بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لموليه ، والصلاة والسّلام على نبيه محمد وآله وذويه.

هذا هو الفن الخامس من الأشباه والنظائر وهو فن الألغاز والأحاجي والمطارحات والممتحنات والمعاياة ، وهو منثور غير مرتب وسميته :

الطراز في الألغاز

اللغز النحوي قسمان : قسم يطلب به تفسير المعنى

وقسم يطلب به تفسير الإعراب

قال الشيخ جمال الدين بن هشام في كتابه (موقظ الوسنان وموقد الأذهان) :

اعلم أن اللغز النحوي قسمان ، أحدها : ما يطلب به تفسير المعنى ، والآخر : ما يطلب به وجه الإعراب.

بعض ألغاز الحريري

ما يطلب به تفسير المعنى : فالأول كقول الحريريّ (١) : وما العامل الذي يتّصل آخره بأوله ويعمل معكوسه مثل عمله؟ وتفسيره (يا) في النداء ، فإنه عامل النصب في المنادى ، وهو حرفان ، فآخره متّصل بأوله ، ومعكوسه وهو (أي) حرف نداء أيضا.

وكقوله : أيضا : وما منصوب أبدا على الظرف ، لا يخفضه سوى حرف؟

وجوابه : لفظة (عند). تقول : جلست عنده ، وأتيت من عنده لا يكون إلا منصوبا على الظرفية ، أو مخفوضا بمن خاصة. فأما قول العامّة : سرت إلى عنده فخطأ.

فإن قيل : لدن وقبل وبعد بمنزلة عند في ذلك ، فما وجه تخصيصك إياها؟

قلت : (لدن) مبنيّة في أكثر اللغات ، فلا يظهر فيها نصب ، ولا خفض. و (قبل وبعد) يكونان مبنيّين كثيرا ، وذلك إذا قطعا عن الإضافة ، وإنّما تبين الألغاز والتمثيل بما يكون الحكم فيه ظاهرا.

__________________

(١) انظر مقامات الحريري (٧).


وكقوله : وأين تلبس الذّكران براقع النسوان ، وتبرز ربّات الحجال بعمائم الرجال؟

وجوابه باب العدد من الثلاثة إلى العشرة ، تثبت التاء فيه في المذكّر ، وتحذف في المؤنّث.

ما يطلب به تفسير الإعراب : والثاني : وهو الذي يطلب فيه تفسير الإعراب وتوجيهه ، لا بيان المعنى كقول الشاعر : [السريع]

٣٤٢ ـ جاءك سلمان أبو هاشما

فقد غدا سيّدها الحارث

شرحه : جاء فعل ماض ، كسلمان جارّ ومجرور وعلامة الجرّ الفتح لأنه لا ينصرف ، وإنما أفردت الكاف في الخطّ ليتأتّى الإلغاز. أبوها فاعل جاء ، والضمير لامرأة قد عرفت من السياق. شما فعل أمر من شام البرق يشيمه ، ونونه للتوكيد كتبت بالألف على القياس. سيّدها نصب بشم ، كما تقول : انظر سيّدها ، والحارث فاعل غدا. انتهى كلام ابن هشام.

لغز لابن هشام : وقال ابن هشام في (المغني) (١) : مسألة يحاجى بها فيقال :ضمير مجرور لا يصحّ أن يعطف عليه اسم مجرور ، أعدت الجارّ أم لم تعده ، وهو الضمير المجرور بلولا ، نحو : لولاي وموسى. لا يقال : إنّ موسى في محلّ الجرّ لأنه لا يعطف على الضمير المجرور ، من غير إعادة الجارّ هنا ، لأن لو لا لا تجرّ الظاهر ، فلو أعيدت لم تعمل الجرّ ، بل يحكم للمعطوف ـ والحالة هذه ـ بالرفع ، لأنّ (لو لا) محكوم لها بحكم الحروف الزائدة. والزائدة لا تقدح في كون الاسم مجرّدا من العوامل اللفظية ، فكذا ما أشبه الزائد.

ذكر بقية ألغاز الحريريّ التي ذكرها في مقاماته (٢)

قال :

١ ـ ما كلمة إن شئتم هي حرف محبوب ، أو اسم لما فيه حرف حلوب؟.

٢ ـ وأيّ اسم يتردّد بين فرد حازم وجمع ملازم.

٣ ـ وأيّة هاء إذا التحقت أماطت الثّقل ، وأطلقت المعتقل؟.

٤ ـ وأين تدخل السين فتعزل العامل من غير أن تجامل؟

٥ ـ وأيّ مضاف أخلّ من عرى الإضافة بعروة ، واختلف حكمه بين مساء وغدوة؟.

__________________

(١) انظر ألغاز ابن هشام (ص ٥٤) تحقيق أسعد خضير ، وكتاب توجيه إعراب أبيات ملغزة الإعراب للفارقي (ص ٦٢) تحقيق سعيد الأفغاني.

(٢) انظر مقامات الحريري ، المقامة الرابعة والعشرين.


٦ ـ وأيّ عامل نائبه أرحب منه وكرا ، وأعظم مكرا ، وأكثر لله تعالى ذكرا؟.

٧ ـ وأين يجب حفظ المراتب على المضروب والضارب؟.

٨ ـ وأيّ اسم لا يفهم إلّا باستضافة كلمتين ، أو الاقتصار منه على حرفين ، وفي وضعه الأول التزام ، وفي الثاني إلزام.

٩ ـ وأيّ وصف إذا أردف بالنون نقص من العيون وقوّم بالدون ، وخرج من الزبون وتعرّض للهون؟

أراد بالأول : نعم ، وبالثاني : سراويل ، وبالثالث : هاء التأنيث الداخلة على الجمع المتناهي ، نحو : زنادقة ، وصياقلة ، وتبابعة ، وبالرابع : باب إن المخففة من الثقيلة ، وبالخامس : لدن ، وبالسادس : باء القسم ونائبه الواو ، وبالسابع نحو : كلم موسى عيسى ، وبالأخير نحو : ضيف ، تدخل عليه النون فيقال : ضيفن ، وهو الطفيليّ.

أحاجي الزمخشريّ

وللزمخشريّ كتاب (الأحاجي) منثور ، وشرحه الشيخ علم الدين السخاويّ بشرح سمّاه : (تنوير الدياجي في تفسير الأحاجي) وأتبعه بأحاجي له منظومة. وأنا ألخّص الجميع هنا.

قال (١) الزمخشريّ : أخبرني عن فاعل جمع على فعلة ، وفعيل جمع على فعلة. الأول باب قاض وداع ، والثاني نحو سريّ وسراة.

وقال : أخبرني عن تنوين يجامع لام التعريف ، وليس إدخاله على الفعل من التحريف ، هو تنوين الترنّم والغالي.

وقال : أخبرني عن واحد من الأسماء ثنّي مجموعا بالألف والتاء.

أخبرني عن موحد (٢) في معنى اثنين ، وعن حركة في حكم حركتين.

أخبرني عن حركة وحرف قد استويا ، وعن ساكنين على غير حدّهما (٣) قد التقيا.

أخبرني عن اسم (٤) على أربعة فيه سببان لم يمتنع صرفه بإجماع ، وعن آخر ما فيه إلا سبب واحد ، وهو حقيق بالامتناع.

أخبرني عن فاء ذات فنيّن ، وعن لام ذات لونين.

__________________

(١) انظر الأحاجي النحوية للزمخشري (ص ١٩) تحقيق مصطفى الحدري.

(٢) انظر أحاجي الزمخشري (ص ٢٢).

(٣) انظر أحاجي الزمخشري (ص ٢٤).

(٤) انظر أحاجي الزمخشري (ص ٢٦).


الأولى : نحو السريّ والشريّ ، والبثّ والنثّ ، وقانعه الله وكاتعه بمعنى قاتله ، و «بيد أنّي من قريش» (١) وميد أنّي ، ونحو وزن وأزن. وهو قياس مطّرد في المضموم وفي المكسور ، نحو : وشاح ووعاء وإشاح وإعاء ، والمفتوح نحو : وسن وأسن ، ووبد وأبد إذا غضب ، ووله وأله ، تحيّر ، وما وبه له وما أبه. سماع بإجماع.

والثانية : نحو : عضة وسنة. هي هاء في : عضة وعضاه ، وبعير عاضه وعضه أي راعي العضاه ، وعضهه إذا شتمه ، وفي نخلة سنهاء وسانهت الأجير. وواو في : عضوات وسنوات.

أخبرني عن نسب بغير يائه ، وعن تأنيث بتاء ليس بتائه.

الأول : ما دلّ عليه بالصنعة ، نحو : عوّاج وبتّار ودارع ولابن.

ونظير دلالتي العلامة والصيغة قولك : لتضرب واضرب. والفرق بين البناءين أن فعّالا لما هو صنعة وفاعلا لمباشرة الفعل.

والثاني : بنت وأخت لأنّ تاءهما بدل من الواو التي هي لام ، إلّا أنّ اختصاص المؤنّث بالإبدال دون المذكّر قام علما للتأنيث ، فكانت هذه التاء لاختصاصها كتاء التأنيث ، ونحوها التاء في مسلمات ، هي علامة لجمع المؤنث ، فلاختصاصها بجمع المؤنث كأنها للتأنيث. ومن ثمّ لم يجمعوا بينها وبين تاء التأنيث فلم يقولوا : مسلمتات.

فإن قلت : ما أدراك أنها ليست تاء التأنيث؟ قلت : لو كانت كذلك لقلبها الواقف هاء في اللغة الشائعة.

فإن قلت : فلم قلبها من قلبها هاء في الوقف؟ فقال : البنون والبناه؟ قلت : رآها تعطي ما تعطيه تاء التأنيث فتوهّمها مثلها.

أخبرني عن نعت مجرور ، ومنعوته مرفوع ، وعن نعت موحد ، ونعته مجموع.

الأول نحو : هذا جحر ضبّ خرب (٢) ، والثاني : قول القطاميّ : [الوافر]

٣٤٣ ـ كأن قيود رجلي حين ضمّت

حوالب غرّزا ، ومعى جياعا

__________________

(١) هذا جزء من حديث ورد في لسان العرب (بيد ، ميد) ، وفي مغني اللبيب (ص ١٢٢) ، وتمامه : «أنا أفصح من نطق بالضاد ، بيد أني من قريش ، واسترضعت في بني سعد بن بكر».

(٢) انظر الكتاب (١ / ٥٠٠).

٣٤٣ ـ الشاهد للقطامي في ديوانه (ص ٤١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٢٩) ، ولسان العرب (غرز) و (معي) ، وتاج العروس (غرز) و (معا).


جعل المعى لفرط جوعه بمنزلة أمعاء جائعة ، فجمع النعت مع توحيد المنعوت.

أخبرني عن فصل (ليس) بين المعرفتين فاصلا ، وعن (ربّ) على المعرفة داخلا.

الأول : نحو : كان زيد هو خيرا منك ، و (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً) [الكهف : ٣٩] ، وإنما ساغ ذلك في أفعل من لامتناعه من دخول لام التعريف عليه امتناع ما فيه التعريف ، فشبه به ، وأجرى حكمه عليه.

والثاني : نحو قولهم : ربّ رجل وأخيه. قال سيبويه (١) : ولا يجوز حتى تذكر قبله نكرة.

أخبرني عمّا ينصب ويجرّ. وهو رفع ، وعما تدخله التثنية وهو جمع.

الأول : المحكيّ.

والثاني : قولهم (٢) : عندي لقاحان سوداوان ، وقوله : [الرجز]

٣٤٤ ـ [تبقّلت في أوّل التّبقّل]

بين رماحي مالك ونهشل

وقوله : [البسيط]

٣٤٥ ـ لأصبح الحيّ أوبادا ، ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

أخبرني كيف يكون متحّرك يلزمه السكون؟

هو عين حيّ وعيّ وضفّ في قولهم : ضف الحال (٥) ، وزنها فعل لأنه من باب فرح وبطر وأشر.

أخبرني عن واحد وجمع لا يفرّق بينهما ناطق ، إلّا أن الضمير بينهما فارق.

هما فلك وفلك للواحد والجمع ، ومثله (٦) : جمل هجان وإبل هجان ، ودرع دلاص ودروع دلاص.

أخبرني عن فاعل خفي فما بدا ، وآخر لا يخفى أبدا.

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٥٢).

(٢) انظر الكتاب (٤ / ١٠٠).

(٣٤٤) ـ الشاهد لأبي النجم في لسان العرب (بقل) ، وخزانة الأدب (٢ / ٣٩٤) ، وسمط اللآلي (ص ٥٨١) ، وشرح شواهد الشافية (٣١٢) ، والطرائف الأدبية (ص ٥٧) ، وتاج العروس (حبب) و (بقل) وجمهرة اللغة (ص ٦٥) ، ومجمل اللغة (١ / ٢٨١) ، وأساس البلاغة (بقل) ، وبلا نسبة في المخصص (١٠ / ١٧٤) ، ومقاييس اللغة (١ / ٢٧٤).

(٣٤٥) ـ الشاهد لعمرو بن العداء في خزانة الأدب (٧ / ٥٧٩) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٥٦٠) ، ولسان العرب (وبد) و (عقل) ، وبلا نسبة في شرح المفصل (٤ / ١٥٣) ، ومجالس ثعلب (١ / ١٧١) ، والمقرّب (٢ / ٤٣).

(٣) انظر أحاجي الزمخشري (ص ٣٥).

(٤) انظر أحاجي الزمخشري (ص ٣٦).


الأول : فاعل أفعل ونفعل ونحوها.

والثاني : الواقع بعد (إلّا) ، نحو (١) : ما قام إلّا زيد أو إلا أنا.

أخبرني عن حرف يزاد ثمّ يزال ، وأثره باق ماله انتقال.

هو نون التثنية والجمع ، تزال وأثرها باق في نحو : هما الضاربا زيدا ، والضاربو زيدا.

أخبرني عن حرف يوحّد ثم يكثّر ، ويؤنّث ثم يذكّر.

الأول : باب تمرة وتمر.

والثاني : باب العدد من ثلاثة إلى عشرة.

أخبرني عن معرّف في حكم التنكير ، ومؤنث في معنى التذكير.

الأول : مررت بالرجل مثلك ، أو برجل مثلك. لا يكاد في نحو هذا الموضع يتبيّن الفرق بين النكرة والمعرفة ، ومثله (٢) : [الكامل]

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

[فمضيت ثمّت قلت : لا يعنيني]

والثاني : باب علّامة ونسّابة.

أخبرني عن واحد يوزن بأربعة ، وعن عشرة عند بعضهم متسعة.

الأول : هو باب (ق) و (ع) و (ش) ونحوها ، توزن بافعل ، ولا يقال في وزنه (ع).

والثاني : حروف العطف عند النحويّين عشرة ، وقد تسّعها أبو عليّ الفارسيّ حيث عزل عنها إمّا.

أخبرني عن زائد يمنع الإضافة ويؤكّدها ، ويفكّ تركيبها ويؤيّدها.

هو اللام في قولهم : لا أبالك ، وهي مانعة للإضافة ، فاكّة لتركيبها بفصلها بين ركنيها وهما المضاف والمضاف إليه ، وهي مع ذلك مؤكدة لمعناها مؤيّدة لفائدتها من حيث أنها موضوعة لإعطاء معنى الاختصاص. ونظيرتها (تيم) الثانية في : [البسيط]

٣٤٦ ـ يا تيم تيم عديّ [لا أبا لكم

لا يوقعنّكم في سوءة عمر]

__________________

(١) انظر أحاجي الزمخشري (ص ٣٧).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٢٧١).

٣٤٦ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٢١٢) ، والأزهية (ص ٢٣٨) ، والكتاب (١ / ٩٦) ، وخزانة الأدب (٢ / ٢٩٨) ، والخصائص (١ / ٣٤٥) ، والدرر (٦ / ٢٩) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٤٢) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٥٥) ، وشرح المفصل (٢ / ١٠) ، واللامات (ص ١٠١) ، ولسان العرب (أبي) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٧٢٥) ، والمقتضب (٤ / ٢٢٩) ، ونوادر أبي زيد (ص ١٣٩) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (٢ / ٧٢٥) ، وجواهر الأدب (ص ١٩٩) ، وخزانة الأدب (٨ / ٣١٧) ، ورصف المباني (ص ٢٤٥) ، وشرح الأشموني (٢ / ٤٥٤) ، وشرح المفصل (٢ / ١٠٥) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤٥٧) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٢٢).


أقحمت بين المضاف والمضاف إليه ، وتوسّطت بينهما ، كما قيل (١) : «بين العصا ولحائها ، وهي بما حصل بتوسّطها من التكرير معطية معنى التوكيد والتشديد. وهذه اللام لها وجه اعتداد ووجه اطّراح ، فوجه اعتدادها استصلاحها الأب لدخول (لا) الطالبة للنكرات عليه ، ووجه اطّراحها أن لم تسقط لام الأب الواجبة الثبوت عند الإضافة. ونحوه قولهم (٢) : «لا يدي لك» ، سقوط النون مع اللام دليل الاطّراح وتنكّر المضاف وتهيّؤه لدخول (لا) دليل على الاعتداد.

فإن قلت : كيف صحّ قولهم (٣) : «لا أباك»؟

قلت : اللّام مقدّرة منويّة وإن حذفت من اللفظ. والذي شجّعهم على حذفها شهرة مكانها ، وأنه صار معلما لاستفاضة استعمالها فيه ، وهو نوع من دلالة الحال التي لسانها أنطق من لسان المقال.

ومنه حذف (لا) في (تَاللهِ تَفْتَؤُا) [يوسف : ٨٥] ، وحذف الجارّ في قول رؤبة : (خير) إذ أصبح عند ما قيل له : كيف أصبحت؟ ومحمل قراءة حمزة (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] عليه سديد ، لأنّ هذا المكان قد شهر بتكرير الجارّ ، فقامت الشهرة مقام الذكر.

أخبرني عن ميمات هنّ بدل وعوض وزيادة ، وعن واحدة هي موصوفة بالجلادة.

البدل نحو إبدال طيّئ الميم من لام التعريف ، والعوض في اللهمّ عوضت من حرف النداء ، والزيادة في نحو : مقتل ومضرب ، والموصوفة بالجلادة هي ميم (فم) ، هي بدل من عين (فوه). قال سيبويه (٤) : أبدلوا منها حرفا أجلد منها. وفي مقامة النحويّ من النصائح (٥) : وتجلّد في المضيّ على عزمك وتصميمه ، ولا تقصّر عمّا في الفم من جلادة ميمه.

أخبرني عن ثالث (مقول) ، أعين هو أم واو مفعول؟

فيه اختلاف سيبويه (٦) والأخفش ، وقد تقدّم في أوّل الكتاب.

أخبرني عن اسم بلد فيه أربعة من الحروف الزوائد ، وكلّها أصول غير واحد (٧).

__________________

(١) انظر المستقصى (١ / ١٧) ، ويضرب لغريب دخل بين نسيبين.

(٢) انظر الكتاب (٢ / ٢٩٠).

(٣) انظر الكتاب (٢ / ٢٨٨).

(٤) انظر الكتاب (٣ / ٤٠٠).

(٥) ذكر محقّق الأحاجي (ص ٤٧٠) أن (النصائح) كتاب للزمخشري ألّفه على أسلوب المقامات.

(٦) انظر الكتاب (٤ / ٤٩١).

(٧) انظر أحاجي الزمخشري (ص ٤٩).


هو (يستعور) من بلاد الحجاز فيه الياء والسين والتاء والواو من جملة الزوائد العشرة ، وكلّها أصول في هذا الاسم إلّا الواو.

أخبرني عن مائة في معنى مئات ، وكلمة في معنى كلمات.

المائة في ثلاثمائة في معنى المئات ، لأنّ حقّ مميّز الثلاثة إلى العشرة أن يكون جمعا. والكلمة في معنى كلمات قولهم كلمة الشهادة وكلمة الحويدرة ، وقوله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) [آل عمران : ٦٤] الآية.

أخبرني عن حرف من حروف الاستثناء لم يستثن شيئا قطّ من الأسماء.

هو (لمّا) بمعنى (إلا) لا يستثنى به الأسماء كما يستثنى بإلّا وأخواتها ، وإنّما يقال : نشدتك الله لمّا فعلت ، وأقسمت عليك لمّا فعلت.

أخبرني عن مكبّر يحسب مصغّرا ، وعن مصغّر يحسب مكبّرا.

الأول : سكّيت بالتشديد يحسبه من ليس بنحويّ مصغّرا ، وهو خطأ ظاهر ، لأنّ ياء التصغير لا تقع إلّا ثالثة. بل سكّيت مكبرا كسكيت.

وسكيت بالتخفيف مصغّرة تصغير الترخيم.

والثاني : حبرور ، وهو في عداد المكبّرات ، وفي قول الأعرابيّ الذي سئل عن تصغير الحبارى فقال : حبرور.

أخبرني عن مصغّر ليس له تكبير ، وعن مكبّر ليس له تصغير.

من الأسماء ما وضع على التصغير ليس له مكبّر ، نحو : كميت ، وكعيت ومنها ما ورد مكبّرا ولم يصغّر كأين وكيف ومتى والضمائر ونحوها.

أخبرني عن كلمة تكون اسما وحرفا ، وعن أخرى تكون غير ظرف وظرفا.

الأول : على ، وعن ، وكاف التشبيه ، ومذ ومنذ. والثاني نحو : اليوم والليلة والساعة والحين والخلف والأمام.

أخبرني عن اسم متى أضيفت أخواته وافقها ، ومتى أفردت فارقها.

هو (ذو) بمعنى صاحب.

أخبرني عن سبب متى آذن بالذهاب تبعه سائر الأسباب.

هو التعريف في نحو : أذربيجان ، ودرابجرد وخوارزم. إذا ذهب عنه بالتنكير لم يبق لسائر الأسباب أثر ، وهي : التأنيث والعجمة والتركيب.

أخبرني عن شيء من العلامات يشفع لأخيه في السقوط دون الثبات.

التنوين هو المقصود وحده بالإسقاط في باب ما لا ينصرف. وإنما سقط الجرّ


لأخوّة ثبتت بينه وبين التنوين ، وذلك أنهما جميعا لا يكونان في الأفعال ، ويختصّان بالأسماء ، فلهذه الأخوّة لما سقط التنوين تبعه الجرّ في السقوط ، فالتنوين ، أصل فيه ، والجرّ تبع ، كما يسقط الرجل عن منزلته فتسقط أتباعه ، وهذا معنى قول النحويّين : سقط الجرّ بشفاعة التنوين ، فإذا عاد الجرّ عند الإضافة واللام لم يتصوّر عود التنوين.

أخبرني عن حرف تلعب الحركات بما بعده ، ولا يعمل منها إلّا الجرّ وحده.

هو (حتّى) يقع الاسم بعدها مرفوعا ومنصوبا ومجرورا ، والجرّ وحده عملها.

أخبرني عن اسم صحيح أمكن هو فاعل وما هو مرفوع ، وعن آخر داخل عليه حرف الجرّ ، وهو عن الجرّ ممنوع.

الأول : (غير) في قول الشمّاخ (١) : [البسيط]

لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

[حمامة في غصون ذات أوقال]

والثاني : (حين) في قوله (٢) : [الطويل]

على حين عاتبت المشيب على الصبا

[وقلت ألما أصح والشّيب وازع]

أخبرني عن شيء وراء خمسة أشياء ، يجزم جوابه في باب الجزاء.

هو الاسم أو الفعل الذي ينزل منزلة الأمر والنهي ، ويعطى حكمهما ، لأنّ فيه معناهما ومرادهما فيجزم به كما يجزم بهما ، وذلك قولك (٣) : حسبك ينم النّاس ، واتّقى الله امرؤ وفعل خيرا يثب عليه ، بمعنى : ليتّق الله وليفعل.

أخبرني عن ضمير ما اشتقّ من الفعل أحقّ به من الفعل ، وفي ذلك انحطاط الفرع عن الأصل.

هو الضمير في قولك (٤) : هند زيد ضاربته هي ، وزيد الفرس راكبه هو ، وفي كلّ موضع جرت فيه الصفة على غير من هي له ، فالمشتقّ من الفعل ـ وهو الصفة ـ أحقّ به من الفعل لا بدّ له منه ، وللفعل منه بدّ ، إذا قلت : هند زيد تضربه ، وزيد الفرس يركبه ، حتى إن جئت به فقلت : تضربه هي ويركبه هو كان تأكيدا للمستكنّ. والسبب قوّة الفعل وأصالته في احتمال الضمير ، والمشتقّ منه فرع في ذلك ففضّل الفرع على الأصل.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٢٨).

(٢) مرّ الشاهد رقم (١٤٣).

(٣) انظر الكتاب (٣ / ١١٧).

(٤) انظر الأحاجي (ص ٧٠).


أخبرني عن زيادة أوثرت على أصالة ، وعن إمالة ولدت إمالة.

الأول : حذفهم الألف والياء الأصليتين وإبقاء التنوين في (هذه عصا). (وهذا قاض) ، ولياءي النسب إلى (المصطفى) ، وحذف اللام الألف التكسير وياء التصغير في فرازد وفريزد ، وحذف العين في شاك ولاث وإبقاء ألف فاعل ، وحذف الفاء في (يعد) لحروف المضارعة. ومن ذلك قول الأخفش في (مقول) وحذفه عين مفعول لواوه.

والثاني : قولهم : رأيت عمادا ، ولقيت عبادا أمالوا الألف الأولى لكسرة العين ثمّ أمالوا الثانية لإمالة الأولى. ونظير تسبب الإمالة للإمالة تسبّب الإلحاق للإلحاق في نحو قولهم : ألندد هو ملحق بسفرجل والألف والنون معا زائدتان للإلحاق ، ولو لا النون المزيدة للإلحاق لما كانت الهمزة حرف إلحاق ، ألا ترى أنها في المدّ ليست كذلك.

أخبرني عن حلف ليس بحلف ، وعن إمالة في غير ألف.

الأول : قولهم : بالله إلّا زرتني ، وبالله لما لقيتني ، وبحقّ ما بيني وبينك لتفعلنّ ، صورته صورة الحلف ، وليس به ، لأنّ المراد الطلب والسؤال.

والثاني : إمالة (١) الفتحة قبل راء مكسورة ، نحو : من الضرر.

أخبرني عن فعل يقع بعد ، منذ ومذ ، وعن جملة يضاف إليها المشبّه بإذ.

الأول : نحو : ما رأيته مذ كان عندي. ومذ جاءني.

والثاني : نحو : كان ذاك زمن زيد أمير ، وزمن تأمّر الحجّاج.

حقّ هذه الجملة أن تكون على صفة الجملة التي تضاف إليها (إذ) وهي صفة المضيّ ، وتكون فعليّة تارة وابتدائية أخرى.

أخبرني عن لام تحسب للابتداء ، والمحقّقة يأبون ذلك أشدّ الإباء.

هي اللام الفارقة الداخلة على خبر إنّ المخففة.

أخبرني عن دخول (أن) الخفيفة على بعض الأخبار ، غير معوّضة ، واحدا من جملة الإستار.

(أن) المخففة إذا دخلت على الفعل ـ وهو المراد ببعض الأخبار ـ عوّض مما سقط منه أحد الأحرف الأربعة ، وهي : قد وسوف والسين وحرف النفي.

وشذّ تركه فيما حكاه سيبويه (٢) ، أما أن جزاك الله خيرا.

__________________

(١) انظر الأحاجي (ص ٧٥).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ١٩٠).


أخبرني عن عينين : ساكنة يفتحها الجامع ما لم يصف ، ومكسورة لا يفتحها المتكلّم ما لم يضف.

الأولى : باب تمرة يحرّك بالفتح في الجمع نحو : تمرات ، إلّا في الصفة فتقرّ على سكونها كضخمة وضخمات.

والثانية : باب نمر تفتح في النسب نحو : نمريّ.

أخبرني عن حرف يدغم في أخيه ، ولا يدغم أخوه فيه.

هو نحو اللام تدغم في الراء ، ولا تدغم الراء فيها.

أخبرني عن اسم من أسماء العقلاء ، لا يجمع إلّا بالألف والتاء. هو طلحة.

أخبرني عن مكبّر ومصغّر هما في اللفظ مؤتلفان ، ولكنهما في النية والتقدير مختلفان.

مبيطر ومسيطر إن صغرتهما قلت : مبيطر ومسيطر على لفظ التكبير سواء.

أخبرني عن النسبة إلى تمرات جمع تمرة ، وإلى اسم رجل مسمّى (تمرات).

النسبة إلى تمرات جمع تمرة تمريّ. بسكون الميم لأنك تردّ الجمع في النسبة إلى الواحد ، وإلى تمرات اسم رجل تمريّ بفتح الميم لأنك تحذف الألف والتاء عند النسب.

أخبرني عن اسم ناقص له شتّى أوصاف ، موصول ، ولازم للإضافة ، ومضاف إلى فعل ، وغير مضاف.

هو (ذو) ويكون موصولا بمعنى (الذي) (١) ولازما للإضافة في نحو : ذو مال ومضافا إلى الفعل في قولهم : اذهب بذي تسلم ، وغير مضاف في قولهم : الأذواء لذي يزن وذي جدن وذي زعين وغيرهم.

أخبرني عن اسم تكبيره يجعل ياءه هاء ، وتصغيره يقلب هاءه ياء.

هو ذي في إشارة المؤنث تبدل ياؤه هاء في المكبّر منه خاصة ، نحو : ذه أمة الله ، فإذا صغّرته رددته إلى أصلها ياء فتقول في امرأة سمّيتها بذه : ذيّية لا ذهيّة.

أخبرني عن الفرق بين ضمّتي العليا والعليّا ، وبين ضمّتي أولى وأوليّا.

الفرق بين الأوليين أنّ الأولى ضمّة بناء الفعل ، والثاني : ضمّة بناء المصغّر. وأما الأخريان فمتّفقتان ضمّة المصغّر وهي ضمة المكبّر ، لأنّ اسم الإشارة إذا صغّر لم يضمّ أوّله.

__________________

(١) انظر الأحاجي (ص ٩٢).


أخبرني (١) عن الفرق بين لهي أمّك ولهي أبوك ، وبين (له ابنك وله أخوك).

لمّا كان اسم الله سبحانه وتعالى لا شيء أدور منه على الألسنة خفّفوه ضروبا من التخفيف ، فقالوا : لاه أبوك بحذف اللامين ، وقلبوا فقالوا : لهي أبوك ، وحذفوا من من المقلوب فقالوا : له أبوك ، وبنين لتضمّن لام التعريف كأمس ، وبني أحدها على السكون لأنه الأصل ، ولا مانع. والثاني : على الكسر لأنه الملجأ عند التقاء الساكنين ، والثالث : على الفتح لاستثقال الكسرة على ما هو من جنسها.

أخبرني عن مذكّر لا يجمع إلّا بالألف والتاء ، وعن مؤنث يجمع بالواو والنون من غير العقلاء.

الأول : نحو : سرادق وحمّام.

والثاني : باب سنين وأرضين.

أخبرني عن مجموع في معنى المثنّى وعن واحد من واحد مستثنى.

الأول : نحو قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤].

والثاني : ما جاء في لغة بني تميم من قولهم : ما أتاني زيد إلّا عمرو بمعنى : ما أتاني زيد لكن عمرو ، ومنها قولهم : ما أعانه إخوانكم إلا إخوانه.

هذا آخر أحاجي الزمخشري ونعقبها بأحاجي السخاوي.

أحاجي السخاويّ

قال الشيخ علم الدين السخاويّ : [الوافر]

وما اسم جمعه كالفعل منه

وما اسم فاعل فيه كفعل؟

له وزنان يفترقان جمعا

ويتّحدان فيه بغير فصل

وقال : [مجزوء الرجز]

ما اسم ينوّن لكن

قد أوجبوا منع صرفه؟

وما الّذي حقّه النّو

ن حين جاؤوا بحذفه؟

الأول : باب جوار وغواش.

الثاني (٢) : .....

وقال : [الكامل]

ماذا تقول أكاذب أم صادق

من قال وهو يجدّ فيما يخبر

__________________

(١) انظر أحاجي الزمخشري (ص ٩٧).

(٢) سقط ما بعد هذه الكلمة من النسخ كلها.


رجلان أختي منهما ، وكذاك في

أخويّ أيضا من تحيض ، وتطهر

وكذا غلاما زوجتيّ تناكحا

حلّا ، وليس عليهما من ينكر

وقال : [مجزوء الرجز]

ما اسم أنيب عن اسم

وكان لا بدّ منه؟

وأين شرط أتى لا

جواب يلزم عنه؟ وأين ناب سكون عن السّكون أبنه؟

وقال : [الرمل]

ما حروف ذات وجهين لها

منعوا الصّرف ، وطورا صرفوا؟

ثم ما اسم كيقوم احتمل الصّرف والمنع ، وفيه اختلفوا؟

وقال : [الهزج]

وما فاء تداولها

ثلاثة أحرف عددا؟

وما عين لها حرفا

ن يعتورانها أبدا؟

ولا مات لها حرفا

ن أيضا مثلها وجدا

وما عينان مع لامي

ن لفظهما قد اتّحدا؟

هما في كلمتين هما

لمعنى واحد وردا

وما ضدّان إن وضعا

ولو لا الفاء ما انفردا؟

الأول : قولهم في دواء السم درياق ، وترياق ، وطرياق.

والثاني : نعق الغراب ونفق ، ومغافير ومغاثير.

والثالث : جدث وجدف للقبر ، ولازم ولازب.

والرابع : الجداد والجذاذ بالدال المهملة والمعجمة ، اتّحد في كلّ منهما لفظ العين واللام ، والكلمتان لمعنى واحد هو صرام النخل.

والخامس : الأري والشّري ، فالأري العسل والشري الحنظل ، ولو لا الفاء ما افترقا ، إنما فرّقت الفاء بين لفظيهما. يقال : له طعمان أري وشري. وقال : [الوافر]

وما اسم غير منسوب وفيه

أتى لفظ العلامة ليس يخفى؟

وآخر لم تكن فيه فكانت

ولم يزدد بها في اللّفظ حرفا

وآخر فيه كانت ، ثم عادت

إليه ، فغيّرت معناه وصفا

وأين مؤنّث لا تاء فيه

بتقدير ، ولا في اللّفظ تلفى؟

الأوّل : بخاتيّ جمع بختيّ سمّيت به رجلا.

والثاني : بخاتيّ المذكور إذا نسبت إليه أزلت الياء التي كانت فيه ، وجعلت مكانها ياء النسب ، ولم يزدد حرفا ، لأن التي أزلتها منه مثل التي ألحقتها به.


والثالث : بختي اسم رجل إذا نسبت إليه قلت : بختي فاللفظ واحد والحكم مختلف ، فإنه كان أولا اسما فلما نسبت إليه صار صفة.

والرابع : المؤنّث المسمّى بمذكّر نحو جعفر علم امرأة ، لا تاء فيه في لفظ ولا تقدير.

وقال : [مجزوء الوافر]

وما خبر أتى فردا

لمبتدأ أتى جمعا؟

وجاء عن المثنّى وه

وفرد كافيا قطعا

ويا من يطلب الحو

وفي أبوابه يسعى

أتجمع نعت أفراد؟

أجبنا محسنا صنعا

وهل للنعت دون الوصف معنى مفرد يرعى؟

الأول : قول حيّان المحاربي : [الطويل]

٣٤٧ ـ ألا إنّ جيراني العشيّة رائح

[دعتهم دواع للهوى ومنادح]

فقوله : رائح مفرد أراد به الجمع.

والثاني قوله (٢) : [الطويل]

[فمن يك أمسى بالمدينة رحله]

فإني وقيّار بها لغريب

والثالث قولك : مررت بقرشيّ وطائيّ وفارسيّ صالحين.

وأما النعت والصفة فلا فرق بينهما عند البصريين ، وقال قوم منهم ثعلب : النعت ما كان خاصا كالأعور والأعرج ، لأنهما يخصان موضعا من الجسد ، والصفة للعموم كالعظيم والكريم ، وعند هؤلاء الله تعالى يوصف ولا ينعت.

وقال : [الخفيف]

لم إذا قلت : إن زيدا هو القا

ئم كان الضمير إن شئت فصلا؟

فإذا اللّام أدخلوها عليه

بطل الفصل عندها واستقلّا

وهل الفصل واقعا أوّلا أو

قبل حال ، هل قيل ذلك أم لا؟

والذي بعد «هؤلاء بناتي»

أتراه فصلا مع النصب يتلى؟

ولم اختصّ ربّ بالصدر ، لم يل

ف له بين أحرف الجرّ مثلا؟

__________________

٣٤٧ ـ الشاهد لحيّان بن جبلة أو (حلية) المحاربيّ في شرح شواهد الإيضاح (ص ٥٧٠) ، ومعجم ما استعجم (ص ١٧٣) ، ونوادر أبي زيد (ص ١٥٧) ، وبلا نسبة في الدرر (٦ / ٢٧٩) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٨٢).

(١) مرّ الشاهد رقم (٣١).


ثم هل يحسن اجتماع ضميري

ن وما ذا رأى الذي قال : كلّا؟

إنما لم يكن فصلا في نحو : إن زيدا لهو القائم ، لأنّها لام ابتداء ، فهو إذا مبتدأ مستقلّ. وأجاز بعض الكوفيين ، وقوع الفصل في أوّل الكلام نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وبين المبتدأ والحال ، وحملوا عليه قراءة : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [هود : ٧٨] بالنصب ، وأبى ذلك البصريّون ، وإنما اختصّت ربّ بالصدر من بين حروف الجرّ لأمرين :

أحدهما : أنّها بمنزلة (كم) في بابها.

والثاني : أنها تشبه حرف النفي ، والنفي له صدر الكلام ، وشبهها بالنفي أنها للتقليل ، والتقليل عندهم نفي.

ويؤكّد الضمير بالضمير نحو : زيد قام هو ، ومررت به هو ، ومررت بك أنت.

وقال : [الخفيف]

ما لهم استفهموا مخاطبهم

في النكر بالحرف عند ما وقفوا؟

وأسقطوا الحرف في المعارف والوص

ل ومن بعد ذا قد اختلفوا

وواحد خاطبوا بتثنية

وواحد اثنين عنه قد صدفوا

إنما أتوا بالعلامة في النكرة ليفرّقوا بينه وبين المعرفة ، وذلك من أجل أنّ الاستفهام في المعرفة ليس معناه معنى الاستفهام في النكرة لأنّ الاستفهام في المعرفة عن الصفة ، والاستفهام في النكرة عن العين. فلما اختلف المعنى خالفوا بينهما في اللفظ. وإنما لحقت العلامة في الوقف دون الوصل ، لأنّ وصل الكلام يفيد المراد ، فلم يحتج إلى العلامة فيه ، ولأنّ الوقف موضع التغيير ، فكانت العلامة فيه من جملة تغييراته. وإنما لم تلحق هذه العلامات المعرفة ، لأنهم استغنوا عن ذلك بالحركات التي يقبلها الاسم.

وأمّا الواحد المخاطب بلفظ التثنية فقولهم : اضربا ، يريد : اضرب ومنه : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤].

وواحد اثنين عنه قد صدفوا هو قولهم : المقصّان والكلبتان والجلمان. وقال أبو حاتم : ومن قال المقصّ فقد أخطأ.

وقال : [الكامل]

ما ساكن قد أوجبوا تحريكه

ومحرّك قد أوجبوا تسكينه

ومسكّن قد أسقطوه ، وحذفه

لو زال موجب حذفه يبقونه


الأول : نحو : اضرب القوم لالتقاء الساكنين.

والثاني : (.........) (١).

وقال : [الكامل]

ما تاء مخبر إن تقل هي فاعل

وتكون مفعولا فأنت مصدّق؟

واسم لفاعل إن نطقت بلفظه

وعنيت مفعولا فأنت محقّق

الأول : التاء في نحو : بعت تقول بعت الغلام فالتاء فاعل. ويقول الغلام : بعت ، فالتاء مفعول ، يريد باعني مولاي ، وبني الفعل للمفعول وأصله بيعت كضربت.

والثاني : نحو : مختار تقول : اخترت فأنا مختار ، فيكون اسم فاعل ، وأصله مختير ، واخترت المتاع فهو مختار ، فيكون اسم مفعول ، وأصله مختير.

قال : [الوافر]

وأشكل فاعل في الجمع فيما

أطارح فيه ذا لبّ ونبل

أهل يأتي فواعيل وفعل

وفعلة جمعه ، فانظر بعقل؟

وهل جمعوا فعيلا أو فعولا

على فعل فقل فيه بنقل؟

الأول : نحو : خاتم وخواتيم وصاحب وصحب وصحبة.

والثاني : نحو : أديم وأدم وأدم.

الثالث : نحو : عمود وعمد وعمد.

وقال : [الوافر]

وما جمع على لفظ المثنّى

إذا ما الوقف نابهما جميعا؟

وعند الوصل يختلفان لفظا

ويفرق فيه بينهما مذيعا

وقال : [السريع]

ما فاعل أوجب مفعوله

تأخيره عن فعله فانفصل؟

وأيّ فعل معرب عامل النّص

ب أو الجزم به ما اتّصل؟

وقال : [الكامل]

ما اسم أزيل ولم يزل تأثيره

من بعده ، فكأنّه موجود؟

ولربّما أعطوا أخاه ماله

من بعده فكأنّه مفقود

وقال : [الرجز]

وأيّ حرف زيد للجمع قد

شبّهه بالأصل بعض العرب؟

وبعضهم أجراه في وقفه

مجرى الذي للفرد يا ذا الأدب

__________________

(١) سقط ما بقي من اللغز في النسخ كلّها.


وقال : [الهزج]

وما كلم بآخر بعضهنّ

الخلف غير خفي؟

فبعض ظنّها عينا

وقد نقلت إلى الطّرف

وبعض لا يرى هذا

وخالف غير منحرف

هي نحو : جاء وشاء اسم فاعل من جاء وشاء ، الأصل جائى وشائئ ، لأنّ لام الفعل همزة ، والهمزة الأولى هي لام الفعل عند الخليل (١) قدمت إلى موضع العين ، كما قدّمت في شاكي السلاح ، وهار والأصل : شائك وهائر. وعند سيبويه (٢) هي عين الفعل في أصلها ، استثقل اجتماع الهمزتين فقلبت الأخيرة ياء على حركة ما قبلها ، وهي لام الفعل عنده ثم فعل به ما فعل بقاض ، فوزنه على هذا فاعل. وعلى قول الخليل فالع لأنه مقلوب.

وقال : [المتقارب]

وما اسم على ستّة كلّها

سوى واحد من (هويت السّمانا)؟

وأربعة من (هويت السمان)

أتت فيه أصلا فزده بيانا

المراد (سلسبيل) وزنه فعلليل وحروفه كلّها من حروف الزوائد إلا الباء.

وقال : [الوافر]

وما اسم مفرد في حكم جمع

وما هو باسم جمع واسم جنس؟

ومجموع أتى صفة لفرد

فبيّنه لنا من غير لبس

الأول : (سراويل). والثاني قولهم : برمة أعشار وبرد أسمال ، ونحوه.

وقال : [الوافر]

وإلّا هل تجيء مكان إمّا

وما المعنى إذا جاءت كغير؟

وهل عطفت بمعنى الواو حينا؟

فإن بيّنت جئت بكلّ خير

جاءت إلّا بمعنى إمّا في قولهم : إمّا أن تكلّمني وإلّا فاذهب ، المعنى : وإمّا أن تذهب. وإذا جاءت بمعنى (غير) فهي في معنى الصفة ، والفرق بين موضعها في الاستثناء والصفة أنّك إذا قلت : هذا درهم إلّا قيراطا بالنصب استثناء ، فالمعنى أنّ الدرهم ينقص قيراطا. وإذا قلت : هذا درهم إلّا قيراط بالرفع صفة ، فالدرهم على هذا تامّ غير ناقص ، والمعنى : أنّ الدرهم غير قيراط.

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٥٢٠).

(٢) انظر الكتاب (٤ / ٥٢١).


وتجيء إلّا عاطفة بمعنى الواو في نحو قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ١٥٠]. قيل معناه : والذين ظلموا.

وقال : [الطويل]

يريدون بالتصغير وصفا وقلّة

فهل ورد التصغير عنهم معظّما؟

وما اسم له إن صغّروه ثلاثة

وجوه ،؟ فكن للسائلين مفهّما

ورد التصغير للتعظيم في قولهم : جبيل ودويهية. والمراد بالثاني نحو : بيت وشيخ مما عينه ياء. ففي تصغيره ثلاثة أوجه : شييخ على الأصل وشيخ بكسر الشين على الإتباع ، وشويخ بقلب الياء واوا ، لأجل الضمّة.

وقال : [مجزوء الكامل]

ما اسم تصغّره فيشّ

به لفظه لفظ المضارع؟

فإذا أتى علما فما

في صرفه أحد ينازع

هو أبيّض تصغير أباض وافق لفظ المضارع من بيّضت ، فلو سمّيت بهذا المضارع لم يصرف ، ولو سمّيت بذلك المصغّر صرف ، لأنّ الهمزة فيه أصليّة ، وإنما يترتّب الحكم في هذا من الصرف وامتناعه على الزائد والأصليّ.

وقال : [الرمل]

ما لأنواع معاني كلمة

قد أتت فيها على اثني عشرا؟

ثمّ زادت واحدا أخت لها

ثمّ أخرى ما ثلتها ، ما ترى؟

التي جاءت على اثني عشر وجها (ما) والتي على ثلاثة عشر (لا) و (أو).

وقال : [الكامل]

هل تعرفون مؤنّثا

يحكي بصيغته المذكّر؟

ومعرّفا لا شكّ فيه ولفظه لفظ المنكّر

ومصدرا باللّام لا

هي عرفته ولا تنكّر

وقال : [الطويل]

ألستم ترون الوزن بالأصل واجبا

فما لكم خالفتم في الصّواقع؟

فقلتم جميعا : وزن ذاك (فوالع)

وفي كلّ مقلوب بغير تنازع

وأيّ حروف العطف يأتي مقدّما

وذو عطفه من قبله غير واقع؟

وقال : [الكامل]

أيّ الحروف أتى أخاه مؤكّدا

فأزال عنه قوّة الإعمال؟

مثل الّذي يأتي ليسعد ماشيا

فيفيده ضربا من العقّال

وقال : [الطويل]


وما بدل من ستّة ثمّ إنّه

أتى زائدا في خمسة في الزّوائد؟

وتلقاه أصلا في الثلاثة فأتنا

بتفسيره سمحا بنشر الفوائد

وقال : [البسيط]

ما اسم أضيف فردّته إضافته

مؤنّثا ، وهو بالتذكير معروف؟

وما الّذي هو بالتنوين ذو عمل

وأن يضاف وغير اللام مألوف؟

الأول : نحو قولهم (١) : ذهبت بعض أصابعه ، وأما الذي يعمل حال التنوين والإضافة ، ولا يعمل مع الألف واللام إلّا مستقبحا غير مألوف فهو المصدر.

وقال : [الوافر]

وما سببان قد منعا اتّفاقا

وصارا يمنعان على اختلاف؟

وضمّ إليهما سبب قويّ

وكانا يحسبان من الضّعاف

هما التأنيث والعلمية ، يمنعان من الصرف بلا خلاف ، فإن كان الاسم لمؤنث على ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط صارا مانعين وغير مانعين بعد أن كانا يمنعان اتفاقا. فإن انضمّ إلى التعريف والتأنيث سبب آخر لم ينصرف بإجماع (٢) ، نحو : ماه وجور.

وقال : [المديد]

ما الّذي أعطته دولته

إن أزال الجار عن سكنه؟

وتخطّى بعد ذاك إلى

ثالث أجلاه عن وطنه

ومتى لم يلق جارته

بقي المذكور في وكنه

ثم حرف إن أزيل غدا

جاره يقفوه في سننه

لم تحصّنه أصالته

وهي للأصليّ من جننه

الأول : ياء النّسب إذا لحق فعيلة أو فعيلة أزال تاء التأنيث ، وتخطّى إلى الياء التي قبل الحرف الذي قبل تاء التأنيث ، فأزالها ، نحو : حنفي في حنيفة ، فإن لم تلق ياء النسب تاء التأنيث بقي المذكور وهو الياء في موضعه لم يحذف نحو : تميمي في تميم.

والثاني : نحو : يا منص في منصور ، لمّا أزيل الحرف الأخير في الترخيم تبعه الحرف الذي قبله.

وقال : [الهزج]

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٩٢).

(١) انظر الكتاب (١ / ٩٢).


وما حرف يليه الفعل مجزوما ومرفوعا؟

وينصب بعده أيضا

وكلّ جاء مسموعا

هو : لا تأكل السّمك وتشرب اللّبن (١).

وقال : [السريع]

ما فاعل والحقّ يقضي به

قد جاء في صورة مفعول؟

ومفرد لكنّه جملة

عند ذوي الخبرة والجول

الأول قولهم : زهي علينا ، وعنيت بحاجتي.

والثاني : صلة الألف واللام في نحو : الضارب زيد ، والمضروب عمرو.

وقال : [الوافر]

وأيّة كلمة في حكم شرط

وجاء جوابها ينبيك عنها؟

وقد جمعوا حروف الشرط عدّا

وما عدّت لعمر أبيك منها

هي : أمّا في قولهم : أمّا زيد فمنطلق.

وقال : [البسيط]

ما زائد زيد في اسم؟ فهو فيه على

حال الأصيل وحال الزائد اجتمعا

ذو معنيين ، فهذا آثروه ، وه

ذا آثروه ، وطورا ، يصلحان معا

وهل ظفرت بمفعول ، فتذكره

من الرباعيّ أم هل فاعل سمعا؟

الأول : الألف اللاحقة لفعلى وفعلى وفعلى. فما لم ينوّن منها فهو للتأنيث ، وما نوّن تارة ، ولم ينون أخرى فهو للتأنيث والإلحاق ، وما نوّن لا غير لم يكن إلّا للإلحاق.

والثاني : مودوع فقط في قوله (٢) : [الطويل]

[إذا ما استحّمت أرضه من سمائه]

جرى وهو مودوع [وواعد مصدق]

والثالث : أيفع فهو يافع. وأبقل فهو باقل.

وقال : [الخفيف]

أيّ حرف أتى يعدّونه اسما؟

ثمّ أيّ الحروف يحسب فعلا؟

وهو اسم ، ولست أعني (على) أو

(عن) ، فبينه ، زادك الله نبلا

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٤٤).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٢٤٥).


الأول : اللام الموصولة.

والثاني : (قد) بمعنى حسبك ، يحسب فعلا حين قالوا : قدني ، نحو : [الرجز]

٣٤٨ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي

[ليس الإمام بالشحيح الملحد]

وقال : [الخفيف]

أيّ ظرف يضاف إن لم تضفه

لسوى ما أضفت مع حرف عطف؟

لم يجز ، والحروف قد جاء فيها

مثل هذا بيّن لنا أيّ حرف؟

الظرف الذي يضاف ، ولا بدّ من إضافته مرة ثانية إلى غير من أضفته إليه أولا ، هو قولك : بيني وبينك الله. وقد جاء في الحروف مثل هذا وهو قولهم (٢) : أخزى الله الكاذب منّي ومنك.

وقال : [الوافر]

ولام طلّقت كلما ثلاثا

طلاقا ، ليس يعقبه اجتماع

وما اسم فيه لام عرّفته

وليس عن البناء له ارتجاع؟

(لام التعريف) لا تجامع التنوين ولا الإضافة ولا النداء. والاسم الذي عرّف باللام ولم تردّه إلى الإعراب الآن والخمسة عشر. وليس في العربيّة مبنيّ يدخل عليه اللام إلّا رجع إلى الإعراب إلا ما ذكر.

وقال : [الوافر]

و (أن) وقعت بمعنى (أي) ولكن

لها شرط فبيّنه مجيبا

وهل جاءت ومعناها لئلّا

وإذ؟ لا زلت في الفتوى مصيبا

وقال : [مجزوء الكامل]

ما اسم يكون مؤنّثا

فإذا أضيف إليه ذكّر؟

واسم تفوه بأصله

أبدا إضافته وتخبر

__________________

٣٤٨ ـ الشاهد لحميد بن مالك الأرقط في خزانة الأدب (٥ / ٣٨٢) ، والدرر (١ / ٢٠٧) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٤٨٧) ، ولسان العرب (خبب) ، والمقاصد النحوية (١ / ٣٥٧) ، ولحميد بن ثور في لسان العرب (لحد) ، وليس في ديوانه ، ولأبي بحدلة في شرح المفصّل (٣ / ١٢٤) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ١٠٨) ، والجنى الداني (ص ٢٥٣) ، وخزانة الأدب (٦ / ٢٤٦) ، ورصف المباني (ص ٣٦٢) ، وشرح ابن عقيل (ص ٦٤) ، ومغني اللبيب (١ / ١٧٠) ، ونوادر أبي زيد (ص ٢٠٥).

(١) انظر الكتاب (٤ / ٣٤٧).


المراد بالإضافة هنا النسب ، وإذا نسب إلى مؤنّث حذف منه التاء ، فصار لفظه على لفظ المذكّر. والمراد بالثاني نحو : شية ، إذا نسبت إليه حذفت تاءه ، ورددت فاءه ، فيقال : وشويّ. [الهزج]

ومدغمتان بدّلتا

بلفظ لم يكن لهما

ولو لا ذاك سوّيتا

بحرف جاء قبلهما

هما : الدال والسين في (سدس) بدّلتا بالتاء في (ست) ولو لم يفعلوا ذلك ، وأدغموا الدال في السين لصارت حروف الكلمة كلّها سينا ، وتصير على (سس) ، فيساوي الحرفان المدغمان لفظ الحرف الذي قبلهما وهو السين. فأبدلوهما لفظا لم يكن لهما ، وهو التاء. [الرجز]

ما اسم إذا جاء على بابه

لم تدخل النسبة فيه عليه

حتّى إذا حوّل عن بابه

تجوز النسبة كلّ إليه

هو خمسة عشر وبابه ، لا يجوز النسبة إليه وهو على بابه من العدد فإذا نقل عن بابه إلى التسمية جازت النسبة إليه.

وقال : [الوافر]

وما اسم ناقص لكنّ باب ال

إشارة بابه قول اليقين؟

وفي باب الكناية جاء شيء

يشبّهه به بعض الظنون

هو ذا في قولك : ماذا فعلت؟ وفعلت كذا وكذا. وقال : [الوافر]

وما اسم مؤنّث من غير تاء

وفي حال النداء تكون فيه؟

وتدخل في مذكّره المنادى

وقد أعيا على من لا يعيه

وقالوا : إنّها بدل أنيبت

عن الياء التي كانت تليه

وتلك اليا لها بدل سواه

ويجتمعان : هذا مع أخيه

هي (أمّ) في قولك : يا أمّت ، ومذكّره يا أبت والتاء فيهما عوض من ياء الإضافة ، وقد تبدل الياء ألفا ، فلها إذن بدلان : التاء في يا أبت والألف في يا أبا. وقد يجمع بينهما نحو : يا أبتا ويا أمّتا. ولم يعدّوا ذلك جمعا بين العوض والمعوّض ، لأنه جمع بين العوضين.

وقال :

وما نونان يتّفقان لفظا

ويختلفان تقديرا وحكما؟

وما هي ضمّة صلحت لأمر

حديث أو لما قد كان قدما؟


النونان في نحو قولك : الرجال يدعون ويعفون ، والنساء يدعون ويعفون. هي في الأول حرف إعراب ، وفي الثاني ضمير. والضمّة في صاد منصور ونحوه إذا قلت : يا منص تصلح أن تكون في الأصل قبل النداء ، وأن تكون ضمّة النداء على لغة من لا ينتظر.

وقال : [الطويل]

وما كلمة مبنيّة قد تلعّبت

بها حادثات القلب والحذف والبدل؟

وجاءت على خمس عرفن لغاتها

أجب باذلا ، فالعالم الحبر من بذل

هي : كأيّن.

وقال : [الوافر]

وما ابن جمعه أبدا بنات

وفي الحيوان جاء وفي النبات

وهل من مضمر بالميم وافى

لغير ذوي العقول المدركات

الأول : نحو ابن عرس ، وابن الماء ، وابن آوى ، وابن أوبر.

والثاني : نحو قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] استعمل ضمير من يعقل لمن لا يعقل.

وقال : [الوافر]

وأسماء لغير ذوي عقول

أجازوا جمعها جمع السلامه

لأيّة علّة ولأيّ معنى

أفدنا مرشدا؟ فلك الإمامه

وقال : [الوافر]

وأسماء إذا ما صغّروها

تزيد حروفها شططا وتغلو

وعادتهم إذا زادوا حروفا

يزيد لأجلها المعنى ويعلو

وقال : [الوافر]

وما فرد يراد به المثنّى

كتثنية ذكرناها لفرد؟

أفدنا وهي خاتمة الأحاجي

فمن أفتيت منقلب برشد

شذرات من ألغاز النّحاة

وقال (١) المعرّيّ ملغزا في (كاد) : [الطويل]

أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود؟

__________________

(١) البيتان بلا نسبة في عمدة الحفاظ (٣ / ٤٤٣) ، والدرر اللوامع (١ / ٢٧٩) ، والدرر المصون (١ / ١٧٦) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٦٨).


إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

وأجاب عنه الشيخ جمال الدين بن مالك بقوله (١) : [الطويل]

نعم. هي كاد المرء أن يرد الحمى

فتأتي لإثبات بنفي ورود

وفي عكسها ما كاد أن يرد الحمى

فخذ نظمها ، فالعلم غير بعيد

وأجاب غيره فقال ـ ويقال : إنّه الشيخ عمر بن الورديّ رحمه الله ـ : [الطويل]

سألت رعاك الله : ما هي كلمة

أتت بلساني جرهم وثمود؟

إذا ما أتت في صورة النفي أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

ألا إنّ هذا اللّغز في (زال) واضح

وإلا فعندي (كاد) غير بعيد

إذا قلت : ما كادوا يرون ، فقد رأوا

ولكنه من بعد عسر جهيد

وإن قلت : قد كادوا يرون ، فما رأوا

فخذه ، ولا تسمح به لعنيد

وقال أبو العلاء المعريّ ملغزا في (أل) التي للتعريف : [الطويل]

وخلّين مقرونين لمّا تعاونا

أزالا قصيّا في المحلّ بعيدا

وينفيهما أن حدث الدهر دولة

كما جعلاه في الديار طريدا

وقال الشيخ شمس الدين بن الصّائغ ملغزا في (إلّا) التي للاستثناء : [الرجز]

ما لفظ رفع المجاز وقرّره

وهو متّضح لمن تدبّره؟

قال في شرحه : أما كون إلّا ترفع المجاز فإنّ القائل : قام القوم إلّا زيدا كان قبل إخراج زيد يحتمل إخراج جماعة ، فبإخراج (زيد) أفاد إبقاء اللفظ على العموم الذي هو حقيقة اللفظ ، مع أنّ إخراج زيد فيه استعمال مجاز في القوم لكونه إخراج بعضه ، فهذه الأداة حصّلت مجازا ورفعت مجازا. انتهى.

قال بعضهم : [الطويل]

سلّم على شيخ النحاة ، وقل له :

هذا سؤال من يجبه يعظم

أنا إن شككت وجدتموني جازما

وإذا جزمت فإنّني لم أجزم

جوابه : [الطويل]

هذا سؤال غامض في كلمتي

شرط ، و (إن وإذا) مراد مكلّمي

(إن) ، إن نطقت بها فإنّك جازم

و (إذا) إذا تأتي بها لم تجزم

و (إذا) لما جزم الفتى بوقوعه

بخلاف (إن) ، فافهم أخيّ وفهّم

__________________

(١) البيتان في الدرر اللوامع (١ / ٢٧٩).


قال أبو السعادات بن الشجريّ في المجلس الخامس والستين من أماليه :

هذه أبيات (١) ألغاز سئلت عنها : [الرجز]

اسمع أبا الأزهر ما أقول

عليك فيما نابنا التعويل

مسألة أغفلها الخليل

يرفع فيها الفاعل المفعول

ويضمر الوافر والطويل

فأجبت : بأنّ الإضمار من الألقاب العروضيّة والنحويّة فهل في العروض لقب زحاف يقع في البحر المسمّى الكامل. وهو أن يسكّن الحرف الثاني من متفاعلن ، فيصير متفاعلن ، فينقل إلى مستفعلن ، والبحران الملقّبان الطويل والوافر ليس الإضمار من ألقاب زحافهما. والإضمار في النحو أن يعود ضمير إلى متكلم أو مخاطب أو غائب ، كقوله في إعادة الضمير إلى الغائب : زيد قام ، وبشر لقيته ، وبكر مررت به. فهذا هو الإضمار الذي أراده بقوله : ويضمر الوافر والطويل لا الإضمار الذي هو زحاف.

وقد وضعت في الجواب عن هذا السؤال كلاما يجمع إضمار الطويل والوافر ورفع المفعول للفاعل ، وهو قولك : ظننت زيدا الطويل حاضرا أبوه ، وحسبت عمرا الوافر العقل مقيما أخوه. فقولك حاضرا ومقيما مفعولان لظننت وحسبت ، وقد ارتفع بهما أبوه وأخوه كما يرتفعان بالفعل لو قلت : يحضر أبوه ويقيم أخوه. والهاء في قولك أبوه ضمير الطويل ، والهاء في قولك أخوه ضمير الوافر ، فقد أضمرت هذين الاسمين بإعادتك إليهما هذين الضميرين. وقولك أبوه وأخوه فاعلان رفعهما هذان المفعولان مفعولا ظننت وحسبت. وبالله التوفيق والتسديد.

لغز في (أمس) كتب به عزّ الدين بن البهاء الموصلي إلى الصلاح الصفدي. يا إماما شاع ذكره ، وطاب نشره ، فطيّب الوجود وعطّر. وفاضلا بيّن كلّ معمّى ومترجم ، وأرّخ وترجم ، وعمّن عبر عبّر. وكتب فكبت الأعادي ، وكتب من دون خطر ، وخطه فرسان الأذهان والأيادي ، فتخطّى قوام قلمه وتخطّر : [الطويل]

٣٤٩ ـ إذا أخذ القرطاس خلت يمينه

تفتّح نورا ، أو تنظّم جوهرا

ما اسم ثلاثيّ الحروف ، وهو من بعض الظروف ، ماض إن تصحّفه عاد في أمر ، وإن ضممت أوّله صار مضارعا ، فاعجب لهذا الأمر. إن أردت تعريفه بأل تنكّر ، أو تغيّرت عليه العوامل فهو لا يتغيّر. كلّ يوم يزيد في بعده ، ولا يقدر على ردّه. إن

__________________

(١) الأبيات في الأمالي الشجرية (٢ / ٢١٤).

٣٤٩ ـ الشاهد بلا نسبة في صبح الأعشى (١٤ / ١٩٥).


نزعت قلبه بعد قلبه فهو في لعبة النرد موجود ، وقلبه (سما) فلا تناله الأحزاب والجنود ، وكلّ ما في الوجود إلى حاله يعود. به يضرب المثل ، ومنه انقطع الأمل ، ثلثاه حرف استفهام ، إن تعكس يطرد ذلك النظام ، وثلثه الأول كذلك ، وعكس ثلثيه يترك الحيّ هالكا في الهوالك. لا يوصف إلّا بالذهاب وليس له إلى هذا الوجود إياب. وهو ثلاثة وعدده فوق المائة ، وكم رجل يعدّ بفئة. وليس في الوجود ، بني وفيه أسّ ، ولكن لا في السماء ولا في الأرض ، ولا في هبوط ولا صعود. طرفاه اسم لبعض الرياحين العطرة ، وكلّه جزء من الياسمين لمن اعتبره. مكسور لا يجبر وغائب لا يستحضر. أقرب من رجوعه منال معكوسه يدركه العاقل بفكره وليس بمحسوسه. أبنه لا زلت تزيل الإشكال ، وتزين الأضراب والأشكال.

فكتب إليه الجواب :

وقف المملوك على هذا اللّغز الذي أبدعته ، وفهم بسعدك السرّ الذي أودعته. فوجدته ظرفا ، ملأته منك ظرفا ، واسما بني لمّا أشبه حرفا. ثلاثيّ الحروف ، ثلث ما انقسم إليه الزمان من الظروف. إن قلبته سما ، وأراك حرف تنفيس وما بقي منه (ما). ثلثاه (مس) ، وكلّه بالتحريك أمس. وهو بلا أول تصحيفه مبين ، وفي عكسه سم بيقين. التقى فيه ساكنان فبني على الكسر ، ووقع بذلك في الأسر. لا يتصرّف بالإعراب ولا يدخله تنوين في لسان الأعراب. يبعد من كل إنسان ، وينطق به وما يتحرّك به لسان. ولا يدرك باللمس ، ولا يرى وفيه ثلثا شمس. تتغيّر صيغته حال النسبة إليه ، ويدخله التنوين إذا طرأ التنكير عليه. متى بات فات ، ولم يعد له إليك التفات. أمين على ما كان من قربه ، يعجز كلّ الناس عن ردّه. فماضيه ما يردّ وثانيه ما يصدّ ، وطريق ثالثه ما يسد. [الطويل]

٣٥٠ ـ ثلاثة أيّام هي الدّهر كلّه

وما هي غير اليوم والأمس والغد

وقال ابن هشام في تذكرته (لغز) : إذا وقف على آخر الفعل الماضي بالسكون فإنه يقدّر فيه الفتحة ، حتّى لو وصل بما بعده لوصل بها. فهل تذكر مسألة يوقف فيها على آخر الفعل الماضي ، ولا ينوى فيها الفتح. ولو وصل لم يوصل بها ، فإن قيل عضّ فهو خطأ لأن هذا لا يصحّ أن تقول فيه : لا يجوز الوقف بالفتح.

وإنّما الجواب بقوله : [الرجز]

٣٥١ ـ لو أنّ قومي حين أدعوهم حمل

على الجبال الصّمّ لا رفضّ الجبل

__________________

٣٥١ ـ الشاهد بلا نسبة في شرح المفصّل (٩ / ٨٠).


ألغاز متفرقة

قال الشيخ بدر الدين الدّمامينيّ رحمه الله : [الطويل]

أيا علماء الهند إنّي سائل

فمنّوا بتحقيق به يظهر السرّ

فما فاعل قد جرّ بالخفض لفظه

صريحا؟ ولا حرف يكون به الجرّ

وليس بذي جرّ ولا بمجاور

لذي الخفض والإنسان للبحث يضطر

فمنّوا بتحقيق به أستفيده

فمن بحركم ما زال يستخرج الدر

أراد قول طرفة (١) : [الرّمل]

بجفان تعتري نادينا

وسديف حين هاج الصّنّبر

قال الخوارزميّ : [الكامل]

ما تابع لم يتّبع متبوعه

في لفظه ومحلّه يا ذا الثبت؟

ماذا بعلم غير علم نافع

بالغت في إتقانه حتّى ثبت؟

قال : والعجب أنّ هذا اللغز في أبياته صورة المسألة وهو قوله : ماذا بعلم غير علم نافع. ولمّا عرضه على الزمخشريّ قال له : لقد جئت شيئا إدّا أي : عجبا.

وقال بعض أدباء المغرب : [مخلع البسيط]

يا عالم النّحو أيّ فعل

إن حلّه الهمز لم يعدّه؟

ثمّ هو بالعكس إن تعرّى

منه. أبن يا نسيج وحده

أراد أنك إذا قلت ضرّه تعدّى بنفسه ، وإذا قلت أضر لم يتعدّ إلّا بحرف الجرّ فتقول : أضرّ به. ولهم من هذا النمط أفعال كثيرة.

وفي (تذكرة ابن هشام) : هل يقال إن المبتدأ إذا كان موصولا مضمّنا معنى الشرط كان خبره صلته ، كما أن جملة الشرط هي الخبر ، وهي نظيرة الصلة. ويؤيّد ذلك أنّهم ربّما جزموا جوابه كقوله : [الطويل]

٣٥٢ ـ كذاك الّذي يبغي على النّاس ظالما

تصبه على رغم قوارع ما صنع

وهي مسألة يحاجى بها فيقال :

أين تكون الصلة لها محلّ وخبر المبتدأ ، إذا كان جملة لا محلّ له؟

لغز في حرف الكاف : قال الجمال يحيى بن يوسف الصرصريّ الشاعر المشهور ملغزا في حرف الكاف : [الوافر]

وحرف من حروف الخطّ ليست

علامته على العلماء تخفى

يكون اسما مع الأسماء طورا

وطورا في الحروف يكون حرفا

تراه يقدم الأسماء طرّا

ويمنع من مشابهة وينفى

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٢١).


يصير أمامها ما دام حرفا

وإن سمّيته فيصير خلفا

وقد تلقاه بين اسم وفعل

قد اكتنفاه كالأبوين لطفا

وقال سعد الدين التفتازانيّ ملغزا في (لدن غدوة) واختصاصها بنصبها : [الطويل]

وما لفظة ليست بفعل ولا حرف

ولا هي مشتقّ ، وليست بمصدر

وتنصب اسما واحدا ليس غيره

له حالة معه تبين لمخبر

فمعنى الذي ألغزته عند من يرى

يزيل لنا إشكاله غير مضمر

ومنصوبها صدر لما هو ضدّ ما

أتانا لباسا في الكتاب المطهّر

وقال أبو عبد الله بن مصعب المقري في (مذ ومنذ) : [الخفيف]

أيّها العالم الّذي ليس في الأر

ض له مشبه يضاهيه علما

أيّ شيء من الكلام تراه

عاملا في الأسماء لفظا وحكما؟

خافضا ثمّ رافعا إن تفهّم

ت يزد فهمك التفهّم فهما

يشبه الحرف تارة ، فإذا ما

ضارع الحرف نفسه صار اسما

هو مرفوع رافع ، وهو أيضا

رافع غيره ، وليس معمّى

وهو من بعد ذاك للجرّ حرف

فأجبنا إن كنت في النحو شهما

أورده الحافظ محبّ الدين بن النجّار (١) في تاريخ بغداد.

من ألغاز السيوطي

ومن ألغازي قلت : [الطويل]

ألا أيّها النحويّ إن كنت بارعا

وأنت لأقوال النحاة تفصّل

وأتقنت أبواب الأحاجي بأسرها

أبن لي عن حرف يولّي ويعزل

قال ابن هشام في تذكرته : (ما) تولّي وتعزل ، فتولي حيث تجزم بعد أن لم تكن جازمة ، وتعزل إنّ وأخواتها ، وتكفّها عن العمل.

ومن ألغازي النثرية :

١ ـ ما كلمة إذا كثر عرضها قلّ معناها ، وإذا ذهب بعضها جلّ مغزاها؟

٢ ـ وأيّ عامل يعمل فيه معموله. ولا يقطع مأموله؟

__________________

(١) ابن النجّار : هو محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن ، أبو عبد الله ، محبّ الدين ابن النجار : مؤرّخ حافظ للحديث ، من أهل بغداد ، من كتبه : «الكمال في معرفة الرجال» تراجم ، و «ذيل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي» و «الدرة الثمينة في أخبار المدينة» ، وغيرها. (ت ٦٤٣ ه‍ / ١٢٤٥ م). ترجمته في فوات الوفيات (٢ / ٢٦٤) ، وطبقات الشافعية (٥ / ٤١) ، وشذرات الذهب (٥ / ٢٢٦).


٣ ـ وأيّ اسم مشترك بين أفعل التفضيل والصفة المشبّهة؟

٤ ـ ونفي إذا ثبت لم تزل أعماله الموجّهة؟

٥ ـ وما حرف قلبه اسم كريم؟

٦ ـ واسم إذا صغّر اختصّ بالتكريم؟

٧ ـ وأيّ كلمة هي اسم وفعل وحرف ، لم ينبه عليها أحد من علماء النحو والصرف؟

٨ ـ وأيّ فعل ليس له فاعل؟

٩ ـ ومعمول لا ينسب لعامل؟

١٠ ـ وأيّ لفظة تمدّ في الإفراد وهي في الجمع مقصورة؟

١١ ـ ولام لا تجامع النداء ولا في الضرورة؟

١٢ ـ وما فاعل يجب حذفه عند سيبويه (١)؟

١٣ ـ وعامل إن لم يعمل لم يعتب عليه؟

١٤ ـ وأيّ كلمة جاءت بأصلها ، فلم يلتفت إليها بين أهلها؟

١٥ ـ وأيّ كلمة هي حرف ، وتضاهي الاسم عند الوقف؟

١٦ ـ وأيّ فاعل يجب جرّه؟

١٧ ـ وآخر رفعه في السماء خطره؟

أردت بالأوّل : اسم الجنس الجمعيّ إذا زيد عليه التاء نقص معناه ، وصار واحدا كتمر وتمرة ونبق ونبقة.

وبالثاني : أدوات الشرط ، فإنّها تعمل في الأفعال الجزم ، والأفعال تعمل فيها النصب.

وبالثالث : أكبر وأعظم ونحوهما في صفات الله ، فإنها في حقّه لا تكون بمعنى التفضيل بل بمعنى كبير وعظيم.

وبالرابع : (لا) النافية للجنس إذا دخلت عليها الهمزة وصارت للتمني فإن عملها باق.

وبالخامس : نعم فإن قلبها (معن) وهو اسم لرجل مشهور بالكرم ، وهو معن بن زائدة.

وبالسادس : قرش وتصغيره قريش.

وبالسابع : بلى فإنها حرف جواب ، وفعل بمعنى اختبر واسم.

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٣).


وبالثامن : قلّما وطالما.

وبالتاسع : نحو : مات زيد.

وبالعاشر : صحراء وصحارى وعذراء وعذارى.

وبالحادي عشر : اللام التي للعهد. استثناها ابن النحّاس في التعليقة من إطلاقهم أنّ اللام يجامع حرف النداء في الضرورة.

وبالثاني عشر : فاعل فعل الجماعة المؤكّد بالنون ، نحو : والله لتضربنّ يا قوم ، وفاعل المصدر ذكره ابن النحاس في التعليقة ، وأبو حيّان في تذكرته ، وتقدّم في كتاب التدريب.

وبالثالث عشر : ليت إذا وصلت بما.

وبالرابع عشر : استحوذ ونحوه.

وبالخامس عشر : إذن.

وبالسادس عشر : نحو : أكرم بزيد.

وبالسابع عشر : ما ورد من قولهم : كسر الزجاج الحجر.

من ألغاز الشيخ عزّ الدين بن عبد السّلام

نقلت من خطّ العلّامة شمس الدين بن الصائغ.

قال : هذه ألغاز نحويّة عن الشيخ عزّ الدين بن عبد السّلام رحمه الله تعالى : ما شيء يقع حرفا للإعراب ، اسما مذموما في الخطاب؟ هو الكاف في مساويك إن عنيت به جمعا فهو حرف إعراب ، وإن عنيت به مخاطبة فهو اسم في تقدير الإضافة ، والأول : جمع مسواك ، والثاني : إضافة إلى المساوي.

أيّ شيء يبنى مفردا فيعمل ، ويعرب مثنى فيهمل؟ هو (هذا) يعمل مفردا في الحال ، والتثنية تمنعه من العمل. وإذا قلنا : هذان الزيدان قائمين فالعامل (ها) لا إذا.

وأيّ مختصّ إلغاؤه أكثر ، وإن أعمل فعمله لا يظهر؟ هو (لو لا) المختصّة بالأسماء ، فإذا وقع بعدها المبتدأ فهي ملغاة وإنما تعمل في موضعين : أحدهما الرفع في نحو : لو لا أنّك منطلق أكرمتك ، فهي عند سيبويه (١) مبنيّة على لو لا بناء الفعل على المفعول ، فبالحقيقة يكون موضعها رفعا.

والموضع الثاني قولك : لولاك ، فهي عنده مجرورة ، وهي في الموضعين لا يظهر عملها.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٤٦٢).


وما الحرف الذي يرفع الوضيع ، ويضع الرفيع؟ هو لام الابتداء ، إذا دخلت على الفعل المستقبل ارتفع لشبه الاسم ، وأعرب. وإذا دخلت على ظننت وأخواتها تمنعها العمل ، وتضعها عن منصبها.

ما الجملة المفيدة العارية من الرفع ، وفيها معنى الدعاء وطلب النفع؟ هو مثل قول الشّاعر : [الرجز]

٣٥٣ ـ يا ليت أيّام الصّبا رواجعا

جاز ذلك لما في (ليت) من معنى الدعاء ، وكان في الجملة مرفوعا من جهة المعنى لا في اللفظ.

وما الحرف الذي إن أعمل أشبه الفعل الكامل ، أو أهمل أبطل العوامل؟ هو (ما) على لغة الحجاز ، يقولون : ما زيد قائما ، فيشبه باب كان. وإذا أهمل دخل على إنّ وغيّرها ، فيبطل عملها ، وقد يبطل الفعل نحو : قلّما ، والاسم نحو : بينما.

وأيّ شيء إن نفيته وجب ، وإن أوجبته سلب؟ هو كاد.

وما الاسم المحذوف لامه في التكبير ، وعينه في التصغير؟ هو (ذا) لأنّه مكبّرا (فع) ومصغّرا (فيلا).

وما الزائد الذي يزيل الوصل ، ويظهر الفضل ، ويوجب الفصل؟ هو الألف الداخل عوضا من التنوين في المقصور المنصرف في الوقف مثل : رأيت عصا فإنها زائدة صرفت الأصل ، وأذهبت الوصل في الكلام ، وأظهرت الفضل على غير المنصرف لكونها عوضا من التنوين ، وأوجبت الفصل بين الاسم المنصرف مثل عصا وغير المنصرف مثل حبلى.

وما الحرف الذي شأنه ينقص الكامل ويفصل بين المعمول والعامل؟ هو النون الخفيفة إذا عنيت بها نون التوكيد نقصت الفعل المضارع وإن عنيت بها نون الوقاية فصلت بين المعمول والعامل ، انتهى.

طائفة أخرى من ألغاز النّحاة

قال القاضي بدر الدين بن الرضيّ الحنفيّ ملغزا ، وأرسل به إلى الشيخ شرف الدين الأنطاكيّ : [البسيط]

__________________

٣٥٣ ـ الرجز لرؤبة في شرح المفصل (١ / ١٠٤) ، وليس في ديوانه ، وللعجاج في ملحق ديوانه (٢ / ٣٠٦) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٦٩٠) ، وبلا نسبة في الجنى الداني (ص ٤٩٢) ، وجواهر الأدب (ص ٣٥٨) ، وخزانة الأدب (١٠ / ٢٣٤) ، والدرر (٢ / ١٧٠) ، ورصف المباني (ص ٢٩٨) ، وشرح الأشموني (١ / ١٣٥) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٤٣٤) ، وشرح المفصل (١ / ١٠٤) ، والكتاب (٢ / ١٤٢).


سل لي أخا العلم والتنقيب والسّهر

عن قائل قال قولا غير مشتهر

هل معك فعل غدا بالحذف منجزما

في غير أمثلة خمس بلا نكر؟

كذاك في غير معتلّ ، وذا عجب

إذ لم يبيّن لنا في كلّ مختصر

فأجاب الشرف المذكور : [البسيط]

لقد تأمّلت ما قد قال سيّدنا

أعيذ طلعته بالآي والسّور

ولم أجد فعل فرد صحّ آخره

في الجزم يحذف في بعض من الصّور

سوى (يكون) فباء الجرّ بعد غدا

معناه مع ، أو بقلب ذا الكلام حري

نعم كيبدأ ممّا الهمز آخره

إعرابه كالصحيح الآخر اعتبر

فإن تخفّفه فاقلب همزه ألفا

واحذفه في الجزم حذفا واضح الأثر

قال الصلاح الصفديّ في تذكرته : أنشدني من لفظه القاضي جمال الدين إبراهيم لوالده القاضي شهاب الدين محمود لغزا : كتبه إلى شيخه مجد الدين بن الظهير في (من) : [المتقارب]

وما مفرد اللفظ مستعمل

لجمع الذكور وجمع الإناث

يحرّك بالحركات الثلاث

فيغدو من الكلمات الثلاث

فكتب إليه الشيخ مجد الدين الجواب : [المتقارب]

قريضك يا ملغزا في اسم (من)

يميل إلى صلة كالّذي

غدا حامل المسك يحذي الجلي

س منه ، ويحظى بعرف شذي

قال الصلاح الصفديّ وأنشدني من لفظه المولى ناصر الدين محمد بن النشائي الجواب عن ذلك له : [المتقارب]

أيا من علا في الورى قدره

وأضحى لراجيه أولى غياث

أتى منك لغز فألفيته

من القول قد حلّ بعد اكتراث

وها هو حرفان : (ميم ونون)

ولم يبلغ القول منه الثلاث

هو اسم وفعل وحرف إذا

أردت حصول الأصول الثلاث

فلا زلت للخير مهما حيي

ت تنبعث الدّهر أيّ انبعاث

قال العلامّة جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى : [مجزوء الرمل]

أيّها العالم بالتصري

ف لا زلت تحيّا

قال قوم : إن يحيى

إن يصغّر فيحيّا

وأبى قوم فقالوا :

ليس هذا الرأي حيّا


إنّما كان صوابا

لو أجابوا بيحيّا

كيف قد ردوا يحيّا

والذي اختاروا يحيّا؟

أتراهم في ضلال

أم ترى وجها يحيّا؟

قال الشيخ جمال الدين بن هشام : يحتاج في توجيهها إلى تقديم ثلاثة أمور :

أحدها : أنّهم اختلفوا في وزن يحيى فقيل : فعلى وقيل : يفعل. والأوّل أرجح ، لأنّ الثاني فيه دعوى الزيادة حيث لا حاجة.

الثاني : أنّ الحرف التالي لياء التصغير حقّه الكسر كتالي ألف التكسير ، حملا لعلامة التقليل على علامة التكثير ، حملا للنقيض على النقيض.

وأستثني من ذلك مسائل ، منها : أن يكون ذلك الحرف متلوّا بألف التأنيث كحبلى ، صونا لها من الانقلاب.

الثالث : أنه إذا اجتمع في آخر المصغّر ثلاث ياءات ، فإن كانت الثانية زائدة وجب بالإجماع حذف الثالثة منسيّة لا منويّة كعطاء إذا صغّرته تقول : عطيّي بثلاث ياءات : ياء التصغير ، والياء المنقلبة عن ألف المدّ ، والياء المنقلبة عن لام الكلمة ، ثمّ تحذف الثالثة وتوقع الإعراب على ما قبلها وإن كانت غير زائدة. فقال أبو عمرو : لا تحذف لأنّ الاستثقال إنّما كان متأكّدا لكون اثنين منها زائدتين ياء التصغير والياء الأخرى الزائدة.

وقال الجمهور : تحذف نسيا. ومثال ذلك (أحوى) (١) إذا صغّر على قولهم في تصغير أسود أسيّد. فقال أبو عمرو : أقول أحيّي ، ثمّ أعلّه إعلال قاض ، رفعا وجرّا ، وأثبت الياء مفتوحة نصبا.

وقال غيره : تحذف الثالثة في الأحوال كلّها نسيا ثمّ اختلفوا ، فقال عيسى بن عمر : أصرفه لزوال وزن الفعل كما صرفت خيرا وشرّا لذلك. وقال سيبويه (٢) : أمنع صرفه ، وفرّق بين خير (٣) وشرّ وبين هذا ، فإنّ حرف المضارعة محذوف منهما دونه ، وحرف المضارعة يحرز وزن الفعل. ولهذا إذا سمّيت ب (يضع) منعت صرفه.

فإذا تقرّر هذا فنقول : من قال : إن يحيى فعلى قال في تصغيره (يحيّى) كما قال في تصغير حبلى (حبيلى) صونا لعلامة التأنيث عن الانقلاب ، وهو الذي قال الناظم رحمه الله مشيرا إليه : «قال قوم ..» البيت.

ومن قال : إنّ (يفعل) قال فيه على قول سيبويه رحمه الله تعالى (يحي)

__________________

(١ ـ ٢) انظر الكتاب (٣ / ٥٢٥).

(١ ـ ٢) انظر الكتاب (٣ / ٥٢٥).

(٣) انظر الكتاب (٣ / ٥٠٧).


بالحذف. ومنع الصرف. وهو الذي أشار إليه في قوله : إنما كان صوابا لو أجابوا بيحيى. وذلك لأنه استعمله مجرورا بفتحة ثمّ أشبع الفتحة للقافية وتكمّل له بذلك ما أراده من الإلغاز. حيث صار في اللفظ على صورة ما أجاب به الأولون. والفرق بينهما ما ذكرنا من أنّ هذه الألف إشباع ، وهي من كلام الناظم لا من الجواب ، والألف في جواب الأولين للتأنيث ، وهي من تمام الاسم.

فإن قيل : فإذا لم تكن على الجواب التالي للتأنيث فما بال الحرف الدالّ على التصغير لم يكسر ما بعده؟

فالجواب : أنه لما صار متعقب الإعراب تعذر ذلك فيه كما في زبيد ، لأن ذلك يقتضي الإخلال بالإعراب ، وأيضا فإنّ ياء التصغير لا يكمل شبهها بألف التكسير إلّا إذا كان بعدها حرفان أو ثلاثة أوسطها ساكن ، والله أعلم.

لغز أجاب عنه الشيخ تاج الدين بن مكتوم : نقلت من خطّ الشيخ تاج الدين ابن مكتوم.

قال : نظم بعض أصحابنا لغزا ، وكتب به إليّ ، وهو : [السريع]

ما قول شيخ النحو في مشكل

يخفى على المفضول والأفضل

في اسم غدا حرفا وفي اسم غدا

فعلا ، وكم في النحو من معضل

آخره لام ، وسينا غدا

وهذه أدهى من الأوّل

فكتبت إليه في الجواب : [السريع]

يا أيّها السّائل عمّا غدا

وراء باب عنده مقفل

في النحو ما يعضل تخريجه

لكنّ هذا ليس بالمعضل

فجئ بصعب غير هذا تجد

عندي جوابا عنه إن تسأل

فمثل هذا منك مستصغر

ومن سواك الأكبر المعتلي؟

وعند ما أسفر لي ليلة

وانحطّ لي كوكبه من عل

(أرسلت طرسا) ضامنا شرحه

فهاكه ، فهو به منجل

قال : وشرح ما سأل عنه في قولي : أرسلت طرسا. ففاعل أرسل تاء الضمير ، وهو اسم غدا حرفا ، أي : على حرف واحد. فهذا حلّ قوله : في اسم غدا حرفا ، وهو مورّى به عن الحرف الذي هو قسيم الاسم والفعل. وطرس اسم غدا فعلا أي : غدا إذا وزنته (فعلا) وهو مورّى به عن الفعل المقابل للاسم وآخره لام ، لأنّ آخر الكلمة الموزونة يسمّى (لاما) في علم التصريف ، كائنا ما كان في الحروف ، وهو مورّى به


عن اللام الذي هو أحد حروف : ا ب ت ث ، وهو (سين) ، لأنّ آخر طرس سين كما ترى.

قال الشيخ برهان الدين البقاعيّ في ثبته : أنشدنا شيخنا الإمام محمد الأندلسيّ الراعي لنفسه لغزا في كلمة (إ) بمعنى (عد) إذا أتيت قبلها بكلمة (قل) ونقلت حركة الهمزة إلى اللام الساكنة ، وحذفتها : [الرجز]

حاجيتكم نحاتنا المصريّه

أولي الذكا والعلم والطعميّه

ما كلمات أربع نحويّه

جمعن في حرفين للأحجيّه؟

قال وأنشدنا لنفسه في ذلك مختصرا : [الرجز]

في أيّ قول يا نحاة الملّه

حركة قامت مقام الجمله؟

ألغاز ابن لبّ النحويّ الأندلسيّ (١)

ثمّ رأيت كراسة فيها ألغاز منظومة مشروحة ، ولم أعرف لمن هي ، وها هي ذه.

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد ربّي حمد ذي إذعان

معترف بالقلب واللسان

مصلّيا على الرسول المهتدي

بهديه في السّرّ والإعلان

ثمّ الرضى عن آله وصحبه

وتابعيهم بعد بالإحسان

وبعد ، إنّي ملغز مسائلا

في النّحو تعتاص على الأذهان

يخرجها فكر لبيب فطن

يوردها بواضح البرهان

فيا أولي العلم الألى حازوا العلا

عين الزمان جلّة الأعيان

حاجيتكم لتخبروا ما اسمان

وأوّل إعرابه في الثاني؟

وذاك مبنيّ بكلّ حال

ها هو للنّاظر كالعيان

يعني الألف واللام الموصولة في مثل جاء الضارب ، ومررت بالضارب على القول بأنّها اسم كالذي ، يكون الإعراب الذي يستحقّه الموصول إنما استقرّ في الاسم الواقع صلة ، إجراء لهذا الاسم مجرى الأداة المعرّفة في مثل الرجل ، ولا يوجد بعده إلا هذا. وقد أشار في البيت الثاني إلى التصريح به بقوله : (للناظر).

__________________

(١) ابن لبّ النحوي : هو فرج بن قاسم بن أحمد بن لب ، أبو سعيد الثعلبي الغرناطي : نحوي ، ولي الخطابة بجامع غرناطة ، له كتاب في «الباء الموحدة» وأرجوزة في «الألغاز النحوية». (ت ٧٨٣ ه‍ / ١٣٨١ م). ترجمته في بغية الوعاة (٣٧٢).


وتخبروا باسم مضاف ثابت الت

نوين فيه اجتمع الضّدان

يعني : كأيّن ، إذا استعملت دون (من) بعدها ، كقول القائل : [الوافر]

كأيّن قائل للحقّ يقضي

ويرمى بالقبيح من الكلام

فإن ابن كيسان ذهب إلى أن جرّ ذلك بإضافة كأيّن إليه حملا لها على كم الخبريّة ، لأنها بمعناها ، ونونها إنما هو تنوين أيّ ، وقد ثبت مع الإضافة ، والتنوين مؤذن بالانفصال ، والإضافة مؤذنة بالاتصال ، فقد اجتمع الضدّان.

وذهب غير ابن كيسان إلى أنّ الجرّ بعدها. بمن محذوفة ، لأنّ ثبوتها هو الغالب في الاستعمال.

واسم بتنوين لدى الوقف يرى

كالوصل حالاه هما سيّان

يعني أيضا أيّا المتّصلة بالكاف المشار إليه في البيت قبله نحو : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) [آل عمران : ١٤٦] فإنّ القراء سوى أبي عمرو بن العلاء وقفوا على تنوينها.

ووقف أبو عمرو على الياء ، بحذف التنوين على مقتضى القياس.

وتابع وليس يلفى تابعا

ما قبل في شان ، وذا في شان

يعني مثل قولك : ما زيد بشيء إلّا شيء لا يعبأ به ، على اللغهة الحجازيّة في (ما) النافية ، فلفظ الخبر جرّ بالباء الزائدة ، وموضعه نصب بما ، لأنها في تلك اللغة تعمل عمل ليس ، و (إلّا شيء) بدل من الخبر ، ولم يتبعه في لفظ ولا موضع ، فما قبل هذا التابع على شأن من جرّ اللفظ ونصب الموضع ، ومن توجّه النفي عليه ، وشأن التابع بخلاف ذلك لأنه مرفوع أبدا مثبتا بإلّا.

وقد كنت نظمت في هذه المسألة قديما بيتا ، وهو قولي : [الطويل]

أحاجيكم ، ما تابع غير تابع

لمتبوعه في موضع لا ولا لفظ؟

وقد تنتظم هذه الألغاز هكذا مسألة العطف على التوهّم كقوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] على قراءة الجزم ، لأنّ هذا المجزوم لم يتبع الفعل قبله في موضع ولا لفظ ، وإنما جاز على مراعاة سقوط الفاء حملا على المعنى المرادف وكقول القائل : [الطويل]

٣٥٤ ـ بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

__________________

٣٥٤ ـ الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه (ص ٢٨٧) ، والكتاب (١ / ٢١٩) ، وتخليص الشواهد (ص ٥١٢) ، وخزانة الأدب (٨ / ٤٩٢) ، والدرر (٦ / ١٦٣) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٢٨٢) ، وشرح المفصّل (٢ / ٥٢) ، ولسان العرب (نمش) ، ومغني اللبيب (١ / ٩٦) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٢٦٧) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٤١) ، ولصرمة الأنصاري في شرح أبيات سيبويه (١ / ٧٢) ، ـ ـ وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ١٥٤) ، وجواهر الأدب (ص ٥٢) ، والخصائص (٢ / ٣٥٣) ، وشرح الأشموني (٢ / ٤٣٢).


إنما جاز جرّ سابق على توهّم جرّ مدرك بباء زائدة. لجواز ذلك فيه.

يا هؤلاء أخبروا سائلكم

ما اسم له لفظ وموضعان

ولا يراعى لفظه في تابع

والموضعان قد يراعيان

واللّفظ مبنيّ كذاك موضع

من موضعيه عاد من بيان

يعني قولك : يا هؤلاء في باب النداء. فإن في لفظه الكسر للبناء ، وله موضعان الضمّ الذي في مثل يا زيد ، والنصب الذي هو الأصل في المنادى لظهوره في مثل يا عبد الله ، وتقول في التابع : يا هؤلاء الكرام بالرفع ، أو الكرام بالنصب ، فتراعي الموضعين ولا تراعي اللفظ بوجه ، والشأن في البناء لا يراعى في التابع ، لكنّه هنا روعي منه ما لم يظهر ، ولم يراع ما ظهر مع أنّ الظاهر قويّ بظهوره ، والمقدّر ضعيف بتقديره ، لكن لما كان هذا البناء المقدّر شبيها بالإعراب صار كأنه موضع إعرابين ، فجازت مراعاته ، وصار يعتدّ به موضعا بخلاف البناء الأصيل.

ما زائد لفظا ، ومعنى لازم

ينوي إذا لم يلف في المكان

يعني في مثل قولك : قيامي كما أنّك تقوم ، أيّ : كقيامك. فالكاف جارّة لموضع أنّ وصلتها ، وما فارقة بين هذه الكاف وبينها مركّبة مع أنّ ، ولا جرّ لها ، وذلك في قولك : كأنّ زيدا قائم. والكلام مع كأنّ جملة بخلاف الكاف الجارّة ، فإنها مع ما بعدها جزء كلام ، فإذا أرادوا التركيب لم يفصلوا بشيء. وإذا أرادوا الجارّة فصلوا بها. فهي زائدة في اللفظ ، لأنّ ما بعدها مجرور المحلّ بالكاف التي قبلها وفي المعنى أيضا ، إذ لا تفيد شيئا سوى الفرق اللفظيّ ، وقد تخفف (أنّ) بعد الكاف الجارّ فتقول : قمت كما أن ستقوم ، وقد تحذف ما في الشعر ، وتكون منويّة ، فهي زائدة لفظا ومعنى ، لازمة بحيث تنوى إذا لم توجد ، وعليه جاء بيت سيبويه : [الطويل]

٣٥٥ ـ قروم تسامى عند باب دفاعه

كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا

على رواية رفع يؤخذ. أراد كما أنّه يؤخذ ، ولم يفصل بين أن المخفّفة من أنّ وبين الفعل ضرورة أيضا ، وعطف فيقتل على المصدر المقدّر من أن وما بعدها من باب قوله : [الوافر]

__________________

٣٥٥ ـ الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه (ص ١٣١) ، والكتاب (٣ / ١٦١) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ١٥٨).


٣٥٦ ـ للبس عباءة وتقرّ عينى

[أحبّ إليّ من لبس الشّفوف]

جرت (أن) وصلتها في ذلك مجرى المصدر الملفوظ به.

وما الّذي إعرابه مختلف

من غير أن تختلف المعاني؟

يعني مثل قولك : زيد حسن الوجه ، برفع الوجه أو بنصب أو بجرّ ، والمعنى واحد ، والشأن في الإعراب اختلاف المعاني باختلاف الإعراب.

وما الّذي الوصف به من أصله

وذاك منه ليس في الإمكان؟

يعني مثل قولك : أقائم أخواك؟ وأمسافر غلاماك؟ أو إخوتك أو غلمانك ، فهذا الوصف رافع لما بعده بالفاعليّة ، ولا يمكن في هذا الموضع جريه على موصوف ، وإن كان ذلك هو الأصل فيه ، لأنّك إذا ثنّيت الموصوف أو جمعته فالوصف مفرد ، وإن أفردته فالمراد اثنان أو جماعة لا واحد ، وإنّما هذا الوصف هنا كالفعل في حكم اللفظ وفي المعنى.

وما الّذي فيه لدى إعرابه

وقبل ذاك يستوي اللفظان؟

يعني أنّ من المعربات ما يستوي لفظه بعد التركيب وجريان الإعراب فيه ، وقبل ذلك. والشأن في لفظ الإعراب أبدا اختصاصه بحالة التركيب ، لأنه أثر العوامل وذلك مثل الفتى والعصا ويخشى. فالنحاة يقولون في هذا الباب كله : تحركت الواو بحركة الإعراب ، وانفتح ما قبلها فسكنت وانقلبت ألفا. ويقال كذلك : اللفظ قبل التركيب مع أنّ حركة الإعراب مفقودة إذ ذاك بفقد عاملها ، فقد كان قياس الصناعة يقتضي أن يقال قبل التركيب : الفتي والعصو ويخشي ويرضي بياء أو واو ساكنة في الآخر ، كما تقول قبل التركيب : رجل وزيد. لكن خرج هذا عندهم خرج الاستعارة بحالة التركيب ومراعاة المآل في اللفظ ، ولأن من العرب من يقول في : يوجل وييأس ياجل وياءس فالتزموا ذلك هنا لما ذكر.

وما اللّذان يعملان دولة

والعاملان فيه معمولان؟

__________________

٣٥٦ ـ الشاهد لميسون بنت بحدل في خزانة الأدب (٨ / ٥٠٣) ، والدرر (٤ / ٩٠) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٢٧٣) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٤٤) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٥٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٦٥٣) ، ولسان العرب (مسن) ، والمحتسب (١ / ٣٢٦) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٦٧) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٣٩٧) ، وبلا نسبة في الكتاب (٣ / ٤٨) ، وأوضح المسالك (٤ / ١٩٢) ، والجنى الداني (ص ١٥٧) ، وخزانة الأدب (٨ / ٥٢٣) ، والردّ على النحاة (ص ١٢٨) ، ورصف المباني (ص ٤٢٣) ، وشرح الأشموني (٣ / ٥٧١) ، وشرح ابن عقيل (ص ٥٧٦).


يعني أسماء الشرط في مثل قوله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء : ١١٠] فأيّا منصوب بتدعو ، وتدعو مجزوم بأيّا. وهكذا نحو : من تضرب أضرب.

فالمفعوليّة في اسم الشرط بحق الاسميّة ، والجزم يتضمّن إن الشرطية ، والرتبة في ظاهر اللفظ متضادّة لوجود سبق العامل معموله فيهما.

ومفرد لفظا ومعنى فيهما

معنى كلام فيه لفظ ثان

يعني ضمير الشأن والقصّة ، إذ هو مفرد في اللفظ والمعنى ، لكنّ معناه الذي هو الخبر يفهم معنى كلام يفسّر اللفظ الثاني بعده كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] فهو عبارة عن الخبر أو الأمر أو الشأن ، وتفسيره : الله أحد. وهذا إضمار مذكر ، وإن شئت أنّثت الضمير على معنى القصّة كقوله تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧] وليس لهذا الضمير في كلا حاليه من الأحكام الإعرابية إلا حكمان : الرفع بالابتداء نحو ما تقدّم ، أو بكان وأخواتها. والنصب بأن أو ظننت وأخواتها نحو : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج : ٤٦].

ماذا الذي في كبر مؤنّث

وقبل ذاك كان في الذّكران؟

يعني الذباب المسمّى في كبره بحلمة ، وفي صغره بقراد ، وفيه أنشد صاحب الإيضاح : [الوافر]

وما ذكر فإن يكبر فأنثى

شديد الأزم ليس بذي ضروس

ما اسم لدى التذكير باد عسره

يرمى لأجل العدم بالهجران؟

وهو لدى التأنيث ذو ميسرة

من أجل ذا قرّت به العينان

يعني الخوان ، فإذا كان عليه طعام سمّي مائدة ، فيقضى إذا كان خوانا ، ويدنى إذا كان مائدة ، وهذا والذي قبله ألغاز فيما هو من مسائل اللغة :

ما معرب مفعول أو مبتدأ

ولفظه جرّ مدى الأزمان؟

يعني كأيّن وأيش يستعملان مفعولين أو مبتدأين نحو : كأيّن من رجل رأيت ، وأيش قلت. ونحو : كأيّن من رجل جاءني. وأيش هذا ، فاللفظ فيهما جرّ أبدا ، لأن كأيّن أصله كاف التشبيه دخلت على أيّ فجرّتها ، ثم أجري اللفظ مجرى كم الخبرية في الاستعمال والمعنى. وأيش أصله : أيّ شيء ، ثم حذفت العرب الياء المتحرّكة من أي كما حذفوها من ميت وبابه ، وحذفوا من شيء عينه ولامه معا ، وأبقوا الفاء ، وجعلوها محلّ الإعراب الذي كان في اللام. فهذا باب من التركيب ، بقي الاسم الثاني فيه على إعرابه الأصليّ.


ما اسم له تغيّر بعامل

محلّه من آخر حرفان؟

يعني امرأ أو ابنما وأخاك وبابه ، لأنّه يتغيّر فيه بالعوامل حرفان : الآخر ، وما قابله بسبب الإتباع.

ما اثنان في أواخر من كلمة

ضدّان حقّا ، وهما مثلان؟

يعني كلّ لقبين متقابلين من ألقاب الإعراب والبناء ، الرفع مع الضمّ ، والنصب مع الفتح ، والجرّ مع الكسر ، والجزم مع السكون ، وهما مثلان في الصورة ، ضدّان في الإعراب ، والبناء بحسب الانتقال واللزوم.

ما فاعل بالفعل لكن جرّه

مع السكون فيه ثابتان؟

يعني الصّنّبر في قول طرفة (١) : [الرمل]

بجفان تعتري نادينا

من سديف حين هاج الصّنّبر

والصّنّبر البرد بسكون الباء.

قال ابن جني في خصائصه في وجه ذلك : كان حقّ هذا إذ نقل الحركة أن تكون الباء مضمومة. لأنّ الراء مرفوعة ، ولكنه قدرّ الإضافة إلى الفعل يعني المصدر كأنه قال : حين هيج الصنبر ، يعني أنه نقل الحركة في الوقف إلى الباء الساكنة ، وسكنت الراء ، لكنه لم ينقل إلّا حركة توجد في الأصل ، وهي الجرّ الذي توجبه إضافة مصدر هاج إلى الصنبر ، لأن الظرف قد أضيف إلى الفعل ، وأصله أن يضاف إلى المصدر ، فقد ثبت في هذا الاسم الجرّ المنقول مع سكون محلّه ، وهو الراء. والاسم مع ذلك فاعل بالفعل وهو هاج.

ما فاعل ونائب عن فاعل

بأوجه الإعراب يجريان؟

يعني مثل قولك : زيد قائم الأب ، وقائم الأب ، وقائم الأب ، ونحو : زيد مضروب الأب ، ومضروب الأب ، ومضروب الأب.

ما كلمة قد أبدلت عين لها

إبدالها يصحبه قلبان؟

فأوّل لآخر ، وآخر

لأوّل ، حالاهما هذان

يعني مسألة أينق في جمع ناقة على أفعل ، أصله أنوق كما قالوا : نوق فأبدلوا العين في أنيق ياء ، لكنّ هذا الإبدال صحبه قلبان : أحدهما أنهم قلبوا العين سالمة إلى موضع اللام ، فصار اللفظ أنقو ، ثمّ فعلوا فيه ما فعلوا في أدل وأجر وبابهما ، فصار أنقيا ، ثمّ لما صارت الواو المتطرّفة ياء لوجوب ذلك قلبوها على حالها إلى موضع الفاء ، وهذا هو القلب الثاني ، فصار اللفظ أنيقا وعادت بنية الجمع إلى أصلها لخروج

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٢٤)


حرف العلّة عن التطرّف ، بنقله إلى موضع الفاء فقد صار هذا الإبدال مرتبطا بالقلب الأوّل الذي هو لآخر الكلمة ، وبالقلب الثاني الذي هو لأولها. فهذان حالان للقلبين المذكورين.

قال أبو القاسم الزجاجيّ في (نوادره) : هذا المذهب في هذه الكلمة قول المازنيّ وحذّاق أهل التصريف.

ما كلمة مفردها وجمعها

بواوه قد يتماثلان؟

يعني مثل قولك : جاءني أخوك الكريم ، وجاءني أخوك الكرام وهكذا أبوك ، تقول : هذا أبوك ، وهؤلاء أبوك. يكون واحدا من الأسماء الخمسة وجمعا بالواو والنون ، لكن حذفت النون للإضافة ، وعليه أنشدوا : [الوافر]

٣٥٧ ـ فقلنا : أسلموا إنّا أخوكم

فقد برئت من الإحن الصّدور

وقول الآخر : [المتقارب]

٣٥٨ ـ فلمّا تبيّنّ أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا

وأيّ جمع نصبه كالجرّ في

مفرده إذ يتساويان؟

يعني قولك : رأيت أبيك الكرماء وأخيك الفضلاء جمعا على حذف النون للإضافة.

وتقول في المفرد : مررت بأبيك الكريم ، وبأخيك الفاضل : فيتساويان في اللفظ.

ما كلمة متى أتى اسم بعدها

فرفعه والجرّ جاريان؟

والفعل بالرّفع وبالجزم أتى

وهي لها في كلّ ذا معان

يعني كلمة (متى) يقع بعدها الاسم مرفوعا تارة ومجرورا أخرى ، ويقع بعدها الفعل مرفوعا أو مجزوما ، ومعناها مختلف باختلاف أحوالها. تقول : متى القيام؟ في الاستفهام ويرتفع الاسم. وتقول العرب : أخرجها متى كمّه بمعنى وسط ، فجرّوا بعدها ، وجروا أيضا بها بمعنى (من) كقوله : [البسيط]

٣٥٩ ـ إذا أقول : صحا قلبي أبيح له

سكر متى قهوة سارت إلى الرّأس

__________________

٣٥٧ ـ الشاهد لعباس بن مرداس في ديوانه (ص ٥٢) ، ولسان العرب (أخا) ، والمقتضب (٢ / ١٧٤) ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ١٤٤) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٠٧) ، وخزانة الأدب (٤ / ٤٧٨) ، والخصائص (٢ / ٤٢٢).

٣٥٨ ـ الشاهد لزياد بن واصل السلمي في خزانة الأدب (٤ / ٤٧٤) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٢٨٤) ، وبلا نسبة في الكتاب (٣ / ٤٤٧) ، وخزانة الأدب (٤ / ١٠٨) ، والخصائص (١ / ٣٤٦) ، وشرح المفصّل (٣ / ٣٧) ، ولسان العرب (أبى) ، والمحتسب (١ / ١١٢) ، والمقتضب (٢ / ١٧٤).

٣٥٩ ـ الشاهد بلا نسبة في تاج العروس (متى) ، ولسان العرب (متى).


أي من قهوة. وقال أبو ذؤيب : [الطويل]

٣٦٠ ـ شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت

متى لجج خضر لهن نئيج

(متى) فيه بمعنى (وسط) عند الكسائي.

وقال يعقوب : هي بمعنى (من). وتقول : متى تقوم في الاستفهام فترفع الفعل. ومتى تقم أقم في الشرط ، فتجزم.

ما حرف إن سبقه ذو عمل

كرّ على العمل بالبطلان؟

صدر ، ولكن ليس صدرا ، فله

تقدّم تأخر وصفان

يعني لام الابتداء إذا وقعت بعد إن. تقول : علمت إنّ زيدا قائم ، فتعمل علمت في أنّ تؤثر فيها الفتح ، فإن جرت باللام في الخبر بطل العمل فقلت : علمت إنّ زيدا لقائم. وهذه اللام أداة مصدر في محلّها الأصيل لها ، وهو الدخول على إنّ ، ولذلك منعت من فتحها ، ولا صدريّة لها في موقعها بعد إنّ فقد عمل ما قبلها فيما بعدها ، لأنّ إنّ رافعة للخبر الداخلة هي عليه ، وعمل أيضا ما بعدها فيما قبلها كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٤٣]. فبالناس متعلّق برؤوف. وتقول : إني زيدا لأضرب ، فلهذه اللام هنا وصفان : تأخّر في اللفظ ، وتقدّم في الأصل.

بأيّ حرف أثر لعامل

إعراب معرب وذا شبهان؟

يعني (أنّ) فإنّها تفتح بالعامل ، وتكسر دونه. تقول : إنّك قائم ، وعجبت من أنّك قائم. سمّى سيبويه (٢) وقدماء النحاة هذا عملا ، فهذا في الحروف وإعراب المعربات شبيهان ، فكأنّه إعراب في الحروف.

مجرور حرف قد يرى مبتدأ

مؤكّدا وإن له وجهان

يعني مثل قولك : الزيدان لهما غلامان ، والهندان لهما بنتان ، والزيدون لهم غلمان ، والهندات لهن بنات. إن أخذت هذا الكلام على أنّ الثاني للأول ملك أو سبب كانت اللام جارّة ، وإن أخذته على أنّ الأول هو الثاني فاللام ابتدائية مؤكّدة ،

__________________

٣٦٠ ـ الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في الأزهيّة (ص ٢٠١) ، وجواهر الأدب (ص ٩٩) ، وخزانة الأدب (٧ / ٩٧) ، والخصائص (٢ / ٨٥) ، والدرر (٤ / ١٧٩) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ١٣٥) ، وشرح أشعار الهذليين (١ / ١٢٩) ، وشرح شواهد المغني (ص ٢١٨) ، ولسان العرب (شرب) ، و (مخر) ، و (متى) ، والمحتسب (٢ / ١١٤) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢٤٩) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب (ص ٥١٥) ، وأوضح المسالك (٣ / ٦) ، ورصف المباني (ص ١٥١) ، وشرح قطر الندى (ص ٢٥٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ٣٤).

(١) انظر الكتاب (٣ / ١٦٣).


والاسم بعدها مبتدأ مؤكّد بها ، والكلام صالح للوجهين ، يرجع في تعيين أحدهما إلى ما يقتضيه منصرف القصد من المعنى كقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧٢ ـ ١٧٣]. فالمعنى المقصود عيّن أنّ الأول هو الثاني.

وأيّ مبنيّ به تلاعبت

عوامل إرادة البيان؟

يعني الضمائر المختلفة الصور بالرفع والنصب والجرّ ، نحو : أكرمتك ، وإيّاك أكرمتك ، على حدّ : زيد ضربته ، أو زيدا ضربته ، في باب الاشتغال ، وبك مررت في الجرّ. فاختلاف صور الضمائر بالعوامل مع أنّها مبنيّات كاختلاف أوجه الإعراب في المعربات.

ما كلمة في لفظها واحدة

وجمعها قد يتعاقبان؟

يعني مثل تخشين الله يا هند أو يا هندات ، وترمين يا دعد أو يا دعدات. فهذا الفعل صالح للفظ الواحدة ولجمعها ، والتقدير مختلف لأنّ تخشين للواحدة أصله تخشين كتذهبين ، ولجمعها أصله على لفظ تفعلن كتذهبن ، وترتمين للواحدة أصله ترتميين ، كما تقول : تكتسبين. فأعلّ تخشين بما يجب لكلّ واحد منهما في التصريف ، وترتمين يا هندات تفتعلن على مقتضى لفظه.

كذاك للجميع لفظ واحد

ذكّر أو أنّث لا لفظان

يعني مثل : الزيدون يدعون ، والهندات يدعون. قال الله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الكهف : ٢٨] وقال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) [يوسف : ٣٣] فهذا يفعلن للإناث ، والأول يفعلون للذكور ، واللفظ فيهما واحد.

ما موضع تغلّب الأنثى به

ولفظه في الأصل للذكران؟

يعني مثل : سرنا خمسا من الدّهر وخمس عشرة بين يوم وليلة ، لأنّ الزمان يغلب فيه الليالي لسبقها ، وليس ذلك في غيرها. ونزع التاء من أسماء العدد علامة تأنيث المعدود ، وذلك خاصّ بباب العدد. والأصل في اللفظ الخالي من علامة التأنيث أن يكون للمذكّر كما في سائر الأبواب نحو : قائم وسائر الصفات ، ومن هنا استقام إلغاز الحريريّ في العدد بقوله : ما موضع تبرز فيه ربّات الحجال بعمائم الرجال ، يعني : نزع التاء من أسماء العدد.

حرفان قد تنازعا في عمل

واسمان للحرفين مطلوبان

يعني ليت أن زيدا قائم. فالاسمان بعد (أنّ) مطلوبان لها ولليت من جهة المعنى لكنّ العمل فيهما لأنّ ، وأغنى ذكرهما بعدها عن ذكرهما لليت ، فهو إعمال


مع تنازع بين حرفين ، والشأن في التنازع اختصاصه بالأفعال وما يجري مجراها ، وإنّما خصّه النحاة بذلك ، إذ قصدوا فيه ما يتصوّر فيه إعمال العاملين.

وفيهما أيضا فصيحا قد يرى

فعل وحرف يتنازعان

يعني مثل : علمت أنّ زيدا قائم. فالاسمان قد يتنازع فيهما الفعل والحرف معا. لكنّ الواجب أن يعمل الحرف ، وهذه كالمسألة قبلها.

وقد يرى مبتدأ خبره

في الرفع والنصب له حالان

يعني المسألة الزنبوريّة (١) وبابها : كنت أظنّ أنّ العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي ، قاله سيبويه. أو فإذا هو إيّاها ، قاله الكسائيّ وحكاه أبو زيد الأنصاري عن العرب. والضمير في الأول مبتدأ ولا خبر له من جهة المعنى غير الضمير الذي بعده ، لأنّه المستفاد من الكلام ، والخبر هو الجزء المستفاد من الجملة ، فرفعه ظاهر جليّ. والنصب في القول الصحيح على إضمار فعل ، قام معموله مقامه ، وناب عنه بنفسه دون فعل يحصل معناه ، والتقدير فإذا هو يساويها ، لأنّ باب : زيد زهير إنّما معناه يساويه.

ومما يدخل تحت هذا البيت ما أجازه بعض نحاة المتأخّرين في مثل قول ابن قتيبة في الأدب : إن اللطع بياض في الشفتين ، وأكثر ما يعتري ذلك السودان ، والنصب على أنّه مفعول يعتري وما مصدرية ، أي أكثر اعتراء ذلك السودان ، وهذا المفعول هو الذي أغنى عن الخبر ، لأنّ الجزء المستفاد من الكلام ، فموضع الإلغاز من هذه المسائل دخول النصب فيما هو خبر لمبتدأ جوازا في اللفظ ولزوما في المعنى. ومثل كلام ابن قتيبة قولك : أكثر ما أضرب زيد.

ما علة تمنع الاسم صرفه

وهي وأخرى ليس تمنعان؟

يعني أنّ مثل صياقل وصيارف وملائك يمتنع صرفه بعلّة تناهي الجمع ، فإذا قلت : صياقلة وصيارفة انصرف مع بقاء الجمعيّة وانضمام التأنيث إليها. والتأنيث من علل منع الصرف ، ولكنّه بالتاء شاكل الآحاد ، فلذلك انصرف كطواعية وعلانية وكراهية.

ما اسم في الاستثناء منصوب به

وهو أداته له الحكمان؟

يعني مسألة الاستثناء بغير وسوى ، نحو : قام القوم غير زيد. فغير منصوب على الاستثناء فنصبه نصب المستثنى ، وليس بمستثنى ، وإنّما هو أداة استثناء ، ومجروره هو المستثنى فهو غريب في بابه ، لأنه سرى إليه حكم مجروره ، فله حكم الأداة في

__________________

(١) انظر الإنصاف (ص ٧٠٢).


المعنى وحكم المستثنى في اللفظ ، وهذا شبيه ما. يقوله بعضهم في المفعول معه نحو جئت وزيدا : إن الأصل جئت مع زيد ، فلما جاء الحرف وهو الواو وقع إعراب (مع) على زيد ، فاجتمعت المسألتان في محكيّ الاسم بإعراب ملابسه.

ما اسم يريك النصب في اسم بعده

وشأنه الجر لدى اقتران؟

يعني مسألة لدن غدوة فإنّ (لدن) مع غدوة لها شأن ليس لها مع غيرها. قال سيبويه (١) ، لأنّها تنصب غدوة ، ولا عمل لها في غيرها إلّا الجرّ كقوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل : ٦].

وما اللّذان جرّدا من صلة

لكن هما في الأصل موصولان؟

يعني : الموصولان في مثل قول العرب : فعلته بعد اللّتيا والتي ، يعنون بعد صغر الأمر وكبره ، أي بعد مشقّة. فهما موصولان في الأصل جرّدا من الصلة في الاستعمال. وقدّر بعضهم بعد اللتيا دقّت والتي جلّت.

وقيل : اللّتيا والتي يراد بهما الداهية. وقد حكى بعض النحاة : جاءني الذين واللاتي يعني الرجال والنساء. ولا يريد إحالة على فعل شيء ولا على تركه.

ما معرب إعرابه وحرفه

كلاهما في الوصل محذوفان؟

يعني مثل قوله تعالى : (أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا) [آل عمران : ١٥٦] فعلامة نصب غزّى الفتحة المقدّرة في الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين بالتنوين فحذف من الكلمة نفسها الإعراب وحرفه الذي هو محلّه ، وذلك مما ينافي حال الإعراب ، لأنه وضع للبيان. وهكذا الاسم المقصور إذا نوّن.

ما أثر في كلمة موجبه

وجوده وفقده سيّان؟

يعني : مثل عيد أصله الواو من العود. وموجب انقلاب هذه الواو الساكنة ياء وجود الكسرة قبلها. ثمّ إنّ هذه الكسرة زالت وبقيت الياء في أعياد ، فقد استوى وجود هذه الكسرة وفقدها مع أنها الموجبة.

ومن هذه المسألة أينق المتقدّمة ، لأنّ موجب الياء قد زال وهي باقية منبهة على قصد القلبين ، إذ لو رجعت الواو لم تحمل إلّا على قلب واحد.

ما عارض روعي في كلمة

ولم يراع؟ سمع الأمران

يعني : مثل (الأحمر) إذا نقلت حركة الهمزة إلى لام التعريف ، فإن شئت

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ١٣٧).


أبقيت ألف الوصل غير معتدّ بالحركة المنقولة ، لأنّها عارضة ، وإن شئت حذفت الألف معتدّا بلفظ الحركة بعدها.

وعلى هذا أجاز الفرّاء في مذهب ورش أن يقرأ (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) [الأنفال : ٦٦] ، ونحوه بثبوت الألف وحذفها ، وعلى هذا قرئ : (لَمِنَ الْآثِمِينَ) [المائدة : ١٠٦] ، بفتح نون من اعتبارا بسكون اللام لأنه الأصل ، كما تقول من الرجل.

وقرئ في الشاذّ : (لَمِنَ الْآثِمِينَ) بإدغام نون من في اللام اعتدادا بحركتها. كما تقول : من لدن. وهذا ، وإن كان البيت يسترسل عليه ، فليس هو المعتمد وجود الأمرين معا في الكلمة الواحدة والاستعمال الواحد سماعا من العرب. وذلك نحو ما حكى أبو عثمان المازنيّ من قول بعض العرب في رضوا رضيوا بسكون الضاد مع بقاء الياء ، فاعتدّوا بالسكون العارض فردّوا اللام التي كان حذفها لأجل الحركة فقالوا : رضيوا كما تقول في الأسماء ظبي ، ولم يعتدّوا بالسكون حين ردّوا اللام ياء وأصلها الواو من الرضوان. وإنّما أوجب انقلابها ياء الكسرة في رضي كسقي ودعي وبابهما ، فراعوا الكسرة الذاهبة في الياء الباقية ، فتدخل على هذه الكلمة العلّة في البيت قبل هذا مع ما ذكر فيه من أعياد ونحوه.

ما اسم كحرف من الاسم قبله

هما كواحد والأصل اثنان؟

يعني : اثني عشر في باب العدد ، حذفت العرب نون اثنين منه لتنزيلها عشر منزلتهما إذ الإضافة فيه ، ولهذا يقولون : أحد عشرك وخمسة عشرك إلى سائرها ، ولم يقولوا : اثني عشرك. كما لا يصحّ في اثنين أن يضاف وفيه النون ، فاثنا عشر كاسم واحد في دلالته على مجموع ذلك العدد كدلالة عشرين ، وأصله اسمان : اثنان وعشرة ، لكن في قوله في البيت والأصل اثنان دون ضميمة. ففي البيت شيء ممّا تقدّم في قوله : ها هو للناظر كالعيان ، وفي قوله : يا هؤلاء أخبروا سائلكم ، وفي قوله : ما كلمة متى أتى اسم بعدها. وسيأتي التنبيه على نحو ذلك.

واسم له الرفع وما من رافع

لديه من قاص ولا من دان

يعني : الضمير الواقع فصلا المسمّى عند الكوفيّين عمادا ، لأنه اسم مرفوع دون رافع بعيد منه ولا قريب. وهو بدع من الأسماء في اللسان ، ولهذا وقع في كتاب سيبويه (١) : وعظيم والله جعلهم (هو) فصلا.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٣٩٧).


وما من الحروف يلغى زائدا

في لفظ او معنى هما قسمان؟

أو فيهما واسم وفعل لهما

هنا دخول ، أين يدخلان؟

يعني : أن من الحروف ما يلغى زائدا في اللفظ خاصّة ، نحو : جئت بلا زاد ، ونحو : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) [التوبة : ٤٠] ، و (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) [آل عمران : ١٢٠] ، أو في المعنى خاصّة ، نحو : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء : ١٧١] ، و (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ) [هود : ٣٣] ، و (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) [الأنفال : ٦] ، فما في المعنى زائدة ، وهي في اللفظ معتمدة كافّة ، أو مهيّئة. أو تكون الزيادة في اللفظ والمعنى معا ، كقوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١٥٥] ، و (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] ، و (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) [نوح : ٢٥]. فهذه أقسام ثلاثة في زيادة الحروف مع أنّها حروف معان ، فزيادتها على خلاف الأصل.

ويعني : بدخول الاسم في باب الزيادة نحو قول عنترة : [الكامل]

٣٦١ ـ يا شاة من قنص لمن حلّت له

حرمت عليّ وليتها لم تحرم

روي ما قنص ومن قنص على الزيادة وإضافة شاة إلى قنص. هذا هو الظاهر وقد تؤوّلت (من) على الزيادة بتكلّف. وقد استجاز أهل الكوفة زيادة حين في مثل : زيد حين بقل وجهه ، وكقولهم : وجهه حين وسم ، وقد رأى بعضهم زيادة أسماء الزمان كيوم وحين عند إضافتها إلى (إذ) كقولك : يومئذ وحينئذ ، لأنّ ذلك اليوم والحين هو مدلول (إذ) ، وقد اكتفي بها وحدها كقول الشاعر : [الوافر]

٣٦٢ ـ نهيتك عن طلابك أمّ عمرو

بعافية ، وأنت إذ صحيح

وقد تأوّل قوم ذلك على أنّ الحين هو المعتمد ، وسيقت إذ لتدلّ على مضيّه بنفسها ، وعلى ما حذف مما هو مراد بتنوينها. قال : وذلك لأنهم أرادوا قطع يوم أو حين عن الإضافة مع التعويض ، ولم يصحّ لتعويض التنوين فيه من الجملة المحذوفة ،

__________________

٣٦١ ـ الشاهد لعنترة في ديوانه (ص ٢١٣) ، والأزهيّة (ص ٧٩) ، وخزانة الأدب (٦ / ١٣٠) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٤٨١) ، وشرح المفصّل (٤ / ١٢) ، ولسان العرب (شوه) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (١ / ٣٢٩).

٣٦٢ ـ الشاهد لأبي ذؤيب الهذليّ في خزانة الأدب (٦ / ٥٣٩) ، وشرح أشعار الهذليين (١ / ١٧١) ، وشرح شواهد المغني (ص ٢٦٠) ، ولسان العرب (أذذ) ، و (شلل) ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٣٧٩) ، والجنى الداني (ص ١٨٧) ، وجواهر الأدب (ص ١٣٨) ، والخصائص (٢ / ٣٧٦) ، ورصف المباني (ص ٣٤٧) ، وصناعة الإعراب (ص ٥٠٤) ، وشرح المفصّل (٣ / ٣١) ، ومغني اللبيب (ص ٨٦) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٦١).


إذ هو مشغول بتنوين التمكين الذي هو من أصله ، فلا يحمل تنوينه على غيره ، فجاؤوا بإذا تعيينا للمضيّ الذي يحرزه ، وتحصيلا للدّلالة على المحذوف بالتنوين الذي يقبله.

فقالوا : حينئذ ، أي : حين كان ذلك. ولهذا قلّما يوجد في كلام العرب (إذ) هذه المتصلة بالزمان مضافة غير منونة ، لكن هذه لا تخلص من دعوى زيادة الحين لأنّ إذ تغني عنه ، لأنّها تخلص للزمان ومضيّه كما اكتفي بها في البيت المتقدّم.[الوافر]

٣٦٣ ـ سراة بني أبي بكر تساموا

على ـ كان ـ المسوّمة العراب

فزاد (كان) بين الحرف ومجروره ، وكقولهم : ما أصبح أبردها! وما أمسى أدفأ العشية! وكذلك ما كان أحسن زيدا! فكان زائدة في اللفظ ومحرزة لمعنى المضيّ.

ما شكل أفعال يرى جمعا ولم

يصرف ، ولم يشركه في ذا ثان؟

يعني : أشياء جمع شيء من جهة المعنى ، وهو في ظاهر أمره على شكل أفعال جمع ، فعل ، كفيء وأفياء وحيّ وأحياء ، فكان القياس صرفه كنظائره. لكنّه لم يصرف. قال الله تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) [المائدة : ١٠٤] ولم يشركه في هذا شيء ممّا هو من بابه.

ثم اختلف النحاة في وجهه : فهو فعلاء مقلوبا عند أهل البصرة أصله (شيئاء) فقدّمت الهمزة ، وأفعلاء محذوفا عند الفارسيّ من الكوفيين ، والأخفش من البصريين أصله (أشيئاء) جمع شيء فخفّفا معا بحذف الياء المكسورة ، والتزم التخفيف. وهو عند الكسائيّ وأكثر الكوفيين أفعال مشبّه بفعلاء. فمنع. ومن هاهنا جمعوه على أشياوات.

ما فعل أمر وخطاب صالح

لغيبة ومنقضي الزمان؟

يعني مثل : خافوا وناموا وتذكّروا وتعالوا. يصلح هذا ونحوه للأمر على جهة الخطاب ، وللفعل الماضي على جهة الغيبة.

__________________

٣٦٣ ـ الشاهد بلا نسبة في الأزهية (ص ١٨٧) ، وأسرار العربية (ص ١٣٦) ، وأوضح المسالك (١ / ٢٥٧) ، وتخليص الشواهد (ص ٢٥٢) ، وخزانة الأدب (٩ / ٢٠٧) ، والدرر (٢ / ٧٩) ، ورصف المباني (ص ١٤٠) ، وشرح الأشموني (١ / ١١٨) ، وشرح التصريح (١ / ١٩٢) ، وشرح ابن عقيل (ص ١٤٧) ، وشرح المفصّل (٧ / ٩٨) ، ولسان العرب (كون) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٤١) ، وهمع الهوامع (١ / ١٢٠).


وصيغة الماضي ترى مضارعا

من لفظها فيه يرى الفعلان

يعني مثل : تحامى ، وتعاطى ، وتسمّى ، وتزكّى. كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى : ١٤] فهذا ماض ، وكقوله سبحانه : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] على قراءة التخفيف ، فهذا مضارع على حذف إحدى التاءين. ويحتمل الوجهين بيت امرئ القيس : [الطويل]

٣٦٤ ـ تحاماه أطراف الرّماح تحاميا

وجاد عليه كلّ أسحم هطّال

ويتعيّن المضارع في قول الآخر (٢) : [الطويل]

قروم تسامى عند باب دفاعه

[كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا]

وأيّ كلمتين في كلمة

وأيّ فعلين هما خصمان؟

يعني : بكلمتين في كلمة مثل عبشميّ في عبد شمس ، وعبقسي في عبد قيس ، وعبدريّ في عبد الدار.

ويعني بالفعلين الخصمين فعلا التنازع ، نحو : ضربت وضربني زيد لأنهما قد تنازعا المعمول كما يتنازع الرجلان الشيء عدوا والمتنازعان خصمان لأنّ كلّ واحد يخاصم صاحبه ويدفعه.

وأيّ مضمر مضاف خافض

وأيّ أشياء هما شيئان؟

يعني : بالمضاف من المضمرات قول العرب : إذا بلغ الرجل الستين : فإيّاه وإيّا الشواب ، بناء على أنّ إيّا هو الضمير.

ويعني : بالأشياء عبارة عن شيئين في مثل قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] والمراد قلبان خاصّة.

ما واحد ليس بذي تعدّد

لكنّه يقال فيه اثنان؟

يعني : اليوم الذي بعد الأحد من الأيام ، يطلق عليه اثنان وهو واحد ، تقول : ليلة الإثنين. والاثنان اسم عدد كثلاثة وأربعة ، وليس بعلم ، فجاء للواحد على خلاف وضعه ، وإنما كان القياس أن يقال : ثان أو اسم مشبّه اللفظ بالاثنين كالثلاثاء والأربعاء والخميس.

ما اسم يجيء فاصلا حتى به

الخافض والمخفوض مفصولان؟

__________________

٣٦٤ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٣٧).

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٥٤).


يعني : الألف واللام الموصولة على القول باسميّتها تفصل من العوامل كلّها على اطّراد. بخلاف الذي والتي مع أنهما بمعناها. ولا يطّرد الفصل بين الخافض والمخفوض بغيرها من الأسماء ، والصحيح اسميّتها لوضوح ذلك فيها ، حيث تقع على غير ما تقع عليه صلتها نحو : مررت بهند المكرمها أنا. فالألف واللام واقعة على هند ، ومكرم للمتكلم ، فوضعها هنا وضع التي.

وما الّذي وهو حرف خافض

يفصل ما أضيف باستحسان؟

يعني مثل : لا أبا لزيد ، ولا أخا لعمرو ، و: [مجزوء الكامل]

٣٦٥ ـ يا بؤس للحرب [التي

وضعت أراهط فاستراحوا]

ولا غلامي لك ، ولا يدي لك بكذا. فاللام حرف جرّ في الأصل مقحمة بين المضافين ، يطّرد هذا في بابها ، وهو خلاف القياس.

وكيف للموصول يلفى صلة؟

فهكذا ألفي موصولان

يعني مثل : جاءني الذين الذي أبوه منطلق منهم ، أي : جاءني الذي منهم الذي أبوه منطلق ، وقد أنشدوا : [الطويل]

٣٦٦ ـ من النّفر اللّاء الذين إذا هم

يهاب اللّئام حلقة الباب قعقعوا

قيل : الذين توكيد للاء ، وقيل : هو من صلته أي : اللاء هم الذين ، ويصحّ في الكلام أن يقال : التي الذي يأتيها تلزمه هند ، على معنى التي تلزم الذي يأتيها هند ، وهكذا ما كان مثله.

وما الّذي يبنى وفي آخره

دليل إعراب لذي تبيان؟

وذلك الإعراب في اسم سابق

وذلك الدليل في اسم ثان

يلفى لديه عوضا من خبر

ثم لذاك ليس يجمعان

حرف لإعراب بمبنيّ وقد

ناب عن اسم حلّ في المكان

__________________

٣٦٥ ـ الشاهد لسعد بن مالك في خزانة الأدب (١ / ٤٦٨) ، وشرح شواهد المغني (ص ٥٨٢) ، والمؤتلف والمختلف (١٣٥) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (ص ٣٢٦) ، والجنى الداني (ص ١٠٧) ، وجواهر الأدب (ص ٢٤٣) ، والخصائص (٣ / ١٠٢) ، ورصف المباني (ص ٢٤٤) ، وشرح المفصّل (٢ / ١٠) ، وكتاب اللامات (ص ١٠٨).

٣٦٦ ـ الشاهد لأبي الربيس في خزانة الأدب (٦ / ٧٨) ولسان العرب (لوي) ، وبلا نسبة في الحيوان (٣ / ٤٨٦) ، وخزانة الأدب (٦ / ١٥٦) ، والعقد الفريد (٥ / ٣٤٣).


يعني : بهذه الأبيات الأربعة حكاية النكرات بمن نحو : (منو) في حكاية المرفوع ، و (منا) في حكاية المنصوب و (مني) في حكاية المجرور ، فمن مبنيّة وهذه العلامة اللاحقة دليل الإعراب الذي في الاسم السابق ، ومن مبتدأ أغنت تلك العلامة عن خبره وقامت مقامه ، ولذلك لا يجمع بينها وبين الخبر ، فلا يقال : منو الرجل ، بل يقال : منو أو من الرجل. والبيت الرابع محصّل لما تقدّم في الأبيات الثلاثة. فالاقتصار عليه وحده مغن عمّا قبله. فيقال :

ما حرف إعراب بمبنيّ وقد

ناب عن اسم حلّ في المكان؟

ما فعل أمر جائز الحذف سوى

حركة تبقى على اللسان؟

يعني فعل الأمر من (وأى يئي) بمعنى الوعد تقول فيه : (إيازيد) ، فإن وقع قبله ساكن من كلمة أخرى ونقلت حركة الهمزة إليه على قياس من تخفيف الهمزة. قلت (قل بالخير يا زيد) ، أي : عدنا بخير ، وهند قالت بخير يا عمرو ، فلم يبق من الفعل غير الكسرة في لام (قل) وتقول على هذا : يا زيد قلي يا هند فبقيت الحركة ، والياء بعدها ، إنما هي ضمير الفاعل الذي كان متّصلا بفعل الأمر المحذوف.

ما اسم له حركة بعامل

تنسخها حركة اقتران؟

يعني مثل : «الحمد لله» فيمن كسر الدّال ، ونحو : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) [البقرة : ٣٤] ، فيمن ضمّ تاء الملائكة. فحركة الإعراب ذهبت بحركة الإتباع ، وهي حركة الاقتران.

ما معرب في لفظه حركة ال

إعراب والسكون حاصلان؟

يعني مثل البكر إذا وقفت عليه ينقل حركة آخره إلى الساكن قبله في لغة من يقف بالنقل. تقول : هذا البكر ، ومررت بالبكر ، ففي اللفظ حينئذ حركة الإعراب والسكون معا كلاهما حاصل فيه.

ونحو (دنيا) مع صنو مظهر

في كلمة فأين يدغمان؟

يعني : النون الساكنة ، وبعدها ياء أو واو في كلمة يجب إظهارها ، فرارا من اللبس بالمضاعف ، لو أدغمت ، وبابها الإدغام. فإذا لم يكن لبس روجع الأصل فوجب الإدغام ، نحو : انفعل إذا بنيته من وجل أو من يئس ، تقول : أوّجل وايّأس ، فتدغم إذ لا لبس هنا لعدم افّعل في كلامهم ووجود انفعل.

ما عامل وعمل قد أهملا

وفي انعدام قد يقدّران؟

يعني مسألة : ليس زيد بقائم ولا قاعدا. لك أن تهمل الباء وعملها في تابعها ، فتنصبه على الموضع كما قال : [الوافر]


٣٦٧ ـ معاوي إنّنا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فقد أهملت في التابع الباء وعملها ، مع وجودها ، ثم ثبت من كلام العرب مراعاتها مع عدمها كقول زهير (٢) :[الطويل]

بدا لي أني لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

يروى بجرّ سابق على توهّم لست بمدرك ، وبيت سيبويه (٣) : [الطويل]

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها

جرّ ناعب على تقدير ليسوا بمصلحين. ففي هذا بدع من الاعتبار أن يطرح الشيء مع وجوده ، ثم يعتبر مع عدمه.

ما ذو بناء مع تصدّر أتى

حالاه في ذين مخالفان؟

يعني حكاية يونس من قول بعض العرب : ضرب من منا؟ لمن قال : ضرب رجل رجلا ، فهو سأل عن الضارب وعن المضروب منهما ، فأخرج من الاستفهاميّة عن بنائها وعن صدريّتها الواجبة لها ، وهو نادر في بابه.

فهذه سبعون بيتا أكملت

قصيدة ملغوزة المعاني

عقيلة قد سدلت ستورها

تكشفها ثواقب الأذهان

بكر عليها حجب كثيفة

تقول للخطّاب : لن تراني

حتّى تعاني في طلابي شدّة

وينحل القلب المعنّى العاني

والحمد لله الّذي عرّفنا

من فضله عوارف الإحسان

وصلّ يا ربّ على من أحكمت

آياته في محكم القرآن

فهذا تمام الشرح في طرز القصيدة اللغزيّة في المسائل النحويّة ممّا قيّده ناظمها إبانة لغرضه منها. والله والموفّق للصواب ، انتهى.

ويتلوه كتاب التبر الذائب في الأفراد والغرائب من الأشباه والنظائر لشيخنا الجلال السيوطيّ ، وهو القسم السادس ، تغمّده الله بالرحمة والرضوان.

__________________

٣٦٧ ـ الشاهد لعقبة أو لعقيبة الأسدي في الإنصاف (١ / ٣٣٢) ، والكتاب (١ / ١١٣) ، وخزانة الأدب (٢ / ٢٦٠) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ١٣١) ، وسمط اللآلي (ص ١٤٨) ، وشرح أبيات سيبويه (ص ٣٠٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٧٠) ، ولسان العرب (غمز) ، ولعمر بن أبي ربيعة في الأزمنة والأمكنة (٢ / ٣١٧) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (ص ١٦٠) ، ورصف المباني (ص ١٢٢).

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٥٤).

(١ ـ) مرّ الشاهد رقم (٢٢١).


بسم الله الرّحمن الرّحيم

الفنّ السادس

الحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسّلام على سيّدنا محمد الذي كملت محاسنه باطنا وظاهرا ، هذا هو الفنّ السادس من الأشباه والنظائر ، وهو فنّ الأفراد والغرائب.

[التبر الذائب في] الأفراد والغرائب

باب الكلمة والكلام

قال الشيخ جمال الدين بن هشام في (شرح اللمحة) (١) : «أجمعوا إلّا من لا يعتدّ بخلافه على انحصار أقسام الكلمة في ثلاثة : الاسم والفعل والحرف» ، وقال أبو حيان : «زاد أبو جعفر بن صابر قسما رابعا سمّاه الخالفة ، وهو اسم الفعل».

قال ابن هشام : «اشتهر بين النحويّين أنّ الحرف يدلّ على معنى في غيره ، ونازعهم الشيخ بهاء الدين بن النحاس في ذلك في (التعليقة) وزعم أنّه دالّ على معنى في نفسه ، وهو موضع يحتاج إلى فضل نظر» انتهى.

وعبارة ابن النحاس : «اعلم أنّ معنى قول النحاة : إنّ الكلمة لها معنى في نفسها أو لا معنى لها في نفسها يعنون به أنّ الكلمة إن فهم تمام معناها بمجرد ذكر لفظها من غير ضميمة فهي المعبّر عنها بأنّ لها معنى في نفسها ، وإن كان فهم معناها متوقّفا على ضميمة فهي المعبّر عنها بأنّ معناها في غيرها ، ومعنى ذلك أنّك إذا ذكرت الاسم وحده يفهم منه معنى ، نحو : الرجل هو عبارة عن شخص ، وكذا باقي الأسماء يفهم منه معنى في حال إفراده ، والفعل أيضا إذا ذكرته وحده يفهم منه

__________________

(١) أبو حيّان محمد بن يوسف الأندلسي : أديب نحوي لغوي مفسّر محدّث ، من تصانيفه : البحر المحيط في تفسير القرآن ، وتحفة الأديب بما في القرآن من الغريب ، وعقد اللآلي في القراءات السبع العوالي ، وغيرها .. (ت ٧٤٥ ه‍ / ١٣٤٤ م). ترجمته في طبقات الشافعية (٦ / ٣١) ، وفوات الوفيات (٢ / ٢٨٢).


معنى ، نحو : قام ، يفهم منه اقتران القيام بالزمن الماضي ، وليس الحرف كذلك لأنّك إذا ذكرت حرفا لا يفهم منه معنى إلّا إذا اقترن بضميمة من أحد قسيميه ، فإن قيل : لا يجوز أن يكون الحرف بلا معنى عند ذكره وحده لأنّه يبقى من قبيل المهملات وإنّما الحرف موضوع لا مهمل ، قلنا : لا نسلم أنّه يلزم من قولنا : إنّ الحرف لا يفهم منه معنى في حال الإفراد أن يكون من قبيل المهملات لأنّ الحرف وضع لأن يفهم منه معنى عند التركيب ، وليس المهمل كذلك ، فإنّ المهمل ليس له معنى لا في حال الإفراد ولا في حال التركيب ، والحق أنّ الحرف له معنى في نفسه ، لأنّا نقول لا يخلو المخاطب بالحرف من أن يفهم موضوعة لغة أوّلا ، فإن لم يفهم موضوعه لغة فلا دليل في عدم فهمه المعنى على أنّه لا معنى له ، لأنّه لو خوطب بالاسم والفعل وهو لا يفهم موضوعهما لغة كان كذلك ، وإن خوطب به من يفهم موضوعه لغة فإنّه يفهم منه معنى ، عملا بفهمه موضوعه لغة ، كما إذا خاطبنا إنسانا ب (هل) وهو يفهم أنّها موضوعة للاستفهام ، وكذا باقي الحروف ، فإذا عرفنا أنّ له معنى في نفسه.

ولنا طريق آخر ، وهو أن نقول : وإن خوطب به من يفهم موضوعه لغة فلا نسلم أنّه لا يفهم منه معنى ، واللغويّون كلّهم قالوا مثلا : إنّ (هل) للاستفهام ولم يقيّدوا بحال التركيب دون حال الإفراد ، فإن قيل : أيّ فرق بين معنى الاسم والفعل وبين معنى الحرف على ما ذكرت؟ قلنا : الفرق بينهما أنّ كل واحد من الاسم والفعل يفهم منه في حال الإفراد عين ما يفهم منه عند التركيب بخلاف الحرف لأنّ المعنى المفهوم من الحرف في حال التركيب أتمّ ممّا يفهم منه عند الإفراد». هذا كلام ابن النحاس بحروفه ، وقد ذكر الشيخ جمال الدين بن هشام في (شرح اللمحة) أنّ أبا حيان تابعه على ذلك في (شرح التسهيل) ، ولم أره فيه ، فلعله سقط من النسخة التي وقفت عليها ، وقد وقع ما هو أغرب من ذلك ، وهو أنّي لمّا كنت بمكة المشرّفة سنة تسع وستين وثمانمائة ذكرت هذا البحث في حاشية المطاف بحضرة جماعة ، وفيهم فاضل من العجم ، وهو مظفّر الدين محمد بن عبد الله الشيرازي ، فقال لي : هذا البحث وبحث الشريف الجرجاني طرفا نقيض ، فإنّ الشريف ذهب إلى أنّ الحرف لا معنى له أصلا لا في نفسه ولا في غيره ، وخالف النحاة كلهم في قولهم : إنّ له معنى في غيره ، وألف في ذلك رسالة ، ثم أحضر لي مظفر الدين الذكور تأليفا لنفسه اختصر فيه (شرح الكافية) للرّضي سمّاه «مرضي الرضي» ، فرأيته نقل فيه عن الشريف هذا البحث فتطلّبت الرسالة التي ألفها الشريف في ذلك حتى حصلتها.


باب الإعراب

قال ابن الأنباري في كتاب الإنصاف (١) : «يحكى عن الزجاج أنّ التثنية والجمع مبنيّان وهو خلاف الإجماع» ، وذكر السخاوي في (شرح المفصّل) أنّه ذهب أيضا إلى أنّ ما لا ينصرف مبنيّ في حالة الجر على الفتح.

باب الإشارة

ذكر ابن معط في (الفصول) (٢) أنّ أسماء الإشارة بنيت لشبهها بالحروف ، قال ابن إياز في شرحه : «وتعليله بناءها بشبهها بالحروف غريب ، لم أر أحدا ذكره غيره».

باب أداة التعريف

قال في (البسيط) : «ذكر المبرد في كتابه المسمّى ب (الشافي) أنّ حرف التعريف الهمزة المفتوحة وحدها ، وضمّ إليها اللام لئلا يشتبه التعريف بالاستفهام» (٣).

باب الابتداء

قال أبو الحسين بن أبي الربيع في (شرح الإيضاح) : «لا أعلم خلافا بين النحويين أن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثث ، وظرف المكان يكون خبرا عن الجثث والمصدر ، إلّا أنّ ابن الطراوة ردّ على جميع النحويين في هذا وقال : هما سواء ، يكونان خبرين عن الجثث والمصادر».

وقال ابن هشام (٤) : «في شرح ابن يعيش : متعلق الظرف الواقع خبرا صرح ابن جني يجوز إظهاره ، وعندي أنّه إذا حذف ونقل ضميره إلى الظرف لم يجز إظهاره ، لأنّه قد صار أصلا مرفوضا ، فأمّا إن ذكرته أولا فقلت : زيد استقرّ عندك فلا يمنع منه مانع» انتهى. قال ابن هشام : «وهو غريب».

باب (كان)

ذهب ابن معط إلى أنّ «دام» لا يجوز تقديم خبرها على اسمها ، ذكره في الفصول (٥). قال ابن إياز في شرحه : «وما وقفت في تصانيف أهل العربية متقدّمهم ومتأخّرهم على نصّ يمنع من ذلك ، وقد أكثرت السؤال والتّفحّص عنه فما أخبرت

__________________

(١) انظر الإنصاف (٣٣).

(٢) انظر الفصول (١٦٦).

(٣) انظر شرح الكافية (٢ / ١٣١) ، والمقتضب (١ / ٨٣).

(٤) انظر مغني اللبيب (ص ٤٩٧) ، وشرح المفصّل لابن يعيش (١ / ٩٠).

(٥) انظر الفصول (ص ١٨١).


بأنّ أحدا يوافق هذا المصنّف في عدم جوازه ، وحكى لي من لا أثق به عن الشيخ تقي الدين الحلبي أنّ ابن الخشاب نقل مثل ذلك. وقال : هذا جار مجرى المثل ، وحكى أنّ ابن الخباز الموصلي سافر إلى دمشق واجتمع بالمصنّف وسأله عن ذلك فقال : أفكر فيه ، ثم اجتمع به مرة أخرى وعاد وسأله فقال : لا تنقل عني فيه شيئا».

قال ابن السّراج (١) : «أنا أفتي بفعلية ليس تقليدا منذ زمن طويل ، ثم ظهر لي حرفيتها» نقله ابن النحاس في التعليقة.

باب (إنّ)

قال ابن مالك في (شرح التسهيل) : «إن كان يعني ما بعد إن المخففة مضارعا حفظ ولم يقس عليه ، نحو : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ) [القلم : ٥١] ، (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [الشعراء : ١٨٦]. قال أبو حيان : هذا ليس بصحيح ولا نعلم له موافقا.

باب (كاد)

قال الأبّذيّ في (شرح الجزوليّة) : «خالف ابن الطراوة النحاة في «عسى» وقال : ليست من النواسخ ، لأنّ حكم النواسخ أن يقدّر زوالها فينعقد من معموليها مبتدأ وخبر ، وأنت لا تقول : زيد أن يقوم ، وهو غير صحيح لأنّا إذا قدّرنا زوال «عسى» قدرنا زوال «أن» ، ومذهبه في «عسى زيد أن يقوم» على ما يظهر أنّ زيدا فاعل ، إلّا أنّها لمّا علّقت على غير ما طلب ألزم التفسير ك «سمعت زيدا يقول كذا».

باب (ما)

قال ابن عصفور في (المقرّب) (٢) : «تعمل (ما) بشرط أن لا يتقدم الخبر وليس بظرف ولا مجرور». قال ابن النحاس في (التعليقة) : «تحرّز من مثل قولنا : ما في الدار زيد ، وما عندك زيد ، فإنّ الظروف والمجرورات يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها من أنواع التوسعات» قال : «وهذا شيء اختصّ به ابن عصفور ، لا أعلمه لغيره ، فإنّ الناس نصّوا على أنّ الخبر متى تقدّم مطلقا بطل العمل ظرفا أو مجرورا كان أو غيره».

فائدة ـ وجوه الرفع : قال ابن الدّهّان في (الغرة) : «قال الفرّاء : الرفع في كلام العرب على ثمانية عشر وجها :

__________________

(١) انظر الأصول (١ / ٩٣).

(٢) انظر المقرّب (١ / ١٠٢).


الأول : رفع الاسم بالماضي والمستقبل ، نحو قام زيد ويقوم زيد.

الثاني : رفع الأسماء بعائد المذكر نحو : زيد قام.

الثالث : رفع الاسم بالدّائم مؤخرا ، نحو : زيد قائم ، وهما المترافعان.

الرابع : رفعه بالمحلّ مقدّما ، نحو : خلفك زيد ، فإذا قالوا : زيد خلفك رفعوا زيدا والمضمر بالظرف ، وهو وجه خامس للرفع.

السادس : رفع الاسم برجوع العائد عليه ، كقوله : زيد أبوه قائم ، وزيد مررت به.

السابع : رفع الاسم باسم مثله جامد ، نحو : زيد أبوك.

الثامن : رفع الاسم بما يغلب عليه أن يوصف ، نحو : زيد صالح.

التاسع : رفع الاسم بمحل قد رفع غيره نحو : زيد حيث عمرو.

العاشر : رفع الاسم بما ينوب عن رافعه في التقدير ، نحو : قائمة جاريته زيد ، وتقديره : رجل قائمة جاريته زيد.

الحادي عشر : رفع الاسم بنعم وبئس.

الثاني عشر : رفع الاسم بحرف الاستفهام ، نحو : من أبوك؟ وأين أخوك؟

الثالث عشر : رفع الاسم بما لا يكون إلّا سابقا له ، نحو : لو لا زيد لأكرمتك (١).

الرابع عشر : رفع الاسم بالفعل المزال عن التصرّف ، نحو : حبّذا أنت.

الخامس عشر : رفع الاسم بما لا يظهر أنّه وصف له ، نحو : عبد الله إقبال وإدبار ، وعبد الله إقبالا وإدبارا.

السادس عشر : رفع الاسم بواو منسوقة عليه ، نحو : كلّ ثوب وثمنه ، تقديره :

كلّ ثوب بثمنه ، فنابت الواو عن مع والباء فرفعت.

السابع عشر : رفع الاسم بواو مستأنفة ، نحو : قيامي إليك والناس ينظرون.

الثامن عشر : قولهم : الرّطب والحرّ شديد. انتهى.

باب المفاعيل

قال ابن إياز : «نظر أبو سعيد السيرافي إلى قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراب : ١٥٥] أي : من قومه ، فزاد في المفاعيل الخمسة مفعولا آخر سماه المفعول منه» ، قال ابن إياز : «وهذا ضعيف جدا لأنّه يقتضي أن يسمى نحو قولك : «نظرت إلى زيد» مفعولا إليه و «انصرفت عن خالد مفعولا عنه» ..

قال الجزولي : «لا يكون المفعول له منجرّا باللام إلّا مختصا ، نحو : قمت لإعظامك ، ولا يجوز : لإعظام لك».

__________________

(١) انظر الإنصاف (ص ٧٠) ، وهمع الهوامع (١ / ١٠٥).


قال الشّلوبين : «وهذا غير صحيح بل هو جائز لأنه لا مانع يمنع منه» ، قال الشّلوبين : «ولا أعرف له سلفا في هذا القول».

باب المصدر

قال ابن هشام في (تذكرته) : «ذكر ثعلب في أماليه أنّه يقال : ناب هذا عن هذا نوبا ، ولا يجوز : ناب عنه نيابة ، وهو غريب».

باب العطف

قال ابن هشام (١) : «زعم ابن مالك أنّ (حتى) الابتدائية جارّة وأنّ بعدها (أن) مضمرة ، ولا أعرف له في ذلك سلفا ، وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة» ، وذهب صاحب (الأزهيّة) (٢) إلى أنّ «بل» تكون حرف جرّ ، ووهّمه أبو حيان وابن هشام وغيرهما ، فقد نقل ابن مالك وابن عصفور اتفاق النحويين على خلافه ، وذهب الخوارزمي إلى أنّ «بل» ليست من حروف العطف ، ولا سلف له في ذلك ، نقله الأندلسيّ في (شرح المفصّل) ونقلت عبارته في حاشية المغني.

قال ابن هشام (٣) : «خرق ابن مالك في بعض كتبه إجماع النحويين فزعم أنّ (أم) المنقطعة تعطف المفردات ك «بل»

باب

لا يجوز جعل مفسر المركب مضمرا : في تذكرة ابن مكتوم أنّ ابن السيّد البطليوسيّ ذكر عن الأخفش شيئا لم يذكره أحد من النحويين وذلك أنّه أجاز : مررت بهم خمسة عشرهم ، فجعل مفسّر المركب مضمرا ، وهذا من أخطأ الخطأ ، انتهى.

باب النداء

نقل ابن الخبّاز عن شيخه أنّ الهمزة للتوسط وأنّ يا للقريب ، قال ابن هشام في (مغني اللبيب) (٤) : «وهذا خرق لإجماعهم» ، أجاز المازني نصب صفة (أيّ) ، قال الزجاج في معاني القرآن : «ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله ، ولا تابعه أحد بعده ، فهذا مطّرح مرذول لمخالفته كلام العرب».

__________________

(١) انظر مغني اللبيب (ص ١٣٨).

(٢) انظر الأزهيّة (ص ٢٢٨).

(٣) انظر مغني اللبيب (ص ٤٦).

(٤) انظر مغني اللبيب (ص ٥٠).


باب نواصب المضارع

قال أبو حيان : «من غريب مذاهب الكوفيين في (أن) أنّهم أجازوا الفصل بينها وبين معمولها بالشرط ، وأجازوا أيضا إلغاءها وتسليط الشرط على ما كان معمولا لها لولاه ، فأجازوا : «أردت أن إن تزرني أزورك» بالنصب وأزرك بالجزم جوابا للشرط وإلغاء أن» (١).

قال (٢) ابن عصفور : «زعم الزمخشري أنّ (لن) لتأكيد ما تعطيه لا من نفي المستقبل ، تقول : «لا أبرح اليوم مكاني» ، فإذا أكّدت وشدّدت قلت : «لن أبرح اليوم مكاني» ، قال : «وهذا الذي ذهب إليه دعوى لا دليل عليها ، بل قد يكون النفي ب (لا) آكد من النفي ب (لن) ، لأنّ المنفيّ ب (لا) قد يكون جوابا للقسم ، نحو : والله لا يقوم زيد ، والمنفيّ ب (لن) لا يكون جوابا له ، ونفي الفعل إذا أقسم عليه آكد منه إذا لم يقسم» ، قال : «وذهب أبو محمد عبد الواحد بن عبد الكريم (٣) إلى أنّ (لن) تنفي ما قرب ولا يمتدّ معها النفي قال : «ويبيّن ذلك أنّ الألفاظ مشاكلة للمعاني (٤) و «لا» آخرها ألف ، والألف يمتدّ معها الصوت بخلاف النون ، فطابق كلّ لفظ معناه».

قال ابن عصفور : «وهذا الذي ذهب إليه باطل ، بل كلّ منهما يستعمل حيث يمتدّ النفي وحيث لا يمتدّ ، فمن الأول في (لن) : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [الجاثية : ١٩] ، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] ، وفي (لا) : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) [طه : ١١٨] ، ومن الثاني في (لن) : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦] ، وفي (لا) : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [آل عمران : ٤١].

قال أبو حيان : «وعبد الواحد هذا له كتاب (التبيان في علم البيان) ، ذكر فيه هذا الذي حكاه عنه ابن عصفور ، قال : وما يذهب إليه أهل علم البيان ، ويختصّون به ينبغي أن لا يحكى مذهبا ، لأنّهم يبنون على خيالات هذيانيّة أو استقراءات غير كاملة ، وحين وصل كتاب التبيان هذا إلى الغرب نقضه ابن رشيد من المقيمين بتونس نقضا في كل قواعده ، ونقضه أيضا الكاتب أبو المطرّف بن عميرة ، وكان من

__________________

(١) انظر همع الهوامع (٢ / ٣).

(٢) انظر شرح ابن يعيش على المفصّل (٨ / ١١١).

(٣) انظر همع الهوامع (٢ / ٤).

(٤) انظر الخصائص (٢ / ١٤٥).


البلاغة والتحقيق بالعلوم اللسانية والعقلية بحيث لا يدانيه أحد من أهل عصره» انتهى.

قلت : عبد الواحد هذا هو الكمال بن خطيب زملكا ، له شرح على المفصّل.

قال أبو حيان في (شرح التسهيل) : «زعم القاضي أبو بكر بن الطيّب يعني الباقلّاني أنّ كون (أن) تخلص إلى الاستقبال يؤدّي إلى القول بخلق القرآن ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، فإن كان (أن يقول) سيقع كان القرآن مخلوقا ، وهذا هو الكفر عند قوم أو الضلال والبدعة».

قال أبو حيان : «أجاز ابن مالك الفصل بين (كي) ومعمولها أبي الفضل الصّفّار ، قال : وخلاف القاضي أبي بكر في اللسان غير معتبر».

قال أبو حيان : «والرد على القاضي أبي بكر في شرح بمعموله أو بجملة شرطية ، ولا يبطل عملها ، نحو : «جئت كي فيك أرغب» و «جئت كي إن تحسن أزورك» ، قال : «وهذا مذهب لم يتقدّم إليه ، فإنّ في المسألة مذهبين :

أحدهما : منع الفصل مطلقا باقية على العمل أم لا ، وهو مذهب البصريين وهشام ومن وافقه من الكوفيين.

والثاني : جوازه ، ويبطل عملها ، بل يتعيّن الرفع ، وهو مذهب الكسائي» قال : «فما قاله ابن مالك من الجواز مع الإعمال مذهب ثالث لا قائل به».

قال أبو حيان (١) : «من أغرب المنقولات ما نقله بعض أصحابنا عن أبي البقاء من أنّ اللام في نحو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) [الأنفال : ٣٣] هي لام كي» ، قال : «وهذا نظير من سمّى اللام في «ما جئتك لتكرمني» لام الجحود ، بل قول هذا أشبه لأنّ اللام جاءت بعد جحد لغة ، وإن كان ليس الجحد المصطلح عليه في لام الجحود ، وأمّا أن تسمّى هذه لام (كي) فسهو من قائله».

قال أبو حيان : «لا نعلم خلافا في نصب الفعل جوابا للأمر إلّا ما نقل عن العلاء ابن سيابة ، قالوا ـ وهو معلم الفراء ـ : إنّه كان لا يجيز ذلك».

باب الجوازم

قال أبو حيان : «من غريب الخلاف في (لا) التي للنهي والدعاء ما ذهب إليه أبو القاسم السهيلي من أنّها (لا) التي للنفي ، قال : لأنّ الناهي يطلب نفي الفعل

__________________

(١) انظر همع الهوامع (٢ / ٨).


وتركه ، كما يطلب الآمر وجوده ، وقد تدخل لا النافية بين الجار والمجرور ، نحو : «جئت بلا زاد» ، وبين الناصب والمنصوب ، نحو : «أخشى أن لا تقوم» فكذلك دخلت بين الجازم والمجزوم ، وهو لام الأمر ، لكنّها أضمرت كراهة اجتماع لامين في اللفظ ، قالوا : ظلت ، يريدون : ظللت ، فكان الأصل إذا نهيت : للا تذهب ، كما تقول في الأمر : ليذهب فأضمرت اللام لما ذكر».

قال أبو حيان : «وهذا الذي قاله في غاية من الشذوذ ، لأنّ فيه ادّعاء إضمار لم يلفظ به قطّ ، ولأنّ فيه إضمار الجازم وهو لا يجوز إلّا في ضرورة ، ولا يصحّ تشبيهه بقولهم : بلا زاد وأخشى أن لا تقوم ، فإنّه هنا لفظ بالعامل ، وفي ذلك لم يلفظ بالعامل يوما قطّ ، فقلا يحفظ من لسانهم «للا تذهب» لا في نثر ولا في نظم ، فهذه كلها دعاوى لا برهان عليها ، وأيضا فقد سبق إجماع النحويين كوفيّهم وبصريّهم على أنّ «لا» تفيد معنى النهي عن الفعل وأنّ الجزم بها نفسها ، لا نلم أحدا خالف في ذلك قبل هذا الرجل ، وهذا الرجل كان شاذّ المنازع في النحو ، وإن كان غير مدفوع عن ذكاء وفطنة ومعرفة ، وإنّما سرى إليه ذلك من شيخه أبي الحسين بن الطّراوة ، فإنّه لم يأخذ علم النحو إلّا عنه ، وابن الطراوة كما علمه النحاة كثير الخلاف لما عليه النحويون ، وقد صنّف كتبا في الرّدّ على سيبويه وعلى الفارسيّ ، وعلى الزّجّاجيّ ، وردّ الناس عليه ورموه عن قوس واحدة.

مذهب المازني أنّ فعلي الشرط والجزاء مبنيان ، وعنه رواية أنّ فعل الشرط معرب وفعل الجزاء مبني ، قال أبو حيان : «وهو مخالف لجميع النحويين».

قال أبو حيان : «من غريب ما يحكى في (إذا) أنّ أبا عبيدة معمر بن المثنّى زعم أنّها تأتي زائدة ، فتكون حرفا على هذا ، وأنشد : [البسيط]

٣٦٨ ـ حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا

قال : زادها لعدم الجواب ، كأنّه قال : حتى سلكوهم ، وأنشد أيضا : [الكامل]

__________________

٣٦٨ ـ الشاهد لعبد مناف بن ربع الهذليّ في الأزهيّة (ص ٢٠٣) ، والإنصاف (٢ / ٤٦١) ، وجمهرة اللغة (ص ٤٨٥) ، وخزانة الأدب (٧ / ٣٩) ، والدرر (٣ / ١٠٤) ، وشرح أشعار الهذليين (٢ / ٦٧٥) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٤٣١) ، ولسان العرب (شرد) ، و (قتد) ، و (سلك) ، ومراتب النحويين (ص ٨٥) ، ولابن أحمد في ملحق ديوانه (ص ١٧٩) ، ولسان العرب (حمر) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب (ص ٤٣٤) ، والأشباه والنظائر (٥ / ٢٥) ، وأمالي المرتضى (١ / ٣) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٩٠) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ١٣٩) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٠٧).


٣٦٩ ـ فإذا وذلك لا مهاه لذكره

والدّهر يعقب صالحا بفساد

قال أبو حيان : «وقد يؤوّل البيت الأول على حذف الجواب ، والثاني : على حذف المبتدأ لدلالة المعطوف عليه ، كأنّه قال : فإذا ما نحن فيه وذلك».

قال الشيخ تاج الدين بن مكتوم في (تذكرته) : «أبو العباس محمد بن أحمد الحلواني عرف بابن السراج له وريقات في النحو تسمّى الشجرة ، ذكر فيها في الجوازم «مهمن» وذكر أنّ قولك : «قام القوم ما خلا زيدا» أنّ (ما) اسم ولا تكون صلته إلا الفعل هنا» انتهى. وقال قطرب : في جماهير الكلام ، وقال بعضهم : مهمن ولم يحمل عن فصيح.

باب (كم)

قال الشيخ تاج الدين بن مكتوم في (تذكرته) : «أجاز الزمخشري وصف (كم) الخبرية ، وجعل من ذلك قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) [مريم : ٧٤] ، قال : «هم أحسن أثاثا» في موضع النصب صفة ل (كم) ، ذكر ذلك في (الكشاف) (٢) ، وـ قد نصّ الشّلوبين في حواشي (المفصّل) وابن عصفور في (شرح الجمل الكبير) على أنّ (كم) الخبرية لا توصف ، وقلت لشيخنا الأستاذ أبي حيان : قولهما معارض بقول الكشاف ، فردّ ذلك عليّ وقال : أصحابنا يقولون : إنّ الزمخشري غير نحويّ ، ولا يلتفتون إليه ولا إلى خلافه في النحو ، يعني المواضع التي خالف فيها النحويين وانفرد بها ، وكتاب (المفصّل) عندهم محتقر لا يشتغل به ولا ينظر فيه إلّا على وجه النقص له والحطّ عليه ، وأنشدني لبعض الأندلسيين : [مجزوء الخفيف]

ما يقول الزّمخشريّ

عبد عمرو بن قنبر

والخليل بن أحمد

وفتى عبد الأكبر

لم يزدنا زيادة

غير تبديل الأسطر

وسوى اسمه الّذي

نصف مجموعه خري

باب جمع التكسير

قال أبو حيان : «ومن غريب ما وقع من فعلة معتل اللام وجمع على فعل ولم

__________________

٣٦٩ ـ الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه (ص ٣١) ، ولسان العرب (مهه) ، والمخصّص (١٦ / ١٧٨) ، وشرح اختيارات المفضّل (ص ٩٨٣) ، وبلا نسبة في أساس البلاغة (مهمه).

(١) انظر الكشاف (٢ / ٥٢١).


يذكره النحويون وإنّما وجدته أنا في أشعار العرب قولهم : شهوة وشهى ، قالت امرأة من بني نصر بن معاوية : [الطويل]

٣٧٠ ـ فلولا الشّهى والله كنت جديرة

بأن أترك اللّذّات في كلّ مشهد

وحقّ لعمري أنّه غاية الرّدى

وليس شهى لذّاتنا بمخلّد

باب التصغير

قال ابن مكتوم في (تذكرته) : «نقلت من خطّ أبي الحسين أحمد بن محمد ابن أحمد بن صدقة التنوخي المعروف بالخلب (٢) تلميذ ابن خالويه ممّا نقله عنه : قال ابن خالويه : أجمع النحويون على فتح اللام في تصغير (اللّتيّا) إلّا الأخفش ، فإنّه أجاز (اللّتيّا) بالضم».

باب النسب

قال أبو حيان : «لا أعلم خلافا في وجوب فتح العين في نحو : نمر ودئل وإبل عند النسب إلّا ما ذكره طاهر القزويني في مقدمة له من أنّ ذلك على جهة الجواز وأنّه يجوز فيه الوجهان» (٣).

قال أبو حيان : «ذهب الفراء وأبو عبد الرحمن اليزيدي ومحمد بن سعدان إلى أنّ كلّا بمنزلة سوف ، وهذا مذهب غريب».

انتهى بعون الله الفنّ السادس وهو التّبر الذائب في الأفراد والغرائب ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، ويتلوه الفن السابع من الأشباه والنظائر وهو فنّ المناظرات والمجالسات والمذاكرات والمراجعات والمحاورات والفتاوى والواقعات والمكاتبات والمراسلات للحافظ السيوطي تغمّده الله برحمته.

__________________

٣٧٠ ـ البيت الأول في تاج العروس (شهى).

(١) أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن صديقة التنوخي.

(٢) انظر همع الهوامع (٢ / ١٩٧).


بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي جلّ عن المعارضة والمناظرة ، والصّلاة والسّلام على نبيّه محمد المبعوث بالحجج الدّامغة القاهرة. هذا هو الفنّ السابع من الأشباه والنظائر وهو :

فنّ المناظرات والمجالسات والمذاكرات والمراجعات والمحاورات

والفتاوى والواقعات والمكاتبات والمراسلات.

مناظرة سيبويه والكسائي في المسألة الزّنبوريّة (١)

قال أبو القاسم الزّجّاجي في (أماليه) : أخبرنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش النحوي ، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، قال : حدثني سلمة قال : قال الفراء : قدم سيبويه على البرامكة ، فعزم يحيى على الجمع بينه وبين الكسائي فجعل لذلك يوما ، فلمّا حضر تقدّمت والأحمر فدخلنا ، فإذا بمثال في صدر المجلس فقعد عليه يحيى ومعه إلى جانب المثال جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم ، وحضر سيبويه ، فسأله الأحمر عن مسألة فأجابه فقال له : أخطأت ، ثم سأله عن ثانية فأجابه فقال له : أخطأت ، ثم سأله عن ثالثة فأجابه فقال له : أخطأت ، فقال له سيبويه : هذا سوء أدب ، قال الفراء : فأقبلت عليه فقلت : إنّ في هذا الرجل حدّة وعجلة ، ولكن ما تقول فيمن قال : هؤلاء أبون ومررت بأبين؟ كيف تقول على مثال ذلك من وأيت وأويت؟ فقدّر فأخطأ ، فقلت : أعد النظر ، فقدر فأخطأ ، فقلت : أعد النظر ، ثلاث مرات يجيب ولا يصيب ، فلمّا كثر ذلك قال : لست أكلّمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره ، فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال : تسألني أو أسألك؟ قال : بل تسألني أنت ، فأقبل عليه الكسائي فقال : كيف تقول : كنت أظنّ أنّ العقرب أشدّ لسعة من الزّنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إيّاها؟ فقال سيبويه : فإذا هو هي ، ولا يجوز النصب ، فقال له الكسائي : لحنت ، ثم سأله عن مسائل من هذا النحو : خرجت فإذا عبد الله القائم والقائم ، فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع دون النصب ، وقال له

__________________

(١) انظر أمالي الزجاجي (ص ٢٣٩) ، ومجالس العلماء (ص ٨) ، والإنصاف (ص ٧٠٢).


الكسائي : ليس هذا كلام العرب ، العرب ترفع ذلك كله وتنصبه ، فدفع سيبويه قوله : فقال يحيى بن خالد : قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي : هذه العرب ببابك ، قد اجتمعت من كل أوب ، ووفدت عليك من كل صقع ، وهم فصحاء الناس ، وقد فنع بهم المصرين ، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم ، فيحضرون ويسألون ، فقال يحيى وجعفر : قد أنصفت ، وأمر بإحضارهم ، فدخلوا وفيهم أبو فقعس وأبو زياد وأبو الجرّاح (١) وأبو ثروان (٢) ، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه فتابعوا الكسائي وقالوا بقوله ، فأقبل يحيى على سيبويه فقال : قد تسمع أيّها الرجل! فاستكان سيبويه ، وأقبل الكسائي على يحيى فقال : أصلح الله الوزير ، إنّه قد وفد إليك من بلده مؤقّلا ، فإذا رأيت أن لا تردّه خائبا ، فأمر له بعشرة آلاف درهم ، فخرج وصيّر وجهه إلى فارس وأقام هناك ولم يعد إلى البصرة.

قال السخاوي في (سفر السعادة) : «قال لي شيخنا أبو اليمن الكنديّ : إنّ سيبويه إنّما قال ذلك لأنّ المعاني لا تنصب المفاعيل الصريحة». قال السخاوي : «لم أسمع في هذه المسألة أحسن من قول الكندي ولا أبلغ».

مجلس الخليل مع سيبويه (٣)

ذكره أبو حيان في تذكرته ، وأظنه أخذه من كتاب (غرائب مجالس النحويين) الآتي ذكره ، قال : «سئل الخليل بن أحمد عن قول الله عزّ وجلّ : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) [مريم : ٦٩] ، فقال : هذا على الحكاية ، كأنّه قال : ثم لننزعنّ من كلّ شيعة الذي يقال له هو أشدّ عتيّا ، فقال سيبويه : هذا غلط ، وألزمه أن يجيز : لأضربنّ الفاسق الخبيث بالرفع على تقدير : لأضربنّ الذي يقال له هو الفاسق الخبيث ، وهذا لا يجيزه أحد.

وقال يونس بن حبيب : الفعل ملغى وأيّ مرفوع بالابتداء ، وأشدّ خبره كما يقال قد علمت أيّهم عندك.

قال سيبويه : وهذا أيضا غلط ، لأنه لا يجوز أن يلغى إلّا أفعال الشك واليقين ، نحو : ظننت وعلمت وبابهما.

__________________

(١) انظر الفهرست لابن النديم (ص ٧٦).

(٢) أبو ثروان : أحد الأعراب الذين أخذت عنهم اللغة.

(٣) انظر مجالس العلماء (ص ٣٠١).


وقال الفراء (١) : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) أي : لننزعنّ بالنداء ، فننادي أيّهم أشدّ على الرّحمن عتيّا ، وله فيه قول آخر وهو أنّه قال : يجوز أن يكون الفعل واقعا على موضع من كما تقول : أصبت من كلّ طعام ونلت من كلّ خير ، ثم تقدر : ننظر أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا ، وله فيه قول ثالث ، قال : يجوز أن يكون معناه : ثم لننزعنّ من الذين تشايعوا ينظرون بالتشايع أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا ، فتكون أيّ في صلة التشايع.

قال : وأجود هذه الأقاويل قول سيبويه والقول الآخر من أقوال الفراء ، ففي الآية ستة أقوال ، ثلاثة للبصريين وثلاثة للكوفيين.

قال سيبويه : أيّهم هاهنا بتأويل (الذي) ، وهو في موضع نصب بوقوع الفعل عليه ، ولكنه بني على الضم ، لأنه وصل بغير ما وصل به الذي وأخواته ، لأنه وصل باسم واحد ، ولو وصل بجملة لأعرب ، فأشدّ خبر ابتداء مضمر تقديره : هو أشد وعتيّا منصوب على التمييز ، ولو أظهر المبتدأ لنصب أيّ ، فقيل : لننزعنّ من كلّ شيعة أيّهم هو أشدّ.

مجلس أبي إسحاق الزّجّاج مع جماعته (٢)

تصغير المهوأنّ : ذكره أبو حيان في (تذكرته) ، وهو في (كتاب المجالس) المشار إليه ، وأظنه تأليف تلميذه أبي القاسم الزّجّاجي ، فإنّه قال فيه : قال لنا أبو إسحاق يوما في مجلسه : كيف تصغّرون المهوأنّ في قول رؤبة : [الرجز]

٣٧١ ـ قد طرقت سلمى بليل هاجعا

يطوي إليها مهوأنّا واسعا

فأرقت بالحلم ولعا والعا

قال : المهوأنّ : الواسع من الأرض البعيد ، والولع : الكذب ، فخضنا في تصغيره فلم يرض ما جئنا به ، فقال : الوجه أن يقال : مهيّن ، وقياس ذلك أنّ الاسم على ستة أحرف ، وكلّ اسم جاوز أربعة أحرف ليس رابعه حرف مدّ ولين فقياسه أن يردّ إلى أربعة أحرف في التصغير ، كما قالوا في سفرجل : سفرج وفي فرزدق : فريزد ، وكذلك ما أشبهه ، فوقعت ياء التصغير في مهوأنّ ثالثة ساكنة وبعدها واو فوجب قلب الواو يأء وإدغام الأولى فيها ، فصارت بعد الهاء ياء شديدة وبعدها ثلاثة أحرف همزة

__________________

(١) انظر معاني القرآن للفراء (١ / ٤٧).

(٢) انظر مجالس العلماء (ص ٢٩٦).

٣٧١ ـ الرجز لرؤبة في ديوانه (ص ٩٦).


ونونان ، فلو حذفت النون بطّل معنى الاسم واختلّ ، فحذفت الهمزة وإحدى النونين ، فقلت : مهيّن كما ترى ، وإن شئت مهيون ، فأظهرت الواو لأنها متحركة في الاسم قبل التصغير ، وتقول في جمعه مهاون ، قال : والقياس عندي فيه أن يقال : هويّن كما قيل في تصغير مقشعرّ : قشيعر ، وفي مطمئنّ : طميئن. هذا هو القياس.

مناظرة بين الكسائي واليزيدي (١)

النسب إلى البحرين وإلى الحصنين

قال غازي بن محمد بن علي بن أحمد بن الحسن الأسدي الواسطي (٢) في كتابه (برق الشهاب) ما نصّه : نقلت من خط عبيد الله بن العباس بن الفرات ما نسخته : أخبرني عمي أبو الحسن محمد بن العباس بن الفرات قال : أخبرني أبو العباس بن أحمد بن الفرات قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال : سمعت أبا القاسم عبيد الله بن محمد بن أبي محمد اليزيدي عمي يحدّث عن أحمد بن محمد بن أبي محمد أخيه عمي قال : حدثني أبو محمد بن أبي محمد قال : كنّا مع المهديّ قبل أن يستخلف بأربعة أشهر ، وكان الكسائي معنا ، فذكره المهدي العربية وعنده شيبة بن الوليد العبسي ، فقال المهدي : يبعث إلى اليزيدي والكسائي ، وأنا يومئذ مع يزيد بن المنصور خال المهدي ، والكسائي مع الحسن الحاجب ، فجاءنا الرسول فجئت أنا وإذا الكسائي على الباب قد سبقني ، فقال لي : يا أبا محمد أعوذ بالله من شرّك ، قال : فقلت له : والله لا تؤتى من قبلي حتى أوتى من قبلك ، قال : فلمّا دخلت عليه أقبل عليّ فقال : كيف نسبوا إلى البحرين فقالوا : بحرانيّ ونسبوا إلى الحصنين (٣) فقالوا : حصني ولم يقولوا : حصنانيّ كما قالوا : بحرانيّ؟ قال : قلت : أصلح الله الأمير ، إنّهم لو نسبوا إلى البحرين فقالوا : بحريّ لم يعرف إلى البحرين نسبوه أم إلى البحر؟ ولمّا جاؤوا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر ينسب إليه غير الحصنين فقالوا : حصنيّ.

قال أبو محمد : فسمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع : لو سألني الأمير لأخبرته فيها بعلّة هي أحسن من هذه ، فقال أبو محمد : فقلت : أصلح الله الأمير ، إنّ هذا يزعم أنّك لو سألته لأجاب أحسن ممّا أجبت به ، قال : فقد سألته ، فقال الكسائي : إنّهم لمّا نسبوا إلى الحصنين كانت فيه نونان فقالوا : حصنيّ اجتزاء

__________________

(١) انظر أمالي الزجاجي (ص ٥٩) ، ومجالس العلماء (ص ٢٨٨).

(٢) الحصنان : موضع بعينه. (معجم البلدان ٢ / ٢٦٣).


بإحدى النونين من الأخرى ، ولم يكن في البحرين إلّا نون واحدة فقالوا : بحرانيّ ، فقلت : أصلح الله الأمير ، كيف ينسب رجلا من بني جنّان؟ يلزمه أن يقول : جنّيّ لأنّ في جنّان نونين ، فإن قال ذاك فقد سوّى بينه وبين المنسوب إلى الجنّ ، قال : فقال المهدي : فتناظرا ، فتناظرنا في مسائل حفظ قولي وقوله إلى أن قلت له : كيف تقول : «إنّ من خير القوم وأفضلهم أو خيرهم بتّة زيد»؟ قال : فأطال الفكر لا يجيب بشيء ، قلت : أعزّ الله الأمير ، لأن يجيب فيخطئ فيتعلم أحسن من هذه الإطالة ، قال : فقال : «إنّ من خير القوم وأفضلهم أو خيرهم بتّة زيدا» ، قال : فقلت : أصلح الله الأمير ، ما رضي أن يلحن حتى لحن وأحال ، قال : فقال : كيف؟ قال : قلت : لرفعه قبل أن يأتي لإنّ باسم ونصبه بعد رفعه ، قال : فقال شيبة بن الوليد : أراد بأو ، بل فرفع ، قال : فقلت : هذا معنى ، قال : فقال الكسائي : ما أردت غير ذلك ، قال : فقلت : فقد أخطأا جميعا أيّها الأمير ، لو أراد بأو بل لرفع زيدا لأنه لا يكون : بل خيرهم زيدا.

قال : فقال له المهدي : يا كسائي لقد دخلت عليّ مع مسلمة (١) النحوي وغيره فما رأيت كما أصابك اليوم ، قال : ثم قال : هذان عالمان ، ولا يقضي بينهما إلّا أعرابيّ فصيح تلقى عليه المسائل التي اختلفا فيها فيجيب ، قال : فبعث إلى فصيح من فصحاء الأعراب ، قال أبو محمد : فإلى أن يأتي الأعرابي أطرقت ، وكان المهدي محبّا لأخواله ومنصور بن يزيد حاضر ، فقلت أصلح الله الأمير ، كيف ينشد هذا البيت الذي جاء في هذه القصيدة : [المنسرح]

يا أيّها السّائلي لأخبره

عمّن بصنعاء من ذوي الحسب

حمير ساداتها تقرّ لها

بالفضل طرّا جحاجح العرب

فإنّ من خيرهم وأكرمهم

أو خيرهم بتّة أبو كرب

فقال المهدي : كيف تنشد أنت؟ قال : فقلت : أو خيرهم بتّة أبو كرب على معنى إعادة (إنّ) ، قال : فقال الكسائي : هو قالها الساعة ، أصلح الله الأمير ، قال : فتبسم المهدي وقال : إنك لتجيد له وما تدري ، قال : ثم اطّلع الأعرابي الذي بعث إليه ، فألقيت عليه المسائل وكانت ست مسائل فأجاب فيها بقولي ، فاستفزعني السرور حتى ضربت بقلنسوتي الأرض وقلت : أنا أبو محمد ، قال : فقال شيبة بن الوليد : يتكنّى باسمك أيّها الأمير! فقال المهدي : والله ما أراد بذلك مكروها ،

__________________

(١) مسلمة بن عبد بن سعد بن محارب الفهري النحوي : من أئمة النحو المتقدّمين ، أخذ النحو عن خاله عبد الله بن أبي إسحاق ، ثم صار مؤدّبا لجعفر بن أبي جعفر المنصور (انظر بغية الوعاة ٢ / ٢٨٧).


ولكنّه فعل ما فعل بالظفر ، ولقد لعمري ظفر ، قال : فقلت : إنّ الله أنطقك أيها الأمير بما أنت أهله وأنطق غيرك بما هو أهله ، قال : فلمّا خرجنا قال لي شيبة : تخطّئني بين يدي الأمير! أما لتعلمنّ ، قال : فقلت : قد سمعت ما قلت وأرجو أن تجد غبّها ، قال : ثم لم أصبح حتى كتبت رقاعا عدّة ، فلم أدع ديوانا إلّا دسّيت إليه رقعة فيها أبيات قلتها فيه ، وأصبح الناس ينشدونها وهي (١) : [الخفيف]

عش بجدّ ولا يضرّك نوك

إنّما عيش من ترى بالجدود

عش بجدّ وكن هبنّقة القي

سيّ نوكا أو شيبة بن الوليد

شبت يا شيب يا جديّ بني القع

قاع ما أنت بالحليم الرّشيد

لا ولا فيك خلّة من خلال ال

خير أحرزتها بحزم وجود

غير ما أنّك المجيد لتقطي

ع غناء وضرب دفّ وعود

فعلى ذا وذاك يحتمل الدّه

ر مجيدا له وغير مجيد

أخرج هذه القصة أبو القاسم الزجاجي في (أماليه) من طريق أبي عبد الله اليزيدي عن عمه الفضل بن محمد عن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي ، فذكر القصة ، وفيها : فقال المهدي : قد اختلفتما وأنتما عالمان ، فمن ذا يفصل بينكما؟ قلت : فصحاء العرب المطبوعون.

قال الزجاجي : المسألة مبنيّة على الفساد للمغالطة ، فأمّا جواب الكسائي فغير مرضيّ عند أحد ، وجواب اليزيدي غير جائز أيضا عندنا ، لأنّه أضمر (إنّ) وأعملها ، وليس من قوّتها أن تضمر فتعمل ، فأمّا تكريرها فجائز قد جاء في القرآن والفصيح من الكلام ، والصواب عندنا في المسألة أن يقال : إنّ من خير القوم وأفضلهم أو خيرهم البتّة زيد ، فتضمر اسم (إنّ) فيها وتستأنف ما بعدها ، وذكر سيبويه أنّ (البتّة) مصدر لا تستعمله العرب إلّا بالألف واللام ، وأنّ حذفهما خطأ. انتهى.

مجلس بين ثعلب والمبرد (٢)

قال أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين : قال أبو عمر الزاهد : قال لي ثعلب : دخلت يوما على محمد بن عبد الله بن طاهر ، وعنده أبو العباس محمد بن يزيد وجماعة من أسنانه وكتّابه ، فلمّا قعدت قال لي محمد بن عبد الله : ما تقول في بيت امرئ القيس : [المتقارب]

__________________

(١) البيتان الأول والثاني في عيون الأخبار (١ / ٢٤٢).

(٢) انظر مجالس العلماء (ص ١٠٩) ، وشواهد الشافية (ص ١٥٩) ، وإنباه الرواة (١ / ١٤٥).


٣٧٢ ـ له متنتان خظاتا كما

أكبّ على ساعديه النّمر

قال : فقلت : الغريب أنّ يقال : خظا بظا إذا كان صلبا مكتنزا ، ووصف فرسا ، وقوله : «كما أكبّ على ساعديه النّمر» أي : في صلابة ساعدي النّمر إذا اعتمد على يديه ، والمتن : الطريقة الممتدة عن يمين الصّلب وعن شماله ، وما فيه من العربية أنّه خظتا ، فلمّا أن تحركت التاء أعاد الألف من أجل الحركة والفتحة ، قال : فأقبل بوجهه على محمد بن يزيد فقال له : أعز الله الأمير ، إنّما أراد في خظاتا الإضافة ، أضاف خظاتا إلى «كما» ، فقلت له : ما قال هذا أحد ، فقال محمد بن يزيد : بل سيبويه يقوله فقلت لمحمد بن عبد الله : لا والله ، ما قال هذا سيبويه قطّ ، وهذا كتابه فليحضر ، ثم قلت : وما حاجتنا إلى كتاب سيبويه؟ أيقال : «مررت بالزّيدين ظريفي عمرو» فيضاف نعت الشيء إلى غيره؟ فقال محمد بن عبد الله بصحة طبعه : لا والله ما يقال هذا ، ونظر إلى محمد بن يزيد ، فأمسك ولم يقل شيئا ، وقمت وتقضّى المجلس.

قال الزبيدي : القول ما قال المبرّد ، وإنّما سكت لما رأى من بله القوم وقلّة معرفتهم ، وقوله : «مررت بالزّيدين ظريفي عمرو» جائز جدّا ، انتهى.

مناظرة بين أبي حاتم والتّوّزيّ (٢)

هل الفردوس مذكر أم مؤنث

قال الزجاجي في (أماليه) : أخبرنا أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة عن أبي حاتم ، قال : كنت عند الأخفش سعيد بن مسعدة وعند التّوّزيّ ، فقال لي التّوّزيّ : ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث يا أبا حاتم؟ قلت : قد جمعت منه شيئا قال : فما تقول في الفردوس؟ قلت : هو مذكر ، قال : فإنّ الله تعالى قال : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١١] ، قلت : ذهب إلى معنى الجنّة فأنّثه كما قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] فأنّث ، والمثل مذكر لأنه ذهب إلى معنى الحسنات وكما قال عمر بن أبي ربيعة (٣) : [الطويل]

__________________

٣٧٢ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٦٤) ، وإنباه الرواة (١ / ١٨٠) ، وخزانة الأدب (٧ / ٥٠٠) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٤٨٤) ، وشرح اختيارات المفضّل (٢ / ٩٢٣) ، وشرح شواهد الشافية (ص ١٥٦) ، ولسان العرب (حتن) و (خظا) ، وبلا نسبة في رصف المباني (ص ٣٤٢) ، وشرح شافية ابن الحاجب (٢ / ٢٣٠) ، ومغني اللبيب (١ / ١٩٧) ، والمقرّب (٢ / ١٨٧) ، والممتع في التصريف (٢ / ٥٢٦).

(١) انظر أمالي الزجاجي (ص ١١٧) ، ومجالس العلماء (ص ٥٠).

(٢) مرّ الشاهد رقم (١٣١).


فكان مجنّي دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

فأنّث ، والشخص مذكر ، لأنّه ذهب إلى معنى النساء ، وأبان ذلك بقوله : كاعبان ومعصر ، وكما قال الآخر (١) : [الطويل]

وإنّ كلابا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر

فأنّث ، والبطن مذكر لأنّه ذهب إلى القبيلة ، فقال لي : يا غافل ، الناس يقولون : نسألك الفردوس الأعلى ، قلت : يا نائم ، هذه حجّتي لأنّ الأعلى من صفات الذّكران لأنه أفعل ، ولو كان مؤنثا لقال العليا ، كما قال : الأكبر والكبرى والأصغر والصّغرى ، فسكت خجلا.

مناظرة بين ابن الأعرابي والأصمعي (٢)

قد يحمل جمع المؤنث على المذكر والعكس

قال الزجاجي أيضا : قال الأخفش : أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال : دخلت على سعيد بن سلم وعنده الأصمعي ينشده قصيدة للعجاج حتى انتهى إلى قوله : [الرجز]

٣٧٣ ـ فإن تبدّلت بآدي آدا

لم يك ينآد فأمس انآدا

فقد أراني أصل القعّادا

فقال له : ما معنى القعّاد؟ فقال : النساء ، قلت : هذا خطأ ، إنّما يقال : في جمع النساء : قواعد ، قال الله عزّ وجلّ : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) [النور : ٦٠] ، ويقال في جمع الرجال : القعّاد ، كما يقال : راكب وركّاب وضارب وضرّاب ، فانقطع ، قال : وكان سبيله أن يحتجّ عليّ فيقول : قد يحمل بعض الجمع على بعض ، فيحمل جمع المؤنث على المذكر وجمع المذكر على المؤنث عند الحاجة إلى ذلك ، كما قالوا في المذكر : هالك في الهوالك وفارس في الفوارس ، فجمع كما يجمع المؤنث ، وكما قال القطاميّ في المؤنث : [البسيط]

٣٧٤ ـ أبصارهنّ إلى الشّبّان مائلة

وقد أراهنّ عنّي غير صدّاد

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٣٢).

(٢) انظر مجالس العلماء (ص ٢٧٤) ، وأمالي الزجاجي (ص ٥٨).

٣٧٣ ـ الرجز للعجاج في ملحق ديوانه (٢ / ٢٨٢) ، ولسان العرب (أود) ، و (أيد) ، وتاج العروس (أيد) ، وديوان الأدب (٤ / ٢٣٧) ، والمخصص (١٥ / ٨١).

٣٧٤ ـ الشاهد للقطامي في ديوانه (ص ٧٩) ، وأمالي الزجاجي (ص ٥٩) ، وشرح التصريح (٢ / ٣٠٨) ، ولسان العرب (صدد) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٢١) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٤ / ٣١٤) ، وشرح الأشموني (٣ / ٦٨٤) ، وشرح ابن عقيل (ص ٦٤٠).


مجلس أبي عمرو بن العلاء مع عيسى بن عمر (١)

الكلام في قولهم : ليس الطّيب إلا المسك

قال الزجاجي في (أماليه) : أخبرنا أبو عبد الله اليزيدي يرفعه إلى عمّه عن جدّه أبي محمد اليزيدي ، واسمه يحيى بن المبارك ، قال : كنا في مجلس أبي عمرو ابن العلاء ، فجاءه عيسى بن عمر الثقفي فقال : يا أبا عمرو وما شيء بلغني عنك أنّك تجيزه؟ قال : وما هو؟ قال : بلغني أنّك تجيز : ليس الطّيب إلّا المسك ، بالرفع ، فقال له أبو عمرو : هيهات نمت وأدلج الناس ، ثم قال لي أبو عمرو : تعالى أنت يا يحيى وقال لخلف الأحمر : تعال أنت يا خلف ، امضيا إلى أبي مهديّة فلقّناه الرفع فإنّه يأبى ، وامضيا إلى المنتجع بن نبهان التميمي فلقّناه النصب فإنّه يأبى ، قال أبو محمد : فمضينا إلى أبي مهديّة فوجدناه قائما يصلّي ، فلمّا قضى صلاته أقبل علينا فقال : ما خطبكما؟ فقلت له : جئناك لنسألك عن شيء من كلام العرب ، قال : هاتياه ، فقلنا : كيف تقول : «ليس الطّيب إلّا المسك؟» فقال : أتأمراني بالكذب على كبر سنّي؟ فأين الزّعفران وأين الجاديّ وأين بنّة الإبل الصّادرة؟ فقال له خلف الأحمر : «ليس الشراب إلّا العسل» ، قال : فما تصنع سودان هجر (٢)؟ ما لهم غير هذا التمر ، فلمّا رأيت ذلك قلت له : كيف تقول : «ليس ملاك الأمر إلّا طاعة الله والعمل بها؟ فقال : هذا كلام لا دخل فيه ، ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها ، ونصب ، فلقّناه الرفع فأبى فكتبنا ما سمعنا منه ، ثم جئنا إلى المنتجع فقلنا له : كيف تقول : «ليس الطّيب إلّا المسك» ونصبنا؟ فقال : «ليس الطّيب إلّا المسك» ورفع ، وجهدنا به أن ينصب فلم ينصب ، فرجعنا إلى أبي عمرو وعنده عيسى بن عمر لم يبرح بعد ، فأخبرناه بما سمعنا ، فأخرج عيسى خاتمه من يده فدفعه إلى أبي عمرو وقال : بهذا سدت الناس يا أبا عمرو.

مجلس أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج مع رجل غريب (٣)

مسائل نحوية متفرّقة

قال الزجاجي في (أماليه) : حضرت أبا إسحاق الزجاج يوم الجمعة في مجلسه بالجامع الغربي بمدينة السّلام بعد الصلاة وقد دسّ إليه أبو موسى الحامض رجلا

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (١) ، وأمالي الزجاجي (ص ٢٤١) ،

(٢) هجر : اسم لعدة مواضع منها مدينة وهي قاعدة البحرين. (معجم البلدان ٥ / ٣٩٣).

(٣) انظر أمالي الزجاجي (ص ٢٤٣) ، ومجالس العلماء (ص ٣٠٧).


غريبا بمسائل منها : كيف يجمع هبيّ وهبيّة جمع التكسير؟ فقال أبو إسحاق : أقول : هبايّ كما ترى ، فأدغم ، وأصل الياء الأولى عندي السكون ، ولو لا ذلك لأظهرتها ، فقال له الرجل : فلم لا تصرفه إذا كان أصله عندك السكون كما تصرف حمارا؟ فقال : لأنّ حمارا غير مكسّر ، وإنّما هو واحد ، فلذلك صرفته ولم أصرف هبايّ لأنه مكسّر ، قال : وما أنكرت من أن يكونوا أعلّوا العين في هذا الباب وصححوا اللام ، فشبهوا الياء هاهنا التي هي لام بعين المعتل ، ثم أعلوا العين مثل : راية وغاية؟ فقال : هذا مذهب وهو عندي جائز ، ثم قال له أبو إسحاق : أراك تسأل سؤال فهم ، فكيف تصغر هبيّ؟ فقال : أنا مستفهم ، والجواب منك أحسن ، فقال أبو إسحاق : يقال في تصغير : هبييّ ، فتصحح الياء الثانية في الأصل ، وتدغم فيها الياء الأولى التي هي لام الفعل ، وتأتي بياء التصغير ساكنة ، فلا يلزم حذف شيء ، والهبيّ والهبيّة الصّبيّ والصّبيّة ، ثم قال له الرجل : كيف تبني من «قضيت» مثل : جحمرش؟ وهي العجوز ، قال أبو إسحاق : أمّا على مذهب المازني فيقال فيه : قضييّ ، لأنّ اللام الأولى بمنزلة غير المعتل لسكون ما قبلها ، فأشبهت ياء ظبي ، فكأن ليس في الكلام إلّا ياءان ، فصححت الأولى من الأخريين وأعللت الأخيرة ، هذا مذهب أبي عثمان ، والأخفش يقول فيها : قضيا ، قال : أحذف الأخيرة وأقلب الوسطى ألفا لانفتاح ما قبلها ، فقال له الرجل : فكيف تقول منها من «قرأت»؟ فقال أبو إسحاق : يقال : قرأاء ، مثل قرعاع ، وأصله : قرأئيّ وزنه : قرعيع ، فاجتمعت ثلاث همزات ، فقلبت الوسطى منهنّ ياء لاجتماع الهمزات ، ثم قلبتها ألفا لانفتاح ما قبلها ، فقال له : فما وزن كينونة عندك؟ قال : فيعلولة ، وأصلها : كيونونة ، ثم قلبت الواو ياء لسبق الياء لها ساكنة ، وأدغمت الأولى في الثانية فصار كيّنونة ، ثم خفّفت فقيل : كينونة كما قيل في ميّت وهيّن وطيّب : ميت وهين وطيب ، قال : ما الدليل على هذه الدعوى والفراء يزعم أنّها فعلولة (١)؟ قال : الدليل على ذلك ثبات الياء ، لأنّه لو كان أصلا لزمه الاعتلال ، لأنّه لا محالة من الكون ، فكان يجب أن يقال : كونونة ، إن كان أصلها فعلولة بإسكان العين ، وإن كان أصلها فعلولة بتحريك العين فواجب أن يقال : كانونة ، فقال له الرجل : فما تقول في امرأة سمّيت : أرؤس ثم خففت الهمزة كيف تصغّرها؟ فقال : أريس ، ولا أزيد الهاء ، فقال له : ولم وقد صار على ثلاثة أحرف؟ ألست تقول في تصغير هند : هنيدة ، وعين : عيينة؟ فقال الزجاج : هذا مخالف لذلك ، فإنّي ولو خفّفت الهمزة فإنها مقدّرة في الأصل والتخفيف بعد التحقيق ، قال : فلم لا تلحقه بتصغير سماء إذا قلت : سميّة؟ أليس الأصل مقدرا؟ فقال : هذا لا يشبه تصغير

__________________

(١) انظر الإنصاف (ص ٧٩٩).


سماء ، لأنّ التخفيف في أرؤس عارض والتحقيق فيه جائز ، وأنت في تحقير سماء تكره الجمع بين ثلاث ياءات ، وأنت لا تكره التحقيق في أرؤس ، فلو حققته صار على أربعة أحرف وهو الأصل وسماء الحذف لها لازم ، فصار كأنه على ثلاثة أحرف فلحقتها الهاء في التصغير.

قال أبو القاسم الزجاجي : ونظير كينونة في الوزن القيدودة ، وهي الطّول ، والهيعوعة وهي مصدر هاع الرجل إذا جبن هيعوعة ، والطّيرورة من الطّيران ، كل هذا أصله عند البصريين : فيعلولة ، ثم لحقته ما ذكرت لك ، وكان في المجلس المشوق (١) ، فأخذ بياضا وكتب من وقته : [السريع]

صبرا أبا إسحاق عن قدرة

فذو النّهى يمتثل الصّبرا

واعجب من الدّهر وأوغاده

فإنّهم قد فضحوا الدّهرا

لا ذنب للدّهر ولكنّهم

يستحسنون الغدر والمكرا

نبّئت بالجامع كلبا لهم

ينبح منك الشّمس والبدرا

والعلم والحلم ومحض الحجا

وشامخ الأطواد والبحرا

والدّيمة الوطفاء في سحّها

إذا الرّبى أضحت بها خضرا

فتلك أوصافك بين الورى

يأبين والتّيه لك الكبرا

فظنّ جهلا والّذي دسّه

أن يلمسوا العيّوق والغفرا

فأرسلوا النّزر إلى غامر

وغمره يستوعب النّزرا

فاله أبا إسحاق عن خامل

ولا تضق منك به صدرا

وعن خشار عرر في الورى

خطيبهم من فمه يخرا

قال أبو إسحاق بعقب هذا المجلس : سألني محمد بن يزيد المبرد يوما فقال : كيف تقول في تصغير أمويّ؟ فقلت له : أقول : أميّيّ (٢) ، فقال لي : لم طرحت ياء التصغير من أمويّ وأثبتها في هذا؟ فقلت : تلك لغيره ، تلك للجنس وهذا له في نفسه فلا يطرح ما كان له في نفسه حملا على ما كان للجنس ، فقال : أجدت يا أبا إسحاق.

مجلس ابن دريد مع رجل (٣)

شرح أبيات من الشعر : قال الزجاجي في (أماليه) : أخبرني بعض أصحابنا قال :

__________________

(١) هو العباس المشوق.

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٣٧٧).

(٣) انظر أمالي الزجاجي (ص ٢٤٧).


حضرت مجلس أبي بكر بن دريد وقد سأله بعض الناس عن معنى قول الشاعر : [الوافر]

هجرتك لا قلى منّي ولكن

رأيت بقاء ودّك في الصّدود

كهجر الحائمات الورد لمّا

رأت أنّ المنيّة في الورود

تفيض نفوسها ظمأ وتخشى

حماما فهي تنظر من بعيد

قال : الحائم : الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه ، يقال : حام يحوم حياما ، ومعنى الشعر أنّ الأيائل تأكل الأفاعي في الصيف فتحمى وتلهب لحرارتها فتطلب الماء ، فإذا وقعت عليه امتنعت من شربه وحامت حوله تتنسّمه لأنّها إن شربته في تلك الحال وصادف الماء السّمّ الذي في أجوافها تلفت ، فلا تزال تدفع شرب الماء حتى يطول بها الزمان ، فيسكن فوران السّمّ ، ثم تشربه فلا يضرّها ، فيقول هذا الشاعر : فأنا في تركي وصالك مع شدة حاجتي إليك إبقاء على ودّك بمنزلة هذه الحائمات التي تدع شرب الماء مع شدّة حاجتها إليه إبقاء على حياتها.

مجلس بكر بن حبيب السّهميّ مع شبيب بن شيبة (١)

مسائل لغويّة

قال الزجاجيّ في (أماليه) أخبرنا أبو بكر بن شقير قال : أخبرني محمد بن القاسم بن خلّاد عن عبد الله بن بكر بن حبيب السّهميّ عن أبيه (٢) قال : دخلت على عيسى بن جعفر بن المنصور وهو أمير البصرة أعزّيه عن طفل له مات ، فبينا أنا عنده دخل عليه شبيب بن شيبة المنقريّ ، فقال : أبشر أيّها الأمير ، فإنّ الطّفل لا يزال محبنطئا بباب الجنة ، يقول : لا أدخل حتى يدخل والداي ، فقلت : أبا المعمّر دع عنك الطاء والزم الظاء ، قال : أو لي تقول هذا وما بين لا بتيها أفصح منّي؟ فقلت له : هذا خطأ ثان ، ومن أين للبصرة لابة؟ إنّا البصرة : الحجارة البيض الرّخوة ، والّلابة : الحجارة السّود (٣). ويقال : لابة ولاب ، ولوبة ولوب ، ونوبة ونوب لمعنى واحد ، فكان كلّما انتعش انتكس.

وقال أبو بكر الزبيدي في (طبقاته) (٤) : حدّثنا محمد بن موسى بن حماد

__________________

(١) انظر أمالي الزجاجي (ص ٢٤٨) ، والمزهر (٢ / ٣٥٤).

(٢) بكر بن حبيب السهميّ : والد المحدّث عبد الله بن بكر ، أخذ عن أبي إسحاق. ترجمته في بغية الوعاة (١ / ٤٦٢).

(٣) الخبر في بغية الوعاة (١ / ٤٦٢).

(٤) انظر طبقات الزبيدي (ص ١٣٥).


حدّثني سلمان بن أبي شيخ الخزاعي حدّثنا أبو سفيان الحميريّ قال : قال أبو عبيد الله كاتب المهدي : قرى عربيّة فنوّن ، فقال شبيب بن شيبة : إنما هي قرى عربيّة غير منوّنة ، فقال أبو عبيد الله لقتيبة النحوي الجغفيّ الكوفيّ ما تقول؟ قال : إن كنت أردت القرى التي بالحجاز يقال لها : قرى عربيّة فإنها لا تنصرف ، وإن كنت أردت قرى من قرى السواد فهي تنصرف ، فقال : إنما أردت التي بالحجاز فقال : هو كما قال شبيب.

مجالس ذكرها صاحب الكتاب المسمّى

«غرائب مجالس النحويين الزائدة على تصنيف المصنفين»

ولم أقف على اسم مصنفه ، وأظنه لأبي القاسم الزجاجي.

مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى مع محمد بن أحمد بن كيسان (١)

حدثني غير واحد أنّ ابن كيسان سأل أبا العباس عن قوله عزّ وجلّ : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٤١] ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠] فقال أبو العباس : بدؤوا بجمع وباثنين ، ثم أشركوا بينه وبين واحد من بعده ، فإنّهم يدعون الجمع الأول ولا يلتفتون إليه ، وذلك أنّ الواحد يلي الفعل ، فيجعلون لفظ فعل شريكه لفظ فعل الواحد ، فيجعلون تقدير لفظ عدد الفعل على تقدير عدد الفردين المشترك بينهما احتياجا وغير احتياج ، كقوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ،) وقوله : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ،) وقال رؤبة : [الرجز]

٣٧٥ ـ فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٢٧٦).

٣٧٥ ـ الرجز لرؤبة في ديوانه (ص ١٠٤) ، وأساس البلاغة (ولع) ، وتخليص الشواهد (ص ٥٣) ، وخزانة الأدب (١ / ٨٨) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٦٤) ، ولسان العرب (ولع) ، و (بهق) ، والمحتسب (٢ / ١٥٤) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦٧٨) ، وتهذيب اللغة (٥ / ٤٠٧) ، وتاج العروس (ولع) و (تأق) و (بهق) ، وكتاب العين (٣ / ٣٧١) ، ومقاييس اللغة (١ / ٣١٠) ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني (٢ / ٩٥٥) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٧٦) ، وكتاب العين (٢ / ٢٥٠) ، ومقاييس اللغة (٦ / ١٤٤) ، والمخصص (٥ / ٨٩).


فقلت له : ألا تقول : كأنّها فتحمله على الخطوط أو كأنّهما فتحمله على السواد والبلق؟ فغضب وقال : كأنّ ذاك بها توليع البهق ، فذهب إلى المعنى والموضع ، فلذلك ذهبوا بذلك إلى السماء ، فأمّا قوله : كأنه فإنّه السواد ، والبلق هو التوليع ، فكأنه قال : كأن هذا التوليع توليع البهق ، وأمّا السّماء والأرض فالعرب تكتفي بالواحد من الجميع ، فإن شئت رددته على المعنى وإن شئت على اللفظ.

وأما قوله : كأنّ ذاك فإنّ ذاك لا يكنى به إلّا عن جملة ، وكان هشام وأصحاب الكسائي إذا اتفق الفعل والاسم كنيا بذاك ، وإذا لم يتفق الاسم والفعل لم يفعلوا ، فيقولون : ظننت ذاك ، ولا يقولون : كأن ذاك ، ولا إنّ ذاك ، والفراء يجيزه كله ، لأنه كناية عن الاسم والفعل ، فيقولون : إنّ ذاك وكأنّ ذاك ، وقال : مثل ذلك قوله : [الكامل]

٣٧٦ ـ لو أنّ عصم عمايتين ويذبل

سمعا حديثك أنزلا الأوعالا

فشرّك بين الأعصم وعمايتين ويذبل ، ومثل ذلك ممّا أشركوا الاثنين بواحد وجعلوا لفظ عدد تقدير الفعل على تقدير لفظ فعل الفردين المشرّك بينهما قوله في قول من يجعل اللفظ للمضاف إليه : لو أنّ عسم عمايتين ويذبل ، وعمايتان اثنان ويذبل الثالث ، فجعل تقدير لفظ فعلهم المشرك بينهما ، أمّا هذا فإنّ عمايتين موضع ويذبل موضع ، فخبّر عنهما كأنّه قال : فإنّ عصم هذين الموضعين لو سمعا حديثك أنزلا الأوعال منهما ، وقوله (٢) : [الطويل]

تذكّرت بشرا والسّماكين أيهما

عليّ من الغيث استهلّت مواطره

فجعل السّماكين واحدا ، وفيه تفسيران آخران : إن شئت قلت : بل حمله على الموضع والمعنى ، فردّوه إلى موضعه وإلى واحد ومعناه ، فردّوا السّماوات إلى السماء وعمايتين إلى عماية ، قال أبو العباس : ولو قال : السّماكين نجم فردّه على معنى نجم كان أصلح ، وقوله : أيهما خفيف يريد أيّهما ، فخفّف يريد : تذكّرت السماكين وهذا الرجل أيهما أصابني الغيث من قبله ، وأمّا قوله : ردّ عمايتين على عماية فهو على الموضع أجود ، والسماوات إلى السماء ، فهذا جائز لأنّه يقول : السماء بمعنى السماوات والأرض بمعنى الأرضين ، وقال : هو كما ردّ قوله : [الرجز]

__________________

٣٧٦ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٥٠) ، والدرر (١ / ١٢٥) ، ومعجم ما استعجم (ص ٩٦٦) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (٢ / ٦٦٠) ، وتذكرة النحاة (ص ١٥٣) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٤٦٢) ، وشرح المفصّل (١ / ٤٦) ، والمنصف (١ / ٢٤٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٤٢).

(١) مرّ الشاهد رقم (٢٧).


٣٧٧ ـ تبسم عن مختلفات ثعل

أكسّ لا عذب ولا برتل

عنى الأسنان ثم ردّه على الفم إلى موضعها ، ولو قال الأسنان من الفم فردّه على الفم لأنّه بعضه ، وقال : مثل قوله : [الطويل]

٣٧٨ ـ فماحت به غرّ الثّنايا مفلّجا

وسيما جلا عنه الطّلال موشّما

ذهب إلى الفم ، وغرّ الثنايا هو الفم غرّ ثناياه ، فهو خلف ، ليس أنّه ترك الثنايا ورجع إلى الفم ، وقوله : [الطويل]

٣٧٩ ـ هم منعوني إذ زياد كأنّما

يرى بي أخلاء بقاع موضّعا

ذهب به إلى الخلى وهو واحدها ، والخلى يكفي من الأخلاء ، ولا حاجة به أن يرجع إلى غيره.

وإن شئت في التفسير الثاني : كما يجعلون لفظ الواحد موضع الجميع وفي معناه ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣] ، فالذين في موضع واحد ، والذين قالوا ذلك هم الناس ، وإنّما يجوز هذا في الجمع الذي واحده يكفي منه ، ولفظه لفظ الواحد ، فأخرجوا الفعل على لفظه ، كقوله (٤) : [الطويل]

ألا إنّ جيراني العشيّة رائح

[دعتهم دواع من هوى ومنادح]

فردّ «رائح» على الجيران ، وهم جمع لأنّ مثل لفظه يكون واحدا ، وقال عزّ وجلّ : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [النحل : ٦٦] ، فردّ إلى النّعم لأنّه يكفي من الأنعام. وقال (٥) : [الطويل]

أمن آل وسنى آخر اللّيل زائر

ووادي العوير دونها والسّواجر

فجاءت بكافور وعود ألوّة

شآميّة شبّت عليها المجامر

فقلت لها فيئي فإنّ صحابتي

سلاحي وحدباء الذّراعين ضامر

ترك زائرا ورجع إليها ، وهذا لم يترك زائرا ويرجع إليها ، إنّما ذكر الخيال ثم خاطب المرأة لأنه خيالها ، فالخيال هو هي.

__________________

٣٧٧ ـ الشاهد في لسان العرب (ثعل) مع بيتين آخرين.

٣٧٨ ـ الشاهد غير موجود في المصادر اللغوية التي بين أيدينا.

٣٧٩ ـ انظر ديوان أبي تمام بشرح التبريزي (١ / ٩٣).

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٤٧).

(٢) البيت الأول في ديوان الراعي النميري (ص ٧٧) ، ومعجم ما استعجم (٣ / ٩٨١).


مجلس محمد بن زياد الأعرابي مع أحمد بن حاتم (١)

بعض المعاني اللغوية

قال : وجدت بخط أبي نصر أحمد بن حاتم ، قال : اجتمعت أنا ومحمد بن زياد الأعرابي ، فسألته عن قول طفيل الغنوي : [الطويل]

٣٨٠ ـ تتابعن حتّى لم تكن لي ريبة

ولم يك عمّا خبّروا متعقّب

فقلت له ما معنى «متعقّب»؟ فقال : تكذيب ، فقلت له : أخطأت ، إنّما قوله : «متعقّب» أن تسأل عن الخبر ثانية بعد ما سألت عنه أوّل مرّة ، يقال : تعقّبت الخبر إذا سألت عنه غير من كنت سألت عنه أوّل مرّة ، ومنه يقال : تعقّبت في الغزو إذا غزوت ثم ثنّيت من سبتك ، وقوله : تتابعن يعني الأخبار ، وقال في مثله طفيل : [الطويل]

٣٨١ ـ وأطنابه أرسان جرد كأنّها

صدور القنا من بادئ ومعقّب

فأراد أنّ أطناب البيت أرسان الخيل ، وجرد : قصار الشعر ، وقوله كأنها صدور القنا في طولها وأراد كأنّها القنا ، والعرب تفعل هذا كقولك : جاء فلان على صدر راحلته ، وإنّما يريد : على راحلته ، وقوله : من بادئ ومعقّب ، يريد من فرس بادئ غزا أوّل مرّة ومعقّب غزا ثانية ، ومنه يقال : صلّى فلان أوّل اللّيل ثمّ عقّب ، يريد صلّى ثانية ، ثم سأله طاهر بن عبد الله بن طاهر ومعنا عدّة من العلماء عن معنى بيت طفيل : [الطويل]

٣٨٢ ـ كأنّ على أعرافه ولجامه

سنا ضرم من عرفج متلهّب

فقال له : ما معنى هذا البيت؟ فقال : أراد أنّ هذا الفرس شديد الشّقرة كحمرة النار ، فقلت له : ويحك! أما تستحيي من هذا التفسير؟ إنّما معناه : أنّ له حفيفا في جريه كحفيف النار ، ولهبه ، ثم أنشدته أبياتا حججا لهذا البيت ، قال امرؤ القيس : [المتقارب]

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٢٨٢).

٣٨٠ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ٣٧) ، ولسان العرب (عقب) ، وديوان الأدب (٢ / ٤٣٨) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ١١٩) ، وأساس البلاغة (عقب) ، وتاج العروس (عقب).

٣٨١ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ١٩) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٨٢) ، والأغاني (١٥ / ٣٤١).

٣٨٢ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ٢٦) ، ولسان العرب (ضرم) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٢٩) ، وأمالي القالي (٢ / ٣٥) ، وسمط اللآلي (ص ٦٦٦) ، والمعاني الكبير (ص ١٧).


٣٨٣ ـ سبوحا جموحا وإحضارها

كمعمعة السّعف الموقد

وقال رؤبة : [الرجز]

٣٨٤ ـ تكاد أيديها تهادى في الزّهق

من كفتها شدّا كإضرام الحرق

فأراد : عدوا كأنّه إضرام الحرق ، وقال العجاج : [الرجز]

٣٨٥ ـ كأنّما يستضرمان العرفجا

فوق الجلاذيّ إذا ما أمججا

يقول : من حفيف عدوهما كأنّهما يوقدان عرفجا ، وقال أوس بن حجر : [الطويل]

٣٨٦ ـ إذا اجتهدا شدّا حسبت عليهما

عريشا علته النّار فهو محرّق

وسئل عن بيت لطفيل : [البسيط]

٣٨٧ ـ كأنّه بعد ما صدّرن من عرق

سيد تمطّر جنح اللّيل مبلول

فقال : كأنّ الفرس بعد ما سال العرق من صدورهنّ ذئب ، فقلت : أخطأت ، إنّما معناه : كأنّ هذا الفرس بعد ما برزت صدور هذه الخيل من عرق في الصف ، وكلّ طريقة وصفّ عرقة ، يقال : عرق من قطا ومن خيل ، فيقول : كأنّ هذا الفرس ذئب قد أصابه المطر ، فهو ينجو ويعدو عدوا شديدا ، ثم سئل في هذا المجلس عن بيت لعروة : [الطويل]

٣٨٩ ـ مطلّا على أعدائه يزجرونه

بساحتهم زجر المنيح المشهّر

فقيل له : ما معناه؟ فقال : يزجرون هذا الرجل إذا نزل بساحتهم كما يزجر

__________________

٣٨٣ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٨٧) ، ولسان العرب (جح) ، و (معمع) ، وكتاب العين (١ / ٩٥) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٢٩) ، وتهذيب اللغة (١ / ١٢٣) ، وأساس البلاغة (معمع).

٣٨٤ ـ الرجز لرؤبة في ديوانه (ص ١٠٦) ، ولسان العرب (كفت) و (زهق) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ٧٧) ، وتهذيب اللغة (٥ / ٣٩٢) ، وتاج العروس (كفت) و (حرق) و (زهق) ، ومقاييس اللغة (٣ / ٣٢) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٨٢٤) ، وكتاب العين (٣ / ٣٦٣) ، والمخصص (١٠ / ١٢٤).

٣٨٥ ـ الرجز للعجاج في ديوانه (٢ / ٦٠) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٢٩) ، وبلا نسبة في لسان العرب (مجج) ، وتاج العروس (مجج) ، وجمهرة اللغة (ص ٩٢).

٣٨٦ ـ الشاهد لأوس في ديوانه (ص ٧٨) ، وسمط اللآلي (ص ٦٦٧) ، والتنبيه والإيضاح (ص ٩٢).

٣٨٧ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ٦٠) ، ولسان العرب (صدر) و (عرق) ، وتهذيب اللغة (١ / ٢٢٥) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٢٨٨) ، وتاج العروس (صدر) و (عرق) ، وبلا نسبة في لسان العرب (مطر) ، وجمهرة اللغة (ص ٦٣٠) ، وديوان الأدب (٢ / ٣٥٤) ، وتاج العروس (مطر).

٣٨٨ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٧٢) ، والكامل (١ / ١٣٣) ، وجمهرة أشعار العرب (ص ٥٦٦) ، والخزانة (٤ / ١٩٦).


المنيح ، ثمّ فسّر فقال : المنيح من القداح الذي لا نصيب له ، وإنّما هو تكثير في القداح مثل السّفيح والوغد ، فقلت له : ويحك! إنّما يزجر ما جاء له نصيب ، وهذا خامل لا نصيب له ، ثم قال : مشهّر ، تفسير هذا البيت : القدح المعروف بالفوز فيستعار لكثرة فوزه وخروجه ، ومنه يقال : منحت فلانا ناقتي سنة ، والناقة تسمّى منيحة ، وذاك إذا أعطيته لبنها ووبرها سنة ثمّ يردها ، فكذلك هذا القدح يستعار ، فهو يتبرّك به لكثرة فوزه ، وأنشدته فيه حججا ، قال ابن مقبل يصف قدحا قد استعاره لكثرة فوزه : [الطويل]

٣٨٩ ـ مفدّى مؤدّى باليدين ملعّن

خليع لحام فائز متمنّح

فأراد بقوله : متمنّح : مستعار ، وقال عمرو بن قميئة : [الطويل]

٣٩٠ ـ بأيديهم مقرومة ومغالق

يعود بأرزاق العيال منيحها

فلو كان المنيح القدح الذي لا نصيب له ما كان يثير أرزاق العيال ، ولكنه هو الذي يمنح أي : يستعار فيفوز ويقمر ، ثم أنشدته في القدح الذي يستعار ويعلم بقعقب أو يؤثّر فيه بالأسنان ، قال لبيد : [الطويل]

٣٩١ ـ ذعرت قلاص الثّلج تحت ظلاله

بمثنى الأيادي والمنيح المعقّب

فإنّما عقّب علامة لكثرة فوزه وقمره ، قال دريد : [الوافر]

٣٩٢ ـ وأصفر من قداح النّبع فرع

له علمان من عقب وضرس

الضّرس : أن يعضّ بالضّرس ليؤثر فيه.

مجلس أبي محمد اليزيدي مع ياسين الزيات (٥)

حدّثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال : أخبرني عمّي الفضل بن

__________________

٣٨٩ ـ الشاهد لابن مقبل في ديوانه (ص ٣٠) ، ومحاضرات الراغب (١ / ٣٤٥) ، والمعاني الكبير (١١٥٥).

٣٩٠ ـ الشاهد لعمرو بن قميئة في ديوانه (ص ١٧) ، ولسان العرب (سنح) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ٢٤٨) ، وتهذيب اللغة (٤ / ٣٢٢) ، وتاج العروس (سنح).

٣٩١ ـ الشاهد للبيد في ديوانه (ص ١٧) ، وأساس البلاغة (قلص).

٣٩٢ ـ الشاهد لدريد بن الصمة في ديوانه (ص ١١٧) ، ولسان العرب (كفأ) و (عقب) و (ضرس) و (نبع) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ١١٨) ، والمخصّص (١١ / ٣) ، وتاج العروس (كفأ) و (عقب) و (ضرس) و (نبع) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة (١٠ / ٣٩٠) ، ومجمل اللغة (٣ / ٣١٠) ، وديوان الأدب (٢ / ١٦١).

(١) انظر مجالس العلماء (٢٩٨).


محمد بن أبي محمد اليزيدي عن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي قال : إنّي لأطوف غداة يوم بمكة إذ لقيني ياسين الزيات ، فقال : يا أبا محمد ما نمت البارحة لشيء اختلج في صدري منعني الفكر فيه النوم ، وما كنت أودّ إلّا أن أصبح فألقاك قلت : وما ذاك؟ قال : أيجوز في كلام العرب أن يقول الرجل : «أريد أن أفعل كذا وكذا» لشيء قد فعله؟ فقلت ذلك غير جائز إلّا على ضرب من الحكاية أفسّره لك ، قال : فما تقول في قول الله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) [القصص : ٤] إلى أن بلغ إلى قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص : ٥] فخاطب بها محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وقد فعل ذلك قبل؟ قلت : هذا من الحكاية التي ذكرتها لك لأنّه قال : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص : ٤] ، كأنّ تقدير الكلام : وكان من حكمنا يومئذ أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ، فحكى ذلك لمحمد صلّى الله عليه وسلّم : كما قال في قصة يحيى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ١٥] لأنّ تقدير الكلام : وكان من حكمنا سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا ، فحكى ذلك لمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقال : جزاك الله خيرا يا أبا محمد ، فقد فرّجت عنّي بما شرحت لي.

مجلس أبي عثمان المازني مع يعقوب بن السكّيت (١)

أخبرنا أبو إسحاق الزجاج قال : أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد عن أبي عثمان قال : جمعني وابن السكيت بعض المجالس ، فقال لي بعض من حضر : سله عن مسألة وكان بيني وبين ابن السكيت ود ، فكرهت أن أتجهّمه بالسؤال لعلمي بضعفه في النحو ، فلما ألحّ عليّ قلت له : ما تقول في قول الله عز وجل : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) [يوسف : ٦٣] ، وما وزن «نكتل» من الفعل ولم جزمه؟ فقال : وزنه نفعل وجزمه لأنّه جواب الأمر ، قلت : فما ماضيه؟ ففكّر وتشوّر ، فاستحييت له ، فلمّا خرجنا قال لي : ويحك! ما حفظت الودّ ، خجّلتني بين الجماعة ، فقلت : والله ما أعرف في القرآن أسهل منها ، قال : وزن نكتل نفتعل من اكتال يكتال ، وأصله : نكتيل فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون اللام فصار نكتل.

مجلس أبي عثمان المازني مع أبي عمر الجرميّ (٢)

حدثني بعض إخواني قال : حذثنا أبو إسحاق الزجاج قال : أخبرنا محمد بن

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣٠٠) ، وإنباه الرواة (١ / ٢٥٠).

(٢) انظر مجالس العلماء (ص ٣٠٥) ، وإنباه الرواة (٢ / ٨١).


يزيد قال : حدثني المازني قال : قال أبو عمر الجرمي يوما في مجلسه : من سألني عن بيت من جميع ما قالته العرب لا أعرفه فل عليّ سبق ، فسأله بعض من حضر ، قال أبو العباس : السائل المازني ولكنّه كنى عن نفسه ، فقال له : كيف تروي هذا البيت : [الكامل]

٣٩٣ ـ من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النّساء حواسرا يندبنه

قد قمن قبل تبلّج الأسحار

قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا

فالآن حين بدون للنّظّار

فقال له : كيف تروي بدأن أو بدين؟ فقال : بدأن ، فقال له : أخطأت ، ففكّر ثم قال : إنّا لله ، هذا عاقبة البغي.

قال صاحب الكتاب : وقع في هذه الحكاية سهو من الحاكي لها أو من الناقل وذلك أنّه حكى أنّ المازني حضر مجلس الجرمي وهذا غلط ، والذي حدثني به علي ابن سليمان وغيره أنّ الجرمي تكلم بهذا بحضرة الأصمعي ، والسائل له الأصمعي ، وإنّما كان ذلك على الأغلوطة والتّجربة.

مجلس أبي عثمان المازني مع أبي الحسن سعيد بن مسعدة (٢)

أخبرنا أبو جعفر الطبري قال : حدثني أبو عثمان المازني قال : قال لي الأخفش سعيد بن مسعدة يوما : على أيّ وجه أجاز سيبويه (٣) في تثنية كساء كساوان بالواو؟ فقلت : بالتشبيه بقولهم : حمراوان وبيضاوان لأنّها في اللفظ همزة كما أنّها همزة ، فقال لي : فيلزمه على هذا أن يجيز في تثنية حمراء حمراءان على التشبيه بقولهم : كساءان لأنك إذا أشبهت الشيء بالشيء فقد وجب أن يكون المشبه به مثله في بعض المواضع ، فقلت : هذا لازم لسيبويه ، ثم فكّرت فقلت : لا يلزمه هذا ، فقال لي : أليس لمّا شبّهنا ما بليس فأعملناها عمل ليس ، فقلنا : ما زيد قائما ، كما نقول : ليس زيد قائما شبّهنا أيضا ليس بما في بعض المواضع فقلنا : ليس الطّيب إلّا المسك؟ ومثل هذا كثير ، ومنهم من يقول : ليس الطّيب إلّا المسك ، فنصب ، فإنه لزم الأصل ، وذلك أنّ خبر ليس منصوب منفيّا كان أو موجبا ، لأنّها أخت كان ، والمنفيّ قولك :

__________________

٣٩٣ ـ الأبيات الثلاثة للربيع بن زياد العبسي في شرح الحماسة للمرزوقي (ص ٩٥٥) ، وأمالي المرتضى (١ / ٢١١) ، والأول والثاني في الخزانة (٣ / ٥٣٨) ، والبيت الأول في مجاز القرآن (١ / ٩٧) ، والبيت الثالث في الخصائص (٣ / ٣٠٠).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣١٣).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٣٨١).


ليس زيد قائما والموجب قولك : ليس زيد إلا قائما وما كان زيد إلا قائما كما تقول : ما كان زيد قائما وما كان زيد إلا قائما ، وأمّا من رفع فقال : ليس الطّيب إلّا المسك ففيه وجهان :

أحدهما : وهو الأجود ، أن يضمر في ليس اسمها ويجعل الجملة خبرها ، كما قال هشام أخو ذي الرّمّة : [البسيط]

٣٩٤ ـ هي الشّفاء لدائي لو ظفرت بها

وليس منها شفاء الدّاء مبذول

التقدير : ليس الأمر شفاء الداء مبذول منها ، ولكنّه إضمار لا يظهر ، لأنه أضمر على شريطة التفسير ، وتكون إلّا في المسألة مؤخرّة ، وتقديرها التقديم حتى يصحّ الكلام ، لأنها لا تقع بين المبتدأ والخبر ، فيكون التقدير : «ليس إلّا الطّيب المسك» ، ومثله (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) [الجاثية : ٣٢] ، تقديره : إن نحن إلّا نظن ظنّا.

والوجه الآخر : أن تجعل ليس بمنزلة ما فتلغي عملها لدخول إلّا في خبرها كما تلغي عمل ما إذا دخلت إلّا في خبرها ، كما حملوا ما على ليس فنصبوا خبرها ، لأنه ليس في العربية شيئان تضارعا فحمل أحدهما على الآخر إلّا جاز حمل الآخر عليه في بعض الأحوال.

فقلت : ليس هذا مثل ذاك ، وذلك أنّه لو أجاز سيبويه في تثنية حمراء : حمراءان لجعل علامة التأنيث غير متطرفة على صورتها ، وهي متطرفة ، فهل وجدت أنت علامة التأنيث متوسطة على صورتها متطرفة؟ فسكت.

ثم قال لي : لم أجد ذلك ، ولا يلزم سيبويه ما قلنا ، وما أحسن ما احتججت له.

مجلس أبي العباس ثعلب مع جماعة (٢)

حدثني أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش ، قال : أنشدنا أحمد بن يحيى ابن الأعرابي : [الرجز]

__________________

٣٩٤ ـ الشاهد لهشام بن عقبة في الأزهيّة (ص ١٩١) ، وتذكرة النحاة (ص ١٤١) ، والدرر (٢ / ٤٢) ، ولذي الرمة في شرح أبيات سيبويه (١ / ٤٢١) ، ولهشام أخي ذي الرمة في الكتاب (١ / ١١٩) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٠٤) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (٢ / ٨٦٨) ، ورصف المباني (ص ٣٠٢) ، وشرح المفصّل (٣ / ١١٦) ، والمقتضب (٤ / ١٠١) ، وهمع الهوامع (١ / ١١١).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣١٦).


٣٩٥ ـ وصاحب أبدأ حلوا مزّا

بحاجة القوم خفيفا نزّا

إذا تغشّاه الكرى ابر خزّا

كأنّ قطنا تحته وقزّا

أو فرشا محشوّة إوزّا

قال أبو الحسن : أنشدنا أبو العباس هذه الأبيات ثم قال : يا أصحاب المعاني ما تقولون؟ فخضنا فيه ، فلم نصنع شيئا ، فضحك ثم قال : أخبرني ابن الأعرابي أنّ اسم ابنته كان مزّة ، فناداها ورخّمها ، كأنّه قال : وصاحب أبدأ حلوا من القول يا مزّة ، ثم حذف الهاء للترخيم ، يقال : رجل نزّ إذا كان خفيفا في الحاجة ، ومثله خفيف وخفاف وندب بمعنى واحد ، وقوله : «ابرخزّا» يريد انتبه. يصفها بقلّة النوم وخفة الرأس ، وقوله : «مملوءة إوزّا» يريد : ريش إوزّ ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كما يقال : صلّى المسجد أي : أهل المسجد.

مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى

مع أبي الحسن محمد بن كيسان (٢)

حدّثني بعض أصحابنا قال : أخبرنا أبو الحسن بن كيسان قال : قال لي أبو العباس : كيف تقول مررت برجل قائم أبوه؟ فأجبته بخفض قائم ورفع الأب ، فقال لي : بأيّ شيء ترفعه؟ فقلت : بقائم ، فقال : أوليس هو عندكم اسما وتعيبوننا بتسميته فعلا دائما؟ فقلت : لفظه لفظ الأسماء ، وإذا وقع موقع الفعل المضارع وأدّى معناه عمل عمله ، لأنّه قد يعمل عمل الفعل ما ليس بفعل إذا ضارعه ، قال : فكيف تقول : مررت برجل أبوه قائم؟ فأجبته برفعهما جميعا ، فقال لي : فهل تجيز أن تقول : مررت برجل أبوه قائم ، فترفع به مؤخّرا كما رفعت به مقدّما؟ قلت : ذلك غير جائز عند أحد ، قال : ولمه؟ قلت : لأنه اسم جرى مجرى الفعل ، وإذا تقدّم عمل عمل الفعل ولم يكن فيه ضمير ، فإذا تأخّر كان بمنزلة الفعل المؤخّر ، فلزمه أن يقع فيه ضمير من الاسم المتقدم يرتفع به ، كما يكون ذلك في الفعل إذا تأخّر ، فلمّا كان الفعل لو ظهر هاهنا لم يرفع ما قبله كان الاسم الجاري مجراه أضعف في العمل ، وأخرى أن لا يعمل فيما قبله ، فقال لي : فاجعل الاسم مرفوعا بالابتداء وما بعده خبره على مذهبكم ، لأنّ خبر المبتدأ عندكم يكون مخفوضا ومنصوبا ، كما تقولون : زيد

__________________

٣٩٥ ـ البيتان الأول والثاني بلا نسبة في لسان العرب (نزز) ، وتهذيب اللغة (١٣ / ١٦٩) ، والرابع والخامس بلا نسبة في لسان العرب (وزز) ، والمخصّص (٨ / ١٦٦) ، وكتاب الجيم (٣ / ٣٠٢).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣١٨).


في الدار وزيد أمامك. قلت : ذلك غير جائز لأنّ خبر المبتدأ إذا كان هو المبتدأ بعينه لم يكن إلّا مرفوعا ، كقولنا : زيد منطلق وعبد الله قائم وما أشبه ذلك ، وكذلك إذا قلنا : مررت برجل أبوه قائم ، فالقائم هو الأب في المعنى ، فلا يجوز أن يختلف إعرابهما ، قال : فقد جاء في الشعر الفصيح الذي هو حجّة مثل هذا الذي تنكره ، قال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٩٦ ـ فظلّ لنا يوم لذيذ بنعمة

فقل في مقيل نحسه متغيّب

تقديره : فقل في مقيل متغيّب نحسه ، ثم قدّم وأخّر كما ترى ، فقلت له : ليس هو على هذا التقدير ، فوقع لي في الوقت خاطر ، قال : فأيّ شيء تقديره؟ فقلت : تقديره : فقل في مقيل نحسه ، وتمّ الكلام كما تقول : مررت بمضروب أبوه كريم ، والتقدير : مررت برجل مضروب أبوه ، ثم تجعل كريما نعتا للمتروك الذي في النية ، فكأنّه قال : فقل في مقيل نحسه ، يقال : قال نحسه أي سكن ، والنّحس : الدّخان أيضا ، ثم قال : متغيّب بعد أن تمّ الكلام كأنّه قال : متغيب عن النحس. فقال : هذا لعمري وجه على هذا التقدير.

قال أبو الحسن : فحدثت أبا العباس المبرد بما جرى فقال : هذا شيء كان خطر لي ، فخالفت النحويين لأنّهم زعموا أنّه ممّا أتى به امرؤ القيس ضرورة ، ثم رأيته بعد ذلك قد أملاه.

مجلس سعيد الأخفش مع المازني (٢)

حدثني محمد بن منصور قال : سأل المازني أبا الحسن سعيد بن مسعدة عن قولهم : «زيد أفضل من عمرو وأكرم منه» فقال الأخفش : أفعل في هذا الباب إذا صحبه «من» فإنّما يضاف إلى ما هو بعضه ، فلم يثنّ ولم يجمع ، كما أن البعض كذلك لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنث ، كقولك : بعض أخواتك خرجن وخرجتا وخرج.

قال أبو عثمان : إنما معناه : فضله يزيد على فضله وكرمه يزيد على كرمه ، فكان بمعنى المصدر ، فلم يثنّ ولم يجمع ، كما أنّ المصدر كذلك ، وقال الفراء : إنّ أفعل في هذا الجنس يضاف إلى شيء يجمع الفاضل والمفضول ، فاستغني بتثنيته ما أضيف إليه وجمعه وتأنيثه عن تثنيته في ذاته وجمعه ، فصار بمنزلة الفعل الذي إذا تقدّم يستغنى بما بعده عن تثنيته وجمعه.

__________________

٣٩٦ ـ الشاهد غير موجود في ديوانه ، وهو له في لسان العرب (غيب).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣٢٢).


مجلس مروان مع أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش (١)

أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطبري ، قال : سأل مروان سعيد بن مسعدة الأخفش : أزيدا ضربته أم عمرا؟ فقال : أيّ شيء تختاره فيه؟ فقال : أختار النصب لمجيء ألف الاستفهام ، فقال : ألست إنّما تختار في الاسم النصب إذا كان المستفهم عنه الفعل كقولك : «أزيدا ضربته؟» ، «أعبد الله مررت به؟» فقال : بلى ، فقال له : فأنت إذا قلت : «أزيدا ضربته أم عمرا؟» فالفعل قد استقرّ عندك أنّه قد كان ، وإنّما تستفهم عن غيره ، وهو من وقع به الفعل ، فالاختيار الرفع لأنّ المسؤول عنه اسم وليس بفعل ، فقال له الأخفش : هذا هو القياس ، قال أبو عثمان : وهو أيضا القياس عندي ، ولكنّ النحويين أجمعوا على اختيار النصب في هذا لمّا كان معه حرف الاستفهام الذي هو في الأصل للفعل.

مجلس أبي العباس ثعلب مع جماعة (٢)

حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال : كنا عند أبي العباس ثعلب فأنشدنا للحصين بن الحمام المرّيّ : [الطويل]

٣٩٧ ـ تأخّرت أستبقي الحياة فلم أجد

لنفسي حياة مثل أن أتقدّما

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

ولكن على أقدامنا يقطر الدّما

فسألنا : ما تقولون فيه؟ فقلنا : الدّم فاعل جاء به على الأصل فقال : هكذا رواية أبي عبيد وكان الأصمعي يقول : هذا غلط ، وإنّ ما عليه الرواية : ولكن على أقدامنا تقطر الدّما منقوطة من فوقها ، والمعنى : ولكن على أقدامنا تقطر الجراحات الدّما ، فيصير مفعولا به ، ويقال : قطر الماء وقطرته أنا ، وأنشدنا : [الرمل]

٣٩٨ ـ كأطوم فقدت برغزها

أعقبتها الغبس منها عدما

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٧٧).

(٢) انظر مجالس العلماء (ص ٣٢٥).

٣٩٧ ـ البيت الثاني للحصين بن الحمام المريّ في جمهرة اللغة (ص ١٣٠٦) ، وديوان المعاني (١ / ١١٥) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٩٨) ، والشعر والشعراء (٢ / ٦٥٣) ، ولسان العرب (دمى) ، وله أو لخالد بن الأعلم في خزانة الأدب (٧ / ٤٩٠) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٧٧) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٧٩) ، وشرح شواهد الشافية (ص ١١٤) ، وشرح المفصّل (٤ / ١٥٣) ، ولسان العرب (برغز) ، والمنصف (٢ / ١٤٨).

٣٩٨ ـ البيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (برغز) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٠٦) ، وتاج العروس (برغز) و (أطم) ، والثاني بلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ١٣٠٧) ، وتخليص الشواهد (ص ٧٧) ، وخزانة الأدب (٧ / ٤٩١) ، والدرر (١ / ١١١) ، ورصف المباني (ص ١٦) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٧٧) ، وشرح المفصّل (٥ / ٨٤) ، ولسان العرب (برغز) و (أطم) و (أبي) ، ـ ـ والمنصف (٢ / ١٤٨) ، وهمع الهوامع (١ / ٣٩) ، والثالث : بلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ١٣٠٧) ، والمخصص (٨ / ٣٨).


شغلت ثمّ أتت ترقبه

فإذا هي بعظام ودما

فأفاقت فوقه ترشفه

وأغيض القلب منها ندما

فالدّم في موضع خفض عطف على العظام ، ولكنّه جاء به على الأصل مقصورا كما ترى ، وكان الأصمعي يقول : إنّما الرواية : فإذا هي بعظام ودماء ثم قصر الممدود ، والأطوم : البقرة الوحشية ، وبرغزها : ولدها ، والغبس جمع أغبس وهي الكلاب.

مجلس أبي العباس مع رجل من النحويين (١)

حدثني علي بن سليمان قال : سأل رجل أبا العباس في مجلسه عن قول الشاعر :

مرحبا بالّذي إذا جاء جاء ال

خير أو غاب غاب عن كلّ خير

فقال : أيهجوه أم يمدحه؟ فقال : بل يهجوه ، وفيه تقديران : أحدهما : تفسير محمد بن يزيد ، قال : يصفه بالغفلة والبلادة ، وتقديره : مرحبا بالذي إذا جاء جاء الخير ، أي حضوره غيبة ، فهذا المصراع في ذكر بلادته وغفلته ، ثم قال : أو غاب غاب عن كلّ خير ، معناه : أنّ الخير عندنا ، فإذا غاب غاب عن كلّ خير ، لأنّه لا يرجع إلى خير عنده.

قال أبو العباس أحمد : إنّما وصفه بالحرمان فقط ، وتقدير الكلام عنده : مرحبا بالذي إذا جاء غاب عن كل خير جاء الخير أو غاب ، يصفه بالحرمان والشّؤم على كلّ حال.

وقد رواه غيرهما بالنصب ، معناه مرحبا بالذي إذا جاء أتى الخير أي : صادف الخير عندنا ، أو غاب غاب عن كل خير ، أي : أنّه لا يرى الخير إلّا عندنا ، فإذا غاب عنّا حرم ، ولم يصادف خيرا ، ومثل هذا ممّا يسأل عنه : [الوافر]

٣٩٩ ـ سألنا من أباك سراة تيم

فقال : أبي تسوّده نزارا

تقديره : سألنا أباك نزارا من سراة تيم تسوّده؟ فقال : أبي ، ينتصب «أباك» بوقوع السؤال عليه و «نزارا» بدل منه ، «من» رفع بالابتداء وسراة مبتدأ ثان وتسوّده الخبر ، والمبتدأ الثاني والخبر خبر الأول ، وقوله : فقال أبي ، تقديره : هو أبي ، فيكون

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (٣٣١).

٣٩٩ ـ الشاهد بلا نسبة في إعراب أبيات ملغزة (ص ١٢٣).


خبر ابتداء مضمر ، وإن شئت رفعته بالابتداء والخبر بعده مقدر ، كأنّك قلت : أبي تسوّده سراة تيم.

مجلس أبي عمرو بن العلاء مع أبي عبيدة (١)

حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال : حدثني محمد بن يزيد قال : حدثنا المازني عن أبي عبيدة قال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقرأ : (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧] ، فسألته عنه فقال : هي لغة فصيحة ، وأنشد قول الممزّق العبديّ (٢) : [الطويل]

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق

يقال اتّخذ اتّخاذا ، وتخذ يتخذ تخذا بمعنى واحد.

مجلس أبي عمرو مع الأصمعي (٣)

حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان ، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدثنا أبو الفضل الرّياشيّ قال : سمعت الأصمعي يقول : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : الشّعف بالعين غير معجمة أن يقع في القلب شيء فلا يذهب ، يقال : قد شعفني يشعفني إذا ألقي في قلبي ذكره وشغله ، وأنشد للحارث بن حلّزة اليشكريّ : [الكامل]

٤٠٠ ـ ويئست ممّا كان يشعفني

منها ولا يسليك كاليأس

قلت : قرأت القراء : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [يوسف : ٣٠] بالغين معجمة وشعفها بالعين غير معجمة.

مجلس الأصمعي مع الكسائي (٥)

حدّث حماد بن إسحاق عن أبيه ، قال : كنا عند الرشيد فحضر الأصمعي والكسائي فسأل الرشيد عن بيت الراعي : [الكامل]

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣٣٣).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٥٤).

(٣) انظر مجالس العلماء (ص ٣٣٤).

٤٠٠ ـ الشاهد للحارث بن حلزة اليشكري في ديوانه (ص ٤٩) ، ولسان العرب (شعف) ، وشرح اختيارات المفضّل (٢ / ٦٣٦) ، وشعراء النصرانية (ص ٤٢٠).

(٤) انظر مجالس العلماء (ص ٣٣٦) ، والخزانة (١ / ٥٠٣).


٤٠١ ـ قتلوا ابن عفّان الخليفة محرما

ودعا فلم أر مثله مخذولا

فقال الكسائي : كان قد أحرم بالحج ، فضحك الأصمعي وتهاتف فقال الرشيد : ما عندك؟ فقال : والله ما أحرم بالحج ولا أراد أيضا أنّه دخل في شهر حرام ، كما يقال : أشهر وأعام إذا دخل في شهر وفي عام ، فقال الكسائي : ما هو إلّا هذا ، وإلّا فما معنى الإحرام؟ قال الأصمعي : فخبّرني عن قول عديّ بن زيد : [الرمل]

٤٠٢ ـ قتلوا كسرى بليل محرما

فتولّى لم يمتّع بكفن

أيّ إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد : فما المعنى؟ فقال : يريد أنّ عثمان لم يأت شيئا يوجب تحليل دمه ، وكل من يحدث مثل ذلك فهو في ذمّة ، فقال الرشيد : يا أصمعي ما تطاق في الشعر.

مجلس أبي يوسف مع الكسائي (٣)

حدّث أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدّثني سلمة عن الفراء قال : كتب الرشيد في ليلة من الليالي إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة : أفتنا حاطك الله في هذه الأبيات : [الطويل]

٤٠٣ ـ فإن ترفقي يا هند فالرّفق أيمن

وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطّلاق عزيمة

ثلاثا ومن يخرق أعقّ وأظلم

فقد أنشد البيت : عزيمة ثلاث ، وعزيمة ثلاثا بالنصب ، فكم تطلق بالرفع وكم تطلق بالنصب؟ قال أبو يوسف : فقلت في نفسي : هذه مسألة فقهيّة نحويّة ، إن قلت فيها بظنّي لم آمن الخطأ ، وإن قلت : لا أعلم قيل لي : كيف تكون قاضي القضاة وأنت لا تعرف مثل هذا؟ ثم ذكرت أنّ أبا الحسن عليّ بن حمزة الكسائي معي في الشارع ، فقلت : ليكن رسول أمير المؤمنين بحيث يكرم ، وقلت للجارية : خذي

__________________

٤٠١ ـ الشاهد للراعي النميري في ديوانه (ص ٢٣١) ، وجمهرة اللغة (ص ٥٢٢) ، وتهذيب اللغة (٥ / ٤٥) ، وأساس البلاغة (حرم) ، ولسان العرب (حرم) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٧٥١) ، وتاج العروس (حرم) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة (٢ / ٤٥) ، ومجمل اللغة (٢ / ٤٩) ، والمخصّص (١٢ / ٣٠٠).

٤٠٢ ـ الشاهد لعدي بن زيد في ديوانه (ص ١٧٨) ، والمزهر (١ / ٥٨٤) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حرم) ، وجمهرة اللغة (ص ٥٢٢) ، وتاج العروس (حرم).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣٣٨) ، والخزانة (٢ / ٧٠).

٤٠٣ ـ الشاهد هو البيت الثاني وهو بلا نسبة في خزانة الأدب (٣ / ٤٥٩) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٦٨) ، وشرح المفصّل (١ / ١٢) ، ومغني اللبيب (١ / ٥٣).


الشمعة بين يديّ ، فدخلت إلى الكسائي وهو في فراشه ، فأقرأته الرّقعة فقال لي : خذ الدّواة واكتب : أمّا من أنشد البيت بالرفع فقال : عزيمة ثلاث فإنّما طلّقها بواحدة ، وأنبأها أنّ الطّلاق لا يكون إلّا بثلاثة ولا شيء عليه ، وأمّا من أنشد : عزيمة ثلاثا فقد طلّقها وأبانها لأنّه كأنه قال : أنت طالق ثلاثا ، وأنفذت الجواب ، فحملت إليّ آخر اللّيل جوائز وصلات ، فوجهت بالجميع إلى الكسائي.

مجلس الرشيد مع المفضّل الضبّي

قال الزجاجي في (أماليه) (١) : أخبرنا أحمد بن سعيد الدمشقي ، حدثنا الزبير ابن بكار ، حدثني عمّي مصعب بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن مصعب قال : قال المفضّل الضّبّي : وجّه إليّ الرشيد فما علمت إلّا وقد جاءني الرسول ليلا فقال : أجب أمير المؤمنين ، فخرجت حتى صرت إليه وهو متّكئ ، ومحمد بن زبيدة عن يساره ، والمأمون عن يمينه ، فسلّمت فأومى إليّ بالجلوس فجلست ، فقال لي : يا مفضّل ، قلت : لبّيك يا أمير المؤمنين ، قال : كم في (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] من اسم؟ فقلت : ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين ، قال : وما هي؟ قلت : الياء لله عز وجل ، والكاف الثانية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والهاء والميم والواو في الكفار ، قال : صدقت ، كذا أفادنا هذا الشيخ يعني الكسائي ، وهو إذ جالس ، ثم قال : فهمت يا محمد؟ قال : نعم ، قال : أعد المسألة ، فأعادها كما قال المفضل ، ثم التفت فقال : يا مفضل عندك مسألة تسأل عنها؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين. قول الفرزدق : [الطويل]

٤٠٤ ـ أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطّوالع

قال : هيهات ، قد أفادنا هذا متقدّما قبلك هذا الشيخ ، لنا قمراها يعني الشمس والقمر ، كما قالوا : سنّة العمرين ، يريدون أبا بكر وعمر ، قلت : زيادة يا أمير المؤمنين في السؤال ، قال : زد ، قلت : فلم استجيز هذا؟ قال لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد وكان أحدهما أخفّ على أفواه القائلين غلّبوه فسمّوا الآخر باسمه ، فلمّا كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر غلّبوه وسمّوا أبا بكر باسمه ، وقال تعالى : (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف : ٣٨] ، وهو المشرق والمغرب ، قلت : قد بقيت مسألة أخرى ، فالتفت إليّ الكسائي وقال : أفي هذا غير ما قلت؟ قلت : بقيت الغاية التي

__________________

(١) انظر المزهر للسيوطي (٢ / ١٨٩) ، والمسألة ليست في الأمالي.

٤٠٤ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (ص ٤١٩) ، وخزانة الأدب (٤ / ٣٩١) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٣) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦٨٧) ، ولسان العرب (عوي) ، وبلا نسبة في لسان العرب (شرق) و (قبل) ، والمقتضب (٤ / ٣٢٦).


أجراها الشاعر المفتخر في شعره ، قال : وما هي؟ قلت : أراد بالشمس إبراهيم خليل الرّحمن ، وبالقمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم عليهما ، وبالنجوم الخلفاء الراشدين ، قال : فاشرأبّ أمير المؤمنين ، ثم قال : يا فضل بن الربيع احمل إليه مائة ألف درهم ومائة ألف لقضاء دينه.

مسألة بين الزجاجي وبين ابن الأنباري في معنى المصدر

قال الزجاجي في كتابه المسمّى (إيضاح علل النحو) (١) : مسألة جرت بيني وبين أبي بكر الأنباري في المصدر ، قلت له مرة : ما المصدر في كلام العرب من طريق اللغة؟ فقال : المصدر : المكان الذي يصدر عنه ، كقولنا : مصدر الإبل وما أشبهه ، ثم تقول : مصدر الأمر والرأي تشبيها ، والمصدر أيضا هو الذي يسميه النحويون مصدرا ، كقولنا : ضرب زيد ضربا ومضربا وقام قياما ومقاما وما أشبه ذلك ، والمفعل يكون مكانا ومصدرا ، قلت له : فإذا كان كذلك فلم زعم الفراء أنّ المصدر منصدر عن الفعل ، فأيّ قياس جعله بمنزلة الفاعل؟ وقد صحّ عندك أنّه يكون معمولا فيه بمعنى مصدر أو مكان كما ذكرت وهل يعرف في كلام العرب مفعل بمعنى الفاعل فيكون المصدر ملحقا به؟ فقال : ليس هو كذلك عند الفراء ، إنّما هو عنده بمعنى مفعول ، كأنه أصدر عن الفعل لا أنه هو صدر عنه ، فهو بمعنى مفعول ، كما قيل : مركب فاره ومعناه مركوب ومشرب عذب ومعناه مشروب ، قال الشاعر : [الطويل]

٤٠٥ ـ وقد عاد عذب الماء بحرا فزادني

على ظمئي أن أبحر المشرب العذب

أراد المشروب العذب ، يقال : أبحر الماء واستبحرته ، إذا صار ملحا غليظا ، قلت له : ليس يجب أن يجعل دليله على صحة دعواه ما ينازع فيه ولا يسلم له ، ولا يجده في كلام العرب ، قال : فأين وجه المنازعة هاهنا؟ قلت له : إجماع النحويين كلهم على أنّ المأكل يكون بمعنى الأكل والمكان والمشرب بمعنى الشّرب والمكان ، ومنه قيل : رجل مقنع أي مقنوع به ، وليس في كلام العرب مفعل بمعنى مفعل ، ليس فيه مكرم ، بمعنى مكرم ، ولا معطى بمعنى معطى ولا مقفل بمعنى مقفل ، إنما يجيء المفعل بمعنى المفعول فهل تعرف أنت في كلامهم مفعلا بمعنى مفعل معدولا عنه ، فيكون مصدرا ملحقا به ، هل تعرفه في كلامهم أو تذكر له شاهدا

__________________

(١) انظر الإيضاح في علل النحو (ص ٦٢).

٤٠٥ ـ الشاهد لنصيب في ديوانه (ص ٦٦) ، ولسان العرب (بحر) ، و (خرف) ، وأساس البلاغة (ملح).


من شعر أو غيره ، أو رواية أو قياسا يعمل عليه؟ فقال : إنّ أصحابنا يقولون : المصدر جاء بمعنى مفعل شاذا لا يقاس عليه ، إنّما هو اختصاص غير مقيس عليه ، والشواذ في كلامهم غير مدفوعة. قلت له : أمّا إذا صاروا إلى باب الشهوات والدعاوى بغير برهان فالكلام بيننا ساقط ، فأمّا الشواذ فإنّما يقبل ما نقلته النقلة وسمع منها في شعر أو شاهد كلام ، لا ما يدّعيه المدّعون قياسا ، وقد قال بعض أصحابنا : إنّ المصدر بمعنى الانصدار ، كأنّه ذو الانصدار منه ، كما قيل : السّلام المؤمن ، ومعناه ذو السّلام ، قلت له : فقد رجع القول بنا إلى أنّه في معنى فاعل ، وقد مضى الكلام فيه ، فذكرت ما جرى بيننا لأبي بكر بن الخياط فقال : هذه أشياء يولّدها من عنده على مذاهب القوم ، ليست محكيّة عن الفراء ولا موجودة في كتبه ، ولكنّها ممّا يرى أنّها تؤيد المذهب وتنصره ، ثم رأيته بعد ذلك بمدة بعيدة قد ذكر هذه الاحتجاجات أو قريبا منها في بعض كتبه ولم يرجع عنها.

مسائل سأل عنها أبو بكر الشيباني أبا القاسم الزجاجي

هذه إحدى عشرة مسألة سأل عنها أبو بكر الشّيباني أبا القاسم الزّجاجي في كتاب أنفذه إليه من طبريّة إلى دمشق فكتب إليه في الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم

حفظك الله وأبقاك وأتمّ نعمته عليك وأدامها لك ، وقفت يا أخي جعلني الله فداك على مضمّن كتابك الوارد مع أخينا حفظه الله ، والجواب عنه يصدر إليك ولا يتأخر بحول الله ومشيئته ، ووقفت على ما ضمّنته آخره من المسائل التي اشتبهت عليك ، وبادرت إليك بتفسيرها في هذا الكتاب لعلمي بتعلّق قلبك بها ، وليتعجّل أخونا حفظه الله الانتفاع بها ، وأتبعتها مسائل من عندي منتخبة من ضروب شتّى ، أنت تقف عليها وتذكرني بها ، ومهما عرض لك من أمثال هذا فلا تنقبض في مفاتحتي به ، فإنّي أسرّ بذلك ، وأقضي إليك فيه ما عندك على مبلغ ما يتناهى إليه علمي إن شاء الله تعالى.

المسألة الأولى

أما قولهم : «هذا زيد السّعديّ سعد بكر» وقولك : كيف يعرب سعد ، وما الاختيار فيه فإنّ هذه المسألة يختار فيها الكوفيون الخفض ، فيقولون : زيد السّعديّ سعد بكر ، قالوا : لأن معنى قولنا : زيد السعديّ : زيد من سعد ، ثم تقول : سعد بكر على الترجمة ، لأنّا نريد بهذا الكلام الإضافة ، وليس يمتنعون من إجازة نصبه.


فأما أصحابنا البصريون فلا يجيزون خفض هذا البتّة ، لأنّ قولنا : زيد السعديّ ، سعد مرفوع وليس بمرفوع ، وإنّما الياء المثقلة في آخره دلّت على النّسب إليه ، ولا يكون المضاف إليه أولا والدّال على الإضافة آخرا ، ولعمري أنّ النسب إضافة ، لأنّا إذا قلنا : رجل بكريّ وتميميّ فإنّما نضيفه إليه ، ولكنّه ليس على طريقة المضاف والمضاف إليه ، وليس هاهنا لفظ خافض ولا مخفوض ، وقد سمّى سيبويه النسب إضافة على الوجه الذي ذكرته لك ، فيقول أصحابنا : «زيد السعديّ سعد بكر» بالنصب على أعني سعد بكر ، ولا يمتنعون من الرفع على معنى هو : سعد بكر ، وليست هذه المسألة مسطرة لأصحابنا في شيء من كتبه ، وهي مسطرة في كتب الكوفيين ، ولكنّي سألت عنها أبا بكر بن الخياط وابن شقير ، فأجابني بما ذكرته لك.

المسألة الثانية

كيف الاختيار في النّسب إلى ماذرايا وجرجرايا (١) وقاليقلا ، أما جرجرايا وماذرايا فالاختيار في النسب إليهما أن تقول : جرجرائيّ وماذرائيّ بهمزة بعد ألف بعدها ياء النّسب ، وقياس ذلك أنّ الألف التي في آخر جرجرايا وماذرايا يلزم حذفها في النسب ، لأنّ الألف في النسب إذا وقعت خامسة فصاعدا يلزم حذفها ، كما تقول في النسب إلى حبارى حباريّ ، وإلى جحجبى (٢) جحجبيّ ، هذا متّفق عليه ولا خلاف فيه ، فلمّا وقعت الألف في هذين الاسمين سابعة كان حذفها لازما ، فلمّا حذفت الألف بقيت في آخر الاسم ياء قبلها ألف في موضع حركة طرفا فلزم قبلها ألفا والإبدال منها همزة ، كما يلزم مثل ذلك في سقاء وشفاء ، وكذلك كل ياء أو واو وقعت طرفا قبلها ألف لزم قبلها همزة على هذا القياس ، فقيل : جرجرائيّ وماذرائيّ كما ترى ، وقال سيبويه (٣) في النسب إلى حولايا وبردرايا (٤) : حولائيّ وبردرائيّ ، قال : تحذف الألف الأخيرة لأنّها سادسة ، وتقلب الياء التي قبلها ألفا لوقوعها طرفا قبل ألف ، ثم تبدل منها همزة ، وإن شئت قلت : جرجراويّ وماذراويّ ، فأبدلت من الهمزة واوا كما أجازوا في سماء : سماويّ وفي كساء : كساويّ وفي سقاء : سقاويّ تشبيها

__________________

(١) ماذرايا : قرية فوق واسط. (معجم البلدان ٤ / ٣٨١). وجرجرايا : بلد من أعمال النهروان (معجم البلدان ٢ / ٥٤).

(٢) جحجبى : حيّ من الأنصار. (انظر لسان العرب : جحجب).

(٣) انظر الكتاب (٢ / ٢٧٢).

(٤) حولايا : قرية كانت بنواحي نهروان. (معجم البلدان ٢ / ٢٦٦) ، وبردرايا : موضع بالنهروان في أعمال العراق. (معجم البلدان ١ / ٥٥٥).


لها بحمراويّ وصفراويّ ، وكما أجازوا في التثنية كساوان وسقاوان تشبيها بقولهم : حمراوان ، والوجه الهمز ، وكذلك قد أجاز سيبويه (١) في النسب إلى سقاية وصلاية سقاويّ وصلاويّ ، والاختيار عنده سقاويّ وصلائيّ على ما ذكرت لك.

وأما قاليقلا فليس من هذا ، لأنّ هذا من جنس الأسماء المركبة من اسمين نحو : معديكرب وبعلبك ورام هرمز وشغر بغر في قولهم : «ذهب القوم شغر بغر» أي : متفرّقين ، و «ذهبت غنمه شذر مذر» ، وكذلك (قالي قلا) ، حكاه سيبويه (٢) في هذا الباب مع هذه الأسماء ، وذكر أنّه في اسمين جعلا اسما واحدا ، فالنّسب إلى هذا الجنس من الأسماء بحذف الآخر والنسب إلى الصدر ، كقولك في النسب إلى معديكرب : معديّ وإلى رام هرمز : راميّ وإلى بعلبك : بعليّ ، فأمّا قولهم : بعلبكيّ فمولّد من اصطلاح العامة عليه ، وإنّما وجب حذف الآخر من هذا الجنس في النّسب كما تحذف هاء التأنيث ، لأنّ القياس فيهما سواء ، كقولك في طلحة : طلحيّ وفي عائشة : عائشيّ فكذلك قاليقلا ، النّسب إليه : قاليّ كما ترى بحذف العجز ، والنسب إلى الصدر كما ذكرت لك.

المسألة الثالثة

كيف الاختيار في قولهم : «هذه ثلاث مائة درهم فضّة خلاص وازنة جياد» الرفع أم النصب؟ أمّا الوجه في الفضّة والخلاص والجياد فالنصب ، لأنّ هذا تمييز جنس الفضّة وتخليصه ، فتقول : هذه ثلاث مائة درهم فضة خلاصا جيادا ، فنصبه على التمييز والتفسير ، فتميز ثلاث مائة بالدّرهم المخفوض ، لأنّه وإن كان مخفوضا فهو مفسّر لجنس الفضة ، لأنّ ثلاث المائة جائز أن تكون دراهم وغير دراهم ، ثم تميّز الجملة بالفضة ، أعني جملة الدراهم التي دلّ عليها الدرهم بالفضة ، لأنّ الدراهم جائز أن تكون فضة وغير فضة من شبه ونحاس ورصاص وحديد ، تم تميز الفضة بالخلاص لأنّ منها خلاصا وغير خلاص ، ثم تميز ذلك بالجياد ، هذا وجه الإعراب والاختيار ، والرفع جائز على إضمار المبتدأ فتقول : هذه ثلاث مائة درهم فضّة خلاص جياد ، وأمّا الاختيار في «وازنة» لو أفردتها فالرفع ، فتقول : هذه ثلاث مائة درهم وازنة فترفعها على النعت ، لأنّها ممّا يميّز بها ما قبلها ، لأنّها غير مميّزة جنسا من جنس ، إذ كانت غير دالّة على جنس من الأجناس ، كدلالة الفضة والخلاص والجياد ، وإنّما هي

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٣٨١).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٣٣٧).


نعت ، كأنّه أراد أنّها وازنة كاملة غير ناقصة ، والنّصب فيها جائز ، وإذا ذكرتها مع الفضّة والخلاص والجياد نصبتها معها فقلت : هذه ثلاث مائة درهم فضة خلاصا وازنة جيادا ، والاختيار ما ذكرت لك.

المسألة الرابعة

كيف الاختيار في تعريف «ثلاث مائة درهم»؟ لا يجيز أصحابنا البصريون أجمعون في هذه إلّا إدخال الألف واللام في الاسم الأخير المخفوض ، فيقولون : ما فعلت ثلاث مائة الدّرهم وأربع مائة الدّينار ، وكذلك كلّ عدد فسّر بمخفوض مضاف إليه ، فتعرفه بإدخال الألف واللام في المضاف إليه ، نحو قولك خمسة الأثواب وخمسة الغلمان وثلاث مائة الدّرهم وألف الدّينار ، هذا هو القياس في تعريف كل مضاف أن يعرّف المضاف إليه ، مثل قولك : هذا غلام رجل وفرس عبد ، تقول في تعريفه : ما فعل غلام الرجل وفرس العبد ، فيتعرف المضاف بتعريف المضاف إليه ، قال ذو الرّمّة : أنشده سيبويه : [الطويل]

٤٠٦ ـ وهل يرجع التّسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع

ولم يقل : الثلاث الأثافي وقال الفرزدق : أنشده أبو عمر الجرميّ : [الكامل]

٤٠٧ ـ ما زال مذ عقدت يداه إزاره

فسما فأدرك خمسة الأشبار

والكوفيون يجيزون : ما فعلت الخمسة الأثواب والعشرة الدراهم والخمس الجواري والثلاث المائة الدّرهم ، فيجمعون بين الألف واللام والإضافة ، وكان الكسائيّ يروي عن العرب أنّها تقول : هذه الخمسة الأثواب والمائة الدرهم ، قال :

__________________

٤٠٦ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ١٢٧٤) ، وإصلاح المنطق (ص ٣٠٣) ، وجواهر الأدب (ص ٣١٧) ، وخزانة الأدب (١ / ٢١٣) ، والدرر (٦ / ٢٠١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣٠٨) ، وشرح المفصّل (٢ / ١٢٢) ، ولسان العرب (خمس) ، ومجالس ثعلب (ص ٢٧٥) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ٣٥٨) ، وتذكرة النحاة (٣٤٤) ، وشرح الأشموني (١ / ٨٧) ، والمقتضب (٢ / ١٧٦) ، والمنصف (١ / ٦٤) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٠).

٤٠٧ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (ص ٣٠٥) ، والجنى الداني (ص ٥٠٤) ، وجواهر الأدب (ص ٣١٧) ، وخزانة الأدب (١ / ٢١٢) ، والدرر (٣ / ١٤٠) ، وشرح التصريح (٢ / ٢١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣١٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٥٥) ، وشرح المفصّل (٢ / ١٢١) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٢١) ، والمقتضب (٢ / ١٧٦) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق (ص ٣٠٣) ، وأوضح المسالك (٣ / ٦١) ، والدرر (٦ / ٢٠٣) ، وشرح الأشموني (١ / ٨٧) ، ولسان العرب (خمس) ، ومغني اللبيب (١ / ٣٣٦) ، وهمع الهوامع (١ / ٢١٦).


«شبّهوه بقولهم : هذا الحسن الوجه والكثير المال» ، وليس مثله ، لأنّ قولك : «هذا حسن الوجه» ، مضاف إلى معرفة ، ولم يتعرف لأنّ إضافته غير محضة ، فلمّا أردت تعريفه أدخلت عليه الألف واللام فعرّفته بهما ، وإنّما عوّل الكسائيّ في ذلك على السماع ، ولم يكن ليرويّ رحمه الله إلّا ما سمع ، ولكن ليس هذا من لغة الفصحاء ولا من يؤخذ بلغته ، وليس كلّ شيء يسمع من الشواذ والنوادر يجعل أصلا يقاس عليه.

أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج قال : سمعت أبا العباس محمد ابن يزيد المبرد يقول : «إذا جعلت النّوادر والشّواذّ غرضك واعتمدت عليها في مقاييسك كثرت زلّاتك». وأخبرنا أبو إسحاق قال : أخبرني أبو العباس المبرد قال : أخبرني أبو عثمان المازني قال : أخبرني أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي قال : أخبرني أبو زيد الأنصاري أن قوما من العرب يقولون : هذه العشرة الدّراهم والخمسة الأثواب ، فيجمعون بين الألف واللام والإضافة ، قال : وليس هم بالفصحاء ، وقد حكى أيضا الأخفش سعيد بن مسعدة هذه الحكاية عن بعضهم وردّها وقال : ليس بمأخوذ بها.

قال أبو عمر الجرمي : فقلت لمن يجيز : «هذه الخمسة الدراهم والعشرة الأثواب» بالخفض : كيف تقول : هذا نصف الدرهم وثلث الدرهم؟ أتجيز «هذا النّصف الدرهم والثّلث الدرهم»؟ فقال : لا ، هذا غير جائز ، لا أقول إلّا : «هذا نصف الدرهم وثلث الدرهم» فقلت له : فما الفصل بينهما؟ فقال : الفصل بينهما أنّ العرب قد تكلمت بذاك ولم تتكلم بهذا ، فقلت له : فهذه رواية أصحابنا عنهم تعارض روايتكم ، وهذا بيت الفرزدق وبيت ذي الرمة ، وبعد فهذا القياس اللازم في تعريف المضاف ، إنّما يعرّف بتعريف المضاف إليه ، فلم يأت بمقنع ، وإذا كان العدد مفسّرا بمنصوب يميّز الجنس فأردت تعريفه أدخلت الألف واللام في أوّله ، ولم تدخلها في المميّز لعلتين : إحداهما : أنّ التمييز لا يجوز تعريفه ، لأنّه واحد دالّ على جنس ، والواحد من الجنس منكور ، والأخرى : لأنّ تعريف المميّز لا يعرف المميّز منه لانقطاعه عنه وانفصاله عنه ، فلا فائدة في تعريفه إذا كان المقصود بالتعريف لا يتعرف به ، فتقول : «ما فعلت لأحد عشر درهما والتسعة عشر ثوبا والخمسون درهما والتسعون ثوبا» ، وكذلك ما أشبهه ، هذا هو القياس وعليه اجتماع جلّة النحويين من البصريين والكوفيين وحذّاق الكتاب ، وقد أجاز بعضهم : «ما فعلت الثلاثة العشر درهما» ، فأدخل الألف واللام في موضعين ، وذلك خطأ لأنّ هذين الاسمين قد جعلا بمنزلة اسم واحد ، وأقبح منه إجازة بعضهم : «ما فعلت الخمسة العشر الدرهم» ، فأدخل الألف واللام في ثلاثة مواضع ، وهذا كلّه فاسد ، وكذلك


تقول : «هؤلاء ما فعلت العشرون الدرهم» وعليه أكثر الكتاب ، والقياس ما ذكرت لك ، وقد جاء في كلام العرب ما ركب من اسمين جعلا اسما واحدا ، ثم عرف فأدخلت الألف واللام في أوله ، وذلك قول ابن أحمر ، أنشده سيبويه والفراء والأصمعي والجماعة : [الوافر]

٤٠٨ ـ تفقّأ فوقه القلع السّواري

وجنّ الخازباز به جنونا

فأدخلوا الألف واللام في صدر الاسم ثم لم يعيدوهما.

المسألة الخامسة

قولك : «هذا عشرون درهما نصفين أو نصفان»؟ وما الوجه في ذلك؟ الوجه في نصفين الرفع لأنهما صفة للعشرين ، وليس ما يميز جنس العشرين من سائر الأجناس ، والنصب بعد ذلك جائز على التمييز ، والرفع أجود.

المسألة السادسة

قوله : ما العلة في تأنيث قوله عزّ وجلّ : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠]؟ اعلم أنّ هذه الآية تقرأ على وجهين : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) بتنوين عشر ورفع الأمثال صفة للعشر ، وجعلوا العشر حسنات ، فلذلك أنّثوا لأنّ ذكر الحسنة قد جرى متصلا بالعشر ، فلا لبس في ذلك ، وتقرأ : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) بترك التنوين وخفض الأمثال ، والمثل مذكر ، ولكنّه أنّث حملا على المعنى لأنّ الأمثال حسنات ، والأصل : فله عشر حسنات أمثالها ، ومثله ممّا أنّث حملا على المعنى ـ واللفظ مذكر ـ قول ابن أبي ربيعة (٢) : [الطويل]

فكان مجنّي دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

فأنّث والشخص مذكر لأنّه أراد نساء وفسّر ذلك بقوله : كاعبان ومعصر ، ومثله قول الأعور بن البراء الكلابي (٣) :  [الطويل]

__________________

٤٠٨ ـ الشاهد لابن أحمر في ديوانه (ص ١٥٩) ، وإصلاح المنطق (ص ٤٤) ، وجمهرة اللغة (ص ٢٨٩) ، والحيوان (٣ / ١٠٩) ، وخزانة الأدب (٦ / ٤٤٢) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣٠٥) ، وشرح المفصّل (٤ / ١٢١) ، ولسان العرب (فقأ) ، و (خوز) ، و (قلع) ، و (جنن) ، وبلا نسبة في فقه اللغة للصاحبي (ص ١٤٣) ، ولسان العرب (أين) ، وما ينصرف وما لا ينصرف (ص ١٠٧).

(١) مرّ الشاهد رقم (١٣١).

(٢) مرّ الشاهد رقم (١٣٢).


وإنّ كلابا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر

فأنّث والبطن مذكر ، لا خلاف فيه ، لأنّه جعل البطن قبيلة فحمله على المعنى ، وفسر ذلك بقوله : وأنت بريء من قبائلها العشر ، ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [الأعراف : ١٦٠] ، فأنّث والسّبط مذكر لأنّه أراد بالسّبط الأمة والجماعة ، وفسّر ذلك بقوله : (أَسْباطاً أُمَماً) فقر الأسباط بالأمم ، وفي هذه الآية سؤال آخر أن يقال : لم قال : اثنتي عشرة أسباطا ، ففس بالجمع ولم يقل اثنتي عشر سبطا ، كما تقول : رأيت اثنتي عشرة امرأة ، ولا تقول : نساء ، ولا يفسر العدد بعد العشرة إلى التسعة والتسعين إلّا بواحد يدل على الجنس ولا يفسر بالجمع؟ والجواب في ذلك : أنّه لمّا قصد الأمم ولم يقصد السّبط نفسه لم يجز أن يفسره بالسّبط نفسه ويؤنث ، ولكنّه جعل الأسباط بدلا من اثنتي عشرة ، وهو الذي يسميه الكوفيون المترجم ، فهو منصوب على البدل لا على التمييز ثم فسّره بالأمم ، ولو جاء بالأمة لقال : اثنتي عشرة أمة ولم يقل أمما لأنّه قد طابق اللفظ المعنى.

المسألة السابعة

قولك : ما العلة في تحريك أرضين ولم يحركوا خمسين في العدد العلة في ذلك أنّ الأرض مؤنثة لا خلاف في ذلك ، ويقال في تصغيرها : أريضة ، وما كان من المؤنث على ثلاثة أحرف لا هاء فيه للتأنيث فهو بمنزلة ما فيه هاء التأنيث ، لأنّها مقدّرة فيه ، ألا ترى أنّها تردّ في التصغير فيقال في تصغير هند وعين وشمس وأرض : هنيدة وعيينة وشميسة وأريضة؟ هذا مطرد غير منكسر ، إلّا ما كان من نحو : حرب وذود وما أشبه ذلك ، فإنّ الهاء لا تلحقها في التصغير لأنّها في الأصل مصادر سمّي بها ، وما كان على ثلاثة أحرف من الأسماء المؤنثة ساكن الأوسط منه مفتوح الأول نحو : صحفة وجفنة وضربة ، فإذا جمع جمع السلامة فتح الأوسط منه ، فقيل : صحفات وجفنات وضربات ، وأرضات كذلك أيضا تحرك لأنّها اسم مؤنث ، ولذلك قالت العرب في جمعها الصحيح : أرضات ، ثمّ لمّا قالوا : أرضون فجمعوها بالواو والنون تشبيها لها بمائة وثبة وعزة وبابها ، لأنّها مؤنثة كما أنّها مؤنثة ، وإن لم تكن مثلها في النقصان ، لأنّهم قد يشبّهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله في جميع أحواله ، حرّكوا أوسطها بالفتح كما يحركونه مع الألف والتاء لأنّه هو الأصل فقالوا : أرضون ففتحوا كما قالوا : أرضات ففتحوا لأنّ ذلك هو الأصل ، وهذا داخل عليه.

قال سيبويه : فقلت للخليل : فلم قالوا : أهلون فأسكنوا الهاء ولم يحركوها كما حركوا أرضين؟ فقال : لأنّ الأهل مذكر ، فأدخلوا الواو والنون فيه على ما يستحقه ولم


يحتج إلى تحريكه ، إذ ليس بمؤنث يجمع في بعض الأحوال بالألف والتاء فيحرك لذلك قال الله تعالى : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [الفتح : ١١] ، وقال : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦].

قال سيبويه (١) : فقلت له : فلم قالوا : أهلات فحرّكوا حين جمعوا بالألف والتاء؟ قال المخبّل السعدي : [الطويل]

٤٠٩ ـ وهم أهلات حول قيس بن عاصم

إذا أدلجوا باللّيل يدعون كوثرا

فقال : شبهوه بأرضات ففتحوا لذلك ، قال سيبويه : ومنهم من يقول : أهلات فيسكّن الهاء ، وهو أقيس ، والتحريك في كلامهم أكثر ، وهذا من الشواذ الذي يحكى حكاية ولا يجعل أصلا ، أعني جمع أهل أهلات ، ومثله في الشذوذ قول بعضهم في جمع حرّة : حرّون ، والحرّة كلّ أرض ملبسة حجارة ، وكل جبل حرّة ، والقياس : حرّات وحرات ، لأنّه لم يلحقه نقصان فيجمع بالواو والنون عوضا من نقصانه ، وهذا نظير قولهم : أرضون ، وذكر يونس بن حبيب أنّ من العرب من يقول : إحرّون ، فيزيد في أوّله همزة ويكسرها ، وهذا أشذ من الأول ، فأمّا خمسون فليس من أرضين في شيء ، لأنّه اسم مبنيّ للجمع من لفظ خمسة ولا واحد له من لفظه ينطق به ، وإنّما هو بمنزلة ثلاثين من ثلاثة وأربعين من أربعة ، ولم يجمع خمسة في العدد خمسات ، ثم تدخل الواو والنون عليها ، كما قيل في أرض : أرضات ثم أدخلت الواو والنون عليها ، فدلّت على حركتها.

المسألة الثامنة

قول الشاعر : [البسيط]

٤١٠ ـ اشدد يديك بمن تهوى فما أحد

يمضي فيدرك حيّ بعده خلفا

وقول زهير : [الطويل]

٤١١ ـ ألا لا أرى ذا إمّة أصبحت به

فتتركه الأيّام وهي كما هيا

وقولك ما الوجه في قوله : «فيدرك» وفي قوله : «فتتركه الأيام» الرفع أو

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٧٧).

٤٠٩ ـ الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه (ص ٢٩٤) ، والكتاب (٤ / ٧٧) ، وخزانة الأدب (٨ / ٩٦) ، وشرح المفصّل (٥ / ٣٣) ، ولسان العرب (أهل) ، وبلا نسبة في الاشتقاق (ص ١٢٣).

٤١٠ ـ الشاهد غير موجود في المصادر التي بين أيدينا.

٤١١ ـ الشاهد لزهير في ديوانه (ص ٢٨٨) ، وبلا نسبة في رصف المباني (ص ٢٠٠).


النصب؟ فالوجه فيهما النصب على الجواب ، لأنّ الرفع في مثل هذا يكون على أحد وجهين : إمّا على العطف على الأوّل إذا كان يحسن اشتراك الثاني مع الأول كقولك : «ما تأتينا فتحدثنا» بالرفع ، كأنّك قلت : ما تأتينا وما تحدّثنا ، أو على القطع والابتداء ، كقولك أيضا في هذه المسألة : «ما تأتينا فتحدّثنا» ، كأنّك قلت : فأنت تحدّثنا الآن ، ومثله : «دعني فلا أعود» أي : دعني فإنّي لست ممّن يعود وكما قال الشاعر : [الطويل]

٤١٢ ـ فلا زال قبر بين تبنى وجاسم

عليه من الوسميّ جود ووابل

فينبت حوذانا وعوفا منوّرا

سأتبعه من خير ما قال قائل

كأنّه قال : فهو ينبت ، ولم يجعله جوابا ، ولك أن تقول : «ما تأتينا فتحدّثنا» إذا جعلته جوابا ، فيكون ذلك على معنيين ، أحدهما : أن يكون التقدير : ما تأتينا فكيف تحدّثنا؟ أي : لو أتيتنا لحدّثتنا ، والوجه الآخر : أن يكون التقدير : ما تأتينا إلّا لم تحدّثنا ، أي : منك إتيان كثير ولا حديث منك ، وعلى هذا الوجه النصب في البيتين اللّذين سألت عنهما ، فيقال في قول زهير : المعنى إلّا لم تتركه الأيّام وهي كما هيا ، وكذلك «فما أحد يمضي فيدرك حيّ بعده خلفا ، ألا ترى أنّك لو رفعت على العطف لكان التقدير : لا أرى ذا إمّة ولا تتركه الأيام ، وهذا غير مستقيم ، وكذلك البيت الآخر : فما أحد يمضي فيدرك بالرفع تقديره على العطف : فما أحد يمضي ولا يدرك ، وهذا محال لأنّه ليس يريد أن يقول : لا يمضي أحد ولا يدرك حيّ منه خلفا على نفيهما جميعا ، لأنّ المضيّ لا بدّ منه ، ولو رفعت أيضا على القطع والاستئناف لم يستقم ، وإذا بطل وجه الرفع فليس إلّا النصب على الجواب.

المسألة التاسعة

«ما يسأل زيد عن شيء فيجيب فيه» و «ما يسأل عن شيء فيخطئ فيه» أما قولك : «ما يسأل عن شيء فيجيب فيه» فيجوز فيه النصب والرفع ، النصب من وجهين ، والرفع من وجه واحد ، فأحد وجهي النصب : أن يكون التقدير : ما يسأل زيد عن شيء فيجيب فيه بالنصب ، والتقدير : إلّا لم يجب فيه ، أي : قد يسأل فلا يجيب ، هذا معنى الكلام ونصبه على الجواب ، والوجه الثاني : أن يكون التقدير : ما

__________________

٤١٢ ـ البيتان للنابغة في ديوانه (ص ١٢١) ، والكتاب (٣ / ٣٦) ، والردّ على النحاة (ص ١٢٦) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٥٦) ، والمقتضب (٢ / ٢١).


يسأل عن شيء فكيف يجيب فيه؟ أي : لو سئل لأجاب ، ووجه الرفع على العطف ، ما يسأل زيد عن شيء فيجيب فيه ، أي : ما يسأل عن شيء وما يجيب فيه ، وهو قبيح لأنّ ما لا يسأل عنه لا يجاب عنه ، ولكنه جائز مع قبحه ، يدخل في النفي مع الأوّل.

وأما قولك : «ما يسأل زيد عن شيء فيخطئ فيه» فليس فيه إلّا النصب ، لأنّ وجه العطف فيه غير مستقيم ، ألا ترى أنّك لو قلت : ما يسأل عن شيء وما يخطئ فيه كان غير مستقيم ، فالابتداء به وقطعه عمّا قبله غير جائز ، فليس إلّا النصب على الجواب ، وفيه المعنيان اللّذان في المسألة الأولى ، «ما يسأل زيد عن شيء فيخطئ فيه» بالنصب ، والتقدير إلّا لم يخطئ فيه ، أي : قد يسأل فلا يخطئ ، والوجه الآخر : ما يسأل زيد عن شيء فيخطئ فيه ، أي : فكيف يخطئ فيه ، أي : لو سئل لأخطأ.

المسألة العاشرة

قولك : ما السبب في قولهم في النسب إلى طيّئ : طائيّ ، وما الأصل في طيّئ ومن أيّ شيء اشتقاقه؟.

أمّا قولهم في النسب إلى طيّئ : طائي فالنسب في كلام العرب على ثلاثة أضرب : ضرب منه جاء مصروفا عن وجهه وحدّه شاذّا ، فسبيله أن يحفظ حفظا ويؤدّى ولا يقاس عليه ، وذلك قولهم في النسب إلى العالية : علويّ وإلى الشتاء : شتويّ وإلى الدّهر : دهريّ وإلى الروح : روحانيّ وإلى درابجرد : دراورديّ ، وإلى طيّئ : طائيّ ، وإلى الرّيّ : رازيّ وإلى مرو : مروزيّ بزيادة الزاي ، وقد قيل : مرويّ على القياس ، وقالوا في النسب إلى هذيل وفقيم كنانة : هذليّ وفقميّ ، والقياس : فقيميّ وهذيليّ ، وقالوا في النسب إلى البادية : بدويّ وإلى البصرة : بصريّ بكسر الباء ، هذا قول سيبويه (١) ، وقال غيره : بل قولهم : بصريّ قياس لأنّه يقال للحجارة الرّخوة : بصرة بفتح الباء وإلحاق هاء التأنيث ، وبصر بكسر الباء وحذف الهاء لغتان ، قالوا : ويلزم في النسب حذف الهاء ، فإذا حذفت الهاء لزم كسر الباء ، وهذا مذهب حسن ، ومن ذلك قولهم في النسب إلى الأفق (٢) : أفقيّ وإلى حروراء (٣) وهو موضع : حروريّ وإلى جلولاء (٤) جلوليّ وإلى خراسان : خرّسيّ وخراسانيّ على القياس ، ثلاث لغات حكاها

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٣٧٤).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٣٦٨).

(٣) حروراء : قرية بظاهر الكوفة. (معجم البلدان ٢ / ٣٤٦).

(٤) جلولاء : مدينة قديمة مشهورة بإفريقيا ، ولها حصن وعين ثرة في وسطها. (الروض المعطار في خبر الأقطار (ص ١٦٨).


سيبويه ، قال سيبويه (١) : ومنه قولهم في النسب إلى صنعاء صنعانيّ بالنون ، وكذلك قالوا في النسب إلى بهراء (٢) وهي قبيلة من قضاعة : بهرانيّ بالنون ، وإلى دستواء ـ مدينة ـ : دستوانيّ بالنون ، وقال أبو العباس المبرد : النون في قولهم : دستوانيّ وبهرانيّ وصنعانيّ بدل من الهمزة ، كما أنها في عطشان بدل من ألف التأنيث التي في عطشى ، وألف عطشى بمنزلة الألف الثانية التي في حمراء المبدل منها الهمزة لأنّه اجتمع ألفان ساكنان فأبدلت الثانية همزة ، لأنّها لو حذفت صار الممدود مقصورا ، فهذا الضرب كثير من النسب جدّا في كلامهم ، والعمل فيه على السماع ، وقد ذكر سيبويه أنّ قولهم في النسب إلى طيّئ (٣) : طائيّ من هذا النوع ، وعندي أنّه مع ما ذكر سيبويه فرّوا فيه لو نسب إليه على القياس من اجتماع أربع ياءات وهمزة ، لأنّ في طيّئ ياءين وهمزة ، وكانت تلحقه ياء النسب مثقلة وهي ياءان ، وكان السبيل أن يقال : طيّئيّ ، فتجتمع أربع ياءات وهمزة وكسرتان ، فاستثقلوا ذلك فصرفوه إلى المحدود عن بابه ، فحذفوا الياء الأولى من طيّئ وهي ساكنة ، فوجب قلب الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فقيل : طائيّ ، فهذا قياسه.

وضرب منه يأتي على القياس ، كقولهم في النسب إلى بكر : بكريّ وإلى عليّ : علويّ وإلى فتى ورحى : فتويّ ورحويّ ، وما أشبه ذلك على شروطه ومقاييسه المذكورة في حدّ النسب.

وضرب منه يأتي على لفظ فعّال أو فاعل ، كقولهم لصاحب الجمال : جمّال ، ولصاحب الحمر حمّار ، ولذي الدّرع : دارع ولذي النّبل : نابل ولذي التّمر : تامر ولذي اللّبن : لابن ، وهو مسموع ينقل ويحفظ.

فأمّا القول في اشتقاق طيّئ فإني لا أحفظ فيه شيئا عن أصحابنا إلّا ابن قتيبة ذكر على ما أخبرنا عنه أبو القاسم الصائغ أنّ (٤) «نقلة الأخبار رووا أنّ طيّئا أول من طوى المناهل ، سمي بذلك وأنّ مرادا تمرّدت فسميت بذلك ، واسمها يحابر» قال : «ولا أرى كيف هذان الحرفان ، ولا أنا من هذا التأويل فيهما على يقين».

فأمّا اشتقاق مراد من التّمرّد فغير منكر لأنّ مرادا فعال من مرد فهو مارد وتمرّد فهو متمرّد ، واشتقاق مراد من التّمرّد غير بعيد ، وأمّا اشتقاق طيّئ من طويت فغير مستقيم ، لأنّ لام الفعل من طيّيء همزة ومن طويت ياء فهو خالف له وليس يجوز أن يكون طيّيء إلّا مشتقا ، والذي عندي فيه أنّ الطاءة الظلة ، وحروف فائها وعينها ولامها موافقة لحروف طيّئ ، فيشبه أن يكون فيعلا من ذلك.

__________________

(١ و ٢ و ٣) انظر الكتاب (٣ / ٣٦٨).

(٤) انظر الاشتقاق (ص ٣٩٨) ، وأدب الكتاب (ص ٦٤).


والناس في الاشتقاق على ثلاثة مذاهب : فأمّا جمهور العلماء من أهل اللغة والنظر من الكوفيين والبصريين مثل الخليل وأبي عمرو وسيبويه والأخفش ويونس وقطرب والكسائيّ والفراء والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيد وغيرهم على أنّ بعض الأسماء مشتق وبعضها غير مشتق ، وأهل الظاهر يذهبون إلى أنّ الكلام كله أصل في بابه ، ليس شيء منه مشتقا من شيء ، فإن قيل : إنّ القطاميّ مشتق من القطم وهو الشّهوان للحم وغيره ، قالوا : بل القطم مشتق من القطاميّ ، وإن قيل لهم ، إنّ زهيرا من الأزهر وهو الأبيض قالوا : بل الأزهر من زهير وإن قيل لهم : إنّ الباتر في صفات السيف من البتر وهو القطع قالوا : لا ، البتر من الباتر ، ومن صيّر أحد هذين أولى بأن يكون أصلا من صاحبه ، بل الكلام كله أصل في بابه ، ويدفعون الاشتقاق أصلا ، وهؤلاء ليس ممّن يذهب مذهب أهل اللغة ، ولا يتعلق بأساليبها ، لأنّه ليس أحد من أهل اللغة يدفع الاشتقاق بوجه ولا سبب.

وقوم يذهبون إلى أنّ الكلام كله مشتق ، وهذا شيء لم ألق أحدا ممن يوثق بعلمه يقول به ، ولا قرأت فيه كتابا للمتقدمين مصنفا ، وإنّما هو قول شاذ يتعلق به بعض المتكلفين التحقق باللغة ، وبعض الناس يزعم أنّ أبا إسحاق الزجاج كان يذهب إليه ، ومعاذ الله من ذلك ، وإنّما دعاهم إلى هذا إملاء أبي إسحاق كتابه الكبير في الاشتقاق ، وذلك أنّه توغل في كثير منه وتقلّد في كثير مما هو غير مشتق عند أهل اللغة أنّه مشتق ، فأمّا أن يعتقد أنّ الكلام كله مشتق فمحال لأنّه لا بدّ للمشتق من أصل يتناهى إليه غير مشتق ، وذكرت في هذا الفصل رقعة أبي الحسن الصيمري المتكلم إلى أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد في هذا المعنى وجوابها منه ، فأجبت أن أتحفك بهما ، لما فيهما من الفوائد من حسن سؤال السائل وإجابة المجيب في الجواب.

كتب أبو الحسن الصيمري إلى أبي بكر بن دريد : أنت أدام الله عزّك كهف الأدب ، وإليك مفزع أهله فيما أشكل من اللغة ، واستعجم من معاني العربية ، وقد زعم قوم من أهل الجدل أنّ العرب تسمّت بأسماء تأدّت إليها صورها ولم يعرفوا هم معانيها وحقائقها ، فقيل لهم : أتعرفون ما تحت تلك الأسماء التي لم يعرفوا حقائقها ومجازها والاتساع فيها؟ فقالوا : لا هل يجوز عندك أن توقع العرب اسما على ما لا معنى تحته يعرفونه هم؟ وقالوا : إنّ العرب لم تدر ما الاستطاعة وما القدرة وما القوة ، فما عندك في ذلك؟ وتفضّل بتعريفنا هل في كلامهم إذا قيل لأحدهم : بماذا استطعت قطع هذا الحبل وهذا الطّنب أو هذا اللحم أن يقول بسكين أو شفرة أو


سيف؟ وهل يقولون : فلان قويّ على فلان بماله أو بسيفه أو برمحه؟ وهل عندك أنّ قول الله عزّ وجلّ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، أنّه أراد به الراحلة والزاد دون صحة بدنه أو أراد به صحة بدنه والزاد والراحلة؟ وأفتنا في معنى قوله الله عزّ وجلّ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦٠] ، هل القوة ورباط الخيل ممّا استطاعوه أو غير ذلك؟ وإن حضرك ـ أيّدك الله ـ شواهد من الشعر أو من مطلق كلام العرب بيّنت ذلك لنا وأتبعته مسؤولا بذكر ما قيل : إنّ العرب لم تعرف شيئا من حقائق الأعراض ، وهل جائز عليهم أن يسموا شيئا لا يعرفون حقيقته أم لا؟ ومننت به علينا إن شاء الله تعالى ، وأطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك ، وأيد أهل الأدب بك وحرس نعمته عليك ومواهبه لديك.

فأجابه أبو بكر بن دريد : وقفت أدام الله عزك على متضمّن كتابك ، فأما المسألة الأولى فقد بينتها في أول كتاب الاشتقاق ، وهي قول من زعم من أهل الجدل أن العرب تسمّت بأسماء تأدّت إليها صورها ، ولم تعرف العرب حقائقها ، وإنّما تعلّق هؤلاء الزاعمون بما ذكره اللّيث بن المظفر في (كتاب العين) عن الخليل أنّه سأل أبا الدّقيش (١) ما الدّقش؟ فقال : لا أدري ، إنّما هي أسماء نسميها لا نعرف معناها ، وهذا جهل من اللّيث وادّعاء على الخليل ، وذلك أنّ العرب قد سمّت دقشا ثم حقّروه فقالوا : دقيش ، ثم صرّفوه من فعل إلى فنعل فسمّوا دنقشا وكل هذه أسماء ، فلو لم يكن للدّقش أصل في كلامهم ولم يقفوا على حقيقته لم يجيئوا به مكبّرا ومحقّرا ومصرّفا من فعل إلى فنعل ، والدّقيش طائر أغيبر أريقط معروف عندهم ، قال غلام من العرب ، أنشده يونس ومكوزة : [الرجز]

٤١٣ ـ يا أمّتاه واخصبي العشيّه

قد صدت دقشين وسندريّه

وليس قول الليث مقبولا على أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد نضّر الله وجهه ، والدليل على ذلك تخليط الليث في كتاب العين واحتجاجه بالأشعار الضعيفة ، ثم بأشعار المولدين نحو أبي الشّمقمق ومن أشبهه.

وأما قولك أيّدك الله : أيجوز عندي أن توقع العرب اسما على ما لا معنى له؟

__________________

(١) أبو الدقيش القناني الغنوي ، وذكره ابن النديم بالسين المهملة. (انظر الفهرست ص ٧٦). وهو أحد فصحاء الأعراب.

٤١٣ ـ الرجز بلا نسبة في لسان العرب (دقش) ، وتاج العروس (دقش) ، والتنبيه والإيضاح (٢ / ٣١٨).


فهذا خلف من الكلام ، ليس في كلامهم كلمة جدّ ولا هزل إلّا وتحتها معنى من فنها ، ولو تكلف ذلك متكلف حتى يستقصيه لأوضح منه ما خفي ، فأمّا قولهم : إنّ العرب لم تدر ما الاستطاعة وما القدرة وما القوة فكيف يكون ذلك وقد جاء في الشعر الفصيح عن المطبوعين دون المتكلفين؟ قال عمرو بن معد يكرب : [الوافر]

٤١٤ ـ إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وقال القطاميّ وهو حجة : [الوافر]

٤١٥ ـ أمور لو تدبّرها حليم

لهيّب أو لحذّر ما استطاعا

وهذا يكثر أدام الله تأييدك ، فأمّا القول في أنّهم إذا قيل لأحدهم : بم استطعت قطع الحبل أو هذا الطّنب أن يقول : بسكين أو شفرة أو سيف فللاستطاعة عندهم موضعان : موضع بفضل قوة وشدة بطش ، وموضع بآلة نحو : السيف والشفرة وما أشبههما ، وفي الجملة أنّهم لا يؤمنون بالاستطاعة إلّا إلى الإنسان دون سائر الحيوان ، ولهم ترتيب في لغتهم ، يقولون : فلان يستطيع أن يرقى هذا الجبل ، وهذا الجمل مطيق للسفر ، وهذا الفرس صبور على مماطلة الحضر ، وكذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، إنّما قال : «استطاع» لمّا وقع الخطاب على «من» وهي تقع على من يعقل خاصة ، فلزم هذا الخطاب المستطيعين الحج بأيّ ضرب من الضروب كان مطلقا بزاد وراحلة وصحة بدن وكيفما وجد السبيل إليه ، هكذا ظاهر الخطاب ومخرجه على مذاهب كلام العرب.

وأمّا قوله عزّ وجلّ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦٠] فليس المراد بالقوة هاهنا قوة الأجسام التي بها يكون بطشها وتصرّفها واقتدارها على ما تحاول ، لأنّ ذلك ليس إلى الناس الزيادة فيه ولا النّقصان منه ، وإنّما الله يزيد في قوى الأجسام وينقص منها كما يريد تبارك وتعالى ، وإنّما أريد به والله أعلم : وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة أي : من الأشياء التي تتقوّون بها على العدو من سلاح وآلة وأصحاب وأنصار ، وغير ذلك ممّا تفلّون به غرب عدوكم وتعلون به عليهم ، وكذلك قوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي : وأعدّوا لهم من الخيل ما تتقوّون به عليهم ، وهذه القوة ورباط الخيل مّا كانوا يستطيعون إعداده ويمكنهم ، فأمروا

__________________

٤١٤ ـ الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (ص ١٤٥) ، وتاج العروس (زمع) و (طوع) و (ودع) ، والأصمعيات (ص ١٧٥).

٤١٥ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٣٤) ، وطبقات فحول الشعراء (ص ٥٣٨).


بإعداده للعدوّ ليرهبوهم وليخيفوهم ، وهذا باب يطول جدا ، وفيما أومأت إليه دليل عما سواه مما يتصل به.

وأما سؤالك أيّدك الله عن مذاهب العرب في العرض ، وهل كانوا عارفين به أم كيف سمّوا شيئا لا يعرفون حقيقته ، فقد ذكرت لك أيدك الله أنّه ليس في كلامهم من اسم هزل ولا جدّ إلّا وتحته معنى من جنسه ، ولكنّهم لم يكونوا يذهبون بالعرض مذاهب المتفلسفة ولا طريق أهل الجدل ، وإن كان مذهبهم فيه لمن تدبّر مطابقا لغرض الفلاسفة والمتكلمين في حقيقته ، وذلك أنّهم يذهبون بالعرض إلى أسماء منها : أن يضعوه موضع ما اعترض لأحدهم من حيث لم يحتسبه ، كما يقال : علّقت فلانة عرضا أي اعتراضا من حيث لم أقدّره ، قال الأعشى : [البسيط]

٤١٦ ـ علّقتها عرضا وعلّقت رجلا

غيري وعلّق أخرى ذلك الرّجل

وقد يضعونه موضع ما لا يثبت فلا يدوم ، كقولهم : كان ذلك الأمر عن عرض ثم زال ، وقد يضعونه موضع ما يتصّل بغيره ويقوم به ، وقد يضعونه مكان ما يضعف ويقلّ ، فكأنّ المتكلمين استنبطوا العرض من أحد هذه المعاني فوضعوه لما قصدوا له ، وهو ـ إذا تأملته ـ غير خارج عن مذاهب العرب ، وكذلك الجوهر عند العرب ، إنما يشيرون به إلى الشيء النفيس الجليل ، فاستعمله المتكلمون فيما خالف الأعراض ، لأنّها أشرف منها ، وقد ولّدت أسماء في الإسلام لم تكن العرب قبله عارفة بها ، إلّا أنّها غير خارجة عن معاني كلامها واستفادة معرفتها إذ كانت على أوضاعها والمعاني التي تعقلها ، وذلك نحو الكافر والفاسق والمنافق إنما اشتقاق الكافر من كفرت الشيء إذا سترته وغطيته ، والفاسق من فسقت الرّطبة إذا خرجت من قشرها ، واشتقاق المنافق من النّافقاء وهو أحد جحرة اليربوع إلى كثير من ذلك يطول تعداده ، وكذلك في كل زمان وأوان لا يخلو الناس فيه من توليد أسماء يحدث لها أسباب ، فيتعارفونها بينهم بكل لغة ولسان ، فليس هذا منكرا إذا كان ذلك غير خارج عن الأصول المتفق عليها والمعاني المعقولة بينهم ، وفيما ضمّنت من كتاب الاشتقاق ما يدلك على ما التمست الوقوف عليه من هذا النحو ، وهذا من القول كاف في جواب ما سألت عنه ، وأطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك ، وأتمّ نعمته عليك وعلى أهل العلم بك وفيك وعندك.

__________________

٤١٦ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٠٧) ، وشرح التصريح (١ / ٢٨٦) ، ولسان العرب (عرض) و (علق) ، وتاج العروس (علق) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٥٠٤) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ١٣٦).


المسألة الحادية عشرة

وهي آخر مسائلك ، وهي قولك : ما وزن أرطى وأفعى وأروى ، وهل هي على وزن أفعل أم الألف في آخرها منونة؟

أمّا أرطى فللعرب فيها مذهبان : أكثرهم على أنّ الهمزة في أوّلها أصلية ، والألف في آخرها مزيدة للإلحاق ، فتقديرها فعلى ملحق بفعلل نحو : جعفر وسلهب ، فالألف ألحقته بهذا البناء ، والدليل على ذلك قولهم : أديم مأروط إذا دبغ بالأرطى ، ولو كانت الهمزة مزيدة وكان على وزن أفعل لقيل : أديم مرطيّ ، والأرطى جمع واحدتها أرطاة ، وهي شجرة تدبغ بها العرب ، وذكر الجرميّ أنّ من العرب من يقول : أديم مرطيّ ، فأرطى على هذا التقدير أفعل ، والهمزة في أولها زائدة ، فإذا سمّي بها مذكر على المذهب الأول وهو المشهور المعروف لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة ، وإذا سمي بها في المذهب الثاني مذكر لم ينصرف أيضا في المعرفة وانصرف في النكرة ، فأمّا الآن في موضعها وهي شجر فهي مصروفة للنكرة ، فتقول : أرطاة وأرطى كما ترى مصروف واحده وجمعه لأنه نكرة ، وذكر سيبويه (١) وغيره من النحويين أنّ الاسم إذا كان أربعة أحرف بهمزة في أوله حكم عليها بالزيادة ، نحو : أفكل وأيدع وما أشبه ذلك ، وإنّما ويحكم على الهمزة هاهنا بالزيادة لكثرة ما جاءت زائدة في هذا النحو مما يدل الاشتقاق على زيادتها فيه ، نحو : أحمر وأصفر وأخضر وأحمد وما أشبه ذلك ، فألحق ما لا اشتقاق له به إلا أسماء قام الدليل على أنّ الهمزة في أوائلها أصلية ، وهي أرطى وإمّعة وأيصر.

فأمّا أرطى فقد مضى القول فيه ، وأمّا إمّعة (٢) فالدليل على أنّ الهمزة في أولها أصلية أنّه ليس في الكلام إفعلة وإنّما هو فعّلة مثل : دنّمة وهو القصير ، وأمّا أيصر فالدليل على ذلك أنّهم قالوا في جمعه : إصار ، وهو كساء يحتشّ فيه ، قال الشاعر : [المتقارب]

٤١٧ ـ [فهذا يعدّ لهنّ الغلى]

ويجمع ذا بينهنّ الإصارا

وأمّا أفعى فالهمزة في أوّلها مزيدة ووزنها أفعل ، إلّا أنّ للعرب فيها مذهبين ،

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٢١٨).

(٢) انظر الكتاب (٤ / ٤٠٧).

٤١٧ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٠١) ، ولسان العرب (أصر) ، والمقتضب (٣ / ٣١٧) ، والمنصف (٢ / ١٨) ، وبلا نسبة في المنصف (١ / ١١٣).


أكثرهم على أنّها اسم وليس بصفة ، وإذا كانت اسما وهي نكرة وجب صرفها ، لأنّ ما كان على أفعل اسما فهو مصروف في النكرة ، نحو : أفكل وأيدع وأربع ، وإنّما يمتنع من الصرف في المعرفة ، وأكثر العرب على صرف أفعى على هذا التقدير ، قال سيبويه (١) : أجدل للصقر وأخيل للطائر ، وأفعى ، الأجود فيها أن تكون أسماء فتصرف لأنها نكرات ، وقد جعلها بعضهم صفات ، فلم يصرفوها لأن ما كان على أفعل نعتا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة ، نحو : أحمر وأصفر وأشقر ، فكذلك أجدل وأخيل وأفعى عند هؤلاء نعوت فلا يصرفونها : قال : واحتج هؤلاء بأن قالوا : إنما قيل له أجدل من الجدل وهو شدة الخلق فصار أجدل عندهم بمنزلة شديد ، وجعلوا أخيل أفعل من الخيلان للونه وهو طائر على جناحه لمعة مخالفة للونه ، وكذلك أفعى عندهم وإن لم يكن لها فعل ولا مصدر ، وكان امتناع أجدل وأخيل من الصرف وإلحاقه بالنعوت أقوى من ترك صرف أفعى لبيان الاشتقاق في هذين ، وأنّه لا اشتقاق للأفعى ، والأجود فيها الصرف ، وذكر الجرمي أيضا أنّ أكثر العرب على صرف أفعى ، وقد ترك صرفها بعضهم ، والأفعى الأنثى والذكر أفعوان ، وأمّا أروى فوزنها فعلى ، والهمزة في أولها أصلية ، والألف في آخرها للتأنيث ، فهي بمنزلة سكرى تمتنع من الصرف في المعرفة والنكرة.

فهذا منتهى القول في المسائل التي ضمّنتها آخر كتابك والله المعين والموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

رأي ابن خالويه في تثنية وجمع (البضع)

قال ابن خالويه في مجموع له : كتب إليّ سيّدنا الأمير سيف الدولة أطال الله بقاءه يوم جمعة وأنا في الجامع : كيف يثنّى ويجمع البضع؟ فقلت : إنّه جرى في كلامهم كالمصدر لم يثنّ ولم يجمع مثل البخل ، قال الله تعالى : (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) [النساء : ٣٧] ، ولم يقل بالإبخال ، ولو جمعناه قياسا لقلنا : أبضاعا ، مثل : قفل وأقفال وخرج وأخراج لأنّ فعلا يجمع على أفعال.

من الفتاوى النحوية لابن الشجري

قال ابن الشجري في (أماليه) (٢) : في المجلس الثامن والخمسين : ذكر مسائل استفتيت فيها بعد ما استفتي المكنيّ بأبي نزار ، فجاء بخلاف ما عليه أئمّة النحويين

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ١٢٢ ، و ٣ / ٢٢٤).

(٢) انظر أمالي ابن الشجري (٢ / ١١٦).


أجمعين ، وكذلك خالف العرب قاطبة في كلمة أجمعوا عليها ، وأثبت خطه بما سنح له من هذيانه ، وأثبت بعده خطه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد المعروف بابن الجواليقي.

نسخة الفتوى : ما تقول السادة النحويون أحسن الله توفيقهم في قول العرب :

«يا أيّها الرجل» ، هل ضمة اللام فيه ضمة إعراب؟ وهل الألف واللام فيه للتعريف؟ وهل يأمل ومأمول وما يتصرف منهما جائز؟ وهل يكون «سوى» بمعنى غير؟.

نسخة جواب المكنيّ بأبي نزار :

الضمة في اللام من قولهم : «يا أيّها الرجل» ضمة بناء وليست ضمة إعراب ، لأن ضمة الإعراب ، لا بدّ لها من عامل عامل يوجبها ، ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة ، والألف واللام ليست هاهنا للتعريف ، لأنّ التعريف لا يكون إلّا بين اثنين في ثالث ، والألف واللام هنا في اسم المخاطب ، والصحيح أنّها دخلت بدلا من «يا» ، و (أيّ) وإن كان منادى فنداؤه لفظي ، والمنادى على الحقيقة هو الرجل ، ولمّا قصدوا تأكيد التنبيه وقدّروا تكرير حرف النداء كرهوا التكرير ، فعوضوا عن حرف النداء ثانيا «ها» في «أيّها» وثالثا الألف واللام ، فالرجل مبني بناء عارضا كما أنّ قولك : يا زيد يعلم منه أنّ الضمة فيه ضمة بناء عارض.

وأمّا أصل (يأمل) فلا يجوز لأنّ الفعل المضارع إذا كان على يفعل بضم العين كان بابه أنّ ماضيه على فعل بفتح العين ، وأمل لم أسمعه فعلا ماضيا ، فإن قيل : يقدّر أنّ «يأمل» فعل مضارع ولم يأت ماضيه كما أنّ «يذر» و «يدع» كذلك ، قلت : قد علم أنّ «يذر» و «يدع» على هذه القضية جاءا شاذين ، فلو كان معهما كلمة أخرى شاذة لنقلت نقلهما ، ولم يجز أن لا تنقل ، وما سمعنا أن ذلك ملحق بما ذكرنا فلا يجوز يأمل ومأمول ، إلّا أن يسمعني الثقة أمل خفيف الميم.

وأمّا «سوى» فقد نص على أنّها لا تأتي إلّا ظرف مكان ، وأنّ استعمالها اسما منصرفا بوجوه الإعراب بمعنى «غير» خطأ وكتب أبو نزار.

نسخة جواب الشيخ أبي منصور موهوب بن أحمد

ضمة اللام من قولك : «يا أيّها الرّجل» وشبهه ضمة إعراب ، ولا يجوز أن تكون ضمة بناء ، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب ، وذلك أنّ الواقع عليه النداء «أيّ» المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف ، والرجل وإن كان مقصودا بالنداء فهو صفة


أيّ ، فمحال أن يبنى أيضا لأنّه مرفوع رفعا صحيحا ، ولهذا أجاز فيه أبو عثمان النصب على الموضع ، كما يجوز في «يا زيد الظريف» ، وعلة رفعه أنّه لمّا استمرّ الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل ، فأجريت صفته على اللفظ فرفعت ، ومحال أن يدّعى تكرير حرف النداء مكان ها ومكان الألف واللام ، لأنّ المنادى واحد ، وإنما تقدّر الألف واللام بدلا من حرف النداء فيما عطف بالألف واللام نحو : «يا زيد والرجل» ، لأنّ المنادى الثاني غير الأول ، فيحتاج أن يقدر فيه حرف النداء ، فقد صارت الألف واللام هناك كالبدل منه ، وليس كذلك «يا أيّها الرجل» ، لأنه بمنزلة «يا هذا الرجل» ، والألف واللام فيه للتعريف. وأما أمل يأمل فهو آمل والمفعول مأمول فلا ريب في جوازه عند العلماء ، وقد حكاه الثقاة ، منهم الخليل وغيره ، والشاهد عليه كثير ، قال بعض المعمّرين : [مجزوء الكامل]

٤١٨ ـ المرء يأمل أن يعي

ش وطول عيش قد يضرّه

وقال الآخر : [المنسرح]

٤١٩ ـ ها أنذا آمل الخلود وقد

أدرك عقلي ومولدي حجرا

وقال كعب بن زهير : [البسيط]

٤٢٠ ـ [أنبئت أن رسول الله أوعدني]

والعفو عند رسول الله مأمول

وقال المتنبي وهو من العلماء بالعربية : [الكامل]

٤٢١ ـ حرموا الذي أملوا [وأدرك منهم

آماله من عاد بالحرمان]

وأما «سوى» فلم يختلفوا في أنّها تكون بمعنى «غير» ، وتكون أيضا بمعنى الشيء نفسه ، تقول : «رأيت سواك» أي : «غيرك» ، وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي عبيدة ، وقال الأعشى : [الطويل]

٤٢٢ ـ [تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي]

وما قصدت من أهلها لسوائكا

__________________

٤١٨ ـ الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه (ص ١٩١) ، وأمالي القالي (٢ / ٨) ، والخزانة (١ / ٥١٤) ، وللنابغة الذبياني في الشعر والشعراء (ص ١٥٩) ، وليس في ديوانه ، وهو للبيد في ديوانه (ص ٣٦٥).

٤١٩ ـ الشاهد للربيع بن ضبع الغزاري في نوادر أبي زيد (ص ١٥٩) ، وأمالي القالي (٢ / ١٨٥) ، والخزانة (٣ / ٣٠٨) ، وبلا نسبة في المقتضب (٣ / ١٨٣).

٤٢٠ ـ الشاهد لكعب بن زهير في ديوانه (ص ١٩) ، وطبقات فحول الشعراء (ص ١٠١).

٤٢١ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (ص ٤١٥).

٤٢٢ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٣٩) ، والأضداد (ص ٤٤) ، والكتاب (١ / ٦٤) ، وخزانة الأدب (٣ / ٤٣٥) ، والدرر (٣ / ٩٤) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٣٧) ، ولسان العرب (جنف) ، و (سوا) ، وبلا نسبة في شرح المفصل (٢ / ٨٤) ، وفقه اللغة للصاحبي (ص ١٥٤) ، والمقتضب (٤ / ٣٤٩) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٠٢).


أي لغيرك ، فهذه بمعنى غير ، وهي أيضا غير ظرف ، وتقدير الخليل لها بالظرف في الاستثناء بمعنى مكان وبدل لا يخرجها عن أن تكون بمعنى غير ، وفيها لغات ، إذا فتحت مدّت لا غير ، وإذا ضمت قصرت لا غير ، وإذا كسرت جاز المدّ والقصر أكثر ، وما يحمل المتكلم بالقول الهراء إلا فشوّ الجهل ، وكتب موهوب بن أحمد.

قال ابن الشجري : نسخة جوابي : الجواب والله سبحانه الموفق للصواب :

إنّ ضمة اللام في قولنا : «يا أيّها الرجل» ضمة إعراب ، لأنّ ضمة المنادى المفرد المعرفة لها باطّرادها منزلة بين منزلتين ، فليست كضمة حيث لأنّ ضمة حيث غير مطردة ، وذلك لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ، ولا كضمة زيد في نحو : «خرج زيد» ، لأنّ هذه حدثت بعامل لفظيّ ، ولو ساغ أن توصف «حيث» لم يجز وصفها بمرفوع حملا على لفظها ، لأنّ ضمتها غير مطردة ولا حادثة عن عامل ، ولمّا اطّردت الضمة في قولنا : يا زيد ، يا عمرو ، وكذلك اطردت في النكرات المقصودة قصدها ، نحو يا رجل ، يا غلام إلى ما لا يحصى كثرة ، تنزّل الاطّراد فيها منزلة العامل المعنوي الرافع للمبتدأ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدئ به مجردا من عامل لفظي وجيء له بخبر ، كقولك : «زيد منطلق» «عمرو ذاهب» إلى ما لا يدركه الإحصاء ، فلمّا استمرّت ضمة المنادى في معطم الأسماء كما استمرت في الأسماء المعربة الضمة الحادثة عن الابتداء شبهتها العرب بضمة المبتدأ ، فأتبعتها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو : «يا زيد الطويل» ، وجمع بينهما أيضا أنّ الاطّراد معنى كما أنّ الابتداء معنى ، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى تناسب بينهما ، وحتى إنهم قد حملوا أشياء على نقائضها ، ألا ترى أنّهم قد أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] بكسر الدال ، وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في قراءة من قرأ «الحمد لله» بضم اللام ، وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في نحو «يا زيد بن عمرو» في قول من فتح الدال من زيد؟ وقد كان شافهني هذا المتعدّي طوره بهذا الهراء الذي ابتدعه والهذاء الذي اختلقه واخترعه ، فقلت له : إنّ ضمة المنادى لها منزلة بين منزلتين ، فقال منكرا لذلك : ما معنى المنزلة بين المنزلتين؟ فجهل معنى هذا القول ، ولم يحسّ بأنّ هذا الوصف يتناول أشياء كثيرة من العربية ، كهمزة بين بين التي هي بين الهمزة والألف أو الهمزة والياء أو الهمزة والواو ، وكألف الإمالة التي هي بين ألف التفخيم والياء ، وكالصاد المشربة صوت الزاي ، وكالقاف التي بين القاف الخالصة والكاف.


وأمّا قوله : إنّ الألف واللام هنا ليست للتعريف ، لأنّ التعريف لا يكون إلّا بين اثنين في ثالث ، والألف واللام هنا في اسم المخاطب ، والصحيح أنّها دخلت بدلا من يا فقول فاسد ، بل الألف واللام هنا لتعريف الحضرة ، كالتعريف في قولك : «جاء هذا الرجل» ولكنّها لمّا دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا : «يا أيّها الرجل» معناه : يا رجل ، ولمّا كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب ، فاكتفي باثنين لأنّ أسماء الخطاب لا يفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث ، ألا ترى أنّ قولك : «خرجت يا هذا» و «وانطلقت» و «لقيتك» ، و «وأكرمتك» لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف تقتضي أن يكون بين اثنين في ثالث ، ألا ترى أنّ ضمائر المتكلمين نحو : «أنا خرجت» و «نحن ننطلق» لا يوجب في تعريفها حضور ثالث؟ فقد وضح لك بهذا أنّ قوله : «التعريف لا يكون إلّا بين اثنين في ثالث» كلام ظاهر الفساد ، لأنّه أطلق هذا اللفظ على جميع التعاريف ، فتأمل سدّدك الله الفقرة التي عمي عنها هذا الغبيّ ، عمّا صدرت به حتى خطّأ بجهله الأئمّة المبرزين في علم العربية المتقدمين منهم والمتأخرين ، ومن شواهد إعراب الرجل في قولنا : «يا أيّها الرجل» نعته بالمضاف المرفوع في قولك : «يا أيّها الرجل ذو المال» ، وعلى ذلك أنشدوا : [الرجز]

٤٢٣ ـ يا أيّها الجاهل ذو التّنزّي

فهذا دليل على إعراب «الرجل» قاطع ، لأنّ الصفة المضافة في باب النداء لا يجوز حملها على لفظ المبني ، ولا تكون إلّا منصوبة أبدا ، كقولك : «يا زيد ذا المال» ، وقد عارضته بهذا الدليل الجليّ الذي تناصرت به الروايات عن النحوي واللغوي ، فزعم أنّه لا يرفع هذه الصفة ، ولا ينشد إلّا «ذا التّنزّي» ، ولا يعتدّ بإجماع النحويين واللغويين على سماع الرفع فيها عن العرب ، فدلّ ذلك على أنّ هذا العديم الحسّ هو المقصود بالنداء في قول القائل : «يا أيّها الجاهل ذو التّنزّي».

وأمّا قوله : «ولمّا قصدوا تأكيد التنبيه وقدّروا تكرير حرف النداء كرهوا التكرير ، فعوّضوا عن حرف النداء ثانيا ها وثالثا الألف واللام» فهذا من دعاويه الباطلة ، لأنّه زاعم أنّ أصل «يا أيّها الرجل» : يا أيّ يا يا رجل ، فعوّضوا من يا الثانية ها ومن الثالثة الألف واللام ، وليس الأمر على ما قاله وابتدعه من هذا المحال ، ولكن

__________________

٤٢٣ ـ الرجز لرؤبة في ديوانه (ص ٦٣) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٤٧١) ، والكتاب (٢ / ١٩٣) ، وشرح المفصّل (٦ / ١٣٨) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢١٩) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٨٢٥) ، والمقتضب (٤ / ٢١٨).


العرب كرهوا أن يقولوا : يا الرجل وما أشبه ذلك ، فيولوا حرف النداء الألف واللام ، فأدخلوا أيّ فجعلوها وصلة إلى نداء المعارف بالألف واللام ، وألزموها حرف التنبيه عوضا لها ممّا منعته من الإضافة ، هذا قول النحويين ، فمن تكلّف غيره بغير دليل فهو مبطل ، فلا حاجة بنا إلى أن نقدّر أنّ الأصل : يا أيّ يا يا رجل ، فإنّه مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجّه السمع وينكره الطبع.

وأمّا قوله في «أكل ويأمل» : إنّهما لا يجوزان عنده لأنّه لم يسمع في الماضي منهما أمل خفيف الميم ، فليت شعري ما الذي سمع من اللغة ووعاه حتى أنكر أن يفوته هذا الحرف؟ وإنما ينكر مثل هذا من أنعم النظر في كتب اللغة كلها ، ووقف على تركيب أم ل في كتاب العين للخليل بن أحمد ، وكتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد والمجمل لأبي الحسين بن فارس وديوان الأدب لأبي إبراهيم الفارابي وكتاب الصحاح لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري النيسابوري ، وغير ذلك من كتب اللغة ، فإذا وقف على أمّهات كتب هذا العلم التي استوعب كل كتاب منها اللغة أو معظمها فرأى أنّ هذا الحرف قد فات أولئك الأعيان ثم سمع قول كعب بن زهير (١) : [البسيط]

والعفو عند رسول الله مأمول

سلّم لكعب وأذعن له صاغرا قميئا ، فكيف يقول من لم يتولّج سمعه عشرة أسطر من هذه الكتب التي ذكرتها : «لم» أسمع «أمل» ولا أسلم أن يقال : مأمول»؟.

وأمّا قوله : إنه لا يجوز «يأمل» ولا مأمول إلّا أن يسمعني الثقة «أمل» فنقول من لم يعلم بأنّهم قالوا : فقير ولم يقولوا فقر ، ولم يأت فعله إلّا بالزيادة ، أفتراه ينكر أن يقال : فقير ، لأنّ الثقة لم يسمعه فقر؟ فلعله يجحد أن يكونوا قد نطقوا بفقير ، وقد ورد به القرآن في قوله تعالى : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٤٢] ، وهل إنكار فقير إلّا كإنكار مأمول؟ بل إنكار فقير عنده أوجب ، لأنّهم لم يقولوا في ماضيه إلّا افتقر ، ومأمول قد نطقوا بماضيه بغير زيادة.

وأمّا «سوى» فإنّ العرب استعملتها استثناء ، وهي في ذلك منصوبة على الظرف بدلالة أنّ النصب يظهر منها إذا مدّت ، فإذا قلت : «أتاني القوم سواك» فكأنك قلت : أتاني القوم مكانك ، وكذلك : «أخذت سواك رجلا» ، أي : مكانك ، واستدلّ الأخفش على أنّها ظرف بوصلهم الاسم الناقص بها في نحو : «أتاني الذي سواك» ،

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٥٠).


والكوفيون يرون استعمالها بمعنى غير ، وأقول : إدخال الجار عليها في قول الأعشى (١) : [الطويل]

[تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي]

وما قصدت من أهلها لسوائكا

يخرجها من الظرفية ، وإنما استجازت العرب ذلك فيها تشبيها لها بغير من حيث استعملوها استثناء وعلى تشبيهها بغير ، قال أبو الطيب : [الكامل]

٤٢٤ ـ أرض لها شرف سواها مثلها

لو كان مثلك في سواها يوجد

رفع «سوى» الأولى بالابتداء ، وخفض الثاني ب في فأخرجها من الظرفية ، فمن خطّأه فقد خطّأ الأعشى في قوله : «لسوائكا» ، ومن خطّأ الأعشى في لغته التي جبل عليها ، وشعره يستشهد به في كتاب الله تعالى ، فقد شهد على نفسه بأنّه مدخول العقل ضارب في غمرة الجهل وليس لهذا المتطاول إلى ما يقصر عنه ذرعه شيء يتعلق به في تخطئة العرب إلّا قول الشاعر : [الطويل]

٤٢٥ ـ حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

فكلّ فاقرة ينزلها بالعربية يزفّ أمامها هذا البيت معارضا به أشعار الفحول من العرب العاربة ، وليس دخول إلّا في هذا البيت خطّأ كما توهّم ، لأن بعض النحويين قدّر في «ينفك» التمام ، ونصب «مناخة» على الحال ، فينفك هاهنا مثل منفكّين في قول الله عزّ وجلّ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ١] ، فالمعنى ما تنفصل عن جهد ومشقة إلّا في حال إناختها على الخسف ، ورمي البلد القفر بها ، أي : تنتقل من شدّة إلى شدّة.

ومن العجب أنّ هذا الجاهل يقدم على تخطئة سلف النحويين وخلفهم ، وتخطئة الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين ، فيعترض على أقوال هؤلاء وأشعار هؤلاء بكلام ليس له محصول ، ولا يؤثر عنه أنّه قرأ مصنفا في النحو إلا مقدمة

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٥٤).

٤٢٤ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (ص ٥٧) ، وخزانة الأدب (٣ / ٤٣٦).

٤٢٥ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ١٤١٩) ، وتخليص الشواهد (ص ٢٧٠) ، وخزانة الأدب (٩ / ٢٤٧) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٢١٩) ، ولسان العرب (فكك) ، والمحتسب (١ / ٣٢٩) ، وهمع الهوامع (١ / ١٢٠) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ١٤٢) ، والجنى الداني (ص ٥٢١) ، وشرح الأشموني (١ / ١٢١) ، ومغني اللبيب (١ / ٧٣) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٣٠).


من تأليف عبد القاهر الجرجاني قيل : إنّها لا تبلغ أن تكون في عشر أوراق ، وقيل : إنّه لا يملك من كتب النحو واللغة ما مقداره عشر أوراق ، وهو مع هذا يردّ بقحته على الخليل وسيبويه ، إنها لوصمة اتّسم بها زماننا هذا ، لا يبيد عارها ولا ينقضي شنارها ، وإنما طلب بتلفيق هذه الأهواس أن تسطر فتوى ، فيثبت خطه فيها مع خط غيره ، فيقال : أجاب أبو نزار بكذا وأجاب غيره بكذا ، فقد أدرك لعمر الله مطلوبه ، وبلغ مقصوده ، ولو لا إيجاب حق من أوجبت حقه والتزمت وفاقه واحترمت خطابه لصنت خطي ولفظي عن مجاورة خطه ولفظه.

قال ابن الشجري في المجلس الحادي والستين في (أماليه) (١) :

ذكر أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب كتاب (الأغاني) حديثا رفعه إلى أبي ظبيان الحماني قال : اجتمعت جماعة من الحي على شراب فتغنّى أحدهم بقول حسان : [الكامل]

٤٢٦ ـ إنّ الّتي ناولتني فرددتها

قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة أرخاهما للمفصل

فقال رجل منهم : كيف ذكر واحدة بقوله : إنّ التي ناولتني فرددتها ، ثم قال : كلتاهما حلب العصير ، فجعلها اثنتين؟ قال أبو ظبيان : فلم يقل أحد من الجماعة جوابا ، فحلف رجل منهم بالطلاق ثلاثا إن بات ولم يسأل القاضي عبيد الله بن الحسين عن تفسير هذا الشعر ، قال : فسقط في أيدينا ليمينه ، ثم أجمعنا على قصد عبيد الله ، فحدثني بعض أصحابنا السعديين قال : فيمّمناه نتخطّى إليه الأحياء فصادفناه في مسجده يصلي بين العشاءين ، فلمّا سمع حسّنا أوجز في صلاته ، ثم أقبل علينا فقال : ما حاجتكم؟ فبدر رجل منا فقال : نحن ـ أعزّ الله القاضي ـ قوم نزعنا إليك من طريق البصرة في حاجة مهمة فيها بعض الشيء ، فإن أذنت لنا قلنا ، فقال : قولوا ، فذكر يمين الرجل والشعر ، فقال : أما قوله : إن التيّ التي ناولتني فإنه يعني الخمر ، وقوله : قتلت أراد : مزجت بالماء ، وقوله : كلتاهما حلب العصير يعني الخمر ومزاجها ، فالخمر عصير العنب ، والماء عصير السحاب ، قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) [النبأ : ١٤] ، انصرفوا إذا شئتم.

__________________

(١) انظر أمالي ابن الشجري (٢ / ١٥٩).

٤٢٦ ـ الشاهد هو البيت الأول وهو لحسان في ديوانه (ص ١٢٤) ، واللسان (قتل) ، وأساس البلاغة (قتل) ، وتاج العروس (قتل) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٤٠٧) ، ومقاييس اللغة (٥ / ٧٥) ، والمخصّص (١١ / ٨٨).


قال ابن الشجري : وأقول : إنّ هذا التأويل يمنع منه ثلاثة أشياء :

أحدها : أنّه قال : كلتاهما ، وكلتا موضوعة لمؤنثين ، والماء مذكر والتذكير أبدا يغلّب على التأنيث كتغليب القمر على الشمس في قول الفرزدق (١) : [الطويل]

[أخذنا بآفاق السماء عليكم]

لنا قمراها والنّجوم الطّوالع

أراد : لنا شمسها وقمرها ، وليس للماء اسم آخر مؤنث فيحمل على المعنى ، كما قالوا : «أتته كتابي فاحتقرها» لأنّ الكتاب في المعنى صحيفة وكما قال الشاعر : [السريع]

٤٢٧ ـ قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدّار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر

كان الوجه أن يقول : ذات غربة ، وإنّما ذكّر لأنّ المرأة إنسان ، فحمل على المعنى.

والثاني : أنّه قال : أرخاهما للمفصل ، وأفعل هذا موضوع لمشتركين في معنى ، وأحدهما يزيد على الآخر في الوصف به ، كقولك : زيد أفضل الرّجلين ، فزيد والرجل المضموم إليه مشتركان في الفضل ، إلّا أنّ فضل زيد يزيد على فضل المقرون به ، والماء لا يشارك الخمر في إرخاء المفصل.

والثالث : أنّه قال في الحكاية : فالخمر عصير العنب ، وقول حسان : حلب العصير يمنع من هذا لأنّه إذا كان العصير الخمر والحلب هو الخمر فقد أضفت الخمر إلى نفسها ، والشيء لا يضاف إلى نفسه.

والقول في هذا عندي : أنّه أراد كلتا الخمرتين ، الصّرف والممزوجة حلب العني فناولني أشدهما إرخاء للمفصل.

قال ابن الشجري في المجلس الرابع والستين (٣) :

مسألة سئلت عنها : «المعلم والمعلمه زيد عمرا خير الناس إيّاه أنا» ، الجواب : أنّ المعلم مبتدأ والمعلمه معطوف عليه ، وهو يقتضي اسما فاعلا ويقتضي التعدي

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٠٤).

٤٢٧ ـ البيتان بلا نسبة في أمالي المرتضى (١ / ٧١) ، والإنصاف (٢ / ٥٠٧) ، وسمط اللآلي (١ / ١٧٤) ، وشرح المفصّل (٥ / ١٠١) ، ولسان العرب (عمر).

(٢) انظر أمالي ابن الشجري (٢ / ٢٠٩).


إلى ثلاثة مفاعيل ، كما يقتضي ذلك فعله الذي هو أعلم ، فزيد فاعله والهاء المفعول الأول ، و «عمرا» الثاني و «خير الناس» الثالث ، و «إياه» ضمير مصدره الذي هو الإعلام أضمره وإن لم يجر له ذكر ، لأنّ المصدر يحسن إضماره إذا ذكر فعله أو اسم فاعله كقوله : [الوافر]

٤٢٨ ـ إذا نهي السّفيه جرى إليه

[وخالف والسّفيه إلى خلاف]

وقولك : «أنا» خبر المبتدأ الذي هو المعلم ، والمعلمه وإن كان عطفا على المعلم فإنه هو المعلم لأنه وصف له ، فلذلك كان أنا خبرا عنهما معا والتقدير : المعلم المعلمه زيد عمرا خير النّاس أنا.

مسألة نحوية لابن السيد البطليوسي

قال الإمام أبو محمد بن السيّد البطليوسيّ في (كتابه المسائل والأجوبة) :

جمعني مجلس مع رجل من أهل الأدب ، فنازعني في مسألة من مسائل النحو ، ثم دبّت الأيام ودرجت الليالي ، وأنا لا أعيرها فكري ولا أخطرها على بالي ، ثم اتّصل بي أنّ قوما يتعصّبون له ويقرظونه يعتقدون أني أنا المخطئ فيها دونه ، فرأيت أن أذكر ما جرى بيننا فيها من الكلام ، وأزيد ما لم أذكره وقت المنازعة والخصام ، ليعلم من المزجي البضاعة وبالله التوفيق.

كان مبتدأ الأمر أنّ هذا الرجل المذكور قال لي : إنّ قوما من نحويي سرقسطة اختلفوا في قول كثير : [الطويل]

٤٢٩ ـ وأنت التي حبّبت كلّ قصيرة

إليّ وما تدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد

قصار الخطا شرّ النّساء البحاتر

فقال بعضهم : البحاتر مبتدأ وشرّ النساء خبره ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون شرّ النساء هو المبتدأ والبحاتر خبره ، وأنكرت أنا هذا القول وقلت : لا يجوز إلّا أن

__________________

٤٢٨ ـ الشاهد لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري في إعراب القرآن (ص ٩٠٢) ، وأمالي المرتضى (١ / ٢٠٣) ، والإنصاف (١ / ١٤٠) ، وخزانة الأدب (٣ / ٣٦٤) ، والخصائص (٣ / ٤٩) ، والدرر (١ / ٢١٦) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٢٤٤) ، ومجالس ثعلب (ص ٧٥) ، والمحتسب (١ / ١٧٠) ، وهمع الهوامع (١ / ٦٥).

٤٢٩ ـ البيتان لكثير عزة في ديوانه (ص ٣٦٩) ، وإصلاح المنطق (ص ١٨٤) ، وجمهرة اللغة (ص ٧٤٣) ، والدرر (١ / ٢٨٢) ، ولسان العرب (بهتر) و (قصر) ، والمعاني الكبير (ص ٥٠٥) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ٤١) ، وشرح المفصّل (٦ / ٣٧) ، وهمع الهوامع (١ / ٨٦).


يكون البحاتر هو المبتدأ وشرّ النساء هو الخبر ، فقلت له : الذي قلت هو الوجه المختار وما قاله النحويّ الذي حكيت عنه جائز غير ممتنع ، فقال : وكيف يصح ما قال؟ وهل غرض الشاعر إلّا أن يخبر أنّ البحاتر شرّ النساء؟ وجعل يكثر من ذكر الموضوع والمحمول ، ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أهل البرهان ، فقلت له : أنت تريد أن تدخل صناعة المنطق في صناعة النحو ، وصناعة النحو تستعمل فيها مجازات ومسامحات لا يستعملها أهل المنطق ، وقد قال أهل الفلسفة : يجب أن تحمل كل صناعة على القوانين المتعارفة بين أهلها ، وكانوا يريدون أنّ إدخال بعض الصناعات في بعض إنما يكون من جهل المتكلم أو عن قصد منه للمغالطة واستراحة بالانتقال من صناعة إلى أخرى. إذا ضاقت عليه طرق الكلام ، وصناعة النحو قد تكون فيها الألفاظ مطابقة للمعاني ، وقد تكون مخالفة لها إذا فهم السامع المراد ، فيقع الإسناد في اللفظ إلى شيء وهو في المعنى مسند إلى شيء آخر إذا علم المخاطب غرض المتكلم وكانت الفائدة في كلا الحالين واحدة ، فيجيز النحويون في صناعتهم : «أعطي درهم زيدا» ، ويرون أنّ فائدته كفائدة قولهم : «أعطي زيد درهما» ، فيسندون الإعطاء إلى الدرهم في اللفظ ، وهو مسند في المعنى إلى زيد ، وكذلك يجيزون : ضرب بزيد الضرب (١) ، وخرج بزيد اليوم ، وولد لزيد ستون عاما (٢) ، وقد علم أنّ الضرب لا يضرب واليوم اتّكالا على فهم السامع ، وليس هذا لضرورة شاعر ، بل هو للمعاني ، لأن الإسناد وقع فيها إلى شيء وهو في المعنى إلى شيء آخر اتّكالا على فهم السامع ، وليس هذا لضرورة شاعر ، بل هو كلام العرب الفصيح المتعارف بينها في محاوراتها ، وهذا أشهر عند النحويين من أن يحتاج فيه إلى بيان ، وممّا يبين هذا أنّ النحويين قد قالوا : إذا اجتمعت معرفتان جعلت أيتهما شئت الاسم وأيتهما شئت الخبر ، فتقول : «كان زيد أخاك» ، و «كان أخوك زيدا» (٣) ، فإن قال قائل : الفائدة فيهما مختلفة ، لأنّه إذا قال : «كان زيد أخاك» أفادنا الأخوّة ، وإذا قال : «كان أخوك زيدا» أفادنا أنّه زيد ، فالجواب : أنّ هذا جائز صحيح لا ينازع فيه منازع ، ويجوز أيضا أن يقال : «كان أخوك زيدا» والمراد : كان زيد أخاك ، فيقع الإسناد في اللفظ إلى الأخ وهو في المعنى إلى زيد ، والدليل على ذلك أنّ القرّاء قرؤوا : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) [النمل : ٥٦] ، برفع الجواب ونصبه ، فتارة يجعلون الجواب الاسم والقول الخبر ، وتارة يجعلون القول هو الاسم والجواب الخبر ،

__________________

(١) انظر شرح المفصل (٧ / ٧٣).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٢٣٣ ، ٢٨٢).

(٣) انظر شرح المفصّل (٧ / ٩٥).


وليس يشك أحد أنّ الغرض في كلتا القراءتين واحد وأنّ الإخبار في الحقيقة إنما هو عن الجواب ، وكذلك قوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) [الحشر : ١٧] ، قرئ برفع العاقبة ونصبها ، ولا فرق بين الأمرين عند أحد من البصريين والكوفيين ، وكذلك قول الفرزدق : [الطويل]

٤٣٠ ـ لقد شهدت قيس فما كان نصرها

قتيبة إلّا عضّها بالأباهم

ينشد برفع النصر ونصب العضّ ، وبرفع العضّ ونصب النصر ، والفائدة في الأمرين جميعا واحدة ، وكذلك قول الآخر : [الطويل]

٤٣١ ـ وقد علم الأقوام ما كان داؤها

بثهلان إلّا الخزي ممّن يقودها

ينشد برفع الداء ونصب الخزي وبنصب الداء ورفع الخزي ، والفائدة فيهما جميعا واحدة ، وإنّما تساوى ذلك لأنّ المبتدأ هو الخبر في المعنى ، وممّا يبيّن ذلك بيانا واضحا أنّ القائل إذا قال : «شرّ النّاس الفاسق» أو قال : «الفاسق شرّ النّاس» فقد أفادنا في كلا الحالين فائدة واحدة ، وكذلك إذا قال : «أبوك خير النّاس» ، فائدته كفائدة قوله : «خير النّاس أبوك» ، لا يمكن أحدا أن يجعل بينهما فرقا ، ويشهد لذلك قول زهير : [الوافر]

٤٣٢ ـ وإمّا أن يقولوا قد أبينا

فشرّ مواطن الحسب الإباء

فهذا البيت أشبه الأشياء ببيت كثير ، وقد جعل زهير «شرّ» هو المبتدأ والإباء هو الخبر ، وإنّما غرضه أن يخبر أنّ الإباء هو شرّ مواطن الحسب ، ولا يجوز لزاعم أن يزعم أنّ الإباء هو المبتدأ وشرّ خبره ، لأنّ الفاء لا يجوز دخولها على خبر المبتدأ ، إلّا أن يتضمّن المبتدأ معنى الشرط ، ألا ترى أنّه لا يجوز : «زيد فقائم» ، وكذلك من رواه «وشرّ مواطن» ، بالواو لأنّ الواو لا تدخل على الأخبار ، لا يجوز : «زيد وقائم» ، وممّا يبيّن لك تساوي الأمر عند النحويين باب الإخبار بالذي وبالألف واللام ، فمن تأمّل قول النحويين فيه رأى ما قلناه نصا ، لأن القائل إذا سأل فقال : أخبرني عن زيد من قولنا : قام زيد فجوابه عند النحويين أجمعين أن يقال : الذي قام زيد ، والقائم زيد ، ألا ترى أنّ المجيب قد جعل زيدا خبرا؟ وإنّما سأل السائل أن يخبر عنه ولم

__________________

٤٣٠ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (ص ٣٣١) ، ولسان العرب (بهم) ، وبلا نسبة في المقتضب (٤ / ٩٠).

٤٣١ ـ الشاهد لمغلس الأسدي في شرح أبيات سيبويه (١ / ٢٧٨) ، وبلا نسبة في الكتاب (١ / ٩١) ، وشرح المفصّل (٧ / ٩٦) ، والمحتسب (٢ / ١١٦).

٤٣٢ ـ الشاهد لزهير في ديوانه (ص ٧٤) ، وبلا نسبة في المخصّص (١٦ / ٢٦).


يسأله أن يخبر به ، فلو جاء الجواب على حدّ السؤال لقال : زيد الذي قام ، وزيد القائم ، وباب الإخبار كله مطّرد على هذا ، وإنّما جاز ذلك عندهم لأنّ الفائدة في قولك : «الذي قام زيد» كالفائدة في قولك : «زيد الذي قام» وكذلك الفائدة في قولك : «زيد القائم» كالفائدة في قولك : «القائم زيد» ، ولو لا أنّ الأمرين عندهم سواء لما جاز هذا ، ومن أظرف ما في هذا الأمر أنّ جماعة من النحويين لا يجيزون تقديم خبر المبتدأ عليه إذا كان معرفة ، فلا يجيزون أن يقال : «أخوك زيد» والمراد : زيد أخوك ، واحتجّوا بشيئين :

أحدهما : أن المعرفتين متكافئتان ، ليست إحداهما أحقّ بأن يسند إليها من الأخرى ، وليس ذلك بمنزلة المعرفة والنكرة إذا اجتمعتا.

والحجة الأخرى : أنّه يقع الإشكال فلا يعلم السامع أيّهما المسند وأيّهما المسند إليه ، فلمّا عرض فيهما الإشكال لم يجز التقديم والتأخير ، وكان ذلك بمنزلة الفاعل والمفعول إذا وقع الإشكال فيهما لم يجز تقديم المفعول ، كقولك : «ضرب موسى عيسى» ، وهذا قول قوي جدّا ، غير أنّ النحويين كلهم لم يتفقوا عليه ، فعلى مذهب هؤلاء لا يجوز أن يكون «شرّ النساء» خبرا مقدما بوجه من الوجوه ، فإن كان هؤلاء القوم يريدون صناعة النحو فهذا ما توجبه صناعة النحو ، وإن كانوا يريدون صناعة المنطق فقد قال جميع المنطقيين لا أحفظ في ذلك خلافا بينهم : إنّ في القضايا المنطقية قضايا تنعكس ، فيصير موضوعها محمولا ومحمولها موضوعا ، والفائدة في كلا الحالين واحدة ، وصدقها وكيفيتها محفوظان عليها ، قالوا : فإذا انعكست ولم يحفظ الصدق والكيفية سمّي ذلك انقلاب القضية لا انعكاسها ، ومثال المنعكس من القضايا قولنا : «لا إنسان واحد بحجر» ، ثم نعكس فنقول : «لا حجر واحد إنسان» ، فهذه قضية قد انعكس موضوعها محمولا ومحمولها موضوعا ، والفائة في الأمرين جميعا واحدة ، ومن القضايا التي لا تنعكس قولنا : «كلّ إنسان حيوان» ، فهذه قضية صادقة ، فإن صيّرنا موضوعها محمولا ومحمولها موضوعا ، فقلنا : «كلّ حيوان إنسان» عادت قضية كاذبة ، فهذا يسمونه انقلابا لا انعكاسا ، وبالله التوفيق.

مسألة نحوية من كتاب (المسائل) للبطليوسي

سأل سائل أدام الله عزك من بقي عندنا من طلبة النحو عن مسألة وقعت ، وهي : إذا سمّيت رجلا بالألف من ما كيف يكون بناء الاسم من ذلك وصورته في الخطّ؟ فجاوب عن ذلك المسؤول بما هذه نسخته :


تأمّلت ـ أعزّك الله ـ هذا السؤال ، والقياس النحوي يقتضي أن لا يشترط التسمية بحرف ساكن مثل هذا ، إذ لا بد من أن يبنى الاسم عليه ، وأن يكون الحرف المذكور أوّل ذلك الاسم ، فإن كان كما شرط ساكنا فلا بد من تحريكه ليتوصل إلى النطق به ، فيختلّ الحرف الساكن على حاله التي كان يجب أن لا يغير عنها في التسمية به لئلا تشتبه التسمية بما سمي به من حرف متحرك ، مثل ذلك كمن قال : سمّ لي رجلا بالألف من إكرام أو ما كان مثله إن قلنا : إنّ الحرف الساكن المذكور يحرك بالفتح ، فلهذا كان ينبغي أن تمتنع التسمية بالألف من «ما» ، وإن قلنا : إنه يجوز أن يسمّى رجل بالألف من «ما» فإنما ذلك على ضرب من قياس النحو أيضا ومجاري التعليل فيه ، فينبغي على تجويز ذلك أن تحرّك الألف الساكنة من «ما» بالفتح لما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى ، فتصير همزة مفتوحة ، ثم يزاد عليها من جنسها ألف وهمزة ليكون الاسم من ذلك مبنيّا على أقلّ حروف الأسماء الأعلام المتمكّنة ، وذلك ثلاثة أحرف ، كما قالوا : إذا سمّيت رجلا بالسين من «سوف» ، فإنّك تزيد على السين ألفا وهمزة ليكون الاسم على أقل البناء في المتمكّن العلم كما قلنا ، فتقول : «جاءني ساء» و «رأيت ساء» و «مررت بساء» ، وكذلك فعلنا في مسألتنا لمّا حرّكنا الألف الساكنة من «ما» بالفتح لما نذكره بعد ، وصارت همزة مفتوحة زدنا على الهمزة ألفا وهمزة من جنسها ليكمل البناء الأقل المذكور ، فجاء على وزن بكر فنقول منه في الرفع «جاءني أا أ» وفي النصب : «رأيت أا أ» وفي الخفض : «مررت ب أا إ» ، فهذا بناؤه وصورته في الخط ، وإن شئت كتبته بالعين وأسقطت الثالثة التي هي عين الوزن استخفافا ، لئلا يجتمع ثلاث ألفات في كلمة واحدة ، فإن قيل : فكيف استجزت إسقاط هذه الألف من مثل هذا الاسم وأنت قد بنيته على ثلاثة أحرف ، وهو أقل البناء فقد أخللت ببنائك في الخط؟ فالجواب : أنّا وجدنا مثل هذا الاسم من الوزن والتمكّن قد أسقط منه ألف عين الوزن في الخط ، وأبقوه على حرفين ، وذلك الاسم أل ، فقد اتفقوا في المصحف وغيره على كتبه بألف واحدة ، وكان فيه ألفان ، إذ وزنه أا ل فسهّلوا الهمزة الوسطى ثم أسقطوها فبقي من الاسم حرفان ، وإنما استجازوا مثل ذلك لدلالة الباقي على الذاهب ، وطلبا للاختصار الذي كلام العرب مبنيّ عليه ، ولذلك جوّزنا نحن كتب أا إ بالعين قياسا على ذلك ، وإنا قلنا : إنّ تحرّك الألف الساكنة من «ما» بالفتح لأنّها لمّا كانت أول الاسم ساكنة ، واحتاجت إلى حركة ليتوصل إلى النطق بها ، كانت الفتحة أولى بها من الكسرة والضمّة ، لأنّ الألف تتولّد من الفتحة إذا أشبعت ، وتنقلب بسببها إذا كانت بعدها حركة على ياء أو واو ، نحو : قال ونام ، فكانت الفتحة أولى بتحريك الألف من


غيرها لذلك ، وأيضا فهذه الألف المسمّى بها من «ما» قد صارت أولا وأصلا وفاء الوزن من هذا الاسم ، فصارت كألف أخ وأب وهما ألفا قطع ، وأصل حركة ألف القطع الفتح إلّا ما شذّ لمعنى ، وأيضا فلا تكسر وتصح من الألفات السواكن عند الحاجة إلى ألف الوصل ، وهذه الألف ليست كذلك ، فصحّ بذلك كله ما قلنا. وفي هذا اللّمع كفاية فيما قصدته ، فهذا أدام الله تأييدك نصّ الجواب ، وما كان من الواجب أن يكتب مثل هذا الجواب لمثلك إلا نص السؤال مجردا ، إلّا أنه تعيّن كتب السؤال والجواب لأمر وقع ، وذلك أنّه وقف على هذا السؤال والجواب رجل ينتمي إلى علم النحو ، فقال : إن هذا الجواب ناقص عمّا يجب ، وزعم أنّ على المسؤول في هذه المسألة أن يجاوب فيها على كل وزن جاء في كلام العرب من الثلاثية إلى السباعية ، وزعم أنه يجوز أن يسمّى بالألف من ما رجل فيبنى منه الاسم على كل وزن حتى على وزن اشهيباب ، وأن لا يقتصر في التسمية به على أقل الأوزان المتمكنة ، بل يجوز على كل وزن ، وعضّد قوله بأن قال : ابن لي من ألف ما مثال جحمرش لصح البناء على ذلك المثال وغيره ، وهذا فيما رأينا خلاف مقاييس النحو ونحن واقفون عند قليل علمنا منه ، لا تتجاوز قول هذا المدعي إلّا عن دليل واضح نميل إليه ، أو هدى من مثلك نعوّل عليه ، فعسى أدام الله تأييدك أن تمنّ بالوقوف على هذه الجملة ، وتتطوّل على الجميع بإشارة كافية منك إلى ما يجوز من هذا كله ، والله يبقيك للعلوم تحييها وللقلوب تكشف عنها وتجلوها بحوله وطوله.

الجواب : وقفت على سؤال السائل وإجابة المجيب واعتراض المعترض ، والذي تقتضيه صناعة النحو والتصريف أنّه إذا سمي بحرف من الحروف لزم أن يزاد عليه حتى يبلغ بصيغته أقل ما تكون عليه صيغ الأسماء المتمكنة ، وذلك ثلاثة أحرف ، ويزاد على كل حرف حرف من نوعه ، فيقال في ما : ماء وفي لا : لاء وفي لو : لوّ وفي إي : إيّ ، وإنما فعل النحويون ذلك لأنهم رأوا العرب قد فعلت مثل ذلك فيما أعربته وصيّرته اسما من هذه الحروف ، ألا ترى قول النّمر بن تولب : [المديد]

٤٣٣ ـ علقت لوّا تكرّره

إنّ لوّا ذاك أعيانا

وقال القطامي : [الوافر]

٤٣٤ ـ ولكن أهلكت لوّ كثيرا

وقبل اليوم عالجها قدار

__________________

٤٣٣ ـ الشاهد لنمر بن تولب في ديوانه (ص ٣٩٣) ، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب (٢ / ٧٨٧) ، ولسان العرب (إمالا) ، والمقتضب (١ / ٢٣٥).

٤٣٤ ـ الشاهد ليس في ديوانه ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (إمّالا).


وإن أراد مريد أن يسمّي من حرف قد سمّي به مثل جعفر أو جحمرش ونحوهما من أمثلة كلام العرب كان له ذلك.

وأما قول المعترض : إن جواب المجيب لا يصح ولا يكمل حتى يتكلّف أن يصوغ من الحرف الذي يسأل عنه على جميع أوزان كلام العرب فإنّه تعسّف وغير لازم ، إلّا أن يشترط عليه السائل ذلك في مسألته ، وأما التسمية بالألف من ما ولا فقد ذكر ذلك ابن جني ، وفيه خلاف لما قاسه هذا المجيب عن المسألة ، فقال إذا أردت أن تصيّر الألف من «لا» اسما زدت على الألف ألفا ثانية ، فتجتمع ألفان ساكنتان فتحرك الأولى منهما بالكسر لالتقاء الساكنين ، فتنقلب الثانية ياء بانكسار ما قبلها فتصير إي ، ولا يكون اسم متمكن على حرفين الثاني منهما حرف لين ، فتزيد على الياء ياء أخرى وتدغم الأولى فيها ، فتقول : إيّ ، كما تقول إذا صيّرت في الخافضة اسم رجل : رفيّ.

قال ابن جني (١) : وإن بنيت من هذه الكلمة فعلا على حدّ قولك : كوّفت كافا وقوّفت قافا وسيّنت وعيّنت عينا لزمك أن تقول : أوّيت ألفا. قال : وإنّما جعلنا قياس عين هذه الكلمة أن تكون واوا دون أن تكون ياء لأنّا لمّا زدنا على الألف ألفا واحتيج إلى زيادة حرف ثالث ليتم الاسم ثلاثة أحرف صارت الألف المزيدة واقعة موقع عين الفعل ، وإذا كانت الألف المجهولة ثانية عينا أو في موضع العين وجب على ما وصّانا به سيبويه أن نعتقد فيها أنها منقلبة عن واو ، حملا على باب طويت وشويت لأنه أكثر من باب حييت وعييت ، فصارت إيّ كأنها من باب رقيّ وسيّ ونحوهما مما عينه واو ، فكما أنّك لو بنيت من القيّ والسّيّ فعّلت لقلت : قوّيت وسوّيت ، فأظهرت العينين واوين ، فكذلك تقول في فعّلت من إيّ التي أدّى إليها القياس : أوّيت.

فهذه مسألة قد كفانا ابن جني فيها التعب وأرانا وجه القياس فيها ، فينبغي لمن أراد أن يصوغ منها مثالا على بعض أمثلة كلام العرب أن يجريها مجرى أوى يأوي ، ويركب على ذلك قياسه ، فيقول في مثال جعفر منها : أيّا وفي مثال سفرجل : أويّا وفي مثال جحمرش : أيّني وفي مثال إوزّة : إيّاة ، ونحو ذلك ، وبالله التوفيق.

مسائل أخرى سئل عنها البطليوسي

وردت من الشعر منظومة في أبيات من شعر ، وهي : [الطويل]

__________________

(١) انظر المنصف (٢ / ١٥٤).


جوابك يا ذا العلم إنّي لسائل

عن أشياء من ذا النّجو تخفى وتعظم

فأورد عليها من كلامك شافيا

تبيّن به كلّ البيان وتفهم

فمثلفك للإفهام يدعى وترتجى

فوائده إن جلّ أو عنّ مبهم

علام تعلّ الشيء علّة غيره

فتسقمه وهو الصّحيح المسلّم

ويبرأ إن أضحى سواه مسلّما

من إعلاله وهو العليل المسقّم

وما القول في «لا بأس» إن يك معربا

فحذفك للتنوين نكر معظّم

وإن يك مبنيّا فقولك نصبه

بلا خطإ يحصى عليك ويرسم

وإن يك مبنيّا لديك ومعربا

فذا النّكر أدهى في النفوس وأعظم

فبرّد غليلا في نفوس كأنّها

طيور ظماء حول علمك حوّم

ولم صرفوا ما كان وصفا مؤنّثا

كعاقلة والوصف بالمنع يحكم

ولم يصرفوه اسما لذات معرّفا

وذلك بطل يبطل الباب معظم

أيصرف والتأنيث فيه محقّق

ويمنعه إن كان لغوا ويحرم

فقرطس بسهم العلم أغراض مطلبي

ولا تك فيه الظّنّ بالغيب ترجم

جواب المسألة الأولى : فأجاب أبو محمد بن السيّد رحمه الله : [الطويل]

سألت لعمري عن مسائل تقتضي

جوابا وتفهيما لمن يتعلّم

لأنّ اطرّاد الحكم ليس بلازم

إذا أوجبته علّة ليس تلزم

وقد أوجبوه في مواضع جمّة

بلا علة تقضي بذاك وتحكم

سوى علقة لفظيّة وتناسب

خفيّ يراه الماهر المتقدّم

لأنّ تصاريف الكلام شبيهة

بنشئ فروع عن أصول تقسّم

فيشرك منها الجزء أقسامه التي

تناسبه فيما يصحّ ويسقم

وفي كل علم إن نظرت تسامح

كثير وإقناع وظنّ مرجّم

وما النحو مختصا بذلك وحده

لمن يكثر التّنقير عنه وينعم

ولكن له فيما وجدنا نظائر

يراها بعين اللّبّ من يتوسّم

فلا تطلبن في كلّ شيء حقيقة

فإنّك تعدو إن فعلت وتظلم

سأضرب أمثالا لما أنا قائل

لها موقع في لبّ من يتفهّم

ألم تر أنّ الدّاء يشري دفينه

فيضني بعدواه الصحيح ويؤلم

وينزع عرق السّوء من بعد غاية

فيسري به في النّسل داء ويعظم

كحذفهم للهمز من يكرم الفتى

مشاركة فيما جنى المتكلّم

وحذفك واو الوعد حملا على التي

تعلّ وذا حكم من النحو محكم


كذاك قرين السّوء يردي قرينه

وينجي من الشرّ البعاد ويعصم

لذلك أردى من جهينة ياءها

مقارنة الهاء التي تتهضّم

ونجّى قريشا أن يصاب بيائه

تنائي قرين السّوء فهو مسلّم

ألم تر صوّاما نجت إذ تباعدت

عن اللّام من داء غدت فيه صيّم

وللجار أسباب يراعى مكانها

وللرّحم الدّنيا حقوق تقدّم

كصحّة عين الفعل من عور الفتى

لصحّتها في اعورّ والله أعلم

وكاجتوروا صحّت لأجل تجاوروا

شفاعة ذي القربى لمن هو مجرم

وقد زعموا التصحيح للواو فيهما

إرادة تنبيه على الأصل منهم

كأعولت يا ثكلى وأطولت يا فتى

وأجودت يا سعدى وأغيلت تكتم

وإن شئت أجريت التحرك فيهما

كمجرى حروف اللّين إن كنت تفهم

كما أنّ يرمى القوم أو يقعد الفتى

سواء إذا جازيت أو حين تجزم

ومثل حبارى في الإضافة عندهم

غدت جمزى في ما به النحو يحكم

ومكوزة شبه بذاك ومحبب

وثهلل إن حصّلت قولي ومريم

وقد جعلوا للاسم سيمى لكونه

على مثل وزن الفعل فيما تيمّموا

فقالوا لمن يشكي الخليل ويشتكي

إلام ولكن أنت يا صاح ألوم

وقد يلحقون الضدّ طورا بضدّه

كربّ فتى أودى وكم نيل مغنم

جواب المسألة الثانية

و «لا بأس» في إعرابه وبنائه

بأيّهما قلت اعتراض ملزّم

لحذفك تنوين الذي هو معرب

وذلك رأي عندنا لا يسلّم

وإن يك مبنيّا ففيم وصفته

على لفظه والنّكر في ذاك أعظم

وجمعك للضدّين أعظم شنعة

ولم يتوهّم فيه ذا متوهّم

وقد أكثروا فيه المقال وشقّقوا

إلى أن أقلّوا النّاظرين وأبرموا

وأكثر ما قالوه ما فيه طائل

لقارئه إلا الكلام المنمنم

فمن قائل ظنّ البناء وقائل

يظنّ به الإعراب فيما يرجّم

ورأي ذوي التحقيق أنّ بناءه

يضارع إعرابا وذا الرأي أحكم

كما ضارع الإعراب في غيره البنا

إذا قلت : جارات لأسماء أكرم

توسّط بين الحالتين فأمره

خفيّ على غير النّحارير منهم

لذا كثر الإشكال فيه فلم يبن

وخلّط فيه كلّ من يتكلّم

ويشبهه حال المنادى كلاهما

من النّحو فخصوص بهذا ومعلم


لذلك جاز الحمل للوصف فيهما

على اللفظ والمعنى كما جاء عنهم

فهذا الذي أختار فيه لأنّه

لمبصره أهدى سبيلا وأقوم

جواب المسألة الثالثة

وليست تعدّ التاء في النحو علّة

لشيء سوى الأعلام إن كنت تعلم

وما كان فرقا لم يعدّ بعلّة

كذا قال ذو الفهم النبيل المعظّم

يراعون في ذاك اللّزوم كطلحة

وليس يراعى منه ما ليس يلزم

وعلّته أنّ الصّفات مقيسة

على الفعل في تصريفها إذ تقسّم

فقام وقامت منهما صيغ قائم

وقائمة فيما تقول وتزعم

لذا أنّثوا الأوصاف طورا وذكرّوا

لما أرجؤوا في الفعل منها وقدّموا

وما لم يصغ منه فليس مؤنّثا

كقولهم : هند ولود ومتئم

وتأنيثنا للفعل ليس حقيقة

ولا لازما بل ضدّه فيه ألزم

فأضعفها ضعف الذي هو أصلها

كذا ضعف أصل الشيء يوهي ويهدم

وقوّى التي في الاسم أن ليس جاريا

على الفعل فالتأنيث في مخيّم

وعلّة سكرى أو جلولاء فردة

ولكنّها كالعلّتين لديهم

كذا علّتا تلك الصفات كعلّة

قضى فيه بالعكس القياس المقدّم

إذا عدّ في ذاك اللزوم بعلّة

مسلّمة فالضدّ ذا مسلّم

فدونكها تحوي غوامض جمّة

من العلم لا يبدو عليهنّ ميسم

ضربت لها أمثالها بنظائر

من الحسن عن معقولهنّ تترجم

وزدت أمورا قادها الطبع سمحة

وساعدني فيها القريض المنظّم

وأكثر أهل النحو عنهنّ نائم

وأفهامهم عنهنّ تكبو وتكهم

نتيجة ذهن صاغ منهنّ حلية

تحلّى بها للعلم جيد ومعصم

تباهي بطليوس بها كلّ بلدة

وتشهر أنّى وجّهت وتكرّم

مسألة نحويّة في أمالي ثعلب

في (أمالي ثعلب) : أنشد الفرزدق : [البسيط]

٤٣٥ ـ يا أيّها المشتكي عكلا وما جرمت

إلى القبائل من قتل وإبآس

إنّا كذلك إذ كانت همرّجة

نسبي ونقتل حتى يسلم النّاس

__________________

٤٣٥ ـ البيتان بلا نسبة في لسان العرب (همرج) و (بين) ، وتاج العروس (همرج).


قال : قلت له : لم قلت : من قتل وإبآس؟ فقال : ويحك! فكيف أصنع وقد قلت : حتى يسلم الناس؟ قال : قلت : فبم رفعته؟ قال : بما يسوءك وينوءك ، قال ثعلب : وإنّما رفعه لأن الفعل لم يظهر بعده كما تقول : «ضربت زيدا وعمر» ، ولم يظهر الفعل ، فرفعت كما تقول : «ضربت زيدا وعمر مضروب».

مسألة في تذكرة ابن هشام

حضر الفرزدق مجلس عبد الله بن أبي إسحاق ، فقال له : كيف تنشد هذا البيت : [الطويل]

٤٣٦ ـ وعينان قال الله كونا فكانتا

فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

فأنشده : فعولان ، فقال له عبد الله : ما عليك لو قلت فعولين؟ فقال الفرزدق : لو شئت أن أسبّح لسبّحت ونهض ، فلم يعرفوا مراده ، فقال عبد الله : لو قال : فعولين لأخبر أنّ الله خلقهما وأمرهما ، ولكنه أراد : هما يفعلان بالألباب ما تفعل الخمر.

مسألة للفارسي : قال أبو علي الفارسي في التذكرة :

سأل مروان بن سعيد الكسائي في مجلس يونس عن وزن أولق فقال الكسائي : أفعل ، فقال مروان : استحييت لك يا شيخ ، قال أبو علي : وذلك أنّ أولق يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون فوعلا من تألّق البرق ، فتكون همزته أصلا.

والثاني : أن يكون أفعل من ولق إذا أسرع ، لأنّ الأولق الجنون ، وهي توصف بالسرعة ، ويكون ألق فهو مألوق إذا أخذه الأولق من البدل اللازم ، كما قالوا : عيد وأعياد. انتهى.

قال أبو حيان : ولا ينكر على الكسائي لأنّهم قالوا : أولق فهو مألوق ، قال : ولو ادّعى مدّع أنّ الأصل الواو ، وأنّها أبدلت همزة كقولهم في وعد : أعد ثم لزم البدل في مألوق وكثر هذا أكثر من أصله لكان قولا ، انتهى.

مسألة ذكرها أبو حيان : قال أبو حيان في (شرح التسهيل) :

من المسائل التي جرى فيها الكلام بين أبي العباس بن ولاد وأبي جعفر النحاس مسألة :

كيف تبنى من رجا مثل افعللت؟ سأل أبو جعفر عن ذلك ، فقال : ارجووت ،

__________________

٤٣٦ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٢٩٧) ، وديوان المعاني (١ / ٢٣٥) ، وسمط اللآلي (ص ٤٠٨) ، وبلا نسبة في الخصائص (٣ / ٣٠٢).


فقال أبو جعفر : هذا خطأ ، لأنّا لا نعلم خلافا بين النحويين أنّ الواو إذا وقعت طرفا فيما جاوز الثلاثة من الفعل أنّها تقلب ياء ، كما قالوا في أفعلت من غزوت : أغزيت وفي استفعلت : استغزيت ، والوجه : ارجويت أرجوي ارجواء وأنا مرجو ، مثل احمررت أحمرّ احمرارا وأنا محمرّ ، إلّا أنّك تقلب في ارجويت أرجوي وتدغم في احمرّ يحمرّ.

وقال محمد بن بدر البغدادي : قول أبي العباس في افعللت : ارجووت تمثيل على الأصل قبل الإعلال ، وسبيل كلّ ممثّل أن يتكلم بالمثال على الأصل ، ثم ينظر في إعلاله بعد ، فافعللت على الأصل ارجووت وعلى الإعلال : ارجويت ، ومن قال كينونة : فيعلولة ذهب إلى الأصل ، ومن قال فيلولة ذهب إلى اللفظ ، وإذا بنوا مثل عصفور من «غزا» قالوا : غزووّ ، فالفراء يتركه على هذا ولا يعلّه ، وسيبويه يعلّه بعد ذلك ويقول (١) : غزويّ ، وقد ردّ على ابن بدر مصنف كتاب (سفر السعادة) ، فقال : قول ابن بدر في ارجووت : إنه تمثيل على الأصل غير صحيح ، لأنّ ذلك لم ينطق به في الأصل كما نطق بكيّنونة كما قال : [الرجز]

٤٣٧ ـ يا ليت أنّا ضمّنا سفينه

حتى يعود الوصل كيّنونه

وإنّا يمثّل بالأصل ما لا يصح تمثيله على اللفظ ، كقولك في عدة إنّه فعلة ، ولا تقول : علة ، وفي غد إنه فعل ولا تقول فع ، ثم إن أبا جعفر لم يسأل عن تمثيل الأصل ، وإنّما سأل عمّا يصح أن ينطق به ، فما للمسؤول اقتصر على تمثيل الأصل وترك ما ينبغي أن يقال؟

قال أبو حيان : وما ردّ به صاحب سفر السعادة لا يلزم ، ألا ترى ما قاله أبو بكر ابن الخياط في وزن ارعوى : إنه يجوز أن يقال فيه : افعلل وافعلى؟ فافعلل على الأصل وافعلى على الفرع ، قال : وذكر وزنه على الأصل أقيس ، فأدغم افعلل في نحو احمرّ فصار افعلّ وأعل في نحو ارعوى ، فجاز أن يقال : وزنه افعلّ وافعلى.

مسألة في (طبقات النحويين) لأبي بكر الزبيدي (٣) :

أنشدنا بعض الأدباء لأبي عبيد الله محمد بن يحيى بن زكريا المعروف بالقلفاط : [السريع]

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٣٧٩).

٤٣٧ ـ الرجز بلا نسبة في الإنصاف (ص ٧٩٧) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٣٩٢) ، ولسان العرب (كون) ، والمنصف (٢ / ١٥).

(٢) انظر طبقات الزبيدي (ص ٢٨٠).


يا سائلي عن وزن مسحنكك

من آن أينا وأنى يأني

تقديره من آن مؤينّن

ومن أنى قولك مؤننيّ

فهكذا تقديره منهما

ليس على ذي بصر يعيي

ثمّ الكسائي وتصغيره

أسهل شيء أيّها الملقي

تصغيره لا شك فيه كسي

يّ فمن في مثل ذا يخطي

أربع ياءات وأنت امرؤ

نقصته ياء ولم تدر

وبعد هذا فعين واسمعن

فإنّني إيّاك مستفتي

عن وزن فيعول وعن وزن فع

لول جميعا من طوى يطوي

وعن فعول من قوي ومف

عول أجب واعجل ولا تبطي

وكيف تصغير مطايا اسم إن

سان وما الحرف الذي تلقي

منه فإن كنت امرأ جاهلا

فلست تحلي لا ولا تمري

وعن خطايا اسما مسمّى به

إن كنت تصغيرا له تدري

هل ياؤه قل بدل لازم

أنت لها لا بدّ مستبقي

أم هل تعود الياء مهموزة

فسّر لنا تفسير مستقصي

إن كان تصغير مطايا (١) كتص

غير خطايا قل ولا تخطي

فإن تصب هذا فأنت امرؤ

أعلم من خليل النّحوي

قال أبو بكر الزبيدي : لم يصنع شيئا في قوله : آن أينا وفي مؤينّن لأنّ اشتقاق يئين من الأوان ، فإن قال قائل : كيف يكون فعل يفعل من ذوات الواو وقد حظر ذلك جماعة النحويين ، قيل له : آن يئين على مثال فعل يفعل ، مثل حسب يحسب وكذلك زعم سيبويه نصا ، ولذلك انقلبت الواو ياء ، وذكر القتيبي (٢) أنّ آن يئين مقلوب من أنى يأني ، وذلك غلط لما بيّنّاه ، فأمّا أنى يأني فمن ذوات الياء ومنه اشتق الإني لواحد الآناء ، وكذلك قوله : ولا تمري إنّما هو ولا تمرّ ، والذي قاله من كلام العامة ، انتهى.

مناظرة بين ابن ولآد وبين ابن النحاس

وقال الزبيدي (٣) : حدثني محمد بن يحيى الرّباحي قال : بلغني أنّ بعض ملوك مصر جمع بين أبي العباس بن ولّاد وبين أبي جعفر بن النحاس وأمرهما بالمناظرة ،

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٥٢٥ ، و ٤ / ٣٣).

(٢) انظر أدب الكاتب (ص ٣٨١).

(٣) انظر طبقات النحويين واللغويين (ص ٢١٩) ،


فقال ابن النحاس لأبي العباس : كيف تبني مثال افعلوت من رميت؟ فقال أبو العباس : ارمييت ، فخطّأه أبو جعفر وقال : ليس في كلام العرب افعلوت ولا افعليت ، فقال أبو العباس : إنما سألتني أن أمثّل لك بناء ففعلت.

قال الزبيدي : وأحسن ابن ولّاد في قياسه حين قلب الواو ياء وقال في ذلك بالمذهب المعروف ، لأن الواو تقلب ياء في المضارعة لو قيل ، ألا ترى أنك كنت تقول فيه : يرميني؟ فلذلك قال : ارمييت ، والذي ذكره أبو جعفر أنّه لا يقال افعلوت ولا افعليت صحيح ، فأمّا ارعويت واجأويت فهو على مثال افعللت مثل احمررت ، فانقلبت الواو الثانية ياء لانقلابها في المضارعة ، أعني يرعوي ، ولم يلزمها الإدغام كما لزم احمر لانقلاب المثال الثاني ألفا في ارعوى ، وقد كان سعيد الأخفش يبني من الأمثلة ما مثّل له وسئل أن يبني عليه ، وإن لم يكن ذلك في كلام العرب ، وفي ذلك حجّة لابن ولّاد ، وإن كان قولا قد رغب عنه جماعة النحويين ، انتهى.

وزن (ارعوى) في شرح التسهيل لأبي حيان : قال أبو بكر محمد بن أحمد بن منصور المعروف بابن الخياط ، وهو من شيوخ أبي القاسم الزجاجي ، ومن أصحاب أبي العباس أحمد بن يحيى : أقمت سنين أسأل عن وزن ارعوى فلم أجد من يعرفه ، ووزنه له فرع وأصل ، فأصله أن يكون افعلّ مثل احمرّ كأنّه ارعوّ ، وكرهوا أن يقولوا ذلك ، لأن الواو المشددة لم تقع في آخر الماضي ولا المضارع ، ولو نطقوا بارعوّ ثم استعملوه مع التاء لوجب إظهار الواوين ، كما أنّهم إذا ردّوا احمرّ إلى التاء قالوا : احمررت وأظهروا المدغم ، فلم يقولوا : ارعووت فيجمعوا بين الواوين كما لم يقولوا قووت ، فقلبوا الواو الثانية منه (١) ، ولا ريب أنّ إحدى الواوين زائدة ، كما لا ريب في أنّ إحدى الراءين في احمررت زائدة ، قال : فإن قيل فما الحاصل في وزن ارعوى؟ قال : فجائز أن يقول : افعلل ، قال : ولو قال قائل : افعلى لكان وجها ، والأول أقيس ، ولو قيل : ابن من الغزو مثل احمرّ لقيل : اغزوى كما قيل ارعوى ، وكذا جميع ذوات الثلاثة التي ياؤها في موضع الواو جارية هذا المجرى ، انتهى كلامه.

الأصل في (مهيمن) : في (التعليقة على المقرّب) للشيخ بهاء الدين بن النحاس :

قال المبرد : بلغني أنّ ابن قتيبة قال : إنّ مهيمنا تصغير مؤمن ، والهاء بدل من الهمزة ، فوجّهت إليه أن اتّق الله ، فإنّ هذا خطأ يوجب الكفر على من تعمّده وإنّما هو مثل مسيطر.

__________________

(١) انظر شرح الشافية (٣ / ١٩٣).


القول في فاضت نفسه وفاظت

قال صاحب (المغرب) (١) : قال الحميدي في (جذوة المقتبس) : قال لي أبو محمد علي بن أحمد : كتب الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفيّ إلى أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي اللغوي كتابا فيه «فاضت نفسه» بالضاد ، فجاوبه الزبيدي بمنظوم بيّن له فيه الخطأ دون تصريح ، وهو : [المنسرح]

قل للوزير السّنيّ محتده

لي ذمّة منك أنت حافظها

عناية بالعلوم معجزة

قد بهظ الأوّلين باهظها

يقرّ لي عمرها ومعمرها

فيها ونظّامها وجاحظها

قد كان حقّا قبول حرمتها

لكنّ صرف الزّمان لافظها

وفي خطوب الزمان موعظة

لو كان يثني النفوس واعظها

إن لم تحافظ عصابة نسبت

إليك قدما فمن يحافظها

لا تدعن حاجتي مطرّحة

فإنّ نفسي قد فاظ فائظها

فأجابه المصحفيّ : [المنسرح]

خفّض فواقا فأنت أوحدها

علما ونقّابها وحافظها

كيف تضيع العلوم في بلد

أبناؤه كلّهم يحافظها

ألفاظهم كلّها معطّلة

ما لم يعوّل عليك لافظها

من ذا يساويك إن نطقت وقد

أقرّ بالعجز عنك جاحظها

علم ثنى العالمين عنك كما

ثنى سنا الشمس من يلاحظها

وقد أتتني فديت شاغلة

للنّفس أن قلت : فاظ فائظها

فأوضحنها تفز بنادرة

قد بهظ الأوّلين باهظها

فأجابه الزبيدي وضمّن شعره الشاهد على ذلك : [الطويل]

أتاني كتاب من كريم مكرّم

فنفّس عن نفس تكاد تفيظ

فسّر جميع الأولياء وروده

وسيء رجال آخرون وغيظوا

لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه

لديّ سواه والكريم حفيظ

وباحثت عن فاظت وقد قيل : قالها

رجال لديهم في العلوم حظوظ

روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا

مقال أبي الغيّاظ وهو مغيظ

__________________

(١) الخبر غير موجود في كتاب المغرب في حلى المغرب.


وسمّيت غيّاظا ولست بغائظ

عدوّا ولكنّ الصّديق تغيظ

ولا رحم الرحمن روحك حيّة

ولا هي في الأرواح حين تفيظ

مسألة في تذكرة أبي حيان : [الرمل]

كيف يخفى عنك ما حلّ بنا

أنا أنت القاتلي أنت أنا

أنا الأول مبتدأ ، وأنت الأول مبتدأ ثان ، والألف واللام لأنا وقاتلي لأنت ، فقد جرى اسم الفاعل صلة على الألف واللام التي هي أنا ، فأبرز ضميره وهو أنت ، فأنت يرتفع بقاتلي ، وأنا خبر عن الألف واللام ، وهي وما بعدها خبر عن أنت الأول ، وهو وما بعده خبر عن أنا الأول ، والعائد إلى أنا الأول أنا الثاني ، وإلى أنت الأول أنت الثاني والياء في قاتلي عائدة على الألف واللام ، وموضع أنت الثاني وما بعده رفع لأنه خبر مبتدأ ، وموضع الألف واللام رفع لأنه خبر المبتدأ الذي هو أنا ، وأنت فاعل قاتلي ، وأنا خبر عن الألف واللام ، وقال ابن بري : فيه وجهان :

أحدهما : أن يجعل الألف واللام لأنا ، والفعل لأنت ، فأنا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان ، والقاتلي مبتدأ ثالث لأنه غير أنت ، إذ الألف واللام لأنا ، والعائد على الألف واللام الياء في قاتلي لأنها أنا في المعنى ، وأنت فاعل بالقاتلي أبرزه لمّا جرى على غير من هو له ، إذ الألف واللام لأنا والفعل لأنت ، وأنا خبر القاتلي ، والقاتلي وخبره خبر أنت وأنت وخبره خبر أنا.

والثاني : أن تكون الألف واللام والقاتلي لأنت ، فأنا على هذا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان ، والقاتلي خبر أنت ، ولا يبرز الضمير فيه لأنه جرى على من هو له ويكون الكلام قد تم عند قوله : القاتلي ، ويكون أنت أنا على طريقة المطابقة للأوّل ، ليكون آخر الكلام دالّا وجاريا على أوّله ، ألا تراه قال في أول الكلام : أنا أنت؟ ولهذا قال في آخره : أنت أنا ، أي : كيف أشكو ما حلّ بي منك وأنا أنت وأنت أنا؟ فإذا شكوتك فكأنما أشكو نفسي ، قال : ولو جعلت الألف واللام والفعل في هذه المسألة لأنا لقلت : أنا أنت القاتلك أنا ، فأنا مبتدأ وأنت ثان والقاتلك ثالث لأنه غير أنت ، وفيه ضمير يعود على الألف واللام التي هي أنا في المعنى ، ولم يبرز الضمير الذي في القاتلك ، والقاتلك وخبره خبر أنت وأنت وخبره خبر أنا. قال السّخاوي في (سفر السعادة) : هذا البيت وضعه النحاة للتعليم.

المسائل التي جرت بين السهيليّ وابن خروف رحمهما الله تعالى

منقولة من تذكرة الشيخ تاج الدين بن مكتوم

ذكر بعض الناس محجورين في عقد له يتضمّن ذكورا وإناثا ، فاحتاج في خلال


العقد إلى ذكره أنثى منهم ، فقال : إحدى المحجورين ، فمنع من ذلك السهيلي وقال : قول الشاعر : [السريع]

٤٣٨ ـ [إنّي أتيحت لي يمانية]

إحدى بني الحارث [من مذحج]

هو كقول النابغة : [البسيط]

٤٣٩ ـ إحدى بليّ [وما هام الفؤاد بها

إلا السّفاه وإلّا ذكرة حلما]

وقول الآخر :

إحدى ذوي يمن

 ...

وليس في شيء منها شاهد لمن زعم أنّه يجوز إحدى المسلمين وأنت تعني مسلما ومسلمة أو إحدى المسلمين وأنت تعني مسلمة ومسلمين ، لأنّ الجمع الذي على حدّ التثنية هو بمنزلتها ، ولو جاز أن تقول في حمار وأتان : هذه إحدى الحمارين ، وما تقدّم من الأبيات إنما هو على حذف مضاف ، كما قال الله تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ، فأنّث لأنه أراد عشر حسنات ، ولو قال أيضا : هي أحد قريش أو أحد بليّ لم يمتنع ، وأمّا الذي لا بدّ فيه من لفظ أحد فما تقدّم من قوله : أحد المسلمين وأنت تعني مسلما ومسلمة ، وقولك : أحد المسلمين وأنت تعني كذلك ، وشاهد ذلك قوله عليه السّلام للمتلاعنين : «أحدكما كاذب فهل من تائب» (٣) ، ولو كانوا ثلاثة لقيل : أحدهم امرأة لأنّ لفظ التذكير قد شملهم ، فحكم الجزء إذا حكم الكلّ ، ولا سيما إذا كان ذلك الجزء لا يتكلّم به إلا مضافا والأصل في هذا النفي العام ، تقول : ما في الدار أحد ، فيقع على الذكر والأنثى ، وإنّما قالت العرب : أحد الثلاثة لأنك أردت معنى النفي ، كأنّ المعنى : لا أعيّن أحدا منهم دون آخر ، ويدلّ أيضا على ذلك أنّ تغليب المذكر على المؤنث وتغليب من يعقل على ما لا يعقل باب واحد ، وتغليب المذكر أقوى في القياس ، لأنّ لفظ المذكر أصل ثم يدخل عليه التأنيث ، وليس كذلك لفظ من يعقل ، وقد تعدّى تغليب من يعقل الجملة إلى جزئها ، قال الله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥] لما كان جزءا من الجملة التي غلّب فيها من يعقل في قوله تعالى : «فمنهم» ، وإذا جاز هذا هنا فأحرى أن يجوز في أحد الأربعة أوجه :

أحدها : أنّ أحدا يقع على الذكر والأنثى ، لكونه في معى النفي كما تقدم في قولك : أحد الثلاثة.

__________________

٤٣٨ ـ الشاهد للعرجي في ديوانه (ص ١٧) ، والأغاني (١ / ٣٧٩) ، والخزانة (٢ / ٤٢٩).

٤٣٩ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٦١) ، والدرر (٦ / ٢٠٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٠).

(١) أخرجه البخاري في صحيحه (٤ / ص ١٧٧٢) ، والمستدرك على الصحيحين (٢ / ٢٢٠).


والآخر : أنّ تغليب المذكر أقوى من تغليب من يعقل ، لأنّ المذكر والمؤنث جنس واحد ، بل نوع واحد تميّز أحدهما بصفة عرضيّة ، ألا ترى أنّه لا يسبق إلى الوهم تحليل الخنزيرة الأنثى من ذكر في القرآن مذكرا؟ وما لا يعقل مخالف لجنس من يعقل.

والثالث : أنّ المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد.

والرابع : أنّ أحدا مع أنّه مضاف لا يستعمل منفصلا ، لا يقال : هذه المرأة إحدى ، ولا رجل أحد.

قال ابن خروف : «إحدى المحجورين» صحيح يعضده السّماع والقياس ، قال تعالى : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف : ٣٨] ، فجمع بين تذكير وتأنيث في مضاف ومضاف إليه وهو بعضه وإحدى المحجورين أحرى لأنّ تأنيث الآية غير حقيقي ، ويشبهه قوله سبحانه : (هِيَ حَسْبُهُمْ) [التوبة : ٦٨] ، وقوله (١) : [البسيط]

[يا أيّها الراكب المزجي مطيّته

سائل بني أسد] ما هذه الصّوت

وقوله : [الرجز]

٤٤٠ ـ [أرمي عليها] وهي فرع أجمع

فذكّر بعض الجملة وأنّث بعضا ، وهما جميعا شيء واحد ، ومن ذلك قولهم :

أربعة بنين وثلاثة رجال ، فأنّثوا المضاف والمضاف إليه مذكر وقالوا في أربعة رجال وامرأة : خمسة ، فإذا أشاروا إلى المرأة قالوا : خامسة خمسة ، وممّا يدلّ عليه أنّا وجدنا العرب راعت المعنى المؤنث ولم تراع اللفظ المذكر في كثير من كلامها ، قال : [الطويل]

٤٤١ ـ [إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه]

تقول : هزيز الرّيح مرّت بأثأب

وقوله (٤) : [الكامل]

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٢٩).

٤٤٠ ـ الرجز لحميد الأرقط في شرح شواهد الإيضاح (ص ٣٤١) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٠٤) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٨٦) ، وبلا نسبة في ديوان الأدب (١ / ١١٨) ، وإصلاح المنطق (ص ٣١٠) ، وأوضح المسالك (٤ / ٢٨٦) ، وخزانة الأدب (١ / ٢١٤) ، والمخصص (١ / ١٦٧) ، ومقاييس اللغة (١ / ٢٦) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٧٦) ، والخصائص (٢ / ٣٠٧) ، والأزهيّة (ص ٢٧٦).

٤٤١ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٤٩) ، وشرح التصريح (١ / ٢٦٢) ، ولسان العرب (هزز) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٤٣١) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ٧١).

(٢) مرّ الشاهد رقم (١٣٤).


[لما أتى خبر الزبير] تواضعت

سور المدينة [والجبال الخشّع]

ومثله كثير ، فهذا ونحوه روعي فيه المعنى ، فهو أشدّ ممّا نحن بصدده ، وإحدى بليّ وأمثاله لا يحتاج فيه إلى حذف مضاف كما زعم السهيلي ، لكن لمّا كانت قبائل تجمع الذكور والإناث جاز ذلك فيها ، وإجازته «هي أحد قريش» و «هي أحد بليّ» عطف ولو قيل أحد المحجورين على قوله سبحانه : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] لم يجز لأنه في الآية الكريمة بعد النفي ، والمراد به نفي العموم ثم بيّن بقوله : «من النساء» ، وأمّا استشهاده بقوله في المتلاعنين : «أحدهما كاذب» فغفلة ، لأن المقصد هنا أحدهما لا بعينه ، ولو عنى المؤنث لأنّث ، فهو كقوله سبحانه : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) [الإسراء : ٢٣] ، ومنع من إفراد أحد وإحدى وقد قال سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وقالوا : أحد وعشرون وإحدى وعشرون ، وقوله : «لا يسبق إلى وهم أحد تحليل الخنزيرة الأنثى» قد ذهب إلى ذلك طوائف من أهل الفساد ، ولم يدلّ عندنا على تحريمها إلّا فحوى الخطاب وكون الألف واللام للجنس.

قال السهيليّ : لا دليل في قوله سبحانه : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) لأنّه لم يجتمع في الآية مؤنث ومذكر فغلّب المذكر ، يعني أنّ آحاد الأمم مؤنثات من حيث الأمم جمع أمة ، وليس في جمع أمة على أمم نقل مؤنث إلى مذكر ، ولكنّ هذا هو باب جمع هذا المؤنث ، فإذا قلت أخراهم فلم ينقص كما فعلته في إحدى المحجورين ، لأنك في إحدى المحجورين نقلت مؤنثا إلى مذكر ، وجعلت محجورة محجورا كأنّه شيء محجور ، فإذا فعلت ذلك فواجب عليك أن تقول أحد من حيث قلت فيه محجور ، وقد يتعقب هذا بأنّ ضميرهم ضمير مذكرين نساء ورجالا بلا شك ، فوجب الجمع بين إحدى المحجورين وبين أخراهم أنّ لفظ هم لم يستعمل حتى صيّر من كان ينبغي أن يقال فيه هي يقال فيه هو كما نقلت محجورة إلى محجور فانظره ، وأيضا فإنّ أولى وأخرى قد تستعملان منفصلتين بخلاف إحدى ، وقوله سبحانه : (هِيَ حَسْبُهُمْ) وقول الشاعر (١) :

وهي فرع أجمع

لا دليل فيهما ، وليسا في شيء ممّا نحن بصدده ، بل يشبهان قولك : هي أحد المسلمين ، فإنّا نقول هي ثم نقول أحد ، وقوله سبحانه : (هِيَ حَسْبُهُمْ) كقولك : امرأة عدل ، وقوله : «وهي فرع» كقولك للمرأة إنسان ، وأمّا قوله : «ما هذه الصوت»

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٤٠).


فلا حجة فيه ، وليس ممّا نحن فيه في شيء ، وإنّما اضطرّ فأنّث لإرادة الصيحة ، واستدلالة أيضا بثلاثة بنين وأربعة رجال ليس من الباب في شيء ، واستدلاله بخامسة خمسة كذلك ، لأن خامسة من باب اسم الفاعل كقائمة وقاعدة ، واسم الفاعل يجري على أصله إن كان لمذكر فهو مذكر وإن كان لمؤنث فهو مؤنث ، فقولك : خامسة خمسة كقولك : ضاربة الرجل.

قال ابن خروف في هذا : إذا كان اسم الفاعل ينبغي أن يجري على أصله فكذلك أحد وإحدى واللّبس الذي كان يدخل في اسم الفاعل لو لم يؤنث هو اللّبس الذي يدخل في إحدى.

قال السهيلي : وأمّا استشهاده بنحو «هزيز الريح» والأبيات التي أنشدها سيبويه فلا حجّة في شيء من ذلك ، وأما قوله : «وإحدى بليّ» وأمثاله لا يحتاج إنّما قصدت أنّه لا يلزم غير وجود إحدى بليّ أن تقول : إحدى المحجورين ، فإنّ بينهما فرقا وهو أنّ المحجورين لا يشتمل على جملة نساء كما يشتمل عليها القبيلة.

وأمّا ردّه عليّ في قوله عليه السّلام : «أحدهما كاذب» فهذيان لأنّي لم أستشهد بالحديث إلّا على تغليب المذكر خاصّة ، وأمّا ردّه المنع من إفراد أحد وإحدى واستشهاده بقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فليست الآية مما نحن فيه ، وأمّا قوله : قد ذهب إلى تحليها دون الذّكور طوائف من الفسّاد فتعقب سخيف ، انتهى.

قال ابن الحاج : وردّ ابن خروف هذه الفصول كلّها بما لا يشفي وأبان أنه لم يفهم عن السهيلي شيئا ، ولم يذكر ابن الحاج الردّ.

مسألة

مناظرة بين ابن خروف والسهيلي

«أكل كلّ ذي ناب من السّباع حرام» (١) قال ابن خروف : للسهيلي في هذا الحديث من سوء التأويل والهذر والافتيات على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لا خفاء به ، أعاذنا الله مما ابتلي به ، وإنّها لزلّة عظيمة يجب استتابة قائلها ، وذلك أنّه قال : يجوز أن يحمل الحديث على أصل رابع وهو المضارعة ، فإنّ الله تعالى إذا حرّم شيئا حرّمت الشريعة ما يضارعه ، كما حرم ما يضارع الزنا مضارعة قريبة وكره ما يضارعه من بعد ، كالنظرة والقعود في موضع امرأة قامت عنه حتى تزد ، روي ذلك عن عمر رضي الله عنه ، والتلذذ بشم طيب على امرأة ، ونظائر كثيرة ، فلمّا حرّم الله

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٢٥) ، والنسائي في سننه (٢ / ٢٠٠).


الخنزير حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يضارعه ويشاركه في النّاب والصّفة الخنزيرية ، فحرّم الله سبحانه الأصل وحرم رسوله الفرع ، والكلّ من عند الله ، كما حرم الله الجمع بين الأختين ، وحرم رسول الله الجمع بين العمة وابنة أخيها وبين الخالة وابنة أختها ، وبين العمتين والخالتين بناء منه عليه السّلام على الأصل الثابت في كتاب الله تعالى والتفاتا إليه ، كذلك حرم كل ذي ناب بناء على الأصل الثابت من تحريم الخنزير استنباطا منه ونظرا إليه.

قال ابن خروف : هذا الرجل يخبر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يحرم شيئا بالاستنباط من غير أن يؤمر بتحريمه ، وقوله : «والكل من عند الله» كلام ملغى إذ لا يجتمع مع ما قبله ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم البراءة والتنزيه مما نسب إليه.

قال السّهيليّ : ما أجهل هذا الجاهل حيث ينكر ما لا ينكره أحد ، وهو مسطور في (مختصر الطليطلي) ، لأن مؤلفه ذكر أنه صلّى الله عليه وسلّم يستنبط الشرائع ، وهذا الجاهل من جفاة المقلدين فليقنعه على طريقة التقليد كلام الطليطلي ، واستنباط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحيح لا يدفع في ثبوته ، ولا ينكره إلّا جلف جاف ، وكلّ ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم مما لم ينطق به القرآن وإن كان متضمنا لكل شيء فهو على هذا المنحى ، وإذا لم يستنبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمن ذا يستنبط؟

مسألة

بين السهيلي وابن خروف

قال السّهيليّ في قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [المائدة : ٦٠] الألف واللام يدّلان على معنى الاتّعاظ والاعتبار ، وفهم ابن خروف عنه أنه يثبت للألف واللام معنى ثالثا أو رابعا ، وهو معنى الاتعاظ ، فردّ عليه بأنّه قال ما لم يقله أحد.

قال السّهيليّ رادّا عليه : إنما أردت أنّ الله سبحانه لمّا خاطب أهل الكتاب بهذا ، فأشار إلى الجنس المعروف من القردة والخنازير التي مسخ من سلف من الأمم على هيئتها وصورتها لم يكن بدّ من الألف واللام الدّالتين على تعيين الجنس حين دخل الكلام معنى الاتعاظ والاعتبار والتخويف ، ولو قال قردة وخنازير لم يكن فيه ذلك.

مسألة

لابن العريف يبلغ وجوه إعرابها أكثر من ألفي ألف وجه

مسألة من تخريج ابن العريف تبلغ من وجوه الإعراب ألفي ألف وجه وسبعمائة ألف وجه وأحدا وعشرين ألف وجه وستمائة وجه ، وهي هذه : «ضرب الضّارب


الشّاتم القاتل محبّك وادّك قاصدك معجبا خالدا في داره يوم عيد» ، فترفع الضارب بالفعل والشاتم نعته والقاتل نعت ثان ومحبّك نصب بالقاتل ووادّك نعته وقاصدك نعت ثالث وتنصب معجبا بضرب وخالدا بمعجب ، ولك رفع قاصدك بالابتداء وخبره محذوف ، أو هو خبر محذوف المبتدأ ونصبه بأعني وعلى الحال من القاتل أو من الضارب أو لوادّك ، فهذه سبعة لك مع كل واحد منها نصب وادّك بأعني أو الحال للقاتل أو الضارب أو مفعولا ، ولك رفع بأنّه خبر وبالعكس ، فذلك (٤٢) لك في محبّك النصب بالقاتل وبأعني والرفع بالابتداء وبالخبر ، فذلك (١٦٨) لك مع كل منها نصب القاتل بالشاتم وبأعني ورفعه بالابتداء وبالخبر وخفضه تشبيها بالحسن الوجه ورفعه بنعت ما قبله فذلك (١٠٠٨) لك مع كل منها نصب الشاتم بالضارب وبأعني ورفعه بالابتداء وبالخبر وجرّه تشبيها بالحسن الوجه ، ورفعه بالنعت (٦٠٤٨) مع كل منها نصب معجبا بالحال لقاصدك وبالحال للكاف من قاصدك وبالحال من الضارب ونعتا لقاصدك ونصبه بضرب (٣٠٢٤٠) مع كل منها نصب خالدا بضرب ورفعه بضرب وبنصب الضارب ولك جعل خالد بدلا من الضارب ولك عطفه عليه عطف البيان ونصبه بأعني ورفعه بالابتداء وبالخبر ونصبه بمعجب (٢٧٢١٦٠) مع كل وجه منها أن تجعل «داره» متعلقا بالضارب أو بمحبك (٥٤٤٣٢٠) وبوادّك أو بقاصدك أو بخالد ، وكذلك القول في «يوم عيد» فيتضاعف ذلك إلى العدد المذكور.

الكلام في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ :) قال ابن الصائغ في (تذكرته) :

سئل العلامة مجد الدين الرّوذ راوري عن قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، فتكلم عليه ابن مالك فامتعض الروذّ راوري لكلامه ، وطعن في كلام ابن مالك ، وهذا تلخيص كلامهما مع حذف ما لا تعلّق له بالمسألة من الطّعن والإزراء.

قال الشيخ مجد الدين : استشكل الأئمّة تذكير القريب مع تأنيث الرحمة ، وتخيّل الفضلاء من قدمائهم في الجواب وجهين :

أحدهما : أنّ الرحمة بمعنى الإحسان ، وهو مذكر.

الثاني : أنّ الرحمة مصدر ، والمصادر لا تجمع ولا تؤنّث ، هذان ذكرهما الجوهري والزمخشري في كتابيهما.

وقال الفراء : القريب إذا كان للمكان وكان ظرفا كان بلا هاء ، وإذا ضمّن معنى


النسبة والقرابة دخلت الهاء ، تقول في الأول : كانت فلانة قريبا مني ، وفي الثاني : قريبتي ، قال : وهذا كله تصرّف في كلام الله تعالى بمجرّد الظن ، وهلّا كانوا كالأصمعي ، فإنه أعلم المتأخرين بكلام العرب ، وكان إذا سئل عن شيء من كلام الله تعالى سكت ، وقال : لو أنّه غير كلام الله تعالى تكلمت فيه ، والقرآن إنّما يفهم من تحقيق كلام العرب وتتبّع أشعارهم ، فقد كان عكرمة وهو تلميذ ابن عباس إذا سئل عن شيء من مشكل القرآن يفسره ويستدل عليه ببيت من شعر العرب ، ثم يقول : الشعر ديوان العرب.

والجوابّ الحق : أن القريب على وزن فعيل ، والفعيل والفعول يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي ، قال امرؤ القيس : [المتقارب]

٤٤٢ ـ برهرهة رؤدة رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر

فتور القيام قطيع الكلا

م تفترّ عن ذي غروب خصر

وقال في لفظ القريب : [الطويل]

٤٤٣ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة بنة يشكرا

وقال جرير : [الوافر]

٤٤٤ ـ أتنفعك الحياة وأمّ عمرو

قريب لا تزور ولا تزار

وأغرب من ذا أنّ لفظة واحدة قد اجتمع فيها التأنيث الحقيقي وغير الحقيقي ، وهي لفظة (هنّ) ، ومع ذلك حمل عليها فعيل بلا هاء ، وهي في قول جميل : [الطويل]

٤٤٥ ـ كأن لم نحارب يا بثين لو انّها

تكشّف غمّاها وأنت صديق

وقال جرير : [الطويل]

٤٤٦ ـ دعون النّوى ثم ارتمين قلوبنا

بأسهم أعداء وهنّ صديق

__________________

٤٤٢ ـ البيتان في ديوانه (ص ١٥٧) ، والبيت الأول له في لسان العرب (خرعب) و (بون) و (بره) ، وتهذيب اللغة (٣ / ٢٧٥) ، والمخصص (١٠ / ٢١٤) ، وديوان الأدب (٢ / ٨٧) ، وتاج العروس (خرعب) و (بون) و (بره) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة.

٤٤٣ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٦٨) ، ولسان العرب (قرب).

٤٤٤ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ١٣٤).

٤٤٥ ـ الشاهد لجميل بثينة في ديوانه (ص ١٤٤) ، ولسان العرب (صدق) ، والأغاني (٨ / ١٢٤) ، والحماسة الشجرية (١ / ٥١٢) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٣٤٧) ، والكامل (ص ٩٦).

٤٤٦ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٣٧٢) ، ولسان العرب (صدق) ، ولذي الرمة في ملحق ديوانه (ص ١٨٩٣) ، والحماسة البصرية (٢ / ١٧٧) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ١٨٤) ، والخصائص (٢ / ٤١٢).


فلو عرف القوم بعض هذه الاستشهادات لما وقعوا في ذلك.

وقال العلامة جمال الدين بن مالك : فعيل وفعول مشتبهان في الوزن والدّلالة على المبالغة والوقوع بمعنى فاعل وبمعنى مفعول ، إلّا أنّ فعيلا أخفّ من فعول ، فلذلك فاقه بأشياء منها :

كثرة الاستغناء به عن فاعل في المضاعف ، كجليل وخفيف وصحيح وعزيز وذليل ، وإنّما حقّ هذه الصفات أن تكون على زنة فاعل لأنّها من فعل يفعل ، فاستغني فيها بفعيل ولا حظّ لفعول في ذلك.

ومنها اطّراد بنائه من فعل كشريف وظريف وكريم ، وليس لفعول فعل يطّرد بناؤه منه. ومنها كثرة مجيئه في صفات الله تعالى وأسمائه ، كسميع وبصير وعليّ وغنيّ ورقيب ، ولم يجئ منها فعول إلّا رؤوف وودود وعفوّ وغفور وشكور ، وإذا ثبت أنه فائق لفعول في الاستعمال فلا يليق أن يكون له تبعا ، بل الأولى أن يكون الأمر بالعكس ، أو ينفرد كلّ منهما بحكم هو به أولى ، وهذا هو الواقع ، فإنّهم خصّوا فعولا المفهم معنى فاعل بأن لا تلحقه التاء الفارقة بين المذكر والمؤنّث وأن يشتركا فيه ، فيقال : رجل صبور وامرأة صبور ، وكذا شكور ونحوهما إلّا ما شذّ من عدوّ وعدوّة ، فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث ، فقيل : رجل ملولة وفروقة ، وامرأة ملولة وفروقة ، ولا يقدم على هذا الوزن إلا بنقل ، وإن لم يقصد بهذا الوزن معنى فاعل لحقته التاء أيضا ، كحلوبة وركوبة ورغوثة ، وليس في شيء من هذا إلّا للنقل ، فلمّا كان لفعيل على فعول من المزية ما ذرته استحقّ أن يخصّ بأحوط الاستعمالين ، وهو التمييز بين المذكر والمؤنث ، كجميل وجميلة وصبيح وصبيحة ووضيء ووضيئة ونحوه ، وإن كان فعيل بمعنى مفعول وصحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث ، كرجل قتيل وامرأة قتيل ، وإن لم يصحب الموصوف وقصد تأنيثه أنث نحو : رأيت قتيلة بني فلان ، هذا هو المعروف ، وما ورد بخلاف ذلك عدّ نادرا ، أو تلطّف في توجيهه بما يلحقه بالنظائر ويبعده عن الشذوذ ، فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ،) ومنه ستة أقوال :

أحدها : أنّ فعيلا وإن كان بمعنى فاعل فقد جرى مجرى فعيل الذي بمعنى مفعول في عدم لحاق التاء ، كما جرى هو مجراه في لحاق التاء حين قالوا : خصلة حميدة وفعلة ذميمة بمعنى محمودة ومذمومة ، فحمل على جميلة وقبيحة في لحاق التاء ، وكذلك قريب في الآية الكريمة حمل على «عين كحيل» و «كف خضيب» وأشباههما في الخلو من التاء ، ونظير ذلك : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨].


الثاني : أنّه من باب تأوّل المؤنث بمذكر موافق في المعنى ، كقول الشاعر : [الطويل]

٤٤٧ ـ أرى رجلا منهم أسيفا كأنّما

يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا

فتأوّل كفّا وهو مؤنث بعضو فذكر صفته لذلك ، وكذلك الرحمة متأولة بالإحسان فذكر خبرها ، وتأوّلها بالإحسان أولى من تأوّل الكفّ بالعضو لوجهين :

أحدهما : أنّ الرحمة معنى قائم بالراحم ، والإحسان برّ الراحم المرحوم ومعنى البرّ في القريب أظهر منه في الرحمة.

الثاني : أنّ ملاحظة الإحسان في الرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين مقابلة للإحسان الذي تضمّنه ذكر المحسنين فاعتبارها يزيد المعنى قوة ، فصحّت الأولويّة ، ومن تأوّل المؤنث بمذكر ما أنشده الفراء : [المتقارب]

٤٤٨ ـ وقائع في مضر تسعة

وفي وائل كانت العاشره

فتأوّل الوقائع بأيام الحرب ، فلذلك ذكر العدد الجاري عليها فقال : تسعة ، وإذا جاز تأوّل المذكر بمؤنث في قول من قال : «جاءته كتابي فاحتقرها» أي : صحيفتي ، وفي قول الشاعر (٣) : [البسيط]

يا أيّها الرّاكب المزجي مطيّته

سائل بني أسد ما هذه الصّوت

أي : الصيحة مع ما في ذلك من حمل أصل على فرع ، فلأن يجوز تأوّل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أحقّ وأولى.

الثالث : أن يكون من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال : إن مكان رحمة الله قريب ، كما قال حسان : [الكامل]

٤٤٩ ـ يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل

__________________

٤٤٧ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٦٥) ، وجمهرة اللغة (ص ٢٩١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٤٥٨) ، ولسان العرب (خضب) و (أسف) و (كفف) ، و (بكى) ، وبلا نسبة في الإنصاف (ص ٧٧٦) ، وخزانة الأدب (٧ / ٥) ، ومجالس ثعلب (ص ٤٧).

٤٤٨ ـ الشاهد بلا نسبة في الإنصاف (٢ / ٧٦٩) ، والدرر (٦ / ١٩٦) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٢٠) ، ولسان العرب (يوم) ، ومجالس ثعلب (٢ / ٤٩٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٤٩).

(١) مرّ الشاهد رقم (١٢٩).

٤٤٩ ـ الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه (ص ١٢٢) ، وجمهرة اللغة (ص ٣١٢) ، وخزانة الأدب (٤ / ٣٨١) ، والدرر (٥ / ٣٨) ، وشرح المفصل (٣ / ٢٥) ، ولسان العرب (برد) و (برص) و (صفق) ، ومعجم ما استعجم (ص ٢٤٠) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ٤٥١) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٢٤) ، وشرح المفصّل (٦ / ١٣٣) ، وهمع الهوامع (٢ / ٥١).


ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم مشيرا إلى الذهب والحرير : «هذان حرام على ذكور أمتي» (١) أي : استعمال هذين.

الرابع : أن يكون من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، أي : إن رحمة الله شيء قريب أو لطف أو برّ أو إحسان ، وحذف الموصوف سائغ ، من ذلك قوله (٢) : [السريع]

قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الحرب ذا غربة

قد خاب من ليس له ناصر

أي : شخصا أو إنسانا ذا غربة ، ومثله قول الآخر : [الطويل]

٤٥٠ ـ فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني

فراقك لم أبخل وأنت صديق

أي : شخص صديق ، وعلى ذلك حمل سيبويه قولهم : حائض وطامث ، قال : كأنهم قالوا : شيء حائض.

الخامس : أن يكون من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني ، والوجه في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث على الوجه المذكور كقوله : [الطويل]

٤٥١ ـ مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم

ومثله : [الكامل]

٤٥٢ ـ بغي النّفوس معيدة نعماءها

نقما وإن عمهت وطال غرورها

وإذ كانت الإضافة تعطي المضاف تأنيثا لم يكن فيه على الوجه المذكور فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له كما في الآية الكريمة أحق وأولى ، لأن التذكير أصل فالرجوع إليه أسهل من الخروج عنه.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في سننه رقم (٣٥٩٥) ، وأبو داود في سننه (٤٠٥٧).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٢٧).

٤٥٠ ـ الشاهد بلا نسبة في الأزهيّة (ص ٦٢) ، والإنصاف (١ / ٢٠٥) ، والجنى الداني (ص ٢١٨) ، وخزانة الأدب (٥ / ٢٤٦) ، والدرر (٢ / ١٩٨) ، ورصف المباني (ص ١١٥) ، وشرح الأشموني (١ / ١٤٦) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٠٥) ، وشرح ابن عقيل (ص ١٩٣) ، وشرح المفصل (٨ / ٧١) ، ولسان العرب (حرر) ، و (صدق) ، و (أنن) ، ومغني اللبيب (١ / ٣١) ، والمقاصد النحوية (١ / ٣١١) ، والمنصف (٣ / ١٢٨) ، وهمع الهوامع (١ / ١٤٣).

٤٥١ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٧٥٤) ، وخزانة الأدب (٤ / ٢٢٥) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٥٨) ، والمحتسب (١ / ٢٣٧) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٦٧) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٤١٧) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣١٠) ، وشرح ابن عقيل (ص ٣٨٠) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٨٣٨) ، ولسان العرب (عرد) و (صدر) ، و (قبل) ، و (سفه) ، والمقتضب (٤ / ١٩٧).

٤٥٢ ـ لم أجده في أيّ من المصادر التي بين يديّ.


السادس : أن يكون من باب الاستغناء بأحد المذكورين لكون الآخر تبعا له أو معنى من معانيه ، ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] أي : فظلت أعناقهم خاضعة ، وظلّوا لها خاضعين ، فهذا منتهى ما حضرني.

وبلغني أنّ بعض الفقهاء زعم أنّ إخلاء (قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) المشار إليه من التاء لم يكن إلّا لأجل أنّ فعيلا يجري مجرى فعول في الوقوع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وضعف هذا القول بيّن وتزييفه هيّن ، وذلك أنّ قائل هذا القول إمّا أن يريد أنّ فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحقّ ما يستحقّه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وإمّا أن يريد أنّ فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول.

فالأول : مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما ، ولذلك احتاج علماؤهم إلى أن يقولوا في قوله تعالى : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم : ٢٠] : إن أصله بغوي على فعول ، فلذلك لم تلحقه التاء.

والثاني : أيضا مردود لأنه قد تقدّم التنبيه على ما لفعيل على فعول من المزايا ، ولأنه لا يليق أن تبعا لفعول ، بل الأولى أن يكون أمرهما بالعكس ، ولأنّ ذلك القائل حمل فعيلا على فعول ، وهما مختلفان لفظا ومعنى ، أمّا اللفظ فظاهر ، وأمّا المعنى فلأنّ قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كلّ ذي قرب وإن قلّ ، وفعول المشار إليه لا بدّ فيه من مبالغة ، وأيضا فإنّ الدّالّ على المبالغة لا بدّ أن يكون له بنية لا مبالغة فيها ، ثم يقصد به المبالغة فتغيّر بنيته كضارب وضروب وعالم وعليم ، وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه ، والظاهر أنّ ذلك القائل إنّما أراد حمل فعيل على فعول مطلقا واستدل على ذلك بقول الشاعر : [المتقارب]

٤٥٣ ـ فتور القيام قطيع الكلا

م تفترّ عن ذي غروب خصر

والاحتجاج بهذا ساقط من وجوه :

أحدها : أنه نادر والنادر لا حكم له ، ولو كثرت صوره وجاء على الأصل كاستحوذ واعورّ واستنوق البعير ، فما ندر ولم تكثر صوره ولا جاء على الأصل أحق.

الثاني : أن يكون قطيع الكلام أصله قطيعة الكلام ثم حذفت التاء للإضافة ، فإنها مسوّغة لحذفها عند الفراء وغيره من العلماء ، وحمل على ذلك قوله تعالى : (وَإِقامَ الصَّلاةِ) [الأنبياء : ٧٣] ومثل ذلك قوله : [البسيط]

__________________

٤٥٣ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٥٧).


٤٥٤ ـ إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا

وأخلفوك عد الأمر الّذي وعدوا

وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) [التوبة : ٤٦] أراد عدته.

الثالث : أن يكون فعيل في قوله : قطيع الكلام بمعنى مفعول لأنّ صاحب المحكم حكى أنه يقال : «قطعه وأقطعه إذا بكّته وقطع هو وقطع فهو قطيع القول» ، فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي : مبكّت ، فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس ، وإن جعل «قطيع» مبنيا على قطع كسريع من سرع فحقه على ذلك أن تلحقه التاء عند جريه على المؤنث ، إلّا أنّه شبّه بفعيل الذي بمعنى مفعول فأجري مجراه والله أعلم.

فأجاب الشيخ مجد الدين وقال : حقّ على من مارس شيئا من العلم إذا سئل عن مشكلاته أن يتجنّب في جوابه الإيجاز المخلّ والتطويل الممل ، ويتوقى الزوائد التي لا يحتاج إليها ، فإنّ العالم من إذا سئل عن عويص أوضحه بأوجز بيان من غير زيادة ولا نقصان ، وقد سئل العبد الضعيف عبد المجيد بن أبي الفرج الرّوذراوري عن هذه الآية بناء على استغراب من قصر في إتقان كلام العرب باعه ، فاستبعد حمل المذكر على المؤنث فكان جوابه أنّ القرآن المجيد عربيّ ، وإذا أطلق فصحاء العرب لفظ القريب على المؤنث الحقيقي فكيف لا يسوغ إطلاقه على غير الحقيقي؟ قال امرؤ القيس (٢) : [الطويل]

له الويل إن أمسى [ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة بنة يشكرا]

وقال جرير (٣) : [الوافر]

أتنفعك الحياة [وأم عمرو

قريب لا تزور ولا تزار]

ومع هذه الحجة الواضحة لا حاجة إلى التأويلات والتعسفات ، وقد كتب في ذلك بعض النحاة المشهورين العصريين هذه الأوراق المتقدمة وذكر فيها ما تقتضيه

__________________

٤٥٤ ـ الشاهد للفضل بن عباس في شرح التصريح (٢ / ٣٩٦) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٦٤) ، ولسان العرب (غلب) ، و (خلط) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٧٢) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٤ / ٤٠٧) ، والخصائص (٣ / ١٧١) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٠٤) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٤٨٦) ، ولسان العرب (وعد) ، و (خلط).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٤٣).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٤٤٤).


صناعة النحو ، وحكى ما قيل في المسألة مع أنّه لا يشفي الغليل ، لأن العرب لم تقل ذلك ولا نعلم لو عرض عليهم هل كانوا يرتضونه أم لا؟ بخلاف ما أوردت من الشواهد ، فإنّه نصّ قولهم ، ولا ريب في صحته وكونه حجة ، والذي أورده من الأقوال الستة مستنبط من الظن والقياس ، وقد يكون حقا وقد لا يكون ، وقد ألحّ عليّ جماعة أن أورد على فوائده هذه ما يتوجه عليها من الاعتراضات ، فكنت آبى ذلك خيفة سقطة تنفق حتى غلبوا على رأيي ، وقالوا : هذا لا يعدّ قدحا في فضله ، فشرعت في التنبيه على ما يرد على قوله :

أمّا ما ذكره من اشتباه فعيل وفعول في الوزن والدّلالة على المبالغة والوقوع بمعنى فاعل وبمعنى مفعول ، وأنّ فعيلا أخفّ من فعول وأنّه فاقه بأشياء منها : اطّراد بنائه من فعل ، وكثرة مجيئه في أسماء الله تعالى ، وإذا فاقه لا يكون تبعا له ، وهل الأمر إلا بالعكس أو مستويان؟ إلى آخره ، فكلّ هذه دعاو تعسر إقامة الحجة عليها خصوصا مع المنازعة ، ولئن سلمت فهي خارجة عن مسألتنا ، لأنّ السؤال وقع عن جواز إطلاق القريب على الرحمة ، فجوابه : ذلك جائز لدلالة كذا وكذا عليه ، فبقية المقدمات ضائعة مبذولة ، ولا مدخل لها فيما وقع السؤال عنه ، ومثاله من سئل عن زيارة الكعبة المعظّمة هل تجب أم لا؟ فأجاب بأنّ المتوجّه إليها لا بدّ أن يكون محرما ، وميقاته من جهة المدينة ذو الحليفة وعدّد له المواقيت ، فيقول له السائل : أنا لم أسألك إلّا عن وجوب زيارتها ، وما ذكرته بمعزل عن ذلك ، ويجري مجرى هذا قول المتكلّم في فعيل وفعول : أبواب المصادر ستة : فعل يفعل كحلب يحلب ، وفعل يفعل كضرب يضرب ، وفعل يفعل كذهب يذهب وفعل يفعل كقرم يقرم ، وفعل يفعل ككرم يكرم ، وفعل يفعل كوثق يثق ، وكلّه يشتقّ منه فعيل ، إلّا أنّ أكثره من فعل يفعل ويكون بمعنى فاعل كشريف وظريف وكريم وعظيم ، وقد يرد من غيره بمعنى المفعول ، كصريع وجريح وكليم وهزيم ، وتتكلم في فعول بما يناسب ذلك أو يقاربه عند الشروع في مسألتنا في لفظة القريب ، والعاقل يعلم أنّ هذه المباحث لا مدخل لها فيما نحن فيه ، وإن كانت من تفاريع لفظة القريب ، وقوله في فعول : «إن لم يقصد به معنى فاعل لحقته تاء كحلوبة وركوبة» منقوض بقولهم : ناقة عصوب للّتي تعصب ركبتاها عند الحلب ، وسلوب وعجول للتي اخترم ولدها ، فإنّ وزنه فعول وليس للفاعل ولا تلحقه التاء ، وكذا الجزور والخلوج والبسوس (١) ، والحضون والشّطور والثّلوث (٢) ، وكل هذه صفات للناقة والشاة ، ووزنها فعول لم تلحقها التاء

__________________

(١) الجزور : الناقة المجزورة. والخلوج : الغزيرة اللبن. والبسوس : التي تدرّ عند الإبساس.

(٢) الحضون : التي قد ذهب أحد طبييها. والشطور : التي يبس خلفان من أخلافها. والثّلوث : الناقة التي يبس ثلاثة من أخلافها.


وليست للفاعل ، وأمّا الأقوال الستة التي ذكرها فإني أشير إلى ما يرد على كل واحد منها إشارة لطيفة :

أمّا قوله : «قريب» بمعنى فاعل أجري مجرى فعيل بمعنى مفعول كما أجري ذلك مجرى هذا في لحاق التّاء فلا شكّ أنّه من قول النحاة ، لكن ما الدليل عليه؟ فإنّه مجرد دعوى ، ويرد عليه أنّ أحد الفعلين مشتق من فعل لازم والآخر من فعل متعدّ ، فلو أجري على أحدهما حكم الآخر لبطل الفرق بين اللازم والمتعدي ، إن كان على وجه العموم ، وإن كان على وجه الخصوص فأين الدليل عليه؟ والحقّ أنّ كلّا من الفعلين يطلق على المذكر بلا تاء ولا خلاف فيه ، وعلى المؤنث تارة مع التاء وأخرى بلا تاء أصالة ، كما ورد في أشعار الفصحاء ، لا على سبيل التبعية ولا على وجه الشذوذ والندرة ، وتشبيه أحدهما بالآخر كما زعموا لأنّ الأصل في الكلام الحقيقة وقد كثر شواهد ذلك ، قال جرير يرثي خالدة : [الكامل]

٤٥٥ ـ نعم القرين وكنت علق مضنّة

وأرى بنعف بليّة الأحجار

وقال : [الكامل]

٤٥٦ ـ فسقاك حين حللت غير فقيدة

هزج الرّواح وديمة لا تقلع

وقال الفرزدق : [الطويل]

٤٥٧ ـ فداويته عامين وهي قريبة

أراها وتدنو لي مرارا وأرشف

وامرأة قبين وسريح وهريت ، وفروك وهلوك ورشوف وأتوف ورصوف (٤) وامرأة ملولة وفروقة وامرأة عروب (٥) وسحابة دلوج (٦) ، ولا استغراب في إطلاق رميم على العظام مع أنها جمع تكسير مؤنث فهو على وفاق كلام فصحاء العرب ، قال جرير مع فصاحته ولم ينكر عليه : [البسيط]

٤٥٨ ـ آل المهلّب جذّ الله دابرهم

أمسوا رميما فلا أصل ولا طرف

__________________

٤٥٥ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٨٦٢).

٤٥٦ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٩١١).

٤٥٧ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (٢ / ٢٥) ، وجمهرة أشعار العرب (ص ٨٧٩).

(١) القبين : المنكمش في أموره. والسريح : السهل. والهريت : الواسع الشدقين. والفروك : المبغضة لزوجها. والهلوك : الفاجرة الشبقة. والرشوف : الطيّبة الفم. والأنوف : الطيّبة ريح الأنف.

والرصوف : الصغيرة الفرج.

(٢) الفروقة : الشديدة الخوف. والعروب : الضاحكة.

(٣) السحابة الدلوج : الثقيلة بحملها.

٤٥٨ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ١٧٦) ، ولسان العرب (ملح) ، ومجمع الأمثال (١ / ١٧٦).


وأما الاعتراض على القول الثاني فهو أنّا لا نسلم تأويل المذكر بمؤنث يوافقه أو يلزمه ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : رأيت زيدا فكلّمتني وأكرمتني ، ورأيت هندا فكلّمني وأكرمني بناء على أنّ زيدا نفس وجثة وهندا شخص وشبح.

وأمّا قوله : «كفّا مخضّبا» فالكفّ قد يذكر كما في هذا البيت لفقدان علامات التأنيث ، وقد يؤنث كما في أكثر موارده ، وهذا أولى من التأويل كيلا تلزم المفسدة التي ذكرناها ، وحمل الرحمة على الإحسان بعيد ، لأنّ اللفظ إذا دلّ على معنى فإمّا أن يدلّ عليه على وجه الحقيقة أو المجاز ، والقسمان منتفيان هنا لأن حضور المعنى بالبال لازم عند إطلاق اللفظ في كلام القسمين لجواز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر ، لأنّ الرحمة قد توجد وافرة فيمن لا يتمكن من الإحسان أصلا ، كالوالدة الفقيرة بالنسبة إلى ولدها ، وقد يوجد الإحسان ممّن لا رحمة في طباعه ، كالملك القاسي فإنّه قد يحسن إلى بعض أعدائه لمصلحة نفسه أو ملكه ولا تلقى عنده رحمة ، وإذا تبيّن جواز انفكاك كل واحد عن الآخر فلا يجوز إطلاق أحدهما لى الآخر ، ولا انفكاك بين الكف وبين كونها عضوا ، لأنّ كل كفّ عضو وإن لم يكن كل عضو كفّا ، فبينهما ملازمة الخاص والعام والملازمة مصححة للمجاز ، ولا ملازمة بين الرحمة والإحسان كما بيّنا ، فيتعذر تأويل الرحمة بالإحسان ، وقد سلّمنا أنّ معنى القرب في البرّ أظهر منه في الرحمة ، ولكن هذا جواز إطلاق اسم أحدهما على الآخر ، لأنّ جواز الإطلاق منحصر في الحقيقة والمجاز ، وكلاهما معدوم فيما نحن فيه.

وأمّا قوله ثالثا : «إنه من باب حذف المضاف» فذلك إنّما يصحّ حيث يحسن ويتعيّن ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، فإنّه يتعيّن إضمار أهلها ، وهاهنا لا يصح إضمار المكان ولا يحسن ولا يتعيّن ، أمّا أنّه لا يصحّ فلأنّ الرحمة صفة الله تعالى ، والموصوف لا مكان له ، لأنّ البراهين القاطعة دلّت على أنّ ربّنا لا يحلّ مكانا وإلّا لكان جسما أو مفتقرا إلى جسم ، فكذلك صفته لا يكون لها مكان ، انتهى.

قال الشيخ علاء الدين التركماني : هذا غلط وغفلة لأنّ الرحمة من صفات الفعل لا من صفات الذات حتى يستحيل فيها المكان ، انتهى.

وأمّا أنّه لا يحسن ولا يتعيّن فلأنّهما فرعا الصحة ، وبطلان الأصل يقتضي بطلان الفرع ، وأمّا الظواهر المشعرة بإثبات المكان كقوله : «وارتفاع مكاني» (١) فيجب تأويلها جزما ، وإلّا لبطل حكم العقل ، ويلزم من بطلانه بطلان الشرع ، لأنّ صحّته لم تثبت إلّا بالعقل ، نعم لو أضمر أثر رحمة الله لكان قريبا.

__________________

(١) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (١ / ٥٠٠) رقم (١٠٤).


وأمّا قوله : «رابعا : إنه من باب حذف الموصوف» إلى آخره ، وما ذكر عن سيبويه في طامث وحائض فبالله أحلف إنّ هذا التقدير والتقرير لا يرتضيه فصيح بدويّ ولا بليغ حضري ، وأيّ حاجة إلى أن يضمر في الآية شيء فيقال : شيء قريب؟ ولا يكفي في تقدير مباني كلام الله عز وجل وإيضاح معانيه مجرد الجواز النحوي والاحتمال الإعرابي ، بل لا بدّ من رعاية الفصاحة القصوى والبلاغة العليا ، وأيّة فصاحة في أن يقول القائل : شيء قريب؟ وأيّ لطف في أن يقال : المرأة شيء حائض ، مع أنّ الشيء أعمّ المعلومات؟ ولذلك يشمل الواجب والممكن حتى بعض المعدومات عند بعض أهل العلم ، ومن الذي يرضى لنفسه بمثل هذا الكلام في المستهجن؟ وهلّا قيل : الهاء والتاء إنما يحتاج إليهما للفرقان بين المذكر والمؤنث في صفة يمكن اشتراكهما فيها إماطة للالتباس ، أمّا الصفة المختصّة بالنساء كالحيض فلا حاجة فيها إلى العلامة المميزة ، والناس لفرط جمودهم على ما ألفوه بظنون أنّ ما قاله سيبويه هو الحق الساطع وأنّ إلى قوله المنتهى في معرفة كلام الرب ، ولا خفاء في أنّه الجواد السابق في هذا المضمار فأمّا أن يعتقد أنّه أحاط بجميع كلام العرب وأنّه لا حقّ إلّا ما قاله فليس الأمر كذلك ، فما من أحد إلّا ويقبل قوله ويردّ منه ، ولو لم يكن لسيبويه إلا قوله في باب الصفة المشبهة : «مررت برجل حسن وجهه» بإضافة حسن إلى الوجه وإضافة الوجه إلى الضمير العائد على الرجل ، فقد خالفه جميع البصريين والكوفيين في ذلك ، لأنه قد أضاف الشيء إلى نفسه ، فكيف يعتقد مع هذا صحة قوله في كلّ شيء؟.

وأمّا قوله : خامسا يكتسب المضاف حكم المضاف إليه لا سيّما التأنيث فله نظائر صحيحة فصيحة يوثق بها لتقدّم قائليها وشهرتهم ، قال النابغة : [البسيط]

٤٥٩ ـ حتّى استغثن بأهل الملح ضاحية

يركضن قد قلقت عقد الأطانيب

وقال الأعشى (٢) : [الطويل]

[وتشرق بالقول الذي قد أذعته]

كما شرقت صدر القناة من الدّم

وقال لبيد : [الكامل]

٤٦٠ ـ فمضى وقدّمها وكانت عادة

منه إذا هي عرّدت إقدامها

__________________

٤٥٩ ـ الشاهد لسلامة بن جندل في ملحق ديوانه (ص ٢٣٣) ، ولسان العرب (طنب) ، وتهذيب اللغة (١٣ / ٣٦٨) ، وتاج العروس (طنب) ، وللنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٥٠) ، وأساس البلاغة (طنب) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٦١).

(١) مرّ الشاهد رقم (١٣٣).

٤٦٠ ـ الشاهد للبيد في ديوانه (ص ٣٠٦) ، والخصائص (٢ / ٤١٥) ، ولسان العرب (عرد) ، و (قدم) ، وكتاب العين (١ / ٣٢) ، وبلا نسبة في الخصائص (١ / ٧٠).


وقال جرير (١) : [الكامل]

لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

فبمثل هذا ينبغي أن يتمسك لا بأشعار المجاهيل الخاملين التي تمسك بها وأظنّها للمحدثين ، فأمّا اكتساب التأنيث من المؤنّث فقد صح بقولهم ، وأمّا عكسه فيحتاج إلى الشواهد ، ومن ادّعى جوازه فعليه البيان.

وأمّا قوله : «سادسا أنه يكون من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر» إلى آخره فإنّ قوله : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] ليس من هذا القبيل ، لأنّ المراد بأعناقهم رؤساؤهم ومعظّموهم ، وأيضا فإن الخبر محكوم به على الاسم ، فكيف يعرض عنه ويحكم به على المضاف إليه؟ ولو جاز ذلك لساغ أن تقول : كان صاحب الدّرع سابغة ، فظلّ مالك الدار متسعة.

وقوله : رحمة الله قريب وهو قريب ، وحذف الخبر من الجملة الأولى والمبتدأ من الثانية ، واجتزأ بالخبر في الثانية عن الخبر في الأولى فكلام عجيب تقصر عبارتي عن شرح ضعفه.

وأمّا ما نمي إليّ من جري فعيل مجرى فعول ، وقوله : إمّا أن يدعى ذلك على العموم في جميع الصور إلى آخره فهذا لم أقصده ولا ذكرت الأصالة والتبعية ، ولا أنّ هذا بمعنى فاعل وذاك بمعنى مفعول ، بل لمّا سئلت عن جري قريب على الرحمة أجبت : بأنّه لا غرو ولا استبعاد ، لأنّ أفاضل العرب وفصحاءهم قد أطلقوا الفعيل والفعول على المؤنث الحقيقي ، فعلى غير الحقيقي أولى ، ومن جملتهم امرؤ القيس ، قوله : «الاستدلال به ضعيف» ليس كذلك لأن الفتور على وزن فعول ، وقد أطلق بعض فصحاء العرب في هذا البيت كليهما على امرأة والتأنيث فيهما حقيقي.

وقوله : «إنه نادر» ، قلنا : لا نسلم ، بل نظائره كثيرة ، وهي محفوظة فطالبونا بها نوردها ، ولئن سلمنا أنه نادر فالغرض أنه عربي ، وعلى أنّا نقول : إن ساغ الاستشهاد بالنادر فلا وجه لإنكار ما ذكرنا ولم يسغ فكيف احتجّ بقوله : «وقائع في مضر تسعة»؟.

وقوله : «يجوز أن يراد بالقطيع القطيعة والإضافة تسقط التاء» قلنا : لو جاز ذلك لجاز أن يقال : «ماتت ابن فلان» يريد ابنته ، وقوله : «وقد يجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول في قطيع» إلى آخره ، قلنا : يدعي جواز الإطلاق ، وهو أعمّ من أن

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٣٤).


يكون فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ، وكذب الخاص لا يوجب كذب العام ، فالوجهان الآخران اللذان ذكرهما آنفا بتقدير صحتهما لا يقدحان في استدلالنا ، وقوله : «إن كان سرع فإنما يحذف منه التاء تشبيها له بفعيل الذي في معنى مفعول» مدخول ، لأن هذا مشتق من اللازم وذاك من المتعدي ، وقوله فيما كتب «لأجل» صوابه أن يقول : من أجل ، قال الله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) [المائدة : ٣٢] ، وقال الشاعر : [الوافر]

٤٦١ ـ من اجلك يا الّتي تيّمت حبّي

[وأنت بخيلة بالودّ عنّي]

وقال آخر : [الطويل]

٤٦٢ ـ عليهم وقار الحلم من أجل أنّني

به أتغنّى باسمها غير معجم

وقوله : «إن قصد به المبالغة» ليس بصحيح ، فإن «قصد» لا يعدّى بنفسه بل باللام وإلى ، قال جرير : [الكامل]

٤٦٣ ـ إنّ القصائد يا أخيطل فاعترف

قصدت إليك مجرّة الأرسان

وقال آخر : [الوافر]

٤٦٤ ـ وأوقد للضّيوف النّار حتّى

أفوز بهم إذا قصدوا لناري

ونقله رغوثة غير موثوق به ولا بدّ له من شاهد ، قال الراعي النميري : [ ]

٤٦٥ ـ فجاءت إلينا والدّجى مدلهمّة

رغوث شتاء قد تترّب عودها

آخر ذلك.

وإذ وصلنا إلى هنا فلنتمم الفائدة ، فإن الشيخ جمال الدين بن هشام ألف في هذه القضية رسالة فلنسقها ، قال رحمه الله تعالى :

قال الله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، في هذه الآية الكريمة سؤال مشهور ، الأدب في إيراده وإيراد أمثاله أن يقال : ما الحكمة في كذا؟ تأدبا مع كتاب الله تعالى ، فيقال : ما الحكمة في تذكير قريب مع أنّه صفة

__________________

٤٦١ ـ الشاهد بلا نسبة في الكتاب (٢ / ١٩٨) ، وأسرار العربية (ص ٢٣٠) ، والجنى الداني (ص ٢٤٥) ، وخزانة الأدب (٢ / ٢٩٣) ، والدرر (٣ / ٣١) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٢٩٩) ، وشرح المفصّل (٢ / ٨) ، واللامات (ص ٥٣) ، ولسان العرب (لتا) ، والمقتضب (٤ / ٢٤١) ، وهمع الهوامع (١ / ١٧٤).

٤٦٢ ـ الشاهد لذي الرّمة في ديوانه (ص ٧٠٦) ، وحجاز القرآن (٢ / ٩١) ، والكامل (١ / ٢٩٥).

٤٦٣ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ١٠١٣).

٤٦٥ ـ الشاهد للراعي النميري في شرح ديوان الحماسة للتبريزي (٣ / ١٦١) ، وهو ليس في ديوانه.


مخبر بها عن المؤنث وهو الرحمة ، مع أنّ الخبر الذي هذا شأنه يجب فيه التأنيث؟ تقول : هند كريمة ، ولا تقول : كريم ولا ظريف ، وإنما بيّنت كيفية السؤال لأنني وقفت على عبارة شنيعة لبعض المفسرين في تقرير السؤال أنكرتها ، اللهمّ ألهمنا الأدب مع كلامك ولا تردّنا على أعقابنا بأهوائنا وحسن السؤال نصف العلم ، وقد أجاب العلماء رحمهم الله تعالى بأوجه جمعتها ، فوقفت منها على أربعة عشر وجها منها قويّ وضعيف ، وكلّ مأخوذ من قوله ومتروك ، ونحن نسرد ذلك بحول الله وقوته متتبعين له بالتصحيح والإبطال بحسب ما يظهره الله تعالى ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الوجه الأول : أنّ الرحمة في تقدير الزيادة ، والعرب قد تزيد المضاف ، قال الله سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] أي : سبّح ربّك ، ألا ترى أنه لا يقال في التسبيح : سبحان اسم ربي ، إنّما يقال : سبحان ربي؟ والتقدير : إنّ الله قريب ، فالإخبار في الحقيقة إنّما هو عن الاسم الأعظم ، إنّ الله قريب من المحسنين.

قلت : وهذا الوجه لا يصح عند علماء البصرة ، لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم ، إنّما تزاد الحروف ، وأمّا (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فلا يدلّ على ما قالوه ، لاحتمال أن يكون المعنى : نزّه أسماءه عمّا لا يليق بها ، فلا تجر عليه اسما لا يليق بكماله ، أو لا تجر عليه اسما غير مأذون فيه شرعا ، وهذا هو أحد التفسيرين في الآية الكريمة ، وإذا أمكن الحمل على محمل صحيح لا زيادة فيه وجب الإذعان له لأنّ الأصل عدم الزيادة.

الثاني : أنّ ذلك على حذف مضاف ، أي : إن مكان رحمة الله قريب ، فالإخبار إنّما هو عن المكان ، ونظيره قوله صلّى الله عليه وسلّم مشيرا إلى الذهب والفضة : «إنّ هذين حرام» فأخبر عن المثنّى بالمفرد ، لأنّ حقيقة الكلام وأصله : إنّ استعمال هذين حرام ، وكذلك قول حسان بن ثابت (١) : [الكامل]

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل

أي : ماء بردى ، فلهذا قال «يصفق» بالتذكير ، مع أنّ بردى مؤنث ، انتهى.

وهذا المضاف الذي قدّره في غاية البعد ، والأصل عدم الحذف ، والمعنى مع ترك هذا المضاف أحسن منه مع وجوده.

الثالث : أنّه على حذف الموصوف ، أي : إنّ رحمة الله شيء قريب ، كما قال الشاعر (٢) : [السريع]

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٤٩).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٢٧).


قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدّار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر

أي : تركتني في الدار شخصا ذا غربة ، وعلى ذلك يخرج سيبويه قولهم : «امرأة حائض» (١) ، أي : شخص ذو حيض ، وقول الشاعر أيضا (٢) : [الطويل]

فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق

أي : وأنت شخص صديق ، وهذا القول في الضعف كالذي قبله ، بل هو أشدّ منه ضعفا ، لأنّ تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزّه كتاب الله عنه ، ثم الأصل عدم الحذف.

الرابع : أنّ العرب تعطي المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صحّ الاستغناء عنه ، فمثال إعطائه حكمه في التأنيث قولهم : «قطعت بعض أصابعه» فأعطوا البعض حكم الجمع المضاف إليه في التأنيث ، ومنه القراءة الشاذة : تلتقطه بعض السيارة [يوسف : ١٠] ، ومثال إعطائه حكمه في التذكير قوله : [البسيط]

٤٦٦ ـ إنارة العقل مكسوف بطوع هوى

[وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا]

ومنه الآية الكريمة. انتهى. وهذا الوجه قال فيه أبو علي الفارسي في تعاليقه على كتاب سيبويه ما نصه : «هذا التقدير والتأويل في القرآن بعيد فاسد ، إنما يجوز هذا في ضرورة الشعر».

الخامس : أنّ فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، كرجل جريح وامرأة جريح ، نقل هذا الوجه أبو البقاء في إعرابه (٤) ، وأقرّ قائله عليه ، وهو خطأ فاحش ، لأنّ فعيلا هنا ليس بمعنى مفعول.

السادس : أنّ فعيلا بمعنى فاعل قد يشبّه بفعيل بمعنى مفعول ، فيمنع من التاء في المؤنث ، كما قد يشبهون فعيلا بمعنى مفعول بفعيل بمعنى فاعل فيلحقونه التاء ، فالأول كقوله سبحانه : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] ،

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٤٢٣).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٥٠).

٤٦٦ ـ الشاهد لبعض المولّدين في المقاصد النحوية (٣ / ٣٩٦) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٣ / ١٠٥) ، وخزانة الأدب (٤ / ٢٢٧) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣١٠) ، وشرح التصريح (٢ / ٣٢) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥١٢).

(٣) انظر إملاء ما منّ به الرحمن (١ / ٢٧٦).


ومنه : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، والثاني كقولهم : خصلة ذميمة ذميمة وصفة حميدة حملا على قولهم : قبيحة وجميلة.

السابع : أنّ العرب قد تخبر عن المضاف إليه وتترك المضاف ، كقوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] ف «خاضعين» خبر عن الضمير المضاف إليه الأعناق لا عن الأعناق ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «الأعناق خاضعون» لا يجوز لأنّ جمع المذكر السالم إنّما يكون من صفات العقلاء ، لا تقول : أيد طويلون ولا كلاب نابحون؟ انتهى.

ولعل هذا القول يرجع إلى القول بالزيادة وقد بيّنّا ما عليه ، وقد قيل : إنّ المراد بالأعناق في هذه الآية الكريمة الرؤساء ، وقيل : الجماعة ، وإنه يقال : جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة.

الثامن : الرحمة والرّحم متقاربان لفظا ، وهذا واضح ، ومعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فأعطي أحدهما حكم الآخر ، وهذا القول ليس بشيء ، لأنّ الوعظ والموعظة والعظة تتقارب أيضا ، فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال : موعظة نافع وعظة حسن ، وكذلك الذكر والذكرى ، فينبغي أن يقال : ذكرى نافع كما يقال : ذكر نافع.

التاسع : أنّ فعيلا هنا بمعنى النّسب ، فقريب هنا معناه : ذات قرب ، كما يقول الخليل في حائض : إنه بمعنى ذات حيض ، وهذا أيضا باطل لأنّ اشتمال الصفات على معنى النّسب مقصور على أوزان خاصة ، وهي : فعّال وفعل وفاعل.

العاشر : أنّ فعيلا مطلقا يشترك فيه المذكر والمؤنث ، حكى ذلك ابن مالك عن بعض من عاصره ، وهذا القول من أفسد ما قيل ، لأنه خلاف الواقع في كلام العرب ، يقولون : امرأة ظريفة وامرأة عليمة ورحيمة ، ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك ، ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] : إنّه مفعول والأصل : بغوي ، ثم قلبت الواو الياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء ، فأمّا قول الشاعر (١) : [المتقارب]

فتور القيام قطيع الكلا

م تفترّ عن ذي غروب خصر

فالجواب عنه من أوجه :

أحدها : أنّه نادر.

الثاني : أنّ أصله قطيعة ، ثم حذفت التاء للإضافة ، كقوله سبحانه : (وَإِقامَ *

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٤٢).


الصَّلاةِ) [الأنبياء : ٧٣] و [النور : ٣٧] ، وأصله : وإقامة الصلاة ، والإضافة مجوّزة لحذف التاء ، كما توجب حذف النون والتنوين ، نصّ على ذلك غير واحد من القراء.

الثالث : أنه إنما جاز لمناسبة قوله : فتور ، ألا ترى أنّ فتورا فعول ، وفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث؟

الحادي عشر : أنهم يقولون : «فلانة قريب من كذا» يفرقون بذلك بين قريب من قرب النّسب وقريب من قرب المسافة ، فإذا قالوا : هذه قريبة من فلان ، فمعناه قرب المسافة ، وإذا قالوا : قريب فمعناه من القرابة.

وهذا القول عندي باطل لأنّه مبنيّ على أنّه يقال في القرب النسبي «فلان قريبي» ، وقد نص الناس على أنّ ذلك خطأ ، وأنّ الصواب أن يقال : فلان ذو قرابتي ، كما قال : [البسيط]

٤٦٧ ـ يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

وذو قرابته في الحيّ مسرور

الثاني عشر : أن هذا من تأويل المؤنث بمذكر موافق في المعنى ، واختلف هؤلاء ، فمنهم من يقدّر : إنّ إحسان الله قريب ، ومنهم من يقدّر : لطف الله قريب ، ومن مجيء ذلك في العربية قول الشاعر (٢) : [الطويل]

أرى رجلا منهم أسيفا كأنّما

يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا

فأوّل الكفّ على معنى العضو ، وهذا الوجه باطل ، لأنّه إنّما يقع هذا في الشعر ، وقد قدّمنا أنّه لا يقال : موعظة حسن ، وإنّما يقال كما قال سبحانه : (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥] ، هذا مع أنّ الموعظة بمنزلة الوعظ في المعنى ، وهذا يقاربه في اللفظ ، وأمّا البيت الذي أنشدوه قنصّ النحاة على أنّه ضرورة شعر ، وما هذه سبيله لا يخرّج عليه كتاب الله تعالى.

الثالث عشر : أنّ المراد بالرحمة هنا المطر ، والمطر مذكر ، وهذا القول يؤيّده عندي ما نتلوه من قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] ، وهذه الرحمة هي المطر ، فهذا تأنيث معنوي ، إلّا أنّه قد يعترض عليه من أوجه :

__________________

٤٦٧ ـ الشاهد لعثير بن لبيد العذري أو لحريث بن جبلة العذري أو لرجل من أهل نجد في لسان العرب (دهر) ، ولعثير بن لبيد العذري أو لحريث بن جبلة العذري أو لأبي عيينة المهلبي في تاج العروس (دهر).

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٤٧).


أحدها : أن يقال : لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة لأنّ هذا موضع الضمير ، فإن قيل : إنّ ذلك ليس بواجب قلت : نعم ، ولكنّه مقتضى الظاهر ، وبهذا يصح الترجيح.

الثاني : أنّه إن أمكن الحمل على العام وهو مطلق الرحمة لا يعدل إلى الخاص ، لا يقال هذا إذا لم يعارض معارض يقتضي الحمل على الخاص ، كالتذكير هنا لأنّا نقول هذا إنّما يقال إذا لم يكن للتذكير وجه إلا الحمل على إرادة المطر كما ذكرت ، وليس الأمر هنا كذلك.

الثالث : أنّ الرحمة التي هي المطر لا تختصّ بالمحسنين ، لأنّ الله تعالى تكفّل برزق العباد طائعهم وعاصيهم ، وأمّا الرحمة التي هي الغفران والتجاوز فإنّها تختصّ في خطاب الشرع بالمحسنين المطيعين ، وإن كانت غير موقوفة عليهم لا شرعا ولا عقلا عند أهل الحق ، إلّا أنّ ذلك يذكر على سبيل التنشيط للمطيعين والتخويف للعاصين ، وهذا فيه لطف ، وقلّما يتنبّه له إلّا الأفراد ، ومن ثمّ زلّت أقدام المعتزلة ، فإنّهم يجدون في خطاب الشرع ما يقتضي تخصيص الغفران والتجاوز والإحسان بالمطيعين ، فينفون رحمة الله عن أصحاب العصيان ، فيحجرون واسعا : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥] ، (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٠] ، (يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) [المائدة : ١] ، هذا الذي فطرنا الله عليه من حسن الاعتقاد ، وإيّاه نسأل التوفية عليه بمنه وكرمه.

وهذا الوجه يمكن الجواب عنه بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالغفران بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الإحسان.

الرابع : أنّك لو قلت : إن مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة تمجّها الأسماع وتنبو عنها الطباع ، بخلاف «إن رحمة الله» ، فدلّ على أنّه ليس بمنزلته في المعنى ، وهذا الوجه يمكن الجواب عنه بأمرين :

أحدهما : أن يقال : لا ندّعي أنّ الرحمة بمعنى المطر ، بل إنّ مجموع رحمة الله استعمل مرادا به المطر.

والثاني : أنّ المطر معلوم أنّه من جهة الله سبحانه ، فإضافته إليه كأنها غير مفيدة ، بخلاف قولك : رحمة الله ، فإن الرحمة عامة ، فإن للعباد رحمة خلقها الله سبحانه يتراحمون بها بينهم ، فإذا أضيفت الرحمة إليه سبحانه أفاد أنّه ليس المقصود


الرحمة المضافة إلى العباد ، ونظيره أنك تقول : كلام الله لأن الكلام عام ، ولا نقول : قرآن الله لأنّه خاص بكلام الله سبحانه ، والإنصاف أن يقال في هذا القول : إنّه لا يخلو أمر قائله من أمرين ، وذلك لأنه إمّا أن يدّعي أنّ الرحمة لفظ مشترك بين المطر وغيره ، وأنه موضوع بالأصالة للمطر كما أنه موضوع لغيره بالأصالة ، أو يدّعي أنه موضوع لغيره بالأصالة أو يدعي أنه موضوع لغير المطر بطريق الأصالة ، ثم تجوّز به عن الرحمة ، فإن ادّعي الأول فقد يمنع ذلك بأنّ الذهن إنما يتبادر عند إطلاق الرحمة إلى غير المطر ، والمشترك إنما حقه أن يكون على الاحتمال بالنسبة إلى معنييه أو معانيه ، لا يكون أحدها أولى من غيره وإنّما يتعيّن المراد بالقرينة ، ثم إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون :

ومن معانيها المطر ، فلو كانت موضوعة له لذكروها كما يذكرون معاني المشترك ، وإن ادّعي الثاني فيلزمه أن يجيز في فصيح الكلام : أرض مخضر ، وسماء مرتفع ورحمة واسع ، ويقول : أردت بالأرض المكان وبالسماء السقف وبالرحمة الإحسان ، وهذا ما لا يقول به أحد من النحويين ، وإنّما يقع ذلك في الشعر أو في نادر من الكلام وما هذه سبيله لا يخرج عليه كتاب الله تعالى الذي نزل بأفصح اللغات وأرجح العبارات وألطف الإشارات.

فإن قلت : فإني أجد في كلام كثير من المفسرين تخريج آيات من التنزيل على مثل ذلك ، كما قالوا في قوله سبحانه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨] ثم قال تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) إنّه جاز حملا على المعنى القسمة وهو المقسوم.

قلت : الذي عليه أهل التحقيق أنّ الضمير عائد على ما من قوله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) أي : فارزقوهم من الذي تركه الوالدان على أنّ القسم والقسمة واقعان في العربية على المقسوم وقوعا كثيرا ، فلا يمتنع عود الضمير على القسمة مذكرا ، يدلك على ذلك قوله سبحانه : (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) [القمر : ٢٨] أي : مقسوم بينهم.

واعلم أنّه لا بعد في أن يقال : إنّ التذكير في قوله سبحانه «قريب» لمجموع أمور من الأمور قدمناها.

فنقول : لمّا كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير ، وهي مقاربة للرّحم في اللفظ ، وكانت الرحمة هنا بمعنى المطر ، وكانت «قريب» على صيغة فعيل ، وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل الذي بمعنى مفعول جاز التذكير ، وليس هذا نقضا لما قدّمناه ، لأنّه لا يلزم من انتقاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتقاء اعتباره مع غيره.


هذا آخر ما تحرر لي في هذه الآية الكريمة والله تعالى أعلم بغيبه. انتهى كلام ابن هشام.

رأي نحويّ لابن الصائغ

قال ابن الصائغ في (تذكرته) : تكلم بعض مشايخ العصر وهو الشيخ تقيّ الدين السّبكي بمدرسة الملك المنصور على قوله تعالى في سورة «والذاريات» : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٤ ـ ٥٥] ، ونقل عن المفسرين فيها قولين :

الأوّل : أنّ المعنى : تولّ عن أولئك الكفار وأعرض عنهم فما تلام على ذلك ، وارفع التذكير فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧].

الثاني : أنّ المعنى : تولّ عن الكفار وأعرض عنهم وذكّر المؤمنين فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ، قال : وعلى القول الثاني يحتمل أن تكون الآية من باب التنازع ، فاعترض على هذا بأنّ شرط باب التنازع إمكان تسلّط العاملين السابقين على المعمول المتنازع فيه ، ولذا لم يجز سيبويه أنّ بيت امرئ القيس من باب التنازع ، أعني قوله : [الطويل]

٤٦٨ ـ [فلو انّ ما أسعى لأدنى معيشة]

كفاني ولم أطلب قليل من المال

ومن أجاز ذلك فلما ذكره المازني ، ليس هذا موضع ذكره ، أو لما ذكره ابن ملكون وقد ردّ عليه ، وإذا تحرر هذا فالآية لا يمكن أن تحمل على التنازع ، لأنّ «ذكر» لا يمكنه العمل في المؤمنين من جهة الحيلولة بينهما بالفاء وإنّ ، وكلّ منها له صدر الكلام ، وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده ، وقد نقل عن ابن عصفور أنه قال : «كل ما لا يعمل فيما قبله لا يعمل ما قبله فيما بعده» ، فنازع في أنّ الفاء مانعة ، واستند في منعه إلى ما حكي من قولهم : «زيدا فاضرب» ، وقال : «هذه الفاء للسببية كالتي هنا لا فرق بينهما ، إذ المعنى : تنبه فاضرب زيدا».

__________________

٤٦٨ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٣٩) ، والإنصاف (١ / ٨٤) ، وتذكرة النحاة (ص ٣٣٩) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٢٧) ، والدرر (٥ / ٣٢٢) ، وشرح شذور الذهب (ص ٢٩٦) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣٤٢) ، وشرح قطر الندى (ص ١٩٩) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ١١٠) ، وتاج العروس (لو) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (١ / ٢٠١) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٨٠) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٥٦) ، والمقتضب (٤ / ٧٦) ، والمقرّب (١ / ١٦١).


وقال أيضا : إن المعربين اتفقوا على تعلّق يوم من قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ، يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) [الطور : ٧ ـ ٩] بواقع ، مع أنّ ما لها صدر الكلام ، ولم يمنع من ذلك ما عدا الإمام فخر الدين ، واستند الإمام فخر الدين في ذلك إلى أنّ العذاب المكنيّ عنه لم يقع في ذلك اليوم ، بل بعد ذلك في يوم البعث وهذا اعتراض قريب لأنّ اليوم يطلق على تلك الأزمنة جميعها ، وعلى هذا فلا مانع من أن تكون الآية السابقة من باب التنازع ، واستند بعضهم في منع التنازع في الآية إلى أنّ ذلك يتخرج على أحد القولين في الجملة الاسمية الواقعة جوابا هل لها موضع من الإعراب أم لا؟ فإن قلنا : إنّ لها موضعا من الإعراب ينبغي أن لا يجوز التنازع ، لأنه يشترط في باب التنازع أن يكون كلّ من العاملين له استقلال ، ولا أدري كيف قيل بذلك ، فإنّ النحاة جمهورهم يعدّون قوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦] من باب الإعمال مع صريح الجزم فيه ، وكذلك قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ٥] ثم إنّ شرط الاستقلال تحجير في المسألة لم نر من قيد بذلك ، وبل من جوّز ذلك حيث لا استقلال فقد ردّ ابن الصائغ على ابن عصفور استدلاله ـ أعني ابن عصفور ـ على استعمال (عسى) تامة بقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وجعله ذلك دليلا قاطعا من جهة أنّه لا يجوز أن يعتقد أن ربك مرفوع بعسى و «يبعثك» متحمل للضمير لئلا يلزم الفصل بين أبعاض الصلة بمعمول غيرها.

وقال : أعني ابن الصائغ : يمكن أن تكون الآية من باب التنازع بأن يعمل الثاني ويجعل في الأول ضمير يعود على ربك ، فهو كما تراه قد أجاز التنازع مع أنّ العامل الأول لم يستقلّ ، وإنّما ذلك شيء كان يقوله شيخنا أثير الدين في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) [الجن : ٤] ، ويقول : كيف يجعل هذا من باب التنازع ولا استقلال في كلا الجملتين؟ وهل مثل هذا جائز؟ فيذكر ذلك على سبيل الاستكشاف لا على سبيل التقييد للباب.

قال ابن الصائغ : وأقول : إنّ من منع أن تكون هذه الآية من باب التنازع فلم يستند لأقوى من أنّ «إنّ» والفاء لهما صدر الكلام ، وما له صدر الكلام يمنع ما بعده أن يعمل فيما قبله ، فكذلك ينبغي أن يمنع ما قبله من العمل فيما بعده من جهة صدريته ، وإذا استقرّ ذلك وكان من شرط باب التنازع إمكان تسلط العامل على ذلك المعمول وعمله فيه كما تقدم في النقل عن سيبويه والعامل هنا ـ أعني الأول ـ لا يمكن أن يعمل في المتنازع فيه لما مرّ ، وقد يتقوى ذلك بما ذكره الخفاف في شرح الكتاب ، فإنه قال فيه بعد إنشاد قول الشاعر : [البسيط]


٤٦٩ ـ كأنّهنّ خوافي أجدل قرم

ولّى ليسبقه بالأمعز الخرب

وقال : لا يجوز أن يعمل «ولّى» في الخرب ، لأن لام كي تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها ، فيمنع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها ، انتهى. فأقول : إنّ من منع التنازع في الآية لم يأت بشيء إن كان مستنده ذلك ، لأنّ معنى قول سيبويه وغيره من النحاة : إن العاملين يشترط فيهما في هذا الباب إمكان تسلطهما على المعمول ، إنما يراد ذلك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ ، ثم إنّ الذي يقول بأنّ ما يمنع ما بعده أن يعمل فيما قبله أن يعمل فيما بعده إن كان من أجلّاء النحاة فلا يعني به إلّا أنّه لا يصح أن يقول : ضربت ما زيدا ، كما لا يصح أن يقول : زيدا ما ضربت ، وإن كان من غيرهم فلا يعوّل عليه ، كيف ومن نقل عنه ذلك وهو ابن عصفور قد جعل قول الشاعر : [الطويل]

٤٧٠ ـ قطوب فما تلقاه إلّا كأنّه

زوى وجهه أن لاكه فوه حنظل

وقول الآخر : [الوافر]

٤٧١ ـ ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيما أن يكون أفاد مالا

من باب التنازع على إعمال الأول ، ولا شكّ أنّ ناصب الفعل عنده من أدوات الصدور ، وكذلك جعل قول الشاعر : [المتقارب]

٤٧٢ ـ ألا هل أتاها على بابها

بما فضحت قومها غامد

منه أيضا على إعمال الثاني ، وكيف يعتقد هذا وقد اشترط النحاة كلهم أو غالبهم في هذا الباب أن يكون للجملة الثانية بالأولى تعلّق ، إمّا بالعطف أو نحوه ، نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم : «كما صلّيت وباركت ورحمت على إبراهيم» ، ومن إثبات العطف في ذلك قول الشاعر : [الطويل]

٤٧٣ ـ ولكنّ نصفا لو سببت وسبّني

بنو عبد شمس من مناف وهاشم

__________________

٤٦٩ ـ الشاهد لذي الرّمة في ديوانه (ص ٧٣) ، ومقاييس اللغة (١ / ٤٣٤) ، وجمهرة أشعار العرب (ص ٩٥١) ، وتاج العروس (جدل).

٤٧٠ ـ الشاهد بلا نسبة في التمام في تفسير أشعار هذيل (ص ٧٧).

٤٧١ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٥٢٧) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ١٧٦) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٥٧).

٤٧٢ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (غمد).

٤٧٣ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (٢ / ٣٠٠) ، وأساس البلاغة (نصف) ، وتذكرة النحاة (ص ٣٤٥) ، والردّ على النحاة (ص ٩٧) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٩١) ، والكتاب (١ / ١٢٦) ، وشرح المفصّل (١ / ٧٨) ، ولسان العرب (نصف) ، والمقتضب (٤ / ٧٤).


وقوله (١) : [الطويل]

وهل يرجع التّسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع

وقوله : [الوافر]

٤٧٤ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

وقوله : [الطويل]

٤٧٥ ـ أرجو وأخشى وأدعو الله مبتغيا

عفوا وعافية في الرّوح والجسد

وقوله : [الطويل]

٤٧٦ ـ إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب

جهارا فكن في الغيب أحفظ للودّ

وألغ أحاديث الوشاة فقلّما

يحاول واش غير هجران ذي عهد

وقوله : [الطويل]

٤٧٧ ـ وكمتا مدمّاة كأنّ متونها

جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

وقوله : [الطويل]

٤٧٨ ـ قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه

وعزّة ممطول معنّى غريمها

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٠٦).

٤٧٤ ـ الشاهد لقيس بن زهير في الأغاني (١٧ / ١٣١) ، وخزانة الأدب (٨ / ٣٥٩) ، والدرر (١ / ١٦٢) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٣٤٠) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٤٠٨) ، وشرح شواهد المغني (ص ٣٢٨) ، والمقاصد النحوية (١ / ٢٣٠) ، وبلا نسبة في الكتاب (٣ / ٣٥٠) ، وأسرار العربية (ص ١٠٣) ، والإنصاف (١ / ٣٠) ، والجنى الداني (ص ٥٠) ، وجواهر الأدب (ص ٥٠) ، وخزانة الأدب (٩ / ٥٢٤) ، والخصائص (١ / ٣٣٣) ، ورصف المباني (ص ١٤٩) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٨٧) ، وشرح المفصّل (٨ / ٢٤) ، وهمع الهوامع (١ / ٥٢).

٤٧٥ ـ الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٣٣٧) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٤١).

٤٧٦ ـ البيت الأول بلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ٢٠٣) ، وتخليص الشواهد (ص ٥١٤) ، والدرر (٥ / ٣١٩) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٥) ، وشرح التصريح (١ / ٣٢٢) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٤٣) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٤٥) ، وشرح ابن عقيل (ص ٢٧٩) ، ومغني اللبيب (١ / ٣٣٣) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢١) ، وهمع الهوامع (٢ / ١١٠).

٤٧٧ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ٢٣) ، وأمالي ابن الحاجب (ص ٤٤٣) ، والإنصاف (١ / ٨٨) ، والردّ على النحاة (ص ٩٧) ، ولسان العرب (كمت) و (شعر) و (دمي) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢٤) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٥١٥) ، وتذكرة النحاة (ص ٣٤٤) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠٤) ، والمقتضب (٤ / ٧٥).

٤٧٨ ـ الشاهد لكثير عزّة في ديوانه (ص ١٤٣) ، وخزانة الأدب (ص ١٤٣) ، وشرح التصريح (١ / ٣١٨) ، والدرر (٥ / ٣٢٦) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٩٠) ، وشرح المفصّل (١ / ٨) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣) ، وهمع الهوامع (٢ / ١١١) ، وبلا نسبة في الإنصاف (١ / ٩٠) ، وأوضح المسالك (٢ / ١٩٥) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠٣) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٤١) ، ولسان العرب (ركا) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤١٧).


وقوله : [الكامل]

٤٧٩ ـ وإذا تنوّر طارق مستطرق

نبحت فدلّته عليّ كلابي

وقول الآخر : [الطويل]

٤٨٠ ـ جفوني ولم أجف الأخلّاء إنّني

لغير جميل من خليليّ مهمل

وقول الآخر : [البسيط]

٤٨١ ـ هوينني وهويت الغانيات إلى

أن شبت فانصرفت عنهنّ آمالي

وقول الآخر : [البسيط]

٤٨٢ ـ يرنو إليّ وأرنو من أصادفه

في النّائبات فأرضيه ويرضيني

وقول الآخر : [الطويل]

٤٨٣ ـ سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا

فسيّان لا حمد لديك ولا ذمّ

حتى إنّ ابن الدهان نقل عن البغدادي اشتراط العطف في هذا الباب ، ولا شكّ أنّ حرف العطف يمتنع أن يعمل ما بعده فيما قبله ، والمشترط ذلك محجوج بقوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] وقوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦] ، وقول الشاعر : [الطويل]

٤٨٤ ـ ولقد أرى تغنى به سيفانة

تصبي الحليم ومثلها أصباه

وبقول الشاعر : [مجزوء الكامل]

٤٨٥ ـ بعكاظ يعشي النّاظري

ن إذا هم لمحوا شعاعه

__________________

٤٧٩ ـ الشاهد لابن هرمة في ديوانه (ص ٧٧) ، وأمالي المرتضى (٢ / ١١٣) ، والخزانة (٤ / ٥٨٤).

٤٨٠ ـ الشاهد بلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ٢٠٠) ، وتخليص الشواهد (ص ٥١٥) ، وتذكرة النحاة (ص ٣٥٩) ، والدرر (١ / ٢١٩) ، وشرح الأشموني (١ / ١٧٩) ، وشرح التصريح (٢ / ٨٧٤) ، وشرح قطر الندى (ص ١٩٧) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤٨٩) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١٤) ، وهمع الهوامع (١ / ٦٦).

٤٨١ ـ الشاهد بلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٥١٥) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠٤) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣١).

٤٨٢ ـ الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٣٥١).

٤٨٣ ـ الشاهد للحطيئة في ديوانه (ص ٣٢٩) ، وديوان المعاني (١ / ٣٩) ، وبلا نسبة في المقرّب (١ / ٢٥٠).

٤٨٤ ـ الشاهد لو علة الجرمي في شرح أبيات سيبويه (١ / ٢٥٨) ، وبلا نسبة في المقتضب (٤ / ٧٥) ، ولرجل من باهلة في الكتاب (١ / ١٢٨).

٤٨٥ ـ الشاهد لعاتكة بنت عبد المطلب في الدرر (٥ / ٣١٥) ، وشرح التصريح (١ / ٣٢٠) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٧٤٣) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١١) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ١٩٩) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠٦) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٤٤) ، وشرح ابن عقيل (ص ٢٨٠) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦١١) ، والمقرّب (١ / ٢٥١) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٠٩).


وبقوله : [مجزوء الرمل]

٤٨٦ ـ علّموني كيف أبكي

هم إذا خفّ القطين

وكل هذه الشواهد أو غالبها يرد على من منع التنازع في الآية.

وكان من سنين وقع الكلام في قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) [الجن : ٧] وأنّه يجوز أن يكون ذلك من باب التنازع ولا أثر للموصول في منع ذلك ، ولا يقال : إنّ «أن» والفعل لا يضمر فلا يجوز التنازع لأنّ من شرط باب التنازع صحة عمل المهمل في الضمير ، لأنّا نقول : لا يمتنع أن يعود الضمير على مثل ذلك ، ومنه قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ١٨٤] ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] ، وكان أيضا تقدم لي مع الشيخ علاء الدين مثل ذلك في قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] وأنه يجوز أن يكون من ذلك على تقدير على ألسنة رسلك.

وإذا استقرّ جواز التنازع في الآية فاعلم أنّه على إعمال الثاني ، والقاعدة في مثل ذلك أنّ الأول إذا طلب منصوبا حذف على المختار ، إن كان ممّا يجوز الاستغناء عنه ، ولكن بقي النظر هل نقدره ضميرا أو ظاهرا؟ والأولى أن نقدره مضمرا لأن ذلك شأن باب التنازع ، فإن قلت : قد تقرر أنّه متى دار الأمر بين شيئين وكان أحدهما هو الأصل وجب المصير إليه ، قلت : نعم الأمر كذلك إلّا لعارض ، وهاهنا ثم ما يمنع من ذلك ، وهو أنّه إذا كان من باب التنازع وجب القول بأنّ الأول ضمير ، وساغ لتشبث الجملة الثانية بالأولى ولم يقبح من جهة أنه ليس مذكورا لفظا ، ولو لم يكن ذلك لاستحالت المسألة ، ولم يكن إذ ذاك من باب التنازع ، وهذا فرق ما بين المحذوف للدلالة أو التفسير ، فتنبّه لذلك فإني لم أجد أحدا نبه عليه ، وممّا يقوّي ذلك منع النحاة كالخفاف في الشرح التنازع في الحال والتمييز ، فلا يقال : «جاء زيد وقعد عمر ضاحكا» على التنازع ، والسبب في ذلك أنّه لا بد في التنازع من أنّك إذا أعملت الواحد أضمرت في الآخر إمّا تحذفه وإمّا تبقيه ، وإذا فلا شكّ أنّه يجوز : «جاء زيد وقعد عمر ضاحكا» على أنّك حذفت من الأولى لدلالة الثاني عليه هذا ما لا أعتقد فيه خلافا ، انتهى.

قال الشيخ تاج الدين بن مكتوم في تذكرته ومن خطّه نقلت

سئل شيخنا أبو حيان : هل يجوز مثل «قام زيد وعمر وبكر وخالد كلّهم»؟ فأفتى بالجواز قياسا على التثنية ، قال : [الطويل]

__________________

٤٨٦ ـ الشاهد بلا نسبة في أمالي القالي (١ / ١٦٣) ، والمقرّب (١ / ٢٥١).


٤٨٧ ـ أولاك بنو خير وشرّ كليهما

[جميعا ومعروف ألمّ ومنكر]

وقياسا على النعت نحو : «قام زيد وعمر وبكر العقلاء» لاشتراكهما في أنّهما تابعان بغير واسطة ، انتهى.

قال ابن مكتوم : ويقتضي النظر عدم الجواز ، لأن مثل ذلك لا يحتاج إلى التأكيد لكونه نصا في المراد منه ، فليتأمل.

وفي هذه التذكرة : قال ابن الأبرش : سألني الوزير أبو الحسين بن السراج عن قول طفيل : [الطويل]

٤٨٨ ـ وراكضة ما تستجنّ بجنّة

بعير حلال غادرته مجعفل

فقال : ألم يقل النحاة : إنّ اسم الفاعل إذا وصف بطل عمله وقد وصف هذا بقوله : «ما تستجنّ بجنة» وأعمل في بعير حلال ، وكان يجب أن لا يعمل؟ قلت له : الذي قال ذلك قال : إذا نوي الإعمال قبل الصفة ، وكذلك فعل هاهنا فاستحسنه ، قال ابن الأبرش : ثم إني رأيت لابن جني أنّ هذه الجملة في موضع نصب على الحال من الضمير في راكضة وليست بصفة ، انتهى.

وفي التذكرة المذكورة : قال عالي بن عثمان بن جني : سألت أبي عن إعراب قوله : [المديد]

٤٨٩ ـ غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهمّ والحزن

فأجاب : إن المقصود ذمّ الزمان الذي هذه حاله ، فكأنه قال : زمان ينقضي بالهمّ والحزن غير مأسوف عليه ، فزمان مبتدأ وما بعده صفة له وغير خبر الزمان ، ثم حذفت المبتدأ مع صفته وجعلت إظهار الهاء مؤذنا بالمحذوف لأنك إنما جئت بالهاء لمّا تقدمها ذكر ما ترجع إليه ، فصار اللفظ بعد الحذف والإظهار : غير مأسوف

__________________

٤٨٧ ـ الشاهد لمسافع بن حذيفة العبسيّ في خزانة الأدب (٥ / ١٧١) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٩٩٠) ، وبلا نسبة في حاشية ياسين (٢ / ١٢٤) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٦٥).

٤٨٨ ـ الشاهد لطفيل في ديوانه (ص ٦٨) ، ولسان العرب (جعفل) و (حلل) ، وتهذيب اللغة (٣ / ٣٢٣) ، وتاج العروس (جعفل) و (حلل) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة (٢ / ٢٢) ، والمخصص (٧ / ١٤٧).

٤٨٩ ـ الشاهد لأبي نواس في الدرر (٢ / ٦) ، وأمالي ابن الحاجب (ص ٦٣٧) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٤٥) ، ومغني اللبيب (١ / ١٥١) ، وتذكرة النحاة (ص ١٧١) ، وشرح الأشموني (١ / ٨٩) ، وشرح ابن عقيل (ص ١٠١) ، والمقاصد النحوية (١ / ٥١٣) ، وهمع الهوامع (١ / ٩٤).


على زمن ينقضي بالهم والحزن ، قال : وإن شئت قلت : إنه محمول على المعنى كما حملت «أقلّ امرأة تقول ذلك» على المعنى ، فلم تذكر في اللفظ خبرا لأقلّ مع أنه مبتدأ ، وقد أضفت أقل إلى امرأة ووصفت المرأة ب تقول ، ذاك كأنك قلت : قلّ امرأة تقول ذلك ، فلم تحتج «أقل» إلى خبر لأنها في معنى «أقلّ» ، وكذلك حمل سيبويه على المعنى قول من قال : «خطيئة يوم لا أراك فيه» (١) على معنى : يوم خطأ لا أراك فيه ، وما حمل على المعنى كثير في القرآن وفصيح الكلام. انتهى كلام أبي الفتح رحمه الله.

وقال ابن الحاجب في إعرابه : لا يصحّ أن يكون عامل لفظيّ هنا يعمل في غير ، وإذا لم يكن عامل لفظي فإمّا أن يكون مبتدأ وإمّا أن يكون خبرا ، فلا يصحّ أن يكون مبتدأ لأنه لا خبر له ، لأنّ الخبر إمّا أن يكون ثابتا أو محذوفا ، الثابت لا يستقيم لأنّه إمّا «على زمن» وإمّا «ينقضي» ، وكلاهما مفسد للمعنى ، وأيضا فإنك إذا جعلته مبتدأ لم يكن بدّ من أن تقدر قبله موصوفا ، وإذا قدرت قبله موصوفا لم يكن بدّ من أن يكون «غير» له ، و «غير» هاهنا ليست له وإنما هي لزمن ، ألا ترى أنّك لو قلت : «رجل غيرك مرّ بي» لكان في غيرك ضمير عائد على رجل ، ولو قلت : «رجل غير متأسف على امرأة مرّ بي» لم يستقم لأن غيرا لمّا جعلته في المعنى للمرأة خرج عن أن يكون صفة لما قبله ، ولو قلت : «رجل غير متأسّف عليه مرّ بي» جاز لأنّه في المعنى للضمير ، والضمير عائد على المبتدأ فاستقام ، فتبين أيضا أنّه لا يكون مبتدأ لذلك. وإن جعلت الخبر محذوفا لا يستقيم لأمرين :

أحدهما : أنّا قاطعون بنفي الاحتياج إليه.

والآخر : أنّه لا قرينة تشعر بحذفه ، ومن شرط صحة حذف وجود القرينة ، وإن جعلته خبر مبتدأ مقدّر لم يستقم لأمور : منها : أنك إذا جعلته خبرا لم يكن بدّ من ضمير يعود منه إلى المبتدأ ، لأنه في معنى مغاير ، ولا ضمير فلا يصحّ أن يكون خبرا.

الثاني : أنّا قاطعون بنفي الاحتياج إليه.

الثالث : أن حذف المبتدأ مشروط بالقرينة ، ولا قرينة ، فتبين إشكال إعرابه كذلك.

وأولى ما يقال فيه أنه أوقع المظهر موقع المضمر لمّا حذف المبتدأ من أول الكلام ، فكأنّ التقدير : زمن ينقضي بالهمّ والحزن غير مأسوف عليه ، فلمّا حذف

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ١٣٧).


المبتدأ من غير قرينة تشعر به أتى به ظاهرا مكان المضمر ، فصارت العبارة فيه كذلك ، وهو وجه حسن ولا بعد في مثل ذلك ، فإنّ العرب تجيز : «إن يكرمني زيد إنّي أكرمه» وتقديره : إني أكرم زيدا إن يكرمني ، فقد أوقعت زيدا موقع المضمر لما اضطررت إلى إعادة الضمير إليه وأوقعت المظهر لما أخّرته عن الظاهر ، فتبين لك اتساعهم في مثل ذلك وعكسه ويحتمل أن يقال : إنهم استعملوا غيرا بمعنى لا كما استعملوا لا بمعنى غير ، وذلك واسع في كلامهم ، فكأنه قال : لا تأسف على زمن هذه صفته ، ويدلّ على استعمالهم غيرا بمعنى لا قولهم : «زيد عمرا غير ضارب» ولا يقولون : «زيد عمرا مثل ضارب» لأنّ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ، ولكنه لمّا كانت غير تحمل على لا جاز فيها ما لا يجوز في مثل ، وإن كان بابهما واحدا ، وإذا كانوا قد استعملوا «أقلّ رجل يقول ذلك» بمعنى النفي مع بعده عنه بعض البعد فلأن يستعملوا غيرا بمعنى لا مع موافقتها لها في المعنى أجدر ، فإن قيل : فإذا قدرتموه بمعنى لا فلا بد له من إعراب من حيث إنه اسم فما إعرابه؟ قلنا : إعرابه كإعراب «أقلّ رجل يقول ذاك» فهو مبتدأ لا خبر له استغناء عنه ، لأنّ المعنى : ما رجل يقول ذاك ، فإذا كان كذلك صحّ المعنى من غير احتياج إلى خبر ، ولا استنكار بمبتدأ لا خبر له إذا كان المعنى بمعنى جملة مستقلة ، كقولهم : أقائم الزيدان ، فإنّه بالإجماع مبتدأ ولا يقدّر محذوف ، والزيدان فاعل به ، فهذا مبتدأ لا خبر له في اللفظ ولا في التقدير ، وإنما استقام لأنه في معنى أيقوم الزيدان؟ وكذلك قول بعض النحويين في مثل تراك ونزال : إنه مبتدأ وفاعله مضمر ، ولا خبر له لاستقامة المعنى من حيث كان معناه انزل واترك ، وهذا هو الصحيح فيه ، وقد ذهب كثير إلى أنه منصوب انتصاب المصدر ، كأنه قيل في نزال : انزل نزولا ، وهذا عندي ضعيف لأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معربا بمثابة سقيا ورعيا ، ونحن نفرّق بين سقيا وبين نزال ، فكيف يمكن حملها على إعراب واحد وهو أن يكونا مصدرين مع أنّ أحدهما معرب والآخر مبني؟ والله أعلم.

وقال ابن مكتوم في موضع آخر من تذكرته : مأسوف مفعول من الأسف وهو الحزن ، و «على» متعلق به ، كقولك أسفت على كذا أسفا وحزنت عليه حزنا ولهفت عليه لهفا وأسيت عليه أسى ، وموضع قوله : «بالهم» نصب على الحال ، والتقدير : ينقضي مشوبا بالهمّ ، و «غير» رفع بالابتداء ، ولمّا أضيفت إلى اسم المفعول ، وهو مسند إلى الجار والمجرور ، استغنى المبتدأ عن خبر كما استغنى قائم ومضروب في قولك : «أقائم أخواك» و «ما مضروب غلاماك» عن خبر من حيث سدّ الاسم المرفوع بهما مسدّ الخبر ، لأنّ «قائم» و «مضروب» قاما مقام يقوم ويضرب ، فتنزّل كلّ واحد


منهما مع المرفوع به منزلة الجملة ، وكذلك إذا أسندت اسم المفعول إلى الجر والمجرور سدّ الجار والمجرور مسدّ الاسم الذي يرتفع به ، كقولك : «أيحزن على زيد» و «ما يؤسف على عمرو» فلمّا كانت غير للمخالفة في الوصف فجرت لذلك مجرى حرف النفي ، وأضيفت إلى اسم المفعول وهو مسند إلى الجار والمجرور والمتضايفان بمنزلة الاسم الواحد سدّ ذلك مسدّ الجملة حيث أفاد قولك : غير مأسوف على زيد ما يفيده قولك : ما يؤسف على زيد ، قال أبو حيان : ونظيره في الإعراب قول المتنبي : [الرمل]

٤٩٠ ـ ليس بالمنكر أن برّزت سبقا

غير مدفوع عن السّبق العراب

قال ابن مكتوم في تذكرته :

ذكر لي شيخنا أبو حيان أنّ بعض الطلبة سأل ابن الأخضر عن نصب مقالة في قول الشاعر : [الطويل]

٤٩١ ـ مقالة أن قد قلت [سوف أناله

وذلك من تلقاء نفسك رائع]

فأنشده ابن الأخضر : [الطويل]

٤٩٢ ـ [إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم]

ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي

قال : فكرر الطالب عليه السؤال وذلك بحضرة ابن الأبرش ، فقال ابن الأبرش : قد أجابك لو عقلت.

قال ابن مكتوم : وذكر لي شيخنا أنه كوتب بذلك من غزّة وأنّه أجاب عن ذلك على الفور بما حاصله : إنّ مقالة بدل من فاعل فعل في بيت قبل البيت الذي هي فيه ، وهو قول النابغة الذبياني : [الطويل]

٤٩٣ ـ أتاني أبيت اللّعن أنّك لمتني

وتلك التي تستكّ منها المسامع

مقالة أن قد قلت

 ...

__________________

٤٩٠ ـ الشاهد في ديوانه (ص ١٣٢) ، وشرح أبيات المغني للبغدادي (٤ / ٤) ، ومعاهد التنصيص (٣ / ٥٣).

٤٩١ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٣٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨١٦) ، ولسان العرب (سكك) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥١٨).

٤٩٢ ـ الشاهد لعدي بن زيد العبادي في ديوانه (ص ١٠٧) ، وبلا نسبة في المغني (ص ٥٧٣).

٤٩٣ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٣٤) ، ولسان العرب (سكك) ، ومقاييس اللغة (٣ / ٥٩) ، ومجمل اللغة (٣ / ٥٣) ، وأساس البلاغة (سكك) ، وتاج العروس (سكك) ، وبلا نسبة في المخصص (٩ / ٨).


فمقالة بدل من فاعل أتاني وهو «أنك لمتني» ، وهي تروى بالرفع والنصب ، فمن رفع فظاهر ، ومن نصب بناها على الفتح لإضافتها إلى مبنيّ ، وصار ذلك نظير قوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] ، و (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] ، وقول الشاعر : [الرمل]

٤٩٤ ـ [تداعى منخراه بدم]

مثل ما أثمر حمّاض الجبل

[البسيط]

[فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش] وإذ ما مثلهم بشر (٢)

[البسيط]

ولم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

[حمامة في غصون ذات أو قال](٣)

انتهى معنى جواب شيخنا وهو محكيّ عن أبي الحجاج الأعلم ، وفي هذا الجواب نظر ، فإنّهم نصّوا على أنّه ليس كل ما يضاف إلى مبنيّ يجوز بناؤه ، وإنّما ذلك مخصوص بما كان مبهما ، نحو : غير ومثل وبين ودون وحين ونحوها ، وقد ذكرت له ذلك بعد فأذعن له ، فإن كان ابن الأخضر أراد ذلك ففيه ما ذكرناه وإن كان أراد غيره فيفكر في وجهه ، انتهى.

قال ابن مكتوم : سألني بعض الأصحاب عن نصب يمين وشمال في قول أبي الطيب المتنبي : [الوافر]

٤٩٥ ـ وأقسم لو صلحت يمين شيء

لما صلح العباد له شمالا

فأعربتهما تمييزين ، ثم ظهر لي بعد ذلك أنهما حالان ، وذاكرت بذلك شيخنا الأستاذ أبا حيان فقال لي : سألني شيخنا بهاء الدين بن النحاس عن نصبهما فقلت له : على الحال كقولي : أصلح لك غلاما وتلميذا ، فقال : يظهر لي أنه تمييز ، قلت له : التمييز الذي عن تمام الكلام ، وهذا البيت منه على تقديرك لا بدّ أن يكون منقولا من فاعل أو من مفعول على رأيي ، وهذا لا يصلح فيه ذلك ولا في قولي : أصلح لك تلميذا ، فقال : يصح أن تقدر يصلح لك تلميذي فقلت له : لفظ التلميذ هو الفاعل أو المفعول ، والتلميذ مصدر ، ولو قدرناه :

__________________

٤٩٤ ـ الشاهد بلا نسبة في رصف المباني (ص ٣١٢) ، وشرح المفصّل (٨ / ١٣٥) ، ولسان العرب (حمض) ، والمقرب (١ / ١٠٢).

(١) مرّ الشاهد رقم (١٨٨).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٢٨).

٤٩٥ ـ الشاهد في ديوانه (ص ١٣١).


يصلح لك تلميذي لم يكن معناه معنى أصلح لك تلميذا ، قال : وحكى لي الشيخ بهاء الدين أنّ بعضهم حكى عن المخلص الطّوخي أنه أعربه خبر صلح وجعلها من أخوات صار وبمعناها قلت له : هذا لم يثبت عن أهل اللسان فيما علمناه فلا نقول به ، انتهى كلام أبي حيان.

عود الضمير في (لكن) في قول

الحسن البصري (كأنك بالدنيا لم تكن)

في (تذكرة) ابن مكتوم : قال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمرون الحلبي في شرحه لمفصل الزمخشري ، وانتهى فيه إلى قوله : الوزن الرابع عشر نجده في المصادر في قول الحسن البصري : «كأنّك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل» (١) يحتمل الضمير في «تكن» أن يكون للمخاطب وأن يكون للدنيا ، وكذا الضمير في «لم تزل» وتقديره على الأول : كأنك لم تكن بالدنيا ، ويكون التشبيه في الحقيقة للحالين لا للذي له الحال ، ومثله : كأنّ زيدا قائم ، فقد ظهر أنّ التشبيه لا يفارق كأنّ ، وليس قول من قال : إنها تكون للتشبيه إذا كان خبرها اسما ، وأما إذا كان فعلا أو ظرفا أو حرف جرّ فظنّ وتخيّل ، ليس بشيء لأنّ ما ذكرنا من التأويل لا يبقى إشكالا وجريها على حقيقتها أولى ، وتقديره : إنّ حالك في الدنيا يشبه حالك زائلا عنها ، وكأنّ حالك في الآخرة الكائنة عن حالك في الدنيا بحالة لم تزل في الآخرة ، والأوّل أولى ، فإذا كان الضمير للمخاطب يكون «بالدنيا» ظرفا وكان تامة وهي خبر كأنّ ، وإذا جعلت في «تكن» للدنيا فيحتمل أن يكون «بالدنيا» الخبر ، و «لم تكن» في موضع نصب على الحال من الدنيا ، أو على أنّه صفة لمحذوف إذا لم يجوّز أن تقع الماضية حالا بجعلها صفة تقديره : دنيا لم تكن ونصب دنيا إمّا على الحال وإمّا على تقدير واو الحال ، وكذا لم تزل ، فإن قيل : إنّ «بالدنيا» لا يتم به الكلام والحال فضلة فالجواب : إن من الفضلات ما لا يتم الكلام إلّا به ، كقوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] و «معرضين» حال من الضمير المخفوض ، ولا يستغني الكلام عنها ، لأنّ الاستفهام في المعنى إنّما هو عنها.

وممّا يبين ذلك أيضا قولهم : ما زلت بزيد حتّى فعل ، لا يتم الكلام بقولك : بزيد وممّا يبين صحة الحال جواز دخول الواو فتقول : كأنّك بالشمس وقد طلعت ، وعلى ذلك يحمل قول الحريري (٢) : [الهزج]

__________________

(١) انظر البيان والتبيين (٢ / ٧٠).

(٢) انظر مقامات الحريري (ص ٧٥).


٤٩٦ ـ كأنّي بك تنحطّ

[إلى اللّحد وتنغطّ]

يكون «بك» الخبر ، و «تنحط» حال ، هذا هو الوجه ، وخرّجه المطرّزيّ في (شرح المقامات) (١) : كأنّي أبصر بك ، إلّا أنّه ترك الفعل لدلالة الحال ، وما ذكرته أولى ، لأنّ فيما ذكره إضمار فعل وزيادة حرف جر لا يحتاج إليه فيما ذكرته ، انتهى.

آراء نحوية لابن جنّي : وفي تذكرة ابن مكتوم : قال ابن جني فيما نقلته من تعاليقه : أنشدنا أبو علي لمخلد الموصليّ يهجو طفيليّا : [السريع]

٤٩٧ ـ لو طبخت قدر على فرسخ

أو بذرى نيق بأعلى الثّغور

وكان يحمي القدر كلّ الورى

بكلّ ماضي الحدّ عضب بتور

وكنت في السّند لو افيتها

يا عالم الغيب بما في القدور

ثم سألنا عن قوله : «يا عالم الغيب بما في القدور» أين موضع السؤال منه؟ فرجعنا إليه فقال : قوله : «بما في القدور» بدل من الغيب وعالم هنا بمعنى عارف الذي يتعدّى إلى مفعول واحد ، والتقدير : يا عالما بما في القدور ، مثل : «يا ضارب زيد أخا عمر» تقديره : يا ضاربا أخا عمر ، ولا يكون «بما في القدور» مفعولا ثانيا بعالم الذي بمعنى عارف ، لأنّك تقول : عرفت زيدا ، فقوله : بما في القدور مفعول به ، تقول : علمت زيدا وعلمت زيدا وعلمت بزيد.

وفيها : قال ابن جني : آخر بيت ألقاه أبو علي على أصحابه قوله : [الخفيف]

٤٩٨ ـ لم يطيقوا أن ينزلوا فنزلنا

وأخو الحرب من أطاق النّزولا

ولم يذكر شيئا وقال : سلوني عنه في وقت آخر ، قال ابن جني : اكتفى بالمسبّب عن السبب لأن تقديره : فأطقنا فنزلنا.

وفيها : قال ابن جني : دخلت على أبي علي يوما وبين يديه كانون فقال لي : كيف تبني من ضرب مثل كانون على رأي من جعله من الكنّ وعلى رأي من جعله من كون الكانون؟ فقلت : إذا أخذته من الكنّ تقول : ضاروب ، وتوقّفت في الآخر ، فقال : ضربون لأن كانون على هذا فعلون.

وفيها : قال ابن جني : جرى حديث مبرمان عند أبي علي فقال : ذكر مبرمان أنه سأله المبرد عن قوله : [الوافر]

__________________

٤٩٨ ـ الشاهد لمهلهل في الحيوان (٦ / ٤٢٩) ، وشروح سقط الزند (ص ٦٦) ، والخزانة (٢ / ٣٠٥) وبلا نسبة في سمط اللآلي (ص ٧٨٩) ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي (١ / ١٩٣).


٤٩٩ ـ فغضّ الطّرف [إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا]

فقال : إن كنت تلفّظت بها وحدها أو أولا فإنّي أجوّز فيها الأوجه الثلاثة ، مثل مدّ مدّ ومدّ ، والرفع على هذا أجود ، ثم دخلت الألف واللام في الاسم الذي يليها ، وقد حركت الضاد لالتقاء الساكنين بالضم للإتباع ، فإن أوليتها اسما فيه الألف واللام قبل أن تحرّك الضاد الثانية فإنّي أجوز الكسر ولا أجوّز الضم ، لأنّ التحريك الآن للساكن الثالث ، وهو ولام التعريف ، ولا يصح فيه إتباع لأنّ التحريك من الثالث لا من الثاني ، قال لي المبرد : ما كان عندي أنّ الآخر يفهم مثل هذا.

وفيها : قال ابن جني (١) : قال أبو علي الفارسي : سألت ابن خالويه بالشام عن مسألة فما عرف السؤال بعد أن أعدته ثلاث مرات ، وهو : كيف تبني من «وأى» مثل كوكب على قراءة من قرأ (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون : ١] بفتح الدال على تخفيف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها ، ثم تجمعه بالواو والنون ثم تضيفه إلى نفسك؟

وجوابها أنّه في الأصل ووأي نحو كوكب ، فانقلبت الياء ألفا لتحريكها وانفتاح ما قبلها ، فصار ووأى ثم خففت الهمزة ، فألقيت حركتها على الواو الساكنة فصار ووى واجتمع معك واوان والنون أويون مثل : مصطفيون في الأصل ، فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار : أواون فاجتمع ساكنان فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار أوون مثل : مصطفون ، ثم أضفته إلى نفسك فقلت : أووي وحذفت النون لأنها لا تجمع في الإضافة ، فاجتمع حرفا علّة وسبق أحدهما بالسكون فقلبته ياء وأدغمته ياء بعدها فصار أويّ ، وهو الجواب.

قال ابن جني : أنشد أبو علي للمتنبي : [الكامل]

٥٠٠ ـ من كلّ من ضاق الفضاء بجيشه

حتّى ثوى فحواه لحد ضيّق

وقال لأصحابه : كم مجرورا في هذا البيت؟ فقال بعض الحاضرين : خمسة وقلت أنا : ستة ، فتعجبوا من قولي وقالوا : قد عرفنا ، كل ومن وجيش والهاء المتصلة به وثوى فأين الآخر؟ قلت : الجملة من الفعل والفاعل ، وهي : ضاق الفضاء ، لأن من نكرة غير موصولة ، لأن كّلا لا تضاف إلّا إلى النكرة التي في معنى الجنس ، «وضاق الفضاء» مجرور الموضع لأنّه صفة لمن ، فقال الشيخ : هو كما قال.

__________________

٤٩٩ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٨٢١) ، وجمهرة اللغة (ص ١٠٩٦) ، وخزانة الأدب (١ / ٧٢) ، والدرر (٦ / ٣٢٢) ، وشرح المفصل (٩ / ١٢٨) ، ولسان العرب (حدد) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٤ / ٤١١) ، وخزانة الأدب (٦ / ٥٣١) ، وشرح الأشموني (٣ / ٨٩٧) ، وشرح شافية ابن الحاجب (ص ٢٤٤) ، والمقتضب (١ / ١٨٥).

٥٠٠ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٢١) ، ومحاضرات الراغب (٢ / ٢١٧).


قال ابن جني : سأل بعضهم الشيخ أبا علي عن قولنا : زيد منطلق ، فقال : زيد معرفة ومنطلق نكرة ، والمنطلق هو زيد نفسه ، فكيف صار معرفة ونكرة في حين واحد؟ فأجاب بأنّ العين واحدة والحال مختلفة ، ومعنى هذا أنّ «منطلق» هو زيد عينا ، ولكن فيه بيان حال وإخبار بأمر مجهول غير زيد وهو الانطلاق.

قال ابن جني : قال لنا أبو علي : سقط على فكري البارحة شيء جيد يدل على شدّة اتصال تاء التأنيث بالكلمة ، وهو قولك : دحرجة وبابه ، الاستدلال من ذلك أنّه قد ثبت أنّ المشتق يجب أن يكون لفظه مخالفا للفظ المشتق منه ، لأنّه لو كان مثله ولم يكن مخالفا له كان إيّاه ، ولم يكن أحدهما بأن يجعل أصلا أولى من الآخر ، وقد ثبت أن الفعل مشتق من المصدر ، فيجب أن يكون لفظهما مخالفا ، ولا مخالفة بين دحرج الذي هو فعل ماض مشتق وبين دحرجة إلا بالتاء ، ولو جعلتها منفصلة زال الخلاف بينهما ، فدلّ هذا على شدّة اتصال التاء بها ، وللتاء تأثير في تغيير الكلمة ، ألا ترى أنك تقول : ليس في الكلام مفعل نحو مكرم ، وتجد هذا المثال مع تاء التأنيث نحو المقبرة؟ قال بعض الحاضرين : مضرب مثل ضرب فعبّس وجهه وقال : أتريد تغييرا أكثر من التحريك والتسكين؟

قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولنا : إن لم تفعل ، ما العامل في تفعل؟ فقال : لمه؟ فقلت : فإن للشرط والمعنى عليه فما عملها؟ فقال : إنها عاملة في «لم تفعل» كلها بمجموعها ، لأنّ لم تنزّلت منزلة بعض أجزائه ، والدليل على صحة ذلك قول سيبويه (١) : «زيدا لم أضرب» ، وحرف النفي لا يعمل ما بعده فيما قبله ، إلّا أنّ لم تنزلت منزلة بعض الفعل فعمل كما عمل لو لم يكن معه لم ، ولا خلاف ولا إشكال في جواز «إن لم تفعل» ، والجازم لا يدخل على الجازم كما لا يدخل على الناصب ولا الجار على الجار ، إذ الحرف لا يكون وحده معمولا ، ولا بد من هذا التنزيل ، ولكنّ لا علامة لجزم إن في اللفظ ، وإنّما هو مجزوم الموضع بإن.

مسألة لابن مكتوم في تذكرته

قال ابن مكتوم في تذكرته : مسألة : قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز : [البسيط]

٥٠١ ـ الشّمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم اللّيل والقمرا

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ١٩٠).

٥٠١ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٧٣٦) ، وأمالي المرتضى (١ / ٥٢) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٢٦) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٢٦) ، والعقد الفريد (١ / ٩٦) ، ولسان العرب (كسف) و (بكى) ، وبلا نسبة في لسان العرب (شمس).


اختلف الرواة في رواية هذا البيت ، فرواه البصريون هكذا ، ورواه الكوفيون : الشمس كاسفة ليست بطالعة ، ورواه بعض الرواة : (تبكي عليك نجوم الليل والقمرا) برفع نجوم ونصب القمر ، ورواه بعضهم بنصبهما معا ، وقد اختلف أصحاب المعاني وأهل العلم من الرواة ، وذوو المعرفة من النحاة في تفسير وجوه هذه الروايات وكتابتها في العربية ، فأما من روى : الشمس طالعة ليست بكاسفة فإنّه ينصب نجوم الليل بكاسفة ويعطف القمر عليها ، وتبكي يحتمل أن يكون في موضع رفع على أنّه خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب على الحال إمّا من الشمس وإمّا من اسم ليس ، ونصب نجوم الليل بكاسفة أشهر الجوابات وأعرفها وأقربها مأخذا ، والمعنى أن الشمس لم تقو على كسف النجوم والقمر لإظلامها وكسوفها بسبب هذا المصاب العظيم ، وقيل : نجوم الليل والقمر منصوبان بتبكي نصب الظرف ، أي : تبكي عليك مدّة نجوم الليل والقمر ، كما قالوا : «لا أكلمك سعد العشيرة» و «لا أكلّمك هبيرة بن سعد» و «القارظين» ونحو ذلك ، وهذا الإعراب موافق لرواية الكوفيين : الشمس كاسفة ليست بطالعة ، وقيل : إنّ نجوم الليل والقمر منصوبان بتبكي نصب المفعول به ، ومعنى تبكي تغلب في البكاء فهو من باب المغالبة الآتي على فاعلته ففعلته أفعلة بضم العين إلّا في باب وعدت وبعت ورميت ، فإنه يجيء على أفعلة بكسر العين ، قالوا : وعلى هذا فيحتمل أن يراد بالنجوم والقمر السادات والأماثل كما قال النابغة : [الطويل]

٥٠٢ ـ فإنّك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

وأما من رفع نجوم الليل ونصب القمر فإنّ ذلك من باب المفعول معه ، نحو : استوى الماء والخشبة ، وهذا الإعراب أيضا موافق رواية الكوفيين ، وذكر أبو نصر الحسن بن أسد الفارقي في رواية من نصب نجوم الليل والقمر أن المعنى : تبكي عليك ونجوم الليل والقمر ، أي : تبكي الشمس عليك مع نجوم الليل والقمر فحذف الواو وهو يريدها ، وهو أغرب الوجوه المقولة في هذا البيت.

وأمّا رواية الكوفيين : الشمس كاسفة ليست بطالعة ، فإنه استعظم أن تطلع الشمس ولا تكسف لمثل هذا المصاب العظيم ، كما قالت الخارجية : [الطويل]

__________________

٥٠٢ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٧٨) ، والكامل (٣ / ٣٣) ، وأمالي المرتضى (١ / ٤٨٧) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٣٥٩).


٥٠٣ ـ أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف

قال ابن مكتوم في (تذكرته) : قال ابن الطرّاوة في المقدّمات في قول سيبويه : باب ما يحمل الاسم فيه على مرفوع ومنصوب : كلامه في هذا الباب صحيح وعارضوه بأوهام كثيرة يوقف عليها وعلى بعضها من كتب الشارحين ، وإنما أوقع لهم الشك توهمهم أنّ الواو عاطفة ولم يعرضوا للجامعة بحرف ، وقد أشرت إليها في قوله :

«ما مثل زيد ولا أخيه يقول ذاك» (٢) و «يقولان ذاك» على معتقدي في الواو وأظرف ما رأيت من هذا الجهل بالواو الجامعة شيء نصّه الفسويّ في الإيضاح ، فإنه بسط القول في التأنيث والتذكير ، فكان فيما ذكر أن التاء تحذف مع المؤنث من غير الحيوان ، وعد منه ضروبا ثم قال : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة : ٩] ، فأدخله في باب ما يحذف منه التاء والأصل استعمالها ، ولم يفطن لما هو بسبيله من الواو الجامعة وأن التاء لا تجوز هنا البتّة ، وإنما أخبرتك بهذا لنعلم أنّ هذه الأصول التي أغفلت من أوكد الواجبات إحكامها والأخذ بما يتوهم فيه نقضها وإبرامها ، وهذه الحال نفسها أوقعت خواصّ أهل الأندلس في طرح الواو من قولك : وصلّى الله عليه وسلم ، إذ توهموها عاطفة ، فاختلفت آراؤهم فيما وضعوا مكانها واتفقوا على إسقاطها تقصيرا بالسلف وتمرسا بالخلف مع العجب بأنفسهم والغفلة عما تورّطوا فيه من جهلهم ومن الحق على من لا يعلم أن يقتدي بمن تقدّمه ولا يرسل في الباطل قدمه لا سيّما فيما نقلته الكافّة وأطبقت عليه الأمة ، انتهى.

رأي في إعراب : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ :) رأيت بخط ابن القمّاح قال : ذكر القفطي في كتاب (إنباه الرواة على أنباه النحاة) أن القاضي إسماعيل بن إسحاق سأل أبا الحسن محمد بن أحمد بن كيسان : ما وجه قراءة من قرأ : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] على ما جرى به عادتك من الإغراب في الإعراب؟ فأطرق ابن كيسان مليّا ثم قال : تجعلها مبنيّة لا معربة وقد استقام الأمر ، قال : فما علة بنائها؟ قال : لأنّ المفرد منها هذا وهو مبني ، والجمع هؤلاء ، وهو مبني ، فتحمل التثنية على الوجهين ،

__________________

٥٠٣ ـ الشاهد لليلى بنت طريف في الأغاني (١٢ / ٨٥) ، والحماسة الشجرية (١ / ٣٢٨) ، والدرر (٢ / ١٦٣) ، وشرح شواهد المغني (ص ١٤٨) ، ولليلى أو لمحمد بن بجرة في سمط اللآلي (ص ٩١٣) ، وبلا نسبة في لسان العرب (خبر) ، ومغني اللبيب (١ / ٤٧) ، وهمع الهوامع (١ / ١٣٣).

(١) انظر الكتاب (١ / ١١١).


فأعجب القاضي ذلك وقال : ما أحسنه لو قال به أحد ، فقال ابن كيسان : ليقل به القاضي وقد حسن.

مسألة نحوية للحريري

سأل عنها علي بن أبي زيد الفصيحيّ أبا محمد القاسم بن علي الحريري قال : ما يقول سيّدنا أدام الله توفيقه في انتصاب لفظي بعض الشعراء ، وهو قوله : [المتقارب]

٥٠٤ ـ تعيّرنا أنّنا عالة

ونحن صعاليك أنتم ملوكا

وعلى ما ذا عطف قوله : ونحن ، وعلى أيّ وجه يعمل المتنبي وغيره من الشعراء نحو : [المنسرح]

٥٠٥ ـ [ربحلة] أسمر مقبّلها

سبحلة] أبيض مجرّدها

وهل هما من الصفات المشبهة بأسماء الفاعلين أم لا؟ فإن الشريطة في الصفة المشبهة باسم الفاعل أن لا تكون جاية على يفعل من فعلها ، نحو : حسن وكريم ، فإنّ حسنا ليس على زنة يحسن ، وأسمر على زنة يسمر ويسمر ، فإنّ اللغتين قد حكيتا وليس هذا شرطها ، ينعم بإيضاحها.

الجواب : اللهمّ إنّا نعوذ بك أن نعنت كما نستعيذك أن نعنت ، ونبرأ إليك من أن نفضح كما نستعصمك من أن نفضح ، ونستمنحك بصيرة تشغلنا بالمهمات عن التّرّهات وتنزّهنا عن التعلّم للمباهاة والمباراة ، ونسألك اللهمّ أن تجعلنا ممّن إذا رأى حسنة رواها ، وإن عثر على سيئة واراها برحمتك يا أرحم الراحمين. وقفت على السؤالين الملوّح بشرّ مصدرهما وهجنة مصدرهما ، إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الأغلوطات وزجر عن تطلّب السّقطات والعثرات ، وكان ابن سيرين إذا سئل عن عويص اشمأزّ منه ، وقال : «سل أخاك إبليس عن هذا» ، ومع هذا فإنّي كرهت ردّ السّائل ، ولربّ عييّ أفصح من لسن ، لا سيّما إذا لم يأت بحسن.

أمّا السؤال الأول فهو من مسائل المعاياة وأسولة الإعنات ، ولا عيب أن يجهله النحويّ المدرّس فضلا عمّن لا يدّعي ولا يلبس ، وهو من الأبيات التي جرى فيها التقديم والتأخير لضرورة الشعر ، وتقديره : «تعيّرنا أنّنا عالة صعاليك ملوكا أنتم

__________________

٥٠٤ ـ الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ١٧١) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٤٤) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٤٣٧) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤٣٩).

٥٠٥ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (١ / ٢٩٨).


ونحن» وعالة فيه جمع عائل المشتق من عال يعول ، وانتصاب صعاليك به وملوكا صفتهم ، وأمّا أسمر وأبيض فإنّما أعملا لمجيء الفعل منهما على افعلّ وافعالّ المخالفين لزنتيهما ، فهذا ما حضرني من الجواب ، ولعلي نكّبت فيه عن طريق الصواب.

قال السخاوي : وما أرى هذا الجواب مستقيما لأنّ الملوك لا تكون صفة للصعاليك ، وقوله في تقديره : «صعاليك ملوكا أنتم ونحن» لا معنى له وإنما الصواب أن يقال : إنّ عالة بمعنى عالني الشيء إذا أثقلني ، أي : تعيّرنا بأنّا عالة ملوكا ، أي : نثقلهم بطرح كلّنا عليهم في حال التصعلك ، فصعاليك منصوب على الحال ، وقوله «ونحن» مبتدأ وأنتم خبره ، أي : ونحن مثلكم فكيف تعيرنا؟ قال الله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] ، وتقول النحاة : أبو يوسف أبو حنيفة ، وتقدير الشعر «تعيّرنا أننا عالة ملوكا صعاليك ونحن أنتم» (١) ، وفي عال بمعنى أثقل جاء قول أميّة بن أبي الصّلت : [الخفيف]

٥٠٦ ـ سلع ما ومثله عشر ما

عائل ما وعالت البيقورا

أي : أثقلت البقر بما حمّلت في أذنابها من السّلع والعشر.

وأمّا أسمر وأبيض وأحمر فإنّهم أجروا هذا الضّرب مجرى الصفة المشبهة باسم الفاعل ومن ذلك «أجبّ» في قوله : [الوافر]

٥٠٧ ـ ونمسك بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام

يجوز في الظهر الرفع والنصب والجر ، وكذلك تقول في مؤنث أحمر مررت برجل حمراء جاريته ، كما تقول : حسنة جاريته ، أجروا حمراء مجرى حسنة ، وشبّهت هذه بالصفة المشبهة باسم الفاعل في أنّها تذكر وتؤنّث وتثنّى وتجمع وأنّها تدلّ على معنى ثابت ، وشبّه أفعل التفضيل أيضا بالصفة المشبهة إذا لم يكن مصحوبا بمن وكان صفة لما ذكرناه نحو أجب.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٥٠٤).

٥٠٦ ـ الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه (ص ٣٦) ، والأزهيّة (ص ٨١) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣٠٥) ، ولسان العرب (علا) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٣٢٢) ، ولسان العرب (بقر) ، و (سلع) و (عول) ، ومغني اللبيب (١ / ٣١٤).

٥٠٧ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ١٠٦) ، والأغاني (١١ / ٢٦) ، وخزانة الأدب (٧ / ٥١١) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٢٨) ، وشرح المفصّل (٦ / ٨٣) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٥٧٩) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ٢٠٠) ، وأمالي ابن الحاجب (١ / ٤٥٨) ، والإنصاف (١ / ١٣٤) ، وشرح الأشموني (٣ / ٥٩١) ، وشرح ابن عقيل (ص ٥٨٩) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٣٥٨) ، ولسان العرب (جبب) و (ذنب) ، والمقتضب (٢ / ١٧٩).


مسائل جرت بين أبي جعفر بن النحاس وابن ولّاد

وفي (سفر السعادة) أيضا : هذه مسائل جرت بين أبي جعفر النحاس وبين أبي العباس بن ولّاد ، وبعث قولهما إلى ابن بدر ببغداد ومال مع أبي العباس على أبي جعفر ميلا مفرطا وكأنّه قد ارتشي ، وقال لي شيخنا أبو القاسم الشاطبي رحمه الله ، وقد وقفته على هذه المسائل واغتبط بها غاية الاغتباط : أبو جعفر النحاس يسلك في كلامه طريق النجاة ، وأبو العباس له ذكاء وصدق رحمه الله ، وستقف من كلام الرجلين على ما يدلك على صحة ذلك.

المسألة الأولى : ابتدأ أبو جعفر فقال لابن ولّاد : كيف تبني من «رجا يرجو» افعللت وافعليت وافعلوت؟ فقال أبو العباس : أمّا افعليت فارجويت ، وأما افعلوت فارجووت ، وأمّا افعللت فارجووت أيضا.

فقال أبو جعفر : هذا كله خطأ ، أما ارجويت في افعليت فلا يعرف في كلام العرب افعليت ، ولو جاز أن يكون ارجويت افعليت للزم أن تقول في أغزيت : أفعيت ، لأنّ من زعم أنّ الراء من جعفر زائدة لزمه أن يقول : هو فعلر وأن يقول في ضربب فعلب ، ولا يقوله أحد.

قال السخاوي : هذه العبارة في قوله : «لأن من زعم أنّ الراء من جعفر زائدة» ليس بجيدة ، لأنّها توهم أنّ من الناس من يقول ذلك ، وكان الصواب أن يقول : إذ لو زعم زاعم أن الراء من جعفر ، ثم قال : وأمّا ارجووت في افعلوت وافعللت فأعجب في الخطأ من الأول ، لأنّا لا نعلم خلافا بين النحويين أنّ الواو إذا وقعت طرفا فيما جاوز الثلاثة من الفعل أنّها تقلب ياء ، كما قالوا في أفعلت من غزوت : أغزيت ، وفي استفعلت : استغزيت ، والوجه عند أبي جعفر لا يبنى من «رجا» إلّا افعللت ، فيقال ارجويت أرجوي ارجواء فأنا مرجو ، مثل احمررت أحمرّ احمرارا فأنا محمرّ ، إلّا أنّك تفك في ارجويت أرجوي وتدغم في احمرّ يحمرّ ، وهو كثير في كلام العرب ، نحو ابيضضت واصفررت.

قال محمد بن بدر : إنما قال في افعليت : ارجويت بالياء لأنّها مبدلة من الواو ، والمبدل من الحرف زائد بمعنى البدل والزائد يمثل على لفظه.

قال السخاوي : هذا خطأ لأنّ هذا لو صحّ لقيل في قال وباع وزنه قال.

قال ابن بدر : وأمّا جوابه في افعلوت ارجووت وفي افعللت ارجووت أيضا فإنه تمثيل على الأصل قبل الإعلال ، وسبيل كل ممثل أن يتكلم بالمثال على الأصل ، ثم


ينظر في إعلاله بعد ، فافعللت على الأصل : ارجووت وعلى الإعلال : ارجويت ، ومن قال كينونة فيعلولة ذهب إلى الأصل ، ومن قال فيلولة ذهب إلى اللفظ ، وإذا بنوا مثال عصفور من غزا قالوا : غزووّ ، فالفراء يتركه على هذا ولا يعلّه ، وسيبويه يعله بعد ذلك فيقول : غزويّ ، وقال ابن بدر : وقول أبي جعفر : «لو جاز أن يكون ارجووت افعليت» إلى قوله : «لا يقوله أحد» فغثّ لا معنى له ولا للإتيان به وجه.

قال السخاوي : قول ابن بدر في ارجويت : إنه تمثيل على الأصل غير ، لأن ذلك لم ينطق به في الأصل كما نطق بكيّنونة ، كما قال (١) : [الرجز]

يا ليت أنّا ضمّنا سفينه

حتّى يعود الوصل كيّنونه

وإنما يمثّل بالأصل ما لا يصح تمثيله على اللفظ ، كقولك في عدة : إنه فعلة ، ولا تقول : علة وفي غد إنّه فعل ، ولا تقول : هو فع ، ثم إنه لم يسأل عن تمثيل الأصل ، وإنما سأل عمّا يصحّ أن ينطق به ، فما له اقتصر على تمثيل الأصل وترك ما ينبغي أن يقال؟

المسألة الثانية : قال أبو جعفر : سألني هذا الفتى فقال : كيف تقول : ضرب زيد؟ فقلت : ضرب زيد ، فقال : كيف تتعجب من هذا الكلام؟ فقلت : ما أكثر ما ضرب زيد فلم لم تجز التعجب من المفعول بلا زيادة كما جاز التعجب من الفاعل بلا زيادة؟ فقلت : لأن التعجب يكون الفعل فيه لازما ، فإذا قيل : أخرجه إلى باب التعجب فمعناه اجعل الفاعل مفعولا ، كما تقول : قام زيد ، ثم تقول : ما أقوم زيدا ، فمعناه على مذهب الخليل : شيء أقوم زيدا ، فإذا جئنا إلى ما لم يسمّ فاعله لم يجز أن نتعجب منه حتى نزيد في الكلام ، لأنه لا فاعل فيه ، فقال : ليس يخلو المتعجب منه في حال الزيادة من أن يكون فاعلا في الأصل أو مفعولا ، فإن كان مفعولا في الأصل فقد نقضت قولك بأنّا لا نتعجب إلّا من الفاعل ، وإن كان فاعلا فقد لزمك أن تتعجب منه على ما قدّمت من القول بلا زيادة ، فقلت : ألزمتني ما لم أقلّ ، لأنّه قال : إن كان مفعولا في الأصل فقد نقضت قولك ، وإلا فقد قلت : إني لا أتعجب منه إلا على كلام آخر ، فكيف تلزمني أن أتعجب منه؟ فقال : أما قولك : إني ألزمتك ما لا يلزمك فدعوى لا بيّنة معها.

وأما قولك : إني لا أتعجب منه بزيادة فليس يخلو تعجّبك من أن يكون واقعا عليه في نفسه أو على الزيادة ، فإن كان واقعا عليه فقد لزمك ما ألزمتك ، وإن كان واقعا على الزيادة فقد تعجبت ممّا لم أسألك عن التعجب منه ، فإن قلت : إنّي إنّما

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٣٧).


تنكّبت التعجب منه وتعجبت من الزيادة التي لم تسألني التعجب منها لأنه لا يجوز التعجب منه إذ كان مفعولا ، قلنا : ولم لا جاز ذلك ، وصرت في هذا إذا سألتك لا تتعجب منه تعجبت من غيره وهي الزيادة؟ فقلت : قد أجبناك فيما مضى من الكلام لم لا يجوز أن يتعجب منه ، فليس لإعادتنا إيّاه معنى ، قال : وقد نقضت العلة التي اعتللت بها في منع الجواز أنه مفعول ، وأريناك أن ذلك فاسد ، فإن كانت عندك زيادة فزد ، قلت : هذه المطالبة محال أن يتعجب من المفعول بما بيّنّا من أنّ المفعول لا يتعجّب منه ، فيجب على من أنكر هذا أن يتعجب من المفعول ، فكأنّه يجعل المفعول مفعولا ، وهذا محال ، فقال : نحن إذا قلنا : اجعل الفاعل مفعولا ساغ لنا ذلك في الفاعل إذا تعجبنا منه ، ولم يكن في الأصل مفعولا كان ذلك جائزا فيما قام مقامه ، وهو ما لم يسمّ فاعله ، وإلّا لم يكن في موضعه ولا في مقامه ، قلت : هو وإن قام مقامه في أنّا نحدّث عنه كما نحدّث عن الفاعل فنحن نعلم أنّه مفعول في الأصل ، فكيف يقال : أقمه مقام المفعول؟ وأيضا فإن أقمناه مقام المفعول فإنّ الفاعل هو المحدث للفعل ، وليس كذلك ما يقوم مقامه ، فقال : قد لزمك بهذا القول أن لا تتعجب منه على حال من الأحوال بزيادة ولا بغير زيادة ، فإنك إن زدت فيه فهو مفعول في الحقيقة ، اللهمّ إلّا أن تكون تزعم أنّك لم تتعجب منه البتّة وإنما تعجبت من غيره ، ونحن لم نسألك عن التعجب من غيره ، قلت : هذا الذي ألزمتنيه من قولك : «فقد لزمك بهذا القول أن لا تتعجب منه على حال من الأحوال بزيادة ولا بغير زيادة» بيّن بعضه أنّه لا يجوز أن تقول : ما أحمر زيدا ، فإذا زدت فيه وقع التعجب منه ، فقلت : ما أشدّ حمرة زيد ، فقال : أما تشبيهك أحمر ونحوه بباب الثلاثي فإنّه خطأ ، وذلك أنهم قد أجمعوا على أنّ الثلاثيّ يتعجب منه بلا زيادة ما لم يكن لونا ولا خلقة ، وذلك أن الخليل زعم في قوله : ما أحمر زيدا ، وما أشبهه أنّهم لم يتكلموا به لأنّه صار عندهم بمنزلة اليد والرّجل ، لأنّك لا تقول : ما أيداه ولا أرجله ، فخالف باب الثلاثي لهذه العلة ، فقد بان بقول الخليل الفرق بين هذين ، وشبّهت بين شيئين غير مشتبهين ، قلت : هذا الكلام فيه تطويل ، لأني إنما شبّهته بالألوان من أنهما جميعا لا يجوزان ، وليس يلزمني إذا شبهت به من جهة أن أشبه به من كل الجهات ، فأنا أقول إذا سئلت كيف يتعجب من قولنا : انطلق زيد : لا يجوز ، فقد صار «لا يجوز» في هذا كما لا يجوز «ما أحمر زيدا» ، فهل يلزمني أن أكون شبّهت اللّون بغير اللّون ، وأنا إنما شبهته به من أنّ هذا لا يجوز كما أنّ هذا لا يجوز؟ ، وأما قوله : «قد أجمعوا على أنّ الثلاثيّ يتعجب منه بلا زيادة ما لم يكن لونا أو خلقة» فاستثناؤه ما لم يكن لونا أو خلقة من أعجب الكلام ، لأنه لا يتعجب إلا


من الثلاثي أو ممّا يكون أصله الثلاثي وزيد عليه ، مثل أعطى وشبهه وأيضا فإنّه لا يعرف في الألوان فعل ثلاثي ، فكيف يستثنى ما لم يعرف في الكلام؟ وأمّا ما كان خلقة وهو ثلاثي فلم يترك التعجب منه عند الأخفش ، إلّا أن أصله أكثر من الثلاثي ، وذلك عور وحول ، والأصل عنده : اعورّ واحولّ واعوارّ واحوالّ ، فلما رأيناه ثلاثيا ولم ندر ما أصله استثنيناه من الثلاثي ، ولو كان من الثلاثي لما قيل : عور ولا حول ، ولكن يقال : عار وحال ، فتنقلب الواو ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها ، وقولهم : عور وحول يدلّ على أنّ أصله اعوارّ واحوالّ واعورّ واحولّ ، والذي نقول في هذا : إنه لم يتعجب منه وهو ثلاثي لا يعرف أصله ، وهذا القول مشهور من قول الأخفش.

قال : أما قولك : إنه استثنى اللون والخلقة من الثلاثي إنه من أعجب العجب ، فليس ذلك بعجب ، لأني إنما استثنيت ذلك من الثلاثي لأنه قد يأتي شيء بمعنى الخلقة يكون فعله ثلاثيا ، كقولك : عور الرجل ، فاستثنيت ذلك لهذه العلة.

وأما قولك : «انطلق زيد لا يجوز أن يتعجب منه» فهذا نقض لما قدمته ، وذلك أنّك ذكرت أن الفاعل يتعجب منه ، وجعلت ذلك علة التعجب منه ، وهو أنه فاعل ، وجعلت علة الامتناع من التعجب أن يكون مفعولا ، فقد لزمك أن تتعجب من زيد في قولك : انطلق زيد ، قلت : قوله : «إنما استثنيت من الثلاثي لأنّه قد يأتي شيء بمعنى الخلقة يكون فعله ثلاثيا كقولك : عور الرجل» يدلّ على أنّه لا يدري ما أصل عور ، وقد بيّنا أنّ أصله عند النحويين اعورّ واعوارّ ، وإنكاره منعنا أن نتعجب من «انطلق زيد» فهذا شيء قد أجمع النحويون على منعه إلّا بزيادة ، فما معنى إنكاره ما أجمع النحويون عليه؟

وأما قولك : إنك ذكرت أن الفاعل يتعجب منه وجعلت ذلك علة للتعجب منه وهو أنّه فاعل فنحن لم نقل : إنا تعجّبنا منه لأنّه فاعل ، وإنما قلنا : إنه لا يتعجب من المفعول وبيّنا لم ذلك ، وأمّا الفاعل فإنّه يتعجب منه في أكثر المواضع ، وإنما منع الفاعل في قولك : انطلق زيد أن يتعجب منه لأنّ الفعل قد جاوز ثلاثة أحرف ، فلا يجوز أن ينقل إلّا بزيادة ، نحو قولك : ما أكثر انطلاق زيد وما أشبهه.

قال محمد بن بدر النحوي : أعطى أبو جعفر علة قياسية في التعجب فقال : إنما معنى التعجّب أن أجعل الفاعل مفعولا ، ونحن نجعل الفاعل مفعولا ثم لا يكون تعجبا ، نحو : أقمته وأجلسته ، ونجد معنى التعجب والفاعل موجود ، كقولنا : جلّ الله وعزّ الله على معنى : ما أجلّ الله وما أعزّه ، لا على معنى الخبر بأنه صار جليلا ولا بأنه صار عزيزا ، وهكذا عظم شأنك وعلت منزلتك إذا لم ترد الخبر ، قال الله تعالى :


(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥] وقال تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٣] ، وقال ساعدة : [الكامل]

٥٠٨ ـ هجرت غضوب وحبّ من يتغضّب

[وعدت عواد دون وليك تشعب]

أي : ما أحبّها متغضبة.

وقال الشاعر : [البسيط]

٥٠٩ ـ لم يمنع النّاس منّي ما أردت ولا

أعطيتهم ما أرادوا حسن ذا أدبا

أي : ما أحسن هذا أدبا ، ومما حكاه النحويون من اللفظ ومعناه التعجب : سبحان الله ولا إله إلا الله ، ولله درّه ، ولله أنت ، وبالله ، ولله ، وأنشد سيبويه (١) : [البسيط]

٥١٠ ـ لله يبقى على الأيّام ذو حيد

بمشمخرّ به الظّيّان والآس

وقال : هذا الرجل تعجب ، ويا للماءّ تعجّب ، وأنشد : [الطويل]

٥١١ ـ كخطّاب ليلى يا لبرثن منكم

أدلّ وأمضى من سليك المقانب

وأعطى علة أخرى ماشية فقال : لا يتعجب مما لم يسم فاعله لأنّه لا فاعل فيه ، ويبطل هذه العلة قول العرب في «جنّ زيد» : «ما أجنّه» وما أعتهه وما أشبه ذلك.

وأما قوله : «أجمعوا على أن الثلاثي يتعجب منه بلا زيادة ما لم يكن لونا أو

__________________

٥٠٨ ـ الشاهد لساعدة بن جؤية في شرح أشعار الهذليين (٣ / ١٠٩٧) ، ولسان العرب (حبب) و (شعب) و (غضب) و (ولى) ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٥٩٩) ، وخزانة الأدب (٩ / ٤٢٩) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٣٨) ، ولسان العرب (عدا).

٥٠٩ ـ الشاهد لسهم بن حنظلة في الأصمعيات (ص ٥٦) ، وخزانة الأدب (٩ / ٤٣١) ، ولسان العرب (حسن) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق (ص ٣٥) ، وتذكرة النحاة (ص ٥٩٩) ، والخصائص. (٣ / ٤٠).

٥١٠ ـ الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في شرح شواهد الإيضاح (ص ٥٤٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٥٧٤) ، ولسان العرب (ظين) ، ولمالك بن خالد الخناعي في جمهرة اللغة (ص ٥٧) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٤٩٩) ، وشرح أشعار الهذليين (١ / ٤٣٩) ، وبلا نسبة في الجنى الداني (ص ٩٨) ، وجواهر الأدب (ص ٧٢) ، والدرر (٤ / ٢١٥) ، ورصف المباني (ص ١١٨).

٥١١ ـ الشاهد لقران أو (لفرار) الأسدي في الأغاني (٢٠ / ٣٥٤) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٦٠٤) ، ولسان العرب (سلك) ، ومعجم الشعراء (ص ٣٢٦) ، وللمجنون في ديوانه (ص ٦١) ، ولسان العرب (برثن) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٣٧٤) ، وشرح المفصّل (١ / ١٣١) ، والمقرّب (١ / ١٨٣).


خلقة ، فاستثناؤه ما لم يكن لونا ولا خلقة من أعجب الكلام» : «لأنه لا يتعجب إلا من الثلاثي أو ما يكون أصله الثلاثي ثم زيد عليه مثل : أعطى» وليس في قوله : «إنما يتعجب من الثلاثي» دليل على أنه أراد : لا يتعجب إلا من الثلاثة ، ألا ترى أن قائلا لو قال : إنما صلاة الظهر أربع ، لم يكن في قوله دليل على أنّ غيرها من الصّلوات لا يكون أربعا ، أو قال : إنّما في الرقة ربع العشر ، لم يكن هذا دليلا على أنّ غير الرقة لا يكون فيه ربع العشر.

قال السخاوي : لا يخفى على العلماء ميل هذا الرجل وحيفه على أبي جعفر وتخليطه فيما يتكلّم به ، ألا تراه يقول : وليس في قوله : «إنما يتعجب من الثلاثي دليل على أنه أراد لا يتعجب إلّا من الثلاثة» ظنّا منه أن هذا كلام أبي العباس ، وأخذ في الجواب عنه ، وهذا إنّما هو كلام أبي جعفر ، وأما أبو العباس فإنما قال : قد أجمعوا على أنّ الثلاثي يتعجب منه بلا زيادة ما لم يكن لونا أو خلقة ، فأنكر عليه أبو جعفر استثناءه اللّون والخلقة من الفعل الثلاثي لأنّ الألوان ليس فيها فعل ثلاثي ، ولو قال أبو العباس : إنما يتعجب من الثلاثي لانحصر التعجب في الثلاثي ، وليس هذا كقوله : إنما صلاة الظهر أربع ، إنما ذلك لمن يمنع أن تكون أقلّ من أربع أو أكثر ، وقوله : أعطى أبو جعفر علة قياسية في التعجب ، فقال : إنما معنى التعجب أن أجعل الفاعل مفعولا قال : ونحن نجعل الفاعل مفعولا ثم لا يكون تعجبا ، نحو : أقمته وأجلسته ، وهذا لا يلزمه ، لأنّه لم يقل : لا يصير الفاعل مفعولا إلا في التعجب ، إنما قال : إن قولك : ما أحسن زيدا ، أخرجت فيه الفعل الذي كان لازما فجعلته متعديا ، وكان الأصل : حسن زيد ، فصار فاعل حسن مفعول أحسن ، وما أورد عليه من الكلمات التي معناها التعجب لا يرد عليه ، لأنّه إنّما يتكلم في التعجب المبوّب له ، ألا ترى أنّ من تكلّم في باب التأكيد لا يرد عليه ما يجيء فيه معنى التأكيد من (إنّ) واللام وما أشبه هذا.

ثم قال محمد بن بدر : وقوله مثل «ما أعطى» و «وما أشبهه» ركاك في العبارة ، كما قال : لا يجوز التعجب من قولنا : انطلق زيد كما لا يجوز «ما أحمر زيدا» ، فهلّا قال : لا يجوز كما لا يجوز أن يصلّى الظهر ثلاثا ولا المغرب أربعا فإنه أظهر.

قال السخاوي : وأين هذا من ذاك؟ إنما شبه ممتنعا في التعجب بممتنع فيه ، وإنه يتعجب من القبيلين بأشدّ ونحوه.

ثم قال محمد بن بدر : على أن بعض النحويين قال : لا يجوز التعجب من أفعل إلّا على شريطة. قال : وأمّا قوله : «أيضا فلا يعرف في الألوان فعل ثلاثي» فقد


قال سيبويه : «أدم يأدم أدمة وأدم يأدم وشهب يشهب وشهب يشهب شهبة ، وقهب يقهب قهبة وكهب يكهب كهبة وصدأ يصدأ صدأة وسود يسود» ، وأنشد لنصيب : [الطويل]

٥١٢ ـ سودت فلم أملك سوادي وتحته

قميص من القوهيّ بيض بنائقه

وقال غيره : ذرئت عينه ذرأ ، والذّرأة : البياض ، وقال الراجز : [الرجز]

٥١٣ ـ وقد علتني ذرأة بادي بدي

ورثية تنهض في تشدّدي

وقال الشاعر : [الطويل]

٥١٤ ـ لقد زرقت عيناك يابن مكعبر

كما كلّ ضبّيّ من اللّؤم أزرق

وأما قوله : إنما ترك الأخفش التعجب في عور وحول لأنّ أصله اعورّ واحولّ فخلاف ما عليه أهل العلم ، لأنّهم مجمعون على أنّ الأصل الثلاثي ، وما فيه زيادة فرع ، فحول أصل لاحولّ واحوالّ ، قال سيبويه : «وأمّا الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء» فضرب واستضرب مأخوذان من الضرب ، لا أنّ ضرب من استضرب ولا استضرب من ضرب.

قال السخاوي : وهذا لا يلزم أبا جعفر لأنّه ردّ على الأخفش لا عليه ، وإنما يلام لو نقل عن الأخفش ما لم يقل ، وأيضا فإن ما ذكره عن سيبويه لا يلزم منه تخطئة الأخفش فيما ذهب إليه ، لأنه لم يقل : إن عور مأخوذ من اعورّ واعوارّ ، ولا إن حول مأخوذ من احولّ واحوالّ ، وإنما قال : إنه في معناه ، فكما لم يتعجب من ذلك لم يتعجب من هذا.

ثم قال محمد بن بدر : وأما قوله : «لو كان من الثلاثي لما قيل : حول وعور ولقيل : حال وعار بالقلب» فليس كما توهم ، وإنما صحت الواو لأنهم أرادوا بحول

__________________

٥١٢ ـ الشاهد لنصيب في ديوانه (ص ١١٠) ، وتاج العروس (سود) و (قوه) ، والأغاني (١ / ٣٣٣) ، والخصائص (١ / ٢١٦) ، والكتاب رقم (٩٣٨) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٥٧) ، ولسان العرب (نبق) و (قوه) ، وبلا نسبة في كتاب العين (٥ / ١٨٠) ، وتاج العروس (نبق).

٥١٣ ـ الرجز لأبي نخيلة في لسان العرب (ذرأ) و (نهض) و (بدا) ، والأغاني (٢٠ / ٣٨٨) ، وسمط اللآلي (ص ٤٨٠) ، والمقتضب (٤ / ٢٧) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ١٧) ، ولحميد بن ثور في تاج العروس (بدو) و (رثي) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (بدا) ، والخصائص (٢ / ٣٦٤) ، وديوان الأدب (٤ / ٩) ، وجمهرة اللغة (ص ٦٩٦).

٥١٤ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (زرق) ، وجمهرة اللغة (ص ٧٠٨) ، والمخصص (١ / ١٠٠) ، وتاج العروس (زرق).


من المعنى ما ما أرادوا باحولّ ، فأجروه مجراه لا أن أصل فعل افعلّ ولا افعالّ ، ألا ترى أنهم قالوا : احتال واعتاد واقتاد بالإعلال ، وإنما أصحوه حين أرادوا معنى ما يصح ، فقالوا : اجتوروا واعتونوا واحتوشوا ، لأنّهم أرادوا معنى تجاوروا وتعاونوا وتحاوشوا ، لا أن أحدهما أصل الآخر ، فهكذا عور وحول ، يدل على هذا أنّهم إذا أرادوا غير هذا المعنى أعلّوه فقالوا : عار زيد عين عمر وسادها ، قال : وأما قوله : «فتقلب الواو لحركتها وحركة ما قبلها» فيلزمه أن يقول في أدلو : أدلا لحركتها وحركة ما قبلها ، والوجه لحركتها وانفتاح ما قبلها ، قال : وأما قول الأخفش فإنما أراد به أنّ افعلّ وافعالّ الأصل في الاستثقال لا أنّ حول مأخوذ منهما ، وهذا قول سيبويه (١) : استغنوا عن حمر باحمرّ كما استغنوا عن فقر بافتقر ، والمستغنى به هو الفرع والمستغنى عنه هو الأصل.

قال السخاوي : قوله : إنّ الأخفش أراد أنّهما الأصل في الاستثقال ، فأيّ استثقال في عور وحول؟ وليس ما قال سيبويه في حمر واحمرّ ، ثم استدرك خطأه فقال : على أنّ افعلّ وافعالّ مطّردان في الألوان ، نحو اسودّ واسوادّ وابيضّ وابياضّ واصفرّ واصفارّ ، إلا أنّ افعلّ أكثر لأنّه الأصل في الاستثقال ، قال : وأمّا حول وعور فمن باب الأدواء لأنّهما عيبان والعيب أشبه بالأدواء ، وليس افعلّ وافعالّ في باب الأدواء كثيرا لا يكادون يقولون في اجربّ : اجرابّ ولا في اجذمّ اجذامّ ، وإنما يجرونه مجرى الداء ، نحو : جرب وضلع وشتر ، وهو أدخل في الداء منه في الألوان ، إلّا أنّهم يشبهون الشيء بالشيء إذا قاربه ، فيقولون : حول وعور وجرب كما قالوا : وجع وضمن وزمن ، ولا تكاد تجد في الألوان اسما على فعل ، فلا يقولون : حمر ولا صفر ولا شهب ، قال : فهذا يقويّ أنّ العيوب مخالفة للألوان التي لا يمتنع فيها افعلّ وافعالّ ، وافعالّ لا يمنع من الألوان لأنه مبنيّ له ، وأمّا العيوب فأقرب إلى الأدواء ، هكذا ذكر سيبويه.

قال محمد بن بدر : إنما لم يتعجبوا من «ضرب زيد» وأشباهه إلّا بالزيادة كراهة أن يلتبس ، ففرّقوا بين التعجب من فعل الفاعل والمفعول ، وذلك أنّهم فرّقوا بين فعل الفاعل وفعل المفعول في غير التعجب ، فأرادوا أن يفرّقوا بينهما أيضا في التعجب ، فلو قالوا في : «ضرب زيد» : ما أضرب زيدا لالتبس فعل الفاعل بفعل المفعول ، فأتوا بالزيادة ليصلوا إلى الفرق بينهما ، فإن قال : فقد قالت العرب في «جنّ زيد» : ما أجنّه ، وهذا يبطل علتك ، قيل له : إن قولهم : ما أجنّه محمول على المعنى ، فاستجازوا فيه ما استجازوا فيما حمل عليه ، ألا ترى أنّ «جنّ زيد فهو

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ١٤).


مجنون» داخل في حيّز الأوصاف التي لا تكون أعمالا وإنما تكون خصالا في الموصوفين بغير اختيارهم؟ مثل كرم فهو كريم ولؤم فهو لئيم ، خصال لا يفعلها الموصوف ، فهكذا جنّ زيد فهو مجنون ، إنّما هي خصلة في الموصوف لا اختيار له فيها ، فأجرى مجرى رقع فهو رقيع وبلد فهو بليد إذ كان داخلا في معناه ، والدليل على صحة هذا أنّ العرب لا تتعجب من افعلّ ، ولا يقولون : ما أحمره ولا ما أسوده ولا أفطسه ، ويتعجبون من أحمق وأرعن وألدّ وأنوك ، فيقولون : ما أحمقه وما أرعنه وما ألدّه وما أنوكه ، لأنّ أحمق بمنزلة بليد ، وألدّ بمنزلة مرس وأنوك بمنزلة جاهل ، فحملوه على المعنى ، فهكذا جنّ زيد حمل على المعنى ، لأن العرب تشبه الشيء بالشيء ، وتحمل على المعنى إذا وافقه واقترب منه ، فمن ذلك قولهم : حاكم زيد عمر برفع الاثنين جميعا لأنّ كل واحد منهما فاعل ، قال أوس : [الطويل]

٥١٥ ـ تواهق رجلاها يداه ورأسه

لها قتب خلف الحقيبة رادف

وقال القطاميّ : [الوافر]

٥١٦ ـ فكرّت تبتغيه فوافقته

على دمه ومصرعه السّباعا

لأنّ السّباع قد دخلت في المصادفة ، وقال : [الخفيف]

٥١٧ ـ لن تراها ولو تأمّلت إلّا

ولها في مفارق الرّأس طيبا

لأنّ الطّيب قد دخل في الرؤية.

قال السخاوي : إنما قالوا : ما أجنّه لأن جنّ لا فاعل له ، فهو في المعنى تعجّب من الفاعل ، لأنّه لا يقال : جنّه إنما يقال : أجنّه.

قال محمد بن بدر : فإن قال : فقد قالوا : ما أسرّني بكذا وكذا ، وهذا دليل على أنّه يجوز أن يتعجّب من «ضرب زيد» ، قيل له : ليس في هذا دليل يدل على جواز التعجب من ضرب زيد ، لأنه يجوز أن يكون «ما أسرّني» تعجبا من سررت ، ويكون محمولا على ما قدّمنا ذكره في «جنّ زيد» ، فيكون بمنزلة «برّ حجّك فهو مبرور» ، قال : ويجوز أن يكون «ما أسرّني بكذا» تعجبا من سارّ كما يقال : زيد سارّ أي :

__________________

٥١٥ ـ الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه (ص ٧٣) ، والكتاب (٣٤٥١) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٤٨٣) ، وسمط اللآلي (ص ٧٠٠) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٢٧٣) ، ولسان العرب (وهق) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٤٢٥) ، والمقتضب (٣ / ٢٨٥).

٥١٦ ـ الشاهد للقطامي في ديوانه (ص ٤١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣٣٠) ، والمحتسب (١ / ٢١٠) ، ونوادر أبي زيد (ص ٢٠٤) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢٦).

٥١٧ ـ الشاهد لعبيد الله بن قيس الرقيات في ملحق ديوانه (ص ١٧٦) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٤٢٩) ، وشرح المفصّل (١ / ١٢٥) ، والمقتضب (٣ / ٢٨٤).


حسن الحال في نفسه وأهله وماله ، وفرس سارّ ، أي : حسن الحال في جسمه ولحمه ، وضيعة سارّة بمعنى آهلة عامرة ، فيكون سارّ بمعنى قولك : ذو سرور ، ثم يتعجب منه على هذا ، كما قالوا : عيشه راضية أي : ذات رضى ، ورجل طاعم كاس أي : ذو طعام وكسوة ، فيكون «ما أسرني» جاريا على ما قدّمنا غير خارج عمّا رتبنا.

المسألة الثالثة : قال أبو جعفر : كيف تأمر من قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) [مريم : ٧٩] ومن قوله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة : ٢٥٥]؟ فقال أبو العباس : هاتان مسألتان ، أمّا «إدّا» فلا يؤمر منه ، لأنّه اسم موضوع للدّاهية والأمر العظيم ، قال أبو جعفر : فقد قالت العرب : أدّ يؤدّ فنطقت بالفعل ، ثم صرّفه النحويون فقالوا في الأمر منه : أدّ يا هذا ، بالإدغام والضم والكسر وبالإظهار ، نحو : اودد مثل : اردد ، قال أبو العباس : التصريف فيها دعوى تحتاج إلى برهان ، قال أبو جعفر : لا يحتاج إلى ذلك وقد حكوا لها نظائر من المضاعف ، منها قول أحمد بن يحيى : «تقول : ازرر عليك قميصك وزرّه وزرّه وزرّه ، مثل مدّه ومدّه ومدّه» ، قال أبو العباس : هذه الأشياء لا تصرّف قياسا ، ولا يشبّه بعضها ببعض إلّا بسماع من العرب ، إذ كان هذا لجاز أن نقول : وذر يذر وودع يدع قياسا على قام يقوم وضرب يضرب ، وإنما نصرّف منه ما صرّفت العرب ، ونترك منه ما لم تصرفه العرب اقتداء بها ، قال أبو جعفر : ليس هذا قول أحد من النحويين علمناه ، وذلك أنّه لا يمتنع القياس في شيء من المضاعف على ردّ يردّ ، فنقلو : سنّ يسنّ وأدّ يؤدّ ، كما قلنا ردّ يردّ ، ولو كنا لا ننطق إلا بما نطقت به العرب ولا نقيس على كلامها لبطل أكثر الكلام ، ولا يجوز قياس وذر يذر وودع يدع على المضاعف لأنّه معتل قلّ استعمالهم الماضي فيه لاستثقالهم الواو حتى تبدل ، فيقولون في وحد : احد ، فلمّا استثقلوا الواو وكان «ترك» في معنى ودع ووذر استغنوا عنه بترك وإن كان بعض العرب قد قال : ودع ووذر على القياس فلا معنى لقوله : لجاز أن تقول وذر وودع لأنه قد قيل ، قال أبو العباس : إنّا لم نشبه مضاعفا بمضاعف ، وإنّما أردنا أن نريك أنّ العرب قد تصرّف شيئا وتمنعه في نظيره ، وأمّا قولك : «إن هذا معتل» فليس بالاعتلال منع من أن يبنى له ماض ، مثل وزن يزن ، قال أبو جعفر : هذا الذي ألزمتنيه من أنّي قلت : إنّه لم يبن منه ماض لأنّه معتل غير لازم ، وكلامي يبين خلاف هذا لأني قلت : لم يبن منه ماض لعلة ، فكيف ألزم أنّي اعتللت بأنه لم يقع منه ماض لأنه معتل؟ قال أبو جعفر : ولم يجب عن المسألة الأخرى وهي : «ولا يؤده» ، والجواب أن يقول : أد يا هذا نظير قلّ لأنّ آد يؤد مثل قال يقول.

قال محمد بن بدر : قول أبي العباس : «لا يجوز أن يؤمر من قوله تعالى :


(إدا) لأن العرب لم تبن منه فعلا» الذي عليه عامة أهل العلم ، لأنّ الإدّ وصف غير جار على فعل ، وإنما هو موضوع في كلام العرب للأمر العظيم ، فحكمه حكم الأسماء التي جاءت غير جارية على فعل ، وإذا كان هكذا لم يجز أن يبنى منه فعل من حيث إنّ الأسماء ليست مأخوذة من الأفعال وإنما الأفعال تصدر عنها ، ولو كانت الأسماء كلها مشتقة لارتفع أن يكون في الكلام اسم البتة ، والدليل على هذا أنّه ليس أحد من العرب ولا من العلماء يجيز أن يأمر من صاع وفرس ولا من جعفر وحبرج (١) وضفدع ، ولا من الأوصاف التي ليست بجارية على فعل ، نحو خود وبكر ولصّ وسلهب وعرطل وجعشم (٢) لأنّ هذه الأسماء غير جارية على فعلها ، يدل على أنّ من الأوصاف ما لا يجوز أن يبنى له فعل متصرف في الأمر والدعاء والخبر وغير ذلك الأسماء المبنية للمبالغة ، نحو : أكال وأكول ، لا يجوز أن يصرّف منها فعل لأنّ هذه الأبنية وإن كانت تعمل عمل الأفعال فهي غير جارية على الفعل ، وإذا كان ما يعمل عمل الفعل لا يجوز أن يصرّف له فعل فما لا يعمل عمل الفعل أولى أن لا يصرّف له فعل ، هذا قول أهل التحصيل من أهل صناعة النحو ، ولا يقال : أدّ يؤدّ فهو إدّ ، إنما يقال : أدّ يؤدّ أدّا فهو آدّ ، وليس الإدّ هو الآدّ ، لأن الآدّ جار على الفعل ، والإدّ وصف غير جار على فعل ، وقول أبي جعفر : «قد صرّفه النحويون» تقوّل منه ، والذين يقولون : أدّ يؤدّ فهو آدّ إذا ألقاه في الإدّ فهو بمنزلة لحمه يلحمه فهو لاحم إذا أطعمه اللحم ، فلو قيل لنا : كيف تأمرون من اللحم لقلنا : لا يجوز ، لأنّ اللحم اسم غير مشتق من فعل ، ولا هو وصف جار على فعل ، ولا تكلّم من لفظه بفعل ، فيكون هو اسما لذلك الفعل ، وكذلك شحمه وزبده إذا أطعمه الشحم والزّبد ، وقولك : أدّه بمنزلة قولك : زبده ، وقولك : يؤدّه بمنزلة قولك : يزبده ، وقولك آد كقولك : زابد ، والإدّ الذي هو الأمر العظيم بمنزلة الزّبد الذي هو اللبن ، فكما لا يجوز أن تأمر من الزّبد كذلك لا يجوز أن تأمر من الإدّ ، ولا تصرّف له فعلا يكون هو اسما له ، هذا هو الذي عليه أهل العلم باللغة ، ومعنى قولهم : كيف يؤمر من الأسماء إنما هو مجاز ، لأنّ الأسماء لا يؤمر بها وإنّما يؤمر بالفعل إذا كان غير واقع ، فإذا قال قائل : كيف يؤمر من ضارب أو من طويل فإنما معناه : كيف يؤمر من الفعل الذي هو جار عليه أو اسم له ، فتقول : اضرب وطل ، لأنّهم يقولون : ضرب وطال ، فإن قيل لنا : كيف يؤمر من بكر وخود؟ قلنا : لا يجوز لأنّه ليس اسما للفعل ولا جار على فعل ، فسبيله الأسماء

__________________

(١) الحبرج : ذكر الحبارى.

(٢) الخود : الفتاة الحسنة الخلق ، والسلهب : الطويل ، والعرطل : الفاحش الطويل ، والجعشم : الصغير البدن القليل اللحم.


التي هي موضوعة غير مشتقة ، وكذلك قتال وأكال وضروب لا أفعال لها ، وهكذا سلهب وجعشم وعكروت وما أشبهه ، وهو كثير ، فهذا حقيقة ما ذهب إليه خصمك ، ولا حجة لك فيما حكيته عن ثعلب لأنّا لا نخالفك فيه ، وحكايتك عن النحويين أنّه لا يمتنع شيء من الأسماء من أن نقيسه على ردّ يردّ كذب عليهم ، وقولك : «لو كنا لا ننطق إلّا بما نطقت به العرب ولا نقيس على كلامها لبطل أكثر الكلام» يدل على جهل باللغة لأن من الكلام ما لا يقاس ومنه ما يقاس ، ولو قيل : كيف يؤمر بإدّ أو بكر أو صارورة أو قتال أو ما أشبه ذلك مما ليس بجار على فعل لقلنا : العرب لا تأمر من هذه الأوصاف بلفظ الصفة إلّا أن يكون له فعل منطوق به ، نحو : طل واقصر واسهل واكرم ، لأنهم يقولون : طال وقصر وسهل وكرم ، ولا يأمرون من بكر ولا خود ولا لص ولا إدّ وما أشبهه ، لأنّها لا فعل لها ، فإن آثرنا أن نأمر بشيء منها ألزمناه كان وجعلناه خبرا لها ، فتقول : كن إدّا أو كوني خودا ، وذلك أنّ معنى اضرب كن ضاربا ، فهكذا ينبغي إذا أمرت بهذه الأوصاف ، وكذلك الأسماء يؤمر بها على هذا ، فيقال : كن عليه سيفا وكن له حجرا وكن فيها أسدا ، قال الله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) [الإسراء : ٥٠] في الأسماء ، وقال عزّ وجلّ : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥] وقال عزّ وجلّ : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران : ٧٩] في الأوصاف ، وقال الشاعر : [الطويل]

٥١٨ ـ أحار بن بدر قد وليت ولاية

فكن جرذا فيها تخون وتسرق

فإن قال : فكيف يؤمر من طريق ما يتكلم عليه أهل اللغة من التصريف من الأبنية قياسا لم يتكلّم به؟ قيل له : إذا تكلّفنا ذلك فإنّ إدّا ليس بعمل ولا داء ولا علة ولا لون ولا خلقة ، وإنما هو خصلة ، وأفعال الخصال لا تكون إلّا على فعل يفعل ، فيكون الفعل من إدّ كالفعل من حلّ فيكون إدّ بكسر الهمزة كقولك : حلّ ، فإن شئت قلت : إدّ بكسر الهمزة والدال ، كقولك حلّ ، وإن شئت قلت : إيدد كما تقول : إحلل وقولك : إدّ كقولك : حلّ ، هذا هو القياس الذي يعمل عليه ، وبالله الثقة.

المسألة الرابعة : سأل أبو العباس فقال : كيف تقول : مررت برجل أسهل خدّ غلام أشدّ سواد طرّة؟ فقال أبو جعفر : في هذه المسألة وجوه أجودها أن تزيد فيها

__________________

٥١٨ ـ الشاهد لأنس بن زنيم في ديوانه (ص ١١٤) ، ولسان العرب (سرق) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢٩٦) ، وله أو لأنس بن أبي أنيس في الدرر (٣ / ٥٤) ، ولأبي أنيس أو لابن أبي إياس الديلي أو لأبي الأسود الدؤلي في أمالي المرتضى (١ / ٣٨٤) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (٢ / ٤٦٩) ، وهمع الهوامع (١ / ١٨٣).


ألفا ولاما ، فتقول : مررت برجل أسهل خدّ الغلام أشدّ سواد الطّرّة ، وإنّما قلنا : إن هذا أجود الوجوه لأنّ سيبويه قال (١) : «اعلم أنّ كينونة الألف واللام في الاسم الآخر أكثر وأحسن من أن لا يكون فيه الألف واللام ، لأنّ الأوّل في الألف واللام وغيرهما هاهنا على حالة واحدة» ، يعني سيبويه أنّ الأول لا يتعرّف بإدخالك الألف واللام في الثاني ، ألا ترى أنّ قولك : مررت برجل أسهل خدّ الغلام أشدّ سواد الطّرّة ، أنّه لم يتعرف أسهل ولا أشد ، فاختير دخول الألف واللام ليكونا بدلا من الهاء؟ وإن شئت جئت بالهاء فقلت : مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواد طرّته.

قال أبو العباس : في هذه الأجوبة ما قد أحلت به على قول النحويين أجمعين ، وليس فيها جواب عمّا سألناك عنه ، وذلك أنّا سألناك فيها بلا ألف ولام ولا هاء ، فزدت فيها ما ليس فيها ، وكان ينبغي أن تردّ المسألة فتقول : هي خطأ على هيئتها إذا لم تدخل فيها الألف واللام أو الهاء ، وتبين من أيّ وجه كانت خطأ أو تجيب فيها إذا كانت صوابا على هيئتها كما ألقيت.

قال أبو جعفر : أمّا قولي : «مررت برجل أسهل خدّ الغلام أشدّ سواد الطّرّة» فهو بنزلة قولك : «مررت برجل أحمر خدّ الغلام» وما أشبهه ، وهو كثير في كلام العرب ، أنشد سيبويه : [البسيط]

٥١٩ ـ أهوى لها أسفع الخدّين مطّرق

ريش القوادم لم تنصب له الشّبك

فقوله : أسفع الخدّين بمنزلة أسهل خدّ الغلام ، وأمّا قولي : مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواد طرّته فأسهل مرفوع بالابتداء وخدّ غلامه خبره ، والجملة فيه في موضع جرّ ، وكذا الجملة الثانية ، كما تقول : مررت برجل أسود غلامه أحمر أبوه ، وهذا أشهر من أن يحتاج إلى أن يستشهد له ، ونظيره قوله عزّ وجلّ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) [الجاثية : ٢١] ، على قراءة من قرأ بالرفع ، وهو أحسن ، وكذلك الرفع في المسألة أحسن ، وكذا كل ما لم يكن جاريا على الفعل ، فهذا حكمه ، وأما قولي : مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواد طرّته ، فعلى أن أجعل أسهل نعتا لرجل وأجعله بمعنى يسهل فأرفع خدّ بأسهل ، وكذلك الجملة الثانية ، كما تقول : مررت برجل أحمر أبوه ، والرفع أجود ، وإنما جاز أن تجريه على الأول لأنّه بمعنى ما هو جار

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٥٦).

٥١٩ ـ الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه (ص ١٧٢) ، والكتاب (١ / ٢٥٧) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٧٧) ، ولسان العرب (هوا).


على الفعل ، ونظيره القراءة : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ،) وأمّا قولك : إني زدت في المسألة ألفا ولاما وهاء فقد بيّنّا لم زدنا الألف واللام على مذهب سيبويه ، وقد ذكرناه.

قال محمد بن بدر : ذكر أنّ سيبويه قال : «وكينونة الألف واللام في الاسم الآخر أكثر وأحسن» ثم جعله في غير موضعه ، وإنما الذي ينبغي أن لو جعلها في موضعها لو كان من أهل العلم لعرف الموضع الذي يجعل الألف واللام في الآخر منه دون ما لا تجعلون فيه ، قال سيبويه (١) : «وتقول فيما لا يقع إلّا منوّنا عاملا في نكرة وإنّما وقع منونا لأنّه فصل فيه بين العامل والمعمول ، فالفصل لازم له أبدا مظهرا أو مضمرا ، وذلك قولك : هو خير منك أبا وأحسن منك وجها وإن شئت قلت : هو خير عملا وأنت تريد منك» ، فالفصل الذي قال هو لازم أبدا في والإظهار هو من ، وأكّده بأن قال : «ولا يعمل إلّا في نكرة لأنّه لم يقو قوة الصفة المشبهة» ، هذا نظير كلامه ، وأين حكايتك عنه : «إن كينونة الألف في الاسم الآخر أكثر وأحسن من أن لا يكونا فيه» وقد قال : «إنه لا يعمل إلا في نكرة» ، والنكرة سواء كانت مفردة أو مضافة ، لأنّا نقول : هذه عشرون مثقالا وعشرون مثقال مسك ، فلا يتغير عن أن يكون تمييزا؟ فقولك : أسهل كقولك : أحسن ، وقولك : وجها كقولك : خدّ غلام ، كما كان «عشرون مثقالا» و «مثقال مسك» سواء ، والصفة المشبهة بالفاعل هي الأوصاف التي تكون خصالا أو ألوانا أو خلقا في الموصوفين ولا تكون أعمالا لهم ، نحو : كريم وكريمة ولئيم ولئيمة وأحمر وحمراء وأعرج وعرجاء ، والفاعل الذي هو أشبه به نحو : ضارب وقاتل ومكرم ومستمع ، والأول غير عمل يعمله الموصوف ولا يقع باختياره ، والثاني عمل يعمله الموصوف ويقع باختياره ، والشبه الذي بينهما في اللفظ أن تقول : مررت برجل حسن الوجه ، فيكون كقولك : مررت برجل ضارب زيد ، ومررت برجل حسن الوجه ، فيكون كقولك : مررت برجل ضارب زيدا ، وكذلك : مررت بامرأة حسن الوجه ، كقولك : مررت بامرأة ضاربة زيد ، وحسنة الوجه ، كقولك : ضاربة زيدا ، وكذلك : مررت برجل أحمر الوجه وبامرأة حمراء الوجه ، وما أشبهه ، وكذلك : مررت برجل حسن وجهه ، كقولك : مررت برجل قائم أبوه ، فهذه الصفة التي قال سيبويه : «وكينونة الألف واللام في الثاني أحسن وأجود» إلّا أنّ هذه الصفة لا تعمل إلّا فيما كان منها أو من سببها ، واسم الفاعل يعمل فيما كان من سببه ومن غيره ، فأمّا ما كان من الأوصاف على وزن أفعل يراد به التفضيل ويلزمه الفصل على ما شرط سيبويه فإنه لا يعمل إلّا في نكرة ، وينصبها على التمييز ، نحو : هذا أحسن

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٦٥).


منك وجها وأكثر منك مالا ، وإن شئت قدمت فقلت : «أحسن وجها منك» وإن شئت حذفت الفصل وأنت تريده كما قال ، فتقول : «أنت خير أبا» تريد منه ، قال الله عزّ وجلّ : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) [مريم : ٧٤] يريد : منهم ، وإن شئت حذفت المعمول فيه وجئت بالفصل ، فتقول : زيد أفضل بن عمر ، ولا يجز أن تحذفهما جميعا ، إلّا أن يكون ذلك مشهورا في الخلق ، كقولهم : الله أكبر ، لأنّه قد علم أنّ الأمر كذلك ، فكأنّه قد نطق بالفصل ، أو يكون شائعا في أمته ، نحو قول الفرزدق : [الكامل]

٥٢٠ ـ إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

وأما قول من يقول : إنّ هذا قد يكون بمعنى فاعل أو غيره فليس عندنا بشيء ، لأنّه لا نجد عليه دليلا ، فإذا أردت إضافة أفعل هذا الذي للتفضيل ومعنى التعجب لم تضفه إلّا إلى جمع معرف بالألف واللام ويكون جنسا للأول ويكون الأول بعضا للثاني ، قولك : زيد أفضل الرجال ، ولا تكون الإضافة في هذه الأوصاف التي في هذا المعنى إلّا على هذا ، ألا ترى أنّك لا تقول : زيد أفضل الخيل ولا فرسك أفضل الناس ، لأنّ الناس ليسوا جنسا للفرس ولا الفرس بعضا لهم؟ وهكذا جميع هذا ، وقد يجوز أن تحذف الألف واللام وبناء الجمع من الجنس استخفافا ، فتقول : زيد أفضل رجل وأنت تريد : أفضل الرجال : كما قلت : هذه مائة درهم وأنت تريد : من الدراهم ، وكل رجل تريد الرجال ، ولا يشبه أفعل الذي يكون بلا فصل أفعل لذي يلزمه الفصل ، ولا هو منه في شيء ، لأنّ الذي لا يلزمه الفصل يثنّى ويجمع ويؤنّث ويذكّر والذي يلزمه الفصل لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث ، تقول : زيد أفضل من عمر ، والزيدان أفضل من عمر ، والزيدون أفضل من عمر وهند أفضل من دعد ، وما أشبه ذلك ، ولأفعل الذي يلزمه الفصل وجوه كثيرة تدل على أنّه ليس من أفعل الذي لا يلزمه الفصل بشيء وليس بها خفاء على من اعتبرها أدنى اعتبار ، والذي يدل على تمويهه أنّه قال : ألا ترى أنّ قولهم : مررت برجل أسهل خدّ الغلام أشدّ سواد «الطّرّة» أنّه لم يتعرف «أسهل» ولا «أشدّ» فيحتاج إلى أن يعلم من قاله ، فإنه كذب لم يقله أحد ، وقوله : أمّا قولي : مررت برجل أسهل خد الغلام وما أشبهه وهو كثير في كلام

__________________

٥٢٠ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (٢ / ١٥٥) ، وخزانة الأدب (٦ / ٥٣٩) ، وشرح المفصّل (٦ / ٩٧) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ٢٥٧) ، ولسان العرب (كبر) و (عزز) ، وتاج العروس (عزز) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٤٢) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (٢ / ٣٨٨) ، وشرح ابن عقيل (ص ٤٦٧).


العرب ، وأنشد سيبويه البيت الذي ذكره ، وإن «أسفع الخدين» بمنزلة أسهل خد الغلام ، فمحال كله.

أما قوله : هو مثل «مررت برجل أحمر خدّ الغلام» وهو كثير ، فكذب ، وكان ينبغي أن يذكر من ذلك ولو حرفا واحدا ، «وأسهل خد الغلام» لا يقوله أحد لا من العرب ولا من العجم لما تقدّم من الفرق بين أفعل الذي لا يلزمه الفصل والذي يلزمه ، وليس أسفع مثل أسهل ، لأنّ أسفع إنّما الصفة واقعة فيه على الثاني وهو الخدان ، والسفعة لهما دون الأول ، وأفضل الناس الصفة هي للأول دون الثاني ، والفصل له دون المضاف إليه ، فإذا قلت : أسهل الخد فإنّما تعني موضعا من الخد ، كما تقول : الصدر أجود الدّرّاج والسّرّة أطيب الحوت ووجه أخيك أحسنه ، ولو أردت بأسفع ما أردت بأسهل لم يجز ، لأنّك تقول : مررت برجل أسهل خدّا من زيد ، ولا تقول : مررت برجل أسفع خدّا من زيد ، وإنّ «أسهل خدّ الغلام» معرفة وقد وصفت به النكرة ، ويدل على أنّ أفعل الذي يلزمه الفصل يكون معرفة إذا أضفته إلى الألف واللام أنك لا تدخل عليه الألف واللام ، فتقول : «هذا الأفضل الناس» ولا «هذا الأسهل خدّ الغلام» وأنت تقول : هذا الأحمر الوجه والأسفع الخدّين ، وأمّا البيت فإنّ سيبويه قال في الصفة المشبهة : «إنّها تنوّن فتنصب ويحذف التنوين فتضيف» في الصفة المشبهة : «إنّها تنوّن فتنصب ويحذف التنوين فتضيف» ، ثم قال : «ومما جاء منونا قول زهير : أهوى لها ...» فذكر البيت على أنّ الشاهد مطّرق لا غير ، كذا قال أهل العلم ، قوله : «وأما قولي : مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواء طرّته» فأسهل مرفوع بالابتداء ، وخدّ غلامه خبره ، وكذلك الجملة الثانية» ، يدخله الخطأ من وجوه :

أحدها : أنّه رفع أسهل بالابتداء ، وهو نكرة ، و «خدّ غلامه» الخبر ، وهو معرفة ، وأنّ «أسهل» للمفاضلة لا يجوز أن يحذف منه الفصل والمعمول فيه معا ولا دليل على ذلك ، وأنّه جعل الجملتين وصفا للرجل ، والجمل إذا كانت أوصافا أو أخبارا أو أحوالا يعطف بعضها على بعض ، فتقول : مررت برجل قام أبوه وقعد ، ولا تقول : قام أبوه قعد ، وأنه إن جعل الهاء في طرّته للرجل أحال ، إنّما المراد أنّ الغلام هو الأسهل الخدّ الأسود الطّرّة ليس الرجل ، وإن جعلها للغلام أحال لأنّ الإعراب يصير لحنا ، ولا يجوز أن يكون أشدّ مجرورا ، ولكن يكون منصوبا ، كما تقول : هذا رجل أسهل خدّ غلام أشدّ سواد طرّة ، فتجعل أشدّ منصوبا على الحال ، قالوا : مررت برجل مقيمة أمّه منطلقا أبوه ، لا غير ، وقوله : هذا أشهر من أن يستشهد له كذب ، قوله : «أمّا قولي :


مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواد طرّته ، فعلى أن أجعل أسهل نعتا لرجل ، بمنزلة سهل ، فأرفع خدّ بأسهل ، وكذا الجملة الثانية» قد أحال فيه ، لأنّه لم يأت لأسهل ولا لأشدّ بالفصل ولا بالمعمول فيه ورفع به الظاهر ، وإنّما سبيله أن يرفع به المضمر لأنّ هذا الوصف الذي للمفاضلة لا يرفع إلّا المضمر لا غير ، ومثّلوه بقولهم : «ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عينه» (١) ، و «ما من أيّام أحبّ إلى الله فيها الصّوم منه في عشر ذي الحجة» (٢) والكلام على الهاء هاهنا كالكلام عليها قبل.

المسألة الخامسة : قال أبو جعفر : كيف تقول : إن سارّا سارّه حديثك كلامك؟ قال أبو العباس : تقديره هذه المسألة : إنّ حديثك سارّ سارّه كلامك ، قال أبو جعفر : هذا التقدير خطأ بإجماع النحويين ، لأنهم قد أجمعوا أنه لا يفرّق بين «إنّ» واسمها إلّا بالظرف أو ما قام مقامه ، فإن قال قائل : إني أقدّم حديثك وأجعله يلي (إنّ) ، قلت : هذا فرار من المسألة ومجيء بمسألة أخرى ، وأيضا فإنّه لم يقدر في جواب تقدير المسألة فيفهم ما بناه عليه من الجواب ، قال : أمّا قوله : إنّ هذا التقدير خطأ فعلى خلاف ما ذكر ، إذ كنّا لم نفرّق بين إنّ وبين اسمها في حال التقدير ، وإنما كان تفريقنا بينهما في حال الإلقاء ، والتقدير صواب ، وأمّا قوله : إنّ هذا التقدير أيضا خطأ فقد أخطأ ، وقد كان يجب أن يبيّن من أيّ وجه كان خطأ ، لأنّ الفائدة في الحجّة لا في الدعوى ، قال : قد بيّنّاه بقولنا : إنّه لا يفرق بين إن وبين اسمها إلا بالظرف أو ما أشبهه.

وجواب هذه المسألة : إنّ سارّا سارّه حديثك كلامك ، والتقدير : إنّ قولا سارّا رجلا سارّه حديثك كلامك ، فسارّا منصوب لأنّه نعت لقول وقول اسم إنّ ، وقولك سارّه نعت لرجل ورجل منصوب بوقوع سار عليه ، وحديثك مرفوع بقولك سارّه وكلامك خبر إنّ.

قال محمد بن بدر : هذا نص ما ذكرته عن خصمك وارتضيته عن قولك : وليس فيما عبت عليه شيء تنكره العلماء ، ولا يعدل عنه الفهماء.

المسألة السادسة : ثم سأل أبو العباس فقال : كيف تقول : «هذه ساعة أنا فرح» بغير تنوين؟ فقال أبو جعفر : أقول : هذه ساعة أنا فرح ، فتكون هذه في موضع رفع بالابتداء ، وقولك ساعة خبره و «أنا فرح» مبتدأ أو خبر في موضع جر ، ويجوز أن

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٢٩).

(٢) أخرجه أحمد في مسنده رقم (١٩٦٨) ، و (٣١٣٩).


تقول : هذه ساعة أنا فرح ، على كلام قد جرى ، كأنّك قلت : هذه القضية ساعة أنا فرح ، تزيد : إن هذا الأمر ساعة أنا فرح ، قال الله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] الفعل والفاعل بمنزلة المبتدأ وخبره عند أهل العربية.

قال أبو العباس : سيبويه وغيره يفسدون هذا الجواب ويحيلونه ، وذلك أنّهم لا يضيفون إلى الابتداء والخبر والفعل والفاعل إلّا ظرفا في معنى المضيّ ، كقولك : جئتك يوم زيد أمير ، وجئتك يوم يقوم زيد ، وذلك أنّه إذا كان ماضيا كان بمعنى (إذ) ، كقولك : جئتك إذ زيد أمير ، وجئتك إذ يقوم زيد ، فإذا كان في معنى الاستقبال لم يضف إلّا إلى الفعل ، ولا تجوز إضافته إلى المبتدأ أو الخبر ، لأنه يكون حينئذ بمعنى (إذا) ، كما تقول : أنا آتيك يوم يقوم زيد ، مثل أنا آتيك إذا يقوم زيد ، لأنّ (إذا) في معنى الجزاء ، وإنما تضيف الظرف إذا كان في معناها إلى الفعل ، ولا تضيفه إلى الابتداء والخبر ، لأنّ حروف الجزاء لا تقع على الابتداء والخبر ، وهذه المسألة مسطورة لسيبويه ، وهذا الاعتلال اعتلاله ، وهي منه مأخوذة (١).

قال أبو جعفر : جوابنا عن المسألة على معنى المضي ، والدليل عليه قولنا على كلام قد جرى وقولنا : كأنّك قلت هذه القضية ساعة أنا فرح.

المسائل العشر المتبعات إلى الحشر

قال السخاوي في (سفر السعادة) : وهذه عشر مسائل سمّاها أبو نزار الملقّب بملك النحاة : المسائل العشر المتبعات إلى الحشر ، وتحدّى بها.

المسألة الأولى : سأل عن قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] ، فقال : إنّ «أنّ» الأولى لم يأت لها خبر ، وسأل عن العامل في إذا ثم قال : إذا بمعنى الوقت ، وهو يضاف إلى الجمل على تأويل المصدر ، فإذا قلت : تقديره : مخرجون وقت موتكم كان محالا لأنّ الإخراج وقت الموت لا يتصوّر لأنّه جمع بين ضدّين ، ثم أجاب هو عمّا سأل فقال : والجواب : أمّا الأول فنقول : إنّ العرب قد حذفت خبر أنّ كثيرا في شعرها وكلامها ، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى ، لا سيّما إذا دلّ على الخبر مثله ، وهاهنا خبر الثانية دلّ على خبر الأولى ، ونوي عاملا في إذا ، والتقدير : أيعدكم أنكم مخرجون بعد وقت مماتكم ، إلّا أنّ «بعد وقت» حذفت وأريدت ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف : ٣٩] ، و «ينفعكم»

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ١١٩).


لا يعمل في ظرفين مختلفين أحدهما : حال ، والآخر : ماض ، فذلك محال ، ولكن المعنى : ولن ينفعكم اليوم بعد إذ ظلمتم وكذلك يضارع هذا قوله تعالى : «إنّ مع العسر يسرا» والعسر ضدّ اليسر ، والضدان لا يجتمعان ، ولكنّ الأصل : إنّ مع انقضاء العسر يسرا ، إلّا أنّ المضاف حذف ، وأمّا فائدة تكرير أنّ فالعرب تكرر الشيء في الاستفهام استبعادا ، كما يقول الرجل لمخاطبه وهو يستبعد أن يجيء منه الجهاد : أنت تجاهد؟ أأنت تجاهد؟ فكذا هاهنا ، قالوا : أيعدكم أنّكم مخرجون أنّكم مخرجون استبعادا.

فقيل له : أمّا سؤالك الأول عن خبر أنّ وكونه لم يأت فهو سؤال من قطع بما حكاه ، ولم يعدّ وجها سواه ، وهذا قول من لم يتقدّم له بهذا العلم فضل دراية ، ولا وقف على ما سطره فيه أولو النقل والرواية ، إذ كان معظم النحويين قد أجمعوا على أنّ خبر أنّ في هذه المسألة ثابت غير محذوف ، فلو قلت : يسأل عن خبر أنّ لم حذف في هذه الآية على قول بعض النحويين لأتيت بعذر مبين وللنحويين في هذه الآية أربعة أقوال :

الأول : منها : قول المبرد ومن تابعه وهو أن يجعل موضع (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) رفعا بالابتداء «وإذا» ظرف زمان في موضع خبره ، والجملة في موضع خبر أنّ ، فيصير التقدير :

أيعدكم أنّكم إذا متم إخراجكم ، كما تقول : أيعدكم أنّكم يوم الجمعة إخراجكم ، فيكون إخراجكم مرفوعا بالابتداء ويوم الجمعة في موضع خبر أنّ الأول ، وهذا مذهب بيّن ظاهر لا يحتاج فيه إلى خبر محذوف.

الثاني : قول الجرمي ، أن تجعل مخرجون خبر أنّ الأولى ، وتكون الثانية كرّرت توكيدا لتراخي الكلام على حد قوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ، فكرر «رأيتهم» توكيدا لتراخي الكلام ، ويكون انتصاب ساجدين ب «رأيت» الأولى ، كأنّه قال : رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين ، ومثل قوله سبحانه : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] ، فيكون «تحسبنّهم» توكيدا لتراخي الكلام ، ومن ذلك قوله : في النداء (١) : [البسيط]

يا تيم تيم عديّ [لا أبالكم

لا يوقعنكم في سوءة عمر]

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٤٦).


الثالث : قول أبي الحسن الأخفش ، أو تجعل «أنكم» في موضع رفع بإذا على أن يكون فاعلا به ، على حدّ قياس مذهبه في الرفع بالظرف في نحو قولك : يوم الجمعة الخروج ، فالخروج عنده مرتفع بالظرف ، كأنه قال : يستقرّ الخروج يوم الجمعة ، ومذهب سيبويه وأصحابه أنّ الخروج مرفوع بالابتداء لا غير.

الرابع : قول سيبويه (١) وهو أن تجعل : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] بدلا من (أنّ) الأولى على حدّ قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) [الجاثية : ٢٧] ، فقوله : يومئذ بدل من قوله : يوم تقوم الساعة ، ويحتاج في هذا القول إلى حذف شيء يتمّ به الكلام ، لأنّه لا يصحّ أن يبدل من أنّ إلا بعد تمامها وتكملتها من اسمها وخبرها ، وقد وجّه أبو علي قول سيبويه في هذه الآية على وجهين :

أحدهما : أن يكون قد حذف مضافا من أنّ الأولى ، تقديره : أيعدكم أنّ إخراجكم إذا متم ، فيصحّ حينئذ أن يبدل (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من (أنّ) الأولى لأنّها قد تمّت ، وإنّما يحتاج إلى حذف هذا المضاف من جهة أنّ «إذا» ظرف زمان ، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث ، فإذا حملت قوله : (أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) على تأويل : أنّ إخراجكم إذا متم ، تمّ الكلام ، وصارت «إذا» خبرا لأنّ على حدّ قولهم : «الليلة الهلال» يريدون : الليلة حدوث الهلال ، أو ظهوره ، ولو لا ذلك لم يجز ، لأنّ الهلال جثّة ، والليلة ظرف زمان ، ومثل الآية في حذف المضاف قوله عزّ وجلّ : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) [الشعراء : ٧٢] ، لأنّه لا بد من تقدير مضاف محذوف تقديره : هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون ، فحذف الدعاء وهو يريده.

والثاني : من توجيه أبي علي لقول سيبويه : أن يكون خبر أنّ محذوفا ، تقديره : أيعدكم أنّكم إذا متم مخرجون ، ثم حذف خبر أنّ لدلالة أنّ الثانية عليه ، على حدّ قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] فحذف خبر المبتدأ الأول استغناء عنه بخبر الثاني ، وعلى ذلك قول الشاعر (٢) : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

تقديره : نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ، إلّا أنّ حذف استغناء عنه بالخبر الآخر ، وهذا الوجه وحده هو الذي لم يفتح عليك أيّها المتقمص بقميص الزّهو التائه في غيابة السّهو الملقب بملك النحو إلّا به.

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ١٥٣).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٠).


وأمّا قولك بعد السؤال الأول : وكذلك يسأل عن العامل في «إذا» ثم بيّنت في جوابك أنّه محذوف ، فقولك هذا مبنيّ على ما قام في نفسك من كون خبر أنّ محذوفا ، وقد بيّنّا أنه غير محذوف ، إلّا على أحد الوجهين الموجّه بهما قول سيبويه ، وإلّا فهو موجود غير محذوف على المذاهب المتقدمة ، أمّا على مذهب المبرد فالعامل عنده في «إذا» الاستقرار لأنّها في موضع خبر المبتدأ ، وكذلك مذهب الأخفش هي عنده معمولة الاستقرار المقدر في كل ظرف رفع فاعلا ، وأمّا على مذهب الجرمي فإنّ العامل عنده فيها مخرجون التي هي خبر أنّ ، على ما تقدم ذكره.

وأما قولك بعد السؤال الثاني : إن «إذا» بمعنى الوقت ، وهو يضاف إلى الجمل على تأويل المصدر ، وما ذكرت من أنّ المعنى يستحيل إذا جعلت العامل في «إذا» مخرجون ، لأنّه يصير التقدير : أنّكم مخرجون وقت موتكم ، والإخراج وقت الموت لا يتصوّر ، وإجابتك عن ذلك بتقديرك حذف مضاف قبل «إذا» وهو «بعد» ، فإنك أتيت في هذا المكان بضرب من الهذيان.

أما قولك : إن «إذا» بمعنى الوقت وهو يضاف إلى الجمل على تأويل المصدر» فليس تقدير الجملة بعدها على تأويل المصدر بصحيح ، وذلك ممتنع فيها وفي إذ وفي لمّا خاصة ، ألا ترى أنّه يحسن أن تقول في نحو : «آتيك يوم يقدم زيد» : آتيك يوم قدوم زيد فتقدّر ما بعد يوم بتقدير المصدر؟ ولو قلت : «آتيك إذا يقوم زيد» لم يحسن أن تقول : أتيتك إذا قيام زيد ، وكذلك إذ تقول : أتيته إذ قام ولا تقول : أتيته إذ قيامه ، وكذلك لمّا ، تقول : أكرمته لمّا قام ، ولا تقول : أكرمته لمّا قيامه ، لأنّ هذه الظروف لا تضاف إلى مفرد ولا تستعمل إلّا مضافة إلى الجمل ، وأمّا قولك : «لأنّه لا بدّ من تقدير حذف مضاف قبل إذا وهو بعد ليصحّ المعنى ويسلم من الإحالة» فهو قول بيّن الفساد لا محالة ، وذلك أنّ المتقرر عند جميع النحويين أنّه لا يصح أن يضاف إلى إذا ولا إلى لمّا ، وذلك لتوغلهما في البناء وقلة تمكنهما ، ولا يجوز على هذا أن تقول : أكرمتك بعد إذا أكرمتني ، ولا قبل إذا أكرمتني ولا بعد لمّا أكرمتني ، ولا يجوز ذلك في ظروف الزمان ولا غيرها ، ولم يسمع من ذلك شيء إلّا في (إذ) ، والمعنى في الآية يصح على غير هذا التقدير ، إذ في مفهوم الخطاب من قوله عزّ وجلّ : (وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) أنّ الإخراج ليس هو وقت الموت ، وإنما هو بعد زمان متراخ يقتضي الاستحالة من اللّحميّة والدّمويّة إلى الترابيّة ثم الإخراج بعد ذلك ، وإذا وإن كانت بمعنى الوقت فليس يلزم أن يكون وقوع الفعل في أوّل ذلك الوقت دون آخره ، مثال ذلك قولهم : إذا جاء زيد أحسنت إليه ، ومعلوم من جهة المعنى أنّ الإحسان لم يكن في أوّل المجيء ، إنّما كان بعده ، وتقدير الإعراب يوجب أنّ وقت


المجيء وقت الإحسان ، لأنّ (إذا) ظرف ، والعامل فيه «أحسنت» ، فيصير التقدير : أحسنت إليه وقت مجيئه ، وليس الأمر كذلك ، وسبب ذلك أنّه لمّا تقارب الزمانان وتجاور الحالان صارا كأنّهما وقعا في زمان واحد ، وإن كان لا بدّ أن يقدّر أنّ زمان الإحسان بعد زمان المجيء ، إذ الإحسان مسبّب عن المجيء ، والسبب يتقدّم المسبّب ، ويكون تقدير الآية على هذا : أيعدكم أنّكم مخرجون آخر وقت موتكم وكونكم ترابا وعظاما ، ثم قلت بعد هذا : «وأمّا فائدة تكرير أنّ فإنّ العرب تكرّر الشيء في الاستفهام استبعادا ، كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان يستبعد منه أن يجاهد : أنت تجاهد ، أنت تجاهد» ، وهذا قول غير محقّق ولا محرّر ، وهذه العبارة بتكرير الاستبعاد شيء خارج عن المألوف المعتاد ، وإنما التكرير في كلام العرب لمعنى التأكيد ، على ذلك جاء في كتاب الله عزّ وجلّ وفي الكلام الفصيح ، كقوله تعالى : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر : ٢١] ، فكرر دكّا على جهة التأكيد بدلالة قوله تعالى في الأخرى : (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤] ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦] ، وقوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ، كرر «رأيتهم» توكيدا ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] ، وليس في شيء من ذلك استبعادا.

المسألة الثانية : قال أبو نزار : روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «من جمع مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر» (١) ، يسأل عن مادة هاتين الكلمتين وزيادتهما ومكان استعمالهما.

فأوّل ذلك أن تعلم أن نهوشا واحد قدّر أنّه جمع على نهاوش ، وهو من الهوش بمعنى الاختلاط ، قال : وكذلك نهابر هو جمع واحد نهبره وهو من الهبر بمعنى القطع المتدارك ، والمعنى من جمع مالا من جهات مختلطة لا يعلم جهات حلّها وحرمتها قطعه الله عليه ، قال : فإن قيل : ما سمعنا في الواحد نهبرا ونهوشا قلنا : قد نصّ سيبويه على أنّ العرب تأتي بمجموع لم تنطق بواحدها ، ثم قال : إنّ قياس واحد ملامح ومحاسن ملمحة ومحسنة ، وما سمعنا بملمحة ، وكذلك قدّروا أنّ واحد أباطيل إبطيل أو أبطول ، وأباطيل جمع لم ينطق بواحده.

__________________

(١) الحديث في مسند الشهاب (١ / ٢٧١ ، ٢٧٢) ، وأمثال الحديث (١ / ١٦٢) ، وميزان الاعتدال (٥ / ٣٠٧) ، وكشف الخفاء (٢ / ٢٩٥) ، وفيض القدير (٦ / ٦٥).


فأجيب بأن قيل له : أبديت عوارك لمناظرك وأبرزت مقاتلك لسهام مناضلك ، إنّ هذه اللفظة تروى على أوجه مختلفة وجميعها يرجع إلى أصل واحد وعدة أوجهها أربعة :

يروى : من جمع مالا من مهاوش بالميم ، وهذه هي المشهورة عند العلماء باللغة ، ويروى من تهاوش بالتاء وكسر الواو وقد صححوه أيضا ، ويروى من تهاوش بالتاء وضمّ الواو ، وهو صحيح أيضا ، ويروى من نهاوش بالنون وكسر الواو ، وهذه هي التي أنكرها أهل اللغة ولم يثبتوا صحّتها ، والظاهر من كلامهم أنّها من غلط الرواة ، وجميع ذلك على اختلاف الرواية فيه يرجع إلى أصل واحد وهو الهوش الذي هو الاختلاط ، فليس الإشكال في نهاوش من جهة تفسيرها كما ظننته ولا من جهة كونها جمعا لواحد لم ينطق به ، ألا ترى أنّ مهاوش ونهاوش هما بمعنى الاختلاط ، وكلاهما جمع لم يستعمل واحده؟ وإنّما المشكل في هذه اللفظة هل هي صحيحة في الاستعمال معروفة عند أهل اللغة أو هي على خلاف ذلك؟ فهذا الذي كان حقك أن تبيّنه وتثبت صحته ، وإذا صح فسرت حقيقة معناها واشتقاقها ، وبينت هل هي جمع أو مفرد وما الزائد منها وما الأصل ، فأمّا قولك في نهابر : إنه مشتق من الهبر وهو القطع المتدارك فليس ذلك بالمعروف عند أهل اللغة ، وإنما هو مستعار من النّهابر والنّهابير وهي تلال الرمل المشرفة ، فسمّيت المهالك نهابر من ذلك ، ولذلك قال عمرو بن العاص لعثمان بن عفان رحمه الله : «إنّك ركبت بهذه الأمة نهابر من الأمور فتب عنها» أراد أنّك ركبت بهذه الأمة أمورا شاقة مهلكة بمنزلة من كلّفهم ركوب التلال من الرمل ، لأنّ المشي في الرمل يشقّ على من ركبه ، وقولك : «إن واحد النهابر نهبر وإن لم ينطق به» ليس بصحيح ، بل الصحيح أن واحدها نهبور على ما ذكره أهل اللغة ، لأنّهم جعلوا النّهابر التي هي المهالك مستعارة من النّهابر التي هي الرمال المشرفة وواحدها نهبور ، وأسأت العبارة بقولك : «لا يعرف جهات حلّها وحرمتها» ، وكان الصواب أن تقول : وحرمها ، لأنه يقال : حلّ وحلال وحرم وحرام ، وأخطأت أيضا في تنظيرك نهاوش في كونها جمعا لواحد لم ينطق به بقولهم : ملامح وأباطيل ، وكان حقك أن تنظرها بعباديد ونحوها ممّا لم ينطق له بواحد من لفظه ولا من غير لفظه ، ألا ترى أنّ ملامح لها واحد مستعمل من لفظها وهو لمحة ، وكذلك أباطيل واحده المستعمل باطل ، وكذلك مشابه واحده المستعمل مشبه ، وإن كنّا نقدّر أنّ واحد الجموع من جهة القياس ليس هو هذا المستعمل ، إلّا أنّه وإن كان الأمر على ذلك فلا بدّ أن يقال : إنّ هذه الآحاد لهذه الجموع وإنّ هذه الجموع لهذه الآحاد من جهة الاستعمال ، ألا ترى أنّ أبا عليّ الفارسيّ قال في كتابه العضدي : «هذا باب ما


بناء جمعه على غير بناء واحده المستعمل ، وذلك باطل وأباطيل وحديث وأحاديث وعروض وأعاريض» ولم يختلف أحد من العلماء في أنّ أعاريض وأحاديث واحدها : عروض وحديث من جهة الاستعمال ، كما أنّ قولهم : ليال جمع ليلة من جهة الاستعمال ، وإن كان في التقدير كأنّه جمع ليلاء ، ولو قلت : إنّ العرب قد تأتي بجموع لم تنطق بواحدها الذي يجب من جهة القياس لكنت قد سلمت في قولك من الوهم والإلباس ، ثم أسألك أولا : ما معنى قولك في صدر مسألتك : «فأوّل ذلك أن تعلم أن نهوشا واحد قد جمع على نهاوش»؟ فإنّه كلام لم يستعمله من أهل الجهل والغباوة إلّا من ختم الله على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة.

المسألة الثالثة : قال أبو نزار : روى سيبويه في كتابه عن العرب أنّهم قالوا : ليس الطّيب إلّا المسك (١) ، برفع المسك ، والقياس نصبه لأنه خبر ليس ، و «ليس» لا يبطل عملها بنقض النفي ، إلّا أن سيبويه والسيرافي تخبّطا في هذا وما أتيا بطائل ، فأوّل ذلك أن سيبويه قال : لغة في ليس ، إنها لا تعمل وإنّها مثل ما في لغة بني تميم ، وهذا لا يعرف ، فقد أخطأ سيبويه ، ثم قال السيرافي : «والصحيح أنّ اسمها الشأن والحديث في موضع رفع ، والطيب مبتدأ والمسك خبره» ، وقيل له : هذا باطل ، فإنّ إلّا الناقضة خبر ، إذ قد جاءت بين المبتدأ والخبر في الجملة الإثباتية ، واعتذر السيرافي بأن قال : «إلا أنّها على الجملة قد تقدّمها نفي» ، وهذا كله متهافت ، والذي صحّ أنّ قولهم : ليس الطيب ، ليس واسمها وإلّا ناقضة للنفي والمسك مبتدأ وخبره محذوف وتقديره : ليس الطّيب إلّا المسك أفخره ، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع النصب لأنّها خبر ليس وفيه وجه آخر وهو أن تكون إلّا بمعنى غير ، وذلك وجه في إلّا معروف ، والتقدير : ليس الطيب غير المسك مفضلا أو مرغوبا فيه ، أو ما شابه ذلك فاعرفه.

فصل في الردّ عليه : أيّها المتعالي المتعالم والمتعاطي المتعاظم قد نسبت سيبويه والسيرافي إلى أنّهما تخبّطا في هذه المسألة ولم يأتيا بطائل ، وقلت حكاية عنهما ، فأوّل ذلك أنّ سيبويه قال لغة في (ليس) : إنّها لا تعمل ، وإنّها مثل ما في لغة بني تميم ، وهذا لا يعرف ، وكان تخبّطك فيما عنه نقلته وإليه نسبته بما أسقطته من كلامه وزدته ، وهو عين التخبّط الحقيقي ، والذي ذكره سيبويه على فصّه ومنقولا عن نصه هو : «وقد زعم بعضهم أنّ (ليس) تجعل كما وذلك قليل لا يكاد يعرف ، فهذا يجوز أن يكون منه : ليس خلق الله أشعر منه ، وليس قالها زيد ، وقول حميد الأرقط : [البسيط]

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٠١).


٥٢١ ـ فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم

وليس كلّ النّوى يلقي المساكين

وقول هشام (٢) : [البسيط]

هي الشّفاء لدائي لو ظفرت بها

وليس منها شفاء الدّاء مبذول

والوجه والحدّ فيه أن تحمله على أنّ في ليس إضمارا ، وهذا مبتدأ كقوله : إنّه أمة الله ذاهبة ، إلّا أنّهم زعموا أنّ بعضهم قال : ليس الطّيب إلّا المسك ، وما كان الطيب إلّا المسك» إلى هذا انتهى كلام سيبويه ، فأحلت عبارته عن الصواب فقلت : قال سيبويه : لغة في ليس إنها لا تعمل فبدأت بنكرة في اللفظ لم تأت لها بخبر ، وزدت في كلامه أنّها لا تعمل ، ولم يذكر سيبويه ذلك ، ولا يصحّ أن يذكره ، لأنه لم يقطع بكونها غير عاملة ، ثم قلت عنه : وإنها مثل ما في لغة بني تميم ، فزدت ما لم يذكره ، وكيف يجعلها مثل ما التميمية التي قد حصل القطع بإبطال عملها ، وهو يقول بعد ذلك : والوجه أن يكون فيها إضمار الشأن؟ ثم قلت عنها أيضا : وهذا لا يعرف ، فأسقطت يكاد ، وبإسقاطها يتناقض الكلام ، لأنّ سيبويه قد ثبت عنده معرفة هذا ، وهو قولهم : ليس الطّيب إلّا المسك ، بدليل قوله : إنه يجوز أن يكون عليه قولهم : ليس خلق الله أشعر منه ، وصحّ ذلك بما حكاه الأصمعي وأبو حاتم عن أبي عمرو به العلاء ، قال : ليس في الأرض حجازيّ إلّا وهو ينصب ولا تميميّ إلّا وهو يرفع ، وساق المجلس السابق بين أبي عمرو وعيسى بن عمر ، ثم قال : فقد ثبت من هذه الحكاية أنّ قولهم : ليس الطّيب إلّا المسك بالرفع معروف في كلام العرب ، فلا يصح إذا أن يكون كلام سيبويه إلّا بزيادة يكاد ، وقلت عند فراغك من حكاية كلام سيبويه بزعمك : ثم قال السيرافي : والصحيح أنّ اسمها شأن وحديث في موضع رفع ، والطّيب مبتدأ والمسك خبره ، وقيل له : هذا باطل فإن «إلّا» الناقضة خبر إذ قد جاءت بين المبتدأ والخبر في الجلة الإثباتية ، واعتذر السيرافي بأن قال : إلّا أنّها على الجملة قد تقدّمها نفي ، فإذا بك فيما حكيته عن السيرافي أيضا قد مسخت ما نسخت وغيّرت ما عنه عبّرت ، وذلك أنّ نصّ كلام السيرافي في هذه المسألة هو ذا : «وقد احتجوا بشيء آخر هو أقوى من الأوّل ، وهو قول بعض العرب : ليس الطّيب إلّا

__________________

٥٢١ ـ الشاهد لحميد بن ثور في الأزمنة والأمكنة (٢ / ٣١٧) ، وأمالي ابن الحاجب (ص ٦٥٦) ، وتخليص الشواهد (ص ١٨٧) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٨٢) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٢٧٠) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٧٥) ، وشرح الأشموني (١ / ١١٧) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٠٤) ، والمقتضب (٤ / ١٠٠) ، ولحميد الأرقط في الكتاب (١ / ١١٧).

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٩٤).


المسك ، قالوا : ولو كان في ليس ضمير الأمر والشأن لكانت الجملة التي في موضع الخبر قائمة بنفسها ونحن لا نقول : الطيب إلّا المسك ، وليس الأمر كما ظنّوا ، لأنّ الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم قد وقع عليه حرف النفي فقد لحقها النفي في المعنى ، ألا ترى أنّك إذا قلت : ما زيد أبوه قائم ، فقد نفيت قيام أبيه ، كما لو قلت : ما زيد قائم ، فعلى هذا يجوز أن تقول : ما زيد أبوه إلّا قائم ، كأنّك قلت : ما أبو زيد قائم» ، هذا كلام السيرافي رحمه الله ، فأمّا توجيهك المسألة على ما صحّ في زعمك ، وهو أن تجعل الطّيب اسم ليس والمسك مبتدأ وخبره محذوف تقديره : ليس على الطيب إلا المسك أفخره أو على أن تكون «إلّا» بمعنى غير ، والتقدير : ليس الطيب غير المسك مفضلا أو مرغوبا فيه ، فشيء لم يسبقك إليه أحد ، ولم يخطر مثله قبلك ببال بشر ، وهو تقديرك الاسم مبتدأ وحذف خبره ، وهو أفخره مع كون اللفظ لا يقتضي هذا الخبر ولا يدل عليه ، وتقديرك في الوجه الآخر إلّا بمعنى غير تشير بها إلى أنّها وما بعدها صفة للطّيب على حدّ قوله عزّ وجلّ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) [الأنبياء : ٢٢] أي : غير الله ، وجعلك الخبر محذوفا وهو مفضلا أو مرغوبا فيه ، فيكون المعنى عندك : أنّ الطّيب لا يرغب الناس فيه ، وإنّما يرغبون في المسك ، لأنّ هذا تقدير قولك : ليس الطيب غير المسك مرغوبا فيه ، وعلى أنّ سيبويه ذكر في حكايتهم ما أوجب التوقف عمّا أجازه من أنّ الوجه أن يكون في ليس إضمار ولا يكون حذفا ، فقال بعد أن قدم الوجه في قوله (١) : [البسيط]

... وليس منها شفاء الدّاء مبذول

وقولهم : ليس خلق الله أشعر منه : إلّا أنّهم زعموا أنّ بعضهم قال : ليس الطّيب إلا المسك ، وما كان الطيب إلا المسك ، ووجه توقفه عن أن يحمل ليس في لغتهم على ضمير الشأن والقصة أنّه وجدهم يرفعون المسك في (ليس) وينصبونه في (كان) ، فيقولون : ما كان الطّيب إلّا المسك ، فلو كان في (ليس) إضمار لوجب أن يكون في كان إضمار أيضا ، فكونهم يختصون الرفع بليس دون كان حتى لا يوجد منهم من يرفع المسك في كان ولا ينصب في ليس دليل على أنّ ليس هاهنا حرف لا عمل لها ، وبهذا يبطل قولك : إنه لو كان على إضمار أفخره في الوجه الأول أو إضمار مرغوبا فيه أو مفضلا في الوجه الثاني لوجب مثل ذلك في كان ، فيقال : ما كان الطيب إلا المسك ، على تقدير : إلا المسك أفخره ، أو على تقدير : غير المسك مفضلا أو

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٩٤).


مرغوبا فيه ، ولو وجّهت أيها المتعسف هذه المسألة على ما وجّهه النحويون لأرحت واسترحت ، وهو أن تجعل الطيب اسم ليس وإلّا المسك بدلا منه ، والخبر محذوفا ، وتقديره ليس في الدنيا الطيب إلا المسك ، وعلى ذلك حملوا قول الشاعر : [الكامل]

٥٢٢ ـ لهفي عليك للهفة من خائف

يبغي جوارك حين ليس مجير

يريد : حين ليس في الدنيا مجير ، وقد أجاز أبو علي أن تكون اللام في الطيب زائدة على حدّ زيادتها في قولهم : ادخلوا الأوّل فالأوّل ، فيصير التقدير : ليس طيب إلا المسك ، على تأويل ليس في الوجود طيب إلّا المسك ، أي أنّ كل طيب غير المسك فليس بطيب على طريق المبالغة في وصف المسك ، وبالجملة فإنّ هذا القول الذي ذهب إليه النحويون لا يصح بما حكاه سيبويه من قولهم : وما كان الطيب إلا المسك على ما قدمت ذكره ، وليس ذلك لغتين ، فيقال : إنّ «ليس الطّيب إلا المسك» لغة قوم ، و «ما كان الطيب إلا المسك» لغة قوم آخرين ، بل القوم الذين يقولون : ليس الطيب إلا المسك ، فيرفعون ، هم القائلون : ما كان الطيب إلا المسك ، فينصبون على ما حكاه سيبويه ، وبهذا السبب توقف عن حمل (ليس) في لغتهم على أنّ فيها إضمارا ، وهذه اللغة ليست هي المشهورة ، وليس الشاذ النادر الخارج عن القياس يوجب إبطال الأصول.

المسألة الرابعة : قال أبو نزار : قال الله عزّ وجلّ : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) [النساء : ١٢] ، وقد ذكر في نصب كلالة أشياء كلّها فاسدة ، وخلط ابن قتيبة غاية التخليط ، والذي يقال : إنّ الكلالة قد فسّرت بتركة ليس فيها ولد ، لا جرم أنّ الإعراب ينطبق على هذا ، فإن المعتاد أنّ الإنسان إنما يدأب ليترك لولده بعد موته ، فإذا حضر الموت ولا ولد له ظهر تعبه ، فقوله : يورث يقدر بعده كالّا وكلالة ، فإنّ كلّ قد جاء بمعنى تعب ، والمعنى يورث في حال ظهور تعبه وكلاله ، وكلال مصدر كلّ ، وقد قال سيبويه : إنّ تاء التأنيث تدخل على المصدر المجردة وذوات الزوائد دخولا مطردا ، فهي تدل على المرة الواحدة ، فنصب كلالة لأنّه مصدر منقلب عن حال ، وما أكثر ذلك في كلامهم ، ومنه : أرسلها العراك فقال الرادّ عليه :

__________________

٥٢٢ ـ الشاهد للشمردل بن عبد الله الليثي في شرح التصريح (١ / ٢٠٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٩٢٧) ، والمقاصد النحوية (٢ / ١٠٣) ، وللتميميّ الحماسيّ في الدرر (٢ / ٦٣) ، وللتيميّ في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٩٥٠) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (١ / ٢٨٧) ، وجواهر الأدب (ص ٢٠٥) ، وشرح الأشموني (١ / ١٢٦) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦٣١) ، وهمع الهوامع (١ / ١١٦).


يا هذا غلطت أوّلا في التلاوة بإسقاط الواو من قوله عزّ وجلّ : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) ثم قلت : إنّ العلماء قد ذكروا في نصب كلالة أشياء جميعها عندك فاسد ، وإنّ تخليط ابن قتيبة فيها على تخليطهم زائد ، وسأبيّن صحّة أقوال العلماء فيها ، وأنّ الفساد إنما جاء من قلّة فهمك لمعانيها : [الوافر]

٥٢٣ ـ ومن يك ذا فم مرّ مريض

يجد مرّا به الماء الزّلالا

اعلم أنّ الكلالة فيما نحن بصدده هي في الأصل مصدر قولك : كلّ الميّت يكلّ كلالة فهو كلّ ، وذلك إذا لم يرثه ولد ولا والد ، وكذلك أيضا يقال : رجل كلّ إذا لم يكن له ولد ولا والد ، فهذا أصل الكلالة ، أعني كونها حدثا لا عينا ، ثم يوقعونها على العين ولا يريدون بها الحدث ، كما يفعلون ذلك بغيرها من المصادر ، فيقولون : هذا رجل كلالة أي : كلّ ، كما يقولون : عدل أي : عادل ، وعلى هذا الوجه حمل جمهور العلماء وأهل اللغة قول الله عز وجلّ :

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) [النساء : ١٢] فجعلوا الكلالة اسما للمورث ، ولم يريدوا أنّها بمعنى الحدث ، فيكون نصب كلالة على هذا من وجهين :

أحدهما : أن يكون خبر كان.

والثاني : أن يكون حالا من الضمير في «يورث» على أنّ تقدير كان هي التامة ، فيكون التقدير فيه : وإن وقع أو حضر رجل يورث وهو كلالة أي : كلّ.

وعلى هذين الوجهين أعني في نصب الكلالة ذهب أبو الحسن الأخفش ، وأجاز غيره أن تكون الكلالة في الآية على بابها ، أعني أن تكون اسما للحدث دون العين ، فيكون انتصابها أيضا من وجهين :

أحدهما : أن تكون من المصادر التي وقعت أحوالا ، نحو : جاء زيد ركضا ، والعامل فيه يورث على حدّ ما تقدّم ، وكلالة هاهنا مصدر في موضع الحال كما كان في قولهم : هو ابن عمّي دنية.

والوجه الآخر : أن يكون انتصاب كلالة في الآية انتصاب المصادر التي تقع أحوالا ، ويكون في الكلام حذف مضاف تقديره : يورث وراثة كلالة ، وعلى ذلك قولهم : ورثته كلالة ، وقول الفرزدق : [الطويل]

٥٢٤ ـ ورثتم قناة الدّين لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

__________________

٥٢٣ ـ البيت للمتنبي في ديوانه (ص ١٣٠).

٥٢٤ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (ص ٨٥٢) ، والكامل (٣ / ٢٠٤) ، واللسان (كلل).


أي : ورثتموها عن قرب واستحقاق ، فهذه أربعة أوجه من كلام العلماء في نصب الكلالة لا شبهة فيها ولا إنكار على مستعمليها.

وقد أجاز قوم من أهل اللغة أن تكون الكلالة اسما للوارث وهو شاذّ والحجّة فيه ما روي عن الحسن أنّه قرأ : وإن كان رجل يورث ويورث كلالة فإن صحّ هذا الوجه جاز أن يكون انتصابها على ما انتصب عليه أولا ، وهو أن تكون خبر كان أو حالا من الضمير في يورث إذا جعلت كان تامة ، إلّا أنّه لا بدّ من تقدير حذف مضاف تقديره : وإن كان الميت ذا كلالة ، وهذا كله واضح بيّن بعيد من التخليط والإشكال ، والكلام الذي هو جدير بالنبذ والرفض هو قولك : «إنّ الكلالة قد فسرت بتركة ليس فيها ولد ، وإنّ المعتاد أن الإنسان إنّما يدأب ليترك لولده بعد وفاته ، فإذا حضره الموت ولا ولد له ظهر تعبه» ، ثم ذكرت بعد ذلك أنّها من المصادر المنصوبة على الحال ، فنقضت كلامك وأوجبت على سامعك ملامك ، وذلك أنّك زعمت أنّ الكلالة قد فسرت بتركة الميت ، وهذا مذهب من يجعل الكلالة اسما للوارث دون الموروث ، فتكون على هذا اسما للشخص دون الحدث ، ثم قلت : إنها من المصادر المنصوبة على الحال ، وإذا كانت مصدرا فهي اسم للحدث ، فهذا تناقض بيّن ، وقلت : إنّ الكلالة مشتقة من كلّ إذا تعب وإنّ التقدير : يورث ذا كلالة ، فغلطت ووهمت وفي مهامه الجهالة همت ، ولو كانت الكلالة مصدر كلّ إذا تعب لكان اسم الفاعل منها كالّا أو كليلا ، ولجاز في المصدر أن يقال : كلّا وكلولا ، والمعروف عند أهل اللغة إنما هو كلّ ، لأنه يقال : رجل كلّ لا ولد له ولا والد ، وقد كلّ يكلّ كلالة ، فلمّا ألزموا المصدر بالكلالة واسم الفاعل بالكلّ علم أنّ الكلالة ليست مصدرا لكل إذ تعب.

وأمّا قولك : «إنّ المعتاد في الإنسان أنّه إنما يدأب ليترك لولده ، فإذا حضره الموت وليس له ولد ظهر تعبه» فهو بحمد الله كلام غير محصّل ، وذلك أنّه إذا كان إنّما يتعب لولده فينبغي إذا ورث كلالة أن لا يكون له تعب إذ لا ولد له ، وأمّا قولك : إن سيبويه قال : إن تاء التأنيث تدخل على المصادر المجرّدة وذوات الزيادة دخولا مطّردا ، فهي تدل على المرّة الواحدة ، فهذا منك غلط فاضح ، وطريق وهمك فيه بيّن واضح ، وذلك أنّك بيّنت أنّ الكلالة مصدر كلّ إذا تعب ، ثم وقع في نفسك أنّه لا يجوز أن يكون مصدر كلّ إلّا الكلالة فقلت : لا ينكر دخول الهاء لأنّ سيبويه قد أجاز دخولها على المصادر فغلطت في ذلك من وجهين :

أحدهما : أنّ المرة الواحدة في باب المصادر الثلاثية إنما بابها الفعلة كضربته


ضربة ، وذلك هو المطّرد فيها ، وأنّ المصدر الذي هي الجنس يختلف إلى أوزان مختلفة ، ألا ترى أنّك تقول : قعدت قعودا وجلست جلوسا؟ ولا يجوز غير ذلك ، لا تقول : جلست جلوسة ولا قعدت قعودة ، ولو كانت الكلالة يراد بها المرة الواحدة لم يجز هنا إلّا الكلّة.

والوجه الثاني : من غلطك هو جهلك بكون الكلالة جنسا لا واحدا من جنس يراد بها المرة ، وذلك قول الأعشى : [الطويل]

٥٢٥ ـ فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من حفّى حتّى تزور محمّدا

ألا ترى أنّ الكلالة هنا بمعنى الكلال ، وليس يراد بها المرة الواحدة؟

وأمّا قولك : إنّ كلالة مصدر منقلب عن حال فكلام بيّن الاضطراب مبنيّ على غير الصواب ، إذ المصدر إذا صار حالا فإنّما يقال : انقلب إليها لا انقلب عنها ، لأنه منتقل عن انتصابه على أنّه مفعول مطلق إلى انتصابه على أنّه حال.

المسألة الخامسة : قال أبو نزار : قال سيبويه (٢) : لو بنيت من شوى مثل عصفور لقلت : شوويّ ، ووجهه مذهبه أنّ الأصل شويوي لا خلاف فيه ، فهو يقلب الياء الأولى واوا كما يفعل في رحى ، فإنّه رحويّ ، ثم يفتح الواو قبلها ، وما قلبها واوا إلّا معتزما كسرها كما في النّسب ، فلمّا فعل ذلك انقلب الواو التي بعدها ياء ، وهذا لا يليق بصنعة البناء ، ولا يجوز أن يتظاهر بهذا من له صنعة تامة وقوة في علم التصريف ، والذي ذكره سيبويه لا يشهد له أصل ولا يناسب الصنعة ، وإنما هو تحكّم منه ، والصحيح أن يقال : إن الأصل شويويّ ، ويجب أن يمضي القياس في قلب الواوين ياءين لاجتماعهما مع الياءين وسبقهما بالسكون ، فصار إلى شيّيّ ، فاختزلت حركة الياء الثانية وهي الضمة ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، ثم حذفت الياء الأخرى لأنه بقي ساكنان أيضا ، فبقي شيّ ، فقلبت الضمة التي على الشين إلى الكسرة فصار إلى شيّ ، كما فعلوا في بيض جمع أبيض ، وإنّما هو بيض بضم الباء ، ثم كسرت الباء المجاورة الياء ، فإن قيل : فقد أجحفت بالكلمة بهذه الحذوف قلت : العرب تمضي القياس وإن أفضى إلى حذف معظم الكلمة ، وشواهد ذلك كثيرة.

قال الرادّ عليه : يا هذا لقد خضت بحرا لست من خوّاضه ، وركبت جامحا

__________________

٥٢٥ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٨٥) ، وخزانة الأدب (١ / ١٧٧) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٥٧٧) ، وشرح المفصّل (١٠ / ١٠٠).

(١) انظر الكتاب (٤ / ٥٥٠).


لست من روّاضه ، إنّك قلت هذه المسألة عن سيبويه فحرّفت وخرّفت ، وأحلت إذ عليه بخطائك أحلت وأنا أنصّ كلام سيبويه ، ثم أظهر بعد ذلك فساد ما ذهبت إليه ، وأوجّه هذه المسألة على الوجه الصحيح المطّرد الجاري على طريق كلام العرب بمشيئة الله وعونه.

أمّا نصّ كلام سيبويه فيها فهو (١) : «وتقول في فعلول من شويت وطويت : شوويّ وطوويّ ، وإنّما حدّها وقد قلبوا الواوين طيّيّ وشيّيّ ، ولكنّك كرهت الياءات كما كرهتها في حيّيّ حين أضفت إلى حيّة فقلت : حيويّ».

وهذا كلام قد جمع مع الاختصار البيان ، فاستغنى عمّا أوردته في توجيهك بزعمك من الهذيان.

وأمّا قولك : «والصحيح في هذا شويوي ويجب أن يمضى في القياس في قلب الواوين ياءين ، فتصير «شيّيّ» ثم تختزل حركة الياء الثانية وهي الضمة ، ثم تحذف لالتقاء الساكنين ، ثم تحذف الياء الأخرى لالتقاء الساكنين ، فتصير إلى شيّ ، ثم تكسر الشين فتصير إلى شيّ ، كما فعلوا في بيض» فإنّك صرفت في هذا التصريف عن وجه الصواب ، وأتيت فيه بما لا يصدر مثله عن ذوي الألباب ، ما خلا قولك : إن الواوين قلبتا ياءين لاجتماعهما مع الياءين وسبقهما بالسكون ، وهو قول سيبويه الذي بدأنا به ، ألم تعلم أنّه تقرّر عند جميع النحويين أنّ كل اسم كانت فيه ياء أو واو وسكّن ما قبلها أنّ حركتها لا تختزل لاما كانت أم عينا؟ فمثال اللام قولنا : ظبي ودلو وكرسيّ وعدو ، ومثال العين : أبيت وأعين وأدون وأسوق وأعينة وأخونة ومخيط ومقول ، وربما نقلوا حركة الياء أو الواو إلى الساكن الذي قبلها إذا كان يقبل الحركة ، وذلك مثل معيشة ومشورة ، ولهذا قياس يذكر في التصريف ، فيعلم بهذا فساد قولك : إنّ حركة الياء اختزلت مع كون ما قبلها ساكنا ، وقد تقرّر أنّه إذا سكنّ ما قبل الياء والواو في هذا النحو صحّتا ، وإنما تختزل حركة الياء إذا انكسر ما قبلها في مثل : القاضي ، فإنّ الياء تكون ساكنة في الرفع والجر لثقل الحركة عليها مع كسر ما قبلها ، ولو سكن ما قبلها لصحّت ، كذلك الواو أيضا تختزل حركتها إذا انضم ، ما قبلها في مثل يغزو ، والأصل فيها أن تكون متحركة بالضم إلّا أنّه كره ذلك فيها لثقل الضمة عليها مع تحرّك ما قبلها ، وإذا ثبت فساد هذه المقدمة فسد ما بنيته عليها من الحذوف المجحفة الملبسة التي يمنعها جميع النحاة ، ثم قلت : «العرب تمضي القياس وإن أفضى إلى حذف معظم حروف الكلمة» فليس هذا القول بصحيح على

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٥٥٠).


الإطلاق ، إنما ذلك في مثل الأمر من وعى ووشى ، فإنّه يرجع إلى حرف واحد من قبل أنّ فعل الأمر من كل فعل معتل اللام لا بدّ من حذف لامه ، وكل واو وقعت بين ياء وكسرة في مثل : يعد ويزن فلا بدّ من حذفها ، فالضرورة قادت إلى ذلك مع زوال اللّبس ، وأما مثل : قاول وبايع وما يجري مجراه فليست فيه ضرورة موجبة للحذف كوجوبه في الأمر من وعى ووشى.

ثم قال الرادّ عليه : اعلموا أنّ معرفة هذه المسألة إنما تصح بعد معرفة النسب إلى حيّة ، فإذا عرف كيف ينسب إليها عرف كيف يبنى من «شوى» مثل عصفور ، وذلك أنّ قياس النّسب إلى حيّة يوجب أن يقال فيها على الأصل : حيّيّ ، فتدخل ياء النسبة المشدّدة على ياء حيّة المشدّدة ، فيجتمع أربع ياءات ، إلّا أنّ العرب كرهت اجتماع الياءات ، ففتحوا الياء الأولى الساكنة لتنقلب الياء الثانية ألفا لكونها قد تحركت وانفتح ما قبلها ، فإذا صارت ألفا على هذه الصورة وهي حيايّ وجب قلب الألف واوا لأنّ ياء النسبة لا يكون ما قبلها إلا مكسورا ، والألف لا تقبل الحركة ، وإذا لم يمكن تحريكها وجب أن تقلب إلى حرف يقبل الحركة وهو الواو ، كما فعلوا ذلك في رحى وعصا حين قالوا : رحويّ وعصويّ ، وإنما لم يقلبوها ياء كراهة اجتماع ثلاث ياءات ، فقد صار الأصل في حيويّ : حيّيّ وحيايّ ثم حيويّ ، فهذا هو الأصل المطّرد الجاري في كلام العرب ، وعلى هذا يصحّ لكم كيف يبنى من شويت مثل عصفور ، وذلك أنّ حقه إذا جاء على الأصل : شويوي ، ثم يجب قلب الواوين ياءين لاجتماعهما مع الياءين وسبقهما بالسكون ، فيصير «شيّيّ» مثل قولك : حيّ وحيّيّ قد وجب فيه تحريك الياء الساكنة بالفتحة ثم قلب الياء الثانية ألفا ثم قلبها واوا بعد ذلك إلى أن صارت إلى قولنا : حيويّ ، وكذلك في قولهم : شيي فتحوا الياء الأولى الساكنة ، فلمّا تحرّكت عادت إلى أصلها أن تكون واوا لأنّها عين الكلمة من شوى ، وإنّما قلبت ياء لسكونها ، فقلت : شوييّ ، ثم قلبت الياء الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار شوايّ ، ثم وجب قلب الألف واوا لمشابهة الياء المشدّدة التي بعد الألف المشددة التي للنّسب ، فلمّا كانت ياء النسبة تقلب الألف التي قبلها واوا في مثل : رحويّ إذا نسب إلى رحى فكذلك تقلب هذه الياء المشددة الألف واوا وإن لم تكن للنسب لأنّها صورتها في مثل هذا الموضع ، فلذلك قلت : شوويّ ، والأصل : شيّيّ ثم شوييّ ثم شوايّ ثم شوويّ على مساق الأمر في النسب إلى حيّة ، فهذا عليه جميع فضلاء النحاة ، ولم نعلم أنّ أحدا منهم تعدّاه إلى سواه.

المسألة السادسة : قال أبو نزار : قد شاع في كلام العرب حمل الشيء على معناه


لنوع من الحكمة ، وذلك كثير في القرآن العزيز : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) [يوسف : ١٠٠] بمعنى : لطف بي ، وكذا قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] ، فإنّ ابن السّرّاج حمله على المعنى ، لأنّ من بطر فقد كره ، والمعنى : كرهت معيشتها ، وهذا أكثر من أن يحصى ، وعليه قول المتنبي (١) : [البسيط]

٥٢٦ ـ لو استطعت ركبت النّاس كلّهم

إلى سعيد بن عبد الله بعرانا

قالوا : معناه لو استطعت جعلت الناس بعرانا فركبتهم إليه ، لأنّ في «ركبت» ما يؤدي معنى «جعلت» وليس في «جعلت» معنى «ركبت».

فقيل في جوابه : غيّرت لفظ التلاوة ونقلت معنى الكلمة عمّا وضعت له ، أمّا لفظ التلاوة فهو : «وقد أحسن بي» ، وأما نقل الكلمة فهو تأولك «أحسن بي» على «لطف بي» ، وإنّما حملك على ذلك أنّك وجدت «أحسن» تعدّى بإلى في مثل قول القائل : قد أحسنت إليه ، ولا تقول : قد أحسنت به ، وجهلت أنّ الفعل قد يتعدّى بعدّة من حروف الجر على مقدار المعنى المراد من وقوع الفعل ، لأنّ هذه المعاني كامنة في الفعل ، وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر ، وذلك أنّك إذا قلت : خرجت ، فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت : خرجت من الدار فإن أردت أن تبين أنّ خروجك مقارن لاستعلائك قلت : خرجت على الدابة ، فإن أردت المجاوزة للمكان قلت : خرجت عن الدار ، وإن أردت الصحبة قلت : خرجت بسلاحي ، وعلى ذلك قال المتنبي : [الطويل]

٥٢٧ ـ أسير إلى إقطاعه في ثيابه

على طرفه من داره بحسامه

فقد وضح بهذا أنّه ليس يلزم في كل فعل أن لا يتعدّى إلا بحرف واحد ، ألا ترى أنّ «مررت» المشهور فيه أنه يتعدى بالباء ، نحو : مررت به ، وقد يتعدى بإلى وعلى ، فتقول : مررت إليه ومررت عليه ، وكذلك قوله سبحانه : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) ، وذلك أنّ الباء قد جاءت متصلة بحسن وأحسن ، فتقول : حسن به ظنّي ، ثم تنقله بالهمزة : أحسنت به الظن ، وذلك في الإساءة ، فيكون التقدير في الآية : وقد أحسن الصنع بي ، ثم حذف المفعول لدلالة المعنى عليه ، وحذف المفعول في العربية كثير ، من ذلك قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [لقمان : ١٧] ، يريد : وأمر الناس بالمعروف وانههم عن المنكر ، وكذا قوله تعالى : (رَبِّيَ الَّذِي

__________________

٥٢٦ ـ انظر ديوانه (ص ١٦٨).

٥٢٧ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (٤ / ١١٥) ، وتاج العروس (سبع).


يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ، أي : يحيي الموتى ويميت الأحياء ، فيصير المعنى في قوله تعالى : (أَحْسَنَ بِي) أي : أوقع جميل صنعه بي ، وإذا عدّيته بإلى يصير المعنى فيه الإيصال ، كأنه قال : أوصل إحسانه إليّ ، والمعنى متقارب ، وإن كان تقدير كل واحد منهما غير تقدير الآخر ، فليس ينبغي أن يحمل فعل على معنى فعل آخر إلّا عند انقطاع الأسباب الموجبة لبقاء الشيء على أصله ، كقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] ، والشائع في الكلام : يخالفوه أمره ، فحمل على معنى : يخرجون عن أمره ، لأنّ المخالفة خروج عن الطاعة ، وكذا قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الأعراب : ٢٠٤] ، والشائع في الكلام فاستمعوه ، وإنما حمل على معنى أنصتوا.

قال : وأما قولك في بيت أبي الطيب : «إنّه على معنى «جعلت» فيصير «ركبت» قد تعدّى في هذا الموضع إلى مفعولين» ، فهو غلط منك ، وإنما غلّطك في ذلك أنّك رأيت بعرانا اسما جامدا لا يصح نصبه على الحال ، وإنما ينصب على الحال عندك ما كان مشتقا من فعل كضاحك ومسرع ، وهذا وهم منك ، وهب أنّا سلّمنا لك هذا التوجيه الذي وجهت به بيته هذا ، فكيف تصنع في بيته الآخر : [الوافر]

٥٢٨ ـ بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا

أتراك تجعل هذه المنصوبات كلّها مفعولات ، وتتصيد في كل فعل من هذه الأفعال معنى يصير به متعديا إلى مفعول به؟ وكيف تصنع في قولهم : بعت الشاء شاة بدرهم ، وبيّنت له حسابه بابا بابا ، وكلّمته فاه إلى فيّ؟ فهذه الأسماء الجامدة كلّها عند النحويين أحوال ، ويكون تقديره قوله : بدت قمرا : مضيئة كالقمر ، ومالت خوط بان : متثنّية ، وفاحت عنبرا أي : طيّبة النّشر كالعنبر ، ورنت غزالا أي : مليحة النظر كالغزال ، وممّا يدلّك على أنّها أحوال دخول واو الحال عليها إذا صارت جملة ، كقولك : بدت وهي قمر ، ومالت وهي خوط بان ، وكذلك بيّنت له حسابه بابا بابا ، المعنى : مبوّبا مفصّلا ، وبعت الشاء شاة بدرهم ، أي : مسعّرا ، ويكون قول أبي الطيب على ذلك : ركبت الناس بعرانا بمعنى مركوبين لي وحاملين ، وممّا يدلّ على أنّ بعرانا في بيت أبي الطيب حال لا مفعول ثان للجعل كونه يجوز إسقاطه ، ولو كان مفعولا ثانيا لم يجز إسقاطه ، ألا ترى أنّه لو قال : ركبت الناس كلّهم إلى سعيد لم يحتج إلى زيادة ، ولو قال : جعلت الناس كلّهم إلى سعيد وسكت لم يتمّ الكلام ،

__________________

٥٢٨ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (ص ١٢٥) ، وأمالي المرتضى (٢ / ١٢٩) ، والخزانة (١ / ٥٣٧).


وهذا مما يشهد بفساد ما ذهبت إليه ، وأيضا فإنّ الركوب لم يجئ في كلام العرب بمعنى الجعل كما جاء الترك في مثل الشاعر : [الكامل]

٥٢٩ ـ وتركتنا لحما على وضم

لو كنت تستبقي على اللّحم

فعدّت «تركت» لمّا حمله على معنى «جعلت» ، فأمّا الركوب بمعنى الجعل فليس بموجود في شيء من كلام العرب.

المسألة السابعة : قال أبو نزار : وهذه المسألة سئلت عنها بغزنة لمّا دخلتها ، فبيّنت مشكلها للجماعة وأوضحتها ، وذلك أني سئلت عن قول الراجز : [الرجز]

٥٣٠ ـ وقوّل إلّا ده فلا ده

فذكرت أنّ هذه من باب كلمات نابت عن الفعل فعملت عمله ، وبعضها في الأمر وبعضها في الخبر ، نحو : صه ومه ، وبله زيدا ، وهيهات بمعنى بعد ، و «ده» في كلام العرب بمعنى صحّ أو يصحّ ، ألا ترى أنّ قوما جاؤوا إلى سطح الكاهن وخبؤوا له خبيئة فسألوه فلم يصرّح فقالوا : لا ده ، أي : لا يصحّ ما قلت ، فقال لهم : «إلّا ده فلا ده ، حبة برّ في إحليل مهر» فأصاب ، فكأنه قال : إلّا يصحّ فلا يصحّ أبدا ، لكنني أقول في المستقبل ما تشهد له الصحة ، وكان كما قال ، إلّا أنّ التنوين الداخل على هذه الكلمة ليس هو على نحو التنوين الداخل على رجل وفرس ، ولكنه تنوين دخل على نوع من تنكير.

قال الرادّ عليه : قولك : «ده اسم من أسماء الفعل» ليس بصحيح على مذهب الجماعة ومن له حذق بهذه الصناعة ، والصحيح في هذه الكلمة أنّها اسم فاعل من دهي يدهى فهو ده وداه ، والمصدر منه الدّهاء والدّهي فيكون المراد بده أنّه فطن ، لأنّ الدّهاء الفطنة وجودة الرأي ، فكأنه قال : إلّا أكن دهيّا أي : فطنا فلا أدهى أبدا ، هذا أصله ، ثم أجريت هذه اللفظة مثلا إلى أن صارت يعبّر بها عن كل فعل تغتنم الفرصة في فعله ، مثال ذلك أن يقول الإنسان لصاحبه وقد أمكنت الفرصة في طلب ثأر : إلّا ده فلا ده أيّ : تطلب ثأرك الآن فلا تطلبه أبدا ، وهذا الرجز لرؤبة ، وقبله : [الرجز]

__________________

٥٢٩ ـ الشاهد لحارث بن وعلة الذهلي في شرح الحماسة للمرزوقي (ص ٢٠٦).

٥٣٠ ـ الشاهد لرؤبة بن العجاج في ديوانه (ص ١٦٦) ، ومجاز القرآن (١ / ١٠٦) ، وشرح المفصّل (٤ / ٨١).


٥٣١ ـ فاليوم قد نهنهني تنهنهي

وأول حلم ليس بالمسفّه

وقوّل إلّا ده فلا ده

ومعناه : إلّا تفلح اليوم فمتى تفلح؟ أي : إلّا تنته اليوم فلا تنتهي أبدا ، فهذا معنى ده في هذا المثل.

وأمّا إعرابه فإنّه في موضع نصب على خبر كان المحذوفة ، تقديره : إلّا أكن دهيّا فلا أدهى أبدا ، ونظير ذلك من كلام العرب : مررت برجل صالح إلّا صالحا فطالح ، تقديره : إلّا يكن صالحا فهو طالح ، وإننّما أسكن الياء وكان من حقها أن تكون منصوبة من قبل أنّ الأمثال تتنزّل منزلة المنظوم ، وهذه الياء حسن إسكانها في الشعر ، كقوله (٢) : [البسيط]

يا دار هند عفت إلّا أثافيها

[بين الطويّ فصارات فواديها]

فقد ثبت بهذا أنّ «ده» اسم فاعل لا اسم فعل ، وهي معربة لا مبنية ، وتنوينها تنوين الصرف لا تنوين التنكير ، ويذلك على أنّها ليست من أسماء الأفعال كونها واقعة بعد حرف الشرط ، ألا ترى أنه لا يحسن إلّا صه فلا صه وإلّا مه فلا مه وإلّا هيهات فلا هيهات.

المسألة الثامنة : قال أبو نزار : أنشدني شيخي الفصيحيّ للأعشى : [المنسرح]

٥٣٢ ـ آنس طملا من جديلة مش

غوفا بنوه بالسّمار غيل

فسأل عن غيل ، فقلت : قد جاء مادتها ساعد غيل للممتلئ ، ألا ترى إلى قوله : [الرجز]

٥٣٣ ـ [لكاعب مائلة في العطفين]

بيضاء ذات ساعدين غيلين

والسّمار : اللبن ، كأنّه يقول : إنّ بني هذا الصائد امتلؤوا من شرب اللبن ، إلّا أنّ الراجز بناه على فعال ، فقدر غيلا على زنة حمار وكتاب ثم جمعه على غيل كما قالوا : حمر وكتب ، فإن قيل : فما سمعنا غيالا قيل : قد أسلفنا أنّ العرب تنطق بجمع لم يأت واحده ، فهي تقدّر وإن لم يسمع.

__________________

٥٣١ ـ الرجز لرؤبة في ديوانه (ص ١٦٦).

(١) مرّ الشاهد رقم (٦١).

٥٣٢ ـ الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي في تاج العروس (غيل) ، وبلا نسبة في لسان العرب (غيل) ، وتهذيب اللغة (٨ / ١٩٥) ، والمخصّص (١ / ١٦٨) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٤٠٦) ، وديوان الأدب (٣ / ٣٠٥).


وأجيب بأن قيل له : قد أتعبت الأسماع بلغطك وغلطك ، وأزعجت الطباع بخطائك وسقطك يا هذا ، إنّ تفسيرك للغيل بأنهم الذين امتلؤوا من شرب اللبن قياسا على الغيل وهو الساعد الممتلئ شيء لم يذهب إليه أحد من أهل اللغة ، وإنما ذهبوا إلى أنّ الغيل هو أن ترضع المرأة ولدها وهي حامل ، واسم ذلك اللبن أيضا الغيل ، ولم يقل أحد منهم : إنّ الغيل هو الامتلاء من شرب اللبن ، وإنما فسّرت لفظة الغيل في بيت الأعشى على غير هذا ، وهو : [البسيط]

٥٣٤ ـ إنّي لعمر الّذي خطّت مناسمها

تخدي وسيق إليه الباقر الغيل

على وجهين : أحدهما : أنّها الكثيرة من قولهم : غيل أي : كثير ، وقيل : الغيل هاهنا السّمان من قولهم : ساعد غيل أي : سمين ، والغيل بمعنى الكثير هو المراد في البيت الأول ، لأنّه يصف هذا الصائد بالفقر وكثرة الأولاد ، وأنّهم ليس لهم غذاء إلّا السّمار ، وهو اللبن الرقيق ، وأما قولك : إن غيلا جمع غيال واحد لم ينطق به فمن أفحش غلطاتك وأفضح سقطاتك ، بل هو جمع غيل ، والغيل : الماء الكثير وجمعه غيل ، ونظيره سقف وسقف ، وكذلك الغيل السّمان واحدها غيل أيضا ، وإنما غلطك في ذلك أنّ الغالب في فعل أن يكون جمعا لفعال أو فعال ، مثل حمار وحمر وقذال وقذل ، فقضيت أنّ غيلا جمع غيال ، وأمّا تفسيرك السّمار بأنّه اللبن على الإطلاق فغلط يجوز على مثلك من أهل التحريف ، وإنما صوابه أن تقول : السّمار : اللبن الرقيق أو اللبن المخلوط بالماء لأن تسمير اللبن هو خلطه بالماء ، فإن أكثر فيه الماء سمّوه المضيّح ، وتفسير البيت على وجه الصواب أنّه يصف حمار وحش أو ثور وحش آنس طملا أي : صائدا ، والطّمل : الذئب شبهه به ، يقول : هذا الثور الوحشي آنس صائدا له عائلة وأطفال ليس لهم غذاء إلّا اللبن المخلوط بالماء ، فهو لذلك أشدّ الناس اجتهادا في أن ينال صيد هذا الثور الوحشي ، ليشبع به عياله وأولاده.

المسألة التاسعة : قال أبو نزار : وسئلت في بغداد عن قول الشاعر (٢) : [المديد]

غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهمّ والحزن

فلم يعرف وجه رفع غير ، وأوّل من أخطأ فيه شيخنا الفصيحيّ فعرفته ذلك ، والذي ثبت الرأي عليه أنّ المعنى لا يؤسف على زمن ، فغير مرفوع بالابتداء ، وقد تمّ

__________________

٥٣٤ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١١٣) ، ولسان العرب (غيل) ، وتهذيب اللغة (٣ / ٤١٦) ، وتاج العروس (غيل) ، وكتاب الجيم (٣ / ١٤).

(١) مرّ الشاهد رقم (٢٧٢).


الكلام وحصول الفائدة مسدّ الخبر ، ولا خبر في اللفظ ، كما قالوا : أقائم أخواك ، والمعنى : أيقوم أخواك ، فقائم مبتدأ ، وسدّ تمام الكلام مسدّ الخبر ولا خبر في اللفظ.

فقيل له : عجبنا أن أخطأت مرة بالصواب ، وجريت في توجيه هذه المسألة على سنن الإعراب.

المسألة العاشرة : قال أبو نزار : تقول العرب : جئت من عنده ، لأنّ من قضى وطرا من شخص فقد صار المعنى عنده غير مهمّ في نظره ، لأنّ الذي انقضى قد خرج عن حدّ الاهتمام به ، وبقي اختصاص الشخص بالموضع المختص بمن كان الغرض متعلقا به ، فأردت أن تذكر انفصالك عن مكان يخصه ، فقلت : من عنده ، فأمّا إذا كان الإنسان قد اعتزم أمرا يريده من شخص فإن المكان القريب من ذلك الشخص لا يهمّه ، وإنما المهم ذكر الإنسان الذي حاجتك عنده ، فالحكمة تقتضي أن تقول : إليه ولم يجز إلى عنده ، هذه حكمة العرب ، فأمّا سيبويه فقال : استغنوا بإليه عن «عنده» كما استغنوا بمثل وشبه عن ك.

فقال الرادّ عليه : يا هذا كانت إصابتك في مسألتك آنفا فلتة اغتفلتها ، وجميع ما وجّهت به في مسألتك هذه خارج عن الأصل المنقول ، ولم يذهب إليه أحد من ذوي العقول ، وذلك أنّ الذي ذهب إليه المحصّلون من أهل هذه الصناعة هو أنّ الظروف التي ليست بمتمكنة مثل : عند ولدن ومع وقبل وبعد حكمها أن لا يدخل عليها شيء من حروف الجر لعدم تمكنها وقلة استعمالها استعمال الأسماء ، وإنّما أجازوا دخول من عليها توكيدا لمعناها وتقوية له ، ولمّا لم يجز في شيء منها أن يكون انتهاء إلّا بذكر إلى لم يجز دخولها عليه تأكيدا لمعناه ، كما كان ذلك في من ، وقد قدمت أنّ حكم هذه الظروف أن لا يدخل عليها شيء البتّة من حروف الجر للزومها الظرفية وقلّة تصرّفها ، ولو لا قوة الدلالة فيها على الابتداء وقوة من على سائر حروف الجر بكونها ابتداء لكل غاية لما جاز دخول من عليها ، ألا ترى أنّه قد جاء في كلامهم كون «من» يراد بها الابتداء والانتهاء في مثل : رأيت الهلال من خلل السّحاب ، فخلل السّحاب هو ابتداء الرؤية ومنتهاها ، فهذا مما يدلّ على قوة من وضعت إلى ، فلذلك أجازوا : من عنده ومن معه ومن لانه ومن قبله ومن بعده ولم يجيزوا إلى عنده وإلى قبله وإلى بعده ، فهذه خمسة الظروف لا يدخل عليها شيء من الحروف الجارة سوى من ، وسبب ذلك ما تقدم ذكره.

وأما قولك : إنّ سبب ذلك هو أنّ من قضى وطرا إلى آخره فهذيان المبرسمين


ودعوى المتحكّمين ، وذلك أنّه لو كان الأمر على ما ذهبت إليه لامتنع أن تقول : رجعت إلى داره ، فينبغي على هذا أن يكون الصواب : رجعت إليه وعدت إليه ، فيكون قول من قال : رجعت إلى داره وعدت إلى منزله ، لا يصحّ كما لا يصح «إلى عنده» ، لأنّ المهم إنما هو الشخص دون محلّه ، وإذا امتنع ذلك مع عنده فكذلك يمتنع مع البيت والمنزل وغيرهما ، وأمّا قولك : «إنّ المكان القريب من ذلك الشخص لا يهمّه» فإنّ هذا الكلام يقتضى منه أنه إذا بعد مكانه منه احتيج إلى ذكره فيقال : رجعت إلى عنده ، وذلك أنّه إنّما جاز إسقاطه لقرب المكان الذي فيه الشخص ، واستغنى عن ذكره لقربه ، فيلزمه أن لا يسقطه عند بعده ، ولو قدّرنا أنّ جميع ما ذكرته من جواز دخول من على عند وامتناع دخول إلى عليها صحيح لوجب عليك أن تستأنف جوابا آخر عن امتناع دخول إلى على (قبل) و (بعد) و (مع) و (لدن) وجواز دخول من عليها ، وليس في جميع ما ذكرته جواب عن ذلك ، وليس الجواب عند النحويين إلا ما قدّمناه فافهم ذلك. انتهت المسائل العشر.

من أبيات المعاني المشكلة الإعراب

قال السخاوي في (سفر السعادة) : من أبيات المعاني المشكلة الإعراب ، قال : ولسنا نعني بأبيات المعاني ما لم يعلم ما فيه من الغريب ، وإنّما يعنون بأبيات المعاني ما أشكل ظاهره وكان باطنه مخالفا لظاهره ، وإن لم يكن فيه غريب ، أو كان غريبه معلوما ، قوله : [الطويل]

٥٣٥ ـ ومن قبل آمنّا وقد كان قومنا

يصلّون للأوثان قبل محمّدا

نصب محمّدا بآمنّا لأنه بمعنى صدّقنا محمّدا ، وقيل : بإسقاط الخافض ، وهذا أحسن ، وقوله : [الطويل]

لقد قال عبد الله شضرّ مقالة

كفى بك يا عبد العزيز حسيبها

عبد الله مثنى حذف نونه للإضافة وألفه لالتقاء الساكنين وعبد منادى مرخم عبدة ، ثم ابتدأ فقال : العزيز حسيبها ، كما تقول : الله حسيبك ، انتهى.

الكلام في قوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ)

في تفسير الثعلبي : كان لهارون الرشيد غلام نصراني جامعا لخصال الأدب وكان الرشيد يحاوله ليسلم فيأبى ، فألحّ عليه يوما فقال : إن في كتابكم حجّة لما

__________________

٥٣٥ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (أمن) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ١١٢).


أنتحله ، قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] ، فدعا الرشيد العلماء وسألهم عن جوابها ، فلم يجد فيهم من يزيل الشبهة ، فقيل له : قدم حجّاج خراسان وفيهم عليّ بن الحسين بن واقد ، إمام في علم القرآن ، فدعاه وذكر النصراني الشبهة ، فاستعجم عليه الجواب فقال : يا أمير المؤمنين قد سبق في علم الله أنّ هذا الخبيث يسألني عن هذا ، ولم يخل الله كتابه عن جوابه ولم يحضرني الآن ، والله عليّ أن لا أطعم حتى آتي بحقها ، ثم أغلق عليه بيتا مظلما ، واندفع يقرأ القرآن ، فبلغ من سورة الجاثية : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، فصاح أقيموا الباب ، ففتح وقرأ الآية على الغلام بين يدي الرشيد ، وقال : إن كان قوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) يوجب كون عيسى بعضا منه فيجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضا منه ، فانقطع النصراني وأسلم ، وفرح الرشيد وأعظم جائزة عليّ بن واقد وجدت بخط الشيخ شس الدين بن القماح في مجموع له.

من مراسلات الشيخ ضياء الدين أبي العباس

قال : من مراسلات شيخنا العلامة ضياء الدين أبي العباس أحمد ابن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر بن عبد المنعم الأنصاري القرطبي إلى بعض الحكام بقوص (١) وقد جرى كلام في مسألة نحوية جوابا عنها ، كان سيدنا متّع الله ببركتي علمه وعمله ، ومنحه راحتي طاعته وأمله في بارحته التي أشرق دجاها بأسرّته ، ووضح سناها بغرّته ، نثر من جوهر فضله الشفّاف ودرره التي تلج حشا الأصداف ، وضوّع من عرف علمه الذي هو أضوع من عنبر المستاف ونشر من أردية لفظه كلّ رقيق الحاشية معل الأطراف ، وسأل عن أبيات مساور العبسي : [الرجز]

٥٣٦ ـ قد سالم الحيّات منه القدما

الأفعوان والشّجاع الشّجعما

وذات قرنين ضموزا ضرزما

عن ناصب الأفعوان والشجاع ورافع الحيات ، وما معنى ضموزا وضرزم؟ فسقيا لفضيلته التي نوّر كمامها واشتدّ تمامها وأمطر غمامها واشتمل على الفضل بدؤها

__________________

(١) قوص : مدينة في صعيد مصر (معجم البلدان ٤ / ٢٠١).

٥٣٦ ـ الرجز للعجاج في ملحق ديوانه (٢ / ٣٣٣) ، وجمهرة اللغة (ص ١١٣٩) ، وله أو لأبي صياح الفقعسي أو لمساور العبسي أو لعبد بني عبس في خزانة الأدب (١١ / ٤١١) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٨١) ، وبلا نسبة في الكتاب (١ / ٣٤٤).


وختامها ، أمّا الحيّات ففاعل والأفعوان والشجاع بدل منه منصوب اللفظ ، فإن قيل : كيف يكون بدلا ومن شأن البدل مشابهة المبدل منه في إعرابه ، وقد قلتم : إنّ الحيّات مرفوع وهذا منصوب؟ قلنا : كل واحد من الأفعوان والشّجاع فيه معنى الفاعلية والمفعولية فالحيّات ارتفع لفظه بما فيه من معنى الفاعلية وانتصب الأفعوان والشّجاع بما فيهما وفي الحيات من معنى المفعولية ، وإنما قلنا : إنّ كلّا منهما فاعل ومفعول لأنّ لفظ سالم يقتضي الفاعلية من فاعلته ، فلزم أن يكون كلّ منهما فاعلا بما صدر من فعله مفعولا بما صدر من فعل صاحبه ، لأنّ الحيّات سالمت القدم وسالمتها فلم تطأها ، فالحيّات فاعلة مفعولة ، والقدم فاعلة مفعولة ، فجاز أن يحمل اللفظ في الأفعوان والشجاع على ما فيهما وفي الحيات من معنى المفعولية ، وصح به معنى البدل ، وأمّا «ذات قرنين» فارتفع بالعطف على لفظ الحيات ، ولو انتصب لجاز ، وأمّا ضموزا فهو الساكت ، «وضرزما» فهو الصلب ، وهما حالان.

ما اختلف فيه من شعر أبي القاسم الحريري

قال الصلاح الصفدي (١) : اختلفت أنا والمولى شرف الدين حسين بن ريان في قول الحريري : [السريع]

٥٣٧ ـ فلم يزل يبتزّه دهره

ما فيه من بطش وعود صليب

فذهب هو في إعراب قوله : «ما فيه» إلى أنّه في موضع نصب على أنه مفعول ثان ، وذهبت أنا إلى أنه بدل اشتمال من الهاء التي في قوله : يبتزّه ، فكتب شرف الدين فتيا من صفد وجهّزها إلى الشيخ كمال الدين بن الزّملكاني ، وهي : ما تقول السادة علماء الدهر وفضلاء هذا العصر ، لا برحوا لطالبي العلم الشريف قبلة ، وموطن السؤال ومحلّه في رجلين تجادلا في مسألة نحوية ، وهي في بيت من المقامات الحريرية ، وهو :

فلم يزل يبتزّه دهره

ما فيه من بطش وعود صليب

ذهب إلى أنّ معنى يبتزّه يسلبه ، وكلّ منهما وافق في هذا مذهب خصمه مذهبه ، ومواطن سؤالهما الغريب إعراب قوله : «ما فيه من بطش وعود صليب» لم يختلفا في نصبه ، بل خلفهما فيما انتصب به ، فذهب أحدهما إلى أنّه بدل اشتمال من الهاء المنصوبة في يبتزّه ، وله على ذلك استدلال ، وذهب الآخر إلى أنّه مفعول ثان ليبتزه ، وجعل المفعول الهاء ، واختلفا في ذلك ، وقاصداكم جاءا وقد سألا الإجابة عن

__________________

٥٣٧ ـ انظر المقامة الفارمية العشرين (ص ١٩٥).


هذه المسألة فقد اضطرّا في ذلك إلى المسألة ، فكتب الشيخ كمال الدين الجواب : الله يهدي إلى الحق ، كلّ من المختلفين المذكورين قد نهج نهج الصواب ، وأتى بحكمة وفصل خطاب ، ولكلّ من القولين مساغ في النظر الصحيح ، ولكنّ النظر إنما هو في الترجيح ، وجعل ذلك مفعولا أقوى توجيها في الإعراب ، وأدقّ بحثا عند ذوي الألباب ، أما من جهة الصناعة العربية فلأنّ المفعول متعلق الفعل بذاته التي بوقوع الفعل عليه معنية ، والبدل مبيّن بكون الأول معه مطروحا في النيّة ، وهذا الفعل بهذا المعنى متعدّ إلى مفعولين ، و «ما فيه من بطش» هو أحد ذينك الاثنين ، لئلا يفوت متعلّق الفعل المستقل ، والبدل بيان يرجع إلى توكيد بتأسيس المعنى مخلّ ، وأما من جهة المعنى فلأن المقام مقام تشكّ وأخذ بالقلوب ، وتمكين هذا المعنى أقوى إذا ذكر ما سلب منه مع بيان أنّه المسلوب ، فذكر المسلوب منه مقصود كذكر ما سلب ، وفي ذلك من تمكين المعنى ما لا يخفى على ذوي الإرب ، ووراء هذا بسط لا تحتمله هذه العجالة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال الصلاح الصفدي : لا أعلم أحدا يأتي بهذا الجواب غيره ، لمعرفته بدقائق النحو وبغوامض علمي المعاني والبيان ودربته بصناعة الإنشاء.

من الفوائد المتعلّقة بالمقامات

قال القاضي تاج الدين السّبكي في (الطبقات الكبرى) (١) : ومن الفوائد المتعلقة بالمقامات : سأل ابن يعيش النحوي زيد بن الحسن الكنديّ عن قول الحريري في المقامة العاشرة (٢) : «حتى إذا لألأ الأفق ذنب السّرحان وآن انبلاج الفجر وحان» ما يجوز في قوله : «الأفق ذنب السرحان» من الإعراب؟ وأشكل عليه الجواب ، حكى ذلك ابن خلّكان (٣) ، وذكر أنّ البندهيّ جوّز في شرح المقامات رفعهما ونصبهما ورفع الأول ونصب الثاني وعكسه.

قال ابن خلكان : ولو لا خوف الإطالة لأوردت ذلك ، قال : والمختار نصب الأفق ورفع ذنب قال ابن السّبكي : وقال الشيخ جمال الدين بن هشام ومن خطه نقلت : كأنّ رفعهما على حذف مفعول لألأ وتقدير ذنب بدلا ، أي : حتى إذا لألأ الوجود والأفق ذنب السّرحان ، وهو بدل اشتمال ، ونظيره : سرق زيد فرسه ، ويضعّفه أو يردّه

__________________

(١) انظر طبقات الشافعية الكبرى (٧ / ٢٦٩).

(٢) انظر مقامات الحريري (ص ٧٠).

(٣) انظر وفيات الأعيان (٧ / ٤٧).


عدم الضمير ، وقد يقال : إن ال خلف عن الإضافة أي : ذنب سرحانه ، ومثله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ، النَّارِ) [البروج : ٥ ـ ٤] أي : ناره ، أو على حذف الضمير كما قالوا في الآية ، أي : ذنب السرحان فيه ، والنار فيه.

وأما نصبهما فعلى أنّ الفاعل ضمير اسمه تعالى ، والأفق مفعول به ، وذنب بدل منه أي : لألأ الله الأفق ذنب السّرحان ، أي : سرحانه أو السرحان فيه ، ورفع الذنب ونصب الأفق واضح ، وعكسه مشكل جدا ، إذ الأفق لم ينوّر الذنب ، نعم إن كان تجويزه على أنّ من باب المقلوب اتّجه كما قالوا : كسر الزجاج الحجر وخرق الثوب المسمار ، لأمن اللبس.

من الفتاوى النحوية لابن هشام

قال الشيخ جمال الدين بن هشام الأنصاري رحمه الله تعالى : سألني بعض الإخوان وأنا على جناح السفر عن توجيه النصب في نحو قول القائل : فلان لا يملك درهما فضلا عن دينار ، وقوله : الإعراب لغة : البيان واصطلاحا : تغيير الآخر لعامل ، والدليل لغة المرشد ، والإجماع لغة العزم والسّنّة لغة الطريقة ، وقوله : يجوز كذا خلافا لفلان ، وقوله : وقال أيضا ، وقوله : هلمّ جرّا ، وكلّ هذه التراكيب مشكلة ، ولست على ثقة من أنّها عربية وإن كانت مشهورة في عرف الناس ، وبعضها لم أقف لأحد على تفسير له ، وقفت لبعضها على تفسير لا يشفي عليلا ولا يبرّد غليلا ، وها أنا مورد في هذه الأوراق ما تيسّر لي معتذرا بضيق الوقت وسقم الخاطر ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

أما قوله : فلان لا يملك درهما فضلا عن دينار ، فمعناه أنّه لا يملك درهما ولا دينارا ، وأنّ عدم ملكه الدينار أولى من عدم ملكه الدرهم ، فكأنه قال : لا يملك درهما فكيف يملك دينارا؟ وهذا التركيب زعم بعضهم أنه مسموع ، وأنشد عليه : [الرمل]

٥٣٨ ـ قلّما يبقى على هذا القلق

صخرة صمّاء فضلا عن رمق

الرّمق : بقية الحياة ، ولا تستعمل «فضلا عن» هذه إلّا في النفي ، وهو مستفاد في البيت من «قلّما» ، قال بعضهم ، حدث ل (قلّ) حين كفّت بما إفادة النفي ، كما حدث ل (إنّ) المكسورة المشدّدة حين كفّت إفادة الاختصاص ، قلت : وهذا خطأ ، فإنّ قلّ تستعمل للنفي مثل الكفّ ، يقال : قلّ أحد يعرف هذا إلّا زيد ، بمعنى لا يعرف هذا إلّا زيد ، ولهذا صحّ استعمال أحد ، وصحّ إبدال المستثنى ، وهو بدل إما


من أحد أو من صغيره ، و «على» في البيت للمعيّة ، مثلها في قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [إبراهيم : ٣٩] ، وانتصاب «فضلا» على وجهين محكيّين عن الفارسي :

الأول : أن يكون مصدرا لفعل محذوف ، وذلك الفعل نعت للنكرة.

الثاني : أن يكون حالا من معمول الفعل المذكور ، هذا خلاصة ما نقل عنه ويحتاج إلى بسط يوضحه اعلم أنّه يقال : فضل عنه وعليه بمعنى زاد ، فإن قدّرته مصدرا فالتقدير : لا يملك درهما يفضل فضلا عن دينار ، وذلك الفعل المحذوف صفة ل : «درهما» ، كذا حكي عن الفارسي ، ولا يتعيّن كون الفعل صفة ، بل يجوز أن يكون حالا ، كما جاز في «فضلا» أن يكون حالا على ما سيأتي تقريره ، نعم ، وجه الصفة أقوى لأنّ نعت النكرة كيف كانت أقيس من مجيء الحال منها ، وإن قدّرته حالا فصاحبها يحتمل وجهين :

الأول : أن يكون ضميرا لمصدر محذوف ، أي : لا يملكه ، أي : لا يملك الملك على حدّ قوله : [البسيط]

٥٣٩ ـ هذا سراقة للقرآن يدرسه

[والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب]

أي : يدرس الدرس ، إذ ليس الضمير للقرآن ، لأنّ اللام متعلقة بيدرس ، ولا يتعدّى الفعل إلى ضمير اسم وإلى ظاهره جميعا ، ولهذا وجب في «زيدا ضربته» تقدير عامل على الأصح ، وعلى هذا خرج سيبويه والمحققون نحو قوله : ساروا سريعا ، أي : ساروه ، أي : ساروا السير سريعا ، وليس «سريعا» عندهم نعتا لمصدر محذوف لالتزام العرب تنكيره ، ولأن الموصوف لا يحذف إلّا إن كانت الصفة مختصة بجنسه ، كما في «رأيت كاتبا» أو حاسبا أو مهندسا ، فإنّها مختصة بجنس الإنسان ، ولا يجوز : «رأيت طويلا» ولا «رأيت أحمر» ، وفي هذا الموضع بحث ليس هذا موضعه.

الثاني : أن يكون قوله : درهما حالا ، فإن قلت : كيف جاز مجيء الحال من النكرة؟ قلت : أما على قول سيبويه فلا إشكال ، لأنه يجوز عنده مجيء الحال من

__________________

٥٣٩ ـ الشاهد بلا نسبة في الكتاب (٣ / ٧٦) ، وخزانة الأدب (٢ / ٣) ، والدرر (٤ / ١٧١) ، ورصف المباني (ص ٢٤٧) ، وشرح التصريح (١ / ٣٢٦) ، وشرح شواهد المغني (ص ٥٨٧) ، ولسان العرب (سرق) ، والمقرّب (١ / ١١٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ٣٣).


النكرة ، وإن لم يمكن الابتداء بها ، ومن أمثلته (١) : «فيها رجل قائما» ، ومن كلامهم (٢) : «عليه مائة بيضا» ، وفي الحديث : «وصلّى وراءه رجال قياما» (٣) ، وأمّا على المشهور من أنّ الحال لا تأتي من النكرة إلا بمسوّغ فلها مسوّغان :

الأول : كونها في سياق النفي ، والنفي يخرج النكرة من حيّز الإبهام إلى حيّز العموم ، فيجوز حينئذ الإخبار عنها ومجيء الحال منها.

الثاني : ضعف الوصف ، ومتى امتنع الوصف بالحال أو ضعف ساغ مجيئها من النكرة ، فالأول كقوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ) [البقرة : ٢٥٩] ، وقول الشاعر : [الطويل]

٥٤٠ ـ مضى زمن والناس يستشفعون بي

[فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع]

فإن الجملة المقرونة بالواو لا تكون صفة خلافا للزمخشري ، وقولك : «هذا خاتم حديدا» عند من أعربه حالا ، لأنّ الجامد المحض لا يوصف به ، والثاني كقولهم (٥) : «مررت بماء قعدة رجل» ، فإنّ الوصف بالمصدر خارج عن القياس.

فإن قلت : هلّا أجاز الفارسي في «فضلا» كونه صفة ل «درهما» ، قلت : زعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز ، لأنه لا يوصف بالمصدر إلا إذا أريدت المبالغة لكثرة وقوع ذلك الحدث من صاحبه ، وليس ذلك بمراد هنا.

قال : وأمّا القول بأنه يوصف بالمصدر على تأويله بالمشتق أو على تقدير المضاف فليس قول المحققين.

قلت : هذا كلام عجيب ، فإنّ القائل بالتأويل الكوفيون ، فيؤوّلون عدلا بعادل ، ورضى بمرضيّ ، وكذا يقولون في نظائرهما ، والقائل بالتقدير البصريون ، يقولون : التقدير : ذو عدل وذو رضى ، وإذا كان كذلك فمن المحققون؟ ثم اختلف النقل عن الفريقين ، والمشهور أنّ الخلاف مطلق ، وقال ابن عصفور : «وهو الظاهر ، إنما

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٤٨).

(٢) انظر الكتاب (٢ / ١٠٩).

(٣) انظر جامع الأصول لابن الأثير الجزري (٥ / ٦٢٤).

٥٤٠ ـ الشاهد للمجنون في ديوانه (ص ١٥١) ، والدرر (٤ / ٧) ، وسمط اللآلي (ص ١٣٣) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٤١) ، وبلا نسبة في مغني اللبيب (٢ / ٤٣٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٤٠).

(٤) انظر الكتاب (٢ / ١١٠).


الخلاف حيث لا تقصد المبالغة ، فإن قصدت فالاتّفاق على أنّه لا تأويل ولا تقدير».

وهذا الذي قاله ابن عصفور هو الذي في ذهن أبي حيّان ، ولكنّه نسي فتوهّم أنّ ابن عصفور قال : إنّه لا تأويل مطلقا ، فمن هنا ـ والله أعلم ـ دخل عليه الوهم ، والذي يظهر لي أنّ الفارسيّ إنّما لم يجز في «فضلا» الصفة لأنه رآه منصوبا أبدا سواء كان ما قبله منصوبا كما في المثال أم مرفوعا كما في البيت ، أم مخفوضا كما في قولك : فلان لا يهتدي إلى ظواهر النحو فضلا عن دقائق البيان.

فهذا منتهى القول في توجيه إعراب الفارسيّ ، وأمّا تنزيله على المعنى المراد فعسر ، وقد خرّج على أنّه من قوله :[الطويل]

٥٤١ ـ على لا حب لا يهتدى بمناره

[إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا]

ولم يذكر أبو حيان سوى ذلك ، وقال : وقد يسلّطون النفي على المحكوم عليه بانتفاء صفته ، فيقولون : ما قام رجل عاقل ، أي : لا رجل عاقل فيقوم ، ثم أنشد بيت امرئ القيس المذكور ، فقال : ألا ترى أنه لا يريد إثبات منار للطريق وينفي الاهتداء به؟ إنما يريد نفي المنار فتنتفي الهداية به ، أي : لا منار لهذا الطريق فيهتدى به ، وقال الأفوه الأوديّ : [السريع]

٥٤٢ ـ بمهمه ما لأنيس به

حسّ فما فيه له من رسيس

لا يريد أن بهذا القفر أنيسا لا حسّ له ، إنّما يريد : لا أنيس به فيكون له حسّ ، وعلى هذا خرج : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] ، أي : لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته ، و (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٣٥] ، أي : لا سؤال فيكون إلحافا ، قال : وعلى هذا يخرج المثال المذكور ، أي : لا يملك درهما فيفضل عن دينار له ، وإذ انتفى ملكه الدرهم كان انتفاء ملكه للدينار أولى.

قلت : وهذا الكلام الذي ذكره لا تحرير فيه ، فإنّ الأمثلة المذكورة من بابين مختلفين وقاعدتين متباينتين أميّز كّلا منهما عن الأخرى ، ثم أذكر أنّ التخريج المذكور لا يتأتّى على شيء منهما :

__________________

٥٤١ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٦٦) ، ولسان العرب (ديف) و (سوف) و (لحف) ، وتهذيب اللغة (٥ / ٧٠) ، وأساس البلاغة (سوف) ، وتاج العروس (سوف) و (لحف) و (ديف) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نسا) ، ومقاييس اللغة (٢ / ٣١٨) ، ومجمل اللغة (٢ / ٣٠٤).

٥٤٢ ـ الشاهد في ديوانه (ص ١٨) ، وسمط اللآلي (ص ٣٦٤).


القاعدة الأولى : أنّ القضية السالبة لا تستلزم وجود الموضوع ، بل كما تصدق مع وجوده تصدق مع عدمه ، فإذا قيل : ما جاءني قاضي مكة ولا ابن الخليفة ، صدقت القضية ، وإن لم يكن بمكة قاض ولا للخليفة ابن ، وهذه القاعدة هي التي يتخرج عليها (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) وبيت امرئ القيس ، فإنّ شفاعة الشافعين بالنسبة إلى الكافرين غير موجودة يوم القيامة ، لأنّ الله تعالى لا يأذن لأحد في أن يشفع لهم ، لأنّه لا يأذن فيما لا ينتفع لتعاليه عن العبث ، ولا يشفع أحد عند الله إذا لم يأذن الله له : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ، وكذلك المنار غير موجود في الّلاحب المذكور ، لأنّ المراد التمدّح بأنّه يقطع الأرض المجهولة من غيرها ويهتدي به ، فغرضه إنّما تعلّق بنفي وجود ما يهتدي به في تلك الطريق التي سلكها لا بنفي وجود الهداية عن شيء نصب فيها للاهتداء به ، وأمّا قول أبي حيان وغيره : المراد لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته ولا منار فيهتدى به فليس بشيء ، لأنّ النفي إنما يتسلّط على المسند لا على المسند إليه ، ولكنّهم لمّا رأوا الشفاعة والمنار غير موجودين توهّموا أنّ ذلك من اللفظ فزعموا ما زعموا ، وفرق بين قولنا : الكلام صادق مع عدم المسند إليه وقولنا : إنّ الكلام اقتضى عدمه.

القاعدة الثانية : أنّ القضية السالبة المشتملة على مقيّد نحو : ما جاءني رجل شاعر ، تحتمل وجهين :

الأول : أن يكون نفي المسند باعتبار القيد ، فيقتضي المفهوم في المثال المذكور وجود مجيء رجل ما غير شاعر ، وهذا هو الاحتمال الراجح المتبادر ، ألا ترى أنه لو كان المراد نفيه عن الرجل مطلقا لكان ذكر الوصف ضائعا ، ولكان زيادة في اللفظ ونقضا في المعنى المراد؟.

الثاني : أن يكون نفيه باعتبار المقيّد وهو الرجل ، وهذا احتمال مرجوح لا يصار إليه إلّا بدليل ، فلا مفهوم حينئذ للقيد ، لأنّه لم يذكر للتقيد ، بل ذكر لغرض آخر ، كأن يكون المراد مناقضة من أثبت ذلك الوصف ، فقال : جاءك رجل شاعر ، فأردت التنصيص على نفي ما أثبته ، وكأن يراد التعريض كما أردت في المثال المذكور أن تعرّض بمن جاءه رجل شاعر ، وهذه هي القاعدة التي يتخرج عليها (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] ، فإنّ الإلحاف قيد في السؤال المنفيّ ، والمراد من الآية ـ والله أعلم ـ نفي السؤال البتة بدليل : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣] ، والتعفّف لا يجامع المسألة ، ولكن أريد بذكر الإلحاف ـ والله أعلم ـ التعريض بقوم ملحفين توبيخا لهم على صنيعهم ، والتعريض


بجنس الملحفين ، وذمّهم على الإلحاف لأنّ النقيض للوصف الممدوح مذموم ، والمثال المبحوث فيه يتخرج على هذه القاعدة فيما زعموا.

فإنّ فضلا مقيد للدرهم ، فلو قدّر النفي مسلّطا على القيد اقتضى مفهومه خلاف المراد ، وهو أنّه يملك الدرهم ولكنّه لا يملك الدينار ، ولمّا امتنع هذا تعيّن الحمل على الوجه المرجوح ، وهو تسليط النفي على المقيّد وهو الدرهم ، فينتفي الدينار لأنّ الذي لا يملك الأقلّ لا يملك الأكثر ، فإنّ المراد بالدرهم ليس الدرهم العرفيّ ، لأنّه يجوز أن يملك الدينار من لا يملكه ، بل المراد ما يساوي من النقود درهما ، فهذا توجيه التخريج.

وأما الاعتراض عليه فمن جهة أنّ القيد ليس نفس الدينار حتى يصير المعنى : لا يملك درهما فكيف يملك دينارا؟ وإنما القيد قوله : فضلا عن دينار ، فيصير المعنى لا يملك درهما فكيف يملك زائدا عن دينار ، والكلام لم يسق لنفي ملك الزائد عن الدينار ، بل لنفي ملك الدينار نفسه ، ثم يلزم من ذلك انتفاء ملك ما زاد عليه ، والذي يظهر لي في توجيه هذا الكلام أن يقال : إنه في الأصل جملتان مستقلّتان ، ولكنّ الجملة الثانية دخلها حذف كثير وتغيير حصل الإشكال بسببه ، وتوجيه ذلك أن يكون هذا الكلام في اللفظ أو في التقدير جوابا لمستخبر قال : أيملك فلان دينارا؟ أو ردّا على مخبر قال : فلان يملك دينارا ، فقيل في الجواب : فلان لا يملك درهما ، ثم استأنف كلاما آخر ، ولك في تقديره توجيهان :

الأول : أو يقال : أخبرتك بهذا زيادة عن الإخبار عن دينار استفهمت عنه أو زيادة عن دينار ، وأخبرت بملكك له ، ثم حذفت جملة «أخبرتك بهذا» وبقي معمولها وهو «فضلا» كما قالوا : حينئذ الآن ، بتقدير : كان ذلك حينئذ واسمع الآن ، فحذفوا الجملتين وأبقوا من كل منهما معمولها ، ثم حذف مجرور عن وجار دينار وأدخلت عن الأولى الدينار ، كما قالوا : «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من عين زيد» ، والأصل : منه في عين زيد ، ثم حذف مجرور من وهو الضمير وجارّ العين وهو في ودخلت من على العين.

الثاني : أن يقدر : فضلا انتفاء الدرهم عن فلان عن انتفاء الدينار عنه ، ومعنى ذلك أن تكون حال هذا المذكور في الفقر معروفة عند الناس ، والفقير إنما ينفى عنه في العادة ملك الأشياء الحقيرة لا ملك الأموال الكثيرة ، فوقوع نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي ملك الدينار عنه أو أكثر منه ، و «فضلا» على التقدير الأول حال وعلى الثاني مصدر ، وهما الوجهان اللذان ذكرهما الفارسي ، لكن توجيه


الإعرابين مخالف لما ذكر ، وتوجيه المعنى مخالف لما ذكروا ، لأنه إنما يتّضح تطابق اللفظ والمعنى على ما وجّهت لا على ما وجهوا ، ولعلّ من لم يقو أنسه بتجوّزات العرب في كلامهم يقدح فيما ذكرت بكثرة الحذف ، وهو كما قيل : [الطويل]

٥٤٣ ـ إذا لم يكن إلّا الأسنّة مركب

فلا أر للمحتاج إلّا ركوبها

وقد بيّنت في التوجيه الأول أنّ مثل هذا الحذف والتجوّز واقع في كلامهم ، قال أبو الفتح : «قال لي أبو علي : من عرف ألف ومن جهل استوحش».

رأي في قولهم : الإعراب لغة البيان

وأمّا قوله : الإعراب لغة البيان ونحوه فيتبادر إلى الذهن فيه أربعة أوجه :

الأول : وهو أقربها تبادرا أن يكون على نزع الخافض ، والأصل : الإعراب في اللغة البيان ، ويشهد لهذا أنّهم قد يصرّحون بذلك ، أعني بأن يقولون : الإعراب في اللغة البيان وفي هذا الوجه نظر من وجهين :

الأول : أنّ إسقاط الخافض من هذا ونحوه ليس بقياس ، واستعمال مثل هذا التركيب مستمرّ في كلام العلماء.

والثاني : أنّهم قد التزموا في هذه الألفاظ التنكير ، ولو كانت على إسقاط الخافض لبقيت على تعريفها الذي كان عند وجود الخافض ، كما بقي التعريف في قوله : [الوافر]

٥٤٤ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

[كلامكم عليّ إذا حرام]

وأصله : تمرون على الديار أو بالديار ، وقد يزاد على هذين الوجهين وجهان آخران :

الأول : أنه ليس في الكلام ما يتعلق به هذا الخافض.

والثاني : أنّ سقوط الخافض لا يقتضي النصب من حيث هو سقوط خافض ، بل من حيث إنّ العامل الذي كان الجار متعلقا به لمّا زال من اللفظ ظهر أثره لزوال ما

__________________

٥٤٣ ـ انظر زهر الآداب (٢ / ٨٢).

٥٤٤ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٢٧٨) ، والأغاني (٢ / ١٧٩) ، وتخليص الشواهد (ص ٥٠٣) ، وخزانة الأدب (٩ / ١١٨) ، والدرر (٥ / ١٨٩) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣١١) ، ولسان العرب (مرر) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٥٦٠) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٧ / ١٥٨) ، ورصف المباني (ص ٢٤٧) ، وشرح ابن عقيل (ص ٢٧٢) ، وشرح المفصّل (٨ / ٨) ، ومغني اللبيب (١ / ١٠٠) ، والمقرّب (١ / ١١٥).


كان يعارضه ، فإذا لم يكن في الكلام ما يقتضي النصب من فعل أو شبهه لم يجز النصب ، ومن هنا كان خطأ قول الكوفيين في «ما زيد قائما» : إنّ ما النافية لم ترفع الاسم ولم تنصب الخبر ، بل ارتفاع زيد على أنه مبتدأ ونصب «قائما» على إسقاط الباء ، وهذان الوجهان لو صحّا لاقتضيا أن لا يجوز الإعراب في اللغة البيان ، ولكن نجيزه على التعليق بأعني مضمرة معترضة بين المبتدأ والخبر ، والفصل بالجملة الاعتراضية جائز اتفاقا ، فإن قلت : هلّا قدّرت الجارّ المحذوف أو المذكور متعلقا بالخبر المؤخر عنه فإنّ فيه معنى الفعل ، قلت : لفساده معنى وصناعة ، أمّا معنى فلأنّه يصير المعنى : الإعراب البيان الحاصل في اللغة لا البيان الحاصل في غير اللغة ، وليس المراد هذا ، وأما صناعة فلأنّ البيان ونحوه مصادر ، ولا يتقدم على المصدر معموله ولو كان ظرفا ، ولهذا قالوا في قول الحماسي : [الهزج]

٥٤٥ ـ وبعض الحلم عند الجه

ل للذّلة إذعان

إنّ اللام متعلقة بإذعان محذوف يدل عليه الإذعان المذكور ، وليست متعلقة بالإذعان المذكور ، فإذا امتنعوا من ذلك حيث لم يظهر تأثير المصدر للنصب ولم يتجوزوا في الجار بالحذف فهم عن تجويز التقديم عند وجود هذين أبعد ، فإن قلت : هب أنّ هذا امتنع حيث الخبر مصدر ، لكنّه لا يمنع حيث هو وصف كقوله : الدليل لغة المرشد ، قلت بل يمتنع لأنّ اسم الفاعل صلة الألف واللام ، أي : الدليل الذي يرشد ، ولا يتقدم معمول الصلة على الموصول ولو كان ظرفا ، ولهذا يؤول قول الله سبحانه وتعالى : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف : ٢٠] ، (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١] ، (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) [الشعراء : ١٦٨] ولو قدّرنا «ال» في ذلك لمحض التعريف ، كما يقول الأخفش ، لم نخلص من الإشكال الثاني وهو فساد المعنى ، إذ المعنى حينئذ : الدليل الذي يرشد في اللغة لا الذي يرشد في غير اللغة ، وأيضا فإذا امتنع التعليق بالخبر حيث يكون الخبر مصدرا امتنع في الباقي لأنّ هذه الأمثلة باب واحد ، فإن قلت : قدّر التعليق بمضاف محذوف ، أي : تفسير الإعراب في اللغة البيان ، كما قالوا : أنت مني فرسخان على تقدير : بعدك مني فرسخان ، وقدر في مثلها في قولهم : الاسم ما دلّ على معنى في نفسه ، أي : ما دلّ

__________________

٥٤٥ ـ الشاهد للفند الزماني (شهل بن شيبان) في أمالي القالي (١ / ٢٦٠) ، وحماسة البحتري (ص ٥٦) ، وخزانة الأدب (٣ / ٤٣١) ، والدرر (٥ / ٢٥٠) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٣٨) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٩٤٤) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١٢٢) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (٢ / ٣٣٨) ، وهمع الهوامع (٢ / ٩٣).


على معنى باعتبار نفسه لا باعتبار أمر خارج عنه ، فإنّه إذا لم يحمل على هذا اقتضى أن يكون معنى الاسم وهو المسمى موجودا في لفظ الاسم وهو محال ، ولذا يكون المعنى : شرح الإعراب باعتبار اللغة البيان ، قلت : هذا تقدير صحيح ، ولكن يبقى الاشكالان الأوّلان وهما أنّ إسقاط الجارّ ليس بقياس وأنّ التزام التنكير حينئذ لا وجه له.

الوجه الثاني : أن يكون تمييزا ، وحينئذ فلا يشكل التزام تنكيره ، ولكنه ممتنع من جهة أنّ التمييز إمّا تفسير للمفرد كرطل زيتا أو تفسير للنسبة كطاب زيد نفسا ، وهنا لم تتقدم نسبة البتّة ، ولا اسم مبهم وضعا ، فإن قلت : أليس الإعراب في الحدّ المذكور يحتمل اللغويّ والاصطلاحيّ فهو مبهم؟ قلنا : الألفاظ المشتركة لا يجيء التمييز باعتبارها ، فلا نقول : رأيت عينا ذهبا على التمييز ، وسرّ ذلك أنّ : المشترك موضوع للدلالة على ذات المسمى باعتبار حقيقته ، وإنما يجيء الإلباس لعدم القرينة أو للجهل بها ، وأسماء العدد ونحوها ممّا يميّز لم توضع للذات باعتبار حقيقتها التي تحصل بالتمييز ، فإنه لا يفهم من عشرين إلا عشرتان من أيّ معدود كان ، فهو موضوع على الإبهام فافتقر إلى التمييز والمشترك إنّما وضع لمعيّن ، والاشتراك إنّما حصل عند السامع ، فإن قلت : يمكن أن يكون من تمييز النسبة بأن يقدّر قبله مضاف ، أي : شرح الإعراب ، فيكون من باب : أعجبني طيبه أبا ، فإنّ كون «أبا» تمييزا إنما هو باعتبار قولك : طيبه لا باعتبار الجملة كلها ، قلت : تمييز النسبة الواقع بعد المتضايفين لا يكون إلا فاعلا في المعنى ، ثم قد يكون مع ذلك فاعلا في الصناعة باعتبار الأصل فيكون محوّلا عن المضاف إليه ، نحو : أعجبني طيب زيد أبا ، إذا كان المراد الثناء على أبي زيد ، فإنّ أصله : أعجبني طيب أبي زيد ، وقد لا يكون كذلك فيكون صالحا لدخول من ، نحو : لله درّه فارسا ، وويحه رجلا ، ووويله إنسانا ، فإنّ الدّرّ بمعنى الخير ، والويح والويل بمعنى الهلاك ، ونسبتهما إلى الرجل نسبة الفعل إلى فاعله ، ومنه : أعجبني طيب زيد أبا ، إذا كان الأب نفس زيد ، وتعلّق الفعل بالمفعول لا بالفاعل ثم إنّا لا نعلم تمييزا جاء باعتبار متضايفين حذف المضاف منهما.

والوجه الثالث : أن يكون مفعولا مطلقا ، والأصل : الإعراب تغيير الآخر لعامل اصطلحوا على ذلك اصطلاحا ، ثم حذف العامل واعترض بالمصدر بين المبتدأ والخبر ، وهذا الوجه مردود أيضا لأنّه ممتنع في قولك : الإعراب لغة البيان ، فإنّ اللغة ليست مصدرا لأنّها ليست اسما لحدث وإنما هي اسم للفظ المسموع ، ولهذا توصف بما توصف به الألفاظ المسموعة فيقال : لغة فصيحة كما يقال كلمة


فصيحة ، وزعم أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله في أماليه أنّ ذلك على المفعول المطلق ، وأنّه من المصدر المؤكد لغيره ، قال : «ذلك لأنّ معنى قولنا : الإجماع لغة العزم ، مدلول الإجماع لغة : العزم ، والدّلالة تنقسم إلى دلالة شرع وإلى دلالة عرف ، فلمّا كانت محتملة وذكر أحد المحتملات كان مصدرا من باب المصدر المؤكد لغيره» ، وفيما قاله نظر من وجهين :

الأول : ما ذكرنا من أنّ اللغة ليست مصدرا لأنّها ليست اسما لحدث.

والثاني : أنّ ذلك لو كان مصدرا مؤكدا لغيره لكان إنّما يأتي بعد الجملة ، فإنه لا يجوز أن يتوسّط ولا أن يتقدّم لأنّه لا يقال : زيد حقا ابني ، ولا حقا زيد ابني ، وإن كان الزّجّاج يجيز ذلك ، ولكنّ الجمهور على خلافه.

والوجه الرابع : أن يكون مفعولا لأجله ، والتقدير : تفسير الإعراب لأجل الاصطلاح ، أي : لأجل بيان الاصطلاح ، وهذا الوجه أيضا لا يستقيم لأنّ المنتصب على المفعول له لا يكون إلّا مصدرا كقمت إجلالا له ، ولا يجوز : جئتك الماء والعشب بتقدير مضاف أي : ابتغاء الماء والعشب.

الوجه الخامس : وهو الظاهر ، أن يكون حالا على تقدير مضاف إليه من المجرور ومضافين من المنصوب ، والأصل : تفسير الإعراب موضوع أهل اللغة أو موضوع أهل الاصطلاح ثم حذف المتضايفان على حد حذفهما في قوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [طه : ٩٦] ، أي : من أثر حافر فرس الرسول ، ولمّا أنيب الثالث عمّا هو الحال بالحقيقة التزم تنكيره لنيابته عن لازم التنكير ، كما في قولهم : «قضية ولا أبا حسن لها» (١) والأصل ولا مثل أبي الحسن لها ، فلمّا أنيب أبو حسن عن مثل جرّد عن أداة التعريف ، ولك أن تقول : الأصل : موضوع اللغة أو موضوع الاصطلاح على نسبة الوضع إلى اللغة أو الاصطلاح مجازا ، وحينئذ فلا يكون فيه إلا حذف مضاف واحد ، ويصير نظير قول بعض العرب :

«كنت أظنّ العقرب أشدّ لسعة من الزّنبور فإذا هو إيّاها» على تأويل ابن الحاجب فإنّه أعرب إيّاها حالا ، على أنّ الأصل : فإذا هو موجود مثلها ، فحذف الخبر كما حذف من «خرجت فإذا الأسد» ، ثم حذف المضاف وهو مثل وقام المضاف إليه مقامه ، فتحول الضمير المجرور ضميرا منصوبا ، بل تخريج ما نحن فيه على ذلك أسهل ، لأنّ لفظ الضمير معرفة ، فانتصابه على الحال بعيد.

والظاهر في المثال المذكور أنّه مفعول الفعل محذوف هو الخبر ، والتقدير :

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٣٠٩).


فإذا هو يشبهها ولمّا حذف الفعل انفصل الضمير ، أو أنّه هو الخبر ، كما في قول الأكثرين : فإذا هو هي ، ولكن أنيب ضمير النصب عن ضمير الرفع.

الكلام في قوله يجوز كذا خلافا لفلان

وأمّا قوله : يجوز كذا وكذا خلافا لفلان ، فقد يقال : إنّه يجوز فيه وجهان :

الوجه الأول : أن يكون مصدرا ، كما أنّ قولك : يجوز كذا اتفاقا أو إجماعا ، بتقدير اتّفقوا على ذلك اتّفاقا وأجمعوا عليه إجماعا ، ويشكل على هذا أنّ فعله المقدّر إمّا اختلفوا أو خالفوا أو خالفت ، فإن كان اختلفوا أشكل عليه أمران :

أحدهما : أنّ مصدر اختلف إنما هو الاختلاف لا الخلاف.

والثاني : أنّ ذلك يأبى أن تقول بعده : لفلان ، وإن كان خالفوا أو خالفت أشكل عليه أن «خالف» لا يتعدّى باللام بل بنفسه ، وقد يختار هذا القسم ويجاب عن هذا الاعتراض بأن يقال : قدّر اللام مثلها في سقيا له ، أي : متعلقة بمحذوف تقديره : أعني له أو إرادتي له ، ألا ترى أنّها لا تتعلّق بسقيا لأنّ سقى يتعدّى بنفسه؟

والوجه الثاني : أن يكون حالا ، والتقدير : أقول ذلك خلافا لفلان أي : مخالفا له ، وحذف القول كثير جدا حتى قال أبو علي : «هو من حديث البحر قل ولا حرج» ، ودلّ على هذا العامل أنّ كل حكم ذكره المصنّفون فظاهر أمرهم أنّهم قائلون به ، وكأنّ القول مقدّر قبل كلّ مسألة ، وهذه العلة قريبة من العلة التي ذكروها لاختصاصهم الظروف بالتوسّع فيها ، وذلك أنّهم قالوا : إن منزّلة من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها ، وإنها لا تنفكّ عنها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأمّا قوله : «وقال أيضا» فاعلم أنّ (أيضا) مصدر آض ، وآض فعل يستعمل وله معنيان :

الأول : رجع ، فيكون تاما ، قال صاحب المحكم : «وآض إلى آهله : رجع إليهم» انتهى في وكذا قال ابن السكيت وغيرهما : وهذا هو المستعمل مصدره هنا.

والثاني : صار ، فيكون ناقصا عاملا عمل كان ، ذكره ابن مالك وغيره وأنشدوا قول الراجز :

٥٤٦ ـ ربّيته حتّى إذا تمعددا

وآض نهدا كالحصان أجردا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

__________________

٥٤٦ ـ الرجز للعجاج في ملحق ديوانه (٢ / ٢٨١) ، وخزانة الأدب (٨ / ٤٢٩) ، والدرر (١ / ٢٩٢) ، والمحتسب (٢ / ٣١٠) ، وبلا نسبة في تاج العروس (عدد) و (معد) ، وأساس البلاغة (معد) ، ـ ـ


ورواه الجوهري : وصار نهدا ، يقال تمعدد الغلام : إذا شبّ وغلظ ، والنّهد : عظيم الجسم من الخيل ، وإنما يوصف به الإنسان على وجه التشبيه ، والأجرد الذي لا شعر عليه.

وانتصاب «أيضا» في المثال المذكور ليس على الحال من ضمير «قال» كما توهّمه جماعة من الناس فزعموا أنّ التقدير : وقال أيضا أي : راجعا إلى القول وهذا لا يحسن تقديره إلّا إذا كان هذا القول إنّما صدر من القائل بعد صدور القول السابق له حتى يصحّ أن يقال : إنّه قال راجعا إلى القول بعد ما فرغ منه ، وليس ذلك بشرط في استعمال أيضا ، ألا ترى أنّك تقول : قلت اليوم كذا وقلت أمس أيضا كذا؟ وكذلك تقول : كتبت اليوم وكتبت أمس أيضا.

والذي يظهر لي أنّه مفعول مطلق حذف عامله ، أو حال حذف عاملها وصاحبها ، وذلك أنّك قلت : وقال فلان ، ثم استأنفت جملة فقلت أرجع إلى الإخبار رجوعا ولا أقتصر على ما قدّمت ، فيكون مفعولا مطلقا ، أو التقدير : أخبر أيضا أو أحكي أيضا ، فيكون حالا من ضمير المتكلّم ، فهذا هو الذي يستمرّ في جميع المواضع ، وممّا يؤنسك بما ذكرته من أنّ العامل محذوف أنّك تقول : عنده مال وأيضا علم ، فلا يكون قبلها ما يصلح للعمل فيها ، فلا بدّ حينئذ من التقدير ، وعلى ذلك قال الشاطبيّ رضي الله عنه وقد ذكر أنّه لا يدغم الحرف إذا كان تاء متكلم أو تاء مخاطب أو منوّنا أو مشدّدا : [الطويل]

٥٤٧ ـ ككنت ترابا أنت تكره واسع

عليم وأيضا تمّ ميقات مثّلا

قال أبو شامة رحمه الله تعالى : «قوله : أيضا أي : أمثّل النوع الرابع ولا أقتصر على تمثيل الأنواع الثلاثة ، وهو مصدر آض إذا رجع» انتهى كلامه ، فأيضا على تقديره حال من ضمير أمثل الذي قدّره ، واعلم أنّ هذه الكلمة إنما تستعمل مع ذكر شيئين بينهما توافق ، ويمكن استغناء كل منهما عن الآخر ، فلا يجوز : جاء زيد أيضا ، إلّا أن يتقدّم ذكر شخص آخر أو تدل عليه قرينة ، ولا جاء زيد ومضى عمر أيضا لعدم التوافق ، ولا اختصم زيد وعمر أيضا لأنّ أحدهما لا يستغني عن الآخر.

__________________

والدرر (٤ / ٥٩) ، وشرح شافية ابن الحاجب (٢ / ٣٣٦) ، وشرح المفصّل (٩ / ١٥١) ، واللامات (ص ٥٩) ، والمنصف (١ / ١٢٩) ، وهمع الهوامع (١ / ٨٨) ، ولسان العرب (عدد) و (معد) ، وتهذيب اللغة (٢ / ٢٦٠) ، والمخصص (١٤ / ١٧٥).

٥٤٧ ـ انظر شرح الشاطبية (ص ٦٣).


الكلام في (هلمّ جرّا)

وأمّا قوله : هلمّ جرّا ، فكلام مستعمل في العرف كثيرا ، وذكره الجوهري في صحاحه ، فقال في فصل الجيم باب الراء : «وتقول : كان ذلك عام كذا وهلمّ جرّا إلى اليوم» ، هذا جميع ما ذكره ، وذكر الصاغاني في عبابه ما ذكره صاحب الصحاح ولم يزد عليه ، وذكر أبو بكر بن الأنباري «هلمّ جرّا» في كتاب الزاهر ، وبسط القول فيه وقال : «معناه : سيروا على هينتكم ، أي : تثبّتوا في سيركم ، ولا تجهدوا أنفسكم» قال : «وهو مأخوذ من الجرّ وهو أن تترك الإبل والغنم ترعى في السّير ، قال الراجز :

٥٤٨ ـ لطالما جررتكنّ جرّا

حتّى نوى الأعجف واستمرّا

فاليوم لا آلو الرّكاب شبرا

قلت : الأعجف : الهزيل ، ونوى : صار له نيّ بفتح النون وتشديد الياء وهو الشحم ، وأمّا النّييء بكسر النون وبالهمز بعد الياء ساكنة فهو اللحم الذي لم ينضج ، واستمرّ كأنه استفعل من المرّة بكسر الميم ، وهو القوّة ، ومنه قوله : (ذُو مِرَّةٍ) [النجم : ٦] ، قال : وفي انتصاب «جرّا» ثلاثة أوجه :

الأول : أن يكون مصدرا وضع موضع الحال ، والتقدير : هلمّ جارّين ، متثبتين.

الثاني : أن يكون على المصدر لأنّ في «هلمّ» معنى جرّوا ، فكأنه قيل : جرّوا جرّا ، وهذا على قياس قولك : جاء زيد مشيا ، فإنّ البصريين يقولون : تقديره : ماشيا ، والكوفيون يقولون : المعنى : مشى مشيا ، وقال بعض النحويين : «جرّا» نصب على التفسير انتهى كلام أبي بكر ملخصا.

وقال أبو حيان في الارتشاف : «وهلمّ جرّا معناه : تعال على هينتك متثبتا ، وانتصاب جرّا على أنه مصدر في موضع الحال ، أي : جارّين ، قاله البصريون ، وقال الكوفيون : مصدر لأنّ معنى هلمّ جرّوا ، وقيل : انتصب على التمييز ، وأوّل من قاله عابد بن يزيد ، قال : [الوافر]

٥٤٩ ـ فإن جاوزت مقفرة رمت بي

إلى أخرى كتلك هلمّ جرّا

وقال آخر من تغلب : [الرجز]

٥٥٠ ـ المطعمين لدى الشّتا

ء سدائفا مل نيب غرّا

في الجاهليّة كان سؤ

دد وائل فهلمّ جرّا

__________________

٥٤٨ ـ الرجز بلا نسبة في مجمع الأمثال (٢ / ٤٠٣) ، واللسان (جرر) ، وتاج العروس (جرر).

٥٤٩ ـ البيت لعائذ بن يزيد اليشكري في مجمع الأمثال (٢ / ٤٠٣).

٥٥٠ ـ الرجز للمؤرج التغلبي في همع الهوامع (٢ / ٢٠٠) ، والدرر (٢ / ٢٣٢).


انتهى ، وبعد فعندي توقف في كون هذا التركيب عربيا محضا ، والذي رابني منه أمور :

الأول : أنّ إجماع النحويين واللغويين منعقد على أنّ لهلمّ معنيين :

الأول : تعال ، فتكون قاصرة ، كقوله تعالى : (هَلُمَّ إِلَيْنا) [الأحزاب : ١٨] ، أي : تعالوا إلينا.

الثاني : أحضر ، فتكون متعدية ، كقوله تعالى : (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) [الأنعام : ١٥٠] ، أي : أحضروهم ، ولا مساغ لأحد المعنيين هنا.

الثاني : أنّ إجماعهم منعقد على أنّ فيها لغتين : حجازية وهي التزام استتار ضميرها فتكون اسم فعل ، وتميمية وهي أن يتصل بها ضمائر الرفع البارزة ، فيقال : هلمّا وهلمّي وهلمّوا ، فتكون فعلا ، ولا نعرف لها موضعا أجمعوا فيه على التزام كونها اسم فعل ، ولم يقل أحد : إنه سمع هلمّا جرّا ولا هلمّي جرّا ولا هلمّوا جرّا.

الثالث : أنّ تخالف الجملتين المتعاطفتين بالطلب والخبر ممتنع أو ضعيف ، وهو لازم هنا إذا قلت : كان ذلك عام كذا وكذا وهلمّ جرّا.

الرابع : أنّ أئمة اللغة المعتمد عليهم لم يتعرضوا لهذا التركيب حتى صاحب المحكم مع كثرة استيعابه وتتبّعه ، وإنما ذكره صاحب الصحاح ، وقد قال أبو عمرو ابن الصلاح في شرح مشكلات الوسيط : إنه لا يقبل ما تفرّد به ، وكان علة ذلك ما ذكره في أوّل كتابه من أنّه ينقل عن العرب الذين سمع منهم ، فإنّ زمانه كان اللغة فيه قد فسدت ، وأمّا صاحب العباب فإنّه قلّد صاحب الصحاح فنسخ كلامه ، وأمّا ابن الأنباري فليس كتابه موضوعا لتفسير الألفاظ المسموعة من العرب ، بل وضعه أن يتكلّم على ما يجري في محاورات الناس ، وقد يكون تفسيره له على تقدير أن يكون عربيا ، فإنّه لم يصرّح بأنّه عربي ، وكذلك لا أعلم أحدا من النحاة تكلم عليها غيره.

ولخّص أبو حيان في (الارتشاف) أشياء من كلامه ، ووهم فيه ، فإنّه ذكر أن الكوفيين قالوا : إن (جرّا) مصدر ، والبصريين قالوا : إنه حال ، وهذا يقتضي أنّ الفريقين تكلّموا في إعراب ذلك ، وليس كذلك ، وإنما قال أبو بكر : إنّ قياس إعرابه على قواعد البصريين أن يقال : إنه حال ، وعلى قواعد الكوفيين أن يقال : إنه مصدر ، هذا معنى كلامه ، وهذا هو الذي فهمه عنه أبو القاسم الزجاجي ، وردّ عليه فقال : البصريّون لا يوجبون في نحو «ركضا» أن يكون مفعولا مطلقا ، بل يجيزون أن يكون التقدير : جاء زيد يركض ركضا ، فلذلك يجوز على قياس قولهم أن يكون التقدير :


هلمّ يجرّ جرّا ، انتهى. ثم أقول : قول أبي بكر : «معناه سيروا على هينتكم أي : اثبتوا في سيركم فلا تجهدوا أنفسكم» معترض من وجهين :

الأول : أنّ فيه إثبات معنى لهلمّ لم يثبته لها أحد.

الثاني : أنّ هذا التفسير لا ينطبق على المراد بهذا التركيب ، إنما يراد به استمرار ما ذكر قبله من الحكم ، فلهذا قال صاحب الصحاح : «وهلمّ جرّا إلى الآن».

وقول أبي حيان : معناه : «تعال على هينتكم» عليه أيضا اعتراضان :

الأول : أنه تفسير لا ينطبق على المراد.

الثاني : في إفراده «تعال» مع أنّه خطاب للجماعة ، وإنّما يقال : تعالوا ، كما قال الله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) [آل عمران : ٦٤] ، وكأنه توهّم أنّ «تعال» اسم فعل ، واسم الفعل لا تلحقه ضمائر الرفع البارزة ، وقد توهّم ذلك بعض النحويين فيها وفي «هات» ، والصواب أنّهما فعلان بدليل الآية وقوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) [الأنبياء : ٢٤] ، وقول الشاعر : [الطويل]

٥٥١ ـ إذا قلت هاتي نوّليني تمايلت

[عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل]

وقوله : «لأنّ هلمّ في معنى جرّوا» منقول من كلام ابن الأنباري ، وهو خطأ منه انتقده عليه الزجاجي في مختصره ، وقال : لم يقل أحد : إنّ هلمّ في معنى جرّوا ، وفيه دليل على ما قدمته من أنّ الإعرابين المذكورين لم يقلهما البصريون والكوفيون ، وإنّما قالهما ابن الأنباري قياسا على قولهم في جاء زيد ركضا».

وتقدير البيت الأول : فإن تجاوزت أيضا مقفرة أي : ليس بها أنيس رمت بي تلك الأرض المقفرة إلى أرض أخرى مقفرة كتلك الأرض المقفرة ، وجواب الشرط إمّا «رمت بي» أو البيت بعده إن كانت «رمت» صفة لمقفرة.

وأمّا البيتان الآخران فمعناهما الثناء على قوم بالكرم والسيادة ، والعرب تمدح بالإطعام في الشتاء لأنّه زمن يقلّ فيه الطعام ، ويكثر الأكل لاحتباس الحرارة في الباطن ، والسّدائف جمع سديفة ، وهي مفعول بمطعمين ، ومعناها شرائح سنام البعير المقطّع وغيره ممّا غلب عليه من السمن ، وقوله : مل نيب أصله من النيب ، والنّيب جمع ناب وهي الناقة ، سمّيت بذلك لأنّه يستدلّ على عمرها بنابها ، وحذف نون من لأنّه أراد التخفيف حين التقى المتقاربان ، وهما النون واللام ، وتعذّر الإدغام لأنّ اللّام

__________________

٥٥١ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٥).


ساكنة ونظيره قولهم في بني الحارث : بلحارث ، وهو شاذ ، والذي في البيت أشذّ منه لأنّ شرط هذا الحذف أن لا تكون اللام مدغمة فيما بعدها ، فلا يقال في بني النجار وبني النّضير : بنّجّار وبنّضير ، وعلّل ابن جني ذلك بكراهة توالي الإعلالين ، فإنّ اللام قد أعلّت بإدغامها فيما بعدها ، أعلّت النون التي قبلها بالحذف توالى الإعلالان ، وقد يردّ بأنّ ذلك إنما يتجنّب في الكلمة الواحدة ، ويجاب بأنّ كلّا من المتضايفين والجارّ والمجرور كالكلمة الواحدة فأعطيا حكمها ، وقوله : غرّا حال من النّيب ، وهو جمع غرّاء كحمراء وحمر وسوداء وسود ، وفي «الجاهلية» خبر كان إن قدّرت ناقصة أو متعلق بها إن قدّرت تامة بمعنى وجد ، وقوله : فهلمّ جرّا متعلق المعنى بقوله في الجاهلية ، أي : كان سؤدد وائل في الجاهلية فما بعدها.

وإذ قد أتينا على حكاية كلام الناس وشرحه وبيان ما ذكر فيه من نقد فلنذكر ما ظهر لنا في توجيه هذا الكلام بتقدير كونه عربيا ، فنقول : هلمّ هذه هي القاصرة التي بمعنى ائت وتعال ، إلّا أنّ فيها تجويزين :

الأول : أنّه ليس المراد بالإتيان هنا المجيء الحسّي ، بل الاستمرار على الشيء والمداومة عليه ، كما تقول : امش على هذا الأمر ، وسر على هذا المنوال ومنه قوله تعالى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٦] ، المراد بالانطلاق ليس الذهاب الحسيّ بل انطلاق الألسنة بالكلام ، ولهذا أعربوا أن تفسيرية وهي إنما تأتي بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه كقوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المؤمنون : ٢٧] ، والمراد بالمشي ليس بالأقدام ، بل الاستمرار والدوام ، أي : دوموا على عبادة أصنامكم واحبسوا أنفسكم على ذلك.

الثاني : أنه ليس المراد الطلب حقيقة ، وإنما المراد الخبر ، وعبّر عنه بصيغة الطلب كما في قوله تعالى : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] ، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] ، و «جرّا» مصدر جرّه يجرّه إذا سحبه ، ولكن ليس المراد الجرّ الحسّيّ ، بل المراد التعميم كما استعمل السحب بهذا المعنى ، ألا ترى أنّه يقال : هذا الحكم منسحب على كذا أي شامل له؟ فإذا قيل : كان ذلك عام كذا وهلمّ جرّا فكأنّه قيل : واستمرّ ذلك في بقية الأعوام استمرارا ، فهو مصدر ، واستمر مستمرا فهو حال مؤكدة ، وذلك ماش في جميع الصور ، وهذا هو الذي يفهمه الناس من هذا الكلام ، وبهذا التأويل ارتفع إشكال العطف ، فإنّ (هلمّ) حينئذ خبر ، وإشكال التزام إفراد الضمير ، إذ فاعل هلمّ هذه مفرد أبدا ، كما تقول : واستمرّ ذلك أو واستمرّ ما ذكرته.


فإن قلت : قد اشتملت هذه التوجيهات التي وجّهت بها هذه المسألة على تقديرات كثيرة وتأويلات متعقدة ولم يعهد في كلام النحويين مثل ذلك ، قلت : ذلك لأنّك لم تقف لهم على كلام على مسائل متعقدة مشكلة اجتمعت في مكان واحد ، ولو وقفت لهم على ذلك لوجدت في كلامهم مثل ذلك وأمثاله ، والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

إعراب قوله صلّى الله عليه وسلّم : كلمتان خفيفتان على اللسان سبحان الله وبحمده ،

سبحان الله العظيم لابن الهمام

قال الشيخ الإمام العلامة المحقّق كمال الدين محمد الشهير بابن الهمام الحنفي رحمه الله تعالى :

الحمد لله ، اللهمّ صلّ على سيّدنا محمّد عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم ، وبعد :

فقد دخلت عليّ امرأة بورقة ذكرت أنّ رجلا دفعها إليها يسأل الجواب عمّا فيها ، فنظرت فإذا فيها سؤال عن إعراب صلّى الله عليه وآله وسلّم : «كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» (١).

هل «كلمتان» مبتدأ «وسبحان الله» الخبر أو قلبه؟ وهل قول من يجيز «سبحان الله» للابتداء لتعرّفه صحيح أم لا؟ وهل قول من ردّه للزوم «سبحان الله» النصب صحيح أم لا؟ وهل الحديث ممّا تعدّد فيه الخبر أم لا؟

فكتب العبد الضعيف على قلّة البضاعة وطول التّرك وعجلة الكتابة في الوقت ما نصّه :

الوجه الظاهر أنّ «سبحان الله» إلى آخره الخبر ، لأنّه مؤخّر لفظا ، والأصل عدم مخالفة اللفظ محلّه إلّا لموجب يوجبه ، وهو من قبيل الخبر المفرد بلا تعدّد ، لأنّ كلّا من «سبحان الله» مع عامله المحذوف الأول والثاني مع معموله الثاني إنّما أريد لفظه ، والجملة الكثيرة إذا أريد لفظها فهي من قبيل المفرد الجامد ، ولذا لا تتحمل ضميرا ولأنّه محطّ الفائدة بنفسه بخلاف عكسه ، فإنّه إنما يكون محطّها باعتبار

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (٣١) ، وابن ماجه في سننه رقم (٣٠٨٦).


وصفه ، ألا ترى أنّ في عكسه يكون الخبر «كلمتان»؟ ومن البيّن أن ليس متعلق الفرض الإخبار من النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سبحان الله إلخ ... بأنّهما كلمتان ، بل بملاحظة وصفه ، أعني : خفيفتان ثقيلتان حبيبتان فكان اعتبار سبحان الله إلخ ... خبرا أولى ، فهو مثال : «هجّيرى أبي بكر لا إله إلّا الله» ، ونحوه ممّا أوردوه مثالا للإخبار بالجملة التي أريد لفظها.

وأمّا منع كونه خبرا أو مبتدأ بسبب لزوم نصب «سبحان الله» فإنّما يصدر ممّن لم يفهم معنى قولنا : إنما أريد بالجملة لفظها ، وعلامة إعراب الخبر في مثله وهو الرفع في محله ، فالحاصل أنّ كلّا من حيث العربية يجوز ، وأما من حيث الأولويّة بالنظر إلى المعنى فكلمتان مبتدأ مسوّغ بالأوصاف المختصة ، ولفظ «سبحان الله» وما بعده خبره ، وأمّا جعل «سبحان الله» معرفة فإن أراد به حال كونه مرادا به معناه فصحيح ، وتعريفه بالإضافة ، وهو ما كان المتكلم ذاكرا مسبّحا ، وإن أراد به حال كونه أريد به مجرّد لفظه على معنى أنّ الكلمتين الموصوفتين بتعلق حبّ الله تعالى بهما هاتان اللّفظتان اللّتان هما سبحان الله صادرتين من مريد معناهما وهو تنزيه الله تعالى فلا ، فإنّ أنواع المعارف محصورة وليس هو منها ، إذ لم يرد على هذا التقدير معنى الإضافة ولا خصوص النسبة التي باعتبارها يحصل التعريف ، فإن ادّعي أنه من قبيل العلم بناء على أنّ كل لفظ وضع ليدل على نفسه كما وضع ليدل على غيره كما ذكر ابن الحاجب فليعلم أنّه على تقدير صحة هذه الدعوى لم يعط لهذا الوضع حكم الوضع للدّلالة على غيره ، ولذا لم يقل أحد بأنّ كل لفظ مشترك وهو لازم من جعل كل لفظ وضع ليدل على نفسه كما وضع ليدل على غيره ، فعلم أنّ إعطاء اسم المعرفة والنكرة والمشترك وسائر الألقاب الاصطلاحية باعتبار الوضع للدلالة على غيره ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دفعت الورقة للمرأة ، ثم بعد أن مضى على هذا نحو من خمسة أشهر سمعت أنّ بعض الإخوان ذهب بجوابي هذا مقترنا بثلاثة أجوبة لأهل العصر مخالفة لجوابي ، وجواب رابع للذاهب إلى بعض ملوك الدنيا لما كان من أهل العلم والفهم في الاصطلاحات ليوقف على خطأ المخطئ وإصابة المصيب ، وحاصل ذلك اتفاقهم على أنّ الوجه الذي رجّحته جعلوه متعينا بناء على أنّ محط الفائدة يتعيّن أن يكون «سبحان الله وبحمده» إلى آخره ، ومنهم من ذكر أوجها لإبطال قلبه :

منها : أنّ «سبحان الله» لزم الإضافة إلى مفرد ، فجرى مجرى الظروف ، والظرف لا يقع إلّا خبرا ، ولأنّه ملزوم النصب ، ولأنّه مركب من معطوف ومعطوف عليه ، وهذه


الأوجه الثلاثة يستقلّ بدفعها على ما في بعضها من التحكم ما ذكرناه من أنّ الكلام الواقع خبرا إنّما أريد به لفظه ، ومن أمثلتهم من ابتدائية المتعاطفين إذا أريد به مجرد اللفظ : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله كنز من كنوز الجنّة».

ومنها : أنّ «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» كلمة ، إذ المراد بالكلمة في الحديث اللغويّة ، فلو جعل مبتدأ لزم الإخبار عمّا هو كلمة بأنّه كلمتان ، ولا يخفى على سامع أنّ المراد اعتبار «سبحان الله وبحمده» كلمة و «سبحان الله العظيم» كلمة ، فالمجموع كما يصحّ أن يعبّر عنه بكلمة كذلك يصحّ أن يعبّر عن كل جملة منه بكلمة ، غير أنّ لمّا كان كلّ من الجملتين ، أعني «سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم» ـ ممّا يستقلّ ذكرا تاما ويفرد بالقصد إليه وبقوله اعتبر كلمة وعبّر عنهما بكلمتين ، على أنّ ما ذكره لازم على تقدير جعل «سبحان الله» الخبر كما هو لازم على تقدير جعله مبتدأ ، لأنّه كما لا يصحّ أن يخبر عمّا هو كلمة بأنّه كلمتان بما هو كلمة ، فإنّ الحاصل على تقدير كون «كلمتان» المبتدأ أنّ الكلمتين اللّتين هما كذا وكذا هما الكلمة التي هي «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».

وبجوابنا اندفع عن الشقين لا بما قيل في جوابه : إن سبحان الله إلخ .. تضمن عطفا فيقوم مقام المتعدد ويخبر عنه بكلمتين ، وهذا إن أريد به الكائن في «وبحمده» فهو على تقدير كونه خبرا محضا ، وإلّا فإن جعل «سبحان الله» نقل إلى الإنشاء ـ وإن كان إخبارا ـ صيغة كصيغ العقود كبعت ، وبحمده مع متعلقه خبرا لم يكن عطفا عليه لأنه إنشاء ، وعلى تقدير حذف العاطف ، أي : وسبحان الله وهو قليل ومختلف فيه ، وعلى تقدير صحتهما لا يندفع السؤال ، فإن السائل قال : المراد بالكلمة اللغوية ، فالمجموع من «سبحان الله» إلى آخر الكل كلمة ، ومعلوم أن وجود العطف في أثناء الكلام الكثير لا يمنع من إطلاق لفظ كلمة عليه ترى قولنا : له كلمة شاعر ، يعنون القصيدة ، لا يصح إلّا أن تكون قصيدة لم يقع في مجموعها عطف ، أنّى يكون هذا؟ وحينئذ فالمجموع من المتعاطفين كلمة ، فلا يخبر عنه بأنه كلمتان ، ويعود السؤال فلا يفيد إلّا أن يعود إلى جواب الفقير إن شاء الله تعالى.

ومنها : أنّ جعل المبتدأ «سبحان الله» إلخ .. يفوّت نكتة ، وهي إرادة حصر الخبر في المبتدأ ، وأنت لا يخفى عنك أنّ الحصر إمّا أن يكون بالأداة أو بتقديم الخبر أو المعمول ، والتقديم إنّما هو في جعل «سبحان الله وبحمده» المبتدأ والكلمتان الخبر ، فيصير من قبيل : «تميميّ أنا» لا في جعل «كلمتان» المبتدأ


و «سبحان الله» الخبر ، وهو مراده إذ لا تقديم فيه ، وإذا لم يكن تقديم فإنما يجيء الحصر في المعرّف بلام الجنس للاستغراق لزوما عقليا ، كقولنا : العالم زيد ، إذا جعلنا العالم مبتدأ ، واليمين على المدعى عليه ، فيفيد أن لا يمين على غيره بسبب جعل الكلّ عليه ، لأنّه ليس وراء الكلّ شيء ، وكأنه ذهب عليه أنّ المذكور في الحديث الكلمتان الخفيفتان الحبيبتان سبحان الله إلخ ، وليس مثله بعجيب على الإنسان كما ذهب على الذاهب بجوابي ليرى غلطه أني جعلت كون الفائدة في جعل «سبحان الله» مبتدأ باعتبار وصف الخبر لا نفسه وجها لردّ ابتدائية سبحان الله إلخ .. ، فأورد عليه لزوم عدم صحة «زيد رجل صالح» وأنا لست من هذا ، وإنّما جعلته كما هو صريح في كتابتي وجه مرجوحيته وأولوية كونه خبرا فليرجع إلى نظر الكتابة ، غير أنّ النفس إذا ملئت بقصد الرد يقع لها نحو هذا السهو في الحسّ ، وإذا كان المذكور في الحديث «كلمتان» بلا تعريف جنس استغراقي لم يكن حصر ، بل المراد الإخبار بسبحان الله وبحمده .. إلخ عن الكلمتين الموصوفتين كما ارتضاه الكاتبون وجعله العبد الضعيف أولى الوجهين ، أو عن سبحان الله وبحمده بأنهما حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان ، والمعنى أنّ اللفظ الذي عهدتموه وتقولونه وهو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم له من المقدار عند الله أنّهما كلمتان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن ، ولا يخفى أنّه لا يراد مطلق ثقل ما ومحبّة ما ، لأن ذلك معلوم للمؤمنين غير مجهول لهم في كلّ ذكر لله هذا وغيره أنه كذلك ، فلو أريد ذلك لم تكن الجملة الخبرية كلها مجدّدة فائدة عند السامعين ، سواء جعلت «سبحان الله» مبتدأ أو خبرا ، بل هي حينئذ بمنزلة «النار حارّة» ونحوه ، ومثله يجب صون كلام بعض البلغاء عنه ، فكيف بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ سواء جعلت تجدّد الفائدة شرطا لكون الجملة كلاما أو لم تجعل ، فإن الذي لا يشرطه لا يقول : إنه قد حصل فائدة تامة ، إلّا أنّه لا يشرطها في مسمى الكلام اصطلاحا ، وحينئذ وجب كون المراد زيادة ثقل وزيادة محبة ممّا لا يلزم كلّ مؤمن يعلم أنّ للذكر ثوابا ، وإذا ظهر أنّ كلّا من «ثقيلتان» وحبيبتان وسبحان الله وبحمده ، يصلح محطّ فائدة يكون بها خبرا ، ويزداد جعل «سبحان الله» مبتدأ قدّم خبره بنكتة بلاغية لأجلها قدّم الخبر ، وهي التشويق إلى المبتدأ ، وكلّما طال الخبر حسن هذا النوع ، لأنّه كلّما طال بذكر الأوصاف ازداد الشوق إلى المحدّث عنه بها ، كما هو في الحديث الكريم حيث قال : «كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن» فإنّ النفس كثر تشوّقها بذلك إلى سماع المحدّث عنه بها ، فلم يجئ «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» إلّا والنفس في غاية الشوق إلى سماعه ، فهو مثل قوله : [البسيط]


٥٥٢ ـ ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها

شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر

وهذا ما ذكره السّلف الذين أعربوا «سبحان الله» مبتدأ ، ولم يرتضه من وجّه سمعه من أهل عصرنا بمثل ما أسمعتك ، وأستغفر الله من شغلي سمعك بمثله ، ولو لا ما فيه من كون محطّ الفائدة فيه يكون باعتبار وصف الخبر كما أسلفته في الجواب لكان أولى من جعل «كلمتان» مبتدأ ، وعسى أن يكون رجوعي عنه أولى ، لأنّ مراعاة مثل هذه النكتة البلاغية هو الظاهر من تقديم الخبر حينئذ ، فلا يعدل عنه بعد ظهور بطلان انحصار محطّ الفائدة في «سبحان الله» ، وبهذا تمّ ما يتعلّق بالحديث ، بقي أنّه وقع لي نفي كون «سبحان الله» إذا أريد لفظه معرفة ، لأنّ المعارف أنواعها محصورة ، وليس هو منها كما هو مسطور في أصل جوابي ، فارجع إليه.

ثم قلت : فإن ادّعي أنّه يكون من قبيل العلم بناء على أنّ كل لفظ وضع ليدل على نفسه كما وضع ليدل على غيره ، فليعلم أنّه على تقدير صحّة هذه الدعوى لم يعط لهذا الوضع حكم الوضع لغيره ، ولذا صرّح بأنّه لا يصير كل لفظ مشتركا وهو لازم من وضع كل لفظ ليدل على نفسه ووضع ليدل على غيره ، فاعترض ذلك الأخ بأنّه من قبيل العلم ، قال الرضي : «وهو عندهم من قبيل المنقول لأنّه نقل من مدلول هو معنى إلى مدلول هو اللفظ» ، ولا يخفى عليك أنّ حاصل هذا الاعتراض لم يزد على نسبة ما ذكرت أنّه ممّا يقال ، ولم أرضه إلى بعض النحاة أنّه قال ، وخفي عليه أنّي أنقله عن خلق ، غير أنّ لي فيه بحثا مكتتبا من نحو عشرين سنة مع القائلين به فبناء عليه ذكرت ما ذكرت.

وحاصل ذكر البحث كتبته عند نقل المحققين قول ابن الحاجب في (المنتهى) : «أكثر ما يطلق اللفظ على مدلول مغاير ، وقد يطلق والمراد اللفظ ، نحو : زيد مبتدأ وزي دلأنهم لو وضعوا له أدّى إلى التسلسل ، ولو سلم فنفسه أولى ، يعني لو سلم أن لا يلزم لو وضعوا له ، فإذا أمكن أن يطلق ويراد به نفسه كان أولى» انتهى.

وذكر هنا أنّه موضوع فخلق لي فيه هذا ، وهو أنّ الحاجة هنا ليست إلّا إلى مجرد التعبير عن اللفظ وقد حصل بنفسه ، فإذا أمكن بطريق المجاز كان أولى ، لأنّه بطريق الوضع يثبت به معنى الاشتراك ، والمجاز خير منه ، ويتأنس هذا بأنّا إذا قلنا : زيد كذا وكذا فقيل ذلك الخبر يتبادر إرادة معنى غير لفظ إلى أن يذكر المسند فيرى غير صالح إلّا للفظ فيحكم به حينئذ للقرينة الملازمة للمسند ، فتبادر معنى

__________________

٥٥٢ ـ الشاهد لمحمد بن وهيب في الأغاني (١٩ / ٧٩) ، وبلا نسبة في تاج العروس (شرق).


على التعيين من مجرد الإطلاق ظاهر في عدم تعدد الوضع للمعاني المتعددة لأنّه لازم ذلك بحسب الأصل ، والغالب التردّد والتوقّف ، وقد أمكن جعله مجازا علاقته الاشتراك في الصورة ، فيكون كإطلاق لفظ الفرس على المثال المنقوش في حائط.

فبناء على بحثي هذا معهم قلت في أصل جوابي : فليعلم أنّه على تقدير صحة هذه الدعوى يعني لو تنزلنا عن هذا وقلنا : إنه وضع لنفسه لا يوصف باعتبار هذا الوضع بكونه معرفة لا نكرة ، بل الألقاب الاصطلاحية إنما يوصف بها اللفظ باعتبار الوضع للمعنى المغاير لأنّ ذلك الوضع هو القصدي ، وأما هذا الوضع فقد صرّح من قال به من المحققين بأنّه ليس بوضع قصديّ ، ولذا صرح بأنّه لا يكون اللفظ به مشتركا ، فلمّا تعدّد الوضع للمعاني المحتملة ولم يكن مشتركا علم أنّه لم يعتبر في إطلاق الألقاب الاصطلاحية إلا الوضع القصدي ، ثم هذا لا ينفي تعيّن المعنى والعلم به لأنّ المنفيّ الاصطلاحيّ وهو لا يقتضي عدم تعيّن المعنى ، أرأيت لو لم يسمّ كل نوع باسم خاص أصلا كما كان عند العرب قبل حدوث الاصطلاح أما كان يصح مبتدأ؟ وكذا جعلنا «سبحان الله» مراد مجرد لفظة مبتدأ مع نفي الحكم بأنه معرفة ولا نكرة كما ذكرنا ، لأن صحة الابتدائية والحديث محدث عنه إنّما يقتضي تعيّن معناه كليا كان ذلك المفهوم أو جزئيا لا تسميته ، وكم نكرة يتعين معناها في الاستعمال فتصير كمعنى المعرفة لا يتفاوتان إلا في أصل الوضع ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

بحث في النفي والإثبات عند تعارضهما

وقع سؤال في مجلس السلطان الملك الأشرف برسباي في مجلس قراءة البخاري في شعبان سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة ، سئل عنه الإمام العلّامة كمال الدين بن الهمام ، وصورة السؤال من قواعد السادة الحنفية على رأي المحققين منهم أنّ النفي والإثبات إذا تعارضا وكان المنفي ممّا يعلم بدليله ، وهو أن يكون صريحا في ردّ دعوى المثبت فإنّه يقضي على المثبت كالحكم في دعوى امرأة على زوجها أنّه طلّقها ثلاثا ، وقالت : حصلت الفرقة بيني وبينه ، وقال الزوج استثنيت استثناء متصلا بلفظ الطلاق ، فأتت المرأة بشاهدين فشهدا على الزوج أنّه طلّقها ثلاثا ، قالوا : ما سمعناه استثنى ، قالوا : شهادتهم لا تعارض دعوى الزوج الاستثناء لأنه يجوز أن تقول : قال زيد كلاما ولم أسمعه ، فلا يكون صريحا في ردّ دعوى الزوج الاستثناء ، ولو قال الشهود : طلقها وما استثنى فشهادتهم صريحة في ردّ دعوى الزوج ، أشكل على هذا الأصل نفيهم الجهر بالبسملة استدلالا بحديث أنس رضي الله عنه في


رواية أنّه صلّى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : فلم أسمعه يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم (١) ، فأجاب الشيخ كمال الدين بما نصّه :

أمّا قوله : «إنّ المنفي إذا كان ممّا يعرف بدليله يقدّم على الإثبات «فغير صحيح ، بل الثابت عندهم أنه يعارضه حتى إن لم يوجد مرجّح من خارج تساقطا ، وأمّا قوله في تفسير هذا المنفي : إنه الذي يكون صريحا في ردّ دعوى المثبت تمييزا له عن قسيمه من النفي الآخر» فمخالف لتفسيرهم له ، وكلمتهم في تفسيره إنما هي دائرة على أنّ المراد به كون النفي ممّا يصح بناؤه على استصحاب عدم متقرّر الثبوت معلوم ، بل أن يكون ثابتا البتّة بدليل دلّ على طروئه وأفادوا أن ليس المراد بالنافي ما فيه صورة النفي بل ما كان مبقيا للأصل يعنون الحالة المقررة المعلوم ثبوتها وأنّ المثبت هو الذي يثبت الأمر العارض على تلك الحالة وإن لم يكن في أحد الدليلين صورة نفي أصلا ، وعلى هذا حكموا بأنّ رواية إعتاق بريرة وزوجها عبد نافية لأنّها مبقية للحالة المعلوم ثبوتها ، ورواية عتقها وهو حرّ مثبتة لإفادتها وقوع العارض على ذلك الأصل ، فقدّموا هذه تقديما للإثبات ، وإنما حكموا بأنّ رواية تزوّجه عليه السّلام ميمونة وهو حلال مثبتة ، ورواية تزوجه وهو محرم نافية ، للاتفاق على أن ليس المراد بالحلّ الذي تزوجها فيه على تلك الرواية الحل الأصلي ، بل الحل الطارئ على الإحرام ، بمعنى أنّه تزوّجها بعد ما حلّ من إحرامه ، فكان إحرامه عليه الصلاة والسّلام أصلا بالنسبة إليه للعلم بوقوعه وتقرّره ، فكان المفيد له مفيدا للأصل فهو ناف ، والمفيد للحل مفيد للعارض فكان مثبتا ، فحكموا بمعارضته للنفي ثم رجحوها بالراوي وهو ابن عباس على يزيد بن الأصمّ ، وما ذكره السائل ليس موافقهم فيما ذكروه ، بل لا يبعد أنّه لا معنى في هذا المقام ، وأمّا ما ذكره من فرع الشهادة في الطلاق فظاهره أنّهم أوردوه تفريعا على الأصل المذكور ، وهو تقديم النفي على ما زعم حيث قدم قول الشهود : «لم يستثن» على قول الزوج : استثنيت ، وليس كذلك ، بل إنما أوردوه شاهدا على معارضة هذا النفي للإثبات ، وكلام فخر الإسلام البزدوي صريح فيه ، وقبول الشهادة ووقوع الحرمة بالشهادة بهذا النفي بناء على أنّه ممّا يعارض الإثبات لأنّه لو لم يكن يعارضه لم تقبل الشهادة به أصلا ، كما هو المشهور على الألسنة من أنّ الشهادة على النفي باطلة ، فلمّا كان بحيث يعارضه ويساويه تفرع قبول الشهادة عليه إذ لا خفاء في أنّ كلّ ما قامت به البيّنة وهو ممّا تصحّ به

__________________

(١) انظر صحيح مسلم (١ / ٢٩٩).


الشهادة يقدّم على دعوى المشهود عليه الضد أو النقيض ، فظهر أنّ تقديم النفي هنا فرع المعارضة لمرجع الشهادة لا للنفي ، وكلام الناس غير خفي في هذا.

وأمّا قوله : أشكل على هذا الأصل نفيهم الجهر بالبسملة فإن أراد بالأصل ما مهّده من أنّ ذلك النوع من النفي مقدّم على الإثبات فلا إشكال ، لأنّه قد قدّم النفي على ذلك التقدير عند معارضة الإثبات ، وإنما الكلام في تحقيق المعارضة ، ولا شك أنّ رجلا لو واظب الصلاة خلف رجل في الجهريّة سنة كاملة ، وهو مع ذلك حريص على استعلام أحواله في الصلاة ، ثم يقول بعد عدم شكه في سماعه جهره فيما جهر به في القراءة : لم أسمعه قرأ كذا ، مع فرض أنّ ذلك الذي ذكر أنه لم يسمعه ليس ممّا يقرأ أحيانا ويترك غالبا بل مما هو مواظب عليه في كل جهريّة بادر إلى كل عاقل سمعه أنّ ذلك المصلي لم يجهر بذلك ، وكان أقل الأمر أنّه كقوله : لم يجهر بكذا ، وكل احتمال يروّجه الوهم مع هذه الحالة المفروضة من الراوي مما يثبته العلم العادي فكيف يقرب مع العقل مع مواظبة أنس رضي الله عنه عشر سنين على الوجه المذكور مع مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجهر بالبسملة كونه لم يتفق مرة من ألف مرة أن يسمعه؟ هذا محال عادة ، فكان قوله : لم أسمع كقوله : لم يجهر فعارض رواية الجهر.

وإن أراد أنه يرد على شقي مسألة الشهادة في الطلاق وهي ما إذا قال الشهود : لم نسمعه استثنى وقال هو : استثنيت حيث قدم دعوى الإثبات على قولهم ، غير أنّ في عبارة المورد قصورا عن إفادة مرامه ، فليس بشيء ، فإنّ قبول قولهم لعدم المعارضة بين قوله : استثنيت وقولهم : لم نسمع لجواز الاستثناء مع عدم سماعه بأن يستثني خفيا بحيث يسمع نفسه ومن توجه لاستعلام حاله ، فإذا كانا مما يجتمعان أعني الاستثناء وعدم السماع لم تكن شهادتهما تعارض دعواه ، وأين هذا من قول القائل : جهر مع قول المصغي إليه في عمره : لم أسمع ، قد بيّنّا ثبوت المعارضة فيه بما لم يبق بعده إلّا الشغب المحرم.

وإنما كان الإشكال يرد على مسألة الشهادة لو كان الزوج قد قال : جهرت بالاستثناء فقال المتوجهون إليه للشهادة لم نسمعه ، وحكمها على هذا التقدير غير مذكور ، ولنا أن نقول على هذا التقدير : تقدم الشهادة ويحكم بالفرقة.

وإذ قد ظهر أنّ ما وقع في هذا السؤال من تمهيد الأصل وإيراد التفريغ عليه ثم إيراد الإشكال كله خطأ مع نسبتي ذلك إلى الكتابة لا إلى المورد ، فإني لم أعلم أنّ الكتابة كتابته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


فوائد نحويّة من معجم الأدباء لياقوت الحموي

في معجم الأدباء لياقوت الحموي : قال أبو سعيد الضرير : سألني أبو دلف عن بيت امرئ القيس : [الطويل]

٥٥٣ ـ كبكر المقاناة البياض بصفرة

[غذاها نمير الماء غير المحلّل]

قال : أخبرني عن البكر ، المقاناة أم غيرها؟ قلت : هي هي ، قال : أفيضاف الشيء إلى صفته؟ قلت : نعم ، قال : فأين؟ قلت : قال الله تعالى : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) [يوسف : ١٠٩ ، النحل : ٣٠] ، فأضاف الدار إلى الآخرة ، وهي هي بعينها ، والدليل على ذلك أنّه قال في سورة أخرى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [القصص : ٨٣] ، قال : أريد أشهر من هذا ، فأنشدته لجرير : [الكامل]

٥٥٤ ـ يا ضبّ إنّ هوى القيون أضلّكم

كضلال شيعة أعور الدّجّال

وفيه قال (٣) : قرأت بخطّ عبد السّلام البصريّ في كتاب محمد بن أبي الأزهر ، قال : حدثني وهب بن إبراهيم خال عبيد الله بن سليمان بن وهب ، قال : كنّا يوما بنيسابور في مجلس أبي سعيد أحمد بن خالد الضرير ، وكان أبو سعيد عالما باللغة إذ هجم علينا مجنون من أهل قمّ ، فسقط على جماعة من أهل المجلس ، فاضطرب الناس لسقطته ووثب أبو سعيد لا يشكّ أنّ آفة قد لحقتنا من سقوط جدار أو شرود بهيمة فلمّا رآه المجنون على تلك الحال قال : الحمد لله رب العالمين ، على رسلك يا شيخ لا ترع ، آذاني هؤلاء الصبيان ، وأخرجوني عن طبعي إلى ما لا أستحسنه من غيري ، فقال أبو سعيد : امنعوا عنه عافاكم الله ، فوثبنا فشرّدنا من كان ورجعنا ، فسكت ساعة لا يتكلم إلى أن عدنا إلى ما كنّا فيه من المذاكرة ، وابتدأ بعضنا يقرأ قصيدة من شعر نهشل بن جرير التميمي حتى بلغ قوله : [الطويل]

٥٥٥ ـ غلامان خاضا الموت من كلّ جانب

فآبا ولم تعقد وراءهما يد

متى يلقيا قرنا فلا بدّ أنّه

سيلقاه مكروه من الموت أسود

فما استتمّ هذا البيت حتى قال : قف يا أيها القارئ ، تتجاوز المعنى ولا تسأل عنه؟ ما معنى قوله : ولم تعقد وراءهما يد؟ فأمسك من حضر عن القول ، فقال : قل يا شيخ ، فإنّك المنظور إليه والمقتدى به ، فقال أبو سعيد : يقول إنهما رميا بأنفسهما في الحرب أقصى مراميها ورجعا موفورين لم يؤسرا فتعقد أيديهما كتفا ، فقال :

__________________

٥٥٣ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٦) ، وشرح المفصّل (٦ / ٩١) ، ولسان العرب (نمر) و (حلل) و (قنا) ، وتاج العروس (حلل) و (قني).

٥٥٤ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٩٦٢).

(١) انظر معجم الأدباء (٣ / ١٨).


يا شيخ أترضى لنفسك بهذا الجواب؟ فأنكرنا ذلك على المجنون ، فنظر بعضنا إلى بعض ، فقال له أبو سعيد : هذا الذي عندنا ، فما عندك؟ فقال : المعنى يا شيخ : آبا ولم تعقد يد بمثل فعلها بعدهما ، لأنهما فعلا ما لم يفعله أحد ، كما قال الشاعر : [السريع]

٥٥٦ ـ فتى إذا عدّت تميم معا

ساداتها عدّوه بالخنصر

ألبسه الله ثياب النّدى

فلم تطل عنه ولم تقصر

أي : خلقت له ، وقريب من الأول قوله : [السريع]

٥٥٧ ـ قومي بنو مذحج من خير الأمم

لا يصعدون قدما على قدم

يعني أنّهم يتقدّمون الناس ولا يطؤون على عقب أحد ، وهذان فعلا ما لم يفعله أحد ، فلقد رأيت أبا سعيد وقد احمرّ وجهه واستحيى من أصحابه ، ثم غطّى المجنون رأسه وخرج وهو يقول : يتصدّرون فيغرّون الناس من أنفسهم ، فقال أبو سعيد بعد خروجه : اطلبوه ، فإنّي أظنّه إبليس ، فطلبناه فلم نظفر به. وفيه أيضا :

قال (١) : وحدّث محمد بن إسحاق النّديم ، قال : لمّا أراد المتوكّل أن يتخذ المؤدّبين لولده جعل ذلك إلى إيتاخ كاتبه أن يتولى ذلك ، فبعث إلى الطّوال والأحمر وابن قادم وأبي عصيدة وغيرهم من أدباء ذلك العصر ، فأحضرهم مجلسه ، وجاء أبو عصيدة فقعد في آخر الناس ، فقال له من قرب منه : لو ارتفعت فقال : بل أجلس حيث انتهى بي المجلس ، فلمّا اجتمعوا قال لهم الكاتب : لو تذاكرتم وقفنا على موضعكم من العلم واخترنا فألقوا بينهم بيت ابن عنقاء الفزاريّ : [الوافر]

٥٥٨ ـ ذريني إنّما خطئي وصوبي

عليّ وإنّ ما أنفقت مال

فقالوا : ارتفع مال بإنّما إذ كانت بمعنى الذي ، ثم سكتوا فقال لهم أبو عصيدة من آخر الناس : هذا الإعراب فما المعنى؟ فأحجم النّاس عن القول ، فقيل : فما المعنى قال : أراد ما لومك إيّاي وإنّ ما أنفقت مال ولم أنفق عرضا؟ فالمال لا ألام على إنفاقه ، فجاءه خادم صدر المجلس فأخذ بيده حتى تخطّى به إلى أعلاه ، وقال له : ليس هذا موضعك ، فقال : لأن أكون في مجلس أرفع منه إلا أعلاه أحبّ إليّ من أن أكون في مجلس أحطّ عنه ، فاختبر هو وابن قادم. وفيه أيضا (٣) :

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١ / ٤٦٦) ، ومجلس العلماء (ص ٦١) ، والدرر (٢ / ٦٩).

٥٥٨ ـ الشاهد لأوس بن غلفاء في إنباه الرواة (١ / ١٢٠) ، وخزانة الأدب (٨ / ٣١٣) ، والدرر (٥ / ٥٦) ، والشعر والشعراء (٢ / ٦٤٠) ، ولسان العرب (صوب) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢٤٩) ، ونوادر أبي زيد (ص ٤٦) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٣٥١).

(٢) انظر معجم الأدباء (٢ / ٩٨).


حدّث ابن عساكر في تاريخه بإسناد رفعه إلى إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي عن أبيه ، قال : كنت مع أبي عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم بن عبد الله بن حسن ابن حسن بن عليّ بن أبي طالب ، فسأل عن رجل من أصحابه فقده ، فقال لبعض من حضره ، اذهب فسل عنه ، فرجع فقال : تركته يريد أن يموت ، فضحك بعض القوم وقال : في الدنيا إنسان يريد أن يموت؟ فقال إبراهيم : لقد ضحكتم منها غريبة ، إنّ «يريد» هاهنا في معنى «يكاد» ، قال الله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] أي : يكاد ، قال : فقال أبو عمرو بن العلاء : لا نزال بخير ما دام فينا مثلك.

وفيه (١) : قال ثعلب : الذي لا ينسب إليه لأنّه لا يتم إلّا بصلة ، والعرب لا تنسب إلا إلى اسم تامّ ، والذي وما بعده حكاية ، والحكاية لا ينسب إليها لئلّا تتغيّر ، قال : وسئل ابن قادم عنها وأنا غائب بفارس ، فقال : اللّذويّ ، فلمّا قدمت سئلت عنها فقلت : لا ينسب إليه ، وأتيت بهذه العلة فبلغته ، فلمّا اجتمعنا تجاذبنا ثم رجع إلى قولي.

وفيه (٢) : قال ثعلب : كنت أصير إلى الرّياشي لأسمع منه ، فقال لي يوما وقد قرئ عليه : [الرجز]

٥٥٩ ـ ما تنقم الحرب العوان منّي

بازل عامين حديث سنّي

لمثل هذا ولدتني أمّي

كيف تقول : بازل أو بازل؟ فقلت : أتقول لي هذا في العربية؟ إنّما أقصدك لغير هذا ، يروى بازل وبازل وبازل ، الرفع على الاستئناف والخفض على الإتباع والنصب على الحال ، فاستحيى وأمسك.

وفيه (٤) : قال ثعلب : بعث إليّ عبيد الله ابن أخت أبي الوزير رقعة فيها خطّ المبرد : «ضربته بلا سيف» قال : أيجوز هذا؟ فوجّهت إليه لا والله ما سمعت بهذا ، هذا خطأ البتّة لأنّ لا التبرئة لا يقع عليها خافض ولا غيره ، لأنّها أداة وما تقع أداة على أداة.

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (٥ / ١١٠).

(٢) انظر معجم الأدباء (٥ / ١١٠).

٥٥٩ ـ الرجز لأبي جهل في مجمع الأمثال (ص ٤٤) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ٢٧٦) ، واللسان (عون) ، ولعلي بن أبي طالب في اللسان (نقم) ، وبلا نسبة في الكامل (٣ / ٨٥) ، والمقتضب (١ / ٢١٨).

(٣) انظر معجم الأدباء (٥ / ١١٤).


وفيه : قال العجوزيّ صرت إلى المبرد مع القاسم والحسن ابني عبيد الله بن سليمان بن وهب فقال لي القاسم : سله عن شيء من الشعر ، فقلت : ما تقول أعزّك الله في قول أوس : [الطويل]

٥٦٠ ـ وغيّرها عن وصلها الشّيب إنّه

شفيع إلى بعض الخدود مدرّب

فقال بعد ما تمكّث وتمهّل وتمطّق : يريد أنّ النساء أنسن به فصرن لا يستترن منه ، ثم صرنا إلى ثعلب ، فلمّا غصّ المجلس سألته عن البيت فقال : قال لنا ابن الأعرابي :

إنّ الهاء في «إنّه» للشباب وإن لم يجر له ذكر لأنّه علم ، والتفتّ إلى الحسن والقاسم فقلت : أين صاحبنا من صاحبكم؟

وفيه (٢) : حدّث محمد بن رستم الطّبريّ قال : أخبرنا أبو عثمان المازني ، قال : كنت عند سعيد بن مسعدة الأخفش أنا وأبو الفضل الرّياشي ، فقال الأخفش : إن «منذ» إذا رفع بها فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبرها ، كقولك : ما رأيته منذ يومان ، فإذا خفض بها فهي حرف معنى ليس باسم ، كقولك : ما رأيته منذ اليوم ، فقال له الرّياشي : فلم لا تكون في الموضعين اسما؟ فقد نرى الأسماء تنصب وتخفض ، كقولك : هذا ضارب زيدا غدا وضارب زيد أمس ، فلم لا تكون بهذه المنزلة؟ فلم يأت الأخفش بمقنع ، قال أبو عثمان : فقلت له : لا تشبه «منذ» ما ذكرت لأنّا لم نر الأسماء هكذا تلزم موضعا إلّا إذا ضارعت حروف المعاني ، نحو : أين وكيف ، فكذلك «منذ» هي مضارعة لحروف المعاني فلزمت موضعا واحدا ، قال الطّبريّ : فقال ابن أبي زرعة للمازني : أفرأيت حروف المعاني تعمل عملين مختلفين متضادين؟ قال : نعم ، كقولك : قام القوم حاشا زيد ، وحاشا زيدا ، وعلى زيد ثوب ، وعلا زيد الفرس ، فتكون مرة حرفا ومرة فعلا بلفظ واحد.

قال ياقوت (٣) : نقلت من خطّ الشيخ أبي سعيد البستي في كتاب ألّفه ، قال : قال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد بن سهلويه (٤) في كتابه الذي سمّاه (أجناس الجواهر) : كنت بمدينة السّلام أختلف إلى أبي علي الفارسي النحوي ، وكان السلطان رسم له أن ينتصب في كل أسبوع يومين لتصحيح كتاب (التذكرة لخزانة

__________________

٥٦٠ ـ الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه (ص ٥).

(١) انظر معجم الأدباء (٧ / ١٢٣).

(٢) انظر معجم الأدباء (٧ / ٢٤٢).

(٣) في معجم الأدباء (بن مهرويه).


كافي الكفاة) ، فكنّا إذا قرأنا أوراقا منه تجارينا في فنون الأدب ، واجتنينا من فوائده ثمار الألباب ، ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه ، والتقطنا الدّرّ المنثور من سقاط فيه ، فأجرى يوما بعض الحاضرين ذكر الأصمعي وأسرف في الثّناء عليه ، وفضّله على أعيان العلماء في أيّامه ، فرأيت ـ رحمه الله ـ كالمنكر لما كان يورده ، وكان فيما ذكر من محاسنه ونشر من فضائله أن قال : من ذا الذي يجسر أن يخطّئ الفحول من الشعراء غيره؟ فقال أبو علي : وما الذي ردّ عليهم؟ فقال الرجل : أنكر على ذي الرّمّة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها ، وفضل معرفته باغراضها ومراميها ، وأنّه سلك نهج الأوائل في وصف المفاوز إذا لعب السراب فيها ، ورقص الآل في نواحيها ، ونعت الحرباء وقد سنح على جذله ، والظّليم وكيف ينفر من ظلّه ، وذكر الرّكب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام حتى كأنّهم صرعتهم كؤوس المدام ، فطبّق مفصل الإصابة في كلّ باب ، وساوى الصّدر الأوّل من أرباب الفصاحة ، وجارى القروم البزّل من أصحاب البلاغة ، فقال له أبو علي : وما الذي أنكر على ذي الرّمّة؟ فقال : قوله : [الطويل]

٥٦١ ـ وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم

[وكيف بتكليم الديار البلاقع]

لأنه كان يجب أن ينوّنه ، فقال : أمّا هذا فالأصمعي مخطئ فيه وذو الرّمّة مصيب ، والعجب أنّ يعقوب بن السّكّيت قد وقع عليه هذا السّهو في بعض ما أنشده ، فقلت : إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجليّة هذا الخطأ تفضّل به ، فأملى علينا : أنشد ابن السكيت لأعرابيّ من بني أسد : [الوافر]

٥٦٢ ـ وقائلة أسيت فقلت : جير

أسيّ إنّني من ذاك إنّه

أصابهم الحمى وهم عواف

وكنّ عليهم نحسا لعنّه

فجئت قبورهم بدأ ولمّا

فناديت القبور ولم يجبنه

وكيف تجيب أصداء وهام

وأبدان بدرن وما نخرنه

__________________

٥٦١ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٧٧٨) ، وإصلاح المنطق (ص ٢٩١). وتذكرة النحاة (ص ٦٥٨) ، وخزانة الأدب (٦ / ٢٠٨) ، ورصف المباني (ص ٣٤٤) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٤٩٤) ، وشرح المفصّل (٤ / ٣١) ، ولسان العرب (أيه) ، وتاج العروس (أيه) ، وما ينصرف وما لا ينصرف (ص ١٠٩) ، ومجالس ثعلب (ص ٢٧٥) ، وكتاب العين (٤ / ١٠٤) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٦ / ٢٣٧) ، والمقتضب (٣ / ١٧٩) ، والمخصّص (١٤ / ٨١).

٥٦٢ ـ البيت الأول بلا نسبة في اللسان (أس) ، والجنى الداني (ص ٤٣٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ٧٢) ، والدرر (٢ / ٨٩) ، والبيت الثالث بلا نسبة في المغني (ص ٣١٠) ، والأبيات الأربعة في الدرر (٢ / ٥٢) ، بلا نسبة.


قال يعقوب : قوله : جير أي : حقّا ، وهي مخفوضة غير منونة فاحتاج إلى التنوين ، قال أبو علي : هذا سهو منه لأنّ هذا يجري منه مجرى الأصوات ، وباب الأصوات كلّها والمبنيّات بأسرها لا ينوّن إلّا ما خصّ منها بعلة الفرقان فيها بين نكرتها ومعرفتها ، فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين ، فإذا نكّرته نوّنته من ذلك أنّك تقول في الأمر : صه ومه تريد السكوت فإذا نكّرت قلت : صه ومه تريد سكوتا ، وكذلك قال الغراب : غاق ، أي : الصّوت المعروف من صوته ، وقال الغراب : غاق أي صوتا ، وكذلك : إيه يا رجل ، تريد الحديث ، وإيه تريد حديثا ، وزعم الأصمعي أنّ ذا الرّمّة أخطأ في قوله : [الطويل]

وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم

 ...

وكان يجب أن ينوّنه ويقول : إيه ، وهذا من أوابد الأصمعي التي يقدم عليها من غير علم ، فقوله : جير بغير تنوين في موضع قوله : فقلت الحقّ ، وتجعله نكرة في موضع آخر فتنوّنه ، فيكون معناه : قلت حقا ، ولا مدخل للضرورة في ذلك ، إنما التنوين للمعنى المذكور ، وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير ، وبالله التوفيق.

قال يعقوب : قوله أصابهم الحمى يريد : الحمام ، وقوله : بدرن أي : طعنّ في بوادرهم بالموت ، والبادرة : النحر ، وقوله : بدأ أي : سيّدا ، ولمّا أي : لم أكن سيّدا إلا حين ماتوا فإني سدت بعدهم.

قال ياقوت (١) : حدّثني شيخنا الإمام علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسي ، قال : حدثني شيخنا تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكنديّ قال : بلغني أنّ أبا سعيد السّيرافيّ دخل على ابن دريد وهوو يقول : أوّل من أقوى في الشعر أبونا آدم عليه السّلام في قوله : [الوافر]

٥٦٣ ـ تغيّرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبر قبيح

تغيّر كلّ ذي طعم ولون

وقلّ بشاشة الوجه المليح

فقال أبو سعيد : يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء ، فقال : وكيف ذلك؟

__________________

(١) انظر معجم البلدان (٨ / ١٨٦).

٥٦٣ ـ البيتان منسوبان إلى سيدنا آدم عليه السّلام في خزانة الأدب (١١ / ٣٧٧) ، والدرر (٦ / ٢١٤) ، وبلا نسبة في الإنصاف (٢ / ٦٦٢) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٦).


قال : بأن تنصب بشاشة على التمييز وترفع الوجه المليح بقلّ ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله (١) : [المتقارب]

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا

قال : فرفعني حتى أقعدني بجانبه.

قال ياقوت (٢) : قرأت في كتاب (الموضّح في العروض) من تصنيف أبي القاسم عبيد الله بن محمد بن جرو الأسديّ (٣) أخبارا أوردها عن نفسه فيه ومناظرات جرت له مع الشيوخ في العروض منها : قرأت على شيخنا أبي سعيد السيرافي (كتاب الوقف والابتداء) عن الفراء روايته عن أبي بكر بن مجاهد عن ابن الجهم عنه فمرّ فيه ببيت أنشده الفراء : [الطويل]

٥٦٤ ـ بأبي امرؤ والشّام بيني وبينه

أتتني ببشرى برده ورسائله

فقلت : هذا البيت لا يستقيم ، فقال أبو سعيد : أنشده ابن مجاهد عن الفراء ، وهو كما قال قد أنشدناه غير واحد من شيوخنا عن أبي بكر وعن ابن بكير عن ابن الجهم ، وعن ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى عن سلمة عن الفراء هكذا ، فقال أبو سعيد : ما عندك فيه؟ فقلت : رأيت هذا البيت بخط أبي سهل النحوي في هذا الكتاب : يأبوي امرؤ ، وقال : ردّ الأب إلى أصله لأنّه في الأصل عند الكوفيين أبو على فعل ، مثل : نحر وغزو ، فقال لي أبو سعيد : لا ينبغي أن تلتفت إلى هذا ، لأنّ الرّواة والناقلين أجمعوا على أنّه مكتوب بأبي ، وكذلك لفظوا به ، ولكنّ اصطلاحه أن يكون بأبي امرؤ ، فيكون بأبيم فعولن ، وسكّن كسرة الباء من أبي لأنّه قدّره تقدير فخذ ، وهذا لعمري تشبيه حسن ، لأنّهم قد أجروا هذا في المنفصل مجرى المتّصل ، فقالوا : اشتر لنا (٥) ، جعلوا ترل بمنزلة فخذ ، وأشدّ من هذا قراءة حمزة : (وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا) [فاطر : ٤٣] ، جعل سيئا بمنزلة فخذ ثم أسكن كما يقال : فخذ ، والحركة في السّيّئ حركة إعراب ، وفي هذا ضربان من التجوّز : جعله المنفصل بمنزلة المتصل ، وتشبيهه حركة الإعراب بحركة البناء. انتهى.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٥٩).

(٢) انظر معجم الأدباء (١٢ / ٦٣).

(٣) عبيد الله بن محمد بن جرو الأسديّ أبو القاسم : العروضي النحوي المعتزليّ ، من أهل الموصل ، كان عارفا بالقراءات والعربية ، صنّف : تفسير القرآن ، والموضح في العروض ، والمفصح في القوافي وغيرها (ت ٣٨٧ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (٢ / ١٢٧).

٥٦٤ ـ الشاهد لجرير في ديوان المعاني (١ / ٦٦) ، وهو ليس في ديوانه.

(٤) انظر الشاهد رقم (٢١).


قال ياقوت (١) : حدّث أبو جعفر الجرجاني قال : قال لنا أبو الحسين المهلّبيّ النحوي : وقع بيني وبين المتنبي في قول العدانيّ : [البسيط]

٥٦٥ ـ يا عمرو إلّا تدع شتمي ومنقصتي

أضربك حتّى تقول الهامة اسقوني

وذلك أنّ المتنبي قال : إنّ الناس يخلطون في هذا البيت ، والصواب : اشقوني من شقأت رأسه بالمشقاء وهو المشط ، قال المهلّبي : فقلت له : أخطأت من وجوه ، أحدها : أنّه لم يرو كذلك ، والآخر : أنّه يقال : شقأت بالهمز ، وأيضا فإني أظنّك لا تعرف الخبر فيه وما كانت العرب تقوله في الهامة ، إنّها إذا لم يثأر بصاحبها لا تزال تقول : اسقوني اسقوني ، فإذا ثأروا به سكن كأنّه شرب ذلك الدّم.

قال ياقوت : قال أبو عمر الخلال : أنفذني الصّيدلانيّ أبو عبد الرحمن المعتزليّ غلام أبي عليّ الجبّائيّ إلى أبي الحسن الرّامهرمزيّ وقال لي : قل له : إنّي قرأت البارحة في كتاب شيخنا أبي عليّ في تفسير القرآن في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) [الأنعام : ١١٢] ، أي : بيّنّا لكلّ نبيّ عدوّه ، فجعل بمعنى بيّن ، ولست أعرف هذا في اللغة ، واحفظ جوابه وجئني به ، فجئت إلى أبي الحسن فأخبرته بذلك فقال : نعم ، هذا معروف في لغة العرب ، وقد قال العديني العنسي بالنون : [الطويل]

٥٦٦ ـ جعلنا لهم نهج الطّريق فأصبحوا

على ثبت من أمرهم حيث يمّموا

فعدت إلى أبي عبد الرحمن فعرّفته ذلك.

قال ياقوت (٣) : حدّث المرزبانيّ عن الأحمر النّحويّ قال : دخل أبو يوسف القاضي أو محمد بن الحسن علي الرشيد وعنده الكسائيّ يحدّثه ، فقال : يا أمير المؤمنين قد سعد بك هذا الكوفيّ وشغلك ، فقال الرشيد : النحو يستفزعني لأنّي أستدلّ به على القرآن والشعر ، فقال : إنّ علم النحو إذا بلغ فيه الرجل الغاية صار معلّما ، والفقه إذا عرف فيه الرجل جملة أو صدرا صار قاضيا ، فقال الكسائيّ : أنا أفضل منك لأنّي أحسن ما تحسن وأحسن ما لا تحسن ، ثم التفت إلى الرشيد وقال : إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له في جوابي عن مسألة من الفقه ، فضحك الرشيد

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١٢ / ٢٢٥).

٥٦٥ ـ الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه (ص ٩٢) ، ولسان العرب (هوم) ، وتهذيب اللغة (٦ / ٤٧) ، والمخصص (١٣ / ١٨٣) ، وتاج العروس (هيم) ، وجمهرة اللغة (ص ١١٠٠) ، والمعاني الكبير (ص ٩٧٧) ، والشعر والشعراء (ص ٧١٢) ، وسمط اللآلي (ص ٢٨٩) ، والكامل (ص ٤٨١) ، والمؤتلف والمختلف (ص ١١٨).

(٢) انظر معجم الأدباء (١٣ / ١٧٥).


وقال : أبلغت يا كسائي إلى هذا؟ ثم قال لأبي يوسف : أجبه ، فقال الكسائي : ما تقول لرجل قال لامرأته : «أنت طالق إن دخلت الدار»؟ فقال أبو يوسف : إذا دخلت الدار طلقت ، فقال الكسائي : خطأ ، إذا فتحت أن فقد وجب الأمر ، وإذا كسرت فإنه لم يقع بعد فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو.

وحدّث أيضا عمّن سمع الكسائي يقول : اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد ، فجعل أبو يوسف يذمّ النحو ويقول : ما النحو؟ فقلت وأردت أن أعلّمه فضل النحو : ما تقول في رجل قال لرجل : أنا قاتل غلامك؟ وقال له آخر : أنا قاتل غلامك ، أيّهما كنت تأخذ به؟ قال : آخذهما جميعا ، فقال له هارون : أخطأت ، وكان له علم بالعربية ، فاستحيى وقال : كيف ذلك؟ فقال : الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال : أنا قاتل غلامك ، بلا إضافة فإنّه لا يؤخذ لأنّه مستقبل لم يكن بعد ، كما قال الله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٤] ، فلولا أنّ التنوين مستقبل ما جاز فيه غدا ، فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح العربية والنحو.

قال أبو عبد الله بن مقلة (١) : حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال : اجتمع الكسائي والأصمعي عند الرشيد ، وكانا معه يقيمان بمقامه ويظعنان بظعنه ، فأنشد الكسائي : [البسيط]

٥٦٧ ـ أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به

رئمان أنف إذا ما ضنّ باللّبن

فقال الأصمعي : رئمان بالرفع ، فقال له الكسائي : اسكت ، ما أنت وهذا؟ يجوز رئمان ورئمان ورئمان ، ول يكن الأصمعي صاحب عربيّة ، فسألت أبا العباس كيف جاز ذلك؟ فقال : إذا رفع رفع ب ينفع ، أي : أم كيف ينفع رئمان أنف ، وإذا نصب نصب بتعطي ، وإذا جرّ جرّ بردّه على الهاء في به ، قال : والمعنى : وما ينفعني إذا وعدتني بلسانك ثم لم تصدّقه بفعلك؟ يقال ذلك للّذي يبرّ ولا يكون منه نفع كهذه الناقة تشمّ بأنفها مع تمنّع درّتها ، والعلوق : التي علق عليها ولدها ، وذلك أنّه

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١٣ / ١٧٣) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ٣٧).

٥٦٧ ـ الشاهد لأفنون التغلبي في خزانة الأدب (١١ / ١٣٩) ، والدرر (٦ / ١١١) ، وشرح اختيارات المفضّل (ص ١١٦٤) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٤٤) ، ولسان العرب (علق) ، وبلا نسبة في الاشتقاق (ص ٢٥٩) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٢٢) ، وخزانة الأدب (١١ / ٢٨٨) ، والخصائص (٢ / ١٨٤) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٤١٨) ، وشرح المفصل (٤ / ١٨) ، ولسان العرب (رأم) ، والمحتسب (١ / ٢٣٥) ، مغني اللبيب (١ / ٤٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٣٣).


نحر عنها ، ثم حشي جلده تبنا أو حشيشا وجعل بين يديها حتى تشمّه وتدرّ عليه ، فهي تسكن إليه مرّة ثم تنفر عنه ثانية ، تشمّه بأنفها ثم تأباه بقلبها ، فيقول : فما ينفع من هذا البوّ إذا تشمّمته ثم منعت درّتها؟.

وحدّث المرزبانيّ عن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب قال : سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الرشيد فقال : انظر ، في هذا الشعر عيب وأنشده : [مجزوء الرمل]

٥٦٨ ـ ما رأينا خربا نق

قر عنه البيض صقر

لا يكون العير مهرا

لا يكون المهر مهر

فقال الكسائي : قد أقوى الشاعر ، فقال له اليزيدي : انظر فيه ، فقال : أقوى ، لا بدّ أن ينصب المهر الثاني على أنّه خبر (كان) ، فضرب اليزيدي بقلنسوته الأرض وقال : أنا أبو محمد ، الشعر صواب ، إنّما ابتدأ فقال : المهر مهر ، فقال له يحيى بن خالد : أتتكنّى بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ والله لخطأ الكسائي مع أدبه أحبّ إلينا من صوابك مع سوء فعلك ، فقال : لذّة الغلبة أنستني من هذا ما أحسن. انتهى.

وفي (طبقات الكمال) لابن الأنباري (٢) : قال الدّوريّ : كان أبو يوسف يقع في الكسائي ويقول : أيّ شيء يحسن؟ إنما يحسن شيئا من كلام العرب ، فبلغ ذلك الكسائي ، فالتقيا عند الرشيد ، وكان الرشيد يعظّم الكسائي لتأديبه إيّاه ، فقال لأبي يوسف : أيش تقول في رجل قال لامرأته : أنت طالق طالق طالق؟ قال : واحدة ، قال : فإن قال لها : «أنت طالق أو طالق أو طالق» ، قال : واحدة ، قال فإن قال لها : أنت طالق ثم طالق ثم طالق؟ قال : واحدة ، قال فإن قال لها : أنت طالق وطالق وطالق؟ قال واحدة ، قال الكسائي : يا أمير المؤمنين أخطأ يعقوب في اثنتين وأصاب في اثنتين ، أمّا قوله : أنت طالق طالق طالق فواحدة ، لأنّ الثّنتين الباقيتين تأكيد ، كما تقول : أنت قائم قائم قائم ، وأنت كريم كريم كريم ، وأمّا قوله : أنت طالق أو طالق أو طالق فهذا شك ، وقعت الأولى التي تتيقّنّ ، وأما قوله : أنت طالق ثم طالق ثم طالق فثلاث لأنه نسق ، وكذلك قوله : أنت طالق وطالق وطالق.

وقال ياقوت (٣) : قرأت بخط أبي سعيد عبد الرحمن بن علي اليزدادي اللغويّ

__________________

٥٦٨ ـ انظر مجالس العلماء (ص ٢٥٥) ، والغيث المسجم (٢ / ١٤٣) ، معجم الأدباء (٤ / ٩٢).

(١) انظر نزهة الألباء (ص ٧٣).

(٢) انظر معجم الأدباء (١٣ / ١٩٤).


الكاتب في كتاب جلاء المعرفة من تصنيفه : قيل : اجتمع إبراهيم النظّام وضرار بن يدي الرشيد ، فتناظرا في القدر حتى دقّت مناظرتهما فلم يفهمها ، فقال لبعض الخدم : اذهب بهذين إلى الكسائي حتى يتناظرا بين يديه ثم يخبرك لمن الفلج منهما ، فلما صارا إلى بعض الطريق قال إبراهيم : أنت تعلم أنّ الكسائي لا يحسن شيئا من النّظر ، وإنما معوّله على النحو والحساب ، ولكن تهيّئ له مسألة نحو ، وأهيّئ له مسألة حساب ، فنشغله بهما ، لأنّا لا نأمن أن يسمع منّا ما لم يسمعه ولم يبلغه فهمه أن ينسبنا إلى الزندقة فلمّا صارا إليه سلّما عليه ، ثم بدأ ضرار فقال : أسألك ـ أصلحك الله ـ عن مسألة النحو؟ قال : هاتها ، قال : ما حدّ الفاعل والمفعول به؟ فقال الكسائي : حدّ الفاعل الرّفع أبدا وحدّ المفعول به النصب أبدا ، قال : فكيف تقول : ضرب زيد ، قال : ضرب زيد ، قال : فلم رفعت زيدا وقد شرطت أنّ المفعول به منصوب أبدا؟ قال : لأنه لم يسمّ فاعله ، قال : فقد أخطأت في العبارة إذ لم تقل : إنّ من المفعولين ما إذا لم يسمّ فاعله كان مرفوعا ، ومن جعل لك الحكم بأن تجعل الرفع لمن لم يسمّ فاعله؟ قال : لأنّا إذا لم نذكر الفاعل أقمنا المفعول به مكانه ، لأنّ الفعل الواقع عليه غير مستحكم النقص وعدم النقص مطابق للرفع ، فإذا ذكرنا من فعل به وأفصحنا بذلك نصبناه قال له : فإن كان النقص مطابقا للنصب فمن لم يسمّ فاعله أولى به لأنّا إذا قلنا : ضرب زيد فقد يمكن أن يكون ضربه مائة رجل ، وإذا قلنا : ضرب عبد الله زيدا فلم يضربه إلّا رجل واحد ، فالذي أمكن أن يضربه مائة رجل أولى بالنصب والنقص ممّن لم يضربه إلّا واحد ، فوقف الكسائي لم يدر ما يقول ، ثم قال له إبراهيم : أسألك ـ أصلحك الله ـ عن مسألة من الحساب؟ قال : قل ، قال : كم جذر عشرة؟ قال : أجمع الحسّاب على أنّه لا جذر لعشرة ، قال : فهل علم الله جذرها؟ قال : الله تعالى عالم كل شيء ، قال : فما أنكرت أن يكون الله تعالى إذ علم جذرها ألقاه إلى نبيّ من أنبيائه ، ثم ألقاه ذلك النبي إلى صفيّ من أصفيائه ، ثم لم يزل ذلك العلم ينمي حتى صار علم جذر عشر عندي ، وأكون أنا أعلم جذرها؟ قال : الله عالم ، ولا تعلمه أنت وتكون مخطئا فيما قلت.

قال ياقوت (١) : وحدّث ابن بشكوال في الصّلة قال : قال عليّ بن عيسى الرّبعيّ : كان عبد الله بن حمّود الزبيدي الأندلسي قد قرأ يوما على أبي عليّ الفارسيّ في نوادر الأصمعي : أكأت الرجل إذا رددته عنك ، فقال أبو علي : ألحق هذه الكلمة بباب أجأ فإني لم أجد لها نظيرا غيرها ، فسارع من حوله إلى كتابتها ، قال الرّبعيّ :

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١٤ / ٨١).


فقلت : أيّها الشيخ ليس أكأت من أجأ في شيء ، قال : وكيف ذلك؟ قلت لأنّ إسحاق بن إبراهيم الموصليّ وقطربا النحويّ حكيا أنه يقال : أجأ الرجل إذا جبن ، فخجل الشيخ وقال : إذا كان كذا فليس منه ، فضرب كلّ واحد منهم على ما كتب.

قال ياقوت (١) : حدثّ المرزبانيّ في أخبار الكسائي ممّا أسنده إلى المغيرة بن محمد عن أبيه قال : لمّا دخل الكسائي البصرة أوّل دخلة جلس في حلقة يونس ينتظر خروجه ، فسأله ابن أبي عيينة : عن أولق هل ينصرف أو لا ينصرف؟ فقال : أفعل لا ينصرف ، فقال ابن أبي عيينة : خطأ والله ، وخرج يونس ، فسئل عن أولق فقال : هو فوعل وليس بأفعل لأنّ الهمزة فاء الفعل ، لأنك تقول : ألق الرجل فهو مألوق ، فثبتت الهمزة ، وكذلك أرنب مصروف لأنّه فعلل لأنّك تقول : أرض مؤرنبة فتثبت الهمزة ، قال : والمألوق المجنون. انتهى.

قال ياقوت : حدّث أبو محمد اليزيديّ قال : كان يجيئني رجل فيسألني عن آيات من القرآن مشكلات فكنت أتبيّن العنت في سؤاله ، وكنت إذا أجبته أرى لونه يربدّ ويسودّ ، فقال لي يوما : أيجوز في كلام العرب أن تقول : أدخلت القوم الدّار ثم أخرجتهم رجلا؟ فقلت لا يجوز ذلك حتى تقول : أخرجتهم رجلا رجلا ، فيدلّ على تفصيل الجنس ، قال : فكيف قال الله عزّ وجل : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧]؟ قلت : ليس هذا من ذلك لأن الطفل مصدر في الأصل يقع على الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد فتقول : هذا طفل وهذان طفل وهؤلاء طفل ، كما قال تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣١] ، فطفل في الآية موضع أطفال ، فكأنّه قال : ثم يخرجكم أطفالا ، قال : فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء : ٤٢] ، من أين لهم هذه الأرض هناك؟ فقلت له : وهمت ، أما سمعت قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨] ، فودّوا أنّ تلك الأرض تسوّى بهم ، فسكت.

قال ياقوت في معجم الأدباء : حدّثني الإمام صدر الأفاضل قاسم بن حسين الخوارزميّ قال : دخل أفضل القضاة يعقوب بن شيرين الجندي على جار الله الزمخشري فقال له : لقد أنشأت البارحة شيئا وأنشده : [الكامل]

ما تابع لم يتّبع متبوعه

في لفظه ومحلّه يا ذا الثّبت

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٢٥٤).


ما ذا بعلم غير علم نافع

ألغزت في إتقانه حتّى ثبت

ألغز فيهما على نحو قولهم : «ما زيد بشيء إلّا شيء لا يعبأ به» ، فإنّه لا يجوز في قولهم : «إلّا شيء» سوى الرفع ، وهو بدل من قولهم : «ما ذا بعلم غير علم نافع» برفع غير ، فلمّا سمع جار الله منه البيتين قال له : لقد جئت شيئا إدّا.

قال ياقوت (١) : حدّثني صدر الأفاضل قال : كتب إليّ الصوفيّ المعروف الصّوّاب يسألني عن قول حسان رضي الله عنه : [الوافر]

٥٦٩ ـ فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

وقولهم : إن فيه ثلاثة عشر مرفوعا ، فأجبته : [البسيط]

أفدي إماما وميض البرق منصرع

من خلف خاطره الوقّاد حين خطا

يبغي الصّواب لدينا من مباحثه

وما درى أنّ ما يعدو الصّواب خطا

الذي يحضرني في هذا البيت من المرفوعات اثنا عشر ، فمنها قوله : فمن يهجو ، فيها ثلاثة مرفوعات ، المبتدأ أو الفعل المضارع والضمير المستكن ، ومنها المبتدأ المقدّر في قوله : ويمدحه ، والمعنى : ومن يمدحه فيكون هنا على حسب المثال الأول ثلاثة مرفوعات أيضا ، ومنها المرفوعان في قوله : وينصره ، أحدهما : الفعل المضارع والثاني : الضمير المستكن فيه ، ومنها المرفوعات الأربعة في قوله : سواء ، اثنان من حيث إنّه في مقام الخبرين للمبتدأين واثنان آخران من حيث إنّ في كلّ واحد ضميرا راجعا إلى المبتدأ ، فهذا يا سيّدي جهد المقلّ وغير مرجوّ قطع المدى من الكلّ. انتهى.

قال الصّفديّ بعد حكايته : بل المرفوعات ثلاثة عشر ، والباقي المبتدأ المحذوف المعطوف على قوله : «من» في الأول من قوله : فمن يهجو ، أي : ومن يمدحه ومن ينصره لأنّه قد قرّر أنّ في «يهجو» ثلاثة مرفوعات ، وكذا في «ويمدحه» وتحكّم في قوله : إنّ في «ينصره» مرفوعين ، والصورة واحدة في الثلاث. انتهى.

مناظرات ذكرها أبو بكر الزبيدي في (طبقات النحاة)

قال أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين (٣) : قال المازنيّ : كنت بحضرة

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١٦ / ٢٤٥).

٥٦٩ ـ الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه (ص ٧٦) ، وتذكرة النحاة (ص ٧٠) ، والدرر (١ / ٢٩٦) ، ومغني اللبيب (ص ٦٢٥) ، والمقتضب (٢ / ١٣٧) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (ص ٨٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٨٨).

(٢) انظر طبقات النحويين واللغويين (ص ٨٨).


الواثق يوما ، فقلت لابن قادم : كيف تقول : نفقتك دينارا أصلح من درهم؟ فقال : دينار بالرفع ، قلت : فكيف تقول : ضربك زيدا خير لك؟ فنصب زيدا ، فطالبته بالفرق بينهما فانقطع ، وكان ابن السكيت حاضرا ، فقال الواثق سله عن مسألة ، فقلت له : ما وزن نكتل من الفعل؟ فقال : نفعل ، فقال الواثق : غلطت ، ثم قال لي : فسّرّه ، فقلت : نكتل تقديره : نفتعل ، وأصله : نكتيل ، فانقلبت الياء ألفا لفتحة ما قبلها ، فصار لفظها نكتال ، فأسكنت اللام للجزم لأنه جواب الأمر ، فحذفت الألف لالتقاء السّاكنين ، فقال الواثق : هذا الجواب لا جوابك يا يعقوب ، فلمّا خرجنا قال لي ابن السكيت : ما حملك على هذا وبيني وبينك المودّة الخالصة؟ فقلت والله ما أردت تخطئتك ولم أظنّ أنّه يعزب عنك.

قال : وقال المازني : حضرت يوما عند الواثق فقال : يا مازنيّ هات مسألة ، وكان عنده نحاة الكوفة ، فقلت : ما تقولون في قوله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] ، لم لم يقل بغيّة ، وهي صفة لمؤنث؟ فأجابوا بجوابات غير مرضيّة ، فقال الواثق : هات ما عندك ، فقلت : لو كانت بغيّ على تقدير فعيل بمعنى فاعلة لحقتها الهاء ، مثل : كريمة وظريفة ، وإنّما تحذف الهاء إذا كانت في معنى مفعول ، نحو : امرأة قتيل وكفّ خضيب ، وبغيّ هاهنا ليس بفعيل إنّما هو فعول ، وفعول لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث ، نحو : امرأة شكور وبئر شطون إذا كانت بعيدة الرّشاء ، وتقدير بغيّ بغوي ، قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء ، فصارت ياء ثقيلة نحو : عيّد وميّت ، فاستحسن الجواب.

ما ذكره أبو الطيب اللغوي في مراتب النحويين من مسائل

وقال أبو الطيب اللغوي في مراتب النحويين : أخبرنا عليّ بن محمد الخداشي قال : بلغنا أنّ مغنّية غنّت بحضرة الواثق بالله : [الكامل]

٥٧٠ ـ أظليم إنّ مصابكم رجلا

أهدى السّلام تحيّة ظلم

فردّ عليها الواثق وقال : إنّ مصابكم رجل ، فأعادت رجلا ، فأعاد الرّدّ عليها ،

__________________

٥٧٠ ـ الشاهد للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه (ص ٩١) ، والاشتقاق (ص ٩٩) ، والأغاني (٩ / ٢٢٥) ، ومعجم ما استعجم (ص ٥٠٤) ، وللعرجي في ديوانه (ص ١٩٣) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥٣٨) ، وللحارث أو للعرجي في إنباه الرواة (١ / ٢٨٤) ، وشرح التصريح (٢ / ٦٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٩٢) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٥٠٢) ، ولأبي دهبل الجمحي في ديوانه (ص ٦٦) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٣ / ٢١٠) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٣٦) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٢٧) ، وهمع الهوامع (٢ / ٩٤).


فقالت : لقّنني هذا أعلم أهل زمانه ، قال : ومن هو؟ قالت : المازني ، فقال : عليّ به ، فأشخص إليها ، فلمّا مثل بين يديه قال : ما اسمك يا مازني؟ قال : بكر ، يا أمير المؤمنين ، قال : أحسنت ، كيف تروي : أظليم .. البيت؟ فقال : إنّ مصابكم رجلا ، قال : فأين خبر (إنّ)؟ قال : قوله : ظلم ، ومعنى مصابكم إصابتكم ، قال : صدقت.

قال أبو الطيب : وقد شجر بين محمد بن عبد الملك الزيات وأحمد بن أبي دؤاد ، في هذا البيت الذي غلط فيه الواثق ، فقال محمد : إنّ مصابكم رجلا وقال أحمد : رجل ، فسألا عنه يعقوب ابن السكيت فحكم لأحمد بن أبي دؤاد عصبيّة لا جهلا.

فأخبرونا عن ثعلب قال : لقيت يعقوب فعاتبته في هذا عتابا ممضّا فقال لي : اسمع عذري ، جاءني رسول ابن أبي دؤاد فمضيت إليه فلمّا رآني بشّ بي وقرّبني ورفعني وأحفى في المسألة عن أخباري ، ثم قال لي : يا أبا يوسف مالي أرى الكسوة ناقصة؟ يا غلام دستا كاملا من كسوتي فأحضر ، فقال : كيسا فيه مائتا دينار ، ثم قال لي : أراكب قلت : لا ، بل راجل ، فقال : حماري الفلاني بسرجه ولجامه ، فأحضر ، وقال : يسلّم الجميع إلى غلام أبي يوسف ، فشكرت له ذلك ، ثم قال لي : يا أبا يوسف ، أنشدت هذا البيت : أظلوم إنّ مصابكم رجل ، فقال الوزير : إنما هو «رجلا» بالنصب ، وقد تراضينا بك ، فقلت : القول ما قلت ، فخرجت من عنده فإذا رسول محمد بن عبد الملك ، فقال : أجب الوزير ، فلمّا دخلت إليه بدرني وأنا واقف ، فقال : يا يعقوب أليس الرّواية : أظليم إنّ مصابكم رجلا؟ فقلت : لا بل رجل ، فقال : اغرب ، قال يعقوب : فكيف كنت ترى لي أن أقول؟

انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع

وأوله (في المسائل) لابن السيّد البطليوسي



فهرس الجزء الثالث

الطراز في الألغاز

٣

باب كان

٥٧

اللغز النحوي قسمان : قسم يطلب به تفسير المعنى وقسم يطلب به تفسير الإعراب

٣

باب إنّ

٥٨

بعض ألغاز الحريري

٣

باب كاد

٥٨

ما يطلب به تفسير الإعراب

٤

باب ما

٥٨

لغز لابن هشام

٤

باب المفاعيل

٥٩

ذكر بقية ألغاز الحريري التي ذكرها في مقاماته

٤

باب المصدر

٦٠

أحاجي الزمخشري

٥

باب العطف

٦٠

أحاجي السخاوي

١٤

باب لا يجوز جعل مفسر المركب مضمرا

٦٠

شذرات من ألغاز النحاة

٢٥

باب النداء

٦٠

من ألغاز السيوطي

٣٠

باب نواصب المضارع

٦١

من ألغاز الشيخ عز الدين بن عبد السّلام

٣٢

باب الجوازم

٦٢

طائفة أخرى من ألغاز النحاة

٣٣

باب كم

٦٤

ألغاز ابن لبّ النحوي الأندلسي

٣٧

باب جمع التكسير

٦٤

الفن السادس

٥٥

باب التصغير

٦٥

التبر الذائب في الأفراد والغرائب

٥٥

باب النسب

٦٥

باب الكلمة والكلام

٥٥

فن المناظرات والمجالسات والمذاكرات والمراجعات والمحاورات والفتاوى والواقعات والمكاتبات والمراسلات

٦٦

باب الإعراب

٥٧

مناظرة سيبويه والكسائي في المسألة الزنبورية

٦٦

باب الإشارة

٥٧

مجلس الخليل مع سيبويه

٦٧

باب أداة التعريف

٥٧

مجلس أبي إسحاق الزجاج مع جماعته

٦٨

باب الابتداء

٥٧


مناظرة بين الكسائي واليزيدي ، النسب إلى البحرين وإلى الحصنين.

٦٩

عمر الجرمي

٨٤

مجلس بين ثعلب والمبرد

٧١

مجلس أبي عثمان المازني مع أبي الحسن سعيد بن مسعدة

٨٥

مناظرة بين أبي حاتم والتوزي هل الفردوس مذكر أم مؤنث

٧٢

مجلس أبي العباس ثعلب مع جماعة.

٨٦

مناظرة بين ابن الأعرابي والأصمعي ، قد يحمل جمع المؤنث على المذكر والعكس

٧٣

مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى مع أبي الحسن محمد بن كيسان

٨٧

مجلس أبي عمرو بن العلاء مع عيسى بن عمر ، الكلام في قولهم ليس الطيب إلا المسك

٧٤

مجلس سعيد الأخفش مع المازني

٨٨

مجلس أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج مع رجل غريب ، مسائل نحوية متفرقة

٧٤

مجلس مروان مع أبي الحسن سعيد ابن مسعدة الأخفش

٨٩

مجلس ابن دريد مع رجل

٧٦

مجلس أبي العباس ثعلب مع جماعة

٨٩

مجلس بكر بن حبيب السهمي مع شبيب بن شيبة ، مسائل لغوية

٧٧

مجلس أبي العباس مع رجل من النحويين

٩٠

مجالس ذكرها صاحب الكتاب المسمى ، غرائب مجالس النحويين الزائدة على تصنيف المصنفين

٧٨

مجلس أبي عمرو بن العلاء مع أبي عبيدة

٩١

مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى مع محمد بن أحمد بن كيسان

٧٨

مجلس أبي عمرو مع الأصمعي

٩١

مجلس محمد بن زياد الأعرابي مع أحمد بن حاتم ، بعض المعاني اللغوية

٨١

مجلس الأصمعي مع الكسائي

٩١

مجلس أبي محمد اليزيدي مع ياسين الزيات

٨٣

مجلس أبي يوسف مع الكسائي

٩٢

مجلس أبي عثمان المازني مع يعقوب بن السكيت

٨٤

مجلس الرشيد مع المفضل الضبي

٩٣

مجلس أبي عثمان المازني مع أبي

مسألة بين الزجاجي وبين ابن الأنباري في معنى المصدر

٩٤

مسائل سأل عنها أبو بكر الشيباني أبا القاسم الزجاجي

٩٥

المسألة الأولى

٩٥

المسألة الثانية

٩٦

المسألة الثالثة

٩٧

المسألة الرابعة

٩٨

المسألة الخامسة

١٠٠

المسألة السادسة

١٠٠

المسألة السابعة

١٠١

المسألة الثامنة

١٠٢


المسألة التاسعة

١٠٣

 والسهيلي

١٣٩

المسألة العاشرة

١٠٤

مسألة بين السهيلي وابن خروف

١٤٠

المسألة الحادية عشرة

١١٠

مسألة لابن العريف يبلغ وجوه إعرابها أكثر من ألفي ألف وجه

١٤٠

رأي ابن خالويه في تثنية وجمع البضع

١١١

رأي نحوي لابن الصائغ

١٦٠

من الفتاوى النحوية لابن الشجري

١١١

قال الشيخ تاج الدين بن مكتوم في تذكرته ومن خطه نقلت

١٦٥

نسخة جواب الشيخ أبي منصور موهوب بن أحمد

١١٢

عود الضمير في لكن في قول الحسن البصري (كأنك بالدنيا لم تكن)

١٧١

مسألة نحوية لابن السيد البطليوسي.

١٢٠

آراء نحوية لابن جني

١٧٢

مسألة نحوية من كتاب المسائل للبطليوسي

١٢٣

مسألة لابن مكتوم في تذكرته

١٧٤

مسائل أخرى سئل عنها البطليوسي.

١٢٦

رأي في إعراب (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ)

١٧٦

جواب المسألة الأولى

١٢٧

مسألة نحوية للحريري

١٧٧

جواب المسألة الثانية

١٢٨

مسائل جرت بين أبي جعفر بن النحاس وابن ولّاد

١٧٩

جواب المسألة الثالثة

١٢٩

المسألة الأولى

١٧٩

مسألة نحوية في أمالي ثعلب

١٢٩

المسألة الثانية

١٨٠

مسألة في تذكرة ابن هشام

١٣٠

المسألة الثالثة

١٨٨

مسألة للفارسي

١٣٠

المسألة الرابعة

١٩٠

مسألة ذكرها أبو حيان

١٣٠

المسألة الخامسة

١٩٥

مسألة في طبقات النحويين لأبي بكر الزبيدي

١٣١

المسألة السادسة

١٩٥

مناظرة بين ابن ولّاد وبين ابن النحاس

١٣٢

المسائل العشر المتبعات إلى الحشر.

١٩٦

وزن ارعوى

١٣٣

المسألة الأولى

١٩٦

الأصل في مهيمن

١٣٣

المسألة الثانية

٢٠٠

القول في فاضت نفسه وفاظت

١٣٤

المسألة الثالثة

٢٠٢

المسائل التي جرت بين السهيلي وابن خروف رحمهما الله تعالى منقولة من تذكرة الشيخ تاج الدين ابن مكتوم

١٣٥

فصل في الرد عليه

٢٠٢

مسألة ، مناظرة بين ابن خروف

المسألة الرابعة

٢٠٥

المسألة الخامسة

٢٠٨

المسألة السادسة

٢١٠

المسألة السابعة

٢١٣


المسألة الثامنة

٢١٤

رأي في قولهم الإعراب لغة البيان

٢٢٧

المسألة التاسعة

٢١٥

الكلام في قوله يجوز كذا خلافا لفلان

٢٣١

المسألة العاشرة

٢١٦

الكلام في هلمّ جرّا

٢٣٣

من أبيات المعاني المشكلة الإعراب

٢١٧

سبحان الله العظيم لابن الهمام

٢٣٧

الكلام في قوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ)

٢١٧

بحث في النفي والإثبات عند تعارضهما

٢٤٢

من مراسلات الشيخ ضياء الدين أبي العباس

٢١٨

فوائد نحوية من معجم الأدباء لياقوت الحموي

٢٤٥

ما اختلف فيه من شعر أبي القاسم الحريري

٢١٩

وفي طبقات الكمال لابن الأنباري

٢٥٤

من الفوائد المتعلقة بالمقامات

٢٢٠

مناظرات ذكرها أبو بكر الزبيدي في طبقات النحاة

٢٥٧

من الفتاوى النحوية لابن هشام

٢٢١

ما ذكره أبو الطيب اللغوي في مراتب النحويين من مسائل

٢٥٨

القاعدة الأولى

٢٢٥

القاعدة الثانية

٢٢٥

الأشباه والنظائر في النحو - ٣

المؤلف:
الصفحات: 264