المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم


المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم


المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم


المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم


كلمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين نبيّنا محمد ، وآله الطيّبين الطاهرين.. وبعد.

إنّ التطوّرات السياسية المتلاحقة التي طرأت على الأمّة قبل تدوين تاريخها ، ابتداءً من السقيفة وإلى نهاية القرن الثاني من الهجرة كان لها أكبر الأثر في تشويه معالم التاريخ الإسلامي ، لمحاولة السلطات السياسة ـ لا سيّما في العهدين الأموي والعباسي ـ توجيه حوادث التاريخ الإسلامي بما يخدم سياستها ويعزّز من وجودها ومن هنا أنزلت عقوبتها باتّباع الفكر المعارض ، ولجمت الأفواه عن قول الحقّ ، وسخّرت جملة ممّن عاشوا على موائدها لأنْ يضعوا لها تفسيراً يتلائم مع رغبتها ، وتبريراً يستر فصائحها على حساب المفاهيم الإسلامية سواء كان ذلك على مستوى رواية الحديث في تمجيد من يشاء الحاكم أو ذمّ من يريد ، أو على مستوى صياغة الحدث التاريخي أو روايته بما يناسب توجّه السلطة وطموحها ، الأمر الذي أدّى بطبيعته إلى وقوف السلطة إلى جانب الفكر المساعد على بقاء منهجها وديموميّة سياستها وتأييده بكلّ قوّة ولو كان شاذّاً.

وما تاريخ أمّتنا السياسي والثقافي إلّا حصيلة أدوار مختلفة بين انحراف واستقامة وخطأ وصواب ، ولهذا علقت بمسيرته خرافات وأساطير ، وشوائب كثيرة ، وألوان دخيلة حتى وصل إلينا وهو يجرّ خطواته في وهن وضعف مكبّلاً بأغلال المعطيات السياسية وتقلّباتها ، والمنعطفات المذهبية وطائفيّتها ، حاملاً أثقال ما جنته على حوادثه في القرون الثلاثة الأولى من عمره ، وبصورة أثّرت اكثيراً على فهم حقائقه ، ومن هنا وجب الاحتراز


من كتب التاريخ نفسها لأنّها قد أسهمت وبشكل مباشر في تصطيح الوعي العالم بجملة واسعة من الحقائق التاريخية لما لحقها من تزوير وتشويش.

ولا يعني هذا الحكم ببطلان مصادر التاريخ الإسلامي كلّها ، بل على العكس ؛ إذ تضمّنت حقائق كثيرة لم تطلها يد التحريف والتزوير ، بقدر ما يعني أنّ بحث أيّة فكرة على أساس تاريخي واقعي يستدعي قبل كلّ شيء التخلّي عن الهالة القدسية التي أحيطت بالتاريخ بكلّ ما فيه من انحرافات وأخطاء ، وتعريته عمّا علق به ، والنظر إليه على أساس كونه مادّة أوّلية لم تنقّح كما ينبغي ، وأنّه مجرّد أداة من أدوات وعي الفكرة موضوع البحث لا أن يكون خاضعاً لأصل الفكرة ، وإلّا ستكون نصوصه المعتمدة مشوّهة في مرحلة سابقة لنتائجه. فالمطلوب إذن هو القراءة الواعية للتحوّلات السياسية والفكرية التي طرأت في تاريخ امّتنا ، وكيف كان أثرها على المجتمع ، وأن يكون التعامل مع كلّ وضع بما يناسب حجمه في إطار موضوعي ، لا أن تختلط الأوراق بشكل عجيب كما نلاحظ في بعض الدراسات التاريخية التي لم تلتفت حتى إلى صدق قانون العلّية العامّة في ربط كلّ حادث بسببه وكل معلول بعلّتة. الأمر الذي يجب أن يلحظ في كلّ دراسة تاريخية خصوصاً إذا ما كان موضوع البحث هو تاريخ المذاهب والفرق الإسلامية ، لما يختزنه هذا الموضوع من حسّاسيّة كبيرة وما يتطلّبه من إجابة علمية على كثير من التساؤلات ، من قبيل السؤال عن الأسباب الحقيقية في نشأة المذاهب والفرق ، ومعرفة علّة وجودها ، وما هي حركة المفاهيم الإسلامية بينها ، وما مقدار حيويّتها وحرارتها ، ودرجة نجاحها ، وقدرتها على التأثير أو إخفاقها ؟ وهل كانت تلك المذاهب والفرق كلّها ـ على التفاوت الملحوظ بينها ـ تمثّل تجربة عملية لمفاهيم الإسلام وإنزالها إلى الواقع اليومي في التطبيق ، وما هو التقييم العلمي الموضوعي لتلك التجارب من خلال الظروف التي أحاطت بها عند نشأتها ؟ وما مدى ارتباطها بالعوامل السياسية المعاصرة لها ، ونوعيّة الأساليب التي


استخدمت في سبيل دعمها وتمكينها أهي فكر السلطة ، أو سلطة الفكر وقوته ؟

وإذا كانت تلك التجارب بأسرها قد جعلت من الإسلام بكلّ مبادئه ومسلّماته مقياساً تقاس عليه الأشياء وميزاناً توزن به الأمور ، فلماذا نرى إذن في تلك الآراء (الإسلامية) مخالفات صريحة للإسلام في منعطفات شتّى ؟!

أليس من الضرورة إذن معرفة القواعد التي انطلقت منها الشرارة الأولى لتلك المذاهب والفرق ، وفهم الأسس التي شيّدت عليها بنيانها ، والدائرة التي اتّسعت لحركتها ، والعوامل التي شاركت في استمرار وجودها أو عدمه ، وعلاقة ذلك بالحاكم سلباً أو إيجاباً ، ودور السلطة السياسية في توفير القوّة الفاعلة في إيجاد الخلاف المذهبي ، وإثارة الحقد الطائفي الذي بلغ من الخسّة والوضاعة درجة أفرزت قول بعضهم : آكل ذبيحة اليهودي وآكل ذبيحة المسلم من المذهب الفلاني ؟!!

إنّ التفاوت المنظور بين المذاهب والفرق في النشأة والمعالم والمنهج والمحتوى يجب أن يكون محفّزاً قويّاً للمسلم على اكتشاف الأصلح منها ، وأمّا كيف يكون ذلك ، فبقياس درجة تقبّله فكر الآخر وسماعه وإن لم يكن صحيحاً في الواقع ، مع القدرة على التنازل عمّا يثبت له خطأ مذهبه بالدليل.

ويمكن للحقيقة أن تنمو في عقيدته من خلال تجربته مع الحلول التي قدّمها مذهبه لمشاكل الأمّة في إطار عقيدتها بالإسلام فكراً وسلوكاً ومقارنتها بالحلول الإسلامية الأخرى ، فإذا ما رآه مثلاً يربّي أتباعه على انخفاض درجة الإرادة في مقاومة الحاكم الظالم ، وتسميته بولي الأمر مثلاً سيدرك إخفاقات المذهب من خلال تجربته مع تلك الحلول وتلمّس نتائجها الوخيمة على أرض الواقع.

وهكذا سيدرك بأنّ تلك المذاهب والفرق لم تقدّم ـ كلّها ـ لاتّباعها مزيداً من الوعي الإسلامي بسبب ما أحدثته من تغيير ، وإنّ الضمانات التي قدّمتها لاتّباعها لم تكن


بتلك الدرجة المطلوبة لتجاوز الامتحان العسير المرتقب ، بل كان بعضها على درجة كبيرة من الضلال والإضلال كما رأينا ذلك في (مفتي الذبيحة).

والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القاري له مسوّغات كثيرة ناجمة عن طبيعة بعض الفرق المنتسبة للإسلام والتي تعثّرت خطوات مسيرتها كثيراً منذ نشأتها المتأخّرة وإلى يوم الناس هذا ، وقد عُرِفَت بتكفيرها سائر المسلمين لمجرّد الاعتقاد بالزيارة ، والتوسّل ، والشفاعة ، حيث اعتبرت كلّ هذا كفراً بواحاً ! وأباحت لاجله دماء المسلمين ! ولا زالت تتخبّط في تصرّفاتها حتى صارت سبباً مباشراً لاتّهام الإسلام بكلّ سماحته وإنسانيّته بالتعسّف والإرهاب !

وسيجد القارىء في هذا الكتاب جهوداً علمية كثيرة ونتائج جديدة تفرّد بها مؤلّفه المحترم ، وهي جديرة بالعناية والاهتمام ، والبحث ، والنقد بهدف التطوير ، والتأمّل أيضاً.

آملين أن يحقّق أهدافه في الثقافة المطلوبة ، والهداية إلى الصراط المستقيم

والله الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة


المُقدَّمةُ

ليست قليلة الكتابات والبحوث التي كُتبت في تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ، منذ أوائل القرن الرابع ، حيث ظهرت أول التصانيف في هذا الموضوع ، وحتىٰ يومنا هذا. غير أن القليل منها بل النادر هو الذي احتوىٰ جهداً تحقيقيّاً جادّاً ، يُخضع للتحقيق العلمي حتى القضايا المشهورة والتي أخذت طريقها إلىٰ سائر ما كُتب في هذا الباب وكأنها ثوابت تاريخية لا نقاش فيها. إذ درجت سائر الكتابات على اعتماد أقوال الكثير من المتقدّمين ، من مؤرخين ومتكلّمين على أنها الحقائق النهائية في موضوع البحث ، بحجّة قول المؤرّخ أو المتكلّم الموثّق في قضايا اُخرىٰ دخلت في إطار تخصّصه. لكن كم من أمر مشهور وقضية استمرّ التعامل معها على أنها مسلّمة قد أثبت التحقيق في أصلها وعرضها على الأسئلة الجادّة أنها قضية لا أصل لها ، وأن الحقيقة في الأمر شيء آخر لم يأخذ نصيبه من الشهرة ولا حظّه في التداول ؟

وفي تاريخ نشأة المذاهب العيقيدية الإسلامية تواجهنا هذه الحقيقة في مواضع متعدّدة ، وجدير بنا أن نتوقّع ذلك منذ الوهلة الأولىٰ ، فالتاريخ تاريخ مذاهب وفرق عاشت في ما بينها فترات طويلة ، وربّما متّصلة من النزاعات والخلافات التي تبلغ ذروتها أحياناً في حروب طاحنة ، وتقف أحياناً أخرىٰ عند مستوى التكفير والتفسيق والقذف بشتىٰ ألوان التُّهم والطعون. ومن ناحية اُخرىٰ فان الكتّاب الذين كتبوا في تواريخها هم كتّاب ينتمون سلفاً إلى إحداها ، ويتعصّبون لها ، ويذبُّون عنها ، ويصوبون مقولاتها ، ويقفون موقفاً سلبياً إزاء سائر الفرق الأخرىٰ التي تختلف معها في مقولاتها ، أو في تاريخها السياسي ، أو في الاثنين معاً. فكيف لا نتوقّع غياب الروح الموضوعية والانصاف في أحوال كهذه ؟

إنّ السبيل الوحيد للخروج من هذه الاشكالية هو اعتماد التجرّد والموضوعية والحياد في قراءة التاريخ ، لوضع كل شيء في محلّه ، واعطاء كلٍّ نصيبه ، ووضع كل قضية في إطارها الموضوعي الصحيح ، دون مزايدة أو تنقيص.

إنّ السجال والصراع العقائديين اللذين اتّسما بالعنف والخشونة غالباً في القرن الأول والثاني من الهجرة قد أفرزا الشيء الكثير مما ينبغي إعادة النظر فيه بروح موضوعية متجرّدة من دواعي ذلك النزاع ، لا سيّما مع ما ينبغي أن يكون تأثّره بتلك الأجواء


شديد الوضوح إلىٰ حدّ لا ينبغي التغافل عنه ، بل لا يتمّ التغافل عنه إلّا مع الخضوع لأدوات النزاع السالفة نفسها والتحزّب لها.

في تلك المرحلة أفرزت هذه النزاعات العديد من الأحاديث الموضوعة لرمي طائفة من الناس بسمة ما ، تنفّر الآخرين منها ، وتقصيها عن دائرة الإسلام والتوحيد. ولئن وضع الكثير من المحققين القدماء والمحدثين الأصابع علىٰ طائفة من هذه الأحاديث ، إلّا أنها ما زالت هي الأكثر رواجاً في تصنيف عدد غير قليل من الطوائف الإسلامية ، الأمر الذي يستدعي المزيد من التحقيق في إرجاع كلّ شيء إلىٰ أصله.

ولعلّ من أكثر القضايا وضوحاً ما نشهده من تسميات منفّرة للعديد من الفرق ، نقطع منذ اللحظة الأولى أنها تسميات أطلقت من الخارج ، ولم تكن منتخبة من أصحابها على الاطلاق.

فلا نستطيع أن نقبل أن طائفة تنسب إلى الإسلام تطلق علىٰ نفسها اسم « الشيطانية » مثلاً ، بل حتى تسميات مثل : « المسجمة » و « المعطلة » و « الرافضة » و « الخشبية » هي تسميات لا يمكن أن تكون مختارة ، بل لا يمكن إلّا أن تكون من وضع فئة قوية لها كلمة نافذة ، استطاعت تعميم هذه التسميات لتكون مفروضة على أصحابها. بل لنا أن نتوقّع أنه لو ترك الأمر لفرقة « المعتزلة » لما اختاروا لأنفسهم هذه التسمية وهم يعتقدون ـ كسائر الفرق ـ أنهم على الحق ، دون سواهم ، أو أنهم على الأقل أقرب إلى الحق من سواهم ، فإذا علمنا من ناحية أخرىٰ أن المؤرّخين يضعون ستة أسباب لنشأة « المعتزلة » وحدها ، علمنا كم دخلت في هذا الموضوع من آراء واتجاهات جديرة بالبحث والتحقيق.

وهذه الدراسة التي نقدّمها في هذا الكتاب ، بتقسيم جديد ، بعد أن كانت قد توزّعت علىٰ مباحث في كتابنا « تاريخ الإسلام السياسي والثقافي ـ مسار الإسلام بعد الرسول ونشأة المذاهب » ، تأخذ علىٰ عاتقها هذه المهمة ، على أمل أن تكون قد قدّمت للقارئ أقرب الصور إلى الحقيقة في موضوع نشأة المذاهب والفرق وفي معالمها الأساسية.

وما توفيقي إلّا بالله ، عليه توكلت وإليه أُنيب.


الفصل الأول

في تسمية المذاهب والفرق

لقد اجتهد الكثير ممّن كتب في الفِرَق الإسلامية والملل والنحل أن يقسّم المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقةً ، تمشّياً مع الحديث الوارد بافتراق الاُمّة على ثلاث وسبعين فرقة (١).

ولأجل هذا فقد وضعوا قواعد ، وأصّلو اُصولاً اعتمدوها في تمييز الفِرَق ليبلغوا بها هذا العدد ، ظانّين أنّهم إن لم يبلغوه ويَقِفوا عنده فقد أخطأوا في الإحصاء ، وطعنوا في الحديث المذكور ! وكأنّهم تعجّلوا قيام الساعة ، فحين أخبر الحديث بحصول هذا العدد فلا بدّ أن يكون قد تمّ ذلك على عهد هذا المصنّف أو ذاك ! وهذا تعجّل ، فالزمن لم يتوقّف عندهم والأحقاب التي أعقبتهم قد أفرزت فِرقاً جديدة لم يعرفوها ، فإذا كان تقسيمهم صحيحاً فقد زاد العدد بعدهم على الثلاث والسبعين !

_____________

(١) أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة ، من حديث أبي هريرة ، ونصّه : « افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ». سنن الترمذي : ح / ٢٦٤٠ ، دار إحياء التراث ـ بيروت ، سنن ابن ماجة : ح / ٣٩٩١ ، دار الفكر ـ بيروت ، المستدرك ١ : ١٢٨ ، حيدرآباد ـ الهند.


إنّهم لم يعرفوا البابيّة (١) ، ولا البهائيّة (٢) ، ولا القاديانيّة (٣) ، بل لم يعرفوا اليزيديّة والعَدَوية التي نجمت في أواخر القرن السادس الهجري ، وربّما أتى الزمان بعدهم بفرق جديدة اُخرى كالوهابية التي لم تدخل ـ وقتئذ ـ في حساباتهم.

اُسس خاطئة في التمييز :

وثَمَّ خطأ آخر قادهم إليه هذا الظنّ ، إذ وجدوا أنفسهم مضطرّين إلى التوسّع في التفريع ، حتى عدّوا فِرقاً وميّزوها في حين لم تكن تملك شيئاً من مقوّمات الفِرقة المستقلّة ، وغالباً ما تكون قول رجل واحد أو بضعة رجال (٤).

وقد طعن الشهرستاني هذه الطريقة ، فقال : من المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كلّ من تميّز عن غيره بمقالةٍ من عُدَّ صاحب مقالة ، وإلّا فتكاد تخرج المقالات عن حدّ الحصر والعدّ ، فلا بدَّ من ضابط في مسائل هي اُصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافاً يعتبر مقالةً ، ويُعدّ صاحبه صاحب مقالة (٥).

لكنّ الشهرستاني حين وضع هذا الضابط ، خرج عليه بالنحو الذي ينتهي بالفِرق إلى ثلاث وسبعين فرقة !! في حين أن بعضها لا يمتلك من الأصول

_____________

(١) فرقة أنشأها الميرزا علي بن محمّد الشيرازي سنة ١٨٤٣ م ، وهو آنذاك ابن تسع عشرة سنة ، وتلقّب بالباب.

(٢) فرقة أسّسها خليفة الباب صاحب البابيّة ، وتَلقَّب بالبهاء ، وتوفّي سنة ١٨٩٢ م.

(٣) فرقة أسّسها ميرزا غلام أحمد القادياني ، المتوفّى سنة ١٩٠٨ م.

(٤) اُنظر مثلاً : فِرق الشيعة / للنوبختي ـ من أعلام القرن الثالت الهجري ، الفرق بين الفِرق / للإسفرائيني (٤٢٩ هـ).

(٥) الملل والنحل / الشهرستاني ١ : ٢١ ـ مكتبة الانجلو مصرية ـ القاهرة.


والقواعد ما يبرّر عدّه فرقة مستقّلة.

تحديد اُصول المذاهب وتاريخ تسميتها :

ثمّ ظهرت ألوان خطيرة من التعسّف حين ذهب المتكلّمون والمؤرّخون إلى تحديد تأريخ نشأة كلّ واحدة من الفِرق ، وتعيين الاُصول التي استقت منها عقائدها.

فعند غياب المعالم الثابتة لذلك التاريخ ، وغياب الأدلّة القطعية على انتسابها إلى تلك الاُصول ، فسوف يُضطرّ هؤلاء إلى إقحام آرائهم الشخصيّة في ذلك ، ولم تخلُ الآراء دائماً من ميلٍ إلى فئة ، وهوىً مع طائفة ، وتحامل على اُخرى.

فأدّى ذلك إلى ظهور أخطاء كثيرة ، وقاد إلى مزيد من الغموض ، كما حمّل كثيراً من الفرق أبعاداً غريبةً عليها.

ومن أمثلة ذلك : ما ذهب إليه البعض من إرجاع الكثير من الفِرق الإسلامية إلى اُصول غريبة عن الإسلام ، كاليهودية والنصرانية والمجوسية واليونانية والهندية.

وقد ظهر هذا الاتّجاه قديماً في كتب الملل والنحل ، ومضى عليه ابن تيميّة وتطرّف فيه (١).

وأخذ به الكثير من المتأخّرين ، وأكثر المستشرقين (٢).

_____________

(١) كما في : (الحمويّة الكبرى) و (اقتضاء الصراط المستقيم) و (منهاج السنّة : ج ١) ومن عباراته المتكرّرة في وصف بعضهم قوله : (هؤلاء أفراخ الفلاسفة ، وأتباع الهند واليونان ، وورثة المجوس والمشركين وضلّال اليهود والنصارى والصابئين).

(٢) من أمثال : فلهاوزن ، وجولد تسهير ، ونيكلسون.


بينما ذهب بعض المتأخّرين إلى نظرية مضادّة نفت ذلك النوع من التأثّر ، ورأت أصالة الفِرق الإسلامية على اختلافها ، فقال الدكتور النشّار ملخّصاً وجهة نظره في هذه المسألة : إنّ فلسفة أيّة اُمّة من الاُمم هي انبعاث داخلي عقلي يعبّر عن الروح الحضارية لهذه الاُمّة ، وأنّه ليس من المعقول أن تتشابه الانبعاثات الداخلية العقلية لاُمّتين مختلفتين أشدّ الاختلاف جنسياً وعقلياً ولغوياً ، وإنّ فلسفة اُمّةٍ ما من الاُمم لا تخرج عن دائرة السنّة التي تضعها هذه الاُمّة ، ومن خرج عن هذه الفلسفة لُفظ حتماً من الدائرة العقلية ، ولم يَعُد يمثّل فلسفياً سوى فكره الذاتي (١).

وقال الدكتور محسن عبد الحميد : إنّنا لو راجعنا بدء تحرّك الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى في صدر الإسلام ، لحصل عندنا يقين كامل أنّه هو الذي ولّد الحركة الفكريّة التي حدثت في ما بعد ، والتي أرادت أن تلتمس من القرآن الكريم اُسس انطلاقها في المجتمع (٢).

ـ فبينما ذهب أصحاب الرأي الأوّل إلى أنّ عقيدة الجبريّة ؛ التي دعا إليها الجهم بن صفوان ، ترجع إلى أصل يهودي ، وأنّ أول من تكلّم بها : طالوت بن أعصم اليهودي ، وقد بثّها إلى إبان بن سمعان ، وبثّها إبان إلى الجعد بن درهم ، وأخذها الجهم بن صفوان من الجعد بن درهم (٣).

_____________

(١) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام / سامي علي النشار ١ : ٢١١ ـ الطبعة الثانية ، وعنه الدكتور أحمد محمود صبحي / نظرية الإمامة : ١٠ ـ دار المعارف بمصر.

(٢) تطوّر تفسير القرآن / الدكتور محسن عبد الحميد : ١٠٠ ـ جامعة بغداد ـ ١٤٠٨ هـ.

(٣) مجموع فتاوى ابن تيمية / جمع وترتيب : عبد الرحمن بن قاسم النجدي


وأنّ عقيدة القدرية ؛ التي دعا إليها معبد الجهني ، وغيلان الدمشقي ، إنّما ترجع إلى أصل نصراني ، فإنّ رجلاً نصرانيّاً يدعي سوسن كان قد أظهر الإسلام فأخذ عنه غيلان الدمشقي هذه العقيدة ، وأخذها معبد عن غيلان ، ثمّ إنّ ذلك النصراني قد ارتدّ وعاد إلى نصرانيّته (١).

فإنّ أصحاب الرأي الثاني القائل بالأصالة قد ذهبوا إلى غير ذلك ، فقالوا : إنّ ظهور الجبرية والقدرية معاً كان من داخل المجتمع الإسلامي ، ومن أثر الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى فيه ، وذلك : أن انتهاء حكم الخلافة وانتقاله إلى الاُمويّين وتسلّطهم على العباد وابتعادهم عن تطبيق العدالة الإسلامية ، كان مقدّمة منطقية للحركات المضادّة التي قامت ضدّهم ، ممّا دفعهم إلى العنف الدموي ، فاحتاجوا حينئذٍ إلى تأويل بعض الآيات القرانية التي يدلّ ظاهرها على الجبر لتسويغ أعمالهم والقول بإن الإرادة الإلهية اقتضت أن يفعلوا ذلك ، وأنّهم مجبورون في أعمالهم.. أو أنّ تلك الإرادة هي التي قدّرت أن يأتوا إلى الحكم ليفعلوا ما يفعلوا..

ثمّ إنّ دعوة الاُمويين لتثبيت دعائم هذه النظرية ، كانت سبباً مهمّاً لظهور الاتّجاه القدري الذي أنكر الجبر ونادى بحرية الاختيار الانساني ، وأوّل من نادى بذلك : التابعي الجليل والمحدّث الصدوق مَعبد الجهني (٢) !

فمعبد الجهني حسب النظرية الاُولى واحد من فراخ النصارى ، وأمّا في هذه

_____________

٥ : ٢٠ ، المذاهب الإسلامية / محمّد أبو زهرة : ١٧٤ـ المطبعة النموذجية ـ القاهرة.

(١) المذاهب الإسلامية : ١٨٧.

(٢) نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ١ : ٣١٤ ـ ٣٣٦ ، تطور تفسير القران : ١٠١.


النظرية فهو التابعي الجليل والمحدّث الصدوق !

ـ ويذهب أصحاب الرأي الأوّل إلى أنّ التصوّف يعود إلى اُصول غير إسلامية ، إذ صنّف أحمد أمين الصوفيّة إلى ثلاثة أصناف : صنف تأثّر بالفلسفة اليونانية ، وصنف تأثّر بالفلسفة الهندية ، وأخذ الصنف الثالث اُصوله من النصرانية.

وعن الصنف الثالث يقول : أخذوا : (شيخ الطريقة) و (المريد) كما عند النصارى : (الكاهن) و (المهتدي) ! وأخذوا منهم نظام الرهبنة ، وأخذوا منهم أيضاً حلقات الذكر ونظامها (١).

وهذا التصنيف أقرب إلى تصنيف المستشرقين منه إلى تصنيف ابن تيميّة ، فابن تيميّة يستثني طائفة من الصوفية فيصحّح عقائدهم وسلوكهم ، ويذكر من أمثلتهم : الجُنيد ، وعبد القادر الجيلي ، وسهل التستري (٢).

أمّا المستشرقون : فمنهم من ذهب إلى أنّ الصوفية اُخذت عن النصرانية (٣) ، ومنهم من جعلها يونانيّة الأصل حتّى من حيث التسمية ، حين رأى مناسبةً بين كلمة (صوفية) وكلمة (سوفيا) اليونانية التي تعني : الحكمة. فهي تُشابه الصوفية لفظاً ومعنىً (٤) !

_____________

(١) يوم الإسلام / أحمد أمين : ٨٦ ـ ٨٧ ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة.

(٢) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان / ابن تيمية : ٩٨ ، جماعة الدعوة إلى القران والسنّة ـ بيشاور ، وغيره.

(٣) مثالهم نيكلسون ، اُنظر : تطوّر تفسير القرآن : ١٠٠.

(٤) اُنظر : التصوّف في الإسلام / عمر فرّوخ : ٢٤ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ ١٤٠١ هـ.


لكن هذه النظرية الأخيرة بالخصوص تعرّضت للنقض من قِبَل مستشرق آخر ـ تيودور نولدكه ـ حين رأى أنّ السين اليونانيّة تثبت عند التعريب سيناً ، ولا تقلب صاداً ، فكلمة (فيلوسوفيا) تصبح بالتعريب (فلسفة) لا (فلصفة) (١).

بينما ذهب أصحاب الرأي الثاني إلى أنّ حركة الزهد والتصوّف الإسلامي كانت ثمرة طبيعية للمبادئ الأخلاقية التي رسمها القرآن الكريم للحياة البشرية وطبّقها الرسول الكريم وصحابته في حياتهم (٢).

والحقّ أنّه ينبغي أن يضاف إلى هذا ما كان للأوضاع السياسية من أثر كبير في لجوء الكثير من أهل العلم إلى طلب العزلة وحياة الزهد ، والذي يعدّ النواة الاُولى لحركة التصوّف في الإسلام.

وقد أشار الغزالي إلى هذا إشارة واضحة في قوله : إنّه لمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قومٍ تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام ، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم ، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمرّ على الطراز الأوّل وملازم صفو الدين ، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا (٣).

كما ساعد على نموّ التصوّف اليأسُ الذي أصاب الناس من الحكومات المتعاقبة المتطاحنة ، والبعدُ عن حقيقة الفقه في الدين ، فدفعهم كلّ ذلك إلى الانزواء عن حياة يرونها مليئة بالمظالم والمفاسد ، مع غياب الأمل في

_____________

(١) التصوّف في الإسلام : ٢٤.

(٢) تطوّر تفسير القرآن : ١٠٠.

(٣) حجّة الله البالغة / الدهلوي ١ : ٣٢٢ ـ دار الكتب الحديثة ـ القاهرة.


الإصلاح ، فوجدوا في الصوامع والتكايا اُنساً في العبادة ينقذهم من كلّ اضطراب يبعثه في النفوس أزيز الدنيا وتناقضاتها.

بين التأصيل والتهجين :

إنّ النظرية الاُولى وإن بدت وكأنّ لها شواهد من الواقع ، إلّا أنّها لم تكن موفّقة تماماً ؛ لأنّها جاوزت حدّ الاعتدال أحياناً كثيرة ، إذ إنّ ما اعتمدته من شواهد واقعيّة هو في الغالب لا يصلح دليلاً على ما قطعت به تلك النظرية من قول ، كما أنّه كثيراً ما يكون من رصيد النظريه الثانية ، نظرية التأصيل.

ـ فإذا كانت السبئيّة (١) والراوندية من آثار الديانات القديمة (٢) ، فإنّ مصيرهما هو النبذ والطرد من الدائرة العقلية الإسلامية..

ـ وإذا كان المعتزلة قد تأثّروا بالفلسفة القديمة ، فهم لم يأخذوا عقائد اليونان والهنود والفرس ، وإنّما أخذوا مناهج البحث والاستنباط ، فتأثّروا مثلاً بالمنطق الأرسطي ، والمنطق لغة نافعة في البحوث العقلية ، وليس هو لغة عقيدة ، أي أنّهم أخذوا آلة البحث ، ولم يأخذوا سَيره ونتائجه.

ولكن كلّ هذا لا يعني انعدام التأثّر بالعقائد الغريبة بالكامل ، وأظهر ما يكون هذا التأثّر لدى الفرق الغالية على وجه الخصوص ، ومع هذا فالغلو ليس كلّه اقتباس ، بل لمّا كان الغلوّ هو منتهى التطرّف الديني ، فقد يصيب الشذّاذ من كلّ ملّة دون أن يقتبس بعضهم من بعض.

ربما نرى في النقطة اللاحقة بعض آثار التأثّر والاقتباس عند غير الغلاة..

_____________

(١) السبئيّة كما يصوّرها المؤرّخون ليس لها حقيقة تثبت أمام التحقيق.

(٢) اُنظر : المذاهب الإسلامية : ١٨.


أين يُصنّف أصاب التجسيم ؟

اتّفق أصحاب النظريّتين الاُولى والثانية على أنّ القول بالتجسيم دخل إلى المسلمين من عقائد اليهود واليونان وغيرهم (١). وقد تجسّد هذا القول كمذهب خالص لدى الكرّامية ، أتباع محمّد بن كرّام (٢). وقد اخترنا هذا الاتّفاق على أصل عقيدة المجسّمة بالذات لأنّه أمر يثير الاستغراب حقّاً..

إذ إنّ القائلين بالتجسيم هم أكثر الناس رجوعاً إلى الحديث ، حتى عُدّ التجسيم من خصائص الحشوية من أصحاب الحديث ، والظاهرية المتمسّكين بظواهر النصوص (٣) !

فإذا كانت اُولى العقائد التى دُوّنت على المجسّمة قولهم : إنّ الله تعالى على العرش اسقراراً ، وأنّه بجهة الفوق لا غير ، مماسّ للعرش من جهته العليا ، وأنّه قد امتلأ به العرش ، أو أنّه ـ تعالى شأنه ـ على بعض أجزاء العرش ، على قولين لهم ، كما جوّزوا عليه تعالى الانتقال والتحوّل والنزول (٤)..

إذا كانت تلك هي عقائد المجسّمة ، فهذه جميعها داخلة في عقائد أصحاب الحديث والظاهرية ، بل قد تطرّقت إلى الفقهاء من أصحاب الحديث ! ولعلّ

_____________

(١) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٨٤ ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ١ : ٣٣١ ، تطوّر تفسير القرآن : ١٠٢.

(٢) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٩٩.

(٣) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٩٦ ، تلبيس إبليس / أبو الفرج ابن الجوزي : ١٣٤ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤٠٧ هـ.

(٤) الملل والنحل ١ : ٩٩.


أشهرهم في ذلك ابن تيميّة..

لقد نصر ابن تيميّة تلك العقائد بكلّ قوّة وكافح عنها طويلاً ، وصنّف فيها كثيراً ، وأثبت القول بالجهة والاستواء والانتقال والنزول (١). ودافع عن القول بامتلاء العرش به تعالى ، ومع ذلك فهو لم ينكر القول بأنّه تعالى على بعض العرش ، ولا عدّه في الأباطيل والموضوعات !

واحتجّ ابن تيميّة لتلك العقيدة برواية عبد الله بن خليفة التي تنصّ على : « أنّ كرسيّه وسع السماوات والأرض ، وأنّه ليقعُد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ، وإنّ له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا رُكب ، من ثقله » !

فقال ابن تيميّة : يروي هذا الحديث بالنفي ـ أي « ما يفضل منه أربع أصابع » ـ ويروي بالإثبات ـ أي « ما يفضل منه إلّا أربع أصابع » ـ قال : ولفظ النفي لا يَرِد عليه شيء (٢) !

غيبة المعايير الثابتة :

ومنهجيّاً : إنّ هنا حقيقة مهمّة ، وهي أنّه حين تُفتح الأبواب لإقحام الآراء من غير أن تكون هناك ضوابط محدّدة يتمّ التزامها ، فسوف تغيب معالم الحقيقة ، وتظهر للتاريخ وجوه شتّى قد لا تتشابه في شيء ، بل قد تكون متنافرة تماماً.

نعرض هنا اُنموذجاً واحداً خالياً من التعقيد يعطينا صورة عن تلك الوجوه المتنافرة لحقيقة واحدة ، ومثالنا هذا عن المعتزلة :

ـ ففي تفسير نشأة المعتزلة ، قال بعض الكتّاب : إنّ منشأ الاعتزال كان على

_____________

(١) اُنظر له : الحموية الكبرى ، شرح حديث النزول ، مجموع الفتاوى ج ٥ ، ٦.

(٢) منهاج السنّة / ابن تيميّة ١ : ٢٦٠ و ٢٦١ ـ المكتبة العلمية ـ بيروت.


أيدي جماعة من أصحاب عليّ عليه‌السلام اعتزلوا السياسة واعتزلوا كلّ الناس بعد الصلح الذي تمّ بين الحسن عليه‌السلام ومعاوية بن أبي سفيان (١).

ـ فيما نسبهم آخرون إلى الجماعة الذين اعتزلوا الحرب في خلافة عليّ عليه‌السلام ، ومنهم : سعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، ومحمّد بن مسلمة ، واُسامة بن زيد ، فقالوا : هؤلاء هم سَلَف المعتزلة إلى الأبد (٢).

في حين ليس لهذين الاعتزالين أي صلة بجملة العقائد التي ميّزت فرقة المعتزلة !

وأيضاً فإذا كان مجرّد الاعتزال هو الأصل الذي يصحّ أن تُنسب إليه الفرقة المعروفة ، فلماذا لا يكون سعد بن عبادة هو أمام المعتزلة وسلفها ؟

فسعد بن عبادة ، شيخ الأنصار ، هو أوّل من اعتزل الناس بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقي معتزلاً حتى قُتل بعد سنين في عهد عمر !

ـ أمّا عبد الرحمن بدوي ، فقد ذهب إلى أنّ انطلاق أول مبادئ المعتزلة ـ وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين في مرتكب الكبيرة ـ إنّما كان فكرةً سياسية بحتة اتّخذوها ذريعة لاعتزال التنازع المحتدم بين أهل السنّة والخوارج في هذه المسألة السياسية الدينية الخطيرة (٣).

ـ بينما ذهب بعض المستشرقين إلى أنّهم سمّوا معتزلة لأنّهم كانوا زهّاداً

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ٢٠٧ نسبه إلى أبي الحسن الطرائقي في كتابه (ردّ أهل الأهواء والبدع).

(٢) فِرق الشيعة / النوبختي : ٥ ـ المطبعة الحيدرية ـ النجف ـ ١٩٣٦ م.

(٣) مذاهب الإسلاميّين / عبد الرحمن بدوي ١ : ٣٧ ـ دار العلم للملايين ـ ط ٣ ـ ١٩٨٣ م.


أتقياء ، ابتعدوا عن الدنيا وملاذّها (١).

ـ ويزداد الأمر غموضاً في الرأي الذي يضيفه أحمد أمين بقوله : لنا فرض آخر بتسمية المعتزلة ، لَفَتَنا إليه ما قرأناه في (خطط الشام) للمقريزي ، من أنّ بين الفرق اليهودية التي كانت منتشرة في ذلك العصر وما قبله طائفة يقال لها « الفروشيم » وأنّ معناها : المعتزلة !

قال : وذكر بعضهم أنّ هذه الفرقة كانت تتكلّم في القدر ، فلا يبعد أن يكون هذا اللفظ قد أطلقه على المعتزلة قوم ممّن أسلموا من اليهود لما رأوا الفرقتين من الشبه (٢) !

ـ وهذا مخالف لما قال به آخرون من أنّ شيوخ المعتزلة الأوائل قد تأثّروا بمَعبَد الجهني الذي كان قد أخذ عقيدته في القَدَر عن سوسن النصراني الذي أسلم ثمّ ارتدّ نصرانياً (٣).

وخالف القولين معاً الشيخ أبو زهرة حين رأى أنّ عقائد المعتزلة قد ظهرت نتيجة التأثّر بالفلسفة القديمة ، يونانية وهندية وفارسية ، لا اليهودية ولا النصرانية (٤).

ـ وخالف الجميع من نَسَب المعتزلة إلى أبي الأسود الدؤلي (٦٩ هـ) صاحب الإمام علي عليه‌السلام (٥).

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٢) المذاهب الإسلامية : ٢٠٩ عن فجر الإسلام لأحمد أمين.

(٣) الملل والنحل ١ : ٣٥.

(٤) المذاهب الإسلامية : ١٨ ـ ١٩.

(٥) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية / محمّد عمارة : ١٨٠ ـ المؤسسة العربية


وهكذا تتعدّد التفسيرات وتتناقض لحقيقة واحدة !

جذور التسميةُ وأسبابها :

كيف وقع الاختيار على تلك المسمّيات التي عُرفت بها الفِرق الإسلامية ؟

من المسلّم أنّ الاسم لم يولد مع الفرقة ، وإنّما يُطلق عليها بعد ولادتها ، فكيف تمّ اختيار هذا الاسم أو ذاك ؟

هل كان زعيم كلّ فرقة هو الذي يتولّى تسمية فرقته ؟ أم كان أصحاب الرأي فيها يتشاورون ليتّخذوا لفرقتهم اسماً تُعرف به ؟

إنّه ليس من المعقول أبداً أن ينبري زعماء فرقةٍ ما وكبراؤها ـ وهم بلا شكّ يعتقدون أنّهم أولى الناس بالحقّ لأنّهم دون سواهم على هدى القرآن والسنّة ـ ثمّ ينتخبون لأنفسهم اسماً مثل : « المعطّلة » أو « المعتزلة » أو « الخوارج » !

فكيف مع أسماء اُخرى هي أشدّ فظاظة وأدعى للنُفرة ، من مثل : « الخشبية » أو « الشيطانيّة » ؟!

إنّ نظرة واحدة إلى تلك الأسماء ونظائرها تبعث إلى يقين لا شكّ فيه بأنّها أسماء لا تصدر عن أصحاب هذه الفرقة ، أو تلك ، أنفسهم ، ولا عن جهة محايدة تنظر إلى شتّى الفرق بعين واحد ، إنما يستطيع المرء أن يقطع بأنّها لا تصدر إلّا عن خصم لا يعرف اللين والمداهنة.

فأي خصمٍ هذا الذي إذا أذاع بياناً ذاع وانتشر ، وإذا أطلق على طائفة اسماً نفذ واشتهر ، حتى تستجيب له تلك الفرقة نفسها وترتضيه عَلَماً عليها ؟!

_____________

للدراسات والنشر ـ ط ١ ـ ١٩٧٧ م.


لا بُدّ أن يكون هو الخصم الأقوى في الميدان !!

ـ صحيح أنّه قد تأتي التسمية نسبةً إلى الرجل الذي تنتسب إليه الطائفة ، فقيل : « الزيدية » ، نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، و « الجهمية » نسبةً إلى الجهم بن صفوان ، و « الكرّامية » نسبة إلى محمّد بن كرّام ، وهكذا..

ـ أو قد تلاحظ في الطائفة مناسبة ما ، فتُشتق التسمية من تلك المناسبة ، فقيل : « الخوارج » لأنّهم خرجوا على الإمام الواجب الطاعة ، و « الرافضة » لأنّهم رفضوا زيد بن عليّ ، و « الخشبية » لأنّهم قاتَلوا بالخشب ، أو طافوا حول الخشبة التي صُلب عليها زيد..

غير أنّه في الحالين لم يخرج الأمر عن تلك القاعدة الواقعية ، فهي تسميات صدرت من خارج تلك الطوائف لا من أصحابها ، ومن الخارج الغالب ، فليس من شأن المغلوب أن يفرض دعاياته على الغالب الأقوى ، كما ليس من المعقول أن تختار تلك الطوائف لأنفسها مثل تلك الأسماء المنفّرة ، بل لو ترك الأمر إليها لما انتخبت إلّا أتّم الأسماء وأكثرها دلالة على ملازمة الصراط المستقيم !

ولو قُدّر أن يكون المغلوب غالباً لكان من الطبيعي أن تتبدّل الأسماء بتبدّل المواقع !

وهذه أمثلة من الواقع شاهدة على تلك الحقيقة :

١ ـ في أثناء ثورة زيد الشهيد رضي‌الله‌عنه جاءته طائفة من جُنده فطلبوا إليه أن يبرأ من الخليفتين أبي بكر وعمر ، فرفض ذلك ، فرجع اُولئك عنه ورفضوا القتال معه.

ففي هذه الواقعة ـ على فرض صحّتها ـ رفضان : زيد يرفض مبدأ اُولئك ، واُولئك رفضوا قيادة زيد.. ويلاحظ أيضاً أنّ زيداً رضي‌الله‌عنه هو الذي ابتدأ بالرفض ،


فلمّا رفض ما طلبوه منه اعتزلوه..

إذن كان بمقدور اُولئك أن يطلقوا على زيد الشهيد وأتباعه اسم « الرافضة » ! لكنّ الذي حصل هو العكس تماماً ، فإنّ زيداً وأتباعه هم الذين أطلقوا على اُولئك هذا الاسم ليثبت علماً عليهم فلا يُعرفون إلّا به !

والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ زيداً وأتباعه كانوا هم أصحاب الرأي الغالب وأصحاب الثورة التي استمرّت بعد تخاذل اُولئك وانسحابهم من الميدان.

ولا يفهم من هذا أنّنا ندين زيداً الشهيد ، معاذ الله ، وإنّما نسجّل تلك الواقعة التي أفرزت طائفةً جديدةً واسماً جديداً ، نسجّلها كما هي.

ـ والمذكور آنفاً في أصل الرافضة هو المشتهر بين أصحاب الفِرق (١) وبعض أصحاب التاريخ (٢) ، لكنّه لا يصمد للتحقيق رغم شهرته ، وكم من مشهورٍ لا أصل له !!

فالرفض مصطلح سياسي يراد به مخالفة الحاكم وترك طاعته ، وأصحاب هذا الموقف يسمّون : « الرافضة ».

قال ابن منظور : الروافض جنود تركوا قائدهم وانصرفوا ، فكلّ طائفة منهم

_____________

(١) الفَرق بين الفِرق / البغدادي : ٢٥ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ، الملل والنحل ١ : ١٣٩ ، منهاج السنّة ١ : ٨.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٠ ـ ١٨١ ـ دار التراث ـ بيروت ـ ١٩٦٧ م ، الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٥ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ـ دار صادر ـ بيروت ـ ١٩٨٢ م ، تاريخ ابن خلدون ٣ : ١٢٤ ـ تحقيق الاستاذين : خليل شحادة وسهيل زكار ، البداية والنهاية / ابن كثير ٩ : ٣٦١ ـ دار إحياء التراث العربي ـ ١٤١٣ هـ.


رافضة ، والنسبة إليهم رافضيّ (١). وقد أطلق معاوية هذا اللفظ على طائفة من أنصاره تركوا عليّاً عليه‌السلام وقدموا إليه يقودهم مروان بن الحكم ، فكتب معاوية إلى عمرو بن العاص ـ وكان في فلسطين ـ كتاباً قال فيه : أمّا بعد ، فإنّه كان من أمر عليّ وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة (٢)..

فهؤلاء الرافضة نواصب إذن !!

وأيضاً فهم أسبق نشأةً من رافضة زيد ، فلماذا انصرف اسم الرافضة إلى اُولئك دون هؤلاء ؟ إنّها مصداق آخر من مصاديق ما ذكرناه في تسمية الفِرق.

ومن ناحية اُخرى فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني ثورة زيد مفصّلةً ولم يذكر فيها هذه القصّة ، بل الذي ذكره ـ وهو مذكور عند غيره أيضاً ـ يفيد تكذيبها ، إذ ذكروا أنّ زيداً قد اضطُرّ إلى المواجهة قبل الموعد الذي عيّنه لأصحابه وأنّ الكثير منهم قد حبسهم الوالي في المسجد الجامع قبل التحاقهم بالمعركة التي وقعت فجأةً قبل أوانها المحدّد عندهم ، فلمّا وجد زيد نفسه في قلّة من أصحابه يقاتل يوماً بعد آخر ، قال لأحد قادة جنده : أتخاف أن يكونوا قد فعلوها حسينية ؟ يريد أنّهم يخذلوه كما خذلوا الحسين عليه‌السلام ! فلو كان يعلم أنّهم قد رفضوه ، وأنّ شيئاً من ذلك الحوار والرفض قد حصل ، لما قال هذا.. ثمّ بعد ذلك توجّه بمن معه نحو المسجد الجامع لإخراج المحبوسين فيه فلم يتمكّن من

_____________

(١) لسان العرب / ابن منظور ـ (رفض).

(٢) وقعة صفّين / نصر بن مزاحم : ٣٤ ـ المؤسسة العربية الحديثة ـ مصر ـ ١٣٨٢ هـ.


إخراجهم (١).. وأيضاً فقد سبق من أهل الكوفة مثل هذا الخذلان مع عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام ولم يكن هناك أثر لهذه النغمة ، نغمة البراءة من أبي بكر وعمر !

فمن كان وراء هذه التسمية إذن ؟!

٢ ـ أيُّ الفريقين كان أولى باسم « القَدرية » : القائلين بالجبر ، أم القائلين بالتخيير ؟

إنّ القائلين بالجبر كانوا يقولون : إنّ كلّ فعل يفعله المرء ، من طاعة أو معصية ، فإنّما هو بقضاء وقَدَر.. وقد رأينا قبل قليل أنّهم قالوا ذلك تبريراً لأعمال خلفاء بني اُميّة ، فالخليفة حين يقتل الخيرة من الصحابة والتابعين فهو بقضاء وقَدَر ! وحين يستبدّ بأموال المسلمين ويترك عامّتهم يقرض الجوع أمعاءهم قرضاً ، فهو بقضاء وقدر ! وإذا استوى على الخلافة الرجل الفاسق ، فبقضاء وقدر ! وما علينا إلّا الطاعة والتسليم والرضا بالقضاء والقدر !!

وفي مقابل هؤلاء ظهرت الطائفة التي تقول : إنّ الله بريء من معاصي عباده وظلمهم وعدوانهم ، منزّه عن القبائح ، وقد فوض لعباده اُمورهم وترك لهم الخيار ، فإنّ شاء العبد فعل الطاعات فاستحقّ الثواب ، وإن شاء فعل المعاصي فاستحقّ العقاب.

فأيُّ الفريقين كان أولى باسم « القدرية » ؟

إنّ الفريق الأوّل لهو أولى الناس بهذا الاسم ، ولا يشاركه فيه أحد ، وإنّ

_____________

(١) مقاتل الطالبيّين / أبو الفرج الأصفهاني : ٣٤ و ٣٥ ـ مؤسسة الأعلمي ـ ط ٢ ـ ١٤٠٨ هـ ، تاريخ الطبري ٧ : ١٨٤ ، الكامل في التاريخ ٥ : ٢٤٤.


الفريق الثاني لهو أبعد الطوائف عن هذا الاسم.

لكنّ الذي حصل قديماً وثبت إلى اليوم هو العكس من ذلك ، فأصحاب التفويض والتخيير هم الذين سُمُّوا « قدريّة » ! تماماً كما يسمّى الأبيض أسود ، والأسود أبيض !

إنّها تسمية للشيء بضدّه ، ولكن لا كما يقال للأعمى : بصير. وللّديغ : سليم ، فشتّان بين الأمرين !!

والسبب في ذلك أكثر وضوحاً ، فالقائلون بالقضاء والقدر هم فئة الخلافة ، وقد كان يبلغهم الحديث المروي : « القدرية مجوس هذه الاُمّة » (١) ! فمن يا ترى يستطيع أن يقول إنّ هؤلاء هم القَدرية الذين أخبر عنهم ذلك الحديث النبويّ ؟!

إنّ ذلك يعني أنّ الخلفاء الذين قامت هذه العقيدة لأجل نصرتهم وتبرير سياساتهم هم كبار مجوس هذه الامّة !! وهل يستطيع أحد أن يشير إلى هذا بأدنى أشارة ؟

ثمّ على أيّ الطوائف سيقع هذا الاسم إن لم يقع على الطائفة التي انبرت للردّ على تلك العقيدة وتفنيدها ؟ حتّى لو كانت هذه الطائفة هي أبعد الطوائف عن هذه التسمية ومصاديقها !!

وهكذا أصبح القدرية هم الذين ينفون القدر اللازم ويقولون بالتخيير ، ليصبحوا هم مجوس هذه الاُمّة !!

وبعد أن أطلقت الفئة الغالبة هذا الاسم على خصومها أدركت أنّها قد أوقعت

_____________

(١) سنن أبي داود : ح ٤٦٩١ ـ دار التراث العربي ـ بيروت.


نفسها موقع السخرية ، فتداركت الأمر بوضع أحاديث تفسّر معنى القدرية المذكورة في الحديث الأوّل على النحو الذي أرادوه ، وبِلُغةٍ تناسب أفهام العامّة وتستهويهم ، فيتعلّقون بها ويتّخذونها ديناً !

ومن تلك الأحاديث التفسيرية :

حديث يقول : « القدرية يقولون : الخير والشرّ بأيدينا » (١) !

وحديث يقول : « القدرية يقولون : لا قَدَر » (٢) !

وقول ابن حبّان في راوي الحديث الأخير « إنّه كان يقلب الأخبار » لهو أدقّ بيان لهذا الحديث ، والذي قبله أيضاً ، إذ يتّحد معه معنى أحاديث تشهد على أنفسها أنّها موضوعة لإتمام اللعبة ، وإحكام الطوق حول الخصم ، وسَلْبِهِ أيّ قدرة على النفوذ في الوسط الاجتماعي.

٣ ـ هكذا ظهر أنّ السنّة النبويّة لم تكن قادرة على أن تفرض أحكامها وأهدافها على ذلك الواقع ، بل كان الواقع هو الذي يُخضع السنّة لإرادته ويوجّهها في خدمته ، وإن تطلّب ذلك قلب المعاني الظاهرة ، ووضع الحديث !!

٤ ـ ومرّة اُخرى يمحو الواقع آثار السنّة :

_____________

(١) راجع : العلل المتناهية / ابن الجوزي ١ : ١٦٢ / ٢٤٨ ـ دار الكتب العلمية ـ ط ١ ـ ١٤٠٣ هـ.

(٢) العلل المتناهية ١ : ١٥٢ / ٢٢٧. الحديث في سنن أبي داود ح ٤٦٩٢ وفي إسناده ضعف وجهالة ، ففيه : عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار. فهذا الرجل مجهول ، وعمر مولى غفرة ضعّفه ابن معين والنسائي ، وتركه مالك ، وقال فيه ابن حبّان : كان يقلب الأخبار ، لا يُحتجّ بحديثه ! تهذيب التهذيب / ابن حجر ٧ : ٤١٥ ـ دار الفكر ـ ط ١ ـ ١٩٨٤ م.


ذلك مع طائفتين جاءت بذكر هما السنّة ، حيث ورد بطرق عديدة عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال غير مرّة : « عهد إليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن اُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين » (١).

لقد عُرف المارقون بالخوارج..

أمّا الناكثون ، فهم الذين قاتلوا عليّاً يوم الجمل ، بعد أن بايعوه ، فقد نكثوا بيعتهم..

وأمّا القاسطون فهم معاوية وأصحابه الذين قسطوا ، أي جاروا وظلموا واعتدوا.

فإذا كان أصحاب الجمل لم يُظهروا شيئاً من العقائد تميّزهم كفرقة مستقلّة ، فليس القاسطون كذلك ، بل استحقّ القاسطون أن يُفْرَزوا كفرقة بأسباب ثابتة فيهم ، فحين وُجِدَ نظير تلك الأسباب عند غيرهم أصبحوا فرقاً متميّزة ، فمن تلك الأسباب :

أ ـ رفضوا الإمام الذي تمّت له البيعة ، وأظهروا سبّه والبراءة منه ومن أهل بيته : الحسن والحسين عليهما‌السلام ، سبطي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيديّ شباب أهل الجنّة ، ولم يكتفوا بذلك حتّى قاتلوه وقاتلوا أبناءه من بعده ، وفي أقلّ من ذلك تميزّت الفرقة التي عُرفت بالرافضة كما تقدّم عند أصحاب الفرق والتاريخ !

فلماذا لا تكون براءة هؤلاء من عليّ وسبطي النبيّ كافية في جعلهم فرقة

_____________

(١) أخرجه ابن كثير في البداية والنهاية ٧ : ٣٣٨ ـ ٣٤٠ ـ دار إحياء التراث العربي ـ ١٤١٣ هـ. بأسانيد عديدة عن عليّ عليه‌السلام وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأبي أيّوب الأنصاري.


كالرافضة ؟

ذلك لو فرضنا عدم صحّة ما جاء في تسميتهم بالقاسطين ، فلماذا لا يكونوا « رافضة » وقد زادوا على الرافضة بأن قاتلوا الإمام ؟ فهم شرٌّ من اُولئك الرافضة لو صحّ ما قيل فيهم من أنّهم رفضوا زيداً وأظهروا البراءة من الشيخين. فهم قد رفضوا عليّاً ، وأظهروا البراءة منه ومن السبطين ، وقاتلوه ثمّ قاتلوا من بعده السبطين !!

ب ـ هؤلاء هم الذين أظهروا عقيدة الجبر ، وأنّ كل ما يصنعه الخليفة قضاء وقدر ، وبها كانوا أولى أن يُعرَفوا بالقَدَرية !

فلماذا لم يُطلق عليهم شيء من هذا وذاك ؟

السبب واضح جدّاً ، فهم الفئة المتغلّبة التي بسطت نفوذها وآراءها لتصبح هي الفئة التي تمثّل جمهور المسلمين.. فمن سيحكم عليها وهي الحاكمة على الناس ؟!

إنّه ليسير جدّاً بعد ذلك أن تنتحل ما يحلو لها من الأسماء من قبيل (أهل السنّة) ، وأن يكون من خالفها في شيء فهو من أهل البدع والفرق المخالفة للسنّة !!

خاتمة ونتيجة :

من هذه القراءة السريعة نخلص إلى ما يلي :

١ ـ إنّ كثيراً ممّا نقرأه عن الفرق الإسلاميّة هو مفتعل مصنوع لا أصل له ، وإنّما أفرزه أمران :

الأوّل : النزاع الطائفي المحتدم في المراحل الاُولى من نشأة المذاهب والفِرق.


والثاني : آراء الدارسين والنقّاد ، التي حلّقت في فضاء رحب ، فلا يكاد يضبطها ضابط.

٢ ـ ليس من الضرورة أن يكون اسم الفرقة تعبيراً صادقاً عن هويّتها ومبادئها ، ليكون وحده كافياً في إعطاء صورة كلّية واضحة عنها ، فقد يكون هناك تطابق تام ، وقد يكون على درجات متفاوتة ، وقد لا يكون أصلاً.

عند استحضار هاتين الملاحظتين نستطيع أن نكوّن نظرةً موضوعيّة ، وفهماً موضوعيّاً ، ننطلق منه لدراسة الفِرق الإسلامية كمبادئ ومفاهيم مجرّدة ، بعيداً عن التحميلات الخارجيّة ، سلبية كانت أم إيجابية ، وبعيداً عن أجواء التسميات وما تضفيه من ألوان جذّابة ، أو اُخرى منفّرة.

وهذه خطوة منهجيّة لا غنى عنها في أيّ دراسة موضوعيّة تتّصل بالفرق الإسلامية أو الموروث الفكري ، فهي الخطوة الأساس في قنوات شتّى ، منها :

أ ـ قناة التقريب بين المذاهب الإسلامية.

ب ـ قناة التعرّف على حقيقة المذاهب الإسلامية.

ج ـ قناة التعرّف على مساحات الحركة الفكرية والعقلية والاجتهادية لدى الاُمّة الإسلامية ، والتي تُعدّ أساساً في التعريف بالمستوى الحضاري الذي بلغته الاُمّة في كلّ مرحلة من مراحل تاريخها.

د ـ قناة الصياغة النظرية لنشوء مفهوم إسلامي معيّن ، وتطوّره.

ه‍ ـ قناة الإفادة من التراث الإسلامي في مصادره المتعدّدة.

وإنَّ (تصحيح التراث الإسلامي) سيكون الميدان الذي تلتقي فيه هذه القنوات مجتمعة.


الفصل الثاني

الواقع التاريخي للخلافة ونظام الغَلَبة وأثرهما في نشأة المذاهب والفرق

توطئة :

هناك عوامل أساسية إليها يرجع تمزّق وحدة الاُمّة بعد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وانشعابها إلى فرق متعدّدة تميّزت كلّ واحدة منها بشيء من الاُصول وكثير من الفروع التي أصبح بعضها شعاراً للفرقة لا تفرّط فيه وإن لم يكن له أصل في الدين ، ولا يشاركها فيه غيرها وإن كان هو السنّة الخالصة !

وسوف يقتصر بحثنا هنا على العوامل الأساسية في نشأة الفرق ، مع التعريف المركّز بالفِرق المندرجة تحت كلّ واحد من هذه العوامل ، غير ناظر إلى المذاهب الفقهية واُصولها ، فهذه الأخيرة رغم كونها وثيقة الصلة بما نحن فيه ـ كما سيظهر من بعض الأمثلة الآتية عرضاً ـ إلّا أنّ لها ميدانها الآخر الفسيح الذي يخرجها عن تلك العوامل.

وأولها ، وهو ما سنتحدّث عنه في هذا الفصل ونرجىء الكلام في العوامل المتبقّية إلى محلّها من هذا البحث ، وهو الواقع التاريخي للخلافة ، ونظام الغلبة ، والمشروع الثقافي الذي صحبهما.


قد يستقل عامل واحد في تكوين فرقة ، كما قد يشترك عاملان أو أكثر في تكوينها.

وقد وقفنا من خلال الفصل المتقدّم على نتائج جديدة كشفت أنّ المشهور والمتسالم الذي تتداوله الكتب ويردّده الناس غالباً ما يكون وجهة نظر منحازة توفّرت لأصحابها القدرة على بثّها وكأنّها الحقيقة الواحدة ، فكشفت بالتالي عن تصوّر مقلوب لحقائق التاريخ قد غزا أذهان الناس وصاغ بحسب اتّجاهه رؤية مقلوبة للعقيدة والتاريخ.. وسوف نقف على نتائج مماثلة في غير موضع من الفصول الآتية في الفرق الرئيسية ذات الأثر الهام في التاريخ الفكري والسياسي لهذه الاُمّة.. لا سيمّا في بيان أثر الواقع التاريخي للخلافة ونظام الغلبة في نشأة الفرق والمذاهب في الإسلام كما سيتّضح من هذا الفصل.

فكيف كان الواقع التاريخي للخلافة سبباً في نشأة المذاهب ، وكيف ترك أثره في تحديد معالمها ؟

لا ريب أنّ الواقع التاريخي هو الذي أفرز مبدأ « سنّة الشيخين » مرجعاً تشريعياً بعد الكتاب والسنّة ، ذلك المبدأ الذي وضِعتْ بذرته الاُولى يوم أثبت الشيخان قدرتهما في السقيفة بعد نزاع ، وأفلحا في سَوق الناس إلى البيعة ، فتابع الواجمُ الذاهلُ ، وألقى المعارض بيديه ، عَقَبَ ذلك إدارةُ قويّة تميّزت بالحزم في اتخاذ القرار وفي إنفاذه ، ماليّاً كان أو اجتماعياً أو عسكرياً أو دينيّاً ، ولا بدّ أن يصحب ذلك كلّه وجود صنف من الناس جُبِلوا على طاعة القويّ الحازم الذي يمتلك زمام المبادرة ، وربّما شدّتهم إليه مصلحة أو رأي ، ممّا يزيد الحاكم سؤدداً ، وقرارَه هيبةً ونفوذاً حتّى لا يحول دونه حائل ، فترى مبكّراً جدّاً رجالاً من ذلك الصنف يهاجمون آل الرسول ونفراً من مقدّمي أصحابه أووا إليهم ، لا يوقفهم


وازع ، وسائر الناس من ورائهم تلجمهم رهبة القرار الحازم والجرأة في التنفيذ.. وسارعت الأُلوف بعد ذلك في تلبية نداء الحرب مع إخوان لهم من المسلمين امتنعوا عن نقل الزكاة إلى الخليفة اعتراضاً على شخصه وطريقة انتخابه ولم يكفروا بحكم الزكاة ، فقاتلوهم استجابة للقرار الحازم الذي لا إذن للحوار فيه ولا رجعة عنه ، كما قاتلوا آخرين ارتدّوا عن الدين صراحةً ، سواء ، وعاملوهم بالاُسلوب ذاته حين ساوى قرار الخليفة الحازم بين حجز الزكاة عنه وبين الردّة !

وهكذا كان ينفذ القرار الحازم بكلّ قوّة ودون أن تكون هناك نافذة للردّ والحوار والمناقشة ، وإن حدث طرف من ذلك فالحسم دائماً لصالح قرار الخليفة نفسه ، وجرى ذلك في الاُمور الدينيه والتشريعية بالقوّة نفسها ، فبدون أدنى (مقاومة) تذكر ينفذ قرار الخليفة في المنع من رواية أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإفتاء بسنّته ، والمنع من تدوينها ، وفي تعطيلها أحياناً ، حتّى يصبح قرار التعطيل هو السنّة وتعود السنّة الاُولى بدعة !

ولقد تحقّق هذا في تفاصيل الصلاة ، وفي مناسك الحجّ ، وفي أحكام الأحوال الشخصية ، وفي الحقوق المالية وغير ذلك (١) ، بل نجح قرار الخليفة حتّى في صناعة عبادة جديدة ، كما هو شأن صلاة التروايح ، بالرغم من أنّ صانعها نفسه يصفها بالبدعة ، إلَّا أنّها تصبح بعد قليل هي السنّة الثابتة ، ومن خالفها فقد أحدث في الدين !

من كلّ ذلك وأمثاله برز مبدأ جديد لم تعرفه الاُمّة من قبل ، ولا دعا إليه

_____________

(١) راجع : تفاصيل ذلك في كتابنا تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي.


كتاب ولا نبيّ ، فكان أساساً في ظهور فريق جديد يتمحور حوله ، ذلك هو مبدأ « سنّة الشيخين » !

ولمّا كان هذا المبدأ قد ولد بفعل قمّة الهرم السياسي ، ومن ورائه الجمهور العام الذي ينتظم في سلك الطاعة ، لأجل ذلك لم يتّخذ طابع مقولات الفِرق الحادثة ، بل ظهر وكأنّه الأصل الذي عليه الناس ، فمن خالفه فقد خالف « جماعة المسلمين » وأحدث في الأمّة فرقة جديدة لا تمنح « سنّة الشيخين » موقع المرجعية ، وكأنّ الأصل في الدين هو هذا وليس العكس !

ثمّ إنّ هذا الواقع قد تمخّض عن نظام جديد في الخلافة ، وهو نظام « الغَلَبة » ! ذلك النظام الذي قاد الجمهور العام الداخل في سلك الطاعة إلى مزيد من المبادئ الجديدة التي تحل دائماً بدائلَ عن المبادئ الأصيلة التي أقرّها القرآن الكريم والسنّة المطّهرة.. ولكونها أيضاً قد انبعثت من « القمّة » بتأثير الخلافة ومشاريعها الدينية والسياسية والثقافية النافذة على عامّة الناس ، فقد اكتسبت موقع الأصالة ، وصارت من مميّزات « الجماعة » التي من خالفها كان مبتدعاً ، داعياً إلى فتنة !

وفي الكلام الآتي مزيد من التفصيل :

إنّ نظام الغَلَبة هذا ، الوليد الطبيعي لنظرية الخلافة المستجدّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد حصر الدين والدنيا في كلمة واحدة ، ولكن بعد أن أجرى عليها قدراً كافياً من « التعديل » ، فحين قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) رأينا أنّ الله تعالى قد أنزل بيننا قرآناً ، وأن

_____________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.


رسوله قد رحل وترك لنا سنّةً ، فالذي بقي بيننا إنّما هو « أُولوا الأمر منكم » الذين سيكونون القادة لنا في طاعة الله ورسوله.

ومنذ اللحظة الاُولى لرحيل الرسول ابتدأت التعديلات تجري على الركن الثالث المتبقّي ؛ فاُلغي أوّلاً حقّ الله تعالى وحقّ الرسول في اختيار اُولي الأمر ، ليصبح (أُولو الأمر) ليس هم المؤهّلون الذين ينبغي أن تُسند إليهم الاُمور ، فاُلغي مع ذلك حقّ الاُمّة في هذا الأمر ، في قرار لا يقوم إلّا على إلغاء الحقوق الثلاثة معاً وفي آنٍ واحد ، ذلك حين يكون من حقّ نفرٍ معدودين بالأصابع ، رجل واحد أو اثنين أو خمسة ، أن يحدّدوا طريقة الاختيار وفق ما يرون ، ثمّ يختاروا وفق مقاييسهم الخاصّة ، ثمّ يُملون اختيارهم على الاُمّة بكلّ الأساليب اللازمة لتثبيته ، فامتلك (اُولو الأمر) من جرّاء هذا امتيازات جديدة رفعتهم فوق مستوى رقابة الاُمّة ، ومنحتهم صفة الهيمنة وصلاحيات التحكم بالركنين الأوّلين ، الكتاب والسنّة..

ومن الطبيعي جدّاً أن يخلُف هذا التطّور مزيد من « التعديل » يثبّت هذه الامتيازات ويقطع جميع السبل التي من شأنها أن تحول دون ممارستها ، فكان أول تلك التعديلات : إلغاء اعتبار كلمة (منكم) الضابطة لاُولي الأمر ، ليصبح هذا المقام مشاعاً والناس فيه سواء ما نطقوا بالشهادتين !

فلمّا كانت ثمّة عقبات تمثّلت في (خصائص) أقرّها القرآن والعقل والعرف السوي ينبغي أن يتحلّى بها وليّ الأمر ، كالعدالة والعلم بالدين وبالسياسة معاً والصلاح ، فقد توجّه « التعديل » إلى هذه الخصال ليطالها جميعاً ، فتصبح ولاية الأمر حقّاً للجائر الجاهل الفاسق ، بل حتّى لو عاش عبد الله بن اُبَيّ لصحّت له ! فلقد والله تسلّمها رجال ما هم بأحسن حالاً من شيخ المنافقين ابن اُبَيّ بعد أن


أسرفوا في دماء الصالحين الذين يأمرون بالقسط ، وبعد ما زوّروا في معالم الدين وبدّلوا في أحكامه ، ممّا عجز عبد الله بن اُبَيّ عن يسير منه !

ومع كلّ هذه « التعديلات الدستورية » التي اُجريت لصالح « اُولي الأمر » فإنّ الواجب الملقى على عاتق الأُمّة قد اُبقي على حاله ، فما زالت الاُمّة ملزمةً بطاعة « اُولي الأمر » ومسالمة من سالمهم ومحاربة من حاربهم ، تماماً كما لو كان وليّ الأمر قد جاء باختيارٍ من الله ومن رسوله أو من الاُمّة بإجماعٍ تامٍّ صحيح ، وقد توفّر على جميع تلك الخصائص المعروفة من العدل والعلم والصلاح !

فلم يعد في ظلّ هذا الفقه حفظ الدين وإقامه حدوده هو الغاية ، ولا حفظ الاُمّة وتوفير حقّها في الأمن والمساواة وأسباب الهداية والمعرفة كذلك.. بل أصبحت الغاية الوحيدة هي حفظ العرش لشخص الحاكم الذي اعتلاه وأمسك بالسيف من فوقه ، وليس مهمّ بأي طريقة اعتلاه ، إنّما على هذا الدين أن يوفّر له شرعيّته ويحرّم مخالفته ، ثمّ يطاوعه كيف يشاء.. وعلى الاُمّة كذلك أن تعلم أنّ كلّ وجودها إنّما هو لحفظ سلامة العرش لصاحبه مادام حيّاً !!

ـ وهذا هو الأصل في أوّل افتراق وقع في الاُمّة بعد غياب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تمدّد مع الزمن ليكتسب كلّ مقوّمات الفرقة الواقعية ، سياسيّاً وفكرياً وعقيديّاً وفقهيّاً ، حين انحصرت مصادره بالأبواب التي فتحها الاُمراء أو أذِنوا بها ، وأدار ظهره لغيرها ممّا حاربه الاُمراء وحظروه ، فصار ما ترشّح عن المصادر المأذونة هو الدين والعقيدة والثقافة ، فلا شك بعد ذلك أن يرون ما خالفه بدعاً في الدين منكراً !!

ـ ومن هذا الأصل ذاته اكتسبت هذه الفرقة في ما بعد اسمها الذي تميّزت به « أهل السنّة والجماعة ».


نشأة التسمية بأهل السنّة والجماعة :

تكاملت هذه التسمية على مرحلتين ؛ عُرف في المرحلة الاولى لقب « الجماعة » أطلقه الاُمويّون على العام الذي تمّ فيه تسليم الملك لمعاوية وانفراده به ، فقالوا : عام الجماعة (١).. لكنّها الجماعة التي تأسّست على الغَلَبة ولصالح الفئة الباغية ، بلا نزاع في ذلك ، ورغم ذلك فقد بقي الانتماء للجماعة رهناً بطاعة الحاكم والانصياع لأمره حتّى بالباطل ، ومن تمرّد على الحاكم في إحياء سنّة أماتها الحاكم أو إطفاء بدعة أحياها ، فهو خارج على الطاعة مفارق لـ « الجماعة » مستحقّ للعقاب النازل على المفسدين في الأرض ! فهكذا كان قضاؤهم على الصحابي الجليل حُجر بن عديّ الذي كان ينكر على المغيرة وزياد سبَّهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكلّما تمادوا في ذلك صعّد من إنكاره ، فكتب زياد إلى معاوية في حُجر وأصحابه : إنّهم خالفوا « الجماعة » في لعن أبي تراب ، وزروا على الولاة ، فخرجوا بذلك من الطاعة ! (٢) فقتلهم معاوية ، واحتجّ بقوله : إنّي رأيتُ قتلهم صلاحاً للاُمّة ، وأنّ بقاءهم فساد للاُمّة ! (٣) يقول ابن العربي : جعله معاوية ممّن سعى في الأرض فساداً ـ يعني حُجر الخير ـ (٤) !!

_____________

(١) اُنظر : أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى / محمّد بن عبد الهادي المصري : ٦٠ ـ مكتبة الغرباء ـ استانبول ـ ١٩٩٢ م.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣٠ ـ دار صادر ـ بيروت.

(٣) مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور ٦ : ٢٤١ ـ دار الفكر ـ ١٩٨٤ م.

(٤) العواصم من القواصم / ابن العربي : ٢٢٠ ـ دار الجيل ـ بيروت ـ ط ٢ ـ ١٤٠٧ هـ.


هكذا كان ! ، فالصلاح والفساد إنّما يحدّده معاوية ، وليس لله حكم ولا شريعة ! شأن أيّ حكم استبدادي ليس له أدنى صلة بالدين..

وما زالت مخالفة أهواء الاُمراء تُعدّ خروجاً على « الجماعة » ودخولاً في الفتنة حتّى لو كان المخالف لهم سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته سيد شباب أهل الجنّة ! يقول ابن العربي في تبرير قتل الحسين عليه‌السلام : « ما خرج عليه أحد إلَّا بتأويل ، وما قاتلوه إلَّا بما سمعوه من جدّه المهيمن على الرسل ، المخبر بفساد الحال ، والمحذِّر من الدخول في الفتن ! وأقواله في ذلك كثيرة ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الاُمّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان » (١) ! وكأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخاطب الحكّام الذين سيملكون وإن كانوا فراعنة الزمان ، ولم يكن خطابه للمؤمنين الذين أخذ عليهم الميثاق « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ، ولتأخذنّ على يد الظالم ، ولتأطرنَّه على الحقّ أطراً » !!

هكذا قُلب الدين رأساً على عقب حين جُرِّدت كلمة « الأمير » من كلّ مقوّماتها وضوابطها الشرعية لتصبح لقباً من نظير « الفرعون » و « النمرود » و « القيصر » و « كسرى » التي كانت الأمم الاُخرى تُلقّب بها الحاكمين ! ويصبح ( الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ) (٢) مفسدين في الأرض ، خارجين على « الجماعة » ساعين في الفتنة !

وبقيت الجماعة رهناً بطاعة « الخليفة » دون النظر إلى طريقة استخلافه ،

_____________

(١) العواصم من القواصم : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٢١.

س
وإلى دينه أو أخلاقه أو عقله.. خطب الوليد بن عبد الملك يوم بويع له بالخلافة ، فقال : « أيّها الناس ، عليكم بالطاعة ، ولزوم الجماعة ، فإنّ الشيطان مع الواحد ! أيّها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ، ومن سكت مات بدائه »
(١) !

هذه هي فلسفة الطاعة والجماعة عندهم ، والتي بقيت تميّز أهلها عن غيرهم ممّن لا يعتقد بالولاء لحكام الجور والفساد..

أمّا ما يدّعيه البعض من أنّ « الجماعة » مأخوذة من متابعة إجماع الصحابة وإجماع السَّلَف ، فإنّما هي دعوى لا يسندها الواقع بشيء ، فأي أمر هذا الذي أجمع عليه السَّلَف ثمّ تميّزت به هذه الطائفة عن غيرها من الطوائف ؟! لكنّ المشكلة تكمن في أنّهم اختزلوا مساحة « السَّلَف » لتشمل فقط القائلين بإمامة كلّ متغلّب وحرمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يراه « الأمير » فساداً ! فمن هنا كان السَّلَف في هذه القضية إنّما هو عبد الله بن عمر في رأيه الشاذ ! ومرّة اُخرى يكون ابن عمر هو السَّلَف حين يقول بالتفضيل بين الصحابة بحسب الترتيب الذي فرضه الواقع التاريخي وناصره الاُمويّون (٢) ! وهكذا مع سائر القضايا التي تميّزوا بها.. وهيهات أن تجد قضيّةً أجمع عليها علماء السلف وصالحيهم ثمّ تمسّكت بها هذه الفرقة دون غيرها ! أمّا العكس فأمثلته كثيرة ، في العقيدة وفي الفقه معاً : فحين كان إجماع الصحابة على أنّ الصحابي لا يُقطع

_____________

(١) البداية والنهاية ٩ : ٨٥.

(٢) اُنظر : مناقب الامام أحمد بن حنبل / أبو الفرج ابن الجوزي : ٢٢٨ ـ دار هجر ـ الجيزة ـ ١٩٨٨ م.


بعدالته ، بل قد يُتّهم بالكذب والغش والخيانة والزنا ، ويعزّر ويقام عليه الحدّ ، وتردّ أحاديثه ، ويكذَّب عليها ، لا يختلفون في ذلك كلّه قيد شعرة وتاريخهم ثابت فيه ، وعليه سائر المسلمين.. خالف فيه أهل « الجماعة » وقالوا بعدالة الصحابي ، ذلك المبدأ الذي روج له الاُمويّون ، وكان من أحسن ما نفعهم من مبادئ ابتدعوها !

ولما كان إجماع الصحابة وعلماء الطبقة الاُولى من التابعين على تسطيح القبور ، وقال به كثير من المسلمين ، خالف فيه « أهل السنّة والجماعة » لحديث سفيان التّمار ، وهو من رجال العهد الاُموي ، لم يدرك أحداً من الصحابة بل حدّث عن التابعين من طبقة محمّد بن الحنفية وسعيد بن جبير وعكرمة (١) ، فهو أوّل من روى تسنيم القبور ، فقال البيهقي في التوفيق بين حديث سفيان والأحاديث المتقدّمة عليه الصريحة بالتسطيح ، ما نصّه : « فكأنّه ـ أي قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ غُيّر عما كان عليه في القديم ! فقد سقط جداره في زمن الوليد بن عبد الملك وقيل في زمن عمر بن عبد العزيز ، ثمّ اُصلح » فالتسنيم إذن اُمويّ الميلاد ، أمّا علّته فهي في آخر كلام البيهقي إذ واصل يقول : « وحديث القاسم بن محمّد ـ في التسطيح ـ أصحّ وأولى أن يكون محفوظاً ، إلّا أنّ بعض أهل العلم من أصحابنا استحبّ التسنيم في هذا الزمان لكونه جائزاً بالإجماع ، وأنّ التسطيح صار شعاراً لأهل البدع » (٢) ! وأهل البدع هنا مصطلح جامع لمن لم يخضع للولاء

_____________

(١) اُنظر : تهذيب الكمال / المزّي : ١٤٣ ـ ١٤٤ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٩٨٥ م.

(٢) السنن الكبرى / البيهقي ٤ : ٣ ـ ٤ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٩١ م.


الاُموي معتقداً صحّته ، وفي طليعتهم الاُمّة المتمسّكة بالولاء لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذين تميّزوا باسم « الشيعة » وأطلق عليهم التاريخ لقب الرافضة ! تُرى كيف أصبحت السنّة الصحيحة شعاراً لأهل البدع دون « أهل السنّة والجماعة » ؟!

ومثل ذلك يقال مع صيغة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ذُكر ، فقد أصبحت الصلاة المسنونة شعاراً « لأهل البدع » !.. والصلاة البتراء التي حُذف منها « آل محمّد » شعار « لأهل الجماعة » تأثّراً بالنزعة الاُمويه.. وأمثلة هذا الباب كثيرة تصلح وحدها موضوعاً لدراسة مستقلّة.

ـ أما لفظ « السنّة » فلم يظهر مقروناً بلفظ « الجماعة » في بادئ الأمر ، وإن كان ظهوره بمفرده أولاً في العهد الاُموي أيضاً للتمييز بين المنتظمين في سلك « الجماعة » وبين الآخرين الذين ما زالوا يؤمنون بقداسة الدين التي تأبى أن يكون رجال بني اُمية هؤلاء زعماء له ناطقين باسمه ، فإذا قيل « أهل السنّة » فإنّما يراد بهم أهل الطاعة و « الجماعة » أنفسهم ، وأما الآخرون فهم أهل البدَع.. ولعلّ أوّل ظهور لهذا التقسيم هو الذي جاء في حديث ابن سيرين ـ المتوفّى سنة ١١٠ هـ ـ القائل : « كانوا لا يسألون عن الإسناد حتّى وقعت الفتنة ، فلمّا وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد ، ليُحدَّث حديث أهل السنّة ويُترك حديث أهل البدعة » (١).

وابن سيرين هذا لم يكن له ذكر في القرّاء الذين نهضوا على الحجّاج سنة

_____________

(١) صحيح مسلم ـ المقدّمة ـ باب ٥ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٧٨ م ، الكفاية في علم الرواية / الخطيب البغدادي : ١٢٢ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م ، واُنظر : أهل السنّة والجماعة معالم الانطلاقة الكبري : ٥٩.


٨٢ هـ (١).. وقد ذكروا في ترجمته بأنه كان لا يعيب على السلاطين شيئاً رغم ابتعاده عنهم (٢).. فمن هم أهل البدع عنده ؟

لقد وجدناه يقول في معاوية بن أبي سفيان : « كان معاوية لا يُتَّهم في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣). فهل كان معاوية في من يُستثني من أهل البدع ، أم أنّه عنده من أهل السنّة ؟

إنّ الميزان الذي وضعوه لتمييز البدعة من السنّة هو الواقع التاريخي للخلافة والثقافة التي أفرزها ، فلم يكن لعنُ عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام والبراءة منهم بدعة ، لكن تفضيل عليّ على عثمان وحده بدعةً !!

فليس معاوية وحده مستثنى ، بل عقيدته هذه كلّها ليست ممّا يخدش في السنّة ! وغداً سوف يأتي « خليفة » آخر أشدّ عداءً لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من معاوية فلا يمنع ذلك من أن يسمّى « ناصر السنّة » ذلك هو المتوكّل العباسي.. قيل فيه ذلك لأنّه وضع حدّاً للمعتزلة الذين كانوا يمتحنون الناس على القول بخلق القرآن ، ونَصر الإمام أحمد بن حنبل وأفرج عنه وانتصر لعقيدته ، فكان أحمد قد سُمّي « إمام السنة » لصبره على تلك المحنة (٤) ، وقالوا في المتوكّل : أظهر السنّة وتكلّم بها في مجلسه وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وبسط السنّة ونصر أهلها.. (٥)

_____________

(١) اُنظر : تاريخ خليفة بن خياط : ٢٢١ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٩٣ م.

(٢) سير أعلام النبلاء / الذهبي ٤ : ٦١٥ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٩٨٥ م.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ : ٦١٢.

(٤) أهل السنّة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى : ٥٧ عن ابن تيمية في ( منهاج السنّة ).

(٥) تاريخ خليفة بن خياط : ٤٧٨ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣١.


وهو الذي أحيا السنّة وأمات التجهّم (١).. وذلك رغم قولهم فيه : كان فيه نَصبٌ ظاهر وانهماك على اللذات والمكاره (٢) !!

وكان شديد البغض لعليّ عليه‌السلام ولأهل بيته ، يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولّاهم بأخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث ، يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه ، وهو أصلع ، ويرقص بين يدي المتوكّل ، والمغنّون يغنّون : « قد أقبل الأصلع البطين ـ خليفة المسلمين » يحكي بذلك عليّاً عليه‌السلام ، والمتوكّل يشرب ويضحك..

وكان يُبغض من تقدّمه من الخلفاء ـ المأمون ، والمعتصم ، والواثق ـ في محبة عليّ وأهل بيته ، وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنّصب والبغض لعلي ، منهم : علي بن الجهم الشاعر الشامي ، وأبو السِّمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالى بني اُميّة وبان اُترجّة العباسي الهاشمي (٣).. وهدم قبر الحسين عليه‌السلام وهدم ما حوله من المنازل وأمر أن تُحرث وتزرع ، ومنع الناس من إتيانها (٤) ! صحيح أنّ هذا الفعل لم يكن مرضياً لديهم ، بل وصفه بعضهم بأنّه السيئة التي غطّت على جميع حسنات المتوكّل (٥) ، لكن هذا الصنع كلّه لم يُخرج

_____________

(١) شذرات الذهب / ابن العماد الحنبلي م ١ ـ ج ٢ : ١١٤ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م.

(٢) شذرات الذهب م ١ ـ ج ٢ : ١١٤ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٥.

(٣) الكامل في التاريخ ٧ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٤) المنتظم / ابن الجوزي ١١ : ٢٣٧ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٩٢ م ، الكامل في التاريخ ٧ : ٥٥ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٥ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٤٧.

(٥) الكامل في التاريخ ٧ : ٥٦.


المتوكّل من أهل السنّة إلى أهل البدعة !!

تاريخ التمييز بين « أهل السنّة » و « أهل البدعة ».

ـ سئل « إمام السنّة » أحمد بن حنبل في من قدّم عليّاً على عثمان في الفضل ، فأجاب : « هذا أهلٌ أن يُبدَّع » (١).

ـ وسأله المتوكّل عن أشخاص من أهل العلم ، مَن منهم يصلح للقضاء ؟ فكتب إليه فيهم فرداً فرداً ، ثمّ ختم كتابه بقوله : « إنّ أهل البدع والأهواء لا ينبغي أن يُستعان بهم في شيء من اُمور المسلمين ، فإنّ في ذلك أعظم الضرر على الدين ، مع ما عليه رأي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من التمسّك بالسنّة والمخالفة لأهل البدع » (٢) ! فما زال المتوكّل مع ما عليه من النصب ومجالس السخرية بالإمام علي عليه‌السلام ، ما زال متمسّكاً بالسنّة ، مخالفاً لأهل البدع !

ـ وما زال أحمد بن حنبل يوثّق أشدّ الناس نصباً وتمادياً في شتم عليّ وأهل البيت ، ويطريهم أحسن الإطراء ، ولنا في « حريز بن عثمان » وحده دلالة كافية ، هذا الذي كان يستعيض عن ذكر الله بشتم الإمام عليّ ، يقول فيه أحمد بن حنبل « ثقة ، ثقة ، ثقة » وهو في الوقت نفسه يقول : « كان يحمل على عليّ » (٣) !!

ـ أمّا القسم الآخر من « أهل البدعة » فهم « الجهمية » المعطّلة الذين عطّلوا الصفات وقالوا بخلق القرآن.

_____________

(١) مناقب الإمام أحمد بن حنبل : ٢١٨.

(٢) مناقب الإمام أحمد بن حنبل : ٢٥٢.

(٣) اُنظر : تهذيب الكمال ٥ : ٥٦٨ / ١١٧٥ ترجمة حريز بن عثمان.


كيف أظهر المتوكّل السنّة ونَشَرَ الحديث ؟

تحت مثل هذا العنوان كتب ابن الجوزي : أنّ المتوكّل أشخص الفقهاء والمحدّثين ، وكان فيهم : مصعب الزبيري ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وإبراهيم بن عبد الله الهروي ، وعبد الله وعثمان ابنا محمّد بن أبي شيبة وكانا من حفّاظ الناس ، فقُسمت بينهم الجوائز ، واُجريت عليهم الأرزاق ، وأمرهم المتوكّل أن يجلسوا للناس وأن يحدّثوا بالأحاديث التي فيها الرّد على المعتزلة والجهمية ، وأن يُحدّثوا بالأحاديث في الرؤية (١)..

ومثل هذه الأجواء سوف تفتح باباً فسيحاً للكذب ووضع الحديث ، كالذي حدث في فضائل الصحابة زمن معاوية ، فوضعت أحاديث كثيرة في الصفات تفيد التجسيم ، وفي الرؤية ، وفي قِدَم القرآن ممّا ليس له أصل في الإسلام ، ولم يُعرَف قبل هذا التاريخ (٢).

وفي هذه الأجواء نشطت عقيدتا « التشبيه » و « التجسيم » المنحرفتان ، إفراطاً في ردّ عقيدة « التعطيل » المنحرفة الاُخرى التي تعزّزت في عهودِ ثلاثة من الحكام العباسيين تعاقبوا على الحكم ؛ المأمون ، والمعتصم ، والواثق ، وكان لهذه العقائد المنحرفة ظهور قبل هذا التاريخ.

ـ إلى هنا يبدو أنّ لقب « أهل السنّة » كان له ظهور فعلي في هذه المرحلة بالذات ، مرحلة أحمد بن حنبل والمتوكّل ، في خضمّ الصراع الفكري حول

_____________

(١) المنتظم ١١ : ٢٠٧.

(٢) اُنظر : العلل المتناهية ١ : ٢٠ ـ ٤١ ، اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة / السيوطي ١ : ٣ ـ ٣٣ ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ ١٩٨٣ م.


العقيدة في الصفات وقضية القرآن ؛ أهو قديم أم حادث مخلوق لله تعالى ! ذلك الصراع الذي كان مصحوباً بالعنف في أكثر مراحله.

وفي الوقت ذاته كان له ظهور أكثر من قبل في الصراع الدائر حول قضية الإمامة والخلافة والتفاضل بين الصحابة والموقف من النزاعات الواقعة بينهم ، وتعود الزيادة في الظهور إزاء هذا الموضوع لتطّور حركة التنظير فيه ، وتراكم الآراء المتلاحقة ، دون أن يحدث تغيير في المتبنّيات الأساسية.

وقد تقدّم الحديث عن لقب « الجماعة ».. أمّا اجتماع الشطرين في التسمية بـ : « أهل السنّة والجماعة » فلم يثبت بالتحديد أول ظهور له ، لكنّه على الأقل لم يكن ظاهراً حتى هذه المرحلة التي نحن بصددها.

متى اعترف « أهل السنّة » بخلافة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ؟

لا شكّ أنّه ليس كلّ من صوّب خلافة أبي بكر وعمر وعثمان قد أسلم دينه لمعاوية ، يُثبت منه ما يشاء كيف يشاء ويمحو ما يشاء ! بل كثير منهم لعنوه ، وكثير منهم قد تبرّأوا منه ، وما أكثر من خطّأه وأدرك حجم الفساد الذي أدخله على هذا الدين وألقاه على كاهل هذه الاُمّة.

واستمرّ هذا الوعي فيهم في جميع الأعصار ، ولعلّه في عصرنا الحاضر أشدّ تألّقاً وأكثر أنصاراً.. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ أعصار الصراع الطائفي تغذّي العصبية ، فتذهب بكلّ قولٍ أو موقفٍ تبدو عليه بصمات الاعتدال والموضوعية ، ليظهر فقط ما يغذّي العصبية وهي في أوج حاجتها إليه ، فتبرز المواقف الشاذّة ، وغير المسؤولة ، وحتّى الجبانة والذليلة ، ليشتدّ التمسك بها ، ويُتّخذ أصحابها « سَلفاً » أولى أن يُقتدى به دون غيره.. وفي مزدحم العصبيات تغلّب على « أهل


السنّة والجماعة » الرأي الشاذّ الذي لا يعترف بخلافة الإمام عليّ عليه‌السلام ، ودان به حتّى أهل العلم والفقه والحديث منهم ، حتّى ثبّتها أحمد بن حنبل ، لكن بقيت في زمنه محلّ نزاع إلى أن استقرّت كما ثبّتها ، وفق الترتيب التاريخي ، الذي جعله مقياساً للتفاضل بينهم أيضاً !

ـ قيل لسفينة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هؤلاء يزعمون أنّ علياً عليه‌السلام لم يكن بخليفة ! قال : كذبتْ أستاه بني الزرقاء ! يعني بني مروان (١).

ـ وأوّل من حذف اسم علي من الخلفاء هو معاوية حين كان يخطب فيذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثمّ يتحدّث عن نفسه وسياسته ولا يذكر عليّاً عليه‌السلام ، بل يذكره في آخر خطبته بالشتم والسبّ واللعن !

ومضى بنو اُميّة على ذلك في جميع أحوالهم ، في السرّ والعلن ، حتّى رُوي عن سليمان بن عبد الملك أنّه نظر في المرآة أيّام خلافته فأعجبه شبابه ، فقال : « كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّاً ، وكان أبو بكر صدّيقاً ، وكان عمر فاروقاً وكان عثمان حييّاً ، وكان معاوية حليماً وكان يزيد صبوراً » فيقفز من عثمان إلى معاوية فيزيد حتّى يبلغ ذكر نفسه فيقول : وأنا الملك الشابّ (٢). فحتّى في مثل هذه الأحاديث لا يذكرون عليّاً عليه‌السلام بالخلافة !

ـ ودخلت رؤيتهم هذه في الأحاديث المنسوبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله !! كحديث رؤيا الميزان الذي يزن فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر فيرجح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويزن أبو بكر وعمر فيرجح أبو بكر ، ويزن عمر وعثمان فيرجح عثمان ، ثمّ يرتفع الميزان !!

_____________

(١) سنن أبي داود ح / ٤٦٤٦.

(٢) اُنظر الحديث في مسند أحمد ٥ : ٤٤ ، ٥٠ ـ عالم الفكر ـ بيروت.


وعزّز ذلك كلّه الحديث الموقوف على ابن عمر في التفضيل الذي يقول إنّهم كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفاضلون فيقولون : أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ يسكتون فلا يذكرون أحداً بعدهم !! والعلّة كلّها أنّ الذي جاء بعد عثمان في الخلافة عليّ ، ولو كان الزبير أو سعداً أو طلحة لما سكت ابن عمر ولا سكتوا.

فترسّخت تلك الرؤية ، حتّى أصبحت من الثوابت التي تُميّز « الجماعة » ثمّ « أهل السنّة » حتّى جاء أحمد بن حنبل ، فأظهر التربيع في الخلافة ! وكتب ذلك في جوابه إلى مسدّد بن مسرهد يصف له السنّة ، فذكر الأربعة بحسب الترتيب الواقع في الخلافة ، فقال : « هم والله الخلفاء الراشدون المهديّون » (١).

فأثار كلامه جدلاً ونزاعاً بين « أهل السنّة » :

ـ قال وريزة الحمصي : دخلتُ على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعليّ عليه‌السلام ، فقلت له : يا أبا عبد الله ، إنّ هذا طعنُ على طلحة والزبير !

قال : بئسما قلت ! وما نحن وحرب القوم وذكرها ؟

فقلتُ : أصلحك الله ، إنّما ذكرناها حين ربّعتَ بعليٍّ وأوجبتَ له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله ! فقال لي : وما يمنعني من ذلك ؟! قلتُ : حديث ابن عمر.. فقال لي : عمر خير من ابنه ، وقد رضي عليّاً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى ، وعلي بن أبي طالب قد سمّى نفسه أمير المؤمنين ، أفأقول أنا : ليس للمؤمنين بأمير ؟! قال : فانصرفتُ عنه (٢) !

_____________

(١) طبقات الحنابلة / القاضي ابن أبي يعلى ١ : ٣٤٤ ترجمة مسدّد بن مسرهد بن مسربل البصري ـ دار المعرفة ـ بيروت.

(٢) طبقات الحنابلة ١ : ٣٩٣ ترجمة وريزة بن محمّد الحمصي.


ـ ولقد حاول أحمد بن حنبل أن يذكّر بأشياء من حقّ عليّ عليه‌السلام الذي غيّبته مدارس ثقافية كافحت في هذا السبيل نحو قرنين من الزمن..

قال أحمد بن حنبل : ما لأحدٍ من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعليّ رضي‌الله‌عنه (١).

وقال : عليٌّ من أهل بيتٍ لا يقاسُ بهم أحد ! (٢)

وسُئل يوماً : ما تقول في هذا الحديث الذي يروي ، أنّ عليّاً قال : « أنا قسيم النار » ؟ فقال : وما تُنكرون من ذا ؟ أليس روينا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ : « لا يحبّك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق » ؟.. قالوا : بلى.. قال : فأين المؤمن ؟.. قالوا : في الجنّة.. قال : فأين الكافر ؟.. قالوا : في النار.. قال : فعليٌّ قسيم النار (٣).

ـ ويصحّح انحرافاً منهجياً وقع فيه أحد « أئمّة » الجرح والتعديل ، يحيى بن معين ، إذ نسب الشافعي إلى « بدعة » التشيّع ، ودليله في ذلك أنّه نظر في كتاب للشافعي في قتال أهل البغي ، فوجده قد احتجّ فيه من أوّله إلى آخره بعليّ بن أبي طالب !!

فقال له أحمد : عجباً لك ! فبمن كان يحتجّ الشافعي في هذا ، وأوّل من ابتلي به علي بن أبي طالب ؟ وهو الذي سنّ قتالهم وأحكامهم ، وليس عن النبي ولا عن الخلفاء غيره فيه سنّة ، فبمن كان يستنّ ؟! فخجل يحيى ! (٤)

فانظر إلى حجم الانحراف الفكري الذي أصاب الكبار ، وحتّى أئمّة الجرح

_____________

(١) مناقب الإمام أحمد بن حنبل : ٢٢٠.

(٢) مناقب الإمام أحمد بن حنبل : ٢١٩.

(٣) طبقات الحنابلة ١ : ٣٢٠ ت / ٤٤٨ ترجمة محمّد بن منصور.

(٤) مناقب الشافعي / البيهقي ١ : ٤٥١ ـ مكتبة دار التراث ـ القاهرة.


والتعديل ! علماً أنّ يحيى بن معين يعدُّ معتدلاً جدّاً قياساً بالجوزجاني ـ وهو أيضاً من أئمّة الجرح والتعديل ـ الذي لم يكن يُخفِ بغضه لعليّ وأهل البيت عليهم‌السلام !

لكن يبقى العجب من أحمد بن حنبل كيف مع هذا كلّه بقي يعتمد أحاديث النواصب ويوثّقهم ولا يعدّهم في المبتدعين ، وهو يعلم أنّهم منافقون بحكم الحديث الصحيح الذي احتجّ به آنفاً « لا يبغضك إلّا منافق » !!

من وقع في دائرة الظل التام ودائرة شبه الظل :

هناك دائرة تقع خلف الحجاب المواجه للنور وتقابل مركزه ، تسمّى دائرة الظلّ التامّ ، تحيط بها على تماس بينهما دائرة أقلّ خضوعاً لتأثير الحجاب ، تسمّى دائرة شبه الظلّ.. وفي دائرة شبه الظلّ وقع الكثير من الأعلام وسواد الناس الذين نظروا إلى الخلافة الاُولى نظرة تقديس ، فاعتقدوا بتأخير أهل البيت عليهم‌السلام عن منزلتهم الحقّ ، وقدّموا عليهم آخرين بتفاضل موهوم صنعه الواقع التاريخي للخلافة لا غير ، دون أن يحملوا في قلوبهم سوءاً وغيضاً وحسداً أو حقداً على أحد من أهل البيت عليهم‌السلام بل أظهروا حبّهم والدفاع عنهم بالكلمة أو بالإشارة ولو إلى خاصّة أصحابهم ، فلم يقعوا تحت دائرة التأثير التامّ لنظام الغَلَبة ، والمنهج الثقافي الذي تبنّاه..

فالشافعى لا يتحفّظ من المجتمع في إظهار حبّه لأهل البيت عليهم‌السلام ، حتّى يصفوه بـ (الرفض) وليس التشيّع فقط !! فأنشد في ذلك شعراً كثيراً يؤكّد ما هو عليه من حبّ ، وأنّ ما يقال فيه لا يزيده إلّا إصراراً عليه :


ان كان حبُّ الوليّ رفضاً

فإنّني أَرفَضُ العبادِ (١)

ويقول :

إذا في مجلس نذكُرْ عليّاً

وسبطيهِ وفاطمة الزكيهْ

يقال : تجاوزوا يا قوم هذا

فهذا من حديث الرافضيهْ

برئتُ إلى الميهمن من اُناسٍ

يرونَ الرفضَ حُبَّ الفاطميهْ (٢)

أمّا أبو حنيفة فقد خرج من ولاء الاُمويين إلى ولاء الثورات العلويّة منذ ثورة زيد الشهيد ، وبعده محمّد وإبراهيم أولاد عبد الله بن الحسن ، حتّى مات على ذلك في سجن أبي جعفر المنصور (٣).

وحتّى من كان فيه مداراة وتقيّة ، كالحسن البصري ، فقد أظهر في متنفّساته ما يبعده عن تلك الدائرة ، وكلمته في معاوية هي من أشهر ما قيل فيه : « أربع خصال كنّ في معاوية ، لو لم يكن فيه إلّا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسيف.. واستخدامه بعده ابنه سكّيراً خمّيراً.. وادّعاؤه زياداً.. وقتله حُجراً وأصحاب حُجر ، فيا ويلاً له من حُجر ! ويا ويلاً له من حُجر » !! (٤)

_____________

(١) ديوان الشافعي : ٣٨ ـ دار كرم ـ دمشق ، وعجزه في الديوان مضطرب المعنى لم يبذل المصحّح جهداً في تقويمه ، ففيه « فإنّ رَفضي إلى العباد » علماً أن مصادر اُخرى روت في صدره « حبّ الوصي » بدل « حبّ الولي ».

(٢) ديوان الشافعي : ٩٢ ، واُنظر له في الديوان أيضاً : ٥٨ ، ٧٤.

(٣) الملل والنحل ١ : ١٤٠ ، تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٩٨ ـ مطبعة السعادة ـ ١٩٣١ م.

(٤) الأخبار الموفّقيات / الزبير بن بكّار : ٥٧٤ ت / ٣٧٢ ، وقد سقطت منه الخصلة الرابعة دون أن يتنبّه محقّقه الدكتور سامي مكّي العاني إلى ذلك رغم أنّه أثبت في


وكان من تقيّته أنّه إذا حدّث عن عليّ عليه‌السلام لم يذكر اسمه ، بل يرسله فيقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقيل له : إنّك تقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّك لم تدركه ؟!

فقال للسائل : يا بن أخي قد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، ولو لا منزلتك منّي ما أخبرتك ؛ إنّي في زمانٍ كما ترى ، فكلّ شيءٍ سمعتني أقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو عن عليّ بن أبي طالب غير أنّي في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً ! (١)

وكان الأعمش ، وأبو إسحاق السبيعي ، والنسائي ، والحاكم النيسابوري أظهر حبّاً لأهل البيت عليهم‌السلام من الحسن البصري.

وهذا الاتجاه هو الذي غلب في ما بعد على ثقافة الجمهور من « أهل السنّة والجماعة » وظهر بشكل أكثر وضوحاً وتركيزاً لدى أصحاب الاتّجاه الصوفي.

لكنّ الذين وقعوا في دائرة الظلّ التام من أهل الأثر العلمي ، بعد عصر الهيمنة الاُموية والعباسية ، كانوا أفراداً أصبح لهم بعد ذلك أتباع أخذوا بمناهجهم واقتفوا آثارهم ، وأهم هؤلاء الأفراد ثمّ الجماعات :

١ ـ ابن حزم : الفارسي الأصل ، الاُموي الولاء ، كان جدّه مولى يزيد بن أبي سفيان الاُموي أمير دمشق قبل أخيه معاوية.. الظاهري المذهب ، القُرطبي المولد ، المولود سنة ٣٨٤ هـ ، والمتوفّى سنة ٤٥٦ هـ ، الذي قُرِن لسانه بسيف الحجّاج ، فقيل : « كان لسانُ ابن حزم وسيفُ الحجّاج شقيقين » ! وقيل في لسانه

_____________

أوّل الحديث « أربع خصال كنّ في معاوية... » ! والحديث بنصّه الكامل مشهور جدّاً اُنظر ، : المنتظم ٥ : ٢٤٣ الكامل في التاريخ ٣ : ٤٨٧ ، تهذيب تاريخ دمشق / عبد القادر بدران ٢ : ٣٨٤ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٩٨٧ م.

(١) تهذيب الكمال ٦ : ١٢٤.


أيضاً : « لم يتأدّب مع الأئمّة في الخطاب ، بل فجَّجَ العبارة ، وسبَّ وجدَّع ، فكان جزاؤه من جنس فعله » ! (١)

٢ ـ أبو بكر ابن العربي : العربيّ الأصل ، الأندلسي الإشبيليّ المولد ، المالكي المذهب ، المولود سنة ٤٦٨ هـ والمتوفّى سنة ٥٤٣ هـ ، الذي عمل قاضياً بإشبيلية فحُمدت سيرته أوّلاً ، ثمّ عُزل لأجل شدّته وسطوته !

ومع ما كان عليه من شدّة وسطوة فقد « تعلّق بأذيال المُلك ، ولم يجرِ مجرى العلماء في مجاهرة السلاطين وحزبهم ، بل داهن » ! وكان منافراً لابن حزم ، متحاملاً عليه ، سلّط عليه لسانه وقلمه ، فممّا قاله فيه ممهّداً بذكر الظاهرية ، فيصفهم بأنّهم « اُمّة سخيفة » وأن مبدأهم إنّما هو من سنخ مبدأ « الخوارج » حين قالوا : لا حكم إلّا لله.. لينتقل إلى ابن حزم ، فيقول : « وجدتُ القول بالظاهر قد ملأ به المغربَ سخيفٌ كان من بادية إشبيلية يُعرَف بابن حزم... وقد جاءني رجل بجزء لابن حزم سمّاه (نكت الاسلام) فيه دواهي ، فجرّدت عليه نواهي ! وجاءني آخر برسالة في الاعتقاد (٢) ، فنقضتها برسالة (الغُرّة) والأمر أفحش من أن يُنقض » (٣).

٣ ـ ابن تيمية : غير المعروف الأصل ، الشامي الحرّاني المولد ، الحنبليّ المذاهب ، المولود سنة ٦٦١ هـ ، والمتوفى سنة ٧٢٨ هـ ، الفقيه المعروف بالحدّة والتطرّف ، والذي واخا الشقيقين : سيف الحجّاج ، ولسان ابن حزم ! والذي شذّ

_____________

(١) اُنظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ١٨ : ١٨٤ ـ ١٨٦ ، ١٩٩.

(٢) وهي رسالة (الدرّة في الاعتقاد).

(٣) اُنظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء ٢٠ : ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٠٢ ، وترجمة ابن حزم في المصدر نفسه ١٨ : ١٨٨ـ ١٩٠.


في مسائل كثيرة في الفقه وفي العقيدة ، فوصفه كثير من العلماء بالنفاق وبالضلال والزندقة بسبب ذلك (١) ! فيما اتّخذه بعض المتأخّرين إماماً في الفقه والفكر والعقيدة !!

٤ ـ « السلفية » و « الوهابية » : إنّ هذا المنهج الخاطئ قد أصبح في ما بعد مذهباً لفرقة ، بعد أن كان موقفاً لأفراد.. لقد اتخذت منه الفرقة الوهّابيّة ـ الحادثة في القرن الثاني عشر الهجري على يد محمّد بن عبد الوهّاب النجدي ، المولود سنة ١١١١ هـ والذي ابتدأ دعوته سنة ١١٤٣ هـ ، وتوفي سنة ١٢٠٦ ـ اتّخذت منه ، جملةً وتفصيلاً ، مذهباً تدين به في تحديد الرؤية إزاء نظرية الخلافة ونظام الحكم في الإسلام ، وإزاء الموقف من الصحابة ومجمل الاعتقاد فيهم ، وإزاء التاريخ قراءةً ونقداً وتقويماً.. ذلك حين اتّخذت من تراث ابن تيمية وكتاب (العواصم من القواصم) لابن العربي مصدراً معرفياً أساسياً تستلهم منه الفكر والمعتقد والمنهج.

وغير (الوهّابية) كثير من دعاة (السلفية) أيضاً قد تبنّوا هذا المنهج حين منحوا تلك المصادر ذاتها الموقع ذاته.

ويبقى الفارق بين الفريقين أكبر من مجرّد الانتساب إلى دعوة محمّد بن عبد الوهاب أو عدمه ، فدعاة (السلفية) ما زالوا أقرب إلى تلك المصادر مادّةً وروحاً ، وربّما تغافلوا عن بعض صفحاتها المنكرة فلم يردّدوا أصداءها ، بل ربّما

_____________

(١) اُنظر ترجمته في : الدرر الكامنة / ابن حجر ١ : ١٥٥ ـ دار إحياء التراث العربي ، الفتاوى الحديثية / الهيتمي : ٨٦ ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ط ٣ ـ ١٤٠٩ هـ.


مسّوا ببعضها مسّاً خفيفاً أو غمزوها غمزاً لطيفاً (١) ، فيما يعدّ هذا في نظر (الوهابية) أمراً منكراً في غاية النكارة.. ولقد جاوز الوهابيون الحدّ في التطرّف حتّى أكفروا كافّة المسلمين ولم يستثنوا أحداً وراء دائرتهم الضيّقة دائرة الظلّ التامّ ، واستباحوا الدماء والأعراض والأموال ، وجاوزوا في ذلك القولَ إلى العمل في سلسلة من الحروب خاضوها مع المدائن الإسلامية المحيطة بهم في الحجاز وجنوب العراق (٢).

والاتجاهان معاً : السلفية ، ابتداءً من القاضي أبي يعلى الحنبلي المتوفّى سنة ٤٥٨ هـ ، وابن الزاغوني المتوفّى سنة ٥٢٧ هـ ، مروراً بابن تيمية المتوفى سنة ٧٢٨ هـ ، وابن قيم الجوزية المتوفى سنة ٧٥١ هـ ، وانتهاءً برجالهم المعاصرين.. والوهابية ، ابتداءً بمؤسسها محمّد بن عبد الوهاب المتوفّى سنة ١٢٠٦ هـ ، وانتهاءً برجالهم المعاصرين ، امتازوا جميعاً بعقائد مشتركة نسبوها إلى السَلَف مجازفةً ، ولم يكن لهم فيها سَلَف صدق ، حتّى كثر النقد عليهم في ذلك ، ويكفي ما قاله ابن التميم الحنبلي في أول رجالهم أبي يعلى : وعقيدته في الصفات « لقد خَرَّى أبو يعلى الفرّاء على الحنابلة خَرْيَةً لا يغسلها الماء » ! (٣).

قال ذلك فقهاء الحنابلة أنفسهم ، وفي ابن الزاغوني قالوا : « إنّ في قوله من

_____________

(١) اُنظر مثلاً : سلسلة الأحاديث الصحيحة / ناصر الدين الألباني ٤ : ٣٤٤ ، ٤٠٠ ـ المكتب الإسلامي ـ ١٩٨٥ م.

(٢) اُنظر : صفحات من تاريخ الجزيرة العربية / محمد عوض الخطيب : ١٦٧ ـ ٢٠٣ ط ١ ، مركز الغدير ، بيروت / ١٩٩٥ م.

(٣) تاريخ أبي الفداء الدمشقي ١ : ٥٤٤ في حوادث سنة / ٤٥٨ هـ ، وهذه العبارة حرّفها أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية : ٣٢٤ ، فأوردها بلفظ : « لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحر » !


غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه» ! (١) وقولهم وقول غيرهم في ابن تيمية أكثر وأشهر ! (٢) أمّا محمّد بن عبد الوهاب فهو الأوفر حظّاً في الطعن والتجريح من فقهاء الحنابلة أنفسهم ، وأولهم أخوه الفقيه سليمان بن عبد الوهاب (٣) ، ومن غيرهم ، لأنّه كان مفتقراً إلى الكثير مما توفّر عليه سابقوه من مادة العلم وأسباب الاجتهاد.

كان هذا هو الأثر الأول من آثار نظرية الخلافة ونظام الغَلَبة ، وقد أصبح المحور الأساس الذي تتمحور من حوله أكبر فرق المسلمين وأولها نشوءاً ، ثمّ يتفاوت أتباع هذه الفرقة في ما بينهم في درجة القرب أو البعد من هذا المحور.

الصحيح في معنى السنّة والجماعة :

الإسلام لم يقل يوماً إن السنّة هي سنّة الحاكم وإرادته ، ولا قال يوماً إنّ الجماعة جماعته ومن دان بالطاعة والولاء له ، وحاشا أن يقول ذلك فيتحوّل من رسالة إلهية هادية للبشر جميعاً وفي كلّ زمان ، إلى سلّم يركبه الطامحون للحكم !

سُئل الإمام عليّ عليه‌السلام : ما السنّة ؟ وما البدعة ؟ وما الجماعة ؟ وما الفِرقة ؟

فقال عليه‌السلام : « أمّا السنّة ، فسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.. وأمّا البدعة ، فما خالفها..

وأمّا الفرقة ، فأهل الباطل وإن كثروا.. وأمّا الجماعة ، فأهل الحقّ وإن قلّوا » (٤). وفي جواب طويل له عليه‌السلام على مثل هذا السؤال أيضاً ، قال : « أمّا إذا

_____________

(١) المذاهب الإسلامية / محمّد أبو زهرة : ٣٢٤.

(٢) اُنظر : ترجمته في الدرر الكامنة ١ : ١٥٥ ، الفتاوى الحديثية : ٨٦.

(٣) راجع كتابه / الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابية ، وكتابه الآخر / فصل الخطاب في الرّد على محمّد بن عبد الوهاب.

(٤) تُحف العقول / ابن شعبة الحرّاني : ٢١١ ـ منشورات الشريف الرضي.


سألتني فافهم عنّي ولا عليك أن لا تسأل عنها أحداً بعدي :

فأمّا أهل الجماعة ؛ فأنا ومن اتّبعني وإن قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر الله وأمر رسوله (١).. وأمّا أهل الفرقة ، فالمخالفون لي ومن اتّبعني ، وإن كثروا..

وأمّا أهل السنّة ، فالمتمسّكون بما سنّه الله لهم ورسوله ، وإن قلّوا ، وإن قلّوا.. وأمّا أهل البدعة ؛ فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا ، وقد مضى منهم الفوج الأوّل وبقيت أفواج.. » (٢).

ونقل ابن القيم عن أبي شامة في (الحوادث والبدع) ، قوله : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد به لزوم الحقّ واتّباعه وإن كان المتمسّك به قليلاً والمخالف له كثيراً (٣).

وعن عبد الله بن مسعود : إنّ جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة ! الجماعة ما وافق الحقّ وإن كنت وحدك ! (٤).

وسئل إسحاق بن راهويه عن السواد الأعظم الذي جاء في الحديث « إذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم » فأجاب قائلاً : « محمّد بن أسلم الطوسي وأصحابه ومن تبعه هو السواد الأعظم» ثمّ فسّر ذلك : « لم أسمع عالماً منذ خمسين سنة كان أشدّ تمسّكاً بأثر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من محمّد بن أسلم » (٥) ! وذكر

_____________

(١) هذا تعليل لكون الجماعة هو عليه‌السلام ومن اتّبعه ، فلأن ذلك هو الحقّ الذي أمر الله به ورسوله.

(٢) كنز العمّال / المتقي الهندي ١٦ : ١٨٤ / ٤٤٢١٦ ـ مؤسسة الرسالة ، ١٤٠٥ هـ.

(٣) و (٤) النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية / محمّد بن عقيل : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ـ دار الثقافة ـ قم ـ ١٤١٢ هـ.

(٥) حلية الأولياء / أبو نعيم الأصفهاني ٩ : ٢٣٨ ، ٢٣٩ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ١٩٦ ـ ١٩٧.


البيهقي حديث إسحاق بن راهويه هذا ، فقال : صدق والله ، فإنّ العصر إذا كان فيه عارفٌ بالسنّة داع إليها فهو الحجّة ، وهو الإجماع ، وهو السواد الأعظم ، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتّبع سواها ولّاه الله ما تولّى وأصلاه جهنّم وساءت مصيراً (١) !

فإذا قرأت عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنّهم قالوا : « نحن حزب الله الغالبون » (٢) فإنّما ذلك المعنى أرادوا ، فهم الجماعة ، وهم أهل السنّة ، ومن خالفهم فأولئك أهل الفرقة والبدعة من ذلك لأنّ هذا هو الحقّ الذي به أمر الله تعالى الذي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، واصطفاهم ، وبه أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا » لن تكونوا من أصحاب الفرقة والبدعة ، إنّما أنتم الجماعة وأهل السنّة وسبيل المؤمنين ، ذينك : « كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ».

المارقون :

هم أيضاً من افرازات الواقع التاريخي للخلافة وتقلّباته.. وكان ظهورهم الأوّل في قصّة التحكيم أيّام صفّين ، ولم يكن لهم في دور تكوينهم الأوّل مقولة يتميّزون بها إلّا « لا حكم إلا لله » في معارضة التحكيم.. فلمّا تميّزوا عن جماعة المسلمين بحكم تطرّفهم المنقطع النظير ابتدأوا يصوغون مقولاتهم ويبنون كيانهم العقيدي ، فكان الهيكل العام لهذا الكيان من صياغة الواقع التاريخي

_____________

(١) النصائح الكافية : ٢٢٠.

(٢) مجمع البيان / الطبرسي ٣ : ٣٤٣ عند تفسير الآية (٧٦) من سورة الحجر ـ دار المعرفة ـ بيروت.


للخلافة ؛ فاعتقدوا بخلافة أبي بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ علي ، واعتقدوا أنّ الخلافة شورى وانتخاب..

لكنّ المبدأ الآخر ، وهو أساسي لديهم مميّز لهم عن سواهم ، وهو الاعتقاد بكفر مرتكب الكبيرة ، قد ترك أثره على الصياغة الاُولى مع المحافظة على ترتيبها ، فبقي الإيمان بترتيب الخلفاء كما هو ، لكن قسموا حكومة عثمان إلى نصفين فآمنوا بالأول وكفروا بالثاني وتبرّأوا من عثمان في السنين الستّ الأخيرة من خلافته ، وكذا فعلوا مع خلافة عليّ عليه‌السلام فآمنوا بأوّلها وكفروا بآخرها منذ التحكيم ، ومن الكبائر عندهم عدم البراءة من عثمان وعلي في السنين الأخيرة من حكمهما ، ومثل هذا الذنب يستحلّون به الدماء والأموال !

ـ ثمّ أحدثوا مقولة جديدة في الخلافة ، تقضي بجوازها لكلّ مؤمن قادر على القيام بأعبائها ولا تشترط فيه القرشية.

والصحيح أنّ الذي ألجأهم إلى هذا الاعتقاد ، هو عدم وجود قرشي في رجالهم ، مع قلّة عددهم بالنسبة إلى غيرهم ، وسلوكهم نهج المواجهة بالسيف ، فاحتاجوا لأجل ذلك إلى نظمٍ شديد ودقيق لأمرهم ولجماعتهم ، فلو التزموا قاعدة « الأئمّة من قريش » لتبدّدوا وضاع أمرهم قبل أن يجتمعوا على قرشيّ يقوم بأعباء منهجهم.. فهذا الذي دعاهم إلى نقض شرط القرشية في الخلافة ، وليس هو « التطبيق الأول لروح فلسفة الإسلام في هذا المقام » كما صوّره الدكتور محمّد عمارة (١) رغبةً في تدعيم النهج « الديمقراطي » في الحكم ، والذي كان يركّز عليه بشكل بيّن ، ولأجله حضي « المارقون » بعطفه ، ونال « المعتزلة »

_____________

(١) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية : ١٤٢.


المرتبة الاُولى في اهتمامه.. وإلّا فلقد جمع الأستاذ نفسه في مقدّمة الموضع المشار إليه من بحثه المادةَ الكافية في تحصيل الجواب الصحيح لتمرّد « المارقين » عن شرط القرشية ، إذ وضع جدولاً بأسماء زعماء هذه الفرقة ، فأحصى ثمانية عشر زعيماً لهم على الترتيب ، ليس فيهم قرشي واحد ، وقد التفت إلى ذلك فقال : فهم جميعاً ما بين عربيّ غير قرشي ، وما بين مولى من الموالي اشترك في البيعة له « بإمرة المؤمنين » العرب والموالي على حدٍّ سواء !

والذي ينبغي أن يُلتَفت إليه أنّهم لو وجدوا قرشياً يسندون أمرهم إليه لما خفيت عليهم المصلحة في تسويده آنذاك ، ولسار إلى البيعة له العرب منهم والموالي على حدٍّ سواء.. ألا ترى أنّ منهم من أجاز البقاء بلا إمام ، وقالوا : إنّ إقامة الإمام ليست واجبة بإيجاب الشرع ، بل جائزة ، وإذا وجبت فإنّما تجب بحكم المصلحة والحاجة ؟! هذا قول النجدات منهم (١).

فهل انتزعوا هذا من روح فلسفة الحكم في الإسلام ؟ أم أملاه عليهم واقعهم ، إذ كانوا قليلين خائفين متفرّقين في البلاد لا يستطيعون أن يجتمعوا على إمام لهم إلّا حين يجدون في أنفسهم قوة على القتال ، أو يرغمون عليه إرغاماً حين تبدأهم السلطة بالقتال ! فذلك هو الذي ألجأهم إلى التهرّب من وجوب نصب الإمام والانتظام في جماعة.

وصريح في هذا قول الإباضية : « الإمامة واجبة حفظاً للدين ، وإذا بلغ عددهم نصف عدد مخالفيهم وجب عليهم نصب الإمامة الإباضية ، وإلّا

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ١٠٦.


فأولى الاُمور الكتمان » ! (١) فذلك كلّه راجع إلى تقديرهم للمصلحة ، لا غير !

مرحلة الانقسامات :

عاود هؤلاء نشاطهم الحربي بعد انتظام الملك لمعاوية ، وكانت لهم في العهد الاُموي حروب عديدة طاحنة كادت تفني وجودهم ، فتضعضع أمرهم بسبب ذلك كثيراً.

وزاد في تشتيت أمرهم وقوع الاختلاف الكثير في ما بينهم ، في مسائل كثيرة ألحّت عليهم حين أصبحوا يواجهون مباشرة مشاكل المجتمع المعقّد سياسياً وفكرياً ، فاختلفت إجاباتهم عليها ومواقفهم إزاءها فتفرّقوا على ذلك فرقاً ، اختلف فيها أصحاب تواريخ الفرق كثيراً (٢) ، إنّما بقي يجمعهم تحت عنوان رئيسي واحد جملة من عقائد المحكّمة الاولى ؛ كالبراءة من أصحاب الكبائر ، وتجويز الإمامة لغير القرشي ، وأنّ الإمامة بالانتخاب ، وإذا زاغ الإمام وجب عزله أو قتله.

أمّا أهمّ هذه الأقسام وأكثرها أثراً في التاريخ ، فهي ثلاثة :

١ ـ الأزارقة : أتباع نافع بن الأزرق الحنفي ـ من بني حنيفة قوم مسيلمة الكذّاب ـ وهو صاحب الأسئلة المعروفة في غريب القرآن التي أجابه عليها ابن

_____________

(١) الإباضية مذهب إسلامي معتدل / علي يحيى بن معمر : ٢٥ ـ ٢٦ (ط ٢) بواسطة د. أحمد جلي / الخوارج والشيعة : ٩٧ ـ ٩٨ ـ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ـ ط ٢ ـ ١٤٠٨ هـ.

(٢) اُنظر : مقالات الإسلاميين / الأشعري : ١ / ١٦٣ ـ ١٩١ ـ ط ٢ ـ ١٤٠٥ هـ ، الملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٠٥ ـ ١٢٤.


عباس رضي‌الله‌عنه (١) ، وكان لهؤلاء حروب شديدة مع الاُموييّن في البصرة وبلاد فارس ، حتّى فَنوا على يد المهلّب بن أبي صفرة في زمن عبد الملك بن مروان (٢).

٢ ـ النجدات : أصحاب نجدة بن عامر الحنفي ـ من قوم مسيلمة أيضاً ـ وقد تمكّنوا في عزّ قوّتهم من الاستيلاء على البحرين وحضرموت واليمن والطائف..

وأساس الافتراق بينهم وبين الأزارقة كان خلافهم في « التقيّة » و « القعود عن القتال ». فقال نافع : التقية لا تحلّ ، والقعود عن القتال كفر. فخالفهُ نجدة ، وقال : التقية جائزة ، والقعود عن القتال جائز ، والجهاد إذا أمكنه أفضل. فانترقا على ذلك ، فسمّي النجدات « العاذرية » لأنهم عذروا القاعد عن القتال لعذر. ثمّ قال النجدات بعدم وجوب نصب الإمام إلّا إذا اقتضت المصلحة ، تمشّياً مع حالهم في التقية التي آمنوا بها (٣).

٣ ـ الإباضيّة : وهي الفرقة الباقية اليوم من بين سائر فرقهم الاُخرى. لذا رأينا التفصيل في أخبارها أكثر :

تاريخ تسميتهم بالإباضية : نسبة إلى عبد الله بن إباض ـ بكسر الهمزة أو بفتحها ـ ولم يكونوا في تاريخهم المبكّر يستعملون هذه التسمية بل كانوا يسمّون أنفسهم : « جماعة المسلمين » و « أهل الدعوة » ولم تظهر التسمية بالإباضية في مؤلّفاتهم إلّا بعد ثلاثة قرون تقريباً (٤).

_____________

(١) الاتقان في علوم القرآن / السيوطي ٢ : ٥٦ ـ ٨٨ ـ المكتبة المصرية ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م.

(٢) اُنظر : الكامل في التاريخ ٤ : ٤٤٣.

(٣) اُنظر : الملل والنحل ١ : ١١٢.

(٤) الإمام أبو عبيدة التميمي وفقهه / مبارك بن عبد الله بن حامد الراشدي : ١٤٦ ـ


قال الراشدي ـ وهو محقّق إباضي ـ : لكنّ طغيان هذا اللقب عليهم جاء من خصومهم الاُمويين ومن جرى مجراهم.. فارتضوه لأنّهم لم يجدوا عيباً فيه ، بعكس كلمة « الخوارج » وإنْ أطلقها ـ أي كلمة الخوارج ـ المؤرّخون الإباضيون القدامى على أنفسهم في بادئ الأمر ، فإنّهم يعنون الخروج على الجور وهو الخروج في سبيل الله ، ويرادف الشراء عندهم (١).

وقال السيابي : هذه التسمية جاءتنا من مخالفينا ، فقبلناها غير متبرّمين منها (٢).

النشأة والتكوين : ينفي الإباضيّون صحّة نسبتهم إلى ابن إباض ، ويعدّونه واحداً من رؤسائهم فقط ، أما مبادئهم التي ميّزتهم فقد كانت قبل ابن إباض ، فقد أعلنها أولاً أبو بلال ، مرداس بن حدير ، وهو أحد المحكّمة الاُولى وممّن نجا من أصحاب النهروان ، وانفصل عن المارقة في البصرة ، قائلاً : « والله إنّ الصبر على هذا ـ يعني الظلم الاُموي ـ لعظيم.. وإنّ تجريد السيوف وإخافة السبيل لعظيم.. ولكنّنا ننتبذ عنهم ، ولا نجرّد سيفاً ، ولا نقاتل إلّا مَن قاتَلنا » (٣).

_____________

١٤٧ ـ ط ١ ـ ١٤١٣ هـ ، واُنظر : الإباضية عقيدة ومذهباً / د. صابر طعيمة : ٤٦ ـ دار الجيل ـ بيروت ـ ١٤٠٦ هـ فقد نقل مثل هذا عن المؤرّخ الإباضي علي يحيى بن معمر في كتابه / الإباضية بين الفرق الإسلامية : ٣٥٤ ـ مكتبة وهبة ـ القاهرة ـ ط ١ ـ ١٩٧٦ م.

(١) الإمام أبو عبيدة التميمي وفقهه / الراشدي : ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢) الفكر السياسي عند الإباضية / عدّون جهلان : ٣٦ ـ مكتبة الضامري ـ ط ٢ ـ سلطنة عمان ـ ١٤١١ هـ.

(٣) مصدر سابق / الراشدي : ٥٨٩ ، الكامل / المبرّد ٢ : ٢٠٢ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٨٩ م.


وهذا هو المبدأ الذي ميّز هذه الطائفة عن غيرها من المارقة ، وهو الذي حفظ لها وجودها وبقاءها.

وقد روي عن أبي بلال اعتقاده هذا قبل انفصاله ، فحين بلغه أنّ قريب الأزدي وزحّاف الطائي يخيفان السبيل ويقتلان من صادفهما ، قال : « قُريب ، لا قرّبه الله ! وزحّاف ، لا عفا الله عنه ! ركباها عشواء مظلمة » (١).

وكان أصحاب مرداس أربعين رجلاً ، قتلوا جميعاً قبل ظهور ابن إباض ، فيكون ابن إباض هو الرجل الذي جدّد هذه الدعوة ، فنسبت إليه.

ـ أمّا مرجعهم في الفقه والاُصول والعقيدة فإلى جابر بن زيد بن أبي الشعثاء الأزدي (٢) ، وهو تابعيّ ، خرّج أحاديثه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة ، واتّفقوا على توثيقه ، وصرّح يحيى بن معين بنسبته إلى الإباضية ، لكن المزّي ذكر رواية تنسب إليه القول بالبراءة منهم ؛ قيل له : إن هؤلاء القوم ـ الإباضية ـ ينتحلونك. فقال : أبرأ إلى الله منهم ! (٣).

ـ أمّا مصدر هم المعتمد في السنن والأحكام ، فهو : مسند الربيع بن حبيب الأزدي البصري ، ويسمّونه « الجامع الصحيح » ويعتقدون بصحّة كلّ ما فيه سواء كان مسنداً أو مرسلاً ، وهو عندهم أصحّ كتاب بعد القرآن العزيز (٤).

_____________

(١) الكامل / المبرّد ٢ : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) الإمام أبو عبيدة وفقهه / الراشدي : ١٤٨ ، الفكر السياسي عند الإباضية / عدّون جهلان : ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) اُنظر ترجمته في : تهذيب الكمال ٤ : ٤٣٦ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٣٤.

(٤) الجامع الصحيح / عبد الله بن حمد السالمي ـ المقدمة / التنبيه الأول : ٢ ـ مكتبة مسقط ـ ط ١ ـ ١٤١٥ هـ.


وقد ضمّ المسند أكثر قليلاً من ألف حديث (١) ، ومعظم هذا المسند هو من رواية جابر بن زيد عن ابن عباس ، وفيه أحد عشر حديثاً ومسألة عن عليّ عليه‌السلام.

الانتشار : كان لهذا المذهب انتشار مبكّر في عُمان ، تأثّراً بجابر بن زيد صاحب المسند الجامع ، كنا انتقل هذا المذهب من البصرة إلى المغرب العربي بواسطة سلمة بن سعد في سنة ١٠٠ هـ ، في نفس الوقت الذي انتقلت فيه مقولة الصفرية ـ إحدى فرق المارقة ـ إلى هناك بواسطة عكرمة مولى ابن عبّاس.

ومن هنا فقد ظهرت لديهم أحاديث عجيبة في فضل البربر وأهل عمان ؛ فجبريل يوصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتقوى الله وبالبربر ! وعلي وابن مسعود يُكثران الوصاية بهم ويفسّران غير واحدةٍ من آي القرآن فيهم ، كقوله تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (٢) وقوله تعالى : ( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) (٣) فهم البربر !

وقد سئل شيخهم المعاصر عن هذه الأحاديث ، فقال : الأحاديث التي وردت في فضائل أهل عمان وفي فضل عمان ذاتها أخرجها مسلم في صحيحه ! وأمّا التي ذكرها أبو زكريّا في البربر فلا يُعلَم صحّتها من عدمها ، أمّا الجامع

_____________

(١) ينتهي تسلسل أحاديثه برقم ١٠٠٥ ، لكن كثيراً من الأرقام قد وضع وراءها أكثر من حديث واحد مختلفة سنداً ومتناً كما في الرقم (٧٨٨) و (٧٩٢) و (٨٠٥) وغيرها.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

(٣) سورة محمّد : ٤٧ / ٣٨.


الصحيح فليس فيه شيء لا في عمان وأهلها ، ولا في البربر ! (١).

المبادئ : المبادئ التي ميّزتهم عن سائر طوائف المارقين ، هي :

أ ـ استنكارهم الحكم على دار الإسلام كلّها بأنّها دار حرب ، وقولهم بأنّها دار توحيد ، إلّا معسكر السلطان فإنّه دار بغي.

ب ـ تحريمهم قتال مخالفيهم وسبيهم في السرّ غيلةً ، إلّا بعد نصب القتال وإقامة الحجّة.

ج ـ الحكم على مخالفيهم من المسلمين بأنّهم كفّار نعمة ، لا كفّار في الاعتقاد ولا مشركين.. وقال المعاصرون منهم : إن لفظ (كفّار نعمة) يطلقه الإباضيون حتّى على العصاة منهم ، دون تمييز بين أبناء جماعتهم وبين مخالفيهم.

د ـ إنّهم يعاملون مخالفيهم في القتال معاملة الفئة الباغية ، فلا يستحلّون شيئاً من أموالهم كغنيمة (٢).

هـ ـ في موقفهم من الإمام علي عليه‌السلام ومن عثمان اختلفوا كثيراً عن غيرهم ، فقالوا : « إنّ ممّا يميّز الإباضيّة : حبّهم لأبي بكر وعمر ، وكفّ ألسنتهم عن عثمان وعليّ لما ألمّا به من الفتن وتقلّب الأحوال ، وقبولهم عمر بن عبد العزيز ، وتركهم ما سواه من بني اُميّة وإعراضهم عنهم وعن بني العبّاس » (٣). ونسبوا هذا القول

_____________

(١) الإمام أبو عبيدة التميمي وفقهه / الراشدي : ٣٣٥.

(٢) راجع في ذلك كلّه : الملل والنحل ١ : ١٢١ ، المذاهب الإسلامية : ١٢٧.

(٣) أصدق المناهج في تمييز الإباضية من الخوارج / سالم بن حمود السمائلي : ٢٩ ـ القاهرة ـ ١٩٧٩ م ، فصل الخطاب في المسألة والجواب / خلفان بن جميل السيابي : ٢٠ ـ ٢١ ، ٣٧ ـ وزارة التراث القومي والثقافة ـ سلطنة عمان ـ ١٤٠٤ هـ.


إلى سَلَفهم الأوّل ، كأبي عبيدة التميمي وشيخه جابر بن زيد (١).

وقد استنكروا على بني اُميّة شتمهم أمير المؤمنين والسبطين عليهم‌السلام وعدّوه من بدعهم في الدين ، ونقلوا عن أسلافهم أنّهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم لئلّا يسمعوا هذا الشتمّ في خطب الاُمويّين (٢). وزادوا على ذلك أنّ أصحابهم هم الذين طلبوا من عمر بن عبد العزيز ترك ذلك والنهي عنه ، ففعل ! (٣)

وأجاب السيابي عن سؤال في الحسن والحسين عليهم‌السلام ، فقال : « أمّا الحسن والحسين فهما سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتاه ، وهو يُحبّهما ، ووردت فيهما أحاديث ، أمّا الأحداث التي جرت بين الصحابة فكلّهم مجتهد وملتمس للحقّ ـ فيذكر المتقدّمين الذين شهدوا الأحداث فحكموا بما شهدوا ، ثمّ يقول ـ أمّا اليوم فلسنا نحن مثلهم ولا علمنا في ذلك كعلمهم ، ولا نقلّد ديننا الرجال ، وما كلّفنا الله التنقيب والتفتيش عن عيوب الناس وعن حال من مضى ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤).

وما مضى قبلك لو بساعة

دعه فليس البحث عنه طاعة » (٥)

فهذا أثر واضح للتحرّر نسبيّاً من قيد التقليد ، ولقد جاوز الإباضية التقليد الأعمى في عهد مبكّر ، كما هو ظاهر جدّاً عند ابن سلام الإباضي المتوفّى بعد سنة

_____________

(١) الفكر السياسي عند الإباضية : ٧٦.

(٢) بدء الإسلام وشرائع الدين / ابن سلّام الإباضي : ٩٩ ـ ١٤٠٦ هـ ، الإمام أبو عبيدة وفقهه : ٩٠.

(٣) الإمام أبو عبيدة وفقهه : ١٥٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٣٤.

(٥) فصل الخطاب في المسألة والجواب : ٢٠.


٢٧٣ هـ في كتابه (بدء الإسلام وشرائع الدين) (١).

وقال شيخهم المعاصر أحمد الخليلي يصف ما كتبه الإباضية في هذا الشأن بأنّه « يتّسم بالأدب والحشمة وتعظيم مقام الإمام عليّ واحترام قرابته من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى في مقام العتاب » (٢).

وهذه ظاهرة يجدها الباحث في غالب كتبهم ، وقد شذَّ عنها بعضهم ، لا سيّما محمّد بن سعيد الأزدي القلهاني الإباضي ، من أعلام القرن الحادي عشر الهجري ، في كتابه (الفرق الإسلامية من خلال الكشف والبيان) (٣).

من عقائدهم في الصفات : إنّ أغلب عقائدهم في الصفات مطابق للثابت عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهذه أهم أركانها :

أ ـ تنزيه الله تعالى ، بنفي التشبيه والتعطيل والتجسيم ، خلافاً للحشوية ، والمجسّمة ، والجهمية المعطّلة.

ب ـ نفي رؤية العباد لربّهم تعالى شأنه ، في الدنيا وفي الآخرة ، خلافاً للأشعرية والحشوية.

جـ ـ القول بأنّ صفات الله عين ذاته ، وليست بزائدة عليها ، خلافاً للأشعريّة والحشوية (٤).

ولأجل هذه العقائد وصفهم بعض المؤرّخين بأنّهم (معتزلة) في العقائد ،

_____________

(١) شارك في تحقيقه : فيرنر شفارتس ، والشيخ الإباضي سالم بن يعقوب ، طبع سنة ١٤٠٦ هـ ، ١٩٨٦ م.

(٢) الفكر السياسي عند الإباضية : ٧٦.

(٣) طبع في تونس عام ١٩٨٤ بتحقيق محمّد بن عبد الجليل.

(٤) الفكر السياسي عند الإباضية : ٦٨ ـ ٧٢.


وقَلَبَ آخرون : القول مع إقذاع في الكلام ، فوصفوا المعتزلة بأنّهم (مخانيث الخوارج) ! (١).

لكنّ الإباضية خالفوا المعتزلة ـ كما خالفوا أهل البيت عليهم‌السلام ـ ووافقوا الحشوية والأشعرية في مسألة خلق القرآن (٢).

الجبرية :

لقد احتاج الاُمويون منذ البداية إلى تبرير سياستهم الجائرة وركوبهم المعاصي ، فذهبوا إلى تأويل بعض آي القرآن الكريم بما يفيد الجبر والتسيير ، ليقولوا للناس إنّ ما صنعناه إنّما هو من قضاء الله تعالى وقدره ، وليس من أيدينا ، بل حتّى مناصبهم هذه فهي من الله تعالى فهو الذي جاء بهم إلى الملك وملّكهم ، لأنّه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء !! هكذا ليكونوا أبرياء من كلّ ما ارتكبوه في طريقهم إلى انتزاع الملك ! وليكونوا مخوّلين في كلّ ما يصنعون بعد ذلك.. وبمثل هذا التأويل الفاسد أصبح يتكلّم بعدهم علماء كبار !! يقول ابن العربي في معرض « تأسّفه ! » على مصرع الحسين عليه‌السلام : « ولو لا معرفة أشياخ الصحابة وأعيان الاُمّة بأنّه أمر صرفه الله عن أهل البيت... وما أسلموه أبداً » ! (٣)

_____________

(١) الفكر السياسي عند الإباضية : ٨٢. ونسبه إلى ابن تيمية ! والصواب أنّه كلام معروف قبل ابن تيمية (٧٢٨ ه‍) بقرون ، فقد نقله البغدادي (٤٢٩ هـ‍) بنصّه في كتاب / الفرق بين الفِرق : ٨٢.

(٢) الفكر السياسي عند الإباضية : ٧٩.

(٣) العواصم من القواصم ـ بتعليق محب الدين الخطيب : ٢٤٥.


والحقّ أنّنا لو تقدّمنا في عمق التاريخ لوجدنا هذه المقولة قد تقدّمت عصر معاوية في ظهور سابق بها على لسان عمر بن الخطاب ، وهو يردّ على ابن عباس تذكيره بإرادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تنصيب عليّ لخلافته ، فيقول : وماذا كان ، إذا أراد رسول الله شيئاً وأراد الله شيئاً غيره ؟!

وفي الحالين كان (نظام الغَلَبة) هو الباعث إلى هذه المقولة !

ولقد حاول معاوية أن يجعل منبره منبراً لهذه العقيدة ، لكنه اصطدم في أول محاولة له بعقلٍ حرّ أفسد عليه حيلته : خطب معاوية خطبةً قال فيها : إنّ الله تعالى يقول : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (١) فعلامَ تلومونني إذا قصّرتُ في إعطائكم ؟!

فقال له الأحنف بن قيس : إنّا والله ما نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن على ما أنزله لنا من خزائنه فجعلتَهُ أنتَ في خزائنك وحُلتَ بيننا وبينه ! (٢)

عندئذٍ أخذتْ هذه العقيدة تتمدّد وتنتشر بالسبل الاُخرى وبدعم صريح من السلطة حتّى صار لها نفوذ واسع في وقت مبكّر جداً.

ـ قيل لابن عبّاس : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّهم أتوا ما أتوا من قِبل الله تعالى ، وأنّ الله أجبرهم على المعاصي !

فقال : لو أعلم أنّ هاهنا منهم أحداً لقبضتُ على حلقه فعصرته حتّى تذهب روحه ، لا تقولوا أجبر اللهُ على المعاصي ولا تقولوا لم يعلم الله ما العباد

_____________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٢١.

(٢) ربيع الأبرار / الزمخشري : ٦٨٣ ـ منشورات الشريف الرضي ـ قم ـ ١٤١٠ هـ.


عاملون ! (١)

ـ ولقد أدرك ابن عبّاس أنّ مصدر هذا الانحراف الفكري هو السلطة وأنصارها ، فخاطبهم خطاباً عنيفاً ، قال فيه : أتأمرون الناسَ بالتقوى وبكم ضلّ المتّقون ؟! وتنهونَ الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون ؟! يا أبناء سَلَف المنافقين ، وأعوان الظالمين ، وخزّان مساجد الفاسقين ! هل منكم إلّا مفترٍ على الله ، يجعل إجرامه عليه سبحانه وينسبه علانيةً إليه ؟! (٢)

ـ واقتحمت هذه العقيدة البصرة ، ورقت إلى مجلس الحسن البصري ، فزجر أصحابها وقال : « إنّ الله خلقَ الخلق للابتلاء ، لم يطيعوه بإكراه ولم يعصوه بغَلَبة ، وهو القادر على ما أقدرهم عليه ، والمالك لما ملكهم إيّاه ، فإن يأتمروا بطاعة الله لم يكن لهم مثبّطاً ، بل يزيدهم هدىً إلى هداهم وتقوىً إلى تقواهم ، وإن يأتمروا بمعصية الله كان الله قادراً على صرفهم ، إن شاء حال بينهم وبين المعصية ، فمن بعد إعذار وإنذار » (٣).

ورغم تلك المواجهات فقد ترقّى الأمر بهذا المذهب حتّى دان به كبار من أهل العلم ودافعوا عنه حتّى أصبح هو المذهب الغالب في ملّة الإسلام ، حتّى انتقل إلى الأشعري فعزّزه ونفخ فيه روحاً جديدة ، بعد تعديل لفظي أدخله بعنوان (الكسب) (٤) وهو مفهوم اعتباري ليس له أيّ قيمة حقيقية ، وإنّما

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ١٧٣ عن (المنية والأمل) للمرتضى.

(٢) المذاهب الإسلامية : ١٧٢.

(٣) العقد الفريد / ابن عبد ربه ٢ : ٨٣ ـ دار ومكتبة الهلال ـ بيروت ـ ١٩٨٦ م ، ونحوه في المذاهب الإسلامية : ١٧٢ ـ ١٧٣ عن المنية والأمل.

(٤) اضطربوا في تعريف الكسب كثيراً ، والمحصل أنّ بين قدرة الله المؤثرة على العبد


اُريد به التميّز عن الجبرية الخالصة التي طالما سخر منها الأشعري أيّام كان معتزليّاً.

ومنذ زمن عبد الملك بن مروان كان أقطاب هذا المذهب في الشام يروّجون لفكرة جديدة تساهم في تطويره ، لكنّها افتضحت حين لم يتقنوا صياغتها ، إذ كانوا يقولون : إنّ الله إذا استرعى عبداً رعيّته كتبَ له الحسنات ، ولم يكتب عليه السيئات !. لكنّها كانت مقولة هزيلة تردّد حتّى الوليد بن عبد الملك في قبولها (١).

وبقيت هذه المقولة تَتّهم الله تعالى بإكراه العبد على المعاصي ، وأنّه تعالى هو الخالق لهذه المعاصي التي تجري على أيدي العباد ، ثمّ هو يعذّبهم عليها ! بحجّة ساذجة يردّدونها دوماً ، مفادها أنّ الله تعالى لا يُعصى مكرَهاً ، فهو إذن لا يعصى إلّا وهو يريد هذه المعصية أن تقع من العاصي ، ثمّ هو الذي يخلقها فيه

_____________

وبين إيجاد الله لأفعال العبد ، هناك قدرة حادثة مقارنة لقدرة الله ، وهي الكسب.. وقد اعترف متأخروهم بأنّ هذا الكلام لا معنى له ، إذ ما فائدة وجود قدرة ليس لها أي دور إلّا الاقتران ؟ [اليواقيت والجواهر / الشعراني ١ : ١٤٠ ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٩٥٩ م] وقد طعن أكثر الناس بنظرية « الكسب » وقالوا : عجائب الكلام ثلاثة : طفرة النظّام ، وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعري ! وأنشد بعضهم في ذلك :

مما يقالُ ولا حقيقة تحته

معقولة ، تدنو إلى الأفهام

الكسبُ عند الأشعري والحالُ عنـ

ـدَ الهاشمي ، وطفرةُ النظّام

[منهاج السنّة / ابن تيمية ١ : ١٢٧].

(١) اُنظر استفساره من الزهري عنها ، وجواب الزهري في إبطالها : العقد الفريد ١ : ٤٦.


لأنّه ( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (١) ! هكذا دون تمييز بين إرادة تكوينية وإرادة تشريعية ، ولا معرفة صادقة بمعاني هيمنة الله تعالى وقدرته.

المفوّضة « القدريّة » :

إنّ دعوة الاُمويّين لتثبيت دعائم الجبرية كانت السبب المباشر في ظهور الاتجاه العقيدي المعاكس الذي أنكر الجبر ، ونادى بحرية الاختيار الإنساني..

وفي نفس الموطن الذي نبتت فيه عقيدة الجبر وترعرعت نشطت العقيدة المعاكسة ، وإن كان أول ظهور لها في العراق على يد التابعي معبد الجهني ، وعنه أخذها صاحبه غيلان الدمشقي..

فكانت هذه العقيدة ردّ فعل صريح للقول بالجبر.. ففي أول لقاء لمعبد الجهني بالحسن البصري في البصرة ، قال له : يا أبا سعيد ، إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ، ويقولون : إنّما تجري أعمالنا على قَدَر الله !

فقال له الحسن البصري : كذبَ أعداءُ الله ! (٢)

وثار معبد على الاُمويين في حركة القرّاء أيام عبد الملك بن مروان ، فأخذه الحجّاج بعد فشل الحركة فعذّبه ثمّ قتله (٣).

ومضى غيلان في دمشق يشنّع على الاُمويين وأنصارهم في استنكار مقولتهم الجبرية ، حتّى أحسّ أنّهم طلبوه ، فهرب منهم حتّى زمن عمر بن عبد العزيز ، فلمّا رأى منه عدلاً كتب إليه كتاباً يذكّره فيه ويعظّم عليه مقولة سَلَفه ، مما جاء

_____________

(١) سورة الصافّات : ٣٧ / ٩٦.

(٢) اُنظر : تطوّر تفسير القرآن : ١٠١.

(٣) البداية والنهاية ٩ : ٤٣.


فيها ، قوله : « هل وجدتَ يا عُمر حاكماً يعيبُ ما يصنع ؟ أو يصنع ما يُعيب ؟ أو يعذّب على ما قضى ؟ أو يقضي ما يُعذِّب عليه ؟! أم هل وجدتَ رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة ؟ أو يعذّبهم على الطاعة ؟! أم هل وجدت عدلاً يحمل الناسَ على الظلم والتظالم ؟ وهل وجدتَ صادقاً يحمل الناس على الكذب والتكاذب ؟! كفى ببيان هذا بياناً ، وبالعمى عنه عمى ! (١)

فدعاه عمر بن عبد العزيز فسأله عن عقيدته ليناظره فيها ، وكان عمر جبرياً ، وكان من وراء عمر حاجب له يشير إلى غيلان بالذبح ! فعلم غيلان أنّ عمر قد عزم على قتله ، فأجابه إلى ما أراد ، وقال له : « لقد جئتك ضالاً فهديتني ، وأعمى فبصّرتني ، وجاهلاً فعلّمتني ، والله لا أتكلّم في شيء من هذا الأمر » ! (٢) لكنّه عاد إلى الكلام فيه بعد موت عمر ، حتّى قبض عليه هشام بن عبد الملك فقتله بعد مناظرة قصيرة أدارها معه الأوزاعي بدعوة من هشام لتكون ذريعةً إلى القتل الفوري (٣).

والخطأ الذي ارتكبه هؤلاء أنّهم حين قالوا بالإرادة والاختيار فوّضوا كلّ شيءٍ إلى الإنسان ونفوا كلّ أثر لمشيئة الله تعالى وإذنه ، ففرّطوا في مشيئة الله في مقابل إفراط الجبريين الذي عطّلوا أيّ دور وأثر للإنسان في أقواله وأفعاله !

وانتقل هذا المذهب من معبد وغيلان إلى المعتزلة ، فبقي ببقائهم ، ثمّ اضمحلّ باضمحلالهم.

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ١٨٨.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٠ : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٣) راجع : مختصر تاريخ دمشق ٢٠ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، المذاهب الإسلامية : ١٩٠.


ـ أمّا ما يتناقله أصحاب الفِرَق وتواريخها من نسبة هذه المقولة إلى النصارى وأنّ معبد الجهني أخذها من رجل نصراني ، فهو كلام ليس له قيمة علمية ، ولا يعدو كونه لوناً من ألوان التراشق بالتُّهم بين الخصوم ، مع ملاحظة أنّ هذا الفريق كان يواجه تيار السلطة وأنصارها !

ولهذا السبب نفسه تجد كتب الحديث مليئة بالأحاديث التي تؤيّد عقيدة الجبر ، وتحذّر من « القدرية » ومقولتهم في نفي القدر ! وتعدّت الأحاديث تسمية القدرية إلى تسمية غيلان الدمشقي باسمه الصريح ونسبته الدمشقية ، تدينه وتحذّر منه ، وتثني على وهب بن منبّه الذي كان يخاصمه دفاعاً عن عقيدة السلطان (١) !! الحديث يقول : « سيكون في اُمّتي رجلان : أحدهما يقال له وهب ، يؤتيه الله الحكم ، والآخر يقال له غيلان هو شرّ على اُمّتي من إبليس » (٢) !!

بل ولهذا السبب نفسه لُقّب هؤلاء بالقَدَرية وهم نفاة القَدَر ، وهذا اللقب أولى أن يطلق على من أثبت القدر اللازم ، وسرّ ذلك أنّ القويّ المتغلّب لمّا علم بالحديث المروي في ذكر مجوس هذه الاُمّة وقد سمّاهم (القدرية) سارع إلى تطويق خصومه به والاحتيال في تبريره (٣) ! وسوف تأتي شهادة الإمام علي عليه‌السلام أنّ القدرية الذين شبّههم الحديث بالمجوس إنّما هم القائلين بالجبر ، والذين سُمّوا جبرية ! (٤).

_____________

(١) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٥ : ٥٤٣ ـ دار صادر ـ بيروت ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٥٤٦.

(٢) اُنظر : دلائل النبوة / البيهقي ٦ : ٤٩٦ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٨٥ م.

(٣) راجع ص ٤٣ من كتابنا : تاريخ الإسلام الثقافي ـ مركز الغدير ـ ط ١ ـ ١٤١٧ هـ.

(٤) اُنظر : الملل والنحل : ٤٩.


هَديُ الكتاب والسنّة في الفعل والإرادة :

ـ عن عليّ عليه‌السلام وهو يردّ شبهة علقت في ذهن أحدهم ، قال : « لعلّك تظنّ قضاءً حتماً وقَدَراً لازماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر ، ولسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم يكن علي مسيءٍ لائمة ، ولا لمحسن محمدة.. تلك مقالةُ عَبَدةِ الأوثان وخصماء الرحمن ، وقَدَرية هذه الاُمّة ومجوسها.. » ! فهو إلى هنا ينقض مقولة الجبرية ويسمّيهم بالاسم الذي هو أوفق بهم « القَدَرية » لأنّهم الذين أثبتوا القدر اللازم.. ثمّ يُخبر بأنّ هؤلاء هم المرادون في حديث « القدرية مجوس هذه الاُمّة » وليس خصومهم القائلين بالتفويض !

ثمّ يواصل عليه‌السلام كلامه قائلاً :

« إنّ الله عزّوجلّ كلّف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل ، ولم يُعْصَ مكرَهاً ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظنّ الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار » ! (١) وهذا ردّ على الفريقين : الجبرية والمفوضة معاً.

ـ الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الناس في القَدَر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أن الله عزّوجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا ظَلَمَ الله في حكمه ، فهو كافر.. ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد أوهَنَ الله في سلطانه ، فهو كافر.. ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما

_____________

(١) نهج البلاغة / تحقيق الدكتور صبحي الصالح : ٤٨١ / الحكمة ٧٨ ـ منشورات دار الهجرة ، والتوحيد / الصدوق : باب ٦٠ / ح ٢٨ ـ مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.


لا يطيقون وإذا أحسنَ حمدَ الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ » (١).

ـ الإمام الرضا عليه‌السلام ، قال : « ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه : إنّ الله عزّوجلّ لم يُطَع بإكراه ، ولم يُعْصَ بغَلَبة ، ولم يُهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمرَ العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينَهم وبين ذلك فَعل ، وإن لم يَحُلْ وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه » (٢).

وعشرات النصوص في هذا المعنى عن سائر الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم يشرحون العقيدة الصحيحة ، ويردّون الانحرافات.. ولقد رأينا مثل هذا المعنى عند ابن عبّاس والحسن البصري كما تقدّم ، وعلى هذه العقيدة أتباع أهل البيت عليهم‌السلام.

المرجئة :

أمّا مصدر التسمية بالمرجئة ؛ فهو الاشتقاق ؛ إمّا من الإرجاء بمعنى التأخير ، كما في قوله تعالى : ( قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ) (٣) أي أمهله وأخّره ، وذلك لأنّهم يؤخّرون العمل عن الإيمان ، أي يقولون إنّ الإيمان إنّما هو معرفة بالقلب وتصديق باللسان ، ولا يضرّ مع الإيمان ذنب.. أو لأنّهم أرجأوا الحكم في مرتكب الكبيرة إلى الله تعالى ، كما في قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ

_____________

(١) التوحيد / الصدوق : باب ٥٩ / ح ٥.

(٢) التوحيد : باب ٥٩ / ح ٧.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١١١ ، سورة الشعراء : ٢٦ / ٣٦.


اللَّـهِ ) (١).

أو هو مشتقّ من الرجاء ، بمعنى رجاء الثواب لأهل المعاصي ، لقولهم : لا تضرّ مع الإيمان معصية (٢).

أمّا أقسام المرجئة ، فالرئيسية المتّفق عليها تقريباً ثلاثة :

أ ـ مرجئة القدرية : الذين قالوا بالقَدَر (التفويض) مع الإرجاء.

ب ـ مرجئة الجبرية : الذين قالوا بالجبر مع الإرجاء.

ج ـ المرجئة الخالصة : الذين لم يخلطوا الإرجاء بالجبر ولا بالتفويض (٣).

وقسم رابع ذكره الشهرستاني بعنوان : مرجئة الخوارج. كما ذكر أنّ (غيلان الدمشقي) أحد زعماء الإرجاء ، قد جمع خصالاً ثلاثاً : الإرجاء ، والقَدَر ، والخروج (٤).

إذن هذه أقسام يجمعها القول بأنّ الإيمان معرفة بالقلب وتصديق باللسان ، ولا يضّر معه معصية ، وأنّ الحكم على المذنبين مُرجىً إلى الله تعالى ، وعامّتهم قالوا : إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص..

ثمّ اختلفوا بعد ذلك في عقائد اُخرى على أساسها جرى تقسيمهم المذكور.

ـ وثمّة أصل آخر مذكور ، جامع لكلّ تلك الأقسام ، وهو ما ذكره الشهرستاني من أنّ الإرجاء قد يطلق على من أخّر أمير المؤمنين عليّاً عن

_____________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٠٦.

(٢) اُنظر : الملل والنحل ١ : ١٢٥ ، الخطط المقريزية ٢ : ٣٤٩.

(٣) الفرق بين الفِرق : ١٥١ ، الملل والنحل ١ : ١٢٥.

(٤) الملل والنحل ١ : ١٢٥ ، ١٢٧.


مرتبته إلى المرتبة الرابعة (١).

وعلى هذا القول الأخير تكون « المرجئة » التسمية الأسبق لـ : « أهل السنّة والجماعة » وهو بهذا المعنى تعبير تامّ عن الواقع التاريخي للخلافة.

لكنّ الذي يثار هنا أنّ هذه التسمية سيكون مصدرها عندئذٍ القائلون بتقديم عليّ عليه‌السلام ، وهذه التسمية إن لم تظهر في أيّامه ، فقد كان بعده أهل بيته وأنصاره مضطهدين سياسياً وإعلامياً واجتماعياً ، فهل كان موقعهم ذاك يؤهّلهم لإطلاق هذه التسمية على خصمهم المتنفّذ القاهر حتّى تغلب عليه ؟!

ويكفي في الجواب على هذا الإيراد : التعريف الذي أورده الأشعري ، فهو مطابق لما قاله الشهرستاني في شمول لقب « المرجئة » للقائلين بتأخير الإمام عليّ ، لكن ليس التأخير هذا هو مصدر التسمية ، إنّما كان مصدرها « عقيدتهم في تولّي المختلفين جميعاً ، وزعمهم أنّ أهل القبلة كلّهم مؤمنون ، ورجوا لهم جميعاً المغفرة » (٢). إذن رجاؤهم المغفرة للجميع هو مصدر تسميتهم.

لكن أحمد بن حمدان الرازي قد نبّه إلى خطأ لم يتنبّه له سابقه ، فعدّ إرجاع

_____________

(١) الملل والنحل ١ : ١٢٥ ، ومن الغريب جدّاً أنّ الاستاذ محمّد عمارة ينسب هذا القول إلى كتاب (الكافي) للكليني ، فيقول : وفي الكافي نصّ هامٍّ يشهد لهذا التفسير يقول : « وقد تُطلق المرجئة على من أخّر أمير المؤمنين عليّاً عن مرتبته » والنصّ الهامّ هذا كما علم الأستاذ هو في هامش الكافي (١ : ١٦٩) وليس في الكافي والهامش ، كما لا يخفى على أحد هو ليس لصاحب الكافي بل هو للمحقّق ، وقد أخذه الأخير من كتب الفِرق ، فكيف ينسب إلى الكافي ؟! ولكن صنع الأستاذ هذا لغرض سيأتي ذكره.

(٢) المقالات والفِرق / الأشعري : ٥ ـ ٦ ـ ط ٣ ـ ١٩٨١ م.


لفظ « المرجئة » إلى الرجاء من الكلام العامّي ! لأنّ الرجاء من رجا يرجو فهو راج ٍ، وأمّا المرجئ ، فهو من أرجأ يرجئ فهو مرجئ. فصوّب النسبة إلى التأخير بكلا وجهيه المذكورين ، إمّا من قولهم في أصحاب الذنوب « نرجئ أمرهم إلى الله » وإمّا من تأخير هم العمل عن الإيمان. قال : ولكن هذا صحيح من حيث اللغة فقط ، أمّا من حيث التأويل فالأمر مختلف.

وله هنا نقاش جميل ، خلاصته : أنّه إذا لزمهم لقب المرجئة لإرجاء أمرهم إلى الله ، فإنّ هذا القول قد قال به قوم من المعتزلة وقوم مالوا إلى التشيّع فإذن لزم هؤلاء جميعاً اسم الإرجاء.. لكن لا تعرف الأُمّة أحداً يقال له هذا شيعي مرجئ !

وأمّا القول بلزوم لقب الإرجاء لقولهم « الإيمان قول بلا عمل » فهو خطأ ، لأنّهم بقولهم هذا قد اسقطوا العمل ولم يؤخّروا رتبته عن الإيمان ، وإنّما يقال أرجأت الشيء : إذا أخّرته ، ولا يقال أرجأته بمعنى أسقطته.

ثمّ ينتهي إلى اختيار أنّ الإرجاء لقب لزم كلّ من فضّل أبا بكر وعمر على عليّ ، كما أنّ التشيّع قد لزم كلّ مَن فضّل عليّاً على أبي بكر وعمر.. قال : ويقال إنّ أوّل ما وضع اسم الارجاء وظهر وشاع لمّا افترق أصحاب عليّ بعد الحكمين فصار الناس ثلاث فرق : فرقة مع عليّ سُمّوا « الشيعة » فظهر اسم التشيّع ظهوراً شائعاً ، وفرقة خرجت عليه فسمّوا « المارقة » وظهر هذا اللقب عليهم ، وفرقة كانوا مع معاوية فسمّوا « المرجئة » وظهر اللقب عليهم واُعلن إعلاناً.

ثم قال : هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتّفقت عليه الأُمّة.. فكثيراً ما يقال : مرجئ قدري ، شيعي قدري.. لكن لم نرَ أحداً يقال له هذا مرجئ شيعي ، أو مرجئ رافضي ، هذا محال جدّاً.


ويؤكّد اختياره بما رواه من شعر لشاعر قال إنّه مشهور ومن رواة الحديث اسمه محارب بن دثار ، يقول فيه :

يعيبُ عليَّ أقوامٌ شفاهاً

بأنْ اُرجي أبا حسنٍ عليّا

وإرجائي أبا حسنٍ صواب

عل القطرين برّاً أو شقيّا

وليس عليَّ في « الإرجاء » بأسٌ

ولا شينٌ ولست أخاف شيّا

ثمّ نقل بعد هذه الأبيات أبياتاً أخرى للسيد الحميري ، تثبت هذا المعنى ، يقول فيها :

خليليّ لا ترجيا واعلما

بأنَّ الهدى غير ما تزعمانِ

فإرجاء ذي الشك بعد اليقين

وضعف البصيرة بعد البيانِ

ضلال أزيلاهما عنكما

فبئست لعمركما الخصلتانِ

أيُرجى عليٌّ إمام الهدى

وعثمان ، ما اعتدل المرجيانِ

ويُرجى ابن هند وأحزابه

وهوج الخوارج بالنهروانِ

ويُرجى الأُلى نصروا نعثلاً

بأعلى الخريبةِ والسامرانِ

ثمّ قال : فهذا يصحّح أنّ الإرجاء هو تأخير عليّ وتقديم أبي بكر (١).

وهذا أجمل وأقوى ما أورده القدامى والمحدثون ، وله تأييد في قول أبي خلف الأشعري ، وقول الشهرستاني ، فهما يتّفقان على أنّ حقيقة الإرجاء الأولى إنّما هي تأخير رتبة عليّ عليه‌السلام عن حقّها وتقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه.. فالمرجئة ـ على هذا ـ هم الطائفة التي لقّبت نفسها فيما بعد بلقب « الجماعة »

_____________

(١) كتاب الزينة / أحمد بن حمدان الرازي ، أبو حاتم : ٢٦٣ ـ ٢٦٦ ـ ملحق بكتاب الغلو والفرق الغالية للدكتور عبد الله سلّوم السامرائي ـ دار واسط للنشر ـ بغداد ـ ١٩٨٢ م.


و « أهل السنّة »..

وممّا يدلّ على أسبقية اسم المرجئة لهم ما ذكره أبو حاتم الرازي نفسه بعد نقله لشعر السيد الحميري بقوله : « وسمعت من يذكر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انما شبّه المرجئة باليهود.. ». والراجح أنّه من الأحاديث التي ظهرت بعد ظهور هذه الفرق.

ثمّ لما صارت الغلبة لأهل الإرجاء بزعامة ابن أبي سفيان أطلق على المرجئة اسم « الجماعة » ! فيما احتلّ الإرجاء موقعاً آخر حين أصبح يعبّر فقط عن الموقف من مرتكب الكبيرة !

وهذا منسجم جداً مع قانون أثر الغلبة في اختيار الأسماء وترويجها.

فلمّا ظهر التفسير الثاني للإرجاء ، أصبح مقابلاً للوعيد وليس مقابلاً للتشيّع ! فأصبح الوعيدية ـ المعتزلة ـ يطلقونه على من خالفهم في الوعيد ولم يقطع بتخليد مرتكب الكبيرة بالنار ، كما نقله عنهم الشهرستاني وهذا هو الذي يفسّر لنا نسبة الإرجاء إلى الحسن بن محمّد بن الحنيفة ، إذ عدّه بعضهم أوّل من تكلّم بالإرجاء وكتب به إلى الأمصار. فهو إن صحّ عنه ذلك يكون قد تكلّم بالإرجاء الأخير في مرتكب الكبيرة ، وليس بالإرجاء بمعناه الحقيقي الأوّل. وهذا ما اختاره الشيخ أبو زهرة ، وفيه تفنيد للرأي الذي يستدل من نسبة الحسن إلى الإرجاء على أنّه كان يقول بتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على عليّ عليه‌السلام (١) !

ومن الناحية الجامعة للأثرين : السياسي والعقيدي ، يتمّ تقسيم المرجئة

_____________

(١) وهو اختيار الدكتور محمّد عمارة.


إلى طائفتين : الأولى هي طائفة السلطة الاُموية ، وهي التي عُرفت بالمرجئة الخالصة ، وأهل الإرجاء المحض.. والثانية بقيت على الإيمان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستوعبت باقي أقسام المرجئة من جبرية وقدرية وغيرهم.

مبدأ ظهور الإرجاء ؟

من تمحيص الآراء المتضاربة يتحقّق أنّ أقدم ظهور للإرجاء ، بمعناه المشهور في الفصل بين الإيمان والعمل ، إنّما كان عند معاوية بن أبي سفيان وأصحابه ، ذلك إذا فسّرت أقواله على أساس الإيمان باليوم الآخر ، ولم تفسّر بحسب الظاهر الموحي أحياناً والصريح أحياناً اُخرى بالاستخفاف بإليوم الآخر وبالحساب !

فبمَ يُفسَّر قوله للأنصار ، وقد قالوا له : لقد أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما لقينا ، فقد قال لنا : « ستلقون بعدي أثَرة » قال معاوية : بماذا أوصاكم ؟ قالوا : قال لنا : « فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض » فقال لهم معاوية : فاصبروا إذن !! (١)

بمَ يفسَّر هذا الكلام إن لم يكن هو الاستخفاف بوعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباللقاء وبالحساب ؟! فلئن عدنا إلى حساب الإيمان ، فإنّ معاوية أول من أظهر الاعتقاد بأنّ الإيمان لا يضرّ معه ذنب ومعصية ، فتمادى في المعاصي غير مكترث بشيء ، فلمّا قيل له : حاربتَ من تَعلم ! وار تكبتَ ما تعلم !! قال : وثقت بقول الله : ( إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ). (٢) !!

_____________

(١) النصائح الكافية : ١٢٥ عن ابن عبد البرّ.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٦ : ٣٢٥ ـ دار إحياء الكتب العربية ـ مصر ، الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية / محمّد عمارة : ١٧٤ ، والآية من سورة الزمر : ٣٩ / ٥٣.


والإرجاء الذي قال به معاوية وعمرو بن العاص ومن ناصر الدولة الاُموية هو الذي عرّفوه بالإرجاء الخالص أو « المحض » رغم أنّ معاوية وأصحابه كانوا يعتقدون بالجبر أيضاً ، لكنّ هنا فريقين يقولان بالإرجاء والجبر معاً أحدهما فريق السلطة الاُموية ، والآخر فريق ثائر على السلطة ، فعرّفوا هذا بالجبري وذلك بالمحض تمييزاً بينهما (١).

إنما قال هؤلاء بالإرجاء ليبرّروا للسلطة عَبَثها بأحكام الدين ، ولعبها بكتاب الله وسنّة نبيّه ، واستباحتها لحرمات المؤمنين واستبدادها بحقوقهم ، فهم مع كلّ ذلك مؤمنون لا يضرّ بإيمانهم شيء ، ولا ينقص في إيمانهم عمل ، وليس أحد في هذه الاُمّة بأزيد منهم إيماناً !

وأصبح هذا القول في ظلّ السلطان ـ عقيدةً ، يُنظّر لها رجال تبنّوها ودافعوا عنها ، كان أبرزهم : يونس بن عون النميري ، وعبيد المكتئب ، وغسّان الكوفي ، وأبو ثوبان المرجئ ، وبشر المَريسي (٢).

وهؤلاء ـ القائلون بأنّه لا يضرّ مع الإيمان ذنب ، والذين قالوا بإرجاء أمر مرتكب الكبيرة إلى الله تعالى ـ « هؤلاء يتلاقون إلى حدٍّ كبير مع طائفة كبيرة من جمهور العلماء السنّيين ، بل إنّه عند التمحيص يتبيّن أنّ آراءَهم هي آراء الجمهور » (٣) ! « وكانت آراؤهم تتّفق تماماً مع رجال البلاط الاُمويّ ومن يلوذ به ، بحيث لا يستطيع أحد من الشيعيّين أو الخوارج أن يعيش بينهم ، في الوقت الذي تمكّن فيه المسيحيون وغيرهم من غير المسلمين أن ينالوا الحظوة لديهم

_____________

(١) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية / محمّد عمارة : ١٧٤.

(٢) اُنظر : الفرق بين الفِرق : ١٥١ ـ ١٥٣ ، الملل والنحل ١ : ١٢٥ ـ ١٢٨.

(٣) المذاهب الإسلامية / محمّد أبو زهرة : ١٩٩ ، واُنظر : تاريخ الإسلام / حسن إبراهيم حسن ١ : ٤١٧.


ويشغلوا المناصب العالية » (١) وربّما كان أوّلهم سرجون النصراني ، كاتب معاوية وأمين سرّه !

ـ الإرجاء الثوري (٢) : لما كان ذلك الإرجاء قد صيغ لحماية السلطة والدفع عنها ، فمن الطبيعي أن يضيق نطاقه ويتّسع وفقاً لمصلحة السلطة ، فالسلطة حين تتعامل مع خصومها لا يمكن أن تتعامل معهم وفق عقيدتي الإرجاء والجبر اللتين أظهرتهما ، لأنّ خصومها ـ وفق العقيدة الجبرية ـ سيكونون معذورين لأنّهم لم يصنعوا شيئاً من الخلاف إلّا بقضاء وقدر لا يملكون إزاءه خياراً !!

ووفق عقيدة الإرجاء ليس للسلطة أن تقيم عليهم حدّ العاصي الخارج عن الإسلام لأن الإيمان لا تضرّ معه معصية !! وهنا ستقع السلطة بالتناقض الفاضح..

هذا التناقض قد خلق لها أعداءً من شركائها في الإرجاء أو في الجبر والإرجاء معاً ، حين وقف هؤلاء الشركاء مع عقائدهم لا مع مصلحة السلطة وسخريتها بالناس.

فحصل بسبب ذلك التناقض أن قامت الحروب بين شركاء العقيدة.. فأظهر غيلان الدمشقي عقيدته بفساد بني اُمية ، وقد يكون ذلك بباعث من اعتقاده بالقَدَر ، الذي يُلقي عليهم بكامل تبعات أفعالهم ، فكان أيّام عمر بن عبد العزيز ،

_____________

(١) تاريخ الإسلام / حسن إبراهيم حسن ١ : ٤١٧ و ٤١٨ ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ ١٩٦٤ م.

(٢) للدكتور محمد عمارة بحث مهم في هذا القسم لكنّ الأدلّة التي اعتمدها لا تعينه على ما أراد لو اُخضعت للتحقيق. اُنظر : الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية : ١٦٩ ـ ١٧٢.


وبعد أن أظهر تراجعاً عن القول بالقدر ـ كما تقدّم ـ استعان به عمر بن عبد العزيز ، فقال له : اجعلني على بيع الخزائن ـ خزائن ملوك بني اُميّة الماضين ـ وردّ المظالم ، فكان يبيع تلك الخزائن وهو ينادي عليها : تعالوا إلى متاع الظلمة ، تعالوا إلى من خَلَفَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في اُمّته بغير سنّته وسيرته (١) !

أمّا زعيم « المرجئة الجبرية » الجهم بن صفوان ، فقد خاض حرباً على ولاة الاُمويين ، فكان داعية الحارث بن سُريج في خراسان سنة ١٢٨ هـ حتّى اُسِر وقُتل (٢).

وإذا صحّت نسبة سعيد بن جبير وأبي حنيفة إلى المرجئة ، فهما من هذا الصنف الثوري ، فقد كان سعيد بن جبير في طليعة القرّاء الذين ثاروا على بني اُميّة أيّام عبد الملك ، وأبو حنيفة قد أفتى بنصرة زيد الشهيد وجعل خروجه على هشام كخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المشركين يوم بدر ، ثمّ ناصر محمّد النفس الزكية وأخاه إبراهيم على العباسيّين.

أعلام نُسِبوا إلى الإرجاء :

١ ـ الحسن بن محمّد بن الحنفية : عدّه البعض أوّل من وضع الإرجاء ، وعنه أخذه الناس ، ثمّ صاروا بعد إلى تلك الأقسام.. لكن الإرجاء الذي نسبوه إليه ليس كإرجاء هذه المرجئة التي أخّرت العمل وقالت إنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية ، فهو لم يؤخّر العمل عن الإيمان ، لكنّه حكم بأنّ صاحب الكبيرة لا يكفّر ، إذ الطاعات ليس من الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها.. وكان يكتب

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ٣٣٠.


بذلك إلى الأمصار (١).

ولقد حمّل الاُستاذ محمّد عمارة هذا القدر فوق ما يحتمل وفق منهجه الذي تشخّصَ في ثوابته اقتناص كلّ ما يمكن تسخيره ولو قسراً في مهاجمة أنصار عليّ عليه‌السلام ! فأراد أن يستفيد من هذا أنّ الحفيد قد أراد بهذا القول تفضيل أبي بكر وعمر على عليّ والدفاع عن خلافتهما !! وأمّا برهانه الوحيد على هذا التفسير فهو أغرب بكثير من التفسير نفسه ، فهو يقول : « وفي الكافي نصّ هامّ يشهد لهذا التفسير ، يقول : وقد تطلق المرجئة على من أخّر عليّاً عن مرتبته » (٢). قاله بهذا الحماس الظاهر وهو يعلم أنّ هذا الكلام إنّما هو في هامش الكافي ، وقد أشار بنفسه إلى هامش الكافي ، فهل غاب عنه أنّ هوامش الكافي ليست من الكافي ولا تصحّ نسبتها إليه ، وإنّما هي من وضع محقّقه المعاصر الشيخ الغفاري الذي أعدّها باعتماد مصادر اُخرى ؟!

أما حقيقة القول في نسبة الإرجاء إلى الحسن بن محمّد ، فقد تقدّمت آنفاً ، وسيأتي ذكرها ثانية في هذه الفقرة الآتية..

٢ ـ أبو حنيفة : هو الآخر منسوب إلى الإرجاء ، لكن ليس هو الإرجاء الاُموي ، لأنّ أبا حنيفة قد أفتى بوجوب محاربة الاُمويين مع زيد الشهيد وأمدّه بالأموال ، كما أفتى بوجوب محاربة العباسيين مع محمّد النفس الزكية وأخيه إبراهيم.. إنّما نُسب إليه مثل ما نُسب إلى الحسن بن محمّد بن الحنفية ، قال : الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص.. واستنكر الشهرستاني أن يُنسب

_____________

(١) الملل والنحل ١ : ١٢٨ ، الخطط ٢ : ٣٥٠.

(٢) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية : ١٦٨ ـ ١٦٩.


إلى أبي حنيفة القول بتأخير العمل.

قال الشهرستاني : هناك وجه آخر لنسبته إلى الإرجاء ، وهو أنّه كان يخالف القدرية والمعتزلة الذين ظهروا في الصدر الأوّل ، وكانوا يُلقِّبون كلّ من خالفهم في القدر مرجئاً (١).. فهذا بعينه منطبق على الحسن بن محمّد بن الحنفية ، وعلى آخرين ، مثل : سعيد بن جبير ، وحماد بن أبي سليمان ، ومقاتل بن سليمان وغيرهم ، لأنّهم لم يكفّروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار (٢).

_____________

(١) الملل والنحل ١ : ١٢٧ ؛ واُنظر : تعليق على (مقالات الإسلاميين) للأشعري / محمّد محيي الدين عبد الحميد ١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٢) اُنظر : المذاهب الإسلامية : ٢٠٥.


الفصل الثالث :

أثر الكلام والفلسفة في نشأة المذاهب

الكلام : هو العلم المعني بإثبات العقائد الدينية عن طريق الحجج والبراهين ، والعقلية والنقلية ، كما عرّفه غير واحد من أهل العلم (١).. وهو عند المسلمين من حيث النسبة إلى مصدره يمكن تقسيمه إلى الأقسام الآتية :

١ ـ كلام يدور في حدود المعارف القرآنية : ينطلق منها ويعود إليها.. وهذا لا ينبغي النزاع في أصالته ، ولا نزاع أيضاً في أنّ رائده وأميره هو الإمام عليّ عليه‌السلام في العديد من خطبه المحفوظة في التوحيد وفي الصفات وفي النبوّة ، والمعاد ، والإمامة.

٢ ـ كلام مصدره العقلية الإسلامية المتأثّرة : سلباً أو إيجاباً بالعوامل المؤثّرة في تشكيل الموقف العقيدي وصياغة المتبنّيات العقيدية.. ومن أمثلته ؛ الكلام في الجبر الناشئ في ظلال نظام الغَلَبة ، الذي أدّى إلى ظهور الكلام في التفويض المناقض له ، ومثله الكلام في الإرجاء والتكفير ، الذي كان سبباً في ظهور عقيدة « المنزلة بين المنزلتين » التي تقول إنّ مرتكب الكبيرة ، لا هو مؤمن كما تقول المرجئة ، ولا هو كافر كما تقول المارقة ، وإنّما هو في منزلة بين المنزلتين..

_____________

(١) اُنظر : الإمامة في أهمّ الكتب الكلامية / السيّد علي الحسيني الميلاني : ١٧ و ١٨ ـ منشورات الشريف الرضي ـ ط ١ ـ ١٤١٣ هـ.


هذه المقولة التي كانت أساساً في ولادة فرقة جديدة عُرفت بـ :

المعتزلة :

وذلك أنّ أوّل من قال بهذه المقولة ، وهو واصل بن عطاء ، ثمّ تابعه عمرو بن عبيد ، إذ كانا في مجلس الحسن البصري ، فكلّماه في قولهما هذا ، فأمرهما باعتزال حلقة درسه فاعتزلا عند اُسطوانة في المسجد وانضمّ إليهما جماعة فسمُّوا المعتزلة (١).

فكانت هذه هي النواة الاُولى لتكوين فرقة « المعتزلة »..

وترقّى بهم الكلام في صعيد تقرير هذه المقولة إلى قضية « العدال الإلهي » وأكثروا الكلام في تدعيمها وإبطال كلّ ما يقدح ولو ظاهراً بالعدل الإلهي ، حتّى لُقِّبوا بـ « العدلية ».. وكان العدل الإلهي عندهم يدور حول صدق الوعد والوعيد ، فالله تعالى العادل لا يعذّب المحسن ولا يكافئ المسيء ، ولا يخلف وعده في ثواب المحسن وعقوبة المسيء وقبول التوبة ، ولا عفو بلا توبة لأن ذلك إخلاف للوعيد ، ولأجل ذلك أيضاً نفوا الشفاعة.

وفي خضمّ النزاع الدائر بين الجبريّة والمفوّضة اختار المعتزلة القول بالتفويض وجعلوه من أهم أركان العدل الإلهي ، فسمّوا لأجله بالقدَرية.

هذه الدائرة الواسعة من الكلام ، والتي شكّلت أركاناً أساسية في عقيدة المعتزلة ، كان مصدرها الواقع الإسلامي والصراع (الفكري ـ السياسي) الدائر فيه.

_____________

(١) الفرق بين الفِرق : ١٥.


وهذه المبادئ كلّها ، مع ملاحظة العوامل المؤثرة في نشأتها تؤكّد أنّ « المعتزلة » لم تكن في يوم ما امتداداً لاُولئك النفر الذين اعتزلوا الصراع أيّام عثمان وأيام الإمام عليّ عليه‌السلام كسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن عمر ، بل الذي تفيده هذه المبادئ هو أنّ اعتزال واصل وأصحابه كان موقفاً تحرّرياً معارضاً لجماعة الحكم ومدرسته الثقافية ، وهذا هو السرّ في رواج هذا اللقب عليهم ، ولم يكن مصدره اختيارهم تجنّب جميع الفرق وتجنّب الدخول في النزاع ! لم يكن هذا من مواقفهم أبداً ، بل هو أبعد شيء عنهم ، يؤكّد ذلك نضالهم الفكري العنيد ضد الإرجاء والجبر اللذين تدعمهما مدرسة السلطة ، ويؤكّده أكثر وأكثر الأصل الخامس من اُصول عقيدة « المعتزلة » التي لا يسمّى المرء معتزلياً إلّا بالإيمان بها جميعاً ، وهذه الأركان هي : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (١)..

ومثل هذا المبدأ الأخير لا تتبنّاه فرقة أصلاً من اُصولها ثمّ يقال إنّها تعتزل السياسة والخوض في النزاعات الدائرة بين الفرق ، أو أن سَلَفها هم اُولئك الذين اعتزلوا علياً والحسن عليهما‌السلام.

إذن كان مصدر تسميتهم بالمعتزلة هو خصومهم بلا شك ، سواء كان الحسن البصري ، أو قتادة كما في رواية (٢). فلمّا غَلَب عليهم ولم يستطيعوا دفعه بتسمية ينتخبونها هم ، صاروا إلى الدفاع عنه والرضا به ، وفسّروه بأنّه

_____________

(١) الانتصار / الخياط : ١٨٨ و ١٨٩ ـ مكتبة الثقافة الدينية ـ القاهرة.

(٢) وفيات الأعيان / ابن خلكان ٤ : ٨٥ ـ تحقيق : الدكتور إحسان عباس ، ترجمة قتادة.


اعتزال الباطل وأهله ، وبالغ القاضي عبد الجبار في مدّ جذور هذه التسمية إلى القرآن الكريم ، فقال : إنّ كلّ ما ورد في القرآن من ذكر الاعتزال فإنّ المراد منه الاعتزال عن الباطل ! لكن الرازي فنّد هذا الكلام حين أورد عليه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام في خطابه لقوم فرعون : ( وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) (١) !

الأشاعرة :

في الفترة التي ضعف فيها دور المعتزلة وقوي موقع أصحاب الحديث ظهر في البصرة أبو الحسن الأشعري بمذهب جديد يعارض فيه المعتزلة وينتصر لأصحاب الحديث. والأشعري المولود سنة ٢٦٠ هـ والمتوفى سنة ثلاثمئة ونيّف وثلاثين للهجرة ، قد كان أول أمره معتزلياً ، تلميذاً لشيخ المعتزلة في عصره أبي علي الجُبّائي ، وقد كان أحياناً ينوب عن شيخه في الجدل. ثمّ طلع على الناس بعد عزلة قصيرة ، قيل خمسة عشر يوماً فأعلن توبته عن مقالة المعتزلة في القدر وقال بقول الجبرية إلّا أنّه أدخل عليه مفهوم الكسب ، ليكون الإنسان مسؤولاً عن فعله بالكسب.. كما ردّ على المعتزلة عقيدتهم في الصفات وتبنّى قول أحمد بن حنبل باتّباع الظاهر بدون تأويل.. لكنّه تراجع بعد ذلك إلى التأويل في كلّ ما يوهم التشبيه ، إلّا الاعتقاد برؤية الله تعالى في الآخرة.

وناقض المعتزلة في منزلة العقل ودوره في الشرع ، وخالفهم في مسألة الحُسن

_____________

(١) اُنظر : اُصول العقيدة بين المعتزلة والشيعة الإمامية / د. عائشة يوسف المناعي : ٢٦ ـ دار الثقافة ـ الدوحة ـ ط ١ ـ ١٤١٢ هـ ، والآية من سورة الدخان : ٤٤ / ٢١.


والقُبح العقليين ، فجعل الحَسَن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع وليس للعقل دور في معرفة ذلك.

ولم يفرّق في العقيدة بين السنّة المتواترة وأحاديث الآحاد.

وجعل الصفات الثبوتية ـ العلم ، والقدرة ، والحياة ، والإرادة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ـ صفات قديمة قائمة بذاته ، لا يقال : هي هو ، ولا هي غيره ، ولا لا هو ، ولا غيره.

وجوّز تكليف ما لا يطاق ، وتعذيب المحسن ، ثواب المسيء.. أمّا مصدر عقيدته في الإمامة والتفضيل فإنّما هو الواقع التاريخي لا غير (١).

الماتريدية :

نسبة إلى مؤسّسها أبي منصور الماتريدي الذي توفي سنة ٣٣٣ هـ وكان معاصراً للأشعري ، غير أنّه كان بعيداً عنه ، في ماتريد من ولاية سمرقند ، وهو حنفي المذهب ، درس فقه أبي حنيفة ورسائله الصغيرة في الكلام وقد قرّر بعض العلماء أنّ آراء أبي حنيفة في العقائد هي الأصل الذي تفرّعت منه آراء الماتريدي.. ولما كان أبو حنيفة يمنح العقل دوراً كبيراً في الفقه والمعرفة ، خلافاً لأصحاب الحديث ، فقد ظهرت آثار ذلك في المذهب الماتريدي وميّزته كثيراً عن المذهب الأشعري..

فالأشعري قال : إنّ معرفة الله واجبة بالشرع.. أمّا الماتريدي فقال : يمكن للعقل إدراك وجوبها..

_____________

(١) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٨٥ ـ ٩٤ ، المذاهب الإسلامية : ٢٦٥ ـ ٢٧٩.


ونفى الأشعري الحُسن والقُبح العقليين فيما أثبتهما الماتريدي.

والماتريدي خالف أصحاب الحديث منذ البداية في الصفات ، وقال بوجوب حمل المتشابه على المحكم وتأويل كلّ ما يوهم التشبيه.

والأشعري يرى أنّ أفعال الله لا تعلّل لأنّه لا يُسأل عمّا يفعل ، وهم يُسألون.. ويرى الماتريدي أن أفعال الله لا تكون إلّا على مقتضى الحكمة ، دون أن يقال إنّ ذلك واجب على الله تعالى لأنّه مختار مريد.

وجوّز الأشعري على الله أن يعاقب الطائع ويثيب العاصي.. ومنع من ذلك الماتريدي لأنّ ثواب الطائع وعقاب العاصي إنّما هو لحكمةٍ قَصَدَها وإرادةٍ أرادها.

وأجاز الأشاعرة أن يُخلِفَ الله وعده ، ومنع الماتريدية ذلك.

وكان الأشعري قد فارق المعتزلة في الجبر والاختيار ، وميّز قوله عن قول الجبرية الخالصة بإضافة عنصر الكسب ، والكسب عنده هو الاقتران بين الفعل الذي هو مخلوق لله تعالى وبين اختيار العبد ، من غير أن يكون للعبد تأثير في الكسب ! هذا القول الذي وصفه العلماء بأنّه يؤدّي إلى الجبر لا محالة ، لأنّ هذا الكسب مخلوق لله تعالى كالفعل نفسه ! فبعضهم وصفه بأنّه الجبر المتوسط ، وبعضهم وصفه بأنّه الجبر الكامل.

أما الماتريدي فقد قال بالكسب أيضاً ولكنّ الكسب عنده من فعل الإنسان بقدرة أودعها الله سبحانه وتعالى فيه.

وفي جميع هذه الأقوال ترى الماتريدي يقترب من المعتزلة أحياناً ويوافقهم أحياناً اُخرى ، لذا وضع الكوثري تخطيطاً لأربعة مذاهب جعل الطرفين : أصحاب الحديث ، والمعتزلة ، وبينهما الأشاعرة أقرب إلى أصحاب الحديث ،


والماتريدية أقرب إلى المعتزلة.

ومن الأمور التي تقارب فيها الماتريدي والأشعري : القول في الرؤية ، وفي مرتكب الكبيرة ، وفي الإمامة (١).

ج ـ مصادر الكلام الأجنبية على الواقع الإسلامي : وهي على قسمين :

أوّلهما : ما اضطرّ إليه العلماء الذين وجدوا أنفسهم معنيّين في الدفاع عن العقيدة الإسلامية أمام متكلّمي الأمم الاُخرى الوافدة على الإسلام أو المجاورة لحدوده ، والتي ترجع إلى تراث كلامي عريق.. فوجد بعض العلماء المسلمين أنفسهم أمام غزو فكري مدجّج بالسلاح ، ولا بدّ لأجل محاربته أن يواجهوه بسلاح من جنس سلاحه ، خاصّةً وأنّ المنهج الحديثي الغالب على العلماء آنذاك لم يكن وافياً في متابعة كلّ شاردة وواردة تقذف بها المدارس الكلامية تلك.

فكان هذا دافعاً نحو ولوج علم الكلام وسلوك سُبله ودخول مداخله واستخدام أساليبه في الحجاج والبراهين والتفريعات ونحو ذلك.

وهذا في نفسه غير مستنكَر ، بل هو حَسَن ومحبّذ جدّاً حين يكون أصحابه من أهل العلم والمعرفة واليقين. ولقد أفلح كثير منهم في الردّ على شبهات متكلّمي الاُمم الاُخرى من صابئة ونصارى ومجوس وهنود وغيرهم ، في كتب ومناظرات ، ودحضوا حجج كثير من الزنادقة المتأثرين بهم.

وثانيهما : ما وقع عليه طلبة العلوم ، من مختلف المستويات ، من كتب الكلام والفلسفة الأجنبية في عصر الترجمة وبعده.. فهذا وإن كان يمثّل ظاهرةً

_____________

(١) اُنظر : المذاهب الإسلامية : ٢٨٧.


حضارية هامّة ، إلّا أنّه قد خلّف أثراً سلبياً ، تمثّل في تسرّب الكثير من المقولات الفلسفية الواردة إلى الثقافة الإسلامية ، ودخوله في اُمّهات المسائل العقيدية التي تناولها المتكلّمون.

وأسوأ الآثار إلى تركها هي تلك التي دخلت في بحوث « الصفات » صفات الخالق البارئ ذي الجلال والإكرام..

والحقّ أنّ مباحث الصفات كانت قبل عصر الترجمة مصدراً للنزاع والانقسامات ، ثمّ زادها ذلك تعقيداً وتعميقاً.

الصفات محور لفرق جديدة :

انقسم المسلمون في تفسير صفات الله تعالى إلى ثلاث طوائف ولكلّ طائفة فريقان (١) :

الطائفة الاولى :

ذهبت الى أنّ آيات وأحاديث الصفات يجب أن تجري على ظواهرها.. ثمّ انقسموا في معنى هذا الكلام إلى فرقتين :

الفرقة الأولى : ذهبت إلى أنّ المستفاد ممّا جاء في القرآن والحديث في الصفات ، من قبيل « يد الله » و « عين الله » و « وجه الله » ونحوها ، أنّها جوارح (أعضاء) كجوارح المخلوقين ! ووصفوه تعالى شأنه بالجسمية ، فقالوا هم جسم ، وهؤلاء هم « المشبّهة » و « المجسّمة ».. والذي ثبت على هذا الاعتقاد فرقتان ،

_____________

(١) هذا التقسيم الشامل تجده في مجموع الفتاوى / ابن تيمية ٥ : ١١٣.


هما : « الظاهرية » و « الكرّامية ».

الفرقة الثانية : أجروا هذه الألفاظ على ظاهرها ، ولكن خالفوا المجسّمة بالتصريح بالتجسيم والتشبيه ، فقالوا : نقول إنّ له تعالى يداً ووجهاً وعيناً وجارحة يسمع بها وأنّه مستقرّ على العرش استقراراً ، وأنّه ينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة وأنّه يغضب ويفرح ، ولكن من دون أن نُشبّه ذلك بشيء من المخلوقات ، بل نقول إنها بالمعنى اللائق به تعالى !

وهؤلاء هم « الحشوية » من « أصحاب الحديث » و « السلفية » وهم لا يختلفون في النتيجة عن الفرقة الاُولى إلّا بالألفاظ ، فأولئك وصفوا جسماً مركّباً منفعلاً متغيّراً وصرّحوا بأنّه جسم ، وهؤلاء وصفوا الأوصاف ذاتها ثمّ قالوا : بلا كيف (١) !

والفريقان معاً يتّفقان على خبر غريب ، يرويه واحد عن واحد ؛ تفرّد به إسرائيل عن أبي اسحاق ، وتفرّد به أبو إسحاق عن عبد الله بن خليفة ، وتفرّد به عبد الله بن خليفة عن عمر ، وتفرّد به عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعبد الله بن خليفة الذي عُرفت الرواية باسمه مختَلَف فيه (٢) تقول روايته هذه : « إنّ كرسيّه ـ تعالى ـ وسع السماوات والأرض ، وإنّه ليقعد عليه فما يفضُل منه مقدار أربع

_____________

(١) اُنظر : مجموع الفتاوى / ابن تيمية ٥ : ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) اُنظر : ميزان الاعتدال ٢ / ت ٤٢٩٠ ، تقريب التهذيب ١ : ٤١٢. ولأجل هذا ولعلل اُخر في سند الحديث ومتنه عدّه ابن الجوزي من الموضوعات ، وقال : هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. اُنظر : العلل المتناهية ١ : ٢١ باب ذكر الاستواء على العرش.


أصابع ، وإنّ له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا رُكب من ثقله ! » (١) وفي رواية اُخرى لهذا الخبر « وما يفضل منه إلّا أربع أصابع » ! واعتقد الحشوية والسلفية بهذه الراوية ليشاركوا بها المجسّمة (٢).

والفريقان يتّفقان على امتناع التأويل ولزوم الأخذ بالمعنى المستفاد من الظاهر ، وهم لأجل ذلك أنكروا وجود المجاز في اللغة العربية ، وجعلوا هذه الألفاظ كلّها على الحقيقة ! وهذا كلام غريب جداً على لغة العرب ، دعت إليه العصبية المذهبية ! وعلى هذا تعاملوا مع المتشابه كتعاملهم مع المحكم ! يقول ابن الجوزي : إعلم أنّ عموم المحدّثين حملوا ظاهر ما تعلّق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحِسّ ، فشبَّهوا ، لأنّهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى المحكم.. فوجود المتشابه في القرآن والسنّة أمر مسلّم (٣).

وهذه الطائفة اتُهمت بالمشابهة باليهود ، وبالقرّائين منهم خاصّة ، إذ وقف هؤلاء على ظواهر تفيد التجسيم في التوراة ! (٤) ولقد استدل ابن تيمية لهذه العقيدة بنصوص من الإنجيل أيضاً ! (٥)

لكنّ هذا أيضاً لا يدلّ على الاقتباس المباشر ، وإنّما يدلّ على أنّه قد وقع في اُمّة الإسلام كالذي وقع في الاُمم السابقة لا سيمّا اليهود والنصارى... وإنّما يأتي دليل التأثّر من ملاحظة اهتمام بعض أصحاب تلك الديانات الذين دخلوا في

_____________

(١) تفسر الطبري ٣ : ١٠ آية الكرسي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م.

(٢) اُنظر : منهاج السنّة ١ : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٣) تلبيس إبليس : ١٣٤.

(٤) الملل والنحل ١ : ٨٤ ، ٩٧.

(٥) اُنظر : مجموع الفتاوى ٥ : ٤٠٦.


الإسلام بهذا النوع من الحديث ، الحديث الدال على التشبيه والتجسيم ، كما في أحاديث كعب الأحبار الذي أكثر عنه أبو هريرة ونسب بعض أحاديثه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نسب ذلك رواة حديثه الذين سمعوه يحدّث عن كعب مرّة وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة ، فخلطوا ونسبوا بعض أحاديث كعب إلى الرسول ، فيكون التأثّر عن طريق متابعة أحاديث مدسوسة عن هذا أو عن غيره ، وهذا أرجح بكثير من التلقّي المباشر عن اليهود والنصارى.

الطائفة الثانية :

حملوا ما يتعلّق بصفات الباري تعالى على خلاف الظاهر ، إذا كان الظاهر مفضياً إلى التشبيه أو التجسيم.. وهم فريقان :

الفريق الأول : قَطَعَ بأنّ المراد لا يمكن أن يكون صفات خارجية ، من قبيل الحلول والتحيّز والأعضاء والانفعال ، لكنّهم لم يدخلوا في البحث عن المراد منها ، بل قالوا : الله أعلم بما أراد ، وقد عرفنا بمقتضى العقل أنّ الله تعالى ليس كمثله شيء ، فلا يُشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها ، وقطعنا بذلك ، إلّا أنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله تعالى : ( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (١) ، وقوله تعالى : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( وَجَاءَ رَبُّكَ ) (٣) إلى غير ذلك ، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها ،

_____________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٥.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٧٥.

(٣) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٢.


بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له ، وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه يقيناً (١). وعدّ الشهرستاني من هؤلاء : مالك بن أنس ، إذ قال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة. كما عدّ منهم : أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي (الظاهري) (٢). والأصحّ أنّ كلام هؤلاء أقرب إلى الفرقة الثانية من الطائفة الاُولى ؛ الحشوية وأصحاب الحديث الذين تقدّم التعريف بهم آنفاً ، فهو ، إجراء على الظاهر دون تكييف ، لكن هذا الفريق من الحشوية وأصحاب الحديث و « السلفية » قد تقدّم على اُولئك في التفسير والبيان ولم يلتزم وقولهم : « السؤال عنه بدعة » فتورّط في التشبيه. وإلى هذا أشار الشهرستاني نفسه (٣).

الفريق الثاني : قطعوا أيضاً بأنّ المراد لا يمكن أن يكون صفات خارجية ، ثمّ ذهبوا إلى ضرورة تأويل ما يتعلّق بالصفات إلى المعاني اللائقة بجلاله تعالى والموافقة لما قطع به العقل وثبت به التنزيل المحكم من أنّه تعالى شأنه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٤) و ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (٥) فهذه نصوص محكمة ليس فيها من التشابه شيء ، وقد قطع العقل بمعانيها ، فلا بدّ من ردّ المتشابهات إليها.

فهم لأجل ذلك اعتمدوا المجاز في اللغة وأحالوا إليه كلّ ما يتعلّق بالصفات من المتشابه الذي لا يستقيم ظاهره مع تلك المحكمات التي قطع بها العقل أيضاً.

_____________

(١) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٨٤ ( الصفاتية ).

(٢) الملل والنحل ١ : ٨٥ ، ٩٥.

(٣) الملل والنحل : ٨٤.

(٤) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.


وعلى هذا المبدأ : جمهور « أهل السنّة والجماعة » أتباع الأشعري ، والمعتزلة ، وأتباع أهل البيت عليهم‌السلام « الشيعة » ، غير أنّ الجماعات الثلاث اختلفت في ما بينها في مدى اعتماد التأويل ، على ثلاث مراتب :

فكان الأشاعرة أقلّهم رجوعاً إلى التأويل ، لما اعتمدوه من الأخبار الواردة في الصفات ، فكأنّهم أجروا التأويل على القرآن دون الحديث ! فما ورد فيه الحديث تمسّكوا بظاهره غالباً ، فجوّزوا رؤية العباد ربَّهم جلّ شأنه يوم القيامة ، رجوعاً إلى أخبار عندهم ، فلم يؤوّلوا قوله تعالى : ( إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١).

أمّا الآيات التي فيها الوجه والأيدي والأعضاء فقد أوّلوها باعتماد المجاز ، ولم يجروها على ظواهرها المؤدّية إلى التشبيه (٢) ، ووافقوا فيها الجماعتين الاُخريين.

ـ أمّا المعتزلة فكانوا على خلاف الأشاعرة ، إذ أطلقوا العنان للتأويل ، اعتماداً على : الدور الذي منحوه للعقل ، ومنهجهم في الحديث الذي يقتصر على قبول المتواتر فقط ، فيما اعتمد الأشاعرة أحاديث الآحاد التي لم ترد إلّا من طرق رجالها متّهمون غالباً عند المعتزلة على الأقلّ..

يقول البغدادي (من الأشاعرة) في الطعن على أبي الهذيل العلّاف (من أئمّة المعتزلة) : ومن فضائحه ! قوله إنّ الحجّة من طريق الأخبار في ما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم‌السلام وفي ما سواها لا تثبت بأقلّ من عشرين نفساً فيهم واحد من أهل الجنّة ، أو أكثر.. ولم يوجب بأخبار الكَفَرة والفَسَقة حجّة

_____________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٣.

(٢) الفرق بين الفِرق : ٩٠ ، واُنظر هذه المواضع في سائر تفاسيرهم ، كتفسير الطبري والبغوي ، والماوردي ، والرازي ، وأبي حيّان وغيرهم.


وإن بلغوا عدد التواتر الذي لا يمكن معه تواطؤهم على الكذب ، إذا لم يكن فيهم واحد من أهل الجنّة.. وزعم أنّ خبر ما دون الأربعة لا يوجب حكماً.. ومن فوق الأربعة إلى العشرين قد يصحّ وقوع العلم بخبرهم ، وقد لا يقع العلم بخبرهم (١).

ومن هذا يظهر أنّ القسم الأعظم من الأحاديث التي تتعلّق بهذا الباب ويعتمدها الأشاعرة فيتوقّفون عن التأويل بسببها ، هي عند المعتزلة ساقطة الاعتبار ، مما وسّع من دائرة التأويل عندهم.

ولقد نُسب ، إلى بعض المعتزلة في هذا الباب ما لا يمكن تصديقه ، كالذي نسبه الذهبي إلى عمرو بن عبيد من أنّه عُرض عليه حديث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذّبته ، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته ، ولو سمعت ابن مسعود يقوله ما قبلته ، ولو سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول هذا لرددته ! ولو سمعتُ الله يقول هذا ، لقلتُ : ليس على هذا أخذت ميثاقنا (٢). والذهبي قد روى في عمرو بن عبيد حتّى الأشياء التافهة من أطياف الحانقين على عمرو بن عبيد وتعليقاتهم.. وحتّى لو صحّ عنه ما تقدّم فغلطه الفاحش إنّما هو في ما وجّهه إلى الرسول وإلى الله تعالى ، وكان الصواب أن يقول إنّ مثل هذا لا يصحّ عن رسول الله البتة.. ونحن لا ندري ما هو هذا الحديث الذي عُرض عليه ، ولعلّ الذهبي نفسه قد استحيا من ذكره ، لعلّه من أحاديث المجسّمة أو موضوعات الجبرية المكذوبة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله !

ومهما كان فالمعتزلة قدّموا العقل على الحديث ، بخلاف الأشاعرة ، وجعل

_____________

(١) الفرق بين الفِرق : ٩٠.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ : ٢٧٨.


بعضهم العقل هو الأصل الأوّل ، وهو الأصل للكتاب وللسنّة ، وقد شذّ النظّام وأتباعه فأسقطوا السنّة بالكامل (١).

وعلى هذا اتّسعت دائرة التأويل عند المعتزلة ، ولم يقفوا عند ما يدلّ على التحيّز والانفعال ، بل تعدّوا ذلك حتّى إلى الصفات الثبوتيه ، كالعالم ، القادر ، الحي ، السميع ، البصير ، وقالوا : ليس لهذه الصفات معنى أكثر من الوصف ، وهو قول القائل بأنّ الله عالم ، قادر... وأنّه ليس هناك صفات على الحقيقة هي العلم والقدرة والحياة.. وإنّما الصفات كلمات ملفوظة أو مكتوبة (٢).

ولأجل مقولتهم هذه عُرفوا بالمعطّلة لأنهم عطّلوا جميع الصفات حتّى الثبوتية منها.

وأوّل من قال بهذا : الجهم بن صفوان ، وتابعه واصل بن عطاء مؤسّس هذه الفرقة « المعتزلة » ـ فأصبح المعطّلة كلّهم ينتسبون إلى الجهم بن صفوان ، فيقال : « الجهيمة » كما يقال : « المعطّلة ».

وعقيدتهم بأنّ الصفات كلمات ملفوظة نتج عنها اعتقادهم بأنّ الله تعالى كان في الأزل بلا صفة ولا اسم من أسمائه وصفاته العليا ، إذ ليس هناك ألفاظ وكلمات في الأزل ، لأنّ الله تعالى لا يجوز أن يصف نفسه في الأزل.. من هنا أصبح كلامه تعالى مخلوقاً له كسائر المخلوقات.. ومن هنا ظهرت مقولة « أنّ القرآن مخلوق » التي دار حولها نزاع كثير جرّ إلى سفك دماءٍ كثيرةٍ وتعذيبٍ

_____________

(١) راجع : أصول العقيدة بين المعتزلة والشيعة الإمامية / د. عائشة يوسف المناعي : ٨٤ ـ ٩٣ ، وفي كلام الدكتورة نظر ، إذ لا يمكن نسبة النظام إلى الإسلام بحال فيما لو حُكم بإسقاط السنّة مطلقاً.

(٢) اُصول العقيدة بين المعتزلة والشيعة الإمامية : ١٤٦.


وافتتان ، ظهر في « المعتزلة » في مظهر « مفتّشي العقائد » بلا مسوّغ من شرع ولا عقل ، فظهر منهم ظلم كثير على مدى حكومة المأمون والمعتصم والواثق.

ـ الجماعة الثالثة : اتّبعت في ذلك منهجاً وسطاً يقول : « ما دلَّك القرآن عليه من صفته فائتمَّ به واستضىء بنور هدايته.. وما كلَّفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ، ولا في سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّةِ الهدى أثَرُه ، فكِلْ علمهُ إلى الله سبحانه » (١).

فهناك في القرآن الكريم محكمات يُستضاء بنورها ويؤتمّ بها ، وفي سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدى بيان صدق لا تشوبه شائبة وفيه تمام الهدى ، وليس وراء ذلك شيء إلّا إيكال العلم إلى الله تعالى.

ورأي هذه الجماعة في التوحيد : « إنّ للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : مذهب إثبات بتشبيه ، ومذهب النفي ، ومذهب إثبات بلا تشبيه.. فمذهب الإثبات بتشبيه لا يجوز.. ومذهب النفي لا يجوز.. والطريق في المذهب الثالث : إثبات بلا تشبيه » (٢) إذن لا تعطيل ، إنّما هو إثبات ولكن بلا تشبيه.

ويقول الإمام علي عليه‌السلام : « ما وحَدَّه من كيّفه.. ولا إيّاه عنى من شبّهه » (٣) في نفي التكييف التشبيه.

ويقول عليه‌السلام : « لا يجري عليه السكون والحركة.. ولا يوصَف بشيء من الأجزاء ولا الجوارح والأعضاء.. ولا يقال له حَدّ.. ولا أنّ الأشياء تحويه.. أو أنّ

_____________

(١) نهج البلاغة : ١٢٤ / خ ٩١.

(٢) التوحيد / الشيخ الصدوق : باب ٦ / ح ١٠.

(٣) نهج البلاغة : ١٢٤ / خ ٩١.


شيئاً يحمله » (١) فهو ردّ صريح على من يُجري أخبار الصفات وآياتها على ظواهرها وعلى الحقيقة دون المجاز.

وعلى خطى هذا المنهج سار من اهتدى بهذا الهدي ، هدي الكتاب والسنّة ، فأثبتوا المحكمات اُصولاً للعقيدة ، وعمدوا إلى المتشابهات فردّوها إلى اُصولها المحكمة ، واتّبعوا فيها سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيانات أئمّة الهدى من آله عليهم‌السلام.. فقالوا إذن بوجود المجاز في اللغة واعتمدوه في إرجاع المتشابه إلى المحكم ، فعملوا بالتأويل في هذه الحدود مقتفين الأثر الصادق الذي وجدوه كلّه منسجماً مع المحكم ، رادّاً المتشابه إليه ، فنفوا كلّ ما يدلّ على التشبيه والتجسيم ، ثمّ أثبتوا له تعالى الصفات الثبوتية ، على أنّها صفات قائمة بذاته ، وليست هي أشياء منفصلة عنه زائدة عليه كما زعمت الأشاعرة.

كما نفوا جواز الرؤية التي أثبتها الأشاعرة في الآخرة ، عملاً بقوله تعالى : ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (٢) ورجوعاً إلى أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام القاطعة بهذا المعنى ، وتأكيداً بالبرهان العقلي وأدلّته المانعة لإحكام الرؤية (٣).

الطائفة الثالثة :

الذين اتخذوا السكوت عمّا يتعلّق في الصفات ، وهم فريقان :

الأول : يقول بجواز كون المراد منها هو الظاهر اللائق بجلال الله تعالى ، كما

_____________

(١) نهج البلاغة : ١٢٤ / خ ٩١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

(٣) راجع : التوحيد / أبو جعفر الصدوق : باب ٨ ، ابن المطّهر الحلّي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٨١ ـ ٣٠١ ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٩٧٩ م.


يجوز أن يكون المراد خلاف الظاهر كما يذهب أصحاب التأويل ، ولكن لا يقول أنّ المراد هذا أو ذاك.

قال ابن تيمية : هذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم (١). فهي ليست مقولة لفرقة من الفرق بل مذهباً لأشخاص بأعيانهم.

والثاني : أمسك عن الكلام فيها بالكلية ، ولا يزيد على تلاوة القرآن وقراءة الحديث.. وهؤلاء أيضاً لا يشكّلون فرقة ، بل أفراد لم تهتدِ قلوبهم إلى الحقيقة ، فآثروا السكوت على الخوض بما نهى عنه الشرع المقدّس.

_____________

(١) مجموع الفتاوى ٥ : ١١٦.


الفصل الرابع

دور التطرّف الديني في تكوين بعض المذاهب والفرق

من أخطر المشكلات التي تعرض لها الفكر الديني هي مشكلة تطرّف أتباعه في تفسير معانيه وفي تطبيق أحكامه ، فيتجاوزون الضوابط الثابتة في تفسير نصوصه ومفرداته ، والحدود المعلومة في تطبيق أحكامه.

هذا التطرّف هو الذي سمّاه الدين « غلوّاً » وهو يقابل التقصير في معرفة الدين وتطبيق أحكامه.

والغلوّ إنّما تصاب به النفوس الوالهة المتعلّقة بشيء من الدين غير أنّها لم تكن تفقه روح الدين ، ولم تتذوق معانيه ، ولا أدركت مقاصده وأهدافه الكبرى ، ولا قرأت القرآن الكريم كلّه قراءةً واعيةً وعلى مستوىً واحد من الاهتمام ، ولا تذوّقت جمال القرآن ولا وقفت عند خطابه اللاذع للمغالين ، ولا لفت انتباهها اُسلوب القرآن الحكيم في سدّ جميع منافذ الغلوّ.. فبعد أن فقدت كلّ هذا جنحت مع أهوائها فجاوزت الحدّ في معشوقها ، وكثيراً ما وقعت في تأليهه بشكل سافر ، أو على درجة أقلّ من ذلك.

ومنذ أقدم مراحل التاريخ البشري ، وقبل نوح عليه‌السلام ، بلغ الغلوّ بالناس أن عبدوا سَلَفهم الصالح واتّخذوهم آلهةً من دون الله ، فلمّا دعاهم نوح عليه‌السلام إلى التوحيد قالوا : ( لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ


وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) (١) ! وهذه الأسماء (ودٌّ) و (يغوث) و (سواع) و (يعوق) و (نَسْر) إنّما هي أسماء عباد صالحين كانوا قبلهم بأجيال فكانوا يعظّمونهم ، ويزداد التعظيم جيلاً بعد جيل حتى بلغ الأمر أن اتخذوا لهم تماثيل بأسمائهم ليعبدوها ! (٢).

وظهر الغلوّ عند أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية ، وبلغ بالنصارى أن ألَّهوا عيسي بن مريم عليه‌السلام ، قالوا : ابن الله ! وقالوا : ثالث ثلاثة ! كلّ ذلك من فرط حبٍّ معه جهالة ، ونزعة وثنية في اتّخاذ الوسائط إلى الله تعالى والتوجّه إليها بالعبادة ولو عن طريق مجاوزة الحدّ في تعظيمها وإضفاء الصفات الإلهية عليها ، من قبيل الخالقية والرازقية والإحاطة علماً وقدرةً ، فقالت النصارى إنّ المسيح يصنع المعجزات بقدرته الذاتيه وليس بإذن الله !

وجاء الإسلام فكان أكثر دقّةً في تشخيص الغلو وسدّ الأبواب دونه ، فكان القرآن يخاطب الأنبياء مخاطبة العبيد الفقراء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ، ويعاتبهم وينذرهم إنذار من لم يكن له مع الله عهد ، كلّ ذلك ليصرف أفئدة المؤمنين وأرواحهم من مسالك الغلوّ.. فيتلو علينا نبأ آدم عليه‌السلام ، فيقول : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ! (٣).

_____________

(١) سورة نوح : ٧١ / ٢٣.

(٢) اُنظر : تفسير القمّي ٢ : ٣٨٧ ، وتفسير الطبري م ١٤ ج ٢٩ : ٩٨ ـ ٩٩ ، وتفسير الزمخشري ٤ : ٦١٩ ، ومجمع البيان ١٠ : ٥٤٧ ، تفسير البغوي ٤ : ٣٩٩ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٥ هـ ، وتفسير البرهان / البحراني ٤ : ٣٨٨ ـ مؤسسة البعثة ـ قم ـ ١٤١٦ هـ ، وغيرها.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ١١٥.


ويخاطب داود عليه‌السلام فيقول : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ... ) (١) وبعد هذا ، بعد أن يخبر عن خلافته لله تعالى في الأرض ، لا بالغَلَبة ، ولا بالشورى ، ولكن بجعل من الله تعالى ، يقول على الفور : ( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ! (٢).

ويخاطب سيد البشر وخاتم النبييّن بما يغلق أمام الناس بعده كلّ منافذ الغلوّ لو أنّهم يعقلون ، فيقول : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ) (٣).. وهو قادر أن يقول : « قل أنا بشر » ويتمّ المعنى ، ولكن هذا التأكيد ثمّ الحصر بـ « إنّما » ثمّ التمثيل بـ « مثلكم » أبلغ تعبير في تثبيت المعنى وقطع كل الطرق أمام الشبهات والجهالات.

وإلى أكثر من هذا ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأكّد أنّ الغلوّ لا ينحصر بعبادة البشر ، بل هو حاصل حتّى في التشدّد والتطرّف بالعبادات ، فما جاوز فيها السنّة فهو غلوّ.. حدّث الفضل بن العباس ، فقال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غداة يوم النحر : « هات فالتقط لي حصىً » فلقطت له حُصيّات مثل حصى الخذف ، فوضعهنّ في يده فقال : « بأمثال هؤلاء ، بأمثال هؤلاء ، وإيّاكم والغلوّ ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين » ! (٤)

_____________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ١١٠.

(٤) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٢ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، السنن الكبري / البيهقي ٥ : ١٢٧ ، السيرة النبوية / ابن كثير ٤ : ٣٧١.


ظهور الغلوّ بين المسلمين :

الغلوّ بمعناه الواسع ، الشامل لكلّ ما جاوز الحدّ ، كثير جدّاً بين المسلمين ، دخل في كافة مجالات الاعتقاد والعبادات وحتّى المعاملات والأعراف ، ممّا يصعب الوقوف معه على حدّ.. ومن حالاته الظاهرة هذا الكمّ الهائل من الخرافات والأكاذيب المصنوعة في مناقب وفضائل الأولياء والصالحين ، وقلّما تجد رجلاً تعلّقت به طائفة لم تنسج حوله الأساطير ! وكتب المناقب عامّة طافحة بهذا اللون من الغلوّ.

أمّا الغلوّ في العبادات ؛ فهو كثير عند أهل الانقطاع ، كما قد يقع فيه المتنطّعون الذين يجاوزون الحدّ في التدقيق والتشدّد في السنن.

والذي سوف يتوجّه إليه البحث من أصناف الغلوّ هو ما اتّخذ شكل المقالة ، أو صحّ أن يسمّى مقالة يدعو إليها رجل أو طائفة.

وقد ظهر هذا النوع من الغلوّ مبكّراً جداً ، منذ ساعة وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ خرج عمر بن الخطاب مكذّباً بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصرخ بالناس : « إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله توفّي ، وأنّ رسول الله ما مات ، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلةً ثمّ رجع بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعنّ رسول الله ليقطعَنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنّ رسول الله مات » (١) !

فهذه أوّل مقولة غالية في الإسلام ، ظهرت ثمّ انطفأت من ساعتها.

_____________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، واُنظر : البداية والنهاية ٥ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.


وفي تلك الأيّام ظهر تكذيب بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهى بأصحابه إلى الردّة ! أولئك « بنو عبد القيس » قوم من البحرين لمّا بلغهم نبأ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : لو كان محمّد نبيّاً لما مات ! وارتدّوا !! فجمعهم سيدهم الجارود بن المعلّى ، فقال لهم : إنّي سائلكم عن أمر فأخبروني به.. قالوا : سل عمّا بدا لك. قال : اتعلمون أنّه كان لله أنبياء في ما مضى ؟ قالوا : نعم. قال : تعلمونه أو ترونه ؟ قالوا : لا بل نعلمه. قال : فما فعلوا ؟ قالوا : ماتوا. قال : فإنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله مات كما ماتوا ، وأنا أشهد ألّا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله. فعادوا إلى رشدهم ودينهم (١).

ـ ثمّ اتخذ الغلوّ أشكالاً ، مختلفة ، وأصبح يؤلّف فرقاً وأحزاباً تتعصّب لمقولاتها أشدّ التعصّب حتّى تموت دونها ! وكان أبشع تلك المقولات ما انتهى إلى تأليه البشر وهدم النبوّة والإمامة.

غلو المارقين وآثاره :

كان أكثر أنواع الغلوّ خطراً على تاريخ الإسلام ومستقبله غلوّ المارقة ، الذي كان أساسه : السذاجة ، والسطحية في التفكير ، مع تطرّف شديد في ما يظنّونه الموقف الديني ! ذلك الذي بلغ بهم أن مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية مع أنه ليس في الأمّة أحد يجتهد في العبادة اجتهادهم ، كما وصفهم الحديث النبوي الشريف « تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم » !

فكان أوّل مظاهر سطحيّتهم في التفكير ، تأويلهم الفاسد لقوله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ) (٢) فظنّوا أنّ تحكيم شخص في قضية بين اثنين شرك بالله تعالى !

_____________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٣٠٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٥٧.


وكان أوّل مظاهر تطرّفهم : تكفير خصومهم واستباحة دمائهم وأعراضهم. وبقيت هاتان الخصلتان ملازمتان للتطرّف الديني أيّاً كان اتّجاهه : السطحية في التكفير المتمثّلة بالتأويلات الفاسدة ، وتفكير الخصوم واستباحة دمائهم وأعراضهم.

تعدّد طوائف الغلاة :

لقد توزّعت طوائف الغلاة على المذاهب الإسلامية كافّة ، حتّى لم يبقَ مذهب من المذاهب إلّا وظهر الغلو بين أصحابه أو من يُحسب عليه.

ـ فمن بين المارقين أنفسهم ظهرت طوائف غلت في الدين فوق غلوّهم الأوّل ، فقال بعضهم إنّ الصلاة ركعة واحدة بالغداة وركعة بالعشيّ فقط.. وآخرون استحلّوا نكاح المحرّمات من بنات البنين وبنات البنات ، وبنات بني الأخوة والأخوات ، وقالوا : سورة يوسف ليست من القرآن..

وطوائف كانوا من المعتزلة ثمّ غلوا وقالوا بتناسخ الأرواح..

وطوائف من المرجئة ، قالوا : إن إبليس لم يسأل قطّ النظرة ، ولا أقرّ بأنّ خلقه من نار وخلق آدم من تراب..

وآخرون كانوا من « أهل السنّة » فقالوا : قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء ومن الملائكة عليهم‌السلام ، وأنّ من عرف الله حقّ معرفته فقد سقطت عنه الأعمال والشرائع ، وقال بعضهم بحلول الباري في أجسام..

وطوائف عُدّت من الشيعة والتشيّع برئ منهم لغلوهم ، فقال بعضهم بأُلوهيّة عليّ بن أبي طالب والأئمّة عليهم‌السلام من بعده ، ومنهم من قال بنبوّته ، وبتناسخ الأرواح ، وقالت طائفة منهم بأُلوهية أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب مولى بني


أسد ، وقالت طائفة بنبوّة المغيرة بن سعيد مولى بني بجيلة ، وبنبوّة أبي منصور العجلي ، وبزيغ الحائك ، وبيان بن سمعان التميمي وغيرهم (١) وقد كفرهم أئمّة الشيعة وتبرّأ الشيعة منهم.

ومن العباسية طائفة ألّهت أبا جعفر المنصور ، فشهدوا أنّه هو الله ، وأنّه يعلم سرّهم ونجواهم (٢).

كما يُعدّ التشبيه والتجسيم غلوّاً في إثبات الصفات ، يقابله غلوّ آخر في التعطيل الذي قد يعدّ أيضاً طرف التقصير المقابل للغلوّ.. ومثله الغلوّ في القدر عند الجبرية الكاملة ، ويقابله التقصير في القدر عند المفوّضة ، الذي هو غلوّ في الاختيار ونفي القدر.

وهكذا تعدّدت أوجه الغلوّ ومقولاته على يمين الصراط المستقيم وشماله..

موقف أهل البيت عليهم‌السلام من الغلو والغلاة :

منذ البداية كان موقف الإمام علي عليه‌السلام من الغلاة أبعد من أن يقاس به موقف من ألدّ أعدائه وأشدّهم خوضاً في الفتن ، وذلك كاشف عن أنّ الغلوّ كان أقبح أنواع التحريف ، بل هو الشرك والارتداد عن الدين الذي يبقى متلبّساً بالدين فيُضلّ أقواماً من البسطاء والجهّال والمغفّلين. ثمّ كان نشاط الغلاة وتكاثرهم وظهور مقالاتهم الجديدة قد ابتدأ أيّام الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما‌السلام ، لذا

_____________

(١) إلى هنا في تعدّد طوائف الغلاة مأخوذ من : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ : ١١٤ ، الغلوّ والفرق الغالية / الدكتور عبد الله سلوم السامرائي : ٨١ و٨٢ ـ دار واسط ـ بغداد ـ ١٩٨٢ م.

(٢) المقالات والفِرق : ٦٩ ـ ٧٠.


كان كلامهما في الغلاة كثيراً ومواقفهما منهم شهيرة ، لا يقاس بها موقف من خصم لهم أو منازع ، وقد توزّع موقف أهل البيت عليهم‌السلام عامّة من الغلاة على ثلاثة أساليب :

الأول ـ البراءة واللعن : فحين أظهر أبو الجارود بدعته ، تبرّأ منه الباقر عليه‌السلام ، وسمّاه باسم الشيطان سرحوب ، مبالغة في التنفير منه (١) ، ولعنه الإمام الصادق عليه‌السلام ولعن معه كثير النوّاء وسالم بن أبي حفصة ، وقال : « كذّابون مكذّبون كفّار ، عليهم لعنة الله » (٢).

وهكذا لعنوا المغيرة بن سعيد ، وأبا الخطّاب ، وبياناً وغيرهم (٣) ، ولمّا وقفوا على بدعة ابن كيّال تبرّأوا منه ولعنوه (٤)..

الثاني ـ التحذير منهم وكشف أكاذيبهم : فإذا أظهر رجل غلوّاً أبعدوه ولعنوه وتبرّأوا منه ، ثمّ أمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته (٥). ثمّ نبّهوا الناس من أتباعهم ومن غيرهم إلى أنّ هؤلاء كذّابون يفترون على أهل البيت الأباطيل وينسبون إليهم ما لم يقولوا به :

قال الصادق عليه‌السلام : « كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب علي أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المتستّرون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من

_____________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٩٥ ح / ٤١٣ ـ مطبعة جامعة مشهد ـ ١٣٤٨ هـ. ش.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٤٩٦ ح / ٤١٦.

(٣) رجال الكشي ح / ٤٠٠ ، ٤٠١ ، ٤٠٣ ، ٤٠٧.

(٤) الملل والنحل ١ : ١٦١ ، وهو أحمد بن كيّال ، وأصحابه الكيّالية ، من فرق الغلاة.

(٥) الملل والنحل ١ : ١٦١ ، رجال الكشي ٢ : ٩٣ ح / ٤٠٥.


أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ، ثمّ يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوا في الشيعة ، فكلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذاك ما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم » (١) !

وقال عليه‌السلام : « لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافق القرآن والسنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزّوجلّ ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢).

فكان أصحابهم من ذوي البصيرة وذوي التحقيق يدقّقون النظر في كتب الحديث ، فربّما تحسّسوا الدخيل فيها ، وربّما عرضوها على الأئمّة أنفسهم فأثبتوا الصحيح منها وأسقطوا الدخيل ؛ يقول يونس بن عبد الرحمن : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم ، فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال لي : « إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، لعن الله أبا الخطّاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إذا

_____________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٩١ ح / ٤٠٢.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٤٨٩ ح / ٤٠١.


تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة ، إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول قال فلان وقال فلان فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، وكلام أوّلنا مصدّق كلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به ، فإنّ مع كلّ قول منّا حقيقة وعليه نوراً ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان » (١).

وكان ذوو الذوق السليم والإيمان الصحيح يتحسّسون ذلك أيضاً ؛ جاء أبو هريرة العجلي الشاعر إلى الإمام الباقر عليه‌السلام فأنشده :

أبا جعفر أنت الوليّ اُحبّهُ

وأرضى بما ترضى به وأتابعُ

أتتنا رجالٌ يحملون عليكمُ

أحاديث قد ضاقت بهنّ الأضالعُ

أحاديث أفشاها المغيرةُ فيهمُ

وشرُّ الاُمورِ المُحدَثاتُ البدائعُ (٢)

الثالث ـ الردّ على مقالاتهم الباطلة : لقد كان اُولئك الغلاة يكذبون على أهل البيت عليهم‌السلام من ورائهم ويخشون أن يظهروا مقولاتهم الفاسدة أمامهم ، بل حتّى الزنادقة كانوا يتحاشون ذلك ، فلمّا أراد ابن أبي العوجاء الزنديق أن يناظر الإمام الصادق عليه‌السلام حذّره ابن المقفّع ، وقال له : لا تفعل ، فإنّي أخاف أن يُفسد عليك ما في يدك (٣). وكان أهل البيت عليهم‌السلام إذا بلغتهم المقالة الفاسدة من الغلاة فيهم خاصّة ردّوها جهرة وأثبتوا للناس الحقّ الذي في خلافها..

_____________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٨٩ ـ ٤٩١.

(٢) عيون الأخبار / ابن قتيبة م ١ ـ ج ٢ : ١٥١ (كتاب العلم والبيان) ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(٣) الكافي / الكليني ـ كتاب التوحيد ـ ١ : ٧٤ ح / ٢ ـ المكتبة الإسلامية.


وهنا سنذكر نماذج من هذه الردود بحسب موضوعاتها ، لنقف في آن واحد على نماذج من الموضوعات التي انزلق فيها الغلاة ، وعلى كلمات أهل البيت عليهم‌السلام وكلمات علماء الشيعة في مواجهة الانحراف وتصحيح الاعتقاد :

١ ـ التأليه : ادّعى كثير من الغلاة تأليه الأئمّة ، أو حلول الروح الإلهية فيهم ، فكان من ردّهم على هذه الدعوى قول الإمام الصادق عليه‌السلام : « لعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا » (١).

٢ ـ التفويض : دعوى اُولئك الذين قالوا إنّ الله خلق الأئمّة ثمّ جعل بأيديهم الخلق والرزق ؛ قيل للإمام الصادق عليه‌السلام : « زعم أبو هارون المكفوف أنّك قلت له : إن كنتَ تريد القديم فذاك لا يدركه أحد ، وإن كنت تريد الذي خلق ورزق فذاك محمّد بن عليّ ! يعني الباقر عليه‌السلام ».

فقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « كذب عليَّ ، عليه لعنة الله ، والله ما من خالق إلّا الله وحده لا شريك له ، حقّ على الله أن يذيقنا الموت ، والذي لا يهلك هو الله خالق وبارئ البرية » (٢).

٣ ـ منازل لم يدّعها أهل البيت عليهم‌السلام لأنفسهم : من غير التأليه والتفويض أظهر الغلاة كلاماً في منازل عجيبة لم يصدق منها شيء :

ـ فمن ذلك : قول بعضهم في جواب أمير المؤمنين عليه‌السلام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر في خبر ماريّة ، فقال له : يا رسول الله ، أكون فيه كالسكّة المحماة ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل الشاهد يرى ما لا

_____________

(١) رجال الكشّي ٢ : ٤٨٩ ح / ٤٠٠.

(٢) رجال الكشّي ٢ : ٤٨٨ ح / ٣٩٨.


يرى الغائب ».. فتأول هؤلاء كلمتي « الشاهد » و « الغائب » بأنّ هذا رمز من أمير المؤمنين بأنّه شاهد جميع الأشياء ، وأنّ الأمر له في الباطن والتدبير ، دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله !!

وصف الشيخ المفيد أصحاب هذا القول بأنّهم الغلاة المنتحلين للزيغ (١).

ـ وقال أصحاب التناسخ : إنّ مقام النبوّة ومقام الإمامة استحقاق على الله تعالى ! وأنكر ذلك جمهور الإمامية ، وقالوا : هو تفضّل من الله تعالى ومعهم في هذا كافّة المعتزلة وأصحاب الحديث (٢).

وفي ردّ تلك المقالات كلّها ونظائرها نقف على قول الإمام الصادق عليه‌السلام : « لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا » (٣).

٤ ـ في مفاهيم العقيدية : لقد سخّر الغلاة كثيراً من القضايا العقيدية في خدمة أهوائهم ، كما سخّروا التأويل والباطن ، وكما استفادوا من العقيدة بالمهدى الموعود وغيبته ـ كما استفاد غيرهم أيضاً ـ حتّى صارت عشرات الفرق منهم تدّعي مهدياً وتقول بغيبته ! فواجه أهل البيت عليهم‌السلام ذلك كلّه ، فأثبتوا حجيّة ظواهر القرآن : في تفسيرهم له ، وفي أمرهم بعرض الحديث عليه فما وافقه فهو صحيح عنهم ، وما خالفه بالتباين فهم منه براء.. وركّزوا الحديث عن مهديّ أهل البيت عليهم‌السلام بما يكفي لبيان بطلان دعاوى اُولئك المنتحلين ، وذلك ببيان اسمه ونسبه الشريف.

_____________

(١) رسالة حول خبر مارية القبطية / الشيخ المفيد : ١٨ (مصنفات الشيخ المفيد / م ٣).

(٢) أول المقالات / الشيخ المفيد : ٦٤ / ٣٥ ، ٣٦ (المصنفات / م ٤).

(٣) رجال الكشّي : ح / ٤٠٠.


ولئن كان أهل البيت عليهم‌السلام لم يفتُروا عن مكافحة أساليب خصومهم من اُمويين وعباسيّين ومرتزقة وجهّال وزنادقة ، فإنّ انشغالهم في مكافحة هؤلاء الغلاة المنتحلين حبّهم كان أكثر وأشدّ ، لأنّه أنشغال تصحبه معاناة الشعور بالخذلان والتقوّل وزرع المزيد من الفواصل بينهم وبين الناس ! ومن هنا بيّن الإمام الرضا عليه‌السلام حقيقة أخبار الغلوّ بقوله الشريف : « إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام ؛ أحدها : الغلوّ. وثانيها : التقصير في أمرنا. وثالثها : التصريح بمثالب أعدائنا » (١).

_____________

(١) عيون أخبار الرضا / الشيخ الصدوق ـ باب ٢٨ ـ ح / ٦٣ ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٩٨٠ م.


المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم




المحتويات

مقدمة المركز .................................  ٥

مقدمة المؤلف .................................  ٩

الفصل الأول : في تسمية المذاهب والفرق ........................  ١١

اُسس خاطئة في التمييز ............................  ١٢

تحديد اُصول المذاهب وتاريخ تسميتها ......................  ١٣

بين التأصيل والتهجين .................................  ١٨

أين يُصنّف أصحاب التجسيم ؟ .........................  ١٩

غيبة المعايير الثابتة ................................  ٢٠

جذور التسميةُ وأسبابها ..............................  ٢٣

خاتمة ونتيجة ..............................  ٣١

الفصل الثاني الواقع التاريخي للخلافة ونظام الغَلَبة وأثرهما في نشأة المذاهب والفرق ......................  ٣٣


توطئة ........................................  ٣٣

نشأة التسمية بأهل السنّة والجماعة ........................  ٣٩

تاريخ التمييز بين « أهل السنّة » و « أهل البدعة » .................  ٤٦

كيف أظهر المتوكّل السنّة ونَشَرَ الحديث .......................  ٤٧

متى اعترف « أهل السنّة » بخلافة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ؟ .............  ٤٨

من وقع في دائرة الظل التام ودائرة شبه الظل .......................  ٥٢

الصحيح في معنى السنّة والجماعة ............................  ٥٨

المارقون .......................................  ٦٠

مرحلة الانقسامات .............................  ٦٣

الجبرية ....................................  ٧١

المفوّضة « القدريّة » .............................  ٧٥

هَديُ الكتاب والسنّة في الفعل والإرادة ..........................  ٧٨

المرجئة .....................................  ٧٩

مبدأ ظهور الإرجاء ؟ ..............................  ٨٥

أعلام نُسِبوا إلى الإرجاء ..........................  ٨٨

الفصل الثالث : أثر الكلام والفلسفة في نشأة المذاهب ..................  ٩١

المعتزلة .....................................  ٩٢

الأشاعرة .................................  ٩٤

الماتريدية ...................................  ٩٥


الصفات محور لفرق جديدة .........................  ٩٨

الطائفة الاولى ............................  ٩٨

الطائفة الثانية .............................  ١٠١

الطائفة الثالثة .............................  ١٠٧

الفصل الرابع دور التطّرف الديني في تكوين بعض المذاهب والفرق ..........  ١٠٩

ظهور الغلوّ بين المسلمين .....................  ١١٢

غلوّ المارقين وآثاره .........................  ١١٣

تعدّد طوائف الغلاة ............................  ١١٤

موقف أهل البيت عليهم‌السلام من الغلوّ والغلاة .................  ١١٥

المحتويات ...................................  ١٢٣

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

المؤلف: الدكتور صائب عبد الحميد
الصفحات: 125
ISBN: 964-8629-06-4