان من عرب الجزائر ببرانيسهم وسروجهم العربية؟ فلم يعرف ذلك.
وقفت ببيت الحرب على صورة هنري الرابع راكبا تقدم إليها مفاتيح ، فقلت للدليل لعله
هنري الرابع عند ما منع من الدخول إلى باريس لما كان على اعتقاد البرتستانت إلى أن
رجع إلى الاعتراف بالتعليم الكاتوليكي ، فدخل إلى باريس وقيل له اليوم نقدم إليك
مفاتيح باريس.
فقال لي :
أتعجب من اطلاع التونسيين على دقائق تاريخ فرنسا ، فأجبته بأن مثل هنري الرابع
الملقب بالكبير «لوكراند» ١٥٨٩ ـ ١٥١٠ لا يجهل وهو صاحب الهمة العالية التي كان
يصفح بها عن الأعداء حتى قال ، وهو من ألفاظه الحكمية في الحلم ما معناه : «إن لذة
الانتقام تمر مر السحاب ولذة الحلم تبقى مدى الأحقاب» ، وهو المحب في العلم وإكرام
العلماء والجيد الانتخاب في الرجال الذين يستخدمهم.
والشجاع الذي
يستسهل الأخطار. وقد قيل في مدحه وذم المزاحم له : إن هنري الرابع يمكث في الفراش
أقل مما يمكث عدوه على المائدة ، وهذا غاية المدح له والحزم منه.
توجد صورة كبرى
بها نابليون الثالث والحاج عبد القادر الجزائري وبعض من قرابته واقفين أمامه ،
ووالدة الأمير تقبل راحة نابليون كان ذلك إشارة إلى شكرها له عن العفو عنهم. وكان
الأمير المذكور استسلم في عقد السبعين من القرن ١٣ للحكومة الفرنساوية ، وهي لم
تعامله معاملة الرومان للأمير يوغورطه البربري الذي ألقته حكومة رومة سنة ١٠٦ قبل
المسيح في السجن حتى مات جوعا. بل اقتصرت على إبعاده إلى دمشق الشام ورتبت له مائة
ألف فرنك سنوية. بسط ذلك السيد
البشير صفر في جغرافيته.
فنابليون يشكر
على ذلك الحلم الذي لا زال يعترف به لدولته بعض من عرفناه من ذرية الأمير المنعم.
وقد أكرم بلزار قائد الجيش الرومي آخر ملوك الفندال بإفريقيا المسمى جليمار لما
تغلب عليه وأخذه أسيرا إلى القسطنطينية ، ولما مثل بين يدي القيصر (يوستنيانوس)
فاه بعبارات في تقلبات الدهر وتصرفات الزمان دلت على تفلسفه في الدنيا ونعيمها
الفاني وتجلده أمام المزعجات ، فرق له القيصر وأنعم عليه بضياع قضى بها بقية
حياته. قرر ذلك محقق التاريخ السيد البشير صفر. وكذلك أحسن الجواب الحسن بن علي
آخر ملوك صنهاجة بالمهدية لما سأله عبد المومن بن علي عن التفريط في الملك فأجابه
بقوله : سبب ذلك فراغ الأمد ، وعدم الثقة بكل أحد. فحسن ذلك لدى عبد المؤمن
وأكرمه. ومن حلم عبد المؤمن أنه لما قال له الإفرنج المحصورون بالمهدية : ما عسى
تكون المهدية ومن فيها من الإفرنج بالنسبة إلى ملكك العظيم وأمرك الكبير؟ وإن
أنعمت علينا كنا أرقاءك في بلادنا. فرأى منهم كمالا في الأجسام ، وتوادة في الكلام
، فأعطاهم ما أرادوا وجهزهم في سفن إلى بلادهم. قال عبد الله بن جعفر : اصنع
المعروف إلى من هو أهله ، وإلى من ليس أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب
أهله فأنت أهله.
يد المعروف
خير حيث كانت
|
|
تلقاها كفور
أو شكور
|
فعند
الشاكرين لها جزاء
|
|
وعند الله ما
جحد الكفور
|
وقد مر بنا أن
هنري الرابع يقول إن لذة الانتقام تمر مر السحاب ، ولذة الحلم تبقى مدى الأحقاب.
ومن حلم ملوك
القيروان أن أبا يزيد مخلد بن كيداد صاحب الحمار الأبيض والفتنة الدهماء في حروبه
مع المنصور العبيدي لما فر مثخنا بالجراحة محمولا بين ثلاثة من أصحابه وسقط في
مهواة من الأوعار ، وهز وسيق من الغداة إلى المنصور أمر بمداواته ثم أحضره ووبخه
وأقام الحجة عليه وتجافى عن دمه ، وبعثه إلى المهدية
وفرض له الجراية ، فجزاه خيرا ، وحمل في القفص فمات من جراحته سنة ٣٣٥.
كان النضر بن
حارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار ابن قصي من شياطين قريش وممن يؤذي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة ، وهو الذي أنزل الله فيه (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي
يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر
ونزل بالصفراء ومعه الأسارى من المشركين أمر بقتله فقتله علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه فقالت أخته قتيلة لما بلغها قتله :
يا راكبا إن
الأثيل مظنة
|
|
من صبح خامسة
وأنت موفق
|
بلغ بها ميتا
بأن تحية
|
|
ما أن تزال
بها الركائب تخفق
|
مني إليك
وعبرة مسفوحة
|
|
جادت بواكفها
وأخرى تخنق
|
هل يسمعن
النضر إن ناديته
|
|
أو كيف يسمع
ميت لا ينطق
|
أمحمد يا خير
نسل كريمة
|
|
في قومها
والفحل فحل معرق
|
ما كان ضرك
لو مننت وربما
|
|
منّ الفتى
وهو المغيظ المحنق
|
فالنضر أقرب
من أسرت قرابة
|
|
وأحقهم إن
كان عتق يعتق
|
ظلت سيوف بني
أبيه تنوشه
|
|
لله أرحام
هناك تشقق
|
فلما بلغ رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر رقت نفسه الكريمة وذرفت
عيناه لما طبع عليه من الرأفة والرحمة وقال : لو بلغني هذا قبل قتله لمننت
عليه.
وقواعد الإسلام
تجيز للأمير القتل والمن والفداء.
غضب كسرى على
النعمان بن المنذر وحبسه ، فأعطت ابنته هند عهدا لله إن رده الله على ملكه أن تبني
ديرا تسكنه حتى تموت. فخلى كسرى عن أبيها فبنت الدير بالحيرة مما يلي الخندق
بالكوفة وأقامت به إلى أن ماتت ودفنت فيه. ولما دخل عليها خالد بن الوليد أحد قواد
عمر بن الخطاب عند ما فتح الحيرة قال لها لما عرفها : أسلمي وأزوجك رجلا شريفا
مسلما ، فقالت له أما الدين فلا رغبة لي في غير دين آبائي وأجدادي ، وأبت التزويج
فقال لها سليني حاجة فقالت : هؤلاء النصارى الذين في ذمتكم تحفظونهم. قال هذا فرض
علينا أوصانا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قالت مالي حاجة
غير هذا فقال لها أخبريني بشيء أدركت. قالت ما طلعت الشمس بين الخورنق والسدير
الأعلى ما هو تحت حكمنا ، فما أمسى المساء حتى صرنا خولا لغيرنا ثم أنشأت تقول :
فبينا نسوس
الناس والأمر أمرنا
|
|
إذا نحن فيهم
سوقة نتنصف
|
فتبا لدنيا
لا يدوم نعيمها
|
|
تقلب تارات
بنا وتصرف
|
ثم قالت اسمع
مني دعاء كنا ندعو به لأملاكنا : شكرتك يد افتقرت بعد غنى.
ولا ملكتك يد
استغنت بعد فقر ، وأصاب الله بمعروفك مواضعه ، ولا أزال عن كريم نعمة إلّا جعلك
سببا في ردها عليه ، ولا جعل لك عند لئيم حاجة. ولما خرج من عندنا جاءها النصارى
وقالوا ما صنع بك الأمير فقالت :
صان لي ذمتي
وأكرم عرضي
|
|
إنما يكرم
الكريم الكريم
|
قاله الحموي.
ومن أكبر صور
القصر وأبدعها صورة الهجوم على حلل جيش الحاج عبد القادر
الجزائري ، ويسمونها «الزمالة». رسم المصور فيها انزعاج الرجال والنساء
والحيوان أمام ذلك الأمر المفاجئ ، فمن الناس من يقوض البيوت ومنهم من يحمل المتاع
والبعض بادر بسلاحه لتلقي المهاجمين وفريق أعجله الأمر عن إسراج خيله فهو يحاول
امتطاءها ليصلى حر لظى تلك الغارة الشعواء وكأنه ينشد : قرّبا مربط النعامة مني
إلخ. وآخرون من العجز والشيوخ والصبيان مرجون لأمر الله ينظرون لهيب الهيعة وقد
اختلط فيها الحابل بالنابل. وفي هذا المنظر ترى ظباء الوحوش والإنس نافرة :
روعوها فتولت
هربا
|
|
أرأيت كيف
ترتاع الظبا
|
والصورة خيالية
لا واقعية ، ومقدرة المصور واتساع خياله هي التي استلفتت الأنظار. وعندي أن
التصوير والتمثيل والقصص أحسنها ما كان مطابقا للواقع أما النسج في هاته الثلاث
على حسب التخمين والاختراع فإبداع أرباب الصناعة ، وأعمالهم فيها أشباح بلا أرواح
، وأنت بالروح لا بالجسم إنسان.
٦. وفي خزائن
فرساي عربات ملوك فرانسا في القديم غاية في الإبداع والتحلية بنفيس النقدين.
٥. تجولت في
مساكن أثاث وفرش لويز الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر ، وشتان ما بين منزله
هنا ومنزله في فراين. وما في فرساي من البناءات ، وإن لم تكن له فائدة ودخل مالي ،
لكنه يدل على مقدرة الملوك المالية ودرجة الحضارة في البناء وعوائد الأثاث في ذلك
العصر :
همم الملوك
إذا أرادوا ذكرها
|
|
من بعدهم
فبشامخ البنيان
|
كما أن الصور
الدهنية بها يحفظ التاريخ ، وتظهر منها مقدرة الخيال وأنامل الراسمين وتفيد
أنموذجا من الرقي الصناعي في العالم ، وتحث بني الإنسان على المنافسة في إتقان
الصنائع بالتقليد واختراع الجديد وتتابع الأفكار يزداد بها النفع في المآل. وفي
جسد الإنسان الترابي وأعضائه وحواسه وعقله وتفكيره مجموعة معادن
وكنوز تستخرج بالتعليم وتستثمر بالعمل. ولا أضر بالبشر من الميل للراحة
والخمول ، ومن احتقاره ما يكتب أو يصنع أو يقول.
فأولئك القوم
ذهبوا وأما آثارهم وأثاثهم وملابسهم فلم تذهب فهي تحدثنا عنهم كلما زرنا فرساي
ورأينا بناءها ومحتوياتها. بل يتخيل أن أربابها أحياء بها ، حيث الخيام فإنها
كخيامهم إلا أن ذوات الحي غير ذواتهم. ولهذا يرى الزائرون يمشون الهوينى في هاته
المنازل ينظرون لأنواع المصنوعات بغاية الهدو والاحترام. وهذا من فوائد علم الآثار
الذي هو التاريخ السياسي والاجتماعي والصناعي المجسم وهو أدعى للاعتبار والتقليد
من جهتين مختلفتين في آن واحد.
وبالجملة فإن
فرساي تشهد بمنتهى الرقي في ذلك العصر للأمة وملوكها الجامعين بين السلطة والمال.
وأنواع ما بها من الآثار البنائية والدهنية والنباتية والمائية والتاريخية مجموعة
محاسن ، ونفايس تركتها يد المال الغزير والعلم المنوع والسلطة النافذة والذوق
اللطيف من القرن ١٨ هدية إلى أمة القرن ٢٠. بعد استيفاء مشاهدة ما بفرساي خرجت إلى
البطحاء الشرقية عنها وإلى مركز سكة الحديد على طريق العربات الكهربائية ، وكنت
ألتفت من حين إلى آخر والطرف يستودع تلك القصور التي تملأ محاسنها الجفون ، ويقرأ
ما سطرته يد الزمان على جبينها كم تركوا من جنة وعيون.
وداع باريز
أقمنا في هاته
العاصمة الزاهرة اثني عشر يوما وهي أكثر من ثلث أيام الرحلة ، والثلث كثير ، إلا
أن أمد الرحلة كله في باريز قليل. وهي مصر ، كما قال الحريري ، لنظافة مكانه ،
وظرافة سكانه ، يرغب الغريب في استيطانه ، وينسيه هوى أوطانه.
ألفيت هاته
العاصمة كما تصفها الألسن ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
فشكرت يد النوى
، ولكن والحمد لله لم أجر فيها طلقا مع الهوى. فارقناها على نية الرجوع ،
وخاطبناها عند الركوب من قطار ليون بقول الشاعر :
قولي لطيفك
ينثني
|
|
عن مضجعي وقت
الهجوع
|
وسط فرانسا
بارحت باريز
يوم الأحد ٢٩ من جوان وكنت أسافر في أيام الأحد لأرى اختلاف المدن والقرى في هيئات
زينتها وتفاوت احتفالاتها بيوم عيد ، وقصدي التوغل في وسط المملكة وجنوبها بعد ما
عرفت شرقها وعاصمتها ، فسلكت في الرجوع من باريز طريق نفاير الغربي عن طريق ليون
وعرجت من صان كايز إلى فايزون ثم إلى إيسودان التي استدعانا لزيارتها بعض
الأصدقاء. وقلب هاته المملكة مشهور بالصناعة وتربية الحيوان ، وقد رأيت من قطعان
البقر الأبيض في فدادين كوسن ونفاير وصان كايز وصان جرمان دوفوسي شيئا كثيرا ومنظرا
جميلا. مبثوثة على ذلك البساط الأخضر كأنها كواكب على أديم السماء. رأيت الحيوان
في خصب من العيش تحت ظلال الأشجار حيثما مشى وجداول المياه ترويه وتحاذيه أينما
ذهب فهو في نعيم الدنيا وظلها الممدود ومائها المسكوب. هذه منزلة الحيوان عندهم
فما بالك برفاهية وعيش الإنسان. وحبذا لو أقبل سكان مملكتنا وبالأخص ملاكة الأراضي
وأرباب البوادي الذين أمدتهم مواقع نزلهم ومنابت نطفتهم بصحة الأجسام وسعة الوقت
وراحة البال على غراسة الأشجار وحفر الآبار ، حتى إذا لم ينتفعوا في بعض الأعوام
بغلالها لم يفتهم الانتفاع هم وحيوانهم بمياهها وظلالها.
وفي فرانسا من
البقر أربعة عشر مليونا ، وأول الدول في إحصائية البقر أميريكا فلها اثنان وسبعون
مليونا. وما تحتوي عليه مملكة فرانسا من الحيوان هو حسب التفصيل الآتي :
١. غنم
|
٢٠٩ ، ٧٨٣ ،
١٧
|
٢. بقر
|
٥٥٢ ، ٣١٥ ،
١٤
|
٣. خيل
|
٢٢٤ ، ١٦٩ ،
٠٣
|
٤. معز
|
٠٠٠ ، ٤٠٠ ،
٠١
|
٥. حمير
|
٠٠٠ ، ٣٥٦ ،
٠٠
|
٦. بغال
|
٨٦٥ ، ١٩٨ ،
٠٠
|
وأكثر الدول
غنما استراليا فلها ثلاثة وثلاثون مليونا. وأكثر الدول خيلا الروسيا فلها ثمانية
وعشرون مليونا ونيف ، وبقية الدول على التفصيل الآتي :
ملايين :
٢٨
|
الخيل مشهورة بها الروسيا
|
٢٠
|
أميريكا
|
٠٤
|
أرجنتين
|
٠٤
|
ألمانيا
|
٠٤
|
النمسا
|
٠٣
|
فرانسا
|
تناولت الغذاء
في صان كايز. والعشاء في فايزون وحوالي الساعة ٨ وصلت إيسودان فتلقانا بها أقارب
صديقنا الدكتور فيوم.
إيسودان
في فحص زراعي ،
وسكانها نحو ١٤ ألفا يشقها نهر تيول Thioles
وفي جنوبها معامل الصنع لجلود الأغنام بأنواع الألوان ، وقد شاهدت أساليب تهيئتها
لذلك. وأمثلة زينتها مرسومة على قطع من حديد يضغط بها على الجلد بعد الدبغ والصبغ
فتترك أثر تلك الزينة عليه كالنقش على الحجارة والألواح. وأغرب ما رأيت في هذا
المعمل آلة يوضع على مبسوطها الجلد فيماسسه من أعلاه بعض أسنان من حديد كأنامل
المتلمس تحيط بامتداداته ، وإذ ذاك تتحرك إبر في دائرة بأعلى الآلة على شكل الساعة
فترسم وزن الجلد وقيسه بالميترو والقدم الأنكليزي. كل ذلك كلمح البصر فتتلقفه أيدي
العملة لضبط ما رسمته الآلة ويوضع غيره ، وهكذا تمر العشرات والمئات في وقفة ناظر.
ولا تكفي الساعات الكثيرة بدون تلك الآلة لقيس ووزن تلك الجلود المختلفة الأشكال
بأجزاء القدم والصانتيميتر المربع واحدا بعد آخر. وأدوات
النقل ومراكز الكمارك تحتم الوزن. والراغبون في الشراء لهاته البضاعة
المشتهرة بها قرية إيسودان يطلبونها بالقيس وهو مختلف بالنسبة للأمم التي غالبها
تستعمل قياس الميترو خلافا لدولة الأنكليز التي لا تقبل الحساب بغير القدم على
عادتها في إلغاء كل ما ليس من خصائصها وعدم اعتباره حتى أنها تتجاهل لغات العالم
وهي تعرفها ، ولا يكبر في عينها إلّا الناطق بلسانها. فوجب على مثل هذا المعمل
الفرنساوي أن يقيس بمقياسين وأن ينقاد بداعي ترويج البضاعة «إلى الطاعة». وجملة
القول إن هاته الآلة من عجايب الاختراع ، وأهم وسايل الإسراع.
اشتهرت في
إيسودان صومعة عتيقة تسمى بلسانهم «لاتوربلانش» الصومعة البيضاء ، مستديرة من غالب
جهاتها ، وفي قطعة من قوس الدائرة زاوية منفرجة رأسها خارج الدائرة. وبناؤها يرجع
إلى أيام الأنكليز بهاته الجهة من عام ١١٧٦ إلى عام ١٢٠٠ ، وما تمت أعمال القصر
إلّا أيام فيليب أوكيست. وشكل هذا القصر من النوع المعروف بناؤه على الشواطي
للحراسة ، ويسمى «التور» ، يصعد إلى طبقته العليا بسلم يوضع عند الحاجة ويزال بعد
ذلك حيث لا منفذ للطبقة السفلى ، ومن داخل الشبابيك تبتدئ الدرج المستديرة مع داخل
جدران التور.
توجد كتابات
عبرانية على جدران هذه الصومعة تشهد باستعمالها في غير ما وضعت له ، فبعد أن كانت
حصنا للمدافعين والحراس ، باتت في بعض الأوقات سجنا لأشخاص مختلفي الأجناس. وإليك
بعض هاته الكتابة التي ترجمها كوهين مدير المكتبة الإسرائلية في باريز : أخوان
مسجونان إسحاق وحاييم أبقاهما الله وأعانهما وأنقذهما من الظلمات إلى النور ومن
الأسر إلى الحرية آمين آمين صلاح وصلا في اليوم الثالث «براشا فايهي» (في ٦٤
الكوفير الصغير) ويوافق هذا التاريخ العبراني فيفري عام ١٣٠٤ م.
جوزاف بن دافيد
ـ المنصف بورك فيه.
عزارياه بن
يعقوب.
يعقوب بن
يهودا.
صعدت لها بنحو
٤٥ درجة من خشب من الطبقة الأولى التي أحدثوا بها بابا
ومنها إلى الأعلى بدرج من حجارة نحو ٨٠ ، فتراءت لي معظم بناءات القرية في
الشرق والجنوب. وغالب آجر بناءاتها يميل إلى الزرقة ويرفرف على منازلها طير على
قدر الحمام أسود فاحم ، يألف البيوت ويفرخ في أعاليها.
زرت مستشفى
هاته القرية في ضاحيتها شمالا فوجدته كامل التأثيث والترتيب ، فسيح المنازل ، يضم
بين جدرانه رحبة واسعة وفرشا ٢٤٠ وتكية للعجز أكثر ما بها نساء.
أطلعنا ناظر
المستشفى على أقسامه وكانت بيت الأدوية أوانيها عتيقة ، منها الخزفي الذي مضت عليه
عدة قرون ٣ من مصنوعات نفاير. وتلك الجهة شهيرة بهاته الصناعة مثل نابل الآن
بالمملكة التونسية ، ومنها النحاسية المزوقة بطلاء براق ذي ألوان كالأزرق والأخضر
، قالوا إنها من مصنوعات ليموج منذ قرون وفقدت منها الآن هاته الصناعة جهلا
بالأجزاء التي تتكون منها مادة تلك الألوان وبأساليب تركيبها. مثلما انقرض العلم
بمادة طلاء الجليز الأندلسي الآن وإن حاول بعض الناس الآن في نابل تقليدها ومعالجة
إحيائها. وأسباب فقد الصنائع قديما وحديثا كتم العارفين بها مع أنها علم يحرم
كتمانه ، واحتكارهم لها حبا في السمعة وطمعا في المال الذريع. مع أن الرزق مقسوم ،
والبخيل بجاهه أو بماله أو بعلمه مذموم ومحروم. إلى أن يأتيهم الموت بغتة وهم لا
يشعرون. وكثيرا ما يطوف على المملكة طائف من ربك فيبيتها مرض العدوى أو يصبح بها
صايح الحرب فيجرف الخصيصيين في العلوم والمحكرين للصنائع ومعهم ما علموه وما علموه
، فتصبح الأمة تبكي تلك الصناعة وأما صاحبها فتشكوه.
دخلت دار آثار
هاته القرية وكنيستها المنسوبة لصان روك. وقد قلنا غير مرة إن قرى فرانسا لا تخلو
من مكتب ١ للتعليم ومكتبة ٢ للمطالعة ودار للآثار ٣ ونزل للمسافرين ٤ ومحل للتمثيل
٥ ومعبد ديني ٦ ومستشفى للمعالجة ٧. واستوقف نظري في الأولى بقسم الحجارة كثرة
النقوش العربية البحتة وهي الأشكال الهندسية المنتظمة والمرتبطة الأطراف على قواعد
معروفة وقوانين معينة كيفما كانت الأشكال أو كثرت التفاريع. ولتفنن العرب في
العصور ٥٠٠ الأولى وحتى الوسطى ١٠٠٠ في تلك الأشكال ورسمها على الحجارة والألواح
والجبس والأوراق في فواتح السور وأوائل
الكتب وخواتمها ، عرفت الأشكال بهم ونسبت إليهم.
وفي الثانية
انتصاب محراب عربي في جدار الكنيسة إلى جهة القبلة. وفي زاويتها الشرقية أشكال
الشجر والآدمي من حجارة مجسمة دقيقة الصنع غاية في الإتقان وبديعة في بابها تسمى
شجر جايسي. عبارة دينية ونسبة لبعض أجداد عيسى عليه السلام وهو الذي كان له عدة
أبناء أحدهم داوود. وكانت لهاته القرية سمعة دينية يحجها المسيحيون سنويا إلى أن
أجلت الحكومة في السنوات الأخيرة الرهبان من هذا المكان.
في وسط القرية
وببطحاء نهج الجمهورية حوض يملؤه ماء متدفق من فم أسدين مررت بهما فقرأت عليهما
قول الشاعر :
أسد كأن
سكونها متحرك
|
|
في النفس لو
وجدت هناك مثيرا
|
فكأنما سلت
سيوف جداول
|
|
ذابت بلا نار
فعدن غديرا
|
وبقربها قصر في
أعلاه ساعة تدق لإفادة القرية ، وأكثر الناس استفادة منها سكان ذلك القصر
المحرومين من رؤية ظاهره الذي فيه الرحمة على عكس باطنه. قلت للسيد وكيل الدولة
هناك : ما أحكم وضع هاته الساعة بهذا القصر لتخفف على الملزومين بالإقامة فيه أمدا
معينا أو بضع سنين. كحكمة وضع علامات الأميال بالطريق لتهون على المسافر النصب متى
علم ما قطعه منها فينشط لقطع الباقي. نسوة هاته القرية هن القائمات بكنس الطرقات
صباحا وببيع الخضر في الأسواق والسكك. وذوات الأهالي مختلفة في الخلق فلا تجد
البياض مطردا ولا الحمرة في أكثرهم ، ولا الجسامة في جميعهم ، ولا الكلثمة بقليلة
، أو الطول في العموم ، ولا النحافة في غالبهم ، ولا الصفرة أو السمرة بنادرتين ،
فكل واحد شكل بانفراده حتى في العائلة الواحدة كالأب والابن والبنت والأم وما رأيت
مثل هذا في بلد آخر.
يوجد في القرية
قنال تتجمع به الأوساخ وتتصاعد منه روائح كريهة ، وبلغني أنه يختلط ببعض الأنهار
التي يشرب منها السكان ولا أظن الأهالي ينفلتون من أمراض
الجراثيم المتولدة من هذا القنال بل الوبال ، أو من آلام ما يتعفن
بالباطوار «محل قتل الحيوان» الذي جاء بوسط القرية. وعدم الاعتناء بحفظ الصحة إلى
هاته الدرجة لم أر مثله أيضا فيما مررت به من مساكن فرانسا. أما السويس فأمر كهذا
لا يخطر بالبال ، ووجوده رابع معدودات المحال.
بستان ديزيكليز
بين صديقنا
الدكتور وبين صاحب هذا البستان علاقة وداد أوجبت عليه إكرامنا لأجله ، فقبلنا في
قصره الذي جاء غربي القرية بمسافة ميل في بستان ملوكي بمكان يسمى فربايل. وأطلعنا
على مكتبته الكبرى بالقصر المذكور وبيت بالزاك الروائي الشهير ويسر هذا الشيخ
الكريم أن يقصد مكتبته المطالعون مثلما يسره «على ما تقرؤه من وجهه قواعد الفراسة»
أن يقرىء الضيوف بصدره الرحب وقصره الشاهق.
والفرنساويون
أشبهوا الرومانيين في كثرة اقتناء الكتب وإباحتها للمطالعين ، فقد كانت في مساكن
الأشراف الرومانيين مخادع جميلة بها مكتبات مباحة لمن يرغب الاطلاع عليها من
الأدباء والعلماء ، مع أن الكتب في عصرهم نادرة الوجوه وغالية الثمن ، وهم مع ذلك
لا يحتكرونها. وعلى هذا المنوال ، بالمملكة التونسية مكتبة صديقنا النحرير الشيخ
سيدي الطاهر ابن عاشور قاضي قضاة المملكة التونسية المحمية.
وفي القيروان
مكتبة العالم الشيخ سيدي محمد الجودي مفتي مدينة القيروان المحترمة.
ولا أكتم أن
بعض الناس من جملة مكاسبهم كتب مهمة يشحون ولو برؤيتها على غيرهم ، وإن شئت على
أنفسهم أيضا. كما لا ينكر أن الذي وسع لبعضهم العذر في ذلك من يستعير الكتب ولا
يرجعها متمسكا ببيت ابن عاصم «ولكن بالمصراع الثاني منه فقط» :
وما استعير
رده مستوجب
|
|
وما ضمان
المستعير يجب
|
أصحبنا السيد
بابنه على عربته فطفنا بالبستان بين جداول المياه وظلال الأشجار وصفير نوع من
الطير يسمى عندهم «ميرل». وحملنا صاحب هذا البستان أيادي الإكرام مع تحيات إلى بعض
أصدقائه من أعيان الفرنساويين بتونس. بالزاك الروائي ، الذي دخلنا بيته في قصر
السيد ديزفليز حول إيسودان ، ولد في تور في مبدأ الحرية بفرانسا سنة ١٧٩٩ ـ ١٨٥٠
وأكثر ما يكون النبوغ في الأفراد عند مبادي نهضة الأمة ومن الذين شبوا بلبان الدور
الجديد ، وإنما العلوم تنضج في الجيل الثاني غير أن منفعة الجيل الأول أكثر ،
ونوابغهم أشهر ، لما لهم من مضاء العزيمة والنفوس العصامية. انظر إلى الطبقة
الأولى من تلامذة المدرسة الصادقية وكذلك الخلدونية واختبر أفراد الجيل الحاضر وهم
الذين شبوا في التاريخ الجديد للمملكة التونسية تجد ما قررناه لك.
وأوضح من ذلك
أن كل أمة وكل عائلة لها شباب وهو مبدأ أمرها وقوة سيرها ، والشباب بالنابغين
والشيخوخة بالجامدين.
كان بالزاك
كاتبا معينا لبعض العدول ثم ولع بالكتابة مثلما ولع الفقر المدقع بمصاحبته ليأخذ
حظه منه قبل أن تدفعه عنه في آخر عمره علومه وسمعته. ومقابلة أمته له بتقديره حق
قدره ، والنبوغ في التحصيل من قديم لأبناء الفقراء. ألف كثيرا في الفلسفة
والروايات والانتقاد وأطوار الحياة في الحواضر والبوادي وفي الغرام ، ومبادي
الدخول في معترك الحياة. ورغبت تآليفه وبذل فيها المال سلفا قبل إتمام إبرازها ،
وذلك مما زاد في نشاطه إلى أن صار كأنما قلمه متخذ من الكهرباء وفيه ما فيها من
المنافع مثل السرعة وإضاءة الأفكار ونسمات الحرية في الصدع بما في الخاطر وحرارة التأثير على العقول. وكان مقداما على الأعمال
والأقوال وأقام في هذا القصر من عام ١٨٣٥ إلى عام ١٨٤٠. وقد قدر لنا أن دخلنا بيته
ورأينا صورته والقوم لهم عناية بحفظ الآثار. واعتبار أرباب الأفكار. سكان إيسودان
أهل عناية بالغريب ومن أكثر الناس إكراما للضيف ، فإليهم الشكر عما صنعوه معنا
وأخص منهم صديقنا الدكتور كيوم والسيد ديزيكليز ، ولا يشكر الله من لا يشكر الناس.
قال النبي صلى
الله عليه وسلم لحسان أنشدنا من شعر الجاهلية ما عفا الله عنا فيه ، فأنشده قصيدة
الأعشى التي يهجو بها علقمة بن علاثة ويفضل عليه عامر بن الطفيل حين تنازعا الشرف
في الجاهلية. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا
تنشدني مثل هذا بعد اليوم ، إني ذكرت عند قيصر وعنده أبو سفيان وعلقمة
فأحسن علقمة القول ، وإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس ، وكان ذلك قبل إسلام
علقمة.
حدث الأستاذ
الأكبر الشيخ سيدي سالم بوحاجب أنه لم يدرك القطار في بعض مراكز الطريق أيام رحلته
إلى إيطاليا منذ نيف وأربعين عاما فجنح ، إلى الجلوس في مطبخ المحطة ريثما يأتي
قطار آخر ، وقد ذكرنا ما تمتاز به القطارات بأروبا عن قطاراتنا قبيل الحديث على
باريز وأن من جملة ذلك المطابخ في محطات الطريق ، فاستضافه صاحب المطبخ وأكرم
وفادته وأجلسه على مائدة عائلته وبين بناته. وقد أعجب فضيلة الأستاذ بحسن القرى
وما جاملوه به من المصاحبة في أرجاء تلك القرية المسماة «كوكاليو» ، ووادعوه عند
السفر بموجب التعارف في ذلك الوقت الوجيز حتى لقد أثر عليه ذلك الإكرام الغير
المنتظر وما رآه في تلك العائلة من حسن الخلق والخلق بصفة لا تقصر عن التأثير الذي
حصل لهم من الإعجاب للباسه العربي ، وهي الصبغة التي عرفوا بها كون الشيخ غريب
الدار فاحترموه وأكرموه. فبادر الشيخ عقب الرجوع إلى ليفورنو بالثناء عليهم على
لسان بعض الجرائد.
البحث من عوائد الفرنساويين
طالما سألني
أهل هاته القرية عن عدة أشياء مثل غيرهم من سكان فرانسا حيث كان من عوائد الفرنساويين
البحث. وقد عقدت فيما يأتي لما سألوني عنه وأجبتهم به فصلا في خلق الفرنساويين
وخلقهم عند الرجوع إلى مرسيليا وقبل مبارحة تراب العدوة الشمالية.
فيشي
قصدتها بعد
إيسودان على طريق بورج رأسا فصان كايز ثم صان جرمان دي فوسي ، وهي ذات شهرة بأنواع
المياه المعدنية الصالحة للمداواة ومعالجة كثير من الآلام. سماها جول سيزا في
القديم «فيكوس كلدوس» والكلمة الثانية معناها
«حار». ولعل تسميتها بفيشي جاءتها من الكلمة الأولى ـ وأحيى حماماتها هنري
الرابع عام ١٦٠٣. والحديث الشريف الذي تلوناه في المقدمة بفصل السفر للمداواة وهو
: العالم كالحمة يقصدها البعداء ويتركها القرباء ، فبينما هي كذلك إذ غار ماؤها
فانتفع به أناس وبقي أقوام يتفنكون أي يتندمون. صريح في نفع المياه الحارة وشد
الرحال لها من قديم لمعلومية الاستشفاء بها ، وتجربة فوائدها بإلهام من الخالق
اللطيف بعباده إلى ما بهاته المياه من الخاصية الفعالة في شفاء الأجسام ودفع
الآلام.
ومن أخص ما
تنجع في معالجته مياه فيشي ما يأتي :
مجاري الغذاء
من الفم إلى المعدة.
الكبد.
الكلى.
البول السكري.
الحصى.
البمين.
عرق النساء.
وعيون فيشي
منها الدولية ومنها الخاصة ، والأولى بعضها ما يأتي :
أسماؤها
|
درجة حرارتها
|
ما تعطيه في ساعات
|
١ شوميل
٢ كران كري
٣ أوبيتال
٤ لوكا
٥ باك
٦ ميدام
٧ سيليستان
|
٤٣
٤١
٣١
٢٧
٢١
١٧
١٥
|
٠٠٠ ، ٠٢
٠٠٠ ، ٧٥
٠٠٠ ، ٦٠
٠٠٠ ، ٢٠٠
٠٠٠ ، ١٥
٠٠٠ ، ١٧٠
٠٠٠ ، ١٤٠
|
وغيرها. والقسم
الثاني تضاهي عيونه هذا العدد ولا يشرب أحد من ماء العيون
إلّا بعد مراجعة الأطباء وتقريرهم مدة الإقامة «وفي الغالب أحد وعشرون يوما»
وما يناسب المرض من تلك العيون ، ومقدار ما يؤخذ من الماء في الأوقات اللائقة.
والأجر عن هذا
كله مع المراجعة مدة الإقامة ستون فرنكا. وعين سيليستان مباحة الشرب بلا قانون ولا
ثمن للأصحاء والمرضى. كان صاحب النزل الذي أقمت به «أتيل ميلان» بنهج نيم ، ودلنا
عليه النجيب السيد محمد جمال الذي لاقانا بكل بشاشة ، على عادة هاته العائلة في
حسن الأخلاق والمجاملة. يرسل من يأتي لنا من ماء هاته العين ما يروينا ونحن على
مائدة الغداء والعشاء ، وله طعم لذيذ لا تعطيه القوارير المجلوبة ، ولا الأتربة
المنسوبة. ولمياه العيون نظام غريب في النظافة وسرعة المناولة ، تدور حلق الوراد
وتجتمع طلاب الشفاء حول درابزون وراءها فتيات طوافات بأكواب يملئنها من الماء
المتدفق في الحياض المحيطة بالعين من جميع جهاتها ، وقد ضربت عليها قباب البلور
وبالأخص عين كران كري وعين الأبيتال «المستشفى».
تكاد قرية فيشي
التي جاءت في وسط أراضي الزراعة وترتفع عن البحر بأمتار ٢٦٤ أن تكون كلها مساكن
للوفود الكثيرة في أشهر المصيف جوان وجويليه وأوت ، فتتلقاهم بصدر رحب وعيش خصب.
وأسعار المآكل والمساكن في فيشي أرخص من جميع ما نزلت به في بلدان الرحلة. وبها
للخضر واللحوم والزبد والغلال سوق أكثر نظاما وأوفر بضاعة وأرخص أسعارا مما يعهد
في فندق الغلة عندنا بتونس ، فلا ينقطع عمرانه صباحا ولا مساء. وجل البضائع في هذه
السوق بيد النسوة يبعنها حسب رغبة المشتري صبرة ووزنا. وبقية المبيعات من غير
الضروري كمستظرف المصنوع أسعارها مرتفعة. وقد أفاض على أسواق فيشي معمل بوهيميا
النمساوي بمختلف الأشكال والألوان من البلور الجميل ، وكتب على نفسه أن يخلب بها
الأبصار ، ويستنزف بها الدرهم والدينار من أغنياء الأقطار. يرجعون به زينة وذكرى
لمنازلهم مع ما في حمله من المخاطرة به وارتفاع ثمنه. فيشي بها البضائع المختلفة
حتى الشرقية التي قام بالمشاركة بها في معرض مصنوعات الأمم السيد محمد جمال بدكان
واسع جوار أتيل ميلان الذي نزلناه ، مفعما بأنواع المنسوجات والمطرزات والعطورات
التونسية والزرابي القيروانية. وفيشي مثلما هي معرض للبضائع هي معرض لأجناس البشر
أيضا فتسمع بها اللغات المختلفة ، وترى فيها الوجوه المتباينة زيادة على صبغة
الأمراض
العارضة لها في غالب الزائرين الذين لا يقل عددهم سنويا عن مائة ألف ، مع
السكان الذين عددهم نحو خمسة عشر ألفا. هيأت قرية فيشي ، التي عمرانها وما لها من
الزائرين لها من جميع الآفاق ، سائر المرافق وأعدت لهم البساتين للنزهة والكراسي
المبثوثة في البطحاء الكبرى بجنوب العيون لراحة قصادها مدة ترقبهم الأوقات
المأذونين بالشرب فيها ، يؤدون عشرة صانتيمات على الجلوس فيها ، كما نصبت لأموالهم
القهوات ومحلات التمثيل وأحمرة يركبونها ، على نحو ما يعلون بالقيروان. تعرفت فيها
من الناطقين بالضاد بأبناء المغرب والمشرق ، عرفنا السيد عبد الرحمان برق الليل
التاجر الشهير والمثري الكبير بالمغرب الأقصى مترددا بين الجديدة «مازغران» وغيرها
، وتقدر ثروته على ما حكوا بخمسة ملايين. والسيد محمد علي شريف عبد القادر الحسيني
مراقب الدين المغربي بالجديدة المذكورة بمملكة فاس.
ذكر لي أنه
يعرف القيروان وطلب الدعاء له بها. بلغه الله مقاصده الخيرية. وهو من ذرية ذلك
الرجل العظيم صاحب الشمم والمنطاع ، له حد السيف والقلم الحاج عبد القادر
الجزائري. وقد ذكرناه في الفصل الخاص بفرساي مع نابليون الثالث الذي امتن على هاته
العائلة الكريمة ، فبقي ذكر جميله خالدا ما بقي نسل الحاج عبد القادر معترفا
بالجميل ، ومثلهم من لا تضيع لديهم أعمال المحسنين. وعرفت السيد وديع العربي
اللبناني محرر جريدة السعادة بالمغرب الأقصى التي انتقلت أخيرا من طانجة إلى رباط
الفتح. المركز الجديد لحكومة الحماية ومستقر الدواوين المغربية والمقيم العام
الجنرال ليوتي الذي حدث عنه السيد وديع حديثا طيبا ، ويتمنى دوام ولايته حيث كان
محسنا للمتوظفين ومالكا لقلوبهم ، حتى إنهم يخدمون معه بقدر ما يسره ويرفع من ذكره
ويقدم أعماله لا على قدر ما يلزمهم القيام به من أشغال الوظيف الضرورية فقط. قلت
له وهاكذا كان نابليون وبذلك دوخ الممالك. وهي طريقة الخبيرين من قبله وبعده ،
أطال السيد وديع بفصاحته العربية وخبرته السياسية في الحديث عن الجنرال ليوتي وما
حصل عليه من رضى الأهالي ، وقد حافظ على عوائدهم وأوقافهم وربما نشطهم بما أحدث
لهم من النظامات الكفيلة بحسن مستقبلهم ، وذلك ما لم يكن معتادا عندهم ولا مألوفا
بينهم ولا يخطر وقوعه ببالهم. قضينا في السمر ليالي مع هذا الرجل الخبير المتوقد
القريحة الحاضر الجواب السيد صاحب جريدة السعادة.
فكان من بين
ألفاظه التي علقت بالذهن ـ السياسة تضحي الرجال ـ ومنها أن السياسي لا ينبغي أن
يكون محبا للأثرة وقاطعا سمعة غيره وبحيث تكون غاية أمله أن يبقى مسيطرا وحيدا ،
لأن هذا مما تنفره القلوب وبالأخص أرباب النفوس العالية والأعمال العظيمة ، ولأقل
حادث ولو كان سماويا يجد ذلك السياسي نفسه منفردا ولا عضد له في الدفاع لحوادث
الدهر ، وهي كثيرة كما علمت.
ومنها أن بعض
الأمم «قلت وكذلك بعض طباع الأفراد» من أخلاقها ستر الهفوة وإقالة العثرة والصفح عن
الذنب ، وأن بعض الأمم على عكس هذا. وأن بعض الأمم «قلت كذلك الأفراد» من شأنها أن
تطلب الاستفادة من حديث الغير ولا تريد أن تفيد غيرها بشيء. اطلع السيد وديع على
أخبار المغرب الأقصى ووقف على حوادثه الأخيرة وتاريخه الجديد. وقرر عن النظام
السابق وبيع الوظائف فيه ومصادرة المتوظفين واستباحة بيع الأحرار وعدم الأمن ما
لربما سمعنا مثله من الجيل الذي سبقنا بالانفراد في مشاهدة الروايات التي ختمت
أنفاسها مع القرن ١٣ ه. وشاركنا ذلك الجيل الآن في المشي على بساط الأمن ومشاهدته
معنا الدور الأول من رواية التاريخ الجديد بالمملكة التونسية. آنسني هذا العربي
بالهيئة العربية ولغتها الفصحى وشعرها الرائق. وقال إن عادة الإنسان ونسبه ولغته
لا يخفيها ولو في الممالك القاصية وإن ذلك مما يكبر به في عين الغير ، وأثنى على
محافظتي على لباس الوطن. ولما كاشفته بما عاينت من احترام الفرنساويين للتونسي
وجميل معاملته ، وأن البرنس في باريز ، محترم وعزيز ، اهتز سرورا وتمنى أن نوجه له
ما عسى أن نخطه في هذا الموضوع لينشره على صفحات جريدته العربية.
ليموج
في مقاطعة هوت
فيان «أعلا نهر فيان» المار بشرقي المدينة من الشمال إلى الجنوب. وسكانها نحو مائة
ألف. بلغناها مساء ، وعند الأصيل نزلنا من محطة بينديكتان ، وصعدنا مع الطريق
الذاهبة إلى الجنوب الغربي حتى دخلنا المدينة التي جاءت في سفح متجه إلى الشرق.
وكانت لذلك طرقاتها مختلفة الارتفاع وبعضها مما
يصعب صعوده. واستصحبت من محطة سكة الحديد أحد العملة بها دليلا على مهمات
البلد حيث عزمت على تقصير الإقامة في هاته المدينة التي لم يسبق لنا تعارف مع بعض
سكانها. ومعرفة بعض الأفراد في البلدان مما تفيد المسافر جدا في الكشف عما يهم ،
والمعاضدة فيما يلم. ويكون للمسافر مزيد اعتبار في نظر السكان متى كان له صاحب
منهم. عند الوصول لهاته المدينة رمقتنا العيون من كل جانب حتى كأنما نزلنا لهم من
السماء. وأحيانا تحيط بنا أقواس من الأشخاص كبارا وصغارا وبالأخص النساء بلباسهن
الملون كقوس قزح في الاستدارة والألوان الكثيرة ، ولكن مع التعجب الاحترام الناشئ
عن الآداب العلمية والتربية الصحيحة. فتغافلنا عنهم وتركناهم وشأنهم حتى تركونا
وفسحوا لنا في الطريق. أسرعت إلى معمل الفخار الملون الشهيرة ليموج بحسن طلائه منذ
قرون ، فصادف وصولي خروج العملة وغلق أبواب المعمل. ثم استعنت بركوب الطرمفاي على
رؤية أرجاء المدينة وبساتينها الأنيقة. ورأيت بطحاء كارنو وفضاءها المتسع كأنه
مهيأ للبناء أو الغراسة. وتناولت العشاء في جنوبها ، وقضيت السمر في بطحاء
الجمهورية. ودخلت محل التمثيل هناك فظهر لي ضعيف الحركة ناقص التأثيث والتنظيم حيث
كنت حديث عهد بمشاهدات باريز وفيشي. ولما أردت الدخول إلى دار الصور المتحركة «السينيماتوغراف»
فلم أجد فيها مجلسا في سائر الطبقات ، فعلمت شغف القوم بالحوادث الجديدة التي
تمثلها للأعين هاته المخترعات المفيدة ، خرجت من المدينة إلى مركز سكة الحديد مع
الدليل بعد نصف الليل وأخذت الحقيبة التي أمنتها بالكار وسافرت في القطار الذي
أقلع في ذلك الوقت إلى طولوز بالجنوب الغربي من فرانسا فصبحناها بكرة.
جنوب فرانسا
أهل الشمال من
فرانسا يظهر أنهم أبيض أجساما وأرصن عقولا وأميل إلى الهدو وأتقن حرفا ، ولعلهم
أرباب دقة في أنواع الصناعة واعتناء بالتجارة. وأهل الجنوب أنبغ ذكاء وأخف أرواحا
وأحمر ألوانا وأكثر دعابة وربما كانوا أصحاب زراعة «فلح وماشية» في غالب أحوالهم.
وهذا مشاهد لكل متبصر شأن الفرق بين سكان المناطق
الحارة والباردة وتباين طبايعهم. ولاختلاف الطقس ما بين جنوب المملكة
وشمالها لاقيت بردا لم يكف فيه برنس الصيف في غابات أركون في الشمال الشرقي من
باريز وحوالي فاراين وفيردان. ولشدة الحر في طولوز الذي بلغت درجته فيها ٢٣ ـ خفت
ثياب المصيف. وفي أول شهر جويليه كانت الحرارة بالجهات الجنوبية مثل طولوز
ومونبيليي ونيم وآرل ومرسيليا على التقريب توازي أول شهر مايه عندنا وبحيث يكون
الفرق نحو شهرين بيننا وبينهم. وبينما درجة الحرارة هناك ٢٢ بلغت في القيروان
بأوايل جويليه ما يزيد على ٤٤ درجة من ميزان صانتكراد. لذلك حصل لي أرق وقلق من
الحر بمجرد رجوعي في أوايل جويلية من فرانسا إلى القيروان ، ولم أجد له موجبا غير
التنقل السريع من البرد إلى الحر مثل الداخل إلى الحمام على غير صفة تدريجية أو
الخارج منه كذلك. والسير من قطر إلى قطر فيما مضى لا يضر بالمنتقل من البرد إلى
الحر والعكس لبطء السير والتدرج في الأهوية المختلفة. أما الآن فبسرعة المواصلة
صارت الأبدان تتضرر باختلاف طقس الأقطار المتباعدة جدا. وجدت لاختلاف الطقس فرقا
خفيفا بين سكان الجنوب والشمال حتى كأنهم في باطن الأمر سكان قطرين أو أبناء
عنصرين. ويظهر ذلك في مجاري الحديث والتنكيت الخفي يتوفق لإدراكه الناقد والمهتم
بحفظ الإشارات في غضون الكلام من سكان إحدى الجهتين في مقام التعريف والإخبار عن
سكان الجهة الأخرى. وأبناء هاته المملكة كما علمت في فصول باريز ، لهم براعة في
صوغ الكلام وسبكه في قوالب تناسب مرادهم وتودي مقاصدهم إلى السامع ، بأسلوب سهل
ترتاح إليه النفوس وتتلقاه الآذان بالقبول إلى أن يستوفي المتكلم أغراضه بالحجج
اللايقة بمقام الخطابة وينتقل في المواضيع التي يرومها بالتماس مناسبات حتى تكون
أنواع الكلام آخذة برقاب بعضها بعضا. فلا يتخلص من التصديق بها ويميز غثها عن
سمينها ويرصد مكامن النكات التي تتخللها إلّا من وفر إلقاء السمع ، واستعان على
التمييز بسلامة الطبع. وربما زهدوا فيمن لم يحفل أو لا يفهم هاتيك المغازي
والمرامي ، والحق في جانبهم إذ كل متكلم يقول أنا عبد من يفهم كلامي. قال بعض
المؤرخين إن بعض البلدان الجنوبية من فرانسا مشهورة في تاريخ الأندلس حيث كانت
مواطن لكثير من الوقائع الحربية بين العرب والإفرنج ، فمنها نربونة واسمها في
تاريخ العرب أربونة.
وكركسونة وتسمى
قرقشونة. وطولوزة واسمها في الكتب العربية طولوشة ، وأفينيون وتسمى صخرة انيون.
وبواتيي وتعرف ببلاط الشهداء إذ بها كانت الوقعة الكبرى بين عبد الرحمان الغافقي
أمير الأندلس وشارل مارتيل أمير الإفرنج سنة ١١٤ هجرية فانهزم بها المسلمون. وإن
تقدموا بعدها في مملكة فرانسا. وفي الحرب الثانية بين قرطاجنة ورومة من سنة ٢١٩
إلى سنة ٢٠٢ ق ـ م عزم هنيبال على محاربة الرومان في بلادهم ، فاجتاز جبال
البيريني وسار على جنوب «غليا» فرانسا وكان أهلها أعداء للرومان فانخرط منهم جم
غفير تحت لوائه.
طولوز
يقال إن
تأسيسها قبل رومة ، وفي القرن الخامس استولى عليها الفاندال حتى أخذها كلوفيس بعد
الخمسمائة. والآن سكانها ١٥٠ ألفا ، وهي في الرتبة السادسة من المدن العظمى
بفرانسا من جهة عدد السكان فقط ، وهي مركز مقاطعة أعالي نهر الكارون الذي يشق
المدينة آتيا لها من الجنوب ، ويظهر من اتساعها وفراغها عظمة ماضيها وانحلال
حاضرها وتقرأ من خطوط رسمها المستطيلة وقلة السالكين في سككها أنها أخذت حظا عظيما
في الماضي ، شأن العواصم ذات الضواحي المتسعة المترادفة القرى في زمن مضى ، ثم
أتاها زمن لا عاصم فيه من أمر الله ، فترى ممططة الشوارع المتسعة بلا ساكن يملؤها
أو عمران يزينها. وهذه سمة الطاعن في السن الذي سبق له شباب أفعم الأديم وكساه
رونقا وجمالا ، ثم امتصه الدهر وأكل منه وشرب ، فكانت آثار الشباب والجمال مما
تزيده إيحاشا. وما أوحش العواصم في أدوار انفلات السيادة منها وتجافي القصاد عنها.
وما أنكد حظ سكانها في ذلك العصر فهم يحلمون بما كان ، ولا يجارون الزمان. فيمسون
في أخسأ المراتع ، ويصبحون أقل من القليل في عين الناظر وأذن السامع. وإن ملأت
أحاديث عظمتهم الحقة والفارغة بطون الدفاتر وسمر المجامع :
وأنكد الناس
عيشا من تكون له
|
|
نفس الملوك
وحالات المساكين
|
من أجل ذلك
تصير المدينة أكبر من الساكن كثوب الرجل يتمشى فيه الصبي.
هذا ماديا ،
وأما أدبيا فإن الخبر يكون أقل من الخبر ، والنفس عندها منزلة السمع دون البصر ،
فلا يرضيها ما كان الحديث عنه أكثر مما يشاهد. موقع طولوز في فحص متسع وارتفاعها
١٣٣ م على البحر ، ونهر كارون يأتيها من الجنوب الغربي ثم يذهب في الشمال ما بين
قنطرة صان ميشيال والقنطرة الجديدة ، ثم يتجافى عن المدينة إلى الشمال الغربي وقد
اقتطع من غربي المدينة ربض صان سيبريان ، وفي شمالها وشرقيها قنال كالهلال جزناه
لما نزلنا من محطة سكة الحديد الشرقية الشمالية من البلاد وقصدت بطحاء لافايايت
حيث نزلنا أتيل كابول. بناءات المدينة بالآجر الأحمر ولهذا يشبهونها بالوردة. وفي
وسط المدينة بطحاء الكابيتول الشهير تتصل بها الشوارع العظمى. وجدنا في البطايح
بايعات الخضر وغيرها نسوة والمبيعات ملقاة على الأرض. مرت بنا في سكك المدينة
عربات بها شبان يحملون أزهارا كثيرة يوزعونها على الديار ويجمعون بذلك مالا
يصرفونه في إحياء بعض الليالي باللهو والرقص والقصف. فقلت ليتهم أنفقوا هذا المال
على بناء أو مظلات تقي من الحر والقر هؤلاء النسوة البائسات البايعات وحفظا أيضا
للمبيعات. شرحت لي هاته العادة في جمع المال عائلة دوبورداين الذين تلقوني
وأطلعوني على المهم بالمدينة وأكرموا نزلي فلهم مني الشكر الجميل.
النسوة في
طولوز على خلاف بقية البلدان ، فيظهر عليهن الفقر والتعاسة بتعاطيهن الأعمال
المبذولة البسيطة فيبعن الخضر تحت حر الشمس وكذلك الأقمشة وأدوات الخياطة
كالبايعين بالشارع الجوفي من فندق الغلة بتونس. وتستعمل النسوة مظلات كبرى بيضاء
وأرباب العربات مظلات كذلك زرقاء وقاية من حر درجته ٢٢ ، فلو أتاهم حر بلادنا ضعف
ذلك أربعة وأربعين درجة للازموا الإقامة تحت السقوف ، وانحجروا في الكهوف. وتباشر
النسوة غسل الثياب بالأرض على شفير نهر الكارون وصيد حيوانات البحر من الخلجان
القذرة جوفي المدينة. وهن على أبواب الكنائس سائلات وينسجن الجوارب السود في
الطرقات. وأغرب من ذلك «وشأن المرأة غريب في طولوز» أن نساء طولوز ممتلئات الأجسام
لحما وثيابا يظاهرن بينها ويظهر العرج فيهن كثيرا ، فتراهن ظالعات ضليعات ولهن
شوارب كالرجال ولحى يخلفن فيها كثرة
وقلة ، ولما في عوائدهن من إعطاء الحرية للشعر وإعفائه من الأذى فتبدو وجوه
ذوات الشوارب واللحى. وهن كثيرات ، كالسعالي. كانت تقسم السيدة عائشة رضي الله
عنها بقولها لا والذي زين الرجال باللحى ، وقد جاء أنه قسم الملائكة. وأنا أقول لا
والذي زين النساء بعدم اللحى. عرفت بهاته الصفة عدة نسوة في كثير من بلدان المملكة
التونسية لما وجدت أجسامهن وشعورهن على ما رأيت في طولوز فاستغربن مني ذكر نسبتهن
إلى طولوز بدون سابق معرفة. فما أشد تأثير ماء الكارون في خصب الأرض وأجساد البشر
وتوليد النبات. والشعر يظهر أن الأسعار رخيصة والمهن بسيطة مع بقايا من الميل
لملايمات الحضارة من آثار السمعة الماضية ، وربما بقيت أيضا في هذه العاصمة
العائلات الماجدة والنباهة الفطرية وعلو الهمة الماضية والأريحية المتوارثة. والآن
لها شهرة بالتعليم وبها على ما بلغني بعض الصنائع الجيدة كالنقش والدهن وغيرهما
بقية ممن سلف. وهكذا شأن العواصم في أدوار تأخرها تبقى بها آثار جودة الصنائع التي
تمكنت منها ، يتوارثها الأبناء عن الآباء لا يتحولون عنها لما لم يجدوا سواها
وسيلة للتمعش ، فينساقون إليها بحكم الضرورة وتسهل عليهم من عهد الفطرة ويحنون
إليها بالإلف والمشاهدة من عهد الآباء الذين ربما كتموا سرها وضنوا به عمن سواهم
وتركوه لهم كنزا نفيسا بزعمهم لا يعتريه كساد أو نفاد. أو لم يعلموا أن الله يفعل
في البلاد والصنائع والعباد ما أراد؟ لذلك تجد بعض الصنائع خاصة ببعض العائلات
ومتسلسلة متوارثة في أفرادها وإن لم ينتفعوا بها حتى تقتلهم لاقتصارهم عليها
ويقتلونها باقتصارها عليهم. حياة طولوز الآن ، فيما يظهر بالفلاحة وتجارة الحبوب
والحيوان ، ولم أر فيها معامل أو حركة في تجارة المصنوع. وشاهدت كثيرا منهم
يشتغلون بصيد حيوانات الماء العفن بالخلجان في أحواز المدينة.
المعابد
دخلت كنيسة
دوتورو «الثور» وبها صورته وكنيسة صان سيرنا العتيقة من القرن ١١ م وطولها أمتار
١٥٠ ، وعرضها نحو ثلث ذلك ، وارتفاعها يقرب من عشرين ميترو.
حدثوني بأن لها
سمعة ، وأرباب الديانة يقصدونها من شاسع البلدان. رأيت بها
بعض عجايز ورهبان لا يشتغلون بسوى أعمالهم ولا يهمهم أمر من سواهم.
ديار العلم
أتيل داسيزات ـ
دار عتيقة ذات ثلاث طبقات بها صحن لطيف وأعمدة كبرى.
وقصر السكنى
يطلق عليه لفظ أتيل ، وبحيث لا يختص هذا اللفظ بالفنادق ـ قالوا إن بناءها يرجع
إلى القرن ١٦ م وأن مالكها وهبها في أواخر القرن التاسع عشر م إلى جمعيات كثيرة
علمية مثل جمعية الجغرافيا ١ الآثار ٢ الأطباء ٣ الأحرف والكتابة ٤ الأدب ٥
التشريع ٦ إلخ إلخ.
المكتبة العمومية
لم أجد بها ما
يهمني ومجلداتها ٢٦٠ فقصدت المكتبة الخطية ببطحاء صانت إتيان عسى أن أرى بها بعض
المخطوطات العربية «والقوم لهم ولع بكتبنا» فوجدتها على الساعة ٣. ٥٠ مفتحة
أبوابها فصعدت إلى علوها فلم أجد بها حارسا أو ناظرا ورأيت عصا وقبعة ولكن لم أظفر
بصاحبها حتى ظننته اختفى مني خوفا من شخص غير معروف اللباس أتاه في الهاجرة ، فطفت
في عدة بيوت مفعمة بالأوراق والمجلدات كما أردت بدون أن أمس شيئا وانتظرت دقايق
كثيرة بدون جدوى ، ولم أجد وقتا للانتظار ساعات حيث كانت العربة تنتظرني في
البطحاء ، فخرجت مأسوفا لا على عدم الظفر بمرادي من المخطوطات العربية فقط ولكن
على مكتبة بلا حارس.
الآثار
كثيرة في طولوز
لما لها من الاعتبار في القديم وطول الأمد في غابر الدهر. وقد ضم لمصنوعاتها
العتيقة المسيو كليني الطلوزي الموظف سابقا في مادكسكر والمقيم الآن في باريز عدة
مصنوعات إفريقية من سلاح وغيره هدية منه لمسقط رأسه. دخلت متحف
صان ريمو بقرب كنيسة صان سيرنا مجانا أي بلا شي زايد على الإحسان للقيمة ،
وبه فاضل المتحف الأكبر ووقفت فيها على جثة بشرية «موميا» مسودة الجلد من ليالي
أربعة آلاف سنة ومن عقاقير التصبير الفعالة المجهولة التركيب حتى الآن وحوض الجثة
وغطاؤها عليهما ألوان دهنية وكتابة مصرية.
قرأت كتابة
بالخط الكوفي في بعض أدواره بالقرن السادس تقريبا على قطع ٩ نحاسية من إسطرلاب
ذكرني في شعر أبي الفتح :
ومستدير كجرم
البدر مسطوح
|
|
عن كل رائقة
الأشكال مصفوح
|
ملء البنان
وقد أوفت صفايحه
|
|
على الأقاليم
من أقطارها الفيح
|
وإن مضت ساعة
أو بعض ثانية
|
|
عرفت ذاك
بعلم فيه مشروح
|
وفي الدوائر
من أشكاله حكم
|
|
تنقح العقل
منا أي تنقيح
|
لا يستقل لما
فيها بمعرفة
|
|
إلّا الحصيف
اللطيف الحس والروح
|
نتيجة الذهن
والتفكير صوره
|
|
ذوو العقول
الصحيحات المراجيح
|
ذكروا أن أبا
القاسم هبة الله المنعوت بالبديع الأسطرلابي الشاعر المشهور المتوفى سنة ٥٣٤ هجريا
كان وحيد زمانه في عمل الآلات الفلكية ، متقنا لهذه الصناعة وحصل له من جهة عملها
مال جزيل في أيام خلافة المسترشد ، ولما مات لم يخلفه في شغله مثله. والأسطرلاب
كلمة يونانية معناها ميزان النجوم ، ينسبون وضعه إلى بطليموس صاحب المجسطي.
أثنينا على
صانع الأسطرلاب بأبيات من شعر أبي الصلت أمية بن عبد العزيز مادح يحيى بن تميم ابن
المعز بن باديس بالمهدية في القرن ٦ هجري :
أفضل ما
استصحب النبيل فلا
|
|
تعدل به في
المقام والسفر
|
جرم إذا ما
التمست قيمته
|
|
جل على التبر
وهو من صفر
|
تحمله وهو
شامل فلكا
|
|
لو لم يدر
بالبنان لم يدر
|
مسكنه الأرض
وهو ينبئنا
|
|
عن جل ما
السماء من خبر
|
أبدعه رب
فكرة بعدت
|
|
في اللطف عن
أن تقاس بالفكر
|
فاستوجب
الشكر والثناء له
|
|
من كل ذي
فطنة من البشر
|
أصبحت آلة
الإسطرلاب في المملكة التونسية من الأسرار المكتومة والطلاسم المعقدة فلا تستعمل
للانتفاع بها ولا يفهم المراد منها بين أبناء العلوم تبعا لفقد علمي الفلك والهيئة
وا أسفاه.
متحف النقش والتصوير
بنهج من الجنوب
إلى الشمال يسمى لالزاس واللورين يمر ما بين بطحاء لافايات شرقا وبين بطحاء
الكابتول غربا ، وهو من أكبر ديار الآثار وأغناها من الصور الدهنية والمصنوعات
الحجرية المختلفة الأنواع والنقوش ذوات الأشكال العربية ، دواير متوازية ومتداخلة
وخطوطا مرتبطة متساوية الرسم والتقسيم على المعروف بألواح منبر جامع عقبة
بالقيروان والرسوم الذهبية بأوراقها العتيقة. قأت على قطعة من حجر في الدور الأسفل
من دار الآثار ما نصه «هو الخلاق الباقي» ، كلييوللي بربر على كوزنيك.
والده سي
مرحومة عائشة ـ خاتونك روحي إيجون ـ الله رضى سي إيجون فاتحة سنة ١٢٢٥. وبدرج
العلو صورة المسيح عليه السلام مخرجا من القبر «بناء على معتقدهم»
وحواليه ستة أشخاص وجميعها مجسم على مقدار الآدمي مختلفي الهيئات على غاية
من الإتقان والإبداع ، يعملون أعمالهم من التقبيل والانحناء عليه ومسكه ، فالبعض
تبدو عليه الكآبة والبعض عليه الدهشة وفيهم الباكي ومنهم المتصبر. بالمعلقات
الدهنية صورة مولاي عبد الرحمان على فرس ووراءه تابع راجلا يظلله ، وفي يد الأمير
اليمنى سبحة ملتوية على رسغه كالسوار. من بين الصور الدهنية شيخ معمم قائما ،
واضعا يده اليمنى على شابة وأخرى بجانبها أكبر منها تباشر النسج ، وعلى يساره شاب
بيده عصا ، فسرى لذهني أنها تمثل سيدنا موسى وسيدنا شعيب عليهما السلام ، وحال
تزوج الأول بإحدى ابنتي الثاني على ما قصه القرآن المجيد ، وباستفسار إدارة الآثار
بعد رجوعي بواسطة عائلة دوبوردايز بلغني أنها صورة لابان وابنتيه ليئة وراحيل ،
والشاب ابن أخته يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام. والمسألة شرحتها التوراة
في سفر التكوين بالإصحاح ٢٩ ، ومضمونها أن يعقوب سافر إلى خاله لابان بأرض حاران ،
فوجد راحيل ابنة خاله ترعى غنما فسقاها لها من البير ، وتعاقد مع خاله على رعي
الغنم سبع سنين في مقابلة زواجه براحيل التي أحبها يعقوب حيث كانت حسنة الصورة ،
وعدل عن أختها الكبرى ليئة لضعف في عينيها. وبعد السبع سنين أولم لابان وزف إلى
يعقوب ليئة ابنته الكبرى عوض الصغرى ، وفي الصباح لما رآها يعقوب قال لخاله ما هذا
الذي صنعت بي أليس براحيل خدمت عندك فلماذا خدعتني؟ فقال لابان : لا يفعل هكذا في
مكاننا أن تعطى الصغيرة قبل البكر «وهاته العادة تراعى إلى الآن غالبا وبقدر
الإمكان في المملكة التونسية» أكمل أسبوع هذه فنعطيك تلك أيضا بالخدمة التي تخدمني
أيضا سبع سنين أخر ، ففعل يعقوب ودخل على راحيل أيضا (وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ).
وأحبها وعاد
فخدم سبع سنين أخر وأولدها يوسف عليه السلام ، وأحبه أبوه إسرائيل «يعقوب» أكثر من
سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته وصنع له قميصا ملونا.
منازه المدينة
بستان الحيوان
بجنوب المدينة متسع جدا والحيوانات الغريبة قليلة فيه مثلما يظهر
سكان طولوز قليلين أيضا في الشوارع الكبرى ، ونطاق البناءات المتسع وبين
أطراف البلد المترامية. ويذم في هذا البستان صورة رجل من رخام مكشوف السوأتين كأصل
الخلقة ، مع أن ثيابه منحازة إلى جانب منه ، فلم أدر لما ذا أبعدت عنه ولا لأي شيء
أقيمت هاته الصورة المشوهة في بستان عام للنساء والرجال كبارا وصغارا. وبين هذا
البستان والمدينة بستان مستدير لطيف به بناء على شكل المظلة تترنم به الموسيقى في
بعض الأحيان.
وفي ضاحية
المدينة بالشمال الغربي مكان به ثلاث قناطر على خلجان متسربة هناك ، وبجانبه محل
لهو تركض في ميدانه طلقا الشبان والشابات على قباقب من حديد.
بين طولوز ومونبليي
تظهر تربة
القسم الجنوبي حجرية وكثيرة المرتفعات وسلاسل جبال صغرى كلما غاب منها سياج ظهر من
ورائه آخر ، وأكثرها مغروسة عنبا ، وفي أوائل جويليه أخذوا في حصد الشعير. أما
القمح فلا يزال مخضرا ناعما على المعروف عندنا في أوائل شهر مايه ، فالفرق ما بين
عدوتي البحر الأبيض نحو الشهرين على التقريب يسبق بهما الجنوب الشمال.
ومن أحسن ما
جعلوه بالحدود علامة بين أراضي الملاكة والقطع المتجاورات أسطر من الأشجار العظمى
، تحفظ بها الحدود وتزدان بها الأرض وينتفع بظلها. وحبذا لو غرست الأشجار في حدود
أراضينا التي يتكرر فيها النزاع سنويا وتصرف الأموال وتراق الدماء ويطول الجدال ،
غير أن إهمال الحيوان عندنا على الأشجار ربما تضاعفت به الخصومة وازداد النزاع
وتجاوز الحدود.
تعرفت في
القطار يبن مدينة نربون ومونبليي بمستعرب رتبته قبطان في العسكرية تظهر عليه
علامات الشهامة واسمه سينيوبوسك من مدينة نربون ، وهاته الجهة الجنوبية من فرانسا
كما هو مقرر في التاريخ ممتزجة بالغاليين سكان فرانسا الأصليين وبقبائل البربر من
شمال إفريقيا «الباسك» الباقية لغتهم إلى الآن ، وأخيرا امتزجوا
بالعرب الذين أتوها من جهات الأندلس. ولا تزال هناك بقية من بناءاتهم ومسحة
من جمالهم وسماتهم. صرح لي هذا المستعرب بإعجابه وابتهاجه بالخصال العربية ، عرف
ذلك من الامتزاج بهم في شمال إفريقيا وفهمه لغتهم «واللغات نعم العون على اكتشاف
الحقائق». وكانت زوجته آخذة في مبادي اللغة العربية فشجعتها على الاستكمال فيها ،
عسى أن تشكرني على ذلك يوما ما عند ما تستفيد من الكشف عن عوائد العرب وآدابهم مثل
ما شكرت من شجعني على الأخذ في تعلم اللغة الفرنساوية. أخبرني زوجها بأنها تحسن
ركوب الخيل جدا فقلت له إنها كجان دارك الفرنساوية صاحبة الفروسية والوقائع
الحربية مع دولة الأنكليز التي كانت أضرت بالمملكة الفرنساوية في حرب المائة عام
من أواسط القرن ١٤ إلى أواسط القرن ١٥ م وما كدت أستوفي عبارتي حتى بادر هذا
المستعرب غير متمالك إلى تصفيق الاستحسان ، وقال قد سرني ذلك منك بقدر ما سرني
اطلاعك على تاريخ فرانسا.
مر بنا القطار
مجدا على كركسون وسباخ نربون حيث تراءت لنا ربى هاته المدينة شمالا وشاطئ البحر
الأبيض جنوبا وبلغنا عند انصراف الهاجرة إلى مونبليي.
مونبليي
بناءاتها على
ربى وانحدار. ضيقة الشوارع في البلد القديم ، أما محطة سكة الحديد التي جاءت
جنوبها فساحتها بها البناءات الجديدة والطرقات المتسعة والأشجار المرتبة. سكانها
فوق السبعين ألفا.
الطب
زرت المكتبة
الطبية مع الدكتور إمان الذي أطلعنا بواسطته على أحوال المدينة.
والمدرسة
الطبية في مونبليي عتيقة ومبدؤها يرجع إلى ما طفح به كأس الأندلس من العلوم
الحكمية على جنوب غلية ، وبها مخطوطات عربية ، من بينها كتاب عليه «كتاب بحر
الوقوف في علم الأوفاق والحروف» ألفه عبد الرحمان ابن محمد
البسامي. وبالفهرس : بحر الوقوف في علم الأوفاق والحروف ، خواص أسماء الله
الحسنى ، لطايف الإشارات في معرفة السيارات ٧ صافية «كذا» الحكيم أرسطاطايس كتاب
في رسالة على ربع الأرض وسكانها ، فك الأقلام القديمة والمشكلات ، فك الطلاسم
والكنوز ، السر المكتوم في علم النجوم ، مجموع من الحكمة وعلم الصنعة صفة الأعشاب
السبعة ، وبه صور كثيرة وأشكال أحرف الأقلام القديمة من صحيفة ٢٥٧ إلى صحيفة ٢٧٩ ،
والبروج من صحيفة ٦٣ إلى ٦٧ ومن ٩٤ إلى ١٦٨. ولم يسعف الحظ بأخذ أمثلة
بالفوتغرافيا من صور الكتاب ولا بالاطلاع على جميع المخطوطات العربية.
دار الآثار
بها مجموعات
دهنية متقنة ، وواسطة العقد صورة امرأة متكئة على أريكة أبدعتها أنامل وخيال
كابانايل عام ١٨٨٠ ، وبسطت عليها رداء شفافا ينم عن جمالها ومقدرة صانعها ، وهي
تمثل فايدر ابنة ملك كريت وزوجة تايزي التي تسببت في غضب زوجها على ابنه إيبوليت
من امرأة أخرى. وبسبب عدم رضاه عنه سقط الابن من عربته فتقطعت أشلاؤه فندمت فايدر
على اختلاق أسباب الغضب وهلاك إيبولت وقتلت نفسها خنقا. وذكروا أن الرسام كران اختراع
لها صورة أيضا باللوفر عام ١٨٠٢.
بستان بيرون
جاء في مرتفع
بالطرف الغربي من المدينة وهو من المنتزهات المشهورة عندهم يرجع تاريخه إلى أواخر
القرن الثامن عشر م ، وبه صورة لويز الرابع عشر على فرس. وقصر ماء وبطحاء مطلة على
البحر جنوبا وعلى حنايا ماء المدينة المجلوب من مسافة بعيدة على أسواق ذات طبقتين
بنيت أواسط القرن ١٨ م. والقوم مثل الرومان أهل عناية بالمياه مع أن بلادهم ليست
في حاجة كبرى كمملكتنا التونسية التي أمطارها نادرة ومدنها في الغالب بعيدة عن
مجاري الأودية ومنابع العيون. تمر عليها عدة قرون
وسكانها يذوقون آلام العطش ووخيم الماء الراكد ومرارة طعمه وأمراضه
ويتجشمون غلاء الأسعار وانتظار الأمطار ، وهو نقص في التدبير من عهد التأسيس وعجز
من القاطنين على ذلك الخسف. وأعمال الرجال العظام في سائر الأمم من قديم متجهة إلى
جلب المياه التي جعل الله منها كل شيء حي ، فأدريانوس الروماني الذي زار مستعمرة
إفريقيا في القرن ٢ كانت من أعماله الخالدة بها جلب ماء زغوان إلى قرطاجنة على
الحنايا الماثلة إلى اليوم من أمتن المصانع وأعظم الهياكل. ولا أدري كيف كانت حياة
الفنيقيين قبل ذلك من عهد تأسيس تلك المدينة الجميلة المنظر والغريبة الموقع الذي
حمل الرومانيين على امتلاكها وأن لا يحيدوا عن سكناها لما لم يجدوا أحسن منها حصنا
وحسنا؟ ولأهمية هاته المبرة من هذا السلطان المصلح وعظيم نفعها وشهرة سمعته بها ،
أن كان الرمز العظيم الذي يعبر به عن الرومان في إفريقيا تلك البناية الكبرى حتى
صورتها إدارة البوسطة بتونس على تنابر الرسائل رمزا عن دور تلك الأمة التي أخذت
حظها من هاته المملكة واعتبرتها ذخرا وخزينة مواد حياتها. وكان رمز الدولة التي
قبلها وهي الفنيقية صورة سفينة ذات قلاع مربع مستطيل ومرتفعة المؤخر ، لأن هاته
الأمة عرفت بالمهارة في البحر والفروسية على صهوته الصعبة وبما خبرته من طرق
البحار. وملكته من نواصي الأقطار. واكتسبته من ثمرة الاتجار. أمكن لها أن تؤسس
مدينة قرطاجنة بشمال إفريقيا المخضر أديمي الأرض والسماء بالخصب والصفاء. وكان
الرمز لدور العرب هو صومعة جامع القيروان التي هي من آثار زيادة الله بن الأغلب
٢٠١ ـ ٢٢٣. ولقد أصاب صاحب تقسيم هاته الأدوار والمصور لهاته الرموز ، فإن أمة
العرب كانت تعتني ملوكها بتخليد الذكر في البناءات العظيمة الفائدة والمتينة
الهندسة. وزيادة الله لما افتخر بأربع وقال لا أبالي بما ذا فعلت بعدها كانت
ثلاثتها في البناء والرابعة في العدل ، وهو من آثار العلم.
وتلك الأربعة
هي جامع عقبة وقنطرة باب أبي الربيع قبلي القيروان ، ولم يبق لها الآن من أثر ،
وحصن سوسة ، وولايته ابن محرز قاضيا بالقيروان لعلمه ونزاهته. والقضاة الذين لهم
هاته الحلية الجميلة ممن تفتخر بهم الملوك ، بل الأمة ، بل الإسلام. وقد ذكرنا في
صدر الكتاب فخر تونس بقاضيها النزيه المقتدر فضيلة النحرير الشيخ الطاهر ابن عاشور
، ومنذر بن سعيد قاضي قرطبة ومقامه عند الملك الناصر. أما مصر فإن
القاضي الفاضل كان بها ذا سمعة وجلالة ووجاهة تقارب الصحبة بل الأخوة مع
صلاح الدين الأيوبي صاحب المنزلة المعروفة في جلايل الأعمال وإكرام الرجال.
والقيروان الآن
فخرها بقاضيها المتفنن ، وجذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ، الشيخ سيدي محمد
العلاني الأنصاري. حدث ما شئت عنه في الأخلاق والرفق والتبصر. وقالوا من قديم فيما
فاقت به مدينة قرطبة غيرها من العواصم :
بأربع فاقت
الأمصار قرطبة
|
|
منهن قنطرة
الوادي وجامعها
|
هاذان ثنتان
والزهراء ثالثة
|
|
والعلم أنفع
شيء وهو رابعها
|
ففي الأربعة
ثلاثة من نوع البناء أيضا والرابعة هي العلم ، وقد فازت بقصب السبق عن مدينة قرطبة
لهاته الخصال الفاخرة مدينة القيروان بأجيال وأكثر من مائة عام حيث لم توجد
الزهراء بالأندلس إلّا على عهد الناصر ٣٠٠ ـ ٣٥٠.
وكانت الإشارة
في تنابر البوسطة إلى دولة الحماية التي لها في المملكة نحو جيل من سنة ١٢٩٨ ه ـ ١٨٨١
م بفلاح عربي وبجانبه فرنساوي يشقان الأرض لبذر الحبوب التي بها الحياة المادية ،
وإشارة إلى أن انتفاع سكان المملكة الواحدة كالعائلة الواحدة لا يكون إلا بالاتحاد
والتشريك حتى في طرق الاقتصاد. وخلاصة ما يستفاد في الحال والاستقبال من ذلك الرمز
أن الأمة التونسية لما باتت فقيرة ماديا وأدبيا أصبحت دولة الحماية معلمة لها ومعينة
على طرق الحياة وهو عمل كبير وأثر بالاعتبار جدير. ولم يوضع لدور البربر رمز ولا
ذكر لدولة الفاندال أثر ، ولعل ذلك لكون الأمة الأولى ساذجة محكومة والثانية
مغتصبة سفاكة. وإحياء الذكر أو الذكر الحي إنما يكون لأصحاب الأعمال المفيدة ،
والتدابير السديدة :
إنما المرء
حديث بعده
|
|
فكن حديثا
حسنا لمن وعى
|
والعائلات
والأمم كالأفراد بل لا يقام للعائلات شأن ولا للأمة ذكر إلّا ببعض
الأفراد الذين يكسبونهما سمعة وفخرا. مدح حازم في مقصورته المستنصر الحفصي
في القرن السابع بتجديد حناية أدريانوس المجلوب عليها ماء زغوان بقوله :
وطود زغوان
دعوت ماءه
|
|
فلم يزغ عن
طاعة ولا ونى
|
وعاد في
عصركم كعهده
|
|
في عصر من
شاد الحنايا وحنى
|
والأمير المنعم
والد أميرنا الحالي أطال الله بقاءه هو الذي أتى لمدينة تونس بهذا الماء نفسه بعد
أن انقطع عنها أمدا طويلا. والمعز لدين الله صفوة الدولة العبيدية بالقيروان فحل
عائلتها بالقرن ٤ قال فيه ابن الخطيب في نظمه التاريخي رقم الحلل :
وجلب الماء
على الحنايا
|
|
لو أن حيا
سالم المنايا
|
ولعل الأقواس
الجاثمة الآن بشعب جبل عين الشريشيرة «بالتصغير» هي بقايا من تلك الحنايا المشار
لها في النظم. ينطبق عليها ما قيل في حنايا تونس قديما :
تمتع من
بقايا للحنايا
|
|
بأبدع منظر
تصبو إليه
|
تأمل حسن
أرسمها البواقي
|
|
وقد مد
الفناء لها يديه
|
كسطر بعض
أحرفه تمحى
|
|
وبعض لاح
مضروبا عليه
|
ذكر ابن ناجي
في ترجمة أبي الحسن القابسي المتوفى ٤٠٣ أنه لم يشرب من ماء العين الذي يأتي صبرة
وهي المنصورية التي بناها المنصور ثالث العبيديين بالقيروان لما انتصر على أبي
يزيد النكاري صاحب الحمار عام ٣٣٧.
كانت مدينة
القيروان شربها من حياض خارج المدينة من آثار الدولة الأغلبية ،
وقد جددت جلب هذا الماء دولة الحماية إلى القيروان من مكان يبعد غربا عن
المدينة بنحو أميال ٣٠. كما جدد على عهدها الحوض الكبير المنسوب لابن الأغلب الذي
تمم بناءه عام ٢٤٨ ، وهو بديع الشكل كثير الأضلاع ، بجانبه الغربي حوض آخر صغير
على مثاله يتسرب إلى الصغير أولا ماء شعبة من وادي مرق الليل ثم يسلك إلى الحوض
الكبير. ويوجد على مثاله شكلا وأقل حجما حوض بالطريق التي بين القيروان وسوسة وعلى
بعد من المدينة الأخيرة بنحو أربعة أميال. وهو قطعا من آثار الدولة الأغلبية التي
مصانعها الكبرى بمدينة سوسة مثل السور وحصنه والجامع وقصر الرباط.
وقد التفتت
دولة الحماية إلى جلب المياه لبلدان المملكة مثل سوسة التي أفاضت عليها مياه وادي
مرق الليل من غربي القيروان بنحو خمسين ميلا ، ومن شمال جبل طرزه ما بين مغارس
العلا غربا وثنيات مركز بيشون شرقا في قناة تحت حصباء الوادي تمتلئ بالرشح من
طبقات الرمل الذي ظاهره في الغالب لا يرى به ماء.
والأعمال جارية
بهمة كبرى وأموال عظمى مصروفين في إيصال ماء سبيطلة عاصمة الروم العتيقة ، التي
بنيت القيروان من أطلالها وابتدأت حياتها بموتها إلى مدينة صفاقس ذات الزياتين
الجميلة والثروة الجليلة ، وهي في حالة تعطشها تزهو بثمارها وأزهارها على جميع بلدان
المملكة التونسية لاعتناء أبنائها وبراعتهم في الأعمال الزراعية والتجارية ، وممن
يفتخر بهم ابن المملكة التونسية في ممالك أروبا إذا جرى ذكر أحاديث الثروة والعمل.
ويجد في تعداد مزايا أبناء هاته المدينة ما ينفى به عن التونسي وصمة العجز أو
الكسل.
وكأنك بها قد
اهتزت وربت متى وصلها ماء مدينة الرومان وتسربت إليها ثروة سبيطلة المالية
والزراعية مع مائها. والتاريخ يقص علينا ما كان لتلك المدينة الغابرة من الثروة
الغزيرة والأموال الذريعة حتى أنها صالحت عبد الله بن أبي سرح عام ٢٧ بثلاثمائة
قنطار من الذهب الوهاج ، وعند ما استغرب العرب ما عندهم من هاته الكنوز أشاروا إلى
حب الزيتون الذي استفادوا منه الثروة واحتجنوا به أموال الأمم البعيدة عنهم يتسرب
إليهم ثمنا لدهن الشجرة المباركة إداما لذيذا ودواء مفيدا.
أما المدن
الرومانية التي عمرها الإسلام من بعدهم مثل شقبنارية «الكاف» وباجة
واصطفورة «تبرسق» وفريانة وقفصة ، فهي من أحسن مراكز العمران المراعى فيها
مستقبل الساكن عند التأسيس وربما لاحظوا دائما هاته المسألة الحيوية في جميع
مدنهم.
ساقنا إلى هذا
الحديث وذكرنا ما ذكرنا من أحوال المياه بالمملكة التونسية ما شاهدناه في مدن
فرانسا الجارية من حولها وخلالها الأنهار الجميلة والمياه العذبة ، وقد مر بك
حديثها في كرونوبل وجنيف وباريز وفراين وإيسودان وطولوز وليون التي قلنا فيها إن
الأنهار تعشق المدن في فرانسا.
نيم
عجلنا لها
السير من مونبيليي شأن المسافر في أخريات أيامه والعامل في بقية أشغاله. فأمد
الرخصة الإدارية يحثنا ، والشوق للشاطئ الأيمن من البحر الأبيض يقودنا. خصوصا وقد
رأينا شاطئه الأيسر في هذا اليوم بجنوب نربون ومونبيليي ، وما غابت شمس هذا النهار
الذي ركبنا قبيل منتصفه من طولوز وقضينا مساءه في مونبيليي حتى نزلنا في مدينة نيم
الغنية بآثار الرومان ، والباقية بها بعض صفاتهم وعوائدهم التي منها الاحتفال
بمصارعة ذكران البقر في الانفيتياترو «ليزاراين» الجاثم في هاته المدينة هيكلا
عظيما وبناء متينا على شكل بيضي ، داخله مدرج لجلوس المتفرجين ، وفي وسطه فضاء
للمصارعة. ولفظ الانفيتياترو مركب من كلمتين من لغة الإكريك أنفي ـ معناه حول
وتياترو معناه اللعب. وهو في نيم له سطران من الأقواس ، أحدهما فوق الآخر من جميع
جهاته وحجارته بيضاء على خلاف لون الحجارة الصفراء بقصر الأجم. ويظهر أنه أقل حجما
أيضا وأقصر ارتفاعا وأنقص طبقات من انفيتيارو المملكة التونسية ، ولكن هذا حياته
تجددت دون قصر الأجم ، باستعماله فيما أسس له ، فقد رمموا خارجه ووضعوا الكراسي
فيما نقص من داخله وأضاءوه بالكهرباء للتمثيل به ليلا زيادة على النهار. وبلغني
أنه يسع عشرين ألفا من المتفرجين الذين يأتون من البلدان البعيدة. أما المدينة فسكانها
نحو ثمانين ألفا ، وصور مصارعة الرجال والثيران مجسمة تباع بكثرة في هاته المدينة
يرجع بها الزائرون تذكارا شهيا. والتجار يضعون على أبواب حوانيتهم رؤوس الثيران
ولعا بالألعاب مع
هذه الحيوانات وإشهارا لها وإشعارا للزائرين بكونها من مميزات بلادهم التي
تنساق لها سوق عظمى وأرباح كبرى من إقبال الناس على حضور هاته الألعاب. ومن بناءات
الرومان في نيم الدار المربعة «لا ميزون كاري» بناؤها بسيط حسن الشكل متين القواعد
منقوش الحجارة رفيع السماك ، طوله نحو الخمسين ذراعا وعرضه نحو النصف. يصعد إليه
بدرج كثيرة من باب في الشمال وأعمدة الرخام المقام عليها الحايط الخارجي من هاته
الدار ترى ذات خطوط مع الطول حفرا كالثوب المعلم. وداخل هذا البيت العتيق الباقي
من أحسن ما صنعته يد الرومان ، وتفضلت بالإبقاء عليه ليالي الزمان. خزاين أفقية
وقائمة مع الجدران بها مصنوعات عتيقة من سلاح ونقود ، منها نوع من الفخار الملون
ينسب التعامل به إلى الصينيين. ومصوغ وآنية من البلور النفيس والخزف اليوناني
المخطط بالسواد اللطيف الشكل وحسن التزويق.
حياض الماء
الرومانية
وفي شمال
المدينة بستان المياه الجارية من قديم في الصهاريج العتيقة ، دخلته من الشرق فأفضى
بي الطريق إلى بطحاء كبرى بها صور أشخاص من رخام وحياض ، تظهر بها آونة وتخفى أخرى
في سواقي تحت الأرض ، وتحيط بالحياض «درابزون» قوايم من رخام منجور. صاحبتنا لها
بنت منزلها بالباب الخارجي تدل الزائرين وتعرب لهم عما في البستان ، فكانت تسرد
علينا الحديث سردا بلا فتور تخبر عن مبدأ ذلك البناء عن تقاسيمه وأسماء تماثيله ،
كأنها تملي كتابا عن ظهر القلب من كثرة إعادة تلك الأخبار وتكرار روايتها على
الزائرين الكثيرين بالضرورة ، والمياه والآثار. يجد فيها اللسان مجالا لتزويق
الأخبار.
لاتورماني ـ صومعة ماني
بالغرب الشمالي
من البلد وفي مرتفع من الرّبى التي جاءت المدينة في انحدارها الجنوبي. ومن أعلى
هاته الصومعة التي كانت أحد حصون الرومان حول المدينة تظهر في الغرب والجوف ربى
وهضاب حجرية وغابات وبساتين الأشجار المثمرة. وفيها رأيت شجر الزيتون قصيرا جدا.
وديار العمارة ومنازل السكان قائمة خارج المدينة في
تلك الرّبى وفي ظلال الأشجار. صعدت إلى أعلى هاته الصومعة بنحو مائة
وأربعين درجة وذكرت لنا حارسة الباب أن ارتفاعها أمتار ٢٨. ولما رجعت من الجبل في
العربة قبيل الزوال كان الحر شديدا ومع ذلك عزمت على السفر إلى آرل لأحضر مصارعة
الثيران في عشية هذا اليوم «الأحد».
آرل ـ في يوم الأحد ٦ جويليه ١٩١٣
وصلتها بعد
السفر من نيم على طريق طراسكون بعد الزوال. وتناولت الغذاء على الساعة ٢ في مطعم
بالشارع الذي يصعد إلى الأنفيتياترو. وكانت هاته القرية التي بها من السكان أربعة
وعشرون ألفا غاصة بالوافدين للفرجة على مصارعة الثيران في هذا المساء ، والقهوات
مكتظة والمطاعم مفعمة والطرقات مزدانة بأوراق صور الثيران.
بحيث رأيت على
القرية زينة المواسم وعلى النساء شكلا ممتازا من اللباس ومسحة من الجمال العربي ،
الذي مازج السكان من القرن الثاني. قرروا أن يوسف بن عبد الرحمان والي نربون
استولى في أواسط القرن ٢ ه على آرل وأقام على مرسحها الروماني أربع صوامع للحراسة
لا تزال منها صومعتان إلى الآن. أما تأسيس المرسح فهو من القرن الثالث م وقد قدمنا
في نيم أن الأنفيتياترو ، معناه حول اللعب لفظة مركبة من كلمتين من لغة الإكريك.
وللأمم السالفة
ولع ببناء هاته الهياكل وعناية بحضور الألعاب بها. والكتب العربية في القرون
الأولى تعبر عنها بالطياطرا محرف «تياترو» وتفسرها بدار الملعب وقالوا في وصفها
بقرطاجنة ـ أقواس على سواري وعليها مثلها ما أحاط بالدار وقد صور في حيطانها جميع
الحيوان وجعلت فيها صور الرياح ، الصبا : وجه مستبشر ، وصورة الدبور : وجه عبوس
إلخ.
مصارعة الثيران
دخلت
الأنفيتياترو صعودا إليه من الشمال فصادف موضع جلوسي بالجانب
الشرقي منه. وكانت هيئة جلوس الناس به تشغل حصة غير قليلة نظر الغريب الذي
يرى هذا الحشر أول مرة ، فيستحسن الطرف جلوس اثني عشر ألفا نهارا رجالا ونساء
كبارا وصغارا على دواير الدرج المتصاعدة ، وكل دائرة من الجلاس أعلى إلا وهي أوسع
من السفلى وأبعد في رأي العين ، وهاته الألوف متقابلة يرى بعضها بعضا وبطحاء
الملعب «المصارعة» بين جميعهم. إلا أن أرباب الدوائر الصغرى وهي السفلى لا يخفى
عليهم من البطحاء شيء ، وينظرون لما يجري بها أفقيا ، ولذلك مجالسها أغلى سعرا
وأكثر اعتبارا ، بخلاف الدوائر العليا فإنها زيادة على البعد لا تظهر منها على
مقتضى النظام الهندسي مساحة البطحاء كلها وأشعة البصر تنزل عموديا على البطحاء
فمنظر ما بها يكون على خلاف المعتاد كالناظر في بير. ومن عهد الرومان كانت مجالس
الأعيان في الطبقة السفلى والفرسان في التي فوقها. والعبيد في العليا حسا لا معنى.
ولا ينتقد على نظام هذا البناء إلّا فقط مظلة تقي الناس من الحر والمطر ، فقد رأيت
مظلات صغرى من الكاغد على شكل جابوني بلغت الواحدة منها في آخر الأمر إلى فرنك لما
ألحت الشمس على الجلاس عدة ساعات وليس لهم محيص من الاتجاه لها. اطلعت على برنامج
اللعب فإذا به أسماء الرجال المصارعين.
كارونا ـ من
المكسيك. شيكيتو دوبكونا ـ من باسك البيرنيي. لويس فرق ـ من المكسيك.
أسماء الثيران
ـ لوراينو ـ فرطونا ـ بولانديرو ـ برليتو مالكوايمو إيريزو ـ من تربية إدوارد
ميورا.
البداءة من
الساعة ٤ يوم الأحد ٦ جويليه ١٩١٤ ـ السعر ٢٠ ـ ١٨ ـ ١٢ ـ ٩ ـ ٦ ـ ٥ ـ ٣ ـ ٢
للصغار والعساكر ـ والدخل منه عشرة في المائة للفقراء.
على الساعة
الرابعة خرج من الباب الشمالي من دائر الألواح المحيطة ببطحاء الملعب فارسان
فحيتهما الألوف بالتصفيق ، وسلم هذان برفع القبعة وجالا في البطحاء ، وبعد أن طلبا
الطعن والنزال في أرض خالية خرجا من حيث أتيا. ودخل إلى البطحاء بعدهما سبعة فوارس
ففعلوا مثلهم كأنهم اغتنموا فرصة قبل خروج الثيران ليظهروا للناس فروسيتهم
وشجاعتهم لما خلوا بهاته البطحاء ، وستراهم لا يفعلون مثل ذلك عند ظهور الثيران.
ثم دخل أربعة
أفراس عليها عدد كدواب العربات وبعد خروجها دخل عدة شبان بلباس ملون.
وفي أثناء ذلك
فتح باب من جنوب البطحاء ، فخرج منه ثور عظيم الخلقة وهجم كالأسد في فضاء البطحاء
وظهر عليه الفزع من جيوش المتفرجين ، وكأنما تخطفت بصره هيئة إحاطتهم به ، فاندهش
من هذا الفضاء الضيق والعالم المحدق ، ثم نظر في أطرافها فظهر له أولائك الشبان
وبأيديهم المناديل الملونة. فصمم عليهم واحدا بعد آخر ، فطاروا من أمامه إلى ما
وراء الألواح المحيطة بالبطحاء ، فشفى غليله بنطح تلك الألواح ليوهنها ، ثم ظهر له
بعض منهم في جانب آخر ففعل بهم مثل الأول ، وعند ما ضعفت حدته وثقلت جريته ثبتوا
له ثبات الأبطال وأشاروا له بالمناديل الكبرى دعوة للبراز. وكلما هجم على واحد
تلقاه بذلك المنديل ومال إلى اليمين أو اليسار فيكون النطح في المنديل وتيار
الهجوم يذهب في الفضاء فيتعرض له رجل آخر وآخر ، يقودونه للمحاربة فتراه يجري بين
هذا وذاك بلا طائل. ثم وقف فارسان بالجانب الغربي من البطحاء وبيد كل واحد رمح
غليظ طويل وقد غطوا عين الفرس من الجهة التي يأتي منها الثور ، وجللوا بطنه
بالجلود حتى لا ينفذ فيه سلاح الثور ، وربما كان الفارس مدرعا أيضا تحت الثياب حيث
يظهر ثقيل الحركة وقليل التصرف فوق السرج ، ويحيط بالفارس رجلان أحدهما ماسك بعنان
الفرس يقدمها جهة الثور والآخر وراء الفرس مستعدا لإغاثة الفارس عند الحاجة. يهمز
الفارس بركابه الطويل جنب فرس هزيل نحو ثور عظيم ويغرز حديدة الرمح في رقبته ،
فيسيل دم الثور الذي يقتص لجرحه من الفرس ، فيرفعه مع فارسه على رأسه ويضرب بهما
الأرض ، فتتلقف الرجل أيدي الأعوان وتعيده إلى سرجه. ويجري بينه وبين الفارس
الثاني مثل ما ذكر ، وكثيرا ما تنكسر الرماح فيعوضونها بأخرى ، ومتى سقطت أمعاء
فرس قضوا على حياته وأتوا بآخر هزيلا مثله ، ثم تبعد الأفراس ويأتي رجال بأيديهم
السهام فيخاتلون الثور ويغرز كل واحد سهمين في أعلى رقبته بخفة غريبة ، ويتباعدون
عنه فتشغل باله تلك النبال الثابتة كريش الطير في قفاه ويغضب لوخزها ، ولا يجد
سبيلا للخلاص منها ، فيجري ويضرب برأسه في الهواء حتى تخور قواه ثم يقف وينبش
الأرض بظلفه ويحثو التراب على رأسه كالمستغيث ، ولكن لا من مغيث من بين تلك
الألوف. ولو
من جمعية الرفق بالحيوان. كقصر لاهاي فلا يصد الحروب ، ولا يجدي إليه
الهروب.
يأتي إلى
البطحاء رجل يركن إليه الثور قليلا في مبدأ الأمر ولعله يحسبه مغيثا لينزع منه تلك
السهام ويريحه من الآلام. وأخيرا يجد نفسه معه مثل :
المستغيث
بعمرو عند كربته
|
|
كالمستغيث من
الرمضاء بالنار
|
فيتقدم إليه
الرجل بمنديل يخفي تحته سيفا فيضرب الثور ذلك المنديل ضربا خفيفا مرة بعد أخرى ،
حتى لا يكاد يتحرك إلى أن يهتبل الرجل الغرة في جانبه الأيمن فيغمد فيه كامل السيف
طعنا في لبته إلى جهة القلب ، ويتركه في جسده فيتقيأ الثور نهرا من الدم العبيط
تنطلق عند مرآه مدافع التصفيق لذلك المنظر الغريب إلى أن يسقط الثور على الأرض من
ضرب الخناجر في الحناجر. وعلمت ما جاء في شعر المعز لدين الله العبيدي خليفة
القيروان وهو :
تلك المحاجر
في المعاجر
|
|
أمضى وأقضى
في النفوس
|
تعب المهاجر
في الهواجر
|
|
لله ما فعلت
بنا
|
من الخناجر
في الحناجر
|
|
ولقد تعبت ببينكم
|
يجهز الأعوان
على الثور بالخناجر في دماغه ، ويربطونه بحبال تجره بها الخيل التي كانت دخلت في
مبدأ الأمر كما تجر أموات الأفراس ، ثم يتماشى القاتل في البطحاء كالبطل الفاتح
والناس ترميه بالأزهار وتطريه بالتصفيق. فعلوا مثل هذا بخمسة ثيران أخرى دامت مصارعتها
إلى الساعة السادسة ، وكلما برز ثور وهجم على المصارعين نادى الناس بيكا. بيكا «رشقا
رشقا». وأحيانا يصيحون عند الهجوم على الفارس ترايلو الكاما؟ «إلى الفراش». ومتى
كانت ضربة السيف الأولى غير قاتلة سخر الناس بالقاتل وصفروا له ، وكلما هم بإعادة
ضربة أخرى بالسيف صاحوا به سكبادو او ـ
أسي. أسي «كفى كفى». وغالب هاته الألفاظ باللغة الإسبانيولية ـ كما أن
أسماء المصارعين وأعوانهم وخيلهم باللغة الإسبانية فرشاق السهام يسمونهم : باندري
ليروس. والسهم : بانداليرا. وركاب الخيل : بيكادور. والأعوان المكلفون بالتنظيف
والرفع : شولوص. يجهزون على الأفراس والثيران ويمسكون الفرسان عند الميلان.
والقاتل يسمى :
ماتادور ـ والمنديلة التي بيده مولاتا. والسيف : سبادا. والجميع يقال لهم :
كوادريا. والإسبان هم أهل الولع والمحافظة على هاته اللعبة ، يتمعشون منها ويرون
فيها شجاعة وشطارة كما حافظوا على المعروف من هيأتهم في الحروب. فقد رأيت فرسانهم
بالرماح الغليظة والأركبة الطويلة ولا تصرف لهم فوق السروج ويلبسون خيلهم الجلود
كالدروع. على ما وصف بهذا كله أهل الأندلس الذين اكتسبوا عوائد الإسبان بالمجاورة
أو ورث الإسبان عوائدهم ـ ففي كتاب «مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار» : ويكون
فارس الأندلس مدرعا وإن كان غير ذي همة وقدرة ، فيكون لفرسه درع واعتماده على
الرمح الطويل الغليظ والترس على عادة النصارى الذين يقاتلونهم ، ولا يكون مدرعا ،
من فرسان بر العدوة إلّا أولو الهمة والقدرة ، ولا يقاتلون بترس ولا برمح طويل
غليظ بل بالسيوف والرماح الخفيفة يزرقون بها زرقا عظيما عجيبا لا يكاد يخطئ ،
ويكون لهم بدل التراس درق تصنع بالمغرب من جلد حيوان يعرف باللمط تنبو عنها السيوف
والرماح وأكثر السهام. وفرسان بر المغرب البربري أحسن تصرفا على الخيل من فرسان
البر الأندلسي ، لأن الأندلسي يثقله الترس والرمح الطويل الثقيل والدرع ، فلا
يستطيع التصرف وإنما يحرص على الثبات فيكون مثل الجوسق على فرسه ، وربما كان له في
السرج مخاطيف ينشبها في وسطه حتى لا يسقط إذا طعن. وسروج جند الأندلس عالية المؤخر
حفظا من الطعن ، وليست كذلك سروج البربر. وركاب الأندلسي طويل وركاب البربري قصير.
وقال السيد البشير صفر في كتاب جغرافيته المفيد : أما الروم فكانوا يقاتلون صفوفا
منتظمة على أكمل تعبئة اقتضاها ذلك الزمن مع مهارة في الهندسة الحربية والحركات
العسكرية.
وكان الواحد
منهم كقطعة من حديد يحمل خوذة على الرأس ودرعا على الصدر إلى الساقين ، وسلاحه
السيف والرمح والسهام ، فكان يرمي البربري من بعيد ولا يقدر البربري أن يناله من
قريب. وبالجملة فقد كان البربر أخف حركة من الروم يتعبونهم
بمناوشاتهم وكثرة تنقلاتهم ، لكنهم كانوا عاجزين عن الوقوف والثبات أمام
الحديد ومتقن الحركات العسكرية. ومن كتاب «الحلل الموشية في الأخبار المراكشية»
فيما يتعلق بعدم الثبات أمام متقن الحركات الحربية ولو في أدوار البساطة في السلاح
: قال ابن اليسع : حدثني غير واحد من الموحدين قال : لما نزلنا من جبال تلمسان
نريد بلاد زنانة اتبعنا المرابطون فتلاقينا معهم ، فصنعنا دائرة مربعة في البسيط
جعلنا فيها من جهاتها الأربع صفا من الرجال بأيديهم القنا الطوال والطوارق المانعة
، ووراءهم أصحاب الدرق والحراب صفا ثانيا ، ووراءهم أصحاب المخالي فيها الحجارة ،
ووراءهم الرماة نفوس الرجال وفي وسط المربعة الخيل. فكانت خيل المرابطين إذا دفعت
عليهم لا تجد إلّا الرماح الطوال النازعة والحراب والحجارة والسهام ناشرة ، ولحين
ما تولي من الدفع وتدبر تخرج خيل الموحدين من طرق تركوها وفرج أعدوها ، فتصيب من
أصابت ، فإذا كرت عليهم دخلوا في غاب القنا وكان ذلك اليوم يعرف بيوم منداس ، فقد
فيه من جيوش المرابطين ما لا يحصى ، وفي ذلك اليوم ظهر أمر عبد المومن وكثر جمعه.
وبالجملة فالفرسان الذين رأيتهم في هذه الألعاب ليس لهم دور مهم ولا أعمال تذكر ،
وإنما يجنون على خيلهم بتقديمها ضحايا لشفاء غليل الثيران ، ويثبتون عليها بذلك
حجة الجناية فيحكمون فيها سيف القصاص من بعد. وأهم الأدوار هو الأول الذي يظهر فيه
الثور بكامل قواه ثم مناوشة الرجال له بالمناديل وإشغاله والانفلات من بين يديه
بها. ثم دور أصحاب السهام وشطارتهم في تثبيتها بين كتفيه. أما دور الختام وهو قتله
فالغريب أن الناس إذا رأوا الضربة قاتلة صفقوا للقاتل ، ومتى شاهدوها غير كافية
أشفقوا على المقتول وطلبوا الكف عنه. فما أعجب أحوال الإنسان! انظر لأعماله في
الحروب أيضا تجده كذلك ، تراه صباحا يصب النيران في صفوف القتال ليبيد بها إخوانه
بني الإنسان ، وفي المساء متى عثر على جريح منهم أسعفه بالدواء وتمنى له الحياة
والشفاء ، كمثل من قال في حسن الاعتذار عن بعض ملوك الدولة العباسية حين اتخذ
سهاما من الذهب :
ومن جوده
يرمي العداة بأسهم
|
|
من الذهب
الإبريز صيغت نصالها
|
لينفقها
المجروح عند انقطاعه
|
|
ويشتري
الأكفان منها قتيلها
|
وبعد أن رأيت
جلوس تلك الجموع على حجارة درج البناء الروماني تحت أديم السماء وهو تذكار جميل
لأدوار البساطة ، وشاهدت الألعاب الموروثة من الأمم الساذجة ورواجها حتى في عصور
الرقي الفكري ، وقد ألمعت إلى شيء من هذا في رواية بل خرافة الفارس الأبيض بالأبرا
، وعاينت تغلب الذكاء البشري والعلم من الإنسان الضعيف على توحش الحيوان القوي
المسلح بالخناجر المركوزة برأسه المتين خرجت وأنا أنشد :
فدع المشوق
إليه أول مرة
|
|
ولك الأمان
بأنه لا يرجع
|
نجدة السكان من قديم الزمان
سكان أروبا
عموما وفرانسا خصوصا من قديم على ما يقتضيه الإنصاف أهل منعة وبسالة وبمكان من
إباية الضيم ، فانظر لأحوالهم حتى في أدوارهم الأولى وتاريخهم القديم وهم في شظف
من العيش وبساطة من لوازم الحياة وبعد عن المعارف ، ومع ذلك فقد دافعوا الدول
القوية وطاردوا الأمم الراقية وذبوا عن أوطانهم وأبوا نزول الأجنبي بها وواقعة
شارل مارتيل مع عبد الرحمان الغافقي في أراضي بواتيي من فرانسا الغربية الجنوبية
وتسمى تلك الواقعة ببلاط الشهداء عام ١١٤ ه تنبئك عن بسالة القوم ودفاعهم عن تراب
وطنهم ، ولذلك قال موسى بن نصير في حقهم حديثا مع سليمان بن عبد الملك في موفى
المائة الأولى من الهجرة عند ما قال له أخبرني عن الإفرنج : هنالك العدد والعدة ،
والجلد والشدة ، والباس والنجدة. وكذلك خرج العرب من جنوب فرانسا وجنوب إيطاليا
وجزائر البحر الأبيض مثل صقلية ومالطة وكرسكة وغيرها ، رغما عن طول أمد الاحتلال
في مثل جزيرة صقلية التي دامت سلطة الإسلام فيها نحو مائتين وسبعين عاما. وأكبر من
هذا برهانا على ما قررناه
جزيرة الأندلس بالإسبان ، فلم يناموا عن الأخذ بالثأر من المسلمين الذين
سلبوا ملكهم وسكنوا أرضهم وتربصوا بهم الدوائر وهم في الجبال النائية عن بسائط
الأندلس بعد قرون عديدة وسلطان قوي وعلوم زاهرة ، وحضارة باهرة ، وعمران مستبحر.
فكل ذلك لم يغن شيئا ، فكيف بك وأوروبا الآن هي سيدة القارات وأممها بلغوا من
الحضارة منتهاها وفي المعارف غايتها وفي نظامات الحرب أقصى المهارة ، وفي الصنائع
غاية الدقة ، وفي عمران الأرض أحسن إجادة ، وفي التجارة أصبحت كل العوالم عالة
عليهم في الملبوسات وسائر المقتنيات ، وفي الثروة باتت في ممالكهم خزائن المجوهرات
النفيسة التي لا توجد عند سواهم. والمكاتب الواسعة المفعمة بغرائب الكتب ومئات
آلاف المؤلفات وملايين المجلدات ، وديار الآثار ومصنوعات الأمم الغابرة بما يقصر
القلم دون قيمة تلك المجموعات الغريبة. أما الذهب والفضة فيكفيك أنهم استعملوهما
في الماعون والآلة والتحف ، وما بقي احتكروه في ديار البنوك والمصارف بقارتهم
وعوضوه بالأوراق للمعاملة في أقطار الأرض. وحدثوا في الإحصائيات عن خزائن الدول ما
يفوق خزائن قارون. فأروبا الآن هي معدن النقود وكنز الجواهر ، وخزينة كتب العالم
ومجموعة آثار الأمم ، ومعمل لأكسيتهم وآنيتهم وأسلحتهم ولقطارات برّهم ، ولسفن
بحرهم وأستاذهم الملقن ، ومالكهم المتمكن.
فهي القارة
القديمة الحية في هذا الدور ، والتي لا يضرها ما تقدم من الأدوار السابقة فإنها ،
ولئن تعلمت ذلك من أمم الشرق بالأندلس وإفريقيا وآسيا ، فإن هاته الأمم قد تعلمت
أيضا ممن سبقها من أمم الشرق بالأندلس وإفريقيا وآسيا ، فإن هاته الأمم قد تعلمت
أيضا ممن سبقها وارتقت بعدما زاحمت وتغلبت بعد ما غلبت. فأمة البربر بإفريقيا
أتتها الحضارة وحسن السمعة من القرطاجنيين جالية الشام ، من الرومان البيزنطيين ،
ولا أذكر الفندال وإن كنا نعلم أنهم شجعان أبطال ، إلّا أن مواطنهم «في جهات
الدانمارك الآن» في ذلك العهد لا تعرف لهم حضارة ، وإنما هم رجال فتح وجسارة. حتى
انهم يلقبونهم بربر أروبا لاكنهم أقدر على الأسفار وركوب الأخطار من برابرة
إفريقيا الذين يألفون الجبال ، ولا يتجاوزون حدود أوطانهم في النزال.
وكذلك تسربت
الحضارة لبرابرة إفريقيا من أمم آسيا فدافعوا أولا على البقاء في همجيتهم
ومجوسيتهم وعيثهم وغيهم. والجاهل لا يحب التعليم فهو كالصبي لا بد
من تأديبه حتى ينقاد كرها ، ثم لا يلبث أن ينقلب طائعا ثم يصير طالبا ويحمد
عند ذلك عاقبة أمره وينظر إلى أعطافه فيجد نفسه ارتقى إلى ما هو أحسن ، وينفر من
سابق معيشته وتصغر في عينه منزلة النفوس الباقية على غباوتها حتى من ذوي قرابته ،
وربما ساق تيار التمدن بعض الناس إلى العقوق والمروق. والعاقل يكرر شكر المعلم
الذي ساق بنفسه إلى منجاتها وألبسها حلل كمالاتها. ويحمد الله الذي هداه ، ويعذر
بالجهل من سواه ، وما التوفيق إلّا من عند الله. ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا
يعلمون. وأخيرا ألقى البربر بأيديهم إلى الغلب والانصياع ، وقلدوا العرب وامتزجوا
بهم حتى عرفوا منهم قيمة الاجتماع. وذاقوا لذة الآداب من اللغة العربية ونالوا
بواسطتها العلوم وساسوا بها دولهم ودونوا فيها كتبهم ، فامتازوا عن السائمة من ذلك
العهد. مثلما أن السمعة في الأمم قبل الإسلام لليونان والهند وكل ذلك لا ينفي عن
البربر الشهامة الفطرية والنجدة الموروثة والشجاعة الدائمة ، فكم قاوموا من أمم
وكم نجبت فيهم من قواد ، وكم برعت فيهم من علماء ، فهم جيل قديم ثابت الفخر في
سائر أدوار الأمم وتقلبات الدهر ، أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبرا وفروسية.
غير أنهم أغدر الناس لا وفاء بهم ولا عهد ، كما حدث عنهم موسى بن نصير في بعض
مجالسه مع سليمان بن عبد الملك بن مروان. ولأروبا الفخر بزيادة الاعتناء ومداومة
العمل والمحافظة على ما اقتبسته وترقية ما استفادته والزيادة على ما تعلمته.
قال السيد
البشير صفر في جغرافيته : إن الرومان صاروا إسوة لممالك أروبا في أعمالها السياسية
، كما أن اليونان والعرب من بعدهم كانوا أساتذة أروبا في العلوم الرياضية
والفلسفية. والآن اضمحل الرومان وانحط العرب واليونان وأصبحت أروبا أستاذ الجميع.
قلت فقد أحيت
علوما لولاها لكانت في خبر كان ، بل لأغفلت وتنوسيت ولم تذكر على لسان. وأوجدت فنونا
واخترعت صنوفا لولاها ما كانت تخطر بالبال أو ينتفع بها الإنسان. نعم إن العمل
نتيجته السعادة ، والرقي ثمرته السيادة. مثلما ذكروا بأن العدل إن ساد عمّر ،
والظلم إن دام دمّر. فأروبا من بين القارات القديمة هي الوحيدة القائمة دعائمها
على أساس ، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
كان هذا الحديث
مع النفس هو موضوع السمر وتقصير حصة السفر فيما بين آرل ومرسيلياء آيبا في قطار
خصوصي للمتفرجين عن ألعاب الثيران يوم الأحد في التياترو الروماني بآرل. ثم راجعت
حافظتي في مرسيليا ، وقبل مبارحة تراب العدوة الشمالية عما ظهر لي من خلق وأخلاق
وعوايد هاته الأمة لأرسم شيئا منه في كتاب الرحلة وحررت ما يأتي.
خلق الفرنساويين
سكان الحواضر
على المتعارف عندنا والمعهود من قديم أكثر جمالهم مجلوب ومؤيد بالحلل والمصوغ. وفي
البادية متى وجد الجمال فهو موهوب وفي غنى عن المحسن وما يحمر منه وجه الحقيقة.
غير أن باريز وجهة ربات الجمال من كل بلد ، وبادية وصقع للتمعش والرفاهية التي لا
تنال في غير باريز ، التي تقدر كل الكمالات حق قدرها ولا تبخس الناس أشياءهم.
والسبب في ذلك الذوق اللطيف في سكانها والجدة واستبحار العمران والتغالي في لذات
الحياة الدنيا. ذكرت لي سيدة في قومها روسية أن نساء باريز يضعون على وجوههم
الأصباغ المبيضة والمحمرة. وأثنت على جمال الجراكسة وأخبرت بأن مسلمات القوقاز
وجوههن مغطاة متى خرجن إلى الطرقات.
أما في منازلهن
فكثير من أجسادهن غير مغطى. وأخبرني زوجها وهو حاكم إحدى مدن الروسيا ، بما يدل
على ما انفردت به باريز من بين العواصم. كان نزل معنا في أتيل دوفمي ويجمعنا في
بعض الأحيان السمر ليلا في كافي روايال بجوار باساج جوفروا. وجلوس القهوات في
أروبا غير محظور. وقد قال الشيخ رفاعة المصري في رحلته إلى باريز : والقهاوي عندهم
ليست مجمعا للحرافيش بل هي مجمع لأرباب الحشمة ، إذ هي مزدانة بالأمور النفيسة
وأثمان ما فيها غالية جدا ، فلا يدخلها إلّا أهل الثروة ، وأما غيرهم فيدخلون بعض
قهاوي خاصة بهم. قلت فهم لذلك لا يجلسون في مخازن البضائع ، أو تشتكي منهم دكاكين
أرباب الصنائع. وكانت آلاف الرجال والنساء تمر أمامنا في شارع موتماتر المتصل
بشارع الطليان ، وهما من أحسن مراكز العمران وحركة السكان بباريز. والنساء تظهر
أكثر عددا من الرجال.
وكان هذا
الروسي السيد في قومه منذهلا ومعجبا بما يرى من العمران والرفاهية بباريز ، ولما
سألته أجابني بأن هذا الجمال وهاته الحضارة لا توجد في غير باريز وأنه لا يعرف
مثلها لا في مملكته ولا في غيرها. وسألتني زوجة هذا السيد قائلة ما بالك لا تنظر
كثيرا إلى النسوة مثل زوجي المعجب ، وقد فهمت من قرائن الحال ما هي غير مرتضية له
من زوجها وقد امتلأت عينه من المحارم. فقلت لها إن تعاليمنا لا تسمح للإنسان أن
يمد عينيه أكثر مما به الحاجة إلى ما متع الله به غيره ، والواجب أن يقصر نظره على
زوجته ، فلم تتمالك عن إبداء إعجابها واستحسانها لهذا التعليم الإسلامي ونبهت
زوجها الذي كان يسمع ما قلته. فقال إنما أنظر فقط ووجه هذا الجواب لي خجلا من
تعريضها به ، فكأنه يعتذر بقول الشاعر ، ويا ليته وجد هذا الشعر ليبيض به وجهه بين
عينيها ويغسله من حمرة الخجل :
أصبو إلى كل
ذي جمال
|
|
ولست من
صبوتي أخاف
|
وليس بي في
الهوى ارتياب
|
|
وإنما شيمتي
العفاف
|
ورأيت حسن
الذوات في كرونوبل وهي بمثابة العين من الرأس في فرانسا وكل شيء في كرونوبل وما
حواليها جميل. ويوجد الجمال ببعض العائلات في باريس لا كلهم ، والغالب من السكان
البياض ونعومة الجسم ، ولين البشرة وتناسب الأعضاء ، وشكل الوجوه بيضى وفيهم طول
القامة ونحافة الجسم ، والغالب على العيون الشهلة والزرقة واحمرار الشعر ، وقد
يوجد السواد في الشعر والعيون ، وفي بلدان الجنوب يوجد احمرار الخدود والأدمة
لحرارة الطقس. ويكثر في هذا الإقليم الجنوبي صفاء الثغور وطول الجيد ، بما ينطبق
على الشمايل العربية من بعض الوجوه مع استدارة الوجوه.
وأهالي الشرق
من باريز في غابات أركون مقاطعة موز وعلى حدود ألمانيا وجوههم مستديرة ، وملطخة
باحمرار يمتد إلى الأذنين وأبدانهم ممتلئة ، وعضلاتهم قوية.
الأخلاق والعوائد
أهالي فرانسا
أشبه الناس بالعرب في كثير من الخصال والصفات كالحرية وإباية الضيم وفصاحة اللسان
وإكرام الضيف وغير ذلك. أما الحرية فإن العربي يصرح بما في ضميره ويصدع بالحق ولو
كان السيف على رقبته. والنعمان ابن المنذر بين حسب قومه وشرف أمته وفضلها على سائر
الأمم ، وجادل في ذلك مع كمال الأدب ووضوح الحجة أعظم رجل في عصره بين أمم العالم
ألا وهو كسرى أنوشروان ، وما أدراك ما كسرى في مجلسه وبمحضر وفود الأمم ونوابها.
وذلك لما هضمت أمة العرب في ذلك المجلس وتنقّصها من لا يعرف حقيقة أمرها. وبعد أن
ترقب السامعون سخط كسرى عليه رأوا إعجاب كسرى به وإكرامه له ، شأن الرئيس الحكيم
والمخاطب العاقل إذا سمع صواب القول ومتانة الحجة. وهذه الصفة المعتبرة عامة في سائر
طبقات العرب لا فرق بين خاصتهم وعامتهم ، ونحن نعلم أن من بعض أطراف مجلس عمر بن
الخطاب من قام وخاطب عمر بن الخطاب ، وما أدراك ما عمر بن الخطاب ، بقوله : «لو
رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا».
يذكرون أن
كلوفيس الأول أحد ملوك فرانسا رام أن يأخذ إناء من غنائم كنيسة سواسون ليرجعه إلى
الكنيسة لما رغب منه ذلك ، فقام أحد الجند وضرب الإناء بسيفه فقال للملك : ليس لك
إلّا منابك ، حيث كان من عادتهم قسمة الغنائم.
رأيت المؤرخين
ينتقدون على هذا الجندي الحر وأنا أبرر عمله لأنه في الصدع بالحق بمثابة من قام
لعمر بن الخطاب وقال له : لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيفنا. بل الذي ينتقد هو
عمل كلوفيس الأول حيث قتل هذا الجندي الحر المحق فيما بعد انتقاما لهاته المعارضة
المرة. والحقيقة تجرح ، متعللا عليه في يوم تفقد الجند بأن لباسه على غير ما
ينبغي.
ومن حريتهم في
الصدع بما في الضمير أن كانوا يقولون لي : ما أحسن اللباس العربي وما بال
التونسيين لا يحافظون عليه متى أتوا إلى قطرنا حتى يعرف السواد الأعظم في مملكتنا
إنسانية التونسيين وآدابهم ورقيهم «وفي الواقع غالب سكان أروبا لا يتصورون التونسي
إلّا من همج القبائل بأواسط صحراء إفريقيا» ، فكنت أذهب في
الاعتذار بأن الغريب يود التستر حتى لا يجلب الأنظار التي ربما كان من
بينها لحظات الاستخفاف أو رفع الأسعار في وجه الغريب المضطر للتعامل ، فينكرون
صدور هذا الأمر من بني جنسهم في وطنهم مع الضيوف الذين يجب اعتبارهم ومساعفتهم.
وفعلا لم أر
الفرق بين الزي العربي والإفرنجي عندهم إلّا بالمجاملة لصاحب اللباس الأول فحافظت
على اللباس العربي. ولئن عجبوا بما لم يعرفوه من قبل فمع الاحترام والأدب يقابلون
ضيفهم الغريب في الجنس واللغة والدين واللباس. ولما كانت جل إقامتي في باريز وهي
مجمع أجناس العالم وقاعدة المملكة قلت : إن البرنس في باريز ، محترم وعزيز. وأتذكر
أن بعض ذوات النباهة في باريز من بعض العائلات الكريمة قالت لي إن لباسك العربي
صالح لعدة أشياء حتى أنه يحفظك من السراق الذين يجهلون منك مكامن وضع المال
والحاجات. فعجبت من حذقها وجمعها بين المدح والوصاية بالتحفظ في جملة واحدة.
فصاحة اللسان
تجد الفرنساوي
يلقي على مسامعك جملا بليغة في حصة وجيزة يلم لك فيها بأطراف الحديث ومهمات الغرض
، بدون مقدمات فارغة ولا تحليات باردة ، ولا يخرج عن الموضوع إلّا لأسباب
وبمناسبات ، كما لا يمزج الجد بالهزل كثيرا أو يتعرض للسفاسف وما عسى أن يكره
المخاطب السؤال عنه ، كالسن والمال وفي الغالب الدين أيضا ، والحكيم العربي يقول :
احفظ لسانك
لا تبح بثلاثة
|
|
سن ومال ما
استطعت ومذهب
|
فعلى الثلاثة
تبتلى بثلاثة
|
|
بمعاند
وبحاسد ومكذب
|
وفي أوقات
الشغل ، وبالأخص في مثل الإدارات ومحلات التجارة ، خطابهم مختصر ينطق أحدهم بكلمة
أو جملة هاديا ليس له رأي سواها ، ولا يتردد السامع
في العمل بها أو فهم معناها كأنها اللغة العربية في مواطن الإيجاز متى
اقتضاه الحال ، أو على لسان صياد يقول : «غزال». فيوجزون مع الفائدة ويسمى عندهم
هذا الكلام «لاكونيك» ، حيث أهالي لاكونيا «إقليم إسبرطة باليونان» أصحاب إيجاز في
التخاطب. رأيت أبناء هذا الجنس يهجمون على مواضيع الكلام بدون مقدمات طويلة أو
خروجات فارغة ، وأكثر مفاهماتهم في النوازل وقضاء الحوائج وإبرام الاتفاق على
الملاقاة بالرسائل التي تصل إلى المخاطب بها بسرعة إذا كانت عليها تنابر ذات
سانتيمات ٣٠. والقوم يكتب رجالهم ونساؤهم لعموم التعليم ومراعى عندهم احترام
الكتاب برد الجواب ، وسائر الطبقات سواء في مراعاة هاته الآداب. وبذلك يختصر الوقت
في الذهاب والإياب ولا يضيع بتعذر الملاقاة وتقضية وقت ثقيل في الانتظار بدون
سابقة اتفاق على الاجتماع. ولما يعلم الجميع من نفاسة الوقت تجدهم يوجزون في
الحديث ويقتصرون على المهم المفيد في ذلك الموضوع. وأبو الحسن المزني يقول : من
دخل على السادة فعليه تخفيف السلام ، وتقليل الكلام ، وتعجيل القيام. ولا يقطعون
حديث متكلم حتى يستوفي غرضه ، ولا يباشرون من غلط بمكروه وإنما يشيرون لذلك بلطف ،
أما المتعنت فلا يجادلونه ويضيعون أوقاتهم معه. ولهم مواضيع خاصة يطيلون فيها
الكلام مع الإفادة في مثل أوقات السمر ومجالس العلم وحديث المائدة. وهذا من قواعد
اللغة العربية وبلاغتها في إطالة النفس وجلب ما يستحسن والإطناب بما يناسب المقام
حيث الإصغاء مطلوب. وهي لا تعدم أنصارا إلى الآن «والحمد لله» في الهجوم على
المقصد والإفصاح عن المراد والإعراب عما في الضمير بألفاظ عذبة وجمل قليلة ، وهاته
الملكة ليست من العلم باللغة فقط ، بل من آداب الاجتماع أيضا ومروءة المتكلم
والاشتغال بما يعني واعتبار قيمة الزمان. والذي أعانهم على سهولة التفاهم بين سائر
الطبقات هو التعليم الصحيح لقواعد اللغة وحسن الأسلوب وتعميم القراءة والكتابة على
الذكور والإناث. فمعلومات سائر الأفراد في قواعد اللغة واحدة ، وبذلك سهلت
المفاهمة باللسان والقلم بدون خفاء ولا لبس.
وحفظت اللغة
بذلك من التحريف الذي يطرأ على اللغات حتى من ألسن أبنائها إذا كان أخذهم لها من
الأم والأب فقط بدون تعليم صحيح بعد ذلك. والآفة الكبرى على اللغة لسان الدخيل
الذي يلوكها كما شاء وينطق بها كما أراد ، فيضيع لهجتها
ويطمس بلاغتها ويتنقصها من أطرافها ويصحفها ، فيستمر على ذلك من أتى من
بعده. والعجب أن يجاريه على لحنه ابن تلك اللغة نفسها في النطق بها محرفة ، إما
لتعوّد سماعه ذلك وانطباع تلك الأوزان في حافظته «واللسان ترجمان» ، وإما أن يتعمد
مجاراة الدخيل على التحريف ومحاكاته رجاء أن يفهمه المراد بسهولة. وذلك ما أودى
باللغة العربية وصيرها في السنة العامة لغة أخرى ، وكاد أن يقيم على أطلالها أشباح
تلك الكلمات المحرفة لو لا متانة بنائها الذي لا يزال يقاوم طول الزمان وعادية
الإنسان. واحتماؤها من مقذوفاتهما بسلاح الدين وتاريخ الناطقين بالضاد.
واللغات صعبة
النطق في المبادي على الدخيل بالمشاهدة. وبدون تعميم قواعد اللغة على كافة الأفراد
وعدم تلقين الدخيل ما يراد استوى في التهاون والتلاعب بها الحاضر والبادي.
وإحياء اللغة
واتفاق الناطقين بالضاد في النطق والكتابة يتوقف على تعميم التعليم وتمرين التلامذة
على التخاطب بالتراكيب العربية. وانتشار المطبوعات في كل موضوع وحضور التمثيل
المرتب وقاموس مختصر تؤخذ مفرداته من الكتاب والسنة ولسان العرب ، ويوضع فيه لكل
معنى لفظ واحد وتؤلف من تلك الألفاظ رسائل في مبادي العلوم تلم بما في ذلك القاموس
من المفردات ولا تتجاوزه حتى تتحد معلومات التلامذة وطبقات الأمة بما فيه ، ويكون
مرجعا حتى في المكاتبات. ومن أراد التوسع في غريب اللغة فعليه بالمطالعة حيث لا
يضر في بعض الأزمنة الجهل بكثير من مفردات اللغة التي عوضت بغيرها أو الاقتصار على
بعض المواد في الدلالة على المعنى المراد. فقد هجرت ألفاظ كثيرة عربية وصعب فهم
معانيه الاستعمال غيرها واشتهاره في بعض العصور.
وتحتاج هذه
التآليف إلى لجنة علمية ، وعلى كل حال فاللغة العربية هي حية ، وحياتها باقية ما
بقي الجنس العربي حيا ، كما أن حياة الجنس الأدبية باقية ما بقيت لغة دينه وتاريخه
وآدابه في رواج. والعوام الآن من أطراف البادية يفهمون ألفاظ العالم اللغوي ومقاصد
الكتب العربية ، لكن بقوة الفهم لتقارب غالب الألفاظ العربية والعامية ، وغاية ما
يعوزهم بعض المفردات وأسلوب التركيب. أما رجوع رونقها البديع بهمة حملة العلوم
ورجال المعارف فليس بصعب المنال على عزائم الرجال.
الضيافة
رأيت من كرم
الفرنساويين ما لم أتوقعه من قبل المشاهدة فلا يقتصرون في الإكرام على القول ، بل
يشفعون ذلك بالفعل ، فيؤدبون المآدب ويبذلون ما في الوسع المالي على ضيفهم
وينزلونه في منازلهم بغاية السرور والاحترام. وبالضرورة مع أودائهم لا مع سائر
الناس ، وهذا ما لقيته في كرونوبل وباريز وإيسودان وطولوز وفيفي بالسويس من أفاضل
وفاضلات القوم ، فكأنهم يعملون بحكم الشعر العربي :
ما ودني أحد
إلّا بدلت له
|
|
صفو المودة
مني آخر الأبد
|
ولا جفاني
وإن كنت المحب له
|
|
إلّا دعوت له
الرحمان بالرشد
|
ولهم عناية
كبرى بالاقتصاد ، وضيافتهم في المدن الكبرى قليلة على المعروف عندنا ، وسكان قراهم
يكثر قراهم «ولا خير في أخ لا تجتمع الإخوان على خوانه ولا تمر الجفون على جفانه».
وأصناف الطعام عند القوم في منازلهم قليلة جدا لا تتجاوز ثلاثة أنواع ، والغلال
عندهم والمشروبات الحارة عقب الطعام أمر محتم.
ينتقد بعض
الناس أو يذكر من مخالفات العوائد عندنا عدم إكثار الفرنساويين لأنواع الأطعمة على
المائدة مثل ما عندنا ، وإقلالهم الرغيف والتوفير من أنواع الخضر. والصواب أن
الاقتصار على بعض الأطعمة أنفع للبدن وأبعد عن التبذير على مقتضى قواعد علمي الصحة
والاقتصاد ، أما كثرة أنواع المآكل والملابس فهي من مهلكات الشرف ومفقرات السرف.
وقد أعجبني
جواب بعض الأصدقاء عند ما سئل عن طعام الأروباويين وطعامنا ، فقال طعامهم أنفع
للبدن وطعامنا أدعى لكثرة الأكل. قلت وفي السنة : ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن
، حسب المسلم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث
لنفسه. وكرم العرب ليس من لوازمه كثرة المآكل. وحاتم الطائي يقول :
أضاحك ضيفي
قبل إنزال رحله
|
|
ويخصب عيشي
والمكان جديب
|
وما الخصب
للأضياف أن يكثر القرى
|
|
ولكنما وجه
الكريم خصيب
|
وأكثر من حاتم
الطائي عامر بن الطفيل الذي كاد أن يكون رئيسا لجمعيات الإعانات العامة. ولجمعيات
الفرامسون التي من قواعدها الواحد للكل والكل للواحد ، ولجمعيات حقوق الرجل ، فإنه
كان يكلف من ينادي في سوق عكاظ هل من جائع فأطعمه ، أو خائف فنؤمنه ، أو راحل
فنحمله. وبالجملة فالقوم أهل بشاشة بالضيف وإكرام بمقدار ، وهذا هو المناسب في
المجتمع البشري حتى لا يتكل الناس على الكرم ومال الغير واغتصاب أعماله ، وإقلاقه
وإضاعة وقت أشغاله ، فتذهب من الضيوف روح المروءة وإحساس العمل وخصلة الاعتماد على
النفس. كان وزير الناصر محمد بن قلاوون ملك مصر في أوائل القرن الثامن هجري ، وهو
سيف الدين يكتمر سمحا بجاهه بخيلا بماله ، ومع ذلك أثنوا عليه لمجرد المعونة
الأدبية فقط دون المادية : فقالوا لم ير مثله في حق أصحابه لكثرة تذكرهم في غيبتهم
والفكر في مصالحهم وتفقد أحوالهم ، ومن جفاه منهم عتب عليه وكان بصيرا بالأمور ،
خبيرا بالحوادث طويل الروح في الكلام ، لا يمل من تطويله ولو قعد في الحكم الواحد
ثلاثة أيام ولا يلحقه من ذلك سآمة البتة. وربما كان من هاته الخصال في رجال أروبا
كالمحافظة على حسن الوداد على البعاد والسماحة بالجاه دون المال ، والمقدرة على
إطالة الروح في الحديث والصبر على تحمل المشاق في مباشرة الأشغال بلا ضجر قبل
الإتمام.
وبعض سراة
أمتنا يتدبرون هذا الأمر ويعملون به ، وقد قالوا في ترجمة الوزير ضرغام في أواسط
القرن السادس بمصر في سياق الثناء عليه : كان كريما لا يضع كرمه إلّا في سمعة
ترفعه أو مداراة تنفعه ، فارس عصره كاتبا جميل الصورة فكه المحاضرة عاقلا إلخ.
فقد عدوا
التحري في وضع المال في منازله من صفات الكمال ولم يحسبوه مما ينتقد به على صاحب
الترجمة عند ما عدوا مساويه بقولهم. إلّا أنه كان أذنا
مستحيلا على أصحابه ، وإذا ظن في أحد شرا جعل الشك يقينا وعجل له العقوبة.
وهاته الصفات
مما يتحاماها الأروباويون مثل رجال العرب. ولهم آداب في الأكل منها التأني
والأحاديث اللطيفة ، ويعبرون عنها بالحديث على المائدة وينتظرون البداءة في كل نوع
وتنهية الأكل على استيفاء الجميع ، ويغسلون أيديهم بماء حار ، كل واحد في إناء خاص
عقب الطعام ، وكثيرا ما يغسلون قبله ويجتمعون كبارا وصغارا على المائدة. وكل هذا
مما للمسلم فيه آداب سابقة. يقول ابن العماد في لاميته المتعلقة بآداب الأكل :
واغسل يديك
ولا تمسح بمنشفة
|
|
قبل الطعام
ففيه الأمن من علل
|
ولا تكن في
حضور الأكل ذا نظر
|
|
إلى جليسك
يغدو منك في خجل
|
وإن سعلت
تحول عن وجوههم
|
|
نحو القفا
وعلى ذي الحول فاتكل
|
ولا تنخم ولا
تبصق بحضرتهم
|
|
ولا بمستقذر
تنطق لذي أكل
|
وإن أتتك
سنانير تصيح فلا
|
|
ترمي بها
لقمة تسلم من الثقل
|
ووافق القوم
حتى يكتفوا شبعا
|
|
ولا تقم
قبلهم تفضي إلى خجل
|
وآنس القوم
بالتحديث في أكل
|
|
ولا تكن
ساكتا كالبهم والهمل
|
ولا تكلف
لضيف ما ستطعمه
|
|
ضع ما تيسر
ليس البر في الثقل
|
وكل مع الزوج
والمملوك وادعهما
|
|
وكل مع الطفل
والزم سنة الرسل
|
ولهم ولع بوضع
الأزهار على المائدة وكتب أسماء الجلاس حولها عند الضيافة.
والأزهار مع
الأطعمة عادة قديمة ، نقل المقريزي أن ذلك كان في أيام الفاطميين ، وأنهم كانوا
يكتبون أسماء الناس على المصاطب التي يجلسون عليها في رقاع فيكون الجلوس بالترتيب
مصطبة مصطبة. وقد تقدم أن من عوائد الصينيين في الضيافة تقديم المطعوم والمشروب
والمشموم.
وذكر ابن عذاري
أن في سنة ٤٤٢ وقع الصلح بين أهل القيروان وأهل سوسة ، وصنع الأولون للأخيرين
دعوات غسلت فيها الأيدي بماء الورد. فيفيد هذا عادة استعمال الطيب مع الأكل من
أنواع الكرامة كما يشهد هذا الخبر بكرم أهل القيروان من قديم : رأتهم يلاطفون
أتباعهم وخادماتهم ويصرحون لهم بألفاظ الشكر حتى على مناولة صحن بلا طعام. وقد بلغ
من أمر الخادمات أن طلبن أن لا يعبر عنهم في المستقبل بخادمات بل بمعينات على
تدبير المنزل. وأشهرت بنات الدانمارك هذا الطلب على ألسنة الجرائد ونظمن له جمعية
وأسسن جريدة لطلب هاته الحقوق ورفض هذا اللقب المشين ، يعني خادمات ، وصرن يطلبن
من السيدات شهادات في حسن المعاملة مع الخادمات ، أستغفر الله «المعينات» بعد أن
كانت السيدات يطلبن الشهادة من الخادمات في حسن سيرتهن السابقة. ويجب الإحسان
للخادمات عقب موائد الاستدعاء وللأتباع متى قاموا لك بأمر ولو كان خفيفا ، أما
سائق عربة المستدعي فلا بد أن تنفحه بما يقارب نصف الكراء. والقوم يشايعون الضيف
أكثر مما يتلقونه. ومن توابع إكرام الفرنساويين لضيفهم إطالة السمر
معه بعد الأكل
وتنقير نسائهم وبناتهم على البيانو ، ولا حرج عليهن في الغناء مع ذلك. ويتمدح
نساؤهم وبناتهم بإتقان بعض آلات الموسيقى التي هي فن لذيذ محبوب ، وللعرب بها شغف
واعتناء في اعتبارها من توابع ما يكرم به الضيف. ففي حديث أم زرع قالت العاشرة : زوجي
مالك وما مالك. مالك خير من ذلك ، له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك ، إذا
سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك. قال القاضي عياض : أي أنه مما كثرت عادته إنزال
الضيفان وإطعامهم وسقيهم وضربه المعازف عليهم ونحره للإبل.
لذلك صارت
الإبل إذا سمعت المعازف عرفت بجري عادتها أنها تنحر. وربما جمع بعض الأروباويين
لضيفهم مع الموسيقى الرقص المعتاد في عرفهم والمرغوب فيه عندهم ، يعتبرونه من
توابع الرياضة والمودة ولهم فيه أفانين يتبعون بها أدوار الموسيقى
ببراعة وخفة زائدة ، ولكن لا يضاهون فيها براعة الممثلين والممثلات في
الأوبرا. وقد ذكرنا أساليب العرب فيه نقلا عن ابن خرداذبة عند الكلام على الأوبرا
بباريز.
المجتمعات
مجتمعاتهم
غالبا مكللة بالوقار ومزدانة بالتربية العالية ومفعمة بالآداب واحترام رأي المتكلم
والإصغاء إليه حتى يستوفي كلامه ، وإذا اقتضى الحال التنبيه فبإشارات خفيفة أو
الرد فبلطف وبرهان. وربما غضوا الطرف عن بعض هفوات المتكلم. بعيدون عن الخوض في
تتبع عورات الناس أو ثلب الأعراض.
وبالجملة فليست
لهم خائنة الأعين في المجالس ، ولا رفع الصوت في المحادثة ولا حديث في الخلوات
يخالفون به رأيهم عند الاجتماعات ، ولا كثرة لغو ولا ضحك بلا موجب في الأحاديث الجدية
، ولا استمرار على التعصب في الرأي إذا ظهر خلافه أصح ، ولا مبالغة في الحديث
الفارغ أو تساهل في الترامي على أحضان من لم يكن معه تعرف سابق عن ذلك المجلس ،
ولا مخالفة الضمير في التنازل مع بعض الناس متى حضر على خلاف ما إذا غاب. وهم
مستحضرون لأدوار التواريخ وواقفون على أحوال الحاضر فيخوضون في سائر أنواع
الأحاديث والنوادر بدون تكليف.
والسبب في هذا
هو التعليم الصحيح بصفة عامة للرجال والنساء.
وقد ذكرنا طرفا
من تنكيتهم الخفي في مجاري الحديث في فصل جنوب فرانسا وقبل الكلام على طولوز.
وصغارهم ذكورا وإناثا لا حرج عليهم في حضور اجتماعات المحادثات والجلوس على
الموائد ، حيث لا تخرج الأحاديث عما ينافي الآداب غير أن الغالب عليهم الصمت ، ولا
يكون كلامهم إلّا جوابا وبهذا تتلقى الصبيان دروسا عالية عائلية في حالة الانفراد
والاجتماع. ومتى رجع الصبيان من المكاتب أو غيرها قبّلوا خدود الآباء والأمهات ،
وكذلك قبل ذهابهم إلى غرف النوم ، ويقبل أفراد العائلة يد المرأة المسنة منهم عند
الوداع المنزلي.
ومن آدابهم
البشاشة والابتسام ولو مع عدم الرضى. وبالجملة فالأفراد عندهم يحترمون حقوق بعضهم
، والمعاملات فيما بينهم على أتم صفات الآداب سواء فيها
الغريب والمستوطن والحاضر والبادي. ولهم عادات تدل على تمسكهم بأسباب
السيادة كإكرام أهل العلم والغرباء وإنزال الناس منازلهم ، ويتجافون عن المكر
والخديعة. وقد ذكر ابن خلدون كثيرا من الخلال التي إذا حصلت لقوم استحقوا أن
يكونوا سادة ، وان ذلك خير ساقه الله إليهم. وإذا تتبعت هذا الأمر وجدت غالبه عند
أمم أروبا الآن ، وفق الله المسلمين لأسباب الرقي والفوز الدنيوي والأخروي.
حدث الأستاذ
سيدي سالم بوحاجب من عيون مسائل رحلته إلى إيطاليا منذ أربعين عاما تقريبا ، أن ما
حدثونا به عن صدر الإسلام وجاءت به شريعتنا من محمود الخلال والخصال وجلائل
الأعمال ، وجد شيئا كثيرا منه عندهم ملكة متوارثة بينهم.
شبه الفرنساويين بالأمم الغابرة في التمثيل
أملينا طرفا من
شبه الفرنساويين بالأمة العربية ، ونذكر الآن طرفا من شبههم بالأمم الغابرة ، وقد
مر بك شبه سكان باريز بالبابليين وشبه الفرنساويين بالرومان في تعميم النفع بخزائن
الكتب ، وشبه البربر بالعرب في كلام موسى بن نصير في فصل نجدة السكان بعد آرل.
أشبهت الأمة
الفرنساوية من الأمم قبلها مثل اليونانيين والرومانيين في عدة صفات كمكافأة الرجال
وسن القوانين والتصرف فيها ، وإرخاء العنان في مجالس اللهو ومواطن الخلاعة وغير
ذلك.
أهل أثينة
نقشوا على عمود من الحجارة اسم أرسطوطاليس وتمجيده بما كان عليه من اصطناع المعروف
وكثرة الأيادي والمنن ففعل الفرنساويون مثلهم.
فقد رأيت كثيرا
من صور مشاهير الرجال قائمة في شوارع المدن وبالأخص باريز.
وكذلك أقواس
النصر تخليدا لذكرهم واعترافا بجميل أعمالهم في الحياة الدنيا. وقد أفادت تلك
الآثار أبناءهم تاريخ الوطن وفخار الرجال ، وساقتهم في آن واحد إلى التشبه بهم في
جلائل الأعمال وإطراء أصحاب الأعمال النافعة ونوابغ الأمة ، وتمجيد ذكرهم في بطون
الدفاتر وصفحات الجرائد ودروس التعليم وأحاديث السمر مع الاحترام في الحياة
والحفاوة والمكافأة. وهذا يبعث في النفوس النشاط ، فتتسابق إلى
ما تفوز به لدى الأمة والحكومة بعظيم الجزاء وطيب الأحدوثة.
وبعض الناس لا
يفهمون لأعمال النابغين معنى ، ولا يقيمون لهم وزنا ، بل ربما ثبطوا العزائم بما
يغمطون من الحقوق ، وارتكبوا بذلك في جانب الصالح العام أكبر عقوق. والسلطان سوق
يجلب إليها ما يروج فيها من البضائع ، وقد يروج في بعض الأحيان زائف المبيعات
ومذموم الصنائع. ومرجع سياسة التنشيط والإكرام. والمقصد المراد منها على الدوام ،
هو التحصيل على ما تبرزه القوى البشرية مما يعود بالنفع العام.
اللباس
أما اللباس فهم
فيه على المعروف منهم عندنا بالمملكة فالسواد للرجال في الأثواب الظاهرة ولبعض
النساء أيضا ، وبالأخص في الحداد ، وغالبهن يلبسن المصبغات وأنواع المزركشات
ويتغالين في أثمانها ويتناغين في أشكالها وألوانها.
وتقدم لنا طرف
من هذا في كرونوبل والأوبرا وذكرنا أن للمرأة عندهم كل شيء.
وأكثر ما تختلف
أشكال اللباس عندهم فيما يوضع على الرؤوس. وفي الجهات الجنوبية من فرانسا تجعل
النسوة طاقيات بيضاء لطيفة بترتيب خاص على رؤوسهن.
ويستلفت
أنظارهم الغريب ولباسه ، وبالأخص اللباس العربي الجميل ، وهم متهيئون للتعرف به
ومجاملته بأدنى مناسبة على خلاف عوائد بعض الأجناس الذين لا يكلمون من لم يعرفوه
إلّا بواسطة تربط بينهما التعارف.
واللباس العربي
كاللغة العربية التي تقدم الكلام عليها في مدرسة اللغات الشرقية وتشعبها إلى عدة
لهجات بحسب الأقطار والجهات ، فليس لباس العرب الآن على ما كان عليه في القرون
السالفة ، ولا لباس الأسيويين كالإفريقيين ، ولا سكان شمال إفريقيا بمتحدين على
طريقة واحدة. فقبائل المملكة الواحدة وسكان مدنها وقراها تجد لكل قوم منهم عادة
متبعة في اللباس يخالفون بها غيرهم ويتميزون بها في عين الرأي المتبصر بأول نظرة ،
كما تميز الأذن بين هؤلاء في لحن القول ، وبالمملكة التونسية لباس المدن يغاير
القرى وهذان يخالفان لباس البوادي ، كل ذلك في الرجال والنساء وفي
المدينة الواحدة تتعدد الأشكال والهيئات ، وفي الغالب بحسب العقيدة والمال
والعلم والوظيفة.
قال الإمام
مالك قلت لأمي : أذهب فأكتب العلم فقالت : تعال فالبس ثياب العلم ، فألبستني ثيابا
مشمرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها ثم قالت : اذهب فاكتب الآن.
وفي القيروان
قال أبو العرب : كنت آتي إلى محمد بن يحيى بن سلام والطرطور على رأسي ونعلي أحمر
في رجلي في زي أبناء السلاطين ، وكان الطلبة ينقبضون مني من أجل ذلك الزي ، فقال
لي رجل يوما بجواري : لا تتزي بهذا الزي فليس هو زي طلبة العلم وأهله وزهدني ،
فرجعت إلى أمي فقلت نلبس الرداء وثيابا تشاكل أهل العلم والتجار ، فأبت علي وقالت
إنما تكون مثل آبائك وأعمامك. فاحتلت حتى اشتريت ثيابا وجعلتها عند صباغ في باب
أبي الربيع ، فكنت إذا أتيت من القصر القديم أتيت بذلك الزي الذي تحبه أمي ووالدي
، فإذا وصلت إلى باب أبي الربيع دخلت حانوت الصباغ وخلعتها ولبست الثياب الأخرى.
وأحيانا يكون من الضروري اجتناب الأشكال التي يخشى منها اللبس. ومن قديم العهد
يختلف اللباس على حسب التقسيم الآتي غالبا : الملوك ، الجند ، القضاة ، الوزراء ،
المتصوفون ، التجار ، أخلاط الناس. فكل حزب له شعار ولعل قول الشاعر :
أما الطعام
فكل لنفسك ما اشتهت
|
|
والبس ثيابك
ما اشتهاه الناس
|
هو الهيئات
العامة المميزة بين هاته الأقسام ونحوها ـ وإن بشكل خيف لبس يجتنب. أما الجزئيات
فالبشر ميال للتطور فيها وإنفاذ إرادته فيما يروق له منها. ومن الميل للتفرد في
بعض الملابس أن سعيد بن العاص بمكة كان إذا وضع عمامة على رأسه لم يعتم أحد بمثلها
ما دامت على رأسه وكذلك فعل الحجاج. ولباس الأمم السالفة كان بسيطا ، فقد كان عيسى
عليه السلام لما مر بسفح المقطم عليه جبة صوف وقد شد وسطه بشريط. وسئل نبينا عليه
الصلاة والسلام عن صحة الصلاة في ثوب واحد فقال أو كلكم يجد ثوبين. وفرض عمرو بن
العاص على بعض أهل
الذمة لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين. ولو كان غير ذلك
مما اعتيد تحتم لبسه عليهم لفرضه لهم. وفي بعض الأزمنة والبقاع يضم إلى ذلك
الملحفة والسراويل كما ذلك عند بربر شمال إفريقيا على ما ذكروه في القرن الرابع
بقبيلة برغواطة. وكان البربر يشتملون الصماء بالأكسية المعلمة ويفرغون عليها
البرانس الكحل ورؤوسهم في الغالب حاسرة ، وربما تعهدوها بالحلق ، نصّ على ذلك من
كتب في أحوالهم. واختلاف ألوان الثياب يتبع العادات ، قالوا إن اللون الأصفر أشكل
، والأحمر أجمل ، والأخضر أقبل ، والأسود أهول ، والأبيض أفضل. وأهل الأندلس
يتركون العمامة ورؤوسهم في غالب الجهات حاسرة ويعوضون عن لباس أعالي البدن
الطيلسان يضعونه على أكتافهم.
وقال المقري :
كثيرا ما يتزيى سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم ، فسلاحهم كسلاحهم
وأقبيتهم كأقبيتهم ، وكانوا يطلقون شعورهم. ولأميرهم عبد الرحمان الداخل في أوائل
القرن الثاني ضفيرتان ، والناس على دين ملوكهم. ومن قبل ذلك موسى بن نصير لما غضب
على مولاه طارق فاتح قطر الأندلس ضربه سياطا وحلق رأسه لسبقه بالفتح. وقال ابن
الرقيق ، وكان حاضرا عام ٣٠٦ : حلق باديس لحيتي بكار بن جلالة ويوسف ابن حبوس
وجعلهما مثلة في العالم ، فعد الحلق عقوبة بحكم عادة إرسال الشعر الذي تفنن فيه
البشر إباحة ومنعا في الرؤوس واللحى والشوارب وغير ذلك.
وتقدم الكلام
في طولوز على النسوة ذوات اللحى بها ، وذكر ما كانت تقسم به السيدة عائشة رضي الله
عنها وهو قولها وحق من زين الرجال باللحى. حيث قلت وحق من زين النساء بعدم اللحى.
وإفريقية التي
دار سلطنتها القيروان أربعمائة سنة تماما ، والمهدية نحو مائة سنة ، وتونس زهاء
تسعمائة سنة ، كم ظهرت على مراسح أزمنتها من أجيال وأجناس ، وكم تفننوا في أنواع
الحلل وأطوار اللباس. فمن ينبئنا ما هي يا ترى؟ وما هي الأطوار في تلك الأدوار؟
وقل من عني من المؤرخين بهذا الموضوع الاجتماعي ، إلّا كلمات في عرض بعض الحكايات
يلتقطها الباحث من بيداء المؤلفات وغابات المكتوبات.
ذكروا أن
المامون لما استدعى القاضي يحيى وأربعين فقيها وجدوه جالسا على
فراشه وعليه سواده وطيلسانه والطويلة وعمامته ، وبعد أن وقفوا وسلموا انحدر
عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته وقال لهم : انزعوا قلانسكم وخفافكم
وطيالستكم وحاورهم بعد ذلك.
ولما دخل عبيد
الله المهدي عام ٢٩٧ رقاده جنوب القيروان بنحو أميال ٩ ، الباقية منها الآن أطلال
وحياض. كان عليه ثوب خز أدكن وعمامة مثله وتحته فرس ورد ، وأبو القاسم ابنه خلفه
عليه ثوب خزخلوقي وعمامة مثله وتحته فرس أشقر ، وأبو عبد الله الشيعي أمام عبيد
الله وعليه ثوب توتي وظهارة كتان وعمامة ومنديل إسكندراني ، وتحته فرس كميت وبيده
سبنية يمسح بها العرق والغبار عن وجهه ، والناس بين يديه يسلمون عليه. وقال ابن
الرقيق فيباديس الصنهاجي عام ٤٠٦ مادحا له ومشيرا إلى عمامته الحمراء :
تجلو عمامته
الحمراء غرته
|
|
كأنها قمر في
حمرة الشفق
|
وفي الدولة
الحفصية قال صاحب كتاب «مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار» المؤلف في النصف
الأول من القرن الثامن ما نصه : وأما زي صاحب إفريقية القائم الآن في لبسه فهو
عمامة ليست بمفرطة في الكبر تحنك ، وعذبة صغيرة وجباب ، ولا يلبس هو وعامة أشياخه
والجند خفا إلّا في السفر ، وغالب لبسه ولبس أكابر أشياخه من قماش يسمى السفساري
يعمل عندهم من حرير وقطن أو حرير وصوف ، إما أبيض أو أحمر أو أخضر ، وقماش يعرف
بالجزيري وهو صوف رفيع جدا ، أو قماش يعرف بالتلمساني مما يعمل بتلمسان ، وهو
نوعان مختم وغير مختم ، منها صوف خالص ومنها صوف وحرير. والسلطان يمتاز بلبس الخز
ولونه بين الخضرة والسواد ، وهذا اللون هو المسمى بالجوزي والغباري وبالنفطي. قال
ابن سعيد : وهو مما يخرج من البحر بصفاقس المغرب وأنا رأيته كيف يخرج ، يغوص
الغواصون في البحر فيخرجون كمائم شبيهة بالبصل بأعناق في أعلاها زبورة فتنشر في
الشمس فتنفتح تلك الكمائم الشبيهة بالبصل عزوبر ، فيسمط ويخرج صفوه ويغزل ويعمل
منه طعمة لقيام حرير ، وينسج منه ثياب مختمة وغير مختمة. وهو أفخر الثياب
السلطانية
بتونس ويبلغ ثمن الثوب مائتي دينار من دنانيرهم المسماة ، فيكون ثمنه ألف
درهم من نقد مصر والشام.
وأما لبس
الأشياخ والجند والوقافين والقضاة والوزراء والكتاب وعامة الناس فعلى زي واحد لا
تكاد تتفاوت العمائم والجباب ، ولا يتميز المشايخ والوقافون والجند إلّا بشيء واحد
لا يكاد يظهر ولا يبين وهو صغر العمائم وضيق القماش. ولبس أهل إفريقية من الجوخ
ومن الثياب الصوف ومن الأكسية ومن الثياب القطن ، فمن لبس غير هذا كان مما يجلب من
طرايف الإسكندرية والعراق وكان نادرا شاذا.
وذكر في ترجمة
أبي زكرياء ابن عبد الواحد الحفصي أنه يلبس الثياب الصوف الرفيعة ذوات الألوان
البديعة ، وأكثر ما يلبس المختم الممتزج من الحرير والصوف وكمان طويلان من غير
كثرة طول ، ضيقان من غير أن يكونا مزندين ، وثيابه دون شد نطاق إلا أن يكون في
الحرب ، فإنه يشد المنطقة ويلبس الأقبية ، وله طيلسان من صوف في نهاية اللطافة
كأنه شرب يتردى به ولا يضعه على رأسه. وله عمامة كبيرة من صوف أو كتان وفيها طراز
من حرير ، ولا يعمم أحد من أهل دولته على قدرها في الكبر قد اختصت به ، وله عذبة
خلف أذنه اليسرى وهذه العذبة مخصوصة به وبأقاربه ، وليس له أخفاف في الحاضرة ولكنه
يلبسها في السفر.
وقال في لباس
المغرب الأقصى : وأما زي السلطان والأشياخ وعامة الجند فهي عمائم طوال رقاق قليلة
العرض من كتان ويعمل فوقها إحرامات يلفونها ، وعلى أكتافهم الجباب ويتقلدون
بالسيوف تقليدا فداويا ، والأخفاف في أرجلهم وتسمى عندهم الأتمقة والمهاميز. ولهم
المضمات وهي المناطق ولكنهم لا يشدونها إلّا في يوم الحرب أو يوم التمييز ، وهو
يوم عرض سلطانهم لهم. وتعمل من فضة ومنهم من يعملها ذهبا ، ومنها ما يبلغ ألف مثقال
، ويختص سلطانهم بلبس البرنس الأبيض الرفيع لا يلبسه ذو سيف سواه. فأما العلماء
وأهل الصلاح واسمهم عندهم المرابطون فإنه لا حرج عليهم في لبسها. هذا في البرانس
البيض فأما سائر الألوان فلا حرج على أحد في لبسها كائنا من كان.
قال ابن خلدون
الصغير في كتاب «بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد» بتلمسان وحوك الصوف
يتغايون في عمل أثوابه الرقاق ، فتلفي الكساء والبرنس
عندهم من ثماني أواق ، والإحرام من خمس ، بذلك عرفوا في القديم والحادث ،
ومن لدنهم يجلب إلى الأمصار شرقا غربا. وكان الإحرام في القرون الوسطى أي مدة الدولة
الحفصية من العادة أن يزال منه ما فوق العمامة عند ملاقاة السلطان. وبقي البرنس في
الدولة إلى أوائل القرون الأخيرة ، وهي ما بعد الألف ، فإن رمضان باي المرادي في
أول القرن الثاني عشر كان لابسا برنسا في بعض وقائعه ، ونزعه لما تمسك به أحد
أتباعه وفاز بنفسه. أما محمد باي المرادي فلبس القفطان ، لما ولي أواخر القرن
الحادي عشر. ولعل البرنس والقفطان صارا في تنازع فاقتسما الأمر ، فالبرنس للسفر
وهو المناسب للركوب وكثير المنافع في الحر والقر ، واختص القفطان بالإقامة
والحواضر.
والبرنس إلى
الآن عام في طبقات المملكة التونسية ، حتى أن من كانت وظيفته تقضي عليه بلباسها
الخاص بها فإنه يتبرنس في أوقات راحته وخلواته ، وهو في الحواضر يوضع على الأكتاف
على ما فيه من المشقة وإشغال اليدين ، وفي غيرها يسلك في العنق على الطريقة الأولى
له ، ولما كان هو الوحيد شهرة في المملكة عنونت به كتاب الرحلة ، ليعلم بمجرد سماع
الاسم مرجع جنسية ووطن صاحب الكتاب.
وقد قام مقام
الإحرام الشبيه بالأردية الرومانية في الحواضر الطيلسان ثم هجر وبقي شعار طائفة من
أهل العلم خاصة كما سيأتي. وبعض سكان القرى وعموم البوادي متمسكون بالحولي وكذلك
بعض أفراد بالحواضر. أخبر الشيخ ابن أبي الضياف أن العلامة المنعم الشيخ الطاهر بن
عاشور قاضي القضاة وجد صديقنا العلامة النزيه وارث جده بجده في الاسم والعلم
والوظيف ، أنه كان يلتحف في الشتاء بالحولي ، ويقول لعاذله دونك وقولي. وفضيلة
الشيخ نعمه الله أجدر خبرا بما نقله ابن عساكر عن خالد بن سفيان القائل : عمود
الجمال الطول وبرنسه سواد الشعر ورداؤه البياض. وما في هذا التشبيه من التنويه.
وكان حمودة
باشا في أوائل القرن الثاني عشر يلبس الطيلسان من صوف جربة ، فاقتدى به أهل المجلس
الشرعي فيه وخلعوا طيالسة الكشمير ، ولا زال الطيلسان إلى الآن شعارا رسميا لأرباب
الوظائف الشرعية والخطباء. وعثمان باي ١٢٢٩ ـ ١٢٣٠ جرى على سنن من قبله في القفطان
والطيلسان. ثم صار لباس رجال الدولة على الطريقة النظامية المعروفة الآن من عام
١٢٤٧ على ما شرحه شيخ المؤرخين ابن أبي
الضياف برد الله ثراه. وذلك على عهد المنعم حسين باي الثاني الذي كان يلبس
المحصور ، وهو ما كان بدون جبة ، وفوق باقي الثياب البرنس على الأكتاف.
بقي الكلام على
العمائم وهي تيجان العرب تناط بعد إماطة التمائم ويدخل بها الشاب في دور الرجولية.
قال الحريري : مذ ميطت عني التمائم ، ونيطت بي العمائم. وكانت عادة العرب إذا بلغ
الصبي أزالوا التمائم عنه وهي الحروز التي توضع في رقاب الصبيان ، وفيها المعاذا
والأدعية الصالحة توضع في محافظ من الجلد البسيط أو المزركش أو من الفضة أو الذهب
وألبسوه العمامة وقلدوه السيف. وفد الرماح بن يزيد المعروف بابن ميادة على الوليد
بن يزيد بن عبد الملك ومدحه ، فأمره بالمقام عنده فأقام ، ثم اشتاق إلى وطنه وقال
من ضمن قصيدة التشوق :
بلاد بها
نيطت علي تمائمي
|
|
وقطعن عني
حين أدركني عقلي
|
فإن كنت عن
تلك المواطن حابسي
|
|
فافش علي
الرزق واجمع إذا شملي
|
فأعطاه الوليد
مائة ناقة دهماء جعداء ، ومائة ناقة صهباء ، فجعلت هذه تضيء من جانب وهذه تظلم من
جانب آخر.
وإلى الآن
العادة في القيروان تحتم لبس العمامة على الشبان عند الزواج الذي يباكرون به أكثر
من غيرهم لما فيه من المصلحة الدينية والعمرانية ما لا يخفى. كما أن لبس العمامة
يوم الزواج عادة سائرة في حواضر تونس ، فيعرف العزب بلبس القلنسوة ويعرف المتزوج
بلبس العمامة. ولذلك يسمون ليلة العرس ليلة التعميمة.
وجدت العمامة
مرسومة في الحجارة على صور سكان إفريقيا قبل الإسلام وعليهم الجباب المعلمة.
قال ابن خلدون
: إن العرب يرسلون من أطراف عمائمهم عذبات يلتثم قوم منهم بفضلها وهم عرب المشرق ،
وقوم يلفون منها الليث والأخدع قبل لبسها ثم يلتثمون بما تحت أذقانهم من فضلها وهم
عرب المغرب.
والبرنس بالضم
كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كان أوجبة وهو من البرس
بالكسر : القطن ، والنون زائدة وقيل إنه غير عربي. والدراعة الجبة المشقوقة
إلى نهاية مقدمها ، فهي من الثياب الموضوعة على الأكتاف كالدرع ، وهذا هو النوع
المختص باسم البرنس عندنا. والجبة التي رأسها منها إذا أدخلت في العنق فهي
القشابية ، واشتمال الصماء أن يرد الرجل كساءه من قبل يمينه على يديه اليسرى
وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما
جميعا.
والجبة ثوب
مقطوع الكم طويل يلبس فوق الثياب أو الدروع والعباءات ، جمع عباءة ، وهي كساء من
صوف بلا كمين أو ثوب مربع مطبق مشقوق من الوسط وله تقويرة في محل الرقبة وفتحتان
من الجهتين ، يخرج منهما الذراعان وهي المعبر عنها عندنا بالصدرية الجزيرية.
والطيلسان كساء
مدور أخضر لا أسفل له ، لحمته أو سداه صوف يلبسه الخواص من العلماء والمشايخ
والطويلة؟؟
اللباس العربي
جرى حديث بعد
رجوعي إلى تونس مع بعض الفضلاء الذين تكرر منهم السفر أكثر من غيرهم إلى ممالك
أروبا وعواصمها وشغله يقضي بالتعرف بسائر الطبقات ، فأكد أن اللباس العربي محترم
حيثما ذهب وأنه يسره أن يحافظ على لباس وطنه.
وكان معنا بعض
الفضلاء ممن سافر إلى فرانسا ولبس العربي والأروباوي ففصل ما بينهما ، وفضل اللباس
العربي في الاجتماعات الرسمية وفي مجالس الوداد.
واللباس
الأروباوي في أوقات الخلاعة والتجول. وحكى لنا أنه سمع من المنعم الشيخ بيرم
الرئيس الأول بجمعية الأوقاف والرحالة في الممالك الأروباوية الانتقاد على من
يستبدل لباسه العربي بغيره في مدة سفره بأروبا.
قلت واختلاف
الأزياء تابع لاختلاف الأذواق والشهوات والعوائد ، وهو قديم كالاختلاف في اللغات
حتى أصبح لكل شعب أو قطر أو طائفة تجمعها رابطة اعتقاد
__________________
أو صناعة لباس مخصوص وشعار معلوم يتميزون به عمن سواهم ولا يرضون به بديلا.
لكن أدوار الزمان لا تقف بالأمم عند حد في تنويع الأشمال والهيئات والألوان وأصبح
من لوازم التمييز في الوظائف. فلكل إدارة شعار وهيئة تخصها ويظهر أن الرفاهية
والفراغ من دواعي التأنق في تغيير الأزياء حبا لكل جديد وإغرابا في المجتمعات.
بخلاف أرباب الأشغال وذوي الاعتناء بمهمات الأعمال فهم لا يعنون بذلك إما احتقارا
أو لعدم الملايمة لما يشتغلون به. والمتأمل في أفراد الشعوب والطوائف يدرك ، من
تقارب ملابسها في الألوان والأشكال وتنسيق الهيئات على ما يلائم معاطاة الأعمال
واختلاف الفصول ، درجة الأمة في الرقي وحسن الذوق فيما يلائم.
إذ تباعد
الأزياء والهيئات والأشكال والألوان بين أفراد الشعب الواحد بلا سبب ربما دل على
تباعد آرائه وعدم وحدة الفكرة ونبذ مراعاة الجامعة ، مثل التباعد ما بين الشعوب
والطوائف المختص كل منها بلباس لاختلاف التفكير. وأهل البادية الآن أكثر ما
يحتاجون إليه في اللباس ثمانية أشياء (١)
برنس «يسلك في العنق» (٢) رداء (٣) منديل «محرمة» (٤) شاشية «قلنسوة» (٦) عمامة
(١) «جبة» (٧) قميص (٨) نعل. بخلاف الحضري
فيتجاوز في ذلك ١٥ (١) برنس على الأكتاف على خلاف وضعه الأولي ، ولذلك فوضعه
الثاني لا يخلو من كلفة وأشغال اليدين معا كأنما خلقا لأجله خاصة ، خشية أن يطير
في السماء أو يهوي للثرى (٢) شاشية (٣) عمامة (٤) جبة (٥) غلالة (٦) فرملة (٧)
صدرية (٨) قميص (٩) درع داخلي من صوف أو قطن (مريول) (١٠) منديل (١١) سراويل (١٢)
منطقة (١٣) جوارب (١٤) ربايط لها (١٥) خف (سباط).
البحث والسؤال
من عوائد
الفرنساويين البحث والتنقير عن الحوادث والتنقيب على الأخبار والتعمق في السؤال ،
فلا يقفون عند حد ولا يقنعون بالسطحيات ، لذلك كانت
__________________
العلوم عندهم دائما في رقي مستمر ودقائق أخبار الأمم هي سمرهم ، وتقلبات
الدهر وتصرفات الليالي هي أحاديث أنديتهم ومجتمعاتهم. وأرسم هنا شيئا مما دار بيني
وبين سكان فرانسا في هاته الرحلة : كانوا يباحثونني ويستطلعون مني عوائد مملكتي
وأخلاقها ومعارفها كما يسألون عن أبناء جنسهم في المملكة التونسية ، وما هي
معاملاتهم مع الأهالي ، وهل هم على وفاق مع أبناء الوطن التونسي. ومتى سمعوا
التوادد مع رجال الحكومة وطيب المعاشرة تبرق أسارير وجوههم سرورا بأبناء جنسهم
الذين بيضوا وجوه رجال مملكتهم في حالة اغترابهم وجلبوا الثناء الجميل لدولتهم
التي تحميهم من وراء البحار ، وتنتظر محاسن أعمالهم على بعد الدار. وكثيرا ما سئلت
عن السبب الذي ترك المملكة التونسية على اتساعها قليلة عدد السكان بالنسبة إلى
غيرها لما أن مساحتها ٠٠٠ ، ٧٢١ كيلوميتر مربعا وسكانها ٠٠٠ ، ٠٠٨ ، ١.
فالكيلوميترو
مربعا به نحو عشرة ١٠ فقط وهذا قليل جدا بالنسبة لما بيناه من سكان الممالك ،
ومساحاتها عند الكلام على مجلس الأمة بباريز بصحيفة ١٥٠ «وقد وقع تحريف مطبعي في
تلك الإحصائية تداركناه في جدول الإصلاح» . فكان جوابي لهم بأن عمران المملكة أخذ في التلاشي
وانحط عدد النفوس إلى درجة مخطرة في القرون الخيرة ، أعني بعد الألف لأسباب كثيرة
، زيادة على النكبات التي أصابته في خلال القرون الأولى أي إلى القرن الخامس ، ثم
في أثناء القرون الوسطى أي إلى الألف ، ومن تلك الأسباب : ١ ـ الحروب المستمرة بين
القبائل. ٢ ـ ومنها عدم الأمن على النفس والمال. ٣ ـ ومنها الجهل بحفظ الصحة
والعجز عن مقاومة الأمراض الوبائية. ٤ ـ ومنها فقد المعاش في سني الجذب. أما الآن
فقد انخفضت شوكة القبائل بالمملكة سواء كانوا من البربر أو العرب ، وكلا الجنسين
لعب دورا مهما في إفريقيا وأخذ حظا وافرا في التخريب والحروب المبيدة. فالكاهنة
دهيا البربرية في النصف الثاني من القرن الأول خربت المداين والقصور ، وأفسدت
الأشجار تنفيرا للعرب الفاتحين من الإقامة ، فتركت المملكة بلقعا تئن من ويلات
الفقر حيث أبادت مساكن أصحاب المدر والصنائع الذين لا تكون العمارة إلّا بهم ،
وذهبت بمتمعش
__________________
السكان وهي غابات الزيتون. ثم جاء أبو يزيد النكاري البربري صاحب الحمار
الأبيض وملأ إفريقية حربا على العبيديين في أول القرن الرابع ، ثم في أواسط القرن
الخامس جاء عرب هلال للقضاء الأخير على إفريقيا وهي في منتهى الشباب ونمو الثروة
وكثرة الساكن وانتشار العمران وأمن السبل وبسطة العلم والحضارة. فتلاطمت أمواج
العنصرين العربي والبربري وطما بحر الأول على الثاني وداسه وشرده وصير باقيه خولا
وعبيد جباية. إلى غير ذلك من مثل حروب الميورقي يحيى بن غانية بإفريقية قائما
بالدعوة المرابطية في أوائل القرن السابع ضد دولة بني عبد المومن بن علي أصحاب
الدولة الموحدية ، وخلف المهدي ابن تومرت بشمال إفريقيا. وما الدولة الحفصية إلا
من صنائع دولته ورجالها نواب عنه بتونس في أول أمرهم. قال ابن خلدون في شأنه ما
مضمونه : ردد الغزو والغارة على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط فاكتسحها ، وكبس
الأمصار فاقتحمها ، وانتسف الزرع وحطم النعم إلى أن خربت وعفا رسمها لسني الثلاثين
من المائة السابعة ه. ثم ثورات قبائل العرب وإجلابهم على الدولة الحفصية مرة بعد
أخرى ، وأحيانا يجئجئون عليها ببعض قرابة الملك وأعياص النسب ، حتى قاسموها
المملكة واستبدوا بمحصولات الضواحي ونالوا الإقطاعات من بعض القرى والواحات. وقد
نبهنا في المقدمة بقسم السفر المالي وبفصل التغلب والاستيلاء ، على أن الحروب
الداخلية من العيث والفساد وضعف الحكومة وانشقاق الأمة إلخ ما بصحيفة ١٤.
ومن أعظم الفتن
في القرون الأخيرة المقارعات بين تونس والجزائر ، ثم عواقب الشقاق بين المراديين
وأعمال مراد بوبالة وخليل باشا والي طرابلس ، وبالأخص في القيروان ، التي سبى
نساءها وذراريها بعد ما استأصل رجالها بذراع التمار ، وحرثها بعد ذلك مراد بوبالة
في أوائل القرن ١٢. ثم حروب يونس بن علي باشا في أواسط القرن ١٢ فمنيت إفريقيا جراء
هاته الحروب بنقص الأموال والأنفس والثمرات. أما قبائل هلال وسليم والعرب الذين
طمسوا معالم إفريقيا وانتزوا على كورها فليسوا كبقية العرب أصحاب المكارم وطيب
الجوار ، بل هم من الشهرة بمكان في العيث والفساد ، وكانوا في نيل مصر تحت نير
الضغط والمراقبة من العبيديين الذين جمعوهم في صعيد واحد وكفوا عاديتهم عن السكان
، إلى أن ألجأهم المعز بن باديس بكفران
النعمة والتهاون بهم إلى الانتقام منه ، فجاءت الضربة قاضية والمصيبة عامة
لما أفاضوا عليه سيل العرم والجراد المنتشر من هاتيك القبائل السفاكة فكان ما كان
، وقد ألمعنا في المقدمة إلى هذا الحادث الجلل.
أما رجال الفتح
وسراة الأمة العربية فليس هذا سبيلهم ولا من شيمهم ، ومع أنهم أباة ضيم فهم لا
يتنازلون إلى الظلم الذي تنهاهم عنه شريعتهم وشرفهم ، وهم متى غلبوا أمنوا من
تحتهم وعمروا الممالك. وفي إفريقية قاموا مقام الرومان في هذا المعنى وإن شئت
امتزجوا بهم وبالبربر عند الفتح مثلما امتزجوا ببقية الأمم الأصلية في الممالك
الراقية التي أبيح لهم فتحها وانتفعوا منهم في أخذ علوم الدنيا مثلما انتفع السكان
الأصليون بحلاوة العدل منهم والتطهر من أدران الضلالات وبنشر حرية العمل والاعتقاد.
عدا ما يزاحم سيادة الدولة أو يناكد دينها ، فإن الأمة الحاكمة لا تتهاون بها.
والعرب
بإفريقيا وغيرها أوسع عارضة وأمتن رأيا في الإدارة وبالسياسة. والبربر أدمن عملا
وأرضى بالقليل وأشغل للمهن البسيطة ، وهم أكثر تلقيا لعوائد الرومان من غيرهم
ومتابعة لهم في مذموم الخصال ومحمودها لطول المساكنة وقوة الامتزاج والمعاشرة. غير
أن الإسلام طهرهم كثيرا. كما أن قبائل هلال وغيرهم بطول الإقامة في إفريقيا ذات
الهواء اللطيف والعيش المريء نقصت حدتهم. وبفضل امتزاجهم بالعناصر التي بها حسنت
معاملتهم ، ولا زالت ذريتهم من بعدهم بإفريقيا محافظة على أنسابها وشيء من عاداتها
، وامتاز العرب بالوفاء بالعهد عن شرف ، ومقابلة الجميل بالجميل عن إخلاص. وصار
هذا خلقا لعموم سكان المملكة التونسية التي أكثرها عرب من جيل القرن الخامس. أما
عرب الفتح الأول وهم أمراء وقواد وأجناد فقد أبادتهم الحروب وابتلعتهم الأقطار
الشاسعة ، ومثلهم ذريتهم من بعدهم في طلب العلى. وهي سنة في عائلات وشيعة الملك
المنقرض ، حيث لا يبقى عليهم من يخلفهم من بعدهم. وهو سوء في السياسة وخرق في
الرأي. وادعاء النسب وزعم الالتحاق بمثل عائلات الملك والشرف شنشنة معروفة من
المتشبثين بأذيال السمعة ، فيركبون لها متن التدليس والتلبيس وتخادعهم أنفسهم بما
تمليه عليهم من الأوهام ، إلى بناء القصور على الأماني والأحلام ، عجزا منها عن
طريقة عصام ، وهم لا تخلو
منهم أرض على كر الأيام.
وربما راج بعض
الأدعياء بتحمل الأوزار لنيل بعض الأوطار. ولما كانت من علاماتهم نصب المكايد
وتدبير المفاسد ، فهم في الغالب لسوء نواياهم يفتضح أمرهم وتسوء عقابهم. وأفنت
البربر أيضا الحروب والمجاعات وشردوا إلى الجبال العظيمة التي كانت في القرون
الأخيرة أعشاشا للفتن ولتوليد رؤوس الثورة ، وملجأ لكل متشرد ، وداعية لكل ناعق.
وأشهر جبال
المملكة التونسية جبل خمير بالشمال ومطماطة بالجنوب ووسلات بالوسط غربي القيروان.
وجدت كثيرا من الفرنساويين الذين عرفوا أخلاق التونسيين يثنون عليهم ويعترفون لهم
بالنباهة والاستعداد لقبول الحضارة وبكونهم مصدرا للمسالمة والحفاوة والمعروف.
٢. أما الأمن على
النفس والمال فقد سهرت عليه أنظار الحومة الحالية بتقليم أظفار أهل الفتن وقطع
أيدي أرباب التمعش من طرقات القفر وإخافة السابلة ، وأعان على سد الأبواب في وجه
الطالبين للاسترزاق من غير الأوجه الطبيعية تمهيد الطرقات وتسهيل المواصلات وسرعة
المخابرات بمستحدث الآلات. والجزئيات البسيطة والنوازل النادرة التي لا تخلو من
مثلها مملكة فيقتلع جرثومتها نشر التعليم ويبيدها الولاة المخلصون المقتدرون.
٣. وحفظ الصحة
ومقاومة الأمراض الوبائية فهو على نظام متين ، وفي تقدم سريع حيث انتشرت
المستشفيات في غالب جهات المملكة ، وتقاطرت الأطباء مثلما انتشرت مكاتب التعليم
والمعلمون. فانتفعت المملكة ونفقت أسواق التعليم والتطبب ، وامتدت إلى أربابهما
أنظار الوجاهة وانساقت لهم خيرات الحياة الدنيا جزاء إحيائهم بدن الإنسان وروحه.
وبصفة كوني
عضوا في مجلس مستشفى القيروان مع ما عرفته قبل من نظام المستشفى الصادقي بتونس
الراجع لنظر جمعية الأوقاف ، اطلعت على ما نجم عن هاته الملاجىء الخيرية ونفعها
للأهالي الذين كانوا يموتون فريسة الجهل بالمداواة ولو للأمراض البسيطة المنهكة
للأجسام البشرية. وضحية الأمراض المخطرة القاضية على النفوس ، وتفشي العدوى الحاصدة
لأجساد المخلوقات. ومن جمعية الأوقاف مدد في
هاته المبرة كما هو المقصود من الوقف في الإعانة على طرق سعادة الإنسان ،
والأهالي يقدرون هاته المزايا حق قدرها.
خصوصا وقد
شاهدنا ما قامت به الحكومة أحسن قيام في عام ١٣٢٩ لمقاومة المرض الوبائي الذي هاجم
المملكة وطارت شرارات ناره إلى عدة نقط من الإيالة ، فجرى عليه الحصار في أماكن
ظهوره وكبسته رجال الحكومة ، ولصديقنا السيد الهادي المرابط عامل القيروان يد طولى
في ذلك واعتناء غريب ، كما حاربته حكماء الطب فقضى نحبه في أمد وجيز بعد أن رمى
بسهام بلائه عددا من النفوس البريئة.
فلو أتى هذا
العدو الفتاك والمملكة على الحالة القديمة لأباد الأمة وخرب الإيالة. ولا زالت
السنون التي طمى فيها سيله سابقا على المملكة تاريخ أبناء الجيل الماضي ومن غرائب
ما يقصونه ، سواء عن مشاهدة أو سماع على جيل أول القرن الرابع عشر.
ذكر أبو إسحاق
الرقيق القيرواني المؤرخ الشهير والكاتب الشاعر أن عام ٣٩٥ كانت فيه شدة عظيمة
انكشف فيها المستور ، وهلك فيها الفقير ، وذهب مال الغني ، وغلت الأسعار وعدمت
الأقوات ، وجلا أهل البادية عن أوطانهم ، وخلت أكثر المنازل فلم يبق لها وارث ،
ومع هذه الشدة وباء وطاعون هلك فيه أكثر الناس من غني ومحتاج ، فلا ترى متصرفا
إلّا في علاج ، أو عيادة مريض أو آخذا في جهاز ميت ، أو تشييع جنازة وانصراف من
دفن. وكان الضعفاء يجمعون إلى باب سلم فتحفر لهم أخاديد ويدفنون المائة والأكثر في
الاخديد الواحد. فمات من طبقات الناس وأهل العلم والتجار والنساء والصبيان ما لا
يحصي عددهم إلّا خالقهم تعالى. وخلت المساجد بمدينة القيروان وتعطلت الأفران
والحمامات ، وكان الناس يوقدون أبواب بيوتهم وخشب سقوفهم ، وجاء خلق من أهل
الحاضرة والبادية إلى جزيرة صقلية وكانت الرمانة بدرهمين للمريض في ذلك الوقت ،
والفروج بثلاثين درهما ، وقيل إن أهل البادية أكل بعضهم بعضا. وفي سنة ٣٩٦ كثر
الخصب بإفريقية ورخصت الأسعار وارتفع الوباء عن الناس.
ذكر لي راوية
القيروان وواسع الخبر والبيان الشيخ سيدي محمد صدام باش مفتي القيروان ، أن عام
١٢٨٤ كان الأمر فيه على هاته الحالة في القيروان. ولا خلاف في نفع المقاومة وحصول
الوقاية بالمداواة وصحة التحصن من مثل هذا المرض بحمية
الابتعاد عن المصاب به والعليل بجراثيمه. وكل ذلك بإرادة الذي خلق الداء
والدواء ، وأما حديث من أعدى الأول عند السؤال على التفادي من خلط البعير الصحيح
بالأجرب خشية العدوى فهو لائق بالسائل وتعليم له وتنصيص لمصدر الأفعال من الخالق
القدير كيلا تنسب لسواه. وما سؤال السائل عن مثل هذا إلّا لما عرفه واعتيد عند
قومه من تفشي العدوى بممازجة المريض. والحديث الشريف يقول :
فر من المجذوم
فرارك من الأسد. وفي المملكة التونسية طبيبان مسلمان وهما السيد البشير دنكزلي
والسيد حسين بوحاجب فقط ، وطائفة من الممرضين والمهيئين لبعض الأدوية علمهم
المستشفى الصادقي ، فانتفعت بهؤلاء الشبان مستشفيات المملكة.
وحبذا لو اعتنى
أغنياء المسلمين بتوجيه أبنائهم إلى أروبا لتلقي هذا الفن الجليل الذي برع فيه
أوائلنا ودونوا الكتب في أنواع الأمراض وجزئيات العلاج ولم يشحوا بتعليمه على كافة
أجناس البشر. ومن كتب اليونان انجر إلى بغداد وفاض على إفريقية ودخل جزيرة الأندلس
وتسرب بين فجاج جبال البيريني إلى أروبا ، والعلم سريع الانتشار والتنقل كالنور ،
غير أن شمسه لا ينتفع بها إلّا اليقظان ، وكثيرا ما تمر بأقوام وهم نائمون.
في أروبا لا
يستنكف أبناء الأغنياء عن تكبد المشاق في طلب العلوم أو يستغنون عن زيادة الغنى
الذي واسطته الكبرى ووسيلته العظمى هي العلم. فالعلوم العالية ينفق أغنياؤهم فيها
على أبنائهم الأموال الطائلة وذلك ما لا يكون في وسع الفقراء.
وقد تغيرت طرق
الحصول على العلم بنظام المدارس وصرف الأموال الذريعة خلافا لما مضى من فتح أبواب
الدروس في سائر الفنون لكل وارد ، فكان السبق غالبا لأبناء الفقراء الذين يكابدون
عناء الطلب ويفنون زهرة شبابهم في السهر والجد ويبيعون لذة حياتهم بطول الأمد ،
ولو لا أبناء الفقراء لضاع العلم ، أما وقد أصبح قطع المسافات البعيدة والدخول في
المدارس العليا يتوقف على الأموال الذريعة فصار هذا الواجب من متعلقات الأغنياء
خاصة.
كنت اجتمعت في
جنيف بثلاثة من شبان اليهود التونسيين يتعلمون الطب ، فسرني ذلك من أبناء الوطن
بقدر ما ساءني قلة عددهم وخلو جمعهم من مشاركة أبناء الجنس.
٤. وما قررته
الحكومة في سني الجدب من جلب الحبوب وتوزيعها على الأهالي سلفا للقادرين على
الوفاء وصدقة على الفقراء من أحسن التدابير لإحياء النفوس ودفع المجاعة ، التي
تعقبها غالبا الأمراض الوبائية لاستعداد الأبدان الهزيلة لقبول طلائع جيش الأمراض
بسهولة ، لفقدها سلاح الغذاء الكافي الذي تقاوم به هجمات الطبيعة ـ والأمراض
المريعة والعدوى السريعة. ولهذا قلت للباحثين على هذا الغرض إن عمران المملكة وعدد
السكان أخذا في النمو بعد جيل من الدور الجديد للمملكة للأسباب التي قدمناها ،
وربما ظهر النمو ظهورا بينها في الجيل الثاني ومتى تمت غراسة الزيتون وبالأخص في
فسيح أراضي الجنوب الصالحة له نمى عدد السكان.
وضروري أن ثروة
الأرض وانتشار الأمن من أسباب وفرة العمران ، وارتفاع إحصائيات الإنسان ، وكثرة
الحيوان ، وأيام العدل يتوفر فيها عدد السكان. وتنتظم الإدارة وتتولد الحضارة
وتحترم الشرائع وتكثر الصنائع ، وتزهر العلوم وتنبت من الأمة الرجال الأكفياء في
كل طبقة وجيل. وتستدر الخيرات كما يقبل الناس على الأشغال ، وإتقان الأعمال ،
ويبرع أصحاب الفنون وتظهر ثمرات الفكر ونتائج العمل فتؤلف الكتب وتعم الثروة.
والدولة هي السياج لهذا البستان الزاهر والعمران الزاخر.
لهذا يعلو كعب
الدولة بمثل هذا وينساق لها من الثروة العامة في الأمة الغنى. ويكون لها من الرجال
الأكفياء في السيف والقلم الغنى. وهذا ما أخذت فيه المملكة التونسية في عصر الحماية
، فبعد أن كانت ميزانية دخل الدولة سبعة ملايين على عهد دولة أحمد باي في الربع
الثالث من القرن ١٣ المنصرم ، وبلغت في دولة الصادق باي في أواخر القرن المذكور
أحد عشر مليونا ، صارت اليوم خمسة وثمانين مليونا على ما ضبطه واسع الاطلاع المؤرخ
سيدي محمد بن الخوجة في بعض الرحلات الدولية ، وذلك في دولة أميرنا كريم الشيم
وواسع الكرم ، مجل أهل العلم والمرموق بعين الرفعة بين الأمم ، سيدنا محمد الناصر
باي. فالله مولانا يسعد الأمة بطلعته ويؤيد في الصالح العام رجال دولته.
وعسى أن يزداد
العمران وثروة السكان بالنعمة العظمى التي منت بها الدولة على الأهالي ، وهي منحهم
إنزال أراضي الأوقاف العامة والخاصة التي بها منازلهم ومستقرهم أبا عن جد ، بمقدار
زهيد وبدون إشهار أو مشاركة من ليس له حق معهم
في النزل والاستيطان ، فالأهالي لا يخشون بعد هذا فقد المركز الذي به
حياتهم ، وإنما الخوف منا على أنفسنا في عدم القيام بواجب تعمير الأرض وبقاء
ثمراتها وكنوزها في جوفها ، إلى أن تضمنا لتلك الكنوز التي في بطنها ونحن بطوننا
فارغة. وستظهر إحصائيات السكان الحقيقية من ضبط الحالة المدنية وإحصاء المواليد
والوفيات الذي اعتنت به الحكومة أخيرا. وكان من الفائزين بقصبات السبق في ضبط هاته
المسألة والعناية بهذا الموضوع صديقنا السيد الهادي المرابط عامل القيروان. ونظير
هذا كان في صدر الإسلام على عهد سيدنا معاوية بن أبي سفيان ، فإنه جعل على كل
قبيلة من قبائل العرب بمصر رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول : هل ولد
الليلة فيكم مولود ، وهل نزل بكم نازل فيقال : ولد لفلان غلام ولفلان جارية فيكتب
أسماءهم. ويقال : نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله فيسميه وعياله ، فإذا فرغ من
القيل أتى الديوان حتى يثبت ذلك. وفي دولة الرومان أسس سنس قاعدة كتب أسماء
الرومانيين كل خمس سنين في دفتر لا يوجد إلّا في رومة ، ومن لم يرسم اسمه بدفتر
تعداد الأنفس يقع عليه الرق. وظهر بالإحصاء الجديد وفي بحر السنوات العشرة الأخيرة
أن سكان القيروان حسب التفصيل الآتي :
أسماء الرجال ـ فوق المائتين
|
٢٠٠
|
«النساء – نحو
|
١٥٠
|
«الأنساب – فوق
|
١٢٠
|
أنواع الوظائف
والحرف والصناعات فوق المائة :
للرجال
|
١٠٠
|
النساء – فوق
|
٠١٠
|
أسماء اليهود ـ الرجال – فوق
|
١٥٠
|
««ـ النساء – نحو
|
٠٧٠
|
منازل المسلمين – فوق
|
٢٠٠٠
|
«اليهود – نحو
|
٠٠٥٠
|
جميع السكان من
المسلمين واليهود :
واستفدت من إظهارهم
السرور بهذا أنهم بشريون يحبون سعادة الإنسان في أي مكان ، كائنا من كان ، بقطع
النظر عن الأجناس والأديان ، وأظن أن هذا ليس في بعض الأفراد بل في أكثرهم ، مثلما
تأمرنا شريعتنا بالأقساط والمبرة ولو لمن خالفنا في الدين من المحسنين.
كثيرا ما خاضوا
معي في شئون الزواج واستطلعوا رأيي عن درجة المرأة عندنا في المعارف وفي الحرية ،
ويعنون بها خروجها بدون خمار وزواجها بمن تريد وبمن يراها ، وعن تعدد الزوجات ،
والطلاق. وفي الغالب لا يقنعهم الجواب عن بعض هاته الفصول ، ولا سيما كون العصمة
بيد الزوج يطلق متى شاء ، والحكم على المرأة بحجرها بين الجدران مدة الحياة وجمعها
مع عدة زوجات. وأكثر الأسئلة عن مثل هذا الموضوع من النساء اللاتي يهمهن هذا
الأمر. وقد تقدم لنا فيما بين ليون وباريز ما دار من الحديث في هذا الغرض بالقطار
مع بعض عائلات ليون. وربما كان لمن لم يقنعهن الجواب عذر مقبول لأن هذا في عينهن
سلب للحرية التي اعتدنها. والفطام صعب. وكذلك دواعي الغيرة من النسوة توجب عليهن
النفرة من الضرة ، فكأنهن يقلن كيف الحياة مع الحيات في قفص؟ أما المعارف للمرأة
وزواجها برضاها وبمن يراها وخروجها لبعض الأسباب بالجلباب فهو من قديم في الإسلام.
ولئن تقلص قليلا بعض ذلك بعوائد القرون المتوالية فللمسلمين تشوف وتشوق إلى رجوع
ما يكون به الزوجان ، ومنزلهما وأبناؤهما على وفاق مستمر وفي سعادة دائمة. وليت
شعري متى ترى العائلة مقامة قواعدها على ما قرره الفيلسوف ابن سينا المتوفى سنة
٤٢٨ وهو ما ذكرناه بصحيفة ١٣٥ في المحادثة التي جرت بيني وبين عائلة بين ليون
وباريز.
كانوا يسألونني
بمناسبة ذكر إدارة الأوقاف عن مسمى هاته الإدارة وموضوعها وأعمالها حيث لا يوجد في
نظامهم لها نظير. فكنت أقول بأن الذين أرادوا فعل البر ونفع البشر فيما مضى عمدوا
إلى تأبيد النفع بإخراج شيء من أملاكهم يصرف
محصوله في جهة يعينونها ويعلنون على أنفسهم بذلك حتى لا يتأتى لخلفهم إرجاع
ذلك لخاصته. ومن محاسن الشريعة الإسلامية وتشوفها إلى إسداء البر أن حكمت على هاته
الأعمال الخيرية باعتبارها أبدية بمجرد قول صاحب المعروف حبست ، ليستمر النفع العام
والثواب الخاص ما دام البشر محتاجا ومحبا لإسداء البر.
واختلفت
المقاصد في تعيين أنواع البر ، وربما كانت مما تكثر الحاجة إليه أو يتأكد على حسب
اختلاف العصور وأنظار الواقفين ، فمنهم من أوقف الآبار وعيون الماء والسبايل للشرب
، ومنهم من أوقف على إطعام الفقراء ، ومنهم من خصص شيئا لمداواة المرضى أو إطعام
العجز وذوي العاهات أو مرضى العقول ، بإطعامهم ومداواتهم حتى بالموسيقى التي لها
دخل عظيم في التأثير على النفوس. وعلى المستشفيات والتكايا ، وأوقفوا كثيرا على
عمارة المساجد بيوت الله ومحلات التطهير «المواضي».
كما حبسوا على
المعلمين والمتعلمين حبا في نشر العلم ، وعلى الأسوار لحفظ البلدان إلى غير ذلك من
الجزئيات الكثيرة ، حتى على أصداق الأبكار الفقيرات وعلى من يقوم بقتل ذوات السموم
كالعقارب والتقاطها من الجدران والطرقات دفعا للأذى عن السكان. وكان الفضل في
إحداث نظام كفيل يحفظ أنواع الموقوفات واستعمالها فيما عينت له الوزير المنعم خير
الدين التونسي ، ابتدئ العمل به في عام ١٢٩١ وجعل القانون النظر في إدارتها لجماعة
من بينهم رئيس. وسماها جمعية الأوقاف لتكون تلك الهيئة متركبة من رجال جمعوا بين
الخبرة بقواعد الدين ومعاني اللغة وبالقوانين وسياسة الحكومة وعلم الاقتصاد ، لما
للأوقاف من الارتباط بالدولة وكافة طبقات الأمة ، وتلزمها التدابير الاقتصادية
والتنسيقات المالية ، زيادة على كونها دينية يجب أن تدار حول مجرى الشرع ومقاصد
المحبسين ، ويدافع عنها وعلى حقوقها حسب الشرائع والقوانين. وهي ثالث إدارة محترمة
في عين الإسلام بعد ديوان الشرع العزيز ، ونظارة تعليم العلوم بجامع الزيتونة ،
حيث إنها مجموعة مبرات ومصدر للخيرات. وقد بلغت من الرؤساء إلى حد الآن سبعة وهم :
النحرير السياسي سيدي محمد بيرم
|
١
|
العلامة الورع ـ أحمد الورتتاني
|
٢
|
النزيه المقرب سيدي عمر بن بركات
|
٣
|
العالم الأكمل ـ محمد بن عاشور
|
٤
|
الموقر الخير ـ محمد صفر
|
٥
|
البارع الوطني ـ البشير صفر
|
٦
|
الماجد الحسيب ـ الشاذلي صفر
|
٧
|
ثم صار لهاته
الإدارة ناظر من طرف الحكومة ، وأول من سمي لذلك السيد البشير صفر ، ثم صار فيما
بعد رئيسا ، وبعد فترة من الزمن سمي السيد حسن بن بركات معتمدا ـ ثم الآن كذلك
السيد العربي بن عبد الله.
بين مرسيليا وتونس
بت في مرسيليا
عند الرجوع من فرانسا في أوتيل البوسطة حيث وصلت على الساعة العاشرة ليلا في
القطار الراجع من آرل على الساعة السادسة ، وفي الصباح من يوم الاثنين السابع من
جويلية والثاني من شعبان أشعرت إدارة طرانز أتلانتيك في الرصيف بالركوب في ذلك
اليوم في سفينة قرطاج التي تقلع عند الزوال. ودفعت معلوم البحر فرنكات ٣ ، واجتمعت
ببعض تلامذة الطب من يهود تونس آيبين من جنيف ، وتراءت لي مرسيليا ضعيفة الحركة
ناقصة التنظيم بعد مشاهدات مدينة باريز ، ولما بارحت تراب فرانسا بعد ثلاثين يوما
كاملة ودخلت سفينة قرطاج وأخذت أجيل النظر في شكلها ونظامها وسمعتها وحضرني الحديث
عنها في العام الفارط أيام الوقائع الأطرابلسية.
وبما لدولة
فرانسا من حقوق القوة بالبحار ، والأسبقية في ميدان الاستعمار ، لم يتأت في العام
الفارط سنة ١٣٣٠ / ١٩١٢ مساس سفينتي منوبة وقرطاجنة ، التي صفق التونسيون لشهامة
قائد الأخيرة منهما ، وقدم له بعض نبهاء القيروان تذكارا من أحسن مصنوعات زرابيها
، وهي الوحيدة في إتقان البسط بشمال إفريقيا ، كما أهدى له أبناء مدينة تونس كراسي
مخرمة أجادت صنعها أنامل السيد الهادي بن مالك التونسي ، صاحب الشهرة في المصنوعات
الخشبية وما يرسم بها من الأشكال
الهندسية ، وكان ذلك على نظر الوطني السيد عبد الجليل الزاوش.
وداع مرسيليا
عند ما أقلعت
سفينة قرطاج من رصيف مرسيليا عند الزوال ، كان جميع الركاب ينظرون قياما إلى
مرسيليا وتراب العدوة الشمالية ، قياما منهم بواجب الشكر عند الوداع لمملكة شربوا
عذب مائها ، وتنعموا بخضرة أرضها وطيب هوائها ، ومع ذلك هي مملكة العلم والأمن
والحرية. وكأن جوارح الآيبين من فرانسا كلها ثناء على أهاليها أرباب البشاشة
والحفاوة بالغريب الذي لا يثقل عليهم طول إقامته ، فلا تسمع منهم عند وداعه إلّا
كلمة إلى الملتقى في العام القابل ، ومناديلهم ترفرف كقلب خفاق من حر الافتراق.
سفينة قرطاج
بها مجالس ١٩٤ من الرتبة الأولى ومن الثانية ٩٣ ومن الثالثة ٦٦.
وسبحت في الماء
عام ١٩١٠ وسرعة سيرها ١٨ نوا في الثانية ، أي ٣٢ ميلا في الساعة. والنو علامة
يضعون بينها وبين الأخرى ١٥ ميترو تقريبا. ونوتيتها ١٤٥ وقوتها أفراس ٩٢٠٠ ،
وطولها أمتار ١٢٧. وقد تقدم في الكلام على سفينة الجزاير أن هاته الشركة رأس مالها
ثمانون مليونا ، وابتدأت في البحر الأبيض سنة ١٨٨٠ ولها فيه عشرون ، وفي بحار
العالم ٧٨ سفينة.
كان البحر في
رجوعنا هاديا والسفينة تتهادى ، ولا أدري هل كانت حركتها إعجابا مثل الفرس الجواد
الذي تعرف نجابته بالتحرك والترجرج دائما ، أو صارت لها عادة ونوبة من أثر فعال
البحر تصيبها حتى في حالة الصحو. أو ذلك لما قرروه في شأن هاته السفينة من شدة
ارتفاعها فوق سطح الماء وضيق عرضها ، فهي تتحرك حتى من بخار المراجل ، كالغصن
الرطيب في الصبوح والأصايل. وممن رجع من فرانسا في هاته السفينة النجلان الكريمان
لسيدنا ومولانا سيدي محمد الناصر باي المملكة التونسية أدام الله عزه وعلاه ، كانا
بها في وجهة التعليم بالمكتب الحربي.
وأذكر القصيدة
التي ترجم بها صديقنا الأديب السيد الشاذلي خزنة دار شعرا فرانساويا تضمن هذا
الموضوع ، وقد جدد هذا الشاعر المجيد حياة الشيخ رفاعة الذي
ترجم الشعر الفرنساوي إلى العربي شعرا :
أشعتك اللاتي
تنير بها الخضرا
|
|
حكت درة من
فوق جبهتك الغرا
|
تمد عليها
النور شمسا تضي بدرا
|
|
فترفل تيها
وهي في حكمها سكرا
|
ومن فوق موج
البحر تبسط راحة
|
|
تقرب من
باريس للقطر ساحة
|
تصافحها إذ
تمتلكها سماحة
|
|
فتملؤها
ممنونة لكم تبرا
|
وهذه أعوام إليك
ثمانية
|
|
تنعم «ترشيش»
بقبلة غلية
|
ولولاك ما
كانت إليها مراعيه
|
|
ولا استعملت
لينا بقوتها الكبرى
|
لك الشرف
الأسمى العريق الممجد
|
|
لدى عنصر كل
بفضله يشهد
|
وإذ لم يكن
إلّا خصالك مرشد
|
|
بقيت رشيدا
منصفا واسعا صدرا
|
وما سركم في
مسقط الرأس أنكم
|
|
تحكمتم حتى
استضاء بنوركم
|
لقد أشرقت في
القطر أيام ملككم
|
|
فآذن هذا
النور بالغاية الأخرى
|
رعيت لباريس
الجميل فجئتها
|
|
بأشرف من ذاك
الجميل وفقتها
|
جعلت بهذا
الصنع ترشيش أختها
|
|
فألحقت
بالشبلين عسكرها فخرا
|
فشوهد هذا
الفضل يا له مشهدا
|
|
مليكان عن
تشريفنا قد تساعدا
|
فيا أمة
بالروح تشرى وتفتدى
|
|
شقيقان قد
جاءاك تعلوهما البشرى
|
وقد دخلا في
الجند عن طيب خاطر
|
|
كما شاءت
الأقدار إذا بناصر
|
فيا له من
صنع جميل المآثر
|
|
ولم يذكر
التاريخ من مثله ذكرى
|
منحت رعاياك
الهناء وصنتها
|
|
عن التعب
المضني وأشرقت وقتها
|
بنورك في
بردو المضيء امتلكتها
|
|
لك الكل يدعو
أن يطيل لك العمرا
|
نرى نظرات
القوم حولك أنجما
|
|
ترى عود
قرطاجنة منك مغنما
|
فيا مشرقا ما
كان قبله مظلما
|
|
إلى آخر
الصحراء بين لنا الفجرا
|
ما يهم المسافر الاحتياط له قبل السفر
اغتنمت فرصة
هدو البحر فراجعت مفكرتي ورأيي في لوازم السفر فوجدت من أهمها ما يأتي :
١. ترتيب
برنامج السفر ومدة المغيب ومواقع الظعن والإقامة.
٢. اختيار
الوقت المناسب.
٣. علما
الجغرافيا والتاريخ.
٤. اللغات.
٥. المال.
٦. الرفيق
الموافق.
٧. القلم
واستعماله.
٨. مرآة
التصوير.
٩. تخفيف
الأثقال.
١٠. لون
اللباس.
١. ترتيب
برنامج السفر ـ يتحتم على المسافر أن يحيط علما بالجهات التي يقصدها ويتعرف جيدا
شئونها وما هي عليه من جهة تاريخها وعوائدها ولغتها ، وأن يستخبر على ما يهم
الاطلاع عليه فيها من أنهر وجبال وبناءات وآثار ومعاهد علم ومراكز ومعامل ومخازن
تجارة ومحلات صناعة ، حتى يكون على بينة من أمر وجهته ومستقبل سفره ، وبحيث يتوخى
الأماكن التي تميل نفسه للانشراح فيها والاستفادة منها ، فالمتدبر في الجهات
المزمع على مشاهدتها والمستعلم على شؤونها وحالاتها يستفيد كثيرا متى وصل إليها في
وقت قصير ، ينظر فيه كل ما يهم بعين التأمل والمطابقة بين العلوم في الذهن
والخارج.
ولا أضر على
المسافر من الخبط في جهات لا يعلم عنها خبرا ولا يلم بشيء مما هي عليه ، لأنه يبيت
مقادا بالقطارات والعربات والأدلاء إلى حيث لا يريد ، وما لا يستفيد ، يرى أشباح
البناءات ولا يعلم ما المراد من بنائها وتمر به خيالات الذوات فلا يجد في وسعه
إلّا النظر إليها. وخبايا الأخبار وكنوز الآثار هو عنها بمعزل ، فمتى أغمض عينيه
ليلا أو بعد عن المحسوسات التي يقع عليها نظره لم يبق بمخيلة ذلك المسافر إلّا صور
فارغة وأغلاط فادحة وأحاديث سطحية. يجب أن يحدد المسافر مدة سفره ويخص لكل بلد
أياما معلومة وأعمالا مقررة. وتغيير شيء قليل من هاته المقررات أو زيادة بعض أيام
تقتضيها الفائدة أو توجبها الضرورة ونقص شيء لمثل ذلك لا ينشأ عنه ضرر في برنامج
السفر ولا خلل في آداب ترتيبه ، التي إذا روعيت من قبل كما يلزم كان المسافر في
راحة بال من هذا الشاغل العظيم مدة تنقلاته ، وتجده متفرغا لما يهمه عمله
ومشاهداته. وحاجات الغريب كثيرة وأوقاته عزيزة ، ومن لم يوزع الأوقات على حسب
مهمات الحاجات تضيع أوقاته في التفكير والتدبير ،
وبالآخرة يحار في أمره فلا يدري أين يسير. فيستسلم «للمكتوب» ويلقي بنفسه
في أحضان الشوارع يتلقفه واحد ويدفعه آخر ، حتى إذا آوى للفراش وحاسب نفسه على ما
فعل في بياض يومه وجد صحيفة المفكرات أكثر بياضا من نهاره عدا أنه أنفق كثيرا من
خطواته ودريهماته. ومن الناس من إذا سألته متى يسافر أو متى يرجع لا تجد جوابه
إلّا كلمة «لا أدري» ، سأنظر. يمكن كذا الظاهر كذا. وهو من غرايب التفريط وسوء
التدبير الذي لا تجده مستعملا في أقل الحاجات عند الأوروباويين.
ومن كانت له
معرفة ببعض أهالي البلدة التي يحل بها استفاد منها وأمن غايلتها ، فكلمة المعارف
بمعانيها أنفع من المال في سائر الأحوال.
٢. «الوقت
المناسب» ـ تحسن زيارة فرانسا وباريز في الربيع لاعتدال الهواء ووجود كافة الأهالي
ومباشرتهم سائر الأعمال الاعتيادية.
أما المصيف
فهواء المدن الكبرى فيه حار. وأغنياء باريز «وسكان فرانسا كلهم أغنياء بالعلم
والمال والتدبير» يغادرونها إلى الجهات الباردة. كما أن بعض الإدارات وديار
التمثيل ومجالس السياسة لا تفتح ، إلّا أن أرباب الأسفار للخلاعة والرياضة
والمداواة يناسبهم كثيرا تقضية أشهر الصيف بالعدوة الشمالية ، وبينهم وبين لهيب
الشمس بشمال إفريقيا ولفح سمومها عرض البحر الأبيض حاجزا حصينا. وتقضية مدة في جهة
واحدة من أروبا مما لا يروق في نظري والخريف تعصف فيه الرياح وتتهاطل الأمطار التي
تحول دون التجول وتعوق عن رؤية ما يهم ويهيج البحر ، وهو السد الأكبر والطريق
المخطر وفي الشتاء ، لا سبيل للإقامة في ممالك أروبا لأبناء إفريقيا الذين يشكون
برد الشتاء في مملكتهم ، وهو لا يصل إلى درجة الصفر والجمود إلّا نادرا اللهم إلا
نحو الكاف وكسرى :
يمدح الإنسان
في الصيف الشتا
|
|
فإذا جاء
الشتا أنكره
|
لا يحب المرء
حالا أبدا
|
|
قتل الإنسان
ما أكفره
|
فكيف بهم في
أروبا والثلج يدوم فيها متراكما عدة أشهر ، ودرجة الهواء تنزل إلى
نحو العشرين تحت الصفر ، وتجمد دماء كثير من أبنائها المعتادين بها ،
فيموتون وتسقط أعضاؤهم وأسنانهم منه. سمعتهم يعبرون عنه بالفصل المبغوض تذمرا مما
يلاقونه فيه. وكثرة الإقامة في فرانسا تستدعي إنفاقا أكثر من المعتاد ، فالمصاريف
في باريز لا تتجاوز عشرين فرنكا يوميا على شرط الاعتدال في السكن والمأكل والمركب
والنزهة. ومن أراد أن يصرف أكثر من ذلك فلا يجد حدا يقف عنده ولا بغية تخطر بباله
يعوزه أمرها ما دام متساهلا في بذل المال.
٣. «الجغرافيا
والتاريخ» قد انتفعت بهاذين العلمين في السفر والجغرافيا دليل الغريب والتاريخ
مفتاح كلامه ، وهل يستفيد الدخيل بدون مفتاح أو دليل؟ ومن درس التاريخ عرف نسبه
لآدم. وقرابته من عائلات العالم. والجهل بالنسب والعائلة نوم في حياة الوجود ،
وتفريط في أمر محمود. وجدت أهالي فرانسا يستغربون معرفة التونسي للتاريخ
والجغرافيا ، وليس الاستغراب من جهة ذات التونسي لأنهم يعلمون ذكاء أبناء المملكة
التونسية ومقدرتهم على تحصيل العلوم والنبوغ فيها من قديم الزمان ، والفرنساويون
أهل إنصاف وإذعان للحجة الصحيحة. كما لا يجهلون أن مثل هاته العلوم قد بلغ فيها
العرب أقصى درجة يمكن الوصول إليها في تلك العصور التي أناروها بالمعارف في آسيا
وإفريقيا وغربي أروبا «الأندلس». فتاريخ ابن خلدون هو عمدة المؤرخين في جميع
اللغات إلى الآن ، وقد مضت على قواعده خمسة قرون ، وهو الذي اعتنى بذكر أسباب
الحوادث والانقلابات وعللها ، وقد أغفلها كثير من المؤرخين. كما ابتكر هذا
الفيلسوف ما لم يسبقه واخترع بقلمه ما دل على سعة تبحره في علوم اللغة والتاريخ
والاجتماع والسياسة فالناس عالة على كتابه فيما لا يوجد بسواه ، ويغبطونه على ما
آتاه الله. وإليك مذاهب المؤرخين الأروباويين في أسباب وعلل الحوادث : فمذهب تيارس
الفرنساوي في التاريخ أن كل التأثير في الوقائع التاريخية والحوادث لعلل طبيعية
وأسباب خفية لا نرى أفاعيلها المختلفة ، نعم للإنسان تأثير على ذلك ضعيف للغاية.
بخلاف مذهب من يرى أن الحوادث لا علة لها وإنما هي طبيعية بحتة.
وثالث الآراء
يذهب إلى أن لها عللا وأسبابا كلها في عهدة الإنسان. والأول أحسن المذاهب لأن
للإنسان أثرا ما في نتائج الأفكار وظهور الحوادث ، وقد تساعد
التأثيرات الخارجية ، وهو ما يسمونه طبيعة وبختا ونسميه قدرا مقدورا ، دبره
الخالق في الأزل كان ذلك في الكتاب مسطورا. ومن أسباب إبرازه عمل الإنسان ،
وأحيانا تكون أعمال الإنسان بلا جدوى ومجهوداته بدون نتيجة ويأبى الله إلّا ما
أراد. وربما كان ما يجهد فيه الإنسان نفسه ليستثمره ويجتنبه ينقلب اجتهاده فيه
جناية عليه.
أو تكون
الثمرات والترقيات للإنسان أكثر مما يعمل وأعلى مما يفكر فتتجارى إليه الأسباب
طبعا ، وهي لا بد منها ، ويتهيأ له من كل أمر مراده ويتحقق عيانا ما ليس في طوق
المجدود إيجاد أسبابه ، ولا التفكر في طرق أبوابه. لذلك لا تنكر الأسباب والسعي
إليها ، فقد تنتج ويصيب المجتهد فيها وما باطن الأمر إلّا بيد المسيطر القدير
ومخبوء عن الأبصار ، وفوق مدارك الأفكار ، لحكمة يعلمها. ولمنزله كماله تعالى
وعجزنا نقدره حق قدره لأجلها ونتطلب فضله ، وترجع إليه متى عجزنا عن الأسباب
ونتائجها. والفيلسوف تيارس لما أدرك هاته الحقيقة لم يحد عن هاته الطريقة.
والجغرافية من
عهد المامون وكتبه ، وتأليف العلماء والرحالين من بعد ، هي أساس هذا الفن منذ أحد
عشر قرنا. ومن لا يدري علم الجغرافيا لا يعلم مركزه في عالم الكون ، وليس بينه
وبين أجناس المخلوقات بون.
حكوا في
التنكيت على الجاهل بعلم الجغرافيا ، أن حوتا رأى شبه إنسان سقط في البحر فعزم على
انتشاله من الغرق ، وحمله على ظهره وسبح به البحر ليذهب إلى الشاطئ ، ثم عرض له شك
في كونه إنسانا فسأله عن البيرى وهو اسم مرسى أتينة وهل يعرفها ، فأجابه بقوله
يعرفها جيدا وهي ذات جبال عظمى ، فعلم من ذلك أنه حيوان غير ناطق فمال عليه وأكله.
سئل بعض الناس عن أهم المراسي البحرية في مملكته التونسية فأجاب «زغوان» وهذا ذنب
لا يغتفر في جانب الإنسان. وفي محادثاتي بعد الرجوع عن أماكن الترحال كان من الناس
من يظن أن باريز هي مملكة فرانسا كلها ، وبعض آخر يحسب فرانسا علما على مدينة ،
ومنهم من في مخيلته أنها مجاورة لجزيرة العرب لما يسمعون من كون الحجاج يركبون
البحر في سفرهم. إلى غير ذلك من أوهام الخيال الذي هو كحاطب ليل بهذا الفن ،
والعذر لهم حيث لم يتعلموا. ويبرهن على الاعتناء بعلم الجغرافيا قديما والتقدم فيه
بإفريقيا الشمالية أن المعز لدين الله العبيدي الخليفة بالقيروان رسم صورة الأرض
على بساط عجيب.
والقيروان من
قديم مشهورة بصنع البسط التي كانت تؤديها من جملة خراج المملكة في صدر الدولة
العباسية. كان بساط المعز من حرير أزرق منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير وبه صورة
الأقاليم والبحار والأنهار والجبال والطرق وصورة مكة والمدينة ، وكتبت به أسماء
الأماكن وعليه «مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقا إلى حرم الله وإشهارا لمعالم
رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار» ،
أي نحو نصف مليون من الفرنكات. وحبذا لو كانت زربية رئيس الجمهورية جناب المسيو
فاليار التي أهديت له من صنع القيروان مرسوما عليها خريطة المملكة التونسية ، وليس
ذلك بعزيز على اعتناء جمعية معمل الزربية القيرواني في المستقبل. وقد كان سلطان
فرانسا لويز فيليب أهدى لأحمد باشا ملك تونس عند ما زاره في عام ١٢٦٢ زربية من صنع
كوبلاين المعمل الشهير بباريز الذي يبلغ فيه الميترو المربع عدة آلاف. وكان في
هاته الزربية النفيسة صورة السلطان المذكور فجمعت بين بديع الصنع وأحسن تذكار يهدى
، وهي الآن ببيت القبول الكبرى بباردو.
أما استغراب
الفرنساويين لمعرفة التونسي للجغرافيا والتاريخ فهو فيما يظهر من جهة أن المسلمين
منذ قرون أغفلوا الاعتناء بعلمي التاريخ والجغرافيا ونحوها. فمن العجيب أن أخذوا
يرجعون إليهما ، والحق معهم في هذا الاستعجاب فإننا أغفلنا هاته العلوم ونبذناها
ظهريا. وإنما أحيت هاذين العلمين المدرسة الخلدونية فكانت متممة للعلوم التي تدرس
بجامع الزيتونة دام عمرانه وصارت هاته العلوم لزومية في برنامج الامتحان به ، وقد
برز كثير من تلامذة الجامع في العلوم الرياضية. وبالجملة فقد أنجبت المدرسة
الخلدونية جيلا جديدا وتلميذا موفقا انتفعت به الأمة واستكفت به الإدارة في
الأعمال المهمة حيث ضموا لما عندهم من علوم اللغة والدين المستفادة من الجامع
الأعظم.
الفنون التي
تدرس بها من تاريخ وجغرافيا وحساب ومبادي هندسة وإنشاء ولغة فرانساوية. وتولى
التعليم بها طائفة من أبناء الصادقية وبعض شيوخ الجامع والمهندس الخبير النصوح
السيد علي رضى التركي الذي استكمل التلامذة من دروسه العلمية والعملية معلوماتهم الرياضية.
وصفوة القول إن لتلامذة الخلدونية ، وبالأخص
قدماؤهم مقدرة في العمل واعتدالا في التفكير عادا بالنفع في عالم الاجتماع.
وتلك من مزايا
التعليم الصحيح الذي نشره بها السيد البشير صفر في السنوات الأولى منها ونفخ فيها
من روحه وأخذ بضبع تلامذتها فأصبح لسان حالهم ينشد :
كم من يد
بيضاء قد أسديتها
|
|
تثني إليك
عنان كل وداد
|
شكر الإله
صنايعا أوليتها
|
|
سلكت مع
الأرواح في الأجساد
|
هكذا كان
المنعم خير الدين بالمدرسة الصادقية في عهد تأسيسها وقدماؤها الآن هم رجال الحاضر.
بلغني أخيرا أن هاته المدرسة بهمة أمير الاقتصاد ، والمحبوب بجلائل أعماله وإحساسه
بين أبناء البلاد. السيد عبد الجليل الزاوش قد اتسع نطاق التعليم بها بقدر ما ضاق
الخناق على ماليتها. ومن الواجب على سراة الأمة مددها وعلى تلامذتها بالمملكة
إعانتها ، وعلى قدمائها أن يفكروا في مستقبلها وينشروا بعض المطبوعات العلمية
باسمها خدمة للمعارف وتخليدا لذكرها وإيرادا مثمرا لحياتها.
يرى من
الفرنساويين في آن واحد مع التعجب مما ذكر علامات السرور بترقي النوع البشري ،
وبالأخص الممالك التي لها امتزاج بأبناء وطنهم حيث حصل التيقظ والشعور بواسطتهم ،
وقد حدثناك بطرف من هذا في إيسودان. وامتزاج الأمم الحية بغيرها مما يبعث على
اكتساب العلوم ، وتقليدها في كل معلوم. وإدارة المعارف الآن معتنية ببث علوم
اللسان والجغرافيا والتاريخ وغيرها مما به المباراة في معترك الحياة ومن حسناتها
الأخيرة إرسال بعض كبار التلامذة إلى فرانسا للتعليم العالي وصغارهم للرياضة.
٤. من لوازم
المسافر اللغات لأنها وسطة المناجاة ، ونعم العون في الأسفار اللغات ، خصوصا
وأبناء الممالك المتباعدة أصبحوا كعائلة واحدة بفضل وسائل المواصلات برا وبحرا ،
وإذا لم يتفاهموا فلا تحصل ثمرة من الاجتماع ولا تعاون على المقاصد. وقضية برج
بابل الذي اتفق ذرية نوح على إشادته بعد الطوفان قضى تبلبل
الألسن فيها وعدم التفاهم بانحلال عصبيتهم دون إتمامه ، وهدمت وحدة التعاضد
على البناء وتباعد كل أصحاب لغة عن الآخرين. ومن مهمات اللغات الأجنبية في هذا
العصر اللغة الفرنساوية ويقال إنها أخف من غيرها على اللسان وأكثر رواجا ، وقد
اكتسبت صبغة رسمية في مجالس أصحاب اللغات المختلفة من زمن نابليون بونابارت ، أي
من نحو مائة عام وتعلم اللغات أمر مرغوب فيه شرعا. فقد أمر النبي صلى الله عليه
وسلم زيد بن ثابت كاتبه بتعلم اللغات الأعجمية ومما نقل عن المعز لدين الله رابع
خلفاء الدولة العبيدية بالقيروان وقوة عزيمته أنه تعلم أربع لغات بعد ولايته في
أواسط القرن الرابع بسبب حادث صغير.
وذلك أن المظفر
الصقلي قد بلغ رتبة عظيمة عند المنصور العبيدي والده باني المنصورية بجوار
القيروان ، وهي المسماة الآن صبرة ، وبها الآن قطع عظمى من أعمدة حجرية لعلها من
بقايا قصورهم التي أخنى عليها مع كامل المدينة ما أخنى على رقادة والقصر القديم ،
فلبست أطلال جميعها على ما فقدت ثوب حواد مرقعا من شايك التين الهندي.
وكان المظفر
هذا يدل على المعز من أجل أنه علمه الخط في صغره ، فحرد مرة على المعز وولى لما لم
يقبل منه التداخل في شؤون الدولة «والرجال المقتدرون في السياسة والتدبر لا يقبلون
تداخل أرباب الغايات أو العقول الصغار ، والمتطفلين على موائد الوجاهة بزايف
الأخبار» فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلية استراب منها ولقنها منه وأنفت نفسه من
السؤال عن معناها فأخذ يحفظ اللغات فابتدأ بتعلم اللغة البربرية حتى أحكمها ، ثم
تعلم الرومية والسودانية حتى أتقنهما ، ثم أخذ يتعلم الصقلية فمرت به تلك الكلمة ،
فإذا هي سب قبيح ، فأمر بالمظفر فقتل من أجل تلك الكلمة. ولعل هاته اللغات الأربعة
كانت رائجة في إفريقيا في ذلك العهد لامتداد الفتوحات إلى أطراف الصحارى والبحار
وقد تكلمنا على طرف من اللغات في مكتب اللغات الشرقية بباريز وفيما «بين شامبيري
وكرونوبل» وفي فيشي.
ويتمنى الإنسان
أن يكون عارفا بكثير منها عند ما يحل في فيشي التي هي معرض الدنيا ، فترى بها سائر
الأشكال والألوان واللغات. ورأيت كثيرا ممن يتكلم بعدة لغات والجهات الغربية من
فرانسا يحسنون الأنكليزية والشرقية اللغة الألمانية.
وهذا ما رأيته
من أحبابنا عائلة دوبوردايز في طولوز وعائلة دالبيرتو في كرونوبل ، ولعل الفضل في
التمكن من تعلم عدة لغات بسهولة في حالة الصّبى هو طريقة التعليم وحسن ترتيب
برنامجه ، فيأخذ التلميذ كفايته من العلوم واللغات في زمن الشباب وقبل الفوات.
أما المحافظة
على الأساليب العتيقة في التعليم فإنها مما تضيع العمر بلا جدوى ، كما أن عدم
الجمع بين علوم الدين والدنيا خلل فادح في معترك الحياة. كيف وقد علمنا أنه صلى
الله عليه وسلم أمر بتعلمها. ونظام المدارس القرآنية الآن الذي الفضل فيه للبارع
السيد خير الله بن مصطفى قد وفر الوقت للتلامذة بحيث يجدون فراغا في زمن الشباب
لتعلم اللغات والعلوم العصرية ، بعد أن يأخذوا حظهم من العلوم اللغوية والدينية
التي هي بالضرورة قبل كل شيء. ولكن بأسلوب مفيد. وقد بسطنا القول في هاته المسألة
بقسم العلوم بباريز وفي فصل مدرسة اللغات الشرقية.
٥. أما المال
فهو الصديق الملاطف ، والرفيق المعاضد ، والأنيس الخفيف الروح ، والسلاح النافذ «إذا
بقي في الجيب أفاد ، وإذا أخرج أتى بكل مراد» :
صديق المرء
كالدينار طبعا
|
|
وكيف يخالف
المرء الطباعا
|
تراه ما أقام
يقيم جاها
|
|
وإن فارقته
أجدى انتفاعا
|
وهو كما قيل
الرسول النبيه ، وذو الوجهين الوجيه :
يهيم الناس
بالدينار حبا
|
|
وما فيهم سوى
من يصطفيه
|
فذو الوجهين
عندهم وجيه
|
|
وذاك نقيض ما
قد صح فيه
|
يعني قوله صلى
الله عليه وسلم : ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها. لا يقصر الإنسان حسب
استطاعته في استصحاب ما يكفيه من المال ويضم بعد التقدير
والتحرير إلى ذلك احتياطا نصف الكفاية إن أمكن ، لما عسى أن يطرأ ، وللرغبة
التي تخلق في الإنسان عند المشاهدة ولا يتصور طرقها قبل ذلك ، ولا المكان والوقت
الذي تكون فيه ولا السبب الموجب لها. على أن الأسعار في فرانسا لا تزيد في المسكن
والمؤنة على المعروف بالأوتيلات الأروباوية بتونس على اختلاف الطبقات ، عدا الركوب
في البلدان الكبرى ، وبالأخص في باريز ، فله اعتبار خاص لما يجب على المسافر من
المحافظة على الوقت عند أداء الزيارات في الأماكن البعيدة التي إذا مشى لا على
الأقدام ، فلا تكفيه عشرات الأيام. أما كراء الركوب بين البلدان وفي البحر فهو
رخيص لمن يقطع تذاكر من إحدى شركات السفر التي تخفض من الأجور المحددة نحو الثلث
ويزداد التخفيض على نسبة الزيادة في مسافات السفر. وكنت قطعت تذكرة من القيروان
إلى القيروان برا وبحرا بنحو ثلاثمائة فرنك في الدرجة الثانية ، وحرر لي برنامج
السفر صاحب الشركة الأجنبية المسيو كونيك وأمدني بإعانات وإرشادات مفيدة. ومن
الناس من يختار استصحاب ماله ذهبا وأوراقا من بنك فرانسا ، ومنهم من يضعه في
البنوك المشهورة ويأخذ من فروعها ما يريده متى شاء في البلدان التي يمر بها في
أثناء السفر وبها فروع ذلك البنك. والأول يميل إلى راحة البدن وتشق عليه مفارقة
حبيبه. والثاني يذهب لراحة القلب والأمن من طرو بعض الحوادث على جيبه.
٦. «الرفيق
الموافق يؤنس الراحل في الأقطار التي لا يعرف مساكنها ولا سكانها ويعينه على
التفكير فيما يستفاد منها. وقد نهي أن ينام الرجل وحده أو يسافر وحده. ولو يعلم
الناس لم يسر راكب بليل وحده أبدا.
٧. «والقلم
أحسن رفيق وحافظ» ، وهو كما قال ابن المعتز يخدم الإرادة ، ولا يمل الاستزادة.
فيكتب به الراحل كل ما يرى أو يسمع ، حتى إذا عاد وجد خزينة كبرى من تلك المفكرات
يستمد منها لتحرير كتاب رحلته بأصح مصدر وأوفى بيان ، وأصح التواريخ ما كتب في
الإبان وعن عيان. غير أنه يلزم المؤلف الصبر والثبات بقدر ما يجب عليه من التثبت
والتحري ، إذ الانتقاد من كثير الأفراد يحول غالبا دون إبراز ما في الأفكار من
المنافع العامة ويثبط بعض العزائم. والغريب أن لكثير من أفراد بعض الأمم تآليف
وتحارير وآراء في عدة مواضيع بقيت في طي الكتمان خوفا من أن يقال
هذا غير لازم ، أو ليس بمعتاد أو ما ألجأه لمثل هذا. أو كان عليه أن يذكر
الأمر على غير هذا الأسلوب إلخ. مع أنه لو قيل للمنتقد فآت برسالة من مثل هذا لم
يفعل ولن يفعل. وكان من الواجب الإقدام ومضاء العزيمة. فالحريري يقول لا أكاد أخلص
من .... يضع مني لهذا الوضع ، ويندد بأنه من مناهي الشرع.
ومتى كثر سواد
المؤلفين ، تضاءلت أمامهم ألسنة المنتقدين ، شأن العصور القديمة في الإسلام وكثرة
التأليف في سائر المواضيع. وهي الحالة الحاضرة في أروبا. واليوم مصر وهي أندلس
الإسلام لها ملكة متسعة في التأليف وقوة عزيمة وإقدام ، وبحيث لا يصدهم انتقاد أو
يحجم بهم عن مقاصدهم ملام.
كتب الوزير
المنعم خير الدين باشا في كتابه «أقوم المسالك في أحوال الممالك» والمنعم الشيخ
بيرم أول رؤساء الأوقاف رحلته إلى أروبا. وطبعا كتابيهما لتشبع كلا الرجلين من
علوم الاجتماع ، مع الخبرة بطرق النفع والانتفاع والامتزاج بالأمم الراقية وسبر
أخلاقها والعلم بطرق تقدمها التي أهمها نشر العلم وإظهار التآليف في سائر
المواضيع.
وكتب أخيرا
النابغة السيد البشير صفر في التاريخ والجغرافيا رسايل ممتعة. والبارع السيد محمد
بن الخوجة حرر رحلات بعض ملوك تونس إلى فرانسا ورحلات رؤساء جمهورية هاته الدولة
إلى المملكة التونسية وله في الرزنامة التونسية مسايل مهمة ومواضيع لذيذة.
والسيد حسن بن
عبد الوهاب في البحث وراء تراجم أهل الأدب وأصحاب التأليف وما لهم من الكتب.
والسبب الذي حدا بهؤلاء للطبع هو عينه ما قررناه في شأن الوزير خير الدين ومن عطف
عليه بالطبع.
ومن المعلوم أن
الذي يزيد في نشر التاريخ وكثرة حفاظه تأليف كل مسألة مهمة في بابها بكتاب خاص ،
وإشباع الكلام في حقها والإلمام بأطراف أحاديثها والبرهان على أسبابها وعللها ،
وإيضاح غايتها وقدرة الخالق في تصاريف أعماله في عباده بما يتثبت به الفؤاد ويكون
موعظة وذكرى للعباد. ووقائع التاريخ سلسلة حلقات غاب
__________________
أكثرها وضلت عن السواد الأعظم من أبناء الجنس ، وربما انقطعت تلك الحلقات
وتلاشت أو بادت مع رفاة عظام الآباء والأجداد فذهبت عظامهم وأخبارهم.
فالباحث على
تلك الحلقات ربما أصاب منها كثيرا بالحفريات أو بعض المسودات ، ولكن الذي لا زال
في طي الخفاء أكثر. على أن الزهد في مسايل التاريخ لو كان قاصرا على البحث وراء
المجهول ، أو تنقيح بعض المنقول ، لكان في المسألة رجاء التنبه لمن يقوم بسد هذا
الفراغ وإزالة هاته الوصمة. ولكن فتور العزائم دون حب الاطلاع على دواوين هذا الفن
ودراستها والعلم بكنوز مخبآتها هو الذي سجل به التاريخ الحاضر على كثير وهم لم
يحتفلوا بمواليد لياليه وحوادث أيامه ، ولا بغرايب أشهره وتطورات أعوامه. مع العلم
بأن أهم التواريخ ما كتب في الإبان ، وكان عن ثقة أو عيان.
وربما كان
التهاون بتدوين التواريخ في أوقاتها هفوة قديمة لم يسلم منها إلّا القليل من
الكتاب في بعض العصور لتنبه فطري أو أسباب تبعث على ذلك. فتكون تلك الرسايل من أصح
ما يرجع إليه أرباب التثبت ونقلة الأخبار. نعم إن كثيرا من المؤلفات تحتاج إلى
التنقيح والتهذيب والبعض الآخر إلى الترتيب والتبويب. وهذا لا يتأتى إلّا بكثرة
سواد المتبصرين ، وهو فرع نمو المتعلمين والحفاظ لأنواع العلوم العربية ورواة
الأخبار والتراجم والأنساب.
٨. ومرآة
التصوير تمثل إلى العين ما لا يقدر القلم على وصفه ، يأخذ بها المسافر صور البلدان
والأشخاص والأشجار والأنهار والجبال والمعامل.
وعقب الإياب
تكون تلك المناظر الغريبة التي شاهدها في أماكنها مستحضرة بين يديه صورها ،
واستحضار الصورة الغريبة مما تميل إليه النفوس وبالأخص إذا كان على وجه محسوس. ولا
تكلف المرآة حاملها عناء في طبعها ما يريد في أقل من لمح البصر ، ولا كثرة مصاريف
في ثمن البلور وكاغد النقل.
٩. وتخفيف
الرحل وتقليل المتاع والاقتصار على قليل الحاجات مما يريح بال المسافر ، ويوفر
عليه الوقت في انتظار الكشف عنها بالكمارك ، والمال في أجور النقل للحمالين
والعربات التي تأخذ أجرا زايدا عليها من الركاب على حسب تعدد الحقايب. وفي إدارات
القطارات محل لحفظها بأجر زهيد. ويليق بالمسافر أن يترك
متاعه به إذا كانت إقامته لبلد وجيزة ، أو حتى يختار نزلا مناسبا لا يتطلب
عليه سعرا وافرا. أما إذا كان مصحوبا بأثقاله فصاحب النزل يزيد في القيمة علما منه
بأن المسافر لا يرفض ما عين له لمشقة الطواف على المنازل ، وحقائبه من ورائه تغري
رب كل نزل بأن يرفع الأسعار في وجه صاحبها.
١٠. يختار
المسافر اللون المناسب في اللباس القابل لتحمل عوارض الطقس وأهوية الأقطار
المقصودة والملايم صحة وترحالا.
وفي أروبا
يناسب اللون الداكن الذي لا تغيره بسرعة قتام الماكينات ولا دخانها أو كثرة
الأمطار ، أو سواد الفحم الحجري المتطاير من القطار أكثر مما بقطارات إفريقيا.
والسواد هناك
أكثر التصاقا بالثياب العربية التي هي في الغالب بيضاء أو زاهية. ولعل برد الهواء
بقطرهم يقضي على دخان القطارات ، وكذلك سائر الماكينات الكثيرة عندهم ، بالبقاء
متكاثفا والتحليل إنما يكون بالحرارة كما أن الرطوبات التي في الهواء يصل بها
الدخان وفتات الفحم الحجري إلى الثياب نديا فتتلوث سريعا وتحتاج أطراف البدن إلى
تجديد الغسل. وأكسيتهم وجب أن تكون سوداء طوعا أو كرها مثل جدران بناءاتهم ، فلهم
العذر في اختيار لون السواد لباسا. وبالجملة فالمسافر يستصحب ثيابا من اللون
الملايم لهذا الصقع ، وإذا قدر أن يلبس الثياب التي ألبسها المعز بن باديس في
القرن الخامس للقيروان فليفعل. حدث ابن شرف أن المعز بن باديس في ٢ جمادى الأولى
عام ٤٤٣ أمر بإحضار جماعة من الصباغين وأخرج لهم ثيابا بيضا من فندق الكتان وأمرهم
أن يصبغوها سودا فصبغوها بأحلك السواد ، وجمع الخياطين فقطعوها أثوابا ثم جمع
الفقهاء والقضاة إلى قصره وخطيبي القيروان وكساهم ذلك السواد ونزلوا بأجمعهم وركب
السلطان بعدهم حتى وصل إلى جامع القيروان ثم صعد الخطيب المنبر وخطب خطبة أتى فيها
على جميع الأمراء بأجزل لفظ وأحسن معنى.
مرت بنا
السفينة إثر تحرير لوازم السفر على شاطئ المرسى وجبل سيدي أبي سعيد ومدينة قرطاجنة
فتراءى لنا بياض البناءات غريبا فعلمت سبب وصفهم تونس بالبيضاء ، كما ظهر لنا أديم
الأرض قاحلا موحشا كل ذلك لما اعتدناه من النظر لبناءاتهم وأرضهم.
رفرفت على
السفينة كالمرحبة بها طيور الخليج الموصل إلى تونس ، وهي أم البلاد كما سماها حازم
في مقصورته ، فاستبشرنا بقرب الوصول إلى الرصيف الذي تأسس بباب العاصمة منذ عشرين
عاما ١٨٩٣. فما هي إلّا نصف ساعة من قرية حلق الوادي إلى الرصيف حتى رأينا بعض
الأقارب والأصدقاء في انتظارنا وأول من تمثل للبصر من بينهم صفي ودنا سيدي محمد بن
الأمين الخلصي صاحب الحديث مع الراية ، ومن له في نادي المكارم أعلى راية. وهو من
الذين يعلمون جيدا قول أبي بكر الخوارزمي من لم يذكر أخاه إلّا إذا رآه فوجدانه
كفقدانه ، ووصاله كهجرانه.
ومما كنت
أدرجته في بعض الرسائل له :
أقلامكم تهدي
الأنام دروسا
|
|
وعطاؤكم يحمي
النوال دروسا
|
بعد الإياب
كان
الفرنساويون يسألونني كثيرا مشافهة وكتابة عقب رجوعي من السفر عن أهم ما رأيت في
فرانسا ، وبالأخص عاصمتهم المحبوبة عندهم مدينة باريز وهم يعتبرونها جدا ويبالغون
في مدحها ولا يغارون من رقي وكمالات سكانها ، وهذا على خلاف بعض الممالك في
منافسات بعض البلدان لمدن العواصم ، وما هو الأمر الذي بقي في مخيلتي مما يعجب به
الغريب ويؤثر عليه؟ فكان جوابي لهم واحدا سواء في مدة إقامتي بفرانسا أو بعد
الرجوع منها.
١. وهو الإعجاب
بعمران الأرض المخضرة الأديم بسائطها وجبالها غورها ونجدها ، وذلك أول شيء يستغربه
الغريب وآخر شيء يبقى مطبوعا في مخيلته ترفرف عليه روحه في أوقات خلو البال وتتنزه
فيه ، بلا مشقة أو ثمن برهة من الزمن تمر لذتها كأكل النائم :
لم يكن وصلك
إلّا حلما
|
|
في الكرى أو
خلسة المختلس
|
٢. وكمال التربية وانتشار المعارف
بين سائر الطبقات.
٣. والانكباب
في عموم الجهات على العمل في الليل والنهار ، وكأنهم كتبوا نصب أعينهم ما حكاه
الشيخ رفاعة «الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما». وذلك ما أغناهم عن السفايف ،
وأشغلهم عما لا يعنيهم ، وقد صار كل ذلك ملكة راسخة يتلقاها الخلف عن السلف.
٤. بشاشتهم في
وجه الغريب ومجاملتهم للتونسي.
١ ـ أما في
باريز فالحركة العظمى من كثرة الساكن وتلاطم أمواج المخلوقات وأنواع أدوات النقل.
٢ ـ حسن
الترتيب والتحسين في كل شيء سواء في ذلك الإدارات العامة والخاصة والمنازل
واللباس.
٣ ـ الحضارة
المنتشرة والثروة المحسوسة والبذخ المجسم.
٤ ـ نباهة
البوليس الساهر على حفظ النظام المعتني بالغريب قياما بالواجب. وعلما بأن هذا مما
يعود عليه بالشكر وعلى بني جنسه بحسن الذكر.
الخاتمة
نجز بعون الله
في مثل شهري الرحلة «رجب وجوان» من العام الموالي سنة ١٣٣٢ / ١٩١٤ ما توخينا رسمه
وانتخبنا رقمه مما جمعناه بمفكرة السفر واستحضره الفكر مما سمعته الأذن أو وقع
عليه البصر ، وكذلك ما نفثته القريحة أو جادت به الحافظة مما له علاقة بالموضوع ،
أو مناسبة تهم المشروع ، والحديث شجون ، والتوسع في الكتابة يجر إلى إدراج مسايل
جمة من عدة فنون. وأرجو أن يجد القارئ في هذا الكتاب مبتغاه ، ويصادف به ما يطابق
هواه. والله أسأل أن ينفع به كل من طالعه أو خطر له أمر فراجعه وأن يكفيه نظرات التعسف
، واعتراضات التكلف. وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي
العظيم.
ملاحق
كلمة شكر
وقبل أن أضع
القلم من كتب ملحقات هاته الرحلة أشكر الجمعيات والأفراد الذين أمدونا بما رجوناه
منهم من المعونة على تحرير مسألة أو نقل صورة وإعارة طوابع بعض المناظر كإدارة
ليزانال في باريز. وشركة ل ل وشركة ن د بواسطة أصحاب المطبعة الفرنساوية بتونس
مسيو نمورا وبونيسي. وجمعيات تقدم البلدان في مرسيليا وكرونوبل وأرياج ليبا وإيكس
ليبا وجنيف ومقاطعات نهر الرون.
وعائلة
دالبيرتو في كرونوبل والمسيو رونز في فاراين أنركون. والمسيو بول ناظر مدرسة
اللغات الشرقية بباريز ، والمسيو كابار بمجلس السينات والمسيو ناظر اللابرا
والمسيو كيوم في إيسودان ، وعائلة دوبوردايز في طلوز. والدكتور إمان في مونبليي.
الملحق الأول : تقريظ (١)
الحمد لله الذي
حبب إلى النفوس عوائدها المكينة ، ومذاهبها المتينة ، وملابسها الثمينة ، وجعل هذا
الخلق شعار الرجال أولي الاعتبار مهما طوحتهم الأسفار ، ونزحت لهم الديار. والصلاة
والسلام على سيدنا محمد الذي سار هديه في البشر ، سير القمر ، فعظم به المبتدأ
والخبر. وعلى آله وصحبه الذين جابوا البلاد ، ورفعو العماد ، وأرشدوا العباد. وبعد
، فإن الله تعالى ركب في الطبايع البشرية رغبة الاستطلاع ، ومشاهدة البقاع والنظر
إلى الأوضاع ، محبة جلبتها الأسمار فكانت إلى الرحيل خير داع. ومن أعانته نفسه
وسعى به همه إلى ذلك الفخر فقد فاز فوزا عظيما ، ونال حظا كريما. والرحلة إلى
العالم والممالك من عوامل النفوس التي تشبهت بالأفلاك ، وامتازت بعلو الإدراك ،
وقد كان لأسلافنا العرب في هذا الشأن ذكر عظيم ، وامتازا به لمناسبة في الخلق
والخلق العظيم.
وقد جدد هذه
المكارم بين الرجال الأعاظم ، ماضي العزائم ، نامي الغنائم. الأخ الحلاحل السني
السري الفاضل نخبة الأذكياء ، عزة الأسخياء ، تاج الأدباء ، وحلية الفضلاء ،
الكاتب اللسين الفطن السيد محمد المقداد ، فقد جاءنا في الأواخر بهمم الأوائل
وأحيا دفين العصر الغابر ، بالعزم الباتر الحاضر ، وأتى بين أولي الألباب بالإبداع
والإجاب. وأعجب ما تصفحناه من أعماله الخالدة والصنع العزيز كتابه المسمى البرنس
في باريز :
وهل جمال
الفتى في غير ملبسه
|
|
مهما أقام
ومهما حل في أمم
|
فاحفظ شعارك
والزم ما عرفت به
|
|
فالبرنس
الحلو في باريز ذو قيم
|
وقد تصفحت من
ذلك السّفر العزيز ، بل الذهب الإبريز نخبة ، فوجدتها روضة مونقة ، وجنة مورقة ،
وشمسا بأكمل الإبداع مشرقة. فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من معان كالعقيان ،
وفنون كأنها سحر العيون ، وتراكيب كلها أعاجيب ،
واستطلاعات كلها مهمات ، وفرائد كأنها خرايد ، وأخبار كلها أخيار. فما أبدع
ما أبنته ، وما أعذب ما اخترعته. فقد شاركت المخترعين للأعلام ، بجواهر الأقلام ،
وسدت مع المشائين ، بدرر البيان والتبيين. فلا جرم إن جاء سفرك يغني عن سفر ،
ووافى عينا أغنى عن الخبر. فلا زلت تهدي من الكلام درا ، وتبدي للناطقين بالضاد
سرا وسحرا ، والله يبقيك ويقيك :
إن لم يطاوعك
سير بعد تمييز
|
|
فانظر إلى (البرنس
الغالي بباريز)
|
سفر يريك لدى
الأسفار منطقة
|
|
من الجواهر
في در وإبريز
|
يتلو عليك من
الحسنى مبينة
|
|
في خير آي
وتكريم وتعزيز
|
قد سطرته يد
العالي بلا مثل
|
|
(محمد) قد كساه خير تطريز
|
أهدى فأبدى
خيار القول في كلم
|
|
هي اللطافة
في سحر وتبريز
|
لا غرو إن
جاءنا بالمعجزات هدى
|
|
فما محمد
إلّا ركن تعجيز
|
فاقرأه واشكر
وكن بالصنع معترفا
|
|
وادع الإله
لمن أبدى لمكنوز
|
حرره بقلمه عبد
ربه صديق أحمد الرحالة المصري الأزهري
الملحق الثاني : تقريظ (٢)
البرنس في
باريز اسم الكتاب الرحلة التي دبجها يراع الفاضل الأديب السيد محمد المقداد
الورتتاني نائب جمعية الأوقاف بالقيروان بمناسبة سفره في العام الفارط إلى فرانسا.
وقد أجاد فيها المؤلف كما شاء ، وتفنن في أسلوبها كيفما أراد ، وأودعها من سائر
العلوم والفنون فوائد جمة ومعلومات غزيرة ، وضم إليها كثيرا من الخرايط والصور.
تكلم هذا
الرحالة الخبير بطرق العمران على الزراعة في فرنسا وانتشار البساط السندسي على
بسائطها ورباها ، ودعا التونسيين إلى الاعتناء بهذا الفن وغراسة الأشجار التي إن
فاتتهم غلالها لم تفتهم ظلالها ، وتعرض لقول ابن راشد القفصي :
بلد الفلاحة
لو أتاها جرول
|
|
أعني الحطيئة
لاغتدى حراثا
|
تصدى بها
الأفهام بعد صقالها
|
|
وترد ذكران
العقول إناثا
|
وعوض البيت
الثاني بقوله :
يسقى بعلمه
ما يثير كنوزها
|
|
والأرض أحسن
ما يفيد تراثا
|
وساق من شعر
الأستاذ الأكبر وعالم القطر الشيخ سيدي سالم بوحاجب :
علينا عباد
الله خدمة أرضنا
|
|
وما هي إلّا
في الحقيقة أمنا
|
وسمى البلدان
التي زارها في الجنوب مثل مرسيليا وآرل ونيم ومونبيليي وطولوز ، ولاحظ على ما
للمملكة التونسية من السير في هذا السبيل وأن الأمم الراقية متى نزلت أرضا بذرت
فيها من حضارتها ، وكذلك فعل الرومان في عدوتي البحر الأبيض
والعرب في الأندلس. وتأليف ابن العوام أقوى دليل على رقي هذا الفن في تلك
العصور الغابرة. وعقد فصولا أدبية في المناظر الطبيعية وبالأخص في جبال الألب
وثلوجها وأنهارها وغاباتها ورياضها ومنازهها وأدواحها ، مثل ما بكرونوبل وشامبري
وإيكس ليبا وجونيف وفيفي ومونترو وفاراين وكليرمون أنركون كل ذلك بشرقي فرانسا.
أما الوسط مثل
إيسودان وفيشي وليموج فذكر ما بها من الصنائع وتربية الحيوان والمياه المعدنية
النافعة ، وأثنى على أخلاق السكان وحسن معاملتهم للتونسي الذي يعامل الفرنسويين
أيضا بحسن القبول وطيب الجوار في مملكته.
وخصص لباريز
فصولا مسهبة ونوع الكلام فيها إلى : قسم إداري مثل وزارة الخارجية ومجلس الأمة
ومجلس الأعيان ونظام المحافظة ، وقال : إذا كانت باريز بستانا فسياجها البوليس
السري القائم على ساق الجد وصاحب العناية بالغريب. وإلى قسم علمي مثل مدرسة اللغات
الشرقية والمكتبة العمومية ، وأشبع القول في الكلام على اللغات وفوائد اللغة
الفرنسوية ، وعلى المكاتب وأنواع الخطوط ثم على قصور الآثار والتصوير وما كان
للمسلمين به من الاعتناء ، ثم على ديار التمثيل الذي يحيي اللغة وينشر الآداب ، ثم
على عمران باريز ووسائط النقل والصنائع والتجارة ورخص الضروري منها ثم على الأخلاق
والعوايد والألوان.
أما صدر الكتاب
فقد زينه بمقدمة تاريخية مفيدة للغاية في أسباب السفر الذي يعرض للبشر جماعات
وأفرادا. وتعرض في السفر العلمي إلى التعليم الفرنساوي بالمملكة الذي أفاد الأمة
وأن الرجال الذين تعلموه مع لغتهم وعلومهم سدوا فراغ الحاجة بالمملكة وقاموا
بمهمات صالحة للأمة والحكومة معا. وذكر أن كتابه هذا قدمه هدية وتهنئة لصديقه
المفضال النحرير الشيخ سيدي الطاهر ابن عاشور القاضي المالكي بالقطر التونسي. وجرى
قلم المؤلف الواسع الاطلاع في كل مناسبة بإظهار فضل القيروان ورجالها قديما
وحديثا. وفي آخر الكتاب حرر جملة صالحة فيما يلزم المسافر إلى أروبا من العلوم
والأدوات. وبالجملة فالكتاب علمي أدبي أثري تاريخي جغرافي زراعي صناعي أخلاقي
اجتماعي إداري ، جاء سادا لثغر الحاجة ومفيدا لقراء العربية ، وبالأخص فيما تهم
معرفته بمملكة فرانسا من المعارف والأخلاق
والرقي ، حتى قال لا يخلو بلد بفرنسا من عدة أشياء مثل مكتب للتعليم
ومستشفى للصحة ومحل للتمثيل ودار للآثار ومعهد ديني. وأشار إلى أن المملكة
التونسية في دور الحماية أخذت في التقدم بنشر العلوم وتأسيس القوانين وإقامة الأمن
وتمهيد الطرقات وإحياء الزراعة والصناعة. بحيث يدعو هذا الكتاب من طالعه إلى
الأسفار لسهولة المواصلة والأمن على النفس والدين والمال كما يسوقه إلى الجد في
طلب العلم والانكباب على العمل. وقد شرع في طبعه وعما قريب إن شاء الله يبرز إلى
عالم الظهور. وإليك قصيدة نظمها الفاضل الأديب السيد صالح سويسي الشريف القيرواني
في تقريظ الكتاب ونصها :
«قل سيروا في الأرض» تحريض لمعتبر
|
|
فقوض الرحل
إن العز في السفر
|
إن الحياة
بطول المكث في بلد
|
|
ليست لأهل
الهنا محمودة الأثر
|
فارحل بعزم
إذا ما كنت مقتدرا
|
|
وانظر مآثر
ذي الأحكام والقدر
|
واجعل قرينك
حسن الاعتبار ففي
|
|
حسن التدبر
ما يعلو عن النظر
|
إن الذي جعل
الأسار عبرته
|
|
لا كالذي جعل
الأسفار للسمر
|
وليس رحلة من
بالعلم مشتهرا
|
|
مثل الذي لم
يكن به بمشتهر
|
فالعلم يكشف
بالتدوين كل غطا
|
|
عن سر ما فيه
نيات من النذر
|
رحلات
أسلافنا فيها لنا عظة
|
|
كرحلة ابن
جبير صادق الخبر
|
وفي (ابن
بطوطة) ذكرى لمعتبر
|
|
أكرم برحالة
للعلم منتصر
|
واذكر (رفاعة)
لا تنسى فضائله
|
|
فقد أماط
ستار (الغرب) للبصر
|
هم الرجال
ومن تسمو الرجال بهم
|
|
وليس فضلهم
عنا بمنحصر
|
مقداد قد صرت
بالأسلاف مقتديا
|
|
مذ قد قصدت
بلاد (الغرب) للعبر
|
بين السماء
وبين الماء معتبرا
|
|
صنع الذي سخر
الأشياء للبشر
|
وقد شرحت لنا
ما كان مختفيا
|
|
في رحلة
حسنها يسمو عن الدرر
|
صورت فيها
المعاني والحقائق مذ
|
|
أبرزتها في
حلي الحسن بالصور
|
فيها (مقدمة)
دلت برونقها
|
|
عن علم فرد
على التاريخ مقتدر
|
وما قصدت
بلاد القوم ملتهيا
|
|
بل كنت تبحث
عن آياتها الغرر
|
رأيت ملكا
كبيرا كان من قدم
|
|
ملكا لمن
عدلوا في البدو والحضر
|
والعدل ينظم
عقد المالكين ولا
|
|
يبقى مع
الجور عقد غير منتثر
|
لله درك في
وصف البلاد وما
|
|
فيها من
العبر العظمى لمدكر
|
تلك الصنائع
بالإتقان قد شهرت
|
|
وكل يوم لها
نوع لمبتكر
|
شاهدت حسنا
بديعا للطبيعة قد
|
|
دلت مناظره
عن مبدع الصور
|
(باريز) مثلتها خودا وقد برزت
|
|
للعاشقين
بسيف الغنج والحور
|
تختال في برد
حسن بالنهار وكم
|
|
تبدي اللطافة
بالإشراق في السحر
|
فالصبح من
أوجه بالحسن مشرقة
|
|
والليل يبدو
لنا من حندس الشعر
|
يرتعن مثل
الظبي في حسن عاصمة
|
|
أم العواصم
في التمدين والأثر
|
(محمد) إنني بالشكر نحوكم
|
|
كالطير يسجع في روض على الشجر
|
فاقبل قريظي
فإني اليوم معترف
|
|
عن وصف
رحلتكم بالعي والقصر
|
لا زلت ترحل
والأقلام تخدمكم
|
|
طوعا وتدعو
لكم بالطول في العمر
|
نشرت جريدة «الزهرة»
تونس.
كشاف حضاري وفهارس
الفهرس الكشاف للأعلام البشرية
ـ ادم :
|
١٤٣ ، ١٥٩ ، ١٦١ ، ١٦٣ ، ١٧٨ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩ ،
٢٤١ ، ٢٩٨
|
ـ ابن الأبار :
|
٧٩
|
ـ ابن أبي محمد الشيخ الحفصي :
|
٢٠٠
|
ـ إبراهيم (عليه السلام) :
|
١٥٥ ، ٢٧٣
|
ـ إبراهيم بن الأغلب :
|
٢٣٠
|
ـ إبراهيم الرياحي :
|
٧٥ ، ٧٩
|
ـ إبراهيم بن عبد السلام المسراتي ، الشيخ :
|
٢٢٥
|
ـ أبو بكر برهان الدين بن الخلال :
|
٢٢٩
|
ـ إبراهيم بن علي الحصري القيرواني :
|
٢٠٧
|
ـ أبو جعفر محمد بن هارون البغدادي :
|
٦٣
|
ـ أبو جعفر المنصور :
|
٥١ ، ٦٢ ، ٨٥
|
ـ أبو الحسن علي بن عمر :
|
٥٥
|
ـ أبو الحسن القابسي :
|
٢٧٩
|
ـ أبو الحسن المريني :
|
٥٠ ، ٧١ ، ٨٠ ، ٩٨
|
ـ أبو الحسن المزني :
|
٢٩٦
|
ـ أبو الدرداء :
|
٦٩
|
ـ أبو زكريا ابن عبد الواحد الحفصي :
|
٣٠٨
|
ـ أبو سفيان :
|
٢٦٠
|
ـ أبو الصلت أمية بن عبد العزيز :
|
٢٧١
|
ـ أبو عبد الله الشيعي :
|
٣٠٧
|
ـ أبو عقال غلبون بن الحسن :
|
٨٦
|
ـ أبو عمر يوسف بن عبد البر :
|
٢٠٠
|
ـ أبو عمران الفاسي :
|
٦٣
|
ـ أبو عنان المريني :
|
٧٩
|
ـ أبو الغنايم :
|
٢٠٠
|
ـ أبو فارس عبد العزيز الحفصي :
|
٢٠٤
|
ـ أبو الفتح (شاعر) :
|
٢٧١
|
ـ أبو الفهم الخراساني :
|
٦٤
|
ـ أبو القاسم بن بيان :
|
٢٠٠
|
ـ أبو القاسم بن عبيد الله بن المهدي :
|
٥١
|
ـ أبو نواس :
|
١٨٩
|
ـ أبو يحيي الحفصي :
|
٨١
|
ـ أبو يزيد مخلد بن كيداد ، أبو زيد النكاري (صاحب
الحمار الأبيض) :
|
٣١٤
|
ـ أبو يوسف الدهماني :
|
٥٦ ، ٦٥
|
ـ إتيان (الجنرال) :
|
٥٨
|
ـ أتيل (ملك الليها) :
|
١١٥
|
ـ أحمد بن أبي الضياف :
|
٧٠ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٨١ ، ١٠٧ ، ١٧٤ ، ٣٠٩ ، ٣١٠
|
ـ أحمد باشا (باي تونس) :
|
٣٣١
|
ـ أحمد بن سعيد (رفيق الورتتاني في الرحلة) :
|
٣١
|
ـ أحمد صديق المصري الأزهري :
|
٣٤٥
|
ـ أحمد بن الغماز :
|
٥٥
|
ـ أحمد بن وحشية النبطي :
|
٢١٦
|
ـ أحمد الورتتاني :
|
٨٠ ، ٣٢٢
|
ـ ابن الأحمر :
|
٧٩ ، ٨١
|
ـ أدريانوس :
|
٨٠ ، ٢٧٧ ، ٢٧٩
|
ـ إدريس (الأول ، مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب)
:
|
٥١
|
ـ إدوار ليريو (عمدة ليون) :
|
٢٢٤
|
ـ أرسطوطاليس :
|
٣٠٣
|
ـ أرسمدس :
|
٩٦
|
ـ إسحاق (سجين) :
|
٢٥٥
|
ـ أسد بن الفرات :
|
٥١
|
ـ إسماعيل ابن أبي المهاجر :
|
٢٢٦
|
ـ إسماعيل باشا (الخديوي) :
|
٨٤
|
ـ أسياسي (طالب صيني) :
|
١٥٣
|
ـ أشعب :
|
١٩١
|
ـ الأعشى :
|
٢٥٩
|
ـ أغسطوس :
|
٨٠
|
ـ إفريقش :
|
٥٢
|
ـ ألبان روزي :
|
١٨٣
|
ـ الآمر بأحكام الله (الخليفة) :
|
٦٠ ، ٢١١
|
ـ أم العلو (بنت نصير الدولة باديس ، أخت
المعز) :
|
٦٤
|
ـ إمان (دكتور) :
|
٢٧٥
|
ـ أنجي (طالب بمدرسة اللغات الشرقية بباريز) :
|
١٩٠
|
ـ أنفوس (كونت طلورة) :
|
٥٥
|
ـ أنبيال ، هنيبال :
|
٩٩ ، ٢٦٧
|
ـ أود :
|
١١٧
|
ـ إيبوليت (ابن تايزي) :
|
٢٧٦
|
ـ بادوين ، (الأمبرور ، الإمبراطور) :
|
٥٥
|
ـ باديس بن زيري الصنهاجي ، نصير الدولة :
|
٧٨
|
ـ باربيي (الطبيب) :
|
١٣٢
|
ـ بارييي (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
١٢٠
|
ـ باستور :
|
٢٢١ ، ٢٢٢ ، ٢٢٤
|
ـ ببان ، ببيان القصير (ابن شارل مارتيل) :
|
١١٦ ، ١١٧
|
ـ برانسفيك (الطبيب) :
|
١٥٣
|
ـ البرزلي أبو القاسم :
|
٦٣
|
ـ البشير صفر :
|
٣٧ ، ٥٣ ، ٦٧ ، ٢٤٨ ، ٢٨٧ ، ٢٩١ ، ٣٢٣ ، ٣٣٢ ،
٣٣٦
|
ـ البشير دنكزلي :
|
٦٧ ، ٣١٨
|
ـ بطره بن الهنشة بن إدفونش :
|
٨١
|
ـ بطليموس (مؤلف المجسطي) :
|
٢٧١
|
ـ بطليموس فيلادفوس :
|
١٥٧
|
ـ ابن بطوطة :
|
٦٩
|
ـ بكار بن جلالة :
|
٣٠٦
|
ـ بكن (طالب بمدرسة اللغات الشرقية بباريز) :
|
١٩٠
|
ـ بلان : (الكاتب العام للحماية الفرنسية
بتونس) :
|
٩٢ ، ٢٢٣
|
ـ بلزار (قائد الجيش الرومي) :
|
٢٤٨
|
ـ بلزاك : ـ بلقاسم بن العربي الشريف (شيخ
الطريقة القادرية) :
|
١٤٨ ، ٢٠٢ ، ٢٥٥ ، ٢٥٨
|
ـ بوانكاري (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
١٢٠
|
ـ بوران (حظية بن طولون) :
|
٢١١
|
ـ بول (ناظر مدرسة اللغات بباريز) :
|
١٩٢
|
ـ بول بواياي :
|
١٩٢
|
ـ بونيسي (مسيو) :
|
١٩
|
ـ بونيفار ، شيو :
|
١٥٨ ، ١٥٩
|
ـ بيرم التونسي (الشيخ) :
|
٦٧ ، ١٧٤ ، ١٩٢ ، ٣١١ ، ٣٢٢ ، ٣٣٦
|
ـ بيرون (الشاعر) :
|
١٥٩
|
ـ بيشون :
|
١٨٢
|
ـ بيو (المكلف بالقسم التونسي) :
|
١٨٢
|
ـ تايزي :
|
٢٧٦
|
ـ التجاني :
|
٢٠٣
|
ـ تيار (المستعرب) :
|
١٣٥
|
ـ تيارس (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
١٢٠
|
ـ تيارس (المؤرخ الفرنسي) :
|
٣٢٩
|
ـ تيباط (ملك نيبارة) :
|
٥٥
|
ـ ثابت بن قرة :
|
١٤٣
|
ـ جان استيفانصون :
|
١٦٦
|
ـ جان بودال :
|
٢٣١
|
ـ جان الثاني :
|
١١٨
|
ـ جان جاك روسو :
|
١٥٢
|
ـ جان دارك :
|
٢٧٥
|
ـ جبرائيل (عليه السلام) :
|
١٩١
|
ـ ابن جبير :
|
١٩١
|
ـ جرجي بن مناسل :
|
٥٥
|
ـ جرجير :
|
٥٠
|
ـ ابن الجزار ، أبو جعفر أحمد :
|
٢٢٣
|
ـ جعفر (المعلم) :
|
٢٢١
|
ـ جعفر باشا (الأمير) :
|
٢٢١
|
ـ جعفر البرمكي :
|
٩٦
|
ـ جليمار (ملك الوندال) :
|
٢٤٨
|
ـ جوريس (جان) :
|
١٨٣ ، ١٨٤
|
ـ جوزاف بن دافيد :
|
٢٥٥
|
ـ جوكندو :
|
٢٠٥
|
ـ جول سيزا :
|
٢٦٠
|
ـ جوهر الصقلي :
|
٥١
|
ـ جيبتيس :
|
١١٢
|
ـ حاتم الطائي :
|
٢٩٨ ، ٢٩٩
|
ـ حارل (ملك صقلية) :
|
٥٥
|
ـ حام بن نوح :
|
٥٢ ، ٩٧ ، ٩٩
|
ـ حاييم (سجين) :
|
٢٥٥
|
ـ ابن حبيب :
|
٨٨
|
ـ الحبيب بن الشيخ :
|
٤٨
|
ـ الحجاج (بن يوسف الثقفي) :
|
٦١
|
ـ الحريري ، محمد القاسم بن علي :
|
٦٠ ، ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٢٥٢ ، ٣١٠ ، ٣٣٦
|
ـ حسان بن ثابت :
|
٢٥٩
|
ـ حسان بن النعمان :
|
١٠٧
|
ـ حسن بن بركات (رئيس الأوقاف بتونس) :
|
٣٢٣
|
ـ حسن بن عبد الوهاب :
|
٦٧ ، ٣٣٦
|
ـ الحسن بن علي (ملك صنهاجة) :
|
٢٤٨
|
ـ الحسن بن موسى الهواري :
|
٢٠٣
|
ـ حسين (وزير العلوم بتونس) :
|
٨١
|
ـ ابن الحسين (الشاعر) :
|
٤٢
|
ـ حسين باي الثاني :
|
١٠٧ ، ٣١٠
|
ـ حسين بوحاجب :
|
٣١٨
|
ـ حسين بن علي (جد الأسرة الحسينية بتونس) :
|
٧٦
|
ـ حسين النخلي :
|
٤٧
|
ـ الحطيئة ، جرول :
|
١٢٩
|
ـ حمودة باشا :
|
٣٠٩
|
ـ الحموي (ياقوت) :
|
٥٢ ، ٨٦ ، ١٠٥ ، ٢٠٠ ، ٢٥٠
|
ـ حواء :
|
٧٣ ، ١٦٤ ، ٢٤١
|
ـ حيدر باشا :
|
٥٦
|
ـ خالد بن سفيان :
|
٣٠٩
|
ـ خالد بن الوليد :
|
٢٥٠
|
ـ ابن خرداذبة :
|
٣٠٢
|
ـ خضر بن علي :
|
٥٦ ، ٥٨
|
ـ ابن الخطيب :
|
٤١ ، ٥٣ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٢٧٩
|
ـ ابن خلدون :
|
٤١ ، ٤٧ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٥٥ ، ٧١ ، ٧٧ ، ٨١ ، ٩٧ ،
٩٨ ، ١١٢ ، ١٣٥ ، ١٣٨ ، ١٥٤ ، ١٥٧ ، ١٧٧ ، ١٩٥ ، ١٩٦ ، ١٩٧ ، ٢٠٠ ، ٢٠١ ، ٢١٢ ،
٢٢٨ ، ٢٤١ ، ٢٤٢ ، ٣٠٣ ، ٣١٠ ، ٣١٤ ، ٣٢٩
|
ـ ابن خلدون الصغير (يحيى) :
|
٣٠٨
|
ـ خليل (صاحب محلة طرابلس) :
|
٥٤
|
ـ الخليل بن أحمد الفراهيدي :
|
٦٠
|
ـ خليل باشا :
|
٣١٤
|
ـ خمارويه بن أحمد بن طولون :
|
١١١ ، ٢١١
|
ـ الخوارزمي :
|
٣٣٩
|
ـ خير الدين بربروس :
|
١٠٠
|
ـ خير الدين التونسي :
|
٨٠ ، ٨١ ، ٣٢٢ ، ٣٣٢ ، ٣٣٦
|
ـ خير الله بن مصطفى :
|
١٩٧ ، ٣٣٤
|
ـ دافيد ، المصور (الرسام) :
|
١٨٧ ، ٢٠٥
|
ـ داكوباير الأول :
|
١١٧
|
ـ دالبايرتو :
|
١٣٧ ، ١٤٢
|
ـ داود :
|
٢٥٧
|
ـ دباش :
|
١٥٣
|
ـ دهيا (الكاهنة البربرية) :
|
٣١٣
|
ـ دود بن الأغلب :
|
١١٦
|
ـ دوبكونا :
|
٢٨٤
|
ـ دوبوي دولوم :
|
١٠٩
|
ـ دوكيو (مدام) :
|
١٥٦
|
ـ دولور (ناظر ديوان الكتابة العامة) :
|
١٨٢
|
ـ دوني ببا :
|
١٠٩
|
ـ ديزكليز :
|
٢٥٩
|
ـ راحيل :
|
٢٧٣
|
ـ ابن راشد القفصي :
|
١٢٩
|
ـ رافع بن حماد :
|
٧١
|
ـ راول :
|
١١٧
|
ـ الربيع (وزير المنصور العباسيي) :
|
٨٥
|
ـ ربيعة بن ثابت الأسدي :
|
٦١
|
ـ رجار : روجار :
|
٥٥ ، ٧٥
|
ـ ابن رشيق :
|
٥٣ ، ٥٨ ، ٩٥ ، ١٥٤ ، ٢٠٨
|
ـ رفاعة الطهطاوي :
|
٦٥ ، ١١٣ ، ٢٩٢ ، ٣٢٤ ، ٣٤٠
|
ـ ابن الرقيق ، أبو إسحاق :
|
١٩٦ ، ١٩٧ ، ٣٠٦ ، ٣٠٧
|
ـ رمضان باي المرادي :
|
٣٠٩
|
ـ روا (الكاتب العام للحماية بتونس) :
|
٢٠٣
|
ـ روا (الدكتور) :
|
٢٢٢ ، ٢٢٣
|
ـ روباير الأول :
|
١١٧
|
ـ روباير الثاني :
|
١١٨
|
ـ روباير فولطن :
|
١٠٩
|
ـ روجي دونيس :
|
١١٢
|
ـ روح بن حاتم (المهلبي) :
|
٧٦
|
ـ روكاي :
|
١٩١
|
ـ رونز (مسيو) :
|
٢٤٥
|
ـ ريشارد فانيار :
|
٢٣٢
|
ـ ريشيليو (الوزير الفرنسي) :
|
١٠٧ ، ٢٣١
|
ـ ابن زريق البغدادي :
|
١٠٤
|
ـ زمار بن صقلاب (أمير مغراوة) :
|
٨٤
|
ـ زيادة الله بن الأغلب :
|
١٩٧ ، ٢٢٦ ، ٢٧٧
|
ـ زيان بن محمد بن عبد القوي :
|
٥٥
|
ـ ابن زيتون (القاضي) :
|
٥٥
|
ـ زيد بن ثابت :
|
٣٣٣
|
ـ سام بن نوح :
|
٥٢ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠٠
|
ـ سالم بوحاجب :
|
٦٦ ، ٨٠ ، ١٢٩ ، ١٣٩ ، ٢٦٠ ، ٣٠٣
|
ـ سالم القديدي :
|
٥٦
|
ـ سحنون بن سعيد :
|
٦٢ ، ٨٨
|
ـ ابن سديرة :
|
١٩١
|
ـ السراج (الوزير) :
|
٦٤ ، ٨٣
|
ـ ابن سعيد :
|
٣٠٧
|
ـ سعيد بن العاص :
|
٣٠٩
|
ـ سليمان (السلطان) :
|
١٠٠
|
ـ سليمان بن عبد الملك :
|
٧٨ ، ٢٢٠ ، ٢٨٩ ، ٢٩١
|
ـ سميراميس :
|
١٨٠
|
ـ ابن سناء الملك :
|
١٦٢
|
ـ ابن سهل :
|
١٥٤
|
ـ سوسي (الجنرال) :
|
٥٦
|
ـ سولي :
|
١٢٨
|
ـ سيبيو الإفريقي (القائد) :
|
٩٩
|
ـ سيف الدين يكتمر (الوزير) :
|
٢٩٩
|
ـ ابن سينا ، أبو علي :
|
٦٧ ، ١٣٦ ، ١٥٩ ، ١٧٠ ، ٣٢١
|
ـ سينيوبوسك (مستعرب) :
|
٢٧٤
|
ـ الشاذلي خزنة دار :
|
٣٢٤
|
ـ الشاذلي الخلصي :
|
٤٨
|
ـ الشاذلي صفر :
|
٣٢٣
|
ـ شارل التاسع :
|
١١٩
|
ـ شارل الثالث :
|
١١٧
|
ـ شارل الثامن :
|
١١٨
|
ـ شارل الجسيم :
|
١١٧
|
ـ شارل الخامس :
|
١١٨
|
ـ شارل الرابع :
|
١١٨
|
ـ شارل السابع :
|
١١٨
|
ـ شارل السادس :
|
١١٨
|
ـ شارل العاشر :
|
١١٩
|
ـ شارل مارتيل :
|
١١٦ ، ٢٦٧ ، ٢٨٩
|
ـ شارل نويتار :
|
٢٣٢
|
ـ شارلمان :
|
٤٠ ، ٧٧ ، ٨٠ ، ١١٧ ، ٢١١
|
ـ شاكير (صاحب الطابع على القيروان) :
|
١٠٧
|
ـ شايو (طبيب العيون) :
|
٢٢٧
|
ـ ابن شرف القيرواني :
|
٥٤ ، ٥٨ ، ٣٣٨
|
ـ شطبون ، (طالب إسرائيلي) :
|
١٥٣
|
ـ شعيب (عليه السلام) :
|
٢٧٣
|
ـ شمامة (طالب إسرائيلي) :
|
١٥٣
|
ـ شوقي (أحمد) :
|
٧٩ ، ٢٠٨
|
ـ شيكيتو دوبوكونا (مصارع ثيران) :
|
٢٨٤
|
ـ شيلديريك الأول :
|
١١٧
|
ـ الصادق باي :
|
٣١٩
|
ـ الصادق باي (الجزائري) :
|
٨١
|
ـ الصادق التلاتلي :
|
١٧٢
|
ـ الصادق بن القاضي :
|
٦٥
|
ـ صال (متفقد المستعمرات) :
|
١٦١ ، ١٩٠
|
ـ صالح سويسي :
|
١٠٤ ، ١٨١ ، ٢٠٨ ، ٢٢١ ، ٢٢٤ ، ٢٢٩ ، ٢٣٣
|
ـ صان روك :
|
٢٥٦
|
ـ صان سبيريان ، (طاسيوس سيسليوس سبيريانوس) :
|
٨٠
|
ـ صان لوي التاسع :
|
٥٥
|
ـ صانتشي (دكتور سويسري) :
|
٢٢٥
|
ـ ابن الصايغ :
|
٨٢
|
ـ صفي الدين الحلي :
|
١٤٠
|
ـ صلاح الدين الأيوبي :
|
٧٩ ، ١٠٠ ، ٢٧٨
|
ـ ضرغام (الوزير) :
|
٢٩٩
|
ـ طارق (ابن زياد) :
|
٣٠٦
|
ـ الطاهر بن عاشور :
|
٤١ ، ٩١ ، ٢٥٨ ، ٢٧٧ ، ٣٠٩
|
ـ الطيب بن عبيد القيرواني :
|
١٦٢
|
ـ عائشة (رضي الله عنها) :
|
٢٦٩ ، ٣٠٦
|
ـ ابن عائشة (والي الحسبة للدولة العباسية) :
|
١٨٨
|
ـ العادل بن المنصور الموحدي :
|
٢٠٠
|
ـ ابن عاصم :
|
٢٥٨
|
ـ عامر بن الطفيل :
|
٢٥٩ ، ٢٩٩
|
ـ عامر بن محمد الهنتاتي المصمودي :
|
٨٠
|
ـ العبادلة (فاتحو إفريقية) :
|
٥٠
|
ـ عباس بن فرناس ، أبو القاسم :
|
٢٤٠
|
ـ عبد الجليل الزواش :
|
٣٢٤ ، ٣٣٢
|
ـ عبد الحكيم الأكودي :
|
٧٧
|
ـ عبد الرحمان الغافقي :
|
٢٦٧ ، ٢٨٩
|
ـ عبد الرحمن ، مولاي ، (ابن هشام السلطان
العلوي) :
|
٢٧٣
|
ـ عبد الرحمن بن أنعم (قاضي القيروان) :
|
٦٢ ، ٨٤ ، ٨٥ ، ٧٩
|
ـ عبد الرحمن برق الليل (تاجر مغربي) :
|
٢٦٣
|
ـ عبد الرحمن الثاني :
|
٧٧
|
ـ عبد الرحمن الداخل ، صقر قريش :
|
٥١ ، ٣٠٦
|
ـ عبد الرحمن زروق :
|
٥٨
|
ـ عبد الرحمن اللوز :
|
٤٨
|
ـ عبد الرحمن الناصر :
|
٢١٢
|
ـ عبد الرحمن بن محمد البسامي :
|
٢٧٥
|
ـ عبد العزيز بن مروان :
|
٧٧
|
ـ عبد العزيز المسعودي :
|
٤١
|
ـ عبد العزيز بن موسى بن نصير :
|
٥٠
|
ـ عبد القادر بحرون :
|
٧٧
|
ـ عبد القادر الجزائري (الأمير) :
|
١٧٠ ، ٢٤٧ ، ٢٥٠ ، ٢٦٣
|
ـ عبد الله بن أبي حسان اليحصبي (الفقيه) :
|
٢٢٦
|
ـ عبد الله بن أبي سرح :
|
٥٠ ، ٥٢ ، ٨٤ ، ١٠٠ ، ٢٨٠
|
ـ عبد الله بن جعفر :
|
٢٤٨
|
ـ عبد الله بن ياسين الجزولي :
|
٦٣
|
ـ عبد المومن بن علي الكومي :
|
١١٥ ، ١٧٧ ، ٢٤٨ ، ٢٨٨ ، ٣١٤
|
ـ عبيد الله بن زياد :
|
٢١١
|
ـ عبيد الله بن المهدي :
|
٥١ ، ٥٢ ، ٦٣ ، ٢٢٠ ، ٣٠٧
|
ـ عثمان باي :
|
٣٠٩
|
ـ عثمان الحفصي :
|
٢٠٤
|
ـ عثمان بن عفان :
|
٧٠ ، ٨٤
|
ـ ابن عذاري المراكشي :
|
٥٣ ، ٥٤ ، ٢٢٦ ، ٣٠١
|
ـ ابن العربي ، أبو بكر :
|
١٩٧
|
ـ العربي بسيس :
|
٧٥
|
ـ العربي بن عبد الله (رئيس الأوقاف بتونس) :
|
٣٢٣
|
ـ ابن عرفة :
|
٦٣
|
ـ عزارياه بن يعقوب :
|
٢٥٥
|
ـ ابن عساكر :
|
٣٠٩
|
ـ العظومي ، أبو القاسم بن محمد بن مرزوق :
|
٦٤
|
ـ عقبة بن نافع (الفهري) :
|
٥٠ ، ٩٩
|
ـ علالة بن الحاج :
|
٤٨
|
ـ علقمة بن علاثة :
|
٢٥٩ ، ٢٦٠
|
ـ علي بن أبي طالب :
|
٢٤٩
|
ـ علي تركي ، والد حسين باي :
|
٧٦
|
ـ علي رضى التركي (الشيخ) :
|
٣٣١
|
ـ علي بن زياد الطرابلسي :
|
٦٢
|
ـ علي بن القروي :
|
٥٨
|
ـ علي بن عبيد الغرياني ، الحاج :
|
٢٠٢
|
ـ علي بن عمر أبو الحسن :
|
٥٥
|
ـ علي محسن (الشريف) :
|
٩١
|
ـ ابن العماد :
|
٣٠٠
|
ـ عمار بن علي النوري :
|
٥٨
|
ـ عمار المعروفي (الشيخ) :
|
٥٦
|
ـ عمر بن بركات (رئيس الأوقاف بتونس) :
|
٣٢٢
|
ـ عمر بن الخطاب :
|
١٠٤ ، ٢٥٠ ، ٢٩٤
|
ـ عمر الخيام :
|
١٤٠ ، ١٤٤
|
ـ عمر بن عبد العزيز :
|
٨٥ ، ٢١٨ ، ٢٢٦
|
ـ عمر المرابط :
|
٧٥
|
ـ عمر الورتتاني :
|
٩١
|
ـ عمرو بن العاص :
|
٨٤ ، ٨٥ ، ١٠٤ ، ٣٠٥
|
ـ ابن العوام الإشبيلي :
|
١٢٨
|
ـ عياض القاضي :
|
٣٠١
|
ـ عيسى الشيخ (المؤرخ) :
|
٦٤
|
ـ عيسى بن الأكحل :
|
٥٨
|
ـ عيسى بن الحسين بن علي بن أبي الطلاق :
|
٧١
|
ـ الغبريني (القاضي) :
|
٦٣
|
ـ الغزالي :
|
٥١
|
ـ غليوم تل (الإمبراطور الألماني) :
|
١٥٠
|
ـ فاشيي (طالب بمدرسة اللغات الشرقية بباريز)
:
|
١٩١
|
ـ فاطمة الزهراء :
|
٥٠
|
ـ فايدر :
|
٢٧٦
|
ـ فرامون (أول موك فرنسا) :
|
١١٤
|
ـ فرانسوا الأول :
|
١٠٠ ، ٢٠٤ ، ٢٠٦
|
ـ فرجمول (الجنرال) :
|
٥٦
|
ـ فرنسيس الأول :
|
١١٨
|
ـ فرنسيس الثاني :
|
١١٩
|
ـ فريفي (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
١٢٠
|
ـ فضل ، مولاة أبي أيوب :
|
٢٠٢
|
ـ الفضل بن يحيي :
|
١٣٨
|
ـ فكتور هيكو :
|
١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٥٩ ، ١٦٥
|
ـ فليار (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
١٢٠
|
ـ فليكس فور (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
١٢٠
|
ـ فوتي :
|
١٨٢
|
ـ فيران ، الجنرال :
|
٢٢٥
|
ـ فيليب أوكست :
|
٢٥٥
|
ـ فيليب الأول :
|
١١٨
|
ـ فيليب الثالث :
|
١١٨
|
ـ فيليب الثاني :
|
١١٨
|
ـ فيليب الخامس :
|
١١٨
|
ـ فيليب الرابع :
|
١١٨
|
ـ فيليب السادس :
|
١١٨
|
ـ فيوم (دكتور) :
|
٢٥٤
|
ـ قابيل :
|
١٥٥
|
ـ القاضي الفاضل :
|
٢٧٨
|
ـ قتيلة (أخت النضر بن الحارث) :
|
٢٤٩
|
ـ القروي (ابن علي بن القروي) :
|
٥٨
|
ـ قسطنطين (صاحب الأستانة) :
|
١٠٠
|
ـ قطن بن قبيصة الهلالي :
|
٦١
|
ـ قيصر :
|
٢٦٠
|
ـ كابار :
|
١٨٨ ، ١٩٩ ، ٢٤٠
|
ـ كابانايل :
|
٢٧٦
|
ـ كارلوس الثاني :
|
١١٧
|
ـ كارناجي (المتبرع لبناء محكمة مقر محكمة
العدل الدولية) :
|
١٨٧
|
ـ كارنو (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
١٢٠ ، ٢٤٧
|
ـ كارونا (مصارع ثيران) :
|
٢٨٤
|
ـ كراسيا (الإمبراطور الروماني) :
|
٣٥ ، ١٣٤
|
ـ الكرامي :
|
٢٣٨
|
ـ كران (الرسام) :
|
٢٧٦
|
ـ ابن الكردبوس التوزري :
|
٢٣٤
|
ـ كريستوف كولومب :
|
٦٩ ، ١٠٦
|
ـ كريستيان سنوك هرغرنج (المستعرب الهولاندي)
:
|
١٥٣ ، ١٦٩
|
ـ كسرى :
|
٢٥٠ ، ٢٩٤
|
ـ الكسراوي (تاجر إسرائيلي) :
|
١٥٣
|
ـ كسلان (القنصل الفرنسي) :
|
٤٠
|
ـ كشاجم :
|
٢٢٣
|
ـ كلا (طالب بمدرسة اللغات الشرقية بباريز) :
|
١٩٠
|
ـ كلوتاير الأول :
|
١١٧
|
ـ كلوفيز ، كلوفيس :
|
١٧٥ ، ٢٦٧ ، ٢٩٤
|
ـ كليني الطولوزي (نسبة لمدينة تولوز) :
|
٢٧٠
|
ـ كورش (ملك الفرس) :
|
٢٢٦
|
ـ كونيك :
|
٣٣٥
|
ـ كوهين :
|
٢٥٥
|
ـ كي (كونت دامفر) :
|
٥٥
|
ـ كيوم (مسيو) :
|
٢٥٩
|
ـ لابان :
|
٢٧٣
|
ـ لابتيت : (المقيم العام الفرنسي بتونس) :
|
٢٢٣
|
ـ لافونتاين :
|
١٣٣
|
ـ لسبس (المهندس) :
|
٩٦
|
ـ لمبورج (طالبة بمدرسة اللغات الشرقية بباريز)
:
|
١٩١
|
ـ لوبي (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
٨٢ ، ١٢٠
|
ـ لوتاير :
|
١١٧
|
ـ لوجرو (الجنرال) :
|
٥٦ ، ٥٨
|
ـ لويس التاسع : انظر صان لويس؟ :
|
٧٠ ، ١٠٦ ، ١١٨
|
ـ لويس الثالث :
|
١١٧
|
ـ لويس الثالث عشر :
|
١٠٧ ، ١١٩ ، ٢٤٦
|
ـ لويس الثامن :
|
١١٨
|
ـ لويس الثامن عشر :
|
١١٩
|
ـ لويس الثاني :
|
١١٧
|
ـ لويس الثاني عشر :
|
١١٨
|
ـ لويس الحادي عشر :
|
١١٨
|
ـ لويس الخامس :
|
١١٧
|
ـ لويس الخامس عشر :
|
١١٩ ، ٢١٥
|
ـ لويس الرابع :
|
١١٧
|
ـ لويس الرابع عشر ، لويز :
|
١٠٩ ، ١١٩ ، ٢١٥ ، ٢١٩ ، ٢٤٦ ، ٢٥١ ، ٢٧٦
|
ـ لويس السابع :
|
١١٨
|
ـ لويس السادس :
|
١١٨
|
ـ لويس السادس عشر :
|
١١٩ ، ١٢٠ ، ٢١٥ ، ٢٤٤ ، ٢٤٥
|
ـ لويس العاشر :
|
١١٨
|
ـ لويس فرق (مصارع ثيران) :
|
٢٨٤
|
ـ لويس فيليب :
|
١١٩ ، ١٢٠ ، ٢١٦ ، ٢٤٦ ، ٣٣١
|
ـ لويس لودبيوناير :
|
١١٧
|
ـ ليئة :
|
٢٧٣
|
ـ ليوتي (ليوطي : أول مقيم عام للحماية
الفرنسية بالمغرب) :
|
٢٦٣
|
ـ ليوناردو فانسي (دافنتشي) :
|
٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٨
|
ـ مازاي (الدكتور) :
|
١٣٣
|
ـ مالك ، الإمام :
|
٣٨ ، ٦٢ ، ٨٨ ، ٢١١ ، ٣٠٥
|
ـ المامون (الخليفة العباسي) :
|
١٥٤ ، ٣٠٦ ، ٣٣٠
|
ـ مانويليو (طبيب أرجنتيني) :
|
٢٢٤
|
ـ الماوردي :
|
٧٤ ، ١٨٨
|
ـ مايري :
|
(مدير المكتب الفرنسي بالقيروان) :
|
ـ المتنبي :
|
١٤٩
|
ـ ابن محرز :
|
٨٨ ، ٢٧٧
|
ـ محمد (رسول الله صلى الله عليه وسلم) :
|
٣٥ ، ٥٣ ، ٨٢ ، ١٣٩ ، ١٩١ ، ٢٥٠
|
ـ محمد بن الأمين الخلصي :
|
٣٣٩
|
ـ محمد الأمين الكتبي :
|
٤٨
|
ـ محمد باي المرادي :
|
٣٠٩
|
ـ محمد بيرم :
|
٣٢٢
|
ـ محمد بن جعفر (قاضي صبرة) :
|
٥٢ ، ٧٧
|
ـ محمد جمال :
|
٤٨ ، ٢٦٢
|
ـ محمد الجودي (الشيخ) :
|
٢٥٨
|
ـ محمد بن الحسن أبو عبد الله ابن المسعود بن
عثمان :
|
٢٠٤
|
ـ محمد بن الحكيم :
|
٨١
|
ـ محمد بن الخوجة :
|
٣٧ ، ٥٦ ، ٧٨ ، ٨٤ ، ٣١٩ ، ٣٣٦
|
ـ محمد رشدي المصري :
|
٢١٦
|
ـ محمد بن سعدون القيرواني :
|
٤٨
|
ـ محمد بن صالح الذويبي :
|
٢٠٢
|
ـ محمد صدام (باش مفتي القيروان) :
|
٣٨ ، ٢٠٣ ، ٣١٧
|
ـ محمد صفر :
|
٣٢٣
|
ـ محمد بن عاشور :
|
٣٩ ، ٣٢٣
|
ـ محمد بن عبد القوي (السلطان) :
|
٥٥
|
ـ محمد بن عبد الملك العواني :
|
٧٥
|
ـ محمد العلاني الأنصاري (قاضي القيروان) :
|
٢٧٨
|
ـ محمد علي (الخديوي) :
|
٢١٦
|
ـ محمد بن علي تركي :
|
٧٦
|
ـ محمد علي شريف عبد القادر الجزائري (من ذرية
الأمير عبد القادر) :
|
٢٦٣
|
ـ محمد العواني (مفتي تونس) (بالفتح) :
|
٥٦ ، ٦٤
|
ـ محمد بن قلاوون :
|
٢٩٩
|
ـ محمد المبزع :
|
٤٨
|
ـ محمد المرابط :
|
٨١
|
ـ محمد المقداد الورتتاني :
|
٣٥ ، ٣٨ ، ٨٢ ، ١٢٢
|
ـ محمد الناصر باشا باي :
|
٤١ ، ٨٣ ، ٣١٩ ، ٣٢٤
|
ـ محمد النخلي القيرواني :
|
٦٥
|
ـ محمد الهادي باي :
|
٨١
|
ـ محمد بن يحيى بن سلام :
|
٣٠٥
|
ـ محمد بن يوسف (المفتي الحنفي) :
|
٦٧
|
ـ محمود محسن الشريف :
|
٩١
|
ـ محمود بن محمود (قاضي صبرة ومفتيها الحنفي)
:
|
٦٧
|
ـ مراد بوبالة :
|
٥٤ ، ٦٤ ، ٣١٤
|
ـ مراد الثالث :
|
٢٢١
|
ـ مروان الأموي :
|
٧٧
|
ـ المسترشد (الخليفة) :
|
٢٧١
|
ـ المستنصر الحفصي ، محمد :
|
٥٥ ، ٥٦ ، ٧٠ ، ١٠٠ ، ٢٧٩
|
ـ المستنصر العبيدي :
|
٥٣
|
ـ المستنصر بن الناصر الأموي :
|
٥٦ ، ٢٠٣
|
ـ المسعودي :
|
٤٤
|
ـ المسيح (عليه السلام) :
|
٥٢ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١١٢ ، ١١٤ ، ١١٥ ،
١١٧ ، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٧ ، ١٣٩ ، ١٧٥ ، ١٨٠ ، ٢٠٥ ، ٢٤٧ ، ٢٧٢
|
ـ مصطفى باي :
|
٧٥
|
ـ مضر :
|
٤٧ ، ١٩٦
|
ـ المظفر الصقلي :
|
٣٣٣
|
ـ معاوية بن أبى سفيان :
|
٤٧ ، ٣٢٠
|
ـ ابن المعتز :
|
٣٣٥
|
ـ المعتصم ، محمد بن صمادح :
|
٢٢٠
|
ـ المعتمد ابن عباد :
|
٢٢٠
|
ـ المعتمد العباسي :
|
٢٣٤
|
ـ المعز بن باديس :
|
٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٦٤ ، ١٥٤ ، ٢٠١ ، ٢١٠ ، ٢٣٨ ،
٢٧١ ، ٣١٤ ، ٣٣٨
|
ـ المعز العبيدي :
|
٥١ ، ٥٣ ، ٢٢٣ ، ٢٨٦ ، ٣٣٠
|
ـ المقري :
|
٣٠٦
|
ـ المقريزي :
|
١٠٦ ، ٣٠١
|
ـ مكمهون (رئيس الجمهورية الفرنسية) :
|
١٢٠
|
ـ المنذر بن سعيد (قاضي قرطبة) :
|
٤٠
|
ـ منشكور (المراقب المدني الفرنسي بتونس) :
|
٢٢٣
|
ـ المنصور العبيدي :
|
٥٣ ، ٧٤ ، ٢٤٨ ، ٢٧٩ ، ٣٣٣
|
ـ المهدي بن تومرت :
|
٥١ ، ٣١٤
|
ـ موسى (عليه السلام) :
|
١٢٥ ، ١٤٠ ، ٢٧٣
|
ـ موسى حنش الصنعاني :
|
٥٠
|
ـ موسى بن نصير :
|
٥٠ ، ٥١ ، ٧٨ ، ١١٥ ، ٢٢٠ ، ٢٨٩ ، ٢٩١ ، ٣٠٣ ،
٣٠٦
|
ـ موناليزا ، لاجوكند :
|
٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢٠٩
|
ـ المويلحي :
|
٢١١
|
ـ ابن ميادة ، الرماح بن يزيد :
|
٣١٠
|
ـ ميروفا (به سمي الميروفاجيون) :
|
١١٧
|
ـ نابليون الأول ، بونابرت :
|
٣٨ ، ٨٤ ، ١٠٩ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٥٥ ، ١٧٥ ، ٢١٩
، ٢٢٠ ، ٢٢١ ، ٢٣٥ ، ٢٤٥ ، ٣٣٣
|
ـ نابليون الثالث :
|
٨١ ، ١٠٩ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٦٣
|
ـ ابن ناجي :
|
٥٦ ، ١٢٨ ، ٢٢٥ ، ٢٧٩
|
ـ الناصر بن عمار الورتتاني (والد المؤلف) :
|
٣٥
|
ـ نان أوكزان :
|
١١٢
|
ـ النضر بن الحارث بن كلدة ... :
|
٢٤٩
|
ـ النعمان بن المنذر :
|
٢٥٠ ، ٢٩٤
|
ـ النمروذ :
|
١٥٥
|
ـ نمورا (مسيو) :
|
١٥
|
ـ نوح (عليه السلام) :
|
٥٢ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ١٠٢ ، ١٠٥ ، ١٦١ ، ٣٣٢
|
ـ هابيل :
|
١٥٥
|
ـ الهادي بن عمار :
|
٢٣٥
|
ـ الهادي بن مالك التونسي :
|
٣٢٣
|
ـ الهادي المرابط (عامل القيروان) :
|
٣١٧ ، ٣٢٠
|
ـ هارون الرشيد :
|
٧٧
|
ـ هبة الله الأسطرلابي ، أبو القاسم :
|
٢٧١
|
ـ هبة الله الطبيب البغدادي :
|
٢٢٢
|
ـ هري (كونت لوسنبرك) :
|
٥٥
|
ـ الهمذاني :
|
١٩١
|
ـ هميروس :
|
٨٢
|
ـ هند بنت النعمان بن المنذر :
|
٢٥٠
|
ـ هنري الأول :
|
١١٨
|
ـ هنري الثالث :
|
١١٩
|
ـ هنري الثاني :
|
١١٨
|
ـ هنري الرابع :
|
٧٥ ، ١١٩ ، ١٢٨ ، ١٧٥ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٦١
|
ـ هنري الرابع (البابا) :
|
١١٥
|
ـ هوك كابيت :
|
١١٦ ، ١١٧
|
ـ هيرون الإسكندراني :
|
١٠٨
|
ـ الواثق :
|
١٤٥ ، ٢٠٣
|
ـ واجاج اللمطي :
|
٦٣
|
ـ وديع اللبناني (كرم) ، (محرر بجريدة السعادة
بالمغرب) :
|
٢٦٣ ، ٢٦٤
|
ـ وزان الإسرائيلي السوسي :
|
١٦٢
|
ـ الوليد بن يزيد بن عبد الملك :
|
٣١٠
|
ـ يافث بن نوح :
|
٥٢ ، ٩٧ ، ١٠٠
|
ـ يحيى (القاضي) :
|
٣٠٦
|
ـ يحيى بن تميم بن المعز بن باديس :
|
٢٧١
|
ـ يحيى بن غانية الميورقي :
|
٣١٤
|
ـ يحيي الغزال :
|
٧٧
|
ـ يحيى بن محمد بن زياد بن عوانة :
|
٦٥
|
ـ يزيد السلمي :
|
٦١
|
ـ يزيد بن حاتم (المهلبي) :
|
٦١ ، ٧٦
|
ـ ابن اليسع :
|
٢٨٨
|
ـ يعقوب ، إسرايل (عليه السلام) :
|
٢٧٣
|
ـ يعقوب المنصور أبو يوسف (الموحدي) :
|
٧٩ ، ٢٢٧
|
ـ يعقوب المنصور المريني :
|
٨٠ ، ٨١
|
ـ يعقوب بن يهودا ، (سجين) :
|
٢٥٥
|
ـ يعقوب بن يوسف الزعبي (قاضي تونس) :
|
٦٣
|
ـ يوستنيانوس (القيصر) :
|
٢٤٨
|
ـ يوسف (عليه السلام) :
|
٩٤ ، ٢٧٣
|
ـ يوسف بن بلكيز بن مناد :
|
٥١
|
ـ يوسف بن تاشفين :
|
٦٣ ، ٩٨ ، ١١٥ ، ٢٢٠
|
ـ يوسف بن حبوس :
|
٣٠٦
|
ـ يوسف بن خيرون أبو يوسف القضاعي :
|
٢٠٠
|
ـ يوسف بن عبد الرحمن (والي نربون) :
|
٢٨٣
|
ـ يوسف بن عبد المومن بن علي :
|
٢٠٣
|
ـ يوغورطه البربري :
|
٢٤٧
|
ـ يوليوس قيصر :
|
١٥٠
|
ـ يونس بن علي باشا :
|
٣١٤
|
الفهرس الكشاف لأعلام الدول والمدن والقرى
ـ آرل :
|
٣٨ ، ٧٠ ، ٢٦٦ ، ٢٨٣ ، ٢٩٢ ، ٣٠٣ ، ٣٢٣
|
ـ آنسي :
|
١٤٩ ، ١٦٠
|
ـ أبة :
|
٥٦ ، ٥٨
|
ـ أتيكا (مستعمرة) :
|
٩٨
|
ـ أثينة ، أثينا :
|
٣٠٣
|
ـ الأرجنتين :
|
١٠٨ ، ٢٥٤
|
ـ أرياج ليبا :
|
١٣٨ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤١
|
ـ أريانة :
|
٥٦
|
ـ إسبانيا :
|
٤٩ ، ٥١ ، ٧١ ، ١٠١ ، ١٠٨ ، ١١٥ ، ١٤٤
|
ـ إسبرطة :
|
٢٩٦
|
ـ أستراليا :
|
٢٥٤
|
ـ الإسكندرية :
|
٨٤ ، ٨٥ ، ٩٨ ، ١٠٠ ، ١٥٧ ، ٢٠٣ ، ٢١٦ ، ٢٣٠ ،
٣٠٨
|
ـ اصطفورة :
|
٢١٠ ، ٢٨١
|
ـ آشور :
|
١٠٥
|
ـ إشبيلية :
|
١١٥ ، ٢٢٠
|
ـ الأعراض :
|
٥٨
|
ـ أفينيون ، (صخرة أنيون) :
|
٩٠ ، ١٦٧ ، ٢٦٧
|
ـ ألفار :
|
١٣٥
|
ـ ألمانيا :
|
٤٩ ، ١٠٨ ، ١٠٩ ، ١٥٠ ، ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٨٤ ، ١٨٥
، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٢٢٤ ، ٢٤٣ ، ٢٥٤ ، ٢٩٣
|
ـ أليب :
|
١٣٥
|
ـ ألمرية :
|
٢٢٠
|
ـ أمريكا ، أميريكا :
|
٤٨ ، ٦٩ ، ٧٧ ، ١٠٦ ، ١٠٨ ، ١٠٩ ، ١٢٧ ،
|
|
١٦٧ ، ١٦٨ ،
١٨٥ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ١٩٨ ، ٢٣٢ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤
|
ـ الأندلس :
|
٤٠ ، ٤٨ ، ٥١ ، ٦٢ ، ٦٣ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٤ ، ٧٥ ،
٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٨١ ، ٩٨ ، ١٠٠ ، ١٠٨ ، ١١٢ ، ١١٥ ، ١٢٧ ، ١٣٦ ، ١٥٤ ، ١٥٧ ،
١٧٧ ، ١٩٦ ، ١٩٧ ، ٢٠١ ، ٢٠٣ ، ٢١٢ ، ٢٤٠ ، ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، ٢٧٥ ، ٢٧٨ ، ٢٨٧ ، ٢٩٠ ،
٣٠٦ ، ٣١٨ ، ٣٢٩
|
ـ أنكلترا أنكليز ، أنكلتيرة :
|
٤٩ ، ٩٧ ، ١٠١ ، ١٠٩ ، ١٣٢ ، ١٦٦ ، ١٦٨ ، ١٨٦
، ١٩١ ، ١٩٢ ، ٢٢٤
|
ـ أوبريفيل :
|
٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٤٥
|
ـ إيسودان :
|
٣٨ ، ١٥٧ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٥٥ ، ٢٥٩ ، ٢٦٠ ، ٢٨١
، ٢٩٨ ، ٣٣٢
|
ـ إيطاليا ، إيطالية :
|
٤٩ ، ٨٠ ، ٨١ ، ١٠١ ، ١٠٨ ، ١٣٨ ـ ١٣٩ ، ١٥٠ ،
١٨٥ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٢٠٩ ، ٢٢٤ ، ٢٦٠ ، ٢٨٩ ، ٣٠٣
|
ـ إيكس ليبا (إيكس ليبان) :
|
٣٧ ، ٦٧ ، ١٤٦ ، ١٤٧ ، ١٤٨ ، ١٤٩
|
ـ إيكس ونربون :
|
١١٤
|
ـ بابل :
|
١٠٥ ، ١٦١ ، ١٧٤ ، ١٧٦ ، ١٨٠ ، ١٨١ ، ٢٣٧ ،
٢٣٨ ، ٣٠٣ ، ٣٣٢
|
ـ باجة :
|
٢٨٠
|
ـ باريس ، باريز :
|
٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤٨ ، ٦٠ ، ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٧ ،
٧٨ ، ٨١ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ١٠٩ ، ١١١ ، ١٢٢ ، ١٢٥ ، ١٣٠ ، ١٣٥ ، ١٤٢ ، ١٤٥ ،
١٥٠ ، ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٦ ، ١٦٢ ، ١٦٥ ، ١٦٦ ، ١٦٨ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ،
|
|
١٧٤ ، ١٧٥ ،
١٧٦ ، ١٨٠ ، ١٨١ ، ١٨٢ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ، ١٩٢ ، ١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٨ ، ٢١١ ،
٢١٥ ، ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٢٣١ ، ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، ٢٣٥ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤٠ ، ٢٤١ ، ٢٤٢ ،
٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٤٦ ، ٢٥٢ ، ٢٦٠ ، ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، ٢٧٠ ، ٢٨١ ، ٢٩٢ ، ٢٩٣ ، ٢٩٥ ،
٣٠٢ ، ٣٠٣ ، ٣٢١ ، ٣٢٣ ، ٣٢٨ ، ٣٢٩ ، ٣٣٠ ، ٣٣١ ، ٣٣٣ ، ٣٣٥ ، ٣٣٩ ، ٣٤٠
|
ـ بجاية :
|
٧١ ، ٩٨ ، ١١٥
|
ـ البرازيل :
|
١٠٨
|
ـ برايدا :
|
١٣٥
|
ـ البرتغال :
|
١٩٤
|
ـ برقة :
|
٥٠ ، ٩٨ ، ١٠١
|
ـ برلين :
|
٢٢٤
|
ـ برويو :
|
٢٤٤
|
ـ بزنطة :
|
٩٩ ، ١٠٠
|
ـ بسكرة :
|
٤٨
|
ـ البصرة :
|
٢٠١ ، ٢١١ ، ٢٢٨
|
ـ البعلية :
|
٥٧
|
ـ بغداد :
|
٤٨ ، ٧٧ ، ٨٥ ، ٩٨ ، ١١٦ ، ١٤٥ ، ١٥٣ ، ١٧٤ ،
٢٠٠ ، ٢٠٣ ، ٢١١ ، ٣١٨
|
ـ بلجيكا البلجيك :
|
١٠٨ ، ١٦٨ ، ١٨٥ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٢٢٤
|
ـ بلغاريا ، البلغار :
|
٩٦ ، ١٠١ ، ١٩٣
|
ـ بني عيار :
|
٥٦
|
ـ بواتيي ، بلاط الشهداء :
|
١٠٦ ، ٢٦٧ ، ٢٨٩
|
ـ بورج :
|
٢٦٠
|
ـ بوردوازان :
|
١٣٥
|
ـ بولكارد ، بلكارد :
|
١٦٠ ، ١٦٥
|
ـ تبرسق :
|
٢١٠ ، ٢٨١
|
ـ تركيا :
|
١٠٨
|
ـ تشاد :
|
٢٣٠
|
ـ تلمسان :
|
٧٠ ، ١٧٧ ، ٢٣٤ ، ٢٨٨ ، ٣٠٧ ، ٣٠٨
|
ـ تور :
|
٢٥٩
|
ـ تونس ، (المملكة التونسية ، القطر التونسي)
:
|
٦٣ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٧ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٥ ،
٧٦ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٨١ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٦ ، ٩٨ ، ١٠٠ ،
١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٠٧ ، ١١٠ ، ١١٥ ، ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٢٦ ، ١٢٨ ، ١٣٥ ، ١٣٩ ، ١٤٧ ، ١٤٨ ،
١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٥ ، ١٥٧ ، ١٥٨ ، ١٦٥ ، ١٧١ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٨ ، ٢٠١ ،
٣٠٣ ، ٢٠٩ ، ٢١٠ ، ٢١٧ ، ٢١٨ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٤٠ ، ٢٤٦ ، ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٢٦٢ ،
٢٦٤ ، ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ٢٨١ ، ٣٠٤ ، ٣٠٦ ،
٣٠٧ ، ٣٠٩ ، ٣١٠ ، ٣١١ ، ٣١٣ ، ٣١٤ ، ٣١٥ ، ٣١٦ ، ٣١٨ ، ٣١٩ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤ ، ٣٢٩ ،
٣٣٠ ، ٣٣١ ، ٣٣٥ ، ٣٣٦ ، ٣٣٨ ، ٣٣٩
|
ـ الجابون :
|
١٠٨ ، ١٥٣ ، ١٨٧ ، ١٩٤
|
ـ الجديدة ، مازغران :
|
٢٦٣
|
ـ جربة :
|
٤٧ ، ٤٨ ، ٣٠٩
|
ـ الجريد :
|
٤٧ ، ٥٨ ، ٧٠ ، ١٤٨
|
ـ الجزائر ، المغرب الأوسط ، زوجيتانيا :
|
٤٨ ، ٦٩ ، ٨١ ، ٩١ ، ٩٩ ، ٢٤٧ ، ٣١٤
|
ـ حمام الأنف :
|
١٤٧
|
ـ الحيرة :
|
٢٥٠
|
ـ الخنقة :
|
٥٧
|
ـ الدانمارك ، الدنمارك :
|
٤٩ ، ٩٩ ، ١٠٨ ، ١٩٢ ، ١٩٣ ، ٢٩٠ ، ٣٠١
|
ـ دامفدر :
|
٥٥
|
ـ دقة :
|
٤٧
|
ـ دلهي ، دهلي :
|
١٤٥ ، ٢٢٩
|
ـ دمشق :
|
٤١ ، ٨٦ ، ٢١١ ، ٢١٨ ، ٢٤٧
|
ـ ديجون :
|
٩٠
|
ـ ذراع التمار :
|
٥٤ ، ٣١٤
|
ـ رباط الفتح (الرباط) :
|
٧٧ ، ٢١٠ ، ٢٦٣ ، ٢٨٠
|
ـ الرصافة :
|
١٥٣
|
ـ رقادة :
|
١٠٢ ، ٣٣٣
|
ـ روان :
|
١٦٧
|
ـ روسيا ، الموسكو :
|
١٠٠ ، ١٠٨ ، ١٦٨ ، ١٨٥ ، ١٨٠ ، ١٨٧ ، ١٩١ ،
١٩٢ ، ٢١٧ ، ٢٣١ ، ٢٥٤ ، ٢٩٢ ، ٢٢٩
|
ـ رومانيا :
|
١٠١ ، ١٩١ ، ١٩٢
|
ـ رومة :
|
٥١ ، ٨٠ ، ٩٩ ، ١١١ ، ١٢٨ ، ١٧٤ ، ٢٠٥ ، ٢١٨ ،
٢٤٧ ، ٢٦٧ ، ٣٢٠
|
ـ الزهراء :
|
١١٢ ، ٢١٢ ، ٢٧٨
|
ـ سانت هيلانة :
|
٨٤ ، ٢٢٠
|
ـ سبتة :
|
١٠١ ، ٢٣٠
|
ـ سبيطلة :
|
٥٠ ، ٧٠ ، ٩٩ ، ٢١٠ ، ٢٨٠
|
ـ استراسبورغ :
|
١١٣
|
ـ سجلماسة :
|
٥١
|
ـ اسكوتلاندا :
|
١٠٩
|
ـ سوثمبتون :
|
٩٨
|
ـ السودان :
|
٤٧ ، ٥٠ ، ٦٨ ، ٨٤ ، ١١٥ ، ١٣٩ ، ١٩١ ، ٢١١
|
ـ السوس الأقصى :
|
٦٣
|
ـ سوسة :
|
٣٨ ، ٥٦ ، ٥٨ ، ٧١ ، ١٥٧ ، ٢٢٥ ، ٢٧٧ ، ٢٨٠ ،
٣٠١
|
ـ السويد :
|
٤٩ ، ١٠٨ ، ١٦٨ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ١٩٣
|
ـ سويسرا ، سويسرة ، مملكة السويس ، السويس ،
هلفيسيا :
|
٣٧ ، ٤٩ ، ١٤٩ ، ١٥٠ ، ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٧ ، ١٦٠
، ١٨٥ ، ١٩٢ ، ٢٥٨ ، ٢٩٨
|
ـ سيدي أبو سعيد (قرية) :
|
٧٠
|
ـ سيسترو :
|
١٣١
|
ـ الشابية :
|
٥٦
|
ـ شارطروز :
|
١٢١ ، ١٤٢ ، ١٤٣ ، ١٤٥ ، ١٦٢
|
ـ شارن :
|
٧٦
|
ـ شالون سومارن :
|
٢٤٣
|
ـ شامبري ، شامبيري :
|
٣٧ ، ١٤٦ ، ١٦٠ ، ١٦١ ، ٣٣٣
|
ـ شانغاي :
|
١٥٣
|
ـ شقبنارية :
|
٢٨٠
|
ـ صان بياير (قرية) :
|
١٤٥
|
ـ صان جرمان دوفوسي :
|
١٧٥ ، ١٧٦ ، ٢٥٣
|
ـ صان روك :
|
٢٥٦
|
ـ صان كايز :
|
٢٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٦٠
|
ـ صان لوران دوبون (قرية) :
|
١٤٢
|
ـ صان مرتان :
|
١٣٤ ، ١٧٢ ، ١٧٥
|
ـ صبرة ، المنصورية :
|
٥١ ، ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٧٤ ، ٧٧ ، ٢٧٩ ، ٣٣٣
|
ـ صربيا :
|
١٩٢ ، ١٩٣
|
ـ صفاقس :
|
٤٨ ، ٧٠ ، ١٤٨ ، ٢٨٠ ، ٣٠٧
|
ـ صقلية :
|
٥٥ ، ١٠١ ، ٢٢٥ ، ٢٨٩ ، ٣١٧ ، ٣٣٣
|
ـ الصومال :
|
١٩٤ ، ٢٣٦ ، ٢٣٨
|
ـ الصين :
|
٤٩ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ٢٢٩ ، ٢٤١ ، ٢٤٢ ، ٢٤٣
|
ـ طرابلس ، طرابلس الغرب :
|
٤٧ ، ٥٤ ، ١٠١ ، ١٠٢ ، ٣١٤
|
ـ طراسكون :
|
٢٨٣
|
ـ طلورة :
|
٥٥
|
ـ طنجة (طانجة) :
|
٩٦ ، ١٠١
|
ـ طولوز ، طلوز ، طولوزة ، طولوشونة :
|
٣٨ ، ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ٢٧٠ ، ٢٧٤
، ٢٨١ ، ٢٩٨ ، ٣٠٢ ، ٣٠٦ ، ٣٣٤
|
ـ طولون (تولون) :
|
٢١٦
|
ـ العراق :
|
٤٧ ، ٧٠ ، ٧٩ ، ١٨٠ ، ٢٢٨ ، ٣٠٨
|
ـ العين البيضاء :
|
٥٧
|
ـ غرناطة :
|
١٣٦ ، ١٣٧
|
ـ الفار (قرية) :
|
١٣٥
|
ـ فاراين أنركون :
|
٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٦٦
|
ـ فاس :
|
٥١ ، ١٧٤ ، ٢٦٣
|
ـ فالمار :
|
٢٣٢
|
ـ فايزون :
|
٢٥٣ ، ٢٥٤
|
ـ فخ :
|
٥١
|
ـ فرانسا ، فرنسا ، غليا :
|
٣٧ ، ٣٨ ، ٤٠ ، ٤٩ ، ٥٥ ، ٥٦ ، ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٧ ،
٧٠ ، ٧٢ ، ٧٥ ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٨٠ ، ٨١ ، ٨٧ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ، ٩٧ ، ٩٩ ، ١٠١ ،
١٠٧ ، ١٠٨ ، ١٠٩ ، ١١٠ ، ١١١ ،
|
|
١١٢ ، ١١٣ ،
١١٤ ، ١١٥ ، ١١٦ ، ١١٧ ، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٢٥ ، ١٢٧ ، ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٣٣ ،
١٣٧ ، ١٣٨ ، ١٣٩ ، ١٤٩ ، ١٥٠ ، ١٥١ ، ١٦٠ ، ١٦١ ، ١٦٥ ، ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٧١ ، ١٧٢ ،
١٧٦ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ١٨٨ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ٢٠٩ ، ٢١٠ ، ٢١١ ، ٢١٦ ، ٢١٨ ،
٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٢٣٠ ، ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، ٢٣٦ ، ٢٤٣ ، ٢٤٧ ، ٢٥١ ، ٢٥٣ ،
٢٥٤ ، ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٢٦٠ ، ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، ٢٧٤ ، ٢٧٥ ، ٢٨١ ، ٢٨٩ ، ٢٩٣ ،
٢٩٩ ، ٢٩٤ ، ٣٠٢ ، ٣٠٤ ، ٣١١ ، ٣١٣ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤ ، ٣٢٨ ، ٣٢٩ ، ٣٣٠ ، ٣٣١ ، ٣٣٢ ،
٣٣٣ ، ٣٣٥ ، ٣٣٦ ، ٣٣٩
|
فرايب :
|
١٦٢
|
ـ فربايل :
|
٢٥٨
|
ـ فرساي :
|
٣٨ ، ٧٢ ، ١٢٨ ، ٢٤٥ ، ٢٤٦ ، ٢٤٧ ، ٢٥١ ، ٢٥٢
، ٢٦٣
|
ـ فريانة :
|
٢٨١
|
ـ فلانس :
|
٩٠
|
ـ فلورنسا :
|
٢٠٥ ، ٢٠٩
|
ـ فورايب (قرية) :
|
١٤٢
|
ـ فيردان :
|
٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، ٢٦٦
|
ـ فيزيل (قرية) :
|
١٣٧ ، ١٣٨ ، ١٣٩
|
ـ فيشي :
|
٣٨ ، ٤٨ ، ٦٧ ، ١٤٦ ، ١٤٧ ، ٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ،
٢٦٣ ، ٢٦٥ ، ٣٣٣
|
ـ فيفي :
|
٣٧ ، ١٥٦ ، ١٥٨ ، ١٥٩ ، ١٦٠ ، ١٦٣ ، ٢٩٨ ، ٣٠١
|
ـ قابس :
|
٤٦ ، ٥٠ ، ٧٠ ، ١٠١
|
ـ القاهرة :
|
٥١ ، ١٧٤ ، ١٨١ ، ٢١٢ ، ٢٢٩
|
ـ القدس :
|
٨٥
|
ـ قربص :
|
٦٧ ، ٦٨ ، ١٤٧ ، ١٤٨
|
ـ قرطاجنة :
|
٥٥ ، ٥٦ ، ٧٠ ، ٨٠ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠٧ ، ١٩٥ ،
٢١٠ ، ٢٦٧ ، ٢٧٧ ، ٢٨٣ ، ٣٢٣ ، ٣٢٦ ، ٣٣٨
|
ـ قرطبة :
|
٦٣ ، ٧٤ ، ١٧٤ ، ٢٠٣ ، ٢١٢ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨
|
ـ القسطنطينية (الأستانة) :
|
٥٠ ، ٧٧ ، ٨٠ ، ٨٤ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ٢١٠ ، ٢٤٨
|
ـ قشتالة :
|
٨١
|
ـ قصطيلية :
|
٥٨ ، ١٤٨
|
ـ قفصة :
|
١٤٨ ، ٢٨١
|
ـ القيروان :
|
٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤٧ ، ٥٠ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ ،
٥٥ ، ٥٦ ، ٥٨ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٦٣ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩
، ٨٠ ، ٨١ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٣ ، ٩٩ ، ١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٧ ،
١١٥ ، ١١٦ ، ١٢٢ ، ١٢٥ ، ١٢٨ ، ١٣٦ ، ١٥٧ ، ١٧٤ ، ١٨١ ، ١٩٦ ، ١٩٧ ، ٢٠١ ، ٢٠٢ ،
٢٠٣ ، ٢١١ ، ٢١٧ ، ٢١٨ ، ٢٢٠ ، ٢٢٣ ، ٢٢٥ ، ٢٢٦ ، ٢٢٨ ، ٢٣٠ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤٨ ،
٢٥٨ ، ٢٦٣ ، ٢٦٦ ، ٢٧٢ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ٢٨٦ ، ٣٠١ ، ٣٠٥ ، ٣٠٦ ، ٣٠٧ ،
٣١٠ ، ٣١٤ ، ٣١٦ ،
|
|
٣١٧ ، ٣٢٠ ،
٣٢٣ ، ٣٣٠ ، ٣٣١ ، ٣٣٣ ، ٣٣٥ ، ٣٣٨
|
ـ الكارواتيل دوبون :
|
١٥٩
|
ـ الكاف :
|
٤٧ ، ٧٦ ، ٣٢٨
|
ـ كرسكا (كورسيكا) :
|
٢٤٥
|
ـ كركسونة (قرقشونة) :
|
٢٦٧
|
ـ كرونوبل :
|
٣٧ ، ٥٧ ، ٧٥ ، ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٣٣ ،
١٣٤ ، ١٣٥ ، ١٣٦ ، ١٣٧ ، ١٣٩ ، ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٣ ، ١٤٥ ، ١٤٦ ، ١٤٧ ، ١٥٩ ، ١٦٠ ،
١٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٣ ، ١٦٦ ، ١٧٢ ، ٢٨١ ، ٢٩٣ ، ٢٩٨ ، ٣٠٤ ، ٣٣٣ ، ٣٣٤
|
ـ كليرمون أنركون :
|
١٠٩ ، ٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٤٥
|
ـ كوسن ونفاير :
|
٢٥٣
|
ـ الكوفة :
|
٣٨ ، ٢٠١ ، ٢٢٦ ، ٢٢٨ ، ٢٥٠
|
ـ كوكاليو (بإيطاليا) :
|
٢٦٠
|
ـ لاروش :
|
٩٠ ، ١٦٠
|
ـ لاسافوا :
|
١٦٠
|
ـ لاطرونش (قرية) :
|
١٣٣ ، ١٣٤ ، ١٤٦ ، ١٦٢
|
ـ لاكونيا :
|
٢٩٦
|
ـ لاهاي :
|
١٨٧ ، ٢٠٥ ، ٢٨٦
|
ـ لندرة :
|
١٨٧ ، ١٩٨
|
ـ لوزان :
|
١٥٨ ، ١٥٩
|
ـ لوسنبرك :
|
٥٥
|
ـ ليفورنو (بإيطاليا) :
|
٢٦٠
|
ـ ليموج :
|
٣٨ ، ٢٥٦ ، ٢٦٤ ، ٢٦٥
|
ـ ليون :
|
٩٠ ، ١٠١ ، ١٣٠ ، ١٤٢ ، ١٦٠ ، ١٦٢ ، ١٦٥ ، ١٦٦
، ١٦٨ ، ١٧٢ ، ١٧٥ ، ٢٢٤ ، ٢٢٨ ، ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٢٨١ ، ٣٢١
|
ـ ماجر :
|
٢١٠
|
ـ ماكون :
|
٩٠ ، ١٦٦
|
ـ مالطة :
|
١٠١ ، ٢٨٩
|
ـ ماليزيا :
|
١٩١
|
ـ مدائن كسرى :
|
٧٠
|
ـ مدغشقر (مادكسكر) :
|
٢٧٠
|
ـ المدينة المنورة :
|
٣٨ ، ٣٣١
|
ـ مراكش :
|
٦٣ ، ٢٠٣ ، ٢٢٧
|
ـ مرسيليا :
|
٣٧ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٦ ، ١٠٠ ، ١٠٢ ، ١٠٣ ،
١٠٤ ، ١٠٧ ، ١٠٩ ، ١١٠ ، ١١١ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١٢٠ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٥٣ ، ١٥٩ ، ١٦٥ ،
١٦٦ ، ١٦٧ ، ٢٦٠ ، ٢٦٦ ، ٢٩٢ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤
|
ـ مرماجنه (فحص) :
|
٥٢ ، ٩٩
|
ـ مصر :
|
٥٠ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٥٨ ، ٦٠ ، ٦٦ ، ٦٨ ، ٦٩ ،
٧٠ ، ٧٤ ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٩٦ ، ١٠١ ، ١٠٤ ، ١١١ ، ١٥٧ ، ١٧٤ ، ٢٠٣ ، ٢٠٨ ،
٢١١ ، ٢١٢ ، ٢١٥ ، ٢١٦ ، ٢٧٦
|
ـ المغرب الأدنى :
|
٥٢ ، ٩٩
|
ـ المغرب (المغرب الأقصى ، مورة) :
|
٤٨ ، ٤٩ ، ٥٠ ، ٥١ ، ٥٨ ، ٦٢ ، ٧٤ ، ٧٦ ، ٧٧ ،
٧٩ ، ٨٠ ، ٩٥ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١١٥ ، ١٣٥ ، ١٥٣ ، ١٩٥ ، ١٩٦ ، ٢٠٠ ، ٢٠١ ، ٢٢٠ ، ٢٢٥
، ٢٢٦ ، ٢٣٠ ، ٢٦٣ ، ٢٦٤ ،
|
|
٢٨٧ ، ٣٠٨
|
ـ مكة :
|
٥١ ، ٥٣ ، ٧٤ ، ٨٦ ، ٣٠٥ ، ٣٣٠
|
ـ المكسيك :
|
١٦١ ، ٢٨٤
|
ـ ممود :
|
١٣٥
|
ـ منترو :
|
٣٧ ، ١٥٦ ، ١٥٨ ، ١٦٣
|
ـ المنستير :
|
٤٨ ، ٧١ ، ٧٦ ، ٢١٠
|
ـ المهدية :
|
٥٣ ، ٥٤ ، ٥٥ ، ٧١ ، ٧٥ ، ٢٠١ ، ٢١٠ ، ٢٤٨ ،
٢٧١ ، ٣٠٦
|
ـ مونبليي :
|
٢٧٤ ، ٢٧٥
|
ـ نابل :
|
٤٨ ، ٧٦ ، ٢٥٦
|
ـ نابلي :
|
٢٠٥
|
ـ نربون ، نربونة أربونة :
|
١١٤ ، ٢٦٦ ، ٢٧٤ ، ٢٧٥ ، ٢٨١ ، ٢٨٣
|
ـ النرويج :
|
٤٩ ، ١٠٨ ، ١٩٤
|
ـ النمسا :
|
٤٩ ، ١٠٨ ، ١٨٥ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٢٥٤
|
ـ نوفيي :
|
٢٤٤
|
ـ نوميديا :
|
٩٩
|
ـ نيم :
|
٣٨ ، ٧٠ ، ٢١٩ ، ٢٦٢ ، ٢٦٦ ، ٢٨١ ، ٢٨٢ ، ٢٨٣
|
ـ نيويورك :
|
١٠٩
|
ـ هلال (قرية) :
|
٥١ ، ٥٤ ، ٣١٤
|
ـ الهمامة :
|
٤٧
|
ـ الهند :
|
٤٨ ، ١٠٦ ، ١٤٥ ، ١٩٤ ، ٢٢٩ ، ٢٩١
|
ـ هولاندة :
|
١٠٨ ، ١٨٥ ، ١٨٧ ، ١٩٤ ، ٢٠٥
|
ـ ورتتان :
|
٥٦ ، ٥٨
|
ـ اليمن :
|
٥٢ ، ١٩٥
|
ـ يونان :
|
٩٩ ، ١٠٨ ، ١٩٢ ، ١٩٣ ، ٢٩١ ، ٢٩٦ ، ٣١٨
|
الفهرس الكشاف للكتب
ـ الأحكام السلطانية ، الماوردي :
|
٧٤ ، ١٨٨
|
ـ أقوم المسالك في أحوال الممالك ، (أقوم
المسالك إلى معرفة الممالك) : خير الدين التونسي :
|
٣٣٦
|
ـ ألف ليلة وليلة :
|
١٩١
|
ـ الإلياذة ، هوميروس :
|
٨٢
|
ـ أم الدنيا :
|
١٧٠
|
ـ الإنجيل :
|
١٤٣
|
ـ الاستطلاعات الباريسية ، محمد السنوسي :
|
٢٤٦
|
ـ البؤساء (فيكتور هيكو) :
|
٨٢
، ١٦٥
|
ـ بحر الوقوف على علم الأوقاف والحروف ، عبد
الرحمن بن محمد البسامي :
|
٢٧٦
|
ـ البرنس في باريز ، محمد المقداد الورتتاني :
|
٤٠
|
ـ بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد
، يحيى بن خلدون :
|
٣٠٨
|
ـ البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك المغرب
أو البيان لمغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب ، ابن عذاري المراكشي :
|
٢٢٦
|
ـ تاريخ ابن الكردبوس التوزري :
|
٢٣٤
|
ـ تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن
:
|
٩٦
|
ـ التوراة :
|
٩٧ ، ١٤٣ ،
٢٧٣
|
ـ جغرافية البشير صفر :
|
٥٣ ، ٢٤٨ ،
٢٨٧ ، ٢٩١
|
ـ الحديث مع الراية ، محمد بن الأمين الخلصي :
|
٣٣٩
|
ـ حكايات عربية ، كونت آراب ، روكاي :
|
١٩١
|
ـ الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية ،
أبو العلاء بن
|
|
سماك العاملي
المالقي :
|
٢٨٨
|
ـ رحلة أبي بكر ابن العربي :
|
١٩٧
|
ـ رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب
الأمصار وعجائب الأسفار) :
|
٦٩
|
ـ رحلة ابن جبير (تذكرة بالاخبار عن اتفاقات
الأسفار) :
|
١٩١
|
ـ رحلة الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص
باريز) :
|
٢٩٢
|
ـ الرحلة الناصرية ، محمد ابن الخوجة :
|
٥٦ ، ٧٨
|
ـ رحلة محمد بيرم إلى أوروبا ، (صفوة الاعتبار
بمستودع الأمصار والأقطار) :
|
٦٧
|
ـ رقم الحلل ، ابن الخطيب :
|
٢٧٩
|
ـ رياض النفوس ، المالكي القيرواني :
|
٢٠٠
|
ـ الزبور :
|
١٤٣
|
ـ شوق المستهام إلى معرفة رموز الأقلام ، أحمد
بن وحشية النبطي :
|
٢١٦
|
ـ العواصم من القواصم ، ابن العربي المعافري
المالكي :
|
١٩٧
|
ـ الفرق بين التمليك والتوكيل ، محمد بن أحمد
بن عيسى :
|
٦٣
|
ـ القرآن الكريم ، (الفرقان) :
|
١٤٣ ، ١٩١ ،
١٩٥
|
ـ كتاب الأجوبة ، أبو القاسم محمد بن مرزوق
العظومي :
|
٦٤
|
ـ كتاب ابن سديرة :
|
١٩١
|
ـ كتاب الفلاحة ، لابن العوام الإشبيلي :
|
١٢٨
|
ـ مجاني الأدب :
|
١٩٠ ، ٢١٣
|
ـ المجسطي :
|
٢٧١
|
ـ المدونة :
|
٨٨
|
ـ مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار :
|
٢٢٩ ، ٢٤١ ،
٢٨٧ ، ٣٠٧
|
ـ مقامات الحريري :
|
٦٠ ، ١٩٩ ،
٢٠٠
|
ـ مقامات بديع الزمان الهمذاني :
|
١٩١
|
سماك العاملي
المالقي :
|
٢٨٨
|
ـ رحلة أبي بكر ابن العربي :
|
١٩٧
|
ـ مقدمة ابن خلدون : (انظر ابن خلدون)
|
|
ـ الموطأ :
|
٢٠٠
|
المحتويات
استهلال.................................................................. ٧
إضاءة
مقدمة.................................................................. ١١
مسار الرحلة............................................................. ٣٣
ديباجة المؤلف........................................................... ٣٥
بواعث السفر ودواعيه.................................................... ٤٥
صدى التكية............................................................ ٨٢
السفر على وجه البحر كالنفي والأسر....................................... ٨٤
الإقدام على السفر لغير الممالك الإسلامية................................... ٨٧
نص الرحلة.............................................................. ٨٩
قبل السفر إلى فرانسا..................................................... ٨٩
من القيروان إلى باريز...................................................... ٩٠
يوم السفر من تونس إلى فرانسا............................................ ٩١
بين السماء والماء وصف البحر وراكبه....................................... ٩٢
شكل البحر الأبيض وشئونه بين القارت الثلاث.............................. ٩٥
خليج مرسيليا.......................................................... ١٠٢
ممازحة ربان السفينة..................................................... ١٠٣
أطوار الفلك والسير على الماء............................................ ١٠٥
مرسيليا وتاريخها........................................................ ١١٠
تاريخ تأسيس مرسيليا................................................... ١١٢
سكان فرنسا الأصليون.................................................. ١١٣
بين مرسيليا وكرونوبل.................................................... ١٢٠
خيرات الأرض ومحاسن السماء........................................... ١٢١
من القيروان إلى نادي العرفان............................................. ١٢٢
الحياة بالمال؟ أو بالجمال؟................................................ ١٢٥
محصول فلاحة فرانسا................................................... ١٢٨
النباهة والإقدام في صغارهم.............................................. ١٣٠
جبال الألب........................................................... ١٣١
كرونوبل وضواحيها..................................................... ١٣٢
جبال شارطروز......................................................... ١٤٢
المدينة الهادئة........................................................... ١٥٠
فيفي ومنترو........................................................... ١٥٦
بين جنيف وكرونوبل.................................................... ١٦٠
بين كرونوبل وليون...................................................... ١٦٢
ظاهر الأمر وباطن الحقيقة............................................... ١٦٣
بين ليون وباريز......................................................... ١٦٥
باريز.................................................................. ١٧٢
الأذن تعشق قبل العين أحيانا............................................ ١٧٣
أصل التسمية والتأسيس................................................. ١٧٥
سكك المدينة.......................................................... ١٧٦
الحضارة والبداوة في باريز................................................. ١٧٦
تنويع الكلام على باريز.................................................. ١٨٢
مصاريف مجموع الدول بأروبا............................................ ١٨٦
النواب عددهم فوق الخمسمائة........................................... ١٨٦
بالي دولوقزنبور......................................................... ١٨٧
الحسبة والبوليس........................................................ ١٨٨
مدرسة اللغات الشرقية بباريز............................................. ١٩٠
المكتبة الأهلية بباريز.................................................... ١٩٨
اللوفر................................................................. ٢٠٤
ديار الآثار............................................................. ٢٠٩
فوائد النظر في الآثار وتأثيرها على الناظر إذا كان من أهل
الذوق والاعتبار..... ٢١٣
منزلة الآثار من الإنسان في معترك الحياة.................................... ٢١٤
المسلة المصرية في باريز................................................... ٢١٥
الكتابة القديمة......................................................... ٢١٦
في أربع ساعات........................................................ ٢١٧
تروكاديرو.............................................................. ٢١٧
لوكران بالي............................................................. ٢١٧
المعابد والملاجي......................................................... ٢١٨
نوتردام................................................................ ٢١٨
كنيسة مادلاين........................................................ ٢١٩
الملاجي (قبر نابليون أو قصر ليزانفليد).................................... ٢١٩
مستشفى باستور....................................................... ٢٢٢
مستشفى الصدقة بباريز................................................. ٢٢٧
حياة المدن وموقع باريز.................................................. ٢٢٨
ديار التمثيل والملاهي في باريز............................................ ٢٣١
ليونابارك.............................................................. ٢٣٥
مجكسيتي.............................................................. ٢٣٦
شرقي باريز............................................................ ٢٤٣
فاراين أنركون........................................................... ٢٤٤
حول باريز............................................................. ٢٤٦
وداع باريز............................................................. ٢٥٢
وسط فرانسا........................................................... ٢٥٣
إيسودان.............................................................. ٢٥٤
بستان ديزكليز.......................................................... ٢٥٨
البحث من عوائد الفرنساويين............................................ ٢٦٠
فيشي................................................................. ٢٦٠
ليموج................................................................. ٢٦٤
جنوب فرنسا........................................................... ٢٦٥
طولوز................................................................. ٢٦٧
المعابد................................................................. ٢٦٩
ديار العلم............................................................. ٢٧٠
المكتبة العمومية........................................................ ٢٧٠
الآثار................................................................. ٢٧٠
متحف النقش والتصوير................................................. ٢٧٢
منازه المدينة............................................................ ٢٧٣
بين طولوز ومونبليي..................................................... ٢٧٤
مونبليي............................................................... ٢٧٥
الطب................................................................. ٢٧٥
دار الآثار............................................................. ٢٧٦
بستان بيرون........................................................... ٢٧٦
نيم................................................................... ٢٨١
حياض الماء الرومانية.................................................... ٢٨٢
لاتورماني ـ صومعة ماني.................................................. ٢٨٢
آرل في يوم الأحد ٦ جويليه ١٩١٣...................................... ٢٨٣
مصارعة الثيران......................................................... ٢٨٣
نجدة السكان من قديم الزمان............................................. ٢٨٩
خلق الفرنساويين....................................................... ٢٩٢
الأخلاق والعوائد....................................................... ٢٩٤
فصاحة اللسان......................................................... ٢٩٥
الضيافة............................................................... ٢٩٨
المجتمعات.............................................................. ٣٠٢
شبه الفرنساويين بالأمم الغابرة في التمثيل.................................. ٣٠٣
اللباس................................................................ ٣٠٤
اللباس العربي........................................................... ٣١١
البحث والسؤال........................................................ ٣١٢
بين مرسيليا وتونس..................................................... ٣٢٣
وداع مرسيليا........................................................... ٣٢٤
ما يهم المسافر الاحتياط له قبل السفر.................................... ٣٢٦
بعد الإياب............................................................ ٣٣٩
الخاتمة................................................................. ٣٤٠
ملاحق................................................................ ٣٤١
كلمة شكر............................................................ ٣٤٣
التقاريظ............................................................... ٣٤٤
كشاف حضاري وفهارس............................................... ٣٥١
الفهرس الكشاف للأعلام البشرية........................................ ٣٥٣
الفهرس الكشاف لأعلام الدول والمدن والقرى.............................. ٣٧٥
الفهرس الكشاف للكتب................................................ ٣٨٣
|